شذرات من كتب مفقودة في التاريخ

إحسان عباس

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة هنالك كتب يقول من يجوس خلال رياضها: حقاً لقد وقعت على كنوز متعددة متنوعة، لا على كنز واحد. من تلك الكتب تاريخ دمشق لابن عساكر وبغية الطلب في تاريخ حلب لابن العديم. وقد عايشت هذا الكتاب الثاني سنوات طويلة وكنت في كلِّ مرة أكتشف فيه أشياء جديدة. ولا ريب في أنَّ كمال الدين ابن العديم كان يملك مكتبة نادرة، وحرصا على العلم، وخطاً جميلاً، بالإضافة إلى ما كان يعمر في قلبه من محبة لحلب، ولمعالمها وللقرى والدساكر والحصون التابعة لها. وفيه تتجلى إلى جانب ذلك كله دقة المعالم، وحصافة الناقل. وعلى مدى الأيام أصبح كتاب بغية الطلب صديقاً مؤنساً، تارة أفهرس المواد التي أجدها فيه مفيدة لي في أبحاثي، وتارة أحاول ترتيب القرى المذكورة فيه؟ أرتبها على حروف المعجم وأعرِّف بها بالمقارنة مع المعاجم الجغرافية الأخرى؛ ولكن أكبر ما أقدمت عليه بوحي منه هو التعرف إلى مصادره الكثيرة، وكثير منها نادر. وكان أن أخذت أجمع النقول المأخوذة من كتاب واحد، وأضعها في نطاق، لكي يتمَّ لي تصوُّر المصدر الأصليّ الذي عنه أخذت، ومصادر بغية الطلب تعدّ بالعشرات، ولهذا كان عملي في البداية " ألهية " تؤدي إلى المعرفة وترسخها، ثم تطورت هذه الألهية حين حاولت أن أتجاوز بغية الطلب، وأبحث عما نقل في غيره من هذا المصدر أو ذاك. عندئذٍ اتسع نطاق العمل كثيراً، وفي مدى سنوات ركَّزت على ثلاثين باباً، وأهملت ما عداها، وراعيت أن تكون هذه الكتب في ميدانين أحببتهما وهما التاريخ والأدب.

وليكن القارئ على ثقة بأن ما لم أورده من الكتب أكثر بكثير من العدد الذي أوردته، لا استقلالاً من شأن ما أغفلت، وإنما لأنَّ العمل في ثلاثين كتاباً، وتحقيق حال مؤلفيها، كان عملاً مرهقاً، فكيف بطلب الشمول في إيرادها كلها. غير أن ما بقي مما لم يرد في هذا المجموع مثير للنزوع إلى الاطلاع بكثرته وتنوعه. فمن كتب الأنساب؟ وحدها؟ نجد ابن العديم يعتمد المصادر التالية: 1 - نسب بني العباس لأبي موسى هارون بن محمد بن إسحاق العباسي. 2 - كتاب المعقبين من ولد الحسن والحسين للحسن بن جعفر النسابة. 3 - أنساب بني صالح بن علي بخط القاضي أبي طاهر صالح بن [؟.] الهاشمي. 4 - المجرد في النسب للشريف أبي الغنائم عبد لله بن الحسن بن محمد الزيدي. 5 - نزهة عيون المشتاقين في النسب للشريف أبي الغنائم الزيدي. 6 - المنصف النفيس في نسب بني إدريس لمحمد بن أسعد الجواني. 7 - نزهة القلب المعنَّى في نسب بني المهنا لمحمد بن أسعد الجواني. 8 - الجوهر المكنون لمحمد بن أسعد الجواني. 9 - القرع والشجر في النسب لأبي الحسين محمد بن القاسم التميمي. 10 - ديوان العرب وجوهرة الأدب وإيضاح النسب لمحمد بن حمد بن عبد الله الأسدي. 11 - مشجرة ولد العباس لبي المنذر علي بن الحسين بن طريف النسابة. 12 - الكتاب المجدي في أنساب الطالبيين لأبي الحسن علي بن محمد العلوي المعروف بابن الصوفي. هذه اثنا عشر كتاباً في علم واحد، لا أحسب أن واحداً اطلع عليها أو اهتمَّ بالبحث عنها؛ فماذا أذكر من كتبٍ في علوم أخرى؟ بل إن التاريخ الذي استغرق معظم هذا المجموع أرجأت الحديث عن كثير من مصادره، وعرض نصوصه: مثل تاريخ الفرغاني وتاريخ ثابت بن سنان وتاريخ السليل بن أحمد بن عيسى ومختصره

للشمشاطي، وتاريخ جمعة أبو إسحاق ابن حبيب السقطي، وتاريخ لعمر بن محمد ابن عبد الله العليمي، وتاريخ الرئيس حمدان بن عبد الرحيم الأثاربي، وتاريخ جمعة الرئيس أبو علي الحسن بن علي بن الفضل الرازي، وتاريخ يحيى بن علي ابن عبد اللطيف بن زريق، والتاريخ المحدد لأبي الحسين محمد بن العباس بن محمد بن الحسن الكتاني الدمشقي، وغير ذلك كثير. إن هذه الكثرة الهائلة من المؤلفات التاريخية وحدها؟ سواء منها ما عرضت له وما لم أعرض له؟ تجعل من المحتوم إعادة النظر في " تاريخ التاريخ " وعدم الاكتفاء في تصور تاريخ التأليف التاريخي على ما هو مطبوع. فهذا الكتاب ليس سوى معرض لثلاثين كتاباً أكثرها في حكم المفقود، فهي على ما تقدمه من فوائد للباحثين كانت دفينة، تفتح المجال أمام المهتمين بالتراث، لكي يضيفوا إلى كل كتاب فيها ما يجدونه من نصوص فاتتني، ولا ريب في أنه فاتتني نصوص كثيرة، ولكي يضيفوا إلى الكتب الثلاثين كتباً أخرى ذات قيمة. وهذا " المعرض الجديد " مؤشر على شيئين: أولهما على كثرة الكتب المهمة التي ضاعت أو ما تزال مختفية، وثانيهما على مبلغ النقص في بعض الكتب التي نشرت. ويؤكد هذا الكتاب أن القرن السابع الهجري قد رزق ثلاثة رجال كبار متقاربين لأنهم جميعاً كانوا يأوون إلى حلب وهم ياقوت والقفطي وابن العديم، ويتميز الأول بأنه كتبي " مثقف " لا يكتفي أن يكون نسخه للكتب مصدر رزق، بل أن يكون أيضاً مصدر ثقافة، ولذلك فإن إطلاعه لا يقل عن إطلاع زميليه الثريين اللذين يملك كل منهما مكتبة تضمَّ مئات من الكتب، وتتضح صورة هؤلاء الثلاثة في هذا الكتاب، لأنهم جميعاً اشتركوا في الاطلاع على مصادر بأعيانها وأفادوا منها في ما ألفوه من الكتب. وأنا على يقين من أن الدارسين من ذوي الجد والحرص على العلم سيجدون في فهرس هذا الكتاب ما يسعفهم على الإفادة منه في دراساتهم وبخاصة لأنه يضم ثلاثين كتاباً، وذلك عدد غير قليل في شموله وتنوع مادته.

ولا يفوتني في خاتمة هذه الكلمة المجزة أن أتوجه بالشكر الجزيل لدار الغرب الإسلامي، وأخص بذلك صديقي الصدوق الحاج الحبيب اللمسي الذي استطاع في مدةٍ تعد قصيرة في عمر نشر الكتب أن يصدر عدداً من أروع كتب التراث وأهمها، وأن يعيد إلى الناشر العربي الذي تغوّل على حقله زمرة من الأدعياء، الثقة التي فقدها، باحترامه للكتاب؟ مادة وصفّاً وورقاً وتجليداً وفهرسةً؟ وباحترامه للكتاب والمحقق، على كل صعيد. وفقه الله في خدمة التراث العربي الإسلامي، وكلأه برعايته، وشملني برحمته، وجعل الخير لي منهجاً وغاية، إنه سميع مجيب. في 20 أيلول (سبتمبر) 1987 الجامعة الأردنية إحسان عباس

أخبار البرامكة

أخبار البرامكة لأبي جعفر عمر بن الأزرق الكرماني

فراغ

لم أجد له ترجمة، ولكن يؤخذ من المعلومات التي نقلت من كتابه أنه عاصر الجاحظ، وسمع منه بعض أخبار البرامكة، كما أنه التقى رجلاً معمراً شهد عصر هشام أو جانباً منه، وكان الرجل لدى لقائه للكرماني قد زرَّف على المائة (تقديراً حوالي 225) كذلك أدرك الكرماني بعضاً من مشايخ الدعوة العباسية. وينقل الطبري في تاريخه (3: 572، 573، 575، 603، 613، 683) عن شخص يدعى أبا حفص الكرماني، فالكنية والنسبة تطابقان ما لدينا هنا، ومما يرجح أن الذي ينقل عنه الطبري هو أبن الأزرق نفسه اتصال المادة التي ينقلها بالبرامكة، وهنالك نجد أن أكثر أعتماد الكرماني المؤرخ على الرواية عن محمد بن يحيى بن خالد، فهو قد لحق الجيل الثالث من بني برمك ولعله لم يدرك تاريخ النكبة نفسها. ولسنا نجد معظم الرواة الذين يرفع إليهم الكرماني أسانيده، فمثلاً لا نجد ذكراً لبشر بن حرب بن يزيد الطالقاني بين مشايخ الدعوة لدى الطبري، إلا أن الطبري يذكر علي بن عصمة الذي يروي عنه بشر بن فاسنك. ومن المهم أن نجد الخبر الذي يرويه الطبري عن علي بن عصمة متصلاً بخالد بن برمك، إذ جاء فيه (فذكر عن علي بن عصمة أن خالد بن برمك خط مدينة أبي جعفر له وأشار بها عليه؟) ، ثم ذكر أن المنصور استشاره في نقض الإيوان فحاول أن يثنيه عن ذلك، والقصة مشهورة تتردد في مصادر كثيرة (1) ، على أية حال لا يخفى مما دونه ابن

_ (1) الطبري 3: 320.

الأزرق ذلك الميل لإعطاء خالد بن برمك دوراً كبيراً في الدعوة العباسية يمهد لتلك المكانة التي بلغها ابنه وحفدته من بعد في بنية الدولة نفسها. - 1 - (1) حدثني إسحاق البلخي الشاعر، وكان معمراً قد زرَّف على العشرين والمائة السنة، أي أرمى عليها، أنه رأى برمك قدم على هشام بن عبد الملك في خمسمائة شاكريٍّ فأكرمه وأعلى منزلته وأعجب به ثم أسلم، فرأيته جليل القدر عنده عظيم الموقع منه. - 2 - (2) وحدثني سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وكان يحمل الحديث عنه قال: حدثتني رضوى حاضنة أبي أن خالد بن برمك (3) كان يبيت مع مسلمة في لحاف واحد وهما صبيان، وأنه نشأ معه في موضع واحد، قال سعيد: وكان مسلمة أبي لا يولد له فوصف له برمك دواء فتعالج فولدتُ له، فكانوا يسموني البرمكي على عهد هشام؟ وحدثني شيخ قديم قال: وكان برمك واقفاً بباب هشام فمرَّ به محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس فأعجبه ما رأى من هيئته، فسأل عنه فأخبر بقرابته من النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لابنه خالد بن برمك: يا بني إن هؤلاء أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وهم ورثته وأحق بخلافته، والأمر صائر إليهم، فإن قدرتَ يا بنيَّ أن يكون لك في ذلك أثر تنال به ديناً ودنيا فافعل. قال: فحفظ خالد ذلك عنه وعمل عليه عند خروجه في الدعوة، وكان خالد بن برمك أحد العشرين الذين اختارهم الشيعة لإقامة الدعوة بعد النقباء الاثني عشر. . سار برمك (يعني من عند هشام بن عبد الملك) حتى قدم جرجان فنزل على

_ (1) بغية الطلب 3: 22. (2) بغية الطلب 5: 337. (3) ولد خالد سنة تسعين وتوفي سنة 165.

يزيد بن البراء وأعلمه ما صار إليه من الخليفة، وزوج ابنه خالد بن برمك من أم خالد بنت يزيد، وكان خالد أحبّ ولده أليه، وكان يقول له فيما ذكر المشايخ عنه: به يجبر الله ولدي وأهل بيتي؟ وحدثني عمروا بن بحر الجاحظ قال، حدثني ثمامة بن أشرس قال: كان أصحابنا يقولون: لم يكونوا يرون لجليس خالد بن برمك داراً إلا وخالد قد بناها له، ولا ضيعة إلا وخالد ابتاعها له، ولا ولداً إلا وخالد وهب له أمه، ولا دابة إلا وخالد وهبها له إمّا من نتاجه أو غير نتاجه؟ وحدثني بشر بن حرب بن يزيد الطالقاني وغيره من مشايخ الدعوة أنهم يسمون خالد بن برمك أمين آل محمد؟ وحدثني بشر بن فاسنك، شيخ من أهل الباميان، عن علي بن عصمة قال: كان يقال: ما أحد من أهل خراسان إلا ولخالد بن برمك عله منِّة، وذاك أنه قسّط الخراج عليها فأحسن فيه إلى أهلها؟ وكان خالد بن برمك سمع من أبيه ذلك القول في محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس وحفظ عنه، وبحث عن الأمور بعد أبيه حتى انكشف له، فكاتب الإمام وراسله، وكانت رسل الإمام تأتيه وأمره ونهيه يرد عليه، وصير من الدعاة الذين يتلون النقباء، فكان اسمه في كتاب الدعوة فيهم مع نظرائه من الدعاة حتى حدث من أمر البرامكة في أيام الرشيد ما حدث، فأسقطه منه أبو عصمة وغيره من الشيعة تقرباً إلى الرشيد بذلك، فهو يوجد في خواصَّ الكتب؟ فحدثني أبو يحيى الخليل الشيعي قال: قدم عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك على الإمام، فقال لعبد الملك: نعم العون أنت لنا فأنت أبو عون، وأنت يا خالد فإنك ستصير وزيراً لولد العباس فأنت أبو العباس، فهو الذي كنّاهما، قال: وكان خالد بن برمك فيما بين جرجان وطبرستان والريّ وتيك النواحي فيدعوا لبني هاشم ويظهر أنّ اختلافه في التجارة، فيجلب معه الدواب والرقيق إلى تلك الكور على خوف شديد ومخاطرةٍ عظيمة لم يكن يظن بأحد هذا الرأي فضلاً

عن الدعاء إليه إلا أتى عليه وعلى أهل بيته، وقد أُخِذَ خالد في ذلك غير مرة فتأتَّي واحتال حتى تخلص؟ [وبعد ذكر البيعة للسفاح قال] : وأدني خالد بن برمك إلى الإمام أبي العباس وهو في محملٍ من الجراحة التي كانت به، فظن أبو العباس أنه من العرب لما رأى من فصاحة لسانه وهيئته فقال: من الرجل؟ قال: مولاك يا أمير المؤمنين، قال: فمن أنت رحمك الله؟ قال: أنا من العجم، قال: فمن أنت منهم؟ قال: أنا خالد ابن برمك. ووصف له حالهم التي كانت بخراسان قبل الإسلام، وأن الله هداهم بهم أهل البيت وأنه في محبتهم والتشيع لهم كما قال الكميت: وما ليَ إلا آلَ أحمدَ شيعةٌ ... وما ليَ إلا مَشْيَعَ الحقِّ مشعب قال: فأعجب به أبو العباس، وأقر خالد بن برمك على ما كان يتولى في المعسكر من الغنائم، ثم جعل ديوان الخراج وديوان الجند إليه. ولما صار الديوانان إلى خالد بن برمك حسن فيهما مذهبه وكثر حامده، وعلى يديه جرت قطيعة العكي وقطيعة أبي حميد وقطائع كثيرة غير ذلك. وكانت الدفاتر في ديوان الجند صحفاً مدرجة فجعلها خالد بن برمك دفاتر، فهو أول من فعل ذلك، وأول من جعل ديوان الجند على ما هو عليه اليوم. وحسن حال خالد بن برمك عند أبي العباس وجلَّ قدره عنده ووضعه في موضع المشاورة في الأمور وحلَّ محلَّ الوزير؟ ودفع أبو العباس إلى خالد بن برمك ابنته ريطة بنت أبي العباس فأرضعتها زوج خالد وربتها، وأرضعت أم سلمة زوج أبي العباس أمير المؤمنين أم يحيى بنت خالد بلبان ابنتها ريطة؟ وحدثني إسحاق بن إبراهيم عن هارون بن ديزويه قال: دخل خالد يوماً على أبي العباس فقال له: يا ابن برمك، أما رضيتَ حتى استعبدتني؟ قال: ففزع خالد لذلك وقال: وكيف يا أمير المؤمنين؟ بل أنا عبدك، فضحك أبو العباس وقال: ريطة بنت أمير المؤمنين وأم يحيى بنت خالد تبيتان في فراش واحد، فاتعارّ من

الليل فأجدهما قد تكشفتا فأمدّ اللحاف عليهما، قال: فقبل يده وتشكر ذلك له؟ وقال له أبو العباس يوماً، وخرج على الناس وأحبَّ أن يعرِّفَهُمْ مكانه منه: يا خالد ما أحدٌ أخص بأمير المؤمنين منك، أنت معي، وأهلك مع أهلي، وولدك مع ولدي، فشكره ودعا له، فلم يزل خالد مع أبي العباس أمير المؤمنين على تلك الحال حتى مضى أمير المؤمنين أبو العباس، واستخلف المنصور فأقرَّ خالداً على حاله ومرتبته وعلى ديوان الخراج، وكان به معجباً، فمكث بذلك عدة سنين، ثم غلب عليه أبو أيوب المورياني فثقل على أبي أيوب مكان خالد وأحبَّ أن يخلو بأبي جعفر، فكان لا يألو ما حمَّل أبا جعفر عليه إلى أن أتاهم انتقاض فارس وغلبة الأكراد عليها، فأعظم أبو جعفر ذلك وأمر أبا أيوب بارتياد رجل يصلح لها فقال: قد أصبته يا أمير المؤمنين، قال: ومن هو؟ قال: خالد بن برمك، قال صدقت، هو لها. فعقد له على فارس، فشخص إليها فافتتحها وجلا الأكراد عنها، وصلحت فارس على يدي خالد وأقام بها سنين، ودخل أليه وجوه الناس وأشرافه من الأمصار، وامتدحه الشعراء فوصلهم وحباهم وصرفهم راضين فحمدوه في سائر الأمصار وشاع ذكره بالسماحة. وسعى أبو أيوب المورياني بخالد إلى أبي جعفر فقال له ك قد اقتطع خالد من خراجك ثلاثة آلاف ألف درهم ووصل بها الناس، فأغضبه عليه، فصرف خالداً عن فارس، فلما قدم عليه ألزمه بعض ذلك المال، فدعا به بعد أن باع في أداء ذلك المال الدواب والرقيق والمتاع، فلما دخل عليه قال: أخذت مالي واجترأت عليَّ وفرقته في الناس، فقال له خالد: كل ما قال أمير المؤمنين فقد صدق، غير أني يا أمير المؤمنين اقتصرت على إنفاقي ونظرت إلى معونتي من أمير المؤمنين وما تفضل به عليَّ فصرفته إلى أشراف الناس، وتفضلت به عليهم، لأنه لم يكن شكري يحيط بنعم أمير المؤمنين عليَّ، فجمعت إلى شكري شكر هؤلاء، وذلك كله لأمير المؤمنين إذ جعل السبيل إليه وأعانني عليه، فسرّه ذلك. قال: صدقت وأحسنت، وأقرَّ الله عينك يا خالد، قد زينتنا وزينت نفسك لنا، فأنت في حِلٍ مما جرى على يدك من أموالنا، وقد رضيتُ عنك، وعظم في عينه بعد ذلك؟

وذكر علي بن الفرج؟ وكان الفرج أبوه لأبي أيوب ثم صار لأبي جعفر؟ قال: لم يكن أبو أيوب يأمن ناحية خالد بن برمك وأن يرده أبو جعفر إلى كتابته وديوان الخراج، فكان يحتال عليه، وكان مما احتال به أن دسَّ إلى بعض الجهابذة مالاً عظيماً وقال له: إذا سألك أمير المؤمنين عن هذا المال فقل له: إنه استودعنيه خالد أبن برمك، قال: ثم دسَ من رفع إلى أبي جعفر في ذلك، قال: فدعا أبو جعفر بالنصراني فسأله ثم قال: نعم عندي مال لخالد بن برمك أستودعنيه، قال فبعث أبو جعفر إلى خالد فأحضره وسأله عن ذلك المال، فحلف له انه لم يجمع مالاً قط ولا ذخره ولا رأى النصراني قط ولا عرفه، ثم قال: ياامير المؤمنين يرسل إلى الجهبذ واكون في موضعي حيث يراني، فإن عرفني فقد صدق علي، وإن لم يعرفني فقد أظهر الله برائتي، قال: فبعث ابو جعفر إلى النصراني فأتى به فقال: اصدق أمير المؤمنين عن هذا المال، قال: ياامير المؤمنين، المال لخالد، وما قلت الا حقاً، قال: أتعرف خالداً إن رأيته؟ قال: نعم ياأمير المؤمنين أعرفه إن رأيته، فالتفت أبو جعفر إلى خالد فقال: قد أظهر الله براءتك، وهذا مال أصبناه بسببك، ثم قال للنصراني: هذا الجالس خالد فكيف لم تعرفه؟ قال: الأمان يا أمير المؤمنين فأمنه، فأخبره بالقصة، فأمره أبو جعفر بحمل المال إلى بيت المال، وكان بعد ذلك لا يقبل في خالد قولاً من أحد، وازداد به ثقةً وله تقديماً. - 3 - (1) ذكر احمد بن محمد أن الفضل بن يحيى بن خالد حدثهم يوماً عن يحيى بن أبي مريم المدني، وكان يخاصم رجلاً يقال له الحلبي في الفقه، وكان ابن ابي مريم يقول بقول أهل المدينة والحلبي يقول بقول أهل العراق، قال: فلما جاء ابن أبي مريم فقال: جعلت فداءك، خاصمت اليوم الحلبي بين الملأ وأفحمته، وذاك أني سألته عن قول الله عزَ وجلً (وقيل من راق) قال إذا مات الإنسان قالت الملائكة بعضها لبعض: أيكم يرقى بروحه؟ فيقول هذا أنت، ويقول هذا أنت،

_ (1) بغية الطلب 9: 262.

فقال: هم والله أطوع من أن يتدافعوا أمره، والله ما يرضى أبو الوزير الكاتب أن يتدافع فيوج الديوان بأمره، فكيف يرضى الله بذلك من ملائكته؟ وإنما تفسير ذلك أنه إذا مرض الإنسان قيل: من راقٍ يرقيه، فقال: قال أبو علي: فقد كان ينبغي لك أن تحتج بقوله تبارك وتعالى (وظن أنه الفراق) فإن ذلك يدل على أنه حيَ بعد، فقال له ابن أبي مريم: ولو كان لي هذا العقل كنت يحيى بن خالد. - 4 - (1) وفي موسى بن يحيى بن خالد بن برمك يقول ابن أبي موسى الحلبي: ألا إنما موسى بن يحيى بن خالدٍ ... سماءٌ علينا بالرغائب تمطرُ على كل حال من يسارٍ وعلٍة ... فتروي كما تروى البقاعُ فتزهرُ وإن له في الحرب إن هي شمرت ... ودارت رحاها والقنا تتكسر سناناً شكا طول الحصار لشربةِ ... دماً من نحورٍ في الوغى تتفجر

_ (1) بغية الطلب 9: 240.

فراغ

كتاب الأحداث

- 2، 3، 4 - كتاب الأحداث لأبي جعفر محمد بن الأزهر وتاريخ محمد بن أبي الأزهر وتاريخ ابن أبي الأزهر والقطربلي

فراغ

قبل التعريف بم} لف كتاب الأحداث لابد من تقديم بعض الحقائق الضرورية، فهنالك ثلاثة أشخاص قد يقع اللبس لدى الحديث عن جهودهم في علم التاريخ وهم: 1 - أبو عبد الله بن محمد الأزهر الأخباري وهو الذي ينقل عن أبن خلكان كثيراً من الأخبار المتصلة بيعقوب بن الليث الصفار وأخيه عمر (1) وقد ذهب دي سلان إلى أن هذا هو نفسه هو محمد بن أبي الأزهر الذي ذكره السخاوي ونسب اليه كتاباً كان اسمه " الهرج والأحداث " (2) ، والفرق واضح في أن أحدهما " ابن الأزهر " والثاني " ابن أبي الأزهر " وهما يختلفان في الكنية، كما سأوضح. 2 - أبو جعفر محمد بن الأزهر من عيسى الأخباري (200، 279) ، سمع من أبن الأعرابي وغيره، وله كتاب التاريخ وهو من خيار الكتب (3) ، وهذا هو الذي نسب إليه أبن العديم الكتاب " الأحداث "، وغيره يقول: إن كتاب الأحداث لمحمد أبن أبي الأزهر (الآتي ذكره) . 3 - أبو بكر محمد بن احمد بن مزيد (أو محمد بن مزيد) المعروف بابن أبي الأزهر وهو نحوي بوسنجي توفي سنة325، وقد ضعفه المحدثون ونسبوه إلى

_ (1) وفيات الأعيان 6: 402، 404 وينتهي النقل عنه ص 415. (2) الإعلان بالتوبيخ: 156 وروزنتال: 694. (3) الفهرست: 126.

الكذب، وقد قرن أبن النديم باسمه المهرج والمرج في أخبار المستعين والمعتز (1) وكذلك فعل المسعودي حين قال: " وكتاب محمد بن أبي الأزهر في التاريخ وغيره، وكتابه المترجم بكتاب الهرج والأحداث " (2) ، وهذا يعني أن كتاب " الهرج والأحداث " كتاب واحد ولعله أن يقابل ما سماه أبن النديم " الهرج والمرج " وهنا موضوع أشكال لأن أبن العديم وهو دقيق في نقله نسب كتاب الأحداث للمكني بأبي جعفر (رقم:2) وعند السخاوي أن كتاب الهرج والأحداث لمحمد بن أبي الأزهر (دون ذكر للكنية) . فأين وجه الصواب في هذه القضية؟ من الصعب أن نخرج بحكم قاطع فأبو جعفر وأبو بكر كلاهما متعاصران إلا إن أبو بكر عمر طويلاً (إذ عاش أكثر من ثلاث وتسعين سنة) (3) وكلاهما أخباري. والقطعة التي أوردها أبن العديم تتصل بعهد المعتز (وهو محور كتاب الهرج والأحداث الذي ينسبه صاحب الفهرست والمسعودي لأبن أبي الأزهر) ، وعلى فقد نقدر أن أبن العديم وقع في الوهم رغم دقته أو أن هناك كتابين بهذا العنوان أحدهما لأبي جعفر والثاني لأبي بكر. وما دام الرجحان في نسبة الكتاب يتجه نحو أب أبي الأزهر فلا بد من إشباع القول فيه وفيه جهوده العلمية: فقد كان الرجل متعدد المعارف، ويبدو أن النحو أستأثر باهتمام كبير ومنه عرف بأنه " مستملي المبرد " (4) فهو قد أخذ عن المبرد وعن أحمد بن محمد بن منصور الخياط (5) وعن العباس بن الفرج الرياشي (6) ، ووصف

_ (1) الفهرست: 165. (2) مروج الذهب 1: 16. (3) سنة 313 كان قد مضى من عمره ثمانون سنة وثلاثة أشهر (الفهرست) . (4) إنباه الرواة 3: 70 وتاريخ العلماء النحويين: 48 وطبقات الزبيدي: 116 وأمالي القالي 1: 31. (5) تاريخ العلماء النحويين: 48. (6) إنباه الرواة 2: 367.

بأن كانت عند أخبار الرياشي (1) وعن أخذ القالي (2) والسيرافي (3) وأبو الفرج الأصبهاني والمعافى بين زكريا وأبو بكر أبن شاذان والدارقطني (4) . وقد توقف الخطيب عن دور المحدث لديه وقرر بالخبر والأمثلة انه كان كذاباً يروي المناكير (5) ، وأوردت له المصادر مقطوعين من الشعر، فالأولى (6) : لا تدع لذةَ يوم لغدٍ ... وبع الغيَ بتعجيل الرَشَدْ إنها إن أُخرتْ عن وقتها ... باختداع النفس فيها لم تعد فافشل النفسَ بها عن شغلها ... لا تفكرْ في حميم وولد أو ما خُبَرْتَ عما قيل في ... مَثَلٍ باقٍ على مرَ الأبد " إنما دنياي نفسي فإذا ... تلفت نفسي فلا عاش أحد " والثانية هي: إذا كنتُ احتاجُ في حاجتي ... وأنت صديقيَ أن أُذْكِرَكْ فحقُك عندي إذ ما قضيت ... بعد اقتضائيَ أن أهجرك فلا حظَ فيك لذي حاجةٍ ... إذا كان حضك أن يعذرك ولأبن أبي الأزهر عدد من المؤلفات منها خارج نطاق التاريخ البحت: كتاب أخبار: كتاب أخبار عقلاء المجانين (7) وكتاب أخبار قدماء البلغاء (8) .

_ (1) لإنباه الرواة 2: 368 وأخبار النحويين البصريين: 68. (2) أمالي القالي 1: 31 وإنباه الرواة 1: 208. (3) أخبار النحويين البصريين: 68. (4) بغية الوعاة 1: 242. (5) تاريخ بغداد 3: 288 - 291 والوافي بالوفيات 5: 18 وميزان الاعتدال 4: 35 ولسان الميزان 5: 377. (6) الوافي بالوفيات: 5: 18 - 19. (7) الفهرست: 165 وبغية الوعاة: 242 وكشف الظنون 1: 27 وعنه ينقل ياقوت في معجم الأدباء فيسميه أحياناً ويغفل اسمه أحياناً أخرى، انظر مثلاً: 3: 18، 13: 296، 17: 132، 150. (8) الفهرست: 165.

أما في ميدان التاريخ فقد وردت المؤلفات الآتية: (1) كتاب في التاريخ (أو في التاريخ وغيره) ، كما ذكر المسعودي وابن العديم (1) ، وكلاهما نقل عنه، فنقل عنه المسعودي خبراً متصلاً بالواقدي (2) وآخر بأبي تمام (3) . (2) كتاب الهرج والمرج أو الهرج والأحداث، كما ذكر أبن النديم والمسعودي والسيوطي (4) وينقل السخاوي عن سنان بن ثابت نقداً لهذا الكتاب جاء فيه: فألف كتاباً جعله رسالة لبعض إخوانه من الكتّاب، واستفتحه بجوامع الكلام في أخلاق النفوس وأقسامها من الناطقة والغضبية والشهوانية، وذكر لمعاً من الساسات المدنية مما ذكره أفلاطون في كتابه فيها من العشر المقالات، ولمعاً مما يجب على الملوك والوزراء، ثم خرج إلى أخبار زعم أنها صحَّتْ عنده ولم يشاهدها، ووصل ذلك بأخبار المعتضد بالله وذكر صحبته إياه وأيامه السالفة معه، ثم ترقى إلى خليفةٍ خليفةٍ في التصنيف مضادة لرسم الأخبار والتواريخ وخروجاً من عمل أهل التصنيف، وهو وإن أحسن فيه ولم يخرجه عن معانيه فإنما عيب لأنه خرج من صناعته، وتكلف ما ليس من مهنته (5) ، ولو أقبل على علمه الذي أنفرد به من علم إقليدس والمقطعات والمجسطي والمدورات، ولو أستفتح آراء بقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس مخبراً عن الأشياء الفلكية والآثار العلوية والمزاجات الطبيعية والسبب والتأليف والنتائج والمقدمات، والصنائع والمركبات، ومعرفة الطبيعيات من الإلهيات والجواهر والهيئات ومقادير الأشكال، وغير ذلك من أنواع الفلسفة، لكان قد سلم مما

_ (1) بغية الطلب 2: 35. (2) مروج الذهب 4: 331 ومعجم الأدباء 18: 280. (3) مروج الذهب 4: 371 - 374. (4) انظر أيضاً كشف الظنون 2: 2043. (5) الإعلان: من معانيه.

تكلفه، وأتى بما هو أليق بصنعته، ولكنَّ العارف بقدره معدوم، والعالم بمواضع الخلل مفقود (1) . هذا النقد نفسه أورده المسعودي في مروج الذهب (2) ، ولكنه لم يوجهه إلى كتاب الهرج والأحداث وإنما وجهه إلى سنان بن ثابت نفسه، إذ قال: " ورأيت سنان بن ثابت بن قرة البحراني حين انتحل ما ليس من صناعته واستنتج ما ليس من طريقته قد ألف كتاباً جعله رسالة إلى بعض إخوانه من الكتاب؟. إلخ " ومن الواضح هنا أن الوهم قد تلبَّس بنصّ السخاوي لورود الخبر عن أبن أبي الأزهر وعن سنان متواليين في مروج الذهب، ومما يؤيد ذلك أن لا أحد يدفع ابن أبي الأزهر عن المشاركة في التاريخ، لأن المسعودي نفسه - وهو الذي ينقل عنه السخاوي - قد أباح لنفسه النقل عن تاريخ أبن أبي الأزهر، ثم أن المشهور بمعرفة إقليدس والمجسطي والمنطق والفلسفة والطب هو سنان بن ثابت، ولا علاقة لابن أبي الأزهر بهذه العلوم، فكيف يحثُّ على التزام خطة ليس لها فيه أدنى نصيب؟ (3) كتاب في التاريخ اشترك في تأليفه مع القطربلي، وقد عرف المسعودي هذا الكتاب ونقل عنه دون أن يسميه، فحيث تجده يقرن بين الاسمين فمعنى ذلك أنه ينقل عن ذلك الكتاب، وذلك مثل قوله: حدث عبد لله بن الحسين بن سعد الكاتب (يعني القطربلي) وابن أبي الأزهر عن محمد بن يزيد النحوي المبرد؟ الخ (3) . ونقل عنه الزبيدي في طبقات النحويين فقرة تتعلق بالمبرد (4) ، كما اطلع ابن القارح عليه ونقل عنه حكاية عن أحد المتنبئين، وظن أنها تدور حول أبي الطيب المتنبي، فقال ابن القارح: حكى القطربلي

_ (1) الإعلان بالتوبيخ: 157 وروزنتال: 694. (2) مروج الذهب 1: 16. (3) مروج الذهب 4: 367. (4) طبقات النحويين: 101.

وابن أبي الأزهر في كتاب اجتمعا على تصنيفه، وأهل بغداد وأهل مصر يزعمون أنه لم يُصَنَّفْ في بغداد مثله لصغر حجمه وكبر علمه (ثم أورد حكاية المتنبي) (1) . وكان ردُّ أبي العلاء في توهين الحكاية أن المتنبي المذكور حبس بالعراق ولم يُعرف ذلك عن أبي الطيب لأنه إنما حبس في الشام (2) ، وأما اجتماع اثنتين على تأليف كتاب فذلك من الزّول - في رأي أبي العلاء - وذلك متعذَّر في بني آدم، إذ كانت الجبلة على الخلاف وقلة الموافقة (3) . وما عدَّه أبو العلاء عجيباً تؤكد وقوعه - رغم غرابته - تلك النقول الهامة التي أوردها ابن العديم في بغية الطلب. أما القطربليّ المشارك في هذا التأليف فاسمه كما ذكر المسعودي، وكما أكد ذلك أيضاً ابن العديم، عبد لله بن الحسين بن سعد الكاتب. ويؤخذ من خبر عابر في وفيات الأعيان (4) أنه كان صديقاً ليحيى بن علي المنجم وأن هذا أقام عدة أيام " في قصف وشرب وصبوح وغبوق " بمنزله في الرحبة (5) ، وعلى هذا ينتفي أن يكون القطربلي المشارك لابن ابي الأزهر في تأليف ذلك الكتاب هو الذي ذكره صاحب الفهرست باسم أحمد بن عبد لله بن الحسبن بن سعد بن مسعود القطربلي (6) ، فهذا هو القطربلي الإبن، وكان مهتماً بالتاريخ مثل والده، وله كتاب التاريخ عمله إلى أيامه، وكتاب فقر البلغاء، وكتاب المنطق. أما القطربلي الأب فقد كان له مؤلفات تمثل جهداً مستقلاً عدا الجهد الذي بذله مع ابن أبي الأزهر في ذلك الكتاب المشترك. ويذكر المسعودي أن له: " كتاب التاريخ وأخبار الخلفاء من بني العباس وغيرهم " (7) ، ويبدو أن هذا يعني

_ (1) رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء (مطبوعة مع رسالة الغفران) : 25. (2) رسالة الغفران: 410. (3) رسالة الغفران: 416، والزول: العجب. (4) وفيات الأعيان 6: 200. (5) توفي ابن المنجم هذا سنة 300هـ؟. (6) الفهرست: 138، وقد ورد هذا الخطأ في التعليق على رسالة الغفران: 410. (7) مروج الذهب 1: 16.

كتابين لا كتاباً واحداً أحدهما كتاب في التاريخ والثاني في أخبار الخلفاء، وأغلب الظن أن ما نقله المسعودي فإن مصدره هو كتاب التاريخ (1) ، وقد أكد النجاشي نسبة كتاب التاريخ له، وذكر أنه كان من خواص سيدنا أبو محمد (أي أنه كان من وجوه أهل الأدب) (2) ، فهو يوصف الكتاب، وله في مروج الذهب ثلاث مقطعات من الشعر (3) ، وكانت بينه وبين البحتري علاقة وثيقة (4) . ومن الواضح أن كلا الرجلين ابن أبي الأزهر والقطربلي كان متشيعاً في ميوله. - 1 - (5) سنة 205: وقد كان أحمد المولّد وجّه من سرّ من رأى في جماعة من الأتراك لمعونة أيوب بن حمد عند محاربته محمد بن خالد بالسُّكَير، وأتبع بسيما أخي مفلح، وكان مقداماً سفاكا للدماء فملأ ايدهما من أموال محمد بن خالد وغيره من أموال بني المعمر، ثم كتب إليهما فلحقا صفوان، فأقام سيما معه، ومضى أحمد المولّد إلى قنسرين وحمص، وقتل أحمد المولد في طريقه خلقاً كثيراً، ثم وافى حمص، وبايع مؤمل وغطيف المعتز، فأقام أياماً بحمص، ثم اغتال غطيفاً فضرب عنقه صبراً ووجه برأسه إلى سرّ من رأى، وورد الخبر على المعتز بفتوح أحمد المولد، وتوجه في طريقه إلى الشام ومعه صفوان بن إسحاق إلى أهل باجدّا، فأقام عليهم وحاصرهم حتى دخلوا في طاعة المعتز وبايعوا، وتوجه إلى حران فأقام عليها ثلاثاً، وناوشوه شيئاً من القتال ثم فتحت فبايعوا المعتز، وتتبع كور قنسرين كورة كورة يفتحها ويبايع أهلها للمعتز، خلا حلب ومنبج وإنطاكية فإنهم أقاموا على طاعة

_ (1) مروج الذهب 4: 367، 368. (2) رجال النجاشي: 170. (3) مروج الذهب 5: 117، 182. (4) انظر أخبار البحتري: 51 وديوانه. (5) بغية الطلب 2: 165 (من كتاب الأحداث لأبي جعفر محمد بن الأزهر) .

المستعين مع محمد بن هارون بن العوفية، فقتل منهم أبو العوفية مقتلة عظيمة، ثم دخل أحمد المولد البلد فبايعه أهلها. - 1 - (1) سنة 215: فيها [ولي حلب والعواصم بأسرها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين، استعمله عليها المأمون وعزل ابنه العباس بن المأمون] ثم عزل المأمون إسحاق بن إبراهيم في هذه السنة وأعاد ابنه العباس بن المأمون إلى الولاية وعقد لإسحاق ولاية مصر. وقد روي عنه إنشاد من الشعر، وحكى عنه أحمد بن محمد بن المدبر وأبو حشيشة، وكان أميراً عاقلاً متميزاً مذكوراً، وجيهاً كريم الأخلاق، وعظم أمره عند المتوكل حتى جعل إليه أمر القضاء، فعزل وولّى. - 2 - (2) وذكر الفضل بن مروان أن أشناس (3) كان إذا سكر عربد، وكانت امرأته غالبة عليه، وكان يخافها خوفاً شديداً، فإذا بلغها عربدته شدت عليها ثيابها وأخذت قوسها وسهمها ووقفت بإزائه تشتمه وتهدد فينام، فشق ذلك على المعتصم فبعثني إليها أنكر عليها فعلها واعرفها محل أشناس وجلالته، وان هذا يغض منه فقالت: ما أجيبك إلا بحضرته، فلما حضر قالت له: أتكره ما أفعله أم تحبه؟ قال: بل احبه واسر به فقالت: ما عندي لك جواب غير هذا، قال: فرجعت للمعتصم فأخبرته فأمسك عنها. ومات أشناس سنة ثلاثين ومائتين في شهر ربيع الأول.

_ (1) بغية الطلب 2: 235 (من تاريخ محمد بن أبي الأزهر الكاتب) . (2) بغية الطلب 3: 247 (من تاريخ ابن أبي الأزهر) . (3) كان أشناس التركي قائداً مذكوراً في عهد المأمون والمعتصم وكان على مقدمة المعتصم في فتح عمورية.

- 1 - (1) سنة 226: وفيها مات إسحاق بن عيسى الطباع بأذنه - 2 - (2) سنة 282: وفي شعبان منها كان الفداء بين المسلمين والروم على يد أحمد ابن طغان (3) وورد كتاب فيه: أعلمك أن أحمد بن طغان نادى في الناس بحضور الغداء نادي في الناس بحضور الغداء، وأنه صلّى في الجامع وركب منه، ومعه راغب ومواليه ووجوه البلد والقواد والموالي والمطوعة، بأحسن زي وأكمل عدة، ووقع الفداء يوم الثلاثاء لتسع خلون منه، فأقاموا على ذلك اثني عشر يوماً، فكان جملة من فدي به من المسلمين من رجل وإمرأة وصبي ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس، وأنصرف الفريقان، وخرج أحمد بن طغان وأستخلف على طرسوس دميانة ولم يعد إلى طرسوس. ولما كان في هذا الشهر - يعني في صفر سنة أربع وثمانين - وافى يوسف بن البغامردي يخلف بن طغان على طرسوس، فهوى به دميانه، فوثب براغب، فنصر راغب وقبض على دميانه، وابن البغامردي وابن اليتيم، فقيدهم وبعث بهم إلى بغداد، وكتب أهل طرسوس إلى هارون بن خمارويه: لا توجه إلين إلينا واليا من قبلك، فإن اتانا قاتلناه، فكف عنهم، وبعثوا إلى المعتضد ليولي عليهم والياً. - 3 - (4) سنة 289: وفي آخر هذه السنة ظهر رجل يقال له محمد بن عبد الله بن يحيي

_ (1) بغية الطلب 2: 290 (من تاريخ القطربلي وابن أبي الأزهر) . (2) بغية الطلب 1: 117 (من تاريخ القطربلي وابن أبي الأزهر) (3) قائد من قواد خمارويه بن أحمد بن طولون ولي على طرسوس وعلى جميع الثغور الشامية سنة 279 وعزل عنها محمد بن بن موسى الأعرج، وكان أحمد بن طغان حسن السيرة في تدبير الثغور مشكور السياسة وله غناء في الجهاد، وإليه ينسب المدي الطغائي الذي كان أهل طرسوس يتعارفونه. (4) بغية الطلب 1: 132 (من تاريخ القطربلي وابن أبي الأزهر) .

من ولد إسماعيل بن جعفر العلوي بنواحي دمشق يدعو إلى نفسه واجتمع إليه خلق كثير من الأعراب وأتباع الفتن، فسار بهم اإلى دمشق وكان بهم طغج بن جف موالى أمير المؤمنين على مصر والشام، فلما بلغه خبره استعد لحربه، وتحصن بدمشق فحصر هذا العلوي بها وكانت بينهما وقعات. - 4 - (1) سنة 290: وفي هذه السنة جرت بين طغج بن جف وبين القرمطي حروب كثيرة، كلها على طغج، فكتب إلى هارون يستنجده، فوجه إليه من مصر جيشاً بعد جيش، وكان ذلك يهزمهم القرمطي، ثم وجه هارون بن خمارويه ببدر الحمامي، وكتب إلى طغج في معاضدته، وضمّ إليه وجوه القواد بمصر والشام. وخرج إلى القرمطي كان بينهم حروب كثيرة أتت على أصحاب بدر الحمامي. وكان هذا القرمطي قد جعل علامته ركوبَ جملٍ من جماله، وترك ركوب الدواب، ولبس ثياباً واسعة وتعمم عمة أعربية، وأمر أصحابه ألا يحارب أحداً وأن أُتِيَ عليهم، حتى ينبعث الجمل من قبل نفسه من غير أن يثيره أحد، فكانوا إذا فعلوا ذلك لم يهزموا، وكان إ ذا أشار بيده إلى ناحية من النواحي إنهزم من يحاربه، واستغوى بذلك الأعراب، فخرج إليه بدر يوماً لمحاربته فقصد القرمطي رجل من أصحاب بدر يقال له زهير بزانة فرماه بها فقتله، ولم يظهر على ذلك أصحاب بدر إلا بعد مدة، فطلب في القتلى فلم يوجد، وكان يكنى أبا القاسم. قال ابن أبي الأزهر: وحدثني كاتبه المعروف بإسماعيل بن النعمان - ويكنى بأبي المحمدين - وسبب هذه الكنية أنه وافى مع جماعه من القرامطة بعد الصلح وقبولهم الأمان من القاسم بن سيما وكان على طريق الفرات ومن عبد الله بن

_ (1) بغية الطلب 1: 122 - 137 (من تاريخ القطربلي وابن أبي الأزهر) .

الحسين بن سعد وكان على القابون، فكان القاسم بن سيما يكنى أبى محمد وصاحب الخرائط قرابة أبي مروان يكنى أبا محمد فكنى إسماعيل هذا أبا المحمدين فبقي معروفاً بذلك، فحدثني إسماعيل عن هذه الوقعة قال: فصرت أليه غير مرة وهو راكب على نجيبه، وعليه دراعة ملحم، فقلت له: قد اشتد الأمر على أصحابنا، وقد قربوا منك، فتنح عن هذا الموضوع إلى غيره، فلم يرد علي جواباً ولم يثر نجيبه، فعدلت أليه ثانية فقلت له: قم، فانتهرني ولم يرم إلى أن وافته زانة - أو قال: حربة فسقط عن البعير، وكاثرنا من يريد أخذه فمنعنا منه، وقتل زهاء مائة إنسان في ذلك الموضوع، ثم أخذنا وتنحينا بأجمعنا. فقلت: أهذا الذي أقمتموه مقامه أهو أخوه؟ فقال: لا والله ما نعلم ذلك، غير أنه وافانا قبل هذه الحادثة بيومين فسألناه من أنت من الأمام؟ فقال: أنا أخوه، ولم نسمع من الشيخ شيئاً في أمره - يعني المتكني بأبي القاسم وكان هذا المدعي أخاه يكنى أبا العباس، وأسمه أحمد بن عبد الله، فعقد لنفسه البيعة على القرامطة، ودعاهم إلى مثل ما كان أخوه يدعوهم إليه، فاشتدت شوكته، ورغبت البوادي في النهب، وانثالت عليه أنثيالاً، وذلك في آخر شهر ربيع الآخر من هذه السنة، ثم صار إلى دمشق فصالحه أهلها على خراج دفعوه إليه، فانصرف عنهم، ثم سار إلى أطراف دمشق وحمص فتغلب عليها وخطب له على منابرها، وتسمى بالمهدي، ثم صار إلى مدينة حمص فأطاعه أهلها وفتحوا له بابها فدخلها، ثم صار إلى حماة وسلمية وبعلبك فاستباح أهلها وقتل الذراري ولم يبق شريفاً لشرفه ولا صغيراً لصغره ولا امرأة لمحرمها، وقتل أهل الذمة وفجروا بالنساء. حدثني من كان معهم قال: رأيت عصاماً سيافه وقد اخذ من بعلبك امرأة جميلة جداً، ومعها طفل لها رضيع، فرأيته والله قد فجر بها، ثم أخذ الطفل بعد ذلك فرمى به قطعتين، ثم عدل إلى أمه بذلك السيف نفسه فضربها به فبترها. فلما اتصل عظيم خبرهم إقدامهم على انتهاك المحارم ودام، خرج أمير المؤمنين المكتفي بالله متوجهاً نحوه يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر رمضان في قواده ومواليه وغلمانه وجيوشه، وأخذ على طريق

الموصل، ثم صار إلى الرقة وأقام بها، وأنفذ الجيوش نحو القرامطة، وقلد القاسم ابن عبيد الله بن سليمان تدبير أمر هذه الجيوش، فوجه القاسم: محمد بن سليمان الكاتب صاحب الجيش خليفةً له على جميع القواد، وأمرهم بالسمع والطاعة، فنفذ عن الرقة في جيش ضخم وآلة جميلة وسلاح شاك، وكتب إلى جميع القواد والأمراء في النواحي بالسمع له والطاعة لأمره، وضم محمد بن سليمان القواد بعضهم إلى بعض، وصمد نحو القرمطي، فلم يزل يعمل التدبير ويذكي العيون ويشاور ذوي الرأي ويتعرف الطرقات إلى أن دخلت سنة إحدى وتسعين. وفي أول السنة كتب أمير المؤمنين إلى محمد بن سليمان وإلى سائر القواد ومناهضة القرمطي فساروا إليه، فالتقوا على اثني عشر ميلاً من حماة في موضع بينه وبين سليمة، فاشتدت الحرب بينهم وصدقوهم القتال، فتجمع القرامطة وحملوا على الميمنة حملة رجل واحد، فثبت الأولياء فمروا صادفين عنها وجعلوها هزيمة، ومنح الله أكتافهم، وقتل منهم وأسر أكثر من عشرة آلاف رجل، وشرد الباقون في البوادي، واستمرت بهم الهزيمة، وطلبهم الأولياء إلى وقت صلاة عشاء الآخرة من ليلة الأربعاء لسبع خلون من المحرم. ولما رأى القرمطي ذلك ورأى من بقي من القرامطة قد كاعوا عنه حمل أخاً له يدعى أبا الفضل مالاً وتقدم إليه أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر في موضع آخر فيصير إليه. وتجمع رؤساء القرامطة وهم الذين كانوا صاروا إلى رحبة مالك بن طوق فطلبوا الأمان، وهم أبو المحمدين والنعمان بن أحمد وأحمد بن النعمان أخو أبي المحمدين ووشاج وعطير وشديد بن ربعي وكليب من رهط النحاس وعصمة السياف وسحيفة رفيقة ومسرور وغشام، فقالوا للقرمطي وهو صاحب الخال: وقد وجب حقك علينا، وقد رأيت ما كان من جدنا واجتهادنا، ومن حقك علينا أننا ندعك ورأيك، وإنما يطلبنا السلطان بسببك، فانج بنفسك، فأخذ ألف دينار فشدها في وسطه في هميان، وأخذ معه غلاماً له رومياً يقال له لؤلؤ كان يهواه ويحل من محل بدر من المعتضد بالله، وركب معه المدثر، وكان يزعم أنه أبن عمه، والمطوق غلامه، ومع كل واحد هميان في وسطه، فأما المطوق وهو أتخذ له سخابٌ وقت دخوله إلى مدينة السلام

فإني سألت عنه أبا المحمدين فذكر لأن رجل من أهل الموصل، وأنه صار إلى الأمام بزعمه، فجعل يورق له ويسامره، ولم يعرف قبل ذلك الوقت، واخذ دليلاً وسار يريد الكوفة عرضاً من البرية، فغلط بهم الدليل الطريق، وأخرجهم بموضع بين الدالية والرحبة يقال له بنو محرز، فلما صاروا إلى بني محرز نزلوا خارج القرية في بيدر عامر فأخرجوا دقيقاً كان معهم في مزود واقتدحوا ناراً واحتطبوا ليخبزوا هناك، وكان وقت مغيب الشمس، فعلا الدخان، وأرتاب الموكلون ببني محرز من أصحاب المسالح بما رأوه، فأموا الموضع فلقوا الدليل، فعرفه بعضهم فقال: ما وراءك؟ قال: هذا القرمطي وراء الدالية، فشدُّوا عليهم فأخذوهم، وكتبوا إلى أبي خبزة وهو في الدالية يعلمونه بهذا، فأتاهم ليلاً فأخذهم وصار بهم إلى الدالية، وأخذ من وسط غلام له همياناً فيه ألف دينار ومن وسط المدثر مثل ذلك، وأخذ الهميان الذي كان مع القرمطي، ووكل بهم في دارٍ بالدالية، وكتب إلى أحمد بن محمد بن كشمرد، وهوبالرحبة، يخبره، فأسرع السير اليهم، فلنا وافى احتبس القرمطي في بيت لطيف في مجنب الحيري. فحدثني بعض اهل الدالية قال: لما وافى ابن كشمرد سأل القرمطي: ماذا اُخِذَ منك؟ قال: ما أُخِذَ مني شيء، فقال له المطوق: أتبغي من الإمام ما لا يحسن منه الإقرار به؟ ودعا بالبزاز فأخذ ثياباً، ثم دعا بالخياط ليقطع للقرمطي تلك الثياب، فقال الخياط للقرمطي: قمْ حتى أقدِّرَ الثوبَ عليك، فقال المطوق للخياط: أتقول يا أبن اللخناء للإمام قم؟ اقطع - ثكلتك أمك - على سبعة أشبار. وصار أبن كشمرد وأبو خبزة بالقرمطي إلى الرقة، ورجعت جيوش أمير المؤمنين بعد أن تلقطوا كل من قدروا عليه من أصحاب القرمطي في أعمال حمص ونواحيها. وورد كتاب القاسم بن عبيد الله بأن القرمطي أُدخلَ الرقةَ ظاهراً للناس على جملٍ فالج، وعليه برنس حرير ودراعة ديباج، وبين يديه المدثر والمطوق على جملين، في يوم الاثنين لأربع ليال من المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين، حتى صير بهم إلى دار أمير المؤمنين بالرقة، فأوقفوا بين يديه، ثم أمر بهم فحبسوا، واستبشر الناس والأولياء بما هناه الله في أمر هذا القرمطي، وقرظ أمير المؤمنين

القاسم بن عبيد الله في هذا الوقت وأحمده فيما كان من تدبيره في أمر هذا الفتح، وخلع عليه خلعةً شرَّفه بها، وقلده سيفاً، ولقبه بولي الدولة، وانصرف إلى منزله بالرقة. وخلف أمير المؤمنين عساكره مع محمد بن سليمان، وشخص من الرقة في غلمانه ووجوه من أصحابه وحرمه، وشخص معه أبو الحسين القاسم بن عبيد الله إلى بغداد، وجعل معه القرمطي والمدثر والمطوق وجماعه ممن أسر في الوقعة، مستهلَّ صفر، وقعد في الحراقات في الفرات، ولم يزل متلوماً في الطريق حتى وصل إلى البستان المعروف بالبشرى ليلة السبت لليلتين بقتا من صفر، فأقام به، ثم عبر من هناك إلى الجانب الشرقي، فعبأ الجيوش بباب الشماسية، وكان أمير المؤمنين قد عزم على أن يدخل القرمطي بغداد مصلوباً على دقل، والدقل على ظهر فيل، وأمر بهدم الطاقات التي يجتاز بها الفيل إذا كانت أقصر من الدقل، ثم استسمج ذلك، فعمل له دميانة غلام بازمار كرسياً ارتفاعه ذراعان ونصف، وأجلسه عليه وركّبَ الكرسيَ على ظهر الفيل، فدخل أمير المؤمنين مدينة السلام صبيحة يوم الاثنين مستهل ربيع الأول في زي حسن وتعبئة وجيش كثيف وآلة تامة وسلاح شاك، وقدَّم الأسرى على جمال مقيدين عليهم دراريع حرير وبرانس حرير، ثم قدم المدثر بين يدي القرمطي فألج وعليه دراعة ديباج وبرنس حرير، ثم دخل دخل أمير المؤمنين خلفه حتى أشتق مدينة السلام إ لى قصره المعروف بالحسني، والقاسم بن عبيد الله خلفة. وأمر بالقرمطي والمدثر فأدخلا الحبس بالحسني، ووجه بالأسرى إلى الجبس الجديد بالجانب الغربي، ومضى المتكفي من ساعته من الحسني إلى الثريا بعد أن خلع على أبي الحسين القاسم بن عبيد الله وانصرف إلى منزله. ووافى محمد بن سليمان بعد أن إصلاحه الأمور، وتلقطه جماعة من قواد القرمطي وقضاته وأصحاب شرطة، فأخذهم وقيدهم وأنحدر والقواد الذين تخلفوا معه إلى مدينة السلام فوافى بغداد إلى الباب المعروف بباب الأنبار ليلة الخميس لإحدى عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكان قد أمر القواد جميعاً بتلقي محمد بن سليمان والدخول معه إلى بغداد، ففعلوا ذلك، ودخل محمد بن سليمان صبيحة يوم الخميس وبين يديه نيف وسبعون أسيراً غير من أسمينا، والقواد معه

حتى صاروا إلى دار أمير المؤمنين بالثريا، فدخلوا عليه، وأمر أن يخلع على محمد أبن سليمان ويطوق بطوق ذهب ويسور بسوارين، وخلع على جميع القواد القادمين معه وطوقوا وسوروا وانصرفوا إلى منازلهم، وأدخل الأسرى إلى الحبس الجديد بمدينة السلام في الجانب الغربي منها. فلما كان في يوم السبت لعشر بقين من شهر ربيع الأول بنيت دكة في المصلى العتيق من الجانب الشرقي الذي تخرج إليه الثلاثة الأبواب ومن باب خرسان، تكسير ذراعها عشرون ذراعاً، وجعل لها أربع درج يصعد منها إليها، وأمر القواد جميعاً بحضور هذه الدكة، ونودي بذلك في الناس أن يحضروا عذاب القرامطة ففعلوا، وكثر الناس في هذا الموضع، وحضر القواد والواثقي المتقلد للشرطة بمدينة السلام، وحضر محمد بن سليمان، فقعدوا جميعاً عليها، وأحضروها وثلاثمائة ونيفاً وعشرين إنساناً ممن كان اسر قديماً ومن جاء به محمد بن سليمان، وأحضر القرمطي والمدثر فاقعدوا، نيف وثلاثون إنساناً من هؤلاء الأسارى من وجوههم، فقطعت أيديهم وأرجلهم وضربت أعناقهم ثم قطع القرمطي فضرب مائتي سوط، ورش على الضرب الزيت المغلي وكوي بالجمر، ثم قطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه، فلما قتل وانصرف القواد وأكثر الناس ممن حضر للنظر إلى عذاب القرمطي، وأقام الواثقي إلى وقت العشاء الآخرة في جماعة من أصحابه حتى ضرب أعناق باقي الاسارى، ثم انصرف. فلما كان يوم الأربعاء لست بقين من هذا الشهر، صير ببدن القرمطي إلى باب الجسر الأعلى من الجانب الشرقي فصلب هناك، وحفر لأجساد القتلى آبار إلى جانب الدكة فطرحوا فيها وطمت، فلما كان بعد أمر بدهم الدكة وتعفية أثرها، ففعل ذلك. - 5 - (1) سنة 293: قال ابن أبي الأزهر: وفيها ورد الخبر بأن أخا الحسين زكرويه المعروف بصاحب الشاملة ظهر بالبداية من طريق الفرات في نفر، واجتمع إليه

_ (1) بغية الطلب 1: 137.

جماعة من الأعراب، وسار بهم إلى إلى نحو دمشق، فعاث في نواحيها، فندب للخروج إليه حسين بن حمدان، فخرج في جماعة وورد الخبر برجوعه إلى الدالية. فحدث محمد بن داود بن الجراح أن زكرويه بعد قتل صاحب الشامة انفذ رجلاً كان معلماً للصبيان يقال له عبد الله بن سعيد، فتسمى نصراً ليخفى أمره، فدار في أحياء كلب يدعوهم إلى رأيه، فاستجاب له جماعة من صعاليكهم وسقاطهم وسقاط العليصيين، فسار بهم إلى بصرى وأذرعات من كورتي حوران والبثنية، فقتل وسبى وأخذ الأموال. قال أنفذ زكرويه رجلاً يقال له القاسم بن أحمد داعية فصار إلى نحو رستاق نهر ملخانا، قال: فالتفت به طائفة فساروا حتى الكوفة حتى صبحوها غطاة يوم النحر، وهم غارون فوافو باب الكوفة عند انصراف الناس من المصلى، فأوقعوا بمن قدروا عليه وسلبوا وقتلوا نحواً عشرين رجلاً، وكان رئيسهم هذا قد حملوه في قبة يقولون: هذا أبن رسول الله، وهو القاسم بن أحمد داعية زكروية وينادون: يا ثارات الحسين، يعنون بالحسين صاحب الشامة، وشعارهم يا محمد يا أحمد، يعنون أبني زكروية ويموهون بهذا القول على أهل الكوفة، ونذر بهم الناس فرموهم بالحجارة من المنازل. 6 - (1) سنة 302: وفيها جلس الوزير علي بن عيسىللنظر في المظالم، وأحضر مجلسه المتنبي (2) وكان محبوساً ليخلي سبيله، فناظره القضاة والفقهاء، فقال: أنا أحمد النبي، ولي علامة في بطني خاتم النبوة، وكشف عن بطنه وأراهم شبيهاً بحبسه في المطبق.

_ (1) بغية الطلب 1: 34. (2) وهم علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح فظن أن هذا المتنبي هو أبو الطيب، وذكر الحادثة في رسالته إلى المعري، والحادثة كانت سنة 302 ولم يكن المتنبي ولد بعد، وأبو محمد عبد الله بن الحسين الكاتب القطربلي ومحمد بن أبي الأزهر ماتا جميعاً قبل أن يترعرع المتنبي ويعرف، وهذا المتنبي الذي أحضره علي بن عيسى هو رجل من أهل أصبهان تنبأ في أيام المقتدر يقال له أحمد بن عبد الرحيم الأصبهاني.

سير الثغور

5 - (1) سير الثغور لأبي عمر وعثمان بن عبد الله بن إبراهيم الطرسوسي 100/ - 1010

_ (1) معجم الأدباء 12: 128 - 129.

فراغ

نسبة أبو عمرو إلى طرسوس قد تشير إلا أنه ولد فيها، وفيها تلقى علمه، ولقي عدداً من شيوخها ومن المقيمين فيها وروى عنهم الحديث مثل أبي الحسن أحمد بن محمد بن سلام الطرسوسي وأبن العلاف محمد بن عيسى البغدادي وأبي عمران موسى بن القاسم الأشيب القاضي، وقرأ فيها على أبي بكر الإسكاف، وسمع كتاب القراءات لأبن مجاهد على إسحاق بن خلود، ثم أرتحل في طلب العلم، فسمح بدمشق وبطرابلس وغيرهما من بلاد الشام. وتولى القضاء بمعرة النعمان ثم بكفرطاب ن وكان حسن الخط رغم سرعته في الكتابة، فنسخ كثيراً وجمع وصنف، فقد رأى ياقوت بخطه كثيراً من كتب الأدب والشعر، كما جمع دواوين لشعراء عصره ممن عاصر سيف الدولة،ابنه مثل أبي العباس الصفري، وصنف كتاباً في أخبار الحجاب. أما كتابه " سير الثغور " فإنه يدل على علاقة وثيقة بثغر طرسوس، ومعرفة تامة بخططه، وعدد كبير من الصلحاء والأئمة والمجاهدين الذين عاشوا فيه، وفيه شهادات سماعية عن بعض فرسان طرسوسمثل يمن بن عبد الله الربداني، وأبان أبن أحمد بن أبن، وأعينها مثل أحمد بن هارون الكوفي، ومجاهديهما مثل أبي الطيب الجرجرائي وغيرهم، وهو يتحدث في كتابه اعتماداً على المشاهدة: " وقد رأيت في هذا المسجد (مسجد طرسوس) ما لا أحصي..) . وقد ألف الطرسوسي هذا الكتاب للوزير أبي الفضل جعفر بن الفرات (1) وهو

_ (1) بغية الطلب 7: 13، 9: 212.

وزير كافور المعروف بابن حنزابة (308؟ 391/ 921 - 1001) (1) وكان رجلاً مكرماً للعلماء محباً لهم. وحديثه في الكتاب يدل على أن ذلك الثغر كان ما يزال قائماً بدوره وناسه كما عرفهم أبو عمر، ونحن نعرف ان نقفور قد أنهى " دور الرباط " الذي اضطلعت به طرسوس سنة 354، وهذا يعني أن تأليف ذلك الكتاب تم بعد ذلك الحادث، وهو أمر مقبول من الوجهة الزمنية بالنسبة لحياة المؤلف وحياة الوزير نفسه، ولكننا لا ندري أية صلة للطرسوسي بمصر، إذ معظم نشاطه الذي نعرفه كان محصوراً في نطاق الديار الشامية. كذلك فأن عنوان الكتاب " سير الثغور " يعني انه يشمل ثغوراً أخرى عدا طرسوس (أنظر الملحقات) . 1 - (2) [قال في ذكر طرسوس ومنازلها] :ويلاصق شارع البرامكة إلى جهة الغرب دار راغب مولى الموفق بالله (3) وهي الدار الصغيرة، فيها مواليه وموالياته وأولادهم في حُجَرٍ مفروزة، وكانت الرياسة فيهم إلى بشرى الراغبي، ثم انتقلت إلى أحمد ابن بشرى ووقوفهم بنقابلس وغيرها، وضياع في أعمال طرسوس بنواحي باب قَلَمْيَة (4) منها ما يضمن ومنها ما يُقَوّم. . تم تسير فتجد عجالين؟ يسارك إلى دار راغب الكبيرة، وهي على مثال

_ (1) ترجمته في معجم الأدباء 7: 163 - 177 وتاريخ بغداد 7: 334 ووفيات الأعيان: 346. (2) بغية الطلب 7: 13. (3) كان في طرسوس سنة 284 وفي ذلك العام نشأت فتنة بينه وبين دميانة، لأن راغباً ترك الدعاء لهارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ودعا لبدر مولى المعتضد فانتصر راغب وحمل دميانة إلى بغداد، وفي السنة التالية (285) غزا في البحر، وغنم مراكب كثيرة وفتح عدة حصون (ابن الأثير 7: 484، 491) وفي التي تليها استدعاه المعتضد وهو بالرقة وحبسه بعد أيام (ابن الأثير 7: 496) . (4) قلمية تقع على ستة أميال من طرسوس (ابن الأثير 7: 406) وبها يسمى أحد أبواب طرسوس " باب قلمية " (معجم ياقوت 4: 166) .

دار السيدة غير أن تلك على فناء، وفي هذه الدار خدم وشيخ من الفرسان المقدمين منهم أبو هلال الراغبي؟ - 2 - (1) وفي هذا الدار [يعني دار راغب الكبرى] خدم وشيوخ من الفرسان المتقدمين منهم ابو هلال الغرابي، أدركته أنا وهو ابن قريب من مائة سنة. وحدثني أبو الطيب يمن بن عبد الله الزبداني، أحد فرسان طرسوس وقوادها، أنهم كانوا في بعض المغازي، فوافوا العدو، فظفر أبو هلال الخادم الراغبي بالمرلس أحد فرسان الروم، فأخذه أسيراً، فعرفه المرلس نفسه وقال: أبق علي فأنا المرلس، فدفعه إلى بعض السواس أو المكارين وقال له: امض به إلى الأمير ثمل (2) وعرفه انك أنت أسرته ليدفع إليك ما جرى الرسم بمثله في من أخذ أخيذاً. فلما فلما حصل عند ثمل قال له: من أسرك؟ قال: رجل خادم من حاله وعلامته، وجدته على فرس من شيته، والة ٍ وسلاح هو كذا وكذا، قال له ثمل: وما أخذك هذا السائس؟ قال: لا، فأذن فأذن ثمل للناس في المقام في ذلك المنزل، وكان إذا أقام العسكر في بلاد الروم بمكان نودي: ألا إن الأمير مقيم ليتسع الناس في الذبائح وغيرها من المآكل، ومن عرض له قبل الأمير مهم قصد في مضربه فقضى وطره. فلما أقام أتاه المسلمون بالتهنئة بالفتح وبالمظفر بالمرلس، والمرلس جالس بقرب ثمل مناجاته، فكلما دخل رجل للسلام قال له ثمل: أهذا الذي أسرك؟ فيقول: لا حتى جاء أبو هلال الراغبي فقام المرلس قائماً، وسجد لأبي هلال تعظيماً، قال لثمل: أيها الأمير هذا الذي أسرني، فقال أبو هلال: ما أعرف شيئاً مما تقول ولا هو أخيذي، فاستحلفه ثمل بحياته، فقال: نعم إلا أنه ليس من المروة أن يظهر الرجل حسن أفعاله، وإنما

_ (1) بغية الطلب 9: 212. (2) كان ثمل متولي الغزو في البحر منذ سنة 306 وله عدة غزوات بحرية، ثم أصبح والياً لطرسوس (انظر صفحات متفرقة من الجزء 8 من تاريخ ابن الأثير) .

يحسن بالإنسان أن يحدث عنه غيره بما يأتي من الجميل. قال ثمل: يا أبا هلال لو غيرك أخذ المرلس لم يسعنا معه أرض النصرانية ولا أرض الإسلام، قال أبو هلال: فأطلق للسائس أن يتكلم، قال ثمل: لا رونق للكذب ولا نفاذ. - 3 - (1) [ذكر سكة تعرف بابن دينار بطرسوس وقال] :فيها دور بني جهور القضاة، وآخر من مات منهم القاضي أبو الطيب ابن جهور وعنه كتبنا كتاب الفرائض تصنيف احمد بن فهد بن خالد بن مقرن، توفي عن خمسمائة ألف درهم سوى دوره وضياعه، وخلف ولدين وأبنة فأما الولد الذكر فإنه أنفق جميع ما خصه من ميراثه عن ابيه في مدة ثمانية أشهر كما ينفقه الشباب في بطالتهم، وتوفي ودفن إلى جانب أبيه. - 4 - (2) وفي الشارع [يعني شارع النهر بطرسوس] من الدور المذكورة دار ابن القحطبي على ضفة نهر بردان؟ وفيها كان يسكن أبو القاسم القحطبي أحد صلحاء الصوفية وأبو القاسم الأبار أحد الزهاد الأخيار. - 5 - (3) [في ذكر المسجد الجامع بطرسوس] : وفي هذا المسجد أقوام معروفون راتبون لا يقرأ عليهم، متوجهون إلى القبلة يصلون نافلة نهارهم أجمع إلا في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، لا يشغلهم عن ذلك إلا النداء بالنفير أو الغزو، أو

_ (1) بغية الطلب 9: 115. (2) بغية الطلب 9: 174. (3) بغية الطلب 2: 262.

تجديد أوتشييع جنازة من يموت من الصالحين، أو عيادة مريض من المجاهدين، منهم ابو يعقوب بن إبراهيم الشهرزوري، ما زال لازماً للجانب الغربي من منبر طرسوس عشرين سنة لا يفارقه، إذا أخذ المؤذنون في أذان صلاة الظهر ختم القرآن قائماً مصلياً أو كاد يختم، ثم يصلي من الظهر إلى العصر كذلك، هذا دأبه إلى أن مات، رحمه الله. - 6 - (1) وقد رأيت في هذا المسجد ما لا أحصي، فممن أذكره وأعرف أبو يعقوب إسحاق بن خلاد التيلمي، وقد قرأت عليه مراراً عدة قراءات، وسمعت منه كتاب القراءات، لأبي بكر أبن مجاهد من أوله إلى آخره، فمر في مجلسه الذي يقرأ فيه أكثر من ثلاثين شيخاً قراء أستاذين عباداً يشار إليهم بالفضل والنبل والورد والزهد. فأما قوام إسحاق بن خلاد فإنه كان إذا فرغ صحى كل يوم من دراسة من يقرأ عليه صار إلى بستان قد فارق صاحبه على أجرته لعمله في كل يوم قبل شيءً من القت معلوم بثلثي درهم، ينفق من ذلك في مئونته ومؤونة زوجته ثلث درهم ويتصدق بما يبقى، ولم يذق شيئاً من الفاكهة بيده أربعين سنة، وعمله في البستان، وهو يسرد الصوم خمسين سنة، وهذا دأبه. - 7 - (2) وفي هذا المسجد [مسجد طرسوس] زبرج الثلمي الأسود، ترك اللذة وزينة الدنيا في أيام ثمل رحمه الله وحفظ القرآن وبرع فيه وتنسك وجعل قوته من المباح وقوام عيشه مما يجمعه منه من سنة إلى سنة، وكان يأوي إلى دويرة له بباب الصاف، طريقه أليها على رجل يعرف بأبي الحسن أبن العلاء الأذني وكان ابن

_ (1) بغية الطلب 2: 269. (2) بغية الطلب 7: 142.

العلاء هذا من تناء مدينة أذنة وأحد وجوهها ويظهر حب الصالحين ويداخل أهل حصن أولاس ومن يجري مجراهم، فوشى به إلى بني عبد الباقي من أفسد حاله معهم، واقتضت الصورة أن ينحاز على أذنة إلى طرسوس لأنها كانت ملجأ كل طريد وعصمة كل شريد، وكان ذا لسان وحال، فحدث زبرج الثلمي من يأنس به أن أبن العلاء هذا سأله مراراً ورغب أليه أن يجعل إفطاره عنده وأنه لما أكثر عليه استحي منه فأجابه، فقدم له طعاماً عند زبرج بمأكل منه بعيد، فنال منه زيادة على العادة من قوته وما وظفه على نفسه وجاء إلى منزله فقام إلى وردة فلم يطق القيام لغلبة النوم عليه، فنام ورأى في منامه رجلاً أسود قد تناول عصا أطول ما يكون يضرب بها زبرجاً ولا يقلع عنه ويكرر عليه، قال زبرج: فقلت يا هذا كم تضربني، ولأي ذنب تضربني؟ قال: الساعة أقول لك، فما زال ينتبه في منامه وتغلب عليه ويعود الأسود لضربه، ويسأله زبرج عن ذنبه ليتنصل منها ويعتذر إليه، فلما بلغ فيه غايةَ ما يكره وكدَّه وتعسّفه بالضرب المبرّح، قال له: يا زبرج أتأكل طعامَ ابنِ العلاء؟ هذا الضربُ لذلك. قال فقلت: فإني لا أعود، قال: إن عدتَ عدنا. فأصبح كئيباً مهموماً، واجتاز بابن أبي العلاء (1) لأنه على مدرجةِ طريقه وقد استحكم طَعَمه فيه، فعاوده يسألُ أن يفطرَ عنده، فأبى، وعاوده وسأله ورغب إليه وقبّل بين عينيه ويديه ورجليه فقال: يا هذا ما يمكنُ بعدها أن أذوق لك طعاماً، فضيق عليه موضع الاعتذار، فحدثه بما رأى في منامه، ففارقه ولم يعدْ لمثلها. وخرج زبرج عن طرسوس، وخواصُّ الناس ينظرون إليه نظرهم إلى أبي الخير صاحب التينات أو أفضل، لأن زبرجاً من القراء المجاهدين، وحصل ببيت المقدس يشار إليه ومات بها رحمة الله عليه [قال ابن العديم: أظن أن زبرجاً خرج من طرسوس إلى بيت المقدس لما استولى نقفور على طرسوس في شعبان سنة 354والله أعلم] . - 8 - (2) وقد صلى بأهل هذا المسجد أئمة من أهل العفاف والستر، واليقين والتقوى

_ (1) كذا في الأصل. (2) بغية الطلب 9: 239.

والصبر والزهادة والعبادة وسموّ الذكر، منزلتهم في الدنيا والآخرة عظيمة، ومواقع منافع الإسلام وأهله بهم حسنة جسيمة، يُفْتَخَرُ بذكرهم عند القراء، وتستزل بهم بركات السماء منهم أبن أبي قباس، وكان من فرسان المحراب. حدثني أبو حفص عمر بن أحمد البروجردي المقرئ، شيخ عابد فاضل، قال: حدثني أستاذي السوسندرجي أن أبن أبي قباس كان إذا قرأ في محراب طرسوس سمعت قراءته في سوق الصفارين، وكان إذا خطب حير السامعين وألهى المحزونين. وحدثني أحمد بن هارون الكوفي، كهل من أبناء طرسوس، ووجوهها، قال حدثني أبي قال: كتب السلطان قديماً إلى الأقاليم بسبب أبن طولون، فسب على منبر طرسوس على لسان أبن أبي قباس كما سب كل مكان، وحج أبن أبي قباس فسلك الركب الذين كانوا معه طريق مصر فدخلوها في شهر رمضان، وكان يصلي بابن طولون عشرة أئمة كل واحد منهم تسليمة واحدة، فصار أبن أبي قباس إلى دار أبن طولون فدخل في جملتهم، ووقع للحجاب والبوابين أن أبن أبي قباس أحد العشرة المرسومين للصلاة، فلما أقيمت تقدم، وكل واحد من العشرة يحسبه يصلي على إذن مؤامرة، ومنهم من يحسبه أحدهم، فأفتتح فقرأ فحير السامعين شجى وطيباً وتمموا صلاتهم، فلما أرادوا النهوض للتراويح سألوه أن يصلي ترويحة ففعل ثم أخرى ثم أخرى حتى فرغ من جميعها ومن الوتر، وانصرفوا ولم يصل أحد من العشرة فرضاً ولا نافلة، فسأل أبن طولون حجابة عنه فقالوا: ما نعرفه ولا رأيناه قبل وقتنا هذا، وقال بعضهم: ما ظنناه إلا واحداً من العشرة المرسومين بالصلاة، فتقدم أبن طولون إلى الحجاب إن عاد أن لا يحجب، فعاد لليلته المقبلة وتقدم وصلى، فلما أراد الانصراف استوقفه الحجاب وسألوه من هو ومن أين هو، فما أجابهم، فرد إلى أبن طولون، فخاطبه وسأله عن أسمه ونسبه فقال: أنا أبن أبي قباس، فسر به سروراً عجيباً، وأمره بالصلاة به ما بقي الشهر وحده، وأمر بسبه بحيث يسمع كما سبه على منبر طرسوس، فستعفاه فأبى عليه، واستعفاه فما وجد له من محيصاً، سأله الأمان فأمنه وقام فخطب، فلما وصل إلى حيث يسب رخم واختصر، فحتم عليه أن لا يغادر من السب حرفاً واحداً إلا لفظ به ففعل، وأتى عليه عن آخره، فأمر له بألف دينار وزوده إلى مكة وحمله، فحج وعاد إلى طرسوس شاكراً لا بن طولون حامداً.

- 9 - (1) [عد أئمة جامع طرسوس وخطباءه فقال] : ومن الخطباء أبو القاسم ابن الحمامي وقد كان أوتي حظاً من الحكمة والبيان، ونصيباً وافراً من الخطب لكل شان، ورزق من حسن النثر في كلامه أمراً بديعاً ومن تأتيه لما يحدث من أحوال الناس سبباً صعباً منيعاً. حدثني أبو الفرج أبان بن محمد بن أبان، أحد أمراء الثغر وحماته وفرسانه، وقد ذكر ذاكراً فضل أبي القاسم ابن الحمامي الخطيب وحسن فصاحته، فقال: كان بعض الأمراء نادى بغزاةً عقدها، فلما حضر المسجد الجامع للخروج منه على الرسم اتصل الشتاء، ودامت الأمطار والأنداء، فتثبط فريق من الناس عن السفر وعاين أبو القاسم وهو على المنبر دون ما يعهد من عدد من حضر، فخطب على رسمه ثم تلا وأومأ إلى الرعية يقول (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) وأومأ إلى السلطان الحاضر لعقد تلك الغزاة والخروج فيها، ثم قال (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) يومئ إليه وإليهم أخرى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولانصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله أجر المحسنين) (التوبة: 120) فتجددت نيات جماعة لموعظته في خطبته، وتجهزت طائفة كثيرة منهم للغزو بسرعةٍ من وقته الذي ذكر فيه وساعته، وتجلى لما برزوا إلى ظاهر البلد ما كان اتصل من المطر وشدته، ورزقوا في غزوتهم الظفر والقهر، والغلبة والنصر، وأوتوا بالأعلاج مصفدين وبالسبايا والغنائم مثقلين، فاعترف من تجددت نبته لأبي القاسم بفضله، وأن غزاته بحسن اختراعه في خطبته، وام كان الله تمم ذلك بعونه وقدرته.

_ (1) بغية الطلب 9: 174.

- 10 - (1) ومن أئمة طرسوس الصالحين المذكورين بالقراءة وطيب الصوت ابن أبي علي سمينة، صلى بالناس بضع عشر سنة لم يقبل لأحدٍ براً ولا أجاب إلى قبول صلة. حدثني أبو الطيب الجرجرائي، شيخ من المجاهدين، أن أبا محمد الأولاسي حدثه أن ابن سمينة حمل إليه بعض الأمراء ألف دينار ليصرفه الصالحين المسجدية فقال ابن أبي سمينة للرسول: أبلغ صاحبك السلام وقل له: لو علمت أن في هذا المسجد من يؤثر أن يرتزق مما أنفذت درهماً واحداً لما صليت بهم يوماً واحداً، فليرد المال على أهله. - 11 - (2) [بعد أن ذكر أبا حفص عمر بن الحسن الموصلي] : وكان أبو بكر الإسكاف المقرئ تقدم قبله فصلى بالناس ثلاثاً، يعني في صلاة التراويح، فأمتنع من الإمامة، وقد رأيته وقرأت عليه، وكان من الأبدال المبرزين. حدثني من أثق به أنه لقن في مدة خمسين سنة في جامع طرسوس هو ومن يقرأ عليه في مجلسه أكثر من عشرة آلاف رجل لمواظبته في دراسة القرآن وتلقينه، وأن حلقته كانت أكثر الحلق عدد من يتلقى ويلقن، وكان قد وفده أهل طرسوس إلى بغداد هو وأبو علي الأصبهاني مستصرخاً حين ضايقها نقفور. - 12 - (3) حدثني أبو العباس أحمد بن العباس بن أحمد الخواتيمي، وهو ابن القاضي وكان ممن يحتفظ إذا تكلم، ويعد من الصادقين، أنه أحصى على أبي بكر محمد

_ (1) بغية الطلب 9: 239. (2) بغية الطلب 9: 32. (3) بغية الطلب 1: 187.

بن محمد بن داود مدة شهري كانون الأول والآخر وعشراً من شباط في كل يوم كسوة لا تشبه التي تقدمها. ؟ توفي أبو العباس أحمد بن العباس بن الخواتمي أول يوم من شهر صفر من سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وكان يرجى ويؤهل للرياسة لفضله ونبله وستره وثقته وعدالته، وكان أبو القاضي عليلاً فلما عزوه به وأنصرف المعزون من داره، أمسك على لسانه فلم يتكلم ثلاثاً ومات (1) .

_ (1) في الملحقات تتمة وافية لهذا الكتاب " سير الثغور ".

تاريخ العظيمي

- 6 - (1) تاريخ العظيمي أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن نزار التنوخي الحلبي 483 - بعد 556 1097 بعد 1160

_ (1) الوافي بالوفيات 4: 131 والنجوم الزاهرة 5: 133 وأعلام النبلاء 4: 48 و (Journal Asiatique (JA سنة 1938 (ص 352 - 356) .

فراغ

نشأ في حلب، وأحترف التعليم، واعتنى بالتاريخ عناية فائقة، وكان إلى ذلك شاعراً. سافر إلى دمشق وأمتدح بها واجتدى بشعره، ولقي ابن السمعاني وأبن عساكر وغيرهما من العلماء، وسأله ابن السمعاني عن تاريخ موعده فأخبره، ولهذا يعد ما قيد ابن تغري بردي خطأ حين ذكره في وفيات سنة 458، فهذا التاريخ هو الأقرب إلى تاريخ مولده (1) . كتب في التاريخ عدة مؤلفات فيما ذكره الصفدي وقد وصفها ياقوت بأنها غير محكمة كثيرة الخطأ، ونعرف له من هذه المؤلفات ثلاثة كتب وهي: 1 - تاريخ حلب، ونقدر أن الفقرة التالية منقولة منه، يقول فيها: - لما فتح المسلمون حلب دخلوها من باب إنطاكية، ووقفوا داخل البلد، ووضعوا تراسهم في مكان بني به هذا المسجد [أي مسجد الغضائري] وعرف أولاً بأبي الحسن علي بن الحميد الغضائري أحد الأولياء من أصحاب سري السقطي رحمه الله وحج من حلب ماشياً أربعين حجة، ثم عرف ثانياً بمسجد شعيب، وهو شعيب بن أبي الحسن بن حسين بن أحمد الأندلسي الفقية، وكان من الفقهاء والزهاد. وكان نور الدين محمود بن زكي يعتقد فيه

_ (1) النجوم الزاهرة: 133 و (JA) ص 368 حيث قال في أحداث 483: ولد العظيمي مؤلف هذا الكتاب.

ويتردد إليه، فوقف على هذا المسجد وقفاً فرتب فيه شعيباً المذكور مدرساً على مذهب الإمام الشافعي رشي الله عنه (1) . 2 - تاريخ العظيمي الصغير، ابتدأه من بداية الهجرة وانتهى به حتى سنة 538 مرتباً على سنين، وقد نشره المستشرق كلود كاين في مجلة (J A) اعتماداً على مخطوطة مكتبة قره مصطفى رقم: 398 وهي في 217 ورقة كتبت سنة 633، وفي المقدمة يذكر المؤلف انه كتبها للأمير زنكي. وقد اعتمد فيها وخاصة في القرون الأولى على تاريخ الطبري ثم على تاريخ ثابت بن سنان وتكملة الفرغاني وكتاب التاجي للصابي وتاريخ مبايعة الخلفاء وتاريخ ابن القلانسي وتاريخ غرس النعمة ابن هلال وتاريخ يحيى الأنطاكي الذي يقف عند سنة 458، ولم ينشر كاين من المخطوطة إلا ابتداءً من سنة 455 وهي أول تمرس للأتراك في سورية، وفي هذا القسم يظهر تأثير ابن القلانسي، والكتاب مجمله شديد الاختصار (2) . 3 - كتاب الموصل على الأصل المؤصل وهو التذكرة من سير الإسلام، وهو كما تشير كل الدلائل - تاريخ تفصيلي ينقل عنه ابن العديم (3) . وهنا يحق لنا أن نتساءل: عندما لا يمسي ابن العديم هذا الكتاب على وجه التحديد وإنما يكتفي بالقول إنه ينقل من " تاريخ العظمي " فهل يشير إلى هذا الكتاب (أعني الموصل) أو ينقل من كتاب آخر؟ إن بعض المادة المنقولة عن تاريخ العظيمي شديد الإيجاز، ولكنها لا تلتقي بدقة مع ما جاء في التاريخ الصغير. وهذا قد يدفع إلى الاعتقاد بأن " تاريخ العظيمي " إن لم يكن هو الموصل نفسه فهو كتاب من كتبه التاريخية.

_ (1) الأعلاق الخطيرة، الجزء الأول، القسم الأول: 44. (2) حدد النقل عنه ابن خلكان 5: 262. (3) انظر مثلاً بغية الطلب 6: 132، 7: 207 في أحداث سنة 521.

- 1 - (1) سنة 63: فيها كانت غزاة الحصين بن نمير أرض الروم حتى بلغ مرج الحمام. - 2 - (2) سنة 66: فيها قتل عبد الله بن زياد والحصين بن نمير يوم النحر إبراهيم بن الأشتر برؤوسهم إلى المختار بن أبي عبيد، فبعث بها إلى ابن الزبير، فنصبت بالمدينة وبمكة. - 3 - (3) سنة 127: فيها اقبل مروان بن محمد بن مروان من الجزيرة حتى دخل دمشق لست ليالٍ خلون من صفر، فلما نزل نهض عبد العزيز بن الحجاج ويزيد ابن خالد بن عبد الله القسري بقنسرين، ومن تابعهما على ذلك الحكم وعثمان ابني الوليد، وهما محبوسان في الحصن، وكان يزيد ابن الوليد حبسهما، فقتلوهما وقتلوا يوسف بن عمر الثقفي، وأخذ عبد العزيز بن الحجاج فقتل وصلب، وقتل يزيد بن خالد بن عبد الله وصلبا على باب الجابية مع ناس كثر ولما بايع الناس مروان نزل على حلب، وكان على قنسرين بشر بن الوليد بن عبد الملك فأخذه واخذ مسرور بن الوليد وكان معهما إبراهيم بن عبد الحميد، وكان عبد العزيز بن الحجاج محاصراً لأهل حمص يرميهم بالمجانيق فلما بلغ مسير مروان رحل عنهم. وسار مروان إلى سليمان بعين الجر فاقتلوا أياماً وقتل من الفريقين خلق حتى انهزم سليمان وأصحابه ومواليه الذكوانية، فدخل سليمان دمشق فعندها يقال إنه قتل الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد.

_ (1) بغية الطلب 5: 210. (2) بغية الطلب 5: 210. (3) بغية الطلب 5: 250.

- 4 - (1) سنة 154: غزا الصائفة زفر بن عاصي الهلالي من أهل قنسرين فدخل أرض الروم من ناحية المصيمة حتى بلغ أنقرة، فأصابهم برد وأصاب ظهرهم القرحة، وجهد الناس وتقطع عامتهم ولقوا الجهد. - 5 - (2) سنة 195: وجهة الأمين علي بن عيسى بن ماهان لملاقاة طاهر بن الحسين فلقيه بالري فقتل علي بن عيسى لسبع خلون من شعبان (3) . 6 - (4) سنة 271: وفيها قتل المأمون أبني هشام: علياً وحسيناً بأذنة، أشخصهما إليه عجيف عنبسة بعثه إليهما، ثم بعث رأسيهما إلى بغداد وخرسان فطيف بهما، وطيف إلى الجزيرة إلى بغداد إلى مصر إلى دمشق إلى أقطار الأرض، ثم رميا في البحر، وكتب في أذن علي بن هشام رقعة يذكر فيها أمره ويعذر به الناس. 7 - (5) سنة 290: خلع علي أبي الأغر ووجه لحرب القرمطي بناحية الشام، فمضى إلى حلب بعشرة آلاف. . وللنصف من شهر رمضان مضى أبو الأغر إلى حلب

_ (1) بغية الطلب 7: 180. (2) وفيات الأعيان 2: 517 - 518 (3) علق ابن خلكان على ذلك بمقارنة ما ذكره الطبري بما قاله العظيمي، فالطبري يذكر أن علي ابن عيسى خرج من بغداد لسبع ليال خلون من شعبان من سنة 195. يقول ابن خلكان: فالظاهر أن ابن العظيمي اشتبه عليه يوم قتل علي بن عيسى بيوم خروجه من بغداد. (4) بغية الطلب 5: 192. (5) بغية الطلب 6: 232.

ونزول وادي بطنان قريباً من حلب ونزول معه جميع أصحابه، فنزع فيما ذكر جماعة من أصحابه ثيابهم ودخلوا الوادي يتبردون بمائه، وكان يوماً شديد الحر، فبينا هم كذلك إذ وافاهم شيش القرمطي المعروف بصاحب الشامة، مقدمهم المعروف بالمطوق، فكبسهم على تلك الحال، فقتل منهم خلقاً كثيراً وانتهب المعسكر، وأفلت أبو الأغر وجماعة من أصحابه فدخل حلب، وأفلت منه مقدار ألف رجل، وكان في عشرة آلاف رجل ما بين فارس وراجل، وقد كان ضم إليه جماعة ممن كان على باب السلطان من قواد الفراعنة ورجالهم فلم يفلت منهم إلا اليسير. ثم صار أصحاب القرمطي إلى باب حلب فحاربهم أبو الأغر ومن بقي معه من أصحابه وأهل البلد فانصرفوا عنه. - 8 - (1) سنة 292: وفي النصف من شوال دخل مدينة طرسوس رستم بن بردوا والياً عليها وعلى الثغور الشامية، وكان الفداء بين المسلمين والروم لست بقين من ذي القعدة، فكان الفداء ألفاً ومائتين، ثم غدر الروم فانصرفوا ورجع المسلمون بن بقي معهم من الأسرى من الروم، وكان عقد الفداء والهدنة مع أبي العشائر والقاضي ابن مكرم، فلما أغار أندرونقس على مرعش وقتل أبا الرجال عزل أبا العشائر وولي رستم فكان الفداء وتمامه على يده، وكان المتولي لفداء الروم مقدم اسمه إسكانه (2) . - 9 - (3) سنة 294: فيها دخل ابن كيغلغ طرسوس غازياً في أول المحرم، وخرج معه رستم، وهي غزاة رستم الثانية، فبلغوا سلندو (4) ففتح الله عليهم وصاروا إلى السبي

_ (1) بغية الطلب 7: 82. (2) الطبري (4: 2254) اسطانه وقارن بالتنبيه والإشراف: 192. (3) بغية الطلب 7: 82. (4) في الطبري (4: 2269) سلندوا.

في أيديهم نحواً من خمسة آلاف رأس، وقتلوا من الروم مقتلةً عظيم وانصرفوا سالمين. . وفيها كتاب أندرونقس السلطان يطلب الأمان، وكان على حرب أهل الثغور من قبل الروم، فأمنوه، وخلص معه أسرى من المسلمين، وكان ملك الروم بعث إليه من يقبضه، فرجع إلى ذلك البطريق الموجه إليه فأوقع به وبمن معه، وكان رستم قد خف إليه في جمادى الأولى ليخلصه فوجده قد ظفر فتسلم الحصن منه وانهزم بقية الروم وحمل أندرونقس كل ماله إلى بلاد المسلمين وخلى سلاحه. - 10 - (1) سنة 299: فيها غزاة رستم بن بردوا الصائفة من طرسوس، وهو والي الثغور، حصر حصن مليح وأحرق ربض ذي الكلاع. - 11 - (2) قيل إنه [أي المتنبي] ولد سنة إحدى وثلاثمائة والأول أصح [أي 303] والله أعلم. - 12 - (3) سنة 335: وفيها توفي أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص الطبري بطرسوس.

_ (1) بغية الطلب 7: 82. (2) بغية الطلب 1: 29. (3) بغية الطلب 2: 19.

1314 - (1) سنة 355: وفي هذه السنة ملك مدينة حلب دون القلعة رشيق النسيمي والي إنطاكية وكسر عسكر قرعويه الحاجب وحاصر القلعة فقتل وهو يحاصر القلعة، وعاد قرعويه ملك حلب، وملك إنطاكية دزبر فكسر عرقويه وانهزم إلى حلب وتبعه دزبر فملك البلد وحصره بالقلعة وملكها وتسلمها منه، وسار إليه سيف الدولة وخرج إليه دزبر فلتقيا على نهر سبعين فانكسر دزبر وأسره سيف الدولة ووزيره أبا علي الأهوازي، وملك حلب في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. 15 - (2) سنة 415: وزير ببغداد الوزير أبو القاسم الحسين علي بن الحسين المغربي في رمضان سنة خمس عشرة وأربعمائة بغير خلعة ولا لقب ولا فارق الدراعة، وكان كاتباً مليحاً شاعراً منجماً فيلسوفاً قيماً بعلوم كثيرة، وكان فيه حسد، ورجت له ببغداد أمور أوجبت استيحاشه من الخليفة، فتنقل إلى أن نزل على أبي نصر ابن مروان على سبيل الضيافة فمات عنده سنة ثماني عشرة وأربعمائة. 16 - (3) سنة 435: فيها ظهر ببعلبك في حجر منقور رأس يحيى بن زكريا عليه السلام فنقل إلى حمص ثم إلى مدينة حلب في هذه السنة، ودفن بهذا المقام المذكور (4) في جرنٍ من الخام الأبيض، ووضع في خزانة إلى جانب المحراب، وأغلقت ووضع عليها ستر يصونها.

_ (1) بغية الطلب 7: 88، 6: 317. (2) بغية الطلب 5: 19. (3) الأعلاق الخطيرة، الجزء الأول، القسم الأول: 39. (4) يعني مقام إبراهيم (وقد بني جامعاً في قلعة حلب أيام بني مرداس) .

- 17 - (1) سنة441: فيها كان السيل الذي أهلك عسكر المصريين على السعدى وصلدى قبلي حلب، وفيها كان قتل جعفر بن كليد، وفيها أنهزم ناصر الدولة، وسيرت العساكر مع رفق الخادم وهو كاره لذلك، ولقبوه أمير الأمراء المظفر عدة الدولة وعمادها، وكان عمره فوق الثمانين، ثامن عشر ذي القعدة من السنة، وشيعه المستنصر وسير معه السجل العام والعدد الكثير من المشارقة والمغاربة والعرب، وكاتب كلمن تلقاه من المتقدمين بأن يترجلوا إذا لقوه. وتوسل ثمال بن صالح إلى ملك قسطنطين أن ينجده، فكتب قسطنطين إلى المستنصر في الصفح عن ابن صالح، وقال: إن لم تفعل في الشفاعة أضطر إلى نجدته عليك، فوصل رسول الملك إلى الرملة يوم وصول رفق الخادم إليها، فأوصله رفق إلى مصر، وأعاد الرسالة، وتوقف الوزير عن الجواب طمعاً ان يملكوا حلب ويستأنف الجواب، وتحقق الملك قسطنطين توجه العساكر المصرية، فبعث إلى أنطاكية عسكراً لحفظ الأطراف من نحو حلب، وبعث ثمال بن صالح مالاً عيناً وخلعاً، وسار مقلد ابن كامل بن مدارس إلى حمص، واعتصم عليه وإليها حصن الدولة حيدرة بن منزو الكتامي، فحاصره ثم طلب الأمان فأمنه، وأنزله من القلعة وخربها وخرب السور وعاد إلى حماة ففتحها واخرب حصنها، وانتقل إلى معرة النعمان وأخرب سورها أيضاً، وظهر من فشل رفق الخادم ما أطمع الجند والكافة فيه، فعاثت السناسنة وهو بالرملة في طرف العسكر وهربوا إلى البرية، فاتبعهم رفق بسرية من العسكر فعادت العرب عليهم وهزموهم وأسروا الأمير مراد ونهبوهم، فسير إليهم رفق جعفر ابن حسان بن جراح فاسترجع منهم بعض ما نهبوه وردهم إلى الديوان فعرضهم وعليم أكثر عدد العسكرية، ورحل رفق إلى دمشق وأثبت خلقاً من قبائل العرب الكلبيين والطائيين، وانصرف من العسكر فرقة العبيد والمشارقة، ومن البحتارة فرقة الفزاريين وتحاربوا لأربع بقين من المرحم من السنة، وذلك يوم الجمعة، فقتل من الكتاميين نحو مائة رجل، ونهبوا بعض الخيم، ثم تميزوا من ذلك المكان

_ (1) بغية الطلب 7: 101.

