شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة
سعيد بن وهف القحطاني
أسماء الله الحسنى الله ... الأول ... الآخر ... الظاهر ... الباطن العليّ ... الأعلى ... المتعال ... العظيم ... المجيد الكبير ... السميع ... البصير ... العليم ... الخبير الحميد ... العزيز ... القدير ... القادر ... المقتدر القوي ... المتين ... الغني ... الحكيم ... الحليم العفو ... الغفور ... الغفار ... التواب ... الرقيب الشهيد ... الحفيظ ... اللطيف ... القريب ... المجيب الودود ... الشاكر ... الشكور ... السيد ... الصمد القاهر ... القهار ... الجبار ... الحسيب ... الهادي الحكم ... القدوس ... السلام ... البر ... الوهاب الرحمن ... الرحيم ... الكريم ... الأكرم ... الرءوف الفتاح ... الرازق ... الرزاق ... الحي ... القيوم نور السموات والأرض ... الرب ... الملك ... المليك ... مالك الملك الواحد ... الأحد ... المتكبر ... الخالق ... الخلاق البارئ ... المصور ... المؤمن ... المهيمن ... المحيط المقيت ... الوكيل ... ذو الجلال والإكرام ... جامع الناس ... بديع السموات والأرض الكافي ... الواسع ... الحق ... الجميل ... الرفيق الحيي ... الستير ... الإله ... القابض ... الباسط المعطي ... المقدم ... المؤخر ... المبين ... المنان الوليّ ... الموْلى ... النصير ... الشافي (¬1). ¬
المقدمة
المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن اللَّه قد جعل لكل مطلوب سبباً وطريقاً يوصل إليه. والإيمان هو أعظم المطالب وأهمها. وقد جعل اللَّه له أسباباً تجلبه وتقوِّيه، كما كان له أسباب تُضعِفه وتُوهيه. * ومن أعظم ما يُقوّي الإيمان ويَجلبُهُ معرفة أسماء اللَّه الحُسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبد للَّه بها، قال اللَّه تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1)، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن للَّه تسعة وتسعين اسماً مائةً إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة» (¬2) أي من حفظها، وفهم معانيها ومدلولها، وأثنى على اللَّه بها، وسأله بها، واعتقدها دخل الجنة. والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون. فَعُلِمَ أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان، وقوَّته وثباته. ومعرفة الأسماء الحُسنى - بمراتبها الثلاث: إحصاء ألفاظها وعددها، وفهم معانيها ومدلولها، ودعاء اللَّه بها. دعاء الثناء والعبادة، ودعاء المسألة - هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها؛ لأن معرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد ¬
الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء اللَّه وصفاته ازداد إيمانُه، وقوي يقينهُ. فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة اللَّه بأسمائه، وصفاته، وأفعاله. من غير تعطيل، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تكييف. بل تكون المعرفة مُتلقَّاة من الكتاب والسنة، وما رُويَ عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فهذه هي المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة في إيمانه، وقوة يقينه، وطُمأنينة في أحواله، ومحبة لربه، فمن عرف اللَّه بأسمائه، وصفاته، وأفعاله أحبه لا محالة؛ ولهذا كانت المعطلة، والفرعونية، والجهميّة قُطَّاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى محبة اللَّه تعالى (¬1). * ومن الأمور التي تُقوِّي الإيمان وتجلبه تَدَبُّر القرآن الكريم، فإن المُتدبِّر للقرآن لا يزالُ يستفيد ¬
من علومه، ومعارفه ما يزداد به إيماناً، وكذلك إذا نظر إلى انتظامه، وإحكامه، وأنه يُصَدِّق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً ليس فيه تناقض ولا اختلاف. فإذا قرأه العبد بالتدبر، والتفهم لمعانيه، وما أريد به كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه، ليتفهم مراد صاحبه منه. فهذا من أعظم مُقَوِّيات الإيمان. وحسن التأمل لما يرى العبد، ويسمع من الآيات المشهودة، والآيات المتلوَّة، يثمر صحة البصيرة. وملاك ذلك كله هو أن ينقل العبد قلبه من وطن الدنيا، ويسكنه وطن الآخرة. ثم يقبل به كلّه على معاني القرآن، ويتدبر معانيه، ويفهم ما يراد منه، وما أُنزِل لأجله، ويأخذ نصيبه وحظه من كل آية من آياته وينزلها على داء قلبه. فهذه طريقة مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى. وهي من أقرب الطرق لتدبر القرآن الكريم (¬1). ¬
* وكذلك معرفة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وما تدعو إليه من علوم الإيمان وأعماله. وكل ذلك من مُحصِّلات الإيمان ومقوِّياته. فكلَّما ازداد العبد معرفة بكتاب اللَّه وسنة رسوله ازداد إيمانه ويقينه، وقد يصل في علمه وإيمانه إلى مرتبة اليقين. * ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه: معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكريمة؛ فإن من عرفه حق المعرفة لم يَرْتَبْ في صدقه وصدق ما جاء به: من الكتاب والسنة والدين الحق. * ومن أسباب الإيمان ودواعيه: التفكر في الكون: في خلق السموات والأرض، وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات؛ فإن ذلك داعٍ قَويٌّ للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخَلق الدَّال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام والإحكام - الذي يُحيِّر العقول - الدال على سعة علم اللَّه وشمول حكمته.
وكذلك النظر إلى فقر المخلوقات كلها، واضطرارها إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغني عن اللَّه طرفة عين ... وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع، وكثرة الدعاء، والافتقار إلى اللَّه في جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ويوجب له قوة التوكل على اللَّه، وشدة الطمع في بره، وإحسانه، وكمال الثقة بوعد اللَّه. وبهذا يتحقق الإيمان ويقوى. وكذلك التفكر في كثرة نعم اللَّه التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين. * ومن الأسباب التي تقوي الإيمان الإكثار من ذكر اللَّه تعالى ومن الدعاء الذي هو العبادة، ويكون هذا الذكر على كل حال: باللسان، والقلب، والعمل، والحال. فنصيب العبد من الإيمان على قدر نصيبه من هذا الذكر. * ومن الأسباب أيضاً معرفة محاسن الإسلام؛ فإن الدين الإسلامي كله محاسن: عقائده أصح
العقائد وأصدقها، وأنفعها، وأخلاقه أجمل الأخلاق، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها. وبهذا النظر يزين اللَّه الإيمان في قلب العبد، ويحببه إليه. * ومن أعظم مقويات الإيمان الاجتهاد في الإحسان في عبادة اللَّه، والإحسان إلى خلق اللَّه، فيجتهد العبد في عبادة اللَّه كأنه يشاهده فإن لم يَقْوَ على ذلك استحضر أن اللَّه يشاهده ويراه، فيجتهد في العمل وإتقانه ولا يزال العبد يجاهد نفسه حتى يقوى إيمانه ويقينه، ويصل في ذلك إلى حق اليقين الذي هو أعلى مراتب اليقين، فيذوق حلاوة الطاعات ... * ومن مقويات الإيمان الدعوة إلى اللَّه وإلى دينه، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وبذلك يُكمِّل العبدُ بنفسه ويُكمِّلُ غيرَه. * ومن أهم أسباب تقوية الإيمان الابتعاد عن شعب الكفر، والنفاق، والفسوق والعصيان. * ومن الأسباب التي تقوي الإيمان التقرب إلى
اللَّه بالنوافل بعد الفرائض، وتقديم ما يحبه اللَّه على كل ما سواه عند غلبة الهوى. * ومن ذلك الخلوة باللَّه وقت نزوله، لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم خَتْمُ ذلك بالاستغفار والتوبة. * ومن الأسباب المقوية للإيمان مجالسة العلماء الصادقين المخلصين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما يُنْتَقَى أطايب الثمر. * ومن ذلك الابتعاد عن كل سبب يحول بين قلب العبد وبين اللَّه تبارك وتعالى (¬1). ومعرفة أسماء اللَّه الحُسنى بمراتبها الثلاث هي من أعظم مقويات الإيمان؛ بل معرفة اللَّه بأسمائه وصفاته هي أصل الإيمان، والإيمان يرجع إلى هذا الأصل العظيم. ¬
ولهذا السبب وغيره جمعت ما يسر اللَّه لي من الأسماء الحُسنى وذكرت لكل اسم دليلاً من الكتاب أو من السنة ثم عرضت هذه الأسماء كلها على سماحة شيخنا الإمام العلاّمة عبد العزيز بن عبد اللَّه ابن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، جزاه اللَّه خيراً ورحمه، فما أقره أثبته، وما توقف عنه أو نفاه أسقطته حتى اجتمع لي أكثر من تسعة وتسعين من الأسماء الحسنى بأدلتها الصريحة (¬1) ثم اخترت من هذه الأسماء تسعةً وتسعين اسماً وشرحتها شرحاً مختصراً إلا في بعض الأسماء فقد أطلت في شرحها لأن المقام يقتضي هذا ونقلت الشرح لهذه الأسماء من المصادر المعتمدة وخاصة لأهل التحقيق من أهل السنة كابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - رحمة واسعة، وهو لا شك من ¬
العلماء الذين نفع اللَّه بعلمهم. وقد قسَّمتُ هذا البحث خمسة عشر مبحثاً على النحو الآتي: المبحث الأول: أسماء الله تعالى توقيفية. المبحث الثاني: أركان الإيمان بالأسماء الحُسنى. المبحث الثالث: أقسام ما يوصف به الله تعالى. المبحث الرابع: دلالة الأسماء الحُسنى ثلاثة أنواع. المبحث الخامس: حقيقة الإلحاد في أسماء الله تعالى. المبحث السادس: إحصاء الأسماء الحُسنى أصلٌ للعلم. المبحث السابع: أسماء الله تعالى كلها حُسنى. المبحث الثامن: أسماء الله تعالى منها ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقروناً بمقابله. المبحث التاسع: من أسماء الله الحُسنى ما يكون دالاً على عدة صفات. المبحث العاشر: الأسماء الحُسنى التي ترجع إليها جميع الأسماء والصفات. المبحث الحادي عشر: أسماء الله وصفاته مختصة به واتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات. المبحث الثاني عشر: أمور ينبغي أن تُعلم.
المبحث الثالث عشر: مراتب إحصاء أسماء الله الحُسنى. المبحث الرابع عشر: الأسماء الحسنى لا تُحدُّ بعدد. المبحث الخامس عشر: شرح أسماء الله الحسنى بلا تعطيل، ولا تحريف، ولا تكييف، ولا تمثيل. وختمت ذلك بفتاوى في الأسماء الحسنى. للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية. وقد سميته شرح أسماء اللَّه الحسنى في ضوء الكتاب والسنة. هذا ما يَسّر اللَّه لي جمعه. فما كان من صوابٍ فمن الواحد المنّان، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان واللَّهُ بريءٌ منه ورسولُه. واللَّه أسأل أن يجعل هذا العمل القليل خالصاً لوجهه الكريم، مقرباً لجامعه، وقارئه، وطابعه من جنات النعيم وأن يجعله حجة لنا ولا يجعله حجة علينا، وأن ينفع به جامعه، ومن انتهى إليه إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم وصلى اللَّه وسلم
وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. كتبه العبد الفقير إلى اللَّه تعالى. سعيد بن علي بن وهف القحطاني. ليلة السبت 12/ 7/1409هـ.
المبحث الأول: أسماء الله تعالى توقيفية
المبحث الأول: أسماء الله تعالى توقيفية أسماء اللَّه تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها، وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على النص لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬1). وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2)؛ ولأن تسميته تعالى بما لم يُسمِّ به نفسه، أو إنكار ما سَمَّى به نفسه جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب في ذلك، والاقتصار على ما جاء به النص (¬3). ¬
المبحث الثاني: أركان الإيمان بالأسماء الحسنى
المبحث الثاني: أركان الإيمان بالأسماء الحُسنى 1 - الإيمان بالاسم. 2 - الإيمان بما دل عليه الاسم من المعنى. 3 - الإيمان بما يتعلق به من الآثار. فنؤمن بأن اللَّه رحيمٌ ذو رحمة وسعت كل شيء، ويرحم عباده. قدير ذو قدرة، ويقدر على كل شيءٍ. غفور ذو مغفرة ويغفر لعباده (¬1). ¬
المبحث الثالث: أقسام ما يوصف به الله تعالى
المبحث الثالث: أقسام ما يوصف به الله تعالى قال ابن القيم - رحمه الله -: ما يجري صفة أو خبراً على الرب تبارك وتعالى أقسام: أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات كقولك: ذات، وموجود، وشيء. الثاني: ما يرجع إلى صفات معنوية كالعليم، والقدير، والسميع. الثالث: ما يرجع إلى أفعاله نحو: الخالق، والرزَّاق. الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولابد من تضمنه ثبوتاً؛ إذ لا كمال في العدم المحض كالقدوس السلام. الخامس: ولم يذكره أكثر الناس، وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة مُعَيَّنة، بل هو دال على معناه لا على معنى مفرد،
نحو: المجيد، العظيم، الصمد؛ فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا فإنه موضوع للسعة، والكثرة، والزيادة، فمنه استمجد المرخ والعفار (¬1)، وأمجد الناقة علفاً. ومنه «رب العرش المجيد» صفة للعرش لسعته وعِظَمِهِ وشرفه (¬2). وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترناً بطلب الصلاة من اللَّه على رسوله كما علمناه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء وكثرته ودوامه، فأتى في هذا المطلوب باسم تقتضيه كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ولا يَحسن إنك أنت السميع البصير، فهو راجع إلى ¬
المتوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه. ومنه الحديث الذي في المسند والترمذي: «ألظُّوا (¬1) بياذا الجلال الإكرام» (¬2)، ومنه: «اللَّهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام» (¬3)، فهذا سؤال له وتوسل إليه وبحمده، وأنه الذي لا إله إلا هو المنَّان، فهو توسل إليه بأسمائه ¬
وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعاً عند المسؤول، وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد أشرنا إليه إشارة، وقد فُتِحَ لمن بصَّره اللَّه. ولنرجع إلى المقصود وهو وصفه تعالى بالاسم المتضمن لصفات عديدة. فالعظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال. وكذلك الصمد، قال ابن عباس: هو السيد الذي كَمُلَ في سؤدده، وقال ابن وائل: هو السيد الذي انتهى سُؤدده. وقال عكرمة: الذي ليس فوقه أحد وكذلك قال الزجاج: الذي ينتهي إليه السؤدد فقد صمد له كل شيء. وقال ابن الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أنَّ الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يَصْمُدُ إليه الناس في حوائجهم وأمورهم. واشتقاقه يدل على هذا فإنه من الجمع والقصد الذي اجتمع القصد نحوه واجتمعت فيه صفات السؤدد وهذا أصله في اللغة كما قال: ألاَ بَكَر الناعي بخير بني أسدْ ... بعمرِو بن مسعودٍ وبالسيدِ الصَّمَدْ
والعرب تُسَمِّي أشرافها بالصمد؛ لاجتماع قصد القاصدين إليه، واجتماع صفات السيادة فيه. السادس صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو: الغني الحميد، العفو القدير، الحميد المجيد. وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن؛ فإن الغنى صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك العفوّ القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم، فتأمله فإنه من أشرف المعارف. وأما صفات السلب المحض فلا تدخل في أوصافه تعالى إلا أن تكون متضمنة لثبوت: كالأحد المتضمن لانفراده بالربوبية والإلهية، والسلام المتضمن لبراءته من كل نقص يضاد كماله، وكذلك الإخبار عنه بالسلوب هو لتضمنها ثبوتاً كقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ
نَوْمٌ} (¬1)، فإنه متضمن لكمال حياته وقيّوميته، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} (¬2)، متضمن لكمال قدرته، وكذلك قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} (¬3) متضمن لكمال علمه، وكذلك قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (¬4)، متضمن لكمال صَمَدِيَّتِهِ وغناه، وكذلك قوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬5)، متضمن لتفرُّده بكماله، وأنه لا نظير له. وكذلك قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (¬6) متضمن لعظمته، وأنه جل عن أن يدرك بحيث يحاط به، وهذا مطّرد في كل ما وصف به نفسه من السلوب (¬7). ¬
المبحث الرابع: دلالة الأسماء الحسنى ثلاثة أنواع:
المبحث الرابع: دلالة الأسماء الحُسنى ثلاثة أنواع: أسماء اللَّه كلها حُسنى، وكلها تدل على الكمال المطلق والحمد المطلق، وكلها مشتقة من أوصافها، فالوصف فيها لا ينافي العلمية، والعلمية لا تنافي الوصف، ودلالتها ثلاثة أنواع: دلالة مطابقة إذا فسرنا الاسم بجميع مدلوله. ودلالة تَضمُّن إذا فسرناه ببعض مدلوله. ودلالة التزام إذا استدللنا به على غيره من الأسماء التي يتوقف هذا الاسم عليها. فمثلاً «الرحمن» دلالته على الرحمة والذات دلالة مطابقة. وعلى أحدهما دلالة تضمن؛ لأنها داخلة في الضمن، ودلالته على الأسماء التي لا توجد الرحمة إلا بثبوتها كالحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، ونحوها دلالة التزام، وهذه الأخيرة تحتاج إلى قوة فكر وتأمل، ويتفاوت فيها أهل العلم، فالطريق إلى معرفتها أنك إذا فهمت اللفظ وما يدل عليه من المعنى وفهمته فهماً جيداً، فَفَكَّر فيما يتوقف عليه ولا يتم بدونه. وهذه القاعدة تنفعك في جميع النصوص الشرعية، فدلالاتها الثلاث كلها حجة لأنها معصومة محكمة (¬1). ¬
المبحث الخامس: حقيقة الإلحاد في أسماء الله تعالى
المبحث الخامس: حقيقة الإلحاد في أسماء الله تعالى وحقيقة الإلحاد فيها هو الميل بها عن الاستقامة: إما بإثبات المشاركة فيها لأحدٍ من الخلق، كإلحاد المشركين الذين اشتقوا لآلهتهم من صفات اللَّه ما لا يصلح إلا للَّه، كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنَّان، وكل مشرك تعلق بمخلوق اشتق لمعبوده من خصائص الربوبية والإلهية ما برَّر له عبادته. وأعظم الخلق إلحاداً طائفة الاتحادية الذين من قولهم: إن الرب عين المربوب، فكل اسم ممدوح أو مذموم يطلق على اللَّه عندهم، تعالى اللَّه عن قولهم علواً كبيراً. وإما أن يكون الإلحاد بنفي صفات اللَّه وإثبات أسماء لا حقيقة لها، كما فعل الجهمية ومن تفرع عنهم، وإما بجحدها وإنكارها رأساً إنكاراً لوجود اللَّه، كما فعل زنادقة الفلاسفة، فهؤلاء الملحدون قد انحرفوا عن الصراط المستقيم ويمموا طرق الجحيم (¬1). ¬
قال ابن القيم - رحمه الله -: قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1)، والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو مأخوذ من الميل كما تدل عليه مادته (ل ح د)، فمنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه الْمُلحِد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل. قال ابن السِّكِّيت: الملحد المائل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه. ومنه الملتحد وهو مفتعل من ذلك. وقوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (¬2) أي من تعدل إليه وتهرب إليه وتلتجئ إليه وتبتهل إليه فتميل إليه عن غيره. تقول العرب: التحد فلان إلى فلان إذا عدل إليه. إذا عُرِفَ هذا فالإلحاد في أسمائه تعالى أنواع: أحدها: أن تُسمَّى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز. وتسميتهم الصنم إلهاً، ¬
وهذا إلحاد حقيقة؛ فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة. الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته، أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك. ثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود: إنه فقير. وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه. وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} (¬1)، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته. ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيطلقون عليه اسم السميع، والبصير، والحي، والرحيم، والمتكلم، والمريد، ويقولون: لا حياة له، ولا سمع له، ولا بصر له، ولا كلام، ولا إرادة تقوم به وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً، ¬
وشرعاً، ولغة، وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه، ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب. وكل من جحد شيئاً مما وصف اللَّه به نفسه أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك فليستقلّ أو ليستكثر. وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى اللَّه عما يقول المشبهون علواً كبيراً. فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه، وبرَّأ اللَّه أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظاً ولا معنىً؛ بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئاً من التشبيه، وتنزيههم
خالياً من التعطيل، لا كمن شبّه حتى كأنه يعبد صنماً، أو عطَّل حتى كأنه لا يعبد إلا عدماً. وأهل السنة وسط في النِّحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل، توقد مصابيح معارفهم من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء. فنسأل اللَّه تعالى أن يهدينا لنوره، ويُسَهِّل لنا السبيل إلى الوصول إلى مرضاته ومتابعة رسوله، إنه قريب مجيب (¬1). ¬
المبحث السادس: إحصاء الأسماء الحسنى أصل للعلم
المبحث السادس: إحصاء الأسماء الحُسنى أصلٌ للعلم إحصاء الأسماء الحُسنى والعلم بها أصلٌ للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقاً له تعالى أو أمراً. إما علم بما كوّنه أو علم بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد، والرأفة، والرحمة بهم، والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كله مصلحة، وحكمة، ورحمة، ولُطف، وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، وفعله كله لا يخرج عن العدل، والحكمة، والمصلحة، والرحمة، إذ مصدره أسماؤه الحسنى فلا تفاوت في خلقه، ولا عبث، ولم يخلق خلقه باطلاً، ولا سُدىً، ولا عبثاً. وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود من سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي
للمخلوق أحصى جميع العلوم؛ إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللاً ولا تفاوتاً؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله إما أن يكون لجهله به أو لعدم حكمته. وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم، فلا يلحق فعله ولا أمره خلل، ولا تفاوت، ولا تناقض (¬1). ¬
المبحث السابع: أسماء الله كلها حسنى
المبحث السابع: أسماء الله كلها حُسنى أسماء اللَّه كلها حُسنى، ليس فيها اسم غير ذلك أصلاً، وقد تقدم أن من أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل نحو الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، وهذا يدل على أن أفعاله كلها خيرات محض لا شر فيها، لأنه لو فعل الشر لاشتقّ له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حُسنى، وهذا باطل، فالشر ليس إليه، فكما لا يدخل في صفاته ولا يلحق ذاته، ولا يدخل في أفعاله، فالشر ليس إليه، لا يُضاف إليه فعلاً ولا وصفاً، وإنما يدخل في مفعولاته. وفرق بين الفعل والمفعول، فالشر قائم بمفعوله المباين له، لا بفعله الذي هو فعله، فتأملْ هذا فإنه خَفِيَ على كثير من المتكلمين وزلَّت فيه أقدامٌ، وضلَّت فيه أفهامٌ، وهدى اللَّه أهل الحق لما اختلفوا فيه بإذنه، واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (¬1). ¬
المبحث الثامن: أسماء الله تعالى منها ما يطلق عليه مفردا ومقترنا بغيره
المبحث الثامن: أسماء الله تعالى منها ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقروناً بمقابله إن أسماءه تعالى منها ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره وهو غالب الأسماء. فالقدير، والسميع، والبصير، والعزيز، والحكيم، وهذا يسوغ أن يُدعَى به مفرداً ومقترناً بغيره، فتقول: يا عزيزُ يا حليمُ، يا غفورُ يا رحيمُ، وأن يفرد كل اسم وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد والجمع. ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقروناً بمقابله كالمانع، والضار، والمنتقم، فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله فإنه مقرون بالمُعطي، والنافع، والعفوّ، فهو المعطي المانع، الضارُّ النافعُ، المنتقمُ العفوّ، المعزّ المذلّ، لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله؛ لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية، وتدبير الخلق، والتصرف فيهم عطاءً، ومنعاً، ونفعاً، وضراً، وعفواً، وانتقاماً. وأما أن يثنى عليه بمجرد المنع، والانتقام، والإضرار، فلا يسوغ. فهذه الأسماء المزدوجة تُجرى الأسماء منها
مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعدّدت جارية مجرى الاسم الواحد؛ ولذلك لم تجئ مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة، فاعلمه «فلو قلت» يا مُذلُ، يا ضارُّ، يا مانعُ، وأخبرت بذلك لم تكن مثنياً عليه ولا حامداً له حتى تذكر مقابلها (¬1). ¬
المبحث التاسع: من أسماء الله الحسنى ما يكون دالا على عدة صفات
المبحث التاسع: من أسماء الله الحُسنى ما يكون دالاً على عدة صفات قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: من أسمائه الحُسنى ما يكون دالاً على عدة صفات. ويكون ذلك الاسم متناولاً لجميعها تناول الاسم الدال على الصفة الواحدة لها ... كاسمه العظيم، والمجيد، والصمد، كما قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن أبي حاتم في تفسيره: الصمد السيد الذي قد كَمُلَ في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع شرفه وسؤدده وهو اللَّه سبحانه. وهذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، سبحان اللَّه الواحد القهار. هذا لفظه. وهذا مما خَفِيَ على كثير ممن تعاطَى الكلام في تفسير الأسماء الحسنى، ففسَّر الاسم بدون معناه، ونقصه من حيث لا يعلم، فمن لم يُحط بهذا علماً بخس الاسم الأعظم حقه وهضمه معناه فتدبره (¬1). ¬
المبحث العاشر: الأسماء الحسنى التي ترجع إليها جميع الأسماء والصفات
المبحث العاشر: الأسماء الحُسنى التي ترجع إليها جميع الأسماء والصفات قال ابن القيم - رحمه الله - في تفسير سورة الفاتحة: اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن، فاشتملت على التعريف بالمعبود - تبارك وتعالى - بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى، والصفات العليا إليها، ومدارها عليها وهي: اللَّه، والرَّب، والرَّحمنُ. وبُنيت السورة على الإلهية، والربوبية، والرحمة، فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مبني على الإلهية، و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على الربوبية، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة. والحمد يتضمن الأمور الثلاثة: فهو المحمود في إلهيته، وربوبيته، ورحمته، والثناء والمجد كمالان لجده ... وتضمنت - يعني سورة الفاتحة - إثبات النبوات من جهات عديدة: 1 - كون اللَّه «رب العالمين». فلا يليق به أن يترك عباده سُدى هَمَلاً لا يُعرِّفَهم ما ينفعهم في معاشهم، ومعادهم، وما يضرهم فيهما فهذا هَضْمٌ
للربوبية، ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به، وما قدره حق قدره من نسبة إليه. 2 - من اسم «اللَّه» وهو المألوه المعبود ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله عليهم الصلاة والسلام. 3 - من اسمه «الرحمن» فإن رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم. فمن أعْطى اسم «الرحمن» حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظم من تضمنه إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحب، فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظّ البهائم والدواب. وأدرك منه أُولُو الألباب أمراً وراء ذلك ... (¬1). ¬
واشتملت سورة الفاتحة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم. وهي: 1 - التوحيد العلمي - سُمِّي بذلك لتعلقه بالأخبار والمعرفة - ويسمى أيضاً بـ «توحيد الأسماء والصفات». 2 - التوحيد القصدي الإرادي - سُمِّيَ بذلك لتعلقه بالقصد والإرادة - وهذا الثاني نوعان: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الإلهية فهذه ثلاثة أنواع. فأما التوحيد العلمي [توحيد الأسماء والصفات] فمداره على إثبات صفات الكمال، وعلى نفي التشبيه، والمثال، والتنزيه عن العيوب والنقائص، وقد دل على هذا شيئان: أ – مجمل. ... ب - مفصل.