ونزلوا على باب توما، وبقوا ثلاثة أيام متصافين ولم يجر بينهما قتال، وخاف رفق فدخل بالخيام القصر وترك مضاربه الخاصة على حالها، وأصلح بين الطوائف، فتوقف الكتاميون حتى وصلهم من ماله بألوف دنانير دية القتلى، وعوض الخيام، ونهب العرب أكثر غوطة دمشق، وهرب أهل القرى إلى دمشق. ثم سار رفق إلى حمص وعرض العساكر بها وأثبت من العرب الكلبيين ألف فارس أخرى، وبلغه أن راشد بن سنان بن علباء هرب من الاعتقال بصور، وحصل بظاهر دمشق واجترأ على أكثر أعمالها وتسرعت العساكرية عند حصور رفق بحماة إلى نهب أعمال شيزر، إذ هي على أعمال حلب، ووصل إلى صلدى يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ربيع الأول، وخيم على جبل جوشن يوم الأربعاء الثاني والعشرين منه، ووقع الطراد، وأستأمن سلطان القرمطي في خمسمائة فارس من الكلبيين، وكان أخوه نبهان معتقلاً في قلعة حلب منذ أسر من كفرطاب، وأقتلوا يوم الجمعة، واستراحوا يوم السبت والأحد، ورد رفق الخزانة السلطانية إلى ورائه ليلة الإثنين سابع عشر من ربيع، وأمر العسكر أن يدفعوا أثقالهم إلى معرة مصرين، فاستشعروا الهزيمة، وأخذ العسكر من نصف الليل يرحلون، وانتهى ذلك إلى رفق فأتبعهم برسله يرسم لهم العودة فلم يرجع أحد وانهزموا، وأسفر الصبح وخرج من حلب خيل وظنوا أنها مكيدة، فلما تحققوا هزيمة العسكر نهبوا وأسروا، ونهب العرب بعضهم بعضاً والعسكر، وخرج الحلبيون نهبوا آثار العسكر من غلات وغيرها، ولحقوا رفق الخادم وجرحوه ثلاث جراح، وأدخلوا إلى حلب أسيراً مكشوف الرأس، وأختلط عقل رفق لأجل الجراح التي في رأسه ومات في القلعة بعد ثلاثة أيام، ودفن في مسجد بظاهر حلب. وأسرت الروم أصحاب الأطراف من المعسكر جماعة فأنكر سلطان ذلك عليهم وردهم إلى بلد الإسلام وكساهم. - 18 - (1) سنة 442: فيها مولد العمري الحلبي أبو القاسم سعد بن أبي عبد الله بن محمد ابن باقي بن عدي بن عمر، لحقته في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة وهو يومئذ عمره

_ (1) بغية الطلب 8: 249.

نيف وتسعين سنة، ويروي جزاً من الحديث، عارف بالتواريخ. . وعاش والده أربعين سنة؟ وعاش جده " باقي " مائة وعشرة، وجده عدي مائة وعشرة وأخذ أملاكه منهم؟ وقال لي العمري سعد الله: مات جدي باقي في دولة سابق بن محمود وعمره يومئذ ماشة وعشر سنين، وله مذ مات إلى يومنا هذا، وهو سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، نيف وستين سنة..وكان عمري يومئذ نيف وثلاثين سنة، وكنت متزوجاً ورزقت عدة أولاد؟ وحدثني هذا جدي أن والده عدي عاش مائة وعشرة سنين، وكذلك عاش والده عمر العمري مائة وعشرة، وهو الذي قتله سيف الدولة وأخذ أملاكه وكان لباقي سنتان وهو مرضع؟ والأملاك التي أخذها من العمري: الكرمة والبويبية وأصفي والزغبة. 19 - (1) سنة 451: قتل البساسيري يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة، وطيف برأسه في بغداد، وصلب قبالة باب النوبي. 20 - (2) سنة 467: زلزلت أنطاكية، وفتح سليمان بن قطلمش نيقية وأعمالها، وظهر بأنطاكية طلسم الأتراك في دير الملك، على باب الملك سبعة أتراك من نحاس على خيل نحاس بجعابهم في جرن فما حال الحول حتى فتحها الأتراك (3) .

_ (1) وفيات الأعيان 1: 192. (2) الأعلاق الخطيرة الجزء الأول القسم الأول: 125 وهذا تام في المختصر أيضاً ص 361. (3) في هذا نظ لأن سليمان فتح أنطاكية سنة 477 فلعل ابن العظيمي وهم.

- 21 - (1) سنة 468: فيها قتل نصر بن محمود صاحب حلب يوم الأحد، يوم عيد الفطر، وجلس سابق بن محمود مكانه. حدثني الشيخ أبو الحسين زيد بن أحمد الحلبي قال كنت صغيراً بمكتب الأستاذ الأديب هبة الله بن جعفر في هذه السنة [يعني 468] قبل مقتل نصر بن محمود. زكان هذا الأستاذ شاعراً مليحاً، فمدح نصر بن محمود قبل قتله بقصيدة أولها: أما الأنامُ فمرزوقٌ ومرحومُ ... كذا المحبون موصولٌ ومرحوم؟ وأنشدني أبو الحسين زيد بن أحمد الحلبي لا بن مقلة لما قطعت يده: قد تحرَجت " ما استطعت " بجهدي ... حفظَ أمولهم فما حفظوني ليس بعدَ اليمينِ لذة " عيشٍ ... يا حياتي بانت يميني فبيني - 22 - (2) سنة 472: وفي هذه السنة وصل شرف الدولة إلى حلب وتسلمها من سابق ابن محمود وامتنعت القلعة عليه، وكان بالقلعة سابق وأخوه شبيب. فقبض شبيب على سابق يوم السبت ثاني عشر صفر، وتولى الأمر بنفسه يوماً واحداً، ثم عاد سابق فقيض على أخيه شبيب وتولى الأمر كما كان أولاً، وبقي الحصار أربعة أشهر، ثم سلم القلعة سابق إلى شرف الدولة يوم الأحد عاشر ربيع الآخر، وقيل جمادى الآخرة، وهو الأصح. - 23 - (3) سنة 475: وفيها في صفر حاصر شرف الدولة ابن ملاعب بقلعة حمص،

_ (1) بغية الطلب 8: 66 وسويم: 55. (2) بغية الطلب (سويم: 55) . (3) بغية الطلب 6: 223 (وانظر التاريخ المختصر: 364) .

وفيها عاد شرف الدولة إلى حلب وقد صالح ابن ملاعب. - 24 - (1) سنة480: وفيها استقرت الرتبة بحلب للأمير قسيم الدولة آق سنقر من قبل السلطان العادل أبي الفتح، وتوطدت له الأمور بها، وأقام الهيبة العظيمة التي لا يقدر عليها أحد من السلاطين، وأظهر فيها من العدل والإنصاف مع تلك الهيبة ما يطول شرحه، ورخصت الأسعار في أيامه الرخص الزائد عن الحد، وقرب الحلبيين وأحبهم الحب المفرط، وأحبه أضعاف ذلك، وأقام الحدود وأحياء أحكام الإسلام، وعمر الأطرف وأمن السبل وقتل قطاع الطرقات وطلبه في كل فج وشنق منهم خلقاً، وكلما بقطاع طريق في موضع قصده وأخذه وصلبه على أبواب المدينة. كثرت في أيامه الأمطار وتفجرت العيون والأنهار وعامل أهل حلب من الجميل بما أحوجهم أن يتوارثوا الرحمة عليه إلى آخر الدهر. - 25 - (2) سنة 481: وفيها خرج الأمير قسيم الدولة آق سنقر رحمة الله يودع تابوت زوجته خاتون داية السلطان أبي الفتح، ماتت بحلب. وقيل إنه جلس وفي يده سكين فأومأ بها إليه فوقعت في مقتل وهو غير متعمد لها فماتت في الحال، فوضعها في تابوت وحملت إلى الشرق وخرج لوداعها يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة. - 26 - (3) سنة 482: فيها أسست منارة جامع حلب وعمرت على يد القاضي أبي

_ (1) سويم: 108 (عن بغية الطلب) . (2) سويم: 109 (عن بغية الطلب) . (3) الأعلاق الخطيرة - الجزء الأول، القسم الأول: 34 (نقلاً عن تاريخ ابن العديم) ولم يرد هذا النص في المختصر: 367 إلا قوله: وعمرت منارة جامع حلب.

الحسن محمد بن يحيى بن محمد بن الخشاب، وكان بحلب معبد للنار قديم العمارة وقد تحول إلى ان صار أتون حمام فاضطر القاضي إلى أخذ حجارته لعمارة هذه المنارة، فوشى بعض حساد القاضي خبره إلى الأمير قسيم الدولة، فاستحضره وقال ك هدمت موضعاً، وه لي وملكي، فقال: أيها الأمير هذا معبد للنار وقد صار أتوناً، وقد أخذت حجارته عمرت بها معبداً للإسلام يذكر الله عليها وحده لا شريك له، وكتبت اسمك عليه، وجعلت الثواب لك، فإن رسمت لي أن أغرم ثمنه لك [فعلت] ويكون الثواب لي. فأعجبت الأمير كلامه وأستصوب رأيه وقال: بل الثواب لي وأفعل ما أنت تريد. 27 - (1) سنة 483: وفيها سار الأمير قسيم الدولة وبزان غسيان (2) وتاج الدولة ونزلوا إلى حمص وفتحوها من يد ابن ملاعب وحملوا ابن ملاعب في قفص من الحديد إلى عند السلطان فلما هلك السلطان خلص ابن ملاعب وصعد إلى مصر وعاد منها، تسلم قلعة أفامية وأقام بها سبعة عشر سنة وقتل. 28 - (3) سنة 484: وفيها تسلم الأمير قسيم الدولة قلعة أفامية من يد ابن ملاعب وترك فيها بعض بني منقذ وعاد إلى حلب في العاشر من رجب [الكلام غير مستقيم] . 29 - (4) سنة 486: فيها فتح الأمير قسيم الدولة آق سنفر، ومعه تاج الدولة مدينة

_ (1) بغية الطلب: 6: 222 (انظر التاريخ المختصر: 368) وسويم: 127. (2) المختصر: وبوزان ويغيسان. (3) بغية الطلب: 6: 222 (وانظر التاريخ المختصر: 368) وسويم: 109 وهنا تعليق ابن العديم. (4) سويم: 109 (عن بغية الطلب) .

نصيبين يوم الاثنين من ربيع الأول، وقيل في صفر، وحدثني بهذا والدي الرئيس أبو الحسن علي بن العظمي، قال: كنت مع الأمير قسيم الدولة في هذا الفتح. وفيها شرق قسيم الدولة رحمه الله إلى بغداد عند السلطان بركياروق بن أبي الفتح وعاد إلى حلب في شوال سنة ستة وثمانين. 30 - (1) سنة 487: وكان قسيم الدولة عاد إلى حلب والتقى هو وتاج الدولة، فكسر تاج الدولة قسيم الدولة وقتله على نهر سبعين، شرقي حلب، سابع جمادى الأولى، وقيل يوم السبت تاسع جمادى الأولى. وأصبح تاج الدولة يوم الأحد على حلب، ومعه رأس قسيم الدولة رحمه الله فتسلم تاج الدولة مدينة حلب العصر من يوم الأحد عاشر جمادى الأولى وتسلم القلعة يوم الاثنين. وقتل مع قسيم الدولة رحمه الله أربعة عشر مقدمة منهم تختكين شحنة بغداد، وقجقر شحنة حلب وطغان وإسرائيل، وقتل بحلب غلامه طغرل، وله حكاية معروف، وعلي بن السليماني وأخوه، ومحمد البخاري الذي قفز إنطاكية، وأخوه أبو القاسم الطندكيني مع سليمان، والطونطاش خاص ملكشاه. وإنهزم إلى حلب بزان وكربوقا ويوسف بن أبق. فأما بزان فإنه قتل. 31 - (2) سنة 490: وفي هذه السنة خطب الملك رضوان بحلب للمصريين، وكان الخطيب أبو تراب له حكاية معروفة، وكان هذا الخطيب رأى مناماً أنه لا يموت

_ (1) سويم: 110 (عن بغية الطلب) . (2) بغية الطلب: 5: 334، 7: 92 (وانظر التاريخ المختصر: 372 وسويم: 134 - 135، 145) .

حتى يعود يخطب للمصرين دفعة ثانية لأنه خطب لهم بحلب في حصار السلطان العادل، فكان كذلك. وفيها عصى [بركات] المجن الموفق على الملك رضوان وتعصب له الحلبيون، ثم تخاذلوا عنه وإختفى، فقبض عليه الملك رضوان وعلى ذويه وبنيه وأستصفي أمواله في ذي القعدة، وعذبهم بإنواع العذاب، ثم قتله بعد ذلك وقتلهم حوله؟ وفيها وصل رسول مصر إلى الملك رضوان [يعني من المستعلي] بالتشريف والخلع، وخطب للمصريين شهراً ثم عاد عن ذلك. 32 - (1) سنة493: وفيها كسرت الإفرنج الملك رضوان على موضع يقال له كلاً، وكان المسلمون في خلق، وكان الإفرنج في مائة فارس فقتلوا خلقاً من الناس وأسروا خلقاً ن وكانت الكسرة يوم الجمعة خامس شعبان. 33 - (2) سنة 496: فيها قتل الباطنية جناح الدولة بحمص بالجامع يوم الجمعة ن ستة نفر أحدهم يعرف من أهل سرمين. وفيها مات الحكيم العجمي المنجم الباطني بحلب. 34 - (3) سنة 498 وفيها كسر الفرنج الملك رضوان على عين سيلوا من أرض

_ (1) بغية الطلب 7: 92 وانظر التاريخ الصغير: (2) بغية الطلب 5: 198 وفي التاريخ الصغير 375: قتله جماعة في زي الصوفية. (3) بغية الطلب 7: 92 وانظر التاريخ الصغير: وفيه أن عدد من قتل من المسلمين عشرة آلاف، وسويم: 145.

أرتاح، وكان سبب ذلك حصن أرتاح، خرجوا إليه ليأخذوا وجمع الملك رضوان الخلق العظيم وخرج لنجدة الحصن ومعه من الرجالة الخلق العظيم، وكان المصاف يوم الخميس، فانهزمت الخيل وأسلموا الرجالة فقتل منهم الخلق العظيم وفقد من الحلبيين جماعة كثيرة، غزاة رحمهم الله وانهزم أكثر من به. - 35 - (1) سنة499: وفيها عمل الباطنية على قلعة أفامية وقتلوا ابن ملاعب بها غيلة وملكوا القلعة فعاجلهم الفرنج، ونزلوا عليهم وحصرهم بها إلى أن أخذوها. - 36 - (2) سنة 501: وفي هذه السنة بلغ فخر الملوك رضوان ما ذكر به من مشياعة الباطنية واصطناعهم وحفظ جانبهم وأنه لعن بذلك في مجلس السلطان، فلما بلغه الخبر أمر أبا الغنائم ابن أخي أبي الفتح الباطني بالخروج عن حلب فيمن معه، فانسل القوم بعد ان تخطف جانبهم منهم أفراد. - 37 - (3) سنة507 فيها مات الملك رضوان بن تاج الدولة صاحب حلب بحلب وجلس موضعه ولده تاج الدولة ألب أرسلان، وصار أتاكبه لؤلؤ الخادم، وقتلوا من الخدم والخواص جميعاً حتى استقام أمرهم وقبض على إخوته.

_ (1) بغية الطلب 6: 224 (وانظر التاريخ الصغير: 378 ويسمى الباطنية فيه " التعليمية ") وسويم 132. (2) بغية الطلب 7: 92 وسويم: 144. (3) بغية الطلب 7: 92 (وانظر التاريخ الصغير: 381) وسويم: 150.

وفيها قتل تاج الدولة بن الملك رضوان اخوته ملك شاه إبراهيم (1) وصبيين احسن الناس صوراً. [قال ابن العديم: كذا وجدته، وإبراهيم بقي زماناً ورأيت ولده بحلب وأظنه مبارك والله أعلم] . وقتل خادم أبيه التونتاش المجني وقتل الفتكين الحاجب، وخافه الناس فألب عليه خادمه أتباك لؤلؤ حتى قتله. - 38 - (2) سنة 508: فيها قتل تاج الدولة إلب أرسلان بن رضوان صاحب حلب بداره في قلعة حلب بتدبير أتابكة لؤلؤ الخادم، واجلسوا موضعه أخاه الملك سلطان شاه ابن رضوان. - 39 - (3) سنة 512:وفي ليلة الخميس سادس عشر جمادى الاولى توفي الشريف جمال الشرف أبو المجد سالم بن هبة الله الهاشمي الحارثي، وكان من ظراف الناس وطرف الزمان خَلْقاً وخُلُقاً وأدباً ودعابةً وشعراً. - 40 - (4) سنة514:وفي هذه السنة أظهر العصيان دبيس بن صدقة الأسدي ملك العرب على الخليفة المسترشد باالله ببغداد وعلى السلطان محمود، فسار إليه

_ (1) قال ابن العديم في تعليقه: كذا قال العظيمي: ملكشاه وإبراهيم وهو وهم، وإنما هو ومبارك وأما إبراهيم فإنه آخر من بقي من ولد رضوان ولم يبق من ذرية رضوان إلا عقبه إلى يومنا هذا (سويم 156 - 157) . (2) بغية الطلب (سويم) : 156. (3) بغية الطلب 8: 211. (4) بغية الطلب 6: 309 (انظر التاريخ الصغير: 388) وسويم: 232.

وكسره ونهب الحلة، وهرب دبيس إلى الشام، فأجاره شهاب الدين ابن مالك بالدوسرية وأكرمه وسيّره إلى نجم الدين ابن أرتق إلى ماردين فأكرمه وصارت بينهما زيجة، وأعاده إلى الحلة. - 41 - (1) سنة515: وفي جمادى الأولى كانت كسرة المسلمين ببلاد الكرج، وذلك أن داود ملك الكرج كان قد ظهر على الملك طغرل من الدروب، فاستنجد بنجم الدين ابن ارتق وجموح التركمان وصحبتهم دبيس بن صدقة بن مزيد، فانكفت الكرج في الدروب الضيقة وتبعهم خلق من المسلمين، فأخذ الكرج عليهم الدروب ورضخوهم بالصخر فانكسروا. - 42 - (2) سنة 518: وفي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة عبر الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد، من قلعة منبج ونزل بظاهر منبج، وكان له عمل في حلب ومكاتبة، فانكشفة على يد فضائل بن صاعد بن بديع، وقتل بعض القوم ونفى بعضاً، وكان بها التمرتاش حسام الدين بن نجم الدين إيلغازي بن أرتق. وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب كان خلاص البغدوين [ملك الفرنج] من شيزر، وكان استقر عليه ثمانون ألف دينار وقلعة عزاز، وحلف على ذلك ورهن جماعة من الفرنج أثني عشر نفساً، أخذهم الجوسلين، وعجل من المال عشرين ألف دينار، فما هو إلا أن خرج حتى غدر ونكث، ونفذ يعتذر إلى الأمير حسام الدين بن نجم الدين بأن البطريرك لم يوافقه على تسليم عزاز، وأن خطية اليمين تلزمه، وترددت الرسل منهم إلى يوم الأحد ثامن عشر شعبان وعادة بنقض الهدنة. وخرج الملك إلى ارتاح وعزمه على حلب، فخرج التمرتاش من حلب

_ (1) بغية الطلب 6: 309 (انظر التاريخ الصغير 388) . (2) بغية الطلب 6: 309.

بتاريخ الخامس والعشرين من رجب نحو ماردين، ووعد بجمع العساكر، ورحل بغدوين من أرتاح إلى نهر قويق، وأفسد كل ما عليه وضايق حلب، فاجتمع على باب حلب ثلاثة ألوية: لواء الملك إبراهيم بن رضوان، ولواء الأمير دبيس ابن صدقة، ولواء الملك بغدوين، وكان الجوسلين ودبيس قد برزا من تل باشر وقصدا ناحية الوادي وأفسد كل ما فيه ما قيمته مائة ألف دينار، ثم نزلا على باب حلب، وكان نزولهم على حلب على مضي ساعة وكسر من نهار يوم الاثنين سادس عشرين شعبان، والطالع من العقرب عشر درج والمريخ في الطالع في درجة واحدة. وقيل نزولهم بساعتين عند اتساع الفجر انفتح في السماء من نحو المشرق باب من نور ودام حتى هال الناس. ولما كان في اليوم الثاني في ذلك الوقت عاد انفتح ذلك الباب ولكن كان أضيق من الأول، وخرج منه شئ كاللسان ينعطف ويطوَّق. ونزل الإفرنج غربي البلد وغربي قويق، ومعهم علي بن سالم بن مالك وصاحب بالس أخو بدر الدولة، فقطعوا الشجر وأخربوا المشاهد الظاهرة، وكان عدد الخيم: ثلاثمائة خيمة للمسلمين. ونبش الفرنج القبور وأحرقوا الموتى بأكفانه، وعمدوا إلى من كان طرياً فشدوا الحبال في أرجلهم وسحبوهم مقبل المسلمين. - 43 - (1) سنة519:وفي يوم الأربعاء العشرين من شوال مات شمس الدولة سالم بن مالك بقلعة جعبر. - 44 - (2) سنة521:توجه عماد الدين زنكي إلى الموصل ودخلها في عاشر رمضان من السنة.

_ (1) سويم: 202 (عن بغية الطلب) . (2) وفيات الأعيان 2: 328 (انظر التاريخ الصغير: 399) .

- 45 - (1) سنة 521: ولما شرّق عز الدين مسعود البرسقي، ولّى بحلب والقلعة الأمير تومان، فلما استقامت أموره بالشرق نفذ سرية مع أمراء منهم ينال وسنقر دراز وغيره، فلما وصلوا إلى حلب لم يدخل معهم تومان في الطاعة، فحالفه رئيس حلب فضايل بن بديع، وأدخلهم إلى حلب، وأنزلهم قلم الشريف ووقع بين الوالي وأهل حلب، وبعد ذلك بأيام يسيرة وصل إلى حلب غلام السلطان محمود، واسمه ختلغ ابه، بتوقيع عز الدين مسعود بحلب، وصحبته عمدة الدين سنقر الطويل صاحب حران المعروف بدراز، وسلم التوقيع إلى تومان بتسليم الموضع إلى خطلبا [ختلغ أبه] فلم يقبل، وأحتج بعلامة بينه وبين عز الدين لم يتضمنها التوقيع، وأعترف بالخط حسبُ، وكانت العلامة بينهما صورة غزال لأن عز الدين كان أحسن الناس نقوشاً وتصاوير، وكان من الذكاء على أمر عظيم، وطال الأمر على خطلبا وأشاروا عليه بالعودة فعاد، وكان عز الدين محاصر الرحبة وبها قراقش الأمير حسن، رجل فارسي الأصل، فاستأمن ونزل، ونزل الموضع غيره، فمات عز الدين، فوصل في خمسة أيام فوجد مسعوداً قد مات، وهو مطروحٌ على قطعة بساط، والعسكر مشغولون عن دفنه قد نهب بعضهم بعضاً، فعاد خطلبا إلى حلب في ثلاثة أيام وعرّف الناس بموته، فأدخله ابن بديع المدينة إلى داره، واستنزلوا تومان من القلعة بعدما صحَّ عنده وفاةُّ صاحبه، فصانعهم على ألف دينار وسلّم القلعة وملّكها خطلبا وأستحلفه الحلبيون واستوثقوا منه، وطلع المركز بتاريخ الخميس لست بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة، والقمر في الجوزاء على قران المريخ. ولما صعد وبقي أياماً ظهر انه من أهل الشر والظلم، فتشوشت قلوب الرعية، وحمله قوم من أهل السوء على الطمع، فتغير وبدّل ما حلف عليه، وصار يختم تركة من يموت ويرفع ماله إليه ولا يكشف هل له وارث أم لا، وصح

_ (1) بغية الطلب 6: 132، 7: 207 نقلاً عن الموصل على الأصل المؤصل (وقارن بالتاريخ الصغير: 398 - 399) سويم: 217، 253.

هذا عند الأمير بدر الدولة والرئيس فضائل بن بديع وانه قد عوّل على قبضهما، فتحالفا عليه واتفق معهما أحداث حلب، فقاموا عليه ليلة الثلاثاء، ثاني شوال ليلاً والقمر في القوس في ست درج على تسديد زحل، وكان غلمان خطلبا وحجابه وأصحابه في قلة، وكلهم يشربون في البلد لأنه عشية عيد الفطر عند أصدقائهم ومعارفهم، فقبضهم الحلبيون وملئوا بهم الحبوس والمساجد ودار ابن الأقريطشي، وقيدوهم وأصبحوا معتقلين، وزحف الناس كافة على باب القلعة وحصروا القلعة، فقاتلهم النهار أجمع، ولما كان الليل نزل أحرق القصر الذي لم يكن في البلاد مثله، وأتلف ما فيه من السقوف والأبواب والأخشاب والرخام ودار الذهب حتى تواقع بعضه على بعض، وهجم الناس صبيحة تلك الليلة فنهبوا منه كل ما قدروا عليه، وقتل من الناس جماعة، ووصل إلى باب حلب الأميران: حسان بن كمشتكين البعلبكي وأخوه حسن صاحبا منبج وبزاعة بتاريخ السبت سابع شوال، وساماه الخروج معهما فأبا ذلك على أن يسلم حلب إلى بياض البلد وأبن مالك ويتسكع، فلما أبى طال الحصار، ووصل بعد ذلك جوسلين إلى باب حلب في مائتي فارس ونزل بابلاّ وتقدم إلى بانقوسا، ونفذ رسوله إلى حلب بتاريخ الأحد ثامن شوال وطلب خدمة فصانعوه ودافعوه. وفي آخر شوال وصل الملك إبراهيم ابن رضوان فأدخلوه إلى حلب وأكرموه ونادوا بشعاره، وخرج صاحب إنطاكية البيمند ونزل صلدع بتاريخ الأربعاء حادي عشر شوال، والمراسلة تعمل، وركبوا بكرة ذلك اليوم وضايقوا حلب، وركب الملك إبراهيم بن رضوان وبدر الدولة ونفر الحلبيون والرئيس ابن البديع في خلق عظيم وتراسلوا، فاستوت الهدنة ووقعت الأيمان على المدة المعلومة، وحمل إليه ما اقترحه يوم الخميس ثاني عشر شوال بعد أن أشرف الناس على الخطر العظيم. ودخل رسول الإفرنج قبض من حلب ألف دينار وقرر ألفاً أخرى وعاد إلى إنطاكية، وصار كلما ما غاب من الحلبيين رجل قد قتل او صلب، وطال الأمر على خطلبا، وحفروا خندقاً حول القلعة، فكلما خرج منها رجل أو دخل إليها أٌخذ، إلى نصف ذي الحجة وصل الأمير سنقر دراز والأمير حسن قراقش وجماعة أمراء في عسكر قوي إلى باب حلب، واتفق الأمر على أن يسير بدر الدولة وخطلبا إلى باب الموصل إلى المولى الاصفهسلار الملك عماد

الدين قسيم الدولة زنكي بن قسيم الدولة آق سنقر إلى الموصل، فلما ولي عاد إلى منصبه، وأقام بحلب الأمير حسن قراقش والرئيس فضائل بن بديع، فأصلح عماد الدين بينهما ولم يوقع لأحد منهما، وطمع بملك البلد وسير سرية إلى حلب مع الأمير الحاجب صلاح الدين العمادي، فوصل إلى حلب وأطلع إلى القلعة والياً من قبله، ورتب الأمور وجرت على يده على السداد، وهو الذي تولى إنزاله وإليه اطمأن. - 46 - (1) سنة 522: في جمادى الآخرة وصل قسيم الدولة أبو سعيد زنكي إلى حلب وملكها، وصعد القلعة وبات بها، وعاد إلى نقرة بني أسد وقبض على خطلبا وحمله إلى حلب وسلمه إلى عدوه ابن بديع، فكحلوه بداره في النصف من رجب. - 47 - (2) سنة 523: وف ي جمادى الآخرة عاد الأمير عماد الدين قسيم الدولة زنكي من عند السلطان إلى الموصل ومعه طغراء بتجديد الجزيرتين والشام وحلب والشط وما اتصل بذلك بعد ما خرج عنة يده بالدركا (؟) ومائة وعشرون ألف دينار. - 48 - (3) سنة 524: وفي مستهل رجب وصل عماد الدين زنكي بن آق سنفر إلى أكناف الفرات، وفتح قلعة السن، وسير سيره ونفذت مع الثقل إلى باب حلب، ونفضت الخيل أغارت على بلد عزاز، وعاثوا في بلد جوسلين مقابلةً له على قديم قبيحه في غيبة الأمير قسيم الدولة. ثم عبر الأمير قسيم الدولة بتاريخ الأحد ثامن

_ (1) بغية الطلب (وقارن بالتاريخ الصغير: 400) وسويم: 221، 254. (2) بغية الطلب 7: 207 (وقارن بالتاريخ الصغير: 401) سويم: 254. (3) بغية الطلب 7: 207 (وقارن بالتاريخ الصغير: 402) سويم: 254 - 255.

عشرين رجب فخيم بظاهر حلب، وتكررت الرسل في الصلح، فاصطلحوا مدة سنة، وكان الأمير قد رعى زرع الرها في طريقة وظفر بالتركمان أيضاً وكسرهم؟ وفي هذه المدة تزوج أتابك قسيم الدولة بخاتون بنت الملك رضوان ودخل بها يوم الاثنين في عشرين من شعبان؟ وفي يوم الاثنين عاشر شوال تسلم اتباك عماد الدين حماة وقبض على خيرخان صاحب حمص ونزل ربضها، وطلب من أولاد خير خان التسليم، فامتنعوا، وشبت الرحب بينهم، وسنع (1) على الأمير أطسيس بن رل فقتلوه ورمي برأسه ونقبوا القلعة فبطل النقب ونصبت المجانيق فبطلت وطال الشرح وهجم الشتاء فعاد العسكر إلى حلب ثاني ذي الحجة. - 49 - (2) سنة 525: في المحرم سار أتابك عماد الدين مشرقاً يوم الخميس عبرته، وكان السلطان محمود يشتي ببغداد، فلما كان في ثالث عشر ربيع الآخر شرق نحو أصبهان وبلغه عن أخاع باين العداوة، فردً أمر العراق إلى عماد الدين قسيم الدولة زنكي مضافاً إلى ما كان في يده من الجزيرة والشام، وهذا كله ودبيس مقيم بفم البرية يتواعد بغداد بالخراب، وبلغ أتابك عماد الدين وفاة السلطان محمود بن نبر وهو على القريتين، فسار نحو الموصل ليلة الخميس سادس عشر من شوال، وكان لهذا السلطان عند الأمير ولدان أجدهما الذي كان أمه عند سنقر البرسقي وماتت، أسمه ألب أرسلان أبو طالب، والآخر الذي كان عند دبيس، فبعث عماد الدين يسوم المسترشد أن يخطب لأبي طالب ولد السلطان، فأعتذر المسترشد إليه بأنه صبي وإن المنقول رسم لولده داود، وهو بإصبهان، وقد وصلت رسل البلاد كلها تقول: أخطب لداود فنحن له طائعون ونحن ننتظر جواب كتاب زنجر عم القوم. وكان أتابك عماد الدين قد أخذ خبر عودة ابن الأنباري رسول الخلافة من دمشق، وكان

_ (1) كذا في الأصل. (2) بغية الطلب 7: 208 (وقارن بالتاريخ الصغير: 404) سويم: 255.

المسترشد نفذه في معنى دبيس إلى تاج الملوك، فوجد قد صار إلى عماد الدين فعاد، وكانت في صحبته قافلة عظيمة فيها أموال، فبعث عماد الدين إليه سرية للقبض عليه، فقبضوا عليه ونهبوا القافلة في كياد الخليفة، وفك القيود عن دبيس وخلع عليه وحمل من المال والجوهر والخيل والعدد ما لا حد له، وخرج من الدار التي كان يشرب فيها وسلمها إليه بالآتها وكل ما فيها. - 49 - (1) سنة 529: تواقع على باب مراغة السلطان مسعود والمسترشد بالله، فانكسر المسترشد وأسر، فوثب عليه قوم بالسكاكين فقتلوه، واضطرب العسكر، فأوجب التدبير أن قتل دبيس صدقة بحضرة السلطان مسعود. - 50 - (2) سنة 531: فيها مات سابور بن علي الجبري الشاعر، وعمره ثمانون سنة. - 51 - (3) سنة 534: مات الشيخ الإمام أبو عبد الله ابن العجمي رحمه الله، الدين الزاهد ورثيته. - 52 - (4) قال أبو سالم ابن معد بن سعيد القاضي يمدح نشو الدولة سوتكين حلجب الأمير سيف الدين سوار:

_ (1) بغية الطلب 6: 315 (والتاريخ الصغير: 410) وسويم: 248. (2) بغية الطلب 8: 149. (3) بغية الطلب 5: 5. (4) بغية الطلب 9: 93.

غزاني غزالٌ باعتدالٍ بقدِّهِ ... وحسنِ معانيه وحمرةِ خدهُ وأمرض جسمي بالقطيعة والجفا ... وما هكذا فعلُ المليكِ بجنده وكيف اصطباري عنه والقلبُ قد صبا ... إليه شوقي زائدٌ فوق حده فإن لم يُجِزْني بالرضا من صدودِهِ ... وإلا فإني ميتٌ قبل صده خليليٌ مالي من معينٍ على الأسى ... ولا من يُسَلَيني بخالص وده وينصفني من صَرْفِ دهرٍ كأنني ... جنيتُ عليه ناقضاً عَقٌد عهده سوى الحاجب الندبِ الجوادِ الذي رقى ... مراتبَ مجددٍ قابلتْ شُهْبَ سعده فذاك نُشُوّ الدولةِ الناهضُ الذي ... كفانا مُلِمَّاتِ الزمانِ بحده وأوسعنا من جودِهِ وعطائه ... كرائمَ مالٍ حمدُهَا بعضُ حمده تراه إذا ما جئته مُتطلِّباً ... عطاياه يبدي بِشْرَهُ عند وفده فترجعُ مملوءَ الحقائب موقَراً ... عطاءً بلا منَّ يُشابُ برفده فما حاتمُ جوداً وكعب بن مامةٍ ... ومعنُ الندى إلا عبيدٌ لعبده له شرفٌ فوق السّماكِ وهمةٌ ... وعلمٌ بإرخاء الزمان وشده أخو عَزَماتٍ قاطعاتٍ كأنها ... حسامٌ تَجَلَّى مَتْنُهُ بفرنده إذا الحربُ دارت كان قطباً وأحجمت ... فوارسُ موتٍ عاينوا هَوْلَ وِرده وثار غبارُ النقعِ ليلاً وَحُرِّقَتْ ... قلوبُ رماها الخوف في حرِّ وقده تراه يخوضُ الموتَ في غَمَراته ... يذبُّ بحدَّ السيف عن نَيْلِ نجده فلا زال محروسَ الجَنَابِ ممتعاً ... مدى الدهرِ ما غنَّى الحمامُ بوجده - 53 - (1) ولأبي المنى بن علي الحلبي يمدح الحاجب سوتكين حاجب سوار بحلب المقلب نشو الدولة: الحربُ من شِيَمي والشعرُ من شُغُلي ... والمدحُ في أفرسِ الفرسانِ من عملي وعفّتي وصلاحي دائبان ولي ... إليهما الفضل والأجوادُ تشهد لي

_ (1) بغية الطلب 9: 199.

والغادةُ الكاعبُ الحسناءُ ليس تَرى ... مني سوى الصدَّ والهجرانِ والملل ولا جزعتُ وقد شطَّ المزارُ بها ... ولا صبوتُ إلى سيَّارةٍ ذُلُل ولا أرقتُ إشتياقاً حيثما رحلتْ ... ولا نظرتُ إلى سِجْفٍ ولا كِلَل ولا وقفتُ على آثارها أَسفاً ... ولا بكيتُ على ربعٍ ولا طلل قال فيها: لسوتكينَ نظمتُ الشعرَ ممتدحاً ... للحاجب الأريحيَّ الضيغمِ البطلِ ليث الكتائبِ مقدامُ الضرائبِ وهَّ؟ ... ابُ الرغائبِ إعطاءً بلا ملل وافي العزائمِ معطاء المغانمِ غفّ؟ ... ارُ الجرائمِ ساقي الموتِ بالذُّبُل ثبتُ الأصيلةِ عالٍ في القبيلة بال؟ ... كفّ الجميلة حلوُ الخُلْقِ كالعسل حصنٌ لشدّتنا ذخرٌ لفاقتنا ... نَشْوّ لدولتنا أمنٌ منَ الزلل

الاستظهار في التاريخ على الشهور

- 7 - (1) الاستظهار في التاريخ على الشهور للقاضي أبي القاسم علي بن محمد بن أحمد الرجي المعروف بابن السمناني 493/ - 1100

_ (1) ترجمته في الجواهر 2: 605 - 610 والفوائد البهية: 123 وانظر: بروكلمان، التاريخ 1: 373 والتكملة 1: 638 والزركلي 5: 148 وإيضاح المكنون 1: 596، 2: 99 وهدية العارفين 1: 694 وكشف الظنون 2: 133 (وجعل وفاته سنة 499) .

فراغ

نسبة الرحبي إلى رحبة الملك بن طوق حيث ولد، وقضى شطراً من عمره في بغداد، ثم اتصل بالوزير نظام الملك ونفق عليه وأجرى له في كل سنة سبعمائة وعشرين ديناراً وجعله صاحب خبره في بغداد، وولاه قضاء الرحبة والرقة وحران وسروج وحلب وأعمال ذلك كله. وهو من فقهاء الحنفية، وله مؤلفات في الفقه والشروط، فمن مؤلفاته: (1) روضة القضاة وطريق النجاة أو أدب القاضي. (2) سراج المصلي. (3) العروة الوثقى في الشروط (1) . أما كتابه الاستظهار في التاريخ على الشهور، فقد اطلع عليه ابن العديم ونقل منه نصاً عن مقتل نظام الملك، وهو شهادة من رجل يشعر بأيادي الوزير عليه ولا يخفي مبلغ ما ناله من صلاته. - 1 - (2) في شهر رمضان من سنة خمس وثمانين وأربعمائة قتل الشيخ الكبير قوام

_ (1) ذكره حاجي خليفة 2: 113 والبغدادي في إيضاح المكنون 2: 99 وهدية العارفين 1: 694. (2) بغية الطلب 4: 299 وسويم: 89 - 91.

الدين نظام الملك أبو علي الحسن ابن علي بن إسحاق رضي أمير المؤمنين، رضي الله عنه، في ظاهر نهاوند وهو سائر إلى العراق، قتله إنسان ديلمي غيلةً، بعد الفطر ليلة الجمعة حادي عشر منه، وكان مولده في ذي القعدة من سنة ثمان وأربعمائة، وبقي في الأمر وزيراً وناظراً ومشرفاً نحو خمسين سنة، وبلغ في الوزارة ما لم يبلغه أحد من وزراء الدولتين، وكان يضرب له الطبل والقصاع ثلاث صلوات حضراً وسفراً، وه الذي بنا الدولة السلجوقية وأسس قواعدها، وتفتحت الدنيا على يديه، وكان صدوق اللسان جيد الرأي كبير النفس حليماً وقوراً يصلي بالليل ويصوم في أكثر الأوقات، وهو أول وزير بنى المدارس في البلاد، وأجرى على المدرسين والمتفقه والأدباء والشعراء وأهل البيوتات والرؤساء، ولم ينظر قط إلى ظهر محروم، وما قصده أحد في أمر إلا ناله أو معظمه، فأما الحرمان فلا. ولم يبق عليه من عظيم الملك غير ما فعله وبناه وخلد به ذكره في العالم وفاق به على من تقدم، رضي الله عنه وأرضاه وأحسن له الجزاء، ولقد وصلني في سبع سفرات يألف وأربعمائة دينار من ماله غير الثياب والنزل والإقامة، وأجرى علي من بيت المال سبعمائة دينار وعشرين ديناراً في كل سنة، وولاني قضاء الرحبة والرقة وحران وسروج وحلب وأعمال ذلك كله، وخاطبني بالقاضي السديد العالم بحر العلماء عين القضاة في مكاتبته، فاحسن الله له عني الجزاء. وكان يكرم العلماء على اختلاف مذاهبهم، وله فضل وكرم وبصيرة بالرجال، قريب من القلوب لا يتشاغل إلا بتلاوة القران وسماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناظرة الفقهاء بين يديه. وتقدم في زمانه من لم يكن متقدماً من الرجال، وتأخر من كان متقدماً من الرجال، وتأخر من كان متقدماً، واسترجع الممالك كلها وقبضها إلى السلطان. وهو أول من أقطع البلاد والضياع للعساكر والأجناد. وكان يرعى لأهل البيوتات بيوتهم وللعلماء علمهم وللشعراء شعرهم وللأدباء أدبهم وللأشراف شرفهم، وكان أمر الدولة في الزيادة إلى شاركه في الرأي غيره وداخل السلطان سواه، فهلكت الدولة ولم يبق السلطان بعده، إلا نيف وثلاثون يوماً، رضي الله عنه.

عنوان السير في محاسن أهل البدو والحضر

- 8 - (1) عنوان السير في محاسن أهل البدو والحضر لأبي الحسن محمد بن عبد الملك الهمنداني " 463 / 521 " " 107/1127 "

_ (1) ترجمته في المنتظم: 10: 8 والبداية والنهاية 12: 198 وطبقات الشافعية الكبرى 6: 135 والوافي بالوفيات 4: 37 ومختصر أبو الفدا 2: 239، وتاريخ ابن الوردي 2: 33 وابن الأثير 4: 100 وشذرات الذهب 4: 100 وعيون التواريخ 12: 193 وصفحات متفرقة من كشف الظنون 30، 471، 1105، 1175، 1186.

فراغ

كان والده عبد الملك بن إبراهيم بن احمد الهمذاني رجلاً ورعاً، دعي إلى القضاء مراراً فلم يجب إلى ذلك، وكان معروفاً بالفرائض ولذلك يقال في نسبته أحياناً الفَرَضي، كما تلحقُ هذه النسبة بابنه، ويحدِّث محمد عن ذكريات طفولته فيقول: كان أبي إذا أراد أن يؤدبني، يأخذ العصا بيده ويقول: نويتُ أن أضربَ ابني تأديباً؟ وإلى أن تتم له النيةُ أهرب منه. وقد سمع محمد أبا الحسين أحمد بن محمد بن النقور وأبا الفوارس طراداً الزينبي وغيرهما، وغلب عليه من بعد الاتجاه إلى التأليف في التاريخ (وعنه روى ابن عساكر في معجم شيوخه) فكان من مؤلفاته: 1 - ذيل على تاريخ أبي شجاع الذي هو ذيل على تجارب الأمم لمسكويه. 2 - أخبار الوزراء وهو ذيل على كتاب ابن الصابي، ونقل منه ابن العديم (161:5) (1) وربما كان ياقوت (معجم الأدباء 7: 150) ينقل عنه دون أن يسمّيه. 3 - كتاب طبقات الفقهاء. 4 - أخبار دولة السلطان محمد ومحمود. 5 - أمراء الحج من زمن النبي (صلى عليه وسلم) حتى أيامه.

_ (1) نقل ابن العديم خبر وفاة أبي يعلي الحسين بن محمد والد الوزير أبي شجاع في ذي القعدة سنة ستين وأربعمائة.

6 - تاريخ الملوك والدول (1) . 7 - كتاب الشؤم. 8 - الذيل على تاريخ الطبري، وقد طبع هذا الكتاب بعنوان تكملة تاريخ الطبري (2) وجاء في مقدمته " فرأيت أن أضيف إليه (أي تاريخ الطبري) مجموعاً عوّلت فيه على ما نقلته من تصانيف المؤرخين وتآليف المحققين كالصولي والتنوخي والخطيب أبو بكر أحمد بن ثابت وأبي إسحاق الصابي وأولاده وابن سنان وغير هؤلاء، وأضفت إلى ذلك ما حفظته من شعر الشعراء وحكايات العلماء. . واختصرت جهدي، ولخصته بحسب طاقتي، واقتصرت فيه على الأمور المشهورة والأحوال السائرة المأثورة، وختمته ببيعة سيدنا ومولانا الإمام المستظهر بالله أمير المؤمنين. . ولما ختم ابن جرير تاريخه سنة اثنتين وثلاثمائه، وهي السنة السابعة من خلافة المقتدر بالله رحمه الله وأشار إلى الأمور إشارة خفية رأيت أن أبتدئ بخلافته ووقت بيعته، وبالله التوفيق " (3) . إذن فالمفروض أن الكتاب يبدأ سنة 296، وينتهي سنة 487 أو في حدود ذلك، ولكن ما لدينا من الكتاب ينتهي سنة 366، وعلى ذلك فهناك قسم منه ما يزال مفقوداً. ومن الغريب قول السخاوي إن ابن عبد الملك ذيَّل على تاريخ الطبري من الأيام المقتدرية إلى عضد الدولة أبي شجاع في أول سنة ستين وثلاثمائة (4) فهل هذا هو كل ما رآه السخاوي أو أن المؤلف لم يستطع أن يفي بكل ما وعد به؟ 9 - عنوان السير في محاسن البدو والحضر: أكثر المصادر على أن هذا هو اسمه وشذَّ ابن خلكان إلا في موضع واحد (5) فسماه " عيون السير " (6) وميزه ابن

_ (1) الإعلان (روزنتال) : 550 ولا أدري هل هو كتاب مفرد أو أنه يعني مجموعة كتبه في التاريخ. (2) بيروت 1958، 1962. (3) تكملة تاريخ الطبري: 3. (4) الإعلان بالتوبيخ: 144 (روزنتال: 670) . (5) وفيات الأعيان 2: 116. (6) وفيات الأعيان 3: 425، 5: 59، 105، 119 وكشف الظنون: 1186 (وسماه " عنوان السير " ص 1175) .

خلكان أيضاً بقوله: وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني في " تاريخه الصغير " (1) أتراه يعده صغيراً بالنسبة إلى أي شئ؟ هل يكون " عيون السير " منتخباً موجزاً من كتاب أكبر اسمه " عنوان السير " أو أنه تاريخ له صغير بالنسبة إلى كتابه (رقم:6) تاريخ الملوك والدول؟ كلا الأمرين محتمل، ولكنا لا نستطيع القطع لفقدان الأدلة العينية. وقد نقل عنه ابن العديم وابن خلّكان، وتدلُّ النقول التي وصلتنا أن الكتاب كان مجموعة من السير لبعض الحكام كالإخشيديين والحمدانيين، وبعض الوزراء، وأنه لم يكن مرتباً على السنن، ولهذا لا نستطيع أن نجزم على أي أساس أوردت فيه التراجم، وهل كان على حروف الهجاء، أو على حسب " أفراد الأسر " المعنية التي تحدث عنها المؤلف، وهل أفردت تراجم الحكام عن تراجم الوزراء أو لا، وما فيه من تراجم للبدو، إذا قيست بتراجم الحضر (2) . - 1 - (3) تغلّب حمدان بن حمدون بن حارث بن لقمان بن راشد التغلبي على دارا ونصيبين وتحصن بقلعة ماردين، فخرج أليه المعتضد بالله ووقف على بابها وقال: يا حمدان افتح الباب، ففتحه، وجلس المعتضد بالله فأمر بنقل مافيها وهدمها، ثم رضي على حمدان وأمَّره على تغلب. وكان أهل الموصل وديار بكر قد عمهم الغلاءُ ثلاثةَ أعوام، فحمل إليهم حمدان من الأقوات ما رَخَّصَ أسعارهم، وأنفق

_ (1) وفيات الأعيان 5: 59. (2) ينقل ياقوت في معجم الأدباء (5: 140، 16: 122، 123، 148) عن محمد بن عبد الملك وهو غير الهمذاني، وللتمييز فإن الأول ينعت دائماً ب؟ " التاريخي " وكذلك كنيته " أبو بكر " تميزه عن الهمذاني، وانظر أيضاً طبقات النحويين للزبيدي: 106، وللتاريخي ترجمة في أنساب السمعاني (مرغوليوث) : 102. (3) بغية الطلب 5: 275.

على سور ملطية سبعين ألف دينار، ووقف أربعمائة فرس عليهم، وتوفي في سنة اثنتين وثمانين ومائتين. - 2 - (1) أبو العلاء سعيد بن حمدان: وكان في عسكر المقتدر بالله خمسة آلاف من السودان، ومنازلهم بدرب عمار، فكثر تحكمهم وشغبهم، فأوقع بهم أبو العلاء ابن حمدان في سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، وأحرق منازلهم، وبطل أمرهم من الدواوين والدنيا. وتقدم أبو العلاء عند الراضي بالله لأنه نصر أباه في حربه، واغتاله ابن أخيه أبو محمد ناصر الدولة، وقتل بالموصل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. - 3 - (2) أبو العشائر ابن حمدان، وهو القائل: وما سرَّ قلبي منذُ شَطَّتْ بكَ النوى ... أنيسٌ ولا كأسٌ ولا مُتَصَرَّفُ وما ذقتُ طعمَ الماءِ إلا وجدتُهُ ... كأنْ ليس بالماءِ الذي كنت أعرف ولم أشهدِ اللذاتِ إلا تكلّفاً ... وأيّ سرورٍ يقتضيه التكلف؟ ولما خرج الحاج في زمن المكتفي كان معهم أبو العشائر ابن حمدان فظفر بهم زكرويه بن مهرويه القرمطي، فقطع يدي أبي العشائر ورجليه بزبالة؟. وأخذ الرومُ حلبَ وقتلوا أبا العشائر وإخوته في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة [قال ابن العديم: وهذا خطأ من ابن الهمذاني فيما ذكره أولاً وثانياً، فإن أبا العشائر توفي أسيراً في يد الروم بالقسطنطينية في سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين] . - 4 - (3) ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان: لقَّبه

_ (1) بغية الطلب 8: 294. (2) بغية الطلب 5: 13. (3) بغية الطلب 4: 260.

المتقي بهذا اللقب، وهو ثاني من لُقِّبَ في الدولة، ولقب أخاه أبا الحسن سيف الدولة، وولَّى ناصر الدولة إمارة الأمراءِ ببغداد وواسط في سنة ثلاثين وثلاثمائة، وضرب دنانير سماها الإبريزية، وبيع الدينار منها بإثني عشر درهماً، وزوج ابنته عدويه من الأمير أبي منصور ابن المتقي لله على صداق تعجل منه مائة ألف دينار، وكانت إمارته ببغداد ثلاثة عشر شهراً وثلاثة أيام. - 5 - (1) ولم يزل [ناصر الدولة] مستولياً على ديار الموصل وغيرها حتى قبض عليه ابنه أبو تغلب في سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وكانت إمارته هناك اثنتين وثلاثين سنة، وتوفي يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، [رحمه الله تعالى. وقتل أبوه ببغداد وهو يدافع عن الإمام القاهر بالله وقصته مشهورة لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة رحمه الله تعالى] . - 6 - (2) وكان لناصر الدولة أبي محمد بن حمدان أولاد منهم أبو المظفر حمدان، وهو مذكور في التاريخ وفي مديح ابن نباتة. - 7 - (3) [أبو بكر محمد بن أبي محمد طغج المنعوت بالإخشيد] كان جيشه يحتوي على أربعمائة ألف رجل، وكان جباناً، وكان له ثمانية آلاف مملوك يحرسه في كل ليلة ألفان منهم، ويوكل بجانب خيمته الخدم إذا سافرَ، ثم لا يثق حتى يمضي إلى

_ (1) بغية الطلب 4: 261 وابن خلكان 2: 116 - 117 وما بين معقفين زيادة منه. (2) بغية الطلب 5: 274. (3) وفيات الأعيان 5: 59.

خيم الفراشين فينام فيها، ولم يزل على مملكته وسيادته إلى أن توفي في الساعة الرابعة من يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة بدمشق، وحمل تابوته إلى بيت المقدس فدفن به. - 8 - (1) وفي ليلة الخميس الخامس من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعمائة قتل أبو منصور سعد بن مروان في الحصن المعروف بالهتاخ، وولي أخوه أبو نصر أحمد بن مروان، ولقَّبه بالله نصرَ الدولة، وعدل في رعيته، وتنعم تنعما ً لم يسبق إليه وملك خمسمائة سرية سوى خدمهن وتوابعهن، وكان معروفاً بكثرة الأكل والشرب والنكاح، وتزوج بنات ملوك الأطراف، وكان يجمع في مجلس لذته من الأواني ما يزيد قيمته على مائتي ألف دينار، وكان يصدق بالصدقات الكثيرة. ووقع وبأ في بلاده وكفن في سنة واحدة أربعة عشر ألف إنساناً. وكان لإهل الدين والعلم عنده مقدار عظيم. والتمس مائة ألف دينار يصرفها في بعض حوبه فأحضر له وزيره توزيعاً على أهل الأموال بها فقال: لو أردت أموال الناس لعولت على صاحب الشرط، وإنما أريد ذلك من أمول المتاجرة، فأتاه تاجرٌ بألف دينار فقال: أسألك يا مولانا قبولها في هذا البيكار فإني أكتسيت أمثالها في بعض الأيام، فقال: خذها ولا حاجة لي فيها، وأمر أن يتضدق في خزائنه شكراً لله تعالى في عمارة بلده، وكان بآمد في أيامه أربعة عشر داراً للمرابطين وعشرة آلاف رجل من المجاهدين، وسلاح عظيم، وذلك في وزارة فخر الدولة أبي نصر محمد بن محمد بن جهير لأبن مروان، وتوفي في شوال سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وعمره ست وسبعون سنة وثمانية أشهر، وإمارته ثلاث وخمسون سنة تنقص شهراً واحداً. وولي بعده أبنه نضام الدين أبو القاسم نصر. - 9 - (2) ولما مات أبو عبد الله الحسين بن ناصر الدولة أبي محمد بن حمدان بصور

_ (1) بغية الطلب 2: 61. (2) بغية الطلب 4: 187.

وهو وإليها من قبل المصريين قام مقامه أبنه أبو محمد الحسن واستولى على دمشق، فنفذ إليه المستنصر خادماً في سنة أربعين وأربعمائة، فقبض عليه ونفذ به إلى مصر، ثم رضي الله عنه، فاستولى على أمور الدولة هنالك، ثم أراد أن يزيل أمرهم فقتلوه في سنة ست وستين وأربعمائة. - 10 - (1) وأقلع السلطان (2) حلب وقلعتها مملوكه آق سنقر ولقبه قسيم الدولة، وذك في سنة تسع وسبعين وأربعمائة فأحسن السيرة، وظهر منه عدل لم يعرف بمثله، واستغلها في كل يوم ألفاً وخمسمائة دينار، ولم يزل بها حتى قتله تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان في سنةسبع وثمانين وأربعمائة. - 11 - (3) لما أستوزر عز الدولة بختيار بن بويه ابن بقية بعد أن كان يتولى أمر المطبخ قال الناس: من الغضارة إلى الوزارة، وستر كرمُهُ عيوبَهُ، وخَلَعَ في عشرين يوماً عشرين ألف خلعة. - 12 - (4) نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي: وزر للسلطان ألب أرسلان ولولده السلطان ملك شاه تسعاً وعشرين سنة، قتل بالقرب من نهاوند في الليلة الحادية عشرة من شهر رمظان سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وعمره ست وسبعون سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوماً، أغتاله أحد الباطنية وقد فرغ من فطوره. وقيل أن السلطان ملك شاه ولف عليه من قتله لأنه سئم طول عمره، ومات

_ (1) بغية الطلب 3: 269 وسويم: 99 - 100. (2) يريد السلطان ملكشاه. (3) وفيات الأعيان 5: 19. (4) بغية الطلب 4: 299 وسويم: 91 - 92.

بعده بشهر وخمسة أيام. وتقدم نظام الملك في الدنيا التقدم العظيم، وأفضل على الخلق الإفضال الكبير، وعم الناس بمعروفه، وبنى المدارس لأصحاب الشافعي ووقف عليهم الوقوف، وزاد في الحلم والدين على من تقدمه من الوزراء، ولم يبلغ أحدٌ منه منزلته في جميع أموره، وعبر جيحون فوقع على العامل بإنطاكية ما يصرف إلا الملاحين. وملك من الغلمان الأتراك ألوفاً عديدة، وكان جمهور العساكر وشجعانهم وفتاكهم من مماليكه. وتحدث أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي قال: سألته عن السبب في تعظيم الصوفية، فقال: أتاني صوفي وأنا أخدم ابن باخر الأمير التركي فوعظني وقال: أخدم من تنفعك خدمته، ولا تشتغل بمن تأكله الكلاب غداً، فلم أعرف معنى قوله، فأتفق أن ابن باخر شرب من الغد، واغتبق، وكانت له كلابٌ كالسباع تفرسُ السباعَ بالليل، فخلبه السكر وخرج وحده، فلم تعرفه الكلاب فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف، فأنا أطلب أمثاله. 13 - (1) وولي بعده [يعني رضوان بن تتش] أبو شجاع محمد بن رضوان، وكان لا يحسن أن يتكلم، واستولى على حلب، وله من العمر تسع عشر سنة، وقتل خلقاً من أصحاب أبيه، فاغتالهُ خادمٌ كان خصيصاً به أسمه لؤلؤ في رجب سن ثمان وخمسمائة، وكان ملكه بحلب سنة واحدة. 14 - (2) وملكها [يعني حلب] بعده [يعني بعد مقتل أبيه تتش] في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة أبنه أبو المظفر رضوان بن تتش تسع عشرة سنة، وتوفي في سحره يوم الأربعاء آخر يوم من جمادى الآخرة سنة سبع وخمسمائة، وعمره أثنتان وثلاثون سنة، وخلف عيناً وعروضاً تتقارب ألف ألف دينار.

_ (1) بغية الطلب 3: 290 وسويم: 154. (2) بغية الطلب 7: 95 وسويم: 151.

تاريخ همام بن الفضل بن جعفر بن علي بن المهذب التنوخي

9 - تاريخ همام بن الفضل بن جعفر بن علي بن المهذب التنوخي

فراغ

كانت أسرة بني المهذب من الأسر المرموقة في المعرة، وقد شهر منها غير واحد من الفضلاء، (أنظر: جزء فيه مراثي بني المهذب) ، وقد اهتم أبو الحسين علي بن المهذب منهم بتدوين تعليق في التاريخ، وبعد وفاته سنة 387 997 ضلّ ذلك التعليق من بين ما تحتفظ به تلك الأسر، حتى نشأ همام بن الفضل بن جعفر ابن علي (فعلي هو جدّ والد همام وهمّام كان يكنى بابي غالب) ، وقد وجد همام لديه ميلاً إلى إكمال ما بدأه جد والده فجمع كتاباً في التاريخ جعله تذكرة كتبها مما وجده في التواريخ المتقدمة، ومما وجده بخط جد أبيه الشيخ أبي الحسين وغيرهن واعتمد فيه على تدوين ما سمعه من بعض من أدركهم من المعربين كأبي العلاء المعرّي نفسه وغيره من الشيوخ. وبما أنّ تاريخ أبي غالب همّام قد احتوى تاريخ جدِّ والده، فقد جمعت بين التاريخيين (مع التمييز عند الضرورة، بين ما نقل مباشرة عن تاريخ أبي الحسين، وما نقل عن تاريخ أبي غالب) . - 1 - (1) سنة 200: فيها ولد البحتري أبو عبادة الوليد بن عبيد الشاعر، ببلدة تسمى حردفنة من قرى منبج، في أول أيام المأمون وهو بخراسان. حدثني أبو العلاء المعرّي عمّن حدثه أن البحتري كان يركب برذوناً له وأبوه

_ (1) معجم البلدان 2: 239 (وقال غير المهذب، ولد البحتري في سنة 205 ومات سنة 284) .

يمشي قدّامه، فإذا دخل البحتري على بعض من يقصده، وقف أبوه على بابه قابضاً عنان دابته إلى أن يخرج فيركب ويمضي. - 2 - (1) سنة 220:فيها قتل المعتصم دعبل بن علي الخزاعي لهجائه له، وكان قد استجار بقبر الرشيد بطوس فلم يُجِرْهُ (2) . - 3 - (3) سنة 244: فيها قدم المتوكل إلى الشام ونزل بتل منس (4) في ذهابه وعودته. - 4 - (5) سنة 247: فيها قتل المتوكل. ومات المسهب بن واضح التلمنسي غرة محرم وعمره تسع وثمانون سنة، ودفن في تل منس، وكان مسنداً وله عقب. - 5 - (6) سنة 264: فيها ولد أحمد بن أبي حامد [محمد] بن همام رحمه الله،

_ (1) بغية الطلب 6: 340. (2) ذكر ابن خلكان أن دعبلاً توفي سنة 246، أي بعد وفاة المعتصم العباسي بكثير، إذ كانت وفاة المعتصم سنة 227/841 ولم أجد أحداً يقول إن المعتصم هو الذي قتله. (انظر بغية الطلب 6: 340/ نقلاً عن تاريخ همام) . (3) معجم البلدان 1: 871. (4) تل منس: حصن على مقربة من معرة النعمان. (5) معجم البلدان 1: 872. (6) بغية الطلب 2: 12.

وسمعت جماعةً من شيوخ معرة النعمان يصفونه ويقولون إنه كان شيخ جند حمص (1) . - 6 - (2) سنة 270: وفيها توفي أحمد بن طولون في ذي القعدة وقام مكانه ابنه خمارويه. - 7 - (3) سنة 288: وفيها هرب وصيف الخادم من مدينة بردعة من مولاه الأفشين وسار إلى الثغور الشامية، وتبعه المعتضد وظفر به بناحية الكنيسة السوداء، وهو يريد دخول بلد الروم فأخذه وانصرف به إلى بغداد فقتله، واعتل المعتضد لإتعابه نفسه في طلبه علةً كانت فيها وفاته، وقيل إنه وهو في طلبه وقد عاينه، حصره بولٌ، فاستبطأ نفسه أن ينزل، وعظم عليه أن يبولَ في ثيابه وسرجه، فانفتقت مثانته، وكان سبب موته. 8 - (4) سنة 290: فيها نجم بالشام قرمطي بأرض دمشق انتسب إلى العلوية، قال الشيخ أبو الحسين علي بن المهذب: أخبرني المهذب أبي أن هذا القرمطي أول

_ (1) من تاريخ همام وتعليق أبي الحسين (بغية الطلب 2: 12) ، وأحمد هذا تنوخي معري، وهو عم أبي الحسين علي بن المهذب صاحب التاريخ، وكانت وفاة أحمد سنة 331 (انظر ما يلي: رقم: 15) وقد أورد أبو الحسين في تعليقه مزيداً من التفصيل إذ يقول: فيها ولد عمي أحمد بن أبي حامد رحمه الله لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى وست خلت من أيار، وجدت مولده بخط أبيه جدي أبي حامد محمد بن همام. (2) بغية الطلب 1: 175 نقلاً عن تعليق أبي الحسين وحده.. (3) بغية الطلب 1: 124 نقلاً عن تعليق أبي الحسين وحده.. (4) بغية الطلب 1: 139 عن تاريخ همام.

من وقع عليه هذا اللقب، وكان خرج في بطن من بني عدي من كلب يقال لهم بنو العلّيص، فخرج أليه طغج بن جف والي دمشق من قبل الطولونية محتقراً له، في غير عددٍ ولا عدّة، وكان هذا القرمطي في بادية كلب، فأوقع بطغج ودخل إلى دمشق مهزوماً، ثم رجع فجمع عسكره وحشد وخرج أليه، فكان الظفر للقرمطي أيضاً، وقتل خلقاً كثيراً من أصحاب طغج ونهبوا عسكره، وعاد طغج إلى دمشق، فقوي القرمطي، وكتب طغج إلى مصر فوجه أليه جماعة من الفرسان والرجالة وأمدّهم من في الشام فصار جيشاً عظيماً، فخرج وهو غير شاكٍّ في الظفر به، فأوقع القرمطي به، وكانت الوقعة في موضع يعرف بالكسوة. وسار القرمطي إلى بعلبك ففتحها وقتل أهلها ونهب وأحرق، وسار القرمطي منها إلى حمص فدعا لنفسه بها وبثَّ ولاته في أعمالها، وضرب الدنانير والدراهم، وكتب عليها المهدي المنصور أمير المؤمنين، وكذلك كان يدعو له على المنابر، وأنفذ سريّة إلى حلب، فأوقع بأبي الأغر خليفة بن المبارك السلمي وعادة السرية، وجبى الخراج وحُمِلَ أليه مال جند حمص، فأنفذ الأمير أبو الحجر المؤمل بن مصبح أمير برزويه والبارة والروق (1) وأفامية وأعمال ذلك وبقي والي هذه المواضع من قبل الخلفاء ببغداد أربعين سنة فيها رجلين من أهل معرة النعمان اسم أحدهما أحمد بن محمد بن تمام والآخر ابن عاص القسري، وجاءا إلى القرمطي يرفعان على أهل معرة النعمان، فمضيا أليه وقالا له: إن أهل معرة النعمان قد شقّوا العصا وبطَّلوا الدعوة وغيَّروا الأذان ومنعوا الخوارج، وكان أهل معرة النعمان قد أرسلوا معهما الخراج فأُخِذَ منهما في الطريق، فلما قالا له ذلك التفت إلى كاتبه وقال له: اكتب وشهد شاهدان من أهلها، فسار إليها وقال لأصحابه: إن أغلقوا الباب فاجعلوا غارة على الدارين (حاشية: لعله الذراري) . فخرج أهل معرة النعمان ولا علم لهم بما قد جرى، وأصحاب القرمطي يقولون لهم: القوا مولانا السيد، فبلغ كثيرٌ من الناس إلى قرب حناك، وأخذ الأبواب أصحابُ القرمطي على الناس فقتل خلقٌ كثير، ودخلها يوم الأربعاء النصف من ذي الحجة، فأقام يقتل المشايخ والنساءَ والرجالَ

_ (1) حاشية: الروق هو الذي يقال له الروج، كورة معروفة.

والأطفال ويحرقُ وينهب خمسة عشر يوماً. فذكر أن القتلى كانوا بضعة عشر ألفاً. وخرج المكتفي إلى الرقة وأنفذ عساكره مع محمد بن سليمان الكاتب الأنباري، وكان شهماً شجاعاً مدّبراً، فحصل في حلب في جيش فيه ثلاثون الفاً مرتزقة فيما ذكر غير واحد وكان جهير بن محمد يقول له: تخرج إليهم فقد أهلكوا عشيرتي، فيقول له ابن الأنباري الكاتب: لو أخذوا بلحيتي ما خرجتُ إليهم حتى يهلّ هلال المحرم، يريد سنة إحدى وتسعين. 9 - (1) سنة 291: فيها سار محمد بن سليمان الكاتب الأنباري إلى القرامطة فأوقع بهم في قرية تعرف بالحسينية، فقتلهم وبدَّدَ شملهم، ولما تصور القرمطي ورأى أنه لا طاقةَ له بعساكر الخلافة هرب قبل الوقعة بأصحابه، فحصل في قرية شرقيَّ الرحبة تعرف بالدالية في نفرٍ يسير من خواصَّ أصحابه، وتستروا بها، وبعثَ بعضَ أصحابه متنكراً ليمتار لهم ما يحتاجون أليه، فأُخذَ وأَنكر، وأُتي به إلى رجل كان يتولى معونة الدالية يعرف بأبي خبزة لأحمد بن محمد بن كشمرد، وكان ابن كشمرد والي الرقة، وكان أبو خبزة صغير الشأن حقيراً في الجند، فسأله أبو خبزة عن خبره وقصته فتبين منه قولاً مختلفاً، فألح عليه أبو خبزة فأقرَّ ذلك الرجل بأنه من رجال القرمطي ودلّ عليهم في أيِّ موضع هم، فخرج أبو خبزة في من جَمَعَهُ من الأجناد الرجال إلى الموضع الذي فيه القرمطي وأصحابه فظفر بهم وبالقرمطي، وكان معهم حملان من المال فأخذهم والمال معه، وحمله إلى ابن كشمرد والي الرقّة، فأخذهم وكتب بخبرهم إلى المكتفي، فبعث إليه من تسلمهم منه وأوردهم الرقة، وانحدر المكتفي إلى مدينة السلام بغداد وهم معه، فبنى لهم دكةً عظيمة بظاهر القصر المتضدي وعُذّبوا عليها بأنواع العذاب.

_ (1) بغية الطلب 1: 139 عن تاريخ همام.

10 - (1) سنة 313:فيها توفي أبو إسحاق النحوي إبراهيم بن السريّ. حدثني الشيخ أبو العلاء أنه سمع عنه ببغداد أنه لما حضرته الوفاة سئل عن سنه، فعقد لهم سبعين، وآخر ما سثمِعَ منه: اللهم احشرني على مذهب أحمد بن حنبل. 11 - (2) سنة 314: فيها توفي أبو الحسن الرشيدي بحلب (3) . 12 - (4) [نقل بالمعنى] : إسحاق بن يوسف الفصيصي التنوخي أبو يعقوب والد محمد والحسين ممدوحَي المتنبي، وكان أمير حمص واللاذقية وجبلة، وكانت الولاية على هذه المواضع له ولأخيه إبراهيم في سنة 293هـ، وهما اللذان أوقعا بالأكراد في سنة ثلثمائة، ومقدّمهم يومئذ أبو الحجر المؤمل بن مصبح، وهزم عسكر أبي الحجر وقتل أكثرهم، وهرب أبو الحجر فطرح نفسه في بحيرة أفامية فأقام فيها أياماً في الماء، وفي تلك الوقعة يقول بعض شعراء تنوخ يصف فعل أبي الحجر: توهّمَ الحربَ شطرنجاً يقلّبها ... للقَمْر ينقلُ فيها الرخَّ والشاها جازتْ هزيمتُهُ أنهارَ فاميةٍ ... إلى البحيرة حتى غطَّ في ماها وإسحاق هذا وأخوه هما اللذان سوّيا حلفَ الروم حين افتتحوا اللاذقية

_ (1) معجم الأدباء 1: 130. (2) بغية الطلب 2: 30. (3) هذا منقول أيضاً عن تعليق أبي الحسين علي بن المهتذب وتاريخ همام (بغية الطلب 2: 30) وأبو الحسن الرشيدي هو أحمد بن محمد بن أبي يعقوب بن هارون الرشيد الهاشمي، ولي في أيام المقتدر أحكام المظالم والأمور الدينية، مدحه أبو بكر الصنوبري وغيره (بغية الطلب 2: 27) . (4) بغية الطلب 3: 18 عن تعليق أبي الحسين وتاريخ همام معاً.

وجبلة والهرياذة، وأسروا من كان فيها من المسلمين، وكانا بحمص فلم يلحقا بالروم، وكاتبا رئيسَ الأساقفةِ بقبرس وتهدداه فأطلق جميع الأسرى. وقدم إسحاق حلب سنة 319، وكان طريف السبكري صاحب حلب قد حاصره وجماعة أهله في حصونهم باللاذقية وغيرها وحاربوه حتى نفذ جميع ما عندهم من القوت والماء، فنزلوا على الأمان ودخلوا معه حلب مكرّمين. 13 - (1) سنة 322: وفيها فتحت ملطية الوقعة الأولى، فتحها الدمستق وهدم سورها وقصورها، وقيل فيها أشعار كثيرة، منها قول بعضهم: فلأبكينَّ على ملطيةَ كلّما ... أبصرتُ سيفاً أو سمعتُ صهيلا هدم الدمستقُ سورها وقصورها ... فسمعتُ فيها للنساءِ عويلا والعلجُ يسحبها وتلطمُ كفُّه ... متورداً يققَ البياضِ جميلا قاموا الصليبَ بها بأمرٍ ثابتٍ ... قد أظهروا الصلبانَ والإنجيلا - 14 - (2) سنة 325: وفيها أغارت بنو كلاب على البلد [المعرة] فخرج إليهم والي المعرة معاذ بن سعيد وجنده، واتبعهم إلى مكان يعرف بمرج البراغيث، فعطفوا عليه فأسروا ومن كان معه، وعذبهم بالماء والجليد، وأقام معاذ بن سعيد عند بني كلاب وأصحابه حتى خرج إليهم أبو العباس أحمد بن سعيد الكلابي فخلصهم.

_ (1) معجم البلدان 4: 634. (2) بغية الطلب 1: 93 نقلاً عن تعليق أبي الحسين.

15 - (1) سنة 331: فيها توفي أحمد بن أبي حامد بن همام (2) . - 16 - (3) سنة 333: فيها عبر سيف الدولة ابن حمدان الفرات ليملك الشام فتسامع به الولاة فتلقوه من الفرات، وكان فيهم أبو الفتح عثمان بن سعيد والي حلب من قبل الإخشيد، فلقيه من الفرات فأكرمه سيف الدولة وأركبه معه وسايره، فجعل سيف الدولة كلما مر بقرية فقال: ما اسم هذه القرية؟ فقال: ابرم، فسكت سيف الدولة وظن انه أراد أنه أبرمه وأضجره بكثرة السؤال، فلم يسأله سيف الدولة بعد ذلك عن شيء، حتى بعده قرى، فقال له أبو الفتح: يا سيدي وحق رأسك إن اسم تلك القرية " ابرم " فاسأل من شئت عنها فضحك سيف الدولة وأعجبته فطنته. 17 - (4) سنة337: وفيها وصل أبو الطيب المتنبي الشاعر إلى سيف الدولة سيف الدولة ومدحه بقصيدته الميمية " وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه " بعد انصرافه من حصن برزويه. 18 - (5) وكان سيف الدولة قد أقطعه [يعني المتنبي] ضيعة تعرف ببصف من ضياع

_ (1) بغية الطلب 2: 30. (2) هذا منقول عن تعليق أبي الحسين علي بن المهذب (بغية الطلب 2: 30) وحدد تاريخ الوفاة بقوله يوم الإثنين للنصف من شعبان، وقد أورده همام أيضاً. (3) معجم البلدان 1: 87. (4) بغية الطلب 1: 46 عن تاريخ همام (وكذلك جميع ما سيأتي حتى نهاية النقول) . (5) بغية الطلب 1: 39.

معرة النعمان القبلية، فكان يتردد إليها، وكان يوصف بالبخل، فمما ذكر عنه ما حدثوه جماعة من أهل بصف أن كلباً من كلاب الضيعة المعروفة بصهيان كان يطرق تين بصف، فذكر ذلك لأبي الطيب المتنبي، فقال للناطور: إذا جاءك كلب فعرفني به، فلما جاءه عرفه فقال: شدوا على الحصان، وخرج إليه فطرده أميالاً ثم عاد لا يعقل من التعب، عقد عرق فرسه فقال له أهل بصف: يا أستاذ كيف جرى أمر الكلب؟ فقال كأنه كان فارساً إن جئته بالطعنة عن اليمين عاد إلى الشمال، وإن جئته من الشمال عاد إلى اليمين. . وحدثوا عنه أبا البهاء ابن عدي شيخ رفنية كان صديقاً له، فنزل عنده ببصف، فسمعوه وهو يقول له: ياأبا البهاء أوجز في أكلك فإن الشمعة تتوى. سمعوه يحاسب وكيلاً له وهو يقول والحبتان ما فعلتا؟ يعني فضة. 19 - (1) سنة 346: فيها سار المتنبي من الشام إلى مصر. 20 - (2) سنة 348: وفيها توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن إسحاق بن بلبل النيسابوري بمعرة النعمان، وبقي فيها أربعين سنة، يعزل ويعود، وبها دفن. 21 - (3) لما عقد سيف الدولة الفداء مع الروم واشترى أسرى المسلمين بجميع ما كان معه من المال واشترى الباقبن رهن عليهم أبا القاسم الحسين كلتبة وبدنته الجوهر المعدومة المثل، وكان ذلك سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.

_ (1) بغية الطلب 1: 46. (2) بغية الطلب 4: 166. (3) بغية الطلب 5: 127.

22 - (1) سنة 354: وفيها خرج ابن الأهوازي بأنطاكية، وكان يتضمن بها المستغلات لسيف الدولة، وكان قد حصل في أنطاكية رجلٌ من وجوه أهل الثغور اسمه رشيق يعرف بالنسيمي، فعمل له ابن الأهوازي كتاباً ذكر أنه من الخليفة ببغداد بتقليده أعمال سيف الدولة، فقرئ على منبر أنطاكية، وكان قد اجتمع لابن الأهوازي جملةٌ من مال المستغل وطالب قوماً بودائع ذكر أنها عندهم، فعرض الرجال وقبضهم من أموال أنطاكية، وفرض لجماعة فرسان ورجالة أكثرهم من أهل الثغر، وسار بهم إلى حلب في عسكر كبير فحاصروا قرعوية الحاجبَ في القلعة بحلب، وكان القتال يجري بينهم مدة شهور، وقتل رشيق النيسمي في الحرب، وكان فيما قال متوجعاً، وعقد ابن الأهوازي الإمارة بعد رشيق النيسمي لرجل ديلمي كان من رجال سيف الدولة يقال له دزبر، وعاد العسكر إلى أنطاكية [الصواب أن استيلاء رشيق على المدينة حلب دون القلعة في ذي القعدة من سنة 354وقتل رشيق على باب حلب في صفر سنة 355] . 23 - (2) سنة 363: وفيها ولد الشيخ أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر ربيع الأول. 24 - (3) سنة 364: وفيها توفي أبو سعيد السيرافي ببغداد.

_ (1) بغية الطلب 7: 88. (2) بغية الطلب 1: 197 والإنصاف والتحري (في تعريف القدماء: 513) . (3) بغية الطلب 4: 270.

25 - (1) سنة 372: وفيها توفي أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي النحوي ببغداد. وحدثني الشيخ أبو العلاء رحمه الله أن أبا علي [الفارسي] كان صديقاً لجده القاضي أبي الحسن سليمان بن محمد، وكان صادقه بأنطاكية، ثم إن أبا علي مضى إلى العراق وصار له جاه عظيم من الملك فنّاخُسْرو، وأن بعض الناس وقعت له حاجةٌ في العراق احتاج فيها إلى كتاب من القاضي أبي الحسن سليمان إلى أبي علي الفارسي، فلما وقف على الكتاب قال: إني نسيتُ الشامَ وأهله [ولم يعره طرفه] . 26 - (2) [أحمد بن الحسين الجزري التغلبي المعروف بالأصفر كان مقدماً مذكوراً ظهر في الجزيرة وعبر إلى الشام مظهراً غزو الروم فتبعه خلق عظيم من المسلمين] قال أبو غالب: حدثني من شاهد عسكره أنه كان يكون في اليوم في ثلاثين ألفاً ثم يصيره في يوم آخر عشرة آلاف وأكثر وأقل لإنهم كانوا عوام وعرباً. ونزل على شيزر وطال أمره، فاشتكاه بسيل ملك الروم إلى الحاكم، فأنفذ إليه مفلحاً اللحياني في عسكر عظيم، فطرده سنة خمس وتسعين، وقبض عليه أبو محمد لؤلؤ السيفي بخديعة خدع بها، وذلك أنه أنفذ إليه أن يدخل إليه إلى حلب، وأوهمه أنه يصير من قبله، فلما حصل عنده قبض عليه وجعله في القلعة مكرماً لأنه كان يهول به

_ (1) بغية الطلب 4: 150، 4: 149 ومعجم الأدباء 7: 255. (2) بغية الطلب 1: 60.

على الروم. ورأيته أنا وقد خرج مبارك الدولة سنة ست وله شعرة والمصحف في حجره على السرج، وهو يقرأ فيه. 27 - (1) سنة 405: وفيها ولد القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله، ابن أخي الشيخ أبي علاء، [سمع عمه أبو العلاء، وتولى قضاة معرة النعمان وقضاء حماة] . 28 - (2) سنة 413: وفيها وردت عساكر مصر وزعيمتهم سديد الدولة علي بن أحمد الطف، فتسلم حلب من وفي الدولة بدر، وولي صفي الدولة أبو عبد الله محمد بن علي بن جعفر بن فلاح حلب، ووليت القلعة خادماً له بلحية بيضاء لقبه يمن الدولة (3) وكان من أفاضل المسلمين فيه الدين والعلم. 29 - (4) سنة 417: فيها صاحت امرأة يوم الجمعة وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغظبها نفسها، فنفر كل من في الجامع إلا القاضي والمشايخ، وهدموا الماخور وأخذوا خشبه ونهبوه، وكان أسد الدولة صالح في نواحي صيدا.

_ (1) الإنصاف والتحري (في تعريف القدماء: 498) . (2) بغية الطلب 8: 264. (3) هو سعادة بن عبد الله الخادم اللحياني، عرف باللحياني لكبر لحيته. (4) بغية الطلب: 1: 220 ومعجم الأدباء 3: 216 (وعنه في تعريف القدماء: 141 والوافي في تعريف القدماء: 273 والإنصاف والتحري في تعريف القدماء: 567) .

30 - (1) سنة 418: فيها وصل الأمير أسد الدولة صالح بن مرداس إلى حلب وأمر باعتقال مشايخ المعرة وأماثلها، فاعتقل سبعون رجلاً في مجلس الحصن سبعين يوماً، وذلك بعد عيد الفطر بأيام، وكان أسد الدولة غير مؤثر لذلك، وإنما غلب تادرس على رأيه وكان يوهمه أنه يقيم عليه الهيبة. ولقد بلغنا أنه خاطبه في ذلك فقال له: أقتل المذهب وأبا المجد بسبب ما خور؟ ما أفعل وقد بلغني أنه دعي لهم في آمد وميا فارقين وقطع عليهم ألف دينار؟ واستدعى الشيخ أبا العلاء ابن عبد الله ابن سليمان رحمه الله بظاهرة معرة النعمان، فلما حصل عنده في المجلس قال له الشيخ أبو العلاء: مولانا السيد الأجل أسد الدولة ومقدمها وناصحها كالنهار الماتع اشتد هجيره وطاب أبرداه، وكالسيف القاطع لان صفحه وخشن حداه {خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين} فقال صالح: قد قد وهبتهم لك أيها الشيخ ولم يعلم الشيخ أبو العلاء أن المال قد قطع عليهم، إلا كان قد سأل فيه، ثم قال الشيخ أبو العلاء بعد ذلك شعراً " تغيبت في منزلي. . الخ " 31 - (2) سنة 426: وفيها توفي أبو القاسم علي بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عبد الملك الطيب المعرف بالمنجم إمام المسجد الجامع بالمعرة، وقدم بعده أحمد بن خليفة الهراس، وكان صالحاً محموداً يقرأ للسبعة روايات. 32 - (3) سنة 430: وفيها توفي أحمد بن خليفة إمام الجامع بمعرة النعمان وقدم ولده خليفة.

_ (1) بغية الطلب 1: 221 ومعجم الادباء 3: 216 - 217 والإنصاف والتحري (في تعريف القدماء: 567) . (2) بغية الطلب 1: 79. (3) بغية الطلب 1: 79.

33 - (1) سنة 441: فيها وصل الأمير أبو الفضل رفق، خادم كان على المطالب بمصر، في عسكر عظيم، فانهزمت منه بنو كلاب على حمص، وتبعها منزلاً منزلاً حتى نزل على معرة النعمان، فلما رأى خراب السور سأل كم يحتاج إلى أن يعود إلى ما كان فقدر له فكان ألفي دينار فقال: أنا أعمره من عندي بمالي ولا أحوجكم إلى غيري ثم إنه مضى إلى حلب ونزل على مسجد الجف، فقيل إن الكلبين داهنوا عليه، فأشير عليه أن يرحل عنها إلى صلدع فلم يفعل، فأشير عليه أن يقبض على أمراء طيء وكلب فلم يفعل فقيل له أن ينشىء سجلاً عن السلطان بأنه قد أقطع الشام لمعز الدولة ويعود بهيبته فلم يفعل، فلما رآه أمراء العسكر لا يلتفت إليهم ولا يقبل مشورتهم انهزموا مع العرب، وانهزم العسكر لما رأى العرب قد انهزمت، فأخذ وضرب [على] رأسه فمات في القلعة، ودفن في مسجد الجف، ونهب من العسكر شيء عظيم من الأموال والقماش والدواب وغير ذلك. 34 - (2) [كان أبو الحارث البساسيري] إذا وصلت هدية من خراسان وغيرها من البلاد اعتقلها قبل ان يطلقها [للخليفة] . 35 - (3) سنة 450: فيها اضطرب الأمن في خراسان على طغرلبك فسار لإصلاحه، فجمع لبساسيري من قدر عليه من الترك والديلم، واجتمعت إليه بنو عقيل، وكان علم الدين قريش بن بدران زعيمها، وبنو أسد زعيمها نور الدولة دبيس بن مزيد،

_ (1) بغية الطلب 7: 102 - 103. (2) بغية الطلب 2: 197 وسويم: 1 - 3. (3) بغية الطلب 2: 197.

وقصد بغداد، وزحف معهم أهل الجانب الغربي من بغداد إلى دار الخليفة القائم بأمر الله أمير المؤمنين أبي جعفر بن القادر، فنهبوا جميع ما فيها، واستدعى الخليفة من فوق القصر علم الدين قريش بن بدران فجاءه، فخرج إليه الخليفة وهو مبرقع وعليه بردة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يده قضيبه، فأجاره ولم يمكن أحداً منه، ومنعه من البساسيري، وسيره إلى حصن عانة وقيل الحديثة، وهو حصن منيع في وسط الفرات، وصاحبه رجل يعرف بمهارش أحد أمراء بني عقيل، فأكرمه إكراماً عظيماً وخدمه خدمة مرضية، فبقي فيه عند مهارش شهوراً. 36 - (1) سنة 451: وفيها دعا البساسيري للمستنصر صاحب مصر في جامع المنصور ببغداد، وبقيت الدعوة شهوراً. وفيها عاد طغرلبك ملك التركمان أبو طالب محمد بن ميكال إلى بغداد، فانحاز البساسيري وجماعة العرب، وخرج معهم من التجار ببغداد وغيرهم خلق عظيم لا تحصى أموالهم، وذكر أنهم كانوا زهاء عن مائة ألف وعشرين ألفاً، وتبعهم من أصحاب طفرلبك زهاء عشرين ألفاً، فقتل البساسيري، وخلق كثير لا يحصى عدده، ونهبت تلك الأموال، وكان الذين تبعهم ولقيهم من عسكر طغرلبك نحو من عشرين ألفاً. وسار مهارش العقيلي بالخليفة إلى بغداد في محمل، فأعطاه من الأموال والإقطاع شيئاً عظيماً حتى أنه صار مهارش أيسر بني عقيل. وسار الأمير أبو ذؤابة عطية بن أسد الدولة صالح بن مرداس إلى الرحبة فأخذ جميع ما تركه البساسيري بها من السلاح الذي لم ير مثله كثرة وجودة، وأموالاً جزيلة كانت للبساسيري، ثم ولى فيها بعض أصحابه. 37 - (2) [وقد] رهن محمود بن نصر ولده نصراً عند صاحب إنطاكية على أربعة عشر

_ (1) بغية الطلب 2: 197. (2) معجم البلدان 1: 249.

ألف دينار وخراب حصن أسفونا (1) إذ ملك حلب وأخذها من عمه عطية، فلما ملك حلب خرب حصن أسفونا، وأخرج لذلك عزيز الدولة ثابتاً وشبل بن جامع، وجمعا الناس من معرة النعمان وكفر طاب وأعمالهما حتى خرباه. 38 - (2) واجتاز بسياث [بظاهرة معرة النعمان] القاضي أبو يعلى عبد الباقي بن أبي حصن المعري (3) والناس ينتقضون بنيانها ليعمروا به موضعاً آخر فقال: مررتُ برسمٍ في سياثَ فراعني ... (4) به زَجَلُ الأحجارِ تحت المعاولِ تناولها عبل الذراعِ (5) كأنما ... رمى الدهرُ فيما بينهم حربَ وائل (6) أَتُتْلِفُهَا شَلَتْ يمينُكَ (7) خَلَها ... (8) لمعتبرٍ أو زائرٍ أو مسائل منازلُ قومٍ حدَثَتْنَا حديثَهُمْ ... ولم أرَ أحلى من حديثِ المنازل 39 (9) سنة 454: وفيها عمر المسلمون الحصن المعروف بالمرقب بساحل جبلة،

_ (1) حصن أسفونا: كان قرب معرة النعمان فتحه محمود المرداسي. (2) معجم البلدان 3: 207. (3) ترجم له في الخريدة (قسم الشام) 2: 57 وذكر أنه شاعر متفنن في ضروب الشعر لكنه لم ينسب له الأبيات وإنما نسبها (2: 70) التوت المعري، وقد ذكر الأبيات أسامة في المنازل والديار وأنها " لبعض أهل المعرة " وزاد أن الذين كانوا ينقضونها علوج من الأفرنج يهدمون من جدرانها الحجارة ويكسرونها بالمعاول ليخف عليهم حملها (المنازل والديار: 11/ب) . (4) المنازل: فراعني بها. (5) المنازل: تصدى لها. (6) المنازل: جنى. (7) المنازل: فقلت له. (8) المنازل: لمستخبر أو واقف. (9) معجم البلدان 4: 500.

وهو حصن يُحَدَثُ كلُ من رآه أنه لم ير مثله، وأجمع رأي أصحابه على الحيلة بالروم، فباعوهم الحصن بمالٍ عظيم، وبعثوا شيخاً منهم وولديه رهينةً إلى إنطاكية على قبض المال وتسليم الحصن، فلما قبضوا المال وقدم عليهم نحو ثلاثمائة لتسليم الحصن قتلوهم، وأسروا آخرين كثيرين فباعوهم أنفسهم بمال آخر، ثم فدوا ذلك الشيخ وولديه بمالٍ يسير، وحصل المسلمون على الحصن والمال.

فراغ

تواريخ صنفها بنو منقذ

10 - 11، 12، 13 تواريخ صنفَها بَنو منقذ

فراغ

لأسرة بني منقذ أصحاب شيزر شهرة واسعة ودر هام في الحياة الفكرية، وإن كانت الشهرة أسامة بن مرشد بن منقذ قد حجبت كثيراً من جهود أقربائه، فقد كان أكثر رجال تلك الأسرة من المجيدين في ميدان الشعر، ولشعرهم حظ من الأصالة والجزالة ندر أن يجتمع في أفراد أسرة واحدة. غير أن الأمر الذي يهمنا هنا هو جهودهم في كتابة التاريخ. 1 - ويعد أسامة طليعة في هذا الأمر، وفي كتاب الاعتبار وفي بعض كتبه الأخرى معلومات هامة لا يستغني عنها دارس الحياة الاجتماعية في ذلك العصر. ولأسامة كتاب أسمه " أزهار الأنهار " ينقل عنه ابن العديم، ولا أدري في أي الكتب أصنفه، وإنما يبدو من القصة الوحيدة التي اقتبست منه أنه ينحو نحواً أخلاقياً. وله كتاب في تاريخ أيامه، وكتاب في أخبار أهله (1) ولعل كتابه في تاريخ أيامه هو الذي يشير إليه ابن خلكان باسم " كتابه الذي ذكر فيه البلاد وملوكها الذين كانوا في زمانه " (2) . 2 - ولأسامة أخ أسمه منقذ بن مرشد بن علي بن منقد، وله كتاب في التاريخ ذيل به على تاريخ أبي خالب همام بن المهذب المعري وهو يروي فيه عن أخيه مؤيد الدولة، ولكن لم أجد له ترجمة في المصادر.

_ (1) معجم الأدباء 5: 208. (2) وفيات الأعيان 5: 303، 7: 147.

3 - أما الأخ الثاني لأسامة وهو أبو الحسن علي بن مرشد الملقب بعز الدولة فقد كان شاعراً مجيداً، ذكره السمعاني في تاريخه، وأورد العماد في الخريدة نماذج من شعره، وقال إنه ورد بغداد حاجاً بعد الغشرين والخمسمائة (1) ، واستشهد على عزة سنة 545 في حرب الفرنج، تقطر به فرسه هنالك وانكشف عن أصحابه وبقي هو في المعركة فقتل، ولأبي الحسن كتاب في التاريخ ينقل عنه ابن العديم. 4 - وشارك ابن أسامة وهو عضد الدين أبو الفوارس مرهف في هذا المضمار، وقد رآه ياقوت سنة 612 وكان قد بلغ الثانية والتسعين من العمر وأقعد إلا أنه كان صحيح العقل والذهن يقرأ الخط الدقيق، وكانت وفاته سنة 613 (2) وقد رأى له ابن العديم مدرجاً بخطه يتضمن ذكر واقعاتٍ وقعت ذكرها على وجه الاختصار (3) .

_ (1) معجم الأدباء 5: 208. (2) معجم الأدباء 5: 243 - 245. (3) بغية الطلب 5: 198 (في حوادث سنة 496 وقال: فيها قتل جناح الدولة بحمص في يوم الجمعة) .

أزهار الأنهار

10 - أزهار الأنهار لأسامة بن منقذ

فراغ

1 - (1) حدثني القاضي أبو نمر ابن المعتري رحمه الله بحصن شيزر قال: سافرت إلى اليمن فاتصلت ببعض سلاطين اليمن، فأتاه الخبر بعصيان أهل بلد من بلاده، فركب وسار إليه وأنا صحبته، وهو في خلق كثير من الركاب، وأقسم ليستبيحنَّ دماءهم وأموالهم، فسرنا حتى نزلنا على المدينة وأمر بالتأهّب لقتالهم، وهجم المدينة، فرأينا امرأة قد خرجت من المدينة وجاءت تتخطَّى الناس حتى وصلت إلى السلطان وأنا عنده، فسلَّمت عليه فرحَّب بها وأكرمها وأجلسها ثم قال لها: ما حاجتك؟ قالت: جئتك أسألك أن تهب لي هذه المدينة وأهلها فقال: هؤلاء قد أظهروا العصيان والشقاق، وقد أقسمتُ أن أستبيح دماءهم وأموالهم، فقالت: بل ترحعُ عن هذا إلى المعتاد من صفحك وكرم عفوك وتهبُ لي ذنبهم ودماءهم وأموالهم فقال: ما أفعل ولا أفسد مملكتي وأستدعي عصيانَ رعيتي بصفحي عن هؤلاء المنافقين، فغضبت وقالت: نسيتَ حقّي وحُرْمَتي واطرحتني حتى إني أسألك في المدينة من مدائنك لتقضي بها حقي ولا توجب سؤالي، ثم ولت، فأطرق ثم قالَ: ردُّها، فلما عادت اعتذر إليها وتلطفها وقال: قد وهبت لك البلدَ وأموالَ أهله ودماءهم، وها أنا راحل، ثم أمر الناس بالرحيل، ونفذ من رتب أمر البلد وسار، فسالتُ عن تلك المرأة فقيل لي إن هذه امرأة كانت ترضعه، وكان أبوه مالكَ

_ (1) بغية الطلب 9: 207.

هذه البلاد، فقام عليه أخوه فقتله وملك البلاد وهذا إذ ذاك طفل، فتطلبه عمه ليقتله فخبّته هذه المرأة بينها وبين ثيابها وأخفته، وخرجت به من البلد فربته في خمول، واختفى حتى كبر وجار عمه على الرعية وأساء إليهم فوثبوا عليه قتلوه ونفذوا أحضروا هذا وملكوه عليهم كما ترى، فهي تذكّرهُ بما فعلته في حقه وهو يرعى لها ذلك الصنع.

ذيل على تاريخ أبي غالب همام بن المهذب المعري

11 - ذيل على تاريخ أبي غالب همام بن المهذب المعري عمله أبو المغيث منقذ بن مرشد بن علي بن منقذ

فراغ

1 - (1) سنة 483: فيها كتب ولاة الشام إلى السلطان ملكشاه يشكون ما يلقونه من خلف بن ملاعب بحمص من قطع الطريق وإخافة السبيل، فأمر السلطان أن يسير إليه بوازن وقسيم الدولة وتاج الدولة ويغي سيغان، فسبق إليه بزان فنزل قريباً من حمص فكتمه ما يريد حتى بلغ منه غرضاً، ودخل إليه رسوله فقال: عاش لك ملاعب، ثم حصر بزان المدينة واجتمع عليها كلّ من في الشام فافتتحت، وكل من الأمراء المذكورين طلبها، فكتبوا جميعاً إلى السلطان فأنعم بها على أخيه تاج الدولة، وأمر السلطان بحمل خلف بن ملاعب في قفص من حديد إلى قلعة أصبهان، فحمل وحبس بها حتى مات السلطان. 2 - (2) سنة 484: فيها نزل قسيم الدولة آق سنقر على أفامية وملكها وسلّمها إلى عمي عز الدولة أبي المرهف نصر بن سديد الملك، وذلك في شعبان. أنبأنا أبو محمد بن عبد الله الأسدي قال: كتب إلينا أبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي منقذ قال: كانت حمص في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة لسيف الدولة خلف بن ملاعب

_ (1) بغية الطلب 6: 226 وسويم 125. (2) بغية الطلب 6: 226.

الأشهبي، فنزل على سليمة وأخذ الشريف إبراهيم الهاشمي فرماه في المنجنيق إلى برج سلمية، وأخذ قوماً من بني عمه مأسورين، فمضى من بقي منهم واستغاثوا عليه بالخليفة والسلطان ملكشاه، فخرج أمر السلطان إلى أمراء الشام تاج الدولة تتش صاحب دمشق وقسيم الدولة صاحب حلب وبزان بن ألب صاحب الرها ويغي سيغان صاحب أنطاكية بالنزول على حمص وحاصروه وأخذوه وسيروه إلى السلطان، فأقام في الحبس إلى أن توفي ملكشاه في شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فأطلقته خاتون امرأة السلطان، وتسلم قسيم الدولة آق سنقر مدينة حمص وقلعتها، فلما قتل قسيم الدولة، قتله تاج الدولة، وتسلم البلاد، سلَّم حمص إلى جناح الدولة حسين. 3 - (1) سنة 488: وفيها طلع قوم من أهل أفامية إلى الأفضل يسألونه أن يولي عليهم سيف الدولة خلف بن ملاعب فنهاهم وقال: لا تفعلوا، وحذَّرهم من فسقه، فقالوا: نحن نجعل عيالاتنا لنا ليلة وله ليلة، فسيره معهم ووصل أفامية ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من ذي القعدة [قلت أي ابن العديم: هؤلاء أهل تلك اجبال أكثرهم دهرية درزية يستبيحون ذوات الأرحام ولا يعتقدون تحريم الحرام] . 4 - (2) سنة 490: وفيها مات أبو الغنائم حميد بن حامد بن مغيث بن منقذ رحمهم الله، وكان موته يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الآخرة.

_ (1) بغية الطلب 6: 223 وسويم 128. (2) بغية الطلب 5: 308.