أ - أما المجمل فإثبات الحمد للَّه سبحانه. ب - وأما المفصل فذكر صفة «الإلهية، والربوبية، والرحمة، والملك» وعلى هذه الأربعة مدار الأسماء والصفات. * فأما تضمن الحمد لذلك فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله، ونعوت جلاله، مع محبته والرضا عنه، والخضوع له. فلا يكون حامداً من جحد صفات المحمود، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له، وكلما كانت صفات المحمود أكثر كان حمده أكمل، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها. ولهذا كان الحمد كله للَّه حمداً لا يحصيه سواه لكمال صفاته وكثرتها؛ ولأجل هذا لا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه لما له من صفات الكمال ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على
نفسك» (¬1) .. فهذه دلالة على توحيد الأسماء والصفات. * وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها «أي على الأسماء والصفات» وهي: «اللَّه، والرب، والرحمن، والرحيم، والملك» فمبني على أصلين: الأصل الأول: أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله فهي مشتقة من الصفات. فهي أسماء وهي أوصاف، وبذلك كانت حُسنى؛ إذْ لو كانت ألفاظاً لا معاني فيها لم تكن حُسنى، ولا كانت دالةً على مدح ولا كمال، ولساغ وقوع أسماء الانتقام، والغضب في مقام الرحمة والإحسان، وبالعكس فيقال: اللَّهم إني ظلمت نفسي فاغفر إنك أنت المنتقم. واللَّهم أعطني فإنك أنت الضار المانع، ونحو ذلك، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ونفي معاني الأسماء الحُسنى من أعظم الإلحاد ¬
فيها قال تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1)؛ ولأنها لو لم تدل على معانٍ وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها. لكن اللَّه أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم -. كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬2)، فعُلِم أن «القوي» من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة. وكذلك قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬3)، فالعزيز من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة لم يُسمَّ قوياً، ولا عزيزاً، وكذلك قوله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬4) ... وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة اللَّه، أوسمعه، أو بصره، أو قوته أو عزته، أو عظمته انعقدت يمينه وكانت مكفرة؛ لأن هذه صفات كماله التي اشتقَّتْ منها ¬
أسماؤه. وأيضاً لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معانٍ وصفات لم يسُغ أن يخبر عنه بأفعالها. فلا يقال: يسمع، ويرى، ويعلم، ويقدر، ويريد؛ فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها، فإذا انتفى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها ... فنفي معاني أسمائه سبحانه من أعظم الإلحاد فيها، والإلحاد فيها أنواع هذا أحدها. الأصل الثاني: الاسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدلّ على الذات والصفة التي اشتقّ منها بالمطابقة؛ فإنّه يدلّ عليه دلالتين أُخرَيَيْن بالتضمن واللزوم. فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن الصفة، ويدل على الصفة الأُخرى باللزوم. فإن اسم «السميع» يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة. وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن، ويدل على اسم «الحي» وصفة الحياة
بالالتزام. وكذلك سائر أسمائه وصفاته، ولكن يتفاوت الناس في معرفة اللزوم وعدمه .. * إذا تقرر هذان الأصلان فاسم «اللَّه» دالٌّ على جميع الأسماء الحُسنى والصفات العُلا بالدلالات الثلاث «المطابقة، والتضمن، واللزوم». فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له، مع نفي أضدادها عنه. وصفات الإلهية - يعني أن اللَّه الإله الحق وحده لا شريك له - هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والتمثيل، وعن العيوب والنقائص، ولهذا يضيف اللَّه تعالى سائر الأسماء الحُسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ويقال: «الرحمن، والرحيم، والقدوس، والسلام، والعزيز، والحكيم» من أسماء اللَّه ولا يقال: اللَّه من أسماء الرحمن، ولا من أسماء العزيز. ونحو ذلك. فعُلِمَ أن اسمه «اللَّه» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دالٌّ عليها بالإجمال، والأسماء
الحُسنى تفصيل، وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم «اللَّه»، واسم «اللَّه» دالٌّ على كونه مألوهاً معبوداً، تَألَّهَهُ الخلائق محبةً، وتعظيماً، خضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد. وإلهيته وربوبيته، ورحمانيته، وملكه، مستلزم لجميع صفات كماله. إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعَّالٍ لما يريد، ولا حكيم في أفعاله. * وصفات الجلال والجمال: أخص باسم «اللَّه». * وصفات الفعل، والقدرة، والتفرّد بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة أخص باسم «الربّ». * وصفات الإحسان، والجود، والبّر، والحنّان، والمنّة، والرأفة، واللّطف، أخص باسم «الرحمن». وكرر إيذاناً بثبوت الوصف، وحصول أثره، وتعلقه
بمتعلقاته. فالرحمن الذي الرحمة وصفه، والرحيم: الراحم لعباده؛ ولهذا يقول تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬1)،ولم يجئ رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين، مع ما في اسم «الرحمن» الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه الموصوف به ... فبناء فعلان للسعة والشمول. ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيراً كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬2)؛لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬3)،وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «لما قضى اللَّه الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش: «إن رحمتي ¬
تغلب غضبي»،وفي لفظ: «فهو عنده على العرش» (¬1). فتأملْ اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة، ووضعه عنده على العرش، وطابقْ بين ذلك وبين قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (¬2) ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهيم. * وصفات العدل، والقبض والبسط، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والقهر والحكم، ونحوها أخص باسم «المَلِك» وخصّه بيوم الدين وهو الجزاء بالعدل؛ لتفرده بالحكم فيه وحده؛ ولأنه اليوم الحق، وما قبله كساعة؛ ولأنه الغاية وأيام الدنيا مراحل إليه. ¬
وفي ذكر هذه الأسماء بعد الحمد في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬1)، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها ما يدل على أنه محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، ورب محمود، وملِك محمود. فله بذلك جميع أقسام الكمال: كمال من هذا الاسم بمفرده، وكمال من الآخر بمفرده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر. مثال ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (¬2)، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬3)، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬4)، فالغنى صفة كمال والحمد صفة كمال، واقتران غناه بحمده كمال أيضاً، وعلمه كمال، وحكمته كمال، واقتران ¬
العلم بالحكمة كمال أيضاً. وقدرته كمال، ومغفرته كمال، واقتران القدرة بالمغفرة كمال، وكذلك العفو بعد القدرة: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (¬1). فما كل من قدر عفا، ولا كل من عفا يعفو عن قدرة، ولا كل من علم يكون حليماً، ولا كل حليم عالم في قرن شيء إلى شيءٍ أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة، ومن ملك إلى حمد، ومن عزة إلى رحمة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬2). وفي هذا أظهر دلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعانٍ قامت به، وإن كل اسم يناسب ما ذكر معه واقترن به من فعله وأمره، واللَّه الموفق للصواب (¬3). إذا قال السائل: «اللَّهم إني أسألك» كأنه قال: أدعو ¬
اللَّه الذي له الأسماء الحسنى والصفات العُلا بأسمائه وصفاته. فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم، إيذاناً بسؤاله تعالى بأسمائه كلها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «ما أصاب عبداً همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللَّهمّ إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حُزني، وذهاب همّي وغمّي، إلا أذهب اللَّه همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحاً» قالوا: يا رسول اللَّه أفلا نتعلمهنّ؟ قال: «بلى، ينبغي لمن سمعهنّ أن يتعلمهنّ» (¬1). فالداعي مندوب إلى أن يسأل اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته كما في الاسم الأعظم: «اللَّهم إني أسألك بأن ¬
لك الحمد، لا إله إلا أنت المنّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيوم» (¬1). والدعاء ثلاثة أقسام: 1 - أن تسأل اللَّه بأسمائه وصفاته. 2 - أن تسأله بحاجتك وفقرك وذُلِّك فتقول: أنا العبد الفقير المسكين الذليل المستجير، ونحو ذلك. 3 - أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحداً من الأمرين، فالأول أكمل من الثاني، والثاني أكمل من الثالث، فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل. وهذه عامة أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالدعاء الذي علّمه صدِّيق الأمة - رضي الله عنه - ذكر الأقسام الثلاثة: 1 - فإنه قال في أوله: «اللَّهم إني ظلمت نفسي ¬
ظلماً كثيراً» (¬1)، وهذا حال السائل. 2 - ثم قال: «ولا يغفر الذنوب إلا أنت»، وهذا حال المسؤول. 3 - ثم قال: «فاغفر لي» فذكر حاجته، وختم الدعاء باسمين من الأسماء الحُسنى تناسب المطلوب وتقتضيه، ثم قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحد من السلف. قال الحسن البصري: «اللَّهم» مجمع الدعاء، وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله: «اللَّهم» فيها تسعة وتسعون اسماً من أسماء اللَّه تعالى. وقال النضر بن شميل: من قال: «اللَّهم» فقد دعا اللَّه بجميع أسمائه (¬2). ¬
المبحث الحادي عشر: أسماء الله وصفاته مختصة به، واتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات.
المبحث الحادي عشر: أسماء الله وصفاته مختصة به، واتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات. قال ابن تيمية - رحمه الله -: «سمّى اللَّه نفسه بأسماء، وسمّى صفاته بأسماء، فكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه، لا يشركه فيها غيره، وسمّى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، لا اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص. فقد سمَّى اللَّه نفسه حيّا، فقال: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1)، وسمَّى بعض عباده حيّاً، فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (¬2)، وليس هذا الحيّ مثل هذا الحيّ؛ لأن قوله ¬
«الحيّ» اسم اللَّه مختص به، وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أُطلقا وجُرِّدا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمَّى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق. ولابدّ من هذا في جميع أسماء اللَّه وصفاته، يُفهم منها ما دلّ عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دلّ عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه - سبحانه وتعالى -. وكذلك سمَّى اللَّه نفسه عليماً حليماً، وسمّى بعض عباده عليماً، فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} (¬1)، يعني إسحاق وسمّى آخر حليماً، فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (¬2)، يعني إسماعيل، وليس ¬
العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم. وسمَّى نفسه سميعاً بصيراً، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬1)، وسمّى بعض خلقه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬2)، وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير. وسمَّى نفسه بالرؤوف الرحيم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، وسمّى بعض عباده بالرؤوف الرحيم، فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬4)، وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم. ¬
وسمَّى نفسه بالملك، فقال: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (¬1)، وسمّى بعض عباده بالملك، فقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (¬2)، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} (¬3)، وليس الملك كالملك. وسمَّى نفسه بالمؤمن، فقال: {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} (¬4)، وسمى بعض عباده بالمؤمن، فقال: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} (¬5)، وليس المؤمن كالمؤمن. وسمَّى نفسه بالعزيز، فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (¬6)، وسمّى بعض عباده بالعزيز، فقال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} (¬7)،وليس العزيز كالعزيز. وسمَّى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه ¬
بالجبار المتكبر، فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (¬1)، وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر. ونظائر هذا متعددة. وكذلك سمَّى صفاته بأسماء، وسمّى صفات عباده بنظير ذلك، فقال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} (¬2)، وقال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬3)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬4)، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬5). وسمَّى صفة المخلوق علماً وقوة، فقال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬6)، وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي ¬
عِلْمٍ عَلِيمٌ} (¬1)، وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} (¬2)، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (¬3)، وقال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (¬4)، وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (¬5)، أي: بقوة، وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} (¬6) أي: ذا القوة، وليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة. وكذلك وصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة، فقال: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬7). وقال: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا ¬
تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬1). وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة، فقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2). ووصف نفسه بالمحبة، [ووصف عبده بالمحبة] فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (¬3)، وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬4). ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} (¬5). ومعلوم أن مشيئة اللَّه ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه. ¬
وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} (¬1)، وليس المقت مثل المقت. وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} (¬2)، وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} (¬3)، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد. ووصف نفسه بالعمل، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (¬4)، ووصف عبده بالعمل، فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬5)، وليس العمل كالعمل. ¬
ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة، في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (¬1)، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} (¬2)، وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} (¬3)، ووصف عبده بالمناداة والمناجاة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (¬4)، وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} (¬5)، وقال: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬6)، وليس المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة. ووصف نفسه بالتكليم في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬7)، وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (¬8)، وقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ ¬
عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} (¬1)، ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} (¬2)، وليس التكليم كالتكليم. ووصف نفسه بالتنبئة، [ووصف بعض الخلق بالتنبئة]، فقال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (¬3)، وليس الإنباء كالإنباء. ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم، فقال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (¬4)، وقال: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ¬
اللَّهُ} (¬1)، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬2)، وليس التعليم كالتعليم. وهكذا وصف نفسه بالغضب في قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} (¬3)، ووصف عبده بالغضب في قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} (¬4)، وليس الغضب كالغضب. ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر في سبع آيات (¬5) من كتابه أنه استوى على العرش، ¬
ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره، في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوْا عَلَى ظُهُورِهِ} (¬1)، وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (¬2)، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (¬3)، وليس الاستواء كالاستواء. ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (¬4)، ووصف بعض خلقه ببسط اليد، في قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (¬5)، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء اللَّه كإعطاء ¬
خلقه، ولا جوده كجودهم. ونظائر هذا كثيرة. فلابد من إثبات ما أثبته اللَّه لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس للَّه علم، ولا قوة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب، ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى -كان معطلاً، جاحداً، ممثلاً للَّه بالمعدومات والجمادات. ومن قال: [له] علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضىً كرضاي، أو يدان كيديَّ، أو استواء كاستوائي - كان مشبِّها، ممثلاً للَّه بالحيوانات، بل لابد من إثباتٍ بلا تمثيل، وتنزيهٍ بلا تعطيل (¬1). وقد بيَّن الإمام ابن القيم - رحمه الله -: «أن الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات: الاعتبار الأول: اعتبار من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد. الاعتبار الثاني: اعتباره مضافاً إلى الرب مختصاً به. الاعتبار الثالث: اعتباره مضافاً إلى العبد مقيداً به. فما ¬
لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتاً للرب والعبد، وللرب منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به. وهذا كاسم السميع الذي يلزم إدراك المسموعات، والبصير الذي يلزمه رؤية المبصرات، والعليم والقدير وسائر الأسماء؛ فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لزم هذه الأسماء لذاتها فإثباته للرب تعالى لا محذور فيه بوجه؛ بل يثبت له على وجه لا يماثل فيه خلقه ولا يشابههم، فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق ألحد في أسمائه، وجحد صفات كماله. ومن أثبته له على وجه يماثل فيه خلقه فقد شبَّهه بخلقه، ومن شبَّه اللَّه بخلقه فقد كفر، ومن أثبته له على وجه لا يماثل فيه خلقه؛ بل كما يليق بجلاله وعظمته، فقد برئ من فرث التشبيه ودم التعطيل، وهذا طريق أهل السنة، وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيه عن اللَّه، كما يلزم حياة العبد من النوم والسِّنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك. وكذلك ما يلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به. وكذلك ما يلزم
علوّه من احتياجه إلى ما هو عالٍ عليه، وكونه محمولاً به، مفتقراً إليه، محاطاً به. كل هذا يجب نفيه عن القدوس السلام تبارك وتعالى، وما لزم صفة من جهة اختصاصه تعالى بها، فإنه لا يثبت للمخلوق بوجهٍ، كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإن ما يختصَّ به منها لا يمكن إثباته للمخلوق، فإذا أحطتَ بهذه القاعدة خبراً، وعقلتَها كما ينبغي، خلصتَ من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين: آفة التعطيل، وآفة التشبيه، فإنكَ إذا وفَّيْتَ هذا المقام حقه من التصور أثبتَّ للَّه الأسماء الحسنى، والصفات العُلا حقيقة، فخلصتَ من التعطيل، ونفيتَ عنها خصائص المخلوقين ومشابهتهم، فخلصتَ من التشبيه، فتدبّرْ هذا الموضع، واجعلْه جنَّتك التي ترجع إليها في هذا الباب واللَّه الموفق للصواب (¬1). ¬
وقال ابن القيم - رحمه الله - أيضاً: اختلف النظَّار في الأسماء التي تطلق على اللَّه وعلى العباد كالحي، والسميع، والبصير، والعليم، والقدير، والملك ونحوها فقالت طائفة من المتكلمين: هي حقيقة في العبد مجاز في الرب، وهذا قول غلاة الجهمية، وهو أخبث الأقوال وأشدها فساداً. الثاني مقابله وهو أنها حقيقة في الرب مجاز في العبد، وهذا قول أبي العباس الناشى. الثالث أنها حقيقة فيهما، وهذا قول أهل السنة وهو الصواب. واختلاف الحقيقتين فيهما لا يخرجها عن كونها حقيقة فيهما. وللرب تعالى منها ما يليق بجلاله، وللعبد منها ما يليق به (¬1). ¬
المبحث الثاني عشر: أمور ينبغي أن تعلم
المبحث الثاني عشر: أمور ينبغي أن تُعْلَم الأمر الأول: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء، والموجود، والقائم بنفسه؛ فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العلا. الثاني: أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه؛ بل يطلق عليه منها كمالها، وهذا كالمريد، والفاعل، والصانع؛ فإن هذه الألفاظ لا تدخل من أسمائه، ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق، بل هو الفعال لما يريد، فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة، ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلاً وخبراً. الثالث: أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيداً أن يشتق له منه اسم مطلق، كما غلط فيه بعض المتأخرين فجعل من أسمائه الحسنى المضل، الفاتن، الماكر، تعالى اللَّه عن قوله؛ فإن هذه الأسماء
لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة، واللَّه أعلم. الرابع: أن أسماءه الحسنى هي أعلامٌ وأوصافٌ، والوصف بها لا يُنافي العلمية، بخلاف أوصاف العباد، فإنها تنافي علميتهم؛ لأن أوصافهم مشتركة، فنفتها العلمية المختصة بخلاف أوصافه تعالى. الخامس: أن أسماءه الحسنى لها اعتباران: اعتبار من حيث الذات، واعتبار من حيث الصفات، فهي بالاعتبار الأول مترادفة، وبالاعتبار الثاني متباينة. السادس: أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفياً كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه. فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية، أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع. السابع: أن الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه
المصدر والفعل فيخبر به عنه فعلاً ومصدراً نحو السميع، البصير، القدير، يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة، ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو «قَدْ سَمِعَ اللَّه»، «فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ» هذا إن كان الفعل متعدياً. فإن كان لازماً لم يخبر عنه به نحو الحي؛ بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل، فلا يقال: حيي. الثامن: أن أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم، فالرب تبارك وتعالى فعاله عن كماله. والمخلوق كماله عن فعاله، فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل. فالرب لم يزل كاملاً، فحصلت أفعاله عن كماله؛ لأنه كامل بذاته وصفاته، فأفعاله صادرة عن كماله كَمُلَ ففعل، والمخلوق فَعَل فكَمُلَ الكمال اللائق به (¬1). التاسع: أن الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال، ¬
وصفات نقص، وصفات لا تقتضي كمالاً ولا نقصاً، وإن كانت القسمة التقديرية تقتضي قسماً رابعاً، وهو: ما يكون كمالاً ونقصاً باعتبارين، والرب تعالى منزه عن الأقسام الثلاثة، وموصوف بالقسم الأول، وصفاته كلها صفات كمال محض، فهو موصوف من الصفات بأكملها وله من الكمال أكمله. وهكذا أسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها ولا يؤدي معناها، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيراً بمرادفٍ محضٍ؛ بل هو على سبيل التقريب والتفهيم. وإذا عرفتَ هذا فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمَّه معنى، وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب أو نقص، فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العاقل الفقيه، والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر. ومن صفات الإحسان البر، الرحيم، الودود، دون الشفوق ونحوه. وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف. وكذلك الكريم
دون السخي، والخالق البارئ المصور دون الفاعل الصانع المشكل، والغفور العفوّ دون الصفوح الساتر. وكذلك سائر أسمائه تعالى يُجري على نفسه منها أكملها وأحسنها، وما لا يقوم غيره مقامه، فتأملْ ذلك، فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا تعدِلْ عما سمّى به نفسه إلى غيره، كما لا تتجاوزْ ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون (¬1). ¬
المبحث الثالث عشر: مراتب إحصاء أسماء الله الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة
المبحث الثالث عشر: مراتب إحصاء أسماء الله الحُسنى التي من أحصاها دخل الجنة هذا بيان مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة، وهذا هو قطب السعادة، ومدار النجاة والفلاح. المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها. المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها. المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1)، وهو مرتبتان. إحداهما: ثناء وعبادة. والثاني: دعاء طلب ومسألة، فلا يُثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وكذلك لا يُسئل إلا بها، فلا يقال: يا موجود، أو يا شيء، أو يا ذات اغفر لي وارحمني؛ بل يُسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً إليه بذلك الاسم. ومن تأمل أدعية الرسل، ولا سيما خاتمهم وإمامهم، وجدها مطابقة لهذا، وهذه العبارة ¬
أولى من عبارة من قال: يتخلق بأسماء اللَّه، فإنها ليست بعبارة سديدة، وهي منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله قدر الطاقة. وأحسن منها عبارة أبي الحكم بن برهان، وهي التعبد، وأحسن منها العبارة المطابقة للقرآن، وهي الدعاء المتضمن للتعبد والسؤال. فمراتبها أربعة أشدها إنكاراً عبارة الفلاسفة وهي التشبه. وأحسن منها عبارة من قال: التخلق. وأحسن منها عبارة من قال: التعبد. وأحسن من الجميع الدعاء، وهي لفظ القرآن (¬1). ¬
المبحث الرابع عشر: الأسماء الحسنى لا تحد بعدد
المبحث الرابع عشر: الأسماء الحسنى لا تُحدُّ بعدد الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد فإن للَّه تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما في الحديث الصحيح: «أسألك بكل اسم هو لك سمَّيتَ به نفسك، أو علّمتَه أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» (¬1)، فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمَّى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه فتعرّف به إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطَّلِع عليه أحد من خلقه، ولهذا قال: «استأثرتَ به» أي انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالتسمِّي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه. ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ¬
الشفاعة: «فيفتح عليّ من محامده بما لا أحسنه الآن» (¬1)، وتلك المحامد هي تفي بأسمائه وصفاته. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (¬2)، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن للَّه تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» (¬3)، فالكلام جملة واحدة. وقوله: «من أحصاها دخل الجنة» صفة لا خبر مستقبل. والمعنى له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة. وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها. وهذا كما تقول: لفلان مائة مملوك قد أعدهم للجهاد، فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم معدون لغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه (¬4). ¬
المبحث الخامس عشر: شرح أسماء الله الحسنى
المبحث الخامس عشر: شرح أسماء الله الحُسنى 1 - الأوَّلُ (¬1)، 2 - الآخِرُ، 3 - الظَّاهِرُ، 4 - الباطِنُ ¬
قال اللَّه تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (¬1)، هذه الأسماء الأربعة المباركة قد فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيراً جامعاً واضحاً فقال يخاطب ربه: «اللَّهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيء، وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيء، ¬
وأنت الباطن فليس دونك شيء» (¬1) إلى آخر الحديث، ففسّر كل اسم بمعناه العظيم، ونفى عنه ما يُضاده ويُنافيه. فتدبّر هذه المعاني الجليلة الدّالة على تفرّد الرب العظيم بالكمال المطلق والإحاطة الزمانية في قوله: «الأوّلُ والآخرُ»،والمكانية في «الظاهر والباطن». «فالأول» يدلّ على أنّ كل ما سواه حادث كائن بعد أنْ لم يكن، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية، إذ السبب والمسبب منه تعالى. «والآخر» يدل على أنه هو الغاية، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألُّهها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها. «والظاهر» يدل على عظمة صفاته، واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات على علوّه. «والباطن» يدلّ على اطّلاعه على السرائر، والضمائر، والخبايا، والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدلّ ¬
5 - العلي
على كمال قربه ودنوّه. ولا يتنافى الظاهر والباطن؛ لأن اللَّه ليس كمثله شيء في كل النعوت (¬1). 5 - العَلِيُّ، 6 - الأعْلَى، 7 - الْمُتَعَالِ قال اللَّه تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬2)،وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (¬3)، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (¬4)،وذلك دالّ على أن جميع معاني العلوّ ثابتة للَّه من كل وجه. فله علوّ الذات؛ فإنه فوق المخلوقات، وعلى العرش استوى: أي علا، وارتفع. وله علوّ القدر: وهو علوّ صفاته وعظمتها، فلا يماثله صفة مخلوق، بل لا يقدر الخلائق كلهم أن ¬
8 - العظيم
يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (¬1).وبذلك يُعلم أنه ليس كمثله شيء في كل نعوته. وله علوّ القهر؛ فإنه الواحد القهّار الذي قهر بعزّته وعلوه الخلق كلهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع، وما لم يشأ لم يكنْ، فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما لم يشأهُ اللَّه لم يقدروا، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه، وذلك لكمال اقتداره، ونفوذ مشيئته، وشدة افتقار المخلوقات كلها إليه من كل وجه (¬2). 8 - العَظِيمُ قال اللَّه تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬3). ¬
اللَّه تعالى عظيم له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم، فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له، ولا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يُثني عليه عباده. واعلم أن معاني التعظيم الثابتة للَّه وحده نوعان: النوع الأول: أنه موصوفٌ بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه، وأوسعه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء والعظمة، ومن عظمته أن السموات والأرض في كفِّ الرحمن أصغر من الخردلة كما قال ذلك ابن عباس وغيره، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوْا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} (¬2). وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ ¬
الْعَظِيمُ} (¬1)، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} (¬2) الآية. وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللَّه يقول: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذبته» (¬3) فللَّه تعالى الكبرياء والعظمة، الوصفان اللذان لا يُقدَّر قدرهما، ولا يُبلغ كنههما. النوع الثاني من معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يُعظّم كما يُعظّم اللَّه، فيستحق جلّ جلاله من عباده أن يعظِّموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته، والذُّلِّ له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يُتقى حقَّ تقاته، فيُطاع فلا ¬
9 - المجيد
يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفَر. ومن تعظيمه تعظيم ما حرّمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬1)، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} (¬2). ومن تعظيمه أن لا يُعترض على شيء مما خلقه أو شرعه (¬3). 9 - المَجِيدُ «المجيد» الذي له المجد العظيم، والمجد هو عظمة الصفات وسعتها، فكل وصف من أوصافه عظيم شأنه: فهو العليم الكامل في علمه، الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، القدير الذي لا يعجزه شيء، الحليم ¬
10 - الكبير
الكامل في حلمه، الحكيم الكامل في حكمته، إلى بقية أسمائه وصفاته (¬1) التي بلغت غاية المجد، فليس في شيء منها قصور أو نقصان (¬2)، قال اللَّه تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (¬3). 10 - الْكَبِيرُ وهو - سبحانه وتعالى - الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى. وله التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه. قد ملئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه (¬4)، قال اللَّه تعالى: ¬
11 - السميع
{ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ للَّه الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (¬1). 11 - السَّمِيعُ قال اللَّه تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬2)، وكثيراً ما يقرن اللَّه بين صفة السمع والبصر، فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة، والباطنة، فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرَّها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللغات، والقريب منها والبعيد، والسرّ والعلانية عنده سواء {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (¬3)، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي ¬
زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬1)، قالت عائشة - رضي الله عنها -: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأنا في جانب الحجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل اللَّه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (¬2) الآية. وسَمْعُه تعالى نوعان: النوع الأول: سَمْعُه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة، الخفيّة والجلية، وإحاطته التامة بها. النوع الثاني: سَمْعُ الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (¬3)، وقول المصلي «سمع اللَّه لمن حمده» أي استجاب. ¬
12 - البصير
12 - البصيرُ الذي أحاط بصره بجميع المُبصِرات في أقطار الأرض والسموات، حتى أخفى ما يكون فيها، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصّماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها، وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقَّتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك. فسبحان من تحيّرت العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبرته بالغيب، والشهادة، والحاضر والغائب، ويرى خيانات الأعين، وتقلبات الأجفان، وحركات الجنان، قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1)، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬2)، ¬
13 - العليم
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬1)،أي مطَّلع ومحيط علمه وبصره وسمعه بجميع الكائنات (¬2). 13 - العَلِيمُ، 14 - الخَبِيرُ قال اللَّه تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬3). {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4). فهو العليم المحيط علمه بكل شيء: بالواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة، ونعوته المقدسة، وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتّب على وجودها لو وُجدت. كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬5). وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ¬
وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬1). فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها، وإخباره بما ينشأ عنها لو وُجدت على وجه الفرض والتقدير، ويعلم تعالى الممكنات، وهي التي يجوز وجودها وعدمها ما وجد منها وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده، فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي، لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان، ويعلم الغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، والجليّ والخفيّ. قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2)، والنصوص في ذكر إحاطة علم اللَّه وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جداً لا يمكن حصرها ولا إحصاؤها، وأنّه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنّ علوم ¬
الخلائق على سعتها وتنوعها إذا نسبت إلى علم اللَّه اضمحلت وتلاشت، كما أن قُدَرَهُم إذا نسبت إلى قدرة اللَّه لم يكن لها نسبة إليها بوجهٍ من الوجوه، فهو الذي علّمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأقدرهم على ما لم يكونوا عليه قادرين. وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي، وما فيه من المخلوقات: ذواتها، وأوصافها، وأفعالها، وجميع أمورها، فهو يعلم ما كان وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ أنشأهم وبعد ما يُميتهم وبعد ما يُحييهم، قد أحاط علمه بأعمالهم كلها: خيرها وشرها، وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار (¬1). والخلاصة أن للَّه تعالى هو الذي أحاط علمه ¬
15 - الحميد
بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات، والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي، والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (¬1). 15 - الحَمِيدُ قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬2). وذكر ابن القيم - رحمه الله - أن اللَّه حميد من وجهين: أحدهما: أنّ جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل السموات والأرض الأوّلين منهم والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة، وكل حمد لم يقع منهم بل كان مفروضاً ومقدّراً حيثما تسلسسلت الأزمان واتصلت الأوقات، حمداً يملأ الوجود كله العالم العلوي والسفلي، ويملأ نظير ¬
الوجود من غير عدٍّ ولا إحصاءٍ، فإنّ اللَّه تعالى مستحقة من وجوه كثيرة: منها أن اللَّه هو الذي خلقهم، ورزقهم، وأسدى عليهم النعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيويّة، وصرف عنهم النقم والمكاره، فما بالعباد من نعمة فمن اللَّه، ولا يدفع الشرور إلاّ هو، فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات، وأن يثنوا عليه ويشكروه بعدد اللحظات. الوجه الثاني: أنه يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة، فله كلّ صفة كمال وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها، فكلّ صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله؛ لأنها دائرة بين أفعال الفضل والإحسان، وبين أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدريّة،
16 - العزيز
وأحكامه الشرعيّة، وأحكام الجزاء في الأولى والآخرة، وتفاصيل حمده وما يُحمد عليه لا تُحيط بها الأفكارُ، ولا تُحصيها الأقلام (¬1). 16 - العَزيزُ،17 - القَدِيرُ،18 - القَادِرُ،19 - المُقتَدِرُ،20 - القوِيُّ،21 - المَتِينُ هذه الأسماء العظيمة معانيها متقاربة، فهو تعالى كامل القوة، عظيم القدرة، شامل العزّة {إِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬2)، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (¬3)، فمعاني العزة الثلاثة كلها كاملة للَّه العظيم: 1 - عزّة القوة الدالّ عليها من أسمائه القوي المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تُنسَب إليه قوة المخلوقات وإنْ عَظُمَتْ. قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّه هُوَ ¬
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬1)، وقال: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (¬3). وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} (¬4). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬5). 2 - وعزة الامتناع فإنه هو الغنيّ بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العبادُ ضرّه فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع. 3 - وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات، فهي كلها مقهورة للَّه خاضعة لعظمته منقادة لإرادته، فجميع ¬
نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرّك ولا يتصرّف متصرّف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به. فمن قوته واقتداره أنّه خلق السموات والأرض وما ببينهما في ستة أيام، وأنّه خلق الخلق ثم يميتهم ثم يُحييهم ثم إليه يُرجعون {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬1)، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (¬2)، ومن آثار قدرته أنك ترى الأرض هامدة، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن آثار قدرته ما أوقعه بالأمم المكذّبين والكُفّار الظالمين من أنواع العقوبات وحلول المثلات، وأنه لم يغنِ عنهم كيدهم ومكرهم ولا أموالهم ولا جنودهم ولا حصونهم من عذاب اللَّه من شيء لمّا جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، وخصوصاً في هذه الأوقات، فإنّ هذه القوة الهائلة، ¬
والمخترعات الباهرة التي وصلت إليها مقدرة هذه الأمم هي من إقدار اللَّه لهم وتعليمه لهم ما لم يكونوا يعلمونه، فمن آيات اللَّه أنّ قواهم وقُدَرَهم ومخترعاتهم لم تغنِ عنهم شيئاً في صدّ ما أصابهم من النكبات والعقوبات المهلكة، مع بذل جدِّهم واجتهادهم في توقي ذلك، ولكنَّ أمر اللَّه غالب، وقدرته تنقاد لها عناصر العالم العلوي والسفلي. ومن تمام عزته وقدرته وشمولهما أنه كما أنه هو الخالق للعباد فهو خالق أعمالهم وطاعتهم ومعاصيهم، وهي أيضاً أفعالهم، فهي تضاف إلى اللَّه خلقاً وتقديراً، وتضاف إليهم فعلاً ومباشرة على الحقيقة، ولا منافاة بين الأمرين، فإنّ اللَّه خالق قدرتهم وإرادتهم، وخالق السبب التام خالق للمسبب، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬1). ومن آثار قدرته ما ذكره في كتابه من نصره ¬
أولياءه، على قلَّة عددهم وعُددهم على أعدائهم الذين فاقوهم بكثرة العَدد والعُدّة، قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬1). ومن آثار قدرته ورحمته ما يحدثه لأهل النار وأهل الجنة من أنواع العقاب وأصناف النعيم المستمر الكثير المتتابع الذي لا ينقطع ولا يتناهى (¬2). فبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبّرها، وبقدرته سوّاها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وبقدرته يُقَلِّبُ القلوب ويصرفها على ما يشاء الذي إذا أراد شيئاً قال له: {كُن فَيَكُونُ} (¬3). قال اللَّه تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬4). ¬
22 - الغني
22 - الغَنِيُّ قال اللَّه تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (¬1). وقال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬2). فهو تعالى (الغني) الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنياً، فإنّ غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا محسناً، جواداً، براً، رحيماً كريماً، والمخلوقات بأسرها لا تستغني عنه في حال من أحوالها، فهي مفتقرة إليه في إيجادها، وفي بقائها، وفي كل ما تحتاجه أو تضطر إليه، ومن سعة غناه أن خزائن السموات والأرض والرحمة بيده، وأن جوده على خلقه متواصل في جميع اللحظات والأوقات، وأن يده سحاء الليل والنهار، وخيره على الخلق ¬
مدرار. ومن كمال غناه وكرمه أنّه يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعواتهم وإسعافهم بجميع مراداتهم، ويؤتيهم من فضله ما سألوه وما لم يسألوه، ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أول الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلاً منهم ما سأله وما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه مثقال ذرّة. ومن كمال غناه وسعة عطاياه ما يبسطه على أهل دار كرامته من النعيم واللذات المتتابعات، والخيرات المتواصلات، مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبةً، ولا ولداً، ولا شريكاً في الملك، ولا ولياً من الذل، فهو الغني الذي كمل بنعوته وأوصافه، المغني لجميع مخلوقاته (¬1). ¬
23 - الحكيم
والخلاصة أن اللَّه الغني الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه، وهو المغني جميع خلقه، غنىً عاماً، والمغني لخواص خلقه، بما أفاض على قلوبهم، من المعارف الربانية، والحقائق الإيمانية (¬1). 23 - الحَكِيمُ قال اللَّه تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬2). وهو تعالى «الحكيم» الموصوف بكمال الحكمة وبكمال الحكم بين المخلوقات، فالحكيم هو واسع العلم والاطّلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، واسع الحمد، تام القدرة، غزير الرحمة، فهو الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلْقه وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال. ¬
وحكمته نوعان: النوع الأول: الحكمة في خلقه؛ فإنه خلق الخلق بالحق ومشتملاً على الحق، وكان غايته والمقصود به الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه خللاً، ولا نقصاً، ولا فطوراً، فلو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن والانتظام والإتقان لم يقدروا، وأنّى لهم القدرة على شيء من ذلك، وحسب العقلاء الحكماء منهم أن يعرفوا كثيراً من حكمه، ويطَّلعوا على بعض ما فيها من الحسن والإتقان. وهذا أمر معلوم قطعاً بما يُعلم من عظمته وكمال صفاته، وتَتَبُّع حكمه في الخلق والأمر، وقد تحدَّى عباده وأمرهم أن ينظروا ويكرّروا النظر والتأمل هل يجدون في خلقه خللاً أو
نقصاً، وأنه لابد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته. النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العباد ويعبدوه، فأي حكمة أجلّ من هذا، وأيّ فضل وكرم أعظم من هذا، فإنّ معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له وحمده، وشكره والثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأجلّ الفضائل لمن يمنّ اللَّه عليه بها. وأكمل سعادة وسرور للقلوب والأرواح، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية والنعيم الدائم، فلو لم يكن في أمره وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة وحق الجزاء، وخلقت الجنة والنار، لكانت كافية شافية. هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علماً، ويقيناً، وإيماناً، وعقائد
صحيحة، وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها، وتثمر كل خلق جميل وعمل صالح وهدى ورشد. وأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدِّين والدنيا، فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مضرّته خالصة أو راجحة. ومن حكمة الشرع الإسلامي أنه كما أنه هو الغاية لصلاح القلوب، والأخلاق، والأعمال، والاستقامة على الصراط المستقيم، فهو الغاية لصلاح الدنيا، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحاً حقيقياً إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مشاهد محسوس لكل عاقل، فإنّ أُمّة محمد لما كانوا قائمين بهذا الدين أصوله وفروعه وجميع ما يهدي ويرشد إليه، كانت أحوالهم في غاية الاستقامة والصلاح، ولمّا انحرفوا عنه وتركوا كثيراً من هداه، ولم يسترشدوا بتعاليمه العالية، انحرفت دنياهم كما انحرف دينهم.