5 - (1) سنة 496: وفيها وثب قوم من الباطنية على جناح الدولة حسين (2) فقتلوه، وذلك في يوم الجمعة ثامن وعشرين رجب، وكان ذلك من تدبير أبي طاهر الصايغ وخدمة للملك رضوان، واستولى بعده فراجا على حمص. 6 - (3) سنة 531: مات القاضي أبو سعيد الحرشي بالرقة رحمه الله، وكان من أفاضل المسلمين قد جمع الدين والأمانة والصدق والصيانة والنزاهة والكرم. وحدثني بعض الأصدقاء قال: رأيته بالرقة وقد نصب ثلاث خشبات، وقد أحضر قوماً يدلّونه في زبيل إلى ركية محفورة، قلت: يا سيدي أتفعل هذا؟ قال: هاهنا قوم أسراء وقوم حبسوا من الفرنج والمسلمين معهم مرض أنزل أداويهم، فلمته على ذلك فقال: هم من خلق الله عز وجل، وما عمل شيئاً قط بأجرة، وكان يداوي الضعفاء ويقضيهم الحوائج ويمشي إليهم ويغرم عليهم من ماله؟ وكان حسن الخلق طيب العشرة ضحوك السنّ، حدثني أخي مؤيد الدولة قال: شكوتُ إليه بعضَ حالي، وما أعانيه من شقاء السفر فقال: اصبر على ما تكره وإلا بُليتَ بما لا تطيق؟ وحدثني عنه جماعة قالوا: أمرنا أتابك بحمله من حلب إلى الموصل ليشهد البركة المعروفة بالقلعة، فحمل من حلب على جمل في محاره، وجعلوا معه صبية أرمنية مأسورة، فكان يلطف بها ويطعمها، فقال لها يوماً: يا صبية من أين أسروك؟ قالت: من بلد كذا، ثم قالت له: فبالله يا عمي من أين أسروك أنت؟ قال: من الشرقية التي في جامع حلب.

_ (1) بغية الطلب 5: 198 وسويم 123. (2) كان أتابك رضوان بن تتش، فحين قتل تتش قسيم الدولة آقسنقر سلم حمص إلى جناح الدولة، فلما خلف رضوان أباه استوحش جناح الدولة وذهب إلى حمص فقتله الباطنية بتحريض رضوان. (3) بغية الطلب 9: 97.

فراغ

تاريخ جمعه

12 - تاريخ جمعَه (1) أبو الحسن علي بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ

_ (1) انظر الملحقات، فإن اسم التاريخ هو " البداية والنهاية ".

فراغ

1 - (1) سنة 441:فيها وصل أمير الأمراء أبو الفضل رفق، خادم كان على المطالب بمصر، في عسكر عظيم ومضى إلى حلب ونزل في منزل الجف، فقيل إن الكلبيين داهنوا عليه، فأشير عليه أن يقبض على أمراء طيء فلم يفعل، فأشير عليه أن ينشئ سجلاً عن السلطان بإيقاع معز الدولة الشام فما فعل، فلما رآه أمراء العسكر لا يقبل منهم انهزموا مع العسكر، وانهزم العسكر لما رأى رحيل أكثره، وأتوه أهل حلب وبنو كلاب فأخذوه، وضرب على رأسه فشجَّ فمات بعد مدة في القلعة؟ وحدثني أبي قال: سمعت أن الخادم هذا لما أطلع إلى قلعة حلب استعظموا خلقه وطوله، فكان بعض الفراشين يخدمه ويكرمه، فوهبه يوماً سراويلاً من سراويلاته دبيقية ففصلها الفراش له ثوبين وسراويل أو سروالين وثوب كما قال. ومات فدفن في مسجد الجف، وأخذ من العسكر شيء عظيم من الأموال والآلات والدواب وغير ذلك؟ ومضيت أنا إلى حلب في سنة سبع وعشرين وخمسمائة فرأيت مسجداً غير مسجد الجف فشربنا منه فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هذا مسجد الخادم رفق.

_ (1) بغية الطلب 7: 100، وانظر ما تقدم ص 106.

- 2 - (1) [وفي ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة توفي جد أبي أبي المتوج مقلد بن نصر بن منقذ] ورثاه الشيخ أبو الحسين أحمد بن يعقوب [الكفرطابي] فقال: لا تصحب الدهر عزماً واصحبِ الجزعا ... ولا تُطِعْ زاجراً عنه وإن وزعا أتابع أنا من لم يدرِ ما كمدي ... وقد رأيت الفتى من كان متبعا لو قلبه بين أحشائي إذاً لرأى ... قلباً تقطعه أيدي الجوى قطعا ويحَ الردى رامياً لم تُشْوِ أسهمُه ... وفاجع الخطب لم يعلمْ بمن فجعا أمخلصَ الدولةِ اعتاقَتْ حبائله ... لا حبذا بك من ناع إليَّ نعى قال في آخرها يخاطب أبا الحسن علياً ولده: ما جار حكمُ الليالي عن سجيّته ... ولا استسنَّ الردى فيكم ولا ابتدعا هذي سبيل (2) الألى من قبلنا سلفوا ... وسوف نمضي على آثارهم تبعا لو خُلّدوا لم تكن هذي منازلَنَا ... ولم نجدْ معهمْ في الأرض متسعا فعشتُم يا بني نصرٍ ولا سلب الر ... حمن أنعُمَهُ عنكم ولا نزعا 3 (3) سنة 460: وفيها وثب ناصر الدولة الحسن بن الحسين بن الحسن بن ناصر الدولة بن عبد الله بن حمدان وجماعة قواد الأتراك بمصر، وحصروا المستنصر، حدثني أبي قال: نظر ناصر الدولة ابن حمدان إلى أخيه المهذب وقد وفر له وفرة من شعره فقال: يا مهذب، نحن قوم خوارج عرب، أين أنت وهذا الشعر الذي تركته؟ فقال له المهذب: يا مولانا، نحن قوم خوارج وقلما مات خارجي إلا مقتولاً،

_ (1) بغية الطلب 3: 137. (2) في الأصل: الردى. (3) بغية الطلب 4: 87.

فيكون حمل المقتول بشعره المضفور خيراً من أن يخرَّقَ شِدْقُهُ ويحملَ به أو بلحيته، فقال ناصر الدولة: ذخيرة سوء ليوم ميشوم، قال: فحدثني جماعة بعد ذلك أنهم رأوا ناصر الدولة حين قتل والمهذب في جماعة من الأمراء ورأس المهذب محمول بدبوقته المضفورة، وناصر الدولة قد ثُقِبَ شدقه وقد حمله به. 4 - (1) وحدثني الأستاذ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن المنيرة [الكفرطابي] وهو أستاذي قال، حدثني أبو شملة بن المره الحلبي، وكان قد سكن كفرطاب، قال: أصبحت يوماً في برد وثلج يزيد عن الحدّ، فقلت لهم في داري: اعملوا لنا كبولا، وهي العصيدة، وأَسْرِعُوا بها من اجل الصبيان، فعملوها وبالغوا في جودتها، فهم يريدون غرفها وإنسان يدق الباب فقلت: من؟ قال: رسول الأمير أبي سالم ناجية يستدعيك إلى العمرة بأمر وصله فيك من محمود لتدخل إليه، قال: قلت أدخل، فنحن في غداء، نتغذى ونسير، قال والله ما أقدر أتركك ولا آكل أنا، ودخل، فما برح إلى أن لبست عدتي وخرجت، والماء علي يكاد ينفذ اللباد، فمضينا وعجوزٌ لنا تقول: أسال الله الراحة المعجلة، فقد والله سئمنا. فمضينا إلى باب المدينة، وإذا فارس آخر يخبرنا بموت محمد ويأمره بردي، فرجعت إلى داري، فوجدت فيها كالجنازة، فدققت الباب ففتحوا، ودخلت، فأجد الطعام على جهته ما إنتقض حره، فأكلت أنا والرسول الثاني، وعجبت من حرمان الأول وحرماني، ورزق الثاني ورزقني، وإجابة دعوة عجوز. 5 - (2) وأقام نصر [بن محمود بن نصر المرداسي] مالكاً إلى سنة ثمان وستين، فلما كان يوم عيد الأضحى عيَّد وخرج العصر لينهبَ الأتراك: ابن خان وأصحابه ويأخذ

_ (1) بغية الطلب 9: 108. (2) بغية الطلب 8: 147 وسويم: 550.

نساءهم، فإنه قال: نريد الوجوهَ الملاح، فضربه واحداً فقتله، واختبطت حلب وقفلت أبوابها، وقفل باب القلعة، فجاء الأمير أبو الحسن سديد الملك، وكان قد نزل لما مات محمود، وقال له نصر: ما يربُّ هذه الدولة غيرك، فلما قتل نصر لم يجسر أن يذكر للوزير النحاس وكان صديقه ذلك ظاهراً، فقال له وهو في القلعة من تحت السور: الأمير نصر سالم كما تحب، ولكن سألتني عن شيء قبل خروجي وهو: القيل فاد، معناه القيل: الملك، وفاد: مات، فاحتفظ ابن النحاس من القلعة وأجلسوا بعده أخاه سابقاً، وكان سابق كما قيل لي من أحسن الناس محاضرةً وأصبحهم وجهاً وأسوأهم فعلاً في نفسه وأفعاله، حدثني مولاي رحمه الله قال: من طريف عمله أنه مدحه الشريف أبو المجد بثلاث قصائد، فتأخرت الجائزة، فكتب إليه وقد ضاع له دنانير ثم وجدها: قلْ للأميرِ أبي الفضائلِ سابقِ ... قولاً يفوهُ به لسانُ الناطقِ فبحقِّ من ردَّ الدنانيرَ التي ... ضاعت بتقدير الإله الخالق أرددْ عليَّ مدائحاً أنشدتها ... ذهبتْ لديك ذهابَ خُلَّبِ بارقِ قال: فأنفذ له قصيدة وكتب إليه على ظهرها: نحن نسأل عن الباقي وننفذه إليك. وأقام بحلب مستضعفاً يغير بني كلاب على باب حلب تاخذ منه الغسالات والقوافل ولا يخرج أحدٌ إلا بخفارة ولا يدخل إلا كذلك، والأمير سديد الملك مقيم بالجسر لعلمه أن الداءَ قد أعضل، قال: فاشتغل عنهم بحصنه وبلده كفر طاب، يشتو بالجسر ويصيف بكفر طاب إلى أن غلب سابق واستحكم بأسه، أنفذ إليه وقال: أشتهي أن تحضر تفصل بيني وبين إخوتي وما قد دهمنا من شرف الدولة، فمضى حينئذٍ وقد أمن غائلتهم. 6 - (1) [ذَكَرَ أحوال سابق بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس وضعف أمره وقال

_ (1) بغية الطلب 6: 161.

في أثناء كلامه] : والأمير سديد الملك مقيمٌ بالجسر لعلمه أن الداء قد أعضل. وكان سبب ذلك أنَّ الأمير بهاء الدولة ابن الملك فناخسرو، وهو خاله، وقد نزل من مصر لما تولى ابن أخته حلب كانت جاريته قد أعتقلها أمير الجيوش بدر بمصر وأراد يضرب رقبتها لأنها كانت أوفى طبقة في الغناء، فكان الأمراء بمصر يتقاتلون عليها، فقتل من أجلها عدة من الأمراء، فقال لسابق: ما يقدر أحد يخلص جاريتي وأولادي إلا الأمير سديد الملك فإنني رأيت له بمصر صيتاً وافياً، وقال من بها: لو جعل مقره بمصر عوض طرابلس كانت الدولة في قبضته، فثقل على الأمير إلى ان كتب وسير إلى أمير الجيوش في أمر الجارية فقال: والله ما أردت أخرجها أبداً من الحبس ولكني لا أرد مسألة ذلك المحتشم، فسيرها إلى طرابلس إلى دار جدي، فأحضرها إلى حلب ومعها ابناها دارا وبهمن، فلما حضرت في مجلس سابق أول صوت غنت: نفسي فداؤك كيف تصبُر طائعاً ... عن فتيةٍ مثلِ البدور صباحِ حَنَّتْ نفوسهمُ إليكَ فأعلنوا ... نفساً يغلّ مسالكَ الأرواح وغَدَوْا لراحهمُ وذكرك فيهمُ ... أذكى وأطيبُ من نسيم الراح فإذا جَرَتْ خبباً وذكرك فيهمُ ... جعلوك ريحاناً على الأقداح ثم قامت وقبلت الأرض وقالت: يا أمير بو الحسن أنا مُصْطَنَعَتُكَ وكذلك أولادي، فتخيَّل مولاها وخاف أن يكون الأمير أبو الحسن يخرجه من منزله، إذ كان يعلم أنه من غير شَكْلِهِ ولا هو من رجال سديد الملك، فاشتغل عنهم بحصنه وبلده كفرطاب يشتو بالجسر ويصيف بكفرطاب إلى أن غلب سابق واستحكم بأسه. [سديد الملك علي بن منقذ والحكاية لا تتعلق بالملك العزيز بل بابنه] . 7 - (1) سنة 473:فيها تسلم شرف الدولة قلعة حلب، شهر ربيع الآخر، ولم يكن فيها ما يؤكل.

_ (1) بغية الطلب 8: 147.

8 - (1) سنة 473: حدّث الأمير أتابك طغتكين صاحب دمشق أبي قال: كنت حامل وراء السلطان [ألب أرسلان] السلاح حين ضربه حجر المنجنيق ولو سلم ساعةً لأخذها [أي حلب] ، وكان قد وصل إلى الشام يريد الطلوع إلى مصر ليفتحها، ولو طلع لأخذ البلاد جميعها وأخذ مصر. وحدثني مولاي أبي قال: كانت خيامه من شمال مسجد مرج دابق إلى قناطر قنسرين، أي موضع عبرت فيه ورأيت السرادق والخيام قلت: في هذه السلطان. وقال همام بن الفضل: كانت خيام السلطان على المعشرية، وهي متصلة إلى الفرات بعضها ببعض. قال أبي: وحدثني وزير تاج الدولة أبو النجم (2) قال: شرب السلطان على حلب وسكر وضلَّ رشده بالسكر فقال: هاتوا الأمير البدوي، يعني محمود [بن نصر ابن صالح المرادسي] لأضربَ رقبته، فجاء الغلمان إلى خواجا بزرك وقالوا له: قد قال السلطان كذا وكذا، فمضى إليه خواجا بزرك وقال له: يا سلطان العالم، يظهر عنك مثل هذا؟ وكان السلطان قد بلغ منه السكر فضربه بالمغسل الذي في دست الشرب، وقال: أريده، ففتح أثراً في جهه، فمضى خواجا إلى جانب السرادق إلى خاتون، فقال: بادرينا يا خاتون وإلا الساعةَ يتلفُ العسكر وينهبُ بعضه بعضاً، كان كذا وكذا، فقامت تمشي إليه، فقال لها: خاتون، ما جاء بك؟ فقالت: نَمْ أنت سكران، وتفرقوا، فلما أصبحت قالت له: ما تحتشم تفتح عليك باب غدر؟ قال: لا إن شاء الله، قالت: بلى البارحة أردت تحضر الأمير البدويَّ وتضرب رقبته، وأنت قد أعطيته أمانك، هذا أنت تريد تفتح مصر وما دونها، وفعلت كذا وكذا بخواجا بزرك، قال: والله ما معي علم من هذا جميعه. ولما حضر عنده خواجا قال له: يا حَسَن ما هذا الأثر في وجهك؟ قال: يا سلطان العالم هذا أثر

_ (1) بغية الطلب 3: 284 وسويم: 27. (2) في حاشية النسخة: هو أبو النجم ابن بديع.

وقعتُ البارحةَ وأنا خارجٌ من خيمتي ضربني عمود الخيمة، ولم يُعْلِمْهُ بذلك، فاستحسن الناس منه ذلك. ثم رحل السلطان من حلب يريد مصر، فرحل مرحلةً واحدة فجاءه الخبر بأن ملك الروم ديوجانس قد خرج لما رأى البلادَ خاليةً من العساكر، فرحل على أدراجه يريد ملك الروم. 9 - (1) سنة 484: وفيها نزل تاج الدولة إلى السلطان [يعني نزل تتش إلى ملكشاه] فلما رآه ترجل له، وكان في الصيد خيفة أن يتخيل منه، وحضر هو وقسيم الدولة في حضرته، فقال تاج الدولة تتش: كان من الأمر كذا وكذا، فقال له قسيم الدولة: تكذب، فقال له السلطان: تقول لأخي كذا؟ قال: نعم، يطلع الله في عينيه ما يريده لك، ويطلع في عيني ما أريده لك. 10 - (2) سنة 485:قتل نظام الملك وأنه اتهم بذلك متولي الخزانة تاج الملك. وكان تاج الملك لا يفارق السلطان إلى أن يدخل فراشه، ويدخل إليه وهو وخاتون في الفراش، لا يختبي منه، وكان شيخاً مليح الشيبة أبيض الحواجب يقول لي أبي والله كأنه جدك، رحمهم الله. فلما مات السلطان، يعني ملكشاه، اجتمع مماليك خواجا بزرك وكانوا في سبعة آلاف مملوك مزوجين إلى سبعة آلاف مملوكة له وقالوا: ما قُتِلَ مولانا نظام الدين، إلا بأمر تاج الملك فإنه باطنيّ وأمر به الباطنية فقتلوه، فوثبوا على تاج الملك فقتلوه وتوازعوا جثته، فصار إلى كل واحد منهم عظم أو قطعة لحم لفّها وجعلها في خريطته، حدثني بذلك جماعة من الثقات.

_ (1) بغية الطلب 3: 269 وسويم 100. (2) بغية الطلب 9: 153 وسويم: 95.

- 11 - (1) حدثني أبي عنه [يعني عن نظام الملك] قال: كان رجلاً يصوم الدهر، وله في أصبهان أربع نسوة، يُعْمَلُ له في كلَّ دارٍ طعامٌ ولأصحابه ومن يكون عنده بقيمةٍ وافيه، فأي دار أراد أن يجلس بها كان الطعام الكثير معدّاً له كما قال: عشرة رؤوس غنم مشوية وعشرة ألوان وعشر جامات حلوى. 12 - (2) سنة 485: قفز باطنيّ على خواجا بزرك ببغداد وهو محمول في محفته التي كان يحمل فيها من ضعفه وكبره في تاسع شهر رمضان، فجرحه، وحمل إلى داره التي ببغداد، فجاء السلطان ملكشاه يفتقده ويتوجع له، فقال له خواجا: يا سلطان العالم، كبرت في دولة أبيك ودولتك، كنت تمهلت علي فما بقي من عمري إلا القليل، أو صرفتني ولا أمرت أن يفعل بي هكذا. فأخرج السلطان مصحفاً في تقليده وحلف له بما فيه أنه لم يأمر ولم يعلم، ثم قال: كيف أستجيز هذا وأنت بركه دولتي وبمنزلة أبي؟ وكان الذي أتهم بذلك متولي الخزانة تاج أبا الغنائم؟ حدثني أبي عنه قال: فمات خواجا ومضى السلطان فمات في العشر الاخير مكن شوال؟ وذكر ان السلطان لما مات اجتمع مماليك خواجا بزرك وكانوا في سبعة الاف مملوك مزوجين إلى سبعة آلاف مملوكة فقتلوا تاج الملك. 13 - (3) سنة 487: فيها كانت وقعة قسيم الدولة [آق] سنفر وتاج الملك يوم السبت تاسع

_ (1) بغية الطلب 4: 297 وسويم: 284. (2) بغية الطلب 4: 298 وسويم: 88. (3) بغية الطلب 3: 270 وسويم: 104.

جمادى الأولى، وذلك أن تاج الدولة لما أراد العبور مختفياً ليمضي إلى خراسان، فبلغ خبره قسيم الدولة فخرج إليه فقال لأصحابه: الحقوني بحبال لكتاف الأسرى، استصغاراً لهم، فقال له سكمان بن أرتق: حركش هم؟ (أي أرانب هم) ولم يتمهل إلى حين تصله خيله فمضى واستعجل، فكسره تاج الدولة بأرض رمل وأسره ورحل من موضع الكسرة إلى حلب فملكها واستولى على المواضع التي كانت لقسيم الدولة، وجلس في قلعة حلب وشرب فيها واحضر قسيم الدولة كما حدثنا رومي بن وهب قال: حضرته وقد أحضر قسيم الدولة، فدخل وفي رقبته بند قبائه يسحب، فلا والله إن أنكرت من عزة نفسه شيئاً مما كنت أعرفه، فما زال يمشي حتى وقعت عينه على تاج الدولة، فجلس وأدار ظهره إليه، فسحبوه وكلموه فما رد جواباً مرتين أو ثلاثاً، فضرب رقبته بيده، وقطع رأسه فطيف به البلاد وحملت جثته فدفنت عند مشهد قرنبيا وبقي ليلتين، وسار تاج الدولة إلى خراسان، وبقي قسيم الدولة في قبره وقد طوف برأسه إقليم الأرض من الشام سنة خمسٍ وثمانين إلى سنة ست وعشرين إلى حين ولى السلطان والخليفة المسترشد بالله ولده زنكي بن آق سنقر وهو وعماد الدين. . ملك الأمراء بهلوان جهان عمر له مدرسةً تولى أمرها الشيخ الأجل الفقيه الإمام أبو طالب العجمي، ووقف عليها ضيعتين يساوي مغلهما ألف دينار كل سنة، وعمر بها عمارة معجزة رمته إليها، رأيتها في سنة سبعة وعشرين ولم تكنت أكملت، وهي تزيد عن الوصف، وجعل قبره قبالة البيت المسجد من الشمال، وأجرى إليها قناة من ماء، وغرس وسطها، وجعل القبر مثل قبر أبي حنيفة رضي الله عنه [هكذا نقلت من خط ابن منقذ وفيه أوهام من جملتها أنه قال فكسره بأرض سل، وليس كذلك بل بأرض سبعين أو كارس، وسل ليست من هذه الكورة، وبينهما مسافة يوم، من جملة أوهامه أنه قال: جلس في قلعة حلب وضرب رقبته آق سنقر، وليس الأمر كذلك، بل ضرب رقبته عقيب الكسرة بسبعين أو كارس، ورومي بن وهب حكى له صورة قتله، لأنه كان بحلب والذي قتله تاج الدولة صبراً بحلب هو بزان صاحب الرها، وكان انهزم في هذه الوقعة إلى حلب، فلما دخلها تاج الدولة أحضره وقتله، وقيل بل أسره وحمله إلى حلب فقتله؟

وقال: بقي قسيم الدولة في قبره من سنة خمس وثمانين إلى سنة ست وعشرين وهذا طغيان من القلم، فإن قسيم الدولة قتل سنة سبع وثمانين، وقد ذكره كذلك، وقال عمر يعني ولده زنكي له مدرسة، ووقف عبيه صبعين، والمدرسة لم يعمرها زنكي بل عمرها سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، وأبتدأ في عمارتها في سنة سبع وعشرة، واسمه وتاريخ عمارتها على جدارها، لكن قسيم الدولة آق سنقر لما قتل دفن إلى جانب مشهد قرنبيا بالقبة الصغيرة المبنية بالحجارة من غربي المشهد، وكان قسيم الدولة بنى مشهد قرنبيا لمنام رآه بعض أهل زمانه ووقف عليه وقفاً فدفن إلى جنبه، وعمر على قبره تلك القبة، فلما ملك زنكي حلب آثر أن يبني لأبيه مكاناً ينقله إليه، وكانت المدرسة بالزجاجين لم تتم، وكان شرف الدين أبو طالب العجمي هو الذي يتولى عمارة المدرسة، ووقف من يقرأ على قبره القرية المعروفة بشامر، وهي جارية إلى الآن، وأما كارس التي هي وقف على المدرسة فأظنها وقف سليمان بن عبد الجبار] . 14 - (1) سنة 516: وفيها وصل الواعظ أبو طالب من الخليفة، فانتسجت بيني وبينه مودة، فكتب إلي أبياتاً وأنا داخلٌ من الركوب: يا ليلَ ما جئتكمُ زائراً ... إلا رأيتُ الأرضَ تُطْوَى لي ولا ثنيتُ العزمَ عن داركم ... إلا تعثَرْتُ بأذيالي فلم أعلم ما معناها في وصولها، وأنا مع أبي دخول من الصيد، فأريته الرقعة وقلت: ما معنى هذا؟ فقال: والله لا أعلم، وأريتها لعمي عز الدين في الحال فقال: ما أعلم فأمرني أن أخلع عدتي وأرجع سريعاً، فخطر لي أنه يختبرني ليعلم بديهيتي، فكتب في ظهرها: كم لي إلى داركَ من صبوةٍ ... أَعْتدَتْ فأبكتْ ليَ عُذَالي وحرّ نار في الحشا محرقٍ ... لبعدكم يقضي بترحالي

_ (1) بغية الطلب 9: 114.

إن كنت أضمرت سلواً فلا ... بلغت من وصلك آمالي وعشت من بعدك وهو الذي ... أخشى لأن الموت أشى لي ورجعت إلى مجلس عمي وقعدت فيه ساعة، وحضر الرجل فقلت: يا سيدنا جمال الأدب والعلماء، ما علمت ما معنى البيتين وأريتهما لمولييَّ عمي وأبي فما علما، فقالا: والله كذلك كان، قلت: بل وقع إلي أنك أردت تختبرني، فعملت في ساعتي هذه الأبيات وأنشدتها، فقال لي من حضر: والله لولا أنها مكتوبة في ظهر الرقعة لظنناها من حفظك، وكان والله أديباً مليحاً، وهو كان لازماً لبني الشهرزوري، والأبيات لابن الشهرزوري. وأنشدني له أيضاً وقد مر بقبر أخيه: مررت على قبر تداعت رسومه ... ومنزله بين الحوائج آهل فريدٌ وفي الإخوان والأهل كثرة ... بعيد ومن دون اللقاء الجنادل فحرك مني ساكناً وهو ساكن ... وثقف مني مائلاً وهو مائل وقلت له إن كنت أخليت منزلاً ... فقد ملئت بالحزن منك المنازل عليك سلام الله ما ذر شارق ... وما حن مشتاق وما ناح ثاكل - 15 - (1) سنة 534: في شوال وفي حادي عشره مات أبو القاسم ابن السحلول الزاهد رحمه الله، وكان لا يأكل خبزاً لأحدٍ قط، إلا ما يعمل، ولقد حدثني جماعة وهو حاضر يتحدث حينئذ أنه حج وجاءت طريقه إلى حير، وهو وجماعة من الحجاج، فأخذوهم العرب، قال: ومشينا حتى نال الحر والعطش منا، فقال له أصحابه: ما تشتهي يا أبا القاسم؟ قال: اشتهيت رحمة الله وشربة من ماء، قالوا: أين ذاك؟ قال: أما أنا فأتكل على الله وأموت ولا أتعب، ورجع إلى موضع يلتجئ إليه فوجد ماء معيناً فغرف منه بيده، فنادى أصحابه فجاءوا وشربوا واستراحوا، فإذا ناقة قد أقبلت من التي كانت لهم وقد أخذها العرب، فجاءت إلى أن حققوها، فرأوها ناقة

_ (1) بغية الطلب 9: 170.

أبي القاسم، فما وقعت إلا في يده فقال: يا قوم لي فيها وديعة سبعة دنانير، قفوا نتبلغ بها إن كانت ناقته، فمد يده إلى رقبتها فوجد ذهبه في المكان الذي عمله، فسلم وسلمنا ببركته. - 16 - (1) سنة 534: وفي ثالث ذي الحجة توفي الشيخ أبو عبد الله الزاهد ابن العجمي (2) رحمه الله، حدثني من حضره قال: جئت يومئذ أفتقده وهو في آخر قوته فقلت: كيف تجدك؟ وأومأ إلي إيماءةً فما شككت أنه تلك الساعة يموت، فقال: امضوا فعلي مهلة إلى بعد غد، وكان قد عطس ثلاث عطسات، كل عطسة ليوم، فكان الأمر كما ذكر، رحمه الله.

_ (1) بغية الطلب 5: 5. (2) هو الحسين بن طاهر العجمي، فقيه زاهد عاش بحلب وكان كولده سنة 448.

مدرج للمرهف بن أسامة بن منقذ

- 13 - مدرج للمرهف بن أسامة بن منقذ علق فيه شيئاً من التاريخ

فراغ

- 1 - (1) سنة 496: فيها قتل جناح الدولة بحمص في يوم الجمعة (22 من شهر رجب) . - 2 - (2) سنة 499: فيها قفز أهل أفامية مع القاضي ابن الفتح على سيف الدولة خلف بن ملاعب فقتلوه وقتلوا أولاده في الرابع والعشرين من جمادى الأول. - 3 - (3) سنة 508: وفيها قتل الأخرس ابن الملك رضوان في يوم الاثنين خامس شهر ربيع الآخر. - 4 - (4) سنة 518: فيها قبض بلك على حسان التركي ونزل على قلعة منبج، وكان

_ (1) سويم: 123 (عن بغية الطلب) . (2) سويم: 131. (3) سويم: 155. (4) بغية الطلب 4: 131.

فيها عيسى أخو حسان، وعذب حسان أنواع العذاب ليسلم إليه منبج، فلم يقبل أخوه عيسى وأنفذ إلى جوسلين، وأطمعه بتسليم منبج إليه، فجمع جمعاً كثيراً وجاء، فنصر الله بلكاً عليه فكسره، وعاد إلى حصار منبج فأصابه سهم في ترقوته فمات، وكان قد جعل سجن حسان في قلعة بالو، فلما قتل بلك نزل [ ... ] داود ابن سكمان على بالو فأخذها وأفرج عن حسان، وقيل إن ذلك كان في ربيع الأول. - 5 - (1) سنة 529: فيها [قتل شمس الملوك إسماعيل بن بوري، قتلته أمه زمرد خاتون، وأجلست أخاه شهاب الدين محموداً] .

_ (1) سويم: 222.

تاريخ مختصر

- 14 - (1) تاريخ مختصر عمله أبو شجاع محمد بن علي بن شعيب الفرضي البغدادي المعروف بابن الدهان (- 592/1195)

_ (1) ترجمته في الخريدة (قسم العراق) : 2: 312 وابن خلكان 5: 12 وذيل الروضتين: 9 والوافي 4: 164 والنجوم الزاهرة 6: 136، 139 وعبر الذهبي 4: 274 والشذرات 4: 304 وبغية الوعاة 1: 181 والبداية والنهاية 13: 13 وانظر: بروكلمان، والتاريخ: 392 والزركلي 7: 167.

فراغ

ولد ببغداد وبها نشأ ثم انتقل إلى الموصل وصحب وزيرها جمال الدين الأصبهاني، ثم التحق بخدمة السلطان صلاح الدين فولاه ديوان ميافارقين، غير أن خلافه مع والي تلك المدينة أخرجه عنها إلى دمشق حيث لبث مدة انتقل بعدها إلى مصر سنة 586، ثم رجع إلى دمشق وبقي فيها إلى أن حج وتوفي وهو عائد على طريق العراق بالحلة السيفية، وقد جعل ابن خلكان وفاته عام 590 ولكن هناك ما يدل على أنه عاش بعد ذلك - كما سيلي. وقد كان ابن الدهان متعدد الملكات، إذ كان واسع الاطلاع في النحو، وله اهتمام بالفرائض، وهو أول من جعلجداولها على شكل منبر، وكان ذا معرفة بعلم النجوم وحل الزيجات ويعرف طرفاً صالحاً من الهندسة، هذا إلى توفر على قول الشعر، ويذكر العماد أن شعره في غاية الجودة. فأما في الحديث فقد صنف غريب الحديث في ستى عشر مجلداً لطافاً ورمز فيه حروفاً يستل بها على أماكن الكلمات المطلوبة منه، كذلك له في الفقه تأليف اسمه " تقويم النظر ". وصنف في التاريخ كتاباً وصفه الصفدي بأنه " جيد " ويذكر ابن تغري بردي أن تاريخه يبتدئ سنة 510 وينتهي بحوادث سنة 529، فإذا صح ذلك تكون وفاته قد تجاوزت ما حدده ابن خلكان وأكثر المصادر التي ترجمت له. ومن إشارات ابن العديم إلى الكتاب نعرف أنه مبني على الاختصار.

- 1 - (1) سنة 521: واتفق المر على أن يسير بدر الدولة وخطلبا إلى باب الموصل إلى عماد الدين زنكي، فلما ولي عاد إلى منصبه، وأقام بحلب الأمير قراقش والرئيس فضائل بن بديع، فأصلح عماد الدين بينهما ولم يوقع لأحد منهما وسير سرية إلى حلب صحبة الحاجب صلاح الدين العمادي فوصل إلى حلب وطلع إلى القلعة وأقام فيها والياً من جانبه ... - 2 - (2) سنة 522: دخل عماد الدين زنكي بن آق سنقر إلى حلب في يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة، والطالع السنبلة أربع عشرة درجة، وطالع الأصل الميزان، كذا حكى لي البرهان، وقبض على خطلبا وسلمه إلى ابن بديع فكحله في منتصف رجب ... - 3 - (3) سنة 523: وانحاز قاضي القضاة الزيني إلى الموصل في ولاية الراشد، والآن عاد وسمع البينة في خلع الراشد، وانضاف إلى الراشد لما أصعد إلى الموصل أبو الفتوح الواعظ الإسفرايني وجلال الدين ابن صدقة الذي كان وزيره وقوام الدين ابن صدفة وأكابر بيت صدقة، وحصل الجماعة عند زنكي بالموصل. ولما اتفقت الكلمة على المقتفي لأمر الله وعلى السلطان مسعود استشعر الراشد من زنكي وطلب منه أن يعبر إلى الجانب الغربي ليمضي إلى همذان، فمشى بين يديه إلى أن حصل في الشبارة، وعبر وتخلف عند زنكي جلال الدولة بن صدقة وجماعة

_ (1) بغية الطلب 7: 209 وسويم: 258. (2) بغية الطلب 7: 209 وسويم: 258. (3) بغية الطلب 7: 209 وسويم: 258.

من بيته. وسمعت قوام الدين صدقة يحكي أن الراشد لما حصل على شاطئ دجلة بالموصل يريد العبور وزنكي بين يديه قال لأبي الرضى ابن صدقة: أريد أقتل زنكي، فقال أبو الرضى لابن عمه قوام الدين: قل لزنكي يسرع خطوه بحيث يبعد عن الراشد، ففعل، وعرف زنكي ذلك لأبي الرضى فاستوزره. ومضى الراشد إلى أصفهان وصحبته أبو الفتوح الإسفرايني وأقام عليها إلى أن قتل. - 4 - (1) سنة 539: في خامس عشري جمادى الآخرة فتح زنكي الرها، كان نازلاً على آمد، فكتب إليه رئيس حران يخبره أن صاحب الرها قد توجه إلى الشام، فأغذ زنكي السير حتى نزل على الرها، وحال بينها وبين صاحبها، وحاصرها أشد الحصار، وفتحها بالسيف فغنم المسلمون منها. - 5 - (2) سنة 541: وفي هذه السنة قتل عماد الدين زنكي ليلة الأحد سادس شهر ربيع الآخر على قلعة جعبر، قتله خادم له اسمه يرنقش وانهزم إلى قلعة جعبر. - 6 - (3) سنة 545: فيها خرجت زغب على الحاج فهلك منهم خلق كثير قتلاً وجوعاً وعطشاً، وكان في من هلك يوسف بن درة الشاعر المعروف بابن الدري الموصلي الأصل.

_ (1) بغية الطلب 7: 210 وسويم: 259. (2) بغية الطلب 7: 213. (3) ابن خلكان 7: 230.

- 7 - (1) سنة 549: وفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة توفي أبو الحكم المغربي الحكيم عبيد الله بن المظفر، وكان قدم بغداد وأقام بها مدة يعلم الصبيان، وكان ذا معرفةٍ بالأدب والطب والهندسة، ومولده باليمن في سنة ست وثمانين وأربعمائة.

_ (1) ابن خلكان 3: 123 - 125.

ذيل على مختصر تاريخ الطبري

- 15 - ذيل على مختصر تاريخ الطبري أو تاريخ الوزير أبي غالب عبد الواحد بن مسعود بن الحصين الشيباني " 535 - 597 "

فراغ

اختصر تاريخ الطبري وحذف أسانيده جماعة منهم: 1 - محمد بن سليمان الهاشمي. 2 - أبو الحسن الشمشاطي المعلم من أهل الموصل. 3 - السليل بن أحمد (1) . وهناك آخرون غير هؤلاء، ولهذا فالكتاب الذي يسمى:مختصر تاريخ الطبري " والذي ذيل عليه أبو غالب الشيباني مما يتعذر تحديد نسبته أو تعيين مؤلفه، وقد أهمل هذا الذيل الذي صنعه أبو غالب فيما يبدو، فلم يبق منه إلا النقول التي تضمنها كتاب بغية الطلب لابن العديم، ولعل السبب في ذلك أنه يشارك ابن الأثير في معظم الأخبار، فكان أن حجبته شهرة تاريخ ابن الأثير. كذلك فإن الاهتمام بمؤلف الذيل قليل أيضاً ولولا ورود ترجمته في الجامع المختصر لابن الساعي (9: 70) لما استطعنا معرفة شيء كثير عنه، قال ابن الساعي: " أبو غالب عبد الواحد بن مسعود الشيباني شيخ فاضل من أهل بيت رواية للحديث، روى عن أبي الكرم المبارك بن الشهرزوري وأبي الوقت السجزي

_ (1) الفهرست: 291 هذا وقام السليل بالتذييل على تاريخ الطبري فيما يبدو إذ له تاريخ اختصره الشمشاطي وعنه ينقل ابن العديم (1: 93) .

وغيرهما، وتولى الأعمال الواسطية نظراً وإشرافاً ثم خرج إلى الشام في سنة سبع وسبعين وخمسمائة وتردد ما بين مصر ودمشق سنين، ثم سكن حلب إلى أن توفي بها في شهر رمضان من سنة سبع وتسعين وخمسمائة. وكان مولده في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة ". وأكثر مروياته عن أبيه مسعود بن الحصين أبي منصور (- 555) الذي غلب عليه الميل إلى القراءات (1) وعن خاله ابن عم أبيه شمس الرؤساء أبي الحسن علي بن محمد بن الحصين (2) . ويبدو أنه كان في الفترة العراقية من حياته على علاقة بابن التلميذ الطبيب، ويروي شيئاً من شعره، ومن شعر ابن الخل وغيرهما، وذلك أنه كان يخالط أولئك الشعراء كما كان يسمع إنشادهم في مجلس الوزير ابن هبيرة، وعنه يروي بعض شعر معاصريه العماد الأصفهاني ويدعوه " صديقي " في غير موطن (3) ، وكان كذلك على علاقة بأبي منصور محمد بن سليمان بن قتلمش النحوي اللغوي الذي ولاه الناصر حجبة الحجاب (4) (- 620/1223) ، فإنا نراهما يتفاوضان في مدى سرعة خاطر الحسين بن علي بن أحمد بن شبيب نديم المستنجد في حل الألغاز فيرسلون إليه بلغزين (وكانت وفاة ابن شبيب سنة 580) (5) . ويلقبه

_ (1) ترجمته في غاية النهاية 2: 296. (2) الخريدة 2: 289. (3) الخريدة قسم العراق 2: 233، 1/4: 117، 225. (4) معجم الأدباء 18: 205 - 206 وعنه بغية الوعاة 1: 115 والوافي بالوفيات 3: 125. (5) معجم الأدباء 10: 126.

- 1 - (1) سنة 456: في شهر رمضان وصل ركابي من تبريز بكتاب من نظام الملك يخبر أن السلطان ألب أرسلان أوغل في الغزاة ببلاد الخزر وبلغ حيث لم يبلغ أحد من الملوك وافتتح بلداً عظيماً يسمى أسبد شهر وقتل نحو ثلاثين ألف رجل وسى ما يوفي على خمسين ألف مملوك، وهادن ملك الأبخاز وعاد من ذلك الثغر ونزل على مدينة آني من بلاد الروم، ففتحها عنوة، وهي مدينة عظيمة تشتمل هلى سبعمائة ألف دار، وأسر منها خمسمائة ألف إنسان.. وهو أول من ذكر على منابر مدينة السلام بالسلطان عضد الدين ألب أرسلان. - 2 - (2) سار السلطان ألب أرسلان [يعني في سنة ثلاث وستين وأربعمائة] إلى ديار بكر فخرج إليه نصر بن مروان، وخدمه بمائة ألف دينار، وقصد حلب وحاصرها فخرج إليه محمود بن نصر آملاً ومعه والدته، فدخلا على السلطان فقالت له: هذا ولدي فافعل به ما تحب، ففعل معه الجميل وخلع عليه. وغزا السلطان ألب أرسلان بلاد الروم، وخرج أمر الخليفة القائم إلى الخطباء على المنابر بالدعاء له بما صيغته " اللهم أعل راية الإسلام وناصره، وادحض الشرك بجب غاربه وقطع أواصره، وامدد المجاهدين في سبيل الدين في طاعتك بنفوسهم سمحوا، وعلى متابعتك بمهجهم فازوا وربحوا، بالعون الذي تطيل به باعهم، وتملأ بالأمن والظفر رباعهم، واحب شاهنشاه الأعظم برهان أمير

_ (1) بغية الطلب 3: 288 وسويم: 35. (2) بغية الطلب 3: 285 وسويم: 29 وقارن بابن الأثير 10: 64، 65 - 67.

المؤمنين بالنصر الذي تنشر به أعلامه، ويستبشر بمكانه من اختلاف الظلال أيامه، وأوله من التأييد الضاحكة مباسمه، القائمة أسواقه ومواسمه، ما يقوي في إعزاز دينك يده، ويقضي بأن يشفع يومه في الكفار غده، واجعل جنوده بملائكتك معضودة، وعزائمه على اليمن والتوفيق معقودة، فإنه قد هجر في كريم مرضاتك الدعة، وتاجرك من بذل المال والنفس ما انتهج فيه مسالك أوامرك الممتثلة المتبعة، فإنك تقول وقولك الحق: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) . اللهم فكما أجاب نداءك ولباه، واجتنب التثاقل عن السعي في حياطة الشريعة وأباه، ولاقى أعداءك بنفسه، وواصل في الانتصار لدينك يومه بأمسه، أنت اخصصه بالظفر، وأعنه في مقاصده بحسن مجاري القضاء والقدر، وحطه بحرز يدرأ عنه من الأعداء كل كيد، ويشمله من جميل صنعك بأقوى أيد، ويسر له كل مرام يحاوله، ومطلب يرومه ويزاوله، حتى تكون نهضته الميمونة عن النصر مسفرة، ومقلة أحزاب الشرك مع إصرارهم على الضلال غير مبصرة. فابتهلوا معاشر المسلمين إلى الله تعالى في الدعاء له بنية صافية، وعزيمة صادقة، وقلوب خاشعة، وعقائد في رياض الإخلاص راتعة، وواصلوا الرغبة إلى الله في إعزاز جانبه، وفل غرب مجانبه، وإعلاء رايته، وإنالته من الظفر أقصى حده وغايته) . وأنفذ السلطان في مقدمته أحد الحجاب، فصادف عند خلاط صليباً تحته مقدم الروسية في عشرة آلاف من الروم فحاربوهم، وأعطى الله المسلمين النصر عليهم، فأخذ الصليب وأسر المقدم، وتقارب السلطان وعظيم الروم في مكان يعرف بالزهرة بين خلاط ومنازكرد في يوم الأربعاء خامس ذي القعدة، وكان السلطان في خمسة عشر ألفاً وصاحب الروم في مئين ألوف، وراسل السلطان ملك الروم في الهدنة، فقال ملك الروم: لا هدنة إلا بالري، فعزم الله على السلطان على الرشد، ولقيه يوم الجمعة وقت الزوال، وهو سابع ذي القعدة، وأعطى الله المسلمين النصر فقتلوا منهم قتلاً ذريعاً وأسر ملك الروم، وضربه ألب أرسلان ثلاث مقارع، وقطع عليه ألف ألف وخمسمائة ألف دينار، وأي وقت طلب

السلطان عساكر الروم نفذها ملكهم إليه، وأن يسلم كل أسير من المسلمين عنده. 3 - (1) سنة 465: في أولها غزا السلطان ألب أرسلان جيحون، وكان معه زيادة على مائتي ألف فارس، وعبر عسكره إليهم في نيف وعشرين يوماً من صفر، وكان قد قصده شمس الملوك تكين بن طمغاج، وأتاه وأصحابه بمستحفظ قلعة يعرف بيوسف الخوارزمي، وحمل إلى قرب سريره وهو مع غلامين، فتقدم بان تضرب له أربعة أوتاد وتشد أطرافه إليها فقال: يا مخنث، مثلي يقتل هذه القتلة؟ فاحتد السلطان ألب أرسلان وأخذ القوس والنشابة وحرص على قتله، وقال للغلامين خلياه، فخلياه ورماه فأخطأه، ولم تخطئ له قط نشابة غير هذه، فعدا يوسف إليه، وكان السلطان جالساً على سدة، فنهض ونزل فعثر ووقع على وجهه، وقد وصله يوسف فبرك عليه وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، ودخل السلطان إلى خيمته وهو مثقل، ولحق بعض الفراشين يوسف فقتله بمروة (2) كانت في يده، وقضى ألب أرسلان نحبه وجلس للعزاء به ببغداد في ثامن جمادى الآخرة، ومولده سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وبلغ من العمر أربعين سنة وشهرين، ودفن السلطان ألب أرسلان عند قبر أبيه بمرو. 4 - (3) سنة 485: وفيها في المحرم مرض نظام الملك فلم يداو نفسه بغير الصدقة فعوفي.

_ (1) بغية الطلب 3: 288 وسويم: 36 وقارن بتاريخ ابن الأثير 10: 73 وبين النصين تقارب كثير. (2) ابن الأثير: بمرزبة. (3) سويم: 74 (عن بغية الطلب) .

5 - (1) وفي ليلة السبت عاشر شهر رمضان [يعني من سنة485] قتل نظام الملك قوام الدين أبو عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق رضي الله عنه قريباً من نهاوند، وهو سائر مع العسكر في محفة، فضربه صبي ديلمي في صورة مستميح أو مستغيث، بسكين كانت معه فقضى عليه، وأدرك فقتل، وجلس لعزائه عميد الدولة ابن جهير ببغداد، وفضائله المشهورة في كل مكان وزمان تنوب عن لسان مادحه، وأفعاله الصالحة من المدارس والربط والقناطر والجسور والصدقات الدارة باقية على الأيام، وتحدث الناس أن قتل نظام الملك كان برضى من السلطان وتدبير تاج الملك أبي الغنائم وإشارة تركان خاتون، لأنهم كانوا عزموا على تشعيث خاطر المقتدي، وكان نظام الملك يمنعهم من ذلك ... وبلغني أن أبا نصر الكندري لما عزل عن وزارة السلطان وفوضت الوزارة إلى نظام الملك وحبس وسعى نظام الملك في قتله، فلما هم الجلاد بقتله قال له: قل للوزير نظام الملك بئس ما فعلت، علمت الأتراك قتل الوزراء وأصحاب الدواوين ومن حفر مغواة وقع فيها، ومن سن سنة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ورضي بقضاء الله المحتوم، فكان الأمر كما قال. 6 - (2) سنة487: وفي جمادى الأولى كان المصاف بين تاج الدولة تتش وبين الأمير آق سنقر وبوزان ومن أمدهما به بركياروق قريباً من حلب، فلما ألتقى الصفان استأمن ابن أبق إلى تتش وانهزم الباقون، وأسر آق سنقر فجيء به إلى تتش فقال له تتش: لو ظفرت بي ما كنت صانعاً في؟ قال: أقتلك، قال: فإني أحكم عليك بحكمك في، وقتله. وكان آق سنقر من أحسن الناس سياسة وآمنهم رعية وسابلة.

_ (1) بغية الطلب 4: 298 وسويم: 87 وقارن بابن الأثير 10: 204. (2) بغية الطلب 3: 270 وسويم: 103 وقارن بابن الأثير 10: 232.

7 - (1) سنة514: في هذه السنة قتل الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي، وكان وزير السلطان مسعود، أسر في الكسرة المذكورة [كسرة محمود بن محمد لأخيه مسعود] ، وكان فضائله في الشعر والرسائل والحكمة مشهورة [ذكر ذلك بعد ذكر كسرة السلطان محمود بن محمد أخاه مسعوداً] . 8 - (2) سنة518: وفي ثاني عشر من ذي حجتها دخل البرسقي إلى حلب، وفي غده رحل الفرنج عن حلب. 9 - (3) سنة524: وجد دبيس بن صدقة ضالاً بحلة حسان بن مكتوم بأعمال صرخد، فأسره ابن طغتكين صاحب دمشق، وباعه عليّ زنكي بن آق سنقر صاحب حلب بخمسين ألف دينار، وكان زنكي عدوه، فما شك دبيس أنه ابتاعه ليهلكه، فلما حصل دبيس في قبضة زنكي أكرمه وخوله وأطلقه، وروسل زنكي من دار الخلافة بتسليم دبيس، فقبض على الرسول وهو سديد الدولة محمد بن عبد الكريم الأنباري كاتب الإنشاء.

_ (1) بغية الطلب 5: 122 وسويم: 194 وقارن بابن الأثير 10: 562 - 565. (2) سويم: 211. (3) بغية الطلب 6: 308 وسويم: 231 وقارن بابن الأثير 10: 668 - 669 وفيه أن الذي أسره ناس من كلب كانوا شرقي الغوطة وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق فحبسه عنده، فلما سمع أتابك عماد الدين زنكي بذلك، وكان دبيس يقع فيه وينال منه، أرسل إلى تاج الملوك يطلب دبيساً فسلمه له.

10 - (1) سنة 527: فيها نازل إسماعيل الملقب بشمس الملوك حماة وشيزر. 11 - (2) سنة 529: فيها قتل شمس الملوك إسماعيل بن بوري، قتلته أمه زمرد خانون وأجلست أخاه شهاب الدين محموداً. 12 - (3) سنة577: فيها مات الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب، وبلغني أن وفاته كانت في شهر رجب عن تسع عشرة سنة، وكانت وفاته بقلعة حلب. 13 - (4) حدثني الشيخ نصر الله بن مجلي مشارف الصناعة بالمخزن، وكان من الثقاة الأمناء أهل السنة قال: رأيت في المنام عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين يوم الطف ما تم؟ فقال لي عليّ عليه السلام: أما سمعت بأبيات الجمال ابن الصيفي في هذا؟ قلت: لا، فقال: أسمعها منه. ثم

_ (1) سويم: 222، (بغية الطلب 3: 70) . (2) سويم: 222، (بغية الطلب 3: 70) . (3) بغية الطلب 3: 191 وسويم: 283: وقارن بابن الأثير 11: 472. (4) بغية الطلب 5: 93، 8: 274 ومعجم الأدباء 11: 206 - 207 ووفيات الأعيان 2: 364 - 365 ومرآة الجنان 3: 399 والشذرات 4: 247 والأبيات في ديوان الحيص بيص 3: 404.

استيقظت فباكرت إلى دار الحيص بيص، فخرج إلي، فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد، وإن كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه، وهي: ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح وحللتم قتل الأسير وطالما ... غدونا عن الأسرى نعف ونصفح ولا غرو فيما بيننا من تفاوت ... فكل إناء بالذي فيه ينضح

فراغ

حلية السريين من خواص الدنيسريين

16 - (1) حلية السريين من خواص الدنيسريين لأبي حفص عمر بن الخضر بن اللمش بن الدزمش التركي

_ (1) انظر الإعلان بالتوبيخ (عند روزنتال) : 632 وتاريخ الحكماء: 290 وبغية الطلب 2: 69 وكشف الظنون 1: 690 وتاج العروس (دنسير) وبروكلمان 1: 333 والأعلام للزركلي 5: 203.

فراغ

دنيسر إحدى مدن الجزيرة، بينها وبين ماردين فرسخان، وقد رآها ياقوت وهو صبي، وكانت قرية، ثم رآها بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة وقد أصبحت مدينة كبيرة آهلة بالسكان كثيرة الأسواق، وفي فترة نموها عاش أبو حفص عمر بن الخضر، وكتب تاريخها، حين كثر علماؤها ونعددت مدارسها (فعرف منها المدرسة الشهابية) وكثرت حلقات الدرس في جوامعها. نال عمر بن الخضر ثقافته في بلده دنيسر على شيوخ منهم أبو الكرم ابن الأكاف الموصلي والقاضي أبو بكر الحلبي والقاضي أبو عمران الماكسيني (الماكسي) ثم توجه إلى بغداد فدرس الطب على أبي الخير المسيحي ابن العطار، والأرجح أنه عاد إلى بلده وزاول مهنة الطب هنالك، وتوفي بعد سنة615 (1) ، وهو ممن أغفل ذكرهم ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء. 1 - (2) إسحاق بن إسماعيل بن قنق بن إسحاق أبو يوسف التركي المنبجي المولد، الدنيسري الدار: كان فقيهاً شافعياً، وكان ابتداء اشتغاله بالفقه بالمدرسة الشهابية بدنيسر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، تفقه بها على شيوخنا أبي الكرم ابن الأكاف

_ (1) هدية العارفين 1: 785. (2) بغية الطلب 2: 264.

الموصلي والقاضي أبي بكر الحلبي والقاضي أبي عمران الماكسي وغيرهم. قرأ جملة من كتب المذهب، وله في المناظرة تصرف وأنس بالجدل وبحث في الطب، صار يفيد الدروس للمتفقهة بالمدرسة بعد خروج القاضي محمد بن يحيى منها سنة سبع وستمائة. 2 - (1) أبو العباس [أحمد بن مسعود بن محمد] الخزرجي القرطبي الشافعي (2) : هو أول من درس بالمدرسة الشهابية في دنيسر، فقيه فاضل مفنن عارف بكثير من علوم الأصول والفقه والنحو وسائر الآداب، شهد له بذلك جماعة من العلماء. قال لي أبو محمد ابن عربد النحوي: كان أبو العباس رحمه الله حديد النظر، سديد الفكر، عجيب الفقر، غريب السير، حسن التبحر في العلوم، سليم التصور فيما يبدي من المنثور والمنظوم، جيد الفكاهة، متزيد النزاهة، لطيف الشمائل، طريف المخايل، لم أر في علماء عصره ومعشره أتم من بحثه ولا أدق من نظره، وله تصانيف في فنون كثيرة وشعر كثير، ولم يظهر له عندنا سماع حديث على طريق الرواية البتة بل كان يذكر لنا أن له سماعات كثيرة، وقد أنشدني كثيراً من شعره. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وستمائة بدنيسر ودفن بالمقبرة القبلية بها. 3 - (3) محمد بن عبد السلام بن عبد الرحمن بن عبد الساتر المقدسي ثم

_ (1) بغية الطلب 2: 69. (2) أورد ابن العديم نماذج من شعره، وذكر من مؤلفاته: كتاب في علم الأصول في ثماني مجلدات سماه تقريب المطالب، وكتاب القوانين في أصول الدين، وكتاب في النحو، وكتاب سماه الاختيار في علم الأخبار. (3) تاريخ الحكماء: 290 - 291، ولابن عبد السلام المارديني ترجمة ضافية في عيون الأنباء 1: 299 - 301 ويؤخذ منها أنه قرأ كتاب القانون على ابن التلميذ وباحثه فيه وبالغ في تصحيحه وتحريره معه، وقرأ عليه صناعة المنطق، من ذلك كتاب المختصر الأوسط لابن سينا. وأقام المارديني مدة طويلة في مدينة حيني في خدمة نجم الدين ابن أرنق، ثم ذهب إلى دمشق سنة 587 وأقرأ بها صناعة الطب، وكان له مجلس عام للتدريس، وبقي فيها إلى آخر شعبان سنة 589 ومنها توجه قاصداً بلده، فمر بحلب، فطلب منه صاحبها الملك الظاهر غازي الإقامة فيها، فرفض، ثم نزل على أمر الملك الظاهر وبقي في صحبته نحو سنتين، ومن ثم عاد إلى وطنه ووقف كتبه في المشهد الذي وقفه حسام الدين أرتق هنالك، والكتب التي وقفها هي نسخه التي كان قد قرأها على مشايخه وبالغ في تحريرها وإتقانها (انتهى باختصار) ، وانظر عيون الأنباء أيضاً 1: 263، 267.

المارديني: كان أبوه قاضي ماردين، وجده قاضي دنيسر هو فخر الدين بن المشهدي، فاضل وقته في علوم الحكمة والطب والمرجوع إليه في ذلك. قرأ الطب على هبة الله بن صاعد بن التلميذ ببغداد، وبلغني أن ابن التلميذ لما رأى غزارة فهمه في علوم الحكمة أشار عليه بالطب لتعجيل الراحة منه، ضرورة حاجة الناس إليه، فبلغ منه الغاية، حتى إن الملوك كانت تخطبه من النواحي والأقطار، وكان على علو السن يكرر على كتب كبار، وقرأ عليه الشهاب السهروردي شيئاً من الحكمة، ولم يبلغني أنه صنف كتاباً مع غزارة علمه وتمكنه وحسن تصرفه فيه، إلا أنه شرح أبيات الشيخ الرئيس أبي عليّ ابن سينا، وهي التي أولها: هبطت إليك من المحل الأرفع ... وأقام بدنيسر عند أبي محمد القاسم بن هبة الله الحريري مدة، ولم أجتمع به. وتوفي في يوم السبت حادي عشر (1) ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة. قال أبو الخير المسيحي ابن العطار البغدادي زمن اشتغالي عليه بالطب ببغداد: إن عندكم من هو المرجوع إليه في هذا الشأن وغيره، وذكر لي محمد بن عبد السلام، وكان يفخم أمره ويعظم شأنه، فأخبرته بوفاته، رحمه الله.

_ (1) عيون الأنباء: الحادي والعشرين، أضاف ابن أبي أصيبعة أنه توفي بآمد وله من العمر اثنتان وثمانون سنة.

4 - (1) أبو المعالي بن أبي الجيش بن أبي المعالي المقرئ الدنيسري الحصري الزاهد: قرأ القرآن على أبي جعفر القرطبي بدمشق، وقرأ على غيره، وهو رجل زاهد يحب الانقطاع عن الناس والخمول وكثرة قراءة القرآن، ويكره الجاه والقرب من السلطان وأن يؤم بهم أو بأتباعهم، وإذا عرض عليه شيء من ذلك امتنع، حتى إنه امتنع من الإمامة بالجامع الغربي بدنيسر لكونها ولاية سلطانية.

_ (1) بغية الطلب 9: 198.

تاريخ حران

17 - تاريخ حران لأبي المحاسن ابن سلامة الحراني

فراغ

توالى على كتابة تاريخ حران عدد من العلماء نعرف منهم ثلاثة: 1 - أبو عروبة (أو أبو عمرو) السلمي، وعنه ينقل السمعاني في الأنساب (1) . 2 - حماد بن هبة الله بن حماد بن الفضيل الحراني (511 598) (2) وكان محدثاً حافظاً، سمع ببغداد من إسماعيل بن السمرقندي، وبهراة من عبد السلام، وبمصر من ابن رفاعة كما سمع من أبي طاهر السلفي. كان يتجر ويكتب الحديث، وفي هذا النشاط التجاري العلمي غاب عن حران ستين سنة، ولكن تعلقه بها يدل عليه تخصيصه تاريخاً لمن دخلها ومن كان منها وبها من أهل العلم والحديث وغير ذلك. وقد شك الذهبي في أن يكون كتب تاريخ حران كله أو بعضه، ولكن هذا الشك لا يرد عند من كمل تاريخه وذيل عليهوهو أبو المحاسن الآتي ذكره، وقد نقل ابن العديم عن تاريخه الفقرة الآتية (3) : (قرأت في كتاب شيخنا المعمر أبن عبد الواحد بن الفاخر الأصبهاني

_ (1) الأنساب (حيدر أباد) 3: 325 (أبو عروبة) وفي الأنساب (مرغوليوث) : 134 ب (أبو عمرو) . (2) ترجمته في عبر الذهبي 4: 302 والشذرات 4: 335 والبداية والنهاية 13: 33 والقطعة رقم 5 من تاريخ أبي المحاسن التي أوردها ابن العديم. (3) بغية الطلب 3: 13.

وخطه، أخبرنا الأمام عمي في كتابه قال: أخبرنا أبو منصور الوكيل بهمذان قال: حدثنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن حمزة الهاشمي بالدسكرة قال: حدثنا ابن نصر أبو زياد بالمصيصة قال حدثنا يوسف بن سعد قال حدثنا روح الحراني عن خليد عن دعلج عن قتادة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهذا كل عالم ناطق ومستمع داع) . 3 - أبو المحاسن ابن سلامة بن خليفة (أو ابن غرير) الحراني (1) ، وقد صرح ابن العديم بأن تاريخه تكملة لتاريخ حران الذي ألفه حماد الحراني (2) ويذكر السخاوي أن نسخة من تاريخه كتبها السيف أبو محمد عبد الغني بن محمد بن تيمية الحراني (3) ، ولم أجد أحداً ترجم له. وذكره باسم " أبو المحاسن ابن سلامة " عند ابن العديم لا يختل أبداً، ولكن ابن خلكان ذكره مرة واحدة وكناه أبا يوسف وجعل اسمه " محاسن بن سلامة بن خليفة " (4) . ويبدو من النصوص التي وصلتنا أنه اهتم بالأحداث التي مرت على حران مثلما اهتم بتراجم الرجال الذين عاشوا فيها سواء أكانوا من أهلها أو من الوافدين، وهو يستدرك على ما فات حماداً الحراني، وفي ما نقل عنه ترجمة لمن توفي سنة624، وهذا قد يحدد بعض الشيء الفترة التي كتب فيها كتابه. 1 - (5) حدثني أبي رحمه الله قال: كان أتابك زنكي ابن قسيم الدولة آق سنقر، رحمه الله، إذا ركب مشى العسكر خلفه كأنهم بين خطين مخافة أن يدوس العسكر

_ (1) ابن خليفة في بغية الطلب 2: 164 وابن غرير فيه 3: 41. (2) بغية الطلب 2: 164. (3) الإعلان بالتوبيخ (عند روزنتال) : 628. (4) وفيات الأعيان 4: 387. (5) بغية الطلب: 7: 210 وسويم: 262.

شيئاً من الزرع، ولا يجسر أحد من هيبته على أن يدوس عرقاً من الزرع ولا يمشي فرسه فيه، ولا يقدر أحد من الأجناد يأخذ لفلاح علاقة تبن إلا بثمنها أو بخط من الديوان إلى رئيس القرية وإن تعدى أحد حاسبه عليها. وكان إذا بلغه عن جندي أنه تعدى على فلاح قطع خبزه وطرده، حتى عمر البلاد بعد خرابها وأحسن إلى أهل مملكته، وكان لا يبقي على مفسد. وأوصى ولاته بأهل حران وعماله، ونهى عن الكلف والمغارم والسخر والتثقيل على الرعية وأقام الحدود في بلاده، رضي الله عنه. 2 - (1) وفي سنة539 نزل [يعني أتابك زنكي] على الرها، وفيها الإفرنج، فحصرها وأخذها بالسيف، سادس عشر جمادى الآخرة، وكانت أيام الشتاء والبرد، قال الشاعر: أصبحت صفراً من بني الأصفر ... أختال بالأعلام والمنبر دان من المعروف حال به ... ناء عن الفحشاء والمنكر مطهر الرحب على أنني ... لولا جمال الدين لم أطهر فبلغ ذلك رئيس حران جمال الدين فضل الله أبا المعالي فقال: امحوا " جمال الدين " واكتبوا " عماد الدين " فبلغ ذلك أتابك عماد الدين فقال: صدق الشاعر، لولاك ما طمعنا فيها. وأمر عماله إذا جاءت جائحة في الغلة أن يأخذوا الخراج على قدرها، فكانوا يأخذون خراجاً، وتارة نصف خراج، وتارة ثلث خراج، وتارة ربع خراج، وتارة لا يأخذون شيئاً إذا أمحلت البلاد. وقسم الماء الذي لحران ثلاثة أقسام: قسماً للسلطان وقسماً للسايات، وقسماً لآبار حران ولخندق القلعة. فلما أخذ الرها نزل على البيرة وفيها الإفرنج، وذلك في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وجاءه الخبر من الموصل أن نصير الدين نائبه بالموصل قتل فخاف

_ (1) بغية الطلب 7: 210 وسويم: 260.

عليها وسار حتى دخل الموصل وأخذ وخابشا ابن السلطان الذي قتل نصير الدين جقر بن يعقوب فقتله بدم نصير الدين. 3 - (1) فلما كان في سنة أربعين وخمسمائة نزل أتابك زنكي على قلعة جعبر بالمرج الشرقي تحت القلعة يوم الثلاثاء ثالث ذي الحجة، فأقام عليها إلى ليلة الأحد سادس ربيع الآخر نصف الليل من ستة إحدى وأربعين وخمسمائة، فقتله يرنقش الخادم، كان تهدده بالنهار فخاف منه فقتله في الليل في فراشه، وجاء إلى تحت القلعة فنادى أهل القلعة: شيلوني فقد قتلت السلطان، فقالوا له: إذهب إلى لعنة الله، فقد قتلت المسلمين كلهم بقتله. وافترقت العساكر فأخذ أولاد الداية نور الدين محمود الملك العادل بن عماد الدين زنكي وطلبوا حلب والشام فملكها، وسار أجناد الموصل بسيف الدين غازي إلى الموصل وأعمالها فملكها وملك الجزيرة، وبقي عماد الدين أتابك زنكي وحده، فخرج إليه أهل الرافقة فغسلو بقحف جرة ودفنوه على باب مشهد الإمام عليّ عليه السلام في جوار الشهداء من الصحابة، وبنى بنوه عليه قبة فهي باقية حتى الآن (2) . 4 - (3) حدثني الشيخ أبو الحسن عليّ بن عمر السعردي رحمه الله قال: انقطع الشيخ أبو الفتح البغدادي [أحمد بن أبي الوفاء بن عبد الرحمن] عن المدرسة بحران شهراً بسبب مرض أصابه، فحمل إليه قيم المدرسة واجب الشهر، فقال له الشيخ: يا ابني ما ألقيت في هذا الشهر درساً، ولا لي فيه واجب، ردها إلى

_ (1) بغية الطلب 7: 214 وسويم: 268. (2) علق ابن العديم على ذلك بقوله: كذا قال أبو المحاسن، وإنما دفن أولاً داخل مشهد علي رضي الله عنه، قريباً من الباب ثم نقل من ذلك الموضع إلى جوار الشهداء. (3) بغية الطلب 2: 164.

الخزانة، فردها ولم يأخذها. وكان أبو الفتح يدخل على أبي يزوره، وكان أبي فقيراً، وكان الفقيه يريد بذلك وجه الله وابتغاء مرضاته تبركاً بالفقراء وتواضعاً لهم وحسن ظن فيهم، مع جلالة قدره وعلمه، وكان كلما دخل على أبي ينشده: يا بومة القبة الخضراء قد أنست ... روحي بروحك إذ تستبشع البوم زهدت في زخرف الدنيا فأسكنك الز ... هد الخراب فمن يذممك مذموم وحدثني عنه رجل من فقهاء بغداد قال: سافر الشيخ أبو الفتح في طلب العلم إلى خراسان سفرة طويلة ثم رجع إلى بغداد وليس معه غير كتبه وثيابه، فوضعها في بيت من الخان، ثم دخل إلى شارعهم فدخل الدرب الذي كان أهله فيه، فجلس في مسجد وسأل عن أهله فأخبروه أنه لم يبق منهم في ذلك الدرب أحد، فجال مع الفقيه الذي هو قاضي الشارع، فتكلما في مسألة واختلفا فيها، فلما رأى خصمه على نفسه الغلبة وقهره الشيخ أبو الفتح بالحجة قال: والله لو أنك أبو الفتح ابن الصايغ ما سلمت إليك، فقال: يا أخي أنا أبو الفتح ابن الصايغ، فقام إليه واحترمه. توفي أبو الفتح ابن أبي الوفاء بحران في سنة خمس وسبعين وخمسمائة. 5 - (1) وفي الأربعاء ثاني عشر ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وخمسمائة مات الشيخ الحافظ رضي الدين أبو الثناء حماد بن هبة الله بن فضيل الحراني، من أهل العلم والحديث، سمع من السلفي أبي طاهر وغيره، وسافر فغاب عن حران ستين سنة يتجر ويكتب الحديث، وألف لحران تاريخاً لمن دخلها ومن كان منها وبها من أهل العلم والحديث وغير ذلك.

_ (1) بغية الطلب 5: 272.

6 - (1) كان مولده [يعني أسعد بن المنجا] بدمشق سنة عشرين وخمسمائة، ومات بدمشق سنة خمس وستمائة وخطب على منبر حران، سمعته يخطب ويدعو للإمام المستضيء رضي الله عنه، صنف: كتاب النهاية في شرح الهداية، عشرين مجلداً، جمع فيه المذاهب وأدلتها، واختصر كتاب الهداية، وله شعر حسن. 7 - (2) سنة624: في ليلة السبت خامس شوال مات الشيخ الزاهد الناسك المبتلى الراضي الصابر أبو الثناء حماد بن الشيخ أحمد بن محمد بن بركة بن صديق النجار الحراني بعد مرض طويل تفتح (3) فيه بدنه مدة اثنتي عشرة سنة، وهو مقيم على ذكر الله وطاعته وشكره، صابراً محتسباً ذلك في ثواب الله ومرضاته، وكان قد لقي الشيخ حياة بن قيس وعاهد ولده عمر، وأقام بزاوية في مسجد لله يعرف ببيت الزجاج معلق داخل باب من يزيد (4) مدة من السنين منقطعاً إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وترك المعاش وقد كان نجاراً من قبل، وكان له ملك فجعل يؤجره ويأكل من أجرته، وبنى لله تعالى مسجداً قريباً من داره، ولم يتزوج قط، وكان عمره نيف وسبعين سنة، وكان صبيح الوجه دمث الأخلاق سلس القياد طيب المعاشرة والمحاضرة.

_ (1) بغية الطلب 3: 41. (2) بغية الطلب 5: 263. (3) لعل الصواب: تقيح. (4) كذا في الأصل.

الاستسعاد بمن لقيته من صالحي العباد في البلاد

18 - (1) الاستسعاد بمن لقيته من صالحي العباد في البلاد لأبي الفرج ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب الأنصاري المعروف بابن الحنبلي 554 634 - /1159 1236

_ (1) ترجمته في مرآة الزمان 8: 700 وذيل الروضتين: 164 والتكملة لوفيات النقلة: 3: 429 (وفيه تخريج واف لمصادر الترجمة) وذيل طبقات الحنابلة 2: 193 - 201 وعبر الذهبي 5: 138 والشذرات 5: 164.

فراغ

ولد بدمشق وكان أبوه (586) شيخ الحنابلة بها في وقته، فسمع بدمشق من والده ومن غيره ثم أعد العدة للطلب، فطوف من أجل ذلك في عدد من البلدان مثل بغداد والموصل وأصبهان وهمذان، وزار مصر مرتين، ولقي المحدثين وتمكن في الفقه واللغة، ولكنه اتجه في دور مبكر من حياته إلى الوعظ حتى شهر به، وقد وعظ في كثير من البلدان التي دخلها، وحضر فتح بيت المقدس مع صلاح الدين، ودرس في عدة مدارس، ومن أجله بنت له الصاحبة ربيعة خاتون المدرسة الصاحبية بجبل قاسيون، وأبتدأ تدريسه فيها سنة628، وقد كانت بينه وبين بعض علماء عصره منافسة، فقد تنازع مع موفق الدين المقدسي حول بعض القضايا، بعد أن كان المقدسي يرشحه لخلافته في المذهب، كما دخل في منافسة مع سبط ابن الجوزي بسبب الوعظ، والتقرب إلى الملك الأشرف الأيوبي، وكانت وفاته بدمشق. ألف عدداً من المصنفات منها أسباب الحديث في عدة مجلدات، والانجاد في الجهاد، وتاريخ الوعاظ، ويعد كتابه " الاستسعاد " من المصادر المهمة التي اعتمدها ابن رجب في تأليف كتابه " ذيل طبقات الحنابلة " وقد وقف عليه بخط مؤلفه. 1 - (1) إبراهيم بن محمد بن الأزهري الصريفيني أبو إسحاق: [تولى دار الحديث

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 229 (توفي سنة 641) .

بحلب، وكان سبب ذلك أن] القاضي بهاء الدين ابن شداد كان له غلو في إعلاء مذهب الشافعي فرأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسألته: أي المذاهب خير؟ ثم كتم جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنه أشار إلى مذهب أحمد، لأن تعصبه على مذهب أبي حنيفة ما تغير، ومال إلى الحنابلة، وأجلس التقي إبراهيم الحافظ الصريفيني في دار الحديث وقال: ندمت إذ وسمتها بالشافعية، ولو كان الجواب " مذهب الشافعي " لأظهره لأنه كان داعية إليه مبالغاً في تعظيمه وإظهاره عند الملوك. 2 - (1) إبراهيم بن المظفر الحربي الواعظ برهان الدين: كان واعظاً فاضلاً من أهل السنة، لم يكن بالموصل أعرف بالحديث والوعظ منه. 3 - (2) أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد البغدادي المقرئ أبو العباس، وقد أجاز لنا الرواية عنه الشيخ أحمد بن الحسين بن محمد البغدادي، ورأيت بخطه العراقي. سمع الحديث ببغداد، وقرأ القرآن العزيز بطرق كثيرة، وكان ماهراً فيه، وتصدر لقراءة القرآن تحت النسر بجامع دمشق، فختم عليه القرآن جماعة، وكان كثير الحكايات والنوادر، قدم من بغداد مع الفقيه الأعز سنة أربعين وخمسمائة. قال لي: جئت إلى الشام بنية أني أزور القدس وإلى الآن ما زرته، فقلت، معي تزوره إن شاء الله، فزاره في صحبتي سنة سبع وثمانين أو سنة ثمان. وقرأت عليه فاتحة الكتاب تجويداً وتحريراً، وقرأت عليه كتاب الفصيح لثعلب، رواه عن سعد الخير الأندلسي، وقرأت عليه رسالة الشيخ ابن منير إلى الشيخ شرف الإسلام جدي، رواها عنه قال: اجتمعت بابن منير في حلب وسمعت الرسالة عليه، وقرأت

_ (1) ذيل الطبقات الحنابلة 2: 150 (546 - 622) . (2) بغية الطلب 1: 57 وأشار إلى ذلك ابن رجب في الذيل 1: 376.

عليه أيضاً تصديقه (1) القرآن إنشاء ابن منير، رواها أيضاً عنه، وكان يصلي إماماً في مسجد الحشائين، أقام به سنين، وكان له منهم أصحاب وجماعة، فحسن فيه الظن، وكان يقول: كان عندنا في الحربية قوم من المتشددين يسمون السبعية، لا يسلمون على من سلم (إلى سبعة) على مبتدع. وبلغ من العمر فوق السبعين سنة، ومات بدمشق. 4 - (2) أحمد بن عليّ بن أحمد الموصلي أبو العباس: كان يعرف أكثر مسائل الهداية لأبي الخطاب، ويأكل من كسب يده، ولباسه الثوب الخام. وانتفع به جماعة. وصار له حرمة قوية بالموصل واحترام من جانب صاحبها ومن بعده. وتوفي في رابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وستمائة. 5 - (3) أحمد بن محمد بن المبارك بن بكروس ويعرف بابن الحمامي: كان فقيهاً زاهداً، عابداً مفتياً، وسمعته يتكلم في حلقة شيخنا ابن المني، وعليه من نور العبادة وهدي الصالحين ما يشهد له. وسئل عنه الشيخ موفق الدين فقال: كان فقيهاً صاحب مسجد ومدرسة يتكلم فيها في مسائل الخلاف ويدرس. وكان يتزهد وكان متزوجاً بابنة ابن الجوزي، وما علمنا منه إلا الخير. توفي يوم الثلاثاء خامس صفر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وكان يومه مشهودا. ورأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بعد موت أحمد بن بكروس وهو يقول: مات

_ (1) اللفظة غير معجمة في الأصل. (2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 164. (3) ذيل طبقات الحنابلة 1: 338.

عابد الناس. وشاع هذا المنام في الناس. وكان أبوه أبو بكر محمد رجلاً صالحاً كثير الحج. سمع الحديث في كبره على جماعة. ولأبي العباس ولد اسمه محمد، يكنى أبا بكر، سمع من أبيه وعمه على زمن ابن البطي ويحيى بن بندار وطبقتهم، وكان فقيهاً صالحاً، وتوفي شاباً سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. 6 - (1) أحمد بن يحيى بن فايد الأواني الحنبلي: زرته أنا ورفيق لي، فقدم لنا العشاء وعنده جماعة كثيرة، ولم يكن إلا خبز وخل وبقل، فتحدث على الطعام ثم قال: ضاف بعيسى ابن مريك أقوام فقدم لهم خبزاً وخلاً، وقال: " لو كنت متكلفاً لأحد شيئاً لتكلفت لكم " قال: فعرفت أنه قد عرف حالي. ودخل عليه رجل من الملاحدة في رباطه وهو جالس وحده، وهو في يوم الخميس الخامس والعشرين من رمضان، فقتله فتكاً رضي الله عنه، ودفن برباطه. ثم قتل قاتله وأحرق. 7 - (2) إسحاق بن أحمد بن محمد العلثي أبو الفضل: (قال ناصح الدين بن الحنبلي وقرأته بخطه) هو اليوم شيخ العراق والقائم بالانكار على الفقهاء والفقراء وغيرهم فيما ترخصوا فيه. 8 - (3) أسعد بن المنجا التنوخي أبو المعالي الفقيه الحنبلي، يدعى وجيه الدين:

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 188. (2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 205 (توفي سنة 634) . (3) ذيل طبقات الحنابلة 2: 49 (519 - 606) وبغية الطلب 2: 49.

كان رحل إلى بغداد، فقرأ على الفقيه أحمد الحربي الحنبلي كتاب " الهداية " وكتب خطه له بذلك، وعاد إلى دمشق. وكان رأى الشيخ شرف الإسلام جدي وانتهى إليه، وطلب الفقيه حامد بن أبي الحجر شيخ حران قاضياً لحران من نور الدين ونور الدين يومئذ صاحب دمشق فأشاروا به، فسير إلى حران قاضياً، فأقام مدة ثم رجع إلى دمشق، فأقام مدة ثم رجع إلى حران قاضياً. مررت عليه عودي من أصبهان سنة إحدى وثمانين، وتأخر موته. وكان أبو المعالي ابن المنجا يدرس في المسمارية يوماً وأنا يوماً، ثم استقليت بها في حياته. وكان له اتصال بالدولة وخدمة السلاطين وأسن وكبر، وكف بصره في آخر عمره. 9 - (1) إسماعيل بن نباتة الفقيه الملقب وجيه الدين: سمع درس عمي الإمام بهاء الدين عبد الملك بن شرف الإسلام لما قدم من خراسان، وعلق عنه من تعليق أبي الفضل الكرماني، ثم سمع درس والدي، وحفظ الهداية لأبي الخطاب حفظاً متقناً، وحفظ أصول الفقه للبستي، وحفظ كثيراً من مسائل التعليق. وكان يدرس القرآن كثيراً، ويقوم به من نصف الليل. وكان يصلي الفجر على نهر بردى بحضرة القلعة، ويصلي العصر على عين بعلبك، وبالعكس، وربما قرأ في طريقه القرآن أو كتاب " الهداية " الشك مني. ولما قدمت من بغداد سنة ست وسبعين، وتكلمت في المسألة فرح بي. ومات قبل الثمانين وخمسمائة، ودفن بالجبل جوار دير الحوراني، رحمه الله. 10 - (2) إلياس بن حامد بن محمود بن حامد الحراني تقي الدين أبو الفضل: كان

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 351. (2) ذيل طبقات الحنابلة 1: 387.

رفيقي في درس شيخنا ابن المني. سكن الموصل إلى أن توفي، وولي مشيخة دار الحديث بها، وكان حسن الطريقة، وحدث. سمع منه بدل التبريزي. توفي في سلخ شوال سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بالموصل. 11 - (1) حامد بن محمد بن حامد الصفار الأصبهاني: لقيته بأصبهان، وكان فقيهاً على مذهب الإمام أحمد، عارفاً بالمذهب والخلاف محدثاً، ذا مروءة تامة. 12 - (2) حامد بن محمود بن حامد الحراني المعروف بابن أبي الحجر: حدثني ولده إلياس (3) ، قال: خرج والدي مع الشيخ عبد القادر في زيارة، وكان معه جماعة وانفرد والدي عنه، ورفع ثوبه على قصبة، فقال الشيخ عبد القادر: من هذا؟ فقالوا: الفقيه حامد الحراني، فقال: هذا يكون له تعلق بالملوك، وكان كما قال. وكان شيخ حران في وقته. بنى نور الدين محمود المدرسة في حران لأجله، ودفعها إليه، ودرس بها، وتولى عمارة جامع حران، فما قصر فيه قيل: إنه راح إلى الروم، وتولى نشر الخشب بنفسه. وكان نور الدين محمود يقبل عليه، وله فيه حسن ظن. وكان عنده وسواس في الطهارة. ورحل إلى بغداد، ونزل بمدرسة الشيخ عبد القادر، وسمع درسه، وكان من أصحابه. وجاء إلى دمشق في حوائج إلى نور الدين، ونزل عندنا في المدرسة، وأضافه والدي.

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 384. (2) ذيل طبقات الحنابلة 1: 332 - 333 (توفي سنة 570) . (3) انظر الترجمة رقم: 10.

13 - (1) الحسن بن مسلم بن الحسن أبو عليّ الزاهد: سمعت الشيخ طلحة [يعني العلثي] يقول: للشيخ حسن هذا عشرون سنة ما رئي نائماً مضطجعاً، وكان مشهوراً تزوره العامة والخاصة، وزرناه في قريته الفارسية وبتنا عنده وتحدث معنا وفرح بنا، وخضنا في أخبار الصفات، فقال، قال بعض مشايخنا: أخبار الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الرحمن. 14 - (2) سالم الشيزري: من أهل شيزر، قدم دمشق قرب الستين والخمسمائة ونزل عندنا في المدرسة، واشتغل بالفقه على والدي رحمه الله، فحفظ كتاب الإيضاح تأليف جد أبي الشيخ أبي الفرج، وقرأعليه أيضاً كتاب التبصرة في الأصول تصنيف الشيخ أبي الفرج من حفظه، وحفظ كتاب الفصيح، وكان يكرر عليّ محفوظاته إلى أن مات. وكان شجاعاً كريماً، وكنت أقرأ عليه من كتاب الإيضاح، وكان كثير الملازمة لصلاة الجماعة في حلقة الحنابلة، وكان لا ينام كل ليلة حتى يقرأ سورة يس والواقعة وتبارك والسجدة، وعمر إلى أن قدمت من بغداد وسمع درسي في المدرسة والحلقة سنين، ومات قريب العشر بعد الستمائة. 15 - (3) سعد بن عثمان بن مرزوق القرشي أبو الحسين بن الشيخ أبي عمرو: كان مشتغلاً بحفظ كتاب الوجهين والروايتين، تصنيف القاضي أبي يعلى. وكان من الزهد والصلاح والتطهير والتورع في المأكول على صفة تعجز كثيراً من المجتهدين في العبادة. وكان يمشي مطرق الرأس، يلتقط الأوراق المكتوبة، حتى اجتمع عنده

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 395 - 396 (توفي سنة 594) . (2) بغية الطلب 8: 215. (3) ذيل طبقات الحنابلة 1: 385 (توفي سنة 592) .

من ذلك شيء كثير، فيحمله بحمال إلى الشاطىء فيتولى غسله ويرسله مع الماء. وكان لا يستقضي أحداً حاجة إلا أعطاه أجره، ولو أشعل له سراجاً. وذاكرته في خلوة في القول بخلق أفعال العباد، فأقر به، ولم يكن على ما ذكره من مذهب والده في ذلك، فسررت بذلك. ورأى رجل في بغداد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: لولا الشيخ سعد نزل بكم بلاء، أو كما قال. ثم سعى الشيخ سعد إلى الجمعة وما عنده خبر بهذا المنام، فانعكف الناس به يتبركون به وازدحموا، فرموه مرات، وكأن منادياً ينادي في قلوب الناس، وهو يقول: أعوذ بالله من الفتنة، أيش بي؟ أيش بالناس؟ حتى ضرب الناس عنه وخلص منهم. 16 - (1) سلامة بن إبراهيم بن سلامة الحداد القباني الدمشقي أبو الخير، تقي الدين: كان حسن السمت، يحف شاربه، ويقصر ثوبه، ويأكل من كسب يده، يعمل القبابين، ويعتمد عليه في تصحيحها إلى أن مات. وقال لي القاضي ابن الزكي: تعجبني طريقة أبي الخير يعني سلامة. روى عنه ابن خليل في معجمه، فقال: أخبرنا الإمام أبو الخير قراءة عليه من لفظه. وتوفي سابع وعشرين ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وخمسمائة، ودفن بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى. 17 - (2) طلحة بن مظفر بن غانم بن محمد العلثي الفقيه الخطيب المحدث الفرضي

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 397. (2) ذيل طبقات الحنابلة 1: 390 (توفي سنة 593) .

النظار، المفسر الزاهد، الورع العارف، تقي الدين أبو محمد: نشأ في العلث، وهي قرية من قرى بغداد، وحفظ الكتاب العزيز، وقرأ على عليّ البطائحي، والبرهان ابن الحصري، وغيرهما. وقرأ الفقه على ناصح الإسلام أبي الفتح ابن المني، فصار معيداً عليّ وعلى غيري، وانتفعنا به كثيراً. وسمع الحديث الكثير، وقرأ صحيح مسلم في ثلاثة مجالس. وكان يقرأ كتاب الجمهرة على ابن القصار، فمن سرعة قراءته وفصاحتها قال ابن القصار: هذا طلحة يحفظ هذا الكتاب؟ قالوا: لا. وكان يقرأ الحديث فيبكي، ويتلو القرآن في الصلاة ويبكي. وكان متواضعاً لطيفاً أديباً في مناظرته، لا يسفه على أحد، فقيراً مجرداً، ويرحم الفقراء، ولا يخالط الأغنياء. حدثني الشيخ أن ناصح الإسلام ابن المني زار رجلاً من أرباب الدنيا، قال: وكنت معه يعتمد على يدي، فرأيت في زاوية الدار صحن حلواء، فاشتهته نفسي، وخرجنا ولم يقدمه لنا، فنمت تلك الليلة، فرأيت في منامي حلواء حضرت إلي، فأكلت منها حتى شبعت، فاصبحت ونفسي لا تطلب الحلواء. وكان يقرأ عليه القرآن والفقه والحديث في جامع العلث. 18 - (1) طغدي بن ختلغ المسترشدي أبو محمد: المحث الحافظ الفرضي الزاهد، كان قيماً بمعرفة البخاري، برجاله وألفاظ غريبة، وشرح معانيه. قرأته عليه، وسمع بقراءتي جماعة كثيرة. وكان قيماً بأصول السنة ومقالة أصحاب الإمام أحمد، وكان متعبداً معتزلاً للناس. حضر معي فتح البيت المقدس. وقرأ عليه جماعة من أولاد الدمشقيين الحساب والفرائض. وكان لا يفارقني إلى أن حججت سنة تسع وثمانين، ورجعت من الحج فوجدته قد مات، رحمه الله، ودفن في تربة عمي عبد الحق بالجبل.

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة: 1: 379 (534 - 589) .

19 - (1) عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، موفق الدين أبو محمد: حج سنة أربع وسبعين، ورجع مع وفد العراق إلى بغداد، وأقام بها سنة، فسمع درس ابن المني، وكنت أنا قد دخلت بغداد سنة اثنتين وسبعين، واشتغلنا جميعاً على الشيخ أبي الفتح ابن المني، ثم رجع إلى دمشق، واشتغل بتصنيف كتاب " المغني " في شرح الخرقي، فبلغ الأمل في إتمامه، وهو كتاب بليغ في المذهب، عشر مجلدات، وتعب عليه، وأجاد فيه وجمل به المذهب. وقرأه عليه جماعة، وانتفع بعلمه طائفة كثيرة، ومشى على سمت أبيه وأخيه في الخير والعبادة، وغلب عليه الاشتغال بالفقه والعلم. 20 - (2) عبد الله بن أبي الحسن بن أبي الفرج الجبائي (3) الطرابلسي الفقيه الزاهد أبو محمد نزيل أصبهان: كان مملوكاً، فقرأ القرآن في حلقة الحنابلة يعني بجامع دمشق فحفظه، وحفظ شيئاً من عبادات المذهب الحنبلي، فقام قوم إلى الشيخ زين الدين عليّ بن إبراهيم بن نجا الواعظ، وهو على منبر الوعظ، فقالوا: هذا الصبي قد حفظ القرآن وهو على خير، نريد أن نشتريه ويعتق، فاشتري من سيده واعتق، وسافر عن دمشق، وطلب همذان، ولقى الحافظ أبا العلاء الهمذاني فأقام عنده، وقرأ عليه القرآن وسمع الحديث، وصار عند الحافظ مصدراً يقرأ الناس ويأخذ عليهم، واشتهر بالخير والعلم، ودخل العجم وسمع الكثير، ورجع إلى بغداد وسمع حديثها ولقي مشايخها. ولقيته ببغداد، واستزارني إلى بيته، وقال لجماعته: أنا مملوك بيت الحنبلي. ثم سافر إلى أصبهان.

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 134 (541 - 615) . (2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 45، 46 (توفي سنة 605 بأصبهان) . (3) الجبائي: نسبة إلى الجبة قرية من ناحية بشري في جبل لبنان.

وكانت حرمة الشيخ عبد الله الجبائي كبيرة ببغداد، فلما دخلت أصبهان سنة ثمانين وجدته بها وهو عظيم الحرمة، فكان كل يوم يأتي إلى زيارتي. وبجاهه سمعت على الحافظ أبي موسى الجزء من السباعيات، فإنه كان مريضاً، وقد حجب الناس عنه، فلم يقدروا على حجب الشيخ عبد الله، فدخلنا معه، فأخذ الإذن من الحافظ أبي موسى لي في القراءة عليه. وكان إذا مشى في السوق قام له أهل السوق. وحكى لي الشيخ طلحة يعني العلثي أن للشيخ عبد الله يعني الجبائي رياضات ومجاهدات يطول ذكرها. وحدثني الشيخ طلحة عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام: فقال يا رسول الله، أيثاب الرجل على قراءة القرآن؟ فقال: نعم فقال: يا رسول الله، بفهم وغير فهم؟ فقال: بفهم وغير فهم، قال: فقلت: يا رسول الله، كلام الله بحرف وصوت؟ فقال: وهل يكون كلام بغير حرف وصوت؟ وهل يكون كلام بغير حرف وصوت؟ وقال: وهذا المنام عندي بخط الشيخ طلحة، رحمه الله. حدث الجبائي ببغداد وأصبهان، وروى عنه ابن الجوزي عدة منامات في كتبه، وقال: كان من الصالحين. 21 - (1) عبد الله بن الحسين العكبري أبو البقاء: كان إماماً في علوم القرآن، إماماً في الفقه، إماماً في اللغة، إماماً في النحو، إماماً في العروض، إماماً في الفرائض، إماماً في الحساب، إماماً في معرفة المذهب، إماماً في المسائل النظريات، وله في هذه الأنواع من العلوم مصنفات مشهورة. وكان معيداً للشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في المدرسة، وكان متديناً، قرأت عليه كتاب " الفصيح " لثعلب، من حفظي، وقرأت عليه بعض كتاب " التصريف " لابن جني.

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 110 (538 - 616) .

22 - (1) عبد الله بن عليّ بن أحمد بن الزيتوني البوازيجي أبو محمد: كان دخل بغداد قبل قدومي إليها بسنتين، وسمع درس الشيخ أبي الفتح ابن المني وصحبه وخدمه، وكان ببغداد مدة مقامي ببغداد، وسافر إلى البوازيج ثم عاد إلى بغداد. وكان رجلاً صالحاً، وكان يخل بعينه ولا يخل بدينه. 23 - (2) عبد الله بن عليّ بن محمد أبو القاسم ابن الفراء: سمعت عليه كتاب " صحيح الترمذي " بسماعه من الكروخي بقراءة الشيخ طلحة العلثي، وأجزاء أخر. وكان جميلاً جليلاً محترماً فاضلاً ومن أعيان العدول ببغداد ومن تصانيفه " الروض النضر في حياة أبي العباس الخضر ". وكانت عنده كتب جليلة أصيلة على مذهب الإمام أحمد، وخط الإمام أحمد كان أيضاً عنده، حكاه الشيخ طلحة في غالب ظني. وكان في سنة ثلاث وسبعين قد علاه الشيب الكثير، وكنت لا أشبع من النظر إلى جمال وجهه وحسن أطرافه وسكينة عليه، ولزمه دين كثير، وحمل منه الهم الغزير. 24 - (3) الشيخ شمس الدين عبد الحق بن عبد الوهاب بن شرف الإسلام: كان فقيهاً عاقلاً عفيفاً حسن العشرة كثير الصدقة رحيم القلب، سافر في طلب العلم، وقرأ كتاب " الهداية " على الشيخ أحمد الحراني الحنبلي، ودخل بلاد العجم، ورأى أئمة خراسان، وعاد إلى دمشق، وصحب أخاه والدي يسمع درسه ويعيد له، وهو بين يديه كالحاجب، ومات ودفن بسفح قاسيون.

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 162 - 163 (وتوفي البوازيجي سنة 622) . (2) ذيل طبقات الحنابلة 1: 352 (توفي سنة 578) . (3) ذيل طبقات الحنابلة 1: 369 (وشمس الدين هو عم المؤلف أيضاً) .

25 - (1) عبد الرحمن بن عليّ جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي الواعظ: اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره، وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والإحسان باجتماع ظراف بغداد ونظاف الناس، وحسن الكلمات المسجعة، والمعاني المودعة في الألفاظ الرائجة، وقراءة القرآن بالأصوات المرجعة والنغمات المطربة، وصيحات الواجدين ودمعات الخاشعين، وإنابة النادمين وذل التائبين، والإحسان بما يفاض على المستمعين، من رحمة أرحم الراحمين. ووعظ وهو ابن عشر سنين إلى أن مات، ولم يشغله عن الاشتغال بالعلم شاغل، ولا لعب ولا لها، ولا سافر إلا إلى مكة، ولقد كان فيه جمال لأهل بغداد خاصة، وللمسلمين عامة، ولمذهب أحمد منه ما لصخرة بيت المقدس. حضرت مجالسه الوعظية بباب بدر عند الخليفة المستضيء، ومجالسه بدرب دينار في مدرسته، ومجالسه بباب الأزج على شاطىء دجلة، وسمعت عليه مناقب الإمام أحمد، وبعثت إليه من دمشق، فنقل سماعي بخطه وسيره إلي، وحضرت معه في دعوتين، فكان طيب النفس على الطعام، وكانت مجالسه أكثر فائدة من مجالسته. وحدثني طلحة العلثي أن الشيخ كان يقرأ في تلك المدة (أي أثناء نفيه إلى واسط) ما بين المغرب والعشاء ثلاثة أجزاء أو أربعة أجزاء من القرآن، وبقي على ذلك من سنة تسعين إلى سنة خمس وتسعين، فأفرج عنه وقدم إلى بغداد وخرج خلق كثير يوم دخوله لتلقيه، وفرح به أهل بغداد فرحاً زائداً، ونودي له بالجلوس يوم السبت، فصلى الناس الجمعة، وعبروا يأخذون مكانات موضع المجلس عند تربة أم الخليفة، فوقع تلك الليلة مطر كثير ملأ الطرقات، فأحضر في الليل فراشون وروزجارية فنظفوا موضع الجلوس وفرشوا فيه دقاق الحصى (2) والبواري، ومضى الناس وقت المطر إلى قبو معروف تحت الساباط، حتى سكن المطر، ثم جلس

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 411، 427. (2) في الأصل: الجص.

الشيخ بكرة السبت وعبر الخلق، وحضر أرباب المدارس والصوفية ومشايخ الربط، وامتلأت البرية حتى ما كان يصل صوت الشيخ إلى آخرهم. 26 - (1) عبد العزيز بن ثابت بن طاهر البغدادي أبو منصور تاج الدين: كان رفيقنا في سماع درس ابن المني، وبلغ من الزهد والعبادة إلى حد يقال به تمسك بغداد. وكان لطيفاً في صحبته، خرجنا نزور قبر الإمام أحمد، ثم عدلنا إلى الشط، فنزل الفقهاء يسبحون في الشط، فقالوا للشيخ أبي منصور، انزل معنا، فنزع ثوبه، ونزل يسبح معهم، ولعبوا في المساء، فعمل مثلهم، فقال له بعض الفقهاء: أين الشيخ محمود النعال يبصرك؟ فقال: يامسكين، الحق تعالى يبصرنا؛ فطاب بعض الجماعة بقوله. 27 - (2) عبد العزيز بن دلف بن أبي طالب الناسخ الخازن أبو محمد أو أبو الفضل: الشيخ عبد العزيز إمام في القراءة، وفي علم الحديث، سمع الكثير، وكتب بخطه الكثير، وهو يصوم الدهر. لقيته ببغداد في المرتين. 28 - (3) عبد القادر بن عبد الله الفهمي الرهاوي ثم الحراني: تعلم القرآن فأعتقه سيده وقرأ كتاب (الجامع الصغير) في المذهب وهو للقاضي أبي يعلى ونفعه، ورأيت له مصنفاً في الفرائض والحساب، وسافر في طلب العلم. وكتب بخطه

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 398 (توفي سنة 596) . (2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 219 (توفي سنة 637) . (3) ذيل طبقات الحنابلة 2: 83 - 84 (توفي بحران سنة 612) .

الكثير من الكتب والأجزاء، وأقام بدمشق بالمدرسة مدة، حتى نسخ " تاريخ ابن عساكر " بخطه، وسمعته عليه. وأقام بالموصل مدة، وولي بها مشيخة دار الحديث المظفرية، وحدث بها بأكثر مسموعاته، ثم انتقل منها إلى حران، وسكنها إلى حين وفاته. ووقف عليه مظفر الدين صاحب " إربل " أرضاً بأرض حران، وبعث معه مرة مالاً يفك به الأسارى مع أجناد من أربل، فاجتمعنا به بدمشق. 29 - (1) الشيخ سديد الدين عبد الكافي بن عبد الوهاب شرف الإسلام [بن عبد الواحد] : كان فقيهاً متطهراً، ووعظ في شبابه، وكان يذكر الدرس في الحلقة، مستنداً إلى خزانة أبيه، وكان صيتاً، وربما خطب في الاملاكات المعتبرة. وكان شجاعاً شديداً، مات بعد الثمانين والخمسمائة، وقبره تحت مغارة الدم. 30 - (2) عبد المغيث بن زهير الحربي: سمعت من عبد المغيث طبقات أصحاب الإمام أحمد لأبي الحسين ابن القاضي بسماعه منه، بقراءة طلحة العلثي ببغداد. وكان يعني عبد المغيث حافظاً زاهداً ورعاً، كنت إذا رأيته خيل إلي أنه أحمد بن حنبل، غير أنه كان قصيراً. 31 - (3) عبد المنعم بن عليّ بن نصر النميري الحراني أبو محمد نجم الدين: اشتغل

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 369 (وسديد الدين هو عم المؤلف ابن الحنبلي) . (2) ذيل طبقات الحنابلة 1: 355 (توفي سنة 583) . (3) ذيل طبقات الحنابلة 2: 37 (توفي سنة 601) .