وكذلك انظر إلى الأمم الأخرى التي بلغت في القوة، والحضارة، والمدنية مبلغاً هائلاً، ولكن لمّا كانت خالية من روح الدين ورحمته وعدله، كان ضررها أعظم من نفعها، وشرها أكبر من خيرها، وعجز علماؤها وحكماؤها وساستها عن تلافي الشرور الناشئة عنها، ولن يقدروا على ذلك ما داموا على حالهم؛ ولهذا كان من حكمته تعالى أنّ ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الدين والقرآن أكبر البراهين على صدقه وصدق ما جاء به؛ لكونه محكماً كاملاً لا يحصل إلا به. وبالجملة فالحكيم متعلقاته المخلوقات والشرائع، وكلها في غاية الإحكام، فهو الحكيم في أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية، والفرق بين أحكام القدر وأحكام الشرع أن القدر متعلّق بما أوجده وكوّنه وقدّره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأْ لم يَكُنْ، وأحكام الشرع متعلقة بما شرعه، والعبد المربوب لا يخلو منهما أو من
24 - الحليم
أحدهما، فمن فعل منهم ما يحبّه اللَّه ويرضاه فقد اجتمع فيه الحكمان، ومن فعل ما يضادّ ذلك فقد وجد فيه الحكم القدري؛ فإنّ ما فعله واقع بقضاء اللَّه وقدره ولم يوجد في الحكم الشرعي لكونه ترك ما يحبه اللَّه ويرضاه. فالخير، والشر والطاعات، والمعاصي كلها متعلقة وتابعة للحكم القدري، وما يحبه اللَّه منها هو تابع الحكم الشرعي ومتعلّقه. واللَّه أعلم (¬1). 24 - الْحَلِيمُ قال اللَّه تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬2). الذي يَدِرُّ على خلقه، النعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاَّتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين ¬
بعصيانهم. ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا (¬1). وهو الذي له الحلم الكامل الذي وسع أهل الكفر والفسوق، والعصيان حيث أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا، ولو شاء لأخذهم بذنوبهم فور صدورها منهم؛ فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليها من العقوبات العاجلة المتنوعة، ولكن حلمه سبحانه هو الذي اقتضى إمهالهم (¬2) كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (¬3)، وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (¬4). ¬
25 - العفو
25 - العَفُوُّ، 26 - الغَفُورُ، 27 - الغَفَّارُ قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (¬1). الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده، موصوفاً. كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه. وقد وعد بالمغفرة والعفو، لمن أتى بأسبابها، قال تعالى (¬2): {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬3). والعفوّ هو الذي له العفو الشامل الذي وسع ما يصدر من عباده من الذنوب، ولا سيما إذا أتوا لما يسبب العفو عنهم من الاستغفار، والتوبة، والإيمان، والأعمال الصالحة فهو سبحانه يقبل التوبة عن عباده ¬
ويعفو عن السيئات، وهو عفوٌ يحب العفو ويحب من عباده أن يسعوا في تحصيل الأسباب التي ينالون بها عفوه: من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه، ومن كمال عفوه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثم تاب إليه ورجع، غفر له جميع جرمه: صغيره، وكبيره، وأنه جعل الإسلام يجُبُّ ما قبله، والتوبة تجبُّ ما قبلها (¬1)، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2)، وفي الحديث «إن اللَّه يقول: «يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة» (¬3)، وقال تعالى: {إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ} (¬4)، وقد فتح اللَّه - عز وجل - الأسباب لنيل مغفرته بالتوبة، والاستغفار، والإيمان، ¬
28 - التواب
والعمل الصالح، والإحسان إلى عباد اللَّه، والعفو عنهم، وقوة الطمع في فضل اللَّه، وحسن الظن باللَّه، وغير ذلك مما جعله اللَّه مُقرِّباً لمغفرته (¬1). 28 - التَّوَّابُ قال اللَّه تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2). «التَّوَّابُ» الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، فكل من تاب إلى اللَّه توبة نصوحاً، تاب اللَّه عليه. فهو التائب على التائبين: أولاً بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه. وهو التائب عليهم بعد توبتهم، قبولاً لها، وعفواً عن خطاياهم (¬3). ¬
29 - الرقيب
وعلى هذا تكون توبته على عبده نوعين: أحدهما: يُوقع في قلب عبده التوبة إليه والإنابة إليه، فيقوم بالتوبة وشروطها من الإقلاع عن المعاصي، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها. واستبدالها بعمل صالح. والثاني: توبته على عبده بقبولها وإجابتها ومحو الذنوب بها؛ فإن التوبة النصوح تجبّ ما قبلها (¬1). قال اللَّه تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (¬2). 29 - الرَّقيبُ الرقيب: المطَّلع على ما أكنَّته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت. قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). ¬
30 - الشهيد
والرقيب هو سبحانه الذي حفظ المخلوقات وأجراها، على أحسن نظام وأكمل تدبير (¬1). 30 - الشَّهيدُ الشهيد: أي المطَّلع على جميع الأشياء. سمع جميع الأصوات، خفيّها وجليها. وأبصر جميع الموجودات، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده، وعلى عباده، بما عملوه (¬2). قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - تعالى: «الرقيب» و «الشهيد» مترادفان، وكلاهما يدلُّ على إحاطة سمع اللَّه بالمسموعات، وبصره بالمبصرات، وعلمِه بجميع المعلومات الجليّة والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى ¬
الأفعال الظاهرة بالأركان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬1)، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬2). ولهذا كانت المراقبة التي هي من أعلى أعمال القلوب هي التعبّد للَّه باسمه الرقيب الشهيد، فمتى علم العبد أن حركاته الظاهرة والباطنة قد أحاط اللَّه بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك حراسة باطنة عن كل فكر وهاجس يبغضه اللَّه، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط اللَّه، وتعبّد بمقام الإحسان فعَبَدَ اللَّهَ كأنَّهُ يَرَاهُ، فإن لم يكن يراه فإن اللَّه يراه (¬3). فإذا كان اللَّه رقيباً على دقائق الخفيات، مطلعاً على السرائر والنيات، كان من باب أولى شهيداً على الظواهر والجليات. وهي الأفعال التي تفعل بالأركان: أي الجوارح (¬4). ¬
31 - الحفيظ
31 - الحَفِيظُ قال اللَّه تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (¬1) «للحفيظ» معنيان: المعنى الأول: أنه قد حفظ على عباده ما عملوه من خير وشر وطاعة ومعصية؛ فإن علمه محيط بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها، وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ووكَّل بالعباد ملائكة كراماً كاتبين «يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ» (¬2)، فهذا المعنى من حفظه يقتضي إحاطة علم اللَّه بأحوال العباد كلها ظاهرها وباطنها وكتابتها في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي في أيدي الملائكة، وعلمه بمقاديرها، وكمالها، ونقصها، ومقادير جزائها في الثواب والعقاب ثم مجازاته عليها بفضله وعدله. والمعنى الثاني: من معنيي «الحفيظ» أنه تعالى ¬
الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون، وحفظه لخلقه نوعان: عام، وخاص. النوع الأول: حفظه العام لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها ويحفظه بنيتها، وتمشي إلى هدايته وإلى مصالحها بإرشاده وهدايته العامة التي قال عنها: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1)، أي هدى كل مخلوق إلى ما قدّر له، وقضى له من ضروراته وحاجاته، كالهداية للمأكل والمشرب والمنكح، والسعي في أسباب ذلك، وكدفعه عنهم أصناف المكاره والمضارّ، وهذا يشترك فيه البرّ والفاجر، بل الحيوانات وغيرها، فهو الذي يحفظ السموات والأرض أن تزولا، ويحفظ الخلائق بنعمه، وقد وكّل بالآدمي حفظةً من الملائكة الكرام يحفظونه من أمر اللَّه، أي يدفعون عنه كل ما يضرّه مما هو بصدد أن يضرّه لولا حفظ اللَّه. والنوع الثاني: حفظه الخاص لأوليائه سوى ما تقدم، يحفظهم عما يضرّ إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من ¬
32 - اللطيف
الشُّبَهِ والفتن والشهوات، فيعافيهم منها ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس، فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1)، وهذا عام في دفع جميع ما يضرّهم في دينهم ودنياهم، فعلى حسب ما عند العبد من الإيمان تكون مدافعة اللَّه عنه بلطفه، وفي الحديث: «احفظ اللَّه يحفظك» (¬2)، أي احفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم تعدّيها، يحفظك في نفسك، ودينك، ومالك، وولدك، وفي جميع ما آتاك اللَّه من فضله (¬3). 32 - اللَّطِيفُ قال اللَّه تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ¬
وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيز} (¬1)، وقال تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} (¬2). «اللطيف» من أسمائه الحسنى، وهو الذي يلطف بعبده في أموره الداخلية المتعلقة بنفسه، ويلطف بعبده في الأمور الخارجية عنه، فيسوقه ويسوق إليه ما به صلاحه من حيث لا يشعر. وهذا من آثار علمه وكرمه ورحمته؛ فلهذا كان معنى اللطيف نوعين: النوع الأول: أنه الخبير الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن والخبايا والخفايا ومكنونات الصدور ومغيبات الأمور، وما لطف ودقَّ من كل شيء. النوع الثاني: لطفه بعبده ووليِّه الذي يريد أن يُتم عليه إحسانه، ويشمله بكرمه ويُرقِّيه إلى المنازل العالية فييسّره لليُسرى ويجنبه العُسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه، وهي عين صلاحه والطريق إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى ¬
قومهم وبالجهاد في سبيله، وكما ذكر اللَّه عن يوسف - صلى الله عليه وسلم - وكيف ترقت به الأحوال ولطف اللَّه به وله بما قدّره عليه من تلك الأحوال التي حصل له في عاقبتها حسن العُقبى في الدنيا والآخرة، وكما يمتحن أولياءه بما يكرهونه ليُنيلهم ما يُحبون. فكم للَّه من لُطْفٍ وكرمٍ لا تدركه الأفهام، ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية، أو رياسة، أو سبب من الأسباب المحبوبة، فيصرفه اللَّه عنها ويصرفها عنه رحمةً به لئلا تضره في دينه، فيظل العبدُ حزيناً من جهله وعدم معرفته بربِّه، ولو علم ما ادُّخِرَ له في الغيب وأريد إصلاحه فيه لحمد اللَّه وشكره على ذلك؛ فإنّ اللَّه بعباده رؤوف رحيم لطيف بأوليائه، وفي الدعاء المأثور (¬1): «اللَّهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أُحبُّ فاجعله فراغاً لي ¬
33 - القريب
فيما تُحبُّ» (¬1). 33 - القَرِيبُ قال اللَّه تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (¬2). من أسماء اللَّه تعالى: «القريب»، وقربه نوعان: النوع الأول: قرب عام وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهو بمعنى المعية العامة. النوع الثاني: وقرب خاص بالداعين والعابدين المحبين، وهو قرب يقتضي المحبة، والنصرة، والتأييد ¬
34 - المجيب
في الحركات والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول والإثابة للعابدين (¬1). قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬2). وإذا فُهِمَ القرب بهذا المعنى في العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلاً بينه وبين ما هو معلوم من وجوده تعالى فوق عرشه، فسبحان من هو عليٌّ في دنوّه، قريب في علوَه» (¬3). 34 - المُجِيبُ من أسماء اللَّه تعالى «المجيب» لدعوة الداعين وسؤال السائلين وعبادة المستجيبين، وإجابته نوعان: النوع الأول: إجابة عامة لكل من دعاه: دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، قال اللَّه تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ¬
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1)، فدعاء المسألة أن يقول العبد: اللَّهم أعطني كذا، أو اللَّهم ادفع عني كذا، فهذا يقع من البرّ والفاجر، ويستجيب اللَّه فيه لكل من دعاه بحسب الحال المقتضية، وبحسب ما تقتضيه حكمته. وهذا يستدلّ به على كرم المولى وشمول إحسانه للبرّ والفاجر، ولا يدلّ بمجرّده على حسن حال الداعي الذي أجيبت دعوته إنْ لم يقترن بذلك ما يدلّ عليه وعلى صدقه وتعيّن الحق معه، كسؤال الأنبياء ودعائهم لقومهم وعلى قومهم فيُجيبهم اللَّه؛ فإنه يدلّ على صدقهم فيما أخبروا به، وكرامتهم على ربهم؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يدعو بدعاء يشاهد المسلمون وغيرهم إجابته، وذلك من دلائل نبوّته وآيات صدقه، وكذلك ما يذكرونه عن كثير من أولياء اللَّه من إجابة الدعوات؛ فإنه من أدلة كراماتهم على اللَّه. النوع الثاني: أما الإجابة الخاصة فلها أسباب عديدة، ¬
منها دعوة المضطر الذي وقع في شدّة وكربة عظيمة، فإن اللَّه يجيب دعوته، قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (¬1)، وسبب ذلك شدة الافتقار إلى اللَّه، وقوة الانكسار وانقطاع تعلّقه بالمخلوقين، ولسعة رحمة اللَّه التي يشمل بها الخلق بحسب حاجتهم إليها، فكيف بمن اضطر إليها، ومن أسباب الإجابة طول السفر، والتوسل إلى اللَّه بأحب الوسائل إليه من أسمائه وصفاته ونعمه، وكذلك دعوت المريض، والمظلوم، والصائم، والوالد على ولده أو له، وفي الأوقات والأحوال الشريفة (¬2) مثل أدبار الصلوات، وأوقات السحر، وبين الأذان والإقامة، وعند النداء، ونزول المطر واشتداد البأس، ونحو ذلك (¬3). {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (¬4). ¬
35 - الودود
35 - الوَدُودُ قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (¬1). وقال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (¬2)، والودّ مأخوذ من الوُدّ بضم الواو بمعنى خالص المحبة، فالودود هو المحب المحبوب بمعنى وادّ مودود، فهو الواد لأنبيائه، وملائكته، وعباده المؤمنين، وهو المحبوب لهم، بل لا شيء أحب إليهم منه، ولا تعادل محبة اللَّه من أصفيائه محبة أخرى، لا في أصلها، ولا في كيفيتها، ولا في متعلّقاتها، وهذا هو الفرض والواجب أن تكون محبة اللَّه في قلب العبد سابقة لكل محبة، غالبة لكل محبة، ويتعيّن أن تكون بقية المحابّ تبعاً لها. ومحبة اللَّه هي روح الأعمال، وجميع العبودية الظاهرة والباطنة ناشئة عن محبة اللَّه. ¬
ومحبة العبد لربه فضلٌ من اللَّه وإحسان، ليست بحول العبد ولا قوته، فهو تعالى الذي أحب عبده فجعل المحبة في قلبه، ثم لمّا أحبه العبد بتوفيقه جازاه اللَّه بِحُبٍّ آخر، فهذا هو الإحسان المحض على الحقيقة، إذ منه السبب ومنه المسبِّب، ليس المقصود منها المعاوضة، وإنما ذلك محبة منه تعالى للشاكرين من عباده ولشكرهم، فالمصلحة كلها عائدة إلى العبد، فتبارك الذي جعل وأودع المحبة في قلوب المؤمنين، ثم لم يزل يُنميها ويُقويها حتى وصلت في قلوب الأصفياء إلى حالة تتضاءل عندها جميع المحابّ، وتُسلِّيهم عن الأحباب، وتُهوِّن عليهم المصائب، وتُلَذِّذُ لهم مشقّة الطاعات، وتثمر لهم ما يشاءون من أصناف الكرامات التي أعلاها محبة اللَّه والفوز برضاه والأنس بقربه. فمحبة العبد لربه محفوفة بمحبتين من ربه: فمحبة قبلها صار بها محباً لربه، ومحبة بعدها شكراً من اللَّه على محبة صار بها من أصفيائه المخلصين.
36 - الشاكر
وأعظم سبب يكتسب به العبد محبّة ربه التي هي أعظم المطالب، الإكثار من ذكره والثناء عليه، وكثرة الإنابة إليه، وقوة التوكّل عليه، والتقرب إليه بالفرائض والنوافل، وتحقيق الإخلاص له في الأقوال والأفعال، ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً (¬1) كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬2). 36 - الشَّاكِرُ، 37 - الشَّكُورُ قال اللَّه تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (¬3)، وقال تعالى: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (¬4)، {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (¬5). ¬
من أسمائه تعالى: «الشاكرُ الشَّكور» الذي لا يضيع سعي العاملين لوجهه بل يضاعفه أضعافاً مضاعفة؛ فإن اللَّه لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، وقد أخبر في كتابه وسنّة نبيِّه بمضاعفة الحسنات الواحدة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وذلك من شكره لعباده، فبعينه ما يحتمل المتحمّلون لأجله ومن فعل لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن ترك شيئاً لأجله عوّضه خيراً منه، وهو الذي وفّق المؤمنين لمرضاته ثم شكرهم على ذلك وأعطاهم من كراماته، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكل هذا ليس حقاً واجباً عليه، وإنّما هو الذي أوجبه على نفسه جوداً منه وكرماً (¬1). وليس فوقه سبحانه من يوجب عليه شيئاً، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬2)،فلا يجب عليه سبحانه إثابة المطيع، ولا عقاب العاصي، بل ¬
الثواب محض فضله وإحسانه، والعقاب محض عدله وحكمته؛ ولكنه سبحانه الذي أوجب على نفسه ما يشاء فيصير واجباً عليه بمقتضى وعده الذي لا يخلف كما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1)، وكما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2)، ومذهب أهل السنة أنه ليس للعباد حق واجب على اللَّه، وأنه مهما يكن من حق فهو الذي أحقه، وأوجبه ولذلك لا يضيع عنده عملٌ قام على الإخلاص والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهما الشرطان الأساسيان لقبول الأعمال (¬3). فما أصاب العباد من النعم ودفع النقم، فإنه من اللَّه تعالى فضلاً منه وكرماً، وإن نعّمهم فبفضله ¬
38 - السيد
وإحسانه، وإن عذّبهم فبعدله وحكمته، وهو المحمود على جميع ذلك (¬1). 38 - السَّيِّدُ، 39 - الصَّمَدُ قال اللَّه تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «السَّيِّدُ اللَّه تبارك وتعالى» (¬3) و «السيد» يطلق على الرّب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، والرئيس، والزوج، ومُتَحَمِّل أذى قومه، واللَّه - عز وجل - هو السيد الذي يملك نواصي الخلق ويتولاهم، فالسؤدد كله حقيقة للَّه والخلق كلهم عبيده. ¬
وهذا لا يُنافي السِّيادة الإضافية المخصوصة بالأفراد الإنسانية، فسيادة الخالق تبارك وتعالى ليست كسيادة المخلوق الضعيف (¬1). «الصمدُ» المعنى الجامع الذي يدخل فيه كل ما فسّر به هذا الاسم الكريم، فهو الصمد الذي تَصْمُدُ إليه أي تقصده جميع المخلوقات بالذلّ والحاجة والافتقار، ويفزع إليه العالم بأسره، وهو الذي قد كَمُلَ في علمه، وحكمته، وحلمه، وقدرته، وعظمته، ورحمته، وسائر أوصافه، فالصمد هو كامل الصفات، وهو الذي تقصده المخلوقات في كل الحاجات (¬2). فهو السيد الذي قد كُمل في سؤدده، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كَمُلَ في جبروته، والشريف الذي قد كمُلَ في ¬
40 - القاهر
شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو اللَّه - عز وجل - هذه صفته لا تنبغي إلا له، وليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان اللَّه الواحد القهار (¬1). 40 - القَاهِرُ، 41 - القَهَّارُ قال اللَّه تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬2). وقال تعالى: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬4). وهو الذي قهر جميع الكائنات، وذلّت له جميع ¬
42 - الجبار
المخلوقات، ودانت لقدرته ومشيئته مواد وعناصر العالَم العلوي والسفلي، فلا يحدث حادث ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وجميع الخلق فقراء إلى اللَّه عاجزون، لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا ضراً، ولا خيراً ولا شراً، وقهره مستلزم: لحياته، وعزته، وقدرته، فلا يتم قهره للخليقة إلا بتمام حياته وقوة عزّته واقتداره (¬1). إذ لولا هذه الأوصاف الثلاثة لا يتم له قهر ولا سلطان (¬2). 42 - الجَبَّارُ قال اللَّه تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} (¬3). ¬
للجبار من أسمائه الحسنى ثلاثة معانٍ كلها داخلة باسمه «الجبار»: المعنى الأول: أنه الذي يجبر الضعيف وكل قلب منكسر لأجله، فيجبر الكسير، ويُغني الفقير، ويُيسّر على المعسر كل عسير، ويجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر، ويعوِّضُهُ على مصابه أعظم الأجر إذا قام بواجبها، ويجبر جبراً خاصاً قُلوبَ الخاضعينَ لعظمته وجلاله، وقلوب المحبين بما يفيض عليها من أنواع كراماته، وأصناف المعارف والأحوال الإيمانية، فقلوب المنكسرين لأجله جبرها دان قريب وإذا دعا الداعي، فقال: «اللَّهم أجبرني» فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته إصلاح العبد ودفع جميع المكاره عنه. 2 - والمعنى الثاني: أنه القهَّار لكل شيء، الذي دان له كلُّ شيء، وخضع له كلُّ شيء. 3 - والمعنى الثالث: أنَّهُ العليُّ على كل شيء. فصار الجبار مُتضمناً لمعنى الرؤوف القهَّار العليّ.
43 - الحسيب
4 - وقد يُرادُ به معنى رابع وهو المتكبر عن كل سوء ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له كفؤ أو ضد أو سمي أو شريك في خصائصه وحقوقه (¬1). 43 - الحَسِيبُ قال اللَّه تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (¬2)، وقال سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (¬3)، والحسيبُ: 1 - هو الكافي للعباد جميع ما أهمّهم من أمر دينهم ودنياهم من حصول المنافع ودفع المضارّ. 2 - والحسيب بالمعنى الأخصّ هو الكافي لعبده المتَّقي المتوكِّل عليه كفاية خاصة يصلح بها دينه ودنياه. ¬
44 - الهادي
3 - والحسيب أيضاً هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير وشرٍّ ويحاسبهم، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، أي كافيك وكافي أتباعك. فكفاية اللَّه لعبده بحسب ما قام به من متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً، وقيامه بعبودية اللَّه تعالى (¬2). 44 - الْهَادِي قال اللَّه تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (¬3). وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬4). [الهادي] أي: الذين يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع، وإلى دفع المضار، ويُعلِّمهم ما لا ¬
يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويُلْهِمُهُم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره (¬1). والهداية: هي دلالةٌ بلُطفٍ، وهداية اللَّه تعالى للإنسان على أربعة أوجه (¬2): الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مُكلفٍ من العقل، والفطنة، والمعارف الضرورية التي أعمّ منها كل شيءٍ بقدرٍ فيه حسْبَ احتماله كما قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬3). الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (¬4). الثالث: التوفيق الذي يختصُّ به من اهتدى وهو ¬
المعْنيُّ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (¬1)، وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّه يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬2)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (¬3)، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... } (¬4). الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنيُّ بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (¬5) ... وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (¬6)،وهذه الهداياتُ الأربع مترتِّبةٌ، فإنّ من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية، بل لا يصحُّ تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله. ثم ¬
ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني، ولا يحصل الثالث، والإنسان لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات وإلى الأول أشار بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬1)، {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (¬2)، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (¬3)، أي داع. وإلى سائر الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬4). فهو الذي قوله رشد، وفعله كله رشد، وهو مرشد الحيران الضّال فيهديه إلى الصراط المستقيم بياناً، وتعليماً، وتوفيقاً، فأقواله القدرية التي يُوجد بها الأشياء ويُدبر بها الأمور، كلُّها حقٌّ لاشتمالها على الحكمة والحسن والإتقان، وأقواله الشرعية الدينية هي أقواله التي تكلّم بها في كتبه، وعلى ألسنة رسله المشتملة على الصدق التام في الإخبار، والعدل ¬
الكامل في الأمر والنهي، فإنه لا أصدق من اللَّه قيلاً، ولا أحسن منه حديثاً: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} (¬1) في الأمر والنهي، وهي أعظم وأجلّ ما يرشد بها العباد، بل لا حصول إلى الرشاد بغيرها، فمن ابتغى الهدى من غيرها أضله اللَّه، ومن لم يسترشد بها فليس برشيد، فيحصل بها الرشد العلمي وهو بيان الحقائق، والأصول، والفروع، والمصالح والمضار الدينية والدنيوية، ويحصل بها الرشد العملي؛ فإنها تُزكي النفوس، وتطهر القلوب، وتدعو إلى أصلح الأعمال وأحسن الأخلاق، وتحثّ على كُل جميل، وتُرهِّب عن كل ذميم رذيل، فمن استرشد بها فهو المهتدي، ومن لم يسترشد بها فهو ضال، ولم يجعل لأحد عليه حجة بعد بعثته للرسل، وإنزاله الكتب المشتملة على الهدى المطلق، فكم هَدَى بفضله ضالاً وأرشد حائراً، وخصوصاً مَنْ تعلَّق به وطلب منه الهدى من صميم قلبه، وعلم أنّه المنفرد بالهداية (¬2). ¬
وكل هداية ذكر اللَّه - عز وجل - أنّه منع الظالمين والكافرين فهي: الهداية الثالثة [وهي هداية التوفيق والإلهام] الذي يختص به المهتدون، والرابعة التي هي الثواب في الآخرة وإدخال الجنة كقوله - عز وجل -: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬1)، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬2). وكل هداية نفاها اللَّه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن البشر فهي ما عدا المختص من الدعاء وتعريف الطريق، وذلك كإعطاء العقل، والتوفيق، وإدخال الجنة كقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (¬3)، فأسال اللَّه أن يهدينا لما يحبه ويرضاه وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلى باللَّه (¬4). ¬
45 - الحكم
45 - الحَكَمُ قال اللَّه تعالى: {فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (¬1)، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} (¬2) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه هو الحكمُ وإليه الحكم» (¬4). وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي ¬
أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} (¬1) الآية. واللَّه سبحانه هو الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة بعدله وقسطه، فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يحمّل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ويؤدي الحقوق إلى أهلها. فلا يدع صاحب حق إلا وصَّل إليه حقه. وهو العدل في تدبيره وتقديره (¬2)، وهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله، وأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة، ليس فيها شائبة جور أصلاً، فهي كلها بين الفضل والرحمة، وبين العدل والحكمة كما قدمنا. وما ينزله سبحانه بالعصاة والمكذبين من أنواع الهلاك والخزي في الدنيا، وما أعده لهم من العذاب المهين في الآخرة فإنما فعل بهم ما يستحقونه، فإنه لا يأخذ إلا بذنب، ولا يعذب إلا بعد إقامة الحجة، وأقواله كلها عدل، فهو لا يأمرهم إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، وكذلك حكمه بين عباده يوم ¬
46 - القدوس
فصل القضاء، ووزنه لأعمالهم عدلٌ لا جور فيه (¬1)،كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬2). وهو سبحانه «الحكم» بالعدل في وصفه وفي فعله وفي قوله وفي حكمه بالقسط. وهذا معنى قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬3)؛ فإنّ أقواله صدق، وأفعاله دائرة بين العدل والفضل، فهي كلها أفعال رشيدة، وحكمه بين عباده فيما اختلفوا فيه أحكام عادلة لا ظلم فيها بوجهٍ من الوجوه، وكذلك أحكام الجزاء والثواب والعقاب (¬4). 46 - القُدُّوسُ، 47 - السَّلامُ قال اللَّه تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ ¬
الْقُدُّوسُ السَّلامُ} الآية (¬1). «القدوس السلام» معناهما متقاربان؛ فإن القدوس مأخوذ من قدّس بمعنى: نزّهه وأبعده عن السوء مع الإجلال، والتعظيم، والسلام مأخوذ من السلامة. فهو سبحانه السالم من مماثلة أحد من خلقه، ومن النقص، ومن كل ما ينافي كماله (¬2). فهو الْمُقَدَّسُ الْمُعَظَّمُ الْمُنَزَّهُ عن كل سوء، السالم من مماثلة أحد من خلقه ومن النقصان، ومن كل ما ينافي كماله. فهذا ضابط ما يُنَزّهُ عنه: يُنَزَّهُ عن كل نقص بوجه من الوجوه، ويُنَزَّهُ ويعظَّمُ أن يكون له مثيل، أو شبيه، أو كفؤ، أو سمي، أو نِدٌّ، أو مُضَادٌّ، ويُنَزَّه عن نقص صفة من صفاته التي هي أكمل الصفات وأعظمها وأوسعها. ومن تمام تنزيهه عن ذلك إثبات صفات الكبرياء والعظمة له؛ فإنَّ التنزيه مُرَادٌ لغيره، ومقصودٌ به حفظ كماله عن الظنون ¬
السيئة. كظنّ الجاهلية الذين يظنون به ظنَّ السوء، ظنّاً غير ما يليق بجلاله، وإذا قال العبد مُثْنِياً على ربه: «سبحان اللَّه»، أو «تقدّس اللَّه»، أو «تعالى اللَّه» ونحوها كان مُثْنِياً عليه بالسلامة من كل نقص وإثبات كل كمال (¬1). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في اسم «السلام»: [اللَّهُ] أحق بهذا الاسم من كل مسمىً له؛ لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار، والمخلوق سلام بالإضافة، فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وَهْمٌ، وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار، فَعُلِمَ أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزّه به نفسه، ونزّهه به رسوله، ¬
فهو السلام من الصاحبة والولد، والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل، والسلام من الشريك؛ ولذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاماً مما يضاد كما لها: فحياته سلام من الموت ومن السِّنةِ والنوم، وكذلك قيّوميّته وقدرته سلام من التعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شيء عنه، أو عروض نسيان أو حاجة إلى تَذَكُّرٍ وتَفَكُّرٍ، وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة، وكلماته سلام من الكذب والظلم، بل تمت كلماته صدقاً وعدلاً، وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما، بل كل ما سواه محتاج إليه وهو غنى عن كل ما سواه، وملكه: سلام من منازع فيه، أو مشارك، أو معاون مظاهر، أو شافع عنده بدون إذنه، وإلاهيته سلام من مشارك له فيها، بل هو اللَّه الذي لا إله إلا هو، وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة كما يكون من غيره، بل هو محض جوده
وإحسانه وكرمه، وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظُلْماً، أو تَشَفِيَّاً، أو غِلْظَةً، أو قَسْوةً، بل هو محضُ حِكْمته وعَدْلِهِ ووَضْعِه الأشياءَ مَوَاضِعَها، وهو مما يَستَحِقُّ عليهَ الحمدَ والثناءَ كما يَستحِقُّه عَلى إحسانِهِ، وثَوَابِهِ، ونِعَمِهِ، بلْ لوْ وُضعَ الثوابُ مَوْضِعَ العقوبةِ لكان مُناقِضَاً لحكمتِهِ ولِعِزَّتِهِ، فوضْعُه العقوبةَ موضِعَها هو من عَدْلِهِ، وحِكْمَتِه، وعِزَّتِهِ، فهو سَلامٌ مما يَتوَهَّم أعداؤه الجاهلون به من خِلافِ حكمتِهِ. وقضاؤه وقَدَره سلامٌ من العَبَثِ والجَورِ والظُّلْمِ، ومن تَوَهّم وقوعَه عَلى خِلافِ الحكمةِ البالغةِ. وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته، بل شرعه كله حكمة، ورحمة، ومصلحة، وعدل، وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطى. ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه
إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز. واستواؤه وعلوّه على عرشه سلام من أن يكون مُحْتَاجاً إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه وحملته محتاجون إليه، فهو الغني عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه، فهو استواء وعلوّ لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى، بل كان سبحانه ولا عرش، ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد، بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرش ولا غيره بوجهٍ ما. ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا سلام مما يُضادّ عُلوَّه، وسلام مما يضاد غناه. وكماله سلام من كل ما يَتوهّم مُعَطِّلٌ أو مُشَبِّهٌ، وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصوراً في شيء، تعالى اللَّه ربنا عن كل ما يُضادُّ كمالَه.
وغناه وسمعه وبصره سلام من كل ما يتخيّله مُشَبِّه أو يتقوّله مُعَطِّل. وموالاته لأوليائه سلامٌ من أن تكون عن ذُلٍّ كما يوالي المخلوق المخلوق، بل هي موالاة رحمة، وخير، وإحسان، وبرّ كما قال اللَّه تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا * وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (¬1)، فلم ينف أن يكون له وليّ مطلقاً، بل نفى أن يكون له وليٌّ من الذُّلِّ. وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه، أو تَمَلُّقٍ له، أو انتفاع بقربه، وسلام مما يتقوّله المُعَطِّلون فيها. وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه، فإنّه سلام عما يتخيَّله مُشَبِّه أو يتقوَّله مُعَطِّل. فتأمل كيف تضمّن اسمه السلام كلّ ما نُزّه عنه تبارك وتعالى. وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمنه من ¬
48 - البر
هذه الأسرار والمعاني واللَّه المستعان (¬1). 48 - البَرُّ، 49 - الوَهَّابُ قال اللَّه تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (¬2)، وقال سبحانه: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (¬3). من أسمائه تعالى: «البرّ الوهّاب» الذي شمل الكائنات بأسرها بِبِرِّهِ وهباته وكرمه، فهو مولى الجميل ودائم الإحسان وواسع المواهب، وصفُه البَرُّ وآثار هذا الوصف جميع النعم الظاهرة والباطنة، فلا يستغني مخلوق عن إحسانه وبِرِّه طرفة عين. وإحسانه عام وخاص: 1 - فالعامّ المذكور في قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ ¬
شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (¬1)، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3)، وهذا يشترك فيه البرُّ والفاجر وأهل السماء وأهل الأرض والمكلّفون وغيرهم. 2 - والخاصّ رحمته ونعمه على المتقين حيث قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الآية (¬4)، وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬5)، وفي دعاء سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (¬6)، وهذه الرحمة الخاصة التي يطلبها الأنبياء وأتباعهم، تقتضي التوفيق للإيمان، والعلم، والعمل، وصلاح الأحوال كلها، والسعادة الأبدية، والفلاح، ¬
50 - الرحمن
والنجاح، وهي المقصود الأعظم لخواص الخلق (¬1). وهو سبحانه المتصف بالجود: وهو كثرة الفضل والإحسان، وجوده تعالى أيضاً نوعان: النوع الأول: جودٌ مطلق عمَّ جميع الكائنات وملأها من فضله وكرمه ونعمه المتنوعة. النوع الثاني: وجودٌ خاص بالسائلين بلسان المقال أو لسان الحال من برٍّ وفاجرٍ ومسلمٍ وكافرٍ، فمن سأل اللَّه أعطاه سؤله وأناله ما طلب، فإنه البرّ الرحيم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ للَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (¬2). ومن جوده الواسع ما أعدَّه لأوليائه في دار النعيم مما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (¬3). 50 - الرَّحْمَنُ، 51 - الرَّحِيمُ، 52 - الكَرِيمُ، 53 - الأكْرَمُ، 54 - الرَّءُوفُ قال اللَّه تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمينَ* لرَّحْمنِ ¬
الرَّحِيمِ} (¬1). الآيات، وقال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬2)، وقال سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} (¬3). قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: الرحمنُ، الرحيمُ، والبرُ، الكريمُ، الجوادُ، الرؤوفُ، الوهابُ - هذه الأسماء تتقارب معانيها، وتدلّ كلُّها على اتصاف الرب، بالرحمة، والبر، والجود، والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه التي عمَّ بها جميع الوجود بحسب ما تقتضيه حكمته. وخصَّ المؤمنين منها، بالنصيب الأوفر، والحظ الأكمل، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (¬4) الآية. والنعم والإحسان، كله من آثار رحمته، وجوده، وكرمه. ¬
وخيرات الدنيا والآخرة، كلها من آثار رحمته (¬1). وقال ابن تيمية - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬2)، سمّى ووصف نفسه بالكرم، وبأنه الأكرم بعد إخباره أنه خلق ليتبين أنه ينعم على المخلوقين ويوصلهم إلى الغايات المحمودة كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (¬3)، {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬4)، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (¬5)، فالخلق يتضمن الابتداء والكرم تضمن الانتهاء. كما قال في سورة الفاتحة: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، ولفظ الكرم جامع للمحاسن والمحامد لا ¬
55 - الفتاح
يراد به مجرد الإعطاء بل الإعطاء من تمام معناه؛ فإن الإحسان إلى الغير تمام والمحاسن والكرم كثرة الخير ويسرته ... واللَّه سبحانه أخبر أنه الأكرم بصيغة التفضيل والتعريف لها. فدل على أنه الأكرم وحده بخلاف ما لو قال: «وربك الأكرم» فإنه لا يدل على الحصر. وقوله: {الأَكْرَمُ} يدل على الحصر، ولم يقل: «الأكرم من كذا» بل أطلق الاسم، ليبين أنه الأكرم مطلقاً غير مقيّد، فدلّ على أنه متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه (¬1). 55 - الْفَتَّاحُ قال اللَّه تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (¬2). الفاتح: الحاكم، والفتاح من أبنية المبالغة. فالفتّاح هو الحكم المحسن الجواد، وفَتْحهُ ¬
تعالى قسمان: القسم الأول: فتحه بحكمه الديني وحكمه الجزائي. القسم الثاني: الفتاح بحكمه القدري. ففتحه بحكمه الديني هو شرعه على ألسنة رسله جميعَ ما يحتاجه المكلفون، ويستقيمون به على الصراط المستقيم. وأما فتحه بجزائه فهو فتحه بين أنبيائه ومخالفيهم وبين أوليائه وأعدائه بإكرام الأنبياء وأتْباعِهم ونجاتهم، وبإهانة أعدائهم وعقوباتهم. وكذلك فتحه يوم القيامة وحكمه بين الخلائق حين يوفّى كل عامل ما عمله. وأما فتحه القدَري فهو ما يُقَدِّرُه على عباده من خير وشر ونفع وضرّ وعطاء ومنع، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1)، فالربّ تعالى هو الفتاح العليم الذي يفتح لعباده الطائعين خزائن جوده وكرمه، ويفتح على أعدائه ضد ذلك، وذلك بفضله ¬
56 - الرزاق
وعدله (¬1). 56 - الرَّزَّاقُ، 57 - الرَّازِقُ وهو مبالغة من: رازق للدلالة على الكثرة، والرزاق من أسمائه سبحانه. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} (¬2)، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللَّه هوَ المسَعِّرُ القابضُ الباسطُ الرَّازِقُ» (¬4) ورزقه لعباده نوعان: عام، وخاص. 1 - فالعام إيصاله لجميع الخليقة جميع ما ¬
تحتاجه في معاشها وقيامها، فسهَّل لها الأرزاق، ودبّرها في أجسامها، وساقَ إلى كل عضوٍ صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبرِّ والفاجر والمسلم والكافر، بل للآدميين والجن والملائكة والحيوانات كلها. وعام أيضاً من وجه آخر في حق المكلّفين؛ فإنه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من الحرام ويسمى رزقاً ونعمة بهذا الاعتبار، ويقال: «رزقه اللَّه» سواء ارتزق من حلال أو حرام، وهو مطلق الرزق. 2 - وأما الرزق المطلق فهو النوع الثاني، وهو الرزق الخاص، وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو نوعان: النوع الأول: رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألّهة للَّه متعبّدة،
58 - الحي
وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها. النوع الثاني: رزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه؛ فإنَّ الرزق الذي خصَّ به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين، فينبغي للعبد إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى «اللَّهم ارزقني» أي ما يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة ومن الإيمان الشامل لكل عمل صالح وخلق حسن، وما به يصلح بدني من الرزق الحلال الهنيّ الذي لا صعوبة فيه ولا تبعة تعتريه (¬1). 58 - الْحَيُّ، 59 - الْقَيُّومُ قال اللَّه تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬2)، وقال سبحانه: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬3)، وقال - عز وجل -: ¬
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلمًا} (¬1)، الحيُّ القيُّوم من أسماء اللَّه الحُسنى. و «الحي القيوم» جمعهما في غاية المناسبة كما جمعهما اللَّه في عدة مواضع في كتابه، وذلك أنهما محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن جميع الصفات الذاتية للَّه: كالعلم، والعزّة، والقدرة، والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من صفات الذات المقدسة، والقيّوم هو كامل القيّوميّة وله معنيان: المعنى الأول: هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته. المعنى الثاني: هو الذي قامت به الأرض والسموات وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي أوجدها وأمدَّها وأعدَّها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغنيّ عنها من كل وجه وهي التي افتقرت إليه من كل وجه، فالحيُّ والقيُّوم من له صفة ¬
60 - نور السموات والأرض
كل كمال وهو الفَعَّالُ لما يريد (¬1). 60 - نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ (¬2) قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء} (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ... » (¬4) الحديث. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه - عز وجل - لا ينام، ولا ينبغي له أن ¬
ينام، يخفض القسط ويرفَعُهُ، يُرفَعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابُهُ النورُ لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصرُهُ من خلقه» (¬1). قال العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: من أسمائه جلّ جلاله ومن أوصافه «النور» الذي هو وصفه العظيم، فإنه ذو الجلال والإكرام، وذو البهاء والسبحات الذي لو كشف الحجاب عن وجهه الكريم لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهو الذي استنارت به العوالم كلها، فبنور وجهه أشرقت الظلمات، واستنار به العرش والكرسي والسبع الطباق وجميع الأكوان. والنور نوعان: 1 - حسيٌّ كهذه العوالم التي لم يحصل لها نور إلا من نوره. ¬
2 - ونور معنوي يحصل في القلوب والأرواح بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من كتاب اللَّه وسنة نبيّه. فعلم الكتاب والسُّنَّة والعمل بهما ينير القلوب والأسماع والأبصار، ويكون نوراً للعبد في الدنيا والآخرة: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} (¬1)، لما ذكر أنه نور السموات والأرض، وسمّى اللَّه كتابه نوراً، ورسوله نوراً، ووحيه نوراً ... ثم إن ابن القيم - رحمه الله - حذّر من اغترار من اغترّ من أهل التصوف، الذين لم يُفَرِّقوا بين نور الصفات وبين أنوار الإيمان والمعارف؛ فإنّهم لمّا تألّهوا وتعبّدوا من غير فرقان وعلم كامل، ولاحت أنوار التعبد في قلوبهم؛ لأنّ العبادات لها أنوار في القلوب، فظنّوا هذا النور هو نور الذات المقدسة، فحصل منهم من الشطح والكلام القبيح ما هو أثر هذا الجهل والاغترار والضلال. ¬
وأما أهل العلم والإيمان والفرقان فإنهم يُفَرِّقون بين نور الذات والصفات، وبين النور المخلوق الحسي منه والمعنوي، فيعترفون أن نور أوصاف الباري ملازم لذاته لا يفارقها، ولا يحلّ بمخلوق، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأما النور المخلوق فهو الذي تتصف به المخلوقات بحسب الأسباب والمعاني القائمة بها. والمؤمن إذا كَمُلَ إيمانه أنار اللَّه قلبه، فانكشفت له حقائق الأشياء، وحصل له فرقان يُفَرِّق به بين الحق والباطل، وصار هذا النور هو مادة حياة العبد وقوته على الخير علماً وعملاً، وانكشفت عنه الشبهات القادحة في العلم واليقين، والشهوات الناشئة عن الغفلة والظلمة، وكان قلبه نوراً، وكلامه نوراً، وعمله نوراً، والنور محيط به من جهاته. والكافر، أو المنافق، أو المعارض، أو المعرض الغافل كل هؤلاء يتخبّطون في الظلمات، كل له من الظلمة بحسب ما معه من موادها وأسبابها، واللَّه