بالفقه، وسمع درس شيخنا ابن المني، وتكلم في مسائل الخلاف، واشتغل بالوعظ، وفتح عليه بالنظم والنثر، ورجع إلى حران ووعظ بها مدة، ثم سافر إلى دمشق، وحضر مجلسي، وسألناه أن يجلس فامتنع، وقال: ما أجلس في بلد تجلس أنت فيه، كأنه يكرمني بذلك، ثم عاد إلى بغداد. 32 - (1) الشيخ عز الدين عبد الهادي بن عبد الوهاب شرف الإسلام: كان فقيهاً واعظاً شجاعاً حسن الصوت بالقرآن، شديداً في السنة، شديد القوى، يحكى له حكايات عجيبة في شدة قوته، منها أنه بارز فارساً من الافرنج فضربه بدبوس فقطع ظهره وظهر الفرس فوقعا على بئر جامع دمشق فمشى به خطوات ثم رده إلى مكانه، وله أخبار في هذا الباب غريبة، وبنى مدرسة بمصر ومات قبل تمامها، وتوفي بمصر. 33 - (2) عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي: قال الشيخ طلحة يعني العلثي قلمه سديد في الفتوى. 34 - (3) عثمان بن مرزوق بن حميد بن سلام القرشي الزاهد أبو عمرو: حكى لي الشيخ زين الدين عليّ بن نجا قال: زرت الشيخ عثمان بن مرزوق بمصر فقال: يجيء أسد الدين شيركوه إلى هذه البلاد ويروح، ولا يحصل له شيء، ثم يعود يجيء ويروح، ولا يأخذ البلد، ثم يجيء فيأخذ ما أدري قال في الثالثة أو

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 370 (وعز الدين هو عم المؤلف أيضاً) . (2) ذيل طبقات الحنابلة 1: 389. (3) ذيل طبقات الحنابلة 1: 308 - 309 (توفي بمصر سنة 564) .

الرابعة فيملك مصر، فجرى الأمر كما ذكر. فقلت له: يا سيدي، من أين لك هذا؟ فقال: والله يا ولدي، ما أعلم الغيب، وإنما لي عادة أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه في بعض الجمع، فيخبرني، قلت: لعله أراد في المنام. وسمعت خادم الشيخ عثمان بن مرزوق، وكان يعرف بسيف السنة، وعليه آثار الصلاح، وقال له زين الدين بن نجا: أتعرف الأبيات التي أنشدت تلك الليلة بحضرة الشيخ عثمان بن مرزوق، فسمع وبكى؟ قال: نعم، قال: قلها، فقال: فديت من واصلني ... محتفياً في وصله كنا على وعد فما ... كدره بمطله وعاد عندي كله ... مشتغلاً بكله ما خلت أن يصلح مث ... لي في الهوى لمثله وإنما جاد عل ... ي منعماً بفضله ولم أكن أهلاً له ... لكنه من أهله 35 (1) عليّ بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري الدمشقي زين الدين أبو الحسن المعروف بابن نجية: ولد سنة عشر (وخمسمائة) وسمع بدمشق من أبي الحسن عليّ بن أحمد بن قيس، وسمع درس خاله شرف الإسلام عبد الوهاب، وتفقه به وسمع التفسير منه، وأحب الوعظ وغلب عليه فاشتغل به. قال لي: حفظني خالي مجلس وعظ، وعمري يومئذ عشر سنين، ثم نصب لي كرسياً في داره، وأحضر لي جماعته، وقال: تكلم، فتكلمت، فبكى. قال: وكان ذلك المجلس يذكر بعضه وهو ابن تسعين، وكان بطيء النسيان. وكان أسماء الفصول الذي يحفظ مجلدة. وكان لا يخطب في مجلسه وإنما يدعو عقيب القراء، ثم يقرأ مقرئ آيات من القرآن فيفسرها، ويوسع في ذكره، ثم يذكر فصولاً وعنده

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 436 - 440.

من كلام العرب والعجم، فيلقن من الفصول ما يختار. وبعثه نور الدين محمود بن زنكي رسولاً إلى بغداد سنة أربع وستين وخمسمائة وخلع عليه هناك أهبة سوداء، فكانت عنده يلبسها في الأعياد، وسمع هناك الحديث من سعد الخير بن محمد الأنصاري كثيراً، وصاهره على ابنته فاطمة، ونقلها معه إلى مصر، وانتقلت كتب سعد الخير إليه؛ ومن عبد الصبور بن عبد السلام الهروي وعبد الخالق بن يوسف وغيرهم. واجتمع هناك بالشيخ عبد القادر وغيره من الأكابر، ووعظ بجامع المنصور. وسمعته يقول: أول مجلس جلسته في بغداد في جامع المنصور، فنزلت سحراً إلى الجامع متنكراً، حتى أرى هيئة المجلس وأسمع ما يقال، وإذا رجل أعمى قد جلس على درج المنبر، فذكر من الفصول من كلام التميمي وابن عقيل وغيرهما جميع ما قد حررته للمجلس، وتعبت عليه، قال: فأصابني هم، وما بقي لي زمن أحفظ غير ذلك، فاستخرت الله تعالى، ثم جلست وتكلمت، وذكرت حكاية طاب بها المجلس. وسمعته يقول: أول ما دخلت بغداد جاءني الشيخ أبو الفضل ابن شافع وتعصب لي، فدخل عليّ الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي مهنئاً بالسلامة، وتحدثنا، قال لي: تحفظ شيئاً من شعر ابن الكيزاني؟ فأنشدته له: رأتني خاضباً شيبي ... فسمتني أبا العيب فظهر الغيظ في وجهه، ثم قام فذهب. فقال ابن شافع: أيش عملت؟ هذا أول من جاءك من الحنابلة لقيته بما يكره، فقلت: كيف؟ قال: هو يخضب، قلت: والله ما علمت، ولا حضرني من شعر ابن الكيزاني إلا هذا. ثم عاد ابن نجية وانتقل إلى مصر من قبل دولة صلاح الدين، وأقام بها إلى أن مات (1) . وكان يعظ بها بجامع القرافة مدة طويلة، وله فبها وجاهة عظيمة عند الملوك، وكان ذا رأي صائب، وكان صلاح الدين يعني ابن يوسف بن أيوب

_ (1) قال ناصح الدين الحنبلي: مات بعد الستمائة وهو وهم، فإنه كان يكتب هذه التواريخ من حفظه وقد بعد عهده بها، والصحيح أنه توفي سنة 599 (ذيل طبقات الحنابلة 1: 440) .

يسميه عمرو بن العاص، ويعمل برأيه. وكان أهل السنة بمصر لا يخرجون عما يراه لهم زين الدين يعني ابن نجية وكثير من أرباب الدولة. وقال له الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين: إذا رأيت مصلحة في شيء فاكتب إليّ بها، فأنا ما أعمل إلا برأيك. وقضيته مع عمارة اليمني ومن وافقه على السعي من إعادة دولة العبيديين معروفة. وهم: عبد الصمد الكاتب، وهبة الله بن كامل القاضي، وابن عبد القوي داعي الدعاة، وعمارة الشاعر، وغيرهم من الجند والأعيان. وكانوا قد عينوا خليفة ووزيراً، وتقاسموا الدور، واتفقوا على استدعاء الفرنج إلى مصر، ليشتغل بهم صلاح الدين، ويخلو لهم الوقت ليتم أمرهم ومكرهم، فأدخلوا في الشورى معهم زين الدين ابن نجية، فأظهر لهم أنه معهم، ثم جاء إلى صلاح الدين فأخبره، وطلب منه ما لابن كامل من الحواصل والعقار، فبذله له، وأمره بمخالطتهم وتعريف شأنهم، فصار يعلمه بكل متجدد. ويقال إن القاضي الفاضل استراب من بعض أولئك الجماعة فأحضر ابن نجا الواعظ، وأخبره الحال. فطلب منه كشف الأمر، فأخبره بأمرهم، فبعثه إلى صلاح الدين، فأوضح له الأمر، فطلب صلاح الدين الجماعة، وقررهم، فأقروا، فصلبهم بين القصرين. ولما كان السلطان صلاح الدين في الشام سنة ثمانبن كتب إليه الشيخ زين الدين كتاباً يشوقه إلى مصر، ويصف محاسنها، فكتب إليه السلطان كتابأً بإنشاء العماد الكاتب، يتضمن تفضيل الشام على مصر، وفي آخره: ونحن لا نجفو الوطن كما جفوته، وحب الوطن من الإيمان. ولما فتح صلاح الدين القدس كان معه، وتكلم أول جمعة أقيمت فيه على كرسي الوعظ، وكان يوماً مشهوداً. ونشأ لابن نجا ولد حسن الصورة، فلما بلغ أخذ في سبيل اللهو، فدعا عليه، فمات، فحضر الناس والدولة لأجله، فلما وضعوا سريره في المصلى نصبوا للشيخ كرسياً إلى جانبه، فصعد عليه، وحمد الله تعالى، وقال: اللهم إن هذا

ولدي بلغ من العمر تسع عشرة سنة، ولم يجر عليه فيها قلم إلا بعد خمس عشرة سنة، بقي له ثلاث سنين، نصفها نوم، بقي عليه سنة ونصف، وقد أساء فيها إلي وإليك، فأما جنايته عليّ فقد وهبتها له، بقي الذي لك فهبه لي، فصاح الناس بالبكاء، ونزل فصلى عليه. وكان زيد الدين كريماً، وله سماط يؤكل عنده، وتوسعة في النفقة. وضاق صدره في آخر عمره من دين عليه، فلما عرف الملك العزيز عثمان أعطاه ما يزيد على أربعة آلاف دينار مصرية. وقال لي: ما احتجت في عمري إلا مرتين، وقال لي: والدي زين الدين سعد بدعاء والدته، كانت صالحة حافظة، تعرف التفسير. قال زين الدين: كنا نسمع من خالي التفسير، ثم أجيء إليها، فتقول: أيش فسر أخي اليوم؟ فأقول: سورة كذا وكذا، فتقول: ذكر قول فلان، وذكر الشيء الفلاني؟ فأقول: لا، فتقول: ترك هذا، وسمعت والدي يقول: كانت تحفظ كتاب " الجواهر " وهو ثلاثون مجلدة، تأليف والدها الشيخ أبي الفرج، وأقعدت أربعين سنة في محرابها. ودفن بتربة سارية، بجوار عز الدين ابن خاله، عن وصية منه. وكان يوم دفنه مشهوداً لكثرة الخلق. وقد سمعت منه كثيراً. 36 - (1) عمرو بن رافع بن علوان الزرعي: قدم إلى زرع في عشر الستين يعني والخمسمائة وهو ابن نيف وعشرين سنة، ونزل عندنا في المدرسة هو ورفقة له، واشتغلوا على والدي، فحفظوا القرآن وسمعوا درسه، وحفظوا كتاب " الإيضاح " يعني للشيخ أبي الفرج جدهم وكان هذا الفقيه عمرو يحفظ كثيراً وسريعاً، تلقن سورة البقرة في درسين أو ثلاثة، وعمل الفرائض، فأسرع في معرفتها. ورحل إلى حران، وأقام بها مدة مديدة يشتغل، ثم رجع إلى دمشق، ثم إلى

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 166.

زرع، وأقام بها يفتي ويقف على ما يندب إليه من المساحة والحدود، ثم أضر في آخر عمره. ومات بزرع سنة اثنتين وعشرين وستمائة، رحمه الله تعالى. 37 - (1) الشيخ أبو الفتح الرحبي: وهو من قرية يقال لها الروحاء من قرى الرحبة، قدم دمشق مرتين من الرحبة في حوائج له إلى نور الدين محمود، وكان نور الدين يحسن فيه الظن، وكان شيخاً حسناً ديناً متعبداً شافعياً سلفياً صائم الدهر، وكان إذا قدم نزل عندنا في مجلس المدرسة التي لنا، وكان حسن اللقاء طيب الخلق يفشي السلام ويهديه إلى الغائب عنه، وكان يأتيه الخبز من الرحبة من طعام يعرفه فيأكل منه، وسمعته يقول للشيخ أبي الفرج: عندنا زاوية تعرف به، يعني جد أبي رحمه الله. 38 - (2) كرم بن بختيار بن عليّ البغدادي: سمعت منه جزءاً بقراءة الشيخ طلحة العلثي؛ قال: وزرته يوماً، وهو مضطجع على جنبه، والفقيه ابن فضلان يعني شيخ الشافعية عنده يزوره، فأخذ بيد الشيخ كرم يقبلها تبركاً. وكان زاهداً منقطعاً بالرصافة. 39 - (3) محمد بن أحمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي أبو عمر: [هاجر به والده

_ (1) بغية الطلب 9: 158. (2) ذيل طبقات الحنابلة 1: 350 (توفي سنة 579) . (3) ذيل طبقات الحنابلة 2: 53، 58.

ذكر حصر قريش رسول الله، صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب

وبأخيه وأهلهم إلى دمشق] وأنزلهم والدي في مسجد أبي صالح، فاستوخم المسجد عليهم، فمات منهم في شهر واحد قريب أربعين نفساً، فأشار عليهم والدي بالانتقال إلى الجبل حيث هم الآن، فانتقلوا إليه، وكان رأياً مباركاً. حفظ الشيخ أبو عمر القرآن وقرأه بحرف أبي عمرو، وسمع الحديث من والده وأبي المكارم ابن هلال، وأبي تميم سليمان بن الرحبي، وأبي نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف، وأبي الفتح عمر بن عليّ بن حمويه، وأبي المعالي ابن صابر، وأبي محمد عبد الله بن عبد الواحد الكناني، وأبي عبد الله محمد بن عليّ الحراني، وأبي الفهم، عبد الرحمن بن عبد العزيز الأزدي، ويحيى ابن محمود الثقفي، ومحمد بن حمزة بن أبي الصقر. وقدم مصر، فسمع بها من الشريف أبي المفاخر سعيد بن الحسن المأموني وأبي محمد ابن بري النحوي، وخرج له الحافظ ابن عبد الغني المقدسي أربعين حديثاً من رواياته وحدث بها. وسمع منه جماعة منهم: الضياء والمنذري، وروى عنه ابن خليل وولده أبو الفرج عبد الرحمن قاضي القضاة، وحفظ منه " مختصر الخرقي " في الفقه، وتفقه في المذاهب، وقرأ النحو على ابن بري بمصر وأظنه حفظ " اللمع " لابن جني. وكان أبو عمر فقيهاً زاهداً عابداً، كتب بخطه كثيراً من كتب الحديث والفقه على مذهب الإمام أحمد وكتاب " المغني " لأخيه، وكان مع ذلك له أوراد من الصلاة والتلاوة يقوم بها، وحج وغزا وكان شيخ جماعته، مطاعاً فيهم محترماً عند نور الدين محمود بن زنكي، وزاره وبنى لهم في الجبل مسجداً وسقاية. 40 - (1) محمد بن الخضر ابن تيمية الحراني أبو عبد الله فخر الدين: انتهت إليه رياسة حران، وله خطبة الجمعة، وإمامة الجامع، وتدريس المدرسة النورية، وهو

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 152 (542 - 622) .

واعظ البلد، وله القبول من عوام البلد، والوجاهة عند ملوكها، وكان في ملازمته التفسير والوعظ مع الطريقة الظاهرة الصلاح. 41 - (1) محمد بن عبد الله بن الحسين الهروي أبو عبد الله: كان رجلاً صالحاً، سمعت منه بقراءته جزءاً بمكة. وكان في عزمي أنني أدخل اليمن، وقد هيأت هدية لصاحبها من طرف دمشق، فاستشرته فقال: أنت أعلم، ثم قال: قرأنا هاهنا جزءاً من أيام، فجاء فيه عن بعض السلف علامة قبول الحج: أن الإنسان ينصرف عن مكة غير طالب للدنيا، فزهدت في اليمن، ورجعت عن ذلك العزم، وذلك سنة تسع وثمانين. 42 - (2) الشيخ شرف الدين محمد بن عبد الوهاب شرف الإسلام: كان فقيهاً فرضياً يعرف الغزوات ويعبر المنامات ويتجر، ولا يداخل الملك، وتوفي ودفن بالباب الصغير. 43 - (3) محمد بن عليّ بن نصر بن البل الدوري أبو المظفر مهذب الدين، كان واعظاً حسناً، وكان يضاهي ابن الجوزي في وعظه، وكان فصيحاً في إيراده. وله نظم ونثر، سمعته يتكلم. وقال وهو على المنبر بالله عليك يا جامع المنصور هل تسمع قط مثل وعظ الدوري؟. وقال:

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 382 (توفي سنة 590) . (2) ذيل طبقات الحنابلة 1: 370 (والشيخ شرف الدين هو عم المؤلف) . (3) ذيل طبقات الحنابلة 2: 75 (توفي سنة 611) .

أخافك حتى لا أظن سلامة ... وأرجوك حتى لا أظن هلاكا وها أنا رهن في يديك، ومحسن ... بك الظن، فأجعل للأسير فكاكاً فما نلت مما أرتجيه لموتتي ... سواك، ولا قدر الأراك سواكا 44 (1) الشيخ الإمام عماد الدين [محمد بن معالي بن غنيمة] أبو بكر الخياط: كان زاهداً عالماً فاضلاً مشتغلاً بالكسب من الخياطة، ومشتغلاً بالعلم، ويقرىء القرآن احتساباً، قال لي: تشكل عليّ المسألة، فآتي الشيخ أبا الفتح ابن المني لأسأله عنها، فتكشف لي وأفهمها قبل جواب الشيخ، يشير إلى بركة الشيخ. وكنت أنا أقرأ عليه شيئاً من القرآن، ثم يقول: خذ عليّ، فيناولني مقدمة الخبري في الفرائض، فيقرأها من حفظه. وكان متطهراً ومتشدداً في الطهارة. وكان الإمام الظاهر في حياة والده الناصر قد أحسن به الظن وصحبه في الزيادة، وانتفع الظاهر بصحبته كثيراً، ورتب كتاب " جامع المسانيد " تأليف الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي على أبواب الفقه، وكان يقرأ على شيخنا ابن المني من " كفاية المفتي " لابن مقبل. 45 - (2) محمود بن عثمان بن مكارم النعال البغدادي ناصر الدين أبو الثناء: لما قدمت بغداد سنة اثنتين وسبعين نزلت الرباط، ولم يكن فيه بيت خال، فعمرت به بيتاً وسكنته، وكان الشيخ محمود وأصحابه ينكرون المنكر ويريقون الخمور، ويرتكبون الأهوال في ذلك، حتى إنه قام أنكر على جماعة من الأمراء، وبدد خمورهم وجرت بينه وبينهم فتن، وضرب مرات. وهو شديد في دين الله، له إقدام وجهاد. وكان كثير الذكر، قليل الحظ من الدنيا، وكان يسمى شحنة الحنابلة. وكان يهذبنا ويؤدبنا وانتفعنا به كثيراً.

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة2: 77 - 78 (توفي سنة 611) . (2) ذيل طبقات الحنابلة 2:64 (توفي سنة 609) .

46 - (1) نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد الشيرازي الأصل الدمشقي أبو العلاء ابن شرف الإسلام: ولد سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وأفتى ودرس وهو أين نيف وعشرين سنة، إلى أن مات، وعاش هنياً مرفهاً، ولم يل ولاية من جهة سلطان، وما زال محترماً معظماً ممتعاً قوياً. قال لي قبل أن يموت سنة: رأيت الحق عز وجل في منامي، فقال لي: يا نجم أما علمتك وكنت جاهلاً؟ قلت: بلى يا رب، قال: أما أغنيتك وكنت فقيراً؟ قلت: بلى يا رب، قال: أما أمت سواك وأحييتك؟ وجعل يعدد النعم، ثم قال: قد أعطيتك ما أعطيت موسى بن عمران. ولما مرض مرض الموت، رآني وقد بكيت، فقال: أيش بك؟ فقلت: خير، فقال: لا تحزن عليّ، أنا ما توليت قضاء، ولا شحنكية، ولا حبست، ولا ضربت، ولا دخلت بين الناس، ولا ظلمت أحداً، فإن كان لي ذنوب، فبيني وبين الله عز وجل. ولي ستون سنة أفتي الناس، والله ما حابيت في دين الله تعالى. وكان يقول قبل موته بسنين: سنتي سنة ست وثمانين، فقال: هذه سنتي، فقلنا: كيف تقول هذا؟ قال: هي سنة أبي وجدي لأن أباه مات سنة ست وثمانين وخمسمائة، وجده مات سنة ست وثمانين وأربعمائة، وكان الأمر كما قال. وكان الشيخ الموفق وأخوه أبو عمر إذا أشكل عليهما شيء سألا والدي. وخرج له أبو الحسين سلامة بن إبراهيم الحداد مشيخة، وسمعناها عليه بقراءته.

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 368 - 369.

47 - (1) نصر بن فتيان بن مطهر النهرواني أبو الفتح المعروف بابن المني: رحلت إليه فوجدت مسجده بالفقهاء والقراء معموراً، وكل فقيه عنده من فضله وإفضاله مغموراً، فأنخت راحلتي بربعه، وحططت زاملة بغيتي على شرعه، فوجدت الفضل الغزير والدين القويم المنير، والفخر المستطير، والعالم الخبير، فتلقاني بصدر بالأنوار قد شرح، ومنطق بالأذكار قد ذكر ومدح، وبباب إلى كل باب من الخيرات قد شرع وفتح، فتح الله عليه. حفظ القرآن العظيم وهو في حداثة من سنه، ولاحت عليه أعلام المشيخة، فرجح منه على كل فن بفضل الله ومنه. قال لي المهذب بن قيداس: كنا نسمي شيخك شيخ صبي يعني في صباه لعقله ووقاره وتركه للعب، ثم قال: لم ينقل عنه أنه لعب ولا لها، ولا طرق باب طرب، ولا مشى إلى لذة ومشتهى. حدثني شيخنا الإمام ناصح الدين ابن المني قال: حصل لي من ميراث والدي عشرون ديناراً، فاشتريت بها شيئاً وبعته فأربحت، فخفت أن تحلو لي التجارة فأشتغل بها، فنويت الحج فحججت، وتجردت للعلم، فسمعت درس الشيخ أبي بكر الدينوري صاحب الشيخ أبي الخطاب الكلوذاني، قلت، فتفقه به، ومال الفقهاء من أصحاب شيخه إلى الاشتغال عليه. ودرس بعد موت شيخه. قال لي: تقدمت في زمن أقوام ما كنت أصلح أن أقدم مداسهم، وقال لي: رحمه الله: ما أذكر أحداً قرأ عليّ القرآن إلا حفظه، ولا أسمع درس الفقه إلا انتفع. ثم قال: هذا حظي من الدنيا. وأفتى ودرس نحواً من سبعين سنة، ما تزوج ولا تسرى، ولا ركب بغلة ولا فرساً، ولا ملك مملوكاً، ولا لبس الثياب الفاخرة إلا لباس التقوى. وكان أكثر طعامه يشرب له في قدح ماء الباقلا، وكان إذا فتح عليه بشيء فرقه بين أصحابه. وكان لا يتكلم في الأصول، ويكره من يتكلم فيه، سليم الاعتقاد صحيح الانتقاد

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 359 - 362 (توفي سنة 583) .

في الأدلة الفروعية. وكنا نزور معه في بعض السنين قبر الإمام أحمد. وسمعت الشيخ الإمام جمال الدين ابن الجوزي وقد رآه يقول له: أنت شيخنا. وأضر بعد الأربعين سنة، وثقل سمعه. وكان تعليقه الخلاف على ذهنه، وفقهاء الحنابلة اليوم في سائر البلاد يرجعون إليه وإلى أصحابه. [قلت: وإلى يومنا هذا الأمر على ذلك، فإن أهل زماننا إنما يرجعون في الفقه من جهة الشيوخ والكتب إلى الشيخين: موفق الدين المقدسي، ومجد الدين ابن تيمية الحراني. فأما الشيخ موفق الدين فهو تلميذ ابن المني، وعنه أخذ الفقه. وأما ابن تيمية فهو تلميذ تلميذه أبي بكر محمد ابن الحلاوي] . وقد جمع بعض فضلاء أصحابه له سيرة طويلة، وهو أبو محمد عبد الرحمن بن عيسى البزوري الواعظ، وقفت على بعضها مما ذكره فيها. وكان رحمه الله كثير الذكر والتلاوة للقرآن لا سيما في الليل، مكرماً للصالحين، محباً لهم، ليس فيه تيه الفقهاء ولا عجب العلماء، إن مرض أحد من تلامذته ومعارفه عاده، أو كانت لهم جنازة شيعها ماشياً غير راكب، على كبر السن وضعف البنية، زاهداً في الدنيا يقنع منها بالبلغة، وإذا جاءه فتوح أو جائزة من بيت المال وزعها بين أصحابه، وإن ناله منها شيء أعاده عليهم في غضون الأيام. ولقد حدثني من أثق به من أصحابنا أنه جاءته صلة من بعض الصدور نحو أربعين ديناراً فرقها في يومه بين أهله وأصحابه، وما أخذ منها شيئاً، فلما كان آخر النهار قال لي: يافلان، لوكنا عزلنا من ذاك الذهب قيراطين للحمام، وكان قوته كل يوم قرصين، وربما لم يفنهما. وقال لي بعض أصحابه: إنه يستفضل منهما بعض الأيام ما يدفعه إلى السقاء. وكان معظم أدامه أن يشتري له برغيف ماء الباقلا، وما رأيته جعل عليه دهناً قط، راضياً بذلك مع قدرته. وكان يخدم نفسه بنفسه، لا يثقل على أحد من أصحابه، ولا يكلفهم شيئاً، اللهم إلا أن يعتمد على يد أحدهم في الطريق. ولقد كنا عنده يوماً جماعة من أصحابه، فأوذن بالصلاة

فنهض بنفسه فاستقى الماء للتطهير، وما ترك أحداً منا ينوبه في ذلك، ولقد قدمت له نعله يوماً فشق عليه وجعل يقول: أيش هذا؟ مثلك لا نسامحه في هذا. وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسي فقال: شيخنا أبو الفتح كان رجلاً صالحاً حسن النية والتعليم، وكانت له بركة في التعليم، قل من قرأ عليه إلا انتفع، وخرج من أصحابه فقهاء كثيرون منهم من ساد. وكان يقنع بالقليل، وربما يكتفي ببعض قرصة، ولم يتزوج. وقرأت عليه القرآن. وكان يحبنا ويجبر قلوبنا، ويظهر منه البشر إذا سمع كلامنا في المسائل. ولما انقطع الحافظ عبد الغني عن الدرس لاشتغاله بالحديث، جاء إلينا، وظن أن الحافظ انقطع لضيق صدره. 48 - (1) نصر بن محمد ين عليّ الحصري الهمذاني البغدادي أبو الفتوح برهان الدين: سمعت عليه جزءاً في المسجد الحرام. وكان إماماً في علوم القرآن، ومحدثاً حافظاً وعابداً. قال لي الملك المحسن أحمد بن الملك الناصر صلاح الدين: ما رأيت أعبد من البرهان ابن الحصري، كان يعتمر في رمضان ثلاث عمر في نهاره وثلاث عمر في ليله. وقال لي شيخنا طلحة العلثي ببغداد سنة أربع أو خمس وسبعين: ما في بغداد مثل برهان ابن الحصري في علم القراءات، ما تقدر تقرأ عليه سورة كاملة من شدة تحريره. حدث أبو الفتوح ابن الحصري بالكثير ببغداد ومكة، وسمع من خلق كثير من الأئمة والحفاظ وغيرهم. مات بالمهجم من أرض اليمن في شهر ربيع الآخر وقيل في ذي القعدة سنة ثمان عشرة.

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 131 - 132 (536 - 618) .

49 - (1) نصر الله بن عبد العزيز بن صالح بن عبدوس الحراني: لقيته بدمشق وحران، وكان فقيهاً صالحاً ينقل المذاهب جيداً، وكان ينكر المنكر، ضربه مظفر ابن زين الدين على الإنكار ثم ندم واستغفر منه، وأحسن القاضي الفاضل ظنه به. وكان أبيض قصيراً جداً، وشعر لحيته أحمر، وحكى لي أنه كان يأخذ اللحمة من المقلى فيضعها في فيه ولا يتضرر بذلك ... ومات قبل الستمائة بآمد رحمه الله. 50 - (2) يحيى بن المظفر بن نعيم البغدادي أبو زكريا المعروف بابن الحبير: كان في السفر إذا نزل الناس واستقروا توضأ للصلاة، وتنحى قليلاً عن القافلة وبسط سجادة له، واستقبل القبلة حتى يدخل الوقت فيصلي. وكان كثير العبادة ملازماً لمنزله، لا يخرج منه إلى مسجده إلا لتأدية الفرائض، ثم يرجع (وأثنى على مودته ومروءته) .

_ (1) ذيل طبقات الحنابلة 1: 447 - 448. (2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 62 (توفي سنة 607) .

فراغ

سيرة أحمد بن طولون

19 -، 20، 21 (1) سيرة أحمد بن طولون وسيرة خمارويه وسيرة محمد بن طغج الإخشيد لابن زولاق " 306 387 /919 997 "

_ (1) ترجمته في معجم الأدباء 7: 225 ووفيات الأعيان 2: 91 - 92 والبداية والنهاية 11: 321 وتاريخ ابن الوردي 1: 351 ولسان الميزان 2: 191 وحسن المحاضرة 1: 553.

فراغ

هو الحسن بن إبراهيم بن الحسين الليثي أبو محمد المصري الحافظ المعروف بابن زولاق، من أكبر مؤرخي مصر، إذ صرف كل همته إلى الكتابة التاريخية، ولم يتعد تاريخ مصر إلى غيرها إلا في تاريخه العام، وأسعفته معاصرته لعدد من حكامها وولاة الأمر فيها على الاستقصاء والتفصيل، ومن أهم مؤلفاته: 1 - ذيل على كتاب أستاذه الكندي في قضاة مصر، ويكثر ابن حجر النقل عنه في كتابه " رفع الإصر "، ويشغل الكتاب الفترة الواقعة بين ولاية القاضي بكار (246) ، حتى سنة 386 وهي أيام القاضي محمد بن النعمان. 2 - كتاب التاريخ الكبير على السنين. 3 - سيرة أحمد بن طولون استدرك فيها ما فات أحمد بن يوسف المعروف بابن الداية (1) . 4 - سيرة أبي الجيش خمارويه، وقد كان ابن الداية دون سيرة له، فقام ابن زولاق بمثل ما قام به في الكتاب السابق (2) . 5 - سيرة محمد بن طغج الإخشيد، كان قد عملها قبله محمد بن موسى ابن المأمون الهاشمي، ويقول ابن زولاق إنه لم يجدها سيرة وإنما وجد كتاباً في مدح هو أقرب إلى الذم، " ولم يذكر أبويه ولا موضعه ولا ولاياته ولا حروبه ولا سفراته ولا أفعاله مع أعدائه ولا ما جمعه من الأموال والعبيد والكراع " (3) .

_ (1) المغرب (قسم مصر) : 148. (2) المصدر السابق. (3) المصدر السابق.

إن هذا التحديد يدلنا على حدود مفهوم السيرة لدى ابن زولاق، ويبين سبب إكثاره من كتابة السير. فلما وجد ابن زولاق أن عمل الهاشمي ليس سيرة على وجه التحقيق كتب هو السيرة كما يراها، قال: " ولم أضمن هذه السيرة إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به حسبما أمكنني "، ثم أتم الكتاب بسيرة أونوجور بن الأخشيد وأخيه عليّ وكافور وأحمد بن عليّ بن الأخشيد والقائد جوهر إلى أن دخل المعز الفاطمي مصر وصارت دار خلافته (1) ، والأرجح أن هذه السلسلة من السير هي التي ينقل عنها المقريزي جاعلاً عنوانها " إتمام أخبار أمراء مصر للكندي " (2) ، ويبدو أن ابن زولاق رأى أن تكون كل هذه السير سيرة متصلة، ولكنها فصلت بعضها عن بعض، وذكرت كل سيرة منها على حدة. وهذه السيرة سيرة محمد بن طغج قد نقلها أو نقل معظمها ابن سعيد في المغرب (قسم مصر) (3) ، ونقل ابن العديم بضع فقرات منها (4) ، وقد قارنت بين ما نقله ابن العديم وما جاء في المغرب، فوجدت بين النصين فروقاً قليلة أثبتها في مواضعها. 6 - سيرة كافور الإخشيدي. 7 - سيرة الماذرائيين كتاب مصر. 8 - سيرة جوهر، وعنها ينقل ابن حجر في رفع الإصر (5) . 9 - سيرة المعز، وعنها ينقل المقريزي (6) ، وقد وقف عليها بخط ابن زولاق. 10 - سيرة العزيز (7) . 11 - كتاب فضائل مصر.

_ (1) المغرب (قسم مصر) : 149. (2) اتعاظ الحنفا 1: 102. (3) المغرب (قسم مصر) 148 - 198. (4) بغية الطلب 4: 242، 7:12. (5) رفع الإصر 1: 74 وانظر اتعاظ الحنفا 1: 107، 114. (6) اتعاظ الحنفا 1: 134، 135، 138، 227، 229، 232. (7) نقل ياقوت نصاً منها في معجم الأدباء 7: 227.

سيرة أحمد بن طولون

19 - سيرة أحمد بن طولون لابن زولاق

فراغ

1 - (1) وقال البالسي الضرير الشاعر في أحمد بن طولون حين حصر الموفق المعتمد على الله وحبسه، يخاطب أحمد بن طولون ويمدحه حين قام بنصرة المعتمد: يا سمي النبي لا نسي الله لك الذب عن حريم النبي ... دولة الدين والخلافة عزت بك لا بالطريد عنها النفي ... المزال اسمه على الرغم من كل مقام امرئ كريم سني ... رام ما لا يناله فلقد خاب وخاب اعتداده بالخصي ... 2 (2) (في آخرها) : ورآه عبد الله بن القاسم، وكان من أصحاب سيما الطويل قال: رأيت فيما يرى النائم كأن سيما الطويل متعلق بأحمد بن طولون على باب مسجد، وهو يصيح بأعلى صوته: يارسول الله أعدني على أحمد بن طولون فإنه قتلني واصطفى ما ملكت وأسرع في أهلي وولدي، فصاح به صائح: كذبت يا سيما ما قتلك أحمد، بل قتلك عجيج شمل التاجر الذي ظننت أن عنده مالاً فضربته حتى أشرف على الهلكة، ثم دخنت عليه حتى مات في التدخين، أنت وأحمد خاطئان إلا أن أخفكما وزراً أحسنكما سيرة وأكثركما معروفاً وأقربكما من المغفرة.

_ (1) بغية الطلب 9: 260. (2) بغية الطلب 1: 176.

فراغ

سيرة أبي الجيش خمارويه

20 - سيرة أبي الجيش خمارويه لابن زولاق

فراغ

ا (1) لما خاف خمارويه أن يضطرب الشام أنفذ إليه جيشاً أمر عليه سعد الأيسر وأمده بأحمد بن محمد الواسطي كاتب أبيه ليدبر الجيش ويتولى النفقات فيه، وكان الواسطي يطمع أن يدبر أمر خمارويه وأنه يرد تدبير الأمر إليه، وقال: هذا صبي حدث أدبره كما أرى. فلما أخرجه إلى هذا الوجه واستكتب محبوب بن رجا بعده فسدت نيته، وقال: محبوب أحد كتابي يتصرف بين أمري ونهيي، آل الأمر إلى أن صرت بعض خلفائه؟ فتغير على سعد وافترقا، وتغير الواسطي وكتب إلى ابن الموفق كتاباً يحثه على المسير إلى مصر وقال: أنا أسست أمر أبي الجيش، والله لأهدمن ما كنت بنيته، وضمن الكتاب هذه الأبيات: يا أيها الملك المرهوب جانبه ... شمر ذيول السرى فالأمر قد قربا كم ذا القعود ولم يقعد عدوكم ... عن النهوض لقد أصبحتم عجبا ليس المريد لما أصبحت تطلبه ... إلا المشمر عن ساق وإن لغبا لا تقعدن على التفريط معتكفاً ... واجدد فقد قال قوم إنه رهبا فأنت في غفلة يقظان ذو سنة ... وطالب الوتر ذو جد إذا طلبا أجاد مروان في بيت أراد به ... عين الصواب وما أخطأ وما كذبا إذ قال لما رأى الدنيا تميل من ... بعد الهدوء وعاد الحبل مضطربا " إني أرى فتنة تغلي مراجلها ... والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا "

_ (1) بغية الطلب 2: 53 (ولم يصرح ابن العديم باسم مؤلف السيرة ولهذا أدرجتها هنا على وجه الترجيح) .

فلما قرأ ابن الموفق كتاب الواسطي قال لابن كنداج وابن أبي الساج: ما قعودكم؟ وضرب طبله وسار وساروا معه حتى كبسهم في شيزر وقتل منهم مقتلة عظيمة. وكان ابن الواسطي في الرملة يقطع الطريق فيما بين ابن أبا وسعد الأعسر وهما بدمشق، فسار أحمد بن الموفق إلى دمشق وكبسهما على غرة فانهزما إلى الكسوة وقتل من بقي من أصحابهما. ثم إنهم اجتمعوا وقصدوا ابن الواسطي فهزموه، وأخذ على طريق الساحل حتى لحق بأحمد بن الموفق ودخل المصريون إلى الرملة فنهبوا دار الواسطي وخزائنه. ولما وصل أحمد بن الموفق وأبصر عسكر أبي الجيش هاله وأكبره، وصغر جيشه في عينه، فشجعه الواسطي وضمن له النصرة عليه وقال له: لا يغرك هذا فأكثرهم عامة: بقال وحائك وفاعل، فثق بالنصر ولا تجزع، إلى أن التقى العسكران وكانت النصرة على أحمد بن الموفق، فركبا دواب الهزائم ومر كل واحد منهما على حدة، فأما ابن الموفق فلم يرد وجهه عن دمشق شيء، فلم يفتح له أهلها بابها ومنعوه من الدخول، فمر على طيته إلى طرسوس، وأما ابن الواسطي فأدى به الهرب إلى أنطاكية فأقام بعا مديدة ومات كمداً. 2 - (1) سنة278: وفي هذه السنة في صفر منها مات أبو أحمد الموفق وعقد العهد لابنه أبي العباس، وكان للموفق غلام خادم من جلة غلمانه يعرف براغب، فلما مات مولاه أحزنه موته، فأحب أن يسكن طرسوس، فأستأذن في ذلك فأذن له، فخرج قاصداً يريد الثغر، وكان خمارويه يومئذ بدمشق، فلما بلغ راغب إلى حلب وهم بالدخول إلى طرسوس قيل له: طرسوس من عمل أبي الجيش وهو بالقرب منك، فلو صرت إليه زائراً وقضيت حقه وعرفته ما عزمت عليه من المقام بالثغر ما ضرك ذلك، وكان أجل لمحلك، وأقوى لك على ما تريده، فبعث بثقله وبجميع ما

_ (1) بغية الطلب 7: 11.

كان معه مع غلام له يعرف بمكنون وأمره أن يتقدمه إلى طرسوس، ورحل هو مخفاً إلى دمشق، فلقي أبا الجيش فأحسن أبو الجيش تلقيه وسر بنظره ووصله وأحسن إليه، وكان يكثر عنده ويحادثه، وكانت لراغب عارضة وبيان وحسن عبارة، وكان قد رأى الخلفاء، وعرف كثيراً من أخبارهم، فكان يصل مجلسه بشيء من أخبارهم وسيرهم، فأنس به خمارويه وكان يستريح إلى خدمته ومذاكرته، فلما رأى راغب ما يخصه به خمارويه من التكرمة والأنس به والاستدعاء إذا تأخر استحيى أن يذكر له الخروج إلى طرسوس، فلما طال مقامه بدمشق ظن مكنون غلامه أن أبا الجيش قد قبض عليه ومنعه من الخروج إلى الثغر، فأذاع ما ظنه عند المطوعة وشكاه إليهم، وأكثر هؤلاء المطوعة من أهل الجبل وخراسان معهم غلظ الأعجمية وسوء أدب الصوفية، فأحفظهم هذا القول وظنوه حقاً، فقالوا: أتعمد إلى رجل قد خرج إلى سبيل الله محتسباً نفسه لله عز وجل وفي مقام مثله للثغر قوة للمسلمين وكبت لأعدائهم من الكافرين فتقبض عليه وتمنعه من ذلك جرأة على الله؟ واتفقوا وتجمعوا ومشى بعضهم إلى بعض وأقبلوا إلى واليهم ابن عم خمارويه فشغبوا عليه، فأدخلهم إليه ليسكن منهم [وليجيبهم إلى] ما يحبون، فنهضوا عليه وقالوا: لآ نزال أو يطلق [خمارويه] صاحبنا فإن قتله قتلناك به، وتسع سفلهم إلى داره فنهبت وهتكت حريمه ولحقه كل ما يكره، وجاءت الكتب إلى أبي الجيش بذلك، فأحضر راغباً وأقرأه الكتب وقال له: والله ما منعناك ولا عسرنا عليك الخروج، ولقد سررنا بقربك وما أوليت فما أوليناك إلا جميلاً، وقد جنى علينا سوء ظن غلامك ما لم نجنه فإن شئت فارحل مصاحباً، وقل لأهل طرسوس: ياجهلة، ما يومنا فيكم بواحد، تتسرعون إلى ما نكره مرة بعد أخرى، ونغضي عنكم، ويحكم الله عز وجل، ولولا المحافظة على ثغر المسلمين وعز الإسلام لا خشية منكم، ولا من كثرتكم وإلى الله الشكوى، ولولا الخوف من غضبه عز وجل لحاربناكم على أفعالكم. فودعه راغب ورحل إلى طرسوس، فلما صح عند أهل طرسوس خبر راغب أطلقوا عن محمد بن موسى بن طولون، فلما أطلقوه قال: قبح الله بلدكم، ورحل عنهم فسكن بيت المقدس، وكان له دين وفيه خير كثير.

فراغ

سيرة محمد بن طغج الإخشيد

21 - سيرة محمد بن طغج الإخشيد لابن زولاق

فراغ

1 - (1) كان أبو جعفر أحمد بن يوسف بن إبراهيم الكاتب قد عمل سيرة أحمد بن طولون أمير مصر، وسيرة ابنه أبي الجبش، وانتشرنا في الناس وقرأتهما عليه، وحدثت بهما عنه مع غيرهما من مصنفاته. ثم عملت أنا ما فاته من سيرتهما. ولما فتح الإخشيد محمد بن طغج مصر، واحتوى على بلادها مع الشامات، عمل له محمد بن موسى بن المأمون الهاشمي في آخر أيام الإخشيد كتاباً ترجمه بسيرة الإخشيد يتقرب به إليه، وقد تأملته ولم أجد فيه سيرة إنما هو مدح إلى الذم أقرب، لأنه ذكر نفقاته واقتصاده وأخلاقه ومحبته للسلم والمكافأة وقال في أوله: ذكر ما في كتاب الله من الدلالة على فضل الإخشيد. قال الله تعالى: {والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان:67) ، فنشر في الناس بخل الإخشيد، ثم انتزع آيات من القرآن في الحلم والصفح والعفو، ثم قال: وهذه صفاته، فوصفه بالجبن والهلع. فهذا جميع معنى الكتاب ولم يذكر أبوته ولا موضعه ولا ولاياته ولا حروبه ولا سفراته ولا أفعاله مع أعدائه ولا ما جمعه من الأموال والعبيد والكراع. ولقد حضرت أنا ابن المأمون هذا وقد سئل في سنة أربع وثلاثين، والإخشيد بالشام في سفرته التي توفي فيها، وقد طلب منه هذا الكتاب فقال لطالبه: قلت للإخشيد عند خروجه: إن الناس يطلبون مني هذا الكتاب

_ (1) هذا النص أورده ابن سعيد الأندلسي في المغرب (قسم مصر) : 148 - 198 وأورد ابن العديم نقولاً عنه جرت مقارنتها به.

ذكر الإخشيد

لينسخوه فأدفعه إليهم؟ فقال: لا، وقد بين هذا المنع من الإخشيد أنه قد عرف معنى هذا الكتاب وأنه إلى الهجاء أقرب، لأنه كان فطناً جيد الرأي. وكنت قد سئلت في سنة خمسين وثلاثمائة عن أبي الحسن عليّ بن الإخشيد أن أعمل سيرة أبيه، فعملت هذه السيرة ووصلت إليه وحسن موقعها منه وأحسن عليها المكافأة وجعل ذلك جارياً في كل سنة هو ووالدته، ولم أضمن هذه السيرة إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به حسبما أمكنني. وقد كان أبو عمر محمد بن يوسف الكندي عمل أخبار أمراء مصر وختمه بوفاة الإخشيد وذكر له أخباراً يسيرة، وقد أتممت أنا هذا الكتاب بسيرة أنوجور وأخيه عليّ وكافور وأحمد بن عليّ بن الإخشيد والقائد جوهر إلى أن دخل المعز لدين الله عليه السلام مصر وصارت دار خلافته، وقد زدت في هذه السيرة أشياء بعد عليّ بن الإخشيد. ذكر الإخشيد هو أبو بكر محمد بن طغج بن جف بن بلتكين بن فوري بن خاقان " صاحب سرير الذهب " ملك جاجاخ وهو ملك فرغانة، وتفسير طغج عبد الرحمن. وكان جف جد الاخشيد قد سار من فرغانة إلى المعتصم فصحب ابنه الواثق إلى أن توفي، ثم صحب أخاه المتوكل إلى أن توفي جف في الليلة التي قتل فيها المتوكل. وكان طغج سرياً عطراً، وكان أحمد بن طولون قد قلده ديار مصر. ولما توفي أحمد بن طولون صار طغج مع أبنه أبي الجيش فولاه دمشق وطبرية إلى أن قتل أبو الجيش، وولي ابنه جيش فأقام ستة أشهر وخلط فخلع، وكان أول من خلعه طغج، وبويع أخوه هارون بن أبي الجيش فولى طغج دمشق وطبرية. وكان في أيامه ظهور صاحب الخال العلوي سنة تسعين ومائتين، فتولى طغج قتاله إلى أن ظفر به وحمل إلى العراق. وكان لطغج من الولد سبعة ذكور، الإخشيد أحدهم، ولد ببغداد بشارع باب الكوفة للنصف من رجب سنة ثمان وستين ومائتين.

حدثني أحمد بن عبيد الله، قال: كانت خزانة طغج للطيب تحمل في سفره على نيف وخمسين جملاً. وحدثني بعض عدول مصر قال: رأيت الحسين بن أبي زرعة قاضي مصر يتطيب فاستكثرت ما رأيت، فقال: لو رأيت طغج وهو أمير دمشق وله قبة مشبكة يتطيب فيها فإذا تطيب لم يخف على أكثر أهل دمشق بخوره لخروج القتار. ولما عظم أمر صاحب الخال على دمشق وحصاره كتب طغج إلى بغداد مستنجداً لأنه حاصرهم مدة طويلة، فلما وردت عساكر بغداد تكاثرت فأخذ وحمل إلى بغداد. قال طغج (1) : كنت بدمشق أخلف أبا الجيش أبن أحمد بن طولون فجاءني كتابه يأمر بالمسير إلى طرسوس وأن أقبض على راغب (2) وأقتله، فسرت إلى طرسوس وكان شتاءً عظيماً، فما أمكن أحد ان يتلقاني، فلقيني راغب وحده في غلمانه، وكان له مائتا غلام قد أشجوا العدو، فأنزلني وخدمني وقضى حقي، فأمسكت عنه، وحضرت معه غزاة أشجى فيها العدو، فقال لي جماعة من أهل طرسوس: بالله إلا ما صنت هذا الرجل عن القتل وأحسنت إليه، ففعلت وآثرت (3) رضى الله عز وجل، وانصرفت إلى دمشق، وكتبت إلى أبي الجيش أعتذر وأذكر أشياء منعتني من القبض على راغب، فما شعرت وأنا بدمشق حتى وافى (4) أبو الجيش فلقيته وخدمته وجلست معه ليلةً للشرب، فلما تمكن منه الشراب قال لي: يا طغج أشعرت بأنه ما جاء بي إلى دمشق سواك؟ فاضطربت، فلما رآني تغيرت قلب (5) الحديث، وانصرفت وأنا خائف منه، وعلمت أنه يقتلني كما قتل صافياً (6)

_ (1) بغية الطلب (7: 12) وحدثني أحمد بن عبد الله عن أبيه قال قال طغج. (2) أنظر خبر راغب مفصلاً في القطعة رقم: 2 من سيرة خمارويه. (3) وآثرت: سقطت من البغية. (4) البغية: أتى. (5) البغية: أقلب. (6) البغية: صافي.

غلام أبيه بدمشق، لأنه سار إليه من مصر وقتله، فقتل أبو الجيش في تلك الليلة (1) وكفاني الله أمره لأني عملت مع راغب له فكفيت (2) . وقال أبو بكر محمد بن عليّ الماذرائي صاحب أعمال مصر: عملت دعوة بمصر ودعوت فيها عشرةً، أحدهم طغج، فبينا نحن في الأكل إذ جاءني أحد غلماني فقال: على الباب رجل قدم من دمشق معه هدية، فقلت له: انظر ما هي؟ فقال: ثلاثون كمثراة. فقلت له: إن كان حسناً فخذه وادفع إليه ثلاثين ديناراً، ففعل. فلما فرغنا من الأكل قلت للغلام، وكان المجلس قد عبئ: اجعل بين يدي كل رجل زبدية فيها ثلاث، ففعل. فلما قمنا من النوم وجلسنا نظرت إلى الزبديات كلها وما فيها شيء، فدعوت الغلام سراً وسألته، فقال: قد فعلت ما أمرتني، فجاء غلام آخر فقال: يا مولاي، قام مولاي أبو محمد طغج من النوم يريد الخلاء ورفع الستر وقال: أيش هذا؟ كمثرى دمشقي؟ هات سكيناً يا غلام وأكل الثلاثين، فضحكت وقلت له: يا أبا محمد ما تحل عليك الصلاة، أكلت كمثرى بثلاثين ديناراً، فضحك وقال: هو من عملي وأنا أولى به. ولم يزل طغج على دمشق وطبرية وابنه محمد المعروف بالإخشيد يخلفه على طبرية. وكان بطبرية أبو الطيب العلوي محمد بن حمزة بن عبيد الله بن العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وكان وجه طبرية شرفاً وملكاً وقوة وعفافاً، فكتب الإخشيد إلى أبيه طغج يذكر له أنه ليس له أمر ولا نهي مع أبي الطيب العلوي فكتب إليه أبوه: أعز نفسك، فأسرى عليه محمد بن طغج، وأبو الطيب في بستان له، فقتله. ولم يزل طغج أبام أبي الجيش على دمشق وطبرية وأيام جيش وأيام هارون ابن أبي الجيش إلى أن قتل هارون بالعباسية، وسار محمد بن سليمان الكاتب من بغداد من قبل المكتفي ففتح مصر وخرب ديار آل طولون وجمع الأموال والنعم، سار

_ (1) البغية: فقتله الله من تلك الليلة. (2) البغية: فما شقيت.

إلى العراق بآل طولون والماذرائيين وعبيد ابن طولون وأصحابه، وسار طغج معه. فلما حصل طغج ببغداد، والوزير يومئذ العباس بن الحسن، كان يريد الوزير من طغج إذا لقيه في موكبه أن يترجل له فلم يفعل، فعمل في تأليب المكتفي على طغج وأخافه منه بسبب آل طولون وحذره، وطغج ثابت على الترفع عن النزول للعباس والترجل له، فحبسه وحبس معه ابنيه الإخشيد وعبيد الله. فلم يزل طغج محبوساً إلى أن توفي في الحبس سنة أربع وتسعين ومائتين، ولم يشكوا في أن العباس قتله، فأطلق ابنيه الإخشيد وعبيد الله فلزما خدمة العباس يركبان بركوبه، وينزلان بنزوله، ويقفان بين يديه، إلى اليوم الذي عمل فيه الحسين بن حمدان على قتل العباس بن الحسين الوزير وضربه بالسيف على عاتقه، وسقط العباس، فصاح الحسين بن حمدان بالإخشيد وأخيه عبيد الله: خذا بثأركما، فتقدما فضربا العباس بسيوفهما، وهرب الحسين بن حمدان إلى ديار ربيعة، وهرب عبيد الله بن طغج إلى شيراز فخدم أميرها، وهرب الإخشيد إلى الشام وقصد أبا العباس أحمد ابن بسطام عامل الشام. ثم عاد عبيد الله بن طغج إلى بغداد أيام المقتدر، وخدم، وصارت له نوبة ومرتبة يفتخر بها على أخيه الإخشيد. وبقي الإخشيد مع ابن بسطام بخدمه ويخرج معه للصيد ويحمل له الجوارح حتى كان يقال بازيار ابن بسطام. ثم تقلد ابن بسطام مصر فسار معه الإحشيد إلى مصر. وكان معه إلى أن توفي ابن بسطام بمصر سنة سبع وتسعين ومائتين، فصار مع ابنه أبي القاسم عليّ بن أحمد بن بسطام. وحضر مع تكين الخاص أمير مصر وقعة حباسة وحسن أثره فيها، وكان مع تكين بمنزلة الولد. وولاه تكين وهو بدمشق عمان وجبل السراة، وكان يأكل معه وينادمه، وإذا انصرف تكين عن مصر خرج معه إلى الشام لا يفارقه. وكان على هذه الحالة إلى أن ولاه تكين الإسكندرية، فأقام بها إلى مجيء القائم عليه السلام، فحضر القتال أيضاً، فلم يزل مقدماً وهو مع هذا يخدم أبا زنبور الحسين بن أحمد الماذرائي وأبا بكر محمد بن عليّ الماذرائي. وملك الإخشيد في أيام تكين دار القاضي أبي عبيد الله ومنها هرب إلى دمشق. وكان يقول في ملكه بمصر، إذا رأى محمد بن عليّ: كم قبلت هذه اليد مرة، وكم

وقفت بين يديه، وكان يرعى له ذلك ويعظمه. واتفق الإخشيد وهو على عمان وجبل السراة من قبل تكين في سنة ست وثلاثمائة ان حاج الشام وفيهم جماعة من أهل العراق وفيهم جارية شغب أم المقتدر خرجوا، فبلغ الإخشيد أن جمعاً من لخم وجذام قعدوا لهم، فجمع عسكره ولقيهم ومعه أخوه عليّ بن طغج فهزمهم ودخل بالأساري وبالرؤوس، فشكره تكين وكتب [إلى] أهل العراق [أن] يشكروه فعله إلى بغداد، وصارت له حال هناك. ثم ورد مؤنس الخادم من العراق لقتال عساكر القائم ابن المهدي، فخدمه الإخشيد فشكره، ثم لما وصل مؤنس كان الإخشيد على المخاصة (1) ، ثم انصرفت عساكر المغرب وانصرف مؤنس إلى العراق. وتوفي أبو اليمن أحمد بن صالح الأمير بالإسكندرية سنة ست عشرة، فعني الإخشيد بالإسكندرية بتركته، فسخط تكين عليه ذلك، وهذا أحد ما أوقع الوحشة بينهما. ثم تقلد محمد بن جعفر القرطي خراج مصر، وصرفه الماذرائي فاستتر عند الإخشيد، ثم سار إلى العراق فأخذ للإخشيد ولاية الرملة، فهرب الإخشيد سراً من تكين، ثم عوض من الرملة دمشق. ولما بلغ الراشدي أمير الرملة مسير الإخشيد هرب وترك داره مفروشة وأكثر نعمة، فاحتوى الإخشيد على جميع ذلك. ثم جاءت ولاية دمشق للراشدي عوضاً عن الرملة، ثم جاءت ولاية دمشق إلى الإخشيد، ثم صرف ببشرى الخادم غلام مؤنس، فسار فلما قرب من دمشق راسله الإخشيد ثم اصطلحا واجتمعا. ثم اختار بشرى القتال والتقيا فهزم بشرى وجيء به أسيراً إلى الإخشيد، فأقام أياماً ثم أصبح ميتاً فأتهم بسقيه سماً، ثم احتوى على نعمته وحصل في عسكره الراشدية والبشرائية والحجرية والتكينية، وحصل عنده بدمشق إخوته عبيد الله والحسن والحسين وعلي بنو طغج. وكان الإخشيد قد عرف نعم المصريين من القواد والماذرائيين، فحدثني

_ (1) هكذا في الأصل.

فارس بن نصر العراقي قال: كنت يوماً في دار تكين بمصر، والأتراك والقواد ووجوه الدولة ينتظرون الإذن على تكين، حتى دخل جاجبه عمران بن فارس ومر على الجماعة فسلم عليهم ودخل للإذن لهم على تكين، فقال الجماعة: أي كبش ما أسمنه: يعنون عمران بن فارس ليت شعري من يجزره، فقال محمد بن طغج: أنا أجزره، فكان كذلك. فلما حصلت مصر للإخشيد كان عمران بن فارس بالشام فاستدعاه فاستحجبه، ثم نكبه وأخذ له مالاً كثيراً ورجالاً وعبيداً وخيلاً. وكان الإخشيد في أيام تكين يعاشر أولاد أبي بكر محمد بن عليّ الماذرائي ويرى نعمهم وذخائرهم، فلما ملك مصر نكبهم وطلبهم بذلك كله، حتى أنه طلب فراشاً أحمر مثقلاً فدفع إليه ناقصاً، فطلب النقصان فقيل له سرق وبيع لمن حمله إلى الأندلس، فأرسل إلى الأندلس حتى اشتري له. ثم ولى تكين الإخشيد الحوفين (1) وأعمالهما، وكان يخرج إلى عمله في وقت. ولما دخل مؤنس الخادم خدمه الإخشيد ووقف بين يديه. وكان الإخشيد لبغضه الماذرائيين قد تخصص بمحمد بن جعفر القرطي. وكان محمد بن جعفر تاجراً في الساحل، فخدم في دار مؤنس عند قدومه، فقلده الحسبة بمصر ثم قلده الخراج، ثم رد المقتدر العمل إلى الماذرائيين، واستتر محمد بن جعفر عند الإخشيد، وما زال يعمل الحيلة في أمره حتى أخرجه إلى العراق. وفي هذه السفرة عني ابن القرطي للإخشيد بتقليد دمشق، وسفر في ذلك أيضاً صالح ابن نافع، وكتب إلى الإخشيد يعرفه بتقليد دمشق، وكان يلي الحوفين من قبل تكين. ولما أراد الإخشيد الهرب من مصر إلى دمشق قال لمحمد بن تكين: إن الصيد عندي بالحوف كثير فأستأذن الأمير في أن أخرج أنا وأنت، فأستأذن محمد أباه فأذن له، فلما تأهب للخروج قال له الإخشيد: كتب إلي بدر من الحوفين أن جماعة قد ظهروا في صحراء الحوف يقطعون الطريق، فاخرج إليهم واكسيهم ويخلو لنا الحوف، فقال: أفعل.

_ (1) بمصر حوفان: شرقي وغربي.

وكانت أم الإخشيد معه بمصر، وكان الإخشيد قد جعل عندها خمسمائة دينار وديعة ما له سواها، وكانت أمه قد أشرفت يوماً على ابنها الإخشيد وهو يأكل وعنده جماعة، وعلى المائدة غضار وطيافير (1) قد تقشرت، فاغتمت وأخرجت من الخمسمائة دينار مائتي دينار واشترت مائدة حسنة وغضاراً صينياً وطيافير جدداً، ففرح الإخشيد بذلك وشكر أمه، ولم يدر من أين أشترت. فلما شرع الإخشيد في الهرب قال لأمه: أين الخمسمائة دينار؟ فأخرجت ثلاثمائة دينار، فقال لها: أين الباقي؟ فقالت: اشتريت مائدة وصينياً وطيافير. فقال: وأيش كنت أعمل بهذا؟ فأخذ الثلاثمائة وهرب واستترت أمه وسائر أسبابه، فجاء بعض الجند إلى تكين وقال: قد هرب الإخشيد، فقال: لا، استأذنني هو ومحمد ابني ليخرجا إلى الصيد، فقيل له: قد هرب والله، فأرسل تكين في أثره، فلحقوه في نواحي البقارة، فمانعهم وسار إلى دمشق. ثم جاءه كتاب التقليد واللواء وتمكن بدمشق. وحدثني بعض أصحابه قال: كان للإخشيد عدة غلمان أكبرهم بدر الكبير الفحل، وكافور من صغار غلمانه، وكان قد جعل كافوراً على وضوئه. ولما صح عند تكين هربه قلق لذلك، وكتب له كتاباً يستعطفه فيه ويقول له: لو أعلمتني لأعنتك وعضدتك، ويقول في فصل منه: (ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت) ، فكتب إليه الإخشيد الجواب وفيه: فهمت كتاب الأمير أأطال الله بقاءه وما تلاه من القرآن والجواب ما أجاب به موسى الذي هو خير من الأمير ومني: {ففررت منكم لما خفتكم} ، (الشعراء 18 21) . ثم قوي أمر الأخشيد بدمشق، وكاتب وصادر، ولم يزل يترصد أمر تكين. ثم تقلد محمد بن جعفر القرطي خراج مصر والشام، وقال ببغداد: أخاف أن يهرب الماذرائي، فكتب إلى تكين بأن يمسك محمد بن عليّ الماذرائي إلى موافاة محمد بن جعفر القرطي، وأنفذوا قائداً من بغداد لأن يمسكه، فبلغ محمد بن عليّ

_ (1) الطيفور: الصحن المقعر العميق.

ذلك، فسأل تكين أن يأذن له في الخروج فأمتنع، فأهدى إليه وإلى خلوب أم ولده جوهراً قيمته عشرون ألف دينار، فكلمت مولاها فأذن له، فخرج إلى القلزم ثم سار إلى أيلة وإلى مدين فأقام بها. وخرج القرطي من بغداد فوقعت في رجله علة فقطعت فمات بعانة، وجاء الخبر إلى محمد بن عليّ فدخل إلى مصر أعز ما كان. ولم يزل الإخشيد بدمشق، وولد ابنه أبو القاسم أنوجور فيها في يوم عرفة سنة تسع عشرة. وخرج الإخشيد يوماً للصيد بظاهر دمشق فرأى حماماً فأرسل عليه الجارح فأخذه، فإذا مع الحمام كتاب من غلام الراشدي إلى بعض الدمشقيين يقول فيه: قد حصل عندك تمام ثمانين ألف دينار. فانصرف الإخشيد إلى داره وأحضر الرجل وطالبه بالمال وأخذه منه، وكتب إلى غلام الراشدي عند ذلك وهرب إلى مصر. وقال الإخشيد يوماً وهو في مجلسه: بالشام طائر يقال له السدلى، يقال إنه من دار على رأسه ثلاث دورات وتمنى شيئاً بلغه، قال: فرأيته وقد دوم على رأسي ثلاث دورات، فتمنيت إمارة مصر فبلغني الله ذلك. ولم يزل الإخشيد بدمشق مقيماً إلى أن توفي تكين بمصر وهو واليها لست عشرة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وعشرين، وقد كان ورد عليه قتل جعفر المقتدر فحزن لذلك وكان عليلاً، وذلك في شوال سنة عشرين وثلاثمائة، وجاءته ولاية القاهر فأعطى البيعة واستخلف ابنه محمد بن تكين، وعاش بعد المقتدر خمسة أشهر، وحمل تكين إلى الشام، وجلس ابنه محمد بن تكين، واقتتل هو ومحمد بن عليّ عامل خراج مصر وأحرقت دور محمد بن عليّ الماذرائي ودور أهله، وعظمت الفتنة، وخرج محمد بن تكين من مصر وجاءه سجل القاهر بتقليد مصر، فمنعه محمد بن عليّ. وأرسل الإخشيد من دمشق بكاتبه عليّ بن محمد بن كلا إلى القاهر يلتمس ولاية مصر، فلم يفعل القاهر ذلك، وقال: وقد وليت محمد بن تكين. فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن كحل القاهر، فحدثني بعض الكتاب قال: قال لي عليّ ابن محمد بن كلا: امتنع القاهر من تقليد الإخشيد، فلما كحل ركبت سراً إلى بعض كتابه وبذلت له عشرة آلاف درهم، وسألته كتاباً بأمر القاهر بتقليد الإخشيد

فأخذ المال وكتب لي الكتاب، فأنفذته في البرية إلى الإخشيد بدمشق، فأنفذه إلى مصر. ولما اشتد الحال بين محمد بن تكين وبين محمد بن عليّ الماذرائي، خرج محمد بن تكين إلى ظاهر البلد، فأرسل إليه محمد بن عليّ: اخرج عن مصر، فقد رد السلطان أمر مصر إلي. فسار محمد بن تكين في عساكره فحاربهم بطرا (1) وهزمهم، ودخل مصر ونزل دار الإمارة، وتمكن واستتر محمد بن عليّ. وورد كتاب القاهر على محمد بن تكين بتقليد مصر فقرأه على الناس، وكان عادلاً في ولايته، وتتبع أسباب محمد بن عليّ. ثم ورد كتاب القاهر إلى الإخشيد الذي تولى كتابته عليّ بن محمد بن كلا، ففرح به محمد بن عليّ الماذرائي لكراهيته لمحمد بن تكين، فدعي له على المنابر وهو يومئذ بدمشق، فأقام شهراً واحداً ويومين. ثم ورد كتاب القاهر بتقليد أحمد بن كيغلغ مصر وأعمالها، وورد الرسول بذلك لتسع خلون من شوال سنة إحدى وعشرين، فتسلم له محمد بن عيسى النوشري، ودعي لابن كيغلغ على المنابر. وسر بذلك محمد بن عليّ الماذرائي، وزال أمر الإخشيد كأن لم يكن. وورد أحمد بن كيغلغ وظهر الماذرائي وأولاده وأسبابه وأهله وعماله، وخرج محمد بن تكين عن مصر وسار إلى بلبيس. ولما كحل القاهر وجلس الراضي، ندب الفضل بن جعفر وزيراً لكشف مصر والشام، فوصل سجل عن الراضي أن الأمر إليه في تدبير كل ما يكون بالشامات ومصر، فحدثني ابنه جعفر بن الفضل الوزير قال: كان الوزير ببغداد محمد بن عليّ بن مقلة، فشرط أبي عليه وعلى الراضي أن الأمر إليه لأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فأجيب إلى ذلك، وسار، وآل الأمر إلى أن قلد الراضي مصر محمد بن تكين وقال: هذا أبوه غلام أبي وجدي، فسار إلى مصر وقاتل، وخرج

_ (1) طرا: من أعمال إطفيح بمصر.

إليه أحمد بن كيغلغ فقاتله، فانهزم ابن تكين، وأخذ أسيراً ودخل به إلى مصر ونفي إلى أخميم. وتصاهر محمد بن طغج الإخشيد مع الفضل بن جعفر الوزير بأن زوج الإخشيد ابنته من ابنه جعفر بن الفضل، وكتب الفضل بن جعفر للإخشيد بتقليد مصر، استناداً إلى شرطه في قوله: يرى الشاهد ما لا يرى الغائب، وسار رسول محمد بن تكين إلى دمشق فأخذ منه محمد بن طغج كتاب تقليد محمد بن تكين فقال إنه محا " تكين " وكتب " طغج " فحصل له عهدان، عهد كتبه له الفضل بن جعفر، والعهد الذي كتبه الراضي لمحمد بن تكين. ولما حصل للإخشيد التقليد، أرسل إلى محمد بن عليّ الماذرائي فلم يجد فيه حيلة، وقلد الفضل بن جعفر أحمد بن نصر الخراج بمصر، وقلد جماعة أموراً بمصر. فأرسل أحمد بن كيغلغ إلى العريش فمنعهم من الدخول إلى مصر ورجعوا إلى الشام. ثم تجهز الإخشيد وجمع العساكر وجمع الأمراء والقواد وسار يريد مصر، فجمع محمد بن عليّ الماذرائي العساكر وجمع المغاربة. وكان الراضي قد كتب إلى محمد بن عليّ بإقرار أحمد بن كيغلغ لأنه كتب يشكره، وكان في كتاب الراضي إلى محمد بن عليّ الماذرائي: إن الأمر يصير إليك فتقلد من شئت وتصرف من شئت. فقرأه على الناس، فوجه رسلاً إلى الإخشيد وأعطاهم نسخة كتاب الراضي إليه بأن أمر مصر إليه يولي من يشاء ويصرف من يشاء، فقرأه على الناس كما قد ذكر، ثم أخرج في أثرهم العساكر، وخرج أحمد بن كيغلغ، وخرج حبشي في المغاربة، فكان يقال إن العسكر ثلاثون ألفاً قد سد من الجبل إلى البحر. وحدثني الحسين بن أحمد قال، قال لي أبي: لما عمل الفضل بن جعفر الوزير في أمر الإخشيد والتعصب معه ما عمله، وقرب من دمشق دعاني الإخشيد وهو بدمشق فقال لي: سر الساعة إلى الوزير الفضل بن جعفر سراً فسله المسير إلي سراً في أخفى ما يكون، فسرت إلى الفضل بن جعفر وأخبرته، فسار معي سراً، فلما دخلنا دمشق كما يدخل التجار نزل في موضع، وجئت إلى الإخشيد ليلاً وهو

نائم في كلته فأيقظته فقال: أيش معك؟ قلت: الفضل بن جعفر، فقام فتوضأ وصلى وأخذ عكازاً بيده، ومشى معي بغير شمعة ولا ضوء، وكان يمشي في ضوء سرج الحراس حتى جاء إلى الفضل بن جعفر واجتمعا وخليا واتفقا على ما أراد، ثم أنصرف الإخشيد إلى داره، فقلت للإخشيد: أيش يحمل إلى الرجل، فما أكل اليوم شيئاً؟ فما وجد إلا دجاجتين ولوزاً أخضر وسكراً، فأخذته وجئت به إلى الفضل بن جعفر، فقال: أيش معك؟ فأعلمته فقال: اكسر، فاقبلت أكسر وأطعمه، حتى رجع إلى موضعه. ووصلت رسل الإخشيد في المراكب مع ابن كلملم إلى الفسطاط ونزلوا الجزيرة. وحصل الفضل بن جعفر بالرملة، وحصل الإخشيد على باب مصر. وكان رسل الماذرائي قد وصلوا إلى الإخشيد وهو بالفرما، فلما قرأ الكتاب الواصل من الراضي إلى الماذرائي قال لهم: سيروا إلى الوزير الفضل بن جعفر وأقرأوا عليه الكتاب، فلما وصلوا إلى الرملة قيدهم الوزير. ثم أنفذ الإخشيد عساكر في البر والبحر، فصبح ابن كلملم في العُشاريات (1) الفسطاط؛ ووجه الماذرائي إليهم من قاتلهم فهزم أصحاب الماذرائي، وأقامت مراكب الإخشيد في الجزيرة أياماً، ثم رجعت إلى أسفل الأرض، فأمر الماذرائي أن تشحن الجزيرة بالسلاح والرجال، فأقام أصحاب الإخشيد خمسة أيام، ثم طلعوا حتى قطعوا الجسر ونزلوا بالجزيرة واحتووا على ما فيها من رجال وكراع (2) وسلاح وعدة، وجعل محمد بن عليّ الماذرائي مراكبه حذاءهم، وأرسل بالعساكر إلى باب المدينة فاصطف المغاربة والمصريون وأخلاط الناس. ونزل الإخشيد المنية، وأرسل إلى أحمد بن كيغلغ وقال له: هذا كتاب الراضي بتقليدي، فإن سلمت وإلا انصرفت بعد أن آخذ خطك وأشهد عليك بمنعك إياي، وأسير إلى حضرة السلطان. وكان ابن كيغلغ متوفراً على طاعة قد عرفها من شجاعة فيه، وكان قد ثقل عليه أمر محمد بن عليّ الماذرائي وأمر أولاده،

_ (1) العشاريات أو الحراقات نوع من المراكب. (2) الكراع: الدواب.

وأنه ليس معهم أمر ولا نهي، فقال له: أنا أسلم إليك. فأخذ بيد الحسين بن محمد الماذرائي فسلمه إليه وانحاز، ودخلت عساكر الإخشيد يوم الأربعاء لتسع بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، فشقوا المدينة بعد الظهر إلى النيل ولوحوا لمن في الجزيرة، فساروا إليهم في مراكبهم. واستتر محمد بن عليّ الماذرائي، وهرب حبشي رئيس المغاربة وغيره إلى نواحي الفيوم، وانبثت العساكر بالفسطاط ينهبون بقية يوم الأربعاء ويوم الخميس إلى أن نودي بأن من نهب قتل. ثم دخل الإخشيد إلى دار الإمارة، وكان قد أستأمن إليه قبل ذلك خلق من المصريين، فدخلوا إلى دورهم واطمأنوا. وسمعت بعض الشيوخ المصريين من أهل التنجيم يقولون إن الإخشيد دخا إلى مصر بالطالع الذي دخل به أحمد بن طولون واتفقا في اليوم، وهو يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان. فلما كان يوم الجمعة، وهو ثالث دخول الإخشيد، ركب الإخشيد إلى الجامع العتيق لصلاة الجمعة، وعسكره بالسواد والسلاح، وسار بين يديه جماعة من ورد معه من الأمراء والقواد وجماعة الموافقة والمعتضدية والحجرية بالسواد. وكان خلفه أخوه عبيد الله بالسواد والسيف والمنطقة لأنه لم يرض أن يسير كأحد الحجاب، ودخل بالمراكب إلى الفيوم في الخليج، وأراد أن تدور فلم تدر لضيق الخليج. فكبس وأخذوه أسيراً، وأقام معهم أياماً ثم ضربوا عنقه صبراً، وأخذوا مراكبه بما فيها. وبلغ الإخشيد قتله فلم يظهر عليه غم لأنه استراح منه ومن اعتداده عليه بأنه أخذ له مصر وكان ابن كلملم كاتباً خبرياً. فلما كان يوم ثمان وعشرين من شهر رمضان ركب الإخشيد بعد عتمة إلى الجامع العتيق، فحضر الختم في الجامع، وكان بين يديه غلمانه وأصحابه، وأمامه نحو مائة شمعة. ثم سار الهاربون في المراكب التي أخذوها من ابن كلملم فصبحوا بها الفسطاط مستهل ذي القعدة، ونزلوا على الصناعة، وكانت يومئذ بالجزيرة، وأحرقوا المراكب التي في الصناعة، وركب الإخشيد فوقف حذاءهم عند دار بنت

الفتح وهو لا يقدر عليهم، ثم انحدروا إلى الإسكندرية، فقال الإخشيد: الصناعة هاهنا خطأ، ثم قال: اعملوا هاهنا صناعة، فعملت دار بنت الفتح بن خاقان، وهي الصناعة اليوم. ولما عاد الإخشيد إلى داره تحدث مع جلسائه، بما عمله الهاربون، ثم قال: أذكر أني كنت آكل مع أبي منصور تكين حتى جرى ذكر الصناعة، فقال تكين: صناعة يكون بيننا وبينها بحر خطأ. فأشارت الجماعة بنقلها فقال: إلى أي موضع؟ فأردت أن أشير عليه بدار ابنة الفتح، ثم سكت وقلت: أدع هذا الرأي لنفسي إذا ملكت مصر، فبلغت ذلك، والحمد لله. وحدثني الحسين بن أحمد بن أريخا قال، قال لي أبي: لما أخذ الإخشيد دار ابنة الفتح كان يتردد إليها حتى عملت، وأبتدأوا بإنشاء المراكب فيها. وكان الإخشيد على دابته يوماً في هذه الدار حتى صاحت به امرأة صيحةً فقال: خذوها، فلما أمسى قال: أحضروا المرأة، فأحضرت فقالت: أرسل معي من يحمل، فأرسل معها بجماعة فمضت بهم إلى دار بنت الفتح فحملوا من المال العين والورق والحلي والثياب وأصناف الذخائر ما لم ير مثله فمضوا به إلى الإخشيد، وطلبت المرأة ليكافئها فلم توجد فكان هذا أول ما وصل إلى الإخشيد بمصر. ثم قال الإخشيد لصالح بن نافع: كان في نفسي لما ملكت مصر أجعل الصناعة في دار بنت الفتح، وأجعل موضع الصناعة بستاناً وأسميه المختار، فاركب وخط لي بستاناً وداراً وقدروا لي النفقة. فركب صالح بن نافع وغيره وخطوا له بستاناً، وجعلوا فيه داراً للغلمان وداراً للنوبة، وخزائن كسوة، وخزائن طعام، ولم يدعوا شيئاً إلا جعلوه فيه، ثم صوروه في رقعة وجاءوا به إليه، فاستحسنه وقال لصالح: كم قدرتم النفقة؟ فقال: ثلاثين ألف دينار. قال: أنا أنفق في بستان متنزه ثلاثين ألف دينار؟ أريد شيئاً خفيف المؤونة متاع يومه. فعاد صالح وقدر خمسة آلاف دينار وعاد إليه فقال: هذا نعم، والله لا أنفقت عليه إلا من عندكم، فأخذ صالح درجاً وكتب فيه صالح بن نافع ثلاثمائة دينار، أبو عليّ خير خمسمائة دينار، أبو جعفر ابن المنفق خمسمائة دينار، حتى قسط ستة آلاف دينار. واشتغل بابتنائه زقازق وابن أبي الرداد، وجعله الإخشيد متنزهاً له، وكان يفاخر به أهل العراق. ولما وصل حبشي والجماعة الذين هربوا معه إلى الإسكندرية كتبوا إلى

المغرب للقائم بأمر الله، يسألونه إنفاذ العساكر ووعدوه بأخذ مصر. فأرسل الإخشيد أخاه عبيد الله إلى الجيزة، ثم سار إلى الإسكندرية يطلب قتال حبشي ومن معه، فأقام أياماً بالإسكندرية فوجدهم قد مضوا إلى رمادة وحصلوا في أعمال القائم، ثم كتبوا إلى القائم فوعدهم بإنفاذ العساكر، فبينا هم على ذلك إذ مرض حبشي ومات حسرة على ما خلفه بمصر. ثم دخل الوزير الفضل بن جعفر إلى مصر وقد ملكها الإخشيد فتلقاه الإخشيد وخلع عليه عند باب المدينة خلعاً سلطانية، وزينت لهما المدينة، ونصب لهما على جوسق ابن الخلاطي فرس من خشب ينحدر ويصعد، وابن الخلاطي راكب عليه، وأكثر الناس ينظر إليه. وكان الإخشيد يسير والوزير الفضل إلى جانبه، فلما قربا من الحمام انحدر ابن الخلاطي على الفرس كالبرق وفي يده حمام مضمخ بالمسك وماء الورد، فأطلقه في وجوههما فاستحسنا ذلك، وسارا ونزل الإخشيد دار الإمارة، وسار الفضل بن جعفر الوزير إلى دار ابن الجصاص. وأقام محمد بن عليّ مستتراً لا يتعرضه الإخشيد إلى أن وافى الفضل ابن جعفر الوزير، ثم كشفا عن أمره وأين هو، فعرفا أنه في الدار التي كانت لإسحاق بن نصير العبادي كاتب أبي الجيش، فركب الإخشيد والفضل بن جعفر إلى الدار فوقفا على الباب، وأرسلا بالخدم، فلما علما بحصوله، مضى الفضل بن جعفر إلى داره ووقف الإخشيد حتى اخرج ومضى به إلى الفضل بن جعفر، فأدخل إليه، ودخل الإخشيد وقد نصبت له مرتبة، والفضل بن جعفر في مرتبته، وأدخل محمد بن عليّ الماذرائي فنظر إلى السرير وتأمل الفضل بن جعفر والإخشيد فصعد وجلس بالقرب من الإخشيد، فقال له الفضل بن جعفر: أيش خبرك يا أبا بكر، قال: بخير أيد الله الوزير، فقال له: أيش هذه الوحشة؟ أنت تعلم أن أمر الحج قد أزف ونريد ما نجهز به الحج، قال: ما عندي إلا نحو خمسة آلاف دينار، فقال: أنت أردت تضرب وجه السلطان بالسيف وتمنع خلفاءه وما تصل إلا إلى خمسة آلاف دينار؟ ثم صاح الفضل بن جعفر بغلامه شادن: خذه إليك. وانصرف الإخشيد وتركه عند الفضل.

ثم أرسل الإخشيد إلى الصعيد فأحضر محمد بن تكين من أخميم وأنزله في دار وأكرمه وقال له: نحضر إليك محمد بن عليّ الماذرائي ونجمع بينك وبينه فاشف صدرك منه وطالبه بما شئت، فقال: ما بيني وبينه معاملة، ولا لي قبله حق ولا مطالبة. وكافأه محمد بن تكين بأحسن مكافأة، ولم يؤاخذه بما عمل في أمره من منعه مصر ورد ولايته التي وردت، وجمع العساكر لمحاربته وأن أرسل إليه لا تجاورني، حتى أحوجه للخروج إلى الشام. وأراد الفضل بن جعفر أن يقيم رجلاً يناظر محمد بن عليّ ويطالبه بالأموال فما وجد أحداً يجيب إلى ذلك إلا الحسين بن عليّ الرقي، وكان متضمناً لأموال كثيرة، وتعرض لطلب الخراج أيام تكين، فقبض عليه تكين وعذبه رضى لمحمد بن عليّ ثم نفاه. فلما مات تكين عاد الرقي ودخل على الماذرائي فاعتذر إليه، وذكر أن ما له في أمره شيء، ووعده بالصلة والرزق، ووصله بألف دينار وقال له: خذ ضيعة أضع عنك من خراجها سبعة الآف دينار. فخرج الرقي إلى دمشق إلى الإخشيد وقدم مع الفضل بن جعفر حين قدم إلى مصر. فلما عرض على الرقي مناظرة محمد بن عليّ أجاب إلى ذلك، ونصبت له مرتبة في دار الإمارة، وأمر أن يخرج إليه محمد بن عليّ في جبة صوف مكشوف الرأس حافياً، ففعل ذلك، فلما أخرج إليه فرآه عرف المكروه فقال: أريد الوضوء، فدخل إلى الخلاء، وكتب منه رقعة إلى الإخشيد يعرفه ما عمل به، وأنه إنما يطلب منه التشفي، وأن وديعة عند ابن الطحاوي الفقيه مبلغها خمسون ألف دينار يرسل الأمير يأخذها لنفسه هدية ويمنع مني، فأرسل من ساعته بغلامه بدر الكبير فأخذ محمد بن عليّ من الخلاء وانصرف به ومنع منه، وشرط على الفضل بن جعفر أن يكون مكرماً ويحاسب ويؤخذ منه ما يوجد عليه، فضمن الفضل بن جعفر ذلك، وقبضت ضياعه بالشام وأكثر ضياعه بمصر، ودخل الإخشيد وارتفاع خراج ضياع محمد بن عليّ أربعمائة ألف دينار، وصودر أولاده وحاشيته، ولم يعرض لجاريته، وكان رسم الإخشيد ألا يتعرض للحرم. وحدثني محمد بن الحسين قال، قال لي أبي: كنت عند الحسين بن عليّ

الرقي وهو مشغول القلب، فسألته عن شغل قلبه فقال: كنت الساعة عند الأمير الإخشيد وحدي فضاحكته وحادثته، فلما رأيت طيب نفسه قلت له: تنشط الساعة لمائتي ألف دينار بعشرين صفعة؟ فقال ممن؟ فقلت له: الساعة ركبت، وجارية محمد بن عليّ في الشباك جالسة وجواريها قيام بالمذاب، ومولاها في يدك، فدعني أركب آخذها قال: فانقلبت عيناه وكان أزرق، قال: أبا القاسم تعرضني للحرم؟! لا والله لا عملت هذا أبداً، وانصرفت نادماً على ما كان مني. وكانت ولاية مصر على قسمين: والي الحرب والصلاة، وآخر للخراج وتدبير الأموال، فلما حصل الإخشيد بمصر جمع الولايتين كما عمل أحمد بن طولون، وكان تدبير الأموال والاستخراج في دار الفضل بن جعفر، وتدبير الحرب والرجال في دار الإخشيد. وحكي أن محمد بن عليّ الماذرائي لما كتب إلى الإخشيد يشكو ما جرى عليه، وبذل له الوديعة التي كانت عند ابن الطحاوي وحصل المال إلى الإخشيد وأخذوه من أيديهم، أرسل الإخشيد إلى الماذرائي: أنت عملت هذا بنفسك، كتبت إليك من الشام حين مات تكين: دعني أسر إليك في خيل جريدة وأخدمك وأتصرف بأمرك فأبيت علي، ثم قلدني السلطان فأرسلت إليك: دعني أسير في غلماني إلى مصر وتكون أنت على رسمك فأبيت علي، وأحوجتني أن جمعت عساكر العراق والشام وألزمت نفسي مؤونة، ثم أرسلت إليك: أنا أعفيك من الفضل ابن جعفر وأرده إلى العراق فدبر أمري، فأبيت، فلما فتحت مصر استترت مني، وكنت أعرف موضعك فلم أتعرض لك، وأرسلت إليك: أرسل إلي بشيء أتسع به، فأرسلت إلي عشرة آلاف دينار، فلما جاءت الرسالة إلى محمد بن عليّ صاح وقال: كل ما قاله صحيح إلا هذا، أرسلت إليه مائة ألف دينار ولابن كلا عشرة آلاف دينار. فلما جاء الجواب إلى الإخشيد أعظمه وقال: أرسلوا خلف ابن كلا، فلما جاء قال: ويحك يرسل إلي محمد بن عليّ مائة ألف دينار ولك عشرة الآف، تعطيني عشرة الآف وتأخذ مائة ألف دينار فقال: ما أبرد هذا! إنما خبأتها وهي عندي، وإنما أردت أن أحملها لك في مهم يطرأ، فقال: جئني بها، فحملها إليه.

وكان الإخشيد معظماً لمحمد بن عليّ عارفاً بحقه. ولما فرغ الفضل ابن جعفر من تدبير البلد وتقرير الأموال، وكشف الضياع، وضياع الماذرائيين، أخذ في المسير إلى الشام، وأخرج الإخشيد معه محمد بن عليّ الماذرائي موكلاً به، وخرج الإخشيد لتشييع الوزير الفضل بن جعفر ولم يتأخر أحد عن تشييعه، وتولى الإخشيد أمور مصر في الأموال والرجال. وكان يواكل الإخشيد جماعة منهم عدنان بن أحمد بن طولون وابن أخيه قيس بن العباس بن أحمد بن طولون وغيرهما، وكان يحادثه ويسامره سعيد الشاعر المعروف بقاضي البقر. ولما دخل شهر رمضان أطلق النفقات للمسجد الجامع، وأمر بعمارة المساجد بالجص والبياض والخلوق والمصابيح والأئمة. ثم أمر بالتأهب للعرض ليلة الفطر على رسم أحمد بن طولون وما كان يفعله تكين، فتأهب الناس واشتروا وأكثروا، وكان القواد التكينية على غاية الرفعة. ولما كان آخر شهر رمضان ركب الإخشيد بعد عشية فحضر ختم الجامع وصلى وأوتر وهو في وجوه عبيده، في دراعة (1) بياض، وبين يديه خمسمائة غلام بالدبابيس والمستوفيات (2) ، وبين يديه الشمع والمشاعل، وقيل كان بين يديه مائة فراش بمائة شمعة. ثم أصبح الناس للعرض، وجلس في المنظرة التي على باب الإمارة، ومرت العساكر، فلما انقضى العسكر ركب غلمانه في أحسن زي بالتجافيف والجواشن والدروع فلم يفرغوا إلى العشاء. ثم أصبح فركب لصلاة العيد، فصلى به عمر بن الحسن العباسي وخطب به وانصرف، ونصب السماط فأكل الناس وحملوا. ثم قبض على بار شكور وصادره على مائتي ألف دينار، وأخذ جميع غلمانه بسلاحهم ودوابهم وثيابهم. ثم قبض على عمران بن فارس فصادره، وأخذ غلمانه بدوابهم وثيابهم، وكانوا كلهم بين يديه.

_ (1) الدراعة: جبة مشقوقة المقدم. (2) الدبوس: عصا من خشب أو حديد في رأسها كالكرة، والمستوفيات لعلها ضرب من العصي الخشبية الغليظة.

وكان للإخشيد غلمان كثيرة وأتباع، وكان وجوههم بدر الكبير، وشادن الصقلبي، ومنجح الصقلبي، وكافور الأسود، وفاتك الفحل، وبشرى وغيرهم. ولما قبض على عمران بن فارس جعل مكانه في حجبته غلامه فاتك الرومي. ثم ثار بالإخشيد طرف سوداء فحجب عن الناس وأرجف به، وقيل إنها كانت تعتاده فيخلط. وكتب جماعة إلى العراق يلتمسون إمارة مصر، فلم يزل في هذه العلة يرجف به، حتى ظهر للناس في يوم الجمعة، وأذن للناس في صلاة الجمعة في دار الإمارة، ووقف في مستشرف بالصخر الكبير حتى رآه الناس، ثم أفاق، وبلغه خبر الذين كتبوا في ولاية مصر، وكان منهم غلامه شادن الصقلبي، وكان شجاعاً يقرأ ويكتب، ومنهم يونس الحرون قائد من قواد العراق، وكان منهم عمران ابن فارس. فقيل إنه دس إلى يونس الحرون شيئاً فمات، وقبض على عمران ابن فارس وقبض على من اتهمه من غلمانه. وكان أخص الناس به كاتبه محمد بن كلا، وكان كاتبه بدمشق ورسوله إلى العراق وثقته، فقبض عليه في آخر سنة اثنتين وعشرين (1) وصادره على ثلاثمائة ألف دينار، وقبض على أهله وصادرهم، وقبض على جماعة كانوا في داره يوم قبض عليه فصودروا فحلف ابن كلا أنه لا يدفع مال المصادرة أو يلقاه ويراه، فامتنع الإخشيد عن ذلك، وكان رسمه ألا يراه أحد ممن يصادره إلا بعد الرضا عنه، فحلف ابن كلا بالطلاق، فقال: مروا به حتى أراه ويراني، فمروا به عليلاً يتوكأ على رجلين وكان به عرج، فنظر إلى الإخشيد وقال: أما أنا فقد استحييت، فأطرق الإخشيد، وتم قبض المصادرة وأطلقه. وانكشفت له أموال في البلد، منها اصطبل كان لإبراهيم غلام حبشي وجد فيه مائة وخمسون ألف دينار فأخذها. وكان بمصر أبو الحسن الفرغاني وكان على الاستخراج، فلما دخل الإخشيد إلى مصر استتر منه، ثم راسله وبذل له غلمانه وما عنده من صلاح، فأجابه إلى ذلك ووعده يوماً بعينه يركب إليه، وكان شيخاً حسن الهيئة واللباس.

_ (1) هذا خطأ لأن الإخشيد أصبح والياً لمصر في السنة التالية.

وحدثني حمزة بن محمد الحافظ قال: قال لي ابن مانة: راسلني الإخشيد في تسليم غلماني والسلاح والدواب ويقنع مني بهذا، فوعدته يوماً أركب إليه فيه، وكنت عند مسير الإخشيد إلى مصر أحضرت بناءً فعمل لي فسقية في الخلاء وانصرف ليغدو إلى تمامها، فلما انصرف جلست أنا وأم أولادي فرصصنا فيها مائة ألف دينار وغطيناها بإزار وقطع ثم طرحنا الآجر والرماد، وجاء البناء ولم يعلم بما عملناه فأصلحها وبيضها، فلما دخل الإخشيد وراسلته وافق ذلك أن ابن قرماقس أحضر إليه بناءً يعمل له خلاء فقال له: اعمل لي فسقية فقال له: أنا أعمل لك فسقية كما عملت لابن مانة. فركب إلى الإخشيد من ساعته وقال له: قد عرفت موضع مال ابن مانة، فأرسل معه إلى داري وهي خالية، فحفروا وأخذوا المال كله. فلما كان يوم الموعد جاءني الرسول فقال: اركب، فقلت: أيش أعمل بالركوب، قد ذهب الذي كنت أخاف عليه، فمضى الرسول فأخبره فضحك. وفي شعبان توفي عفان بن سليمان البزاز أجل تاجر كان بمصر، فأخذ الإخشيد من ماله في ميراثه نحو مائة ألف دينار. وفي هذا الشهر من سنة أربع وعشرين كتب الإخشيد إلى الخليفة الراضي بما عمله هو والفضل بن جعفر وما وفراه وبما عملاه في محمد بن عليّ الماذرائي، فورد رسول الراضي إلى الإخشيد بالخلع والطوق والسوارين، فزينت الأسواق واشوارع بأنواع الفرش والستور والبسط وأبواب الجامع، وظهر الديباج والمثقل، وركب الإخشيد إلى الجامع العتيق فصلى فيه يوم الأربعاء، ومعه الوزير الفضل بن جعفر، وعليه خلع الراضي، وسار إلى داره ومعه الفضل بن جعفر. ثم وصل كتاب الراضي إلى الإخشيد بالجد في قتال عساكر المغرب وإنفاذ العساكر إليهم. ووردت كتب أهل الثغر في أمر الفداء، فأمر الإخشيد بصندوق فجعل في الجامع العتيق ليطرح الناس فيه، فلم يطرحوا فيه شيئاً، فأنفذ الإخشيد بالمراكب والمال للفداء. وفي شعبان سنة خمس وعشرين نقل الإخشيد الصناعة من موضع البستان المعروف بالمختار في الجزيرة وجعلها في موضعها اليوم من الساحل.

وكان الإخشيد (1) قد اختص من الأشراف بعبد الله بن طباطبا، وبالحسن بن طاهر بن يحيى وكانا لا يفارقانه، وهذا حسني وهذا حسيني، وبينهما عداوة الرياسة والاختصاص. وعاد الفضل بن جعفر الوزير من الشام إلى مصر فتلقاه الإخشيد وجميع الناس. وسخط الإخشيد على مقبل المغني غلام الموفق فحبسه، فسأل أبا بكر الحداد الفقيه أن يشفع فيه، فسأل فيه الإخشيد فأجابه وقال: أنا أرسله إليك. فلما انصرف ابن الحداد دعا الإخشيد مقبلاً فقال له: وتربة طغج لئن خالفتني لأردنك إلى الحبس، قد شفع فيك ابن الحداد الفقيه، فخذ العود وامض وغن له، فركب مقبل إلى ابن الحداد بالعود فدخل إليه فشكره، وقال له: يا سيدي للملوك غيب، وقد أمرت بأمر لا أدري والله كيف أفعله، ففطن ابن الحداد فقال: والله ما سمعته قط إلا في دور الناس من السطح، وقام مقبل وجاء إلى دار الإخشيد وحلف أنه حمل العود، ولكنه وجد عند ابن الحداد أمةً من العلماء والفقهاء والشهود: " فخفت على نفسي " وحكى له جواب ابن الحداد. وفي سنة أربع وعشرين شرع الإخشيد في إجراء الحلبة على رسم أحمد بن طولون. وكان الإخشيد لما عجز عن مصر وأخذها جمع العساكر وقبل كل من جاءه، فجاءه قواد العراق وقواد ديار مضر وديار ربيعة وحلب والثغور والشامات، وأكثرهم مؤمر، فعظمت عليه المؤونة وثقلت. فحدثني الفضل بن محمد قال: سمعت أحمد بن موسى الزغلمان، وكان أحد القواد، قال سمعت الإخشيد غير مرة يدعو على محمد بن عليّ الماذرائي يقول: هو أحوجني إلى جمع العساكر، وقد كتبت إليه غير مرة: دعني أدخل في غلماني ومن معي وأنت المدبر لأمري وأمرهم، فما وجدت فيه حيلة، فأرسل إلي: ما بيني وبينك إلا السيف، وقد رد إلي

_ (1) هذه الفقرة في بغية الطلب 4: 242 وزاد فيها، إلا أن الحسن بن طاهر ناب عنه وسافر في صحابه وتوسط بينه وبين محمد بن رائق مرتين وتوسط بينه وبين ابن حمدان، وهو تلخيص لما سيأتي بعد.

السلطان أمر البلد وجعل إلي تقليد من شئت، فأهلكني وأهلك نفسه وأحوجني إلى هذا. وورد إلى الإخشيد كتاب أرمانوس عظيم النصرانية يفتخر فيه، ويزعم أنه له المنة عليه في خطابه، إذ جرت عادته ألا يخاطب إلا خليفة. فقرئ الكتاب على الإخشيد، فتقدم بالجواب، فأجاب عنه جماعة، فلم يختر إلا جواب إبراهيم ابن عبد الله النجيرمي وكان عالماً بوجوه الكتابة، ونسخة الكتاب: " من محمد بن طغج مولى أمير المؤمنين إلى ألمانوس عظيم الروم ومن يليه، سلام، بقدر ما انتم له مستحقون، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد، فقد ترجم لنا كتابك الوارد مع نقولا وإسحاق رسوليك، فوجدناه مفتتحاً بذكر فضيلة الرحمة، وما نمي عنا إليك، وصح من شيمنا فيها إليك، وبما نحن عليه من المعدلة وحسن السيرة في رعايانا، وما وصلت به هذا القول من ذكر الفداء والتوصل إلى تخليص الأسرى، إلى غير ذلك مما اشتمل عليه، وفهمناه: فأما ما أطنبت فيه من فضيلة الرحمة فمن سديد القول الذي يليق بذوي الفضل والنبل، ونحن، بحمد الله ونعمه علينا، بذلك عارفون، وإليه راغبون، وعليه باعثون، وفيه بتوفيق الله إيانا مجتهدون، وبه متواصلون وعالمون، وإياه نسأل التوفيق لمراشد الأمور وجوامع المصالح، بمنه وقدرته. وأما ما نسبته إلى أخلاقنا من الرحمة والمعدلة فإنا نرغب إلى الله جل وعلا، الذي تفرد بكمال هذه الفضيلة ووهبها لأوليائه ثم أثابهم عليها، أن يوفقنا لها ويجعلنا من أهلها وييسرنا للأجتهاد فيها والاعتصام من زيغ الهوى عنها وعزة القسوة بها، ويجعل ما أودع قلوبنا من ذلك موقوفاً على طاعته وموجبات مرضاته حتى نكون أهلاً لما وصفتنا به، وأحق حقاً بما دعوتنا إليه، ومن يستحق الزلفى من

الله تعالى فإنا فقراء إلى رحمته، وحق لمن أنزله الله بحيث أنزلنا، وحمله من جسيم الأمر ما حملنا، وجمع له من سعة الممالك ما جمع لنا، بمولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يبتهل إلى الله تعالى في معونته لذلك وتوفيقه وارتياده، فإن ذلك إليه وبيده، {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} . وأما ما وصفته من ارتفاع محلك عن مرتبة من هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عظم ملككم وأنه الملك القديم الموهوب من الله الباقي على الدهر، وأنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحققته من حالنا عندك، فإن ذلك لو كان حقاً وكانت منزلتنا كما ذكرته تقصر عن منزلة من تكاتبه، وكان لك في ترك مكاتبتنا غنم ورشد، لكان من الأمر البين أن أحظى وأرشد وأولى بمن حل محلك ان يعمل بما فيه صلاح رعيته، ولا يرى وصمة ولا نقيصة ولا عيباً، ولا يقع في معاناة صغيرة من الأمور تعقبها كبيرة، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار ويخوض الغمار ويعرض مهجته في ما ينفع رعيته. والذي تجشمته من مكاتبتنا، إن كان كما وصفته، فهو أمر سهل يسير لأمر عظيم خطير، وجل نفعه وصلاحه وعائدته تخصكم، لأن مذهبنا انتظار إحدى الحسنيين، فمن كان منا في أيديكم فهو على بينة من ربه، وعزيمة صادقة من أمره، وبصيرة فيما هو بسبيله، وإن في الأساري من يؤثر من ضنك الأسر وشدة البأساء على نعيم الدنيا وخيرها لحسن منقلبه وحميد عاقبته، ويعلم أن الله تعالى قد أعاده من أن يفتنه ولميعده من أن يبتليه، هذا إلى أوامر الإنجيل الذي هو إمامكم، وما توجبه عليكم عزائم سياستكم، والتوصل إلى استنفاذ أسرائكم، ولولا أن إيضاح القول في الصواب أولى بنا من المسامحة في الجواب، لأضربنا عن ذلك صفحاً، إذ رأينا أن نفس السبب الذي من أجله سما إلى مكاتبة الخلفاء عليهم السلام من كاتبهم، أو عدا عنهم إلى من حل محلنا في دولتهم، بل إلى من نزل عن مرتبتنا، هو أنه لم يثق من منعه ورد ملتمسه ممن جاوره، فرأى أن يقصد به الخلفاء الذين الشرف كله في إجابتهم، ولا عار على أحد وإن جل قدره في ردهم. ومن وثق في نفسه ممن جاوره وجد قصده أسهل السبيلين عليه، وأدناهما إلى إرادته، حسبما تقدم لها من تقدم. وكذلك كاتب من حل محلك من قصر عن محلنا، ولم يقرب من منزلتنا، فممالكنا عدة كان يتقلد في

سالف الدهر كل مملكة منها ملك عظيم الشأن: فمنها ملك مصر الذي أطغى فرعون على خطر أمره حتى ادعى الإلهية، وافتخر على نبي الله موسى بذلك، ومنها [ملك ... للذي ... ] (1) الإسكندر ومن خلفه من اليونانيين، ومنها ممالك اليمن التي كانت للتبابعة الأقيال العباهلة ملوك حمير، على عظيم شأنهم وكثرة عددهم، ومنها أجناد الشام التي فيها جند حمص، وكانت دارهم ودار هرقل عظيم الروم ومن قبله من عظمائها، ومنها جند دمشق على جلالته في القديم والحديث واختيار الملوك المتقدمين له، ومنها جند الأردن على جلالة قدره وأنه دار المسيح صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والحواريين، ومنها جند فلسطين، وهي الأرض المقدسة وبها المسجد الأقصى وكرسي النصرانية ومعتقد غيرها ومحج النصارى واليهود طراً، ومقر داود وسليمان ومسجدهما، ومنها مسجد إبراهيم وقبره وقبر إسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته وأزواجهم عليهم السلام، ومنها مولد المسيح وأمه وقبرها. هذا إلى ما نتقلده من أمر مكة المحفوفة بالآيات الباهرة والدلالة الظاهرة، فإنا لو لم نتقلد غيرها لكانت بشرفها وعظم قدرها وما حوت من الفضل توفي على كل مملكة، لأنها محج آدم ومحج إبراهيم وإرثه ومهاجره، ومحج سائر الأنبياء، وقبلتنا وقبلتهم عليهم السلام، وداره وقبره ومنبت ولده، ومحج العرب على مر الحقب، ومحل أشرافها وذوي أخطارها على عظم شأنهم وفخامة أمرهم، وهو البيت العتيق المحرم المحجوج إليه من كل فج عميق الذي يعترف بفضله وقدمه أهل الشرف، من مضى ومن خلف، وهو البيت المعمور وله الفضل المشهور. ومنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم المقدسة بتربته، وأنها مهبط الوحي، وبيضة هذا الدين المستقيم الذي امتد ظله على البر والبحر والسهل والوعر والشرق والغرب وصحارى العرب على بعد أطرافها وتنازح أقطارها وكثرة سكانها في حاضرتها وباديتها، وعظمها في وفودها وشدتها وصدق بأسها ونجدتها وكبر أحلامها وبعد مراميها وانعقاد النصر من عند الله براياتها، وان الله تعالى أباد خضراء كسرى وشرد قيصر عن داره ومحل عزه ومجده بطائفة منها. هذا إلى ما تعلمه من أعمالنا. وتحت أمرنا ونهينا ثلاثة كراسي

_ (1) هنا تقطيع في المخطوطة.

من أعظم كراسيكم: بيت المقدس وأنطاكية والإسكندرية، مع ما إلينا من البحر وجزائره واستظهارنا بأتم العتاد. وإذا وفيت النظر حقه علمت أن الله تعالى قد أصفانا بجل الممالك التي ينتفع الأنام بها، ويشرف الأرض المخصوصة بالشرف كله دنيا وآخرة، وتحققت أن منزلتنا بما وهبه الله لنا من ذلك فوق كل منزلة، والحمد لله ولي كل نعمة. وسياستنا لهذه الممالك، قريبها وبعيدها، على عظمها وسعتها، بفضل الله علينا وإحسانه إلينا ومعونته لنا وتوفيقه إيانا، كما كتبت إلينا وصح عندك من حسن السيرة، وبما يؤلف بين قلوب سائر الطبقات، من الأولياء والرعية، على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدعة في المعيشة، ويكسبها المودة والمحبة، والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً على نعمه التي تفوت عندنا عد العادين، وإحصاء المجتهدين، ونشر الناشرين، وقول القائلين، وشكر الشاكرين، ونسأله أن يجعلنا ممن تحدث بنعمته عليه شكراً لها، ونشراً لما منحه الله منها وممن رضي اجتهاده في شكرها، وممن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وكان سعيه مشكوراً، إنه حميد مجيد. وما كنت أحب أن أباهيك بشيء من أمر الدنيا، ولا أتجاوز الاستيفاء لما وهبه الله لنا من شرف الدين الذي كرمه وأظهره، ووعدنا في عواقبه الغلبة الظاهرة والقدرة القاهرة ثم الفوز الأكبر يوم الدين، لكنك سلكت مسلكاً لم يجز لي أن أعدل عنه، وقلت قولاً لم يسعنا التقصير في جوابه. ومع هذا فإنا لم نقصد بما وصفناه من أمرنا مكاثرتك، ولا اعتمدنا تعيين فضل لنا نعوذ به، إذ نحن نكرم عن ذلك، ونرى أن نكرمك عند محلك ومنزلتك وما يتصل بها من حسن سياستك ومذهبك في الخير، ومحبتك لأهله، وإحسانك لمن في يدك من أسرى المسلمين وعطفك عليهم، وتجاوزك في الإحسان إليهم جميع من تقدمك من سلفك، ومن كان محموداً في أمره رغب في محبته لأن الخير أهل أن يحب حيث كان. فإن كنت إنما تؤهل لمكاتبتك ومماثلتك من اتسعت مملكته وعظمت دولته وحسنت سيرته، فهذه ممالك عظيمة واسعة جمة، وهي أجل الممالك التي ينتفع

بها الأنام وسر الأرض المخصوصة بالشرف، فإن الله قد جمع لنا الشرف كله بالولاء الذي جعل لنا من مولانا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، مخصوصين بذلك إلى ما لنا بقديمنا وحديثنا وموقعنا. والحمد لله رب العالمين الذي جمع لنا ذلك بمنه وإحسانه، ومنه نرجو حسن السعي في ما يرضيه بلطفه. ولم ينطو عنك أمرنا في ما اعتمدناه، وإن [كنت] تجري في المكاتبة على رسم من تقدمك، فإنك لو رجعت إلى ديوان بلدك وجدت من كان تقدمك قد كاتب من قبلك من لم يحل محلنا ولا أغنى غناءنا، ولا ساس في الأمور سياستنا، ولا قلده مولانا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، ما قلدنا، ولا فوض إليه ما فوض إلينا. وقد كوتب أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وآخر من كوتب تكين مولى أمير المؤمنين ولم يكن تقلد سوى مصر وأعمالها. ونحن نحمد الله كثيراً أولاً وآخراً على نعمه التي يفوت عندنا عددها عد العادين ونشر الناشرين، ولم نرد بما ذكرناه المفاخرة، ولكنا قصدنا بما عددناه من ذلك حالات: أولها الحديث بنعمة الله علينا، ثم الجواب عما تضمنه كتابك من ذكر المحل والمنزلة في المكاتبة، ولتعلم قدر ما بسطه الله لنا في هذه الممالك. وعندنا قوة تامة على المكافأة عن جميل فعلك بالأسارى وشكر واف لما نوليهم وتتوخاه من مسرتهم، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة. وفقك الله لمواهب خيرات الدنيا والآخرة والتوفيق للسداد في الأمور كلها، والتيسير لصلاح القول والعمل الذي يحبه ويرضاه ويثيب عليه، ويرفع في الدنيا والآخرة أهله، بمنه ورحمته. وأما الملك الذي ذكرت أنه باق على الدهر لأنه موهوب لكم من الله خاصة، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وإن الملك كله لله {يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير} وإن الله عز وجل نسخ مُلك الملوك وجبرية الجبارين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، وشفع نبوته بالإمامة، وحازها إلى العترة الطاهرة من العنصر الذي منه أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والشجرة التي منها غصنه وجعلها خالدة فيهم يتوارثها منهم كابر عن كابر

ويلقيها ماض إلى غابر، حتى نجز أمر الله ووعده وبهر نوره وكلمته، وأظهر حجته، وأضاء عمود الدين بالأئمة المهتدين، وقطع دابر الكافرين، {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون} حتى يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون. وإن أحق ملك أن يكون من عند الله وأولاه وأخلقه أن يكنفه الله بحراسته وحياطته ويحفه بعزه وأيده ويجلله بهاء السكينة في بهجة الكرامة ويجعله بالبقاء والنجاة ما لاح فجر، وكر دهر، ملك إمامة عادلة خلفت نبوة، فجرت على رسمها وسنتها، وارتسمت أمرها، وأقامت شرائعها، ودعت إلى سبلها، مستنصرة بأيدها، منتجزة لوعدها، وإن يوماً واحداً من إمامة عادلة خير عند الله من عمر الدنيا تملكاً وجبرية. ونحن نسأل الله تعالى أن يديم نعمه علينا وإحسانه إلينا بشرف الولاية ثم لحسن العاقبة بما وفر علينا فخره وعلاه ومجده وإحسانه، إن شاء الله وبه الثقة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وأما الفداء ورأيك في تخليص الأسرى، فإنا وإن كنا واثقين لمن في أيديكم بإحدى الحسنيين، وعلى (1) بينة لهم من أمرهم وبيان من حسن العاقبة وعظم المثوبة، عالمين بما لهم، فإن فيهم من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدة البأساء على نعيم الدنيا ولذتها، سكوناً إلى ما يتحققه من حسن المنقلب وجزيل الثواب، ويعلم أن الله قد أعاذه من أن يفتنه ولم يعذه من أن يبتليه (2) . وقد تبينا في ذلك مع هذا الباب ما شرعه لنا الأئمة الماضون والسلف الصالحون، فوجدنا ذلك موافقاً لما التمسته وغير خارج عما أحببته، فسررنا بما يتيسر منه، وبعثنا الكتب والرسل إلى عمالنا في سائر أعمالنا، وعزمنا عليهم في جمع كل من قبلهم واتباعهم بما وفر الإيمان بإنقاذهم، وبذلنا في ذلك كل ممكن، وأخرنا إجابتك عن كتابك ليتقدم فعلنا قولنا وإنجازنا وعدنا، ويوشك أن يكون قد ظهر لك من ذلك ما وقع أحسن الموقع منك، إن شاء الله. وأما ما ابتدأتنا به من المواصلة واستشعرته لنا من المودة والمحبة، فإن عندنا من مقابلة ذلك ما توجبه السياسة التي تجمعنا على اختلاف المذاهب، وتقتضيه

_ (1) هذا قد مر من قبل مع اختلاف يسير. (2) هذا قد مر من قبل مع اختلاف يسير.

نسبة الشرف الذي يؤلفنا على تباين النحل، فإن ذلك من الأسباب التي تخصنا وإياك. ورأينا من تحقيق ظنك بنا إيناس رسلك وبسطهم، والاستماع منهم والإصغاء إليهم والإقبال عليهم. وتلقينا انبساطك إلينا وإلطافك إيانا القبول الذي يحق علينا ليقع ذلك موقعه، وزدنا في توكيد ما اعتمدته مما حملناه رسلك في هذا الوقت على استقلالنا إياه من طرائف بلدنا وما يطرأ من البلاد علينا، وإن الله بعدله وحكمته أودع كل قرية صنفاً ليتشوف إليه من بعد عنه، فيكون ذلك سبباً لعمارة الدنيا ومعايش أهلها، ونحن نفردك بما سلمناه إلى رسولك لتقف عليه إن شاء الله. وأما ما أنفذته للتجارة فقد أمكنا أصحابك منه، وأذنا لهم في البيع وفي ابتياع ما أرادوه واختاروه، لأنا وجدنا جميعه مما لا يحظره علينا دين ولا سياسة، وعندنا من بسطك وبسط من يرد من جهتك، والحرص على عمارة ما بدأتنا به ورعايته، ورب ما غرسته أفضل ما يكون عند مثلنا لمثلك. والله يعين على ما ننويه من جميل ونعتقده من خير، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ومن أبتدأ بالجميل لزمه الجري عليه والزيادة، ولا سيما إذا كان من أهله خليقاً به. فقد ابتدأنا بالمؤانسة والمباسطة، وأنت حقيق بعمارة ما بيننا، واعتمادنا بحوائجك وعوارفك قبلنا، فأبشر بتيسير ذلك إن شاء الله. والحمد لله أحق ما ابتدىء به وختم بذكره، وصلى الله على سيدنا محمد نبي الهدى والرحمة وعلى آله وسلم تسليما ". ولإعجاب إبراهيم بن عبد الله النجيرمي بما عمله في هذا الكتاب نسخ منه نسخاً وأنفذها إلى البصرة وأعمالها يفتخر بها. وفي هذه السنة وهي سنة خمس وعشرين جهز الإخشيد المراكب الحربية للمسير إلى الثغور للفداء الذي كوتب فيه، وشحنها بنصارى الروم ممن أهدي إليه ومن اشتراه، وأنفذ الثياب والطيب والطعام لمن يحصل في الفداء من المسلمين. وفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة كتب محمد بن طغج إلى الراضي يستدعي أن يلقب بالإخشيد، وقال في كتابه: وقد كنى أمير المؤمنين جماعة ولقبهم، فليسرني بما سألت، فقال الراضي لحاجبه ذكا: ما معنى الإخشيد؟ فسأل فقيل:

تفسيره عبد، دعي به ملك الملوك. فعرف الراضي فقال: لا نبخل عليه بهذا، اكتبوا له بذلك، وكان هذا بعقب خلع أنفذها الراضي إليه، وطوق وسوارين، وزينت الأسواق فطاف المدينة. وفي هذه السنة عاد أصحاب مالك والشافعي إلى القتال في المسجد العتيق، وكان في الجامع للمالكيين خمس عشرة حلقة، وللشافعيين مثلها، ولأصحاب أبي حنيفة ثلاث حلق، فلما زاد قتالهم أرسل الإخشيد ونزع حصرهم ومساندهم وأغلق الجامع، وكان يفتح في أوقات الصلوات، ثم سئل الإخشيد فيهم فردهم. وفي أول سنة ست وعشرين أرسل الراضي إلى مصر يستدعي الفضل ابن جعفر للوزارة، وأنفذ له خلعاً فامتنع أن يلبسها، فحدثني ابنه أبو الفضل قال: ركب الإخشيد بنفسه إليه وألزمه لبسها، فألبسه إياها الإخشيد بيده، ثم قام أبي فصلى ركعتين والإخشيد قائم متكىء على سيفه، ثم تجهز للمسير فشيعه أهل مصر، ورحل إلى الشام ثم سار إلى العراق، وخلف ابنه أبا الفضل بحمص، فلما بلغ الرقة لقيته خلع الوزارة فلبسها، ودخل بغداد ونظر في الأمور ودبرها، ورأى الأمور مضطربة فاستأذن الراضي في المسير إلى الشام ومصر ليحمل الأموال ويكشف الأعمال. واستخلف عبد الله بن عليّ بن المغربي وسار إلى الشام، فتوفي بالرملة لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين، وجاء نعيه إلى الإخشيد فقلق لذلك وجلس للتعزية. وكان محمد بن عليّ الماذرائي عنده بالرملة فأرسل الإخشيد فحمله إلى مصر، وقد كان أقام بالرملة في دار الفضل أبي جعفر ثلاث سنين وثمانية أشهر، فلما وصل إلى مصر أنزله الإخشيد معه في داره. ولما بلغ الراضي وفاة الفضل بن جعفر حزن لذلك، وأقر الوزارة بحالها، وكتب إلى الإخشيد يعزيه بالفضل بن جعفر ويأمره بإنفاذ ابنه جعفر بن الفضل إلى موضع أبيه فدافع الإخشيد بذلك وأعتذر. وأقامت الوزارة شهرين، وكتب الراضي إلى جعفر بن الفضل كتاباً يستدعيه للوزارة، وكان خليفته ببغداد عبد الله بن محمد المغربي، وخليفته على مصر محمد بن عبد الرحمن الروذباري، وخلفاؤه بالشام على حالهم، والكتب تنفذ باسمه كما كانت في حياته. فلما يئس الراضي من

خروج جعفر بن الفضل إليه كتب له يستخلفه على كشف اعمال الإخشيد كلها كما كان أبوه، واستوزر أحمد بن محمد البريدي. فحدثني أبو الفضل جعفر بن الفضل الوزير قال: حملت كتاب الراضي ووضعته بين يدي الإخشيد وانصرفت إلى محمد ابن عليّ الماذرائي. وفي شهر رمضان من ستة سبع وعشرين ورد كتاب الراضي مع رسول يعرف بابن الشيعي يلقبه " الإخشيد " وهذا أول من لقب به، فدعي بذلك على منبر الفسطاط وسائر المنابر، وكتب بذلك على كتبه، وكوتب به، وعبأ الإخشيد مالاً كثيراً وهدية وكراعاً وبغالاً وحميراً وثيابأً وأنفذ ذلك إلى الراضي. وفي ذي القعدة سنة سبع وعشرين أرجف الناس بمسير محمد بن رائق من العراق، وأنه قد حصل بالرقة يريد الشامات ومصر، وكان عبيد الله بن طغج بدمشق، فأنفذ الإخشيد عمران بن فارس في جيش كثير بسبب محمد بن رائق. ثم وصلت الأخبار بوصول محمد بن رائق إلى دمشق وملكها مع ما خلفها من حمص وحلب والثغور وسائر الأعمال، فقلق لذلك الإخشيد، وخرج عبيد الله بن طغج عن دمشق منهزماً. ثم ورد الخبر في آخر ذي الحجة سنة سبع وعشرين بدخول محمد بن رائق الرملة، وكان كالطائر في مسيره، وانصرف أصحاب الإخشيد عن غير قتال، ونبش قبر الفضل بن جعفر الوزير فوجد فيه مالاً فأخذه. ثم أخذ الإخشيد في أهبة المسير لقتال محمد بن رائق فهاجت به السوداء على عادته فعولج أياماً. وفي المحرم سنة ثمان وعشرين سار الإخشيد لقتال ابن رائق، واستخلف أخاه أبا المظفر، وسار حتى نزل الفرما، وتقدمت طلائع محمد بن رائق فكانت بينهم مناوشة. وسفر الحسن بن طاهر العلوي (1) بين الإخشيد وبين محمد بن رائق في الصلح. وأنفذ الإخشيد كاتبه محمد بن كلا للرملة للموافقة على شرائط بينهما. وتم الصلح على أن الرملة للإخشيد، ومن طبرية وما خلفها لمحمد

_ (1) انظر ذلك في بغية الطلب 4: 242.

ابن رائق على أن يحمله الإخشيد إلى ابن رائق متى توافقا عليه. وخرج ابن رائق عن الرملة، وعاد الإخشيد إلى مصر فسر برجوعه الناس، وكانوا زينوا له الطرق والأسواق فلم يطف المدينة، وكان هذا يوم الخميس فأقرت الزينة على حالها، فلما كان من الغد ركب إلى الجامع العتيق لصلاة الجمعة وكان يوماً عظيماً. وقبض الإخشيد على محمد بن عبد الرحمن الروذباري الكاتب وصادره بسبب كلام خاطبه به في محمد بن رائق، فإنه شاوره فأشار عليه فخالفه فقال له: فيك أيها الإخشيد خلتان مذمومتان: البخل والجبن، وما يتم لك معهما شيء إلا بالإقبال، فحقد عليه وصادره بعد أيام وكان خليفة الفضل بن جعفر. وفي رجب سنة ثمان وعشرين أطلق الإخشيد أبا بكر محمد بن عليّ الماذرائي واستوزره، واستكتب ابنه الحسين بن محمد وخلع عليه وصرفه إلى داره، فمشى بين يديه أهل الدولة وابنه الحسين خلفه بالخلع، ومشى الشريف أبو جعفر مسلم بين يديه حتى حلف عليه فركب، ومشى الأشراف وسائر الناس. وكان الإخشيد يعامله في اعتقاله أربع سنين وتسعة أشهر بكل جميل، ورد إليه الإخشيد التدبير بمصر والشام، وألزمه لبس الدراعة ونزع الطيلسان، وكان لا يصدر إلا عن رأيه، ولا يخليه من حضور مجلسه، ويقول للناس إذا انصرف: كم قبلت يده ووقفت بين يديه. وكان القائم بأمر الله لما انصرفت عساكره بالإسكندرية اختار أن يستعطف الإخشيد ويصطنعه، وكان محمد بن عليّ الماذرائي وهو في قبضة الفضل بن جعفر قد اتهم بمكاتبة القائم، وأنه استدعى منه العساكر وحسن له رأيه. وكتب القائم إلى الإخشيد كتاباً قرأه على خاصته، ورقعة بخطه لم يقف عليها أحد، وكانت نسخة الرقعة: قد خاطبتك أعزك الله في كتابي المشتمل على هذه الرقعة بما لم يجز لي في عقد الدين وما جرى به الرسم من سياسة أنصار يستجلبون، وضمنت رقعتي ما لم يطلع عليه أحد من كتابي وذوي المكانة عندي، وأرجو أن تردك صحة عزيمتك وحسن رأيك إلى ما أدعوك إليه، فقد شهد الله على ميلي إليك، وإيثاري

لك، ورغبتي في مشاطرتك ما حوته يميني واحتوى عليه ملكي، وليس يتوجه لك العذر في التخلف عن إجابتي لأنك قد استفرغت مجهودك في مناصحة قوم لا يرون إحسانك ولا يشكرون إخلاصك، يخلفون وعدك ويخفرون ذمتك، لم يعتقد منهم أحد حسن المكافأة ولا جميل المجازاة، وليس ينبغي لك أن تعدل عن منهج من نصحك، وإيثار من آثرك إلى من يجهل موضعك، ويضيع حسن سعيك، وأنا أعلم أن طول العادة في طاعتهم قد كره إليك العدول عنهم، فإن لم تجد من نفسك معونة على اتباع الحق ولزوم الصدق فإني أرضى منك بالمودة والأمر والطاعة حتى تقيمني مقام رئيس من أهلك، تسكن إليه في أمرك، وتعول عليه بمثل ذلك. وإذا تدبرت هذا الأمر علمت أن الذي يحملني على التطأطئ لك وقبول الميسور منك إنما هو الرغبة فيك، وأنت حقيق بحسن مجازاتي على ما بذلته، والله يريك حسن الاختيار في جميع أمرك، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فلما وقف الإخشيد على هذه الرقعة، احتج إلى الرسول بأنه لا يقرأ ولا يكتب، ولا يجوز له أن يبوح بما في نفسه إلى كاتب، إذ كان الصواب يقتضي ذلك، ثم قال: وأنا أتدبر الجواب فأجيب عنه ويصل مع من أثق به، وأسلك من حسن الموالاة ما لم يكن غيري يسلكه. ثم بلغ الإخشيد مسير محمد بن رائق من العراق إلى أعمال الإخشيد ووصوله إلى الرملة، وأن الراضي قلده، فاغتاظ وكتب إلى خليفته ببغداد عليّ بن أحمد العجمي بإخبار الراضي بمسير ابن رائق: فإن كان أمير المؤمنين قلده سلمت له، أو يأمرني بالقتال، فإني قد صالحته وأرضيته وما رضي. فدخل ابن العجمي على الراضي وأخبره، وبجكم بين يديه، وقال له: والأعمال أعمالك يا أمير المؤمنين فأمر عبدك الإخشيد بما يكون عمله بحسبه، فما نطق الراضي بحرف، فقال بجكم: من ضرب بالسيف وهزم صاحبه فالعمل له، فكتب ابن العجمي لوقته بذلك إلى الإخشيد،، فصرع وثارت به السوداء. فحدثني بعض الوجوه بمصر فال، قال لي عمر بن الحسن العباسي الخطيب بمصر: دعاني الإخشيد يوماً فقال لي: إذا كان يوم الجمعة فأقم الدعوة لأبي

القاسم صاحب المغرب وأسقط الدعوة للراضي حتى يعلم [من] محمد بن طغج، قال عمر بن الحسن، فقلت: كما يأمر الإخشيد. فغدوت إليه ثانية واستأذنته وقلت: لعله يرجع، فقال: نعم، فلم أزل على هذا ثلاثة أيام إلى يوم الخميس، فاتهمت أن يكون أبو الحسين محمد بن عبد الوهاب، وكان رجلاً جزلاً جيد الرأي شيعياً، قد حسن له هذا الرأي، لأنه أقام في اعتقاله سبع سنين، وكان كما أطلقه واختص به. فجئت إلى ابن عبد الوهاب وخلوت به وحدثته فقال: إن السوداء ربما ثارت به، أفعاودته؟ فقلت: قد عاودته أربعة أيام. فقال لي: أنا أخلو به كل جمعة بالغداة، فارفق به وقل: أين أعمل الذي أمرتني به: في جامع أسفل أو في جامع ابن طولون؟ وخلني وإياه. قال عمر بن الحسن: فجئت إليه ورفقت به وقلت: أيها الأمير، الذي أمرتني به أين أعمله؟ في الجامع العتيق أم جامع ابن طولون. فقال له ابن عبد الوهاب: أيش هذا الذي تعمل؟ فقال الإخشيد: شيء، فقال ابن عبد الوهاب: الله المستعان، شيء يعمل على المنبر يكتم وبعد ساعة يعلم به الجمهور! فقال له: قد تأذبت بالراضي وبهذا الصبي ابن رائق، وقد أمرت الخطيب أن يدعو لأبي القاسم صاحب المغرب، فقال له: وفق الله الإخشيد، فلقد وضعت الصنيعة في موضعها، ولقد أخبرت أنه في الحزن على أبيه إلى الساعة، وما جلس في مرتبته إلا حزيناً كئيباً، ولا جدد ثوباً، وهو من الشرف والملك على ما سمعت، والحمد لله الذي جعل رجوع هذا الأمر إلى أهله وعلى يدك، فاستبشر الإخشيد وأسفر وجهه، ثم التفت ابن عبد الوهاب إلى الخطبي وقال له: اقرأ الذي عملت، قال: ما عملت شيئاً، قال ابن عبد الوهاب: تؤمر مذ خمسة أيام بهذا الأمر فلم تعمل فيه شيئاً؟! فقال الإخشيد: أيش يعمل؟ قال: يحتاج إلى نحو خمس أوراق كلاماً معمولاً في فضل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين وأهل البيت عليهم السلام، ويذكر أنهم أحق بالإمامة، ويقول ذلك والناس يسمعون، فمن كان يشتهي هذا قويت نفسه ومن كرهه انحل. فقال له الإخشيد: اعمله، فقال لي ابن عبد الوهاب: تلحق اليوم؟ (1) فقلت: لا، الجمعة الأخرى؟

_ (1) يشتبه أن يكون من اللغة الدارجة، ومعناه: هل تستطيع أن تنجز ذلك اليوم؟

فقال الإخشيد: الجمعة الأخرى، فانصرفت. فلما كان من الغد دخلت على ابن عبد الوهاب فقال لي قلت له بعدك: إنه رأيي وهواي فيما تعلمه، ولكني أصدقك، تكون أنت من أبرك الناس على ابن رائق، لأنك إذا عملت هذا كاتبه من مصر من يكره هذا، وكتب بذلك إلى العراق، فإن كان الراضي لم يقلده قلده وأنفذ إليه الأموال والعساكر، وصيرت له شيعة وخاصة، ولكن دع هذا إلى وقت آخر. وحدثني عليّ بن يعقوب قال: ورد كتاب الإخشيد من مصر إلى القائم يعرض عليه ابنته لابنه المنصور، فقرأ القائم الكتاب على الناس، فأشاروا عليه أن يجيبه بما يجب، فكتب إليه: وصل كتابك وقد قبلنا ما بذلت، وهي وديعة لنا عندك، قد نحلناها من بيت مالنا قبلك مائة ألف دينار فتوصل ذلك إليها. قال: وإنما ظن الإخشيد أن القائم يكافئه على هذا بهدية يفتخر بها ويتجمل. وفي شعبان وصلت الأخبار بعودة محمد بن رائق إلى الرملة، فتجهز الإخشيد وسار، وراسل ابن رائق فلم يجد فيه حيلة، وعسكرا جميعاً بالعريش، والتقى العسكران فهزمهم محمد بن رائق وملك السواد، واجتمع واطمأن أصحابه. وكان الإخشيد قد عبأ مراكب في البحر ليلحق ببلاد الروم أو بالمغرب ووقف منفرداً في غلمانه. ولما اطمأن محمد بن رائق أقبل الإخشيد في عدته وعديده وكبسهم في الخيم، ومحمد بن رائق ومحمد بن تكين يتحدثان، فملك الإخشيد الرجال وأسر وقتل، وقام محمد بن رائق فأفلت بحشاشة نفسه، وأستأمن محمد بن تكين في جماعة. وكان شادن غلام الإخشيد لما انهزمت عساكر الإخشيد انصرف إلى مصر منهزماً فاضطرب البلد وانتقل أهل العسكر إلى أسفل، وركب أبو المظفر ابن طغج ومحمد بن عليّ الماذرائي يسكنان الناس ويمنعانهم من النقلة. ثم ورد الخبر بظفر الإخشيد بجميع العساكر، وأنفذ الأسرى والرؤوس إلى مصر، وسار الإخشيد في أثره إلى الرملة، وخرج محمد بن رائق يريد دمشق. وليس يعرف للإخشيد وقعة قاتل فيها غير هذه. وكان الأسرى نحو خمسمائة طيف بهم في المحامل على الجمال في أسواق

مصر، ومنهم أربعة رؤساء طيف بهم على بغال بسروج، وكانت الرؤوس بين أيديهم، وزينت الأسواق، ولما انقضت الوقعة سار الإخشيد فنزل غزة. وكان محمد بن رائق قد توجه من الرملة إلى دمشق، فرجع من طريقه وأسرى ليلاً إلى الرملة، فقتل صاحباً للإخشيد وصلبه على شجرة مع رفيق له، ومضى ابن رائق، فأصبح الإخشيد فوجد صاحبيه مقتولين مصلوبين، فقامت عليه القيامة. وحصل محمد بن رائق بدمشق، وعبأ الإخشيد العساكر وعليها أخوه أبو نصر الحسين بن طغج، فأسرى محمد بن رائق في خيل جريدة من دمشق في نحو ثلاثمائة غلام، فوصل إليهم في يومين وليلة، فكبس عسكر الإخشيد وقتل أخاه أبا نصر وأسر جماعة من القواد وسار بهم إلى دمشق وأدخلهم بين يديه، وأخذ أخا الإخشيد فغسله وكفنه وحنطه وحمله في تابوت وأنفذه إلى الإخشيد واعتذر، وأنفذ ابنه مزاحم بن محمد بن رائق وسنه يومئذ سبع عشرة سنة وأنفذ معه طاهر ابن الحسين، وقال له: اقتص. فبلغ ذلك الإخشيد فأرسل برده من الطريق فلم يفعل. ووصل مزاحم بن محمد بن رائق إلى الإخشيد وهو بأرض فلسطين، فأكرمه ورفعه وتزحزح له وسأله الجلوس فلم يفعل فوقف بين يديه وقال: بهذا أمرت. فلما انصرف حمله على فرس له أدهم، بحلية ذهب مخرمة، وأرسل إليه: ليس لقدره أرسلت به إليك، وإنما هو ذهب صامت محرق وما سبقت إليه، وحمل إليه فأكثر، ورده مع ابن طاهر إلى أبيه، وزوج الإخشيد ابنته فاطمة ابنه مزاحم بن محمد بن رائق، وتولى ذلك ابن طاهر وكتب بذلك الكتاب، ونثر محمد بن رائق الدنانير والدراهم. ثم سفر ابن طاهر في الصلح بينهما، وقرر الأمر على أن للإخشيد من الرملة إلى مصر، وما خلفها لمحمد بن رائق، ومال بحمله الإخشيد، وعلى أن يكون عبيد الله بن طغج عند ابن رائق ومزاحم بن محمد بن رائق عند الإخشيد. وسار مزاحم مع ابن طاهر، ولقيهم رسول الإخشيد يقول: إن غلمان أخي عبد الله بكوا ومنعوا منه، فيرجع أبو الفتح مزاحم إلى أن أرسل إلى ابني أونوجور فيكون عندك ويجيء أبو الفتح. ولما فرغ التوسط سار الإخشيد إلى مصر، وخليفته

على الإمارة أبو المظفر، ووزيره محمد بن عليّ الماذرائي، ودخل وبين يديه محمد ابن تكين. وفي هذا الشهر نزه محمد بن عليّ الماذرائي الإخشيد في بستانه ببني وايل وفرش له، وأكثر الطعام والفواكه والطيب والفرش وقام بجميع العسكر. حدثني محمد بن الحسين قال: لما أكل ثم نام ثم انتبه وصلى وكنت قد فرشت في البستان عند البركة، ونصبت بين يديه من الذهب والفضة، والتماثيل من الكافور والعنبر، وجمعت له المغنين من الرجال والنساء قال ما يدل على طيب نفسه، فجعلت بين يديه صينيتين من الفضة، الواحدة مملوءة دنانير والأخرى مملوءة دراهم للنثار، فأخذ صينية الدنانير فتركها خلفه ونثر الدراهم، فلما انصرف حملت جميع ما كان جالساً عليه، وما كان بين يديه، وما شرب وما أكل فيه، فأرسلته خلفه، وحملته على فرسين بسرج ولجام من ذهب، وقدت بين يديه الجنائب، وحملت كاتبه وحجابه وأكثر أصحابه. وورد على الإخشيد الكتاب بوفاة الراضي لسبع خلون من شعبان سنة تسع وعشرين، وجلوس أخيه إبراهيم بن جعفر المتقي فدعا له. وفي شوال ورد كتاب المتقي بإقرار الإخشيد، ثم وردت عليه الخلع من قبله، فركب إلى المسجد الجامع ولبسها ورجع إلى داره بعد أن زينت له الأسواق (1) . ثم ورد الخبر على الإخشيد بقتل محمد بن رائق بنواحي الفرات. وذلك أن وافق الإخشيد على أن تكون له الرملة وما بعدها إلى آخر أعمال مصر، ويحمل إليه مالاً قرره ابن طاهر، ويكون لابن رائق طبرية ودمشق إلى حدود بغداد، واستقر الأمر وكوتب من بغداد وجاءته رسل المتقي بالمسير، فمنعه كاتبه محمد بن عليّ بن

_ (1) يذكر ابن العديم (4: 242) في أحداث سنة 329 ما يلي: وورد في سنة تسع وعشرين نعي أبي علي عبد الله بن طاهر والد مسلم، فلم يتأخر عن تعزيته أحد، وكان الحسن بن طاهر أخوه عليلاً، فكتم ذلك عنه، فركب الإخشيد إلى أبي جعفر مسلم فعزاه، وسقاه الشراب ثم سأل: هل علم أبو محمد الحسن بن طاهر بوفاة أخيه؟ فقالوا: لا، فركب إليه عائداً وعزاه.

مقاتل، فقال: لا تفعل، فقال: ركوبي في الطيار في دجلة وصياح الملاحين أحب إلي من ملك الشام كله. فاستخلف على أعماله ابنه الحسن بن محمد بن رائق وسار، وخرج ولد المتقي لتلقيه، وأرسل إليه أن يعبر له وهو عند بني حمدان، فأشير عليه ألا يفعل، فأبى وقال: لو وقع سوطي ما نظروا إليه. فعبر إلى ابن المتقي وابني حمدان ناصر الدولة وسيف الدولة، فقتلوه وأحدروا ابن المتقي إلى أبيه، واحتزوا رأس محمد بن رائق ورموا جثته في الفرات. ووافى الرسول إلى الإخشيد يبشره بذلك، فأنفذ العساكر إلى الشام عليها كاتبه عليّ بن محمد بن كلا. ولست خلون من شوال سنة ثلاثين سار الإخشيد إلى الشام في عساكره، واستخلف أخاه أبا المظفر ابن طغج. وكان الإخشيد لما قوي أمره ومات الفضل ابن جعفر بالرملة وقتل محمد بن رائق، وتفرغ قلبه، أحب أن يسلك طريقة أحمد ابن طولون وابنه أبي الجيش، فتقدم بأشياء: منها ألا يركب أحد بحلية دقيقة سواه، ولا يلبس أحد خفتان ديباج فضياً محفوراً سواه، ولا يركب أحد برذوناً محفف العرف سواه، ولا يكون في عسكره شيخ، وأن يصبغ الشيوخ لحاهم، فقيل له: يحتاج الصباغ إلى مؤونة، فزاد كل أحد في رزقه من خمسة دنانير وما زاد. ومن حكايات الإخشيد في أول أمره قال: كنت مع أبي منصور تكين بدمشق، وكان الحاج لهم طريق من دمشق أنا عورتها خوفاً أن يأتيني أحد منها بمكيدة، فجهز تكين حاج دمشق وأخرجني على القافلة، وحج في تلك السنة أبو صالح مفلح المقتدري فخدمته، وأكرمته، ووقفت بالناس في عرفات، فلما غربت الشمس دفعنا إلى المزدلفة، فرأيت قبة محمد بن عليّ الماذرائي أعلى قبة، فتقدمت أنا وغلماني وضربنا وجه ناقة محمد بن علي، وقدمت قبة مفلح، فصاح محمد بن عليّ من قبته: من هذا؟ فقالوا: محمد بن طغج، فصاح: يا عاض ابن العاض، فضحكت، فلما وصلنا إلى المزدلفة شكر مفلح فعلي، وأرسل إلي منديلاً مختوماً فيه عشرة دنانير وزنها ألف دينار، وقال يسرني بقبولها فهي مما زودني مولاي أمير المؤمنين، فأخذته، وخدمته بمنى ومكة إلى أن سار إلى العراق، فكان ذلك في نفس محمد بن عليّ يحقده.

وأمر الإخشيد في وقت من الأوقات بهدم المواخير ودور المقامرين والقبض عليهم، وأدخل عليه جماعة من المقامرين وعرضوا عليه، وفيهم شيخ له هيئة، فقال: هذا الشيخ مقامر؟ فقالوا: هذا يقال له المطمع، فقال الإخشيد: وأيش المطمع؟ فقالوا: هو سبب عمارة دار القمار، وذلك أن الواحد إذا قمر ما معه قال له: فالعب على ردائك فلعلك تغلب، فإذا ذهب رداؤه قال له: العب على قميصك حتى تغلب به، كل شيء حتى يبلغ نعليه، وربما اقترض له. ولهذا الشيخ جراية يأخذها على هذا كل يوم من متقبل دار القمار، فضحك الإخشيد وقال: يا شيخ تب إلى الله وحده من هذا، فتاب، وأمر له الإخشيد بثوب ورداء وألف درهم وقال: يجرى عليه في كل شهر عشرة دنانير، فانصرف الشيخ شاكراً داعياً، فقال: ردوه وقال: خذوا ما أعطيناه وابطحوه، فضربه ستمائة عصا، ثم قال: خلوه، أين هذا من تطميعك؟!. وكلن بمصر رجل يعرف بأبي القاسم عمرو بن نافع، وكان به وضح وكان معدلاً عند الشهود، وكان له ولد يكنى أبا جعفر يتفقه للشافعي حافظاً للمذهب، وكان قد خرج إلى العراق فأقام سنين، ثم إنه عاد إلى الشام، فحدثني عليّ ابن محمد الصوري الفقيه قال، قال لي أبو جعفر ابن عمرو بن نافع: قصدت أبا عليّ وتقربت بجوارنا منه، فأدخلني إلى الإخشيد بدمشق وعرفه بي ووصفني له، فقال لي الإخشيد: أبوك الأبرص؟ قلت: نعم. فقال: لمن تتفقه؟ قلت: للشافعي، فقال أيش معنى قول المزني: اختصرت هذا من قول الشافعي ومن معنى قوله؟ قال أبو جعفر: وكانت هذه صنعتي، فقلت: المعنى كذا وكذا، وصرت في الكلام فولاني مظالم السواحل. وكان الإخشيد على تشبه بأحمد بن طولون في أحواله: كان ابن طولون إذا راح إلى الجامع العتيق يوم الجمعة يبعد الناس عن المقصورة، فعمل الإخشيد كذلك. وكان أكثر صلاته في جامع أحمد بن طولون إلا في رجب وشعبان وشهر رمضان.

وحدثني محسن قال، سمعت كافوراً يقول: ركب الإخشيد ثم قال لي: ارجع فقل لهم يصلحون المائدة، ويكون أول ما يقدمونه حماضية، قال كافور: فجئت إلى صاحب المائدة فقلت له: أول ما تقدم حماضية، فقال: والله ما أصلحت حماضية، فقلت: إنا لله عز وجل، فقال: كم عليك وأصلح لك الساعة حماضية؟ قال [قلت] : مائة دينار. قال: فاجمع لي كل أترج عندك، فجمعناه واستخرج الحماض فألقاه في الحصرمية، وطرح فيها ماء الورد والمسك والأفاوية، فلما جاء الإخشيد قدمتها إليه، فأكل منها وأكثر وقال: طيبة والله، فقلت: هي والله تقوم عليّ مائة دينار فقال: كيف؟ فحدثته فقال: إيتوني بالطباخ، فقال: تأخذ من غلامي مائة دينار، ردها فردها، فأعطاها غلاماً وقال له: ادفعها إلى الطرائفي الذي يطالبنا، قال: فقلت للإخشيد: فأنت أخذت المائة. وحدثني يحيى بن مكي بن رجاء المعدل قال: كنت أنا وأبو الحسين ابن إسحاق مع القاضي الحسن بن أبي زرعة، وكان معنا جماعة من الشهود إلى الإخشيد، وحضر صدقة بن الحسن متولي دار الضرب، ومعه دنانير وسبيكة، وأحضر السباكين ليقوموا عيار الدنانير بحضرة الإخشيد، وأوقدوا النار، وجاء صدقة بخمسين ديناراً لتسبك بحضرته، فقال له الإخشيد: كم معك؟ فقال: خمسون ديناراً، فقال: هاتها وأخرج منها عشرة دنانير فقال: اسبكوا، فسبكت وأعتدل العيار. فقال: يكون العيار على هذا، ورد العيار إلى عليّ بن إسحاق المعدل، وسلم إليه السكك وانصرف. قال ابن رجاء: فاجتمعت مع صدقة بعد أيام فقلت: أربعون التي عدلها ولم يسبكها ردها إليك؟ قال: أيش يرد؟ أخذها وانصرفت وغرمتها لأصحابها. وكان يصون مجلسه أن يجري فيه لغط أو قبيح. ولقد تنازع أبو بكر ابن الحداد الفقيه وأبو الذكر محمد القاضي المالكي وعبد الله بن الوليد، وجرى بينهم لغط كثير. فلما انصرفوا قال: يجري هذا في مجلسي؟! كدت والله أن آمر بأخذ عمائمهم. وكان يكره سفك الدماء، ولقد شرع في الخروج إلى الشام في آخر سفراته

وسار العسكر، وكان نازلاً في بستانه في موضع القاهرة اليوم، فركب للمسير، فساعة خرج من باب البستان اعترضه شيخ يعرف بمسعود الصابوني يتظلم إليه، فنظر له فتطير به وقال: خذوه ابطحوه، فبطح فضرب خمس عشرة مقرعة وهو ساكت. فقال الإخشيد: هو ذا يتشاطر، فقال له كافور: قد مات، فانزعج، واستثقل سفره، وعاد إلى بستانه، وأحضر أهله واستحلهم وأطلق لهم ثلاثمائة دينار، وحمل الرجل إلى منزله ميتاً، وكانت له جنازة عظيمة. وكان قد سار إليه سبعة أمراء لأخذ أعماله، فأما أولهم فرجل يعرف بالعدل، وبلغ إلى دمشق فراسله وأرضاه فصار في جملته، والثاني بدر الخرشني راسله وولاه دمشق فصار في جملته، والثالث الحسين بن أبي العلاء بن حمدان فبلغ إلى حمص ومد يده إلى أموال الإخشيد وأخيه عبيد الله فراسله الإخشيد وأرضاه وانصرف عنه، والرابع تكين الخادم فراسله وقلده فصار في جملته، والخامس ابن رائق وقد شرحنا قصته، والسادس عي بن حمدان سيف الدولة، ونحن نذكر قصته فيما بعد إن شاء الله، والسابع يانس المؤنسي راسله وأرضاه. وحدثني بعض الإخشيدية قال: لما زاد أمر محمد بن رائق على الإخشيد وطلب منه الأموال وإلا قاتله، اشتغل قلبه وقال: ابني يطلب مني مالاً حتى يكف شره عني؟! وامتنع من الطعام يومين، فدخل عليه محمد بن الخازن فقال له: من أين؟ قال: جئت من عند أبي سهل ابن يونس الرجل الصالح، فسألته الدعاء لمولاي الإخشيد، وشكوت إليه غمي وغم أهل الدولة بشغل قلبه، وأنه قد امتنع من الطعام لما التمسه منه محمد بن رائق فقال (1) : ومن الإخشيد حتى لا تبذل في صيانته الأموال؟! أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعطي المؤلفة قلوبهم ويجعل لهم سهماً في الصدقات حتى يكفوا أذاهم، فما له برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟! فقال: كيف؟ فأعدت عليه الكلام فقال: هاتوا المائدة، وأرسلوا خلف محمد بن الحسين ابن طاهر يخرج إلى ابن رائق ويرضيه.

_ (1) القائل هو ابن يونس الرجل الصالح.

وحدثني عبد الوهاب بن سعيد الكاتب قال: حدثني أبو الحسين ابن العجمي قال: كنت ببغداد أخلف الإخشيد وأنوب عنه، وكان ابن مقلة الوزير مصروفاً، فأرسل إلي فجئته، فقال لي: يا أبا الحسين أنا في فاقة فأحب أن تكتب إلى صاحبك يرسل إلي بنفقة، فقلت له: عندي هاهنا ألف دينار أحملها الساعة، فقال: أحسن الله جزاءك. ترسلها إلى الباب الآخر تسلم إلى فلانة الخازنه، فحملتها، وكتبت إلى الإخشيد أعرفه، فأنفذ إلي سفاتج بثلاثين ألف دينار، فأخبرته فشكر وصححتها له واستأذنته في حملها فقال: أخرج منها ألفين وأحمل الباقي. وكتب إلى الإخشيد كتاباً يشكره يقول في أوله: كتابي إلى الإخشيد، أطال الله بقاءه، وساق سائر الكتاب بالشكر والثناء والدعاء بالمكافأة، فحسن موقع ذلك من الإخشيد. وكان الإخشيد ذا سياسة ومدافعة، ولقد انهدمت قطعة من كنيسة أبي شنودة في سنة ست وعشرين، فبذل له النصارى مالاً ليطلق عمارتها، فقال: خذوا فتيا الفقهاء. فأما ابن الحداد فأفتى بألا تعمر، وبذلك أفتى أصحاب مالك، وأفتى محمد بن عليّ بأن لهم أن يرموها ويعمروها، واشتهر ذلك عنه فحملت الرعية إلى داره النار وأرادوا قتله، فاستتر وندم على فتياه، وشغبت الرعية وأغلقت الدروب وأحاطت بالكنيسة، فبلغ الإخشيد ذلك فاغتاظ، وأرسل بوجوه غلمانه كافور ومنجح وشادن في عسكر كبير وقال لهم، لا تجاوزوا مسجد عبد الله، فبلغوا مسجد عبد الله، وزحفت إليهم الرعية ورموهم بالحجارة، فأرسلوا يخبرون الإخشيد فأرسل إليهم ارجعوا. ثم دعا بأبي بكر ابن الحداد الفقيه وقال له: اركب إلى الكنيسة فإن كانت تبقى فاتركها على حالها، وإن كانت مخوفة فاهدمها إلى لعنة الله. فسمعت أبا بكر ابن الحداد يقول: أخذت معي عليّ بن عبد الله البواش المهندس وركبت إلى الكنيسة فما تركت من كل درب، فلم أزل أرفق وأعلمهم أني معهم، ففتحوا إلي فجئت إلى الكنيسة وأمرت بإخراج جميع من فيها من النصارى، ودخلت ومعي ابن البواش وأغلقت عليّ وعليه وجئت به إلى المذبح فقلت له: هذا الموضع الذي قال الله تعالى فيه {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولدا} فخذ بيدك شمعة وأدخل

معك فعرفني، فطاف وعاد إلي وقال لي: تبقى كذا خمس عشرة سنة، ثم يسقط منها موضع، ثم تقيم إلى تمام أربعين سنة ويسقط جميعها، فانصرفت إلى الإخشيد وعرفته، فتركها ولم يعمرها. وكان أمرها كما قال ابن البواش المهندس، فعمرت سنة ست وستين قبل تمام أربعين سنة ولو تركت سقطت. وكان محمد بن تكين قد أكرمه الإخشيد وكان يؤاكله، وولاه طبرية، فلما ورد محمد بن رائق إلى الشام صار معه، فلما كانت وقعة العريش وانهزم محمد ابن رائق استأمن محمد بن تكين للإخشيد فلم يؤاخذه ولم يزل يكرمه. وكان بمصر أبو القاسم سعيد المعروف بقاضي البقر، وكان من شعراء أبي الجيش ابن طولون، وكان في آخر عشر التسعين، وكان يبيت عند الإخشيد يحادثه ويسامره وكان مليح الحديث. وكان يصف أخلاق الإخشيد وإمساكه، ومما تحدث عنه أنه قال: قدم بين يديه في الليل طبق فاكهة، فتناولت باقلاءة فقبلتها ووضعتها في جيبي وقلت له: جعل الله عمر الإخشيد فوق كل عمر أغناني وأنسى الناس تكرم البرامكة، قال: فتبسم وعلم أني قد هزلت عليه. فتأخرت عنه يوماً فقال لي: لك يومان لم أرك فيهما، فقلت: كان حماري غامزاً، فقال: ما كنت تكتري حماراً بقيراطين من دار الحرم؟! وقال لي ليلة: أيش أكلت اليوم؟ فقلت: شواء من السوق فقال: إياك شواء دار فرح فإنه يباع نياً وأزيدك فأحذره، إنهم يقطعون الماعز ويجعلونه في جوفه. قال سعيد: واعتللت مرة وكان الشتاء شديداً، ثم وجدت خفاً فركبت إليه عشاءً وعلي قميص وجبتان وعمامة وسراويل وخفتان، فلما دخلت عليه رحب بي وقال: صح الجسم؟ قد كنت أرسل أفتقدك، فقلت: قد كان رسل سيدي الإخشيد يجوني. فقال: حدثني بحديث صغير، فقلت: أيد الله الإخشيد ما في نفس، فقال: صغير بطول الإصبع، فقلت: نعم أيها الإخشيد، بلغني أنه كان باليمن ملك يقال له ذو الكلاع، وكان الناس يسجدون له، فحكي عن رجل أنه قال: دخلت اليمن فرأيت الناس سجوداً فقلت: ما الخبر؟ قالوا: الملك ذو الكلاع أخرج اليوم يده فسجد له ثمانون ألف جنين ومن الله عليهم بالإسلام، ولم يلق

رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بايع أبا بكر وبايع عمر وبايع عثمان وحضر وقعة صفين، وكان مع معاوية فقتل، فحكى بعض من حضر الوقعة أنه قال: نزلت علينا ريح في الليل فقطعت الحبال وقلعت الأوتاد، فمددت يدي، وقد طاح وتد خيمتي، فشددت الحبل في رجل قتيل فلما أسفر الصبح إذا بها رجل ذي الكلاع. فتعجب الإخشيد وقال: ما أعجبه من خبر! ! ثم نهضت، وكان الإخشيد في علو، فقام فمشى معي واتكأ على درابن القاعة، ونزلت في الظلام من الدرج، فلما صرت في القاعة سقطت في البركة، فصاح الإخشيد: يا كافور، يا منجح، يا جانك، يا شادن (وجوه غلمانه) فرموا أنفسهم خلفي وأخرجوني، والإخشيد يقول: ويلكم مات؟ فقالوا: هو مسترج. فصاح يا أبا القاسم، قلت: لبيك، فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من عند ذي الكلاع، فضحك وقال: الساعة تم الخبر، فقال قاضي البقر: ليت الله لم يسرك بتمامه. ثم صعدوا بي ونزعوا ثيابي وألقوا عليّ ثياباً، وانصرفت إلى منزلي وانتكست في العلة. وحدثني مزاحم بن رائق قال: استعمل لي فرو قام عليّ بستمائة درهم، فمن حسنه وفرحي به لبسته بدمشق وركبت إلى الإخشيد، فلما رآه قلبه واستحسنه وقال: ما رأيت مثله قط، فلم تسمح نفسي بأن أنزعه للوقت. فلما انصرف اعترضني جانك وقال لي: اجلس فإن الإخشيد يريد أن يخلع عليك، وجاءوا برزمة وقالوا: اخلع الفرو، وطووه ومضوا به، وبقيت جالساً ثم قالوا: قد نام، تعود إليه العشية، فانصرفت إلى داري وقلت: هاتوا الفرو، فقالوا: أيما فرو؟ ما جاءنا شيء. فلما كان عشية دخلت على الإخشيد فإذا الفرو عليه، فلما رآني ضحك وقال: كيف رأيت؟ ما أصفق وجهك، ولكنك ابن أبيك، وكم عرضت لك وأنت لا تستحي، فلم تفعل، حتى أخذناه بلا شكر ولا منة. قال: وكان الإخشيد يحب الصالحين ويركب إليهم ويأخذ دعاءهم. وحدثني مسلم بن عبيد الله الحسني قال: وصفت للإخشيد رجلاً صالحاً بالقرافة يعرف بابن المسيب، فركب معي إليه وسأله الدعاء، ثم انصرف فقال لي: تعال أريك أنا أيضاً رجلاً صالحاً فمضيت معه إلى أبي سهل ابن يونس، فرأيت شيخاً أديباً جالساً

على حصر سامان مبطن، فقام فتلقى الإخشيد وأقعده على الحصير، ثم قال له: يا أبا سهل أقرأ عليّ فإن الريح آذتني الساعة في الصحراء، فأدخل يده تحت الحصير فأخرج منه منديلاً نظيفاً مطوياً فغطاه على يده وقرأ عليه، فلما انصرف الإخشيد قال لي: ما رأيت أطرف من هذا، لم يقابل وجهي بيده حتى غطاها، وليتك شممت المنديل مبخراً بالند، أفتراه علم أني أسأله فعبأه؟! هذا نظيف ظريف طبعاً. وكان لا يتأخر عن الجمعة في الجامع العتيق في رجب وشعبان وشهر رمضان، ويركب ليلة الختم إلى الجامع ويحضر الختم والدعاء. والإخشيد أول من رأينا في موكبه بالليل الشمع على البغال، والفراش راكب، وعلى البغل شمعة من خلف الفراش، يلتفت كل ساعة يصلح الشمعة. ووقع للإخشيد أمر عجيب، وذلك أن رجلاً من أهل العراق صعد فوق زمزم بمكة وصاح: معاشر الناس، أنا رجل غريب، ورأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: سر إلى مصر والق محمد بن طغج وقل له عني يطلق محمد بن عليّ الماذرائي فقد أضر بولدي. ثم سارت القافلة إلى مصر وسار الرجل ووصل إلى مصر وبلغ الإخشيد خبره. فأحضره وقال: أيش رأيت؟ فأخبره فقال: كم أنفقت في مسيرك إلى مصر؟ قال: مائة دينار، فقال: هذه مائة دينار من عندي وعد إلى مكة ونم في الموضع الذي رأيت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيته فقل لرسول الله: قد أديت رسالتك إلى محمد بن طغج فقال: بقي لي عنده كذا وكذا، وذكر شيئاً كثيراً، فإذا دفعه إلي أطلقه، فقال له الرجل: ليس في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هزل، وأنا أخرج إلى المدينة وأنفق من مالي، وأسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله واقف بين يديه يقظان بغير منام وأقول له: يا رسول الله أديت رسالتك إلى محمد بن طغج فقال لي: كذا وكذا، وقام الرجل، فأمسكه وقال: حصلنا في الجد، إنما ظننا بك ظناً والآن فما تبرح حتى أطلقه، فأرسل إليه الإخشيد من توسط أمره وأطلقه. وكان الإخشيد بالشام وبلغه خبر أحمد بن الحسين المتنبي الشاعر، فقال جيئوني به فأحضروه إليه وأكرمه وقال: أنشدني قصيدتك الدالية في ابن

الفصيصي (1) فأنشده حتى بلغ إلى قوله: فلما جئته أعلى محلي ... وأجلسني على السبع الشداد تبسم قبل تسليمي عليه ... وألقى كيسه قبل الوساد فقال الإخشيد للغلمان: بللتم الخيش؟ وقام ولم يجلس له حتى يفرغ. وحدثني بعض غلمانه قال: كانت الهدايا تأتيه في الأعياد والنوروز والمهرجان، وكان قد اشتهر عنه محبة العنبر، وكان أكثر ما يهدى إليه، فكان إذا جاءت هذه الأوقات التي يهدى إليه فيها أخرج من خزانته العنبر إلى التجار فيشتريه الذين يهدونه إليه، فيحصل له الثمن الوافر ثم يعود العنبر. أقام سنين كثيرة يعمل هذا وقيل إنه اجتمع عنده قناطير. واحترق في سنة ثلاث وأربعين في دار أبي الفضل بعقبة ابن فليح لجاريته أم أولاده عنبر كثير، كان يشم على بعد، وكنت أسمع الناس يقولون: احترق لهم في دار أبي الفضل عنبر وأسفاط وأعدال وصيني ما مبلغه مائة ألف دينار. وكان الإخشيد حسن التأمل والنظر: حدثني أبو الفرج البالسي الطبيب قال: اشتهى الإخشيد بقرية فعملت له، وكان رسمي إذا قدمت المائدة إليه أن أقف في طريق الطعام فأشرف على كل لون يقدم فأرد ما أرى رده، وأصلح ما أراه أرسل إليه، فجاءوا ذلك اليوم بالبقرية فكشفتها وأزلت منها ما يصلح إزالته، فأخذها كافور بيده وأدخلها إليه، ولم يكن رسمه أن يحمل طعاماً، فلما خرج قلت له: ما يزيدك الله بهذا إلا رفعة، فقال لي: كانت شهوة مولاي لها قوية فأحببت أن أدخل أنا بها. فلما رفعت المائدة دخلت إليه، وسألته عن أكله، فقال لي: كانت البقرية طيبة وأكلتها شهوة، فأيش أعجب ما كان فيها؟ فقلت: يقول الإخشيد أيده الله، قال: حمل كافور لها، وحياتك يا أبا الفرج لا جلس في هذا المجلس غيره، ولا أخذ هذا المال سواه. وحدثني محمد بن الحسين المكفوف المفسر قال، قال لي الإخشيد: رأيت

_ (1) ممدوح المتنبي هو علي بن إبراهيم التنوخي.

في المنام كأني سلمت إلى غلام من غلماني الكبار شيئاً فلم يقم به، ثم نقلته إلى غيره فلم يقم به حتى سلمته إلى جماعة منهم، ثم سلمته إلى كافور، وانتبهت وهو في يده، فقلت له: هذا الملك يعود إلى كافور ويقوم به، فضحك وعجب. فلما نهضت أخذ بيدي غلام، فلما خرجت قال لي الغلام: رأيت مولاي يخاطبك، وينظر إلي ويضحك، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا كافور، فقلت له: أبقى الله عزك، إن هذا الملك ستملكه واذكرني، قال: وهذا المقام كان سبب وصوله إلى ما وصل إليه ووصية الإخشيد له. وكان الإخشيد إذا توفي قائد من قواده أو كاتب، تعرض ورثته وأخذ منهم وصادرهم وكذلك كان يفعل مع التجار المياسير. وقال أبو بكر بن محمد بن عليّ الماذرائي: أخذ مني الإخشيد مالاً عيناً وضياعاً وعروضاً ما مبلغه ثلاثة وثلاثون إردباً دنانير. (وعدد صاحب الكتاب جماعة كثيرة صادرهم وأخذ منهم أموالاً عظيمة) . قال: واستخرج من مصر في إحدى عشرة سنة اثنين وعشرين ألف [ألف] دينار، لأنه كان يعقد الخراج بمصر ألفي ألف دينار في كل سنة خراجاً، سوى خراج الرملة وطبرية ودمشق والسواحل، وسوى ضياعه التي كانت ملكاً له. وكان الإخشيد يقول: المصادرة مشؤومة وأنا مضطر إليها، وما أنفقتها قط إلا في سفر إلى عدو. وكانت أيام الإخشيد إحدى عشرة سنة، سافر فيها خمس سفرات إلى أعداء يقاتلهم فالأولى حين بلغه مسير محمد بن رائق فتجهز إلى الفرما واصطلحا، والثانية لما نقض ابن رائق الصلح والموافقة، فسار إليه والتقيا بالعريش وآل الأمر إلى أن هزم الإخشيد وكان الظفر له، والثالثة لما بلغ الإخشيد قتل محمد ابن رائق سار إلى دمشق في عديده وتمكن وقرر، ثم عاد إلى مصر، والرابعة حين ورد عليه كتاب المتقي بالمسير إليه، والخامسة لما سار إليه سيف الدولة ابن حمدان فسار إليه واقتتلا بفنسرين، واستظهر الإخشيد ثم اصطلحا وتصاهرا وتقاربا، وعاد الإخشيد إلى دمشق فأقام بها سنة واحدة وتوفي. وكان الغالب على الإخشيد رقة الوجه والحياء، وكان إذا صادر أحداً لم يعذبه ولم يضربه ولم يضيق عليه ولم يره حتى تنقضي المصادرة، ثم يؤانسه

ويصطفيه. وكان يحب قراءة القرآن ويبكي عند سماعها. وحدثني بعض الإخشيدية قال: استتر سهل بن محمد الكاتب البغدادي، فطلبه الإخشيد طلباً شديداً، فعرف أنه عند أبي إبراهيم الرسي العلوي، فأرسل إليه فخرج إلى الرسل وصاح عليهم، فعادوا إلى الإخشيد فأخبروه، فقال لمنجح غلامه: أركب في مائة فارس واكسر دار أبي إبراهيم الرسي وخذ سهلاً الكاتب. فركب منجح، وبلغ أبا إبراهيم فأغلق بابه، ولبس الدرع وتقلد السيف وأخذ الدرقة، وفتح الباب وقال لمنجح: تقدم فوالله لا طمعت في الدخول أو أقتل، فأرسل إلى الإخشيد فأخبره، فأرسل الإخشيد إلى منجح: انصرف، ثم أرسل إلى أبي إبراهيم، اركب، فركب فلما دخل على الإخشيد قال: يا أبا إبراهيم الحرب؟ قال: نعم، قال محمد: فبحقي عليك سهل عندك؟ قال: نعم، قال: فهو آمن وهذا خاتمي وأماني، والساعة ازدادت رغبتي فيك ياشريف، قم وأحضر سهلاً آمناً. وعجب الإخشيد من فعله. وحدثني بعض الكتاب قال: (1) : كان محمد بن رائق لما سار لقتال الإخشيد راسله الإخشيد بالحسن بن طاهر الحسيني، وكانت كتب الحسن بن طاهر ترد من الشام إلى أخيه الحسين بن طاهر شقيقه، وكان ينوب عنه ويوقف الإخشيد على ما يرد عليه، ويوقفه على كتبه، وكان إذا كتب إلى الإخشيد كتب مع الطائر، ويكتب كثيراً إلى أخيه الحسين. قال الحسين (2) : فورد إلي (3) كتاب أخي الحسن بن طاهر من الشام يسأل فيه الإخشيد أن يعفيه من ضمان بلبيس وفاقوس فإنه قد عجز عنهما (4) لقلة فائدتهما وكثرة غشيان البوادي لهما، ولم تكن هاتان الضيعتان في يد أخي، فحملت الكتاب إلى الإخشيد (5) وقرأته عليه، فقال: هاتوا كاتب (6) ديوان

_ (1) هذه الفقرة في بغية الطلب 4: 242. (2) البغية: فقال أبو عبد الله الحسين بن طاهر. (3) البغية: علي. (4) البغية: فإني قد عجزت عنهما. (5) البغية: فحملت الكتاب وجئت به الإخشيد. (6) البغية: فقال: هاتوا حديد بن الحصان يعني كاتب ديوان الخراج.

الخراج فقال: في يد أبي محمد الحسن بن طاهر ضمان فاقوس وبلبيس؟ قال: لا، فأطرق ثم قال: ما قصر أبو محمد فيما قاله، عزم محمد بن رائق يجيئنا على غفلة إلى مصر، فأشار أبو محمد بحفظ فاقوس وبلبيس، يخرج الساعة إلى فاقوس ثلاثة آلاف فارس وراجل وإلى بلبيس مثلها وتزاح عللهم (1) ويكونون على غاية اليقظة ولا ينامون الليل ويحفظون (2) هذه المواضع. قال الحسين بن طاهر: فعجبت من فطنته، وكتبت إلى أخي: قد أعفاك من ضمان فاقوس وبلبيس وضمنهما من يقدر عليهما، لأن الحسن بن طاهر كان يتقي محمد بن رائق أن تقع كتبه في يده، لأنها (3) وقعت في يده مرة، فحدثني سليمان بن الحسين (4) بن طاهر قال: أرسل محمد بن رائق إلى أبي، فركب وأخذني معه، فدخل عليه وهو مقطب، فلما جلس لم يكن منه إليه الانبساط الذي يعرفه، فقال: أيش خبر الأمير؟ فقال: قد وقعت في أيدينا كتبك إلى محمد بن طغج، قال: مع من؟ قال: مع صاحبك المعروف بالزطي، فقال: سبحان الله ما أصاب الأمير الدين ولا السياسة، فأما الدين فنهى جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلع أحد في كتاب أخيه بغير إذنه، والسياسة انخراق الهيبة، أفليس يعلم الأمير أني جئته من قبل محمد بن طغج؟ أفلي بد من مكاتبته وتعظيم أمره في عينيه (5) ، وأن أطلعه على ما يحتاج إليه؟ هذه رسل الأرض، فأيش يعمل (6) الأمير في رسل السماء؟ قد والله كتبت (7) مع الطائر أكثر من هذا وأستودع الأمير، ما يراني بعدها، فأخذ بذيله وما زال يرفق به ويترضاه ويقول له: أنت أولى من احتمل. وكان شريفاً قوي النفس جريئاً في خطابه، وأكثر نعمته اكتسبها في هذه الوساطة بين هذين الرجلين. وحدثني الأصبهاني صاحب محمد بن رائق قال: لما استقرت الرسالة على

_ (1) في المغرب: عليهم، وهو خطأ، والتصحيح من البغية. (2) المغرب: ولا يناموا ... ويحفظوا. (3) البغية: فإنها. (4) البغية: الحسن. (5) المغرب: غيبته. (6) البغية: يقول. (7) المغرب: كتب.

أن ينصرف ابن رائق من الرملة فما وراءها، قال محمد بن عليّ بن مقاتل كاتب محمد بن رائق وصاحبه للحسن بن طاهر: يا أبا محمد نحن على الانصراف، فاذكر جميع ما تحتاج إليه، فإن الإخشيد إذا وصل إلى الرملة أمضى ما يعمله لك فسأله في إسقاط ما عليه من الخراج، فأمضى ذلك، وكتب إليه بإقطاع وأرزاق له ولحاشيته مبلغ الجميع خمسة عشر ألف دينار سوى ما تقدم. وحدثني محمد بن الحسين قال: كان الإخشيد بعد وقعة العريش قد عظم أمره، فحدثني أبو الحسن ابن جابر كاتب عبيد الله بن طغج قال: كتب صاحبي عبيد الله إلى أخيه الإخشيد من الرملة يستأذنه في المسير إليه لزيارته شوقاً إليه، فأذن له، فلما قرب دعاني الإخشيد فقال لي: قد قرب أبو الحسين، وقد عزمت على الخروج لتلقيه فأيش تعمل؟ اكسر عزمه وقل له إنك ليس تلقى محمد ابن طغج، إنما تلقى أحمد بن طولون وبالله لئن لم يترجل لي لأضربن عنقك. فسرت فلقيته بفاقوس، فقلت له: الإخشيد خارج يتلقاك، قال: على أي شيء؟ قلت: تترجل له، قال: ما يسومني أخي هذا، قلت له: إنه قال لي: قل له: إنما تلقى أحمد بن طولون، وقد أوعدني بضرب العنق إن لم تترجل له، وأنا سائر إلى الشام. فقال: أفعل. فلما وصلنا إلى المنية أقبلت عساكر الإخشيد، فقلت له: انزل، قال: حتى يراني، فقلت: خبرك عنده، فنزل نحواً من ثلاثمائة ذراع، فلما رآه الإخشيد قال: أركب يا أبا الحسين، وحمله على خمسة أفراس بسروج طاهرية وزاد في إكرامه. وحدثني محمد بن الحسين قال: انصرف الإخشيد من وقعة العريش بعد هزيمة ابن رائق منه وإنفاذه إلى مصر بالأسارى والرؤوس، وخليفته على مصر يومئذ أخوه أبو المظفر ووزيره محمد بن عليّ الماذرائي، فلما قرب من المنية قال للحسين بن محمد الماذرائي: أرى هيضة قد أقبلوا وأحسب الشيخ فيهم، يعني أباه محمد بن علي، فسر إليه يا أبا عليّ وأسرع وبادر، قال الحسين، فعلمت ما في نفسه، فأسرعت إلى أبي وسلمت عليه وقلت له: هذا الإخشيد قد قرب منك وقد رآك، فأخرج رجلك من الركاب فهو يرضى منك بها، فصاح عليّ وقال: اذهب

والله لا فعلت هذا، ولم أجد فيه حيلة، فقرب الإخشيد ولقيه محمد بن عليّ ولم يترجل له، وعانقه ولم ينبسط الإخشيد، وصاح الإخشيد: هاتوا أبو بكر الكاتب، يعني كاتبه ابن كلا، فسايره وأقبل عليه يحادثه، وبقي محمد بن علي، فقال محمد ابن عليّ لغلمانه: أخرجوني من زحمة الموكب فأخرجوه وسار فرآه الإخشيد وقال لابنه: يا أبا عليّ أين يمضي الشيخ؟ قال: خوف زحمة الموكب، فقال: ردوه، وسايره وعلم أن ذهاب محمد بن عليّ عنه هجنة. قال: ولما قيل لمحمد بن عليّ في الترجل قال: ذهاب المال أهون عليّ من هذا. فلما وصل الإخشيد إلى مصر أقام أياماً وقبض على محمد بن عليّ وابنه. وكان الإخشيد أزرق بطيناً مشهوراً بالعين، وكان قد تمكن وتشبه بابن طولون، وقصده أمراء بغداد وقوادهم وكتابها وأولاد الوزراء، وأجرى الأرزاق. وهو أول من أقام الراتب، ونكب عماله وكتابه مراراً. وكان الإخشيد لما قتل محمد بن رائق وسار إلى دمشق وخلا وجهه واستخلف على أعماله، عاد إلى مصر في سنة إحدى وثلاثين، وبلغه ما كان يعمل بجكم بالعراق من النظر في المظالم والجلوس للناس، فجلس بنفسه كل يوم أربعاء. وكان مكرماً للصالحين، ودخل إليه محمد بن أحمد الدينوري منكراً لأمور فأزالها. وحدثني بعض الشيوخ أنه أفطر ليلة تسع وعشرين ولحقه كسل عن حضور الختم، فقالت له جاريته: تأخر وأنا أعتق عنك غداً عشرة رقاب، فقال: أعشرة رقاب ويحك؟! لعله يكون في هذه الليلة رجل صالح له عند الله منزلة، فيقول في دعائه: اللهم أغفر لجماعتنا، فعسى أن أدخل فيهم، هاتوا ثيابي، فلبس وركب ونزل إلى الجامع العتيق وحضر الصلاة والختم. وحدثني بعض أهل مصر قال: كنت بالرملة وهو يسير في أحد شوارعها حتى صاحت به امرأة من فوق سطح: أيها الأمير قف علي، بوقوفك بين يدي الله، فرفع وجهه وبادر فنزل عن دابته واتكأ على سيفه وقال: هاتوا المرأة، فوجدها قد

سقطت خوفاً فأحضرت: فقال: ما شأنك؟ فقالت: ابني صبي أمرد غيب عني، فأمر بإحضاره فأحضر، فدعا بصرة فيها مائة دينار فرمى بها إليها وقال: خذي ابنك وهذه الصرة فعسى الله أن يرحم ذل موقفي بين يديه. ثم لم يزل الإخشيد بقية سنة إحدى وثلاثين يدبر أمر مصر مطمئن القلب قد استراح من أعدائه، ثم ورد عليه خبر بمسير عسكر من الشرق فأمر بمضاربة فأخرجت، فاجتمع إليه أهل مصر فسألوه المقام فلم بفعل، ثم تراخى، فورد عليه الخبر في شعبان سنة اثنتين وثلاثين بمسير عسكر بعد عسكر، وكان قد أطلق محمد ابن عليّ الماذرائي وصرفه إلى منزله. ثم قدم صالح بن نافع من الشام فحرض الإخشيد على المسير، فقبض على محمد بن عليّ ورده إلى الاعتقال، وقبض على كاتبه ابن كلا وعلى جماعة معه وصادرهم، وحمل معهم محمد بن عليّ وابن كلا واستخلف ابنه أونوجور على مصر، واستخلف له عمه الحسن بن طغج وكان يدعى للمتقي، ثم للإخشيد ثم لأونوجور، ثم لأبي المظفر الحسن بن طغج. ولما ورد عليه كتاب المتقي بأنه سائر إليه، سار إليه الإخشيد وبلغ الرقة، فأراد منه المتقي أن يعبر إليه فلم يفعل خوفاً مما جرى على محمد بن رائق حين عبر إلى ابن المتقي وصنع ابن حمدان ما صنع، فعبر المتقي إلى الإخشيد والتقيا بالرقة، وحمل إليه الإخشيد من العين والورق والكسوة والجوهر والطيب والفرش والكراع والبغال ما مبلغه مائتان وخمسون ألف دينار، وحمل إلى خواصه، ولم يدع أحداً إلا حمل إليه. وكان الإخشيد لما لقي المتقي ترجل عن بعد وهو بسيفه ومنطقته وجعبته على سبيل الخدمة وقبل الأرض مراراً، ثم تقدم فقبل يده، فصاح به محمد بن خاقان: اركب يا محمد، ثم صاح: أركب يا أبا بكر، فقيل: إن المتقي قال لابن خاقان: كنه، فكناه للوقت. ثم كان الإخشيد يقف بين يديه على سيفه، وإذا ركب حجبه وجعل مقرعته على كتفه، لأنه لم يخدم خليفة قط غيره، وافتخر بذلك وأعجبه. ثم قال للإخشيد: قد وليتك أعمالك ثلاثين سنة فاستخلف لك أونوجور، وقيل إنه كناه أبا القاسم، فقبل الأرض مراراً. وأهدى إليه الإخشيد

هدية أخرى مكافأة على ما فعله بابنه أونوجور وتكنيته له وطلب منه (1) المتقي الحسن بن طاهر الحسيني فادخله إليه، وطلب منه محمد بن علي الماذرائي فدافع عنه ولم يخبره أنه معه، وكنى المتقي الحسن بن طاهر في مجلسه [وعطس المتقي فشمته الحسن بن طاهر] (2) ، فقال المتقي: يرحمك الله يا أبا محمد. ولما شاهد الإخشيد إكرام المتقي قال له: أسير بين يدي أمير المؤمنين وأخدمه إلى بغداد، فأجابه المتقي إلى ذلك. وأحب الإخشيد أن يكون أمير الأمراء، فحدثني أحمد بن عبد الله الفرغاني قال، قال لي أبي: فبلغني ما عزم عليه الإخشيد، فوبخته على ذلك وقلت له: أتلفت مصر والشام، وأتلفت نفسك مع الأتراك ومع توزون وما تدري أيش يكون، فتبين الإخشيد الخطأ، وقال: قد قلت، فكيف الحيلة؟ قلت: ما يسهله الله، قال الفرغاني: فدعوت برجل من المغاربة له أخ بالمغرب فقلت له:خذ رقا واكتب فيه كتابا من أخيك إليك وقل فيه: لما اتصل بأمير المؤمنين القائم بأمر الله مسير الإخشيد إلى المتقي بالعراق جهز العساكر فى البر والبحر إلى مصر واغتنم خلوها، وإذا كتبت الكتاب ففركه وادعكه حتى يصير كأنه قديم. ثم قال للرجل: اسبقني بالخبر إلى الإخشيد، فبلغ الإخشيد، فقال للفرغاني: أيش في هذا الكتاب؟ فقال: لا أدري، فقال: خذه، فأخذه وقرأه على الإخشيد، فقال للفرغاني: اكتمه لئلا يتشوش العسكر، ثم حمله للمتقي وقرأه عليه فقال: كنت قد عزمت على السير لخدمة أمير المؤمنين وأخاف على مصر والشام، فقال سر ولا تتأخر، فودعه وسار، واستخلف غلامه نحريرا الأزغلي، فسار مع الإخشيد إلى الشامات، ولما وصل المتقي إلى باب بغداد إلى موضع يقال له السندية لقيه توزون التركي أمير بغداد فقبض على المتقي وخلعه، وعقد للمستكفي عبد الله بن المكتفي، رجلا كهلا، فلما قبض توزون على المتقي قال ابنه: يا أبا الوفاء تفعل بمولاك مثل هذا؟ فقال: غركم أني أقول مولى أمير المؤمنين، إنما أعني أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه.

_ (1) أورده في بغية الطلب. (2) ما بين معقفين من البغية.

ولما بلغ الإخشيد وهو بالشام ما فعل بالمتقي بكى وتأسف على شبابه وحسنه، ثم جد الإخشيد في السير حين بلغه هذا ودخل إلى مصر، وزينت له الأسواق، فركب ركوبا عظيما، وركب معه ابنه أونوجور، وأقام الإخشيد الدعوة للمستكفي على منابر مصر والشام. ولما انصرف الإخشيد من حضرة المتقي سار سيف الدولة ابن حمدان إلى حلب وقنسرين والثغور الشامية وحمص وإنطاكية وسائر الأعمال فأخذها وأقام الدعوة فيها للمستكفي ولأخيه ولنفسه، ثم عزل وولى واستخرج الأموال. وكتب الإخشيد إلى المستكفي يخبره بما سارع إليه من إقامة الدعوة وأخذ البيعة، ويعرفه ما عمله سيف الدولة ابن حمدان، فكتب إليه المستكفي، ومع الكتاب خلع للإخشيد ولابنه أونوجور. وبلغ الإخشيد أن سيف الدولة سار إلى حمص، يريد دمشق، فجرد الإخشيد عسكرا كبيرا وجعل عليه أربعة، فساروا إلى دمشق وعبوا عساكرهم، ثم ساروا إلى حمص فالتقوا مع سيف الدولة بالرستن من أرض حمص، فهزمهم سيف الدولة، فعادوا إلى دمشق، ثم خرجوا عن دمشق يريدون الرملة، ثم إلى مصر. ثم سار سيف الدولة في أثرهم يريد دمشق، وكتب إلى أهل دمشق كتابا قرئ على منبر جامع دمشق، وحملت نسخه إلى الإخشيد وهي: " بسم الله الرحمن الرحيم، من سيف الدولة أبي الحسن إلى جماعة الأشراف والعلماء والأعيان والمستورين بمدينه دمشق: أطال الله بقاءكم، وأدام عزكم وسعادتكم وكفايتكم ونعمتكم، كتابنا إليكم من المعسكر المنصور بظاهر عين الجر، عن سلامه وجميل كفاية، لموليها خالص الدعاء والشكر. وقد علمتم، أسعدكم الله، تشاغلي بجهاد أعدائي وأعداء الله الكفرة وسبيي لهم وقتلي فيهم وأخذي أموالهم وتخريبي ديارهم، وقد بلغكم خبر القرانين في هذه السنة وما أولانا الله وخولناه وأظفرنا به، واستعملت فيهم السنة في قتال أهل الملة، فما اتبعت مدبرا ولا ذففت على جريح، حتى سلم من قد رأيتم، وقد تقدمنا إلى وشاح بن تمام بصيانتكم وحفظكم وحوط أموالكم، وفتح الدكاكين وإقامة الأسواق والتصرف في المعاش إلى حين موافاتنا ان شاء الله ". فلما

وصلت نسخة هذا الكتاب للإخشيد قلق لذلك، واستخلف على مصر ابنه أبا القاسم، واستخلف له عمه أبا المظفر، ثم سار الإخشيد لا يلوي على شيء، وحصل سيف الدولة بدمشق ودخلها ومعه سائر أهله من شيخ وكهل. وكتب الإخشيد من الرملة إلى عيسى كيل وهو بدمشق مع سيف الدولة يعده بالأموال والتقليد والخلع وإضعاف الرزق، ومع الرسول خاتم الإخشيد، فوصل الرسول إلى عيسى كيل وهو مع سيف الدولة بالشماسية، فاستأذنه في الركوب إلى دمشق لدخول الحمام فأذن له، وشرب وسكر، وثار مع العصر بدمشق، ودعا الناس إلى الإخشيد وخاتم الإخشيد في يده، وغلق أبواب دمشق، وأفاق عيسى كيل من سكره بالليل وتبين أمره، فهرب في جوف الليل إلى الإخشيد وهو بطبريه، فخلع عليه وأجازه وحمله وقاد إليه فرسا أدهم وعليه سرج ولجام مطلي فيه أربعة عشر ألف درهم، ما يقدر الفرس يتحرك من ثقل ما عليه. وسار عيسى كيل بين يدي الإخشيد، فلما قرب من دمشق دفع سيف الدولة وأحرق أخصاصا كانت قد عملت، وسار إلى نواحي حمص، ودخل الإخشيد إلى دمشق والأمراء والقواد بين يديه، ثم سار إلى حمص، ثم سار إلى قنسرين (1) ، والتقى مع سيف الدولة واقتتلا، واستظهر عليه سيف الدولة، فحسده ابن عمه الحسين بن أبي العلاء فانهزم، فاستظهر الإخشيد وقتل وأسر جماعه من وجوه العجم. ولم ينصرف سيف الدولة. بل عسكر مواجها للإخشيد، فاختار الإخشيد المسالمة، وراسله بالحسن ابن طاهر على مال يجعله إليه، وان يكون لسيف الدولة من جوسية (2) إلى حمص إلى سائر أعمالها وما وراءها، ويكون للإخشيد من دمشق وما بين يدها إلى آخر أعماله، وزوجه ابنته فاطمة وكان الولي الحسن بن طاهر بتوكيل الإخشيد، فسر سيف الدولة بذلك وأجاب إلى السلم وعقد النكاح، ونثر سيف الدولة في مضربه للحاضرين ثلاثين ألف دينار، ونثر خارج المضرب أربعمائة ألف درهم، وحمل إلى الحسن بن طاهر مالا كثيرا خلعا [وحملانا] (3) .

_ (1) لخص ابن العديم هذا اللقاء بين الإخشيد وسيف الدولة عن ابن زولاق. (2) البغية: خرشنة. (3) زيادة من البغية.

وحدثني الحسين بن أريخا قال: كان الإخشيد يوم لقي سيف الدولة في خمسين ألفا من الجبل إلى الجبل، فجاء جاسوس إلى الإخشيد فقال له: إن علي ابن حمدان قد سأل عنك، فقيل له: هو صاحب الخفتان الأسود، فقال: والله لألقين بنفسي عليه، فنزع الإخشيد الخفتان الأسود وأقام غلاما بخفتان أسود، وحمل ابن حمدان يريد صاحب الخفتان الأسود، فخرج عليه الإخشيد من موضع آخر في غلمانه فهزمه. وحدثني بعض شيوخ دمشق ممن كان الإخشيد يأنس به ويحادثه قال: سألني جماعه وجوه غلمان الإخشيد توبيخ الإخشيد على ما عمله من الصلح والمصاهرة، فقلت له: أيها الإخشيد إيش حملك على مصالحة ابن حمدان ومسالمته ومصاهرته؟ فقال: الغلمان سألوك مساءلتي؟ فقلت: نعم،فقال: عليهم لعنة الله أتراهم يعلمون من الأمر أكثر مما أعلم؟ اعلم أن علي بن حمدان كاتبناه من الرملة فبذلنا له فلم يفعل، وكاتبناه من طبرية فامتنع، ثم سرنا إليه ورزقنا الله تعالى النصر عليه وعلى أصحابه الظفر، فلم ينصرف وخيم حذاءنا بوجه صفيق وقله حياء، فتوقفت عنه، فقال لي الغلمان: دعنا نمضي تلقاءه، ففكرت في قولهم ولم أخل من أحد وجهين: إما أن يهزمنا ويرزق علينا النصر فتكون الفضيحة، وإما أن نرزق عليه النصر فنأخذه فأيش أعمل به؟! هل هو أكثر من أن أنزله في مضرب يشبهه وأنفق عليه ما يصلح له، ثم أجهزه وأرده لأخيه وأهله لأنهم لا يتركونه؟ وأقل ما كان يكفيني له مائتا ألف دينار، ثم لا أطيق غلماني من إذلالهم والشجب والتجني علي بما عملوه، ويطلبون مني الأعمال والولايات، فرأيت أن مسالمته ومصالحته أفضل وأصلح، وأرسلت إليه الحسن بن طاهر أعده بالأموال والخروج من أعماله، فلما رأوا الحسن بن طاهر قد مضى ازدحموا علي يسبوني ويشتموني ويسألون الله الراحة مني. فما أقام الإخشيد بعد هذا إلا سنة وتوفي. ولما فرغ من هذا الصلح سار مجدا إلى دمشق فأقام بها ودبر أموره، ثم بويع المطيع فكتب إلى الإخشيد بالتقليد. وتكاف الإخشيد وسيف الدولة، وهدأت الفتنة، واستقامت الطريق، وتفرغ سيف الدولة للجهاد آمنا، وركب الإخشيد بدمشق ركبة عظيمة إلى الصيد، وبين

يديه من الجوارح من كل فن ما لم يكن بين يدي خليفة قط، وبين يديه محمد بن تكين، وتكين الخاقاني، وجماعة القواد، فما قدر على شيء من الصيد ولا عصفور، وعاد كاسف البال. فلما بلغ باب البركة التي كان ينزلها قال: لا يبرح أبو بكر ولا أبو على ولا أبو الحسين، فأمر لهم بأفراس حملوا عليها ثم دخل الحمام، وعملت المائدة ليخرج من الحمام ويأكلوا معه، فبينما هو في الحمام إذ خرج الغلمان وقالوا لكافور: الحق الإخشيد، فلحقه وقد غشي عليه في الحوض، فرمى كافور بنفسه في الحوض وأخرجه وصب الماء عليه، ثم أخرجه إلى المسلخ (1) وألبسه ثيابه ثم بخره، ودعا بابن البالسي الطبيب، فسقاه شرابا، وركب وقدمت المائدة وجلست الجماعة معه، ومد يده ليكسر الرغيف فما قدر، فشد يده اليمنى بيده اليسرى فلم يقدر، ففطن له محمد بن تكين فقال: قد أخذت الحمام من الإخشيد ونحن نعود فى غد، فما نطق بحرف، وانصرفوا وحمل إلى مرقده، وابتدأت العله خمسة عشر يوما، وتوفى لثمان بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وثارت الفتنة بدمشق، وركب عيسى كيل ليأخذ الدولة، ونهبت خزائن الإخشيد. وكان الإخشيد يتقدم فى كل سفرة ويقول للفرغاني: لا تجعلوا المال في الصناديق فإن الصناديق مطلوبة، بل اجعلوها في الخزائن، قال كافور: في خزائن السلطان. فجعل المال في أعدال الجواشن، فلما ثارت الفتنة ونهبت الأكياس إلى أن سكنت الفتنه، [قال] : أيش نعمل بالمال؟ ثم قال: اطرحوه في البركة فطرحت الأعدال. وحدثني منصور بن أحمد الصيمري قال: ركب صاحبي في ألف ترس من الديلم، فأرسل إليه كافور ووعده فجاء اليه، فلما سكنت الفتنة بعد ثلاث وجد الإخشيد قد انتفخ وأكل الفأر أطراف أصابعه وأكل الذر عينيه، فغسل صبا، وطلب له كافور فلم يوجد إلا في السوق مغشوشا، وطلب له بغل يحمل تابوته فلم يوجد إلا جمل أعور، فحمله عليه الخازن وسار به إلى بيت المقدس.

_ (1) المسلخ: المكان الذي تخلع فيه الثياب في الحمام.

أبو القاسم أونوجور بن الإخشيد

وحدثني محمد بن المنهال قال: لقيت تابوت الإخشيد بنواحي طبرية على جمل أعور، والذين معه من السودان يتأذون بريحه، وإذا نزلوا بعدوا منه، إلى أن وصلوا به إلى بيت المقدس ودفن هناك. وحدثنا أبو جعفر أحمد بن يوسف في كتابه في سيرة ابن طولون بما خلفه، فأردت أن أذكر في سيرة اخشيد ما خلفه، وكان كثير المصادرة، فأما الذي خلفه من المال والعين والورق فحدثني محمد بن عبد الله قال: قال لي أبي قلت الإخشيد بالرقة وقد ذهب أكثر ما معنا من المال في ذلك، فأخذ منطقتي بيده وجذبني وقال: تدرى كم خلفت عند كردن؟ خلفت عندها عشرين بيت مال. وذكر صالح بن نافع أن الإخشيد أوقفه على سبع مطامير في كل مطمورة ألف ألف دينار، مطمورة من الدنانير الإخشيدية، ومطمورة مقتدرية، ومطمورة مكتفية، ومطمورة متقية، ومطمورة مغربية، ومطمورة من خلط دنانير العراق (1) . ولما توفي الإخشيد وجلس ابنه واستوزر أبا بكر محمد بن علي الماذرائي طلب من أم ولد الإخشيد المال للرجال، فقالت: ما عندي، فقال: ما فعلت سبعة أرادب أخذها مني دفعة ما أنفق منها دينارا واحدا؟ وخلف من الجواهر ما قيمته مائتا ألف دينار، وخلف من العنبر ثمانمائة رطل، وخلف من العبيد ثلاثة آلاف ما بين روم ومولدين وسود، وخلف من الخيل لركابه ألفا ومائتي فرس سوى دواب غلمانه، وخلف من البغال ثلاثة آلاف، ومن النوق ثلاثة آلاف، ومن المراكب مائة مركب سوى العشاريات، كل مركب يقوم عليه بثلاثة آلاف دينار. أبو القاسم أونوجور بن الإخشيد لما ورد نعى الإخشيد إلى مصر سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة في المحرم اضطرب البلد، وركب أبو المظفر أخوه، ووزيره أبو بكر محمد بن علي بن مقاتل إلى دار الإمارة، وخرج إليهما ابنه أبو القاسم أونوجور، وحضر الناس للتعزيه، وانصرفوا على غير رأي ولا تدبير، وانصرف أبو المظفر إلى داره في موكب كبير،

_ (1) عد ست مطامير لا سبعاً.

وانصرف محمد بن علي إلى داره في الدولة كلها، لأن الذين انصرفوا مع أبي المظفر لحقوه. ثم اجتمعوا من الغد في دار الإمارة وحضر وجوه الناس من الأمراء والقواد والوزراء والكتاب والأشراف والقضاة والشهود، وأرسلوا إلى أبي بكر محمد بن علي الماذرائي فحضر، فعرفوه وشاوروه فقال: ما ها هنا مشورة، لم يمت الإخشيد حتى عقد لابنه أبي القاسم أونوجور، واستخلفه المتقى لأبيه، وكناه المكتفي، وأنفذ إليه الخلعة. فأومأوا إليه بأنه صغير ابن خمس عشرة سنة فقال لهم: وأيش يكون؟ أنا عقدت لهارون بن أبي الجيش وهو أصغر منه، ونزعت من أذنيه القرطين. وكانت أم أونوجور بحيث تسمع، فأرسلت إلى محمد بن علي ينوب عنه ويدبر الأمور، فقال: على ألا أنزع الطيلسان، ويكون ابني أبو علي كاتبه، فاتفقوا على ذلك، وكان أبو المظفر عمه حاضرا ينتظر أن يرد الأمر إليه، فتم الأمر لأبي القاسم أونوجور. ولما أنفذ له الأمر قال أبو المظفر لمحمد بن مقاتل: نريد المال، قال: ما عندي مال، فأسمعه أبو المظفر، ووثب عليه أبو بكر ابن كلا ونتف لحيته وأخذ خصاه. وقال أبو بكر محمد بن على الماذرائي: يطلق الساعة علي بن خلف بن طياب فاطلق له، وقال: ينفى ابن قرماقس إلى الإسكندرية، فنفى لوقته. وانصرف أبو بكر الماذرائي بين الحاضرين من أهل الدولة يزف إلى داره، ونظر فى الأمر كله. وركب أبو القاسم أونوجور يوم الجمعة لصلاة الجمعة في الجامع العتيق في جميع عساكره التي بمصر، وبين يديه عمه أبو المظفر يحجبه، وخلفه أبو بكر محمد بن علي الماذرائي وزيره، فصلى الجمعة، وانصرف في موكب أبيه.

سيرة سيف الدولة

- 22 - سيرة سيف الدولة لأبي الحسن على بن الحسين الزراد الديلمي

فراغ

- 1 - (1) [حديث وقعة قنسرين] : وسار الأمير سيف الدولة فلم يتبعه أحد من عسكر الإخشيد، وقطع الفرات من جسر منبج، وسار الإخشيد فنزل الرقه، ونزل سيف الدولة مقابل عسكر الإخشيد، ومشى الحسن بن طاهر [الشريف العلوي] في الصلح بينهما، واستقر على أن أفرج الإخشيد لسيف الدولة عن حلب وحمص وأنطاكية، وكان ذك في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين [يعني وثلاثمائة] . - 2 - (2) سنة 344: وسار أبو العشائر الحسين بن علي بن حمدان من حلب إلى مرعش وسلمها إليهم وسار عنها فنزل على نهر يقال له حوريب، فجلس يشرب على النهر وسار سواده وبعض غلمانه فلم يشعر إلا بالروم قد أقبلوا عليه، فركب فرسه وركب أصحابه فطردهم الروم، وكان أبو العشائر قد ثمل من الخمر فغلبه السكر فسقط عن الفرس، فأدركه الروم فأسروه وحملوه إلى قسطنطينية.

_ (1) بغية الطلب 4: 241. (2) بغية الطلب 5: 12.

- 3 - (1) سنة 354: واجتمع في البلاط بالقسطنطينية من الأسارى الحمدانية نحو ثمانمائة رجل، منهم أبو العشائر وأبو فراس ومحمد بن ناصر الدولة [وذكر جماعة وقال] : وفادى [يعنى سيف الدولة] بأبي فراس وأبي العشائر ورقطاش وغيرهم [قال ابن العديم: هذا وهم من الديلمي فإن أبا العشائر توفي بالقسطنطينية فى حال الأسر] . - 4؟ 5 - (2) وكان لسيف الدولة مجلس يحضره العلماء كل ليلة فيتكلمون بحضرته، وكان يحضره أبو إبراهيم الشريف وابن ماثل القاضي وأبو طالب البغدادي [واسمه أحمد بن نصر بن طالب] وغيرهم فوقع بين المتنبي وبين أبي عبد الله الحسين بن خالويه كلام، فوثب ابن خالويه على المتنبي فضرب وجهه بمفتاح كان معه ففتحه، وخرج دمه يسيل على ثيابه، وغضب ومضى إلى مصر فامتدح كافورا الإخشيدي.

_ (1) بغية الطلب 5: 14. (2) بغية الطلب 9: 113، 1: 46.

شذرات من كتب مفقودة

شذرات من كتب مفقودة في الأدب - 2 - استخرجها وحققها إحسان عباس

فراغ

كتاب المفاوضة

- 23 - (1) كتاب المفاوضة لأبي الحسن علي بن محمد بن نصر الكاتب 372 - 437/983 - 1046

_ (1) انظر معجم الأدباء 5: 283 - 287 وتاريخ بغداد 12: 17 والمنتظم 8: 46 وإنباه الرواة 2: 297 وابن خلكان 3: 336 وسير أعلام النبلاء 17: 392.

فراغ

هو أخو عبد الوهاب بن محمد بن نصر القاضي المالكي المشهور (1) ، الذي يقول فيه أبو العلاء المعري حين زاره فى المعرة (2) : والمالكي ابن نصر زار في سفر ... بلادنا فحمدنا النأي والسفرا إذا تفقه أحيا مالكا جدلا ... وينشر الملك الضليل إن شعرا وكان أبوهما محمد بن نصر قاضيا على بعض الأرباع ببغداد من غير تسمية بالقضاء (3) . ولد علي ببغداد وبها نشأ، واتجه نحو الأدب والترسل - في آخر المطاف - مثلما اتجه أخوه نحو الدراسات الفقهية، غير أنه قبل ذلك حصل ضروبا من الثقافة على شيوخ العصر، ومن أهم شيوخه فى النحو أبو الحسن الربعي (4) وأبو الحسن الزعفراني البصري (5) .

_ (1) توفي القاضي عبد الوهاب سنة 422 بعد أن هاجر إلى مصر، انظر ترجمته في تاريخ بغداد 11: 31 والمنتظم 8: 61 والذخيرة لابن بسام 4: 515 وسير أعلام النبلاء 17: 429 وابن خلكان 3: 219 (وفي حاشيتي الذخيرة وابن خلكان ذكر لمصادر أخرى) . (2) شروح السقط 220 وابن خلكان 3: 220 وسير أعلام النبلاء 17: 430. (3) معجم الأدباء (مخطوطة كوبريللي) ، وكانت وفاة الأب سنة 391. (4) علي بن عيسى الربعي أبو الحسن تتلمذ على السيرافي ثم على أبي علي الفارسي بشيراز وأقام في صحبة الثاني عشرين سنة ثم رجع إلى بغداد يعلم فيها النحو حتى وفاته سنة 420. (5) انظر إنباه الرواة 4: 109 وبغية الوعاة 1: 268 والقطعة رقم: 38.

وقد مكنته ثقافته من أن يصبح أولا كاتبا للوزير أبي العباس عيسى بن ماسرجيس ثم كاتبا لديوان الرسائل في أيام جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة (1) ، وإن لم يتردد في الرسائل بينه وبين الملوك (2) ، وهو يحدثنا في كتابه " المفاوضة " عن اتصال أسفاره بين البصرة وواسط والأهواز ناقلا رسائل عن السلطان (3) ، وفي إحدى المرات خرج إلى البصرة برسالة إلى من يلقب " ظهير الدين ". وبعد أن أدى المهمة المنوطة به ونوى العودة بعث إليه ظهير الدين بكسوة ونفقة، فاحتشد من حوله عدد من طلاب المنفعة يحاولون مشاركته فيما ناله من عطاء (4) . وقد وصف بالذكاء والفطنة ولطف الفهم وسجاحة الخلق وحسن المداراة (5) . ويؤخذ من كتابه المفاوضة أنه كان شديد التدقيق في شؤون الكتابة إذ يستوقف نظره أن يجد " لعمرك "، و " لعمري " قد أدخلت فيها الواو قياسا على " عمرو " ويسأل أستاذه الربعي عن صحة ذلك (6) ، ويرى كاتبا يخط " لم أقر " - دون همز - فينبهه إلى أن ذلك لا يجوز (7) ، ولا يخلو من ميل إلى المماحكة والمكايدة (8) ومن متابعة الأمور إلى نهايتها دون فتور أو كلل (9) ومن سرعة الفيئة

_ (1) جلال الدولة أبو طاهر اسمه فيروزجرد، تولى الملك بعد أخيه مشرف الدولة أبي علي الذي توفي سنة 416 وأقام في الحكم سبع عشرة سنة (انظر المنتظم 8: 118 وسير أعلام النبلاء 17: 408، 577) . (2) معجم الأدباء: (مخطوطة كوبريللي) . (3) انظر القطعة رقم: 2 في هذا المجموع. (4) انظر القطعة رقم: 3. (5) معجم الأدباء: (مخطوطة كوبريللي) . (6) القطعة رقم: 5. (7) القطعة رقم: 6. (8) انظر القطعتين رقم: 8، 9. (9) انظر القطعة رقم: 10 وإلحاحه على المطرز أن يفي بوعده فينشئ قصيدة ليس فيها حرف ينقط.

إلى الحق إذا نبه إليه، كما حدث له حين نبه إلى خطأه في لفظ " أصلح " بدلا من " أصلخ " (1) . وأصبح علي بحكم منصبه ومكانته الأدبية على معرفة بكثير من رجال الحكم وأهل السياسة، كما كانت علاقته وثيقة بكتاب العصر وشعرائه، مثل أبي الفرج الببغا وأبي الحسن السلامي وأبي طاهر علي بن الحسن الحمامي وأبي نصر ابن نباتة، وكتاب المفاوضة معرض لمثل تلك العلاقة. وهو يحدثنا أنه كان يكاتب أبا الفرج الببغاء ويزوره بصحبه أخيه القاضي (2) وعن الببغا وعن أبي القاسم الرقي منجم سيف الدولة عرف كثيرا من أخبار بلاط سيف الدولة وأحوال الناس الذين يلتفون حوله (3) . ومن غرائب ما حدث له متصلا بصديقه ابن نباتة (4) أنه زاره - وهو في مرض الموت - بمدينه واسط، وقعد عنده قليلا، فأنشده ابن نباته قوله (5) : متع لحاظك من خل تودعه ... فما إخالك بعد اليوم بالوادي وانصرف ابن نصر من عيادته، فبلغه الخبر وهو في طريقه منصرفا أن ابن نباتة قد قضى نحبه. وتشاء الأقدار أن يحدث الشيء نفسه في حال ابن نصر هذا، فقد غادر البصرة ذاهبا إلى واسط فمرض فيها مرض الموت، وزاره هنالك

_ (1) القطعة رقم: 7. (2) القطعة رقم: 12. (3) توفي الببغاء سنة 398، انظر: اليتيمة 1: 236 وتاريخ بغداد 11: 11 والمنتظم 7: 241، وابن خلكان 3: 199 وسير أعلام النبلاء 17: 91. (4) أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة، توفي سنة 405، انظر ترجمته في اليتيمة 2: 379 وتاريخ بغداد 10: 466 والمنتظم 7: 274 وابن خلكان 3: 190 وسير أعلام النبلاء 17: 234 وقد نشر ديوانه في جزءين (بغداد 1977) بتحقيق عبد الأمير مهدي حبيب الطائي. (5) لم أجد البيت في ديوانه.

أبو غالب محمد بن أحمد بن سهل، فأنشده البيت المذكور، وفى تلك الليلة نفسها كانت وفاته بواسط، أي عام 437 (1) . ويقول الذهبي إنه كان من الشعراء المذكورين (2) ولكن المصادر التي أوردت بعض أخباره لم تورد له شعرا، وإنما عرف بشيئين: رسائله وكتابه " المفاوضة " وفي المفاوضة نفسه شذرات من ترسله، ولكن توليه ديوان الرسائل يفترض أنه كانت له رسائل جمعت على حدة. أما كتاب " المفاوضة " فقد ألفه لخسرو فيروز الملقب بالملك العزيز أبي منصور بن أبي طاهر جلال الدولة، وكان يلي إمرة واسط نيابة عن أبيه، كما كان هو نفسه شاعرا بارعا في الأدب (3) . ويقول ابن خلكان إن الكتاب يقع فى ثلاثين كراسة وأنه من الكتب الممتعة وأنه اعتمد فى تأليفه على تدوين مشاهداته (4) ، أما أنه من الكتب الممتعة فذلك أمر واضح في المادة التي بقيت لدينا من الكتاب، وأما أنه اعتمد في تأليفه على مشاهداته، فإن كانت المشاهدة هنا تعني الرواية المباشرة فذلك أيضا صحيح. ويعني ب " المفاوضة " الأخذ والرد، محاورة، أو مكاتبة أو رواية، وعنوان الكتاب يمكن أن يقرن ب " المقابسات " للتوحيدي على اختلاف في الموضوع، فهو ليس محاورات فكرية، وإنما هو في مجمله ذو طابع أدبي، ويمكن أن يقرن

_ (1) ابن خلكان 3: 192 هذا وقد بسط ياقوت بعض الشيء ترجمته في معجم الأدباء (مخطوطة كوبريللي) وذكره ابن خلكان في ترجمة أخيه 3: 222 وكذلك فعل الذهبي في سير أعلام النبلاء 17: 432 وانظر الديباج المذهب 2: 29 (وجعل وفاته سنة 430) وشذرات الذهب 3: 225. (2) سير أعلام النبلاء 17: 432. (3) بقي الملك العزيز في ملك مزلزل مدة سبعة أعوام، ولما مات أبوه (435) فارق مدينة واسط وأقام عند أمير العرب دبيس بن مزيد ثم توجه إلى ديار بكر منتجعاً للملوك وقد تلاشى حاله، وأدركته منيته بظاهر ميافارقين سنة (441) (سير أعلام النبلاء 17: 632. (4) وفيات الأعيان 3: 222 وبغية الطلب 6: 159 وكشف الظنون 2: 1758.

بكتاب " نشوار المحاضرة " أو ما ألف على مثاله ككتاب " الربيع " لغرس النعمة محمد بن هلال الصابي، فهذه الكتب تجمع بين الفائدتين الأدبية والأجتماعية، مع إلقاء بعض الضوء على جوانب دقيقه من الحياة السياسية. وقد كان الكتاب مصدرا لعدد من المؤلفين، وفى مقدمتهم ياقوت والقفطي وابن العديم (1) ، وعن هؤلاء وعن غيرهم جمعت هنا أربعين قطعه، وتمثل القطع 1 - 12 ما نقله ياقوت في ترجمة المؤلف في كتابه معجم الأدباء، وهي ترجمة أخلت بها المطبوعة. - 1 - (2) قال ابن نصر: لقد قرأت في كتاب لأبي القاسم هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة - يعني صاحب البطيحة - وكان رجلا جم العلم دقيق الفهم، وكان يكتب الكتب الطوال في الفتوح وغيرها، قرأت في فصل له إلى أبي الخطاب المنجم المستولى على دولة بهاء الدولة بن عضد الدولة: " وكنت واعدا نفسي إنجاز ما سبق من شريف مواعيد الحضرة البهية، لوفور حظي من ملاحظة كرم الاهتمام " فقال لي الوزير أبو العباس عيسى بن ماسرجيس، وكنت اكتب له حينئذ، أنى يفهم هذا الكلام اليوم؟ قلت: نجتهد، فتأملناه فوجدناه صحيحا، إلا أن طريقه كان وعرا.

_ (1) كانت النسخة التي اطلع عليها ابن العديم من كتاب المفاوضة بخط المؤلف. (2) مهذب الدولة: هو أبو الحسن علي بن نصر، ولي أمر البطيحة بعد خاله المظفر بن علي الحاجب الذي استقل بأمر البطيحة، وكان وفاة المظفر سنة 376، وقد نشر مهذب الدولة الخير والإحسان فصارت البطيحة في أيامه معقلاً لمن قصدها، واتخذها الأكابر وطناً وبنوا فيها الدور الحسنة، وتزوج مهذب الدولة ابنة بهاء الدولة البويهي وكانت وفاته سنة 408، أما كاتبة هبة الله بن عيسى - فكان فيما يقول ابن الأثير - من الكتاب المفلقين ومكاتباته مشهورة وكان ممدحاً، وممن مدحه ابن الحجاج، وتوفي سنة 405 (انظر صفحات متفرقة من الجزء التاسع من تاريخ ابن الأثير) .

- 2 - قال: وكتب إلى أبو عبد الله ابن ضبر القاضي صديقنا رحمه الله في كتاب، وقد اتصلت أسفاري بين البصرة وواسط والأهواز، مترددا عن السلطان في رسائل: أصبو إليك مع البعاد صبابة ... أصلى بها كلهيب حر النار وإذا تباعدت الديار فإنني ... أرضى وأقنع منك بالأخبار وإذا الديار دنت بعدت فكيف لي ... بدنو قلب مع دنو الدار - 3 - وحدث ابن نصر في كتابه حاكيا عن نفسه قال، حدثني الأستاذ أبو عبد الله محمد بن شاذان بالبصرة، وهو إذ ذاك يكتب لظهير الدين، وقد خرجت إليه في رسالة، فلما أزمعت الانصراف حمل إلي كسوة ونفقة إلى دار أبي عبد الله، وحضر أصحابه يتنجزون رسوما جرت العادة بها، وكثروا علي، فقال أبو عبد الله: حالنا هذه تشبه حال أبي أحمد النهرجوري (1) ، فإنه مدح أبا الفرج منصور بن سهل المجوسي عامل البصرة، فأعطاه صلة حاضرة هنية، والتف به الحواشي فطالبوه، فكتب رقعة ودفعها إلى بعض الداخلين إليه وقال له: سلم هذه إلى الأستاذ، وفيها: أجازني الأستاذ عن مدحتي ... جائزة كانت لأصحابه ولم يكن حظي منها سوى ... جهبذتي يوما على بابه قال: فلما وصلت الرقعة خرج في الحال من صرف الحواشي عنه، وصار معه حتى دخل منزله. - 4 - وقال: رأيت في المنام كأني أكتب إلى بعض أصدقائي، وقد وقع لي أنه سرق شيئا من كلامي: " عمدت إلى شتائت ألفاضي وبدائد كلامي فغصبتنيها، فيا للصوص الكتابة، ويا لحزني عليه والكآبة " واستيقظت فعلقت ذلك.

_ (1) انظر أيضاً بقية القصة في معجم الأدباء 2: 122 (مرغوليوث) .

- 5 - وقال: قال لي الشيخ أبو الحسن الربعي، وقد سألته عن " لعمرك " و " لعمري " والقسم بذلك، وأعلمته أني رأيت بخط بعض الناس فيه واوا، وقلت له: إن الواو لا مدخل لها ها هنا فإنها دخلت على " عمرو " للفرق بينه وبين عمر، وهذا قسم ولذلك دخلت اللام فيه، فقال أخطأ وأصبت، وتكلم في اللام الداخلة على " عمري " وقال: إن اللام في قولهم: لزيد قائم تفيد أمرين: أحدهما التأكيد والآخر تقدير استقبال القسم، وهى من قولهم " لعمري " لا تفيد سوى التأكيد، لأن عمري قسم، والقسم لا يدخل على قسم، وتكلم في ذلك بما طال، ثم قال لي: أعد، فأعدت ما قال بعينه، ونحن إذ ذاك في دار أبي غالب ابن الثلاج، وهو يقرأ عليه، فقال له: يا أباغالب، هذا هو الذكاء الكبريتي، قال: وكيف يا سيدي؟ قال: هكذا ذكاء العرقيين. وحدثنا قال: كان يقرأ على أبي علي الفارسي فتى من أهل نسا، وكان بعيدا بليدا، وهو يقبل عليه ويصرف همته إليه، وأهل المدرسة يحيطون بدروسه دونه، وأبو علي يغتاظ من الترديد الذي يقصد به إفهامه، ويفهم غيره، فقال لنا يوما: الذكاء على أربع طبقات: فأولها الذكاء الكبريتي، وهو ذكاء العراقيين، فإنهم يفهمون سريعا وينسون ذريعا، وثانيها طبقات أهل العلم، وهم يفهمون على بطء ما ولا يكادون ينسون سريعا، وثالثها طبقات أهل [؟] وهم الذين يفهمون سريعا ولا ينسون، ورابعها طبقه هذا الفتى، وهو الذي لا يكاد يفهم إلا بعيدا وينسى قريبا، فاستحيى الفتى ولم يره في مجلسه بعدها. - 6 - قال: ورأيت كاتبا جالسا إلى جانبي وقد كتب كتابا افتتحه بأن قال: " لم أقر لمولاي كتابا منذ كذا " فلما فرغ من الكتاب كله تأمله ثم طواه ولم يغير شيئا، فقلت له: لا يجوز " لم أقر " فإن هذه همزه، والهمزة حرف صحيح يجرى بوجوه الإعراب، وعلامة الجزم فيه حذف حركته، فأعرض عني وأعطى الكتاب لغلامه وقال له: ألصق هذا وأنفذه، فأمسكت حينئذ.

- 7 - قال: وأذكر وقد حضرت مجلسا في الحداثة فوصف رجل بالطرش، فقلت، هو أصلح؟ وصحفت - وكان إلى جانبي أبو عبد الله الحسين الشاعر المعروف بالخالع، فقال لي: صحفت، هو أصلخ - بالخاء المعجمة - فقلت: جزى الله الشيخ خيرا وأفاده وأثابه، فجذبني إليه وقبلني وقال: هذا هو الفلاح. - 8 - قال: وحدثني أبو نصر العلاء بن الفيرزان الوزير - وكان هش المحادثة طيب المحاضرة كثير المزح، لولا شر كان كامنا فيه، وسمعته يقول: حفظت " كتاب بغداد " لابن أبي طاهر وقرأته عشرين دفعة من أوله إلى آخره، وقرأت التاريخ لأبي جعفر بالفارسية والعربية، واتفق ان اشتكت عيني فتأخرت عنه، وعلم بذاك فأنفذ إلي غلاما ومعه صرة فيها خمسمائة درهم، فتركها بين يدي، ومعها من البياض قطعة مثل الزيق في طوله وعرضه، وانصرف ولم يخاطبني بلفظة، فلما فتحت عيني تأملت الكاغد وإذا فيه: وخذ القليل من اللئيم وذمه ... إن القليل من اللئيم كثير وحملت إليه في ليلة نوروز دينارا روميا ودرهما خسروانيا وجزءا فيه أخبار منشورة من كل نوع، وكتبت إليه رقعة نسختها: أخرني عن حضرة سيدنا السيد الأجل [أطال] الله بقاءه عذر يسقط معه العتب، ويغفر لأجله الذنب، ومن المعاذر ما تعزف النفس عن ذكره، وتشوف إلى طيه وستره، لاسيما عن الأقلام التي تحفظ أسطارها، وتبقى على الدهر آثارها، وقد أقمت سنة الخدمة بجزء يصلح لخلوة الأنس، ويجمع أوطار النفس، ليس بجسيم يستجفى ولا ضئيل يحتقر ويزدرى، قد يحتوى من الاعتدال بين الواطي والعال؟ ؟ وتضل الأفهام في حزونته اللفظة الواحدة من مضمونه فقر الفضل وعيونه. ودينار ودرهم من ضرب كسرى وقيصر، فمن مثلي في ظرف هديتي، ومن يساجلني إذا جملني بقبولها

وشرفني. لا أخلاه الله من نعم يفيضها عليه، ولا أعدمه تابعا يزدلف بالطرف إليه، بمنه وطوله، وجوده وفضله، إنه على كل شيء قدير. قال: فأنفذ إلى جزءا بخط أبي الحسن ابن هلال ودينارا مصنوعا فيه عشرون مثقالا ودرهما مثله، وكتب إلي: ما رأيت مثل سيدنا - أطال الله بقاءه وجعلني فداءه - (وهكذا عادته في مكاتبتي) يحسن ويعتذر، فإنه قد أوجب بتأخره منة، وكفاني ببعده مؤونة، وقد أنفذت جزءا لا أصفه، ودينارا ودرهما لا أنعته، وإذا تأمل ما حملته إليه وحمله إلى وجد قدر التفاوت بيني وبينه، والسلام. قال: وكان مزاحا مطرابا مؤثرا لهذا الفن، غير أنه كان يغلب عليه الشر، وكان تاب أن لا يضرب أحدا في يوم جمعة، ورايته في وقت الصلاة يوم جمعة من الجمعات وقد أمر بضرب أبي الطيب ملول بن فضلان الصيرفي الجهبذ، فسألته وذكرته العهد، فقال: إنما تبت أن أضرب بالمقارع، فقلت: هذا تأول طريف في اليمين. - 9 - وقال: حمل إلي الوزير أبو نصر العلاء بن الفيرزان - وهو إذ ذاك عامل في البصرة - ثيابا في بعض الفصول، ولم تجر العادة بها، وآثر أن يكتمها عن القاسم أبي الصالح كيوس أمير البصرة حينئذ خصوصا، وعن الكافة عموما، وكان في جملتها دراعة سقلاطون، وكتب يعتذر ويذكر أنه لم يجد ثوبا يشبهها، ووصفها وأطال، وكان أصلح ما وصفها به قوله: لم تبتذلها العيون فى المجالس، ولا افترع جيبها جيد لابس، فأنفذتها بخاتم ربها إلى مستحقها وتربها، وفي هذا بعض العهدة، ومن ينتقده من أهل الصنعة يعرفه. فكتبت إليه، وأعتمدت كسره بذمها: وصلت تحفة سيدنا الأجل وقبلتها على تجعدي من مثلها، ووجدته قد خص الدراعة منها بصفته، وأظهر فيها مكنون بلاغته، ولو أفرج لي عن ذلك لكان أحسن، وتركني وإياه لكان أشبه وأزين، وبعد فلكل موصوف عائب، ولكل ممدوح ثالب، وأظنه نسي أو تناسى أنه حكم فيها شبا الحديد، فبضعها من القدم إلى الوريد

حتى إذا جزأها أجزاء، وجعلها مبدده أشلاء، عاد يصلح ما أفسد من حالها، ويجمع ما فرق من أوصالها، فكم من صورة مستحسنة قدحها وعابها، ودائرة مستقيمة قطعها فشانها، فأصبحت بعد الجسم الممسد، والاسم الرائق المفرد، ذات البنائق والأركان، وصاحبه الدخارص والجربان. هذا وكيف تكون بختامها وعنده من كبدها فلذة، وفى خزائنه من أعضائها فضلة، وعلى ذلك فالشكر عنها مبذول، وحبل الثناء بها موصول، والسلام. قال: فلما كان من الغد التقينا في دار القاسم فقال: لعنك الله فإنك كافر للنعمة، ولعنني حيث تعرضت بك في الكتابة، وقد أنفذت إليك فضلة الثوب، لا بارك الله لك فيه ولا فيها. قال ابن نصر: وهذا الخبر عكس ما لحقني مع أبي عمرو سعيد بن سهل العارض، فإنه دخل يوما إلى دار الوزارة بالبصرة وجعل ينتظر الإذن، فقلت لغلامي: امض إلى أبي العباس الكوفي البزاز وخذ منه الثوب السقلاطون المعمد الذي عزلته للدراعة، وأذن لأبي عمرو، فدل وما ظننته تسمع علي، ومضى الغلام فلم يصادف البزاز، وانصرفت آخر النهار إلى داري وإذا فيها دراعة سقلاطون معمدة في نهاية الحسن، فسألت عنها فقيل: جاء رجل وقال: أنا صاحب أبي عمرو العارض، خذوا هذه الدراعة، قلت: وكان معها رقعة؟ قيل لا، فكتبت إليه من الغد: للفواضل؟ أطال الله بقاء الأستاذ الرئيس؟ فضائل تتميز بها وتستطيل بمكانها على أضرابها، منها: أن ترد بكرا لم يفترعها السؤال، وتقطع عرضا لم تحتسبها الأمال، فتلك الشربة العذبة للظامي، وأصابة الشاكلة عند الرامى، كتحفته التي جاءت مسيرة كالجداول، مذهبة كالأصائل، معدلة بحسن التقدير والتوفيق، منزهة عن فحش السعة والضيق، محلولة الجيب والجيوب مزرورة، مكشوفة الفرج والفروج مستورة، فهي من بدائع صورها، ووشائع حبرها، كالرياض الرائعة والبروق اللامعة، سلكها دقيق، ومنظرها أنيق، كأنما عدلت بمعيار، أو دير ذيلها على بركار، لابسها مختال، ومانحها مفضال، قد سيرها بفضله المكتوم، وشهرها بعرفه النموم، فطويتها طي المكرم الضنين، ونشرت الشكر عنها نشر الخاطب المبين، وأفردتها عن أشكالها وإن عز المشاكل، وجعلتها زينة للمواكب

والمحافل، والله تعالى يزيده كرما وفضلا، ويجعله لادخار كل منقبة أهلا، إنه على كل شيء قدير. - 10 - قال: حدثني أبو القاسم عبد الواحد بن محمد المطرز الشاعر (1) أن صديقا له كتب رقعة مذ خمسين سنة مشتملة على غرض له بألفاظ ليس فيها حرف ينقط، وأنه استصعب ذاك واقترح أن أكتب إليه رقعة على هذه الطريقة ليجيب عنها بشعر، قال: وكنت أسميه " الشيخ العالم " مزاحا، وكان المطرز يغضب من هذا اللقب: العالم الأوحد؟ أطال الله عمره وأدام سعده، محل العصمة ودارها، ومعرس الحكمة ومدارها، وراحة كل صدر، وعدة كل حر، ومحط الرحال، ورأس مال الآمال، كل دهر أحال عهده مر، وكل صحو لا أراه معه سكر، حرس الله آلاءه، ولا أعدمه الطول وإسداءه، معلوم ما حاوله رعاه الله ملاحاة، وسأله معاداة أو مصاداة، لأحسر لسؤاله، ولأسمو لدرك محاله، ولعمر الله وعمره كل كلام اطرح معه العادة المعلومة، وهدر له الحال المعهودة، وعر مسلكه، وعسر مطلعه، وصار لمادة السداد هادما أساسه، ومحللا مرره وأمراسه، لا محله محل المكرم، ولا رصه رص المحكم، وهو سداد لعدم. ولو سواه حرسه الله سام ما سامه، لما أدرك مرماه ولا حمد مسعاه، ولا سمع دعاؤه، طول الدهر، ولا ساعده ساعد ولو مد له العمر، والسلام. قال: وغدا مهيار علينا فأنشدنا لنفسه في هذا المعنى: وعد لرملة كد الصدر ممطول ... دم الكرى معه ما سال مطلول وصل هو الصد محمود موارده ... حل المحلا وهرم وهو محمول أما صحا أو سلا إلا أعاد له ... عهد الأولى طلل كالسطر محمول محاه كل ولود الرعد حامله ... مدار ما حار هاد وهو مدلول راحوا وحل وكاء الدمع عاصمه ... وطاح ما طاح دمع وهو محلول ساروا وكم أمل سار وراءهم ... وكل ما وعد الأملاء مأمول وطاول الدهر عمر لا ملال له ... مع السرور وطول العمر مملول

_ (1) هو عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب عرف بالمطرز، وكانت وفاته سنة 439.

وتأخر وعد المطرز بالشعر، فكتب إليه الرئيس أبو الحسن ابن نصر في المعنى: لم وعد أسعد الله المساعدة وعدل، وسهل الحمل وما حمل، وكلامه روح الصدور وسرها، وراح الأسماع وعطرها، ولم أهمل عادة إسعاده، وهدر معهود سماحه؟ الأمر عراه أم حاد حداه، ولم مطل وعده، وصرح رده، وما عراه مراد، ولا حط له والحمد له عماد، والسلام. وعرف هذه الجملة والمفاوضة أبو الحسن ابن الحسين الغضائري، فكتب رقعة مشتملة على نظم ونثر في هذا المعنى منها: أمرك؟ حرسك الله وأطال عمرك - المطاع، ومرسومك لا مراد له ولا مراع، ولمرادك ما أسلك السماوة ولا علم، وأورد الآل المحال ولامكرع، وأروع الآله الوادعة والأداة الصالحة لأمر لامرعاة ممرع ولا مورده مطمع، ولا مسرحه ممطور، ولا مراحه معمور، والكلام؟ أدام الله علاك - مسؤول، ومع الإلحاح مملول، ومع الادامه صلد الصمم، ممر المرر، طوره أطوار، وحاله أحوال، حلال رحال، صرام وصال، ما أطاعك إلا عصاك، ولا والاك إلا عاداك، ما رام أحد سهله إلا وعر، ولا أراد [حلوه] إلا مرر، كم سامه الكامل وعاد مطرودا، وداسه العالم وآل مردودا، والعلم الكال عامل ما حد له، وساع لما رسم له، أصار الله سماء العلاء دارك، وسهم السعادة مطلعك، وأدام سموك، وأهلك عدوك، والسلام للرسول وأهله. ومن النظم: اسعد ودام لك الإمهال والعمر ... هل رمل رامة محمود له المطر وهل أراك وأمواه لعارمه ... كالعهد لا الورد أعداه ولا الصدر وهل أرود ودار الوصل آهله ... دارا كدارك لولا روحها العطر لله صدر رواه كل ساحرة ... كحلاء مرهاء ممدوح لها الحور واها لعلوة لا وصل كواصلها ... ولا عطاؤك مسمول ولا أمر صد ومطل وإدلال ومحرمة ... كما أعاد رسول الآكل السمر لولا محمد لم أعط السلام ولا ... أمال سالم أمر اللمة الصبور دعا وطاوع ودا لا مراء له ... مسارع الأمر لا لاوٍ ولا صعر

كل هذا ولم يرد من المطرز المتحدى في هذا المعنى شيء. فكتب إليه الرئيس علي بن نصر يستبطئه ويقتضيه ويحثه على المهادنة: ما سلك العالم الأوحد؟ حرس معهوده؟ العادة، ولا عمل عمل السادة، رام أمرا ما حصله، وحكم حكما ما عد له، ووعد وعدا لواه، وحد حدا عداه، وسدى وما ألحم، وأورد وما أصدر، وسار مهملا أمره، وطار مسلما وكره، لا الكلام أسعده، ولا الكلال أمهله، هاله الأمر وراعه، وعصاه المرام وما أطاعه، محادة له علم معها مآل الصورة، وعمل لها عمل الصرورة، هاك الساعة الموادعة حصلها، وأحلها صدرك، واحرسها، وصرها دهرك واعكمها، ودع المراماة وراءك، وسرح المصارحة أمامك، وهلم السم، والسلام. - 11 - قال: كتب إلى أبو طاهر على بن الحسين عز الأستاذين من بعض أسفاره: من علامات المؤانسة، ودلالات المجالسة، التكاتب في السفر، والتزاور في الحضر، وأنت بهما حري، ومنهما عمر الله بري: ولو كنت أدرى أن ذا البين كائن ... لعاصيت عذالي وخالفت نصاحي وما كنت أعطي البين صفقة بائع ... ولو أن إدراك المنى بعض أرباحي قضاء من الرحمن ما استطعت رده ... وليس لأمر خطه الله من ما - 12 - قال: كنت أكاثر أبا الفرج عبد الواحد بن نصر الببغا وأزوره دائما مع القاضي أبي محمد أخي رحمه الله، فتأخرنا عنه لشغل عرض لنا، وكتب إلينا (1) : ذخرت أبي نصرا لحظ أناله ... فبلغني أقصى المنى ببني نصر وجدتهم الذخر القديم ولم أكن ... علمت بأن الذخر يعزى إلى الدهر

_ (1) لم يرد البيتان في شعره المجموع.

واستمر بنا الإبطاء عنه فكتب إلينا رقعة أولها (1) : بني علي بن نصر ... دعاء باسط عذر أسرفتم في وصالي ... وليس يحسن هجري إن رأيتما؟ جعلت فداءكما - أن تبرئا رمد طرفي بالنظر إليكما فعلتما، فحضرناه، وقلت: يا سيدي، ذكرتني لعمرك هذه أبيات أبي فراس التي كتب بها من الأسر إلى ولدي سيف الدولة (2) : يا سيدي أراكما ... لا تذكران أخاكما أوجدتما بدلا به ... يبني سماء علاكما فقال لي: أحسنت، والله لقد كتبت الرقعة والأبيات في ذكري. - 13 - (3) حدثني أبو الفرج الببغاء قال: قصدت يوما أبا العباس النامي المصيصي (4) بعد تأخره عن سيف الدولة لأجل ما كان تنجز بينهما في معنى المتنبي وتقديمه له عليه، فعرفته خبره، وتفاوضنا ما جرى مع سيف الدولة فقال: يا أبا الفرج خدمته الدهر الأطول وما رعى واستجمل أن يقول لي: قال المتنبي، وأنا الذي أقول: له نظره نحو الحمول بحومل ... وأخرى إلى ودان صادقه الود إلى ها هنا عهد الوداع الذي به ... عهدت وما لي بالتجلد من عهد فيا قلب أعوان عليك كثيرة ... ومالك من صبر عليهن من بد وشاة وعذال وبرق ودمنة ... ألا قلما أجدت عليك وما تجدي

_ (1) لم يردا في شعره المجموع. (2) ديوان أبي فراس 2: 370 وولدا سيف الدولة هما أبو المكارم وأبو المعالي. (3) بغية الطلب: 2: 35. (4) هو أحمد بن محمد النامي الدارمي المصيصي، كان عارفاً بالأدب واللغة، روى عنه أبو الفرج الببغا وأبو الخطاب ابن عون الحريري وأبو بكر الخالدي وغيرهم، وله كتاب في العروض اسمه " المقنع ".

- 14 - (1) حدثني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر قال: كان الشيظمي (2) منقطعا إلى سيف الدولة قبل ورود المتنبي إليه، يقول شعرا مختل النسج مضطرب النظم، حتى إذا قامت للمتنبي سوق عند سيف الدولة دخله شبيه شيطان فقال شعرا جيدا، وكان سيف الدولة شجر بينه وبين أخيه ناصر الدولة منافرة بسبب الرحبة لأنها كانت لأخته وماتت، ورام ناصر الدولة استضمامها إلى أعماله، وهى جاريه فى أعمال سيف الدولة فقال لنا: قد عرفتم ما كان من ناصر الدولة، فمن حضره في ذلك شيء فليقل، فغدا الشعراء عليه فأنشدوه فسمع من كل منهم، وقال: اسمعوا إلى من اختصر واقتصر، وأنشدنا لنفسه (3) : تركت لك الكبرى لتدرك سبقها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق وما عاقني عنها نكول وإنما ... تغاضيت عن حقي فتم لك الحق ولست أبالي أن أجيء مصليا ... إذا كنت أهوى أن يكون لك السبق فاستحسنا ذلك ودعونا له. وأنشدني لنفسه (4) في ذلك قطعه ميميه أولها: في الحلم ما ينهى ذوي الأحلام ... عما يخالف عادل الأحكام قال فيها: يا ناظري ويعز أن أقذى ويا ... قلبي وكيف أروعه بملام

_ (1) بغية الطلب 9: 172. (2) أبو القاسم الشيظمي اسمه نصر بن خالد، وكان أحد معلمي سيف الدولة وكان يتبسط عليه بدالة التربية والصحبة (بغية الطلب: 9: 171) . (3) الأبيات في اليتيمة 1: 46 وتاريخ ابن الأثير 8: 580 وابن خلكان 2: 116. (4) يعني: البغاء أبو الفرج أنشد ابن نصر مؤلف المفاوضة.

أسخطت عمدا في عقوق دولة ... ثبتها نصرا بحسن قيامي إن كنت ناصرها فإني سيفها ... والقتل لا يرضى بغير حسام وبكفك الصمصام مني فارعه ... حفظا ولا تخدع عن الصمصام لك في الأباعد من عدائك شاغل ... عما تعق به ذوي الأرحام وحضر الشيظمي وكان قد تأخر فأنشده: سوق المكارم آذني بكساد ... شغل الأكارم عنك بالأحقاد أأخي وما أحلى دعاءك يا أخي ... هذا وقد جرحت مداك فؤادي أتضيمني وأبي أبوك وإنما ال ... تفضيل بالآباء والأجداد وبلادك الدنيا ولم تجدب ولا اس ... توبلتها فلم انتجعت بلادي يا طارق الغابات غير محاذر ... إياك فهي مكامن الآساد الآن أعذر حاسدي وحجتي ... في ذاك أنك صرت من حسادي وقال أبو الفرج: وكان سيف الدولة يمازحه كثيرا ويولع به دائما ويتبسط الشيظمي عليه فضل تبسط ويحتمله. قال: كنا بحضرة سيف الدولة ليلة من الليالي فدخل الشيظمي فقال سيف الدولة: انظروا كيف أجننه ويرجع، فقال له حين أقبل: أي وقت هذا تقصد فيه السلاطين؟ وما الذي عرض حتى جئت فيه؟ ولم يزل يوبخه ويظهر الغيظ منه، فلما سمع الشيظمي ذلك رجع. فقال له سيف الدولة: إلى أين؟ قال أنصرف، فإني قد بلغت غرضي وقضيت حاجتي، قال وما هي؟ قال: حضرت لأغيظك، وقد اغتظت، ولم يبق لي شغل. قال فضحك سيف الدولة حتى استلقى ثم قال: بحياتي، أمعك شعر؟ قال: نعم، فأنشده قصيدة أولها: من جانب الغي توخى رشده ... ومن بغى الشكر بجود وجده وفعلك الخير مفيد خيره ... أفلح من أطلق بالخير يده ومضى فيها، فاستحسنها سيف الدولة وأحسن جائزته عنها.

- 15 - (1) حدثني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر الببغاء، قال: كان أبو الطيب المتنبي يأنس بي ويشكو عندي سيف الدولة ويأمنني على غيبته له، فكانت الحال بيني وبينه صافية عامرة دون باقي الشعراء، وكان سيف الدولة يغتاظ من عظمته وتعاطيه ويجفو عليه إذا كلمه، والمتنبي يجيبه في أكثر الأوقات ويتغاضى فى بعضها. قال: وأذكر ليلة وقد استدعى سيف الدولة بدرة فشقها بسكين الدواة، فمد أبو عبد الله ابن خالويه النحوي جانب طيلسانه، وكان صوفا أزرق، فحثا فيه سيف الدولة شيئا صالحا، ومددت ذيل دراعتي، وكانت ديباجا، فحثا إلي فيها، وأبو الطيب حاضر، وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا أو يطلب شيئا منها، فما فعل، فغاظه ذلك فنثرها كلها، فلما رأى المتنبي أنها قد فاتته زاحم الغلمان يلتقط معهم، فغمزهم عليه سيف الدولة فداسوه وركبوه وصارت عمامته وطرطوره فى عنقه واستحيى، ومضت له ليلة عظيمة وانصرف. وخاطب أبو عبد الله ابن خالويه سيف الدولة في ذلك فقال: ما يتعاظم تلك العظمة ويتضع إلى مثل هذه المنزلة إلا لحماقته. - 16 - (2) حدثني أبو الفرج [الببغا] قال: هربت وقتا من الأوقات من أبي العشائر (3) وصرت إلى حلب، وسألت سيف الدولة أن يمنعه مني وقلت: إن أخلاقه لا تلاوم أخلاقي، وقد ربيتني واصطنعتني وأريد أن لا أبرح حضرتك ومجلسك، قال: افعل، ومضى على هذا مديدة قريبة، فدخلت يوما وإذا بين يدي سيف الدولة رجل

_ (1) إنباه الرواة 1: 326 - 327 وانظر: الصبح المنبي: 48 - 49. (2) بغية الطلب 5: 12. (3) هو الحسن بن علي بن الحسين بن حمدان ولاه سيف الدولة أنطاكية، وبه اتصل المتنبي قبل اتصاله بسيف الدولة (انظر ترجمته في بغية الطلب 5: 11) .

عربي لا أعرفه عليه جبة ديباج وفرو وعمامة خز بلثامين، متقلدا سيفا محلى، وهو جالس على السرير ورجليه [كذا] على الأرض، وسيف الدولة يقبل عليه يحادثه، فاستطرفت ذلك، ولم يكن في العرب كلها من يجلس تلك الجلسة مع سيف الدولة، قال: ونهض فإذا هو أبو العشائر، فلما رأيته أسقط في يدي، ودنا مني فقبض علي، فقلت لسيف الدولة: أيها الأمير الذمام، فقال: ليس على أبي العشائر ذمام، احتفظ به فإنه فرار. فلم يبق في موضع للمنازعة، فقلت: أيها الأمير، أيمكنني الخروج؟ قال: ولم؟ قلت: علي دين، وأحتاج إلى ابتياع شعير لدوابي، وحنطة لغلماني، وهذا وجه الشتاء ولابد أن أنظر في أمري، فقال: كل هذا يتنجز الساعة، ووقع إلى الداريح بكرين شعيرا، وإلى صاحب المنثر بثلاثة أكرار حنطة، وأطلق من خزانته ألفي درهم، وأمر بحمل عشر قطع ثيابا، وحصل جميع ذلك وما تعالى النهار، وهو جالس في دار سيف الدولة، فلما حضر صاحبه وعرفه حصول ما عددته كله، قال: اركب على اسم الله، ومضيت معه إلى أنطاكية فما كان يخليني من خلعة وبر وتفقد، ورسومي على سيف الدولة مطلقة في أوقاتها غير متأخرة عني بحال، وهذه كانت عادات الرؤساء في الإفضال. - 17 - (1) حدثني أبو القاسم الرقي المنجم قال: كان السري بن أحمد الرفاء يوما جالسا معنا في دهليز سيف الدولة، فوصف له دعوة كان فيها فقال: وكان فيها هريسة؟ بكسر الهاء - ثم أنشدنا قصيدة له أولها (2) : أأقحوانا أرته أم بردا ... غيداء يهتز عطفها غيدا حتى قال فيها: لو وجدت للفراق ما وجدا ... لافتقدت نومها كما افتقدا

_ (1) بغية الطلب: 8: 228. (2) هي في ديوانه رقم: 133 (2: 69) وفيه أنه يمدح بها أبا الفوارس سلامة بن فهد.

ثم خرج الآذن فدخلنا إلى سيف الدولة، وتفاوضنا الحديث، وأنشده الشعر السري فاستطابه واستحسنه، فحلف بعض الحاضرين، وأظنه الفصيصي، أن سريا الساعة كان يحدثنا حديث دعوة فقال، وكان فيها هريسة - بكسر الهاء - فقال سيف الدولة: ويلك من يقول هريسة يقول مثل هذا الشعر؟ وفي هذه الأبيات: لا تلح صبا على صبابته ... إذ وجد الغي في الهوى رشدا فلم تزل للفراق عادته ... تكدر المورد الذي وردا سرنا بآمالنا إلى ملك ... يسر بالآمل الذي وفدا مستيقظ الرأي والعزيمة ما اس ... تيقظ طرف الزمان أو رقدا - 18 - (1) وأنشدني له في الكانون، ووجدت القصيدة في سلامة بن فهد (2) : وأزهر وضاح يروق عيوننا ... إذا ما رميناه بلحظ النواظر له أربع تأبى السرى غير أنها ... تصافح وجه الأرض مثل الحوافر تقل جسوما بعضها في مورد ... وسائرها في مثل صبغ الدياجر تواصله أيام للقر صولة ... وتهجره أيام لفح الهواجر - 19 - (3) حدثني أبو القاسم الرقي المنجم عن سيف الدولة أنه انهزم في بعض السنين وقد حللت الصناديق عن بغاله، في بعض دروب الروم وأنها ملأت الدروب، وكان على فرس له يعرف بالثريا، وأنه حرك عليها نحو الفرسخ حتى نزل ولم يعثر ولم يتلعثم، وأخبرني أنه بقي معه في هذه السفرة تسعة أنفس، أحدهم المتنبي وأنه كان يحدث أبا عبد الله ابن خالويه النحوي - حديث الهزيمة، وأن المتنبي كان

_ (1) بغية الطلب 8: 229. (2) الديوان رقم: 218 (2: 246) . (3) بغية الطلب 1: 40.

يجرى بفرسه، فاعتلقت بعمامته طاقة من الشجر المعروف بأم غيلان، فكلما جرى الفرس انتشرت العمامة، وتخيل المتنبي أنه قد ظفر به، فكان يصيح: الأمان يا علج، قال: فهتفت به وقلت، أيما علج؟ هذه شجرة قد علقت بعمامتك، فود أن الأرض ساخت (1) به، وما سمعته يقول ذلك، فقال ابن خالويه: أيها الأمير أفليس قام معك حتى بقي في تسعة أنفس؟ تكفيه هذه الفضيلة. - 20 - (2) قال ابن نصر: حدثني أبو القاسم الرقي منجم سيف الدولة قال: كنت في صحبه سيف الدولة في غداة المصيبة المعروفة، وكان سيف الدولة قد انكسر يومئذ كسرة قبيحة، ونجا بحشاشته، بعد أن قتلت عساكره قال: فسمعت سيف الدولة يقول وقد عاد إلى حلب: هلك مني من عرض ما كان في صحبتي خمسة آلاف ورقة بخط أبي علي ابن مقله. قال: فاستعظمت ذلك وسألت بعض شيوخ خدمه الخاصة في ذلك، فقال لي: كان أبو علي منقطعا إلى بني حمدان سنين كثيرة يقومون بأمره أحسن القيام، وكان ينزل في دار قوراء حسنة، وفيها فرش تشاكلها ومجلس دست، وله شيء للنسخ وحوض فيه محابر وأقلام، فيقوم ويتمشى في الدار إذا ضاق صدره، ثم يعود فيجلس في بعض تلك المجالس وينسخ ما يخف عليه، ثم ينهض ويطوف على جوانب البستان، ثم يجلس فى مجلس آخر وينسخ أوراقا آخر على هذا، فاجتمع في خزائنهم من خطه ما لا يحصى. - 21 - (3) قال ابن نصر الكاتب، حدثني أبو القاسم الرقي منجم الأمير سيف الدولة، قال: دخلت بغداد أيام عضد الدولة، وقد لبست الطيلسان وتشاغلت بالمتجر عن

_ (1) في الأصل: خاست. (2) معجم الأدباء 9: 31 - 32 (3: 151) . (3) تاريخ الحكماء للقفطي: 429 - 430.

النجوم، قال: فاجتزت يوما بسوق الوراقين وإذا بأبي القاسم القصري جالسا في دكان وهو يقوم، فوقفت أنظر ما يعمل، فرفع رأسه وقال: انصرف عافاك الله ليس هذا شيء تفهمه، قال: فجلست حينئذ وتأملته فإذا به يقوم المشتري؟ هكذا قال أو غيره من الكواكب - فلما شارف الفراغ منه قلت: لم فعلت هذا وأخرجت نفسك إلى عملين وضربين كنت غنيا عنهما؟ قال: فأي شيء كنت أفعل؟ قلت: تفعل كذا وكذا، وقد خرج ما تريد، ثم نهضت مسرعا فقام ولحقني وعلق بي وقبل رأسي واعتذر وقال: أسأت العشرة وعجلت، وسألني عن اسمي فأعلمته فعرفني بالذكر واستدل على داري وصار يقصدني ويسألني عن شكوك تعترضه فأفيده إياها، واستكثر مني وصار صديقا وخليلا. - 22 - (1) حدثني أبو الحسن الحلبي، وكان شيخا يعرف أخبار سيف الدولة، قال: كنا مجتمعين يوما في دهليز سيف الدولة وجماعة من الشعراء والشيوخ المتقدمين كأبي العباس النامي وأبي بكر الصنوبري، ومن النشء اللاحقين كأبي الفرج الببغا والخالدين والسري، فتذاكروا الشعر، وأنشدت قصيدة المتنبي التي أولها (2) : فديناك من ربع وإن زدتنا كربا ... فاستحسن الجماعة قوله في إعظام الربع: نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا فقال السري: لولا أنكم إذا سمعتم ما قلته بعد هذا ادعيتم أني سرقته منه لأمسكت، وأنشد قصيدة لامية قال فيها: نحفى وننزل وهو أعظم حرمة ... من أن يذال براكب أو ناعل

_ (1) بغية الطلب 9: 60. (2) ديوان المتنبي: 318 وعجز البيت: فإنك كنت الشرق للشمس والغربا ...

فحكم الجماعة له في الزيادة في قوله: " نحفى وننزل ". [قال ابن العديم: قلت: في هذه الحكاية نظر، فإن الصنوبري توفي سنة أربع وثلاثين، وأبو الفرج لم يكن ورد إلى سيف الدولة] . - 23 - (1) قال أبو الخطاب ابن عون الحريري (2) ، وحدثني عنه أبو القاسم الشاعر بذلك، وقد رأيته، ولم أسمع هذه الحكاية منه قال: دخلت إلى أبي العباس النامي فوجدته جالسا ورأسه كالثغامة بياضا، وفيه شعرة واحدة سوداء، قلت له: يا سيدي في رأسك شعرة سوداء، قال: نعم، هذه بقية شبابي وأنا أفرح بها، ولي فيها شعر، قلت: أنشدنيه، فأنشدني (3) : رأيت في الرأس شعرة بقيت ... سوداء تهوى العيون رؤيتها فقلت للبيض إذ تروعها ... بالله إلا رحمت وحدتها وقل لبث السوداء في وطن ... تكون فيه البيضاء ضرتها ثم قال يا أبا الخطاب: بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف سوداء بين ألف بيضاء؟. - 24 - (4) وأنشدني (أبو يوسف ابن البريدي) لأبي الخطاب الحريري: يا قرة العين الذي ... صار عليها رمدا مللت من عد ذنو ... ب ليس تحصى عددا ما زلت تستفسد حبي ... لك حتى فسدا

_ (1) بغية الطلب 9: 77. (2) أبو الخطاب ابن عون الحريري شاعر روى عن أبي العباس النامي شيئاً من شعره. (بغية الطلب 9: 77) . (3) وفيات الأعيان 1: 126. (4) بغية الطلب 9: 78.

وله أقطاع ملاح؛ وهو صاحب الأبيات المشهورة التي يغنى بها وهي: يا غائبا عن سواد عيني ... سكنت من قلبي السوادا وشهرتها تغني عن ذكرها، إلا أن فيها ما هو طرازها عند الشعراء، أنشدنيه الأستاذ أبو الحسن مهيار وهو: تميمة الوصل هجر يوم ... في الدهر لكن أراه زادا وكيف أرجو الوصال ممن ... تاب من الهجر ثم عادا - 25 - (1) ومن المليح النسيج ما أنشدنيه أبو الخطاب النحوي الشاعر لأبي إبراهيم العلوي الحلبي، ولم يلقه وإنما رواه له، وأنشده إياه بعض أولاده بحلب: أومت بكف خلته بارقا ... لولا عبير عرفه ساطع وأبرزت وجها كشمس الضحى ... يؤخذ من أنواره الطالع - 26 - (2) وقال ابن نصر: حدثت يوما أبا الفرج الببغا الشاعر أن أبا الفرج منصور بن بشر النصراني الكاتب كان منقطعا إلى أبي العباس ابن ماسرجيس، فأنفذه مرة إلى أبي عمر إسماعيل بن أحمد عامل البصرة في بعض حاجاته، فعاد من عنده مغضبا لأنه لم يستوف له القيام عند دخوله، وأراد العباس إنفاذه بعد أيام، فأبى وقال: لو أعطيتني زورق ابن الخواستيني مملوءا كيمياء، كل مثقال منه إذا وضع على ألف مثقال صفرا صار ذهبا إبريزا ما مضت إليه، فأمسك عنه مغيظا. وهذا زورق معروف بالبصرة، وحمله ثلاثمائة ألف رطل.

_ (1) بغية الطلب 9: 77. (2) معجم الأدباء 8: 83 - 85 (3: 57) .

وقد رأيت دواتي أبي العباس سهل بن بشر وقد حكي له أن ابن علان قاضي القضاة بالأهواز، ذكر أنه رأى قبجة وزنها عشرة أرطال فقال: هذا محال، قيل له: ترد قول ابن علان قال: فإن قال ابن علان إن على شاطىء جيحون نخلا غضارا صينيا بسواد أقبل منه؟. وقلت لأبي الفرج: للناس عادات في المبالغات، وهذا من أعجبها، فقال لي: كان الآمدي النحوي صاحب " كتاب الموازنة " يدعي هذه المبالغات على أبي تمام ويجعلها استطرادا لعيبه إذا ضاق عليه المجال في ذمه، وأورد في كتابه قوله من قصيدته التي أولها (1) : من سجايا الطلول ألا تجيبا ... خضبت خدها إلى لؤلؤ العقد دما أن رأت شواتي خضيبا ... كل داء يرجى الدواء له إلا الفظيعين ميتة ومشيبا ... ثم قال: هذه من مبالغاته المسرفة. ثم قال أبو الفرج: هذه والله المبالغة التي يبلغ بها السماء. - 27 - (2) وقال ابن نصر: حدثني الوزير أبو العباس عيسى بن ماسرجيس قال: كنت أخلف الوزارة ببغداد مشاركا لأبي الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان (3) فدعاني يوما إلى داره ببركة زلزل وتجمل واحتشد، ودعا بكل من يشار إليه بحذق في الغناء، من رجال وإماء مثل علية الخاقانية وغيرها من نظرائها في

_ (1) ديوان أبي تمام 1: 164 وعجز البيت: " فصواب من مقلتي أن تصوبا " والقصيدة في مدح محمد بن يوسف الثغري. (2) معجم الأدباء 14: 37 - 39. (3) استكتب الخليفة القادر بالله علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان سنة 386 (انظر: تاريخ ابن الأثير 9: 128) وسيذكر في القطعة: 29 أن القادر بالله قبض عليه واستكتب بدله أبا العلاء ابن تريك ثم أعيد ابن حاجب إلى ما كان عليه.

الوقت، وحضر القاضي أبو بكر ابن الأزرق نسيبه، وانتقلنا من الطعام إلى مجلس الشراب، فلما دارت الكأس أدوارا قال لي: ما أراك تحلف على القاضي ليشرب معنا ويساعدنا وإن كان لا يشرب إلا قارصا. قلت: أنا غريب ومحتشم له وأمره بك أمس وأنت به أخص، قال: فاستدعى غلاما وقال: امض إلى إسحاق الواسطي واستدع منه قارصا وتول خدمة القاضي؟ أيده الله؟ فمضى الغلام وغاب ساعة ثم أتى ومعه خماسية فيها من الشراب الصريفيني الذي بين أيدينا، إلا أن على رأسها كاغدا وختما وسطرا فيه مكتوب: قارص من دكان إسحاق الواسطي. قال: فتأمله القاضي وأبصر الخط والختم ثم أمر فسقي رطلا، فلما شربه واستوفاه قال للغلام: ويلك ما هذا؟ قال: يا سيدي هذا قارص، قال: لا بل والله الخالص، ثم ثنى له وثلث، فاضطرب أمر القاضي علينا وأنشأ يقول: ألا فاسقني الصهباء من حلب الكرم ... ولا تسقني خمرا بعلمك أو علمي أليست لها أسماء شتى كثيرة ... ألا فاسقنيها واكن عن ذلك الاسم فكان كلما أتاه بالقدح سأله عنه فيقول تارة: مدام، وتارة: خندريس، وهو يشرب، فإذا قال له: خمر حرد واستخف به، فيتوارى بالقدح ساعة ثم يعيده ويقول: هذه قهوة فيشرب به، فلم يشرب القاضي إلا بمقدار ستة أسماء أو سبعة من أسماء الخمر حتى انبطح في المجلس ولف في طيلسان أزرق عليه وحمل إلى داره. - 28 - (1) قال ابن نصر: حدثني أبو الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب (2) قال: كنت أتصرف في خزانة الكتب لبهاء الدولة بن عضد الدولة بشيراز

_ (1) معجم الأدباء 15: 122 - 124، وقد لخص الذهبي هذا الخبر في سير أعلام النبلاء 17: 317. (2) كانت وفاة ابن البواب سنة 413، انظر ترجمته في المنتظم 8: 10 ومعجم الأدباء 15: 120 (ط. دار المأمون) وابن خلكان 3: 342 وسر أعلام النبلاء 17: 315.

على اختياري وأراعيها له وأمرها مردود إلي، فرأيت يوما في جملة أجزاء منبوذة جزاء مجلدا بأسود قدر السكري، ففتحته وإذا هو جزء من ثلاثين جزءا من القرآن بخط أبي علي ابن مقلة، فأعجبني وأفردته وجعلت وكدي التفتيش عن مثله، فلم أزل أظفر بجزء بعد جزء مختلط في جملة الكتب إلى أن اجتمع تسعة وعشرون جزءا، وبقي جزء واحد استغرقت تفتيش الخزانة عليه عليه مدة طويلة فلم أظفر به، فعلمت أن المصحف ناقص، فأفردته ودخلت إلى بهاء الدولة وقلت: يا مولانا ها هنا رجل يسأل حاجة لا كلفة فيها، وهي مخاطبة أبي علي الموفق الوزير على معونته بينه وبين خصم له، ومعه هدية طريفة تصلح لمولانا قال: أي شيء هي؟ قلت: مصحف بخط أبي علي ابن مقلة، فقال: هاته وأنا أتقدم بما يريد، فأحضرت الأجزاء فأخذ منها واحدا وقال: أذكر وكان في الخزانة ما يشبه هذا وقد ذهب عني، قلت: هذا مصحفك وقصصت عليه القصة في طلبتي له حتى جمعته إلا أنه ينقص جزءا وقلت: هكذا يطرح مصحف بخط أبي علي؟ فقال لي: فتممه لي. قلت: السمع والطاعة، ولكن على شريطة أنك إذا أبصرت الجزء الناقص منها ولا تعرفه خلعة ومائة دينار، قال: أفعل، وأخذت المصحف من بين يديه وانصرفت إلى داري، ودخلت الخزانة أقلب الكاغد العتيق وما يشابه كاغد المصحف، وكان فيها من أنواع الكاغد السمرقندي والصيني والعتيق كل ظريف عجيب، فأخذت من الكاغد ما وافقني، وكتبت الجزء وذهبته وعتقت ذهبه، وقلعت جلدا من جزء من الأجزاء فجلدته به وجلدت الذي قلعت منه الجلد وعتقته، ونسي بهاء الدولة المصحف، ومضى على ذلك نحو السنة، فلما كان ذات يوم جرى ذكر أبي علي ابن مقلة فقال لي: ما كتبت ذلك؟ قلت: بلى قال: فأعطنيه، فأحضرت المصحف كاملا فلم يزل يقلبه جزءا جزءا وهو لا يقف على الجزء الذي بخطي، ثم قال لي: أيما هو الجزء الذي بخطك؟ قلت له: لا تعرفه فيصغر في عينك، هذا مصحف كامل بخط أبي علي ابن مقلة ونكتم سرنا؟ قال: افعل، وتركه في ربعه عند رأسه ولم يعده إلى الخزانة، وأقمت مطالبا بالخلعة والدنانير وهو يمطلني ويعدني، فلما كان يوما قلت يا مولانا: في الخزانة بياض صيني وعتيق ومقطوع وصحيح، فتعطني المقطوع منه كله دون الصحيح

بالخلعة والدنانير؟ قال: مر وخذه، فمضيت وأخذت ما كان فيها من ذلك النوع فكتبت فيه سنين. - 29 - (1) وحدث ابن نصر قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن عيسى الشاعر المعروف بحمدويه قال: لما قبض القادر بالله على أبي الحسن ابن حاجب النعمان واستكتب أبا العلاء ابن تريك وهى النظر وقل رونقة، واتفق أن دخل يوما إلى الديوان فوجد على مخاده قطعة من عذرة يابسة، فانخزل وتلاشى أمره، فقبض عليه وأعيد أبو الحسن إلى رتبته، وكانت بيني وبين أبي العلاء من قبل مماظة في بعض الأمور، فامتدحت أبا الحسن بقصيدة أولها: زمت ركائبهم فاستشعر التلفا ... حتى بلغت إلى قولي: يا من إذا ما رآه الدهر سالمه ... وظل معتذرا مما جنى وهفا قد رام غيرك هذا الطرف يركبه ... فما استطاع له جريا بلى وقفا لم يرجع الطرف عنه من تبظرمه ... حتى رأينا على دست له طرفا فدفع إلي صورة عنقاء فضة مذهبة كانت بين يديه فيها طيب وقال: خذ هذه الطرفة فإنها أطرف من طرفتك. - 30 - (2) وحدث ابن نصر قال: حدثني أبو الحسن المبدع؟ وكنت أعرفه قديما ودخل إلى بغداد خضيبا فأنكرته ثم عرفته؟ فجرى ذكر شعراء المصريين فقلت له: ما رأيت لهم شيئا ناصعا فقال لي: كان الآمدي يتولى أرزاق الشعراء والمتعطلين

_ (1) معجم الأدباء 14: 36 - 37. (2) معجم الأدباء 13: 162 - 164.

والأشرف والكتاب وكان خضيبا، ولم يسمه لي ولا كناه، ولا أعلم هل هو النحوي صاحب " كتاب الموازنة " أو غيره، إلا أني أذكر ما حكاه قال: منع الحسين بن بشر الكاتب أرزاقه فعمل فيه قطعة أولها: إن طغى الآمدي طغيان مثر ... راشه الدهر فالمريش يحص أيها الآمدي عقلك قد دل ... ل على أن آمد اليوم حمص إن حرصا يدعو إلى قطعك الأر ... زاق فينا على هلاكك حرص بسواد السماد تخضب يا شي ... خ فمن ذا سواده ما يبص ألق فيه عفصا فإنك تحتا ... ج إلى العفص حين يعكس عفص فقلت: تنشد هذا وأنت خضيب؟ فقال: الجيد يروى وإن كان على الراوي فيه دق الباب. - 31 - (1) قال ابن نصر: وجدت بخط أبي علي ابن مقلة على ظهر جزء " وغنتني ابنة الحفار ": إلى سامع الأصوات من أبعد المسرى ... شكوت الذي ألقاه من ألم الذكرى فيا ليت شعري والأماني ضلة ... أيشعر بي من بت أرعى له الشعرى قال ابن نصر: فقلت كفى ابنة الحفار هذا الصوت أن يذكرها، ويكتبه أبو علي ابن مقلة بخطه. - 32 - (2) قال علي بن نصر: أنزلني الشيخ أبو الحسن العلوي الحنفي الدار المعروفة

_ (1) معجم الأدباء 9: 30 - 31 (3: 151) . (2) تكملة تاريخ الطبري للهمذاني: 182 (ط. بيروت) 394 - 395 (ذيول تاريخ الطبري) .

بدعلج (1) في درب أبي خلف بإزاء داره فقلت له: لم أزل أسمع الناس يعظمون شأن هذه الدار وما أجدها كما وصفت، فقال لي: كان دعلج في هذه الدار، وكان شاهدا ومحدثا وعظيم الحال موسرا، وكان المطيع لله قد أودع أبا عبد الله ابن أبي موسى الهاشمي عشرة الآف دينار قبل إفضاء الخلافة إليه، فتصرف فيها وأنفقها وأدل بالقدرة عليها في طلبها، فلما ولي الخلافة طالبه بها، فوعده بحملها، ورجع إلى منزله وشرع في بيع شيء من أملاكه وثماره فتعذر، فألح المطيع بالمطالبة بالوديعة، فاعتذر بأنها مخبوءة ولا يقدر عليها إلا بعد ثلاثة أيام، فأنظره، فلما حضر وقت الوعد قلق ولم ينم ولم يتجه له وجه، وخاف أن يخرق به، ولم يعود ثلم جاهه، فركب في بقية الليل بغير غلام، وترك رأس البغلة تمشي حيث شاءت، فأفضت به إلى قطيعة الربيع، فدخلها وعطف إلى درب أبي خلف فإذا دعلج قد خرج وفي يده سمكة، فتأمله فقال له: خير؟ فقال: لا، [فقال] بالله انزل، فنزل ودخل داره وقص قصته، فقال: لا بأس، أي نقد كانت الدنانير؟ فقال: النقد الفلاني، فقال: يا غلام، أغلق الباب وحط ما عندك من العين واجلس مع الشريف وانتقد النوع الفلاني إلى أن أرجع من الحمام. فلما عاد كان الغلام قد انتقد القدر [المطلوب] فجعلها في أكياس وأنفذها مع غلمانه ثم قال: اكتب خطك في دفتري، فكتبت خطي بذلك إلى مدة أربعة أشهر وانصرفت. واستدعيت الظرف التي كانت دنانير المطيع فيه فنقلتها إليه وختمتها بالإسريحات التي كانت عليه، فأتاني رسول المطيع فحملت المال ووضعته بين يديه وقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يتقدم بوزنه، فقال: ما أفعل ذلك، وهي تحت ختمي، فخفت أن يتأمل الختم، فعجلت إلى كسره وحلفت بنعمته: لابد من أن تزنه، فوزن. واتفق أن دخل منضيعتي ثلاثة آلاف دينار قبل الأجل، فحضرت عند دعلج ودفعتها إليه فقال: لا إله إلا الله أيها الشريف، بم استحققت منك هذا؟ أرتجعه قبل المدة فأكون كذابا؟ فأمسكت الدنانير حتى تكاملت في وقتها.

_ (1) دعلج بن أحمد بن دعلج المحدث العدل توفي سنة 351، انظر: تاريخ بغداد 8: 387 والمنتظم 7: 10 والبداية والنهاية 11: 241.

- 33 - (1) حدثني أبو الحسن مهيار الشاعر قال: لما وزر أبو القاسم المغربي ببغداد تعظم وتكبر، ورهبه الناس، وانقبضت عن لقائه، ثم خفت عاقبة ذلك، فعملت فيه قصيدتي البائية المشهورة التي أولها: هل عند عينك على غرب ... ودخلت إليه فوقفت بين يديه طمعا في أن يجلسني فما فعل، فأنشدته: نعم دموع يكتسي تربة ... منها قميص البلد المعشب فرفع طرفه إلي وقال: اجلس أيها الشيخ فجلست، ومررت في القصيدة حتى بلغت إلى قولي: جاء بك الله على فترة ... ثانية من يرها يعجب لم تألف الأبصار من قبلها ... أن تطلع الشمس من المغرب فقال: أحسنت يا سيدي، فلما فرغت من الإنشاد جمع كل ما كان بين يديه من دينار ودرهم فدفعه إلي، وكان قدرها مائتي دينار، فقبلت الأرض وانصرفت. ودخل الصاحب أبو القاسم ابن عبد الرحيم رحمه الله فأعطاه دينارا ودرهما، فصاح بي: أيها الشيخ، فرجعت فسلمها إلي، وكان في الدينار ثلاثون مثقالا خالصا، ثم استدعى طستا وغسل كل ما مدح به من الشعر في ذلك اليوم.. وهذا وإن كان إحسانا من جانب فإنه سرف من جانب، ولو أحسن الدهر كله نهاره وليله لمحاه ما استجازه في الصاحب أبي القاسم، رضي الله عنه. - 34 - (2) حدث ابن نصر قال: حدثني الشيخ أبو القاسم ابن برهان النحوي قال، قال

_ (1) بغية الطلب 5: 29 وقد أورد الذهبي هذه الحكاية ملخصة في سير أعلام النبلاء 17: 395. (2) معجم الأدباء 14: 58 - 59 وإنباه الرواة 3: 287.

لنا أبو الحسن السمسمي (1) ؟ وقد سأله رجل مسألة من مسائل النوكي؟ حضر مجلس أبي عبيدة رجل فقال: رحمك الله أبا عبيدة ما العنجيد؟ قال: ما أعرفه هذا، قال: سبحان الله، أين يذهب بك عن قول الأعشى (2) : يوم تبدي لنا قتيلة عن جي؟ ... د تليع تزينه الأطواق فقال: عافاك الله؟ عن حرف جاء لمعنى، والجيد العنق. ثم قام آخر في المجلس فقال: أبا عبيدة رحمك الله ما الأودع؟ قال: - عافاك الله ما أعرفه قال: سبحان الله أين أنت عن قول العرب: زاحم بعود أو دع؟ فقال: ويحك هاتان كلمتان. والمعنى أو اترك أو ذر، ثم استغفر الله وجعل يدرس، فقام رجل فقال: - رحمك الله؟ أخبرني عن كوفا، أمن المهاجرين أم من الأنصار؟ قال: قد رويت أنساب الجميع وأسماءهم ولست أعرف فيهم كوفا: قال: فأين أنت عن قوله تعالى؟: {والهدي معكوفا} قال: فأخذ أبو عبيدة نعليه واشتد ساعيا في مسجد البصرة يصيح بأعلى صوته: من أين حشرت البهائم علي اليوم؟. - 35 - (3) مخرج الضمير المنجم: هاتره بعض الحاضرين وخاطره على دنانير في إخراج ما قد خبأ له، وأشهدنا على نفسه أنه متى أخرج ذلك فالدنانير له. فحط مخرج الضمير الزايرجة، ولم يزل يقول: خبأت جوهرا من جواهر الأرض لا طعم له ولا رائحة، ثم قال: وهو حجر، ثم رمى عمامته عن رأسه ومضى إلى السوق على تلك الحال وعاد وقال: خبأت مسنا كذا هو، ورمى من يده قطعة من مسن، وأخذ الدنانير. فلما سكن قلنا له: كل شيء قد عرفناه إلى أن عدوت مكشوف الرأس، قال: دلني كوكب على لون، وكوكب آخر على لون غيره، وتقابلت الدلالتان فلم تعلق إحداهما بالأخرى، ولم أدر إذا امتزجا ما اللون الذي يخرج

_ (1) إنباه: التميمي. (2) ديوان الأعشى: 140. (3) تاريخ الحكماء للقفطي: 335 - 336.

منهما وبينهما، وحمي قلبي من الفكر، فكشفت رأسي وعدوت إلى الصباغ وقلت له: إذا مزجت اللون الفلاني باللون الفلاني أي شيء يخرج بينهما؟ قال: مسني، فقلت: هو مسن، زجراً وتخميناً، فخرج الحدس صحيحاً. 36 - (1) عليّ بن محمد بن نصر الكاتب قال: اجتمعت به [أي بأحمد النهرجوري العروضي] بالبصرة في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وأنا في جملة أبي العباس ابن ماسرجيس، وسافرنا عنها إلى أرجان مع بهاء الدولة، وخرج النهرجوري معنا وأقام في مصاحبته، إلى أن تقلد أبو الفرج محمد بن عليّ الخازن بالبصرة في أواخر سنة اثنتين وأربعمائة، فعاد معه إليها، ثم وردتها في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة متصلاً بخدمة شاهنشاه الأعظم جلال الدولة بن بهاء الدولة وقد مات النهر جوري قبل ذلك بشهور، بعلة طريفة لحقته من ظهور القمل في جسمه عند حكه إياه، إلى أن مات. وكان شيخاًً قصيراً شديد الأدمة سخيف اللبسة وسخ الجملة، سيء المذهب متظاهراً بالألحاد غير مكاتم له، ولم يتزوج قط ولا أعقب، وكان قوي الطبقة في الفلسفة وعلوم الأوائل ومتوسطاً في علوم العربية، وعلمه بها أكثر من شعره، وكان ثلابة للناس هجاءً، قليل الشكر لمن يحسن إليه، غير مراع لجميل يسدى إليه، وأنشدني أشياء كثيرة من شعره ومنه: من عاذري من رئيس ... يعد كسبي حسبي لما انقطعت إليه ... حصلت منقطعاً بي فسمع ذلك أبو العباس أبن ماسرجيس فقال: هذا تدليس منه، وانا المقصود بالهجو، وإنما قال: من عاذري من وزير، وقد راقبني في تعبيره، فلما توفي النهرجوري حمل إلى أبي العباس مسوداته، فوجد فيها القطعة منسوبة إليه، فأخرجها ووقفني عليها وعرفني صحة حدسه فيه.

_ (1) معجم الأدباء 5: 74 - 75 (2: 120 - 121) .

- 37 - (1) قال ابن نصر: حدثني أبو أحمد العسكري بالبصرة، قال: كان أبو جعفر المجوسي عامل البصرة رجلاً واسع النفس، وكان يتعاهد الشعراء ويراعيهم، مثل العصفري والنهرجوري وغيرهم، وهم يهجونه، وكان هذا - وهذان خصوصاً - من أوضاعهم، وقد رأيت النهرجوري قال: فلما مات أبو جعفر رثاه النهرجوري بقوله: ياليت شعري وليت ربتما ... صحت فكانت لنا من العبر هل أزين شوثناً وأمته ... راكبة حوله على البقر يقدمهم أربعون لبسهم ... مع حلية الحرب حلة النمر وأنت فيهم قد ابترزت لنا ... كالشمس في نورها أو القمر قد نكحوا الأمهات واتكلوا ... على عتيق الأبوال في الطهر وشارفوا بالنساء قد ولدت ... غسل مضاريطها من الوضر وأصبحوا أشبه البرية بالظ ... ظرف وأولى بكل مفتخر (شوثن عند المجوس، يجري مجرى المهدي، ويزعمون أنه يخرج وقدامه أربعون نفساً، على كل منهم جلد النمر، فيعيدون دين النور) . قال: فقلت: يا أبا أحمد هذه بالهجاء أشبه منها بالمرثية بكثير، قال: هكذا قصد النهرجوري - لا بارك الله فيه - وقد عاتبته وقلت له: ما أستحق أبو جعفر هذا منك، فقال: ما تعديت مذهبه الذي يعترف به. - 38 - (2) قال ابن نصر الكاتب في كتاب المفاوضة: سألت أبا الحسن الزعفراني النحوي البصري في باب ما لم يتسم فاعله: لم لم يجز تصيير ما يشتغل بحرف الجر قائماً مقام الفاعل؟ ولم قصر به فعله بحرف الجر عن رتبة الفاعل فصار

_ (1) معجم الأدباء 8: 255 - 257 (3: 134) . (2) إنباه الرواة 4: 109 - 110 وانظر بغية الوعاة 1: 268 واسم الزعفراني محمد بن يحيى.

مفعولاً؟ فدل في ذلك بما أوضحه وقال لي: ما نفعني شيء من النحو سوى هذا الباب فإني كتبت رقعة إلى أبي الحسن عليّ بن محمد بن كامل عامل البصرة، سألته النظر من جملة المساحة بجريبين فوقع: " يترك له من عرض المرفوع في ذكر المساحة " ووقف وقفة [من] لم يدر كيف الإعراب: هل هو جريبان أو جريبين فكتب ثلاثة أجربة، فتبركت بهذا الباب فقط. قال ابن نصر: وسألت شيخه عليّ بن عيسى الربعي عن الزعفراني تلميذه هذا فأثنى خيراً ووصف وصفاً كثيراً. قال: وكان أبو الحسن الزعفراني قال لي: إن أبا عليّ الفارسي نزل البصرة فقرأت عليه " الكتاب " فقال لي: أنت مستغن عني يا أبا الحسن، قلت: إن استغنيت عن الإفهام فلم أغن عن الفخر والجمال. قال ابن نصر: فسألت الشيخ أبا الحسن عليّ بن عيسى بن الفرج الربعي عن هذا فصدقه وقال لي: قدم أبو عليّ الفارسي البصرة وأبو الحسن الزعفراني نحوي مستقل، وكان من أذكياء الناس. 39 - (1) قال ابن نصر الكاتب في المفاوضة ما مثاله: كان قد شجر بين أبي عبد الله ابن رطوبة النحوي وبين أبي الفتح أحمد بن عيسى الملقب بحمدويه منازعة في شيء من القوافي، وهل يجوز تحريك حرف الدخيل بغير الحركة التي يدأ بها؟ فزعم أبو عبد الله أن ذلك لا يجوز للشاعر، وأدعى ابن حمدويه جوازه وأحتج بقول البحتري في القصيدة اللامية التي يقول فيها (2) : ملوك يعدون الرماح مخاصراً ... إذا زعزعوها والدروع غلائلا ثم قال فيها:

_ (1) ؟ نباه الرواة 4: 139 - 140. (2) ديوان البحتري: 1606.

وقس يوم منويل وقد لمس الهدى ... بأظفاره أو هم أن يتناولا ويقول الخباز البلدي (1) : ذرى شجر للطير فيه تشاجر ... وقال: قيان وأوراق الغصون ستائر ... فقال: أخطأ الشاعران جميعاً، وتنابذا وتسابا، فعمل فيه حمدويه في الحال: أنت نحوي ولكن ... بدلت حاءك جيما في حر أم الدب المح ... ض إذا كنت عليما وأنشده إياهما، ونهض منصرفاً، فضحك الجماعة من ذلك، فشتمهم ابن رطوبه ومضى. - 40 - (2) قال ابن نصر الكاتب: حدثني أبو عبد الله ابن رطوبه النحوي قال: كنت بالكوفة ملازماً للشريف أبي عليّ عمر بن محمد بن عمر، فقدم علينا فتى من أهل الحجاز أديب ظريف وقصد الشريف أبا عليّ وتردد إليه ونادمه، وكان يقول شعراً مطبوعاً، فخاطبته في بابه دفعات وقلت له: هذا فتى غريب، وقد دخل دارك وتحرم بطعامك فبره وتفقده، فقال: ما مدحني، فقلت: ليس الرجل منتدباً لهذا،وإنما يقول الشعر تأدباً لا تكسباً، ولعلك إذا أحببت أن يفعل، فأعرض عني، ونقل المجلس إلى الرجل فحضرني واستخبرني عما جرى، فذكرته وحملت الحال له،

_ (1) اسمه محمد بن أحمد بن حمدان، وهو منسوب إلى مدينة " بلد " من بلاد الجزيرة، انظر التتمة 2: 189. (2) إنباه الرواة 4: 140 - 141.

قال: بلغني ماجرى على وجهه والله يحسن جزاءك، وأنشدني: عثمان يعلم أن الحمد ذو ثمن ... لكنه يشتهي حمداً بمجان والناس أكيس من ان يحمدوا أحداً ... حتى يروا عنده آثار إحسان وانصرف من الكوفة وكان آخر عهدي به.

كتاب الربيع

24 - (1) كتاب الربيع لغرس النعمة أبي الحسن محمد بن هلال

_ (1) ترجمته في المنتظم 9: 42 وابن خلكان 6: 101 (ضمن ترجمة أبيه) والوافي 5: 168 وتلخيص مجمع الأدب 2/4: 1163 وراجع مقدمة الهفوات النادرة ومقدمة رسوم دار الخلافة: 21 - 25، واعتماداً على هذين المصدرين رأيت ألا أطيل في ترجمته، بل أكتفي بالحديث عن مؤلفاته.

فراغ

غرس النعمة من أسرة شهيرة، أثل لها مجدها والد جده أبو إسحاق الصابىء، المترسل المعروف، وكان أبوه هلال أول من أعتنق الإسلام من أفراد تلك الأسرة، التي كان لكل فرد منها دورها في الحياة الفكرية والثقافية. وقد عرف لغرس النعمة ثلاثة مؤلفات وهي: 1 - الهفوات النادرة الجارية على ألسن المتحفظين والسقطات الآتية من الغارين الغافلين، وقد بدأه ببعض ما وقع هو فيه من هفوات، وجمع فيه طرفاً من الحكايات، ويبدو أنه وصلنا كاملاً (1) . 2 - التاريخ الكبير: لأسرة الصابئين دور هام في كتابة التاريخ، فوالد الجد أبو إسحاق كتب التاجي، ووالد هلال أعني المحسن كتب تاريخاً كبيراً يجيء في أربعين مجلداً، ثم حاول غرس النعمة أن يذيل على تاريخ أبيه. ولندع القفطي يحدثنا عن موضع كتاب غرس النعمة في سياق المؤلفات التاريخية، يقول القفطي: " وإذا أردت التاريخ متصلاً جميلاً فعليك بكتاب أبي جعفر الطبري رضي الله عنه فإنه من أول العالم وإلى سنة تسع وثلاثمائة (309) ومتى شئت أن تقرن به كتاب أحمد بن أبي طاهر وولده عبد الله فنعم ما تفعل لأنهما

_ (1) نشر بتحقيق الدكتور صالح الشتر، معارضاً على ثلاث نسخ، دمشق 1967م.

قد بالغا في ذكر الدولة العباسية وأتيا من شرح الأحوال بما لم يأت به الطبري بمفرده، وهما في الانتهاء قريبا المدة، والطبري أزيد منهما قليلاً، ثم يتلو ذلك كتاب ثابت فإنه يداخل الطبري في بعض السنين ويبلغ إلى بعض سنة ثلاث وستين وثلاثمائة (363) ، فإن قرنت به كتاب الفرغاني الذي ذيل به كتاب الطبري فنعم الفعل تفعله، فإن في كتاب الفرغاني بسطاً أكثر من كتاب ثابت في بعض الأماكن، ثم كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ، فإنه داخل كتاب خاله ثابت وتمم عليه إلى سنة سبع وأربعين وأربعمائة (447) ولم يتعرض أحد في مدته إلى ما تعرض له من إحكام الأمور والاطلاع على أسرار الدولة، وذلك أنه أخذ ذلك عن جده لأنه كاتب الإنشاء ويعلم الوقائع وتولى هو الإنشاء ويعلم الوقائع وتولى هو الإنشاء أيضاً، فاستعان بعلم الأخبار الواردة على ما جمعه، ثم يتلوه كتاب ولده غرس النعمة محمد بن هلال، وهو كتاب حسن إلى بعد سنة سبعين وأربعمائة بقليل، وقصر في آخر الكتاب لمانع منعه، الله أعلم به، ثم داخله ابن الهمذاني وتمم إلى بعض سنة اثنتي عشرة وخمسمائة (512) وكمل عليه أبو الحسن ابن الزاغوني، فأتى بما لا يشفي الغليل، إذ لم يكن ذلك من صناعته، فأوصله إلى سنة سبع وعشرين وخمسمائة (527) ثم كمل عليه العفيف صدقة الحداد إلى سنة نيف وسبعين وخمسمائة، ثم كمل عليه ابن الجوزي إلى بعد سنة ثمانين، ثم كمل عليه ابن القادسي إلى سنة ست عشرة وستمائة (616) " (1) . يبدأ كتاب غرس النعمة من سنة 448 (2) ويبدو من النقول التي أخذت عنه أن الإسهاب كان معتمده (3) ، وأنه لم يكن تاريخاً صغيراً، وقد تضاربت الآراء في الثقة به مؤرخاً، فابن الجوزي يروي عن أبي الوفاء ابن عقيل ما بفيد تفرده في هذا الباب وأن وفاته كانت نهاية لهذا النوع من النشاط ببغداد (4) بينما يرى هبة الله بن

_ (1) تاريخ الحكماء: 110 - 111. (2) هكذا قال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان حوادث سنة 448 (رسوم دار الخلافة: 22) . (3) نقل عنه ابن خلكان 3: 218 أخباراً تتعلق بالنظامية، ونقل عنه ياقوت 3: 125 وما بعدها أخباراً عن المعري. (4) المنتظم 9: 42 والوافي 5: 168.

المبارك السقطي أنه كان يجازف في تاريخه ويذكر ما ليس بصحيح، وأياً كان الأمر فإن ضياع الكتاب قد فوت علينا معرفة الشيء الكثير عن تاريخ الفترة التي تناولها. إن روح القصص التي تتمثل في كتابيه الآخرين ربما غلبت على كتابته التاريخية، ولكن ذلك لا يحول دون الإفادة من المادة التي دونها، لو وصل الكتاب. ونقل ابن العديم في بغية الطلب هذا النص عن تاريخ غرس النعمة (1) (حوادث449) : " وفي يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول توفي بمعرة النعمان في الشام أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان قال: وأذكر عند ورود الخبر بموته وقد تذاكرنا أمره وإظهاره الإلحاد وكفره ومعنا غلام يعرف بأبي غالب ابن نبهان من أهل الخير والسلامة والعفة والديانة فلما كان من غد يومنا حكى لنا وقد مضى ذلك الحديث فسمعه عرضاً فقال: أريت البارحة في منامي رجلاً ضريراَ وعلى عاتقه أفعيان متدليان إلى فخذيه، وكل منهما يرفع فمه إلى وجهه فيقطع منه لحماً يزدرده، وهو يصيح ويستغيث، فقلت: من هذا وقد أفزعني ما رأيته منه وروعني ما شاهدته عليه، فقيل لي: هذا المعري الملحد، فعجبنا من ذلك واستطرفناه بعقب ما تفاوضناه من أمرنا وتجاريناه ". 3 - كتاب الربيع: ابتدأه في سنة 468 (2) ليجعل منه ذيلاً على كتاب " نشوار المحاضرة " الذي صنفه أبو عليّ المحسن التنوخي، ولعله أنفق في تدوين ما فيه من حكايات سنين عديدة، وأمامه أنموذجه المفضل التنوخي الذي قضى في تأليف كتابه عشرين سنة، إلا أنه لم يكن ليضاهي التنوخي في طول المدة لأنه توفي في سنة 480، وعلى حسب هذا التصور يعد كتاب الربيع كتاباً كبيراً في غير مجلد واحد. ونجده في هذا الكتاب يروي عن قطاع كبير متفاوت من معاصريه من بينهم

_ (1) بغية الطلب 1: 214، وعنه نقول كثيرة في مرآة الزمان. (2) معجم الأدباء 17: 92.

الوزير أبو نصر ابن جهير ووالده هلال وجده المحسن وعن صابئي ماندائي يكنى بأبي سعد، وقد ضمنه حكاية رحلة قام بها ابن بطلان، وجعلها على صورة رسالة موجهة إلى أبي الحسين والد المؤلف، ولا ريب في أن الكتاب في مجموعه معرض لحكايات وطرائف، تفيد كثيراً في تصوير الحياة الاجتماعية شأنه في ذلك شأن كتاب النشوار (1) . - 1 - (2) حدثني بعض الخراسانية قال: خرج إلب أرسلان بن داود الملقب عضد الدولة وهو صبي إلى الصيد، فرأى شيخاً ضعيفاً على رأسه شوك قد قطعه وتعب به وهو ذا يقاسي من حمله شدةً وصعوبة، فقال له: يا شيخ، قال: لبيك قال: أتحب أن أريحك مما أنت فيه من هذا الكد والتعب والنصب مع الشيخوخة وكبر السن؟ فظن الشوكي انه يعطيه ما يكفه به عن ذلك ويعينه، فقال: أي والله، فرماه بنشابة قتله مكانه. - 2 - (3) أنبأنا عبد اللطيف بن يوسف عن أبي الفتح ابن البطي قال: أنبأنا أبو عبد الله الحميدي عنه قال: حدثني المسعود بن أبي المعالي الفضل وكان أحد [حجاب] البساسيري في المحرم من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة بالرحبة [وكنت] خرجت إليها خوفاً من جريرة فعل البساسيري جالساً في داره وأنا [على] رأسه إذ دخل غلامان بثياب

_ (1) في بعض المراجع لم يصرح الناقلون أن ما ينقلونه من كتاب الربيع على وجه التحديد، وقد يكون من تاريخ محمد بن هلال، ولهذا أشرت إلى كل حكاية لم يذكر نصاً أنها مأخوذة من كتاب الربيع. (2) بغية الطلب 3: 287 (وسويم: 34) . (3) بغية الطلب 2: 204 (وسويم: 14) .

حسان فنهض إليهما وخدمهما وقبل أيديهما وأرجلهما و [مشى] بين أيديهما فقالا له: يا [هذا] قصدت البصرة فعضدناك، والأنبار فأعناك، وسنجار فساعدناك، والموصل فقويناك، وبغداد فنصرناك وقا [لا بأيديهما] يضمانها ويبسطانها [ما] معناه، فما آخر ذاك، وإلى (متى) ؟ يكررانه دفعات، فاستطرف ذاك، وجاء خبره بعد أيام [من] الرحبة بقتله وزوال أمره. - 3 - (1) حدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر قال: حدثني نصر الدولة أبو نصر ابن مروان صاحب آمد وميافارقين وتلك الثغور وكان ناظراً له إلى حين وفاته قال: كان بعض متقدمي الأكراد معي على الطبق فأخذت حجلة مشوية مما كان بينيدي فأعطيته إياها فأخذها وضحك، فقلت: مم تضحك؟ فقال: خير، فظننت أنه قد عاب عليّ ذلك، فألححت عليه ودافع عن الجواب حتى رفعت يدي وقلت: لا آكل شيئاً حتى تعرفني سبب ضحكك ما هو، فقال: شيء ذكرتنيه الحجلة، وذاك أني كنت أيام الشباب والجهالة قد أخذت بعض التجار في طريق وما كان معه من المتاع وقربته إلى لحف جبل فأردت قتله خوفاً على نفسي منه وان يعرفني من بعد ويطالبني ويعرضني للقبيح ويعترضني، فقال: يا هذا قد أخذت مالي وأفقرتني وأولادي فدعني أرجع إلى عيلتي فأكد عليهم، فلا تحرمهم مالي ونفسي، وبكى وسألني وتضرع إلي فلم أرق له شرهاً إلى ما كان معه، فلما أيس من الحياة، التفت إلى حجلتين على جبل وقال لهما: اشهدا لي عليه عند الله تعالى أنه قاتلي ظلماً. وقتلته، فلما رأيت الحجلة الآن ذكرت ذلك الرجل وحمقه في استشهاده الحجل عليّ، قال ابن مروان: فحين سمعت قوله اهتززت حتى لم أملك نفسي، وتقدمت بأخذه وكتفه ثم ضرب رقبته بين يدي، فلم آكل حتى رأيت رأسه مترأ بين يديه بعد ان قلت له: قد والله شهدت الحجلتان عليك عند من أقادك بالرجل وأخذ له بحقه منك.

_ (1) بغية الطلب 2: 63.

- 4 - (1) وحدثني الوزير فخر الدولة قال: كان لبعض الأكراد المتوجهين فرس أعطي به ألف دينار، وجعلها ابن مروان ألف دينار وضيعة، فلم يبعه ولا طابت نفسه بمفارقته، وركب يوماً ابن مروان إلى الصيد فقيل له: أيها الأمير نفق البارحة الفرس الفلاني، فاغتم به وحزن عليه وأحضر صاحبه إليه وعزاه به لعظيم ما كان عنده منه، فوجده لا يقبل العزاء وعنده من الأسف على المال لا على الفرس ما غاظه، فقال له: يا هذا مالك؟ وما فرس حتى يلحقك هذا الأمر العظيم عليه، ولعل الله تعالى قد دفع عنك ما هو أعظم من ذهاب ثمنه منك، فقال: أهي فرس أيها الأمير؟ هي ألف دينار، فقال له: تأخذ ألف دينار وتجعل ثواب الفرس لي؟ فقال: نعم، فتقدم بإطلاقها له، وحضرني وتقدمت بتسليمها إليه، وانصرف بها فلم يصبح ألا أعمى يتلمس الحيطان، وجاءنا الخبر فعجب الأمير والناس أجمعون مما جرى في ذاك، ووقع للأمير أن الله تعالى قد دفع عنه بالألف دينار ما نزل بمن اخذها، وسر بذلك. - 5 - (2) وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر ابن جهير قال حدثني نصر الدولة أبو نصر ابن مروان صاحب ديار بكر عند خدمتي له، وقد جرى حديث أبي القاسم ابن المغربي قال: لما خدمني عند مجيئه من مصر وما جرى له مع الحاكم، جاءني يوماً ومعه سدس كاغد، فقال لي: قد أثبت في هذا السدس أسماء أصحابك الذين قد أخذوا أموالك وأخلوا خزانتك من مال يعد فيها لحاجة أو شدة ما قيمته ثلاثمائة وسبعون ألف دينار، شك الوزير في ذلك، وقال: إذا أخذت هذا القدر منهم لم تجحف بأموالهم، وكان كل منهم مرتباً في خدمته ومركزه وولايته، وتكون قد تقضيت من أموالك التي احتجنوها ما جعلته لك خزانة وعدة، فقلت له: يا هذا إنما نصبتك وزيراً لتعطيني وتعطي أصحابي بعمارة بلادي وتوفير أموالي، فأما مصادرة

_ (1) بغية الطلب 2: 63. (2) بغية الطلب: 2: 63.

أصحابي فلو أردت هذا لأخذت أنا أضعافه، وكفاني منك مردك صاحبي هذا الذي هو أهون وأدون من يخدمني ولم أكن محتاجاً فيه إلى مثلك، فقال لي: إذا كان هذا رأيك فأحرسني من أصحابك، ولا تطلعهم على ما قلته في معناهم فتفسد ما بيني وبينهم فقلت: أفعل، وتركني مديدة قريبة وقال لي: قد جرى في الجزيرة خلف بين الضامن لها وبين فلان وتفاقم الأمر فيه إلى أن احتاج إلى مشارفتي له وإصلاحه بنفسي، فتأذن في الانحدار إلى هناك، فمدة الغيبة عشرون يوماً وأعود وقد حسمت مادة ربما طمحت إلى حد يشغل قلبك؟ فعلمت أنه يريد المضي إلى الموصل، وقرواش بن المقلد أمير بني عقيل لما لم ير لشره عندي نفاذاً ولا عليّ نفاقاً، ولم يكن يحسن غيره، فقلت له: افعل ما ترى. وتشاغل بإصلاح أمره للانحدار، فجاءني موسك خالي وقال لي: عرفت أن أبا القاسم المغربي على الانحدار إلى الجزيرة، وكذب فإنه بنية المضي إلى الموصل؟ فقلت: قد عرفت ذلك وعلمته، ودعه يمضي إلى اللعنة فما في مقامه ها هنا لكم فائدة وكان موسك ممن سعى ابن المغربي به وأراد مصادرته وأخذ المال منه قال: وتدعه يمضي وقد أخذ أموالك وسرقها وحصلها واحتجنها، ولم لا تقبض عليه وتأخذ ما أخذ ثم تصرفه إلى اللعنة وسوء المنقلب؟ فضحكت منه وقلت: ليس كل من يأخذ مالي أرتجعه منه، ولعمري إنه خدمنا وانتفع منا وكسب معنا وأخذ ذلك منه لؤم، فأمسك. وانحدر ابن المغربي إلى الجزيرة ومنها إلى الموصل وخدمة قرواش، ثم إنحدر إلى بغداد وخدمة الملك مشرف الدولة أبي عليّ ابن بويه في سنة خمس عشرة وأربعمائة. - 6 - (1) حدثني أبي قال: حدثني جدي قال: كان أبو القاسم الجهني القاضي (وأظنه من أهل البصرة وتقلد الحسبة بها ومنها عرف أبا محمد المهلبي وصحبه) يشتمل على آداب يتميز بها، إلا أنه كان فاحش الكذب يورد من الحكايات ما لا يعلق بقبول

_ (1) معجم الأدباء 13: 123 - 124 (ولم يذكر أنها من كتاب الربيع هي والحكايات التي بعدها حتى رقم: 18) .

ولا يدخل في معقول، وكان أبو محمد قد ألف ذلك منه وقد سلك مسلك الاحتمال، وكنا لا نخلو عن حديثه من التعجب والاستطراف والاستبعاد، وكان ذلك لا يزيده إلا إغراقاً في قوله وتمادياً في فعله، فلما كان في بعض الأيام جرى حديث النعنع وإلى أي حد يطول، فقال الجهني: في البلد الفلاني يتشجر حتى يعمل من خشبه السلاليم، فأغتاظ أبو الفرج الأصبهاني من ذاك وقال: نعم عجائب الدنيا كثيرة، ولا يدفع مثل هذا وليس بمستبدع، وعندي ما هو أعجب من هذا وأغرب، وهو زوج حمام راعبي يبيض في نيف وعشرين يوماً بيضتين فأنتزعهما من تحته وأضع مكانهما صنجة مائة وصنجة خمسين، فإذا انتهى مدة الحضان تفقست الصنجتان عن طست وإبريق، أو سطل وكرنيب. فعمنا الضحك وفطن الجهني لما قصده أبو الفرج من الطنز، وانقبض عن كثير مما كان يحكيه ويتسمح فيه، وإن لم يخل من الأيام من الشيء بعد الشيء منه. - 7 - (1) وقال غرس النعمة: كان لوالدي تاجر يعرف بأبي طالب، وكان معروفاً بالكذب، فأذكر وقد حكى في مجلسه والناس حضور عنده: أنه كان في معسكر ابن سبكتكين صاحب خراسان ببخارى معه، وقد جاء من البرد أمر عظيم جمد منه المري حتى قد وفري وعملت منه خفاف، وأن الناس كانوا ينزلون في المعسكر فلا يسمع لهم صوت ولا حديث ولا حركة، حتى ضرب الطبل في أوقات الصلوات، فإذا أصبح الناس وطالعت الشمس وحميت ذاب الكلام فسمعت الأصوات الجامدة منذ أمس من أصوات الطبول والبوقات وحديث الناس وصهيل الخيول ونهيق الحمير ورغاء الإبل. - 8 - (2) قال غرس النعمة، حدثني أبو سعد الماندائي قال: دخلت يوماً على

_ (1) معجم الأدباء 13: 124 - 125. (2) معجم الأدباء 14: 115.

القاضي أبي القاسم التنوخي وكانت عينه رمدة أتعرف خبره فقال لي: حدثني من رأيت وما رأيت في طريقك؟ فقلت: رأيت منسفاً فيه نحو عشرين رطلاً رطباً أزاذاً لقاطاً ما رأيت مثله، فقال لغلامه: يا أحمد، عليّ بالمنسف الساعة، فمضى أحمد وابتاعه وجاء به فحل عينه وغسلها من الدواء الذي فيها وقال لي: كل حتى آكل فقلت يا سيدي عينك رمدة فكيف تأكل رطباً؟ فقال: كل فعيني تهدأ والرطب يفنى، فأكل والله منه حتى وقف. - 9 - (1) قال غرس النعمة: قال الماندائي: كنت ليلة بائتاً عنده فهبت ريح شديدة فما زال طرف النطع الذي تحته يصعد وينزل ويصفع رأسه فقال: هذا سقوط الساعة أم مصافعة؟ فقلت: ممن يا سيدنا؟ فقال: فضولك، وضحكنا. - 10 - (2) قال غرس النعمة وحدثني [الماندائي] ، حدثني القاضي قال: كنت يوماً في وقت القيلولة نائماً فاجتاز واحد غث يصيح صياحاً أزعجني وأيقظني: شراك النعال. فقلت لأحمد الغلام: خذ كل نعل لي ولمن في داري وأخرجها إلى هذا الرجل ليرمها ويشتعل بها ففعل، ونمت إلى أن اكتفيت ثم انتبهت وصليت العصر وأعطيته أجرته ومضى، فلما كان من غد في مثل ذلك الوقت جاء وأنا نائم فصاح وأنبهني فقلت للغلام: أدخله فأدخله فقلت: يا ماص كذا وكذا من أمه، أمس في هذا الوقت أصلحت كل نعل لنا، وعدت اليوم تصيح على بابنا، أبلغك أننا البارحة تصافعنا بالنعال وقطعناها، وقد عدت اليوم لعملها وإصلاحها؟ قفاه. فقال يا سيدنا القاضي: أو أتوب ألا أدخل هذا الدرب؟ قلت: فما تتركني أنام ولا أهدأ ولا أستقر؟ فحلف ألا يعود إلى الدرب وأخرجته إلى لعنة الله.

_ (1) معجم الأدباء 14: 115. (2) معجم الأدباء 14: 116 - 117.

قال: ورأيته يوماً عند الرئيس الوالد رضي الله عنهما وهو يشكو إليه قبح أبي القاسم ابن المسلمة رئيس الرؤساء وقصده له وغضه منه، وتناهى غضبه إلى أخذ الدواة من بين يدي الرئيس ورفعها إلى فوق رأسه وقال: والله لقد بال في حجري وعلى ثيابي بعدد الرمل والحصى والتراب، وحط الدواة فضرب بها الأرض فكسرت، فلما رأى ذلك قام وانصرف وقد استحيى وبقينا متعجبين منه. - 11 - (1) قال: وحدثني أبو سعد الماندائي قال: كنت مع القاضي التنوخي وقد خرج يوماً من دار الخلافة ليعبر إلى داره بالجانب الغربي، فلما بلغنا مشرعة نهر معلى صاح به الملاحون: يا شيخ يا شيخ تعال هنا تعال هنا، فوقف وقال لهم: كل مردي معكم ومجذاف في كذا وكذا من نسائكم، ما فيكم إلا من يعرفني ويعلم أنني القاضي التنوخي يا كذا وكذا ثم نزل وهو يسبهم ويشتمهم والفلاحون وأنا قد متنا بالضحك. وجاءه غلام قد تزوج وكتب كتاباً بمهر يشهده فيه واستحيى الغلام من ذلك فجذب طاقة من حصير القاضي وجعل يقطعها لحيائه وخجله، ولحظه القاضي فقال يا هذا: أنا أشهد لك في كتاب يقتضي أن يحمل به إليك القماش والجهاز اللذان يعمران بيتك ويجملان أمرك، وأنت مشغول بقطع حصيري وتخريب بيتي؟ وشق الكتاب قطعاً ولم يشهد فيه ورمى به إليه، فأخذه وأنصرف متعجباً. - 12 - (2) وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: شهد القاضي أبو القاسم منذ سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، إلى أن توفي في المحرم سنة سبع وأربعين وأربعمائة،

_ (1) معجم الأدباء 14: 117 - 118. (2) معجم الأدباء 14: 118 - 119.

وكان مولده يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة خمس وستين وثلاثمائة نيفاً وستين سنة ما وقف له على زلة ولا غلطة. وأذكر له حكاية وهي أنه شهد مع جماعة من الشهود على زوجة أبي الحسن ابن أبي تمام الهاشمي نقيب النقباء في إقرار أقرت به، فلما سمعوا إقرارها من وراء الستارة لم يقنعهم ذاك، وأرادوا من يشهد عندهم أن المقرة هي المذكورة في الكتاب بعينها، وأن يشاهدوها حتى يسلموا له، ويصح أن يشهدوا عليها بالمعرفة، فلم يقدموا على ذلك وخطاب أبي تمام فيه، فخرج ولده منها فقام له التنوخي وأخذه إلى حجره وقبل رأسه وقال له، قليلاً قليلاً: من هذه التي تكلمنا من وراء الستارة وتحدثنا وتشهدنا عليه؟ فقال له: ستي، فالتفت إلى الجماعة وقال لهم: اشهدوا ياسادة، فأنا أشهد عندكم أن المقرة عندنا من وراء الستارة هي المذكورة في الكتاب بعينها، فشهدوا وشهد معهم. وقال من بعد: هذا صبي لا يعرف ما نحن فيه، ولو كان خلف الستارة غير سته لقال، ولما كانت هي بعينها قال: هي ستي، ولعمري لقد كان أبو الحسن أجل من أن يفعل هذا معنا. - 13 - (1) قال أبو الحسين: كان لنا غلام يعرف بجميلة فابتاع ألف سابل سرجيناً من فلاح يعرف بالدابة ليحمله إلى قراحنا المشجر في نهر عيسى ليطرح في أصول الشجر، فلما ذكر جميلة ذاك للرئيس رضي الله عنه قال له: اكتب عليه خطاً وأشهد فيه، يعني المعلم في الدار ومن يجري مجراه، فكتب جميلة على الفلاح رقعةً ومضى بها لا يلوي على شيء إلى أن عاد التنوخي بين الصلاتين وهو جائع حاقن تعب، والزمان صائف، فقام إليه ودعا له وقال له: من أنت؟ قال: غلام فلان. قال: مالك؟ قال: شهادة. قال له: اقعد، ودخل فخلع ثيابه ودخل بيت الطهارة وأطال، والغلام يصيح: يا سيدنا أنا قاعد من ضحوة النهار إلى الساعة، فقال له: ويلك؟ اصبر حتى أخرى، اصبر حتى أخرى، اصبر حتى أخرى، ثم توضأ ليصلي فلم

_ (1) معجم الأدباء 14: 119 - 121.

يهنئه فقال: ادخل دخلت بطنك الشمس، فقد والله حيرتني وجننتني، فلما دخل أعطاه الرقعة فقرأها وقال: ويلك، ما اسم هذا الفلاح؟ فقال: الدابة يا سيدي فقال: وأي شيء يقر به؟ ويلك فما أقف عليه، أرى خمسة آلاف سابل ولا أدري ما بعده، فقال ياسيدنا خمسة آلاف سابل سرقين فقال له: وما السرقين؟ فقال: خرء البقر والغنم. قال: ياماص بظر أمه، أنا شاهد الخرء، ونهض إليه وهو مغتاظ فأخذ ينتف ذقنه ويضرب رأسه وفكه إلى أن جرى الدم من فيه وأخرجه، وجاء إلى الرئيس رحمه الله فحدثه بما جرى عليه فقال: يا هذا، الشهود يستشهدون في الخرا؟ أنت بالله أحمق. وجاءنا القاضي بعد العصر يشكو من جميلة ولزه وتوكله به، ويعتذر مما جره جنونه عليه، وما انتهى معه إليه، فضحكنا عليه، ومرت ساعة لنا طيبة بما أورده عليه. - 14 - (1) قال: وحدثني الرئيس أبو الحسين رضي الله عنه قال: حضر عندي القاضي أبو القاسم التنوخي يوماً وقد هرب الكافي أبو عبد الله القنائي ببغداد، وخرج إلى الأنبار ونظر أبي سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم، وكان التنوخي مائلاً إلى بني عبد الرحيم ونابياً عن أضدادهم. فبدأ بذكر القنائي وكان لي صديقاً بقبيح وزاد وخشن وخبط، فغمضت عيني واستلقيت على مخدتي لعله يكف ويقطع، فعلم ذاك مني فقفز إلي يحركني ويقول: والله ما أنت نائم، ولكنك ما تحب أن تسمع في القنائي قبيحاً. فقلت: ما أحب أن أسمع في القنائي ولا في غيره قبيحاً، وقد تناومت لتقطع فلم تفعل، ومضى، وبلغ القنائي المجلس بعينه. وعاد القنائي إلى بغداد ناظراً، ودخل التنوخي إليه مسلماً وخادماً فقال له: يا قاضي، ما فعلت بك قبيحاً يقتضي ذكرك لي وطعنك في، فقال: يا مولانا أنا مجنون. قال: إذا كنت مجنوناً فالمارستان لمثلك عمل، وفي حملك إليه ومداواتك فيه ثواب ومصلحة وكف لك عن الناس وأذاهم بجنونك وخباطك، يا

_ (1) معجم الأدباء 14: 121 - 122.

أنصاري للعريف على بابه: احمله إلى المارستان واحبسه مع إخوانه المجانين، فأخذ وحمل إلى المارستان وحبس فيه، قال الرئيس: وعرفت القصة فركبت إلى القنائي ولحقني المرتضى والرؤساء من الناس ولم نفارقه حتى أفرج عنه وأطلقه. - 15 - (1) واجتاز القاضي أبو القاسم يوماً فرأى في طريقه كلباً رابضاً فقال: اخسأ أخسأ، فلم يبرح، فقال: اخسأ، وعاد عنه ومضى. - 16 - (2) قال أبو الحسين: لقيته يوماً بنت ابن العلاف زوجة أبي منصور ابن المزرع وكانت عاهرة إلى الحد الذي تلبس الجبة المضربة، وتتعمم بالقياد وتأخذ السيف والدرقة، وتخرج ليلاً فتمشي مع العيارين، وتشرب إلى أن تسكر وتعود سحراً إلى بيتها، وربما انتهى بها السكر إلى الحد الذي لا تملك معه أمر نفسها فيحملها العيارون إلى دار زوجها على تلك الحال، فقالت له: يا قاضي ما معنى التاء التي تكتبها على الدراهم؟ وكان إليه العيار في دار الضرب، فقال لها: هذا شيء يعملونه كالعلامة، أن التنوخي متولي العيار فيأخذون التاء من أول نسبتي، فقالت: كذبت وأثمت أيها القاضي، تريد أن أقول لك معناها؟ فقال لها: قولي يا ست النساء، فقالت معناها يا قاضي: تنيكها يا قاضي، فضرب حماره ومضى وهو يقول لها: لحية زوجك في حجري، لحية زوجك في حجري. قال: ولقيه إنسان ومعه كتاب في الطريق فأعطاه إياه وسأله أن يشهد فيه فقال: هات دواة أو محبرة، فقال: ما معي، فقال: ويحك ما صبرت أن أنزل إلى

_ (1) معجم الأدباء 14: 122 - 123. (2) معجم الأدباء 14: 123 - 124.

داري وأشهد عليك بدواتي؟ بل اعترضتني في الطريق وليس معك ما تكتب منه. ويلك، من يريد أن ينيك في الدهليز يجب أن يكون أيره قائماً مثل دستك الهاون، وتركه ومضى. - 17 - (1) قال غرس النعمة: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن هلال جدي قال: لما سار عضد الدولة من بغداد عائداً إلى فارس أقام أبو الفتح ابن العميد بعده، ووصل إلى حضرة الطائع لله حتى خلع عليه وحماه وكناه ولقبه ذا الكفايتين، وتنجز منه خلعاً ولقباً لفخر الدولة أبي الحسن، وأقطع من نواحي السواد ضياعاً كثيرة رتب فيها نائباً يستوفي أرتفاعها ويحمله إليه، ودعاه أبو طاهر بن بقية عدة دعوات، وملأ عينه بالهدايا والملاطفات، وقال في بعض الأيام: لا بد أن اخلع على ابن العميد في مجلسي، ودعاه، فلما قعدا وأكل وجلس على الشرب أخذ ابن بقية بيده فرجية ورداء في غاية الحسن والجلالة، ووافى بهما إلى ابن العميد وقال له: قد صرت أيها الأستاذ " جامدارك " فانظر هل ترتضيني لخدمتك؟ وطرح الفرجية عليه، وقدم الرداء بين يديه، فأخذه ولبسه. - 18 - (2) حدثني بعض السادة الأصدقاء وأنسيته، وأظنه أبا طاهر محمد بن محمد الكرخي، قال: كانت بنت عضد الدولة لما زفت إلى الطائع بقيت بحالها لا يقربها خوفاً أن تحمل منه فتستولي الديلم على الخلافة، وكان الطائع يحبها حباً شديداً زائداً موفياً، ويقفل عليها باب حجرتها إذا شرب ويقول للخدم: خذوا المفتاح ولا تعطونيه إذا سكرت ورمت الدخول إليها، ولو فعلت مهما فعلت، فأقسم بالله لئن مكنت من ذاك لأقتلن الذي يمكنني منه، فإذا سكر منعه السكر من التماسك وحمله

_ (1) معجم الأدباء 14: 200 - 201. (2) معجم الأدباء 14: 114 - 116.

الحب والهوى على المضي إليها والدخول عليها فيجيء إلى بابها ويأمر بفتحه ويتهدد ويتوعد ولا يقبل منه، ولا يقر له أحد بمعرفة المفتاح أين هو ولا من هو معه، إلى ان ينصرف أو ينام، فذاك كان دأبه ودأبها. وتقدم عضد الدولة إلى أبي عليّ التنوخي في أواخر أيامه بأن يمضي إلى الطائع ويطارحه عن والدة الصبية في المعنى بما يستزيده فيه لها ويبعثه به عليها بأسباب يتوصل إليها وأقوال يصفها ويومئ إلى الغرض فيها رتبها عضد الدولة ولقنه إياها وفهمه فقال: السمع والطاعة، ومضى إلى بيته ولم يقدم على الطائع، وخاف عضد الدولة إن خالف ما رسمه له، فأظهر مرضاً وعاده أصدقاؤه منه، واعتذر به إلى عضد الدولة، فوقع لعضد الدولة باطن الأمر، وأمر بعض الخدم الخواص بالمضي إلى التنوخي لعيادته وتعرف خبره وأن يخرج من عنده ويركب إلى أن يخرج من الدرب، ثم يعود فيدخل عليه هاجماً، فإن كان على حاله في فراشه لم يتغير له أمر أعطاه مائتي دينار أصحبه إياها لنفسه وأظهر أنه عاد لأجلها لأنه نسيها معه، وإن وجده قاعداً أو قائماً عن الفراش قال له: الملك يقول لك: لا تخرج عن دارك إلينا ولا إلى غيرنا، وانصرف. قال الخادم: فدخلت إليه وهو في فراشه وعليه دثاره وخاطبته عن الملك، فشكر وأعاد جواباً ضعيفاً لم أكد أفهمه، وخرجت ثم عدت على ما رسم الملك، فهجمت عليه فوجدته قائماً يمشي حول البستان، فلما رآني اضطرب وتحير فقلت له: الملك يقول لك: لا تبرح دارك لا إلينا ولا إلى غيرنا، وخرجت، فبقي على ذلك إلى ان مات عضد الدولة. 19 - حدثني أبي قال: ركبنا جماعة فينا أبو عليّ ابن الحواري وأبو الحسن الديلمي وأبو طاهر الطيب العلوي وغيرهم إلى دعوة أبي القاسم الوتار فلقينا أبو الحسن البتي وسألنا أن نمضي معه إلى مؤيد الملك أبي عليّ الرخجي وزير الوقت في حاجة له إليه، فرأينا شكح المنجم الأعمى، وكان لا يعرف من النجوم كثير شيء إلا أنه كان فهماً ومهماً، قال: فقلنا له لا بد من أن تأخذ طالع الوقت وتحسب

لنا فيما نمضي وما يجري لنا فيه اليوم، فقال: أنتم بطرون، امضوا في طريقكم، فقلنا: ما نبرح إلا بعد ذلك، فأخذ له طالع الوقت غلام كان معه، فقال: أنتم أضياف، فقلنا: طريق فقال: يقدم إليكم فيها السماء بنجومها وللأستاذ أبي الحسن الذي معكم حاجة لا تنقضي، فقال له البتي: لا بشرك الله بخير، ويلك ما هذا مما تدل عليه النجوم، غير أنك قد رزقت حذقاً ردياً لا حياك الله ولا بياك. ثم فارقناه وقصدنا مؤيد الملك فما قضى الحاجة وخرق الرقعة التي للبتي لما عرضناها عليه، فعرفناه خبر شكح المنجم، وما قاله لنا طلباً لأن يرجع عن فعله فما رجع، ومضينا إلى ابن الوتار ونحن نتوقع السماء التي ذكرها، فقدم إلينا في آخر الطعام مقلي النرجسية وقد صبغ بياض البيض والباقلاء واللحم بالنيل حتى صار كزرقة السماء، وطرح صفار اليض عليه فصار كالنجوم، فعجبنا من ذلك واستطرفناه ولم نشتغل عند ابن الوتار في الدعوة ذلك اليوم إلا بحديث شكح المنجم. 20 - نسخة كتاب ورد من ابن بطلان بعد خروجه من بغداد بصورة ما لقي في سفرته إلى الرئيس هلال بن المحسن بن إبراهيم. بسم الله الرحمن الرحيم، أنا لما أعتقده من خدمة سيدنا السيد الأجل أطال الله بقاءه وكبت أعداءه دانياً وقاصياً، وأفترضه من طاعته مقيماً وظاعناً أضمرت عند وداعي حضرته العالية، وقد ودعت منها الفضل والسؤدد والمجد والفخر والمحتد، أن أتقرب إليها وأجدد ذكري عندها بالمطالعة مما أستطرفه من أخبار البلاد التي أطرقها، أو أستغربه من غرائب الأصقاع التي أسلكها، خدمة للكتاب الذي هو تأريخ المحاسن والمفاخر، وديوان المعالي والمآثر، ليودعه أدام الله تمكينه منها ما يراه، ويلحق ما يستوفقه ويرضاه. وعلى ذكره فما رأيت أحداً بمصر وهذه الأعمال أكثر من الراغب فيه، وكل رئيس في هذه الديار متشوف إليه متشوق

ولوصوله مترقب متوقع، ولو وصلت منه نسخة لبلغ الجالب لها أمنيته في ربحها ونفعها، وإلى الله تعالى أرغب في نشر فضيلته الباهرة ومحاسنه الزاهرة، بجوده. وكنت خرجت من بغداد وبدأت بلقاء مشايخ البلاد وخواصها، واستملاء ما عندهم من آثارها وعجائبها، فذكر لي أخبار مستطرفة وعجائب غريبة وأقطاع من الشعر رائقة، ولضيق الوقت وسرعة الرسول أضربت عن أكثره واقتصرت على أقله. وكنت خرجت على اسم الله تعالى وبركته مستهل شهر رمضان سنة أربعين وأربعمائة مصعداً في نهر عيسى على الأنبار، ووصلت إلى الرحبة بعد تسع عشرة رحلة، وهي مدينة طيبة وفيها من أنواع الفواكه ما لا يحصى، وبها تسعة عشر نوعاً من الأعناب، وهي متوسطة بين الأنبار وحلب وتكريت والموصل وسنجار والجزبرة، وبينها وبين قصر الرصافة مسيرة أربعة أيام. وهذا القصر يعني قصر الرصافة حصن دون دار الخلافة ببغداد مبني بالحجارة، وفيه بيعة عظيمة ظاهرها بالفص المذهب أنشأها قسطنطين بن هيلانة، وجدد الرصافة وسكنها هشام بن عبد الملك، وكان يفزع إليها من البق في شاطىء الفرات. وتحت البيعة صهريج في الأرض على مثل بناء الكنيسة معقود على أساطين الرخام مبلط بالمرمر مملوء من ماء المطر، وسكان هذا الحصن بادية أكثرهم نصارى معاشهم تخفير القوافل وجلب المتاع، والصعاليك مع اللصوص. وهذا القصر في وسط برية مستوية السطح لا يرد البصر من جوانبها إلا الأفق. ورحلنا من الرصافة إلى حلب في أربع رحلات وهي بلد مسور بالحجر الأبيض فيه ستة أبواب، وفي جانب السور قلعة في أعلاها مسجد وكنيستان، وفي إحداهما مكان المذبح الذي كان يقرب عليه إبراهيم (عليه السلام) وفي أسفل القلعة مغارة كان يخبئ فيها غنمه، وإذا حلبها أضاف بلبنها الناس، فكانوا يقولون حلب أم لا ويسأل بعضهم بعضاً عن ذلك، فسميت حلب. وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير، والفقهاء يفتون على مذهب الإمامية. وشرب أهل البلد من صهاريج فيه مملوءة بماء المطر، وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف، وفي وسط البلد دار علوة صاحبة البحتري. وهو بلد قليل

الفاكهة والبقول والنبيذ إلا ما يأتيه من الروم. وفيها من الشعراء جماعة منهم شاعر يعرف بأبي الفتح بن أبي حصينة ومن جملة شعره قوله: ولما التقينا للوداع ودمعها ... ودمعي يفيضان الصبابة والوجدا بكت لؤلؤاً رطباً ففاضت مدامعي ... عقيقاً فصار الكل في نحرها عقدا وفيها كلتب نصراني له من قطعة في الخمر أظنه صاعد بن عيسى بن سمان: خافت صوارم أيدي المازجين لها ... فألبست جسمها درعاً من الحبب وفيها محدث يعرف بأبي محمد ابن سنان قد ناهز العشرين وعلا في الشعر طبقة المحنكين، فمن قوله: إذا هجوتكم لم أخش صولتكم ... وإن مدحت فكبف الري باللهب فحين لم ألق لا خوفاً ولا طمعاً ... رغبت في الهجو إشفاقاً من الكذب وفيها شاعر يعرف بأبي المشكور مليح الشعر سريع الجواب حلو الشمائل له في المجون بضاعة قوية وفي الخلاعة يد باسطة وله أبيات إلى والده: يا أبا العباس والفض؟ ... ل أبو العباس تكنى أنت مع أمي بلا ش؟ ... ك تحاكي الكركدنا أنبتت في كل مجرى ... شعرة في الرأس قرنا فأجابه أبوه: أنت أولى بأبي المذمو ... م بين الناس تكنى ليت لي بنتاً ولا أن؟ ... ت ولو بنت يحنا بنت يحنا مغنية بأنطاكية تحن إلى القرباء وتضيف الغرباء مشهورة بالعهر. قال: ومن عجائب حلب أن في قيسارية البز عشرين دكاناً للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعاً قدره عشرون ألف دينار مستمر ذلك منذ عشرين سنة وإلى الآن. وما في حلب موضع خراب أصلاً.

وخرجنا من حلب طالبين إنطاكية، وبين حلب وبينها يوم وليلة وبتنا في بلدة للروم تعرف بعم وفيها عين جارية يصاد منها السمك، ويدور عليها رحى، وفيها من الخنازير والنساء والعواهر والزنا والخمور أمر عظيم، وفيها أربع كنائس وجامع يؤذن فيه سراً، والمسافة التي بين حلب وإنطاكية عامرة لا خراب فيها أصلاً ولكنها أرض زرع للحنطة والشعير تحت شجر الزيتون، قراها متصلة ورياضها مزهرة ومياهها متفجرة يقطعها المسافر في بال رخي وأمن وسكون. وإنطاكية بلد عظيم ذو سور وفصيل، ولسوره ثلثمائة وستون برجاً يطوف عليها بالنوبة أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك يضمنون حراسة البلد سنة ويستبدل بهم في السنة الثانية. وشكل البلد كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل والسور يصعد مع الجبل إلى قلته فتتم دائرة، وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها من البلد صغيرة، وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية، وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب، وفي وسطها بيعة القسيان وكانت دار قسيان الملك الذي أحيا ولده فطرس رئيس الحواريين، عليه السلام، وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون، وعليه كنيسة على أساطين، وكان يدور الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة للحكومة ومعلمو النحو واللغة. وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة بنجام للساعات يعمل ليلاً ونهاراً دائماً أثنتي عشرة ساعة، وهو من عجائب الدنيا، وفي أعلاه خمس طبقات: في الخامسة منها حمامات وبساتين ومعاصر حسنة تخرقها المياه، وعلة ذلك أن الماء ينزل عليها من الجبل المطل على المدينة، وهناك من الكنائس ما لا يحد كثرة، كلها معمولة بالفص المذهب والفضة والزجاج الملون والبلاط المجزع. وفي البلد بيمارستان يراعي البطريرك المرضى فيه بنفسه، ويدخل المجذمين الحمام في كل سنة فيغسل شعورهم بيده، ومثل ذلك يفعل الملك بالضعفاء كل سنة، ويعينه على خدمتهم الأجلاء من الرؤساء والبطارقة التماس التواضع. وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة أخرى لذاذة وطيبة لأن وقودها الآس، ومياهها تسعى سيحاً بلا كلفة. وفي

بيعة القسيان من الخدم المسترزقة ما لا يحصى، ولها ديوان لدخل الكنيسة وخرجها، وفي الديوان بضعة عشر كتابا، ومنذ سنة وكسر وقعت في الكنيسة صاعقة وكانت حالها أعجوبة، وذلك أنه تكاثرت الأمطار في آخر سنة 1393 للإسكندر الواقع في سنة 442 للهجرة وتواصلت أكثر أيام نيسان، وحدث في الليلة التي صبيحتها يوم السبت الثالث عشر من نيسان رعد وبرق أكثر مما ألف وعهد، وسمع في جملته أصوات رعد كثيرة مهولة أزعجت النفوس، ووقعت في الحال صاعقة على صدفة مخيبة في المذبح الذي للقسيان، ففلقت من وجه النسرانية قطعة تشاكل ما قد نحت بالفأس والحديد الذي تنحت به الحجارة، وسقط صليب حديد كان منصوبا على علو هذه الصدفة، وبقي في المكان الذي سقط فيه، وانقطع من الصدفة أيضا قطعة يسيرة، ونزلت الصاعقة من منفذ في الصدفة وتنزل فيه إلى المذبح سلسلة فضة غليظة يغلق فيها الثميوطون، وسعة هذا المنفذ إصبعان، فتقطعت السلسلة قطعا كثيرة وانسبك بعضها، ووجد ما انسبك منها ملقى على وجه الأرض، وسقط تاج فضة كان معلقا بين يدي مائدة المذبح، وكان من وراء المائدة في غربيها ثلاث كراسي خشبية مربعة مرتفعة ينصب عليها ثلاث صلبان كبار فضة مذهبة مرصعة، وقلع قبل تلك الليلة الصليبان الطرفيان ورفعا إلى خزانة الكنيسة، وترك الوسطاني على حاله، فانكسر الكرسيان الطرفيان وتشظيا وتطايرت الشظايا إلى داخل المذبح وخارجه من غير أن يظهر فيها أثر حريق، كما ظهر في السلسلة، ولم ينل الكرسي الوسطاني ولا الصليب الذي عليه شيء، وكان على كل واحد من الأعمدة الأربعة الرخام التي تحمل القبة الفضة التي تغطي مائدة المذبح ثوب ديباج ملفوف على كل عمود، فتقطع كل واحد منها قطعا كبارا وصغارا، وكانت هذه القطع بمنزلة ما قد عفن وتهرأ ولا يشبه ما قد لامسته نار ولا احتراق، ولم يلحق المائدة ولا شيئا من هذه الملابس التي عليها ضرر، ولا بان فيها أثر، وانقطع بعض الرخام الذي بين يدي مائدة المذبح مع ما تحته من الكلس والنورة كقطع الفاس ومن جملته لوح رخام كبير طفر من موضعه فتكسر إلى علو تربيع القبة الفضة التي تغطي المائدة وبقي هناك على حاله، وتطافر بقية الرخام إلى ما قرب من المواضع وبعد، وكان في الجنبة التي للمذبح بكرة خشب فيها حبل قنب مجاور للسلسة

الفضة التي تقطعت وانسبك بعضها معلق فيها طبق فضة كبير عليه فراخ قناديل زجاج بقي على حاله، ولم ينظف شيء من قناديله ولا غيرها ولا شمعة كانت قريبة من الكرسيين الخشب ولازال منها شيء. وكان جملة هذا الحادث مما يعجب منه. وشاهد غير واحد في داخل إنطاكية وخارجها في ليلة الاثنين الخامس من شهر آب من السنة المقدم ذكرها في السماء شبه كوة تنور منها نور ساطع لامع ثم انطفأ، وأصبح الناس يتحدثون بذلك، وتوالت الأخبار بعد ذلك بأنه كان في أول نهار يوم الاثنين في مدينة غنجرة وهي داخل بلاد الروم على تسعة عشر يوما من إنطاكية زلزلة مهولة تتابعت في ذلك اليوم وسقط منها أبنية كبيرة وخسف موضع في ظاهرها، وكان هناك كنيسة كبيرة وحصن لطيف غابا حتى لم يبق لهما أثر، ونبع من ذلك الخسف ماء حار شديد الحرارة كثير النبع المتدفق، وغرق منه سبعون ضيعة، وتهارب خلق كثير من تلك الضياع إلى رؤوس الجبال والمواضع المرتفعة العالية فسلموا، وبقي ذلك الماء على وجه الأرض سبعة أيام، وانبسط حول هذه المدينة مسافة يومين ثم نضب، وصار موضعه وحلا، وحضر جماعة ممن شاهد هذه الحال فحدثوا بها أهل إنطاكية على ما سطرته، وحكوا أن الناس كانوا يصعدون أمتعتهم إلى رأس الجبل فيضطرب من عظم الزلزلة فيتدحرج المتاع إلى الأرض. وفي ظاهر البلد نهر يعرف بالمقلوب يأخذ من الجنوب إلى الشمال وهو مثل نهر عيسى وعليه رحى ويسقي البساتين والأراضي. وخارج البلد دير سمعان، وهو مثل نصف دار الخليفة يضاف فيها المجتازون، ويقال إن دخله في السنة أربعمائة ألف دينار، ومنه يصعد إلى الجبل اللكام، وفي هذا الجبل من الديارات والصوامع والبساتين والمياه المتفجرة والأنهار الجارية والزهاد والسياح وضرب النواقيس في الأسحار وألحان الصلوات ما يتصور معه الإنسان أنه في الجنة. وفي إنطاكية شيخ يعرف بأبي نصر ابن العطار قاضي القضاة فيها، له يد في العلوم، مليح الحديث والإفهام.

وخرجت من إنطاكية إلى اللاذقية وهي مدينة يونانية لها ميناء وملعب وميدان للخيل مدور، وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كنيسة، وكان في أول الإسلام مسجدا، وهي راكبة البحر، وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وأذان في أوقات الصلوات الخمس. وعادة الروم إذا سمعوا الأذان أن يضربوا الناقوس، وقاضي المسلمين الذي بها من قبل الروم. ومن عجائب هذا البلد المحتسب يجمع القحاب والغرباء والمؤثرين للفساد من الروم في حلقة وينادي على كل واحدة منهن وتتزايد الفسقة فيهن لليلتها تلك، ويؤخذن إلى الفنادق التي هي الحانات لسكن الغرباء بعد أن تأخذ كل واحدة منهن خاتما هو خاتم المطران حجة بيدها من تعقب الوالي لها فإنه متى وجد خاطئا مع خاطئة بغير ختم المطران ألزمه جناية. وفي البلد من الحبساء والزهاد في الصوامع والجبال كل فاضل يضيق الوقت عن ذكر أحوالهم والألفاظ الصادرة عن صفاء عقولهم وأذهانهم (1) . - 21 - (2) وحكى غرس النعمة محمد بن الرئيس أبي الحسين هلال بن المحسن ابن إبراهيم الصابئ قال: كان والدي اعتل في المحرم من سنة ست وثلاثين وأربعمائة علة صعبة، وكان أبو الحسن ابن سنان جاريا على عادته في هجرانه، فراسلته وسألته الحضور فوعد وأخلف، ومضت إليه نسوة من أهله وأهلنا قبحوا عليه ما فعله وهو يعد ويخلف، والرئيس أبو الحسين يزيد في مرضه إلى الحد الذي غاص ولم يعقل، وبقي كذلك عشرين يوما في النزع، وقام يكسر طارمة خيش كان فيها وإلى أبواب عرضى يروم قلعها، وذكر النساء أن ذلك نوع من النزع يعرفنه ويعهدنه، وبعدن عن الدار وتركنه واشتغلن باللطم والبكاء عليه، وخرجت إلى دار الرجال وجلست جلوس التعزية، وإذا به قد دخل علينا وكان عندي جماعة من أصدقائنا فبقي داهشا وقال لهم: مات؟ فقالوا: هو في ذلك، فقلت: يا أبا الحسن مات جالينوس وعاش الناس بعده، وأما الرجل فميت، وما بنا إلى رؤيتك

_ (1) هذه الرسالة لم تكمل، انظر ياقوت 4: 1003. (2) تاريخ الحكماء: 398 - 402 (ولم يصرح أنها من كتاب الربيع) .

ومشاهدتك من حاجة، فلم يجبني، ونهض فدخل إليه ورآه وصاح بي إليه وقال: دع عنك هذا الكلام الفارغ وأحضر من الغلمان من يمسكه ويصرعه، ففعلنا ذلك، وصاح به: يا سيدنا يا أبا الحسين أنا أبو الحسن ابن سنان وما بك بأس، ولو كان بك بأس ما رأيتني عندك، فساعدنا على الدواء، وأراد بذلك تقوية قلبه، فمد يده إليه وتشبث به وقال ما لم يفهم لأن لسانه ثقل، وأخذ مجسه فلم يجده، وأخذه من كعبه فقال: أريد كبد دجاجة مشوية ومزورة وخبزا، فأحضر ذلك وأطعمه الكبد ثم قال: أردت كمثراة زرجونا وتفاحة فإن وجدتم ذاك كان صالحا، وكنا ننزل في باب المراتب، فأنفذت غلاما إلى الجانب الغربي يلتمس ذاك من الكرخ، فحين خرج إلى باب الدار رأى مركبين لطيفين فيهما الكمثرى والتفاح المطلوبان، وأنه لم يكن بيع منهما شيء ولا بلغ إلى حد البيع، وإنما أهديت إلى أبي عبد الله المردوسي؟ وكان في جوارنا؟ إطرافا له بها، فاتفق من السعادة مصادفتنا لها، فعرف الغلام من حمل إليه ذلك، فأنفذ منهما شيئا وأطعمه كمثراة وتفاحة جعلهما في ماء الورد أولا، وتركه إلى وسط النهار، وأطعمه خبزا بمزورة، وهو صالح الحال منذ أكل الكبد المشوية ورجع مجسه ونبضه وسكن مما لحقه، ونحن قد دهشنا مما اتفق وجرى، والنساء يقبلن رأس ابن سنان ومنهن من تقبل رجله. ثم قال: هؤلاء الأطباء يغدون إليكم ويروحون يأخذون دنانيركم ما يقولون لكم في هذا المرض وبأي شيء يطبونكم، فقلت: أما قولهم فهو: آسقوه ما أردتم فما بقي فيه شيء يرجى، وأما علاجهم، فإن أحدهم سقاه شربة سهلة في ليلة السابع فقال: يكفي هذا هو أصل ما لحقكم، فإنه شغل الطبيعة في ليلة البحران بدواء مسهل وجرها ودفعها عن التمييز البحراني ومنعها، فاختلط الرجل. فقلت: كذا كان، فإنه منذ تلك الليلة اختلط وغاص، فقال لي: اعلم يا سيدي أنني ما تأخرت عنه إلا علما بأنني لا أخاف عليه إلى يومنا هذا، والقطع الذي عليه في مولده فالليلة هو، ولما تعلق قلبي بها جئت فيها، فأما أن يموت وإما أن يصبح معافى لا مرض به، قلت: فما علامة السلامة؟ قال: أن ينام الليلة ولا يقلق، فإن نام أنبهه سحرا حتى يكلمك ويحدثك ويعقل عليك، وأخرجه بالغداة يمشي إلى الدار من العرضى ويجلس ويشرب ماء الشعير من يده، وإن قلق لم يعش الليلة، وجلس عنده لا يأكل ولا

يشرب إلى العتمة. فلما دخل الليل سكن الرئيس من القلق ونام، فقال الطبيب لي: قم أقر الله عينك فقد برئ واطلب شيئا نأكل، فأكلنا ونمنا عنده وهو نائم نوما طبيعيا، والطبيب يوصي كل من هناك بأن يوقضوه نصف الليل، ويعلمنا صحة قوله، فوالله لقد نام الجميع إلى السحر فلم يحسوا بشيء إلا بالعليل يصيح بأبي الحسن: يا أبا الحسن؟ بلسان ثقيل وكلام عليل؟ فوقعت البشائر، وانتبهت والطبيب، فأملى علينا مناما رآه فقال: رأيت الشريف المرتضى أبا القاسم الموسوي نقيب العلويين؟ وكان حيا في الوقت؟ وقد رثى الرئيس بقصيدة عينية لما بلغه وقوع اليأس منه لما كان في نفسه منه، وكأنه وأولاده وخلقاً عظيماً قاصدون مقابر قريش، وقد وقع في نفسي أن القيامة قد قامت، فعدلت إلى المرتضى وجلست عنده وجاءه أبو عبد الله ولده فساره بشيء فقال: هاته، ففلان منا، فأحضره جاما حلوا وأكلنا، ثم نهض فركب وقال: قدموا له ما يركب، ومضى الناس جميعهم معه حتى لم يبق غيري وأنا أطلب شيئا أركبه فما رأيته، وسمعت صائحا يصيح ورائي النجاة النجاة، فأثبتنا المنام وهنأناه بالسلامة، وخرج باكرا بنفسه إلى الدار وجلس على سرير في وسطها، وشرب ماء الشعير بيده كما قال الطبيب، إلا أنه بقي مدة لا يعرف الدار ويقول: يا أبا الحسن أي دار هذه من دورنا؟ وأنا أبين له وأشرح، وهو لا يعرف ولا يفهم ولا يتحقق. ووصلنا غدوة تلك الليلة أبو الفتح منصور بن محمد بن المقدر المتكلم النحوي الأصفهاني متعرفا لأخباره فقال له: رأيت يا سيدنا البارحة في المنام وكأني عابر إليك وأنا مشغول القلب بك إنسانا يقول لي: إلى أين تمضي؟ فقلت: إلى فلان فهو على صورة من المرض، فقال لي: قل له اكتب في تاريخك وتقويمك ولد هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، يومنا ذاك، وعاش إلى شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وتوفي بعده الجماعة التي كانت في تلك الحال من الأصدقاء والأطباء والرؤساء والكبراء والعلماء الذين كانوا متألمين له متحسرين عليه وجلين لمفارقته، وتوفي المرتضى ورثاه الرئيس أبو الحسين بقصيدة عينية.

نزهة الناظر

- 25 - (1) نزهة الناظر لكمال الدين أبي محمد عبد القاهر بن علوي ابن المهنا

_ (1) ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 2: 98 - 100.

فراغ

يعرف بابن خصى البغل، وينتمي إلى أسرة عريقة من أسر معرة النعمان (1) ، وكان شابا حين لقيه العماد الأصفهاني في حماة في شوال سنة 571، وأنشده عددا من مقطعاته الشعرية، وقد كان حينئذ قاضيا لمعرة مصرين، من عمل حلب أيضاً (2) . ويدل كتابه " نزهة الناظر " على نزعته الأدبية الشعرية، وعلى ميله إلى تقييد ما يسمعه من إنشادات معاصريه. وقد عاش كمال الدين حتى ما بعد سنة 582 (3) . - 1 - (4) أنشدني أثير الدين أبو منصور محمد بن علي بن عبد اللطيف للبليغ [أسعد بن

_ (1) قد وضع الدكتور شكري فيصل - رحمه الله - جدولاً لتفرع هذه الأسرة في الخريدة 2: 18. (2) كانت معرة مصرين قد تهدمت في أيام ابن العديم، أخذها الفرنج ثم استردها منهم إيلغازي ابن أرنق سنة 513، وكانت في حال عمرانها تشتهر بكثرة الزيت، كما كان أهل حلب يرغبون في اتخاذ الدور والمنازل بها (انظر تعريف القدماء: 593) . (3) انظر القطعة رقم: 6. (4) بغية الطلب 3: 37.

علي بن عبد القاهر بن المهنا معاصر أبي العلاء] (1) وكان قد خرج مع أقوام من أهل حلب إلى الفرجة ببعاذين والعافية (2) فتعب، فعمل: يا فرجة ما مر بي مثلها ... عدمت فيها اليعشة الراضية زرت بعاذين ولكنني ... عدمت في العافية العافية - 2 - (3) قيل: امتدح أبو الفتح بن أبي حصينة المعري رحمه الله نصر بن صالح (4) ، فقال له: تمن، فقال: أتمنى أن أكون أميرا، فجعله أميرا يجلس مع الأمراء ويخاطب بالأمير، وقربه وصار يحضر في مجلسه في زمرة الأمراء، ثم وهبه أرضا بحلب قبل حمام الواساني، فعمرها دارا وزخرفها وقرنصها وتمم بنيانها، وكمل زخارفها، ثم نقش على الدرابزين: دار بنيناها وعشنا بها ... في دعة من آل مرداس قوم محوا بؤسي ولم يتركوا ... علي للأيام من باس قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس فلما أنهى العمل بالدار، عمل دعوة، وأحضر نصر بن صالح بن مرداس، فلما أكل الطعام رأى الدار وحسنها وحسن بنيانها ونقوشها، ورأى الأبيات فقرأها فقال: يا أمير، كم خسرت على بناء الدار؟ فقال: والله يا مولانا ما للمملوك علم، بل هذا الرجل تولى عمارتها، فأحضر معمارها وقال له: كم قد لحقكم غرامة على

_ (1) ذكره العماد في الخريدة (قسم الشام) 2: 105 وأورد له مرثية في أبي المجد المعري، أخي أبي العلاء. (2) من الواضح أن بعاذين من قرى حلب، ولها ذكر في شعر أبي العباس الصفري والصنوبري، وكذلك العافية، وهذه الثانية لم يذكرها ياقوت في معجمه. (3) بغية الطلب 4: 250 وأورد الحكاية ياقوت في معجم الأدباء 10: 99 والكتبي في الفوات 1: 333 والأبيات السينية في ابن خلكان 4: 441. (4) الصواب أن هذه الحادثة وقعت في أيام معز الدولة ثمال بن صالح، وكانت أكثر مدائحه فيه، وقد أورد ياقوت الحكاية متصلة بمحمود بن نصر بن صالح سنة 452.

بناء هذه الدار؟ فقال له المعمار: غرمنا ألفي دينار مصرية، فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية وثوب أطلس وعمامة مذهبة وحصانا بطوق ذهب وسخت ذهب وسرفساء ذهب ودفع ذلك جميعه إلى الأمير أبي الفتح وقال له: قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس - 3 - (1) أنشدني الشيخ الأجل أبو منصور المؤيد ابن أحمد بن الحواري لعمه أبي بشر خير بن محمد بن الحواري المعري (2) وقد وقف على داره بعد خراب المعرة فنفر منها ثعلب: أهذه بين إنكاري وعرفاني ... مسارب الوحش أم داري وأوطاني جهلتها ولقد أبدت ملاعبها ... عهد الصبا بين إخواني وخلاني فعجت أسألها والدمع منسكب ... والقلب من لوعة وجدانها عان يا دار مالي وللأيام قد حكمت ... فينا وفيك بكم الجائر الجاني فلو أجابت لقالت هكذا فعلت ... قدما بحيرة نعمان ونعمان وفي مدائن نو شروان معتبر ... للسائلين وفي سيف وغمدان فاذهب لشأنك فالدنيا لها دول ... تمضي وتأتي وكل بينها فان - 4 - (3) وأنشدني الشيخ أبو الماضي خليفة بن أحمد بن صدقة الشيزري التاجر، قال: رأى هذه الأبيات على فص خاتم:

_ (1) بغية الطلب 6: 251. (2) في الجدول الذي صنعه الدكتور شكري فيصل لبني الحواري (2: 17) يبدو أبو بشر والداً لجد المؤيد، وهو مخالف لما يذكره ابن العديم من أنه عمه، وقد ذكر العماد أبا بشر هذا (الخريدة 2: 87) وأورد له الأبيات المثبتة هنا، أما المؤيد فلم يترجم له وإنما ترجم لابنه علي بن المؤيد (2: 89) . (3) بغية الطلب 6: 230.

جعلت تأمل زرقة في خاتمي ... وتقول فصك ذا لباس المأتم فأجبتها مذ غاب وصلك وانقضى ... بكيته بدم ودمع ساجم ورغبت في لبس الحداد لأنه ... لبس الحزينة والحزين الهائم وخشيت إن أنا في الثياب لبسته ... أن يفطنوا فلبسته في الخاتم - 5 - (1) وللشيخ أبي اليمن الرشيد بن علي بن المهنا بن صدقة يهجو أبا جعفر ابن الشويهة: رأيت في النوم أبي آدما ... فقلت والقلب له وامق أتعرف الشيخ أبا جعفر ... صلى عليك الملك الخالق فقال إن كان أبو جعفر ... مني فحوا أمكم طالق - 6 - (2) وأنشدني الشيخ الفقيه زين الدين أبو علي سالم بن يحيى بن علي بن محمد ابن عبد اللطيف في يوم عيد الفطر من سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة للناظر أبي نصر المهنا (3) في الحمام التي بناها أحمد بن الدويدة (4) : إن حمامك هذا ... غير مأمون الجوار

_ (1) بغية الطلب 7: 85 والشيخ أبو اليمن ابن صدقة ذكره العماد في الخريدة 2: 106 وأورد له قطعة في القطائف. (2) بغية الطلب 8: 211. (3) الناظر أبو نصر المهنا بن علي ذكره العماد في الخريدة (2: 55، 104) ، ولد سنة 383 وتوفي بدمشق سنة 454. (4) أبو الحسين أحمد بن محمد بن الدويدة، كان في عصر بني بني صالح (انظر: الخريدة 2: 53) .

- 7 - (1) وعظ جلال الدين ابن باقي المعري الواعظ بالمعرة، فكتب إليه شخص: ما يقول سيدنا في قوم إذا جن عليهم الليل، أسبلوا الذيل، وجثوا على الركب وطلعوا في الثقب، وقالوا: يا كريم، بك ندفع، فقال: أولئك أقوام للمضاجع في حبه هجروا، وللأعين في طاعته أسهروا، فقال في حقهم مولاهم {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} إذا جن عليهم ليل المحنة أسبلوا ذيل الطاعة، وجثوا على الركب، تراهم ركعا سجدا، وطلعوا في الثقب، في ثقب صحف أعمالهم، وقالوا: يا كريم، بك ندفع كيد الشيطان الرجيم. - 8 - (2) ولأبي القاسم بن أبي المكارم بن المهذب إلى سديد الدولة ابن منقذ بشيزر (3) : لا در در زمان صوت أمدحكم ... فيه لأطلب من جدواكم عدسا مدحتكم غرة مني فكنت كمن ... يبخر الثوب بالهندي ثم فسا

_ (1) بغية الطلب 9: 217. (2) بغية الطلب 9: 173، وأبو المكارم هو الفضل بن عبد القاهر من بني المهذب ويلقب بالمرصع (الخريدة 2: 102) ولم يذكر العماد ابنه أبا القاسم. (3) لعل المعني هنا هو " سديد الملك " وهو أول من ملك حصن شيزر سنة 474هـ؟ انظر الخريدة (قسم الشام 1: 552) والحاشية، ففيها ذكر لمصادر أخرى.

فراغ

جزء فيه مراثي بني المهذب المعريين

- 26 - جزء فيه مراثي بني المهذب المعريين

فراغ

- 1 - (1) قال أبو الحسين أحمد بن حمدون القنوع يرثي أبا عبد الله الحسين بن إسماعيل بن جعفر بن علي بن المهذب: أما وذهاب الحزن في كل مذهب ... وروعات قلب ذاهل غير قلب لقد شغلتني عن رزية واحدي ... رزية أهل الفضل آل المهذب فحتى متى يا دهر لست بمعتبي ... وفيم على ما فات منك تعتبي تصبرت حتى عيل صبري وأخلقت ... قوى جلدي في موطني وتغربي ولي عبرات عبرت عن ضمائري ... بألسن دمع ترجمت عن تلهبي فلله أنفاس علت في تصعد ... وأدمع أجفان هوت في تصوب - 2 - (2) قال أحمد بن حمزة بن حماد يرثي أبا طاهر حامد بن جعفر بن المهذب: جسمي من الوجد الدخيل نحيل ... وكذا الفؤاد متيم معلول لي مقلة لا ينقضي هملانها ... وجوى على مر الزمان طويل

_ (1) بغية الطلب 1: 64. (2) بغية الطلب 1: 66.

ذهبت الذي قد زال صبري بعده ... عني وحزني ما أراه يزول قد كنت أرجو أن يفادى ميت ... ويكون منه لدى الحمام بديل فأكون أول باذل نفسي له ... لو كان لي فيما أروم سبيل آل المهذب قد عرتكم نكبة ... والصبر عند النائبات جميل فقد الرئيس وليس يوجد مثله ... طول الزمان لأن ذاك قليل هو ماجد من آل بيت طاهر ... وفواضل فيساره مبذول قد عاش ذا دعة لأهل وداده ... ولحاسديه صارم مصقول - 3 - (1) وقال أحمد بن حمزة بن سويد المعري يرثي أبا الفضل عامر بن شهاب وأبا اليسر عبد الجبار بن محمد بن المهذب: يعارض وجدا في الحشا عارض الفكر ... فينهل دمع العين مني ولا أدري وأرفل في ثوب الكآبة كلما ... تذكرت فقدي عامرا وأبا اليسر تقيين حازا كل فخر وسؤدد ... فمجدهما عال على الأنجم الزهر وفيين كانا زاهدين تورعا ... فقد أمنا من كلفة الإثم والوزر وما حيلة المشتاق فيمن يوده ... إذا غيبوه عنه في ظلمة القبر وقد رمت صبرا عنهما فوجدته ... أمر مذاقا من مساوغة الصبر لقد ألبسا جسمي الصبابة والضنا ... وقد حملاني الحزن وقرا على وقر سأبكيهما ما عشت دمعا فإن ونت ... دموعي عن التسكاب بكيت بالشعر - 4 - (2) قال أحمد بن عبد اللطيف المعري يرثي أبا صالح محمد بن المهذب:

_ (1) بغية الطلب 1: 66. (2) بغية الطلب 1: 239.

أبني المهذب وجدكم وجدي به ... ومصابكم هذا الجليل مصابي بي ما بكم من لوعة لفراقه ... ولو استزدت لكنت غير محاب يا وحشة الدنيا ووحشة أهلها ... لفراق هذا الصالح الأواب ماذا أعدد من جميل خلاله ... ويسيرها يربي على إطنابي أنا إن غدوت مقصرا أو مقصرا ... فلما بقلبي منه من أوصاب أبني عليّ بن المهذب أصبحت ... موصولة بحبالكم أسبابي فيما تأكد من صفاء ودادنا ... ووشائج الأسباب والأنساب كونوا لعذري باسطين فإنه ... قصر الغرام إطالة الإسهاب - 5 - (1) قال أبو الفضل أحمد بن محمد بن مسعر بن محمد المعري التنوخي يرثي الشيخ أبا القاسم جعفر بن عليّ بن المهذب (وتوفي سنة 387) وهي على وزن قصيدة أبي العلاء " أحسن بالواجد من وجده " يرثي فيها جعفرا المذكور: يا سيدا غيب في لحده ... جاز مصابي بك عن حده بعد عليّ وابنه جعفر ... لا تلم الواجد في وجده رماهما الدهر بخطب وقد ... كانا هما واسطتي عقده رأيت هذا الدهر أحداثه ... تحلل المحكم من عقده أي سرور لك لم تقصه ... وأي حزن لك لم تهده وأي خطب بك لم تغره ... وأي أحبابك لم ترده ما لي على عدوانه ناصر ... ولا يد تدفع من أيده كابدت مر الصبر من بعد من ... فقدت حلو العيش مع فقده أضحت بي الأحزان ملتفة ... لما غدا قد لف في برده ذممت دهري بعد فقدانه ... وكنت قد أطنبت في حمده فالآن لا أصغي إلى عاذل ... يعذلني في الحزن من بعده

_ (1) بغية الطلب 2: 3.

قد كان يخشى الله في هزله ... ويتقي الرحمن في جده إن غاب عنا فله أنجم ... طالعة باليمن من سعده ما منهم إلا فتى ماجد ... كالصارم المشهور من غمده ما مات من خلف أمثالهم ... لكنه دان على بعده فأمطر الله ثرى جعفر ... سحائب الغفران من عنده - 6 - (1) قال أبو العباس أحمد بن يحيى بن سند المعري يرثي أبا عبد الله الحسين بن إسماعيل بن جعفر بن عليّ بن المهذب: ونائبة عم البرية خطبها ... فلم تلق إلا موجعا أو مفجعا لفقد حسين قرة العين والذي ... أتته المنايا بغتة حين أيفعا أأنساه بين الأهل ملقى وكلهم ... لفقدانه يبدي أسى وتوجعا وقد سألوه كيف أنت فلم يحر ... جوابا وأضحى بالبنان مودعا فيا سيدا أودى بصبري مصابه ... لقد خانك الدهر الخؤون فأسرعا ولو كان بالإنصاف يحكم لم يكن ... عجيبا بأن تبقى لنا وتمتعا فبالرغم مني يا حسين تحكمت ... بجسمك أيدي الدهر حتى تضعضعا وبالرغم مني أن توسد مفردا ... ويصبح بعد الأنس بيتك بلقعا وبالود منك لو صحبتك في الثرى ... وصيرت من حزني بقربك مضجعا وفاضت دما عيني عليك فإنني ... لأعذل أجفاني إذا فضن أدمعا وله يرثي أبا الحسن المهذب بن عليّ بن المهذب (وتوفي سنة 429) : دنياك هذي بالأنام تقلب ... وصروفها فيهم تجيء وتذهب والدهر فيهم قد أجد وكلهم ... يلهو عن الدهر المجد ويلعب لم ينجي من صرف الردى ذو غرة ... غمر ولا فطن له يتهيب

_ (1) بغية الطلب 2: 121.

عتبي على الدهر الخؤون مجددا ... أبدا لو آن الدهر ممن يتعب إلا يشب رأسي بعظم مصابه ... بالأكرمين فإن قلبي أشيب - 7 - (1) قال الحسن بن سلمان يرثي الشيخ أبا القاسم جعفر بن عليّ بن المهذب: صبرا على دهرنا ومحنته ... حين رمانا عن قوس نكبته وابتز منا فتى لغيبته ... غاب سرور الورى وميتته لو كان يفدى ميت لكان فدا ... جعفر فرضا على عشيرته لكنها ساعة موقتة ... فكل خلق آت بوحدته فكلنا للفناء موردنا ... نشرب كأسا نفنى بجرعته وكل حي يسعى إلى جدث ... في الأرض يهوي في قعر حفرته فلو تدوم الدنيا على أحد ... دامت على المصطفى وعترته فالغر من يغترر بلذتها ... وهو غدا واقف بحسرته لا ينفع المال والبنون ولا ... يفوز خلق إلا برحمته يا جعفر قد حباك ربك بال ... فضل وشرفت في بريته إن كان قد ضمك الثرى فلقد ... خلفت قرما تزهو برفعته [قال ابن العديم: ومن حق هذا الشعر أن لا يذكر، لكنني رأيته مذكورا في كتاب جمع فيه مراثي بني المهذب المعريين، فأحببت أن لا أخل بذكره، لأن لناظمه ذكرا في الجملة] . - 8 - (2) قال الحسين بن محمد المعري المعروف بالزاهد الدوسي يرثي أبا الحسن المهذب بن عليّ بن المهذب التنوخي:

_ (1) بغية الطلب 4: 218. (2) بغية الطلب 5: 185 - 186.

تجدد حزني بعد ما كان قد مضى ... بقائلة إن المهذب قد قضى كريم غدا في كل قلب محببا ... إذا ما سواه كان فيه مبغضا به كان ركن المكرمات مشيدا ... فغير عجيب إن عفا وتقوضا يحرضني قوم على الحزن بعده ... ولست بمحتاج إلى أن أحرضا وقد أمرضتني الحادثات لفقده ... فتالله لا أنفك ما عشت ممرضا فلا يك إنسان حليف رضى به ... ففي مثل هذا الخطب لا يحسن الرضى وأقرضني دهري أسى وصبابة ... فيا ليته استوفى الذي كان أقرضا أيومض برق الجود بعد مهذب ... وما كان إلا من أياديه مومضا وما بت إلا بالهمام محمد ... مدى الدهر عن إفضاله متعرضا وإن أبا تمام ركني ومثله ... أبو اليسر إن صرف الردى بي تقوضا فداموا على النعماء في ظل نعمة ... ولا زال من عاداهم الدهر مدحضا وله في رثائه أيضا: نار الأسى بقلوبنا تتلهب ... لما ثوى شيخ العلاء مهذب أراده صرف الحادثات وإنما ... أردى قلوبا بعده تتقلب ما زال يعذب في الحياة ثناؤه ... وثناه بعد الموت منها أعذب كالمسك يوجد غير أن نسيمه ... أذكى وأعذب في النفوس وأطيب ولئن تسربل بالنعيم فإننا ... من بعده بلظى الجحيم نعذب فسقى ثراه الغيث يهطل صوبه ... أبدا عليه ويستهل ويسكب [توفي المهذب سنة 428 فقد توفي الزاهد بعده] . - 9 - (1) قال حسين المؤدب المعري يرثي أبا تمام المفضل بن المهذب: تخير منا الموت واسطة العقد ... أما كان منه أيها الموت من بد

_ (1) بغية الطلب 5: 211.

ترى كل هذا الإختيار تعمدا ... وقصدا له أم لم يكن منه عن عمد لقد جل رزء حل بالأمس عندنا ... فما بال هذا الموت للحي لا يفدي مضى مهجة الدنيا وجل نعيمها ... فيا جفن جد بالدمع في ساحة الخد وقد خلف الأهلين يبكون حسرا ... وكم أصبحوا في ظل عيش به رغد لقد حملوا للأرض منه هدية ... تسر بها لكنها ساءت المهدي وقالوا سلام الله منا تحية ... عليك فهذا باللقا آخر العهد فلو طاوعته نفسه قال معلنا ... أتمضون عني ثم أبقى هنا وحدي فلو كان ميت يفتدى لفديته ... بروحي وما أحوي ومن لي بأن أفدي إذا ما سلا سال فقيدا فإنني ... أرى ذلك السلوان عندي لا يجدي أبا صالح يا سيد الناس كلهم ... ومن فاق في أعلى محل من الزهد عزاء فما الأيام إلا معارة ... ومن ذا الذي يبقى وليس به تردي ولله أحكام إذا نزلت بنا ... فليس لمرء أن يعيد ولا يبدي - 10 - (1) قال الخضر بن محمد بن أزهر الجماهيري المعري أبو القاسم يرثي أبا عبد الله الحسين بن إسماعيل بن المهذب وقد توفي سنة 417 وهو صغير: قد غر أكثر هذا العالم الأمل ... وكلهم بسوافي روحه أجل وإنما المرء طيف والحياة له ... كالآل والموت ورد شرعه علل فلا تغرك الدنيا وزينتها ... فإنها زخرف يا أيها الرجل هل أنت فيها مقيم لا تفارقها ... أم أنت فيها مع الأيام مرتحل أين النبي الذي القرآن آيته ... وأين من قبله الأحبار والرسل أين الملوك الأولى اغتروا بملكهم ... وساكنو الأرض قبل اليوم ما فعلوا لا شك أنهم في الأرض قد دفنوا ... وأنهم قد عفت آثارهم وبلوا ونحن لابد حتما أن نموت كما ... ماتوا وننهل في الورد الذي نهلوا

_ (1) بغية الطلب 6: 201.

يا حسرتا إن هذي الأرض قد أكلت ... هياكلا كان فيها جوهر صقل مثل الحسين بن إسماعيل حين ثوى ... طفلا يقصر عن عليائه زحل ما كان إلا حساما ماضيا فمضى ... فيه القضاء وأسباب الدنا دول عم البرية هذا الخطب حين قضى ... على الحسين ومات السهل والجبل فكل قلب به ما حاز طاقته ... حزنا وقد دميت من دمعها المقل يال المهذب صبرا إن أسرتكم ... من أسرة عرفوا الدنيا فما جهلوا لا يطربون إذا ما نالهم فرح ... ولا إذا نابهم صرف الردى نكلوا لكنهم صبر في كل فادحة ... وكل أمر عظيم خطبه جلل الفضل وصفهم والحلم خلقهم ... والفخر ما فخروا والرفد ما بذلوا فاصبر على الحزن إسماعيل محتسبا ... والجأ إلى الله إن ضاقت بك السبل إن الجديدين سارا بالذين مضوا ... قصد الفناء فلم يدركها ملل ونحن في إثرهم نسعى كسعيهم ... إلى النوى دائبا نسري ونرتحل فاستيقضوا يا أولي الأبصار واعتبروا ... بالغابرين ففي آثارهم مثل جدوا إلى عمل في الدار يسعدكم ... فليس يقبل في الأخرى لكم عمل يا رب عفوك إن النفس تأمله ... فلا يخيبن منها عندك الأمل - 11 - (1) سعد بن حماد المعري أبو العلاء: له يرثي أخت الشيخ أبي صالح محمد بن المهذب: عجبت وما يأتي به الدهر أعجب ... لصرف زمان بالورى يتقلب شباب وشيب واكتهال وصبوة ... وكل لعمري لا محالة يذهب فإن المنايا غاية الناس كلهم ... وليس لمن خاف المنية مهرب وإن التي في الترب غيب شخصها ... لها في نصاب المجد فرع ومنصب ثوت حين ترجى أن تعيش بغبطة ... وفاتت فلم يدرك لها الدهر مطلب

_ (1) بغية الطلب 8: 260.

فإن بعدت عن قرب عهد فإنها ... إلى الله بالتقوى وبالخير تقرب سقى الغاديات الغر ماء لقبرها ... وصلى عليها الله ما لاح كوكب ووقت بها الأيام من طارق الردى ... أباها ومن يدعى إليه وينسب فليس يخل الدهر يوما بأهله ... إذا سيد أودى وعاش المهذب - 12 - (1) وقال الشيباني رحمه الله يرثي أبا صالح محمد بن المهذب وتوفي بالمعرة في رجب سنة خمس وستين وأربعمائة: هم يروح به الفؤاد ويغتدي ... ومدامع نطقت بحزن مكمد ورزية فجع الأنام بكونها ... فغدا اللبيب لها بعظم تبلد حزنا على الشيخ الجليل سما العلا ... نجل المهذب ذي الفخار محمد كنا نعوذ به ونسأل كفه ... فينا لنأمل فيضها السح الندي يا قوم قيل قضى الزمان بفقده ... لا كنت من يوم عبوس أنكد شردت طيب النوم عن أجفاننا ... بعد الهجوع ولذة في المرقد لهفي على الشيخ الجليل وقد ثوى ... بعد الجلالة في ضريح الفدفد مستبدلا للترب بعد وسائد ... ومن الحشايا صم ذاك الجلمد أما المعرة فهي بعد وفاته ... وفراقه في يوم حزن أسود وكذا الذين بها هنالك أصبحوا ... من سيد فيها وغير مسود منها: قد قلت لما أن رأيت سريره ... فوق الأكف ودمع عيني منجدي يا حامل النعش الذي من فوقه ... بحران من علم ونيل العسجد يا حامل النعش الذي من تحته ... أملاك ذي العرش الكريم الأمجد مهلا به فلقد حملت محمدا ... يهدي إلى الخيرات من لم يهتد ما كان إلا رحمة في أرضنا ... من ذي الجلال بها نروح ونغتدي فاليوم قد فقد العزاء لفقده ... شق القلوب مع الجيوب وعدد

_ (1) بغية الطلب 9: 266.

فراغ

جزء جمع فيه ما رثي به أبو العلاء المعري

- 27 - جزء جمع فيه ما رثي به أبو العلاء المعري

فراغ

توفي أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري يوم الجمعة لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول من سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وقام على قبره أربعة وثمانون شاعرا ينشدون مراثي فيه (1) ، وقد جمعت هذه المراثي معا، والقائم بجمعها هو ابن البليغ المعري، واسم البليغ أسعد بن عليّ وكنيته أبو الماجد (2) . وقد احتفظ ابن العديم بمختارات من ذلك الجزء لسبعة شعراء، وليس الاحتفاظ بشعرهم مبنيا على قيمته الفنية بل على دلالته التاريخية، فقد كانت المعرة في عصر أبي العلاء تجيش بالشعر، ولكن تأثير أبي العلاء في تلك الحركة الشعرية كان ضئيلا، كما أن تأثر المراثي الواردة هنا بطريقته في الرثاء يكاد يكون معدوما، فمن يتذكر " غير مجد " ورثاءه في أبيه ورثاءه للشريف والد الرضي والمرتضى يدرك أن الخيال الشعري يصنع أكثر مما تستطيعه العاطفة، وخاصة إذا استولى ذلك الخيال على البعدين اللغوي والفكري يتصرف بهما كيف شاء. - 1 - (3) قال أحمد بن حمزة بن حماد أبو الفضل يرثيه (4) :

_ (1) معجم الأدباء 3: 126. (2) الخريدة (قسم الشام) 2: 105. (3) بغية الطلب 1: 66. (4) توفي سنة 449 وهو العام الذي توفي فيه أبو العلاء.

لعظيم هذا الرزء حار لساني ... ونأى وخان لما أجن جناني هدم الردى من كان يبني جاهدا ... مجدا لأهل معرة النعمان أترى يد الدنيا تجود بمثله ... هيهات ليس يرى له من ثان شرف العلوم وتاج أرباب العلا ... كنف العديم ومعدن الإحسان أسفي عليه مجدد ما ينقضي ... أو ينقضي عمري ووقت زماني ما كنت أدري قبل ميتة أحمد ... أن البحار تلف في الأكفان حتى رأيت أبا العلاء موسدا ... فرويت ذاك رواية بعيان لله ما يحوي الثرى من جسمه ... ويضم من شرف بغير بنان فخر لو آن الفخر ينطق لانبرى ... منه التفاخر ناطقا ببيان إني وإن أوردت معنى حازه ... علمي لقد خلفت فيه معاني يا موت أنت سقيتني كأس الردى ... وملأت قلبي غلة الأحزان وقصدت سيدنا فأمسى ثاويا ... ما بيننا فهو البعيد الداني - 2 - (1) قال أحمد بن خلف أبو العباس المعري المعروف بالممتع يرثيه (2) : قبر تضمن شخص العالم العلم ... يجل عن لامس أو لاثم بفم جادت عليه غوادي الدمع واتصلت ... بها السواري فأغنته عن الديم وآلت الشمس لا تنفك كاسفة ... فسودت غرر الأيام بالظلم فلو تكون على هاماتنا لمما ... لما ألم بياض الشيب باللمم تبغي السرور من الدنيا وقد قدرت ... بها الهموم على الأقدار والهمم وما تزال بنا الآمال مائلة ... إلى المطامع في وجد وفي عدم إذا الشبيبة بانت عن أخي أرب ... فلا مآرب بعد الشيب والهرم

_ (1) بغية الطلب 1: 78. (2) أديب شاعر فاضل سمع الحديث من أبي العلاء المعري وغيره، وذكره أبو العلاء في رسالة الغفران.

تبكي الأقارب منا والبكاء على ... نفوسنا واجب إذ نفتدي بهم فليت ذا الحلم منا حين نفقده ... مخبر بالذي يلقاه في الحلم وليت من بديار الشام منزله ... ليوم رب العلا والمجد لم يشم في كل قلب يمان نازح ألم ... فلا يلام حليف القرب في الألم وفي تهامة أحشاء حشين أسى ... وأعين كحلت بالسهد لا التهم وقاطنون رأوا تحريم أمنهم ... على النفوس وما بانوا عن الحرم لا ينعمون بحال يظفرون بها ... من الزمان وهم حالون بالنعم قوم إلى شرف الآباء نسبتهم ... فطيب فرعهم الزاكي بأصلهم يرون موت ابن عبد الله عندهم ... نظير موت ابن عبد الله جدهم وما العراق بمذموم على جذل ... لوصف أكثره بالغدر في الذمم أبان صفحة أهل العلم فيه لمن ... رأى التصفح من عرب ومن عجم وبث من علمه كتبا مصححة ... بها أبان لهم تصحيف كتبهم وكان أحدث ما أملاه بينهم ... يفوق أفضل ما أملى أولوا القدم فسلمت لسليمان وأسرته ... بنو الأكرام طرف العلم بالكرم فما يصنف علم مثل علمهم ... ولا يشرف بيت مثل بيتهم تميزوا بخلال لا نظير لها ... مع الخلال جلال الحكم والحكم وقد تضمن عبد الله فخرهم ... فليس يوجد فخر مثل فخرهم يريد أبا محمد عبد الله بن أبي المجد أخي أبي العلاء، وكان قاضي معرة النعمان، والقصيدة طويلة اقتصر منها ابن العديم على هذا القدر، وبعدها في الجزء المذكور، وله فيها أيضا: أي بحر ما كان يخشى عبابه ... وبدر المحار يزري حبابه وطريق إلى العلاء مجوب ... بأبيه ما ضله مجتابه يوم أفضى إلى قرار ضريح ... كل جفن تهمي عليه سحابه ما الخضم المحيط إلا الذي يع ... رب فيه عن الأريب ارتيابه

غاض منه ما طبق الأرض إذ فا ... ض فلم تحم عنه طودا شعابه فكأن الزمان لم يبق فيه ... مذ عداه البقاء إلا سرابه ترب الدهر من وحيد بنيه ... فبعيد بمثله أترابه وتألت أن لا أتت بنظير ... بعده في صفاته أحقابه وادعى النقض غاية الفضل إلا ... حكم يدرأ المحال صوابه ونأى النازح الغريب الذي كا ... ن إليه نزوحه واغترابه فعزيز على المحل الذي حو ... ل عنه أن يغلق الدهر بابه ولقد كان لا يخاف إذا آ ... ن أوان الحجاب منه حجابه ويرى نازلا به كل حين ... من يروم الركوب يغشى ركابه طالبا منه ما يهون عليه ... وهو مستصعب يعز طلابه فكأن الملوك تصحب للع؟ ... زة في كونها لديه صحابه أدبتها وهذبت رأيها الثا ... قب في كل مذهب آدابه كل ملك يزينه عنه ما يح؟ ... فظ لا تاجه ولا ألقابه لا يرجيه للثواب وإن كا ... ن جزيلا على العفاة ثوابه ورع يؤنس الجليس ولا يؤ ... نس منه إذا يغيب اغتيابه لم يخلف من طول دنياه ما يح ... سب كيلا يطول فيه حسابه أتنوخ اعقري الجياد وحطي ... كل عال على السها أطنابه فلقد راح واغتدى ابن تراب ... بعد حمر القباب سودا قبابه وإلى غير ما انتسبت إليه ... من بني يعرب الكرام انتسابه كل يوم يروم في الحي كالحو ... م تراغى قرومه وسقابه لا تظني حولا يحول فنلقى ... قاضيا للأسى عليه انقضابه واضربي في البلاد طولا وعرضا ... أبدا لن ترى بها أضرابه غاب عن لدنها السنان فما تح ... دث نفعا بعد السنان كعابه وتعرى من المعرة إذ كا ... ن ذهاب الجمال عنها ذهابه أو أقيمي بها فأكثر أسبا ... ب علاها وفخرها أسبابه منها:

بان مني من كان يكثر عني ... في الخطوب التي تنوب منابه إن قضى نحبه فإني من لا ... ينقضي أو إليه يقضى انتحابه وقليل لذي الكآبة والوج؟ ... د عليه بكاؤه واكتئابه فوشى قبره الربيع ولا زا ... ل مربا على ثراه ربابه - 3 - (1) قال أبو مسلم وادع بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان من جملة قصيدة: ألا يا شبيه البحر أقسم لو درى ... بموتك ما جاشت بليل غواربه ويا من بكى طرف المكارم وحشة ... له ولسان الفضل والحلم نادبه ولو نطقت كتب العلوم إذا بكى ... على فقده من كل علم غرائبه ولو أن هذا الليل يعلم أنه ... قضى لقضى ألا تزول غياهبه ولو علمت شهب الظلام بفقده ... إذن ندبته في الظلام كواكبه سقى قبره السحب الغزار وخصه ... من اله عفو لا يزال يصاحبه فما زال كل الناس ينهب علمه ... إلى أن غدا صرف الردى وهو ناهبه وقد عم أهل الأرض جمعا مصابه ... كما عمهم إحسانه ومواهبه رعى الله قبرا أنت يا عم ملحد ... به وسقاه من حيا المزن صائبه ولولا توخيك الطهارة شيمة ... لقلت سقاه من دم الدمع ساكبه - 4 - (2) وقال أبو يعلى عبد الباقي بن أبي حصين من قصيدة: نصال الدهر أقصد من سواها ... وإن أدمت ولم تدم النصال

_ (1) بغية الطلب 1: 225. (2) بغية الطلب 1: 225.

ألم تر كيف لم يأمن شباها ... أمين الأرض والورع البجال وسار سريره فوق الهوادي ... لقد خفت مذ اليوم الجبال وأقبر في المعرة وهو أولى ... بقبر في المجرة لا يطال - 5 - (1) وقال أبو الفتح الحسن بن عبد الله بن أبي حصينة: العلم بعد أبي العلاء مضيع ... والأرض خالية الجوانب بلقع لا عالم فيها يبين مشكلا ... للسائلين ولا سماع ينفع وعظ الأنام بما استطاع من الهدى ... لو كان يعقل جاهل أو يسمع ومضى وقد ملأ البلاد غرائبا ... تسري النجوم الظلع ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى ... أن الثرى فيه الكواكب تودع جبل ظننت وقد تزعزع ركنه ... أن الجبال الراسيات تزعزع وعجبت أن تسع المعرة قبره ... ويضيق عرض الأرض عنه الأوسع أسفي عليه وقد مشيت وراءه ... ومتالع فوق المناكب يرفع والشمس كاسفة الضياء كئيبة ... والجو مسود الجوانب أسفع والأرض عادمة النسيم كأنما ... سدت منافسها الرياح الأربع لو فاضت المهجات يوم وفاته ... ما أستكثرت فيه فكيف الأدمع إني لمحتشم وقد دخل الثرى ... ويكون لي كبد ولا تتقطع - 6 - (2) لأبي المجد ابن أخت الممتع المعري: صروف الليالي لا يحيط بها خبر ... تصرفها فينا ويحتكم الدهر فسيان إذ قصر النفوس مآلها ... إلى الموت قسرا طال أن قصر العمر

_ (1) بغية الطلب 1: 228. (2) بغية الطلب 9: 187.

سبيل الردى في سائر الخلق واضح ... ومسلكه إلا بفعل التقى وعر ولم أر إلا عالما مثل جاهل ... يضل على علم وبالدهر يغتر فلولا التساوي مات قوم بدائهم ... ولكن تساوى في الردى العبد والحر وما العمر إلا مثل حول قطعته ... وكان سواء فيه يومك والشهر حكت سفنا في لج بحر جسومنا ... تسير بأرواح وغايتها الكسر وكل طليق في الحياة تظنه ... طليق حمام لا يفك له أسر يسر بتشيد المساكن ساكن ... ومسكنه المسكين لو علم القبر وليس غناه بالحميد مآله ... وأحمد منه في عواقبه الفقر وشرخ شباب المرء في العذر مطمع ... فأما إذا شاب العذار فلا عذر بنفسي مفقودا جزعنا لفقده ... فأصبح إلا فيه يستحسن الصبر يعز علينا أن نعزي به العلا ... ويصبح مفجوعا به المجد والفخر ونفقد من أخلاقه وعلومه ... رياض ربيع لم يصوح بها الزهر لئن عدم الأولاد من ظهره لقد ... حوى بأبي المجد الذي عدم الظهر [يريد بأبي المجد أخاه، لأن أولاد أخيه كانوا يتولون خدمة عمهم أبي العلاء] : نجوم سماء لا يغض ضياؤها ... تزايد أنوار الشموس ولا البدر لها حكم لم يعط لقمان بعضها ... وأحكام داود الذي عنده الزبر وفضل سماح تنقص السحب عنده ... فليس بمحسوب إذا قطر القطر وحسبهم فخرا بعمهم الذي ... يفضله بدو البسيطة والحضر علا علماء الدهر فهي جداول ... وأنزر ما يبديه من علمه بحر فتى علمت بغداد غاية علمه ... وما جهلت من ذاك ما علمت مصر أقام بها حولين يجني علومه ... كما جنيت من خير أغراسها التمر وآب مع الأعراب يزهي بلفظه ... ويعظم منها في فصاحته الفكر أقر بنعماه مقيما وظاعنا ... وكفر أياديه التي سلفت كفر وأنظم ما عمرت في وصف فضله ... مراثي، يرويها ويحدو بها السفر فأيسر ما فيه من الفضل غاية ... يقصر عن إدراكها النظم والنثر

- 7 - (1) وقال جامعه ولد البليغ المعري: قالوا اقتصر في البكاء جهلا ... والعلم يدعو إلى البكاء وأي عين تكف دمعا ... بعد سناها أبي العلاء وجدي على فقده مقيم ... ما نجمت أنجم السماء فما أعزي بني أخيه ... إذ أنا أخلو من العزاء ولو تمكنت من فداء ... ما سبقوني إلى الفداء فظفروا بالمنى جميعا ... وبلغوا غاية البقاء

_ (1) بغية الطلب 9: 219.

كتاب الديرة

- 28 - كتاب الدّيرة لأبي الحسن عليّ بن محمد بن المطهر الشمشاطي

فراغ

عاش الشمشاطي في القرن الرابع الهجري، وله عدة مؤلفات، وصلنا منها كتاب الأنوار ومحاسن الأشعار (1) وفي مقدمة محقق الكتاب ترجمة للشمشاطي وذكر لأهم مؤلفاته، ومنها كتاب الديرة (أو كتاب الأديرة والأعمار) وهو أكبر كتاب في موضوعه ذكر فيه بضعة وثلاثين ديرا وعمرا، احتفظ ابن العديم بنقول تتعلق بخمسة منها. - 1 - (2) دير إسحاق بقرب الناعورة (3) ويقال فيه دير الربيب أيضا، ولابن عبد الرحمن الهاشمي الحلبي شعر قال فيه، وكتب بقصيدته إلى آخر: أما طربت لهذا العارض الطرب ... أما رأيت الصبا والجو في لعب تعانقا لكأن القطر بينهما ... من فضة وكأن الزهر من ذهب ونحن في دير إسحاق ومجلسنا ... نشكو مغيبك فأحضره ولا تغب لتجعل اليوم عيدا في ملاحته ... وننخب الهم بالأدوار والنخب

_ (1) نشر في جزءين بتحقيق الدكتور السيد محمد يوسف، الكويت 1977 ويبدو من نقول لابن العديم لم ترد في المطبوع أنه ناقص. (2) بغية الطلب 9: 232. (3) ياقوت 2: 643 وقال: بين حمص وسلمية.. ولأهل القصف والشعراء فيه أشعار كثيرة، ولم يورد شيئاً من ذلك.

وأنشدني النامي لابن عبد الرحمن الهاشمي في دير إسحاق: وافق أخاك تجده خير رفيق ... إن كنت لست عن الصبا بمفيق وإذا مررت بدير إسحاق فقل ... جادتك غر سحائب وبروق دير يشبه ماؤه بهوائه ... وهواؤه بملاءة المعشوق وكأن عيشي كان في أفيائه ... درك المنى في كاشحي ورفيقي - 2 - (1) دير رمانين (2) بين حلب وأنطاكية يشرف على بقعة سرمدا في أحسن موضع وأنزهه، وفيه يقول الواله: ألف المقام بدير رمانينا ... للروض إلفا والمدام خدينا والكأس والإبريق يعمل دهره ... ويداه تجني الورد والنسرينا يغدو إذا الناقوس أيقظه على ... عذراء أوطنت الدنان سنينا بكر إذا ما الهم عاين كاسها ... يوما رأى فيما يرى السكينا ومن العجائب مسكة ترضى بأن ... تختار قارا في اللباس وطينا ويطارح الطنبور طول حياته ... حتى كأن عليه فيه يمينا " إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا " هانت على طرباته عذاله ... لما اشترى الدنيا وباع الدنيا عمر هو البلد الحرام فكم ترى ... فيه الندى والتين والزيتونا - 3 - (3) [دير القائم الأقصى] :

_ (1) بغية الطلب 9: 258. (2) ياقوت 2: 662 وقال: يعرف أيضاً بدير السابان وهو دير حسن كبير وأورد البيتين الأولين من قصيدة الواله. (3) بغية الطلب 9: 269.

أنشدني الداري قال: أنشدني الأيمني قال أنشدني المعتصمي في دير القائم الأقصى (1) ، قال: ونزلته فرأيت فيه راهبا أمرد، لم تر عيني قط أحسن منه وجها وقدا، فسألته أن يجلس لأشرب على وجهه، فجعل يسقيني ليلتي، فلما قارب طلوع الفجر نهض إلى صلاته، فسمعته يقرأ مزامير بصوت ما رأيت قط أشجى ولا أطيب منه، فعلق قلبي به وتهيأ مسيره في غد فقلت: رأيت البدر مجلوا ... بدير القائم الأقصى له عينان لحظهما ... مطاع الأمر ما يعصى على غصن يميل به ... رطيب قد علا دعصا وأفئدة الورى وخدا ... تسير إليه أو نصا ولم أر مثله بكما ... ل لطف الحسن قد خصا فرص الحب في قلبي ... ملاحة لحظه رصا شربت بكفه بكرا ... كأن بكاسها حصا إلى أن خلت أن الفج؟ ... ر في جنح الدجى لصا فقام ينص مزمارا ... بألحان له نصا كأن بقلبي الولها ... ن من تذكاره حرصا قال: فانصرفت وفي قلبي من حبه النار. - 4 - (2) دير قزمان: شمالي حلب، ما بين حبرين وتل خالد، دير حسن، أنشدني أبو القاسم ابن عبدان الشاعر من أهل منبج: فشبهت ما ينثج من فتقاته ... على دير قزمان أكف بني عوف

_ (1) ذكره ياقوت 2: 684 وقال إنه على شاطئ الفرات من الجانب الغربي في طريق الرقة من بغداد، وإنما قيل له القائم لأن عنده مرقباً عالياً كان بين الروم والفرس يرقب عليه على طرف الحد بين المملكتين. (2) بغية الطلب 9: 171، 221 (ولم يذكره ياقوت) .

سراة بني معن ومفزع مالك ... وذروة ذودان ومعتمد الضيف رأيتهم والنجم قد باح نوره ... وثقلت الأيدي على الدرهم الزيف فما قرعت ألفاظهم باب علة ... ولا استعملوا القول المقيم على كيف ولكنهم قد حنطوا " لا " وكفنوا ... " عسى أن سيأتينا " وصلوا على سوف حدثني ابن جناح قال: مضيت إلى دير قزمان ومعي من آنس به من إخواني، فرأيته ديرا حسنا طيبا نزها، فأقمت أياما، ورأيت فيه شماسا أمرد كالبدر، بقد يقد القلوب، فأنفذت إليه ليحضر عندنا فامتنع، فآنسته وجعلت لا أفارقه، وتناولت معه القربان، ودخلت معه كل مدخل إلى أن أنس بي، وانصرفت وقلبي معه وقلت: يا دير قزمان كم لي فيك من وطر ... قضيته فسقاك الله تهتانا أقمت فيه أسقى من مشعشعة ... تنفي بسورتها هما وأحزانا تجلو الدجى بسناها وهي نيرة ... تخالها في كؤوس الشرب نيرانا حيال روض أريض زهرة عطر ... بديع نور يؤدي الحسن ألوانا له بدائع أشجار تجاوب في ... أفنانها الطير مثنى ثم وحدانا منادما قينة دهرا وربتما ... نادمت قسا وشماسا ورهبانا وفيهم قمر في ليل مدرعة ... على قضيب حوى حسنا وإحسانا فلم أزل أتأتى في تبسطه ... وقد أخذت لقربي منه قربانا حتى استكان إلى وصلي ونادمني ... وكان من بعد ذا منه الذي كانا يا دير قزمان لا عريت من سكن ... ومن سكوب حيا يا دير قزمانا يا جنة خص ما فيها بها فغدا ... ينال ساكنها روحا وريحانا - 5 - (1) دير قنسرى (2) : هو على شاطىء الفرات من الجانب الشرقي من ديار مضر مقابل جرباس، وجرباس شامه، وبين هذا الدير وبين منبج اثنا عشر ميلا ...

_ (1) بغية الطلب 9: 113. (2) انظر ياقوت 2: 688 (وهو متفق مع ما ورد هنا، وقد أوردت البيت الأول والثالث) .

وحدثني عنه أبو الصقر الزهري قال: دخلته ونقلت منه خشب صنوبر إلى حلب، إلى الجوسق الذي بناه سيف الدولة، وكان وجهني لحمل ذلك، وقرأت في صدر الدير مكتوبا بخط حسن: أيا دير قنسرى كفى بك نزهة ... لمن كان في الدنيا يلذ ويطرب هواء كدمع الصب إذ بان إلفه ... وماء كريق الحب بل هو أعذب فلا زلت معمورا ولا زلت آهلا ... ولا زلت مخضرا تزار وتعجب قال: فعرفني جماعة من أهل منبج أنه من أهل منبج وأدبائهم، وكان كثيرا ما يمضي إلى هذا الدير ويقصف فيه.

فراغ

ذيل الخريدة وسيل الجريدة

- 29 - ذيل الخريدة وسيل الجريدة للعماد الأصفهاني

فراغ

- 1 - (1) الشريف شرف الدين الأشرف بن الأعز بن هاشم الحسني الرملي (2) المعروف بالناقلة النسابة المقيم بحصن كيفا: مولده بحمران بين مكة والمدينة، وقد سافر إلى بلاد المغرب والمشرق والأندلس وصقلية ومصر وأذربيجان وغيرها، حضر عندي بالخيمة على آمد في خامس المحرم سنة تسع وسبعين وخمسمائة، ورأيته بسيماء الشباب فسألته عن سنه فقال: أربيت على الخمسين. وأنشدني لنفسه وصية لولده: بني بارك فيك الله من ولد ... نماه للخير جد صالح وأب تعلم العلم وابغ الخير مجتهدا ... فالعلم ينفع ما لا ينفع النسب - 2 - (3) الأمير مكين الدولة أبو الغنائم حميد بن أبي الفياض بن (4) مالك بن منقذ من

_ (1) بغية الطلب 3: 221. (2) توفي بحلب سنة 610. (3) بغية الطلب 5: 312. (4) فوقها تضبيب في الأصل.

بني عم مؤيد الدولة أسامة (1) : ذكره الفقيه ابن رواحة الشاعر وقال إنه مات بحلب بعد الزلزلة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، قال: وأنشدني لنفسه بيتين قالهما في أهله حين وقعت قلعة شيزر بالزلزلة عليهم وهما: من سره أن يرى من دهره عجبا ... فليأتنا وظلام الليل مسدول يرى الأحبة صرعى والديار على ... عروشها ونطاق المجد محلول قال: وله إلى مؤيد الدولة أسامة: بنو منقذ عقد المكارم والعلا ... وأنت على التحقيق واسطة العقد فغيرك نال السعي بالسعد وادعا ... وأنت امرؤ بالسعي صرت إلى السعد أأحبابنا عز اللقاء وما أرى ... تمادي هذا البين يفضي إلى حد إذا قلت قد آن التداني تجددت ... صروف من الأيام تحكم بالبعد ولست ألوم الدهر فيما أصابني ... لأن التنأئي كان مني على عمد وبعدك مجد الدين أعظم حطمة ... أصبت وما حال المفارق للمجد ولو قيل لي أختر ما تشاء من المنى ... لما كان عليّ في غير رؤياك من قصد وقوله: يقولون لو كان الهوى فيه صادقا ... لأصبح مغرى بالفراق وذمه ولولا إحتجاجي بالتفرق والنوى ... لما فزت في يوم الوداع بلثمه وقوله: ولم أنس يوم البين حسن اعتذاره ... إلي وشكواه صروف زمانه وأودعني نار الأسى ببيانه ... وودعني خوف العدا ببنانه [قال ابن العديم: هكذا رأيته بخط العماد الكاتب حميد بن أبي الفياض بن مالك، وأبو الفياض كنية مالك] .

_ (1) توفي بحلب سنة 564.

- 3 - (1) أبو البركات خضر بن التونتاش، مدح صفي الدين ابن القابض، أنفذها إليه من حماة إلى دمشق يهنيه بشهر رمضان سنة ثمانين: حي بالخيف خيالا زار وهنا ... أخذ الخوف وأعطى الصب أمنا أرسل النوم غرارا ريثما ... بذل الوصل غرورا واستسنا يا له من طارق تحت الدجى ... كدت أحظى بالتمني لو تأنى يا أصيحابي على الحب أما ... من معين لفتى أضحى معنى كلما راوح أرواح الصبا ... راح ذا شوق إلى الألف وحنا يتسلى بأكاذيب المنى ... فإذا جن عليه الليل جنا لائمي في الحب حسبي كلفي ... لا تزدني بعدهم شوقا وحزنا مقلتي عبري عليهم أسفا ... لم تذق طعم الكرى والجسم مضنى لا تخوفني تلافي في الهوى ... فإذا مت خليا مت غبنا آه والهفي على عيش مضى ... في الحمى ما كان أصفاه وأهنا حيث صرف الدهر في غفلته ... صارفا وجه النوى والبين عنا وقضيب تحت بدر في دجى ... يخجل الأغصان حسنا إن تثنى ما جنا باللحظ من وجنته ... لحظ مفتون به إلا تجنى تارة ألثم منه قمرا ... وإذا ماس صبا ألزم غصنا أحسنت حسن وجمل أجملت ... ورضى أرضت ولبناي بلبنى بذلت سر الهوى مازحة ... وكتمنا الحب إجلالا وضنا وادعت إنصافنا ظالمة ... فسقى الله الحيا الظالم منا كلما جارت عدلنا طاعة ... أو دعتنا لتباريح أجبنا ودليل الحب في الصدق لها ... كلما عزت مع الهجران هنا أين قلبي ما أرى قلبي معي ... فارق الصدر ضحى لما افترقنا

_ (1) بغية الطلب 6: 194.

أيها الساري على عيرانة ... يقطع البيد بها سهلا وحزنا زر دمشقا إن ترم رفدا فما ... بعدها للمستفيد الرفد مغنى زر صفي الدين إن شمت الغنى ... لتصب صوب حيا جما وحسنا زر أبا الفتح ترى الفتح من الل ... هـ والنصر قريبا مطمئنا شرعت يسراه للوراد يسرا ... ودعت يمناه للقصاد يمنا ومنها: فتهن الصوم يا خدن العلا ... فبك الأشهر والصوم يهنا - 4 - (1) رمضان بن صاعد بن أحمد القرشي: ذكر أن مولده بماردين، وينعت بضياء الدين الضرير، الآمدي الدار والمنشأ: شاب من أهل الأدب مكفوف البصر، كافي البصيرة، عديم النظر والنظير، إن غاض قليب عينه فقد فاضت عين قلبه، أو كبا طرفه فقد جرى قارح قريحته بطرائف تفوق في الأفق لمائع شهبه، وفد إلى دمشق في أخر ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين، وحضرت إنشاده قصيدته للملك الناصر في وقعتين، وأثبت منهما ما فيه روح وروح، وضوعت عرصة كتابي الفيحاء من عطره بما له فوح، فالقصيدة الأولى من نظمه قصد بها أسلوب أبي نواس في كلمته: أجارة بيتينا أبوك غيور ... وما تعرض لمعارضة الفحول، إلا من عرض نفسه لمحاولة الوصول، وعارض المسمن بالتحول والمخصب بالمحول، ومطلعها: تذكر نجدا والمحب ذكور ... فللشوق في الأحشاء منه زفير غريم غرام منجد القلب منهم ... عزيز الجوى فالدمع منه غزير

_ (1) بغية الطلب 7: 111، 112.

إذا ما رجا برد الصبابة بالصبا ... تضرم منها في الفؤاد سعير كئيب كأن العشق يعشق قلبه ... فلا هجر إلا أن يكون نشور أبى سمعه لوم اللوائم في الهوى ... فما يضمر السلوان منه ضمير ومنها: وقائلة والعيش ترحل للسرى ... أما دون مصر للرجاء مصير فقلت لها والعيش تسبق دمعها ... مقالي أني بالرحيل جدير إلى ملك لم ينتج الدهر مثله ... وتعقم من بعد الدهور دهور أغير صلاح الدين في الأرض يرتجى ... جواد وهل يغني غناه أمير إلى الناصر الملك المكارم تعتزى ... فتى ما له في الأكرمين نضير فتى ما له للمعتفين وما له ... به غير ذكر في البلاد يسير ومنها، ويذكر البلاد التي في طريقه: إليك قطعنا كل أرض كأنها ... صحائف تطوى والركاب سطور أخذه من قول صردر: صحائف ملقاة ونحن سطورها ... على ضمر قود كأن رؤوسها ... علوا على هام الرجال قصور رحلن بنا من ماردين وقد بدا ... من الصبح مثل الوجه منك منير فما واجهتنا الشمس حتى أحلنا ... سميساط من شط الفرات عبور ولما أتت رعبان أفرخ رعبنا ... وهن بنا عن تل باشر زور إلى حلب أورثت كرسي ملكها ... وقد أصبحت شوقا إليك تمور فلم نسقها نشحا إلى أن رعت حمى ... حماة ونيران الشهاب (1) تنير فأصبحن بالعاصي يردن زلاله ... وأمسين في حمص لهن نفور ييممن بالركبان جنة جلق ... ونحن إلى الملك المعظم صور

_ (1) يعني شهاب الدين الحارمي.

إليك صلاح الدين سارت ركائبي ... ولولاك لم يعل الركائب كور فدونك بنت الفكر عذراء دونها ... " أجارة بيتنا أبوك غيور " وإن ابن هاني دون ناظم درها ... بصير بنظم الدر وهو ضرير ومطلع القصيدة الأخرى من نظمه: أهدت إلى الصب أنفاس الصبا وصبا ... فحن الشوقا إلى عصر الصبا وصبا وعاده في نسيم الريح رائحة ... للغور رائحة هاجمت له طربا فغاص من صبره ما فاض تسلية ... وفاض من دمعه ما غاض وانسكبا وكاد يقضي لذكر الجزع من جزع ... أيام لم يقض من أحبابه أربا إذ شام برقا ذكا بالشام حين خبا ... أبدى من الوجد ما كان الضمير خبا وفي كثيب الحمى لو أنه كثب ... لعاشق شعب شمل بات منشعبا سقى الحيا عهد ذاك الحي إن له ... عندي عهود هوى لم أنسها حقبا أيام أشرب كأس الحب تثملني ... عشقا وألثم من كأس اللها الحببا وأجتني ثمرات الوصل يانعة ... ولا أراقب إذ أجني على الرقبا وللضباء بذلك الربع مرتبع ... وللهوى من فنون اللهو ما طلبا حيث البدور به تلقاك بادرة ... إليك ساحبة من خمرها سحبا من كل بيضاء كالبيضاء تشرق أو ... سمراء كالصعدة السمراء منتصبا هيف القدود لها يهفو الحليم إذا ... أبدت نقائب تخفي نورها النقبا ومنها في المخلص: فدع هوى دعد المهوي فلست ترى ... منه نصيبك إلا الذل والنصبا وحاول الشرف الأعلى فشر فتى ... راض بدون علاء نيله صعبا إن العلا في العوالي السمر مشرعة ... والعز في البيض تفري البيض واليلبا صيرن للنصر أسبابا وصير لل ... أرزاق كف المليك الناصر السببا لا ملك في الأرض إلا ملك مصر ولا ... سلطان إلا صلاح الدين منتدبا الناصر الحق لما قل ناصره ... والضابط الأمر لما ماج واضطربا

هو الذي ظهرت بالعدل آيته ... فاختاره الله للإسلام وانتخبا ذو الزهد في الذهب المرغوب فيه وفي ... غير الذي يرتضي الرحمن ما رغبا إذهابه لاقتناء المجد شيمته ... لا يقتني المجد من لا يذهب الذهبا ومنها: ملك يرى أن جمع المال مفقرة ... وأن تفريقه يغنيه لا النشبا كأن سائله يوم العطاء وقد ... أغناه واهبه المال الذي وهبا محض الضريبة ميمون النقيبة من ... صور الكتيبة يرضي الله إن غضبا ماضي العزيمة فراج العظيمة وهأب الغنيمة جودا يفضح السحبا ... صافي السريرة مصقول البصيرة ممدوح العشيرة بادي الفخر إن نشبا ... يا مخجل البدر حسنا والحيا كرامة ... والطود حلما وليث الغاب إن قطبا مذ غبت زلزلت الأمصار واضطربت ... خلقا وقد ملئت أقطارها رعبا فمذ قدمت ملأت الأرض من كرم ... وهيبة كشفا عن أهلها الكربا كم حملت لك في أهل الصليب بها ... صارت رماحك فيهم تشبه الصلبا لن يكمل الملك أو تجتث دابرهم ... ويأذن الله أن تستأنف الغلبا وتفتح المسجد الأقصى بمعشرك ال ... أدنى ونصر وفتح منه قد قربا فاجعل مفاتيحه البيض الصوارم والزرق اللهاذم والخطية السلبا ... وناجه بمجانيق مخاطبة ... تتلو على سوره من فتحه خطبا لا تعزمن بغير السيف خطته ... فالملك بالسيف والدنيا لمن غلبا فجرد البيض واجعل أهله جزرا ... وأوقد النار وأجعلهم لها حطبا واسمع غريب مديح غير منتحل ... من معرب غير معدود من الغربا صفات مجدك لا تفنى فإن تك قد ... أعيت على خاطري حصرا فلا عجبا [وكتب إليه أبوه صاعد بن أحمد بن عليّ الكاتب أبو المعالي وهو بحلب] : يا أيها الولد المهذب دعوة ... من والد أودت به أشواقه أفديك من ولد لنا متطلب ... عقا وأمرض والديه فراقه

قال: فكتبت إليه في جوابه: أفدي الذي أهدى إليه كتابه ... موصوفة في ضمنه أشواقه فكأن بهجة خطه صفحاته ... وكأن رقة لفظه أخلاقه وكأنني لما فضضت لطيمتي ... نظم ونثر شابها إشفاقه يعقوب حين أتته حلة يوسف ... أو كالسليم أبله ترياقه ومما وقع إلي من شعره المختار: لولا اعتراض الهوى كرها لما وقذا ... ومنه في الطرف دمع طارف وقذى فيا عذولي كفا إن أمركما ... للعاشقين بما لا يستطاع بذا وإنما الحب داء لا دواء له ... يعطي الجنون متى عقل الفتى أخذا وأسعد الناس جدا من تجنبه ... ومن علائقه عن قلبه نبذا - 5 - (1) المجد الكاتب الأسعردي سعد الله بن إبراهيم الشيباني: كان يتردد إلى الشام مع أمراء ديار بكر عند وصولهم في نجدة الإسلام، ثم انقطع عنهم بدمشق إلى ظل الملك الناصر صلاح الدين وأهدى إليه قصائد، وهدى بها مقاصد، وأمر باستخدامه في بعض مهامه، وهو إلى سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع وثمانين وخمسمائة عند تعليقي هذه اللمعة، وتشنيفي من إحسان بلاغته هذه السمعة، مقيم بالعسكر المنصور على عكا، وهو أحد خاطرا من أهل مدرته وأحكى، ومما أنشدنيه لنفسه في جامع دمشق: لما رأى الجامع أمواله ... مأكولة ما بين نوابه جن فمن خوف عليه غدا ... مسلسلا في كل أثوابه وأنشدني في ذم حمام:

_ (1) بغية الطلب 8: 259.

رأيت لحمامكم سنة ... يظل لها كل طلق عبوسا هواء تجمد منه الرؤوس ... وماء يذيب الكلى والنفوسا وسقف يدر كفيض الغمام ... وأرض تمانع عنها الجلوسا وطين تغرغر منه الحلوق ... وعشواء تمنح روحا خسيسا وقد كان في العرف سمط الجداء ... فلم صرتم تسمطون التيوسا وأنشدني لنفسه في البراغيث: لو تراني والبراغيث بجنبي يعبثونا ... خلت أني نائم في بيدر البزرقطونا ... وكتب إلي بخطه من جملة قصيدة كتبها إلى بعض أصدقائه الحكماء بديار بكر وهو بحماة: شائم برقكم بأرض الشآم ... ذو هيام بكم ودمع هام ذاكر في حماة إلفا حماه ... بعده أن يذوق طعم المنام كلما عن ذكركم وجرى العا ... صي حكاه بأدمع في السجام ومنها: ساعدونا ولو بطيف خيال ... إن سمحتم لمقلة بمنام فعسانا نشكو إلى الطيف في الالمام منا لواعج الآلام ... لا وحق الوصال بعد صدود ... وعتاب في حبكم وملام وليال ولت وولت على الأجسام حكم الغرام والأسقام ... لا رنا ناظري ولا مال سمعي ... لسواكم ولا إلى اللوام حبذا أنتم إذ العيش صاف ... والجفا غير نافذ الأحكام - 6 - (1) أبو الخير الموزة: كان رجلا خيرا من أهل حران معلما بدمشق يعلم أولاد

_ (1) بغية الطلب 9: 85.

الأمراء، وتوفي بخرتبرت، وسبب تسميته الموزة أنه سئل عن هذين البيتين: اسم من أهواه رطلا ... ن وباقيه مدينه ذات بر ذات بحر ... من قرى الشام حصينه فقال: هم في الموزة، فسمي بها ونبز بالموزة. ويقول أبو الحكم المغربي فيه من أرجوزته: والموزة الشاعر في قصته ... أعجوبة وعبرة لمن وعى وشعره في كبك مشتهر ... ليس به بين الأنام من خفا وكبك: غلام، قال فيه أبو الخير الموزة: لو تقاسي ما أقاسي يا كبك ... من سقام وغرام قتلك لست من حسن تفردت به ... آدميا إنما أنت ملك عذب القلب بما تختاره ... ليس هذا القلب لي بل هو لك - 7 - (1) ومنهم أبو الفتح ابن النحاس الأنصاري من أهل دمشق، رأيته في مجلس الملك الناصر ينشده قصيدة منها: تجلت في الدجى شمس النهار ... وزارت بعد هجر وازورار ألمت بعدما حيت فأحيت ... قتيلا نضو شوق وادكار فتى أودى به فتان طرف ... تألف من فتور وانكسار أتت والليل قد وافى بهيما ... كليل الشعر مربد الشعار وقد بثت كواكبه جيوشا ... لها في الجو كالنقع المثار ونامت أعين السمار لما ... خبا النبراس من بعد استعار وقالت بعدما ألقت رداها ... وحلت خلسة عقد الخمار

_ (1) بغية الطلب 9: 175.

وعاد الليل من ذاك المحيا ... منيرا ضاحكا مثل النهار إلى كم ذا الكرى بل أنت ميت ... تنبه واصح من هذا الخمار وقم يا صاح فالواشون عنا ... هجود تحت أسمال الدثار وعود العود قد وافاك لدنا ... نظيرا ذا اهتزاز واخضرار فقمت مقبلا منها جبينا ... سرت منه البدور إلى السرار وخدا مثل قاني الورد غضا ... حوى الضدين من ماء ونار وثغرا فيه در في عقيق ... وشهد في رضاب كالعقار ونحرا لم أكن لولا اعتذاري ... به في الحب مخلوع العذار وبت معانقا منها قضيبا ... رشيق القد حلو المستدار

فراغ

كتاب الأوراق للصولي

- 30 - كتاب الأوراق للصولي (1)

_ (1) قد نشر منه ثلاث قطع، والنقول في المصادر عنه كثيرة، ولكني اقتصرت هنا على ما جاء في بغية الطلب وهو إلى التاريخ أقرب وكان حقه أن يدرج في القسم الأول، ولكن الصيغة الأدبية فيه لا تخفى.

فراغ

- 1 - (1) سنة 139: وفيها ولي إسحاق بن سليمان بن عليّ الهاشمي الثغور الشامية (وهو أول من جمعت له) . - 2 - (2) في ذكر كتاب المأمون: جعل ديوان المشرق إلى عبد الرحمن بن عليّ الكلبي ثم مات فجعله إلى أحمد بن يوسف ولم يزل له خاصية منه. حدثني أحمد بن العباس النوفلي قال: حدثني أبو الحارث النوفلي قلت - وقد رأيت أبا الحارث هذا وكان رجل صدق؟ قال: كنت أبغض القاسم بن عبيد الله لمكروه نالني منه، فلما مات أخوه الحسن قلت على لسان ابن بسام: قل لأبي القاسم المرجى ... قابلك الدهر بالعجائب مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشين والمعايب حياة هذا بموت هذا ... فليس تخلو من المصايب قلت [أي الصولي] وإنما أخذه من قول أحمد بن يوسف الكاتب لبعض

_ (1) بغية الطلب 2: 273. (2) بغية الطلب 2: 148، 150، 152، وانظر ابن خلكان 4: 40، 3: 362، والوافي 8: 279.

إخوته من الكتاب، وقد ماتت له ببغا، وكان له أخ يضعف، فكتب إليه: أنت تبقى ونحن طرا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا فلقد جل خطب دهر أتانا ... بمقادير أتلفت ببغاكا عجبا للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا كان عبد الحميد أصلح للمو ... ت من الببغا وأولى بذاكا شملتنا المصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا وإنما أخذه أحمد بن يوسف الكاتب من قول أبي نواس في التسوية، وزاد في المعنى إرادة وكراهة، قال أبو نواس لما مات الرشيد وقام الأمين، يعزي الفضل ابن الربيع: تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن حوادث أيام تدوم صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن وفى الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا الموت مغبون ولا أنت غابن وقال أحمد بن يوسف الكاتب في وصف الليل: كم ليلة فيك لا صباح لها ... أفنيتها قابضا على كبدي قد غضت العين بالدموع وقد ... وضعت خدي على بنان يدي حدثنا وكيع قال، حدثنا أبو جعفر أحمد بن القاسم بن يوسف قال، حدثني نصر الخادم مولى أحمد بن يوسف قال: كان أحمد بن يوسف يتبنى مؤنسة جارية المأمون، فجرى بينها وبين المأمون بعض ما جرى، فخرج إلى الشماسية وخلفها، فجاء رسولها إلى أحمد بن يوسف مستغيثة به، فوجهني أحمد إليها فعرفت الخبر ثم رجعت فأخبرته، فدعا بدايته ثم مضى فلحق المأمون بالشماسية فقال للحاجب: اعلم أمير المؤمنين أن أحمد بن يوسف بالباب وهو رسول، فأذن له، فدخل فسأله عن الرسالة، فاندفع ينشد: قد كان عتبك مرة مكتوما ... فاليوم أصبح ظاهرا معلوما نال الأعادي سؤلهم لا هنئوا ... لما رأونا ظاعنا ومقيما

هبني أسأت فعادة لك أن ترى ... متفضلا متجاوزا مظلوما فقال: قد فهمت الرسالة، كن الرسول بالرضى. يا ياسر امض معه، قال: فحملها ياسر إليه. - 3 - (1) سنة 226: وفيها مات إسحاق بن عيسى الطباع بأذنة. - 4 - (2) سنة 259: فيها عقد لأحمد المولد على ديار ربيعة من قبل موسى بن بغا في المحرم. - 5 - (3) وانصرف أبو الساج عن عسكر عمرو بن الليث يريد بغداد فمات بجنديسابور في شهر ربيع الأخر [سنة 266] . - 6 - (4) سنة 266: وفيها هزم إسحاق بن كنداج إسحاق بن أيوب واستنجد عليه عيسى بن شيخ وأبا المغرا، ووجه السلطان إلى إسحاق بن كنداج بخلع ولواء وولاه الموصل وديار ربيعة وأرمينية، فطلب القوم صلحه على أن يقرهم على أعمالهم ويعطوه مائتي ألف دينار.

_ (1) بغية الطلب 2: 290. (2) بغية 2: 163. (3) بغية الطلب 6: 304. (4) بغية الطلب 2: 293 وما بعدها.

- 7 - سنة 269: وفيها خلع على إسحاق بن كنداج وقلد سيفين بحمائل، أحدهما على يمينه والآخر عن شماله، وسمي ذا السيفين، وتوج وألبس وشاحين ورصع ذلك بالجوهر، وشيعه إلى منزله هارون بن الواثق وصاعد وتغذيا عنده مع سائر القواد بسر من رأى، فقال البحتري: أخلق بذي السيفين أو صدق به ... أن يعمل السيفين حتى يحسرا ما قلد السيفان إلا نجدة ... في الحرب توجب أن يقلد آخرا قد ألبس التاج المعود لبسه ... في حالتيه مملكا ومؤمرا شرف تزيد بالعراق إلى الذي ... عهدوه بالبيضاء أو ببلنجرا - 8 - سنة 270 وفيها أمر [جعفر المفوض بن المعتمد] إسحاق بن كنداج موافاة بغداد، ووافاه إسحاق بن كنداج لليلتين خلتا من جمادي الآخرة فخلع عليه خلعا فيها سيفان محليان، وعقد له على المغرب، فشخص إلى سر من رأى من يومه لأنه اتصل به مسير ابن أبي الساج إلى عانة، وأنه دعا بالرحبة لابن طولون، وأن أحمد ابن مالك بن طوق دعا لابن طولون بقرقيسيا وكذلك ابن صفوان العقيلي، وانصرف ابن طولون عن دمشق وهو شديد العلة إلى مصر، وانصرف أصحابه عن الرحبة وقرقيسيا ورجع ابن أبي الساج إلى قرقيسيا. وورد الخبر من يوم السبت لست خلون من ذي الحجة بموت أحمد بن طولون بمدينة مصر، وبمصير إسحاق بن كنداج وابن أبي الساج إلى الرقة، وصار إسحاق بن كنداج إلى الرقة وهزم أصحاب ابن طولون وهزم ابن أبي الساج عن قنسرين والعواصم. - 9 - سنة 271: وفيها دخل أبو العباس [أحمد بن الموفق] إلى قنسرين وسار منها

فلقيه بحماة جيش لأبي الجيش ابن طولون وصار إلى دمشق، فجاءه أبو عبد الله الواسطي في الأمان، وتنحى إسحاق ومحمد بن أبي الساج وحضر البغامردي عن أبي العباس فصاروا إلى حلب يجبون الأموال. - 10 - سنة 272: [بعد عود أبي الجيش من وقعة الطواحين] : وصار أبو العباس إلى الجزيرة إلى رأس عين ثم إلى قرقيسيا، وتنحى إسحاق بن كنداج وابن أبي الساج إلى باجدى ثم إلى دارا. - 11 - سنة 273: وفيها دعا ابن أبي الساج لخمارويه على جميع عمله، وانفرج الأمر بينه وبين إسحاق بن كنداج فصار إلى الرقة، وصار خمارويه إليها، واجتمعا، فحاربا إسحاق فهزماه فوافى ديار ربيعة في جمادي الأولى وتحصن في قلعة ماردين ثم صار إلى تكريت. - 12 - (1) حدثنا الحسين بن عليّ أبو عليّ الرازي قال حدثني ابن أبي فنن قال: لما بنى المتوكل للمعتز داره ببركوارا وطهره فيها، دخل الشعراء فأطالوا وذهبوا كل مذهب، وعرفت طبع المتوكل فدخلت وأنشدت: قل لأمين الله في خلقه ... عشت سليما عالي الجد بنيت للمعتز أعجوبة ... ينزلها بالطائر السعد دارا ترى العز محيطا بها ... مختارة باليمن والرشد إذا رأيناها ذكرنا بها ... لما رأينا جنة الخلد

_ (1) بغية الطلب 7: 154 وما بعدها حتى 162.

أبقاك رب الناس حتى ترى المعتز جدا وأبا جد ... حولك من أبناء أبنائه ... تسعون من شيب ومن مرد كلهم قد نال ما ناله ... آباؤه الزهر من المجد قال: فما بلغ أحد ممن أطال ما بلغت. ودعوة المتوكل هذه ببركوارا لما أعذر المعتز دعوة مشهورة يقال إنها دعوة الإسلام، لم يكن قبلها ولا بعدها مثلها إلا ما يحكى في وقت بناء المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل. حدثني جماعة بها قد شاهدوها وجماعة من أولاد الخلفاء والجلساء عن آبائهم أن المتوكل جلس وقد مدت بين يديه مرافع ذهب مرصعة بالجوهر، وعليها من العنبر والند والمسك المعجون أمثلة على جميع الصور، ومنها ما قد رصع بالجوهر مفردا، ومنها ما عليها ذهب وجوهر وجعل بساطا ممدودا فأحضر الجلساء وسائر الناس فوضعت بين أيديهم صواني الذهب مرصعة بأنواع الجوهر وبين صوانيهم من الجانبين وبين طرفي هذا المعبى فرجة، وجاء الفراشون بزبل قد غشيت بالأدم مملوءة دنانير ودراهم نصفين، فصبت في الفرجتين حتى ارتفعت على الصواني، وأمر الناس أن يشربوا ويتنقل من يشرب من تلك الدنانير بثلاث جفنات بكفة كأنها ما كانت، وكلما جف موضع جيء بالزبل فرد إلى حاله، ووقف غلمان في آخر المجلس فصاحوا إن أمير المؤمنين يقول لكم: ليأخذ من شاء ما شاء، فمد الناس أيديهم إلى المال فأخذوه، وكان الرجل منهم يثقله ما معه فيخرج فيسلمه إلى من معه ويرجع، وخلع على سائر الناس بعد أن صليت الظهر خلعا حسانا على مراتبهم، وكذلك بعد العصر والمغرب، وأعتق ستة آلاف نسمة، ولم يتخلف عن هذا الأمر أحد، وكان فيه جلساء المتوكل كلهم. وكانت دعوة المأمون حين بنى على بوران ابنة الحسن بن سهل، تسمى دعوة الإسلام حتى جاءت دعوة بركوارا فقيل هي مثلها وقيل أقل وأكثر. وحدثني ابن المعتز قال حدثني العنبري قال: حدثني حماد بن محمد عن ابن السمط قال: لما نثر على المعتز يوم بركوارا لم ألتقط، فقال لي المتوكل لم لا

تلتقط؟ وأنكر ذلك، فقلت: خفت أن أوليك ظهري، قال: أما ترى الفتح يلتقط؟ فالتقط وقلت: هذي سماء تمطر الدراهما ... عند إمام يعمر المكارما خليفة قد ولد الضراغما ... جاء بهم خلائفا أكارما لازال ملك الأرض فيهم دائما ... فشتمني ابن الجهم فقال لي المتوكل: إنما شتمك غيضا لأنه لا يحسن أن يقول بديها كما تقول ... وعزل أحمد بن وزير البصري عن قضاء سر من رأى إلا أنه لم يكن إليه قضاء القضاة، فحدثني يحيى بن أحمد بن وزير عن أبيه قال: ما رأيت أحسن وجها من المعتز ولا أبلغ خطابا قال لي لما ولاني القضاء: يا أحمد قد وليتك القضاء وإنما هي الدماء والفروج والأموال ينفذ فيها حكمك ولايرد أمرك، فاتق الله وانظر ما أنت صانع، قال: فما قرع قلبي كلام قط مثله. قال: وحضرت عنده وقد عرض عليه أسارى من عامة أهل بغداد أخذوا في الحرب فأمر بقتلهم، فقلت: يا أمير المؤمنين قصاب وهراس استفزهم الجهل وأرداهم الطمع، فإن قتلتهم فليسوا بثار، وفي إطلاقهم نجاة لك من النار، فأمر بإطلاقهم وأن يدفع إلى كل واحد منهم ثوب ودينار ... حدثني أحمد بن محمد بن إسحاق قال سمعت الفضل بن العباس يقول: كان المعتز حسن الأخلاق جميل المذهب لولا أنه حمل على قتل أخيه المؤيد وخوف ما جسر على ما فعله به، وما زال نادما على ذلك، وكانت له فعلة أخرى: أطعم المضحكين حيات على أنها سمك مرماهي فماتوا كلهم، وأعطى ورثتهم الديات، وتاب إلى الله عز وجل من ذلك وتصدق بمائة ألف درهم. حدثني أبو العيناء قال: دخل ابن السكيت على المعتز وكان يؤدبه وله عشر سنين فقال: بأي شيء يجب أن أبتدىء الأمير من العلوم؟ قال: بالانصراف، قال: أنا أخف نهوضا منك، فوثب فعثر بسراويله فالتفت فقال:

يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل فخبر بها المتوكل، فأمر لابن السكيت بخمسين ألف درهم، قال أبو العيناء: وإنما فعل ذلك المتوكل ليستر عوار ابنه في سوء أدبه على معلمه. حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال، حدثني أبي قال: كان المعتز يشرب على بستان مملوء بالنمام، وبين النمام شقائق النعمان، فدخل يونس بن بغا وعليه قباء أخضر وقد شرب فاشتدت حمرة وجناته، فقال المعتز: شبهت حمرة خده في ثوبه ... بشقائق النعمان في النمام ثم قال: أجيزوا. فبدر بنان المغني فقال - وكان ربما عبث بالبيت والبيتين: والقد منه إذا بدا في قرطق ... كالغصن في لين وحسن قوام فقال له المعتز: غن الآن فيه، فعمل لحنا وتغنى فيه. وحدثني محمد بن عبد السميع قال حدثني أبي قال: لما قتل بغا دخلنا فهنأنا المعتز بالظفر، فاصبح ومعه يونس بن بغا، وما رأينا وجهين قط اجتمعنا أحسن من وجهيهما، فما مضت ثلاث ساعات حتى سكرا، ثم خرج علينا المعتز فقال: ما إن ترى منظرا إن شئته حسنا ... إلا صريعا تهادى بين سكرين سكر الشباب وسكر من هوى رشأ ... تخاله والذي تهواه غصنين ومن شعر المعتز قوله في يونس بن بغا، وفيه ألحان عملها المعتز في طريقة الرمل الثاني: علموني كيف أجفو ... ك على رغم من انفي وجفائي لك يا يونس مقرون بحتفي ... غير أن الله قد يعلم ما أبدي وأخفي ... فوقاني فيك ريب الد ... هر أن يأتي بصرف حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عباد قال: حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال: قعد المعتز، ويونس بن بغا بين يديه، والجلساء والمغنون

حضور وقد أعد الخلع والجوائز، إذ دخل بغا فقال: يا سيدي والدة عبدك يونس في الموت، وهي تحب أن تراه، فأذن له فخرج، ففتر المعتز بعده ونعس، وقام الجلساء إلى أن صليت المغرب، وعاد المعتز إلى مجلسه، ودخل يونس وبين يديه الشموع، فلما رآه المعتز دعا برطل فشربه، وسقى يونس رطلا، وغنى المغنون، وعاد المجلس أحسن ما كان، فقال المعتز: تغيب فلا أفرح ... فليتك لا تبرح وإن جئت عذبتني ... بأنك لا تسمح فأصبح ما بين ذين لي كبد تجرح ... على ذاك يا سيدي ... دنوك لي أصلح ثم قال: غنوا فيه، فجعلوا يفكرون، فقال المعتز لابن الفضل الطنبوري: ويلك ألحان الطنبور أملح وأخف فغن لنا، فغنى فيه لحنا، فقال: دنانير الخريطة، وهي مائة دينار، فيها مائتان، مكتوب على كل دينار: ضرب هذا الدينار بالحسني لخريطة أمير المؤمنين، ثم دعي بالخلع والجوائز لسائر الناس فكان ذلك المجلس من أحسن المجالس. حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الفضل بن العباس بن المأمون قال: كنت مع المعتز في الصيد، فانقطعنا عن الموكب هو وأنا ويونس بن بغا، ونظرنا إلى دير فيه ديراني يعرفني وأعرفه، ظريف مليح، فشكا المعتز العطش، فقلت: ها هنا ديراني ظريف مليح، فقال: مر بنا، فجئنا فخرج إلينا وأخرج لنا ماء باردا وسألني عن المعتز ويونس فقلت: فتيان من أبناء الجنة، فقال لي: تأكلون شيئا؟ قلنا: نعم، فأخرج لنا أطيب شيء في الدنيا، فأكلت أطيب أكل، وجاءنا بأطيب أشنان، وأحسن آلة، فاستظرفه المعتز وقال لي: قل له بينك وبينه من تحب أن يكون معك من هذين لا يفارقك؟ فقلت له، فقال: كلاهما وتمرا، فضحك المعتز حتى مال على الحائط، فقلت للديراني: لابد من أن تختار، فقال: الاختيار والله في هذا دمار، ما خلق الله عقلا يميز بين هذين، ولحقنا بالموكب، فارتاع الديراني، فقال له المعتز: بحياتي لا تنقطع عما كنا فيه. ففرحنا ساعة ثم أمر له

بخمسمائة ألف درهم، فقال: والله لا قبلتها إلا على شريطة، قال: وما هي؟ قال: يجيب أمير المؤمنين دعوتي مع من أراد، فوعدناه ليوم فجئناه فأنفق علينا المال كله، فوصله المعتز بمثله وانصرفنا. حدثني عثمان بن محمد قال: حدثني حمدون بن إسماعيل قال: اصطبح المعتز في يوم ثلاثاء ونحن بين يديه، ثم وثب فدخل فاعترضته جارية كان يحبها، وما كان ذلك اليوم من أيامها، فقبلها وخرج، فحدثني بما كان وأنشدني: إني قمرتك يا همي ويا أملي ... أمرا مطاعا بلا مطل ولا علل حتى متى يا حبيب النفس تمطلني ... وقد قمرتك مرات فلم تف لي يوم الثلاثاء يوم سوف أشكره ... إذ زارني فيه من أهوى على عجل فلم أنل منه شيئا غير قبلته ... وكان ذلك عندي أعظم النقل فأمر أن يعمل فيه لحن خفيف، فشربنا عليه سائر يومنا. وأنشدني عبد الله بن المعتز لأبيه: بيضاء رؤد الشباب قد غمست ... في خجل ذائب يعصفرها مجدولة هزها الصبا وغدت ... يشغل لحظ العيون منظرها الله جار لهما فما امتلأت ... عيني إلا من حيث أبصرها وعملت عريب فيه لحنا. وحدثني عبد الله بن المعتز قال: أنشدنا أحمد بن حمدون للمعتز في يونس ابن بغا وقد خرج من عنده ثم عاد: الله يعلم يا حبيبي أنني ... مذ غبت عني هائم مكروب يدنو السرور إذا دنا بك منزل ... ويغيب صفو العيش حين تغيب حدثني عبد الله بن المعتز قال: بويع المعتز بالخلافة وله سبع عشرة سنة كاملة وشهر، فلما انقضت البيعة قال: تفرد لي الرحمن بالعز والعلا ... فأصبحت فوق العالمين أميرا

حدثني عبد الله بن المعتز قال: حدثني امرأة من موالياتنا قالت: خرجت قبيحة أم المعتز على [مقدم] الأتراك، وأخرجت إليه قميص المتوكل مخضبا بدمائه وقالت: اقتلهم في كل مكان، فقال لها: ارفعيه وإلا صار القميص قميصين. سنة 255: وفيها خلع المعتز وقتل بعد خلعه بأيام، حدثني الحسين بن عبد الله بن عمر قال، حدثني عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى قال: لما قبض صالح بن وصيف على الكتاب شغب الأتراك على المعتز يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب، فركب صالح وباكباك ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر حتى وافوا باب المعتز فقالوا: اخرج إلينا، فوجه إليهم إني أخذت دواء، فعاودوه مرات، فوجه إليهم إن كان ما لابد منه فادخلوا، وهو يرى أن أمره واقف بعد، فدخلوا فجروا برجله وضربوه وأقاموه في الشمس ثم قالوا: اخلع نفسك، قال: نعم، فأدخل حجرة ووجه إلى ابن أبي الشوارب والفقهاء، فكتب كتاب الخلع وشهدوا عليه على أن له الأمان ولأخته وابنه ولأمه، وكان لقبيحة سرب في الدار فنجت منه، وفرت أخت المعتز، وكان المعتز طلب منها مالا وقت شغبهم عليه، فقالت: ليس عندي، فقال: إني مقتول، قالت: لا يجسرون عليه، ووجهوا بخليفة ساتكين إلى بغداد فهجم على محمد بن الواثق، وكان ينزل في الجانب الشرقي فأخذه وحمله فوافى به سر من رأى ليلة الأربعاء لليلة بقيت من رجب، فبويع من ساعته وسمي المهتدي بالله، وأدخل المعتز إلى المهتدي يوم السبت لثلاث خلون من شعبان، فقال له المهتدي: أخلعت أم خلعت؟ قال: خلعت، فوجىء في عنقه حتى سقط ثم أقيم فقال: خلعت وسلمت ورضيت، وسلم على المهتدي بالخلافة، وأخرج فسلمه صالح إلى نوشري بن طاجنك، فمشى في الحر، فطلب بغلا فلم يعط، فأرخى سراويله فمشى عليه، وأخذ من مال أخته ثلاثمائة ألف دينار، ونادى المهتدي من دل على مال من مالهم فله نصف العشر، فدل الناس على أموال كثيرة نحو ألف ألف دينار، فوفى لهم المهتدي بنصف العشر، وعذب المعتز بألوان العذاب فلم يكن عنده مال، فأدخل حماما ومنعوه الماء حتى اشتد في الحمام عطشه وقارب التلف، ثم أخرج فأعطي ماء فيه ثلج كثير فحين جرع منه جرعا مات، وذلك يوم السبت لعشر خلون من شعبان، فكانت خلافته مذ بايعوه قبل خلع المستعين نفسه

- وذلك يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم سنة اثنين وخمسين ومائتين؟ ثلاث سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وقتل بعد الخلع بأيام، وكان مولده في شهر رمضان سنة اثنين وثلاثين ومائتين قبل خلافة أبيه، وكان المهتدي يقول قبل قتل المعتز: لا يجمع سيفان في غمد ولا فحلان في شول. - 13 - (1) حدثنا الحسين بن إسحاق قال، حدثنا أبو جعفر أحمد بن الحارث قال: بويع المعتمد على الله، وهو أبو العباس أحمد بن جعفر المتوكل على الله، وأمه أم ولد يقال لها فتيان في يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وهو اليوم الذي مات فيه المهتدي، ودعي له بالخلافة على المنبر يوم الجمعة لعشر بقين من رجب، وقد قيل إن المهتدي بالله مات يوم الخميس بعد ما بويع المعتمد بيومين، وركب المعتمد يوم الاثنين لسبع بقين من رجب إلى دار العامة، وقعد لبني هاشم والناس فبايعوه، فلما كان يوم الخميس لأربع ليال بقين من رجب ركب في الميدان إلى وادي إسحاق، وخرج من الماء فركب وظهر للعامة من الوادي إلى جوسق في شارع الحسنية، ثم أمر أن تحدر عيال الواثق وولده إلى مدينة السلام. ولما مات المهتدي بالله نودي على أخيه عبد الله بن الواثق وبذل لمن جاء به مال، ثم ظهر أمره أنه هرب إلى يعقوب الصفار، وأن يعقوب قبله أحسن قبول وأظهر إكرامه، وكتب المعتمد إلى يعقوب في حمله فلم يجب إلى ذلك. حدثنا عون بن محمد قال: قتل المهتدي يوم حارب الأتراك جماعة بيده، ورأوا من شجاعته وبأسه ما لم يروه من أحد قط، فلما صار في أيديهم أرادوه على الخلع، فأبى وسمع الضجة فقال: ما هذا؟ قيل جاءوا بأحمد بن المتوكل للخلافة، فقال أحمد هذا هو ابن فتيان؟ قالوا: نعم، قال: ويل لهم فهلا أتوا بأبي عيسى

_ (1) بغية الطلب 1: 5.

أخيه، فإنه كان أقرب لهم إلى الله عز اسمه وأنفع للمسلمين. قال: وأوقع الأتراك البيعة لأحمد بن المتوكل على الله وسموه المعتمد، وذلك في يوم الثلاثاء، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، ولم يخلع المهتدي نفسه فقتلوه، وقيل مات من سهم وضربة كانا به، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي. وكان المعتمد جهيرا فصيحا صيتا إذا خطب أسمع أقصى الناس، وكان يمثل بينه وبين المستعين بالسخاء فيقال: ما لي لبني العباس أسخى منهما، وكان جيد التدبير فهما بالأمور جليلا في قلوب الناس، فلما جرى عليه ما جرى من تفويضه أمره وغلب على رأيه نقصت حاله عند الناس. وكان يحب الشعر ويشتهيه ولم يكن له طبع يزنه به، فكان ربما وقع له الموزون ويعملون ألحانا عليه، فيرى أنه جيد لما غنى فيه، وليس كل مغن يفهم التقطيع والقسمة ولا يغني إلا بشعر صحيح. أنشدني عبد الله بن المعتز للمعتمد مما وزنه صحيح: الحمد لله ربي ... ملكت مالك قلبي فصرت مولى لملكي ... وصار مولى لحبي قال: وهو القائل لما أكثر الناصر لدين الله نقله من مكان إلى مكان: ألفت التباعد والغربة ... ففي كل يوم أطا تربه وفي كل يوم أرى حادثا ... يؤدي إلى كبدي كربه أمر الزمان لنا طعمه ... فما لي ترى ساعة عذبة وقال: ومما قاله وأنشدنيه جماعة، وبعض الناس ينحله إلى غيره، لما كان في نفوسهم مما كان يقع له في الوزن: بليت بشادن كالبدر حسنا ... يعذبني بأنواع الجفاء ولي عينان دمعهما غزير ... ونومهما أعز من الوفاء

وحكى عبد الله بن خرداذبة أنه رأى هذين البيتين عند الحضرمي وراق المعتمد، وقد كتب الحضرمي: أنشدنيهما المعتمد لنفسه. وكان المكتفي أخرج إلينا مدارج مكتوبة بالذهب، فكان فيها من شعر المعتمد على الله الموزون: طال والله عذابي ... واهتمامي واكتئابي لغزال من بني الأص؟ ... فر لا يعنيه ما بي أنا مغرى بهواه ... وهو مغرى باجتنابي فإذا ما قلت صلني ... كان " لا " منه جوابي ووجدت أيضا من الموزون: عمل الحب بفرقة ... فبقلبي منه حرقة إنما يستروح الص؟ ... ب إذا أظهر عشقه وبعد هذا أبيات لا نظام لها. وحدثنا محمد بن يحيى بن أبي عباد قال: طلب المعتمد ثلاثمائة دينار يصل بها عريب وقد حضرت مجلسه، فلم يجدها، فطلب مائتين فلم يجدها، وكان قد أمر أن يطرح لها تكاء فأبت، فكان يجعل تحت ركبتها أترجتان من الأترج الكبار وربما قورتا، وجعل فيهما دنانير، قال: فبلغني أنه لما لم يجد الدنانير قال شعراً: أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شيء في يديه إليه تحمل الأموال طرا ... ويمنع بعض ما يجبى إليه وكان المعتمد من أسمح الناس، قال له القاسم بن زرزر المغني: يا سيدي إلى جانب ضيعتي ضيعة لا تصلح إلا بها تباع بسبعة آلاف دينار، وما عندي من ثمنها إلا ألفي دينار، أحضروني خمسة آلاف دينار، فجيء بها، فدفعها إليه فاشترى الضيعة، فسأله بعد أيام عنها فعرفه شراءها فقال: ما أحب أن يكون لك

فيها وزن، ادفعوا إليه ألفي دينار مكان ألفيه، فأخذها وانصرف. حدثنا الحسن بن إسماعيل قال: جلس المعتمد يشرب يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب بالحسني على المسناة الشرقية على دجلة مع المغنين والمخنثين، وأكل في ذلك اليوم من رؤوس الجداء واصطبح ثم تشكى في عشيته تلك، فتعالج وبات وقيذا، فمات من ليلته، وأحضر المعتضد القضاة ووجوه الناس فنظروا إليه ثم حمل إلى سر من رأى ودفن بها، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وستة أيام، وقيل غير يوم، وقيل يوما، وكان صوته الذي شرب عليه يوم اصطبح في شعر أبي نواس: يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن وكان عمره يوم مات خمسين سنة كاملة، وكان أسن من الموفق بستة أشهر. - 14 - (1) مات الموفق ليلة الخميس لثمان بقين من صفر؟ يعني من سنة ثمان وسبعين؟ وجلس أبو العباس يوم الخميس فعزاه الناس، وخطب يوم الجمعة للمعتمد ثم للمفوض يعني جعفر بن المعتمد بالعهد ثم لأبي العباس أحمد المعتضد بالله ولي عهد المسلمين. وبعد ذلك أمر المعتمد أن يجعل أبو العباس أحمد بن الموفق في ولاية العهد مكان جعفر المفوض، وكتبت الكتب بذلك وقرئت عليه وأدخل القضاة إليه حتى شهدوا بذلك في يوم الإثنين لثلاث بقين من المحرم يعني من سنة تسع وسبعين. فحدثني نصر الحاجب المعروف بالقشوري قال: أنا سفرت في ذلك لمال أطلقه لي المعتضد، فأتيت المعتمد فأخبرته به بعد أن أشرت على المعتضد أن يحمل إليه مائتي ألف دينار وثيابا وطيبا، ففعل ذلك وطابت نفسه، وحمل إلى المفوض مثل ذلك، وفارقنا المعتمد على أن يرضى جعفر بذلك، فلما سألت

_ (1) بغية الطلب 1: 120 - 125، 169.

المعتمد ذلك قال لي: أفيرضى جعفر؟ قلت: نعم، قال: فليجئني أحمد حتى أفعل ما يريد، فجاء فأجلسه على كرسيه بين يديه وهو على سريره بعد أن ضمه إليه، وقبل المعتضد يده، فتحدثا ساعة بغير ما قصداه، ثم ابتدأه، المعتمد فقال: أحضر من شئت فإني أفعل ما تريد، فأحضر الناس وشهدوا على خلع جعفر من ولاية العهد وتولية المعتضد، وكتب بذلك كتب إلى النواحي وأن المعتمد قد جعل إليه ما كان إلى الموفق من الأمر والنهي ووقع المعتمد في الكتاب: أقر عبد الله الإمام المعتمد على الله أمير المؤمنين بجميع ما في هذا الكتاب وكتب بخطه، وأقر جعفر بن أمير المؤمنين المعتمد على الله بجميع ما في هذا الكتاب وكتب بخطه. كانت البيعة بالخلافة لأبي العباس أحمد بن الموفق بالله، واسم الموفق محمد وقيل طلحة؟ وكان المتوكل على الله قال: كل من غلبت عليه كنيته من ولدي فاسمه محمد؟ يوم الإثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وسنه يوم ولي الخلافة سبع وثلاثون سنة، مولده في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين ومائتين، سمعت المكتفي بالله يذكر ذلك. وحدثني عبد الله بن المعتز قال: كان المتوكل على الله يجلسني والمعتضد آخر أيامه معه على السرير، ونحن صغيران، فيرمي إلينا بالشيء فنتحارب عليه، فيضحك من فعلنا، قال: وكان هو أسن مني. قال: وأم المعتضد يقال لها خزر؟ ويقال إن اسمها غير؟ كان اسمها ضرار ثم سميت بخفير، وكانت وصيفة لخديجة بنت محمد بن إبراهيم بن مصعب، فاشتراها منها أخوها أحمد بن محمد ثم اشتراها بعض القواد فأهداها إلى المتوكل، فوهبها لإسحاق أم الموفق جاريته، فوهبتها للموفق، وكان الذي سماه المعتضد عبيد الله بن عبد الله قبل ولايته العهد ببيتين قالهما وكتب بهما إليه: إرث الخلافة معضود بمعتضد ... لا زال عنه وموصول لمن ولدا خليفة ملكه أمن وعافية ... ورخص سعر وخصب فليعش أبدا وكان المعتضد من أكمل الناس عقلا وأعلاهم همة وأكثرهم تجربة، قد حلب الدهر أشطره وعاقب بين شدته ورخائه. وكان أبوه الموفق يسمى المنصور

الثاني لانشعاب الأمور عليه وقيامه بها حتى تجلت. وكان المعتضد يسمى السفاح الثاني لأنه جدد ملك بني العباس بعد إخلاقه وقتل أعداءه، فكأنه أول لهم كما كان السفاح أولا، وقد احتذى على هذا المعنى عليّ بن العباس الرومي فقال يمدحه لما قام بالخلافة: هنيئا بني العباس إن إمامكم ... إمام الهدى والبأس والجود أحمد كما بأبى العباس أنشئ ملككم ... كذا بأبي العباس أيضا يجدد إمام يظل الأمس يعمل نحوه ... تلهف ملهوف ويشتاقه الغد وفي تأخير [هـ] الخراج والنوروز يقول يحيى بن عليّ: إن يوم النوروز عاد إلى العه؟ ... د الذي كان سنه أردشير أنت حولته إلى الحالة الأو ... لى وقد كان حائرا يستدير وافتتحت الخراج فيه فللأ ... مة في ذاك مرفق مذكور منهم الحمد والثناء ومنك الر ... فد فيهم والنائل المشكور وكان الحسين بن عبد الله الجوهري جاء بهدايا من عند خمارويه بن أحمد وسعى في تزويج ابنة خمارويه من عليّ بن المعتضد، فقال المعتضد: قد علمت إنما أراد خمارويه أن يتشرف بنا، فأنا أتزوجها، فتزوجها بحضرة القضاة وزوجه إياها ابن الجصاص. ولما ولي المعتضد الخلافة أمر بالزيادة في المسجد الجامع بالمدينة، وأمر بتسهيل عقبة حلوان وقال: هذا طريق الملك، فسهلت إلى الموضع المعروف بدهليزان، وكان الناس يلقون منه تعبا شديدا، فبلغت النفقة عشرين ألف دينار عليهما. وأمر برد المواريث على ذوي الأرحام في آخر سنة ست وثمانين بكتاب ابن أبي خازم القاضي إلى أبي النجم بعد أن سأله بدر عما عنده فيه، وأنشئت الكتب بذلك، وما فعله في أمر النوروز وتأخيره لتأخير الخراج، إنما احتذى ما كان المتوكل فعله وكتب فيه إبراهيم بن العباس الصولي كتابا بتأخيره إلى سبعة عشر يوما من حزيران، فاحتذى المعتضد ذلك إلا أنه جعله لأحد عشر يوما من حزيران.

ومن شعر المعتضد: يا لاحظي بالفتور والدعج ... وقاتلي بالدلال والغنج أشكو إليك الذي لقيت من ال ... وجد فهل لي لديك من فرج حللت بالظرف والجمال من النا ... س محل العيون والمهج حدثني يحيى بن عليّ بن المنجم قال: كنا مع المعتضد في بعض أسفاره فدعاني فقال لي: قلبي ببغداد وإن كان جسمي ها هنا، فقل عني شعرا في هذا المعنى أكتب به إلى من أريد ببغداد فإني قد رمت ذلك فلم يتسق لي، فقلت على لسانه: ها هنا جسمي مقيم ... وببغداد فؤادي وكذا كل محب ... باع قربا ببعاد أملك الأرض ولكن ... تملك الخود قيادي غلب الشوق اصطباري ... مثل غلبي للأعادي فأنا أحتال أن يخ ... فى بجهدي وهو بادي ليس واد لا أرى في ... هـ حبيبي لي بواد فاستحسن الأبيات وكتب بها، والناس يرونها للمعتضد، وقد حدثني بهذا يحيى بن عليّ، وكان ما علمت صدوقا فيما يحكيه، فأما الذي للمعتضد في هذا المعنى مما أنشدنيه له محمد بن يحيى بن أبي عباد: إن جسمي بسميس ... اط وقلبي بالعراق غلب الشوق اصطباري ... من تباريح الفراق أملك الأرض ولا أمل ... ك دفعا لاشتياقي ومن شعر المعتضد: لم يلق من حر الفراق ... أحد كما أنا منه لاق يا سائلي عن طعمه ... ألفيته مر المذاق جسمي يذوب ومقلتي ... عبري وقلبي ذو احتراق

ما لي أليف بعدكم ... إلا اكتئابي واشتياقي فالله يحفظكم جمي ... عا في مقامي وانطلاقي وكانت دريرة جارية المعتضد مكينة عنده، لها موضع في قلبه، فتوفيت فجزع عليها جزعا شديدا، ومن شعر المعتضد فيها لما ماتت، أنشدنيه محمد ابن يحيى بن أبي عباد، وكان إبراهيم بن القاسم بن زرزر المغني يغني منه بيتين ويقول: الشعر واللحن للمعتضد طرحه علي: يا حبيبا لم يكن يع ... دله عندي حبيب أنت عن عيني بعيد ... ومن القلب قريب ليس لي بعدك في ش ... ىء من اللهو نصيب لك من قلبي على قلب ... ي وإن بنت رقيب وحيالي منك مذ غب ... ت خيال ما يغيب لو تراني كيف لي بع ... دك عول ونحيب وفؤادي حشوه من ح ... رق الحزن لهيب لتيقنت بأني ... فيك محزون كئيب ما أرى نفسي وإن سليت ... ها عنك تطيب لي دمع ليس يعصي ... ني وصبر ما يجيب ومن شعر المعتضد: ضاع الفراق فلا وجدته ... وأتى الحبيب فلا فقدته واهتاجني لما أتى ... شوق إليه فاعتنقته أنشدنيه يحيى بن عليّ قال: أنشدنيه المعتضد لنفسه وقال: اصدقني عنه، فحلفت له أنه من حسن الشعر ومليحه. واعتل المعتضد في سنة تسع وثمانين، ولم يزل عليلا منذ وقت خروجه إلى الخادم وتزايدت علته. حدثني جابر وسعد بن غالب المتطببان أن علته كانت فساد مزاج وجفافاً من

كثرة الجماع، وكان دواؤه أن يقل الغذاء ويرطب بدنه قليلا قليلا ولا يتعب، فكان يستعمل ضد هذا ويريهم أنه يحتمي، فإذا خرجوا دعا بالجبن والزيتون والسموك والصحاني، فلم يزل كذلك إلى أن سقطت قوته، واشتدت علته في يوم الجمعة لإحدى عشر ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين، فوافى دار العامة مؤنس الخادم ومؤنس الخازن ووصيف موشجير، وديوداذ بن محمد بن أبي الساج وأخوه والفضل بن راشد في السلاح في جميع أصحابهم، وأحضر خفيف السمرقندي وأصحابه، وكذلك رشيق القاري وجعفر بن بغلاقر، وحضر القاسم بن عبيد الله والنوشجاني ويانس وثابت الرصاصي وبشر وغلمان الحجر، فسألوا القاسم أخذ البيعة لأبي محمد عليّ بن المعتضد فقال القاسم: لست أجسر أطلب مالا لهذا، وأخاف أن أنفق بلا إذن فيفيق أمير المؤمنين ويبل فأطالب بالمال، فقالوا له بأجمعهم: نحن نضمن المال لك وهو علينا، فقال: رأيكم فإن أمير المؤمنين المعتضد أمرني أن أسلم المملكة إلى ابنه أبي محمد والخلافة، فبايع الجميع يوم الجمعة بعد العصر وسمي المكتفي، وأفاق المعتضد يوم السبت فلم يخبر بشيء، ثم توفي ليلة الإثنين لخمس ساعات مضت من الليل، فبعث غداة الاثنين لثمان ليال بقين من شهر ربيع الآخر إلى محمد بن يزيد المهندس، فأعلمه صاف أن المعتضد أوصى أن يدفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر وينقل إليها أمهات أولاده وولده ليكونوا بالقرب من قبره، فمضى محمد بن يزيد وحفر قبرا عشر أذرع في خمس، وكفن في ثلاثة أثواب أدرج فيها وحضر القضاة والفقهاء، وغسله أحمد ابن شيبة عند زوال الشمس، وصلى عليه يوسف القاضي، وأدخل حفرته بعد ثلاث ساعات من ليلة الثلاثاء، وكتب القائم إلى المكتفي بالخبر، وقد كان كاتبه قبل ذلك بحقيقة حال المعتضد، وهو أخذ البيعة، فكانت مدة خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام، ومات وهو ابن خمس وأربعين سنة. - 15 - (1) في سنة ثلاث وثمانين غضب المعتمد على أحمد بن الطيب ووجه بشفيع

_ (1) بغية الطلب 1: 180 - 181.

اللؤلؤي ونحرير الصغير خادم بدر فقبضوا على جميع ما في داره وقرروا جواريه على ماله حتى أخذوه، فاجتمع من ذلك ومن ثمن آلاته مما حمل إلى بيت المال مائة وخمسون ألف درهم قال فحدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال: كان سبب غضب المعتمد على أحمد بن الطيب أن أحمد كان قديما يمدح عنده الفلاسفة ويستعقلهم ويحكي مذاهبهم، فيقول المعتضد: أنت على دينهم وكيف لا يكون ذلك وأستاذك الكندي، وكان قد تخمر في نفس المعتضد أنه فاسد الدين، وكان ابن الطيب معجبا يدعى ما لا يحسن، وكان مع قصر عقله في لسانه طول، فكان كثيرا ما يقول للمعتضد: الأمور تخفى عليك وتستر دونك، فقال له يوما: ما الدواء؟ قال: توليني الخبر على أبي النجم وعبيد الله، قال: قد وليتك، قال: فاكتب بذلك رقعة، فكتب رقعة بخطه بتوليته، فجاء بها إلى عبيد الله يعلمه ذلك ويتقرب إليه أنه لم يستر ذلك عنه، فأخذها عبيد الله ووثب وطلبها ابن الطيب فوجه إليه: أنا أخرج بها إليك ووكل به في داره، وركب إلى بدر فأقرأه إياه، فركبا إلى المعتضد بالله حتى عرفاه الخبر ورمى عبيد الله بنفسه بين يديه وقال له: أنت يا سيدي نعشتني وابتدأتني بما لم أؤمله وكل نعمة لي فمنك وبك، فسكن منه وقال: إنه يسعى عليكما عندي فاقتلاه وخذا ما يملكه، فأدخل المطامير وكان آخر العهد به. قال محمد بن يحيى الصولي: وقد قيل إن سبب ذلك أن عبيد الله لما أراد الخروج إلى الجبل مع بدر قال المعتضد لبدر: الصواب أن يحضر أحمد بن محمد جرادة ليعاون القاسم على خدمتنا، فسمع ابن الطيب ذلك فأداه إلى عبيد الله فرده عبيد الله على المعتضد وقال له نحو ما حكي في الخبر الأول، فعزم عليه ليخبرنه، من قال له ذلك فقال: ابن الطيب، فكان هذا سببه. وقال أبو بكر الصولي: حدثني محمد بن أحمد أبو الحسن الأنصاري قال: كان ابن الطيب يختلف معنا إلى الكندي، وكان الكندي يقول: هذا أحمق وسيتلف نفسه بحمقه فكان كما قال.

قال الصولي حدثنا الحسن بن إسماعيل قال: كان القاسم يغتاظ من ابن الطيب فيقول له أبوه: نحن نخنقه بوصفه. وكان المعتضد بالله ربما نفث بشكواه والتأذي منه بالكلمة فيقرظه عبيد الله ويحتج عنه، فذكر عبيد الله يوما بشيء قدام المعتضد فقال له المعتضد: كفاك أن عبيد الله ما ذكرت لي قط إلا احتج عنك ووصفك وأنت ما ذكرته عندي قط إلا غمزت منه على جانب، قبحك الله وقبح طبعك السوء، ثم انكشف أمره فأوقع به في سنة ثلاث وثمانين. - 16 - (1) كان العباس بن الحسن يحب أن يرى المكتفي أنه فوق القاسم بن عبيد الله تدبيرا فقال للمكتفي: إن ابن الأغلب في دنيا عظيمة ونعم خطيرة، وأريد أن أكاتبه وأرغبه في الطاعة وأخوفه المعصية، ففعل، فأنجح الكتاب، ووجه ابن الأغلب برسول له شيخ ومعه هدايا ومائتا خادم وخيل وبز كثير وطيب، ومن اللبود المغربية مائتان، وعشرة آلاف درهم، في كل درهم عشرة دراهم، وألف دينار في كل دينار عشرة دنانير، وكتب على الدراهم من وجهين، على كل وجه منها: يا سائرا نحو الخليفة قل له ... أن قد كفاك الله أمرك كله بزيادة الله بن عبد الله سي ... ف الله من دون الخليفة سله وفي الجانب الآخر: ما ينبري لك بالشقاق منافق ... إلا استباح حريمه وأذله من لا يرى لك طاعة فالله قد ... أعماه عن سبل الهدى وأضله ووجه إلى العباس بهدايا جليلة كثيرة وعرفه أنه لم يزل وآباؤه قبله في طاعة الخلفاء.. وقد رأيت الشيخ القادم بالهدايا من قبله، وكان عظيم اللحية، وكان معه مال

_ (1) بغية الطلب 8: 27.

عظيم، فاشترى مغنيات بنحو ثلاثين ألف دينار لابن الأغلب تساوي عشرة آلاف دينار ولعب الناس عليه فيهن وغبنوه، وكان قليل العلم بالغناء، ثم اعتل فمات، فأخذ العباس بن الحسن جميع ما كان معه، وورد الخبر بعقب ذلك بمجيء ابن الأغلب منهزما إلى مصر، فكتب العباس يتعرف مقدار ابن الأغلب وجيشه وما ورد به مصر معه، فوردت كتب أصحابه بأنه في غاية الترفه والتشاغل بلذته، وأنه لا رأي له ولا حزم عنده، فكتب إلى النوشري في إخراجه من مصر إلى الحضرة، فلما صار بديار مصر أشار على المكتفي أن لا يقدمه الحضرة إذ كان مؤونة لا معونة، وكتب إلى بسطام وهو يلي ديار مصر أن يقيمه عنده وأن يقيم له أنزالا بألف دينار في كل شهر، فأقام أشهرا ثم توفي. وابن الأغلب هذا من ولد الأغلب بن عمرو المازني، وكان عمرو من أهل البصرة، وولاه الرشيد المغرب بعد أن مات إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن، فما زال بالمغرب إلى أن توفي، وخلفه ابنه الأغلب بن عمرو ثم أولاده إلى أن صار الأمر إلى زيادة الله هذا.

فراغ

ملحقات

ملحقات

فراغ

مقدمة

مقدمة بعد طبع هذين الجزئين ظهر جزء من بغية الطلب في منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية (المجلد 33/1) التي يشرف عليها الأستاذ فؤاد سيزكين، وقد طالعت هذا الجزء فوجدت فيه نصوصاً جديدة يمكن أن تضاف إلى هذه الشذرات. منها نص يلحق بتاريخ ابن الأزهر (رقم: 2) ونص يلحق بتاريخ همام بن الفضل المعري (رقم: 9) ؛ كذلك تبين أن التاريخ الذي جمعه عليّ بن مرشد بن منقذ (رقم: 12) يسمى البداية والنهاية، ومنه نص جديد يقع في حوادث سنة 445. وهناك نص جديد يضاف إلى كتاب الربيع لغرس النعمة (رقم: 24) غير أن أكثر النصوص التي احتواها ذلك الجزء المذكور إنما نقلت من سير الثغور لأبي عمرو الطرسوسي (رقم: 5) ، وهي تحفز إلى إعادة النظر في ترتيب النصوص حسب ما وردت في الكتاب، تقديراً. وفيها نصوص تتحدث عن غير طرسوس؛ ويجمع المنقولات عن (سير الثغور) وإعادة ترتيبها، نكون قد حصلنا على كثير من محتويات كتاب ذي قيمة تاريخية بالغة.

فراغ

تاريخ ابن الأزهر

2 - (1) تاريخ ابن الأزهر

_ (1) بغية الطلب: 157.

فراغ

وقرأت في تاريخ محمد بن الأزهر الكاتب: يقال إن الرشيد لما وصل منبج قال له يعني لعبد الملك بن صالح، كيف مدينتك؟ قال: عذبة الماء، باردة الهواء، صلبة الموطىء، قليلة الأدواء. قال: كيف ليلها؟ قال: سحر كله. وقال له يوماً يا أبا عبد الرحمن: ما أحسن بلادكم! ! قال: وكيف لا تكون كذلك وهي تربة حمراء، وشملة صفراء، وشجرة خضراء، فيافي فيح، وجبال وضح. فالتفت الرشيد إلى الفضل بن الربيع فقال له: ضرب السوط أسهل من هذا الكلام.

فراغ

سير الثغور

5 - سير الثغور

فراغ

[مقدمة الكتاب]

1 - (1) [مقدمة الكتاب] قال عثمان بن عبد الله بن إبراهيم في مقدمة كتابه الموسوم بسير الثغور ونقلته من خطه مع ما نقلته من حوادث الأمور، بعد أن حمد الله على نعمه التي تظاهرت فما تحصى، وأياديه التي ترادفت فما تستقصى: نفذت سوابق أقضيته في عالم من بريته، أسكنهم حيناً من الدهر ثغراً بأطراف الشام، نوه به وبهم في معالم الإسلام، متعهم فيه مدة من المدد، وأعزه وأعزهم إلى غاية من الأمد، ظاهرين على أعدائهم، مظفرين في قلوب إخوانهم المسلمين، معظمين مبجلين ضاقت بهم أرض الروم، وكثرت فيهم منهم الكلوم، تراءى نيرانهم، وتكافح فرسانهم، إن دنوا منهم هلكوا، وأن أمعنوا الهرب عنهم عنهم أدركوا، لا تحرزهم أرضهم وإن اتسعت، ولا تحميهم معاقلهم وإن امتنعت، تعرى بنودهم، وتهزم حشودهم، وتفل جنودهم، ويستباح حريمهم، ويستأصل كريمهم، وتروح أفنيتهم، وتهدم أبنيتهم، وتشن الغارات فيهم زيادة على مائتي سنة، حتى نبغ من نقفور بن فاردس بن الفقاس من صمد نحوهم وعندهم، وأناخ بهم وقصدهم، وأجمع على استئصالهم واجتياحهم وبوارهم، فغزاهم عاماً بعد عام، ونازلهم في عقر ديارهم يدوخ أطرافهم ويسوق عواملهم ويتردد إلى زروعهم أوان استحصادهم فيجتثها ويأتي عليها، ويتوالى لأجل ذلك سنوات الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وضيق الأسعار وتأخر المير والأمداد وفناء الحماة من الرجال الكماة، وتلاشي الشجعان والفرسان، وانحلال الأحوال، واختلال الأبطال، وحلول الداء الذي لا دواء له والعلة التي لا يرجى برؤها، وهو نبو السلاطين حينئذ عن نصرتهم

_ (1) بغية الطلب: 226 - 229.

وتثاقلهم عن إجابة مستصرخهم، وتخلفهم حين دهمهم ما دهمهم، فالنائب بمصر وما ينسب إليها براً وبحراً من أقاصي الصعيد إلى حدود جوسيه راض بمدافعة الأيام، وسلامة الشهور والأعوام، من صولة ملك الغرب ومدبره. والراتب المشار إليه بأرض العراق وما يجري مجراها إلى حدود بحر الصين وباب الأبواب يتشاغل بأساورة ديلمان وجيلان وملك خراسان في كف غربه، كما قال المساور بن هند العبسي: وتشعبوا شعباً فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر فحاق لذلك بأهل الثغر جدده الله من قراع الروم، وقمهم الله، على وفور عددهم وقوة عددهم، ووفاق أجناس الكفرة إياهم ما ثقل حده، وعظم مرده، وامتنع مسده، بما وصفنا من خلف سلاطين الإسلام وأمرائه، وتفاوت كل منهم في شتات آرائه، وما خامر أفئدتهم من الوهل، وران على قلوبهم من الرعب والوجل، كما سبق لهم في علم الله العزيز وإرادته ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة. فقد حدثني أبو العباس محمد بن نصر بن مكرم أحد عدول بغداد في درب الريحان أن أحمد بن بويه رحمه الله جلس بمكان أرانيه بباب داره المعزية يعرض خيله متنزهاً بالنظر إليها فقيد بين يديه من دار الدواب إلى ذلك المكان في مدة أربعة عشر يوماً متصلة اثنا عشر ألف فرس، أغلاها ثمناً بمائة ألف درهم، وأدناها ثمناً بعشرة آلاف درهم لم يطرح قط على فرس منها سرج في سبيل الله ولا في غير سبيل الله. وحدثني أيضاً كهل من أهل أربة يعرف بابن الشعراني وقد سألته ببغداد عن منصرفه، فوصف إشرافاً على قضيم حمير برسم فناخسرو بن الحسن بن بويه رحمه الله عددها ستة آلاف حمار قد رتبها لخدمة الكراع ينقل عليها القصيل في حينه والقضيم والعلوفات في سائر الأوقات، وسألته عن عدد هذا الكراع الذي قد رتبت هذه الحمير لخدمته فذكر أن المشرف على قضيم جميع الكراع يستوفي كل ليلة قضيماً لثمانين ألف رأس، من ذلك ثلاثون ألف جمل، وعشرون ألف بغل، وعشرون ألف فرس، وستة آلاف حمار. فهذان رجلان من أمراء الإسلام وصفنا

[فضائل الثغور وطرسوس بخاصة]

ظاهر نعم الله عليهما، والجهاد معطل والثغر يباب لا أنيس به خاو من القرآن خال من الأذان مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات فمن قتيل أو جريح، وعقير من أهلها طريح، وهارب طامح، ومتحيز إلى وطن نازح، ومفتون في دينه، ومغلوب على ملك يمينه، قد استبيحت منازلهم بجميع ما كانت تحويه، إلا ما نقله السائر عنها على ظهره بحسب قوته إن كان ذا طاقة لشيء من حمله، أو على ذي أربعة إن كان واجداً له، أو أعوانه إن وجد عوناً، فلكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا يعرج على سواه، ولا يعود بعد إلى مثواه، بذلك سبق فيهم علم الله المكنون الغامض المصون (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) . 2 - (1) [فضائل الثغور وطرسوس بخاصة] وقرأت بخط أبي عمرو عثمان بن عبد الله بن إبراهيم الطرسوسي قاضي معرة النعمان، وكان فاضلاً مسنداً قال: حدثنا أبو عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي قال حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال حدثنا الحجاج عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه تميم الداري فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين قدمت؟ قال: من الشام فقال تميم: يا رسول الله، لم أر بالشام مدينة أحسن من أنطاكية ولا أطيب إلا أنها كثيرة الأمطار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما السبب في ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فيها جبل وفي ذلك الجبل غار وفي ذلك الغار عصا موسى صلى الله عليه وسلم وشيء من ألواحه، ومائدة سليمان، ومحبرة إدريس، ومنطقة شعيب، وبردا نوح، ولا تطلع سحابة شرقية ولا غربية ولا قبلية ولا جربية إلا حط من بركتها عليها وعلى ذلك الغار قبل أن تمطر في الدنيا، ولا تقوم

_ (1) بغية الطلب: 147 - 148.

الساعة ولا تذهب الليالي والأيام حتى يخرج رجل من أهل بيتي ومن عترتي يوافق اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي فيستخرج جميع ما في ذلك الغار، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. 3 - (1) وقرأت بخط أبي عمرو عثمان بن عبد الله بن إبراهيم الطرسوسي القاضي، حدثنا أبو الفضل صالح بن يوسف العجلي، قال حدثنا عبد الله بن عليّ بن الجارود، قال حدثنا ابن مسرور عن ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الرباط أربعة عسقلان والإسكندرية وهما العروسان وأنطاكية ثم قال: لا تزال طائفة من الملائكة بقاتلون حول أنطاكية وحول دمشق وحول الطالقان إلى أن يخرج يأجوج ومأجوج [وسقط ذكر الرابعة في رواية القاضي أبي عمرو وأظنها دمشق] . 4 - (2) قرأت بخط القاضي أبي عمرو عثمان بن عبد الله بن إبراهيم الطرسوسي حدثنا أبو الحسن علان بن عيسى بن مسكان القاساني سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة قال حدثنا أبي وعمي قالا حدثنا إسحاق بن راهويه قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليلة أسري بي إلى السماء رأيت قبة بيضاء لم أر أحسن منها وحولها قباب كثير. فقلت: ما هذه القباب يا جبريل، قال فقال: هذه ثغور أمتك فقلت: ما هذه القبة البيضاء فإني ما رأيت أحسن منها؟ قال: هي إنطاكية، وهي أم الثغور فضلها على الثغور كفضل الفردوس على

_ (1) بغية الطلب: 149. (2) بغية الطلب: 149 - 150.

سائر الجنان. الساكن فيها كالساكن في البيت المعمور، يحشر إليها أخيار أمتك، وهي سجن عالم من أمتك، وهي معقل ورباط، وعبادة يوم فيها كعبادة سنة، ومن مات بها من أمتك كتب الله له يوم القيامة أجر المرابطين. 5 - (1) قرأت بخط القاضي أبي عمرو عثمان بن عبد الله الكرجي ونقلته منه: حدثنا أبو عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي قال، حدثنا عمي أبو القاسم يحيى بن عبد الباقي قال حدثنا يحيى بن زكريا أبو زكريا قال حدثني محمد بن إبراهيم بن مالك الصوري قال حدثني فتح بن محمد بالغور قال حدثنا عبد الله بن عيسى العقدي قال حدثنا نصر بن يونس قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا السري بن بزيعة عن أبي بكر اليشكري عن الحسن البصري عن أنس بن مالك قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ودموعه تقطر على لحيته قال فقلنا: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، من إخواننا هؤلاء الذين ذكرتهم فرققت لذكرهم؟ قال: قوم من أمتي يكونون في مدينة تبنى من وراء سيحان وجيحان، فمن أدرك ذلك الزمان فليأخذ بنصيبه منها فإن شهيدهم يعدل شهداء بدر. والذي نفسي بيده ليبعثن الله يوم القيامة من تلك المدينة سبعين ومائة ألف شهيد يدخلون الجنة بغير حساب، وإن الله عز وجل ينظر إلى أهل تلك المدينة كل يوم سبعين مرة، كلما نظر إليهم ذر عليهم من بره وحنانه. الله عز وجل أرفق بتلك المدينة من الوالدة بولدها، يغفر الله لأهل تلك المدينة كل يوم عند طلوع الشمس وعند غروبها ولا يزالون على الحق والحق معهم حتى يكون آخر الزمان عصابة منهم يحاربون الدجال، يحشر الله من تلك المدينة اثني عشر ألف زمرة، في كل زمرة مائة ألف شهيد، والشهيد منهم يشفع في مائة ألف سوى أهل بيته وجيرانه، واسمها بالعربية طرسوس، وفي التوراة إبسوس، وفي الإنجيل أرسوس، وهي الصارخة إلى الله عز وجل في بيت المقدس حين أخربت ولها بابان

_ (1) بغية الطلب: 232 - 233.

مفتوحان حول العرش، من دخلها من أمتي غفر له ماسلف من ذنبه ولم يكتب عليه ذنب حادث. طوبى لمن حشر منها من أمتي طوبى له. 6 - (1) ونقلت من خطه حدثني أبو الحسن عليّ بن وهب الوراق الرملي بطرابلس قال حدثنا أبو يعقوب العدل العطار الموصلي بالموصل قال حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي قال حدثنا محمد بن إبراهيم الحراني عن قيس بن الربيع عن ابن أبي ليلى عن عبد الكريم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ستعمر مدينة بين سيحان وجيحان تسمى المنصورة، من دخلها من أمتي دخلها برحمة، ومن خرج عنها رغبة خرج بسخطة، يبنى مسجدها على روضة من رياض الجنة يدعى مسجد النور، الصلاة فيه بألفي صلاة، النائم فيها كالصائم القائم في غيرها، المنفق فيها على عياله الدرهم بسبعمائة. طوبى للمجاهدين فيها، وطوبى لمن حشر منها، الميت فيها شهيد، وشهيدها يعدل عشرة من شهداء البحر. 7 - (2) وقال أبو عمرو القاضي فيما نقلته من خطه: حدثنا أبو هاشم عبد الجبار بن عبد الصمد السلمي قا لحدثنا أبو يعقوب الأذرعي، قال حدثنا أبو العباس عبد الله ابن عبيد الله السليماني قال حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا إبراهيم بن صدقة الجهني قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا هشام بن مودود الهجري عن برد ابن سنان عن وهب بن منبه قال: لا تذهب الأيام حتى تبنى مدينة من وراء سيحان وجيحان، قريبة من العدو غير بعيدة، تخيف العدو من وجهين: من بر ومن بحر، ينظر الله عز وجل إليهم في كل يوم سبعين مرة كلما نظر إليهم ذر عليهم من بره وحنانه، الله عز وجل أرأف بأهل تلك المدينة من الوالدة الشفيقة بولدها، يغفر

_ (1) بغية الطلب: 233 - 234. (2) بغية الطلب: 234.

الله لهم في كل يوم مرتين عند طلوع الشمس وعند غروبها، يحشر الله منها يوم القيامة اثني عشر ألف زمرة، في كل زمرة مائة ألف شهيد، لا يزالون على الحق والحق معهم، آخر عصابة منهم تقاتل الدجال. قال ابن منبه: يا طوبى لأهل تلك المدينة هم أولياء الله وأحباؤه. 8 - (1) ومن خطه أيضاً: حدثنا عدي بن أحمد بن عبد الباقي أبو عمير قال حدثنا عمر يحيى بن عبد الباقي أبو القاسم قال حدثنا يوسف بن بحر قال حدثنا سعيد بن هشام الفيومي قال حدثنا هشام بن مودود قال: سمعت وهب بن منبه يقول: تبنى مدينة من وراء نهر من أنهار الجنة، ينظر الله في كل يوم إلى تلك المدينة سبعين مرة، يذر عليهم من بره وحنانه، وهو أرأف بهم من الوالدة بولدها. قال سعيد بن هشام، سمعت هشام بن مودود يقول: هي طرسوس. 9 - (2) ونقلت من خطه حدثنا أبو عمير عدي بن أحمد الأذني بطرسوس إملاء في داره يوم السبت غرة ذي القعدة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة حدثنا عمي أبو القاسم يحيى بن عبد الباقي حدثني أبو القاسم يوسف بن بحر الساحلي قال حدثنا جنادة ابن مروان بن الحكم الأزدي قال حدثني الهيثم بن حميد الكندي عن الحكم بن عمرو الرعيني عن كعب الأحبار قال: إن طرسوس خرجت إلى ربها عز وجل من وحشتها وبكت إليه من خرابها فأوحى الله عز وجل إليها: أيتها الصارخة إلي أنا أذنت لخرابك وأذنت لعمرانك وأنزل عليك من بركات سمائي لأطهرك من دنس الأرجاس الأنجاس ثم أعمرك بخير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون

_ (1) بغية الطلب: 234 - 235. (2) بغية الطلب: 235.

عن المنكر، وأضع فيك معهم توراة محدثة وخدوداً سجوداً يدفون إليك دفيف اللنسور إلى أوكارها، ويحنون إليك حنين الحمامة إلى فراخها. 10 - (1) وقرأت بخط أبي عمرو القاضي في كتابه حدثنا أبو هاشم السلمي قال حدثنا أبو يعقوب الأذرعي قال حدثنا أبو العباس عبد الله بن عبيد الله السليماني قال: سمعت يوسف بن عبد الله الهاشمي يقول، قال عبد الله بن المبارك، تكبيرة على حائط طرسوس تعدل فرساً في سبيل الله، ومن حمل على فرس في سبيل الله حمله الله على ناقة من نوق الجنة. 11 - (2) قرأت بخط أبي عمرو الطرسوسي حدثنا أبو بكر محمد بن سعيد بن الشفق قال حدثنا محمد بن أحمد أبو الطيب قال حدثنا جعفر بن محمد بن نوح قال حدثنا يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه قال قال ابن المبارك: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام واضعاً يده على سور طرسوس قال: اللهم احفظني فيها وفي أهلها. 12 - (3) ومن خطه حدثنا عبد الجبار بن عبد الصمد قال حدثنا أبو يعقوب الأذرعي قال حدثنا أبو العباس عبد الله بن عبيد الله السليماني قال سمعت أبا الطيب يقول: حدثني بعض إخواني قال، قال ابن المبارك: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو واضع يده على حائط طرسوس وهو يقول: اللهم اخلفني على من فيها.

_ (1) بغية الطلب: 236 - 237. (2) بغية الطلب: 238. (3) بغية الطلب: 238.

13 - (1) وقرأت بخطه أيضاً حدثني محمد بن أحمد أبو نصر بن الحمال قال سمعت أحمد بن مضر وهو أبي العباس ابن مضر محمد بن أحمد يقول: كنا نسمع شيوخ الثغر قديماً يقولون لم يسكن طرسوس فيما مضى من الدهور والأزمنة في الكفر والإسلام إلا أوطأ أهل زمانهم حتى أن قوماً من اليونانية سكنوها فكانوا أهل سداد وصلاح. 14 - (2) ونقلت من خطه حدثنا أبو بكر محمد بن سعيد بن الشفق البغدادي بطرسوس سنة خمس وأربعين وثلاثمائة قال حدثنا أبو الطيب محمد بن أحمد البغدادي بطرسوس سنة إحدى وتسعين ومائتين قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن نوح قال: سمعت محمد بن عيسى قال، جاء رجل إلى ابن المبارك فقال يا أبا عبد الرحمن أريد أن أسكن الثغر، قال: اسكن أنطاكية، قال: أريد أن أتقدم، قال: أذنة، قال: أريد أن أتقدم، قال: أتريد أن تكون في الطلائع فعليك بطرسوس. 15 - (3) قرأت بخط أبي عمرو الطرسوسي وذكره بإسناده إلى وريزة بن محمد بن وريزة الغساني قال حدثني الحارث بن همام قال سمعت أبي يقول: استوصف الحجاج ابن القرية البصرة والكوفة وواسط فوصفها، ثم استوصف منه الشام فقال: الشام عروس بين نسوة جلوس. قال أبو عمرو القاضي، قلت أنا: وابن القرية نعت

_ (1) بغية الطلب: 238. (2) بغية الطلب: 238 - 239. (3) حاشية بغية الطلب: 220.

[الكتابات والنقوش في طرسوس]

الشام وليس للمسلمين يومئذ طرسوس فأما منذ ملكهم الله إياها، وجعل خطبة خلفاء دينه على منابرها، ونصبها قبة للجهاد وملجأً وعلماً لأولئك الأخيار البررة فما اختلف اثنان سلكا عمائر الإسلام وجابا أفقها أن مدن الشام كالنسوة الجلوس وأن طرسوس تلمع بينها بمنزلة العروس. [الكتابات والنقوش في طرسوس] 16 - (1) قرأت بخط أبي عمرو عثمان بن عبد الله الطرسوسي قاضي معرة النعمان في كتاب سير الثغور من تأليفه في ذكر مدينة طرسوس، قال: وبباب قلمية يعني باب طرسوس حجر بحضرة دار مزاحم مدور لاصق بالحائط مكتوب عليه باليونانية سطور قرأها أحمد بن طغان السيذمي البيطار، فذكر أن المكتوب عليه: الحمد لله الوارث للخلق بعد فناء الدنيا كما غرقني. فإني ابن عم ذي لبقرنين، عشت أربعمائة سنة وكسراً، ودرت الشرق والغرب أطلب دواء للموت. من أراد أن يدخل الجنة فليصل في هذا الدير عند العمود ركعتين، ومن أراد صنعة العمد وآلتها فعليه بالقنطرة السابعة من جسر أذنة. 17 - (2) قرأت بخط أبي عمرو عثمان بن عبد الله الطرسوسي في كتاب سير الثغور قال: وفي البرج المنسوب إلى الهري، فذكر أشياء ثم قال: وعلى اسكفتي الباب العلياتين حجر قد طبق المصراعين فيه قبر ذقيانوس ملك أصحاب الكهف. ذكر لي جماعة ثقات بطرسوس أن بازمار الخادم في ولايته كشف عنه بمقدار ما يمكن الوصول إليه، فوجد ميتاً مسجى بأكفانه مصبراً معه سيف إلى جانبه، فأمر بالسيف

_ (1) بغية الطلب (سيزكين) : 66 - 67. (2) بغية الطلب: 70.

[أسوار طرسوس وأبراجها]

فأخذ فوزن فوجدوه أحد عشر أوقية بالطرسوسي التي وزن كل أوقية منها اثنان وثلاثون درهماً، ورد ما كان كشف منه إلى حاله. 18 - (1) وقرأت بخط أبي عمرو الطرسوسي قاضي المعرة قال: قبر أبي معاوية الأسود بطرسوس بباب الجهاد في الطريق الآخذ إلى الميدان يمنة السائر بإزاء قبة ابن الأغلب ما فارقه الزوار مدة عمارة طرسوس تبركاً به وتيمناً بالدعاء بحضرته. وقال أبو عمرو: سمعت عدة من شيوخ طرسوس يقولون: ما صدق أحد نيته في حاجة لله عز وجل فيها رضى فتوسل ودعا عند قبر أبي معاوية إلا أجابه الله عز وجل. [أسوار طرسوس وأبراجها] 19 - (2) وقرأت بخط أبي عمرو عثمان بن عبد الله الطرسوسي في كتاب " سير الثغور " وضعه للوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل فذكر فيه صفة طرسوس فقال: مدت طرسوس على سورين، في كل سور منهما خمسة أبواب حديد، فأبواب السور المحيط بها حديد ملبس، وأبواب السور المتصل بالخندق حديد مصمت. فالسور الأول الذي يلي المدينة مشرف تعلوه ثمانية آلاف شرافة فيها مرتبة عند الحاجة إلى الحرب عنها رجال يرمون عن ستة عشر ألف قوس رمية رجل واحد، وفي هذا السور من الأبراج مائة برج سواء: منها ثلاثة أبرجة للمجانيق الحرري وعشرون برجاً للمجانيق الكبار، وعشرون برجاً للعرادات، وسائرها لقسي الرجل. وهذه الأبرجة التي ذكرناها فهي ملك لأربابها ومساكن لمتأهلين وعزاب، وبعضها مرسوم بعمل الورق والكاغد وهو مما يلي زاوية الحبالين.

_ (1) بغية الطلب: 82. (2) بغية الطلب: 212 - 216.

قال: فأما برج باب قلمية المبني عن يمين الخارج منه فمرسوم بتفرقة أعشار غلات ضياع طرسوس متى ورد منها عشرة أحمال أو رواحل أو عجل حط واحد من عشرة وأطلق له تسعة يقبل قوله فيه، فإذا اجتمع أطلق منه لأهل الشرف أبناء المهاجرين والأنصار على رسم جريدة أمر بإنشائها المأمون عبد الله بن هارون الرشيد رحمهما الله، يتوارث ما ثبت في تلك الجريدة أهل الشرف المقيمون بطرسوس، ويجري بينهم مجرى الميراث بأخذه خلفهم عن سلفهم. وإن طرأ طرسوس غريب من أبناء االمهاجرين والأنصار دفع إليه مقدار كفايته وكفاية جملته إن كان ذا عيال أو ذا جملة شريفة، ونفض منه على الشيوخ المسجدية رسماً لا ينقطع عنهم في كل سنة عند قبض الأعشار من الغلات، لكل شيخ منهم ستة أمداد بالمدي الطغاني الذي يبلغ كل مدي منه أربعة عشر مكوكاً بالمكوك الطرسوسي، مبلغ المكوك منه زيادة على المكوكين بالبغدادي المعدل، ونفض منه على الأدلاء المؤلفة قلوبهم من الروم والأرمن وأولادهم بحسب ما يراه السلطان بطرسوس من حسن النظر لهم، ولمن يتحدد منهم، ويجعل ما يفضل عما وصفناه من الحنطة للخباز المقام لقوت الأعلاج المحبوسين في سجن طرسوس. وما ورد من الشعير برسم العشر أطلق للأدلاء المؤلفة قلوبهم رسماً على مقدار كراعهم قضيماً لها في كل سنة، وحمل سائره لقضيم بغال الساقة أولاً أولاً. فإن فضل من القمح شيء عما وصفناه وذكرناه من وجوهه بيع بسعر وقته وصرف في مهمات البلد، وسنذكرها في أماكنها إن شاء الله. قال: وما وقع في هذا البرج من غلات القطاني كلها مع ما ينضاف إليها من زيتون وكمون وبزر فجل وبزر كتان وسمسم وترمس وأرز بيع كل صنف منه بسعره وأضيف إلى راتب البلد. قال: وكان في هذا السور قديماً وقد رأيناه رأي عين أثر خمسة وعشرين باباً، منها خمسة أبواب مفتوحة مسلوكة معروفة وهي: باب الشام وباب الصفصاف وباب الجهاد وباب قلمية وباب البحر، وسائرها مسدود. وقال: سمعت أبا الربيع سليمان بن الربيع الجوزاتي، شيخاً كبيراً كان أقام

بحصن الجوازات زيادة على أربعين سنة مجاهداً يذكر أن جيشاً لجباً خرج عن طرسوس غازياً في زيادة على عشرين ألف فارس وراجل من باب المسدود فأصيبوا عن آخرهم في بلد الروم واستشهدوا رحمة الله عليهم ولم يعد منهم إلى طرسوس مخبر، فأجمع رأي أهل طرسوس على سده تشاؤماً به. قال: وقد رأيته مفتوحاً وهو ما بين زاوية الحبالين وباب الجهاد عند آخر شارع النجارين، تتصل به الدار الكبيرة التي بنيت للسيدة أم المقتدر بالله رحمهما الله، وليس بطرسوس ولا بالثغر كله دار أكبر منها. وبرسم هذه الدار صناع معروفون من أهل سوق السلاح لتدبير جوانبها، ورم شعث سلاحها وجلاء دروعها وسيوفها، في كل سنة مرة أو مرتين، وكان يركب من هذه الدار إلى الجهاد في سبيل الله مائة وخمسون غلاماً بجنائبهم ومن ضامهم، ويرؤسهم رجل منهم على رأسه مطارد تعرف بهم متى احتيج إليهم في الغزو لساقة أو ميمنة أو ميسرة أو في تجريد لحادثة سدوا أكبر مسد، وقوفهم بأرض الثغر وأعمال أنطاكية وحلب معروفة مشهورة، وارتفاعها في السنة الواحدة مائة ألف دينار يستغرقها الاتفاق، وربما اقترضوا إن تعذر وجه مالهم وردوه عند حصوله. قال: وأما شارع باب الصفصاف ففيه دار قبيحة أم المعتز بالله رحمهما الله، قد بنيت حجراً مقدرة لسكنى مائة وخمسين غلاماً، في كل حجرة منها بيتان ومرتفق، وبرسم هذا الوقف رئيس يركب هؤلاء الغلمان بركوبه ويسيرون بسيره، ينشر على رأسه مطرد وأعلام كتابتها المعتز بالله، وكذلك شعارهم إذا سافروا أو غزوا في بلاد الروم وغيره. قال: وللدار خزانة للسلاح تظهر في أيام الأعياد وعند ورود الرسل من الروم فيها الدروع الحصينة تستر الفارس والفرس، والعمد المذهبة والجواشن البنية والخوذ المنيعة، ومن الأسلحة كل نوع، يحمل كل غلام ما يعاني العمل به. وبرسم هذه الدار مؤدب لا يدخل مكتبه أحداً إلا أولاد موالي المعتز بالله، والرئيس على موالي المعتز من الموالي من وجدوه مذكوراً فارساً رئيساً مقدماً، فإن تعذر من هذه صورته من الموالي نصب لهم رئيس من قواد طرسوس ووجوهها يدبر أمرهم

[سكك طرسوس ودورها]

وتكتب العقود والضمانات باسمه؛ وقد رأيت أبا حفص عمر بن سليمان الشرابي رحمه الله رئيساً عليهم ثم رأيت بعده جماعة منهم ومن غيرهم. [سكك طرسوس ودورها] 20 - (1) ومما نقلته من خط أبي عمرو عثمان بن عبد الله الطرسوسي، حدثني أبو نصر محمد بن أحمد بن الحمال قال حدثني ابن عطية قال: أحصينا سنة تسعين ومائتين سكك طرسوس فوجدناها ألفي سكة نافذة ومسدودة، وأحصينا الدور فوجدناها أربعة وثلاثين ألف دار، اقتضى التقدير أن يكون ثلثاها للعزاب أهل البلدان حتى لا يعرف من عمائر الإسلام بلد إلا ولهم بطرسوس دار أو داران حتى أهل قم، وثلثها للمتأهلين بها ملكاً لأربابها أو وقفاً عليهم. [ودار السبيل المعروفة بزهير بن الحارث] بيوت سفالي واصطبلات ومخازن وعلالي؛ فأما الحوانيت فهي وقف على سبعة أفراس تكون في مربط هذه الدار بسروجها وآلاتها وجلالاتها، ويقام بقضيمها ونعالها ومساميرها وأجرة بياطرتها وأجرة ساستها. وقد رسمت هذه الأفراس السبعة كل فرس منها بقائد من قواد طرسوس متى نودي بنفير أو غزو قاد السائس فرساً برسم قائد من القواد إليه، تعينه بعد القيام بكفايته حتى إذا عاد القائد من نفيره أو غزوه رد الفرس إلى مربطه. [وذكر دوراً كثيرة لا تحتمل الحال ذكرها وتطويل كتبنا بإيراد ما ذكره] [عمارة طرسوس] 21 - (2) قرأت بخط أبي عمرو عثمان بن عبد الله الطرسوسي، سمعت أبا زرعة نعيم ابن أحمد المكي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة يقول سمعت عبد الله بن كلرت يقول،

_ (1) بغية الطلب: 216 - 217. (2) بغية الطلب: 219 - 220.

[نظام النفير في طرسوس]

سمعت أشياخنا رحمهم الله يذكرون أن خيل خراسان وردت لعمارة طرسوس في أيام المهدي مع رسله وعساكره وأنهم حطوا بمكان وصفه لنا بباب الجهاد غربي حائط المصلى أربعة آلاف راحلة دقيقاً مكتوب عليها: بلخ. خوارزم. هراة. سمرقند. فرغانة. أسبيجاب؛ حمل ذلك كله على البخاتي من خراسان مع أبي سليم وبشار وأبي معروف الخدم أبناء الملوك. [نظام النفير في طرسوس] 22 - (1) قرأت بخط أبي عمرو القاضي في كتابه قال: يركب المتولي لعمل الحسبة أي وقت وقع النفير من ليل أو نهار ورجالته بين يديه ينادون بأعلى أصواتهم أجمع صوتاً واحداً يقولون: النفير يا أصحاب الخيل والرجالة، النفير حملكم الله إلى باب الجهاد، وإن أراد إلى باب قلمية أو إلى باب الصاف أو إلى أي باب اتفق، وتغلق سائر أبواب المدينة وتحصل مفاتيحها عند صاحب الشرطة فلا تزال مغلقة حتى يعود السلطان من النفير ويستقر في داره ثم تفتح الأبواب المغلقة كلها ويطوف المحتسب ورجالته الشوارع الجواد كلها، فإن كان ذلك نهاراً انضاف إلى رجالته عدد كثير من الصبيان وساعدوهم على النداء بالنفير، وربما احتاجوا إلى حشد الناس لشدة الأمر وصعوبة الحال، فأمر أهل الأسوق بالنفير وحضهم على المسير في أثر الأمير أين أخذ وكيف سار، ويكون مركز صاحب الشرطة إذا وقع النفير مع رجالته الموسومين به عند الباب الأول الذي يلي المدينة الذي يخرج منه الناس إلى النفير، وكذلك المحتسب، إلا أن المحتسب يتردد في الأسواق إذا طال أمر النفير وتأخر خبره، ويبعث على اللحوق بمن سار مع الأمير وبمن توجه إلى النفير فلا يزال الأمر على هذا حتى يعود السلطان إلى دار الإمارة ويخرج إلى النفير قواد الرجالة معروفون متى عقد السلطان لقائد من الفرسان فبعثه للقاء من ورد عليه من ذلك الوجه أضاف إليه قائداً من قواد الرجالة، واتبعه من أجلاد الرجالة أهل القوة

_ (1) بغية الطلب: 220 - 223.

[الاستصراخ لإنقاذ طرسوس]

والنشاط والنية من المطوعة المسجدية حتى إذا نزلوا أول منزل تبتل شيخ بل شيوخ من الصلحاء معروفون بحفظ من هناك من الغلمان المرموقين بالصباحة والوضاءة، فتنضاف طبقة طبقة إلى ذي معرفتهم وثقتهم وحصلوا تحت علمه ورايته، فلو هم أحدهم بالوضوء لصلاة لما أفرج عنه إلا برقيب ثقة أمين شيخ معروف يمضي معه لحاجته، حتى إذا فرغ منها عاد إلى جملته. وقد رأينا في آخر أيام طرسوس رجلاً يعرف برؤبة يجتمع إليه الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم يزيد عددهم على ألف صبي، كلهم بالسلاح الذي يمكن مثله حمل مثله وبمزاودهم، وقد عدوا فيها من صنوف أطعمة أمثالهم، يطوف جميعهم بمطرد يحمله رؤبة، يسيرون بسيره ويقفون بوقوفه، فلا يزال ذلك دأبهم حتى إذا عاد السلطان إلى مقر داره عند رجوعه من نفيره دخل أولئك الصبيان أمامه على مراتبهم، يصفهم قائدهم الأمثل فالأمثل، رماتهم عن قسي الرجل التي قد عملت على مقاديرهم ثم رماتهم عن القسي الفارسية، وربما كان فيه من أولاد اليمانية من يحمل القسي العربية بنبلها، فيدخلون فوجاً فوجاً صبيين صبيين، ثم من يحسن الثقاف فيثاقف قرينه ومثله وخدينه وشكله حتى يدخل كل صنف منهم في مرتبته، ثم يتلوهم رؤبة قائدهم بمطرده وعلامته، حتى إذا خرج [أحد] أولئك الصبيان من حد الطفولة واشتد عضده وقارب حد البلوغ أو بلغ أو تجاوز البلوغ قليلاً انضاف إلى قائد من قواد الرجالة الذين ذكرت، وصحبه في نفيره وغزوه وارتاد لنفسه الرفاق بحسب ما يختار تربه وجاره وقرينه، فإذا ألتحى وخرج عن حد المرد دخل في جمهور الناس حاذقاً بما يحتاج إليه ماهراً بصيراً بأمر جهاده وتدبيره أمره نافذاً يقظاً إن شاء الله. [الاستصراخ لإنقاذ طرسوس] 23 - (1) وقرأت بخط أبي عمرو في كتابه: وجرى من اعتياد الروم طرسوس ما

_ (1) بغية الطلب: 229 - 231.

اقتضت الصورة إخراج وفد إلى مصر والعراق يستصرخون ويطلبون المدد، ورسم أبو الحسن ابن الفياض بوفادة مصر، ووفد أبو بكر ابن الأصبهاني الإسكاف وأبو عليّ ابن الأصبهاني خليفة القاضي العباس بن أحمد الخواتيمي على طرسوس إلى بغداد، فندب للخطبة أبو صالح عبد الغفار بن الحراني الوراق عوضاً منه فقام مقامه، وأقام أبو صالح عند خروج الناس بطرسوس لعلة منعته من الحركة بها توفي، وما زال أبو صالح يخطب مدة أيام منازلة نقفور إيانا، فلما انتهينا إلى الأيام التي وادعناه فيها للخروج عن طرسوس اعتل أبو صالح علة حالت بينه وبين الصلاة، واحتاج الناس في آخر جمعة جمعوها بطرسوس إلى خطيب، فسئل أبو الحسن ابن الفياض الصلاة، وقد كان عاد من مصر معذراً لم ينل في الوفادة ما تمنى من أرسله لها، فأبى وقال: ما أحب أن أكون آخر خطيب بطرسوس، وحضرت الصلاة فصلى بالناس يومئذ أبو ذر، رجل من أبناء طرسوس شيخ من أهل العلم كان سافر وغاب عن طرسوس عدة سنين، وعاد إلينا في تلك الأيام، فهو آخر من خطب على منبر طرسوس يوم الجمعة العاشر من شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، لأن خروج الناس كان عنها في يوم الأربعاء النصف من هذا الشهر في هذه السنة، وأقام المؤذنون في ذلك اليوم وأخذوا في الأذان فسهوا، فأقاموا، فرد عليهم فأذنوا، وقام أبو ذر فخطب، فلما أتى الدعاء للسلطان خطب للمعتضد ورد عليه فتمم خطبنه ونزل، فأقيمت الصلاة وكبر، وقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة الشمس وضحاها، وفي الركعة الثانية بسورة الحمد وسورة إذا زلزلت الأرض زلزالها، فلما سلم قام أبو عبد الله الحسين بن محمد الخواص قائماً في قبلة المسجد، واستقبل الناس بوجهه وقال، يا معشر أهل طرسوس، أقول فاسمعوا: هذا المقام الذي كان يتلى فيه كتاب الله العظيم. هذا المقام الذي كانت تعقد فيه المغازي إلى الروم. هذا المقام الذي كان يصدر عنه أمر الثغور. هذا المقام الذي كانت تصلى فيه الجمع والأعياد. هذا المقام الذي يأوي إليه الملهوف بالدعوات. هذا المقام الذي يزدحم عليه أهل الستر والسداد.

[حصن المصيصة]

هذا المقام الذي كان يفد إلى الله فيه الوافدون. هذا المقام الذي كان يعتكف فيه العابدون الزاهدون. (وما يجري مجرى هذا الكلام) . 24 - (1) [حصن المصيصة] قرأت بخط أبي عمرو عثمان بن عبد الله الطرسوسي حدثنا محمد بن سعيد ابن الشفق قال حدثنا محمد بن أحمد أبو الطيب قال حدثنا جعفر بن محمد بن نوح قال سمعت محمد بن عيسى يقول قيل لعلي بن بكار وذكر له جزع الروم فقال: البطيخ كثير والحلو منه قليل. كنا في هذا الحصن يعني حصن المصيصة أربعمائة فتى إذا قلبنا حوافر خيولنا لننعلها للغزو اضطربت ركب بطارقة القسطنطينية. 25 - (2) [اقليقية] قرأت بخط أبي عمرو الطرسوسي سمعت أبا الحسن عليّ بن جعفر بن عقبة الأعرابي صاحب الجيش بطرسوس سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة قال: سمعت أبي جعفر بن عقبة رحمه الله يقول: كان شيوخنا يقولون: إن أول مدينة عرفت في إقليم الثغر أزلية قبل الإسلام مدينة إقليقية، وإليها ينسب علماء الروم الثغر فتقول: بند إقليقية. قال لنا أبو الحسن ابن الأعرابي: وقد بقي أثر هذه المدينة دمنة فيها آثار أبنية قديمة، وهي عن يمين السالك من المصيصة إلى أذنة بينها وبين أذنة نحو ميلين.

_ (1) بغية الطلب: 199 - 200. (2) بغية الطلب: 239 - 240.

حصن ثابت بن نصر

26 - (1) حصن ثابت بن نصر قرأت بخط أبي عمرو القاضي حدثني محمد بن أحمد الزمام قال سمعت عبد الله بن كلرت يقول: ما زال أولونا يقولون: لم يعرف الجهاد في ما مضى في شيء من أرض الثغور يعني طرسوس وأذنة وعين زربة، إنما كان حصن ثابت بن نصر بمدينة المصيصة في آخر أيام بني أمية وأول أيام بني العباس يخرج منه أربعمائة فارس صلحاء إذا قلبوا حوافر خيولهم لتنعل للغزو قلبوا بذلك قلوب بطارقة القسطنطينية خوفاً منهم وجزعاً. قال: وقد غزا محمد بن عبد الله أمير المؤمنين المهدي رحمه الله فلم تك هناك طرسوس ولا أذنة ولا عين زربة وإنما كان هذا الحصن لا غير. وقرأت بخطه أيضاً حدثني أبو الحسن العدل عليّ بن الحسين الحذاء وأبو بكر غانم بن يحيى بن عبد الباقي قالا حدثنا أبو القاسم يحيى بن عبد الباقي قال: كان حصن ثابت بن نصر مشحناً بالأبدال يجاهدون الروم، منهم يوسف بن أسباط صاحب سفيان الثوري، كان أدمن الصوم به فتوسوس. وقرأت بخطه حدثني عليّ بن إسحاق صاحب العرض قال سمعت أبا العباس ابن عبدوس يقول: كان ابتداء أمر الثغر وحصول المسلمين به أن نفراً صالحين سكنوا حصن ثابت بن نصر بالمصيصة كثرت غزواتهم وتنمر الروم منهم لشدة بأسهم وعظم نكايتهم فيهم، منهم يوسف بن أسباط وعلي بن بكار وبعدهم إبراهيم بن أدهم وعبد الله بن المبارك وأبو معاوية الأسود وطبقاتهم وقتاً بعد وقت من لا يحصى عدداً إلى أن شحنت طرسوس، كلهم أهل فضل وجهاد.

_ (1) بغية الطلب: 240 - 241.

[حصن عجيف]

27 - (1) [حصن عجيف] قرأت بخط أبي عمرو الطرسوسي في ذكر حصون طرسوس ذكر حصون عجيف وأبرجته: رسم هذا الحصن أمير وأربعة فرسان وثلاثة حراس وثلاثة رجالة وخطيب. رزق الأمير عشرة دنانير، ورسم كل فارس ديناران، والرجالة والحرس دينار دينار، والخطيب ديناران. برج الوصيفي: ثمانية رجال للرئيس دينار وسدس وللرجالة دينار دينار. برج المنشا: ستة نفر رئيس بدينار وسدس ولكل راجل دينار. برج المقطع: خمسة عشر رجلاً، الرئيس دينار وسدس ولكل راجل دينار. برج الجزيري: سبعة نفر: الرئيس بدينار وسدس ولكل راجل دينار. 28 - (2) [حصن الجوزات] وقفت على فصل في ذكره بخط أبي عمرو الطرسوسي في سير الثغور فنقلته على حاله، وصورته: رسم هذا الحصن أمير وخليفة ينوب عنه، وخطيب وقيم للدار وصاحب الحمام وكاتب ومطرديان وبوقي وبواب. وفي جبل هذا الحصن شجر جوز مثمر مسافته ثلاثة أميال في عرض ميل، فإذا حان إدراكه خرج والي الجوازات وجميع رجالته إلا من يضبط الحصن من الثقات، فينفضون الجوز أياماً، وضم كل واحد ما نفضه، وعد بالإحصاء ما حصل، فدفع إلى الوالي من كل عشرة آلاف جوزة ألف جوزة، وأمسك لنفسه تسعة آلاف، فيجتمع للوالي أعني والي الجوزات من ذلك خمسمائة ألف جوزة وأكثر، ومما ينمحق من ذلك بالمسامحة فيه عند ضمه مع ما تعذر نفضه لبعد فروع أشجاره وتعذر وصول الناس إليه أكثر مما وصفت، فتمتلىء بيوت الجوزانيين كلهم

_ (1) بغية الطلب: 241 - 242. (2) بغية الطلب: 242 - 245.

من الجوز يرتفقون به مدة أيام الشتاء ويتهادونه إلى طرسوس، إلى ذوي موداتهم وقراباتهم. وفي فضاء من عمل الجوزات منبت للأشنان الزبطري، فإذا تناهى إدراكه ضموه وارتفقوا به من هدية وبيع واستعمال. وفي هذا الجبل أشجار مخصوصة بأوكار البزاة يعتادها قوم من الجوزانيين، فإذا فرخ في وكره تعهده الطالب له بالتفقد وتردد إليه حتى إذا صلح تلطف بحيلة في نقل الفراخ ودبر تربيتها وتكلف حملها إلى طرسوس وربما بيع الواحد بمائة وخمسين درهماً فيستحيل إلى الفراهة إذا علم وضري، فبلغ خمسمائة درهم وأكثر. وفي جبلها أيضاً عقار يعرف بالغاريقون، يحمل منه إلى أكثر الأقاليم. حدثني أبو محمد عبد الله بن أبي مروان المعداني وهو الأفطس، وهو ممن رابط وجاهد في حصن الجوزات ثلاثين سنة، أنهم أخرجوا في فاثور، فوجد أحدهم شيئاً من الغاريقون فرفعه في مئزر معه، ثم وجدوا ماء ينبع من عين فغرسوا عليها وأخرجوا زادهم ورفعوا الغاريقون من المئزر في مزود مع أحدهم، وبلوا كعكاً معهم بذلك الماء البارد ولفوه في المئزر، وسار ثلاثة أو أربعة منهم يتحسسون مكانهم لئلا يعلم بمكانهم، فتناول صاحبهم شيئاً من الكعك المبلول فنال منه، وأبطأ أولئك، فعمل الغاريقون الملتصق بالمئزر في طبع الرجل، وتردد واختلف، فوافاه أصحابه وقد تردد نحو مائتي طريق، وحيل بينه وبين القوة والحركة. فرأوا أن قطعوا دهقين وجعلوا صاحبهم في عباء وحملوه بينهم إلى الجوزات فعولج وعوفي، فباع ما كان معه من الغاريقون بجملة جاملة. وما وطىء هذا الحصن منذ ملكه المسلمون وشيدوه أمرأة، ولا أطلق لأحد أن يدخل بغلام أمرد إلى أن أخرج عنها المسلمون، وإنما يختار لها أهل القوة والبأس ومن يعاني أعمال السلاح المختلفة كالثقاف بالسيف والرمح والرمي عن القسي الفارسية وقسي الرجل من أبناء أربعين وما زاد وما نقص، فإذا حضر الغزو فقد رسم الجوزانيون يوماً في ساقة عسكر المسلمين ويوماً في مقدمته بأحسن الزي وأجمل الأحوال وأكمل العدة شامة في الناس.

فراغ

تاريخ همام بن الفضل

9 - تاريخ همام بن الفضل

فراغ

40 - (1) وقرأت في تاريخ أبي غالب همام بن الفضل المعري أن نقفور لما صالح أهل طرسوس وخرجوا منها وتسلمها صعد على منبرها وقال: يا معشر الروم، أين أنا؟ قالوا: على منبر طرسوس، فقال: لا، بل أنا على منبر بيت المقدس، وهذه البلدة التي كانت تمنعكم من بيت المقدس.

_ (1) بغية الطلب: 231.

فراغ

البداية والنهاية

12 - (1) البداية والنهاية لأبي الحسن عليّ بن مرشد بن منقذ

_ (1) بغية الطلب: 87 - 88.

فراغ

455 - فيها كلبت الذئاب والكلاب وأتلفت أكثر الناس، قال أبي، قال لي جدك رحمه الله، كان أبي أبو المتوج قد دخل إلى حلب وتركني عند جدي الصوفي أتفرج بسرمين، وكنت لا أعرف لي والداً سواه لغيبة أبي عند الأمراء والملوك، فقال: يا عليّ احذر أن تخرج وحدك، فإن الكلاب الكلبة كثير، فاتفق أنني خرجت مع أصحابي وغلماني، فقيض لي كلب فرعشني، فدخلت غير طيب النفس، وذلك بعد العصر والزمان الصفري في النشارين. فمضى من خبر جدي الحسن الصوفي العجلي فركب فرسه وأخذ دلواً للسموط، وأخذني ومضى يخب ويناقل وأنا معه إلى أن أتى بي جب الكلب شمالي حلب فسقاني منه وغسل يدي ورجلي ووجهي وقال: اقلع ثيابك فقلت: الله الله إن خلعت ثيابي في هذا البرد مت، فقال وليت مت واستر (....) ياصانع. فاستقى أربعين دلواً وصبها عليّ وقال: تطلع في الجب! وكانت آية الجب إن نفع المرعوش أبصر النجوم في الجب، وإن لم ينفعه سمع نبيح الكلاب، فقال: ما ترى؟ فقلت: أرى النجوم في الماء، فقال: الحمد لله وركب وأخذني، فبات في سرمين، ولكن بعد تهور الليل قال يقول جدك: فوالله بعد تمام الأسبوع بلت ثلاث كلاب مصورة بأذنابها ورؤوسها. قال: ولم يزل هذا الجب يتداوى به الناس إلى أن ملك حلب رضوان الملك بن تاج الدولة فعول على توسيع فمه، وكان ضيقاً عليه أربعة أعمدة تمنع أن ينزل فيه، فقال: نعمله يكون الإنسان ينزل إليه ولا يقلب عليه، فقيل له: إن هذه الطلسمات لا يجب أن تتغير عن كيفياتها فلم يقبل ففتحه فزال عنه ما كان يزيل الأذى، وكان يقال إن ذلك

كان في سنة ست وتسعين وأربعمائة، وهو كان من العجائب الثلاث: جب الكلب ونهر الذهب وقلعة حلب، فأما النهر فهو ماء يجري إلى أن ينتهي إلى مواضع في الجبول وغيرها من القرى، فيسكبونها ويجرون إليها السواقي فإذا دخل تلك المساكب جمد بإذن الله وصار ملحاً أبيض في بياض الثلج فيباع منه بالأموال الخطيرة، ولذلك سمي نهر الذهب.

كتاب الربيع

24 - كتاب الربيع لغرس النعمة أبي الحسن محمد بن هلال

فراغ

- 22 - (1) حدثني أبو عبد الله ابن الإسكافي كاتب البساسيري في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة قال: احترق بحلب عام أول برج من أبراج سورها، وحكى ذلك للمستنصر صاحب مصر خادم كان له بحلب فقال: إن كنت صادقاً ففي هذه السنة يخطب لنا بالعراق وذاك عندنا في كتبنا دليل على ما قلناه. قال أبو عبد الله: واتفق أن جئنا وأقمنا الخطبة في ذي القعدة من سنة خمسين.

_ (1) بغية الطلب: 89.

§1/1