61 - الرب
الموفق وحده (¬1). 61 - الرَّبُّ قال اللَّه تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2). اللَّه - عز وجل - هو: المُرَبِّي جميع عباده، بالتدبير، وأصناف النعم. وأخص من هذا، تربيته لأصفيائه، بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم وأخلاقهم، ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة. 62 - الله واللَّه - عز وجل - هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من ¬
63 - الملك
صفات الألوهية التي هي صفات الكمال، وقد تقدم أن هذا الاسم ترجع إليه جميع الأسماء، فيُقال: الرحمن من أسماء اللَّه، ولا يُقال: اللَّه من أسماء الرحمن، وهكذا في جميع الأسماء، واسم اللَّه تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، والصفات العُلا (¬1). 63 - المَلِكُ، 64 - المَلِيكُ، 65 - مَالِكُ المُلْكِ قال اللَّه تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (¬2). وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬3)، {قُلِ اللَّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن ¬
تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). فهو الموصوف، بصفة الملك. وهي صفات العظمة والكبرياء، والقهر والتدبير، الذي له التصرف المطلق، في الخلق، والأمر، والجزاء. وله جميع العالم، العلوي والسفلي، كلهم عبيد ومماليك، ومضطرون إليه (¬2). فهو الربّ الحقّ، الملك الحقّ، الإله الحقّ، خلقهم بربوبيّته، وقهرهم بملكه، واستعبدهم بإلاهيته، فتأملْ هذه الجلالةَ وهذه العظمةَ التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، أما تضمنها لمعاني أسمائه الحُسنى فإنّ «الربّ»: هو القادر، الخالق، البارئ، المصوِّرُ، الحيّ، القيّوم، ¬
العليم، السميع، البصير، المحسن، المنعم، الجواد، المعطي المانع، الضارّ النافع، المُقَدِّم، المُؤَخِّر، الذي يُضِلُّ من يشاء، ويهدي من يشاء، ويُسعد من يشاء، ويُشقي ويُعزّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقّه من الأسماء الحُسنى. وأما «الملك» فهو الآمر، الناهي، المُعِزُّ، المُذِلُّ، الذي يُصرِّفُ أمور عباده كما يحبّ، ويقلّبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحقّه من الأسماء الحسنى كالعزيز، الجبار، المتكبر، الحكَم، العدل، الخافض، الرافع، المُعِزُّ، المُذِلُّ، العظيمُ، الجليلُ، الكبيرُ، الحسِيبُ، المجيدُ، الوَليُّ، المُتَعَالِي، مَالكُ الملْكِ، المقْسِطُ، الجامعُ، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك. وأما «الإله»: فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح إن اللَّه أصله الإله
كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذَّ منهم، وإنّ اسم اللَّه تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلا، فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديراً بأن يُعاذ، ويُحفظ، ويُمنع من الوسواس الخناس، ولا يُسَلَّط عليه (¬1). وإذا كان وحده هو ربنا، ومَلِكُنا، وإِلَهُنَا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يُدعى، ولا يُخاف، ولا يُرجى، ولا يُحب سواه، ولا يُذل لغيره، ولا يُخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن من ترجوه، وتخافه، وتدعوه، وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك، والقيّم بأمورك، ومتولّي شأنك، وهو ربّك فلا ربّ سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحقّ، فهو ملك الناس حقاً، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه ¬
66 - الواحد
أعظم من حاجتك إلى حياتك، وروحك، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه فمن كان ربهم، وملكهم، وإلَهَهُم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجؤوا إلى غير حماه، فهو كافيهم، وحسبهم، وناصرهم، ووليّهم، ومتولّي أمورهم جميعاً بربوبيته، وملكه، وإلاهيته لهم. فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عَدُوِّهِ به إلى ربِّه، ومالكِه، وإلَهِهِ؟ (¬1). 66 - الوَاحِدُ، 67 - الأحَدُ قال اللَّه تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬2)، وقال سبحانه: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬3). وهو الذي توحّد بجميع الكمالات، بحيث لا يشاركه فيها مشارك. ¬
ويجب على العبيد توحيده، عقداً، وقولاً، وعملاً، بأن يعترفوا بكماله المطلق، وتفرّده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة (¬1). والأحد، يعني: الذي تفرّد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال وحمد، وحكمة ورحمة، وغيرها من صفات الكمال. فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه. فهو الأحد في حياته وقيّوميّته، وعلمه وقدرته، وعظمته وجلاله، وجماله وحمده، وحكمته ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال ونهايته، من كل صفة من هذه الصفات. ومن تحقيق أحَدِيَّتِهِ وتفرّده بها أنه «الصمد»، أي: الرب الكامل، والسيد العظيم، الذي لم يبقَ صفة كمال إلا اتّصف بها. ووُصف بغايتها وكمالها، بحيث لا تُحيط الخلائق ببعض تلك الصفات ¬
68 - المتكبر
بقلوبهم، ولا تُعبّر عنها ألسنتهم (¬1). 68 - المُتَكَبِّرُ قال اللَّه تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2). فهو سبحانه المتكبر عن السوء، والنقص والعيوب، لعظمته وكبريائه. 69 - الْخَالِقُ،70 - البَارِئُ، 71 - المُصَوِّرُ، 72 - الْخَلاَّقُ قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬3). {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} (¬4). الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسوّاها ¬
73 - المؤمن
بحكمته، وصوّرها بحمده وحكمته، وهو لم يزل، ولا يزال على هذا الوصف العظيم. 73 - المُؤمنُ الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال والجمال، الذي أرسل رسله، وأنزل كتبه بالآيات والبراهين. وصدق رسله بكل آية وبرهان، يدلّ على صدقهم وصحة ما جاءوا به. 74 - المُهيمِنُ المطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً (¬1). وقال البغوي: الشهيد على عباده بأعمالهم وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيباً على الشيء ... (¬2). ¬
75 - المحيط
75 - المُحيطُ قال اللَّه تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا} (¬1). وقال - عز وجل -: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬2). وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، وقدرة، ورحمة، وقهراً. وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسموات، وقهر بعزّته كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء (¬3). 76 - المُقِيتُ قال اللَّه تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ¬
مُّقِيتًا} (¬1)، فهو سبحانه الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات، وأوصل إليها أرزاقها وصَّرفها كيف يشاء، بحكمته وحمده (¬2). قال الراغب الأصفهاني - رحمه الله -: «القوت ما يمسك الرَّمق، وجمعه: أقوات، قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (¬3)، وقاتَهُ يقوتُهُ قوتاً: أطعمه قوتَهُ. وأقاتهُ يُقيتُهُ جعل له ما يقوتُهُ، وفي الحديث: «كفى بالمرء إثماً أن يُضَيِّع من يقوتُ» (¬4)، قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا}، قيل: مقتدراً، وقيل: شاهداً. ¬
77 - الوكيل
وحقيقته قائماً عليه يحفظُهُ ويُقيتهُ ... » (¬1)، وقال في القاموس المحيط: «المُقيتُ: الحافظ للشيء، والشاهد له، والمقتدر، كالذي يعطي كل أحد قوته» (¬2)، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: مقتدراً، أو مجازياً، وقال مجاهد: شاهداً، وقال قتادة: حافظاً، وقيل: معناه على كل حيوان مُقيتاً: أي يوصل القوت إليه (¬3)، وقال ابن كثير: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} أي حفيظاً، وقال مجاهد: شهيداً، وفي رواية عنه: حسيباً، وقيل: قديراً، وقيل: المقيت: الرازق، وقيل: مقيت لكل إنسان بقدر عمله (¬4). 77 - الوَكيلُ قال اللَّه تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ ¬
78 - ذو الجلال والإكرام
شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬1)، فهو سبحانه المتولّي لتدبير خلقه، بعلمه، وكمال قدرته، وشمول حكمته، الذي تولى أولياءه، فيسَّرهم لليُسرى، وجنّبهم العُسرى، وكفاهم الأمور. فمن اتخذه وكيلاً كفاه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} (¬2). 78 - ذو الجَلالِ والإكْرَامِ أي: ذو العظمة والكبرياء، وذو الرحمة، والجود، والإحسان العام والخاص. المُكْرِمُ لأوليائه وأصفيائه، الذين يُجلُّونه، ويُعظمونه، ويُحبونه (¬3). قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬4). ¬
79 - جامع الناس ليوم لا ريب فيه
79 - جَامِعُ النَّاسِ لِيَومٍ لا رَيْبَ فِيهِ قال اللَّه تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّه لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬1). فاللَّه - سبحانه وتعالى - هو جامع الناس، وجامع أعمالهم وأرزاقهم، فلا يترك منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وجامع ما تفرق واستحال من الأموات الأولين والآخرين، بكمال قدرته، وسعة علمه (¬2). 80 - بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قال اللَّه تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (¬3). أي: خالقهما ومبدعهما، في غاية ما يكون من الحسن والخلق البديع، والنظام العجيب المحكم. ¬
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (¬1) ابتدأ خلقهم، ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً، ثم يعيدهم، ليجزي الذين أحسنوا بالحُسنى، ويجزي المسيئين بإساءتهم. وكذلك، هو الذي يبدأ إيجاد المخلوقات شيئاً فشيئاً، ثم يعيدها كل وقت. وقال اللَّه تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (¬2)، وقال سبحانه: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (¬3). وهذا من كمال قوته، ونفوذ مشيئته، وقدرته، أن كل أمر يريده يفعله بلا ممانع، ولا معارض. وليس له ظهير ولا عوين، على أيّ أمر يكون. بل إذا أراد شيئاً قال له: «كن فيكون». ومع أنه الفعّال لما يريد، فإرادته، تابعة لحكمته وحمده. فهو موصوف بكمال القدرة، ¬
81 - الكافي
ونفوذ المشيئة. وموصوف بشمول الحكمة، لكل ما فعله ويفعله (¬1). 81 - الكَافي قال اللَّه تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (¬2)، فهو سبحانه الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه. الكافي كفاية خاصة، من آمن به، وتوكل عليه، واستمد منه حوائج دينه ودنياه. 82 - الواسِعُ قال اللَّه تعالى: {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬3). فهو - سبحانه وتعالى - واسع الصفات، والنعوت، ومتعلّقاتها، بحيث لا يُحصِي أحد ثَناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. ¬
83 - الحق
واسع العظمة، والسلطان، والملك، واسع الفضل، والإحسان، عظيم الجود والكرم. 83 - الحَقُّ اللَّه - عز وجل - هو الحق في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به، فهو الذي لم يزل، ولا يزال، بالجلال، والجمال، والكمال، موصوفاً، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً. فقوله حق، وفعله، حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له، هي الحق، وكل شيء ينسب إليه، فهو حق (¬1). {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬2). {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ ¬
84 - الجميل
فَلْيَكْفُرْ} (¬1). {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} (¬2)، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬3). وقال اللَّه تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬4). فأوصافه العظيمة حق، وأفعاله هي الحق، وعبادته هي الحق، ووعده حق، ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه (¬5). 84 - الجَميلُ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه جميلٌ يحبُ الجمال» (¬6)، فهو سبحانه جميلٌ بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فلا يُمكن مخلوقاً أن يعبر عن بعض جمال ذاته، ¬
حتى أن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم، واللذّات والسرور والأفراح التي لا يقدّر قدرها، إذا رأوا ربّهم، وتمتعوا بجماله، نسوا ما هم فيه من النعيم، وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودّوا أنْ لو تدوم هذه الحال، واكتسبوا من جماله ونوره جمالاً إلى جمالهم، وكانت قلوبهم في شوق دائم ونزوع إلى رؤية ربِّهم، ويفرحون بيوم المزيد فرحاً تكاد تطير له القلوب. وكذلك هو الجميل في أسمائه؛ فإنها كلها حسنى، بل أحسن الأسماء على الإطلاق وأجملها، قال تعالى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1)، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬2)، فكلها دالّة على غاية الحمد والمجد والكمال، لا يُسمّى باسم منقسم إلى كمال وغيره. وكذلك هو الجميل في أوصافه؛ فإنّ أوصافه ¬
كلها أوصاف كمال، ونعوت ثناء وحمد، فهي أوسع الصفات وأعمّها وأكثرها تعلقاً، خصوصاً أوصاف الرحمة، والبرّ، والكرم، والجود. وكذلك أفعاله كلها جميلة؛ فإنها دائرة بين أفعال البرّ والإحسان التي يحمد عليها، ويُثنى عليه ويُشكَر، وبين أفعال العدل التي يُحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد، فليس في أفعاله عبث، ولا سفه، ولا سدى، ولا ظلم، كلها خير، وهدى، ورحمة، ورشد، وعدل: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬1)، فلكماله الذي لا يُحصي أحد عليه به ثناء كملت أفعاله، فصارت أحكامه من أحسن الأحكام، وصنعه وخلقه أحسن خلق وصنع: أتقن ما صنعه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2)، وأحسن ما خلقه. {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (¬3)، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬4). ¬
والأكوان محتوية على أصناف الجمال، وجمالها من اللَّه تعالى فهو الذي كساها الجمال، وأعطاها الحسن، فهو أولى منها لأن مُعطي الجمال أحقّ بالجمال، فكل جمال في الدنيا والآخرة باطني وظاهري، خصوصاً ما يعطيه المولى لأهل الجنّة من الجمال المفرط في رجالهم ونسائهم، فلو بدا كفّ واحدة من الحور العين إلى الدنيا، لطمس ضوءَ الشمس كما تطمس الشمس ضوءَ النجوم، أليس الذي كساهم ذلك الجمال، ومنّ عليهم بذلك الحُسْنِ والكمال، أحقّ منهم بالجمال الذي ليس كمثله شيء، فهذا دليل عقلي واضح مُسلَّم المقدمات على هذه المسألة العظيمة وعلى غيرها من صفاته، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} (¬1)، فكل ما وجد في المخلوقات من كمال لا يستلزم نقصاً، فإنّ معطيه وهو اللَّه أحقُّ به من المُعطَى بما لا نسبة ¬
بينه وبينهم، كما لا نسبة لذواتهم إلى ذاته، وصفاتهم إلى صفاته، فالذي أعطاهم السمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والجمال، أحقّ منهم بذلك، وكيف يعبّر أحد عن جماله وقد قال أعلم الخلق به: «لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (¬1)،وقال - صلى الله عليه وسلم -: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (¬2)، فسبحان اللَّه وتقدّس عما يقوله الظالمون النافون لكماله علواً كبيراً، وحسبهم مقتاً وخساراً أنهم حُرموا من الوصول إلى معرفته والابتهاج بمحبته (¬3). قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «لا أحد أصبر ¬
على أذىً سمعه من اللَّه، يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم» (¬1)، وقال أيضاً في الصحيح: قال اللَّه تعالى: «كذَّبني ابن آدم، ولم يكُن له ذلك. وشتمني ابن آدم، ولم يكُن له ذلك. فأما تكذيبه إيَّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: إنَّ لي ولداً، وأنا الأحد الصَّمد الذي لم يلد ولم يولدْ، ولم يكُن له كفواً أحد» (¬2)، فاللَّه تعالى يدرّ على عباده الأرزاق المطيع منهم والعاصي، والعصاة لا يزالون في محاربته وتكذيبه وتكذيب رسله والسعي في إطفاء دينه، واللَّه تعالى حليم على ما يقولون وما يفعلون، يتتابعون في الشرور، وهو يتابع عليهم النعم، وصبره أكمل صبر لأنّه عن كمال قدرة، وكمال غنىً عن الخلق، وكمال رحمة وإحسان، فتبارك الربُّ ¬
85 - الرفيق
الرحيم الذي ليس كمثله شيء، الذي يحب الصابرين ويعينهم في كل أمرهم (¬1). 85 - الرَّفيقُ مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إن اللَّه رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه» (¬2)، فاللَّه تعالى رفيق في أفعاله، خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئاً فشيئاً بحسب حكمته ورفقه، مع أنه قادر على خلقها دفعة واحدة وفي لحظة واحدة. ومن تدبّر المخلوقات، وتدبّر الشرائع كيف يأتي بها شيئاً بعد شيء شاهد من ذلك العجب العجيب، فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة ووقار، ¬
اتباعاً لسنن اللَّه في الكون، واتّباعاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنّ هذا هديه وطريقه تتيسر له الأمور، وبالأخصّ الذي يحتاج إلى أمر الناس ونهيهم وإرشادهم، فإنه مضطر إلى الرفق واللين، وكذلك من آذاه الخلق بالأقوال البشعة وصان لسانه عن مشاتمتهم، ودافع عن نفسه برفق ولين، اندفع عنه من أذاهم ما لا يندفع بمقابلتهم بمثل مقالهم وفعالهم، ومع ذلك فقد كسب الراحة والطمأنينة والرزانة والحلم (¬1). واللَّه - عز وجل - يغيث عباده إذا استغاثوا به سبحانه، فعن أنس بن مالك أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ... ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يخطب ... ثم قال: يا رسول اللَّه! هلكت الأموال وانقطعت السبل فادعُ اللَّه يغيثنا، فرفع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: «اللَّهم أغثنا، اللَّهم أغثنا، اللَّهم أغثنا» (¬2). فاللَّه - عز وجل - يغيث عباده في الشدائد ¬
86 - الحيي
والمشقات، فهو يغيث جميع المخلوقات عندما تتعسّر أمورها وتقع في الشدائد والكربات: يُطعم جائعهم، ويكسو عاريهم، ويخلص مكروبهم، ويُنزّل الغيث عليهم في وقت الضرورة والحاجة، وكذلك يُجيب إغاثة اللَّهفان، أي دعاء من دعاه في حالة اللَّهف والشدة والاضطرار، فمن استغاثه أغاثه. وفي الكتاب والسنة من ذكر تفريجه للكربات، وإزالته الشدائد، وتيسيره للعسير شيء كثير جداً معروف (¬1). 86 - الحَييُّ، 87 - السِّتِّيرُ هذا مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه حيي يستحي من عبده إذا مدَّ يديه إليه أن يردهما صفراً» (¬2) ¬
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه - عز وجل - حليمٌ، حييٌ ستِّيرٌ يُحبّ الحياءَ والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر» (¬1)، وهذا من رحمته، وكرمه، وكماله، وحلمه أن العبد يجاهره بالمعاصي مع فقره الشديد إليه، حتى أنه لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى عليها بنعم ربه، والرب مع كمال غناه عن الخلق كلِّهم من كرمه يستحيي من هتكه وفضيحته وإحلال العقوبة به، فيستره بما يقيض له من أسباب الستر، ويعفو عنه ويغفر له، فهو يتحبب إلى عباده بالنعم وهم يتبغَّضون إليه بالمعاصي، خيره ¬
إليهم بعدد اللحظات [نازل]، وشرّهم إليه صاعد، ولا يزال الملك الكريم يصعد إليه منهم بالمعاصي وكل قبيح. ويستحي تعالى ممن شاب في الإسلام أن يعذبه، وممن يمدّ يديه إليه أن يردّهما صفراً، ويدعو عباده إلى دعائه ويعدهم بالإجابة، وهو الحيي السِّتِّير يحب أهل الحياء والستر، ومن ستر مسلماً ستر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة؛ ولهذا يكره من عبده إذا فعل معصية أن يذيعها، بل يتوب إليه فيما بينه وبينه ولا يظهرها للناس، وإن من أمقت الناس إليه من بات عاصياً واللَّه يستره، فيصبح يكشف ستر اللَّه عليه، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (¬1)، وهذا كله من معنى اسمه «الحليم» الذي وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، ومنع عقوبته أن تحلَّ بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصرّوا واستمروا ¬
88 - الإله
في طُغيانهم ولم يُنيبوا (¬1). 88 - الإلهُ اسم الإله: هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فقد دخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى؛ ولهذا كان القول الصحيح أنَّ «اللَّه» أصله «الإله»، وأن اسم «اللَّه» هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا، واللَّه أعلم (¬2). قال اللَّه تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (¬3). 89 - القابضُ، 90 - الباسِطُ، 91 - المُعطي قال اللَّه تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬4)، ¬
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه هو المُسعِّرُ، القابضُ، الباسطُ، الرَّازقُ .. » (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين، واللَّه المعطي وأنا القاسم ... » (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه - عز وجل - لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفَعُهُ، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل ... » (¬3) الحديث. وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ¬
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1)،وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه يرفعُ بهذا الكتاب أقواماً ويضَعُ به آخرين» (¬2)،وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقول بعد السلام من الصلاة حينما ينصرف إلى الناس: «لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيءٍ قدير، اللَّهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ» (¬3). هذه الصفات الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا ينبغي أن يُثنى على اللَّه بها إلا كل واحد منها مع الآخر؛ لأن الكمال المطلق من اجتماع الوصفين، فهو القابض للأرزاق والأرواح والنفوس، والباسط للأرزاق ¬
والرحمة والقلوب، وهو الرافع لأقوام قائمين بالعلم والإيمان، الخافض لأعدائه، وهو المُعِزُّ لأهل طاعته، وهذا عز حقيقي؛ فإن المطيع للَّه عزيز وإن كان فقيراً ليس له أعوان، المُذِلُّ لأهل معصيته وأعدائه ذُلاًّ في الدنيا والآخرة. فالعاصي وإن ظهر بمظاهر العز فقلبه حشوه الذُّلُّ وإنْ لم يشعر به لانغماسه في الشهوات؛ فإنّ العزّ كلّ العزّ بطاعة اللَّه، والذُّلُّ بمعصيته: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬1)، {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬2)، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وهو تعالى المانع المعطي فلا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، وهذه الأمور كلها تبع لعدله وحكمته وحمده؛ فإنّ له الحكمة في خفض من يخفضه ويُذِلُّه ويحرمه، ولا حجّة لأحد على اللَّه، كما له الفضل المحض على من رفعه وأعطاه وبسط له الخيرات، ¬
92 - المقدم
فعلى العبد أن يعترف بحكمة اللَّه، كما عليه أن يعترف بفضله ويشكره بلسانه وجنانه وأركانه. وكما أنه هو المنفرد بهذه الأمور وكلها جارية تحت أقداره، فإن اللَّه جعل لرفعه وعطائه وإكرامه أسباباً، ولضد ذلك أسباباً من قام بها ترتبت عليه مسبباتها، وكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا يُوجب للعبد القيام بتوحيد اللَّه، والاعتماد على ربِّه في حصول ما يُحِبُّ، ويجتهد في فعل الأسباب النافعة فإنها محلّ حكمة اللَّه (¬1). 92 - المُقَدِّمُ، 93 - المُؤَخِّرُ كان من آخر ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - بين التشهد والتسليم: «اللَّهم اغفر لي ما قدّمت، وما أخَّرت، وما أسررتُ، وما أعلنتُ، وما أسرفت، وما أنت أعلمُ به مني. أنتَ المقدِّمُ، وأنت المؤخِّرُ. لا إله إلا أنت» (¬2). ¬
المقدِّمُ والمؤخِّر هما كما تقدم من الأسماء المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق واحد بمفرده على اللَّه إلا مقروناً بالآخر؛ فإن الكمال من اجتماعهما، فهو تعالى المُقَدِّم لمن شاء والمُؤخِّرُ لمن شاء بحكمته. وهذا التقديم يكون كونياً كتقديم بعض المخلوقات على بعض، وتأخير بعضها على بعض، وكتقديم الأسباب على مسبباتها، والشروط على مشروطاتها. وأنواع التقديم والتأخير في الخلق والتقدير بحر لا ساحل له، ويكون شرعياً كما فضّل الأنبياء على الخلق، وفضّل بعضهم على بعض، وفضّل بعض عباده على بعض، وقدّمهم في العلم، والإيمان، والعمل، والأخلاق، وسائر الأوصاف، وأخّر من أخّر
منهم بشيء من ذلك، وكل هذا تبع لحكمته. وهذان الوصفان وما أشبههما من الصفات الذاتية لكونهما قائمين باللَّه واللَّه متصف بهما، ومن صفات الأفعال؛ لأن التقديم والتأخير متعلق بالمخلوقات ذواتها، وأفعالها، ومعانيها، وأوصافها، وهي ناشئة عن إرادة اللَّه وقدرته. فهذا هو التقسيم الصحيح لصفات الباري، وإنّ صفات الذات متعلقة بالذات، وصفات أفعاله متصفة بها الذات، ومتعلقة بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال (¬1). قال اللَّه - عز وجل -: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (¬2)، وقال اللَّه تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬3). ¬
وصفة الضر والنفع هما كما تقدم من الأسماء المزدوجة المتقابلة، فاللَّه تعالى النافع لمن شاء من عباده بالمنافع الدينية والدنيوية، الضار لمن فعل الأسباب التي توجب ذلك، وكل هذا تبع لحكمته وسننه الكونية وللأسباب التي جعلها موصلة إلى مسبباتها، فإن اللَّه تعالى جعل مقاصد للخلق وأموراً محبوبة في الدين والدنيا، وجعل لها أسباباً وطرقاً، وأمر بسلوكها ويسّرها لعباده غاية التيسير، فمن سلكها أوصلته إلى المقصود النافع، ومن تركها أو ترك بعضها، أو فوَّت كماله أو أتاها على وجه ناقص ففاته الكمال المطلوب، فلا يلومنّ إلا نفسه، وليس له حجة على اللَّه؛ فإن اللَّه أعطاه السمع، والبصر، والفؤاد، والقوة، والقدرة، وهداه النجدين، وبين له الأسباب، والمسببات، ولم يمنعه طريقاً يوصل إلى خير ديني ولا دنيوي، فتخلّفه عن هذه الأمور يوجب أن يكون هو الملوم عليها المذموم على تركها. واعلم أن صفات الأفعال كلها متعلقة وصادرة عن
94 - المبين
هذه الصفات الثلاث: القدرة الكاملة، والمشيئة النافذة، والحكمة الشاملة التامة، وهي كلها قائمة باللَّه، واللَّه متصف بها، وآثارها ومقتضياتها جميع ما يصدر عنها في الكون كله من التقديم والتأخير، والنفع والضر، والعطاء والحرمان، والخفض والرفع، لا فرق بين محسوسها ومعقولها، ولا بين دينها ودنيويها. فهذا معنى كونها أوصاف أفعال لا كما ظنه أهل الكلام الباطل (¬1). 94 - المُبينُ المُبينُ: اسم الفاعل من أبان يُبينُ فهو مُبين، إذا أظهر وبَيَّن إما قولاً، وإما فعلاً. والبيِّنة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، والبيان هو الكشف عن الشيء ... وسُمِّي الكلام بياناً لكشفه عن المقصود وإظهاره، نحو: ¬
{هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} (¬1). فاللَّه - عز وجل - هو الُمبيّن لعباده سبيل الرشاد، والموضِّح لهم الأعمال التي يستحقون الثواب على فعلها، والأعمال التي يستحقون العقاب عليها، وبيّن لهم ما يأتون، وما يذرون، يقال: أبان الرجل في كلامه ومنطقه فهو مُبينٌ والبيان: الكلام، ويقال: بان الكلامُ وأبان بمعنىً واحد، فهو: مُبيِّنٌ ومُبينٌ (¬2)، وقد سمى اللَّه نفسه بالمبين: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬3). وهو سبحانه الذي بيّن لعباده طرق الهداية وحذّرهم، وبين لهم طرق الضلال، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب ليبين لهم، قال اللَّه - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن ¬
بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (¬1)، وهذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعدما بينه اللَّه تعالى في كتبه التي أنزلها على رسله عليهم الصلاة والسلام. وقال - عز وجل -: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬2)، {كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (¬3)، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ ¬
مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬1). ويقول - عز وجل -: {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬2). {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬3)، واللَّه - عز وجل - يُبيِّن للناس الأحكام الشرعية ويوضّحها، ويُبيِّن الحكم القدرية، وهو عليم بما يصلح عباده، حكيم في شرعه وقدره (¬4)، فله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة. وقال - عز وجل -: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬5)، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ ¬
95 - المنان
عَلِيمٌ} (¬1)، يخبر اللَّه عن نفسه الكريمة وحكمه العادل أنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة (¬2). 95 - المنَّانُ المنّان من أسماء اللَّه الحسنى التي سماه بها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول: «اللَّهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [وحدك لا شريك لك] المنّان، [يا] بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد سأل اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب» (¬3). ¬
قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: «المنّان» هو المنعم المعطي من المنِّ: العطاء، لا من المنة. وكثيراً ما يرد المنّ في كلامهم: بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه، فالمنّان من أبنية المبالغة ... كالوهاب (¬1). ومنه الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه ليس من الناس أحدٌ أمنَّ عليَّ في نفسه وما له من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خُلَّةُ الإسلام أفضل» (¬2)،ومعنى «إن من أمنّ الناس» أكثرهم جوداً لنا بنفسه، وماله، وليس هو من المنّ الذي هو الاعتداد بالصنيعة» (¬3). ¬
واللَّه - عز وجل - هو المنَّان: من المن العطاء، والمنّان: هو عظيم المواهب؛ فإنه أعطى الحياة، والعقل، والنطق، وصوّر فأحسن، وأنعم فأجزل، وأسنى النعم، وأكثر العطايا والمنح» (¬1)، قال وقوله الحق: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬2). ومن أعظم النعم، بل أصل النعم التي امتن اللَّه بها على عباده الامتنان عليهم بهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أنقذهم اللَّه به من الضلال، وعصمهم به من الهلاك (¬3). قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬4). فاللَّه - عز وجل - هو الذي منّ على عباده: بالخلق، ¬
والرزق، والصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان، وأسبغ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، ومن أعظم المنن وأكملها وأنفعها - بل أصل النعم - الهداية للإسلام ومنته بالإيمان، وهذا أفضل من كل شيء (¬1). ومعنى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» أي تفضّل على المؤمنين المصدقين والمنان: المتفضل» (¬2). والمنة: النعمة العظيمة. قال الأصفهاني: المنة: النعمة الثقيلة، وهي على نوعين: النوع الأول: أن تكون هذه المنَّة بالفعل فيقال: منَّ فلانٌ على فلان إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ} (¬3)، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬4)، وقال - عز وجل -: {وَلَقَدْ ¬
مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (¬1)، {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} (¬2)، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (¬3)، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (¬4)، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (¬5). وهذا كله على الحقيقة لا يكون إلا من اللَّه تعالى، فهو الذي منّ على عباده بهذه النعم العظيمة، فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد رضاه، وله الحمد في الأولى والآخرة. النوع الثاني: أن يكون المنّ بالقول. وذلك مستقبح فيما بين الناس، ولقبح ذلك قيل: المنة تهدم الصنيعة، قال اللَّه تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ ¬
هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬1)، فالمنَّة من اللَّه عليهم بالفعل وهو هدايتهم للإسلام (¬2)، والمنَّة منهم بالقول المذموم، وقد ذم اللَّه في كتابه ونهى عن المنّ المذموم: وهو المنَّة بالقول فقال: {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (¬3)، قال ابن كثير: «لا تمنن بعملك على ربك تستكثره» (¬4)، وقيل غير ذلك. وقال اللَّه - عز وجل -: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ ¬
وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬1). وقد ذمَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - المنَّ بالعطية، فقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم»، فقرأها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات. قال أبو ذرٍّ: خابوا وخسروا، من هم يا رسول اللَّه؟ قال: «المُسبلُ، والمنانُ، والمنفق سلعته بالحلِفِ الكاذب» (¬2). هذا هو المنّ المذموم، أما المنّ بمعنى العطاء، والإحسان، والجود، فهو المحمود. والخلاصة: أنّ اللَّه تبارك وتعالى هو المنّان الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو عظيم المواهب، أعطى الحياة، والعقل، والنطق، وصوّر فأحسن، وأنعم فأجزل، وأكثر العطايا، والمنح، وأنقذ ¬
96 - الولي
عباده المؤمنين، ومنّ عليهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بمنّه وفضله، ومنّ على عباده أجمعين: بالخلق، والرزق، والصحة، والأمن لعباده المؤمنين. وأسبغ على عباده النعم مع كثرة معاصيهم وذنوبهم. فاللَّهمّ منَّ علينا بنعمة الإيمان، واحفظنا وأجزل لنا من كل خير، واصرف عنا كل شرّ، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، يا كريم يا منّان، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. 96 - الوليُّ الولي: يطلق على كل من وَلي أمراً أو قام به، والنصير، والمُحبّ، والصديق، والحليف، والصهر، والجار، والتابع، والمُعتِق، والمُطيع، يُقال: المؤمنُ
وليُّ اللَّه، والمطر يسقط بعد المطر، والولي ضد العدو، والناصر والمتولي لأمور العالم والخلائق، ويقال للقيِّم على اليتيم: الوَلي، وللأمير الوالي (¬1). قال الراغب الأصفهاني: الولاءُ والتَّوالي يطلق على القرب من حيث المكان، ومن حيث النسب، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة، ومن حيث النُّصرة، ومن حيث الاعتقاد، والولاية النصرة، والولاية تولِّي الأمر ... والوليُّ والموْلى يستعملان في ذلك كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي المُوالِي، وفي معنى المفعول أي المُوالَى، يقال للمؤمن: هو وليُّ اللَّه، ويقال اللَّه وليُّ المؤمنين (¬2). وولاية اللَّه - عز وجل - ليست كغيرها: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬3). فهو سبحانه الولي الذي ¬
تولّى أمور العالم والخلائق، وهو مالك التدبير، وهو الوليّ الذي صرف لخلقه ما ينفعهم في دينهم وأخراهم» (¬1). وقد سمّى اللَّه تعالى نفسه بهذا الاسم، فهو من الأسماء الحسنى، قال اللَّه - عز وجل -: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (¬3). فاللَّه - عز وجل - هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته والتقرب إليه بما أمكن من القُربات، وهو الذي يتولى عباده عموماً بتدبيرهم، ونفوذ القدر فيهم، ويتولّى عباده بأنواع التدبير. ¬
ويتولى عباده المؤمنين خصوصاً بإخراجهم من الظلمات إلى النور، ويتولّى تربيتهم بلطفه، ويعينهم في جميع أمورهم وينصرهم، ويؤيّدهم بتوفيقه، ويسدّدهم، قال اللَّه - عز وجل -: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (¬2). فاللَّه - عز وجل - هو نصير المؤمنين وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه، ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان .. وإنما جعل الظلمات للكفر مثلاً؛ لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب لأبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان، والعلم بصحته وصحة أسبابه، فأخبر ¬
- عز وجل - عباده أنه وليّ المؤمنين، ومُبَصِّرُهم حقيقة الإيمان، وسبله، وشرائعه، وحججه، وهاديهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر أبصار القلوب (¬1). والخلاصة: أن اللَّه تعالى أخبر أن الذين آمنوا باللَّه ورسله، وصدقوا إيمانهم بالقيام بواجبات الإيمان، وتَرْك كل ما ينافيه، أنه وليّهم، يتولاّهم بولايته الخاصة، ويتولّى تربيتهم فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر، والمعاصي، والغفلة، والإعراض، إلى نور العلم، واليقين، والإيمان والطاعة، والإقبال الكامل على ربهم، ويُنَوِّر قلوبهم بما يقذف فيها من نور الوحي والإيمان، ويُيَسِّرُهم لليُسرى، ويجنّبهم العُسرى، ويجلب لهم المنافع، ويدفع عنهم المضارّ، فهو يتولّى الصالحين: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ¬
الصَّالِحِينَ} (¬1) الذين صلحت نياتهم، وأقوالهم، فهم لمَّا تولَّوا ربهم بالإيمان والتقوى، ولم يتولَّوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر، تولاّهم اللَّه ولطف بهم، وأعانهم على ما فيه، الخير، والمصلحة في دينهم ودنياهم ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه (¬2)،كما قال - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3). وأما الذين كفروا، فإنهم لما تولَّوا غير وليّهم، ولاّهم اللَّه ما تولَّوا لأنفسهم، وخذلهم ووكلهم إلى رعاية من تولاهم ممن ليس عنده نفع ولا ضر، فأضلّوهم، وأشقوهم، وحرموهم هداية العلم النافع، والعمل الصالح، وحرموهم السعادة الأبدية وصارت النار مثواهم خالدين فيها مخلّدين: اللَّهم تولّنا فيمن تولّيت (¬4). ¬
واللَّه - عز وجل - يحب أولياءه وينصرهم ويسدّدهم، والوليّ للَّه هو العالم باللَّه، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته، المبتعد عن معصية اللَّه. ومن عادى هذا الوليَّ للَّه فاللَّه - عز وجل - يعلمه بالحرب، قال - صلى الله عليه وسلم -: فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إن اللَّه يقول: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليّ عبدي بِشَيْءٍ أحبّ إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينّه، ولئن أستعاذني لأُعيذنّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته» (¬1). والمعنى أنه إذا كان ولياً للَّه - عز وجل - فاللَّه يحفظه ويُسدِّده، ¬
97 - المولى
ويُوفِّقه حتى لا يسمع إلاّ إلى ما يرضي مولاه، ولا ينظر إلاّ إلى ما يحبه مولاه، ولا تبطش يداه إلاّ فيما يرضي اللَّه، ولا تمشي قدماه إلاّ إلى الطاعات، فهو مُوفَّق مُسدّد مُهتدٍ مُلْهَم من المولى وهو اللَّه - عز وجل -، ولهذا فسّر هذا الحديث بهذا أهل العلم كابن تيمية وغيره؛ ولأنه جاء في رواية الحديث رواية أخرى: «فبي يسمع، وبي يُبصر، وبي يبطش وبي .. يمشي» (¬1)، هذا يدل على نصرة اللَّه لعبده، وتأييده، وإعانته، فيوفقه اللَّه للأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، ويعصمه عن مواقعة ما يكره اللَّه - عز وجل - (¬2). 97 - المَوْلَى «المولى» اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو: الربُّ، والمالكُ، والسَّيدُ، والمُنعمُ، والمُعتِقُ، والناصرُ، والمُحبُّ، والتابعُ، والجارُ، وابنُ العم، والحليفُ، والصِّهرُ، والعبدُ، والمنعمُ عليه، وأكثرها قد جاء في ¬
الحديث، فيضاف كل واحدٍ إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه، وكل من ولي أمراً أو قام به فهو مولاهُ، ووَليُّهُ، وقد تختلف مصادر هذه الأسماء: فالوَلايةُ - بالفتح - في النسب، والنصرة والمُعتِق. والوِلاية - بالكسر- في الإمارة، والوَلاءُ المُعتق، والموالا من والى القوم (¬1). واللَّه - عز وجل - هو المولى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬2)، فهو المولى، والربُّ، الملكُ، السيدُ، وهو المأمول منه النصر والمعونة؛ لأنه هو المالك لكل شيء، وهو الذي سمى نفسه - عز وجل - بهذا الاسم، فقال - سبحانه وتعالى -: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬3). وقال اللَّه - سبحانه وتعالى -: {وَإِن ¬
تَوَلَّوْاْفَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬1)، وقال اللَّه سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (¬2). واللَّه - سبحانه وتعالى - هو مولى الذين آمنوا، وهو سيدهم وناصرهم على أعدائهم، فنعم المولى ونعم النصير (¬3)، فاللَّه - عز وجل - هو الذي يتولّى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم، ويُيَسِّر لهم منافعهم الدينية والدنيوية «وَنِعْمَ النَّصِيرُ» الذي ينصرهم، ويدفع عنهم كيد الفجار وتكالب الأشرار، ومن كان اللَّه مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان اللَّه عليه فلا عِزّ له ولا قائمة تقوم له (¬4). فاللَّه سبحانه هو مولى المؤمنين فيدبرهم بحسن تدبيره فنعم المولى لمن تولاّه فحصل له مطلوبه، ونعم النصير لمن استنصره فدفع عنه المكروه»، وقال اللَّه - عز وجل -: {بَلِ اللَّهُ ¬
مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} (¬1)، ومن دعاء المؤمنين لربهم تبارك وتعالى ما أخبر اللَّه عنهم بقوله: {أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬2)، أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكَّلْنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك (¬3). وقال - عز وجل -: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4). وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬5). وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة حينما قال لهم أبو سفيان لنا العُزى ولا عُزى لكم فقال: «قولوا اللَّه مولانا ولا مولى لكم» (¬6). ¬
98 - النصير
98 - النَّصِيرُ النصير: فعيل بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصرٌ ومنصورٌ وقد نصره ينصره نصراً إذا أعانه على عدوه وشدّ منه (¬1). والنصير هو الموثوق منه بأن لا يسلم وليه ولا يخذله (¬2). واللَّه - عز وجل - النصير، ونصره ليس كنصر المخلوق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬3)، وقد سمى نفسه تبارك وتعالى باسم النصير فقال: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (¬4)، وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ ¬
نَصِيرًا} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬2)، وقال سبحانه: {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬3). واللَّه - عز وجل - هو النصير الذي ينصر عباده المؤمنين ويعينهم كما قال - عز وجل -: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬4). وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬5)، وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (¬6)، وقال جلَّ وعلا: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬7)، وقال ¬
سبحانه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2)، وقال تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (¬3). ونُصرةُ اللَّه للعبد ظاهرة من هذه الآيات وغيرها، فهو ينصر من ينصره، ويعينه ويسدّده. أما نُصْرَة العبد للَّه فهي: أن ينصر عباد اللَّه المؤمنين والقيام بحقوق اللَّه - عز وجل -، ورعاية عهوده، واعتناق أحكامه، والابتعاد عما حرّم اللَّه عليه، فهذا من نصرة العبد لربه، كما قال - عز وجل -: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} وقال: {كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} (¬4)، وقال: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ¬
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1)، ومن نصر اللَّه بطاعته والابتعاد عن معصيته نصره اللَّه نصراً مؤزّراً (¬2). واللَّه - عز وجل -: ينصر عباده المؤمنين على أعدائهم، ويبين لهم ما يحذرون منهم، ويعينهم عليهم، فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر (¬3). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا غزا: «اللَّهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أجُول وبك أصول، وبك أقاتل» (¬4). واللَّه - عز وجل - ينصر عباده المؤمنين في قديم الدهر وحديثه في الدنيا، ويُقِرُّ أعينهم ممن آذاهم، ففي صحيح البخاري يقول اللَّه تبارك وتعالى: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» (¬5)؛ ولهذا أهلك اللَّه قوم نوح، وعاد، وثمود، ¬
وأصحاب الرس، وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم ممن كذَّب الرسل وخالف الحق، وأنجى اللَّه تعالى من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحداً، وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً. وهكذا نصر اللَّه نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على من خالفه وكذبه، وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان ... ودخل الناس في دين اللَّه أفواجاً، وانتشر دين الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها (¬1). وقد وعد اللَّه من ينصره بالنصر والتأييد، فمن نصر اللَّه بالقيام بدينه والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، وقصد بذلك وجه اللَّه، نصره اللَّه وأعانه وقوّاه، واللَّه وعده وهو الكريم، وهو أصدق قيلاً، وأحسن حديثاً، فقد وعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، ويُيَسِّرُ له أسباب النصر من الثبات وغيره (¬2).وقد بيّن اللَّه - عز وجل - ¬
99 - الشافي
علامة من ينصر اللَّه فمن ادّعى أنّه ينصر اللَّه وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب. قال - عز وجل -: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (¬1)، فهذه علامة من ينصر اللَّه وينصره اللَّه (¬2). وقد أمر اللَّه عباده المؤمنين بنصره - عز وجل - فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} (¬3)، ومن نصرِ دين اللَّه تعلُّم كتاب اللَّه وسنة رسوله، والحث على ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬4). 99 - الشَّافِي الشفاء في اللغة هو البرء من المرض. يقال: شفاه اللَّه يشفيه، واشتفى افتعل منه، فنقله من شفاء ¬
الأجسام إلى شفاء القلوب والنفوس (¬1). واللَّه - سبحانه وتعالى - هو الشافي، فعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: «اللَّهم ربّ الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً» (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه - لثابت البناني حينما اشتكى إليه: ألا أرقيك برقية رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى. قال: «اللَّهم ربّ الناس، مُذْهِب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يُغادِرُ سَقماً» (¬3). فاللَّه - عز وجل - هو الشافي من الأمراض والعلل والشكوك، وشفاؤه شفاءان أو نوعان: النوع الأول: الشفاء المعنوي الروحي، وهو الشفاء من علل القلوب. ¬
النوع الأول: شفاء القلوب والأرواح.
النوع الثاني: الشفاء المادي، وهو الشفاء من علل الأبدان. وقد ذكر اللَّه - عز وجل - هذين النوعين في كتابه، وبيّن ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنزل اللَّه من داء إلا أنزل له شفاء» (¬1). النوع الأول: شفاء القلوب والأرواح. قال اللَّه - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬2). والموعظة: هي ما جاء في القرآن الكريم من الزواجر عن الفواحش، والإنذار عن الأعمال الموجبة لسخط اللَّه - عز وجل - المقتضية لعقابه، والموعظة هي الأمر والنهي بأسلوب الترغيب والترهيب، وفي هذا القرآن الكريم شفاءٌ لما في الصدور من أمراض الشُّبَهِ، والشكوك، والشهوات، وإزالة ما فيها من رجسٍ ودنسٍ. فالقرآن الكريم فيه الترغيب ¬
والترهيب، والوعد، والوعيد، وهذا يوجب للعبد الرغبة والرهبة، وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة عن الشرّ، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد اللَّه على مراد النفس، وصار ما يُرْضِي اللَّه أحبّ إلى العبد من شهوة نفسه. وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرّفها اللَّه غاية التصريف، وبينها أحسن بيان مما يزيل الشُّبَهَ القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين. وإذا صلح القلب من مرضه تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. وهذا القرآن هدى ورحمة للمؤمنين. وإنما هذه الهداية والرحمة للمؤمنين المصدقين كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (¬1)، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ ¬
وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (¬1)، فالهدى هو العلم بالحقّ، والعمل به، والرحمة ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى بهذا القرآن العظيم. فالهدى أجلُّ الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدى به، ولا يكون رحمة إلا في حقّ المؤمنين، وإذا حصل الهدى، وحصلت الرحمة الناشئة عن الهدى حصلت السعادة، والربح، والنجاح، والفرح والسرور؛ ولذلك أمر اللَّه بالفرح بذلك فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬2). والقرآن مشتملٌ على الشفاء والرحمة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك كله للمؤمنين به، المصدقين بآياته، العاملين به. أما الظالمون بعدم التصديق به، أو عدم العمل ¬
به، فلا تزيدهم آياته إلا خساراً، إذ به تقوم عليهم الحجة. والشفاء الذي تضمنه القرآن شفاء القلوب ... وشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها. فاللَّه - عز وجل - يهدي المؤمنين: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} يهديهم لطريق الرشد، والصراط المستقيم، ويعلمهم من العلوم النافعة ما به تحصل الهداية التامة. ويشفيهم اللَّه تبارك وتعالى بهذا القرآن من الأسقام البدنية، والأسقام القلبية؛ لأن هذا القرآن يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال، ويحث على التوبة النصوح التي تغسل الذنوب، وتشفي القلوب. وأما الذين لا يؤمنون بالقرآن ففي آذانهم صَمَمٌ عن استماعه، وإعراض، وهو عليهم عمىً، فلا يبصرون به رشداً ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلا ضلالاً. وهم يُدعون إلى الإيمان فلا يستجيبون، وهم
بمنزلة الذي يُنادى وهو في مكان بعيد لا يسمع داعياً، ولا يجيب منادياً، والمقصود: أن الذين لا يؤمنون بالقرآن، لا ينتفعون بهداه، ولا يبصرون بنوره، ولا يستفيدون منه خيراً؛ لأنهم سدّوا على أنفسهم أبواب الهدى بإعراضهم وكفرهم (¬1). ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان، وفي كل بيئة، فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فيُنْشِئها إنشاءً، ويحييها إحياءً، ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها، وفيما حولها، وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمىً، وقلوبهم مطموسة لا تستفيد من هذا القرآن. وما تَغَيَّرَ القرآنُ، ولكن تغيرت القلوب (¬2). واللَّه - عز وجل - يشفي صدور المؤمنين بنصرهم على ¬
النوع الثاني شفاء الله للأجساد والأبدان:
أعدائهم وأعدائه، قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1). فإن في قلوب المؤمنين الحنق والغيظ عليهم، فيكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغمِّ، والهمِّ؛ إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين للَّه ولرسوله، ساعين في إطفاء نور اللَّه، فيزيل اللَّه ما في قلوبهم من ذلك، وهذا يدل على محبة اللَّه للمؤمنين، واعتنائه بأحوالهم (¬2). النوع الثاني شفاء الله للأجساد والأبدان: والقرآن كما أنه شفاء للأرواح والقلوب فهو شفاء لعلل الأبدان كما تقدم؛ فإن فيه شفاء الأرواح والأبدان. فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنّ ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي من أحياء العرب، ¬
فلم يُقْرُوهم، فبينما هم كذلك إذ لُدِغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا إنكم لم تُقْرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعْلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الشاء فجعل يقرأُ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاء فقالوا: لا نأخذ حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه، فضحك وقال: «وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم» (¬1). وعن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها» (¬2). والمعوذات هي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. ¬
قال ابن القيم - رحمه الله -: «ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة، فما الظنُّ بكلام رب العالمين الذي فضله على كل كلام كفضل اللَّه على خلقه الذي هو الشفاء التام والعصمة النافعة، والنور الهادي والرحمة العامة، الذي لو أُنزِلَ على جبل لتصدع من عظمته وجلالته، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا هو أصحُّ القولين» (¬2). وعلى هذا فالقرآن فيه شفاءٌ لأرواح المؤمنين، وشفاء لأجسادهم. واللَّه - عز وجل - هو الشافي من أمراض الأجساد، وعلل الأبدان، قال - عز وجل -: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ*ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ¬
لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: ما بين أبيض، وأصفر، وأحمر، وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها، وقوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}، أي في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم. قال بعض من تكلم على الطب النبوي لو قال: فيه الشفاء لكان دواء لكل داء، ولكن قال فيه شفاء للناس، أي يصلح لكل أحدٍ من أدواءٍ باردة؛ فإنه حارٌ، والشيء يُداوى بضده ... والدليل على أن المراد بقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} هو العسل، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي استطلق بطنه؟ فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «اسقه عسلاً» فسقاه، ثم جاءه فقال: إني سقيتُهُ فلم يزده إلا ¬
استطلاقاً، فقال له ثلاث مرات، ثم جاءه الرابعة فقال: «اسقه عسلاً»،فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «صدق اللَّه وكذب بطن أخيك» فسقاه فَبَرأَ (¬1). قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالاً فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه، فازداد، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه، وصلح مزاجه، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته عليه الصلاة والسلام (¬2). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «الشفاء في ثلاث: شربةِ عسلٍ، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى ¬
أمتي عن الكي» (¬1) رفع الحديث. واللَّه - عز وجل - هو الذي هدى النحلة الصغيرة هذه الهداية العجيبة، ويسّر لها المراعي ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم اللَّه لها وهدايته لها، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة، فهذا دليل على كمال عناية اللَّه تعالى وتمام لطفه بعباده، وأنه الذي ينبغي أن لا يُحُب ولا يُدعى سواه (¬2). وأخبر اللَّه - عز وجل - عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (¬3). قال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا ¬
مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}: أسند إبراهيم عليه الصلاة والسلام المرض إلى نفسه، وإن كان عن قدر اللَّه وقضائه، وخلقه، ولكنه أضافه إلى نفسه أدباً. ومعنى ذلك: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يُقدِّر تبارك وتعالى من الأسباب الموصلة إلى الشفاء (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرشد الأمة إلى طلب الشفاء من اللَّه الشافي الذي لا شفاء إلا شفاءه، ومن ذلك ما رواه مسلم وغيره عن عثمان بن العاص أنه اشتكى إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم اللَّه ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ باللَّه وقدرته من شر ما أجد وأحاذِر» (¬2). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من ¬
عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال سبع مرات: أسأل اللَّه العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك، إلاّ عافاه اللَّه من ذلك المرض» (¬1). فهذا من تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يعتمدوا على ربهم مع الأخذ بالأسباب المشروعة؛ فإن اللَّه - عز وجل - هو الشافي، لا شفاء إلا شفاءه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه بالشفاء؛ لأنه هو الذي يملك الشفاء، والشفاء بيده تبارك وتعالى، قال - صلى الله عليه وسلم - لسعدٍ: «اللَّهم اشف سعداً، اللَّهم اشف سعداً، اللَّهم اشف سعداً» (¬2). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرقي بعض أصحابه، ويطلب الشفاء من اللَّه الشافي: «بسم اللَّه تربة أرضنا، بريقة ¬
بعضنا، يُشفى سقيمنا بإذن ربنا» (¬1). وقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - أن اللَّه هو الذي ينزل الدواء وهو الشافي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنزل اللَّه من داء إلا أنزل له شفاءً» (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل داء دواءٌ، فإذا أصيب دواءُ الداءِ بَرأَ بإذن اللَّه - عز وجل -» (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تداووا بحرام» (¬4). ¬
وجاءت الأعراب فقالت: يا رسول اللَّه ألا نتداوى؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم يا عباد اللَّه تداووا، فإن اللَّه لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً، إلا داءً واحداً» فقالوا يا رسول اللَّه ما هو؟ قال: «الهرم» (¬1). وعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أنزل اللَّه من داء إلا قد أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله» (¬2). قال ابن القيم - رحمه الله -: «فقد تضمنت هذه الأحاديث ¬
إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله: «لكل داء دواء» على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن للطبيب أن يُبْرِئَها، ويكون اللَّه - عز وجل - قد جعل لها أدوية تُبْرِئُها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلا؛ ً لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم اللَّه ... » (¬1). فاللَّه - عز وجل - هو الشافي الذي يشفي من يشاء ويطوي علم الشفاء عن الأطباء إذا لم يرد الشفاء. فنسأل اللَّه الذي لا إله إلا هو بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يشفي قلوبنا وأبداننا من كل سوء، ويحفظنا بالإسلام، وجميع المسلمين؛ إنه ولّي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. ¬
المبحث السادس عشر: من فتاوى اللجنة الدائمة
المبحث السادس عشر: من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في الأسماء الحسنى فتوى رقم 11865 وتاريخ 30/ 3/1409هـ الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الأسئلة المقدمة من د. مروان إبراهيم العيش إلى سماحة الرئيس العام والمحالة إليها برقم 169 في 8/ 1/1409هـ، وأجابت عن كل منها عقبه فيما يلي: س1: صفات الذات التي وردت في الكتاب والسنة، هل تعني الواحدة منها معنى واحداً في كل النصوص التي وردت بها، أم أن لكل سياق معناه الخاص به. يرجى تزويدنا بما تعنيه صفات الذات الآتية في السياق الخاص بها: أ - اليد: ما المراد بها في كل نص من النصوص الآتية: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1)، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ ¬
اللَّهِ} (¬1) الآية، وفي حديثٍ: «يد اللَّه مع الجماعة» (¬2)، وفي حديث آخر: «يد اللَّه على الجماعة» (¬3)، وفي آية كريمة: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬4)، وما المراد بجمع اليدين في قوله: {بِأَيْدٍ} (¬5). ب - العين: ما المراد بها في كل نص من النصوص الآتية: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬6)، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬7)، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (¬8)، وما الدليل على أن للَّه تعالى عينين؟ جالوجه: ما المراد بالوجه في كل نص من النصوص ¬
الآتية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬1)، {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (¬2)، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} (¬3)، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬4)، من المفيد أن تتضمن الإجابة عن هذه الأسئلة مراجع نرجع إليها لمزيد من العلم المفيد؟ ج1: أ - كلمة (يد) في النصوص المذكورة في فقرة «أ» يراد بها معنى واحد هو إثبات صفة اليد للَّه تعالى حقيقة على ما يليق بجلاله دون تشبيه ولا تمثيل لها بيد المخلوقين، ودون تحريف لها ولا تعطيل، فكما أن له تعالى ذاتاً حقيقة لا تشبه ذوات العباد، فصفاته لا تشبه صفاتهم، وقد وردت نصوص أخرى كثيرة تؤيد هذه النصوص في إثبات صفة اليد للَّه مفردة ومثناة ومجموعة، فيجب الإيمان بها على الحقيقة مع التفويض في كيفيتها عملاً بالنصوص كتاباً وسنة، واتّباعاً لما عليه ¬
أئمة سلف الأمة. وأما كلمة - بأيد - في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، فهي مصدر (فعله) آد يئد أيداً، ومعناه القوة، ويضعّف فيقال: أيّده تأييداً، ومعناه قوّاه، وليس جمعاً ليد، فليست من آيات الصفات المتنازع فيها بين مثبتة الصفات ومؤوّليها لأن وصف اللَّه سبحانه بالقوة ليست محل نزاع. وأما معنى الجمل في هذه النصوص فمختلف باختلاف سياقها وما اشتملت عليه من قرائن فقوله: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} يدل على كمال قدرة اللَّه من جهة جعل ملكوت كل شيء بيده، ومن جهة سياق الكلام سابقه ولاحقه، وقوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} يدل على أن الفضل والإنعام إلى اللَّه وحده. وقوله: «يد اللَّهِ على الجماعة» يراد به الحث على التآلف والاجتماع والوعد الصادق برعاية اللَّه لهم، وتأييدهم ونصرهم على غيرهم إذا اجتمعوا على الحق. وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يراد به توثيق البيعة وإحكامها بتنزيل بيعتهم للرسول منزلة بيعتهم للَّه تعالى، وذلك لا يمنع من إثبات اليد للَّه حقيقة على ما يليق به، كما
لا يمنع من إثبات الأيدي حقيقة للمبايعين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يليق بهم (¬1). ج2 ب - كلمة (بأعيننا وبعيني) في النصوص المذكورة في فقرة - ب - يراد بها إثبات صفة العين للَّه حقيقة على ما يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل لها بعين المخلوقين، ولا تحريف لها عن مسماها في لغة العرب، فسياق الكلام لا تأثير له في صرف تلك الكلمات عن مسماها، وإنما تأثيره في المراد بالجمل التي وردت فيها هذه الكلمات، فالمقصود بهذه الجمل كلها هو: أولاً: أمر نوح - عليه السلام - أن يصنع السفينة وهو في رعاية اللَّه وحفظه. وثانياً: أمر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن يصبر على أذى قومه حتى يقضي اللَّه بينه وبينهم بحكمه العدل، وهو مع ذلك بمرأى من اللَّه وحفظه ورعايته. ¬
وثالثاً: إخبار موسى عليه الصلاة والسلام بأن اللَّه تعالى قد منّ عليه مرة أخرى إذ أمر أمّه بما أمرها به ليربيه تربية كريمة في حفظه تعالى ورعايته، ثم يدلّ على أن للَّه تعالى عينين كلمة - بأعيننا - في النصوص المذكورة في السؤال، فإن لفظ عينين إذا أضيف إلى ضمير الجمع جمع كما يجمع مثنى قلب إذا أضيف إلى ضمير مثنى أو جمع، كما في قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬1)، ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللَّه وعن الدجال «من أن الدجال أعور» (¬2)، وأن اللَّه ليس بأعور، فقد استدل به أهل السنة على إثبات العينين للَّه سبحانه (¬3). جكلمة (وجه اللَّه) في الجملة الأولى يراد بها قبلة ¬
اللَّه كما ذكر مجاهد والشافعي رحمهما اللَّه تعالى، فإن دلالة الكلام في كل موضع بحسب سياقه، وما يحفّ به من قرائن، وقد دلّ السياق والقرائن على أن المراد بالوجه في هذه الجملة - القبلة -؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬1)، فذكر تعالى الجهات والأماكن التي يستقبلها الناس، فتكون هذه الآية كآية: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (¬2)، وإذن فليس الآية من آيات الصفات المتنازع فيها بين المثبتة والنفاة، وأما كلمة (وجه) في الجمل الباقية في السؤال فالمراد بها إثبات صفة الوجه للَّه تعالى حقيقة على ما يليق بجلاله سبحانه؛ لأن الأصل الحقيقة، ولم يوجد ما يصرف عنها، ولا يلزم تمثيله بوجه المخلوقين؛ لأن لكل وجهاً يخصه ويليق به (¬3). س2: تسمية الخلق بأسماء الخالق، ما الأدلة على تحريمها؟ وإن كانت مباحة فهل هناك قيود معينة؟ إنني ¬
أقصد الأسماء لا الصفات. إذ من المعلوم أنه يجوز وصف الخلق بصفات الخالق، وقد ورد ذلك كثيراً في كتاب اللَّه تعالى، وسؤالي عن التسمية لا الوصف. فهل لكم أن تبينوا القواعد الفاصلة في الموضوع؟ أولاً: الفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما دلّ على الذات، وما قام بها من صفات، وأما الصفة فهي ما قام بالذات مما يميزها عن غيرها من معان ذاتية كالعلم والقدرة، أو فعليه كالخلق والرزق والإحياء والإماتة. ثانياً: قد يسمى المخلوق بما سمى اللَّه به نفسه، كما يوصف بما وصف سبحانه به نفسه، لكن على أن يكون لكل من الخصائص ما يليق به، ويُمَيزُ به عن الآخر، فلا يلزم تمثيل الخلق بخالقهم، ولا تمثيله بهم، وإن حصلت الشركة في التعبير والمعنى الكلي للفظ؛ لأن المعنى الكلي ذهني فقط لا وجود له في الخارج. ومن ذلك أن اللَّه سمّى نفسه حياً، فقال: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1)،وسمّى بعض عباده حياً، فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} (¬2)، وليس الحي كالحي، ¬
بل لكل منهما في الخارج ما يخصه وسمّى أحد ابني إبراهيم حليماً، وابنه الآخر عليماً عليهم الصلاة والسلام، كما سمّى نفسه عليماً حليماً، ولم يلزم ذلك من التمثيل؛ لأن لكل مسمّى بذلك ما يخصه ويميز به في خارج الأذهان، وإن اشتركوا في مطلق التسمية والتعبير، وسمّى نفسه سميعاً وبصيراً، فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬1)، وسمّى بعض خلقه سميعاً بصيراً، فقال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬2)، ولم يلزم التمثيل؛ لأن لكل مسمى ما يخصه ويتميز به عن الآخر كما تقدم إلى أمثال ذلك. ومن ذلك أن اللَّه وصف نفسه بالعلم فقال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}، ووصف بعض عباده بالعلم فقال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬3)، ووصف نفسه بالقوة فقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ ¬
الْمَتِينُ} (¬1)، ووصف بعض عباده بالقوة فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} (¬2) الآية، وليست القوة كالقوة، وإن اشتركا في العبارة والمعنى الكلي، لكن لكل من الموصوفين ما يخصه ويليق به، إلى أمثال ذلك من الصفات (¬3). س3: هل يصح ما يأتي دليلاً على تحريم تسمية الخلق بأسماء الخالق؟ أ - حيث إن تسمية المخلوق بالاسم العلم (اللَّه) ممنوعة، كانت تسمية المخلوق بأسماء الخالق الأخرى أيضاً ممنوعة؛ إذ لا وجود للتفرقة بين أسماء اللَّه تعالى؟ ب - من المعلوم في اللغة أن الجار والمجرور إذا سبق المعرفة أفاد القصر، فملاحظ ذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فتفيد الآية قصر الأسماء الحسنى على اللَّه، وعدم جواز تسمية الخلق بها، فهل ¬
يصح هذا دليلاً؟ ج3: ما كان من أسماء اللَّه تعالى علم شخص كلفظ (اللَّه) امتنع تسمية غير اللَّه به؛ لأن مسماه معين لا يقبل الشركة، وكذا ما كان من أسمائه في معناه في عدم قبول الشركة كالخالق والبارئ، فإن الخالق من يوجد الشيء على غير مثال سابق، والبارئ من يوجد الشيء بريئاً من العيب، وذلك لا يكون إلا من اللَّه وحده، فلا يسمى به إلا اللَّه تعالى، أما ما كان له معنى كلي تتفاوت فيه أفراده من الأسماء والصفات، كالملك، والعزيز، والجبار، والمتكبر، فيجوز تسمية غيره بها، فقد سمى اللَّه نفسه بهذه الأسماء، وسمّى بعض عباده بها، مثال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} (¬1)، وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (¬2)، إلى أمثال ذلك، ولا يلزم التماثل؛ لاختصاص كل مسمى بسمات تميزه عن غيره، وبهذا يعرف الفرق بين تسمية اللَّه بلفظ الجلالة، وتسميته بأسماء لها معانٍ كلية تشترك أفرادها فيها، فلا تقاس على لفظ الجلالة. ¬
أما الآية: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1)، فالمراد منها قصر كمال الحسن في أسمائه تعالى؛ لأن كلمة الحسنى اسم تفضيل، وهي صفة للأسماء، لا قصر مطلق أسمائه عليه تعالى. كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬2)، فالمراد قصر كمال الغِنى والحمد عليه تعالى، لا قصر اسم الغَني والحميد عليه، فإن غير اللَّه يسمى غنياً وحميداً. س4: إذا ثبت أن أسماء اللَّه تعالى لا يجوز تسمية الخلق بها، فهل من أسماء اللَّه تعالى ما لا يجوز تسمية الخلق بها؟ وهل يدخل ضمن هذا المنع الرحمن، والقيوم، وهل هناك أسماء أخرى لا يجوز وصف الخلق بها؟ ج4: تقدم في جواب السؤال الثاني والثالث بيان الضابط مع أمثلة لما يجوز تسمية المخلوق به من أسماء اللَّه تعالى وما لا يجوز، وبناء على ذلك لا يجوز تسمية المخلوق بالقيوم؛ لأن القيوم هو المستغني بنفسه عن غيره، المفتقر إليه كل ما سواه، وذلك مختص باللَّه لا يشركه فيه غيره، قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية: ¬
هذا ومن أوصافه القيوم ... والقيوم في أوصافه أمران إحداهما القيوم قام بنفسه ... والكون قام به هما الأمران فالأول استغناؤه عن غيره ... والفقر من كل إليه الثاني وكذا لا يسمى المخلوق - بالرحمن - لأنه بكثرة استعماله اسماً للَّه تعالى صار علماً بالغلبة عليه، مختصاً به، كلفظ الجلالة، فلا يجوز تسمية غيره به (¬1). اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد اللَّه بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ¬
فتوى رقم 3862 وتاريخ 12/ 8/1401هـ الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فقد اطّلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من معالي وزير المعارف السعودية إلى سماحة الرئيس العام، والمحال إليها برقم 818 في 3/ 5/1401هـ، ونصه: «أحيل لسماحتكم استفسار إدارة الامتحانات في الوزارة رقم 2121، وتاريخ 7/ 4/1401هـ مع جدول لأسماء اللَّه الحسنى بشأن الاستفسار حول اسم «الفضيل» هل هو من أسماء اللَّه الحسنى؟ وماذا يعمل مع من اسمه عبد الفضيل، هل يعدل الاسم أم يبقى على حالته؟ وحيث إن الاستفسار قد بدأ يتكرر من كثير من الجهات حول الأسماء الحسنى نتيجة لوجود عدد من المتعاقدين يحملون من الأسماء ما لا يقره الشرع، مثل: عبد النبي، وعبد الإمام، وعبد الزهراء، وغيرها من الأسماء. آمل موافاتنا ببيان تحدد فيه الأسماء التي تجوز إضافة «العبد» إليها، والتسمي بها، خاصة وإن كثيراً من الكتب
تشير إلى أن أسماء اللَّه تعالى لا تنحصر في التسعة والتسعين اسماً، بل إن الروايات تختلف حتى في تعداد هذه الأسماء التسعة والتسعين، ويتجه بعض العلماء إلى أن أسماء اللَّه فوق الحصر، مستشهدين بالحديث: «اللَّهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ... » الحديث. وأجابت بما يلي: أولاً: قال اللَّه تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1)، فأخبر سبحانه عن نفسه بأنه اختص بالأسماء الحسنى المتضمنة لكمال صفاته، ولعظمته وجلاله، وأمر عباده أن يدعوه بها تسمية له بما سمى به نفسه، وأن يدعوه بها تضرعاً وخفية في السراء والضراء، ونهاهم عن الإلحاد فيها بجحدها أو إنكار معانيها، أو بتسميته بما لم يسمِّ به نفسه، أو بتسمية غيره بها، وتوعّد من خالف في ذلك بسوء العذاب. وقد سمّى اللَّه نفسه بأسماء في محكم كتابه، وفيما ¬
أوحاه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من السنة الثابتة، وليس من بينها اسم الفضيل، وليس لأحد أن يسميه بذلك؛ لأن أسماءه تعالى توقيفية؛ فإنه سبحانه هو أعلم بما يليق بجلاله، وغيره قاصر عن ذلك، فمن سماه بغير ما سمّى به نفسه، أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد ألحد في أسمائه، وانحرف عن سواء السبيل، وليس لأحد من خلقه أن يُعبِّد أحداً لغيره من عباده، فلا تجوز التسمية بعبد الفضيل، أو عبد النبي، أو عبد الرسول، أو عبد علي، أو عبد الحسين، أو عبد الزهراء، أو غلام أحمد، أو غلام مصطفى، أو نحو ذلك من الأسماء التي فيها تعبيد مخلوق لمخلوق؛ لما في ذلك من الغلو في الصالحين والوجهاء، والتطاول على حق اللَّه؛ ولأنه ذريعة إلى الشرك والطغيان، وقد حكى ابن حزم إجماع العلماء على تحريم التعبيد لغير اللَّه، وعلى هذا يجب أن يغير ما ذكر في السؤال من الأسماء وما شابهها. ثانياً: ثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن اللَّه تسعاًَ وتسعين اسما مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة» رواه البخاري ومسلم (¬1). ¬
وروى هذا الحديث الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم، وزادوا فيه تعيين الأسماء التسعة والتسعين، مع اختلاف في تعيينها، وللعلماء في ذلك مباحث: أ - منها - أن المراد بإحصائها معرفتها وفهم معانيها، والإيمان بها، والثقة بمقتضاها، والاستسلام لما دلت عليه، وليس المراد مجرد حفظ ألفاظها وسردها عدّاً. ب - ومنها أن المعوّل عليه عند العلماء أن تعيين التسعة والتسعين اسماً مدرج في الحديث استخلصه بعض العلماء من القرآن فقط، أو من القرآن والأحاديث الصحيحة، وجعلوها بعد الحديث كتفسير له وتفصيل للعدد المجمل فيه، وعملاً بترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحصائها رجاء الفوز بدخول الجنة. جومنها أنه ليس المقصود من الحديث حصر أسماء اللَّه في تسعة وتسعين اسماً - لأن صيغته ليست من صيغ الحصر - وإنما المقصود الإخبار عن خاصة من خواص تسعة وتسعين اسماً من أسماء اللَّه تعالى، وبيان عظم جزاء إحصائها، ويُؤيِّده ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أصاب أحداً قط
هم ولا حزن فقال: اللَّهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب اللَّه حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحاً» فقيل: يا رسول اللَّه، أفلا نتعلمها؟ فقال: «بل ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها» (¬1). فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه استأثر بعلم بعض أسمائه فلم يطلع عليها أحداً من خلقه، فكانت من الغيبيات التي لا يجوز لأحد أن يخوض فيها بخرص ولا تخمين؛ لأن أسماءه تعالى توقيفية كما سيأتي إن شاء اللَّه. د - ومنها أن أسماء اللَّه توقيفية فلا يُسَمَّى سبحانه إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز أن يُسمَّى باسم عن طريق القياس أو الاشتقاق من فعل ونحوه، خلافاً ¬
للمعتزلة والكرامية، فلا يجوز تسميته بَنَّاءً، ولا ماكراً، ولا مستهزئاً أخذاً من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (¬1)، وقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} (¬2)، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (¬3)، ولا يجوز تسميته زارعاً، ولا ماهداً، ولا فَالِقاً، ولا منشئاً، ولا قابلاً، ولا شديداً، ونحو ذلك أخذا من قوله تعالى: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُون} (¬4)، وقوله: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (¬5)، وقوله: {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ} (¬6)، وقوله تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} (¬7)، وقوله: {وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} (¬8)؛ لأنها لم تستعمل في هذه النصوص إلا مضافة، وفي أخبار على غير طريق التسمي، لا مطلقة فلا يجوز استعمالها إلا على الصفة التي ¬
وردت عليها في النصوص الشرعية. فيجب ألا يُعَبَّد في التسمية إلا لاسم من الأسماء التي سمى اللَّه بها نفسه صريحاً في القرآن، أو سماه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت عنه من الأحاديث، كأسمائه التي في آخر سورة الحشر، والمذكورة في أول سورة الحديد، والمنشورة في سور أخرى من القرآن. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا محمد بن عبد اللَّه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم.