شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة

محمد علي الهاشمي

شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة بقلم الدكتور محمد علي الهاشمي دار البشائر الإسلامية

تعريف بالأديب والمفكر الإسلامي الدكتور محمد علي الهاشمي

تعريف بالأديب والمفكر الإسلامي الدكتور محمد علي الهاشمي بقلم: الدكتور محمد حكمت وليد ولد الأستاذ الدكتور محمد علي الهاشمي في مدينة حلب بسورية عام 1925 لأسرة متوسطة الحال عريقة، لها نسب مكتوب متصل بآل البيت، ورضع منذ نعومة أظفاره حبّ الإسلام والدعوة الإسلامية. أنهى دراسته الثانوية في حلب، وتقدم إلى مسابقة لاختيار معلمين سنة 1952 كان الأول فيها، وعيّن معلماً في مدينة حلب حتى عام 1954، ثم تقدم إلى مسابقة أخرى لاختيار عدد من حملة الشهادة الثانوية من جميع أنحاء سورية، وابتعاثهم لدراسة اللغة العربية والتربية، فكان الناجح الوحيد بين المتقدمين لهذه المسابقة في مدينة حلب. انتقل بعد ذلك إلى دمشق حيث أمضى دراسته الجامعية من عام 1954 حتى عام 1959 وحصل على الإجازة في الآداب وعلوم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة دمشق، وعلى الإجازة في التربية من كلية التربية بجامعة دمشق عام 1960. عُين بعد تخرجه مدرساً في ثانويات حلب من عام 1960، ولبث في التدريس فيها حتى عام 1974 وحصل على شهادة الماجستير من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1965 ثم على شهادة الدكتوراه عام 1970 من الجامعة نفسها. وقد نال الدكتور الهاشمي شهادة الدكتوراه لتحقيقه كتاب "جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام" لأبي يزيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، وهو منهل من مناهل الأدب العربي وسجلّ ضخم حافل من تراث العرب وحياتهم وأيامهم وخلائقهم .. وقد تقصى الدكتور الهاشمي نسخ الجمهرة المخطوطة في مظانها في مكتبات العالم في الفاتيكان وإستانبول وحيدر أباد وعليكرة في الهند، وكذلك في المتحف البريطاني ومكتبة جامعة برتستون والمكتبة الوطنية في باريس، وكذلك نسخة العلامة حمد الجاسر ونسخة الحرم المكي، وقام بتحقيقها وضبط أصولها. والجمهرة من أهم كتب التراث التي حفظت لنا نخبة من القصائد تعد من عيون شعر الجاهلية والإسلام، فيها الشعر السياسي، وفيها الحكمة والموعظة الحسنة، وفيها أيام العرب في جاهليتهم وإسلامهم، وفيها البيئة العربية، وفيها الكثير من الموضوعات التي تصور نفسية العربي وبيئته ومجتمعه وقيمه وأعرافه. وبعد حصوله على شهادة الدكتوراه قام بالتدريس في كلية الآداب بجامعة حلب مدة سنتين، سافر بعدها إلى المملكة العربية السعودية بطلب من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث تعاقدت معه على التدريس في كلية اللغة العربية وكان ذلك عام 1394هـ/1974م وبقي فيها حتى عام 1408هـ - 1988م. وفي رحاب الجامعة عرفه زملاؤه وطلابه أستاذاً قديراً ومربياً فاضلاً يغرس في طلابه حبّ العربية والإسلام .. ويجول معهم في حقول اللغة والأدب العربي، ويواصل فيهم روح الجد والبحث العلمي النزيه. ولا غرو في ذلك على من تربى في أحضان الدعوة الإسلامية ونهل من مناهل فكرها الشامل للكون والإنسان والحياة .. وغدا مُعلماً ومربياً انعكست أخلاق القرآن الكريم على سلوكه وانعكس كل ذلك على تربيته لتلاميذه وأولاده وأهل بيته. وبعد ما جال أديبنا في كتب التراث محققاً ومحلقاً في جمهرة أشعار العرب طاف مع الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري .. الصحابي الشاعر والأديب في كتاب يدرس حياته وشعره. يقول حفظه الله: كنتُ أمضي في دراستي له والسرور يغمر نفسي فأُحس في العمل نشاطاً واسترواحاً ومتعة ذلك أنني كنتُ أستشرف أثناء هذه الدراسة الفترة المباركة المشرقة التي أضاءت فيها مشكاة الوحي، وأصاخت الدنيا إلى ترتيل الكتاب المنزل، ونَعِمَ الوجود وشاهد الزمان الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبايعونه على إقامة صرح دولة الإسلام، وكان كعب بن مالك من هذا الرعيل. وقد كان لأستاذنا الهاشمي أيضاً جولات في علم البلاغة والعروض وله مؤلفات في هذا الحقل. أولها: المنهل العذب في الدراسة الأدبية والإعراب والبلاغة والعروض والقوافي. وثانيهما: العروض الواضح وعلم القافية. وله كذلك كتاب عن طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي المشهور وأحد أصحاب المعلقات، درس فيه حياته وشعره، وكذلك كتاب: عدي بن زيد العبادي، الشاعر المبتكر .. حياته وشعره. ولم ينس الدكتور الهاشمي في غمرة انشغاله بالتدريس في رحاب جامعة الإمام .. سيّد البشر حبيبنا محمداً (صلى الله عليه وسلم) وخصه عام 1977 بدراسة فريدة في بابها سماها: "شخصية الرسول ودعوته في القرآن الكريم" ويقول في اختياره لهذه الدراسة: لا ريب أن الصورة الواضحة الصادقة لشخصية الرسول الكريم التي رسمت خطوطها ريشة القرآن المعجزة هي أصدق ما وصلنا عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أخبار وأصح وصف لحقيقة شمائله وأخلاقه، وأوثق تقرير لما كان عليه في حالاته جميعاً. فلا غروَ إذاً أن تكون الصورة الوضيئة المشرقة لشخصية الرسول الكريم التي استخدمت خطوطها وألوانها من هذا الكتاب الصادق الموثوق، لا غرو أن تكون أصدق وأوضح وأوثق وأضفى صورة في التراث العربي على الإطلاق، وقد درس في هذا الكتاب شخصية الرسول البشر الذي يُعدّه ربه لحمل الرسالة، ودرس بعد ذلك شخصية الرسول النبي الذي يوحى إليه وقال: "إن الباحث يجد نفسه أمام حقيقة ضخمة هائلة، إنه أمام شخصية طلعت على الدنيا زاداً للإنسانية جديداً، لا تزيده الأيام إلا جدة وكمالاً وحياةً، ولقد كان في توافر أسباب هذه العظمة الفريدة في شخص الرسول الكريم دليل قاطع على أن الله تعالى أراد أن يختار من البشر رسولاً يكون فريداً في تكوينه الروحي والخلقي والفكري، بحيث يجمع الفضائل البشرية من أطرافها، ويحوز محاسن الكمال الإنساني من جوانبه كلها. وبعدما جال كاتبنا في رياض التراث وتفيأ ظلال سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في القرآن الكريم يبحر بنا إلى العصر الحديث ويصدر عام 1981 كتاب "شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنّة" وقد تلقى القراء والناشرون هذا الكتاب بالقبول الحسن وكتب له الذيوع والانتشار، وتعددت طبعاته وعمت فائدته، وقد ترجم إلى الإنكليزية وإلى التركية وطبع في تركيا نحو عشرين طبعة، وكل سنة يطبع مرتين أو ثلاثاً. يقول أستاذنا الهاشمي في مقدمة هذا الكتاب: "إن الله لم ينزل هذا الدين من فوق سبع سماوات ليكون نظريات تستمتع العقول بمناقشتها، ولا ليكون كلاماً مقدساً يتبرك الناس بتلاوته وهم لا يفقهون هديه ولا يدركون معانيه، وإنما أنزله الله ليحكم حياة الفرد ويقود حياة المجتمع وليكون نوراً يضيء طريق البشر .. وهذا ما صنعه رسول الله في صدر الدعوة إذ كانت أولى خطواته في درب الإسلام الطويل أن يصنع رجالاً يتجسد فيهم الإسلام، فإذا هم مصاحف تمشي على الأرض انتشروا في أنحاء الدنيا فرأى الناس فيهم نماذج فريدة من البشر يمثلون منهجاً للحياة فريداً أيضاً. والإنسانية اليوم والمسلمون على وجه الخصوص في أمسِّ الحاجة إلى صنع هذا النموذج الفريد من البشر الذي لا تطيب الحياة إلا به، ولا تسود القيم الإنسانية الرفيعة إلا بوجوده، ولا تتجلى حقيقة الإسلام اللألاءة إلا فيه. فما هي تلك الصورة الجميلة لهذا النموذج الإنساني الفريد؟ هذا ما يجده القارئ في شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة وفيها يتحدث حديثاً مفصلاً عن المسلم مع ربه ونفسه ومجتمعه. وقد أورد المؤلف في الكتاب أفكاراً مميزة قال في إحداها: فكما أن المسلم مؤمن يقظ مطيع أمر ربه كثير التلاوة للقرآن فهو كذلك يزاول الرياضة البدنية ويتقن لغة أجنبية .. وقد كان ابن الزبير رضي الله عنه يتقن عدداً من اللغات دون أن تشغله هذه الصفات عن دينه وآخرته. وفي الحديث الذي رواه زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا زيد تعلم لي كتاب يهود فإني والله ما آمن يهود على كتابي قال زيد فتعلمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذفته فكنت أكتب لرسول الله إذا كتب إليهم وأقرأ كتبهم إذا كتبوا إليه، وفي حديث أخرجه الترمذي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحسن السريانية؟ فإنها تأتيني كتب قلت لا قال: فتعلمها .. فتعلمتُها. ثم يختار أستاذنا الهاشمي إحدى الشخصيات الإسلامية البارزة في العصر الحديث هو الشاعر عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، ويقوم بدراسته عام 1986 من خلال ديوانين من دواوينه العديدة، يُطوّفان في أسمى آفاق الإنسانية، ويصفان أدق خلجات النفوس ويرسمان أقرب المشاهد إلى القلوب هما ديوان (أب) وديوان أمي اللذين -كما يقول- شدّ بهما إلى قيثارة الشعر العربي الحديث وترين جديدين عزف عليهما أجمل الألحان وأسمعنا ألواناً من شريف المعاني وبديع البيان. رثى الشاعر والدته بأصدق الشعر وأجمله وعندما يقرب اليوم الأربعون لوفاتها يمهد نفسه للصبر الجميل وهو يتأهب لزيارة ضريحها .. وذلك بإجراء حوار طويل بين عقله وعاطفته ينتصر فيه الرضى بقضاء الله وقدره، وإن كانت عينه دامعةً هتانه: رويد دموعك يا مقلتي ... أأبغي لها صفقة خاسره .. وهل برُّها أن تَعُدَّ عيوني ... اللياليَ ساهدة ساهره معاذ مقام الهوى أن تزيل ... جوى فقدها عبرة سائره ولكن ستبقى خلايا كياني ... لأمي ذاكرة شاكره غداً سوف أسعى إلى رمسها ... وأنشق أعرافها العاطره وأمسك دمعيَ لو أستطيعُ ... وأرسلُ من روحيَ الزاخره ضراعة صبٍ يرى في الرضى ... سُمُوا فكل الدنى عابره ويبقى رضى الله يربو ويحبو ... طمأنينة بالندى زاخره لقد كان حقاً كما وصفه أستاذنا الهاشمي شاعر الأبوة الحانية والبنوّة الباره .. والفن الأصيل .. ثم انتقل الدكتور محمد علي الهاشمي في أوائل العام الجامعي 148هـ - 1988م إلى التدريس في كلية الآداب للبنات في الرياض، وبقي فيها حتى بلوغه السن القانونية في أوائل عام 1416هـ - 1996م ولا يزال يشرف على رسائل الدراسات العليا فيها. ولا ينسى في غمرة التحولات الحضارية الهائلية في عصر الكومبيوتر الفضائيات وهو يُدرّس في كلية البنات أن يبلور شخصية المرأة كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة، وصاغها بأسلوب مشرق يجمع بين أصالة الفكرة وجمال العرض وقوته .. وما لاقاه هذا الكتاب من الانتشار والقبول الحسن في الأوساط العربية والإسلامية يشير إلى ظمأ تلك القلوب إلى مصادر المعرفة الإسلامية الحقيقية الصافية .. فقد طبع الكتاب خمس طبعات خلال أربع سنوات وقد تمت ترجمته إلى التركية وطبعت منه عشرات الآلاف من النسخ كما تمت ترجمته إلى الإنكليزية والفرنسية. ولا غروَ في ذلك فإن هذا الكتاب يُجلّي العناية البالغة التي أولاها الإسلام المرأة في تكوين شخصيتها تكويناً كاملاً، شاملاً كل جانب من جوانب شخصيتها الفردية والأسرية والاجتماعية حتى بلغت في تكوينها الشأو الرفيع الذي لم تبلغه المرأة في تاريخها إلا في هذا الدين. وقد أذيعت معظم مواضيع هذا الكتاب بصوت المؤلف في حلقات متتابعة من إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية، ويقول الشيخ أمين سراح: ما من عائلة تركية مسلمة متمسكة بدينها إلا ولها جلسات تقرأ فيها من كتابي شخصية المسلم وشخصية المرأة المسلمة ويقول كثير من الشباب الأتراك أن كتاب شخصية المرأة المسلمة ساهم في النهضة النسائية في تركية والوعي الذي ظهر عند المرأة المسلمة والذي تمثل في انتخابات حزب الرفاه في حينها. إن أستاذنا الهاشمي ابن دعوة الإسلام عاصرها في نشأتها وتربى في أحضانها .. وعاش في صفوفها خادم

شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة العاشرة 1423هـ - 2002م

شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة بقلم الدكتور محمد علي الهاشمي دار البشائر الإسلامية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أحمدك اللهم وأستعينك وأستهديك، وأصلي وأسلم على رسولك الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

مقدمة

مقدمة أما بعد، فإن اهتمامي في موضوع تجلية شخصية الإنسان المسلم كلما أراد له الإسلام أن يكون، يعود إلى سنين لا تقل عن عشر، إثر ملاحظتي على كثير من المسلمين إفراطا في جانب وتفريطا في جانب آخر، أو اهتماما بأمور وتساهلا بأمور أخرى؛ كأن تجد الواحد منهم يحرص على الصلاة في الصف الأول، ولكنه قد لا يأبه للرائحة الكريهة تنبعث من فمه، أو تفوح من أردانه (¬1)، أو تجده طائعا لله مخبتا خاشعا، ولكنه مقصر في صلة رحمه. وقد تجده منصرفا إلى العبادة والعلم، ولكنه مقصر في تربية أولاده، غافل عما يقرأون ومن يرافقون، أو تجده معنيا بأولاده، ولكنه عاق لوالديه، قاس في معاملتهما. وقد تجده برا بوالديه، ولكنه يظلم زوجته ويسيء عشرتها، أو تجده خسن العشرة لزوجه وأولاده، ولكنه يسيء معاملة جاره، وقد تجده منصرفا إلى شؤونه الخاصة مهتما بما يعود عليه بالنفع، ولكنه مقصر في علاقاته الاجتماعية واهتمامه بأمر المسلمين، أو تجده متدينا صالحا، ولكنه يتساهل بآداب الإسلام في السلام أو الطعام والشراب ومجالسة الناس ومحادثتهم ... ومن عجب أن تجد هذا النقص في بعض من يحسبون على الدعوة الإسلامية واتجاهها العملي المتميز الذي يكسب رجاله في الغالب حسا إسلاميا مرهفا، وفهما دقيقا لأحكام الإسلام وآدابه وقيمه، وانصياعا صادقا ¬

_ (¬1) أي أكمامه.

لهديه القويم، ولكنه الآنشغال أو الغفلة أو اللامبالاة، توقع بعض الإسلاميين في مثل هذه الهنات والمخالفات من حيث يشعرون أو لا يشعرون. ودفعني اهتمامي بتجلية شخصية المسلم كما أراد لها الإسلام أن تكون إلى تتبع النصوص المتعلقة بالإنسان وتوجيهه وتكوينه، لأضع بين أيدي المسلمين، وخصوصا العاملين منهم، دراسة وافية شاملة تجلي تلك الشخصية، وتبرز ما تميزت به من صفات وعادات وأخلاق، لتكون نبراسا لأولئك المقصرين في بعض الجوانب، ليسموا بأنفسهم إلى المرتقى السامق الوضيء الذي أراده لهم دينهم الحق. وهالني ما رأيت، لقد رأيت البون شاسعا، والمسافة بعيدة جدا بين ما أراده الإسلام للمسلمين، وما أرادوه هم لأنفسهم، إلا قليلا منهم، ممن صحت عقيدتهم، وحسن إسلامهم، وصفت قلوبهم، وسمت نفوسهم، ونشطت هممهم، فأقبلوا على دينهم بصدق وشغف وحرارة، ينهلون من نبعه الصافي النمير، ويزدادون كل يوم جديدا من هديه المتألق الألاء. إن من يتاح له الاطلاع على هدي الله ورسوله للإنسان في مظانهما من كتاب الله وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليدهش من غزارة النصوص واستيعابها وشمولها لكل صغيرة وكبيرة من قضايا الإنسان المتصلة بربه وبنفسه وبالناس من حوله، وكلها توجيه وتكوين وبناء لشخصية الإنسان المسلم في كل جانب من جوانبها، وتأهيل لها للحياة الفردية والاجتماعية المثلى. ومن هنا يبدو الإنسان المسلم كما أرادت له هذه النصوص أن يكون، إنسانا اجتماعيا راقيا فذا، تضافرت على تكوينه هذا التكوين الفريد مجموعة من مكارم الأخلاق، نطقت بها آيات الكتاب الكريم وأحاديث السنة المطفرة، وجعلت التحلي بها دينا يحرص المرء عليه، ويبتغي به من ربه المثوبة والأجر.

ورحت أجمع تلك النصوص من كتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأصنفها حسب أبوابها وموضوعاتها، حتى إذا تم لي هذا التصنيف اتضحت معالم البحث، وانتظمت في الأقسام التالية: 1 - المسلم مع ربه. 2 - المسلم مع نفسه. 3 - المسلم مع والديه. 4 - المسلم مع زوجته. 5 - المسلم مع أولاده. 6 - المسلم مع أقربائه وذوي رحمه. 7 - المسلم مع جيرانه. 8 - المسلم مع إخوانه وأصدقائه. 9 - المسلم مع مجتمعه. ولقد تبين لي من خلال مصاحبتي تلك النصوص، وتأملي ما تضمنته من هدي عال قويم، أن رحمة الله بعباده كانت كبيرة، إذ انتشلهم من وهدة الضلال، ورفعهم إلى علياء الهداية، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم رسالاته وشرائعه، ليبقى البشر دوما على المحجة البيضاء، لا يخبطون في ظلماء، ولا يتيهون في عماية، ولا تغم عليهم مسالك السبيل القصد. وكم بدت لي حاجة الإنسان لنفحات الهداية والتربية والتأدب كبيرة، ليستطيع أن يمارس إنسانيته، ويقوم بالدور الكبير الذي عهد الله إليه أن يقوم به في هذه الحياة، إذ لولا تلك النفحات القدسية الهادية الراشدة لغلب على الإنسان الارتكاس في حمأة الأثرة والأنانية والإضرار بالناس، والتمرغ في وحل الضغينة والحقد والاستغلال والسيطرة والظلم، وما إلى ذلك من ذميم العادة وسيء الأخلاق.

وإننا لواجدون مصداق ذلك في سلوك الطفل، إذ يقف بين يدي والديه، فيجهد نفسه في إثبات صلاحه واستقامة سلوكه وفضله على أخيه، ويحرص كل الحرص على تعرية أخيه من تلك الفضائل التي حلى جيده بها، وهو في ذلك يود أن يحقق ذاته، ويؤكد ميله الفطري إلى التغلب على أخيه والتفوق عليه في كل شيء. وهذه الخليقة في الإنسان طبيعة فطرية، بها قوام الإنسان وصلاح أمر الدنيا، ما دامت سوية معتدلة؛ ذلك أنها تدفع الإنسان إلى استخراج أعمق وأحسن ما فيه من خير، وهو، إذ ينسب هذا الخير إلى ذاته، ينعم بشعور الرضا يغمر أرجاء نفسه، فيذا هو يندفع قذمأ إلى المزيد من العطاء. على أن هذه الخليقة إذا تضخمت لدى المرء، وغالى الإنسان فيها، انقلبت إلى علة مرضية خطيرة كريهة، إذ يبرز الإنسان المصاب بها مغرورا دعيا، يتيه عجبا على أقرانه، وإنه لأبعد ما يكون عما يدعيه لنفسه من فضائل ومكرمات. وهنا تبرز قيمة الدين والتربية والأخلاق في كبح جماح المريض بهذه العلة، والكفكفة من غلواء إعجابه بنفسه، وتسديد خطوه نحو الاعتدال والتعقل والتواضع. والدين هو النبع الثر الدافق لكل فضيلة ومكرمة في هذه الحياة، وما احتوته مبادئ التربية ونصت عليه أصول الأخلاق، من قيم رفيعة، وعادات حسنة، وسلوك قويم، إنما تحدر إلى الإنسانية عبر القرون من ذلك المعين الإلهي المغدق الفياض. والذي يبدو واضحا في حياة البشر أنهم أدنى إلى الهبوط والتفلت منهم إلى الصعود والتماسك؛ إذ الهبوط دوما أسهل من الصعود، والتفلت أشهى

من التماسك، ولا بد من وازع يزعهم كلما رانت على قلوبهم الغفلة، وحادت بهم الأقدام عن الصراط المستقيم. ومن هنا كان لزاما على أرباب الفكر وحملة الأقلام أن ينشطوا في تجلية قيم الدين الرفيعة، وعرضها سائغة ميسرة ذلولا للناس، ويبينوا لهم الصورة المشرقة الوضيئة السمحة التي أراد الله لعباده أن يتخلقوا بها في هذه الحياة، لتكون الحياة جميلة ممتعة هنيئة. إن الله لم ينزل هذا الدين من فوق سبع سموات ليكون نظريات تستمتع العقول بمناقشتها، ولا ليكون كلاما مقدسا يتبرك الناس بتلاوته وهم لا يفقهون هديه ولا يدركون معانيه، وإنما أنزله الله ليحكم حياة الفرد، وينظم حياة الأسرة، ويقود حياة المجتمع، وليكون نورا يضيء طريق البشر، ويخرجهم من الظلمات إلى النور: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1). وفي ظلال هذه الهداية ينضر العيش، وتطيب الحياة، ويهنأ الأحياء، وأولى الخطوات نحو هذه الحياة الراشدة الهنيئة إيجاد الفرد المسلم الصادق الذي تتمثل فيه صورة الإسلام الوضيئة المشرقة، يراها الناس فيرون الإسلام، ويتعاملون معها فيزدادون إيمانا به وإقبالا عليه. وهذا ما صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر الدعوة، إذ كانت أولى خطواته في درب الإسلام الطويل أن يصنع رجالا يتجسد فيهم الإسلام، فإذا هم مصاحف تمشي على الأرض، انتشروا في أنحاء الدنيا، فرأى الناس فيهم ¬

_ (¬1) المائدة: 15 - 16.

نماذج فريدة من البشر، يمثلون منهجا للحياة فريدا أيضا، فلما رأوا المنهج الفريد مجسدا في الفرد المؤمن الصادق أقبلوا يدخلون في دين الله أفواجا. والإنسانية اليوم، والمسلمون على وجه الخصوص، في أمس الحاجة إلى صنع هذا النموذج الفريد من البشر الذي لا تطيب الحياة إلا به، ولا تسود القيم الإنسانية الرفيعة إلا بوجوده، ولا تتجلى حقيقة الإسلام اللألاءة إلا فيه. فما هي تلك الصورة الجميلة لهذا النموذج الإنساني الفريد؟ هذا ما يجد القارئ الجواب عنه في الصفحات التاليات. والله أسأل أن يتقبل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به، ويجعله زادا لي يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. الرياض في 27 من جمادى الآخرة 1401 هـ 1 من أيار (مايو) 1981 م محمد علي الهاشمي

المسلم مع ربه

1 - المسلم مع ربه مؤمن يقظ: إن أول ما يتطلبه الإسلام من المسلم أن يكون مؤمنا بالله حق الإيمان، وثيق الصلة به، دائم الذكر له والتوكل عليه، يستمد منه العون مع أخذه بالأسباب، ويحس في أعماقه أنه بحاجة دوما إلى قوة الله وعونه وتأييده، مهما بذل من جهد، ومهما اتخذ من أسباب. والمسلم الحق الصادق يقظ القلب، مفتح البصيرة، متنبه إلى بديع صنع الله في الكون، موقن أن يده الخفيه العليا هي التي تسير أمر الكون وشؤون الناس، ومن هنا هو ذاكر دوما لله، يرى آثار قدرته غير المحدودة في كل ومضة من ومضات الحياة، وفي كل مشهد من مشاهد الكون، فيزداد إيمانا به، وذكرا له، وتوكلا عليه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ... } (¬1). مطيع أمر ربه: فلا بد أن يكون المسلم الصادق مطيعا لله في أمره كله، مخبتا، ¬

_ (¬1) آل عمران: 190.

يشعر بمسؤوليته عن رعيته

خاشعا، وقافا عند حدوده، ممتثلا أمره ولو خالف هواه، منصاعا لهديه ولو جاء على غير مزاجه، ومحك إيمان المسلم هذا الآنصياع والامتثال لأمر الله ورسوله في كل كبيرة وصغيرة من غير تحفظ ولا احتراس ولا استثناء: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)) (¬1). {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬2). إنه الاستسلام المطلق لحكم الله ورسوله، والطاعة الكاملة المطلقة أيضا، وبدونهما لا يكون إيمان، ولا يتحقق إسلام. ومن هنا ينتفي من حياة المسلم الصادق الآنحراف عن هدي الله، والمجانبة لأمر رسوله، سواء أكان ذلك في شخص المسلم أم في أسرته وأطرافه، ممن له عليهم التوجيه والمسؤولية والسلطان. يشعر بمسؤوليته عن رعيته: ذلك أنه ما من تقصير أو تهاون أو تفريط في جنب الله ورسوله، يقع فيه أحد أفراد أسرة هذا المسلم إلا وهو مسؤول عنه: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته ... )) (¬3). وهذه المسؤولية التي يحسها المسلم الصادق من جراء تفريط أحد أفراد أسرته تخز جنبه، فلا يطيق عليها صبرا، ويسارع في إزالة أسبابها مهما تكن النتائج، فما يصبر على هذه المسؤولية، وما يطيق السكوت عليها إلا رجل في إيمانه ضعف، وفي دينه رقة، وفي رجولته خور. ¬

_ (¬1) رواه النووي في الأربعين. (¬2) النساء:65. (¬3) متفق عليه.

راض بقضاء الله وقده

راض بقضاء الله وقده: والمسلم الصادق راض دوما بقضاء الله وقدره، يضع نصب عينه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبا لأمر المسلم! إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) (¬1). ذلك أن المسلم الصادق يعتقد في أعماقه أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، وأن ما يصيبه في هذه الحياة ما كان ليخطئه، لأنه قدر مقدور، لا قبل له بدفعه، وأن رضاه بقضاء الله وقدره يكسبه الثواب الجزيل من الله، ويكتبه عنده من المؤمنين الطائعين الفائزين. ومن هنا كان أمره كله خيرا، إن أصابته سراء لهج لسانه بالشكر الجزيل لربه الكريم المنعم المتفضل، وإن أصابته ضراء صبر امتثالا لأمره، ورضي بقضائه وقدره، وفي كلا الحالين خير له، أي خير. أواب: وقد تغشى نفس المؤمن أثارة من غفلة، فتزل به القدم، أو يقع في تقصير، لا يليق بالمؤمن البصير المطيع الخابت الخاشع، ولكنه سرعان ما يتذكر ويتنبه وينتفض من غفلته، وينخلع من زلته، ويستغفر من تقصيره، ويؤوب إلى حمى ربه الآمن مخبتا نادما مستغفرا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) الأعراف: 201.

همه مرضاة ربه

فالغفلة لا ترين على قلب خفق بحب الله وتقواه، ولكنها ترين على القلوب التي أعرضت عن أمره وهداه. وقلب المسلم الصادق متفتح دوما إلى الاستغفار والتوبة والإنابة، مستروح أبدا نسمات الطاعة والهداية والتقى والرضوان. همه مرضاة ربه: والمسلم الصادق يبتغي في أعماله كلها وجه الله، همه مرضاة ربه في كل خطوة من خطواته، وفي كل عمل من أعماله، لا مرضاة الناس، بل قد يضطر أحيانا إلى إغضاب الناس في سبيل مرضاة الله، مستهديا في ذلك كله بقول الرسول الكريم: ((من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)) (¬1). ومن هنا هو يزن أعماله بميزان مرضاة الله عز وجل، فما رجحت به كفة هذا الميزان قبله وارتضاه، وما شالت به الكفة أعرض عنه وجفاه. وبذلك تستقيم مقاييس المسلم، وتتضح أمام عينيه معالم الطريق القصد والسبيل القويم، فلا يقع في متناقضات مضحكة سخيفة، كأن تراه يطيع الله في أمر ويعصيه في آخر، أو يحل الشيء عاما ويحرمه عاما؛ إذ لا مجال للتناقض ما دامت المنطلقات صحيحة، والمنهج بينا، والمقاييس ثابتة. إن الذين تراهم في المسجد مصلين خاشعين، ثم تراهم في السوق يتعاملون بالربا، أو تراهم في البيت أو الشارع أو المدرسة أو المنتدى لا يقيمون شرع الله على أنفسهم وزوجاتهم وأولادهم ومن يعولون، يعانون نقصا واضطرابا في فهمهم وتصورهم لحقيقة هذا الدين المتكامل الذي ¬

_ (¬1) رواه الترمذي والقضاعي وابن عساكر، وسنده حسن.

مؤد الفرائض والأركان والنوافل

يقود المسلم في أعماله كلها إلى حقيقة كبرى، وهي مرضاة الله عز وجل، فيجعله يزن كل قضية بميزان رضاه، ومن هنا يبدو هؤلاء أنصاف مسلمين، وقد لا يكون لهم من الإسلام سوى الاسم، وهذا الازدواج في الشخصية من أخطر ما ابتلي به المسلمون في هذا العصر. مؤد الفرائض والأركان والنوافل: والمسلم الصادق يؤدي فرائض الإسلام وأركانه أداء كاملا حسنا، لا تهاون فيه ولا تساهل ولا ترخص. يقيم الصلوات الخمس: فهو يقيم الصلوات الخمس بأوقاتها؛ إذ الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين (¬1)، وهي أجل الأعمال وأفضلها كما في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) (¬2). ذلك أن الصلاة صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن شواغل الحياة، ويتجه بكيانه كله إلى ربه، يستمد منه الهداية والعون والتسديد، ويسأله الثبات على الصراط المستقيم. فلا غرو أن تكون الصلاة أجل الأعمال وأفضلها؛ لأنها المورد الثر الذي يتزود منه المسلم تقواه، ولأنها المنهل العذب النقي الذي يغسل بنميره خطاياه: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى ¬

_ (¬1) انظر إحياء علوم الدين 1/ 147. (¬2) متفق عليه.

من درنه شيء؟)) (¬1)، قالوا: لا يبقى مم درنه، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)) (¬2). وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر جار على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات)) (¬3). وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره، فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬4)، فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: ((لجميع أمتي كلهم)) (¬5). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر)) (¬6). وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) (¬7). والأحاديث والآثار والأخبار في بيان فضل الصلاة وأهميتها وخيرها على المصلين كثيرة متنوعة، لا تتسع لها هذه الصفحات. ¬

_ (¬1) أي وسخه. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم. (¬4) هود: 114. (¬5) متفق عليه. (¬6) رواه مسلم. (¬7) رواه مسلم.

يشهد الجماعة في المسجد

يشهد الجماعة في المسجد: ويحرص المسلم التقي على الجماعة الأولى في المسجد ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) (¬1). وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن المسلم ((إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة (¬2)، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة)) (¬3). وبشر الرسول الكريم المصلي الحريص على الجماعة بالجنة في كل غدوة من غدواته إلى المسجد أو روحة إليه، فقال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا، كلما غدا أو راح)) (¬4). ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أحرص ما يكونون على صلاة الجماعة، وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما فليحافط على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) لهذا كان عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) يقارب بين خطوه، وهو في طريقه إلى المسجد، لتزداد خطواته فتزداد بها حسناته. (¬3) متفق عليه. (¬4) متفق عليه.

عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى (¬1) بين الرجلين حتى يقام في الصف (¬2). ويبلغ اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمر الجماعة في المسجد أن يهم بتحريق بيوت تاركي الجماعة من غير عذر، إذ يقول: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب، فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم)) (¬3). فلا عجب بعد ذلك أن نجد مثل سعيد بن المسيب لا يرى خلال ثلاثين سنة قفا أحد في المسجد لأنه كان دائما في الصف الأول قبل الأذان، وأمثال سعيد كثير في تاريخ المسلمين. ولم يكن بعد الدار عن المسجد ليعيق الصحابة الكرام عن حضور الجماعة كلما سمعوا النداء، لما كان للجماعة من أهمية بالغة في نفوسهم، بل إنهم كانوا يسرون ببعد بيوتهم عن المسجد ليكتب لهم ممشاهم إلى المسجد، وتحسب لهم خطواتهم إليه في صحيفة أعمالهم: فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحدا أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة! فقيل له: لو اشتريت حمارا لتركبه في الظلماء وفي الرمضاء (¬4)، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد جمع الله لك ذلك كله)) (¬5). ¬

_ (¬1) أي يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله. (¬2) رواه مسلم. (¬3) متفق عيه. (¬4) أي شدة الحر. (¬5) رواه مسلم.

ولقد كان من هدي الرسول الكريم للصحابة الذين بعدت بيوتهم عن المساجد ألا يتحولوا إلى بيوت قريبة منها، وأكد لهم أن آثارهم في السعي إليها ستكتب في صحيفة أعمالهم، وأن خطواتهم الكثيرة إليها لن تضيع: فعن جابر رضي الله عنه قال: ((خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنوا سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: ((بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟)) قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: ((بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم))، فقالوا: ((ما يسرنا أنا كنا تحولنا)) (¬1). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام)) (¬2). وجاء الحث على حضور الجماعة في الصبح والعشاء في عدد من النصوص، بين فيها الرسول الكريم الثواب الجزل العميم لمن شهد الجماعة في هاتين الصلاتين، أجتزئ منها بنصين: الأول: عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله)) (¬3). والثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال سول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم، وروى البخاري معناه من رواية أنس. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم. (¬4) متفق عليه.

يصلي السنن الرواتب والنوافل

يصلي السنن الرواتب والنوافل: ولا يفوت المسلم التقي الحريص على فوزه في آخرته أن يصلي السنن الرواتب أيضا، ويأتي من النوافل ما يتسع له نشاطه وتنشط إليه نفسه آناء الليل وأطراف النهارة ذلك أن الإكثار من النوافل يدني العبد من ربه، ويرفعه إلى مقام حبه له ورضاه عنه، وإنه لمقام على كريم، إذا بلغه الإنسان أحبه الله، وخصه بقوته الكبرى، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ... يشهد لذلك الحديث القدسي: ((ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) (¬1). ويترتب على محبه الله للعبد أن يحبه أهل السماء والأرض، مصداق ذلك ما رواه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني احب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)) (¬2). ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل حتى تتفطر قدماه، فتسأله أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه مسلم.

يحسن أداء الصلاة

الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيجيبها: ((أفلا أكون عبدا شكورا؟)) (¬1). يحسن أداء الصلاة: ويحرص المسلم الحق في صلواته كلها على أن تكون حسنة الأداء، مستكملة الشروط، لا مجرد قيام وقعود وحركات، والذهن شارد، والنفس مبلبلة، والقلب خواء. وهو لا ينفتل من صلاته توا لينغمر في شواغل الحياة وتيارها الجارف، بل يكون له بعد الصلاة استغفار وأذكار وتسبيحات نصت عليها السنة المطهرة، يتوجه بعدها إلى الله العلي الكبير بدعاء خاشع من أعماق القلب أن يهبه خيري الدنيا والآخرة، وأن يجعل له من أمره رشدا، وبذلك تؤدي الصلاة دورها في تصفية الروح، وترقيق القلب، وتزكية النفس، ولهذا كله كان الرسول صلوات الله عليه يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (¬2). ومن هنا كان المصلون الصادقون الخاشعون في حمى الله الآمن، وفي رعايته الشاملة، لا يجزعون إذا مسهم شر، ولا يمنعون إذا غمرهم خير: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ... } (¬3). يؤذي زكاة ماله: وهو يؤتي الزكاة، إن كان ذا سعة توجب عليه الزكاة، فيحصي ما يتوجب عليه دفعه من هذه الفريضة بكل دقة وأمانة وتقوى، وينفقه في مصارفه المشروعة، ولو بلغ مقدار الزكاة المتوجبة عليه آلافا كثيرة، أو ملايين، ولا يدور في خلده أن يتهرب من بعض ما يتوجب عليه دفعه. ¬

_ (¬1) رواه الشيخان. (¬2) رواه أحمد والنسائي بإسناد حسن. (¬3) المعارج: 19.

يصوم شهر رمضان ويقوم ليله

ذلك أن الزكاة فريضة مالية تعبدية محددة، لا يسع المسلم الصادق أن يتهاون في إخراجها كاملة كما بينتها الشريعة. وما يتلكأ في إخراجها مسلم إلا وفي تدينه غبش، وفي نفسه كزازة، وفي خلقه التواء. وحسبنا أن نعلم أن حابسها يقاتل ويهدر دمه، حتى يؤديها كاملة كما بينتها أحكام الدين، وما تزال قولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في أهل الردة تتردد في سمع الزمان معلنة عظمة هذا الدين في ربطه بين الدين والدنيا: ((والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)) (¬1). وإنه لقسم من أبي بكر يوحي بعمق فهمه لطبيعة هذا الدين الكامل المتكامل، وللعلاقة الوثقى بين الصلاة والزكاة في إقامة صرحه، إذ رأى آيات القرآن الكريم تترى متضافرة متآزرة متعاقبة تقرن بين الصلاة والزكاة على هذا النحو المتلازم: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (¬2). (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬3). {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} (¬4). يصوم شهر رمضان ويقوم ليله: والمسلم الحق يصوم رمضان إيمانا واحتسابا، والإيمان يعمر قلبه: ((أن من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬5)، ويعرف حق الصوم عليه في حفظ لسانه وبصره وجوارحه عن كل مخالفة، تخدش صومه، أو تحبط من أجره: ¬

_ (¬1) البداية والنهاية لابن كثير 6/ 315. (¬2) المائدة: 55. (¬3) البقر ة 43. (¬4) البقرة: 277. (¬5) متفق عليه.

((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم)) (¬1). ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) (¬2). ولا يغيب عن بال المسلم الصائم أنه يعيش شهرا لا كالشهور؛ إنه شهر الصوم، والصوم لله، وهو الذي يجزي به، وجزاء الله الغنى المتفضل المنعم أكبر وأوفى وأعم وأشمل من أن يتصوره خيال: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنه بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف. قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك)) (¬3). ومن هنا وجب على المسلم اليقظ الحصيف أن يغتنم أويقات هذا الشهر المبارك، فيملأها بالعمل الصالح؛ فنهاره صوم وصلاة وتلاوة وصدقة وغير ذلك من الصالحات، وليله قيام وتهجد ودعاء: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬4). ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في رمضان بالإكثار من الأعمال الصالحة ما لا يجتهد في غيره، وبخاصة في العشر الأواخر منه: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره)) (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه البخاري. (¬3) متفق عليه. (¬4) متفق عليه. (¬5) رواه مسلم.

وعنها رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل كله، وأيقظ أهله، وجد، وشد المئزر)) (¬1). وكان يأمر بتحري ليلة القدر، ويرغب في قيامها بقوله: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)) (¬2). وقوله: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)) (¬3). وقوله: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬4). ومن هنا كان هذا الشهر الكريم شهر عبادة خالصة، لا مجال فيه للمسلم الجاد أن يقضي الليل في اللهو والسهر الفارغ الطويل، حتى إذا ما قارب طلوع الفجر، وغشيه النعاس، تناول لقيمات، وآوى إلى فراشه، وراح يغط في نوم عميق، وقد لا يصحو لأداء صلاة الفجر!. إن المسلم التقي الواعي تعاليم دينه يعود من صلاة التراويح، فلا يطيل السهرة لأنه سيستيقظ بعد سويعات قليلة لقيام الليل وتناول طعام السحور، ثم الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الفجر. ولقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسحور، لما فيه من خير كثير، فقال: ((تسحروا، فإن في السحور بركة)) (¬5). ذلك أن الاستيقاظ للسحور يذكر بقيام الليل، وينشط النفوس للانطلاق إلى المساجد لأداء صلاة الفجر في جماعة، هذا إلى ما فيه من تقوية الأجسام ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه البخاري. (¬4) متفق عليه. (¬5) متفق عليه.

يصوم النافلة

على الصوم، وهذا ما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويروض عليه أصحابه: فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((تسحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قمنا إلى الصلاة. قيل: كم كان بينهما؟ قال: خمسون آية)) (¬1). يصوم النافلة: والمسلم التقي اليقظ لا يفوته صوم النافلة في غير رمضان، كصوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء، ويوم تاسوعاء؛ فصيام هذه الأيام من أفضل الأعمال التي تكفر الذنوب كما أخبر بذلك الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة، فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوم عاشوراء، وأمر بصيامه (¬3). وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((يكفر السنة الماضيمه)) (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لئن بقيت إلى قابل (¬5) لأصومن التاسع)) (¬6). وكذلك صوم ستة أيام من شوال، وفي بيان فضل صومها يقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه مسلم. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه مسلم. (¬5) أي عام قابل. (¬6) رواه مسلم.

يحج بيت الله الحرام

((من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)) (¬1). ومن الأيام المستحبة صيامها ثلاثة أيام من كل شهر، وفي ذلك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ((أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: صيام ثلاثة أثام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)) (¬2). وعن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: ((أوصاني حبيبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث لن ادعهن ما عشت: بصيام ثلائة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وبأن لا أنام حتى أوتر)) (¬3). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله)) (¬4). ووردت نصوص تحدد هذه الأيام الثلاثة بالثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وتسميها الأيام البيض، ووردت نصوص أخرى تفيد أن الرسول الكريم كان يصوم ثلاثة أيام غير محددة من كل شهر: فعن معاذة العدوية أنها سألت عائشة رضي الله عنها أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت: من أي الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي الشهر يصوم)) (¬5). يحج بيت الله الحرام: والمسلم الواعي هدي دينه يضع نصب عينيه أن يحج بيت الله متى ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم. (¬4) متفق عليه. (¬5) رواه مسلم.

يعتمر

استطاع إلى ذلك سبيلا، وقبل سفره إلى الديار المقدسة يعكف على دراسة أحكام الحج دراسة مستفيضة، فيقف على كل صغيرة وكبيرة منها، فإذا ما أقبل يؤدي مناسك الحج كان حجه صحيحا تاما، وكان واعيا فاهما الحكم البليغة التي انطوت عليها هذه الفريضة العظيمة، وشعر بطمأنينة الإيمان تتغلغل في مسارب نفسه، وأحس بشاشة الإسلام تغمر كيانه، فينقلب بعد هذا الحج المبرور إلى أهله وبلده، وقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأفعمت نفسه إيمانا بعظمة هذا الدين الذي جمع أمم الأرض قاطبة حول البيت المعمور، فإذا الحج مؤتمر شعبي دولي أممي، لا تشهده الدنيا إلا في الحج، وإذا الحجيج على اختلاف ألوانه وأجناسه ولغاته يصدع بالتلبية والتهليل والتكبير والتسبيح والحمد للإله الواحد العلي الكبير. يعتمر: ولا ينسى المسلم المطيع أمر ربه أن يعتمر أيضا في غير أوقات الحج، إن تيسرت له الأسباب، ولا سيما في رمضان؛ ذلك أن العمرة في رمضان تعدل في ثوابها حجة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حجته قال لأم سنان الأنصارية: ((ما منعك من الحج؟)) قالت: أبو فلان - تعني زوجها- كان له ناضحان (¬1)، حج على أحدهما، والآخر يسقي أرضا لنا. قال: ((فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي)))). متمثل معنى العبودية لله: والمسلم يعتقد اعتقادا جازما أنه ما وجد في هذه الحياة إلا لعبادة ربه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬2). ¬

_ (¬1) أي: جملان. (¬2) الذاريات: 56.

وعبادة الله تتمثل في كل حركة من حركات الإنسان الإيجابية البناءة لإعمار الكون، وتحقيق كلمة الله في الأرض، وتطبيق منهجه في الحياة، كما تتمثل في شعور العبودية لله الواحد القهار، يستقر في ضمير المسلم، ويكون منطلقه في أعماله كلها، بحيث يبتغي بها وجه الله، وبذلك تكون أعمال المسلم عبادة كاداء الشعائر، ما دامت نيته في حركته كلها أنه يعمل في سبيل الله. إن أجل الأعمال التعبدية التي يقوم بها المسلم الحق هو العمل على تحكيم شرع الله في الأرض، وتطبيق منهجه في الحياة، بحيث يحكم حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة. وإن المسلم الصادق ليشعر أن عبادته تبقى ناقصة، إذا هو لم يبذل جهده لتحقيق الهدف الكبير الذي خلق الله الجن والإنس من أجله، ألا وهو إعلاء كلمة الله في الأرض، الذي به وحده تتحقق عبادة البشر لله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1)، وبه وحده يتحقق معنى ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)) في واقع الحياة. ومن هذه الرؤية الراشدة والتصور الواعي لحقيقة العبادة في الإسلام، لا يستطيع المسلم إلا أن يكون صاحب رسالة في هذه الحياة، هي أن يكون الحكم لله وحده في شتى شؤون الحياة، لا يكمل إسلامه إلا بحملها، ولا تتحقق عبادته لربه إلا بالعمل الجاد الدائب المخلص على تحقيقها في واقع الحياة، وهذه الرسالة هي التي تعطي للمسلم هوية الآنتساب الصحيح للإسلام، وهي وحدها التي تدخله في زمرة المسلمين المجاهدين الصادقين، وهى التي تجعل الحياة في نظره ذات معنى، يليق بخلافة الإنسان في الأرض، إذ يفسر له علة وجوده في هذه الحياة، وتفضيل الله إياه على كثير ممن خلق: ¬

_ (¬1) الذاريات: 56.

كثير التلاوة للقرآن

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (¬1). فلا بدع أن يقبل المسلم الصادق على هذه الرسالة إقبال الربيع، فيهبها كل خيره، ويمنحها كل كنوزه، ويضع في سبيل نصرتها كل وقته وجهده وماله؛ ذلك أنها سمة حياته المتميزة، ومعنى وجوده السامي، وعنوان قربه من الله، لا طعم لحياته إلا بها، ولا معنى لوجوده بدونها، ولا اطمئنان إلى رضوان الله إلا بالعمل المتواصل الدؤوب على تحقيقها. وهي، بعد، أعظم عبادة يقوم بها المسلم المتبتل الصادق، يتقرب بها إلى الله، وهي أجل عمل يدنيه منه، ويكسبه رضاه. ومن هنا كان المسلم الواعي عاملا دوما على نصرة هذه الرسالة وتحقيق هدفها الكبير في الحياة، لا يمنح ولاءه إلا لها، ولا يرفع راية إلا رايتها، ولا يلتزم بعقيدة سواها. كثير التلاوة للقرآن: ومن أجل بلوغ هذا المرتقى السامي الوضيء يفيء المسلم دوما إلى ظلال القرآن الوارفة المعطرة، يستروح فيها نسمات الهداية الندية البرود، ويستشرف آفاق الخير، تفتحها له آيات الذكر الحكيم، فهو يكثر من تلاوته في تدبر وتفكر وخشوع، ويجعل لهذه التلاوة أوقاتا لا تتخلف، يخلو فيها إلى ربه يتلو كلامه، فتنسرب معانيه في نفسه فتزكيها، وتلامس عقله فتنميه، وتخالط قلبه فتزيده إيمانا وطمأنينة: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬2). وحسب المسلم التقي الواعي أن يتملى الصورة الجميلة المحببة لقارئ القرآن التي رسمها الرسول الكريم ببيانه البليغ الفذ، ليملأ بياض ¬

_ (¬1) الإسراء: 70. (¬2) الرعد: 28.

أيامه وسواد لياليه بتلاوة القرآن الكريم، والتغني بمعانيه العاليه المباركة الوضاء. يقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة (¬1)، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمر، لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر)) (¬2). ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه)) (¬3). ويقول أيضا: ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران)) (¬4). فهل يستطيع المسلم الصادق بعد هذا أن يتلكأ في تلاوة القرآن وتدبر معانيه؟!. وبعد، فهذا شأن المسلم الحق مع ربه: إيمان صادق عميق، وعمل صالح مستمر، وتطقع دائم إلى رضوانه، يؤكد عبوديته له، ويحقق الهدف من وجوده في هذه الحياة الذي حدده قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬5). ... ¬

_ (¬1) الأترجة: فاكهة ذات رائحة طيبة تشبه الكبااد. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم. (¬4) متفق عليه. (¬5) الذاريات: 56.

المسلم مع نفسه

2 - المسلم مع نفسه تمهيد: يريد الإسلام من المسلمين أن يكونوا شامة في الناس، متميزين في زيهم وهيئاتهم وتصرفاتهم وأعمالهم، حت يكونوا قدوة حسنة، تجعلهم جديرين بحمل رسالتهم العظمى للناس، ففي حديث الصحابي الجليل ابن الحنظلية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه وكانوا في سفر قادمين على إخوانهم: ((نكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأحسنوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)) (¬1). والرحال هنا: ما يوضع على ظهر الجمل عند ركوبه. والفحش والتفحش: كل ما يشتد قبحه. فقد عد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهيئة الرديئة، والحالة الزرية، وإهمال العناية بالمظهر، والتبذل في اللباس أو المرافق المفروشة: فحشا وتفحشا، وهو مما يكرهه الإسلام الحنيف، وينهى عنه. إن المسلم الحق لا يهمل نفسه، ولا ينسى ذاته، مع التكاليف العليا التي يحملها في هذه الحياة؛ إذ لا ينفصل في تصوره مظهر الإنسان عن مخبره، فإن الشكل المرتب الحسن أليق بالمحتوى الجليل والجوهر النبيل، ومن هذا كله يتكون المسلم الداعية إلى الله. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والحاكم في المستدرك، وإسناده حسن.

أ - جسمه

فالمسلم الحق الواعي الحصيف هو الذي يوازن بين جسمه وعقله وروحه، فيعطي لكل حقه، ولا يغالي في جانب من هذه الجوانب على حساب جانب، مستهديا بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتوازن الحكيم، وذلك فيما يروي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بمغالاته في العبادة فقال له: ((ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: بلى يارسول الله. قال: ((فلا تفعل، صم وأفطر، ونم وقم؛ فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا ... )) (¬1). فكيف يحقق المسلم هذا التوازن بين جسمه وعقله وروحه؟. أ - جسمه معتدل في طعامه وشرابه: يحرص المسلم كل الحرص على أن يكون صحيح الجسم، قوي البنية. ولهذا، فهو يعتدل في طعامه وشرابه، لا يقبل على الطعام إقبال الشره النهم، وإنما يصيب منه ما يقيم به صلبه، ويحفظ عليه صحته وقوته ونشاطه، مستهديا بقول الله تعالى في محكم كتابه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬2). وبقول الرسول الكريم وهديه في الاعتدال في الطعام والشراب: ((ما ملأ آدمى وعاء شرا من بطنه، فإذا كان لا محالة فاعلا، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. (¬2) الأعراف: 31. (¬3) حديث حسن، أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، وصححه الحاكم.

يزاول الرياضة البدنية

وبقول عمر رضي الله عنه: ((إياكم والبطنة في الطعام والشراب، فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة. وعليكم بالقصد فيهما، فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف. وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه)) (¬1). ويجتنب المسلم المخذرات والمنبهات، بله المحرمات منها، ينام مبكرا ويستيقظ مبكرا، ولا يتناول الدواء إلا في حالة المرض. أما فيما عداها، فكل ما في نظام حياته يساعد على الصحة والنشاط الطبيعيين. والمسلم الواعي يعلم أن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، كما قرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا هو يعمل على تقوية جسمه باتباع نظام صحي في حياته. يزاول الرياضة البدنية: إن المسلم الحق، وإن كان في الغالب صحيح الجسم قوي البدن، لبعده عن المنهكات والمهلكات من المأكولات والمشروبات الضارة الخبيثة المحرمة، ولتجنبه العادات السيئة المجهدة المنهكة كالسهر والآنهماك بما يوهي العزيمة ويحط الجسم، ليعمل جاهدا على كسب المزيد من القوة لجسمه، فلا يكتفي بالأسلوب الحياتي الصحي الذي رسمه لنفسه، بل يزاول الرياضة المدروسة التي تناسب جسمه وعمره ووضعه الاجتماعي، وتهب جسمه قوة ونشاطا وحيوية ومناعة من العلل والأمراض، ويضع لذلك مواعيد ¬

_ (¬1) الكنز 8/ 47. وانظر المقال القيم في مضار الشبع المفرط على الجسم والعقل والنفس للدكتور الطبيب محمد ناظم نسيمي في مجلة حضارة الإسلام، العددين: 5، 6 من السنة: 15.

نظيف الجسم والثياب

لا تخلف، لتؤتي هذه التمارين أكلها، وتعطي نتاجها الطيب لجسمه، كل ذلك باعتدال وتوازن ونظام اتسم به المسلم الحق الواعي في كل زمان ومكان. نظيف الجسم والثياب: والمسلم الذي يريده الإسلام شامة بين الناس نظيف جدا، نظيف في جسمه، يستحم كثيرا، وفي فترات متقاربة مستجيبا في ذلك لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي حث على الاغتسال الكامل والتطيب، وبخاصة يوم الجمعة، فقال: ((إغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم، وإن لم تكونوا جنبا، وأصيبوا من الطيب)) (¬1). وبلغ من شدة حضه على النظافة بالاستحمام أن بعض الأئمة ذهب إلى أن الاغتسال واجب لصلاة الجمعة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما. يغسل فيه رأسه وجسدها (¬2). والمسلم الحق نظيف في ثوبه وجوربه، يتفقد ثيابه وجوربه بين الحين والحين، فلا يرضى أن تفوح من أردانه أو قدميه رائحة منفرة، ويستعين على ذلك بالطيب أيضا، فلقد حكي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: ((من أنفق ثلث ماله في الطيب ما كان مسرفا)). ويتعهد المسلم الواعي فمه، فلا يشم أحد منه رائحة مؤذية، وذلك بتنظيف أسنانه يوميا بالسواك والفرشاة والمطهرات والمنظفات، ويتفقد فمه، فيعرضه على طبيب الأسنان مرة في كل سنة على الأقل، وعلى غيره من أطباء ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) متفق عليه.

الفم والحنجرة والبلعوم، إن احتاج الأمر إلى ذلك، بحيث يبقى فمه نقيا معطر الأنفاس. تروي السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((كان لا يرقد ليلا ولا نهارا، فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ، (¬1). وتبلغ عناية الرسول الكريم بنظافة الفم حدا يجعله يقول: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) (¬2). وسئلت السيدة عائشة عن أي شيء يبدأ به الرسول الكريم إذا دخل بيته، فقالت: ((السواك)) (¬3). إنه لمما يؤسف له أن نرى بعض المسلمين يهملون هذه الجوانب، وإنها لمن لب الإسلام وصميمه، فلا يعتنون بنظافة أفواههم وأبدانهم وملابسهم، فتراهم يغشون المساجد وغيرها من مجالس الذكر وحلقات الدرس والمذاكرة، وروائحهم البشعة تؤذي إخوانهم الحاضرين، وتنفر الملائكة التي تحف هذه الأماكن الجليلة المباركة. ومن عجب أنهم يسمعون ويرددون قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن أكل ثوما أو بصلا أو كراثا، ألا يقرب المساجد لكيلا يؤذي برائحة فمه الملائكة والناس: ((من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأدى مما يتأدى منه بنو آدم)) (¬4). لقد حظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الذين أكلوا بعض البقول ذات الرائحة الخبيثة الاقتراب من المسجد، لئلا تتاذى الملائكة والناس من أنفاسهم ¬

_ (¬1) حديث حسن، رواه أحمد وأبو داود. (¬2) رواه الشيخان. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه مسلم.

المشبعة بتلك الرائحة، ولعمري إنها لأهون شانا وأخف وقعا على النفس من كثير من روائح الملابس والجوارب المتسخة، والأبدان القذرة المنتنة، والأفواه البخر، التي تفوح من بعض الأفراد المتساهلين أو الغافلين عن النظافة، فيتأدى الناس منها في مجامعهم. وروى الإمام أحمد والنسائي عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرا، فرأى رجلا عليه ثياب وسخة، فقال: ((ما كان يجد هذا ما يغسل به ثوتة؟)). لقد أنكر الرسول الكريم أن يظهر الإنسان على الملأ بثياب وسخة ما دام قادرا على غسلها وتنظيفها، إشعارا منه، صلوات الله عليه، للمسلم بأن يكون دوما نظيف الثياب، حسن المظهر، محبب المنظر. وكان يقول: ((ما على أحدكم إن وجد أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)) (¬1). إن الإسلام ليحض أبناءه جميعا في عديد من النصوص على النظافة؛ فهو يريد منهم أن يكونوا نظيفين دوما، تفوح ثيابهم بالطيب، وتفوح من أجسامهم الروائح النظيفة العطرة الزكية. وهذا ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام مسلم بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنهما، قال: ((ما شممت عنبرا قط، ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). والأحاديث والأخبار في نظافة جسمه وملابسه، وطيب ريحه وعرقه، - صلى الله عليه وسلم -، كثيرة مستفيضة. منها: أنه كان إذا صافح المصافح، ظل يومه يجد ريح الطيب في يده، وإذا وضع يده على رأس الصبي، عرف من بين ¬

_ (¬1) رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح.

الصبيان بالرائحة الزكية. وذكر البخاري في تاريخه الكبير عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يمر في طريق، فيتبعه أحد، إلا عرف أنه سلكه من طيبه. ونام مرة في دار أنس، فعرق، فجاءت أم أنس بقارورة تجمع فيها عرقه، فسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقالت: هذا عرقك، نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب (¬1). ألا ما أحوج المسلمين إلى قبسات من هدي هذا الرسول العظيم!. ومن هدي هذا الرسول العظيم أمره - صلى الله عليه وسلم - برعاية الشعر وإصلاحه وتجميله التجميل المشروع في الإسلام؛ وذلك في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان له شعر فليكرمه)). وإكرام الشعر في الذوق الإسلامي يكون بتنظيفه وتمشيطه وتطييبه وتحسين شكله وهيئته. وقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدع الإنسان شعره مرسلا مهملا شعثا منفوشا، بحيث يبدو للأعين كأنه الغول الهائج، وشبهه لقبح منظره بالشيطان، وذلك في الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ مرسلا عن عطاء بن يسار، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه الرسول بيده، كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته، ففعل ثم رجع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم وهو ثائر الرأس، كأنه شيطان؟!)). وواضح أن في تشبيه الرسول الكريم الرجل المنتفش الشعر بالشيطان ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

حسن الهيئة

تعبيرا عن شدة عناية الإسلام بحسن المنظر وجمال الهيئة، وإنكاره التبذل وقبح المظهر. ولقد كان الرسول الكريم دائم التنبيه إلى هذه الملاحظ الجمالية في هيئة الإنسان، ما رأى رجلا زري الهيئة، مهملا ترجيل شعره إلا أنكر عليه إهماله وتقصيره وزرايته بنفسه. روى الإمام أحمد والنسائي عن جابر رضي الله عنه، قال: ((أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرا، فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره، فقال: ((ما كان يجد هذا ما يسكن به رئسه؟!)). حسن الهيئة: والمسلم الحق يعنى بلباسه وهندامه؛ لذلك تراه حسن الهيئة، أنيق المظهر، من غير مغالاة ولا سرف، ترتاح لمرآه العيون، وتأنس به النفوس، لا يغدو على الناس في هيئة مزرية قميئة مهلهلة، بل يتفقد نفسه دوما قبل خروجه على الناس، فيتجمل لهم باعتدال؛ فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجمل لأصحابه، فضلا عن تجمله لأهله. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}: (روى مكحول عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء، ويسوي لحيته وشعره. قالت عائشة: فقلت له: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه، فليهيىء من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال)). والمسلم يفعل هذا كله وفق نظرية الإسلام الوسط في الأمور كلها،

وهي نظرية الاعتدال التي لا إفراط فيها ولا تفريط: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬1). لقد أراد الإسلام لأبنائه ودعاته على وجه الخصوص أن يغشوا المجتمعات، وهم شامات مشتهاة، لا مناظر مؤذية تقتحمها الأعين وتصد عنها النفوس؛ فليس من الإسلام في شيء أن يسف الإنسان في مظهره إلى درجة الإهمال المزري بصاحبه، بدعوى أن ذلك من الزهد والتواضع؛ فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو سيد الزهاد والمتواضعين، كان يلبس اللباس الحسن، ويتجمل لأهله وأصحابه، ويرى في هذا التجمل وحسن الهندام إظهارا لنعمة الله عليه: ((إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) (¬2). وفي طبقات ابن سعد (¬3): عن جندب بن مكيث رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر علية أصحابه بذلك، فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قدم وفد كندة، وعليه حلة يمانية، وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مثل ذلك)). وأخرج ابن المبارك والطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن عمر رضي الله عنه قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا بثياب جدد، فلبسها، فلما بلغت تراقيه قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي)) (¬4). وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يلبس البرد أو الحلة تساوي خمسمئة أو أربعمئة (¬5). ¬

_ (¬1) الفرقان:68. (¬2) حديث حسن، رواه الترمذي والحاكم. (¬3) 4/ 346. (¬4) انظر الترغيب والترهيب 3/ 93 كتاب اللباس والزينة. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 131.

واشترى ابن عباس رضي الله عنه ثوبا بألف درهم فلبسه (¬1). وما دام التجمل لا يبلغ حد التأنق المفرط، فهو من الزينة الطيبة التي أباحها الله لعباده وحض عليها: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬2) وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة- يعني: أيعد هذا من الكبر؟ - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق (¬3)، وغمط الناس)) (¬4). وهذا ما فهمه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان وساروا عليه. ومن هنا كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه حسن الهيئة والثياب، طيب الريح، حريصا على دوام التأنق في الملبس، بلغ من حرصه على إصلاح الشأن وتحسين الثياب والهندام أنه كان يحث الناس على ذلك، ويبالغ في حثهم على إصلاح هيئتهم، ولقد رأى ذات يوم أحد جلسائه في ثياب رثة، فانفرد به وقدم إليه ألف درهم ليصلح بها هيئته، فقال له الرجل: إني موسر، وفي نعمة، ولا أحتاج إليها، فقال له أبو حنيفة معاتبا: أما بلغك الحديث: ((إن الله يجب أن يرى أثر نعمته على عبده؟)) فينبغي لك أن تغير حالك، حتى لا يغتم بك صديقك. ¬

_ (¬1) الحلية 1/ 321. (¬2) الأعراف: 32 - 33. (¬3) أي أن يتكبر الرجل على الحق فلا يقبله. (¬4) أي احتقارهم والاستهانة بهم.

وبدهي أن الدعاة إلى الله ينبغي أن يكونوا أحسن هيئة، وأجمل مظهرا، وأتم أناقة، وأكثر جاذبية من غيرهم، ليكونوا أقدر على التغلغل في مسارب القلوب، والوصول بدعوتهم إلى دخائل النفوس. بل إنهم لمطالبون دون غيرهم بأن يكونوا كذلك، وإن لم يظهروا على الناس؛ فالدعاة إلى الله ينبغي أن يعنوا بهيئاتهم ونظافة أبدانهم وثيابهم وأظافرهم وشعورهم، ولو كانوا في خلوة مع أنفسهم، مستجيبين بذلك لنداء الفطرة السليمة التي أخبر بها وبمستلزماتها الرسول الكريم في قوله: ((خمس من الفطرة: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب)) (¬1). فرعاية جمال الفطرة الإنسانية مما حبب به هذا الدين، ورغب فيه كل ذي طبع راق وذوق سليم. على أن هذه العناية بالمظهر لا تنزلق بالمسلم الحق الصادق إلى المغالاة في التزين، والإفراط في التأنق، إلى حد يختل فيه التوازن الذي أقام الإسلام عليه تشريعاته جميعا؛ فالمسلم الواعي يقظ متنبه دوما إلى الاعتدال في كل شيء، بحيث لا يطغى جانب في حياته على جانب. ولا يغيب عن باله أن الإسلام الذي حض على التزين والاهتمام بالمظهر وأخذ الزينة عند كل مسجد، هو هو الذي حذر من الإفراط والمبالغة في الزينة، بحيث تستعبد الإنسان في هذه الحياة، وتغدو شغله الشاغل وهمه الدائم الكبير، وذلك في الحديث الشريف القائل: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة (¬2) والخميضة (¬3)، إن أعطي ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. (¬2) القطيفة: الثوب الذي له خمل. (¬3) الخميصة: الكساء المربع من خز أو صوف.

ب - عقله

رضي، وإن لم يعط لم يرضى)) (¬1). ولا ريب أن الدعاة إلى الله في منجاة من هذا المنزلق وعصمة، بما أحاطوا به أنفسهم من هدي هذا الدين العظيم، وبأخذهم بنظرية الاعتدال والوسط التي جاءت بها تشريعاته السمحة الغراء. ب - عقله العلم عند المسلم فريضة وشرف: يعتقد المسلم أن تعهد العقل بالعلم، واستخدامه في الكشف عن آلاء الله في الكون فريضة؛ لقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -. ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) (¬2). ومن هنا كان فرضا عليه أن يقبل على تعهد عقله بالعلم والمعرفة تعهدا دائما، لا يقف ما دامت أنفاس الحياة تتردد في صدره، ونبضها يدفع الدم في عروقه. وحسب المسلم تشجيعا على طلب العلم أن الله تبارك وتعالى رفع من شأن العلماء، فخصهم بخشيته وتقواه، وجعل ذلك الشرف مقصورا عليهم دون سائر الناس، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬3). فما يخشى الله حق خشيته إلا الذين استنار فكرهم، وتجلت لهم قدرة الله وعظمته في خلق الكون والحياة والأحياء، وهم العلماء. ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) حديث حسن، رواه ابن ماجه. (¬3) فاطر: 28.

طلب العلم مستمر حتى الممات

ثم فضلهم على غير العالمين بقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬1). وجاء صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في المسجد، فقال له: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم، فقال: ((مرحبا بطالب العلم، إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب)) (¬2). والنصوص والشواهد على فضل العلم والترغيب في طلبه كثيرة. ومن هنا كان المسلم الحق عالما أو متعلما، وليس غير. طلب العلم مستمر حتى الممات: وليس التعلم الحق أن تحصل على شهادة عالية، تحقق لك المورد المالي الثر، وتضمن العيش الرضي الخفض، ثم تطوي كشحك عن المطالعة أو الاستزادة من كنوز المعرفة، بل التعلم الحق أن تستمر في مطالعاتك، وتزداد كل يوم علما، عملا بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬3). وقد كان سلفنا الصالح مهما عظمت منزلتهم العلمية لا يكفون عن الاستزادة من التعلم ومتابعة التحصيل حتى آخر العمر، ويرون أن العلم يحيا وينمو بالمتابعة، ويذبل ويجف بالهجر والآنقطاع، ولهم في ذلك أقوال رائعة تدل على احترامهم وتقديرهم للعلم، وحرصهم على متابعته، والنهل المستمر من مناهله العذبة. ¬

_ (¬1) الزمر:9. (¬2) رواه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح. (¬3) طه: 113.

ومن هذه الأقوال الرائعة ما رواه الإمام ابن عبد البر عن ابن أبي غسان، قال: ((لا تزال عالما ما كنت متعلما، فإذا استغنيت كنت جاهلا)) (¬1). وقال الإمام مالك رضي الله عنه: لا ينبغي لأحد يكون عنده العلم أن يترك التعلم)) (¬2). وقيل للإمام عبد الله بن المبارك: ((إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات، ولعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد)) (¬3). وسئل الإمام أبو عمرو بن العلاء، فقيل له: ((حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ فقال: ما دام تحسن به الحياة)) (¬4). وما أجمل جواب الإمام سفيان بن عيينة حين قيل له: من أحوج الناس إلى طلب العلم؟ فقال: ((أعلمهم، قيل: ولماذا؟ قال: لأن الخطأ منه أقبح)) (¬5). وهذا الإمام فخر الدين الرازي المفكر الكبير، ذو التصانيف الكثيرة، والمتفرد بالإمامة في عصره بعلم الكلام والمعقولات وغيرها من العلوم، المتوفى سنة 606، قد آتاه الله من الشهرة العلمية وبعد الصيت ما جعل العلماء يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب، في كل بلدة زارها أو مدينة دخلها. ولما ورد هذا الإمام مدينة مرو، توافدت عليه جموع العلماء والطلبة ليأخذوا عنه، ويعتزوا بالآنتساب إلى التلقي منه، وكان في جملة جموع الطلبة الذين يحضرون مجالسه طالب أديب عالم بالأنساب، لا يبلغ العشرين ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/ 96. (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق.

من العمر، فلما آنس الإمام فخر الدين الرازي من هذا الطالب تمكنه من علم الأنساب، وكان الإمام فخر الدين لا يحسن هذا العلم، طلب من تلميذه هذا أن يعلمه إياه، ولم يجد كضاضة من التتلمذ عليه، فأجلسه مجلس الأستاذ، وجلس هو بين يديه، فكان هذا وسام تواضع ورفعة ازدانت به سيرة الإمام فخر الدين الرازي، وما نقص ذلك من مقامه العظيم، وهو إمام عصره. وقد روى هذه الواقعة النادرة المؤرخ الأديب ياقوت الحموي في كتابه ((معجم الأدباء)) في ترجمته عزيز الدين إسماعيل بن الحسن المروزي النسابة الحسيني، ولقد لقيه ياقوت وعاشره وصاحبه وترجم له ترجمة وافية، وقال في ترجمته: ((حدثني عزيز الدين قال: ورد الإمام فخر الدين الرازي إلى مرو، وكان من جلالة القدر، وعظيم الذكر، وضخامة الهيبة، بحيث لا يراجع في كلامه، ولا يتنفس أحد بين يديه لإعظامه، على ما هو مشهور متعارف، فدخلت إليه، وترددت للقراءة عليه، فقال لي يوما: أحب أن تصنف لي كتابا لطيفا في أنساب الطالبيين لأنظر فيه، فلا أحب أن أكون جاهلا به، فقلت له: أتريده مشجرا (¬1) أم منثورا؟ فقال: المشجر لا ينضبط بالحفظ، وأنا أريد شيئا أحفظه، فقلت: السمع والطاعة. ومضيت، وصنفت له الكتاب الذي سميته بالفخري، وجئته به، فلما وقف عليه، نزل عن طراحته (¬2)، وجلس هو على الحصير، وقال لي: اجلس على هذه الطراحة، فأعظمت ذلك، وقلت له: أنا خادمك، فانتهرني نهرة مزعجة، وزعق علي، وقال: اجلس بحيث أقول لك، فتداخلني - علم الله- من هيبته ما لم أتمالك إلا أن جلست حيث أمرني. ثم أخذ يقرأ علي ذلك الكتاب، وهو جالس بين يدي، ويستفهمني عما يستغلق عليه إلى ¬

_ (¬1) أي أن يكون كتاب الأنساب على هيئة شجرة. (¬2) أي وسادته التي كان يجلس عليها حين الدرس.

ما ينبغي للمسلم إتقانه

أن أنهاه قراءة. فلما فرغ منه قال لي: اجلس الآن حيث شئت، فإن هذا علم، أنت أستاذي فيه، وأنا أستفيد منه، وأتتلمذ عليك، وليس من الأدب أن يجلس التلميذ إلا بين يدي الأستاذ فقمت من مقامي، وجلس هو في منصبه، ثم أخذت أقرأ عليه، وأنا جالس بحيث كان أولا)). وقال ياقوت بعد إيراده هذا الخبر: ((وهذا لعمري من حسن الأدب حسن، ولا سيما من مثل ذلك الرجل العظيم المرتبة)). ألا ما أحب العلم إلى قلوب هؤلاء العلماء! وما أجله في نفوسهم! وما أرفعه في أعينهم! وما أحرج الخلف إلى الاقتداء بهذا السلف العظيم! ما ينبغي للمسلم إتقانه: وأول ما ينبغي للمسلم أن يتقنه من العلم كتاب الله تعالى: تلاوة، وتجويدا، وتفسيرا. ثم يلم بعلوم الحديث، والسيرة وأخبار الصحابة والتابعين من أعلام الإسلام، ويطلع من الفقه على ما يلزمه لإقامة عباداته ومعاملاته، ومعرفة أحكام دينه على أساس قويم. هذا، إذا كان المسلم مختصا في غير علوم الشريعة. أما إذا كان مختصا في علم من علوم الشريعة، فينطبق عليه ما ينبغي للمسلم الحق أن يحققه في مجال اختصاصه عن إتقان ودقة ونجاح. ومن نافلة القول أن يكون المسلم متقنا اللغة العربية، متمكنا منها. يتقن ما تخصص به: ويلتفت المسلم الواعي بعد ذلك إلى اختصاصه، فيهبه كل طاقاته، ويمنحه جل اهتماماته، ويقبل عليه إقبال المسلم المعتقد أن عمله في دائرة اختصاصه فريضة، سواء أكان اختصاصه في علم من علوم الشريعة والدين، أم في علم من علوم الدنيا، كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والهندسة والفلك والطب والصناعة والتجارة وغيرها، ومن هنا يتوجب عليه أن يتقن العلم الذي

يفتح نوافذ على فكره

اختص فيه كل الإتقان، فلا يدخر وسعا في الإحاطة بكل ما كتب عنه في شتى اللغات إن استطاع، ويبقى دوما يرفد عقله بالجديد من مستحدثات ذلك العلم، بالمطالعة الدائبة، والاطلاع المستمر، في شتى وجوهه وألوانه. ذلك أن المسلم الواعي الحق في هذا العصر هو الذي يحقق نجاحا علميا عاليا، يكسبه في أعين الناس مهابة وإجلالا وتقديرا، ويرفعه إلى أعلى مراتب المجد والشرف والتكريم، وترتفع بارتفاعه دعوته إلى الشأو الذي بلغه، ما دام يمثلها في إخلاصه وجده ودأبه، وما دام ينطلق من الروح التي أشاعها الإسلام في جو العلم، إذ جعله فريضة، يتقرب بها فاعلها إلى الله، ويتخذ من العلم وسيله لمرضاته. ومن هنا كنا نجد علماء السلف يحرصون في مقدمات كتبهم على تأكيد هذه المعاني السامية؛ ذلك أنهم كانوا يبتغون من العلوم التي أفنوا أعمارهم في نشرها مرضاة الله عز وجل، مقدمين ثمرات قرائحهم خالصة لوجهه الكريم. يفتح نوافذ على فكره: ولا يكتفي المسلم الواعي الحصيف بدائرة اختصاصه، بل يفتح نوافذ على فكره وعقله، فيقرأ شتى الكتب والمجلات العلمية والأدبية والثقافية في مختلف العلوم والفنون النافعة، وبخاصة القريبة منها إلى دائرة اختصاصه، فيأخذ بذلك من كل لون من ألوان المعرفة بطرف، ينشط بها ذهنه، ويوسع أفقه، وينمي ملكاته العقلية. يتقن لغة أجنبية: ولا ينسى أن يكون لبعض اللغات الأجنبية من اهتمامه نصيب، فاللغة الأجنبية في هذا العصر من ألزم مستلزمات الثقافة للمسلم النابه النشيط المتفهم متطلبات الحياة الإسلامية المحاصرة. وإن للمسلم الواعي من هدي دينه العظيم خير مشجع على إتقان اللغة

ج - روحه

الأجنبية؛ ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى تعلم اللغات الأجنبية منذ خمسة عشر قرنا، ليكون المسلمون دوما قادرين على الاتصال بشتى الأمم والأجناس، ودعوتها إلى الحق الذي كلفهم الله بحمله إلى العالمين. نرى مصداق ذلك فى الحديث الذي رواه زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((يا زيد، تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي))، قال زيد: فتعلمته، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كتب إليهم، وأقرأ كتبهم إذا كتبوا إليه وفي رواية: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتحسن السريانية؟ فإنها تأتيني كتب))، قلت: لا، قال: ((فتعلمها))، فتعلمتها (¬1). ومن هنا كان ابن الزبير رضي الله عنه يتقن عددا من اللغات دون أن تشغله هذه اللغات عن دينه ودخرته، فقد كان له مئة غلام يتكلم كل غلام فيهم بلغة أخرى، وكان ابن الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته، وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت: هذا رجل لم يرد الله طرفة عين، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت: هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين (¬2). والمسلم المعاصر مطالب أكثر من أي وقت مضى بإتقان بعض اللغات الأجنبية، ليعيش عصره، ويطلع على الجوانب الإيجابية والسلبية مما يتصل بثقافة أمته وتراثها ودينها فيما كتب بغير لغته، ليكون درعها الواقي يدرأ عنها الشر، ولسانها الأمين يجلب إليها الخير. ج - روحه لا ينسى المسلم الحق، وهو يتعهد نفسه، ويبني كيانه الجسمي والعقلي، أنه ليس مكونا من جسم وعقل فحسب، وإنما يدرك أن له قلبا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 549، وأبو نعيم في الحلية 1/ 334.

يصقل روحه بالعبادة

يخفق، وروحا تهفو، ونفسا تحس، وأشواقا عليا تدفعه إلى السمو والاستغراق في عالم العبادة، والتطلع إلى ما عند الله من نعيم، والخشية مما لديه من أنكال وجحيم. يصقل روحه بالعبادة: ومن هنا كان لزاما على المسلم أن يعنى بروحه، فيقبل على صقلها بالعبادة والمراقبة لله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار، بحيث يبقى يقظا متنبها، متقيا أحابيل الشيطان الماكرة، ووسوساته المردية. فإذا مسه طائف من الشيطان في لحظة من لحظات الضعف البشري، هزته الذكرى، فارتد بصيرا متيقظا تائبا مستغفرا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (¬1). ولهذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لأصحابه: ((جددوا إيمانكم)). قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: ((أكثروا من قول لا إله إلا الله)) (¬2). والمسلم يستعين على تقوية روحه وإصلاح نفسه بضروب من العبادة يقوم بها لله طائعا مخبتا قانتا، كتلاوة القرآن في أناة وتدبر وخشوع، والذكر في إخبات وحضور قلب، والصلاة القويمة المستكملة شروط الصحة والخشوع وحضور الذهن، وغير ذلك من ألوان العبادة والرياضة الروحية، مدربا نفسه على القيام بهذه الطاعات، بحيث تصبح ديدنه وعاداته وسجاياه التي لا فكاك له عنها ولا انفصام. وبذلك ترهف نفسه، ويرق شعوره، وتتيقظ حواسه، فإذا هو في غالب الأحيان يقظ، متنته، مراقب لله في السر ¬

_ (¬1) الأعر اف: 201. (¬2) وراه أحمد بسند جيد.

يلزم الرفيق الصالح ومجالس الإيمان

والعلانية، مستحضر خشية الله ومراقبته إياه في تعامله مع الناس، لا يجور، ولا يحيد عن الحق، ولا ينحرف عن جادة السبيل. يلزم الرفيق الصالح ومجالس الإيمان: ويستعين المسلم أيضا على بلوغ هذا المرتقى الصعب بالرفيق الصالح الذي يتواصى وإياه بالحق، ويتواصيان بالصبر، وبالإكثار من مجالس الإيمان الروحية التي يكثر فيها ذكر الله، وتدور فيها الأحاديث عن الإسلام وعظمته في تربية الفرد والأسرة والمجتمع، ويتملى فيها الحاضرون قدرة الله العظيم القهار الجبار الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ويستعرضون فيها عظيم خلقه وبديع صنعه في الكون والحياة والإنسان؛ ففي مثل هذه المجالس تزكو الروح، وتصقل النفس، ويصفو القلب، وتخالط كيان الإنسان كله بشاشة الإيمان. ولهذا كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تعال نؤمن بربنا ساعة))، ويبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: ((يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة)) (¬1). وكان الخليفة الراشد سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه ينتزع نفسه من شواغل الخلافة وأعباء الحكم، ويأخذ بيد الرجل والرجلين، فيقول: ((قم بنا نزداد إيمانا))، فيذكرون الله عز وجل (¬2). لقد كان عمر رضي الله عنه يحس، وهو من هو تقى وصلاحا وحسن عبادة، الحاجة إلى جلاء النفس بين الحين والحين، فيختلس هذه الساعة من أوهاق الدنيا وضرورات الحياة، ليفرغ فيها إلى ترويح قلبه، وجلاء نفسه، ¬

_ (¬1) وراه أحمد بإسناد حسن. (¬2) حياة الصحابة 3/ 329.

يكثر من ترديد الصيغ والأدعية المأثورة

وتصفية روحه. وكذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لأصحابه، وهم يمشون: ((اجلسوا بنا نؤمن ساعة)) (¬1). إن المسلم مسؤول عن تقوية روحه وتزكية نفسه، ودفعها دوما إلى أعلى، وحمايتها أبدا من الارتكاس إلى أدنى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬2). ومن هنا كان المسلم مطالبا بأن يحسن اختيار الأخلاء والبيئات التي لا تزيده إلا إيمانا وصلاحا وتقوى وتبصرة، وأن يعرض عن رفاق السوء من شياطين الإنس، وعن مجالس الفحش والمعصية التي تظلم فيها النفس ويصدأ القلب: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬3). يكثر من ترديد الصيغ والأدعية المأثورة: ومما يستعين به المسلم على تقوية روحه وربط قلبه بالله، ترديده الصيغ المأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل عمل من الأعمال التي ورد فيها للرسول الكريم دعاء. فلقد كان له في الخروج من البيت دعاء، وللدخول فيه دعاء، ¬

_ (¬1) حياة الصحابة 3/ 329. (¬2) الشمس:7 - 10. (¬3) الكهف: 28.

ولوداع المسافر دعاء، ولاستقباله دعاء، وللبس الثوب الجديد دعاء، وللاضطجاع في الفراش دعاء، وللاستيقاظ من النوم دعاء ... وهكذا لم يكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم بعمل إلا وكان له فيه دعاء، يتوجه به لله تعالى أن يلهمه القصد، ويجنبه العثار، ويلطف به، ويكتب له الخير، مما هو مبسوط في كتب الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وكان يعلم الصحابة الكرام هذه الأدعية والأذكار، ويحضهم على قولهم في أوقاتها. والمسلم التقي الواعي يحرص على تعلم هذه الصيغ المأثورة الرائعة، تأسيا بالرسول الكريم وصحبه الأبرار، ويثابر على تردادها في أوقاتها ومناسباتها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وبذلك يبقى قلبه موصولا بالله عز وجل، وتزكو نفسه، وتسمو روحه، ويرهف وجدانه. بهذه الرياضة الروحية راض الرسول الكريم أرواح الجيل الأول من الصحابة الغز الميامين، وصقل نفوسهم، فإذا هي متألقة صافية مجلوة، لا غبش فيها ولا كدر ولا دخل، فحقق بهم معجزة الإسلام الكبرى في إيجاد الجيل المهذب الراقي الفريد في حياة الإنسانية، الذي صنع المعجزات في سنوات معدودات. والمسلم الصادق الحق مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أن يروض جناح روحه على التحليق والارتفاع إلى هذا الأفق الوضيء السامي، ليكون على مستوى دعوته، وما تتطلبه من أعباء باهظة ومسؤوليات جسام. ... ¬

_ (¬1) انظر كتاب الأذكار للنووي، والمأثورات لحسن البنا.

المسلم مع والديه

3 - المسلم مع والديه بر بهما: إن من أبرز صفات المسلم الحق البر بالوالدين والإحسان إليهما؛ ذلك أن البر بالوالدين أمر من أجل الأمور التي حض عليها الإسلام، وأكدتها نصوصه القاطعة الحاسمة. والمسلم الواعي المتمثل هذه النصوص الوفيرة التي استفاضت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلها يدعو إلى البر بالوالدين وحسن مصاحبتهما، لا يسعه إلا أن يكون البر بالوالدين سجية من ألزم سجاياه، وخليقة من أبرز خلائقه. عارف قدرهما وما يجب عليه نحوهما: لقد رفع الإسلام مقام الوالدين إلى مرتبة لم تعرفها الإنسانية في غير هذا الدين؛ إذ جعل الإحسان إليهما والبر بهما في مرتبة تلي مرتبة الإيمان بالله والعبودية له. فقد جاءت آيات الله تترى متضافرة متعاقبة تضع مرضاة الوالدين بعد مرضاة الله، وتعد الإحسان إليهما فضيلة إنسانية تلي فضيلة الإيمان به: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬1). ¬

_ (¬1) النساء: 36.

ومن هنا كان المسلم الصادق الواعي أبر بوالديه من أي إنسان في الوجود. ويسمو القرآن الكريم في تصوير مكانة الوالدين، وبسط الأسلوب الخلقي الراقي الذي ينبغي للمسلم أن يتبعه في معاملة والديه، إن تنفس بهما أو بأحدهما العمر، وبلغا مرحلة الهرم والشيخوخة والعجز، فيصل إلى الغاية التي ما عرفتها الإنسانية قبل أن تسطع شمس هذا الدين على الأرض: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬1). إنه الأمر الرباني الخالد للمسلم في صورة قضاء حتمي، لا فكاك منه ولا معدل عنه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وإنه للربط المحكم بين عبادة الله وبر الوالدين، وفي ذلك رفع لقيمة الوالدين وإعلاء لشأنهما إلى حد لم يستطع الحكماء والمصلحون وعلماء الأخلاق بلوغ شأوه في يوم من الأيام. ولا يكتفي سياق الآية برسم هذه الصورة الوضيئة السامية لبر الوالدين، بل يستجيش وجدان الرحمة والعطف والبر في نفوس الأبناء في تعبير وجداني رقيق ودود، يقطر رقة وسلاسة وأنسا: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا}، فهما إذا (عندك) في رعايتك وحمايتك وحفظك، وقد يكونان شيخين هرمين ضعيفين، فحذار حذار أن تنذ منك كلمة تذمر أو تململ أو ضيق: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، بل يجب عليك أن تفكر طويلا في الكلمة الطيبة توجهها إليهما ليطيبا بها نفسا، ويقرا عينا: {وَقُلْ ¬

_ (¬1) الإسراء: 23.

لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، ولتكن وقفتك بين أيديهما وقفة الاحترام البالغ والتقدير المتناهي، الشبيه بوقفة التذلل والاستسلام والخضوع: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، ولينطبق لسانك لاهجا بالدعاء لهما على ما أسديا لك من يد لا تنسى، إذ ربياك صغيرا قاصرا ضعيفا: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. والمسلم المفتوح القلب، المنور البصيرة، يتلقى دوما مثل هذا الإيقاع الرباني الجميل في عدد من آياث الله البينات، فيزداد لوالديه احتراما، وبهما برا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬1). {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (¬2). {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} (¬3). والباحث المثأمل في النصوص الواردة في بر الوالدين، يجد الأحاديث الشريفة تترى مواكبة الآيات الكريمة، مؤكدة فضل بر الوالدين، محذرة من عقوقهما أو الإساءة إليهما مهما تكن الأسباب: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبى - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاه على وقتها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) (¬4). لقد جعل الرسول المربي العظيم بر الوالدين بين أعظم عملين في ¬

_ (¬1) النساء: 36. (¬2) العنكبوت: 8. (¬3) لقمان:14. (¬4) متفق عليه.

الإسلام: الصلاة على وقتها، والجهاد في سبيل الله. والصلاة عماد الدين، والجهاد ذروة سنام الإسلام. فأي مقام كريم جليل أحل الرسول الوالدين؟!. ويأتي الرسول الكريم رجل يبايعه على الهجرة والجهاد يبتغي الأجر من الله تعالى، فيتريث في قبوله، ويسأله: ((فهل من والديك أحد حي؟))، فيقول الرجل: نعم، بل كلاهما، فيقول الرسول الكريم: ((فتبتغي الأجر من الله تعالى؟!))، فيجيبه الرجل: نعم، فيقول الرسول البر الرحيم: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) (¬1). وفي رواية للشيخين: جاء رجل فاستأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد، فقال: ((أحي والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)). لم يفت الرسول القائد، وهو يعبىء كتائب الجيش للجهاد، أن يذكر بقلبه الإنساني الرقيق ضعف الوالدين وحاجتهما لابنهما، فيصرف هذا المتطوع للجهاد عن التطوع، ويلفته برفق إلى العناية بوالديه، وإنه لفي حاجة إلى كل ساعد يضرب بالسيف آنذاك، تقديرا منه - صلى الله عليه وسلم - لخطورة البر بالوالدين وحسن القيام على شؤونهما في منهج الإسلام الكامل المتوازن الفريد الذي رسمه الله لسعادة الإنسان. ولما أنكرت أم سعد بن أبي وقاص عليه إسلامه، وقالت له: إما أن ترجع عن إسلامك وإما أن أضرب عن الطعام حتى أموت، فتكسب معرة العرب، إذ سيقولون: قاتل أمه، أجابها سعد: تعلمين والله لو كان لك مئة نفس، وخرجت نفسا نفسا ما رجعت عن إسلامي. وصبرت أمه يوما فيومين، وفي اليوم الثالث أجهدها الجوع فطعمت، وأنزل الله تعالى قرآنا تلاه الرسول على المسلمين فيه عتاب لسعد على شدته مع أمه في جوابه لها: ¬

_ (¬1) متفق عليه.

بر بهما ولو كانا غير مسلمين

{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (¬1) وفي قصة جريج العابد عبرة بالغه في أهمية بر الوالدين والمسارعة في طاعتهما، إذ نادته أمه وهو يصلي، فقال: رب، أير أم صلاتي؟ واختار صلاته. ونادته ثانية، فلم يجبها وبقي في صلاته، ونادته ثالثة، فلما لم يجبها دعت عليه ألا يميته الله حتى يريه وجوه المومسات. وزنت مومس براع فحملت منه. فلما خشيت انفضاح أمرها قال لها الراعي: إن سئلت عن أبي المولود فقولي: جريج العابد، فقالت. وهب الناس يخربون صومعة جريج، واقتاده الحاكم للساحة، فبينما هو في الطريق تذكر دعاء أمه فتبسم. ولما قدم للعقاب استمهل حتى يصلي ركعتين، ثم طلب الغلام وهمس بأذنه: من أبوك؟ فقال: أبي فلان الراعي (¬2)، فهلل الناس وكبروا وقالوا: نعيد بناء صومعتك فضة وذهبا، فقال: لا، بل أعيدوها كما كانت من تراب وطين. وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان جريج فقيها لعلم أن إجابته والدته ألزم من استرساله في صلاته. ومن هنا رأى الفقهاء أن المرء إذا كان في صلاة النفل، وناداه أحد والديه فعليه أن يقطع صلاته ويجيبه. بر بهما ولو كانا غير مسلمين: ويسمو نبي الإسلام العظيم بتوجيهاته الكريمة إلى ذروة الإنسانية إذ يوصي ببر الوالدين والإحسان إليهما، ولو كانا على غير دين الإسلام، وذلك فيما حدثتنا به أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: قدمت علي أمي، وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) لقمان: 15. (¬2) هذا الغلام أحد الثلاثة الذين نطقوا في المهد، والآخران عيسى بن مريم، والغلام الذي كان مع أمه في أهل الأخدود.

كثير الخوف من عقوقهما

قلت: قدمت على أمي وهي راغبة (¬1)، أفأصل أمي؟ قال: ((نعم صلي أمك)) (¬2). إن المسلم الحق الواعي هذه التوجيهات القرآنية العالية، واللفتات النبوية السامقة، لا يسعه إلا أن يكون من أبر خلق الله بوالديه، وأحسنهم عشرة لهما، في كل حال وفي كل آن، وهذا ما كان عليه الصحابة ومن تبعهم بإحسان؛ فقد سأل رجل سعيد بن المسيب رضي الله عنه قائلا: لقد فهمت آية بر الوالدين كلها إلا قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، فكيف يكون القول الكريم؟ فأجابه سعيد: يعني خاطبهما كما يخاطب العبد سيدة. وكان ابن سيرين (رضي الله عنه) يكلم والدته بصوت ضعيف، كأنه صوت مريض إجلالا لها واحتراما. كثير الخوف من عقوقهما: ونحن إذا غادرنا هذه الصفحة المشرقة الوضيئة من التحبيب بالبر بالوالدين، وأدرنا الطرف بالصفحة المقابلة في التحذير من عقوقهما، رأيناها صفحة سوداء معتمة قاسية، تقرع قلب الولد العاق الصلد، وتهز ضميره من الأعماق. إنها لتجبه كل عاق لوالديه باقتران العقوق بالإشراك بالله، كما اقترن البر بهما هناك بالإيمان بالله، فإذا العقوق جريمة سوداء بشعة قاتمة، ينهلع لها لب المسلم الصادق، ويطير لها صوابه. إنها أكبر الكبائر، وأفدح الخطايا والذنوب: عن أبي بكرة نفيع بن الحارث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أنبئكم ¬

_ (¬1) أي طامعة فيما عندي تسألي شيئا. (¬2) متفق عليه.

يبر أمه ثم أباه

بأكبر الكبائر؟)) ثلاثا. قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) (¬1). يبر أمه ثم أباه: ولكيلا يختل التوازن عند الأبناء في بر أحد الوالدين على حساب الآخر، جاءت توجيهات الإسلام تشمل الوالدين كليهما، وتخص كلا من الأم والأب على انفراد. فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل الرجل الذي جاءه مبايعا على الجهاد كما رأينا آنفا: ((فهل من والديك أحد حي؟))، وهذا تقرير من الرسول الكريم بوجوب البر لكلا الوالدين على السواء. ورأينا أيضا في حديث أسماء أنه أمرها بصلة أمها المشركة. وجاءه رجل فسأله: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فأجابه الرسول الكريم: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) (¬2). ففي هذا الحديث تأكيد من الرسول الكريم على أن بر الأم مقدم على بر الأب، وكان الصحابة الكرام يؤكدون للمسلمين هذا المعنى بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إن ابن عباس رضي الله عنه، حبر الأمة وفقيهها، جعل بر الوالدة أقرب الأعمال إلى الله؟ فقد جاءه رجل فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها، فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت. قال عطاء بن يسار راوي هذا الحديث عن ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه.

ابن عباس: فذهبت، فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة (¬1). ولهذا رأينا الإمام البخاري في كتابه (الأدب المفرد) الذي صدره بباب بر الوالدين يقدم باب بر الأم على باب بر الأب، محققا بذلك التناسق والانسجام بين تبويبه هذا وما تضمن من هدي نبوي كريم. ولقد استثار القرآن مشاعر البر والعرفان في نفوس الأبناء، فوصى بالوالدين، ونوه بفضل الأم في الحمل والرضاعة، وما تكابد من مشاق ومتاعب في هاتين المرحلتين من مراحل الحياة في صورة لطيفة حانية، توحي بالبذل النبيل، والحنو المطلق، والانعطاف الرقيق: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ (¬2) وَفِصَالُهُ (¬3) فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (¬4). فيا للتربية العليا! ويا للتوجيه الإنساني الرحيم! {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}. فشكر الوالدين على ما أسديا للولد من خير يلي شكر الله عز وجل، رأس الفضائل والأعمال الصالحات. ويا للمنزلة الكريمة العليا التي أحلها هذا الدين الوالدين!. وقد تقبل الدنيا على الولد، وتدر عليه أخلاف الرزق، فتمتلئ خزائنه بالمال، وتشغله الزوجة الحسناء والفراخ الزغب، فينصرف عن العناية بوالديه، وينسى أباه وما أنفق في سبيله من مال، فيمسك يده عنه، فيبوء بغضب من الله. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) أي ضعفا على ضعف. (¬3) أي فطامه. (¬4) لقمان:14.

يبر أهل ودهما

ولكن المسلم الحق الصادق في نجوة من هذا كله، لأنه على اتصال دائم بالنبع الكريم الثر من توجيهات الإسلام العالية الحكيمة المسددة. إنه ليسمع هتاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - به: ((أنت ومالك لأبيك)) (¬1). فيهتز لهذا الأدب النبوي كيانه، وتتفتح لفيوض الهداية نفسه، فإذا هي تفيض بالبر والرعاية والحب والعطاء، وإذا هو في منجاة من العقوق وعصمة، وإذا هو حقا كما أراد له رسول الإسلام أن يكون: هو وماله لأبيه. يبر أهل ودهما: ولم تقتصر توجيهات هذا الدين الحنيف على بر الوالد، بل تعدتها إلى من يحب ويصفي الود. فعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه)). وفي رواية: ((إن من أبر البر صلة الرجل ود أبيه بعد أن يولي)) (¬2). وصادف عبد الله بن عمر رضي الله عنه صديقا لوالده عمر رضي الله ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد حسن. ونص الحديث: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا، وإن والدي يريد أن يجتاح مالي، فقال: ((أنت ومالك لأبيك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم)). وفي رواية الإمام احمد: ((فكلوه هنيئا)). وقد علق الإمام الخطابي على هذا الحديث بقوله: ((معنى يجتاح مالي: يستأصله فيأتي عليه، ويشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده ماله، إنما هو بسب النفقة عليه، وأن مقدار ما يحتاج إليه للنفقة عليه شيء كثير لا يسعه عفو ماله والفضل منه، إلا أن يجتاح أصله ويأتي عليه، فلم يعذره النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرخص له في ترك النفقة، وقال له: ((أنت ومالك لأبيك)) على معنى أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، وإذا لم يكن لك مال، وكان لك كسب، لزمك أن تكسب وتنفق عليه)). (¬2) رواه مسلم.

عنه، فبالغ في بره وإكرامه، فقال له بعض من معه: أما كان يكفيه أن يتصدق عليه بدرهمين؟ فقال ابن عمر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إحفظ ود أبيك، لا تقطعه فيطفىء الله نورك)) (¬1). وسأل رجل النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما؟ قال: ((نعم، خصال أربع: الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصحلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما)) (¬2). إنها لأعلى مراتب الحب والوفاء والبر والإجلال للوالدين أن يصل الولد أصدقاءهما في حياتهما وبعد مماتهما. والمسلم الحق الصادق يوطد دوما أواصر المودة والصلة والصداقة بأهل ودهما، ويبقى على حبه لهم وإجلاله إياهم بعد أن يلقى والداه وجه ربهما، فلا ينسى ذلك الود القديم، ولا يغفل عن تلك الوشيجة الإنسانية النبيلة التي أحكم نسجها والداه الحبيبان. وبمثل هذه المشاعر الإنسانية العالية، وذلك الود النبيل الخالص تجمل الحياة، ويهنأ الأحياء. وهذا كله منوط بوجود المسلم الصادق في هذه الحياة. إن الولد في الغرب لينفصل عن والديه متى بلغ سن الرشد، وتنفصل معه آصرة البنوة. فلا لقاء ولا رحمة ولا تعاطف مع أب أو أم. يسير الولد في طريقه، فلا يكاد يلتفت إلى الوراء يلقي نظرة ود ووفاء وإحسان إلى الجيل المضحي المدبر المردود إلى أرذل العمر، بعدما سكب عصارة عمره وقدم رحيق حياته لأبنائه المتفتحين للحياة. فأين هذا العقوق والجفاء والجفاف من الولد لوالديه في الغرب، من ذلك البر والمودة والوفاء والري العاطفي المتدفق من ابن الإسلام البار نحو والديه في حياتهما وبعد مماتهما، متصلا بأهل ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

أسلوبه في بره لهما

ودهما؟! ألا إنه الإسلام ومنهجه المتميز الفريد في صياغة النفوس وتقرير الأواصر الإنسانية النبيلة السامية التي ما وصل إليها نظام، ولا بلغ شأوها تشريع. أسلوبه في بره لهما: إن المسلم الذي صاغه الإسلام بحق إنسان بار بوالديه، يحيطهما بأجمل مظاهر الاحترام والتقدير، يقوم لهما إذا قدما على مجلسه، وينكب على أيديهما لثما وتقبيلا، يغض من صوته أمامهما تأدبا منه وإجلالا لهما، ويخفض لهما من جناحه، وينتقي العبارات المهذبة اللطيفة في حديثه معهما، فلا يجري على لسانه معهما لفظ ناب أو عبارة خشنة جارحة، ولا يبدو منه في تعامله معهما فعل عار عن أدب التوقير والتكريم والإجلال، مهما تكن الظروف والأحوال، مستهديا دوما بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬1). وقد يكون الوالدان منحرفين عن جادة الصواب، حائدين عن طريق الحق، فواجب الولد المسلم البار في مثل هذه الحالة أن يتأتى إليهما برفق وتؤدة ولباقة وسماحة، ليزحزحهما عن الباطل الذي يتمسكان به، لا يشتد، ولا يغلظ، ولا يقسو، ولا ينهر، بل يحاول إقناعهما بذكاء وتلطف، حتى يلفتهما إلى الحق الذي يؤمن به، وسلاحه في هذا كله الحجة القوية، والمنطق السليم، والأسلوب المهذب الحكيم. ¬

_ (¬1) الإسراء: 23 - 24.

ولا ينسى المسلم الواعي الحصيف أنه مطالب بهذا الأسلوب مع والديه حتى لو كانا مشركين. إنه مطالب حتى في حالة شركهما أن يحسن معاشرتهما، وإنه ليعلم أن الشرك أكبر الكبائر. إنه ليمتثل في ذلك أمر الله جل وعلا إذ يقول: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1) إن الوالدين لأقرب الأقرباء، وأحب الأحباب، ولكن رابطتهما- على جلالة قدرهما- تأتي بعد رابطة العقيدة، فإن كانا مشركين وأمرا ابنهما بالشرك، فلا طاعة لهما عليه؛ إذ لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإذ تعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة، ويسمو أمرها على كل أمر، ولكن الولد يبقى ملزما ببرهما ورعايتهما والإحسان إليهما. ومن هنا كان المسلم الحق برا بوالديه في الأحوال كلها، عاملا على إسعادهما وإدخال السرور على قلبيهما ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وفي حدود طاعة الله عز وجل، لا يدخر وسعا في تقديم ألوان البر والرعاية والإكرام لهما، من مأكل شهي، وملبس نفيس، وسكن مريح، وما يدخل في طوقه من صنوف الرفاهية المباحة المناسبة للعصر الذي يعيشان فيه، والمستوى الاجتماعي الذي هما عليه، وفوق ذلك كله: الكلمة الطيبة، والوجه الطلق المحيا، الباسم الثغر، الفائض بالحب والحنان والوفاء والعرفان بالفضل لصاحبي الفضل الكبير، الوالدين. ¬

_ (¬1) لقمان: 13.

ويمتد بر المسلم الحق لوالديه إلى ما بعد وفاتهما، بالتصدق عنهما، والإكثار من الدعاء لهما بمثل قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬1). وبعد، فهذا هو هدي الإسلام في بر الوالدين، وهذا هو المسلم الحق المهتدي به، فهل يتبعه المسلمون اليوم بعد أن غمرتهم الحياة المادية، وأعشت أبصارهم أضواء المدنية الحديثة؟. إن الاهتمام لينصب اليوم في حياتنا على الزوجة والأولاد. أما الوالدان، فالعناية بهما تأتي بعدهم، وقد لا يظفر باليسير منها الوالدان، إلا إذا كان أولادهما من البررة الأتقياء. ذلك أن النظم الاجتماعية الغربية الحديثة التي غزت عقول كثير من المسلمين، لا تحسب حسابا لبر الوالدين وحفظ شيخوختهما، وصونهما من الضيعة والامتهان حين يردان إلى أرذل العمر، وهذا ما جعل الرجل المطبوع بتلك المفاهيم والنظم لا يفكر إلا بزوجه وأولاده، ولا يلتفت إلى الوراء قليلا، ليلقي نظرة حب وبر ووفاء للجيل المدبر المولي، الذي طالما سهر الليل في تربيته، وأنفق الغالي والرخيص في تنشئته وإعداده للحياة، فتراه إذا ما فكر بالسكن المريح، والملبس الفاخر، والطعام الطيب، والرحلة الممتعة، التفت قلبه لزوجته وأولاده، ولم تدر في خلده خاطرة تذكره بنصيب والديه من هذا النعيم، وإنهما لفي أمس الحاجة إليه، يتلقيانه من يد ولدهما الحبيب. إن بر الوالدين والإقبال عليهما بالقلب النابض بالحب، واليد المبسوطة بالبذل، وبالكلمة الطيبة المؤنسة، والبسمة المفترة الودود، لخليقة أصيلة من ¬

_ (¬1) الإسراء: 24.

خلائق المسلمين. وما ينبغي للمسلمين أن تغيب فيهم هذه الخليقة، مهما تعقدت أمور الحياة،! مهما طرأ عليها من تطؤر، ومهما تجضغ فوقها من ركام العادات المستوردة؟ فهي من الخلائق التي تحفظهم من تحخر القلب،! تقيهم من أنانية السلوك، وترف! م إلى أصالتهم وإنسانيتهم صوفائهم، إذا ما ترفى غيرهم في حضيض الأثرة والجحود والكفران، وهي فوق ذلك كله، تفتح لهم أبواب الجنان.

المسلم مع زوجته

4 - المسلم مع زوجته نظرة الإسلام للزواج والمرأة: الزواج في الإسلام سكن للنفس، وراحة للقلب، واستقرار للضمير، وتعايش بين الرجل والمرأة على المودة والرحمة والانسجام والتعاون والتناصح والتسامح، ليستطيعا في هذا الجو الأليف الوديع الحاني أن يؤسسا الخلية السعيدة، التي تريش فيها الفراخ الزغب، وتنشأ فيها الأسرة المسلمة السليمة. وقد صور القرآن الكريم هذه العلاقة الفطرية الأبدية بين الرجل والمرأة تصويرا رقيقا شائقا، تشيع فيه أنداء السكينة والأمن والطمأنينة، ويفوح منه عبير المحبة والتفاهم والرحمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬1). إنها صلة النفس بالنفس في أوثق وشائجها، يعقدها الله بين النفسين، لتنعما بالسكينة والاستقرار والراحة، في بيت الزوجية الهنيء المحبب، العامر بالمودة الخالصة والرحمة الظليلة الحنون. والمرأة الصالحة في الإسلام متعة الحياة الأولى، ونعمة الله الكبرى على الرجل، إذ يسكن إليها من لأواء العيش ولغوب الكدح والنصب، فيجد ¬

_ (¬1) الروم: 21.

الزوجة التي يطلبها المسلم

عندها الراحة والسلوى والمتاع الذي لا يدانيه في حياة الإنسان متاع، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) (¬1). هذه هي نظرة الإسلام إلى الزواج في أفقه العالي الوضيء، وتلك هي نظرته للمرأة في علياء أنوثتها المكرمة. الزوجة التي يطلبها المسلم: وانطلاقا من هذه النظرة السامية للزواج والمرأة، لا تستهوي المسلم الحق المظاهر الفارغة التي تتستر بها بعض فتيات هذا العصر، وإنما تستهويه شخصية الفتاة المسلمة الكاملة، ولذا فهو يتريث في اختياره رفيقة عمره، مفتشا عن الفتاة التي تحلت بالصفات الإسلامية العالية التي تحقق الحياة الزوجية الهنيئة المستقرة. ومن هنا لا يكتفي الرجل المسلم بالجمال والتألق والرشاقة وما إلى ذلك مما يقف عنده فقط الشبان الفارغون من بهارج وزخرف، بل يتطلب إلى جانب ذلك كله الدين القويم، والعقل الراجح، والسيرة الحسنى، مستهديا بهدي الرسول الكريم: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك (¬2))) (¬3). على أن وصية الرسول الكريم أن يفتش الشاب المسلم عن ذات الدين لا تعنى إهدار رغبته في جمال الشكل؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى النظر للمرأة ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) هذا دعاء للراغب بذات الدين، وترغيب فيما أوصى به الرسول. (¬3) متفق عليه.

قبل العقد عليها، لكيلا يتورط مسلم في زواج فتاة لم يرتح لها قلبه، ولا تسر لمرآها عينه. فعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: ((أنظرت إليها؟)) قلت: لا، قال: ((فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما (¬1))) (¬2). وجاء رجل خطب امرأة من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له الرسول الكريم:، هل نظرت إليها؟)) قال: لا، فأمره أن ينظر إليها (¬3). وأكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من حديث أن الجمال من الصفات الأساسية التي يتطلبها الرجل في المرأة الصالحة، إلى جانب الصفات المعنوية الأخرى، وأن كلا منها لا يغني عن الآخر. ومن ذلك قوله لابن عباس: ((ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة. إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته)) (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي النساء خير؟ فقال: ((التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله)) (¬5). إنها النظرة النبوية الهادية الصائبة إلى شخصية المرأة التى تستطيع أن تهب الرجل السعادة والسكينة والاستقرار، والتي تستطيع أن تخلع على عش ¬

_ (¬1) أي يكون بينكما المحبة والاتفاق. (¬2) رواه النسائي بإسناد صحيح. (¬3) رواه النسائي وابن ماجه بإسناد صحيح. (¬4) رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم. (¬5) رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح.

يلتزم هدي الإسلام في حياته الزوجية

الزوجية ومحضن الفراغ الزغب البشاشة والأمن والرضا، وتكون بالتالي مربية الأجيال، وصانعة الأبطال، ومنشئة العباقرة. وإنه للحرص من رسول الإسلام العظيم على أن يبنى الزواج على أساس مكين راسخ متوازن من مطالب الجسم والعقل والروح والعاطفة، ليكون قويا لا يزعزعه تنافر الأمزجة، ولا تعصف به نزوات النفوس، ومن هنا كان المسلم الحق المستهدي شريعة الله في خطواته كلها بصيرا، لا يقع في حبائل خضراء الدمن، وهي المرأة الحسناء في منبت السوء، بل يقول للناس مع القائل: ((إياكم وخضراء الدمن)) (¬1). يلتزم هدي الإسلام في حياته الزوجية: والمسلم الحق الصادق ملزم بعد زواجه بالسير على هدي الإسلام العالي في معاشرته لزوجته وتعامله معها. ولو رحنا نتدبر هدي الإسلام العظيم في توصيته بالمرأة، والحض على تكريمها وحسن معاملتها لرأينا عجبا. لقد أوصى الإسلام بالمرأة، وأحلها مكانة ما عرفتها يقينا في غير هذا الدين. فها هو ذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهيب بالرجال جميعا: ((إستوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء)) (¬2). وفي رواية في الصحيحين: ((المرأة كالضلع: إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها، وفيها عوج)). وفي رواية لمسلم: ((إن المرأة خلقت من ظلع، لن تستقيم لك على ¬

_ (¬1) هذا القول ليس بحديث. (¬2) متفق عليه.

طريقة، فإن استمتعت بها، استمتعت بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)). إن في هذا التمثيل النبوي البليغ لبيانا رائعا لحقيقة المرأة ومزاجها الذي فطرت عليه؛ فهي لا تستقيم على حال واحدة كما يريد الزوج، فينبغي أن يعلم الزوج المسلم أن ذلك فيها سجية وطبع وخليقة، فلا يحاولن أن يقيمها على الجادة التي وقر في خلده أنها الصواب أو الكمال، وليراعين مزاجها الأنثوي الخاص، وليقبلها كما خلقها الله، وفيها عوج عما يريد ويرغب في بعض الأمور، وإن أبى إلا أن يقيمها على إرادته ومزاجه، فمثله كمثل من أبى إلا أن يقيم اعوجاج الضلع، فإذا هو ينكسر بين يديه، وكسر المرأة طلاقها. وحينما يستقر في وجدان الزوج المسلم الصادق هذا الهدي النبوي العالي، المبني على تفهم عميق لنفسية المرأة ومزاجها، يتسامح في كثير من هفوات زوجه، ويغض الطرف عن عديد من هنواتها، تقديرا منه لخلقتها وفطرتها، فإذا بيت الزوجية آمن هادئ سعيد، لا صراخ فيه ولا صخب ولا خصام ... وإن المتأمل نص هذا الحديث ليلاحظ أن النبي الكريم صدر حديثه بعبارة: ((استوصوا بالنساء خيرا)). ثم عاد بعد تحليله شخصيتها فختم الحديث بالعبارة ذاتها: ((فاستوصوا بالنساء)). فما أشد عناية الرسول الكريم بالمرأة! وما أعمق فهقه لنفسيتها! وما أكثر حدبه عليها! وهل يسع الزوج المسلم الصادق إلا أن يتمثل هذا الهدي الكريم، ويعمل به في كل آن؟. وتبلغ عناية الرسول الكريم بالمرأة أنه لم ينس أن يلمع إلى التوصية بها في خطبة حجة الوداع، وهي الخطبة التي اعتصر فيها ما ينبغي قوله للمسلمين بعد لن أحس أن هذه آخر وقفة له معهم في الحج، لم يفته في هذه الخطبة

الجليلة الحافلة أن يوصي بالنساء، مفتتحا حديثه عنهن بهذا التنبيه الدال على العناية والاهتمام: ((ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)) (¬1). إنها الوصية التي يسمعها كل زوج مسلم صادق واع، فيرى فيها الهدي النبوي الحكيم في تحديد الحقوق والواجبات على الأزواج والزوجات، في إطار من الرحمة بالنساء والحدب عليهن والإحسان إليهن، مما لا يدع مجالا للتفكير. بظلم الزوجة أو الإضرار بها في بيت الزوجية المسلم. وتتعدد توصيات الرسول الكريم بالمرأة، حتى تبلغ حدا يجعل الزوج المحسن لزوجته من خيار الأمة وصفوتها: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم)) (¬2). وجاءت نسوة إلى آل الرسول الكريم يشكون أزواجهن، فأعلن الرسول صلوات الله عليه على أسماع الرجال: ((لقد أطاف بال محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم)). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

ويسمو الإسلام الحنيف في إنصاف المرأة وتكريمها، وتوصية الزوج بحسن معاشرتها حتى ولو كان كارها لها، وهذا ما لم تصل إليه المرأة في تاريخها كله إلا في هذا الدين. يقول الله تعالى في محكم كتابه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1). إن هذه الآية الكريمة لتلمس وجدان المسلم الصادق، فتهدئ من فورة غضبه، وتفثأ من حدة كراهيته لزوجته، وبذلك يقي الإسلام عروة الزوجية من الانفصام، ويحفظ الرباط المقدس أن يكون عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة، وحماقة الميل الأهوج الطائر هنا وهناك. وما أعظم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل أراد أن يطلق زوجته لأنه يكرهها: ((ويحك ألم تبن البيوت إلا على الدين؟ فأين الرعاية والتذمم؟)). إن عقدة الزوجية في الإسلام لأكبر من النزوات العاطفية الصغيرة، وأجل من ضغط الميل الحيواني المسعور، وإن في المسلم الحق من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال وسعة الصدر وسمو الخلق ما يجعله يرتفع في تعامله مع زوجته التي يكره، بعيدا جدا عن نزوات البهيمة، وطمع التاجر، وتفاهة الفارغ. بل إن المسلم الحق لا يسعه إلا أن يمتثل أمر ربه، فيحسن معاشرة زوجته، ولو كان كارها لها؛ ذلك أنه يتدبر قول ربه العليم الخبير بما خفي عليه، وهو كثير، بأن الإنسان قد يكره الشيء ويعافه ويود الابتعاد عنه، وهو محفوف بالخير، مفعم بالبركة، ولذلك فإن المسلم الواعي يعرف كيف يحب، ويعرف كيف يكره، فلا يندفع مع من أحب اندفاع الأهوج الأعمى، ¬

_ (¬1) النساء:19.

المسلم الحق زوج مثالي

ولا يزور عمن أبغض ازورار الجافي المعرض المنكر الجاحد، وإنما يكون في الموقفين معتدلا مقسطا منصفا. ويبين رسول الإسلام العظيم أن المرأة المسلمة المؤمنة مهما كرهها زوجها، فإنها لا تخلو من خلق كريم يرضى عنه الرجل، فما ينبغي له أن يتجاهل هذا الجانب الرضي فيها، ويبرز الجانب الذي يكره: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة (¬1)، إن كره منها خلقا رضي منها آخر)) (¬2). المسلم الحق زوج مثالي: إن المسلم الحق ليقف إزاء هذه النصوص الصريحة القاطعة الآمرة بإنصاف المرأة والإحسان إليها، فلا يملك إلا أن يكون زوجا مثاليا، تنعم امرأته بعشرته الدمثة، وتسعد برفقته المهذبة الراقية، مهما امتد بهما العمر وطالت الأيام. إذا دخل البيت أقبل على زوجه وأولاده بوجه طلق المحيا، مفتر الأسارير، فبادرهم بالتحية المباركة الطيبة التي أمر الله تعالى بها، وجعلها تحية الإسلام المتميزة إذ قال: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (¬3). وحض على هذه التحية الرسول الكريم إذ قال لأنس رضي الله عنه: ((يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك)) (¬4). ¬

_ (¬1) لا يفرك: لا يبغض. (¬2) رواه مسلم. (¬3) النور:61. (¬4) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.

وإنها لبركة، أي بركة، أن يلقى الرجل أهله بالسلام، ويقبل عليهم إقبال الربيع، فينضر حياتهم بالسعادة والسرور والمرح، ويشيع فيها الأنس والرحمة والرضا، يمد يد العون لزوجته، إن رآها بحاجة إلى شيء من ذلك، ويواسيها باللطيف من القول إن آنس فيها شكوى من تعب أو سأم أو ضيق، ويشعرها أنها تعيش في ظل زوج قوي كريم سمح، يحميها، ويرعاها، ويهتم بشؤونها، ويوفر لها حاجاتها المشروعة كلها حسب استطاعته، ويرضي أنوثتها بالتجمل لها بالزينة التي أباحها الشرع الحنيف، ويعطيها جانبا من وقته واهتماماته، لا يشغل عنها وقته كله في مطالعاته أو أعماله أو هواياته أو مسؤولياته أو أصحابه، فلقد ضمن الإسلام للمرأة حقها في الاستمتاع بزوجها، حتى إنه لم يبح للزوج أن يشغل وقته كله عنها بالعبادة، أجل الأعمال وأشرفها، كيلا يختل التوازن المحكم الذي قام عليه هذا الدين العظيم، ونجد ذلك فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بمغالاته في العبادة، فقال له: ((ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟))، قال: بلى يا رسول الله. قال: ((فلا تفعل، صم وأفطر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا ... )) (¬1). ودخلت خولة ابنة حكيم، امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنه على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثياب رثة، وهيئة سيئة، فقلن لها: ما لك؟ فقالت عن زوجها: أما الليل فقائم، وأما النهار فصائم، فأخبرن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولها، فلقي عثمان بن مظعون، فلامه، وقال له: ((أما لك بي أسوة؟)) قال: بلى، جعلني الله فداك! فجاءت بعد حسنة الهيئة طيبة الريح، وفي رواية أن ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم.

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((يا عثمان، إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفمالك في أسوة؟ فوالله إن أخشاكم وأحفظكم لحدوده لأنا)) (¬1). لقد كان الرسول الكريم ينشر هديه هذا بين أصحابه، ويأخذ بأيديهم إلى الاعتدال والتوازن في حياتهم التعبدية وحياتهم الخاصة مع زوجاتهم، حتى أصبح هذا الاعتدال والتوازن سجية من سجاياهم، يتواصون بها، ويحرصون على التحلي بها، ويحتكمون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن أحب أحد منهم أن يتحلل منها ويغالي في الزهد والتبتل والعبادة. فقد روى الإمام البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: ((آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال: كل، فإني صائم. قال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم الليل، قال سلمان: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبى فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق سلمان)). ولا يفوت المسلم التقي النابه اللبق أن يرطب جفاف الحياة الرتيبة مع زوجته، وينضر جوانب العيش والمعاشرة الدائمة بينهما بالمداعبة اللطيفة الممتعة، والنكتة المرفهة السارة، يطلقها بين الحين والحين، متأسيا بذلك بالرسول العظيم صلوات الله عليه، الذي كان قمة شامخة في حياته كلها؛ إذ ما كانت تشغله الأعباء الجسام التي كان ينهض بها، من إرساء قواعد الدين، وتكوين الأمة المسلمة، وتوجيه كتائب الجهاد، وغير ذلك من الأعمال ¬

_ (¬1) الحلية 1/ 106، وطبقات ابن سعد 4/ 394، والكنز 8/ 305.

الجليلة، ما كان يشغله هذا كله عن أن يكون زوجا مثاليا مع زوجاته في حسن المعاشرة، وسماحة الخلق، وطلاقة الوجه، ولطف المداعبة والمرح. فمن ذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بحريرة قد طبختها له، فقلت لسودة رضي الله عنها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت: لتأكلن، أو لألطخن وجهك، فأبت فوضعت يدي في الحريرة، فطليت وجهها، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوضع بيده لها، وقال لها: الطخي وجهها ... وفي رواية: فخفض لها ركبته لتستقيد مني، فتناولت من الصحفة شيئا، فمسحت به وجهي، ورسول - صلى الله عليه وسلم - يضحك)) (¬1). أرأيت إلى هذا الخلق الرضي، والسماحة الطليقة، والقلب الكبير، في مداعبة المرأة وممازحتها وحسن معاشرتها، وإدخال السرور والمرح على قلبها؟. وتروي السيدة عائشة أنها كانت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فسابقته فسبقته. فلما حملت اللحم وبدنت سابقته فسبقها، فقال: هذه بتلك السبقة (¬2). ويتسع صدره الشريف لإدخال المزيد من السرور على قلب زوجته الحبيبة الشابة، فيدعوها لحضور ضروب من اللهو البريء، ترفه بها عن نفسها، وتستمتع بمشاهدتها. من ذلك ما روته السيدة عائشة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان جالسا، فسمع ضوضاء الناس والصبيان، فإذا حبشية ترقص والناس حولها، فقال: يا عائشة، تعالي فانظري، فوضعت خذي على منكبيه، ¬

_ (¬1) الهيثمي 4/ 316، والمنتخب 4/ 393، وكنز العمال 7/ 303، وقال الهيثمى: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، خلا محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن. (¬2) حديث صحيح، رواه أحمد وأبو داود.

فجعلت أنظر ما بين المنكبين إلى رأسه، فجعل يقول: يا عائشة، أما شبعت، أما شبعت؟ فأقول: لا، لأنظر منزلتي عنده، فلقد رأيته يراوح بين قدميه)) (¬1). وقالت السيدة عائشة في رواية أخرى: ((والله لقد رأيت النبيي - صلى الله عليه وسلم - يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم بين أذنه وعاتقه، ثم يقوم من أجلي، حتى أكون أنا التي أنصرف. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو)) (¬2). إن المسلم الحق لا يسعه إذ يرى سيرة الرسول الكريم مع زوجاته حافلة بحسن المعاشرة والممازحة والتبسط، إلا أن يكون مع زوجته طيب العشرة، موطأ الكنف، لين الجانب، كريم الخلق، واسع الصدر، ما دام تبسطه وترخصه معها في حدود المتعة الحلال، والترفيه البريء المباح. والمسلم التقي الحصيف لا ينفعل وتثار ثائرته للأسباب التافهة التي تنتفخ لها أوداج الأزواج الجهلة، إذ يقيمون الدنيا ويقعدونها إذا جاءت طبخة الطعام على غير مزاجهم، أو تأخرت وجبة الطعام عن وقتها المحدد، أو نحو ذلك من الأسباب التي كثيرا ما تقدح شرارة الغضب والخصام والنفور بين الزوجين؛ ذلك أن المسلم الحق المتأسي بأخلاق الرسول الإنسان العظيم ليذكر دوما من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - ما يجعله كريما حليما متسامحا. إنه ليذكر من شمائل الرسول الكريم أنه ((ما عاب طعاما قط: إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه النسائي من طريق يزيد بن رومان عن عائشة. وانظر الروايات المختلفة فيه عنها في فتح الباري: كتاب العيدين. (¬2) رواه الشيخان. (¬3) متفق عليه.

ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا به، فجعل يأكل، ويقول: ((نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل)) (¬1). ألا فليسمع الأزواج الحمقى الذين كثيرا ما استطار الشرر من عيونهم لتقصير وقعت فيه زوجاتهم، فتأخر الطعام عن موعده، أو جاء على غير مزاجهم الرائق، وقد تكون هناك أسباب قاهرة أرغمت الزوجة المسكينة على الوقوع في مثل هذا التقصير، ولكن الأزواج يغضبون قبل معرفة تلك الأسباب، أليسوا رجالا قوامين على النساء!!؟. والزوج المسلم الصادق لا يكتفي ببره وحسن معاشرته لزوجته، بل يمتد بره وخيره وكرم وده إلى صديقات زوجته الفاضلات، وذلك تأسيا بما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد حدثت السيدة عاثشة رضي الله عنها، قالت: ((كانت عجوز تأتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيهش بها ويكرمها، ويقول لها: كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ فتجيبه: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت، قالت عائشة: تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ وإنك لتصنع بها شيئا لا تصنعه بأحد، فيجيبها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها كانت تأتينا عند خديجة، أما علمت أن كرم الود من الإيمان)) (¬2). وقد تأخذ الزوجة نزوة غضب، أو تستبد بها ثائرة انفعال لسبب من الأسباب، فتنكمش عن زوجها، وتشعره بغضبها وانفعالها، وهنا ينبغي أن يسع الزوج المسلم زوجته بخلقه الرضي، وحلمه الواسع، ونظرته العميقة لحقيقة المرأة وتكوينها ومزاجها، كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسع زوجاته إذ يغاضبنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((كنا معشر قريش قوما نغلب ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

من أنجح الأزواج

النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي. قال: فتغضب يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك! فوالله إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل! قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: اتراجعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم، قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؟ فإذا هي قد هلكت؟! لا تراجعي رسول الله، ولا تسأليه شيئا، وسليني ما بدا لك)) (¬1). ويأتي عمر رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحدثه بما دار بينه وبين حفصة من حوار، فيبتسم الرسول الكريم. بمثل هذا الخلق الرضي العالي ينبغي أن يتحلى المسلم، ليكون على قدم الرسول الكريم في شمائله وسجاياه، وفي أعماله كلها، وحينئد يقيم الدليل على أن الإسلام دين الحياة الاجتماعية الراقية، وأن ما أصاب الأفراد والأسر والمجتمعات من شقاء وتفكك واضطراب وقلق وضياع، إنما كان ببعد الناس عن هذه القيم العليا التي نشر شذاها الإسلام، وجهلهم إياها، وظنهم الخاطىء بها، وإنها لقيم خلقية ثمينة، إذا تحلى بها الأزواج انتفى من حياة الأسر الخصام والشقاق، ورفرفت على البيوت أجنحة السعادة والطمأنينة والاستقرار والنعيم. من أنجح الأزواج: ومن هنا كان الزوج المسلم الواعي من أنجح الأزواج في الحياة الاجتماعية، ومن أحبهم إلى نفس المرأة الصالحة النظيفة الحصان؛ ذلك أنه بما تلقى من هدي الإسلام العظيم، يعرف كيف يتسرب إلى كوامن نفس ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

كيس فطن مع زوجته

المرأة بلطف ولباقة وكياسة، فيوجهها الوجهة المستقيمة التي تقتضيها الحياة الإسلامية المنسجمة كل الانسجام مع الفطرة السليمة والخلق النقي القويم. إنه ليتعرف على ميولها ورغباتها ومزاجها، فيحاول جهده أن يوفق بين تلك الميول والرغبات وبين ما يريد لها من سيرة حسنة مثلى، دون أن ينسى لحظة واحدة أنها خلقت من ضلع، وأن تقويم الضلع أمر لا سبيل إليه. كيس فطن مع زوجته: والمسلم الحق الواعي كيس فطن دوما مع زوجته؛ إنه لا ينال أحدا من أهلها بسوء أمامها، ولا يلقي على مسامعها كلمة نابية جارحة لأحد من ذويها، مراعاة لشعورها، وهي بالمقابل ستحترم شعوره، فلا تفعل أو تقول ما يؤذيه أو يمس أحدا من أهله بأذى أو سوء. وهو لا يفشي لها سرا ائتمنته عليه، ولا يذيع خبرا أفضت به إليه وخصته به؛ ذلك أن التساهل في مثل هذه الأمور كثيرا ما يفجر براكين الخلاف بين الزوجين، ويطفىء شعلة المودة بينهما، والزوج المسلم الحصيف اللبق بمنجاة من هذا كله وعصمة، ما دام ينهل من معين الإسلام الصافي، ويتأدب بأدبه العالي القويم. يكمل نقصها: والزوج المسلم الواعي يحرص على أن يكمل نقص زوجته إن آنس فيها نقصا في علم أو سلوك، ويسلك في سبيل ذلك أنجع السبل وألطفها وأكيسها، وإن صادف في أثناء ذلك منها نشوزا أو رغبة في انحراف، ردها إلى الجادة برفق وحلم وذكاء، متجنبا تعنيفها أو لومها أمام الناس، مهما كانت الأسباب؛ فإن أشد ما يؤلم المرأة أن يسمع أحد لومها أو يشهد تقريعها،

يحسن التوفيق بين إرضاء زوجه وبر والدته

والمسلم التقي الواعي من أرهف الناس إحساسا، وأكثرهم تقديرا لشعور الآخرين. يحسن التوفيق بين إرضاء زوجه وبر والدته: والزوج المسلم الصالح الواعي يعرف كيف يوفق بين إرضاء والدته وزوجه، فيستخدم ذكاءه ولباقته وحلمه وقوة شخصيته في تعامله معهما، بحيث لا يجور على أحد الطرفين، وبذلك لا يكون عاقا لوالدته ولا ظالما لزوجته، بل يعرف لوالدته حقوقها، ويقوم ببرها على أحسن وجه، ويعرف لزوجته أيضا حقوقها، فلا يهضم منها شيئا في سبيل بر الوالدة ورعايتها، وإن المسلم الصادق النبيه لقادر على هذا، ما دام متزودا بزاد التقوى، مسلحا بالأخلاق الرضية السمحة المستمدة من هدي الإسلام وتعاليمه الغراء، التي أنصفت كلا من الوالدة والزوجة، ووضعت كلا منهما في مكانه الصحيح. يحسن القوامة على المرأة: بهذه الأخلاق العالية، وبهذه المعاملة الحسنة، يملك الزوج المسلم قلب زوجته، فلا تعصي له أمرا، ومن هنا كانت القوامة للرجل المسلم على المرأة، بما حلاه الدين من صفات، وما زوده من مقومات، وبما ألزمه من ضوابط وتشريعات: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (¬1). ولهذه القوامة تبعات، وعلى الرجل بسببها مسؤوليات؛ فالرجل مسؤول عن زوجته مسؤولية كاملة: ¬

_ (¬1) النساء: 34.

((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته)) (¬1). إنها المسؤولية التي تمسك بناصية كل فرد في المجتمع الإسلامي، فما تجد أحدا فيه إلا مسؤولا عن جانب من جوانبه؟ ذلك أن الحياة في نظر الإسلام جد وعمل وبناء، يتطلب من كل فرد في المجتمع أن يكون مسؤولا، وليست هزلا وفراغا ولهوا. وكما أن الإسلام أوصى بالمرأة وأعلى مكانتها، أمرها أن تعرف دورها في الحياة، وأن تقف عند الحدود التي رسمتها لها الشريعة، لتستطيع أن تؤدي رسالتها، وتقم بدورها، على النحو الأفضل، شريكة للرجل في تربية الأجيال، وتنضير الحياة بالمتعة والسعادة والجمال. وإذ طلب الإسلام من الرجل أن يحسن صحبة المرأة ويستوصي بها خيرا، أمرها كذلك أن تطيع الرجل في حدود الحلال والإنصاف والعدل، وذهب في التشديد على هذه الطاعة مذهبا بعيدا، يصوره قول الرسول الكريم صلوات الله عليه: ((لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) (¬2) بل إنه جعل رضا الزوج عنها سببا في دخولها الجنة: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) (¬3). وتوعد المرأة الناشزة المجافية زوجها باللعنات تصبها الملائكة عليها حتى تثوب إلى رشدها، وتصطلح مع زوجها: ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) رواه ابن ماجه والحاكم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

((إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)) (¬1). وبلغ من حرص الإسلام الحنيف على تأكيد قوامة الرجل على المرأة، ووجوب طاعته وإرضائه أنه لم يأذن للزوجة بالصيام في غير شهر رمضان إلا بإذنه، ولا استقبال أحد من الضيوف إلا بإذنه: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)) (¬2). لقد أعطى الإسلام للزوج حق القوامة على المرأة ليكون رجلا بحق، يعرف كيف يقي سفينة الحياة في أسرته نحو شاطىء السلامة والهدى والرشاد، وحذر الرجال قاطبة من أن تأخذهم الفتنة بالنساء، فتعشو أبصارهم، وتخور عزائمهم، ويرق دينهم، فيتغاضون عن انحراف النساء عن جادة الشرع، ثم يفلت من أيديهم الزمام، فإذا المرأة المنحرفة كل شيء في البيت، لا يعصى لها أمر، ولا ترد لها كلمة، ولا ترفض لها رغبة، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ جعل هذا أضر فتنة تصيب الرجال: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) (¬3). إن الزوج المسلم الرجل لا يضعف أمام فتنة زوجته المنحرفة مهما طغت تلك الفتنة، ويفهمها بكل لطف ولباقة أن فتنتها إذا كانت حبيبة إلى نفسه، فإن مرضاة الله أحب، وأن مودة الرجل لزوجه مهما عظمت فهي دون حب الله ورسوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه البخاري. (¬3) متفق عليه.

وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1). ومن هنا تنتفي من حياة المسلم الحق الصادق هذه المخالفات النسائية التي نجدها في بيوت كثيرة ممن ينتسبون إلى الإسلام. إن الرجل الذي يرى بأم عينه زوجته وبناته وأخواته يخرجن إلى الشارع متبرجات كاسيات عاريات، قد حسرن عن رؤوسهن، وكشفن عن صدورهن وسواعدهن، ولا يبادر إلى تغيير هذا الواقع المنحرف عن هدي الله وأدب الإسلام إنما فقد رجولته وانحسر عن إسلامه، وباء بغضب من الله، ولن ينتشله من هذه الوهدة التي ارتكس فيها إلا توبة نصوح توقظ ضميره، وهزة عنيفة تحرك رجولته، وترده إلى الطريق القصد والصراط المستقيم. لقد وضع الإسلام للمرأة آدابا، وخصها بزي مميز، وحدد لها لباسها الذي يسوغ لها أن تخرج فيه إلى الشارع، أو تظهر أمام الرجال غير المحارم، وهو ما يسمى بالحجاب الشرعي للمرأة المسلمة. والمرأة المسلمة التي رضعت لبان الإسلام، ونهلت من معينه الصافي، ونشأت في جوه الوارف الظليل، تتقبل هذا الحجاب بنفس راضية، وقلب مطمئن، واقتناع راسخ عميق، على أنه دين صادر عن الله عز وجل، وليس تعسفا من الرجال، ولا إرضاء لأنانياتهم وتحكمهم واستنثارهم بالمرأة، ولا تقليدا ابتدع في العصر الأموي زمن الوليد لتهتكه، كما يحلو للتافهين والتافهات والفارغين والفارغات أن يتبجحوا به من غير سند من علم، أو حجة من منطق، أو هدي من كتاب منير. فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيما رواه البخاري عنها، قالت: ((يرحم الله نساء المهاجرات الأول. لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى ¬

_ (¬1) التوبة: 24.

جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن، فاختمرن بها)). وفي رواية للبخاري أيضا: ((أخذن أزرهن، فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها)). وفي رواية عن صفية بنت شيبة، قالت: ((بينا نحن عند عائشة رضي الله عنها ذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل! لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابة، فما منهم امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل (¬1)، فاعتجرت به (¬2)، تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتجرات، كأن على رؤوسهن الغربان)) (¬3). رحم الله نساء الأنصار، ما أقوى إيمانهن! وما أصدق إسلامهن! وما أجمل انصياعهن للحق حين نزوله! وإن كل مؤمنة بالله ورسوله حق الإيمان، لا يسعها إلا أن تتأسى بنساء الأنصار، فتلزم نفسها الزي الإسلامي المميز، غير عابئة بما يحيط بها من عري وتكشف وتبرج، وإني لأذكر موقف فتاة جامعية مسلمة متحجبة، لا يقل روعة عن موقف نساء الأنصار رضي الله عنهن: إذ سألها مراسل صحفي زار جامعة دمشق عن حجابها وعما يصبرها عليه في حر الصيف القائظ، فأجابته: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}. بمثل هؤلاء الفتيات المسلمات الواعيات الطاهرات تعمر البيوت المسلمة، وتربى الأجيال على الفضيلة، ويزخر المجتمع بالرجال الأبطال العاملين البناة، وإنهن اليوم لكثيرات والحمد لله. ¬

_ (¬1) هو كساء من صوت نقشت فيه تصاوير الرحال. (¬2) أي تلففت به. (¬3) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري: كتاب التفسير.

والمسلم الصادق مسؤول عن التزام نسائه بآداب الإسلام في الخروج من بيوتهن، وعن اتخاذهن الحجاب الشرعي الذي غدا عنوان المرأة المسلمة وزيها المتميز الأصيل. ويوم تغلب الزوج زوجته أو بيئته على أمره، وتحملاته على تخطي هذا الحكم الشرعي، ويقف عاجزا أمامهما لا يبدئ ولا يعيد، فسلام على دينه وعلى رجولته معا. على أن مسؤولية الزوج عن زوجه لا تقتصر على مظهرها الخارجي، وإنما تتعداه إلى عباداتها وسلوكها في الحياة؛ فهو مسؤول عنها إن قصرت في عبادة، أو فرطت في جنب الله بتهاون أو معصية، ومسؤول عن حسن سيرتها، واستقامة سلوكها، وقيامها بواجباتها، وأي تقصير منها في جانب من هذه الجوانب يخل برجولة الزوج، ويقدح في حسن إسلامه، ويخدش القوامة التي أكرمه بها الله. ذلك أن الإسلام جعل المرأة أمانة في عنق الرجل، إذ غالبا ما تكون المرأة على دين زوجها، يقودها معه إما إلى الجنة، وإما إلى النار، ومن هنا كان أمر الله للمؤمنين في وقاية أنفسهم وأهليهم من النار معا، وقد جاء مصورا العاقبة المخيفة المروعة في مشهد رهيب، تنهلع لشدته القلوب، وتدار من هوله الرؤوس، إن هم تهاونوا في أمر نسائهم وذويهم، ولم يأطروهم على الحق أطرا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬1). إن قوامة الرجل على المرأة لا تتحقق كما أرادها الإسلام، إلا إذا كان الزوج رجلا ناجحا في قيادته لبيته وأسرته، والزوج المسلم لا يكون رجلا بغلظته وفظاظته وقسوته وعنفه وبطشه وسلاطة لسانه، فهذه رجولة الجاهلية، والرجولة ¬

_ (¬1) التحريم: 6.

في الإسلام شيء آخر غير هذا كله. الرجولة في الإسلام: شخصية قوية جذابة محببة، وخلق عال نبيل، وتسامح وإغضاء وعفو عن الهفوات الصغيرة، ووقوف جاد حازم عند حدود الله، وتطبيق لأحكامه على أفراد الأسرة جميعا، وقيادة بارعة لبقة نحو الخير، وبذل وسخاء في غير سرف ولا تبذير، ونباهة ووعي وشعور عميق بالمسؤولية في الدنيا والآخرة، وإدراك للحالة المثلى التي ينبغي أن يكون عليها البيت المسلم الراشد، وهذه هي صفات المسلم الحق الذي أراده الإسلام.

المسلم مع أولاده

5 - المسلم مع أولاده تمهيد: الأولاد قرة عين الإنسان في حياته، وبهجته في عمره، وأنسه في عيشه، بهم تحلو الحياة، وعليهم بعد الله تعلق الآمال، وببركتهم يستجلب الرزق، وتتنزل الرحمة، ويضاعف الأجر. بيد أن هذا كله منوط بحسن تربية الأولاد، وتنشئتهم النشأة الصالحة التي تجعل منهم عناصر خير، وعوامل بر، ومصادر سعادة. فإن توافر للإنسان في أولاده هذا كله كانوا بحق زينة الحياة الدنيا، كما وصفهم الله عز وجل بقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬1). ولهذا كان من دعوات النبي الصالحات لمن يحب: الإكثار من المال والولد؛ فقد روى أنس رضي الله عنه أنه دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعه أمه وخالته، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعا لهم بكل خير. فقالت أم أنس: يا رسول الله، خويدمك، ادع الله له، فدعا له بكل خير، وقال في آخر دعائه: ((اللهم أكثر ماله وولده وبارك له)) (¬2). أما إذا غفل الوالدان عن تربية الأولاد وتوجيههم الوجهة الصالحة كانوا بلاء ونكدا وعنتا وشقاء وهما واصبا، وراءه السهر في الليل والتعب في النهار. ¬

_ (¬1) الكهف: 46. (¬2) رواه البخاري ومسلم.

يدرك مسؤوليته الكبرى إزاء أولاده

يدرك مسؤوليته الكبرى إزاء أولاده: والمسلم الحق الواعي يدرك مسؤوليته الكبرى إزاء أولاده الذين نجلهم وقدمهم للحياة، إذ يسمع صوت القرآن يهتف به: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (¬1). وإذ يسمع صوت الرسول الكريم يضعه أمام مسؤوليته الكبرى في الحياة: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته)) (¬2). إنها المسؤولية الشاملة التي طوق بها الإسلام أعناق أبناء الحياة جميعا، فلم تغادر منهم أحدا، وجعل بمقتضاها الوالدين مسؤولين عن تربية أولادهما تربية إسلامية دقيقة، وتنشئتهم التنشئة الصالحة، القائمة على مكارم الأخلاق التي أخبر الرسول الكريم أنه ما بعث إلا لتتميمها وتأصيلها بين الناس إذ قال: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) (¬3). وليس أدل على عظم مسؤولية الوالدين تجاه أبنائهما، وتنشئتهم على طاعة الله ورسوله وامتثال أمرهما، من تقرير العلماء: أن كل بيت يسمع قول الرسول الكريم: ((مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر ... )) (¬4)، إن كل بيت يسمع هذا الحديث ولا يأمر ¬

_ (¬1) التحريم:6. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه البخاري في الأدب المفرد، والإمام مالك في الموطأ، والإمام أحمد في المسند. (¬4) رواه أحمد وأبو داود، وإسناده حسن.

يستخدم في تربيتهم أبرع الأساليب

الأولاد بالصلاة متى بلغوا السابعة من العمر، ولا يضربهم على تركها متى بلغوا العاشرة، هو بيت مقصر مفرط، الوالدان فيه آثمان مسؤولان أمام الله عن هذا التقصير وذلك التفريط. ذلك أن البيت هو المحضن الذي تريش فيه الفراخ الزغب، وهو البيئة الأولى التي يترعرعون فيها، وهو الوسط الذي تتكون فيه ميولهم وأمزجتهم وشخصياتهم. ومن هنا يبدو دور الوالدين الكبير في تعهد تلك البراعم الغضة الغضيرة، ومدها بالغذاء النافع، والتوجيه الأصيل الذي يربي فيها الجسم والعقل والروح على السواء. يستخدم في تربيتهم أبرع الأساليب: والوالد المسلم الحصيف- وأعني بالوالد كلا من الوالدين الأب والأم- يدرك نفسيات أطفاله، فيحسن التأتي إليها، والتوغل في عوالمها الصافية البريئة، مستخدما في سبيل صياغتها وتوجيهها أبرع الأساليب. إنه يتحبب إليهم بشتى الوسائل، فيدنو منهم، ويراعي مستواهم العقلي والزمني، فيلاعبهم، ويجاملهم، ويمازحهم، ويسمعهم من كلمات المحبة والإيثار والحدب ما تبتهج به نفوسهم فإذا هم يحبونه، ويقبلون على سماع توجيهه بلهفة وحرارة وصدق، وإذا طاعتهم له وامتثالهم أمره نابعان من القلب، وشتان ما بين طاعة قائمة على الحب والاحترام والتقدير والثقة، وبين طاعة قائمة على العنف والقهر والكبت والانصياع الزجري، فالأولى طاعة دائمة وطيدة والثانية طاعة موقوتة هشة، سرعان ما تزول وتتلاشى بزوال الشدة والعنف والزجر، أو بغيابها إلى حين. وقد يظن بعض الناس أن تبسط الوالد مع أولاده ومخالطته إياهم يخل بأبوته في أعينهم، ويزري بمقامه التربوي في نظرهم، وهذا خطأ محض؛ فإن هذا الخلق الكريم مع الأولاد هو الأسلوب التربوي الحكيم الناجح الذي

تدعو اليه اليوم التربية الحديثة، وقد دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ خمسة عشر قرنا بقوله وفعله. فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا بني العباس رضي الله عنهم، ثم يقول: ((من سبق إلي فله كذا وكذا، فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم)) (¬1). وأخرج البخاري في الأدب المفرد والطبراني عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد الحسن أو الحسين رضي الله عنهما، ثم وضع قدميه على قدمه، ثم قال: ((ترق)). وتتجلى روح الرسول المربي العظيم أكثر ما تتجلى في حمله الحسن والحسين رضي الله عنهما، وترفقه بهما، وحنوه عليهما، ضاربا المثل للآباء والأجداد في كل زمان ومكان، ليكونوا على خلق رضي كريم مع تلك الغرسات اللدنة الغضة، مهما كانوا عليه من وقار ومكانة وقدر؛ ذلك في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن شداد، قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حامل حسنا أوحسينا، فتقدم فوضعه، ثم كبر في الصلاة، فسجد سجدة أطالها، فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهره، فرجعت في سجودي، فلما قضى صلاته قالوا: يا رسول الله، إنك أطلت، قال: ((إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته)) (¬2). هكذا ينبغي أن يكون شأن المسلم مع أولاده، يخالطهم، ويترفق بهم، ويحنو عليهم، ويمازحهم، ويدخل على قلوبهم السعادة والغبطة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وما وجد من وقته فراغا وسعة. ¬

_ (¬1) رواه أحمد. وقال الحافظ في التهذيب 8/ 421: وهو مرسل جيد الأسناد. (¬2) رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح.

يشعرهم بحبه وحنانه

يشعرهم بحبه وحنانه: وإن من أولى واجباته الأبوية أن يشعرهم بالرحمة والحنان والعطف والحب، لينشأوا نشأة نفسية صحيحة، تعمر قلوبهم الثقة، ويشيع في نفوسهم الصفاء، ويغمر أخيلتهم التفاؤل. والرحمة خلق إسلامي أصيل، كان من أبرز خلائق الرسول الكريم وشمائله الرفيعة، كما حدثنا أنس رضي الله عنه إذ قال: ((ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق، ونحن معه، فيدخل البيت، فيأخذه فيقبله، ثم يرجع)) (¬1). وتتسع رحمة الرسول الكريم بالبراعم المسلمة المتفتحة، ويمتد رواقها الظليل فيشمل الصغار وهم يلعبون، فإذا هو يغمرهم بعطفه وحنانه، كما يروي أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كلما مر بصبيان هش لهم وسلم عليهم (¬2). وكان من أقواله التربوية الخالدة: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا)) (¬3). ويروي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحسن بن علي، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من لا يرحم لا يرحم)) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه أحمد والحاكم، وإسناده صحيح. (¬4) متفق عليه.

لقد كان الرسول المربي العظيم يحاول دوما، وهو يصوغ النفوس أن يفجر فيها ينابيع الرحمة، ويفتح كوامنها على الحب والحنان، أخص خصائص الإنسان. جاءه يوما أعرابي فقال: أتقبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟)) (¬1). وتروي السيدة عائشة أم المؤمنين: ((أن فاطمة كانت إذا دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إليها، فرحب بها، وقبلها، وأجلسها في مجلسه. وكان إذا دخل عليها قامت إليه، فأخذت بيده، فرحبت به، وقبلته، وأجلسته مجلسها. وأنها دخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه، فرحب بها، وقبلها)) (¬2). إن المسلم الصادق لا يملك إزاء هذا الهدي النبوي العالي أن يكون متجهما لأولاده، جافا في معاملتهم، فظا في مخاطبتهم، حتى ولو كان في طبعه جفاء، وفي خلقه جفاف وكزازة؛ ذلك أن هذا الدين بما جاء به من هدى منير، يرقق القلب، ويفجر ينابيع الحنان، ويذكي أوار الحب، فإذا الأولاد قطع من القلب تسعى على الأرض، كما قال الشاعر (¬3): وإنما أولادنا بيننا…أكبادنا تمشي على الأرض إن هبت الريح على بعضهم…تمتنع العين من الغمض وإذا الوالدان ذوب عاطفة، ودفقة حنان، وموجة رعاية وتضحية واحتضان. ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه البخاري. (¬3) البيتان في شرح الحماسة للتريزي 1/ 275 لحطان بن المعلى.

ينفق عليهم بسخاء وطيب نفس

ينفق عليهم بسخاء وطيب نفس: على أن الإسلام لا يكتفي بعاطفة الوالدين الفطرية وحنانهما على الأولاد، إذ ربما يعرض في الحياة ما يلهي عن الولد، ويصرف الوالدين أو أحدهما عن التضحية في سبيله بطيبات الحياة، أو تقسو الأيام، ويخشن العيش، ويستحكم الإملاق، فيتذمر الوالدان أو أحدهما من ثقل التبعات، وفداحة الأعباء، وبهظ النفقات؛ ولهذا كله رفد الإسلام عاطفة الوالدين الفطرية بما أعده لهما من ثواب عظيم، تهون أمامه التضحيات، ويصغر العذاب ويتلاشى البؤس والإملاق. عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، هل لي أجر في بني سلمة أن أنفق عليهم، ولست بتاركتهم هكذا وهكذا؟ إنما هم بني، فقال: ((نعم لك أجر ما أنفقت عليهم)) (¬1). وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة، يحتسبها (¬2)، فهي له صدقة)) (¬3). بل إن الإسلام ليجعل النفقة على الأهل والعيال أفضل وجوه النفقة وأعظمها أجرا، نرى مصداق ذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك)). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) أي يقصد بها وجه الله والتقرب إليه. (¬3) متفق عليه.

لا يفرق في حنوه ونفقته بين البنين والبنات

وفي رواية أخرى لمسلم: ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)). وإن نفس المسلم الحق الصادق لتطيب وترتاح وتسعد بالنفقة على العيال، إذ تستيقن أن ما من نفقة ينفقها المسلم على عياله أو غيرهم، يبتغي بها وجه الله إلا أعظم الله له فيها الأجر، حتى اللقمة يرفعها الرجل إلى فم امرأته متوددا ملاطفا مداعبا، له فيها أجر، يؤكد ذلك الحديث الذي رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في أمرأتك)) (¬1). والمسلم الصادق لا يستطيع أن يتخفى عن عياله، ويجعلهم في فاقة وعسر وضياع، وهو يسمع صوت الرسول العظيم يهدد الرجال المتخفين عن مسؤولياتهم العائلية، وينذرهم بأوخم العواقب، وأشد أنواع الإثم والعقاب: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) (¬2). لا يفرق في حنوه ونفقته بين البنين والبنات: وقد يضيق بعض الناس ذرعا بالبنات، ويتمنون لو أن الله ما رزقهم سوى الصبيان، ولم يدر هؤلاء الثواب العظيم الذي أعده الله للوالد الذي رزقه البنات، فصبر عليهن وأحسن تربيتهن، وفاضت نفسه بالحنان عليهن. ولو علموا هذا الثواب الذي ينتظر أبا البنات البار الكافل الرحيم لغبطوه عليه، وتمنوا لأنفسهم مثله. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.

يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان له ثلاث بناب، فصبر عليهن، وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته، كن له ججابا من النار يوم القيامة)) (¬1). وفي رواية: ((من كان له ثلاث بنات يؤويهن، ويكفيهن، ويرحمهن، فقد وجبت له الجنة البتة، فقال رجل من بعض القوم: واثنتين يارسول الله؟ قال: ((واثنتين)). فأي أب يتأفف من تربية البنات والإنفاق عليهن بعد أن يسمع ما أعده الله له من أجر ونعيم؟. ويلحظ الإسلام، وهو دين الحياة الذي يعالج واقع الناس ومشكلاتهم في كل زمان ومكان، أن البنت قد تطلق وتعود إلى بيت أبيها، وقد يكون أبوها في عسر وفاقة وضيق، من قلة في الدخل، أو كثرة من الولد، فيضع له الإسلام البلسم الشافي لجراح نفسه المعذبة المكدودة، ويقشع عنها ما يساورها من هم ونصب وعذاب، إذ يبين لهذا الوالد ذي العيلة أن إنفاقه على بنته المردودة إليه من أعظم الصدقات وأقرب القربات إلى الله. يقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لسراقة بن جعشم: ((ألا أدلك على أعظم الصدقة، أو من أعظم الصدقة؟)) قال: بلى، يا رسول الله! قال: ((ابنتك مردودة إليك، ليس لها كاسب غيرك)) (¬2). فأين هذا الري العاطفي النبيل الذي يحظى به الأولاد في دنيا الإسلام من جفاف الحياة المادية الذي يعانيه الأولاد في الغرب، إذ ما يكاد الولد، صبيا كان أو بنتا، يكمل الثامنة عشرة من عمره حتى يخرج من محضن أبويه الدافىء، ليلقى الحياة المادية القاسية، ويواجه أعاصير الكسب، ولما يشتد عوده، ولما ينهل من منهل الحنان العائلي ما يرويه!!. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح. (¬2) رواه البخاري في الأدب المفرد.

مفتح العينين على كل ما تؤثر في تكوينهم وتوجيههم

إنه الفرق البعيد الشاسع بين تشريع الله الذي جاء لسعادة الإنسان، وتشريع البشر القاصر الذي شقي به الإنسان. ولا بدع أن نجد في الغرب، نتيجة لهذا التشريع المادي، جيوش المنحلين التائهين من الشبان، وجموع العاثرات من الأمهات غير المتزوجات من الفتيات البائسات الضائعات، وأعداد هؤلاء وأولئك في تصاعد مستمر على مر الأيام. مفتح العينين على كل ما تؤثر في تكوينهم وتوجيههم: والوالد المسلم الواعي مفتح العينين على أولاده، يعرف ما يقرأون وما يكتبون، ويعرف هواياتهم التي اختاروها لأنفسهم، أو لفتهم هو إليها ونماها فيهم من حيث لا يشعرون، ويعرف رفاقهم الذين يلازمونهم، أو يقضون معهم معظم الأوقات، ويعرف الأماكن التي يرتادها أولاء في أوقات الفراغ، يعرف هذا كله من حيث لا يشعرون برقابته عليهم، فإذا ما وجد انحرافا منهم في مطالعة، أو هواية، أو تعلق برفيق سوء، أو ارتياد لأماكن مشبوهة، أو اعتياد بعض العادات الضارة كالتدخين، أو العكوف على الألعاب المكروهة أو المحرمة، مما يقتل الوقت، ويهدر الطاقة، ويعود الناشىء على الفراغ واللهو والتفاهة، إذا ما آنس الوالد شيئا من ذلك في أولاده، ردهم إلى الجادة برفق وحكمة وحزم، وسددهم إلى الصواب بلباقة وإقناع وجد. ذلك أن كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري. ومن هنا تبرز مسؤولية الوالدين في صياغة عقل المولود وتكوين شخصيته وتربية نفسه بملاحظة العوامل التربوية المؤثرة المذكورة آنفا. فالكتاب الذي يعكف على مطالعته الأولاد ينبغي أن يكون مفتحا

لأذهانهم، مكونا لنفوسهم على مكارم الأخلاق، مزودا شخصياتهم بالمثل العليا، لا أن يكون مغتالا لعقولهم، مفسدا لفطرهم، مطفئا جذوات الخير في نفوسهم. والهوايات ينبغي أن تكون منفية جوانب الخير في نفوسهم لا جوانب الشر، مشعلة جمرات الحق في أفئدتهم لا جمرات الباطل، مربية فيهم الذوق السليم لا الذوق السقيم. والرفيق ينبغي أن يكون قائدا إلى الجنة لا إلى النار، مرشدا إلى الحق لا إلى الباطل، هاديا إلى الرشد والتسامي والنجاح والبر، لا إلى الغي والهبوط والخيبة والعقوق، وكم من رفيق جر رفاقه إلى مزالق السوء ومنحدرات الشر ومهاوي الرذيلة، والآباء عن أولادهم غافلون، وما أحكم قول الشاعر عدي بن زيد العبادي في الصاحب والقرين (¬1): إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم…ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي عن المرء لا تسأل وسل عن قرييه…فكل قرين بالمقارن يقتدي وهكذا فعين الوالد المسلم الواعي تلحظ في تربيته لأولاده الكتاب والمجلة والرفيق والهواية والمدرسة والأساتذة والنادي ووسائل الإعلام، وكل ما له تأثير في تكوين شخصيات أولاده وتربية عقولهم ونفوسهم وعقيدتهم، وتتدخل عند اللزوم سلبا أو إيجابا، كيلا تتعثر العملية التربوية للأولاد، أو تصاب بعراقيل أو أمراض أو مشوهات. ومن هنا نستطيع تفسير نجاح بعض الأسر في تربية أبنائها، وإخفاق بعضها، فالأسر الأولى شعرت بمسؤوليتها إزاء أولادها، فأولتهم عنايتها، فكانوا خيرا عليها وعلى المجتمع والناس، والثانية لم تشعر بمسؤوليتها هذه، ¬

_ (¬1) ديوان عدي: 107.

يسوي بينهم

فأهملتهم، فكانوا شرا واصبا عليها وعلى المجتمع والناس، وبلاء يلاحقها في هذه الحياة وبعد الممات، وصدق الله العظيم: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (¬1). وما كان الأولاد ليكونوا أعداء لآبائهم لو أن الآباء استقاموا على الطريقة، وعرفوا مسؤولياتهم إزاء أولادهم، وقاموا بتبعاتها حق القيام. يسوي بينهم: ومن أسلوب التربية الحكيم للأبناء التسوية بينهم، وعدم تفضيل أحدهم على الآخر في الأمور كلها، ذلك أن الولد الذي يشعر بالتسوية والعدل بينه وبين إخونه ينشأ صحيح النفس، بريئا من عقد النقص، لا يحقد على إخوته، ولا تأكل قلبه الغيرة والحسد، بل يشيع في نفسه الرضا والتسامح والإيثار والبر وحب الغير، وهذا ما حض عليه الإسلام، وأمر به الوالدين. روى الشيخان عن النعمان بن بشير رضى الله عنهما أن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكل ولدك نحلته مثل هذا؟)) فقال: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فارجعه))، وفي رواية: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم))، فرجع أبي فرد تلك الصدقة. وفي روايه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بشر، ألك ولد سوى هذا؟))، قال: نعم، قال: ((أكلهم وهبت له مثل هذا؟)) قال: لا، قال: ((فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور))، ثم قال: ((أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟)) قال: بلى، قال: ((فلا إذا)) (¬2). ¬

_ (¬1) التغابن: 14. (¬2) متفق عليه.

يغرس فيهم الأخلاق العالية

ومن هنا كان المسلم التقي عادلا بين أولاده، لا يفضل أحدهم على الآخر في هبة أو نفقة أو معاملة، وبذلك تلهج ألسنتهم جميعا بالدعاء له، وتخفق قلوبهم بحبه، وتعمر نفوسهم ببره وإجلاله وإكباره. يغرس فيهم الأخلاق العالية: وبهذه النفوس الطافحة بالبشر والرضا والقناعة والبر، يستطيع الوالد أن يرقى بأولاده صعدا في مدارج المثل العليا والمكارم الإنسانية الرفيعة، فيغرس فيهم الأخلاق العالية من حب للآخرين، وحدب على الضعفاء، وصلة للأرحام، واحترام للكبير، ورحمة بالصغير، وارتياح لفعل الخير، ورغبة في إشاعة العدل بين الناس، وما إلى ذلك من مكلارم الأخلاق؛ ذلك أن الخير لا يندفع إلا من النفوس التي ارتوت منه، وفاقد الشيء لا يعطيه، وصدق من قال: ((الصلاح من الله، والأدب من الآباء)) (¬1). إن الوالد المسلم الحصيف يعرف كيف يتسرب إلى نفوس أبنائه، ويغرس فيها الحكمة والخلق القويم، مستخدما في ذلك الأساليب التربوية الحكيمة، من قدوة مثلى محببة، وتبسط ومخالطة وحسن تعهد، ورحمة وتواضع وبشر، وحب واهتمام وتشجيع، وعطف ومساواة وعدل، ونصح وتسديد وإرشاد، في لين من غير ضعف، وشدة من غير عنف، وبذلك ينشأ الأولاد في جو كله بر ورعاية وحنان، ومثل هذا الجو لا بد أن يعطي أولادا أبرارا، أوفياء، صالحين، أسوياء الشخصية، مفتحي الأذهان، قادرين على العطاء، مهيئين لتحمل المسؤوليات. وهذا بدهي في كل أسرة تربت على مبادئ الإسلام، وتأدبت بأدب القرآن، وصدق الله العظيم: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً؟} (¬2). ¬

_ (¬1) الأدب المفرد للبخاري: 92. (¬2) البقرة: 138.

المسلم مع أقربائه وذوي رحمه

6 - المسلم مع أقربائه وذوي رحمه الأرحام: لا يقتصر بر المسلم على والديه وزوجه وأولاده، بل يتعداهم إلى أقاربه وذوي رحمه، فيشمل هؤلاء جميعا ببره وإحسانه وحسن صلته. والأرحام: هم الأقارب الذين يرتبطون مع الإنسان بنسب، سواء أكانوا يرثونه أم لا يرثونه. حفاوة الإسلام بالرحم: ذلك أن الإسلام حفي بالرحم حفاوة ما عرفتها الإنسانية في غيره من الأديان والنظم والشرائع، فأوصى بها، وركب في صلتها، وتوعد من قطعها. وليس أدل على حفاوة الإسلام البالغة بالرحم من تلك الصورة الرائعة التي رسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرحم، تقوم بين يدي الله في الساحة الكبيرة التي خلق الله فيها الخلق، فتستعيذ به من قطيعتها، ويجيبها الله عز وجل إلى سؤلها، فيصل من وصلها، ويقطع من قطعها، وذلك في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة، قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك،)) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرأوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (¬1). ولقد جاءت آيات القرآن الكريم تترى مؤكدة منزلة الرحم في الإسلام، حاضة على الإحسان إليها، وإرهاف المشاعر للإحساس بوشائجها وأداء حقوقها، وتوقي هضم تلك الحقوق أو خدشها أومسها بظلم أو أذى، محذرة من الإساءه إليها. ومن هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (¬2). فقد أمر بتقوى الله، وثنى بالأرحام، إعظاما لها، وتأكيدا على توقيرها، والحنين دوما إلى نداها وظلها. وحسب الرحم أهمية ومنزلة في شعور المسلم الصادق أن الأمر بصلتها وبرها أتى في أكثر الآيات الكريمة بعد الإيمان بالله والإحسان بالوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬3). ثم يقول بعد قليل: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (¬4). {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... } (¬5). ومن هنا تأتي مرتبة ذوي القربى في البر بعد الوالدين، كما حددها ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) النساء: 1. (¬3) الإسراء: 34. (¬4) الإسراء: 26. (¬5) النساء: 36.

التوجيه القرآنى الحكيم، متدرجا من الأعلى إلى الأدنى في سلم العلاقات الإنسانية، ثم يمتد البر من ذوي القرابة ويتسع نطاقه، وينسحب خيره على المحتاجين جميعا في الأسرة الإنسانية الكبيرة، وهذا ما يوائم طبيعة النفس البشرية التي هي أميل إلى البدء ببر الأقربين، ويلائم منهج الإسلام العام في تنظيم المجتمع الإسلامي، إذ جعل التكافل الاجتماعي يبدأ من محيط الأسرة، ثم يمتد إلى دائرة الأقربين، ثم ينساح في محيط الجماعة، في سهولة ويسر، وفي تراحم ورضا وود، يجعل الحياة حلوة جميلة شائقة لائقة ببني الإنسان. وصلة الرحم من المبادئ الإسلامية الأولى، والأصول الكبرى التي طلع بها هذا الدين على الدنيا منذ اليوم الأول الذي صدع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة، مبينا أسسها، موضحا معالمها؛ فهي إذا من أبرز المعالم وأوضحها في شريعة هذا الدين، يشهد لذلك حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل، إذ سأل أبا سفيان: فماذا يأمركم به نبيكم؟ فأجابه: يقول: ((اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة)) (¬1). فقد جاءت صلة الرحم في عداد المعالم الكبرى لهذا الدين الحنيف، من توحيد لله، وإقامة للصلاة، والتمسك بالصدق والعفاف. ومن هنا كانت صلة الرحم من أبرز مميزات هذا الدين التي تعرض على أسماع السائلين عنه لأول مرة. وفي حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه الطويل المشتمل على جملة من قواعد الإسلام وآدابه، قال فيه: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، يعني في أول النبوة، فقلت له: ما أنت؟ قال: ((نبي؟ فقلت: وما نبي؟ قال: ¬

_ (¬1) متفق عليه.

((أرسلني الله))، فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ... )) (¬1). وواضح أن الرسول الكريم في شرحه الموجز لأهم مبادئ الإسلام وقواعده في هذا الحديث قدم صلة الأرحام، فذكرها في طليعة تلك المبادئ والقواعد، وهذا يوحي بما لها من كبير المنزلة، وعظيم المكانة، في منهج هذا الدين الذي أنزله الله رحمة للعالمين. ومن هنا استفاضت النصوص التي تحض على صلة الرحم، وترغب فيها، وتحذر من قطيعتها، وتتوعد جافيها. فعن أبي أيوب الأنصاري أن رجلا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)) (¬2). فصلة الرحم تأتي مع عبادة الله وتوحيده وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في سياق واحد، فهي إذا من أجل الأعمال الصالحات التي تضمن لصاحبها الجنة، وتقيه من النار. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)) (¬3). فهي إذا بركة على الواصل في رزقه، وبركة عليه في عمره، تزيد في ماله وتنميه، وتطيل في أجله وتبارك فيه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه.

وكان ابن عمر يقول: ((من اتقى ربه، ووصل رحمه نسئ ت في أجله، وثرى ماله، وأحبه أهله)) (¬1). وكما رأينا صلة الرحم بركة على صاحبها في رزقه وعمره، ورحمة من الله تتغشاه في دنياه وأخراه، ومجلبة لمحبة الناس له، والثناء عليه، فإننا نجد بالمقابل قطيعة الرجم شؤما على صاحبها وبلاء، ومقتا له من الله والناس، وبعدا له عن الجنة في دار القرار. وحسب قاطع الرحم بلاء وشقاء وحرمانا أن يسمع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) (¬2). وحسبه شؤما وتعسا وضلالا أن الرحمة لا تتنزل على قوم هو فيهم، كما في الحديث الذي رواه البيهقي في شعب الإيمان: ((ان الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم)) (¬3). ولهذا كان الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه لا يرضى أن يدعو الله في مجلس فيه قاطع رحم؛ لأنه يحول دون نزول الرحمة واستجابة الدعاء؛ فقد قال في أحد مجالسه عشية يوم خميس، ليلة الجمعة: ((أخرج (¬4) على كل قاطع رحم لما قام من عندنا، فلم يقم أحد، حتى قال ثلاثا. فأتى فتى عمة له قد صرمها منذ سنتين، فدخل عليها، فقالت له: يا ابن أخي، ما جاء بك؟ قال: سمعت أبا هريرة يقول: كذا وكذا، قالت: ارجع إليه فسله: لم قال ذاك؟ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) متفق عليه. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬4) أي أضيق وأصر.

((إن أعمال بني آدم تعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل يوم خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم)) (¬1). إن المسلم المرهف الحس، المتطلع إلى رضوان ربه وسلامة آخرته، لتهزه هذه النصوص من الأعماق؛ إذ تقرر أن قطيعه الرحم تحجب الرحمة، وترد الدعاء، وتحبط العمل، وإنه لبلاء كبير يحيق بالمرء أن يدعو فلا يستجاب له، ويعمل فلا يرفع له عمل، ويفيء إلى رحمة ربه فتبتعد عنه. ومن هنا لا يتصور أبدا أن يكون المسلم الحق قاطع رحم في يوم من الأيام. إن قطيعة الرحم ذنب لا يبوء بإثمه مسلم استنار قلبه بهدي الإسلام، وتفتحت نفسه على طاعة الله وضوانه؛ ذلك أن قطيعة الرحم من الذنوب التي يعجل الله بها العقوبة، بل إنها في طليعة الذنوب التي يأخذ أصحابها بها فى الدنيا قبل الآخرة، كما جاء في الحديث الشريف: ((ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الآنيا- مع ما يدخر له في الآخرة- من قطيعة الرحم والبغي)) (¬2). فقطيعة الرحم والبغي صنوان، ولذا قرنهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه؛ ذلك أن قطيعة الرحم من الظلم، وأي ظلم أشد من تقطيع الوشائج، وفصم عرى المحبة، وتجفيف ينابيع الوداد؟!. ولقد مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الظلم يقع على الرحم بالقطيعة، فقال: ((إن الرحم شجنة (¬3) من الرحمن، تقول: يا رب، إني ظلمت، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ورواه أحمد في مسنده. (¬2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح. (¬3) أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق.

المسلم واصل رحمه حسب هدي الإسلام

يا رب، إني قطعت، يا رب، إني ... فيجيبها: ألا ترضين أن أقطع من قطعك وأصل من وصلك؟)) (¬1). لقد أعلى الله من شأن الرحم، إذ جعلها شجنة من اسمه الرحمن، وكرمها، إذ اشتق اسمها من اسمه، فقال: ((أنا الرحمن، وأنا خلقت الرحم واشتققت لها من اسمي. فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)) (¬2). وفي ذلك إشارة للمسلم المرقف أن واصلها ينعم في ظلال رحمة ربه الوارفة الندية البرود، موصولا منعما مكرما، وأن قاطعها محروم من تلك الظلال، مبتوت شقي مهان. المسلم واصل رحمه حسب هدي الإسلام: ومن هنا كان المسلم التقي الواعي واصلا رحمه، لا تلهيه الدنيا، ولا المال ولا الزوجة والولد، عن تفقد ذوي رحمه وقرابته، وبرهم وإكرامهم ومعونتهم، وهو في ذلك يتبع هدي الإسلام الحنيف الذي نظم هذه الصلة، فجعلها متسلسلة حسب الأهمية والقرب، فبدأ بالأم، ثم بالأب، ثم بالأقرب فالأقرب؛ فقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، من أحق بحسن الصحبة؟ قال: ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك (¬3) (¬4). وإن للمسلم في بره ذوي القربى لأجرين، أجر القرابة وأجر الصدقة، وهذا أدعى أن يتيمم في عطائه ذوي رحمه، إن كانوا بحاجة إلى المال، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي. (¬3) أي الأقرب إليك فالأقرب. (¬4) متفق عليه.

فيغنم بذلك الأجرين عند الله، وخفق القلوب بحبه عند رحمه وذوي قرباه، وهذا ما حبب به الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ودعا إليه في الحديث الذي روته زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن)). قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقلت له: إنك رجل خفيف ذات اليد (¬1)، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزئ عني (¬2)، وإلا صرفتها إلى غيركم. فقال عبد الله: بل ائته أنت، فانطلقت، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجتي حاجتها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابة، فخرج علينا بلال، فقلنا له: ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما (¬3)، ولا تخبره من نحن، فدخل بلال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أي الزيانب هي؟)) قال: امرأة عبد الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة)) (¬4). ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)) (¬5). ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤكد أفضلية بر الأقربين في كل فرصة تسنح، وفي كل مناسبة تمر. فلما نزلت الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬6)، قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا رسول الله، إن الله ¬

_ (¬1) أي قليل الحال. (¬2) أي دفع الصدقة لكم. (¬3) أي في ولايتهما. (¬4) متفق عليه. (¬5) رواه الترمذي وقال حديث حسن. (¬6) آل عمران: 92.

يصل أرحامه ولو كانوا غير مسلمين

تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. وإن أحب مالي إلي بيرحاء (¬1)، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بخ (¬2)، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح! وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (¬3). وأوغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قلب الزمن، موصيا بالرحم المتحدرة عبر القرون والآماد، حينما أوصى بشعب مصر في الحديث الذي رواه مسلم: ((ستفتحون مصر، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما، أو قال: ذمة وصهرا)). وقال العلماء في شرحه: الرحم التي لهم: كون هاجر أم إسماعيل منهم. والصهر: كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم. فيا للوفاء والبر، ويا للندى الإنساني يمتد ويتسع حتى يشمل الذراري المتحدرة من هاتين الرحمين الكريمتين على كر السنين والأحقاب!. فلا بدع إذا أن يولي المسلم التقي الواعي ذوي رحمه اهتماماته كلها، وأن يقبل على برهم وصلتهم والإحسان إليهم إقبال الربيع الخصب الجواد المعطاء. يصل أرحامه ولو كانوا غير مسلمين: ويسمو الإسلام في سماحته وإنسانيته، إذ يوصي بصلة الرحم ولو كان الأرحام من غير المسلمين، ففي الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن ¬

_ (¬1) بيرحاء: حديقة نخل. (¬2) بخ: كلمة تقال للإعجاب بالأمر وتفخيمه. (¬3) متفق عليه.

العاص رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - جهارا غير سر يقول: ((إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها (¬1))) (¬2). ولما نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬3)، دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، وقال: ((يا بني عبد شمس، يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها)) (¬4). إن ندى العاطفة الإنسانية لا ينقطع من قلب المسلم، بل يتسرب منه إلى ذوي القربى بلة من ري البر والعطف، ولو كانوا على غير دين الإسلام، ومن هنا كان تعبير الرسول الكريم: ((غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها)) من درر البلاغة العربية؛ إذ شبه الرحم بالأرض تندى بالصلة فتثمر المحبة والصفاء، وتجف بالقطيعة فتنبت البغضاء والجفاء، والمسلم الحق آلف مألوف، يحبه الناس جميعا، إذ يرون فيه مكارم الأخلاق مجسدة حية ناطقه. ولهذا لم يجد عمر رضي الله عنه خرجا من أن يهدي حلة بعث بها إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أخ له من أمه مشرك (¬5). ¬

_ (¬1) أي أصلها بالمعروف اللائق بها. والبلال: الماء، شبه صلة الأرحام بالنداوة والري. (¬2) متفق عليه. (¬3) الشعراء: 214. (¬4) رواه مسلم. (¬5) رواه البخاري.

يفهم صلة الرحم بمعناها الواسع

لقد سبق أن رأينا حض الإسلام على بر الوالدين، ولو كانا مشركين، وها نحن أولاء نرى حضه على بر ذوي القربى، ولو كانوا غير مسلمين أيضا، وهذا دليل على سماحة هذا الدين وإنسانيته، وليس هذا ببدع في دين، خاطب الله رسوله بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1) وقال رسوله: ((إنما بعثت لأتمم حسن الأخلاق)) (¬2). يفهم صلة الرحم بمعناها الواسع: وصلة الرحم عند المسلم الحق الواعي هدي دينه لا تكون ببذل المال فحسب، بل هي أعم من ذلك وأوسع، إنها تكون ببذل المال للعفاة (¬3) من ذوي القربى، وتكون بالزيارة التي توطد أواصر القرابة، وتوثق وشائج المحبة، وتمد في التواد والتراحم، وتكون بالتناصح كالعون والإيثار والإنصاف، وتكون بالكلمة الطيبة، والوجه الطلق، واللقاء الحسن، والابتسامة الودود، وتكون في غير ذلك من أعمال الخير التي تفجر ينابيع الحب في القلوب، وتبسط رواق الألفة والتراحم والتكافل على ذوي الرحم والقرابة، ولهذا جاء التوجيه النبوي العالي حاضا على هذه الصلة في أبسط أشكالها وأقلها كلفة ومؤونة بقوله: ((بلوا أرحامكم ولو بالإسلام)) (¬4). يصل رحمه ولو لم يصلوه: والمسلم الحق يصل ذوي رحمه، ولو لم يصلوه؛ ذلك أن واصل الرحم المبتغي بصلته هذه رضوان الله عز وجل، والتخلق بالخلق الإسلامي السامي ¬

_ (¬1) الأنبياء: 107. (¬2) رواه الإمام مالك في الموطأ. (¬3) أي الفقراء. (¬4) رواه البزار عن ابن عباس، وطرقه يقوي بعضها بعضا.

لا ينتظر على صلته هذه أن يكافأ بمثل فعله، فهو واصل دوما لرحمه وذوي قرابته، وصلوه أم لم يصلوه، ضاربا بخلقه الإسلامي الإنساني الرفيع المثل الأعلى على صياغة الإسلام للإنسان، صياغة تجعله إنسانا راقيا ساميا، في تعامله مع أقربائه وذوي رحمه في جميع الأحوال. وقد أكد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في المسلم الحق الصادق إذ قال: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) (¬1). وجاء الهدي النبوي الكريم يعزز خلق الحلم والصبر والعفو والسماحة في نفس واصل الرحم الذي يصل قرابته، فلا يقابلونه إلا بالقطيعة والجفاء والإساءة، إذ قرر أن الله مع من يصل الرحم فلا يجازى على صلته بمثلها، ورسم صورة مخيفة للإثم الذي يلحق الجفاة المنكرين للمعروف المقطعين للأرحام، فقد جاء رجل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: ((لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل (¬2)، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) (¬3). أرأيت إلى واصل الرحم الصابر على جفاء وقطيعة ذوي قرباه كيف أمده الله بظهير من عنده يعينه عليهم، ويملأ قلبه بالصبر على أذاهم، ويثبته على الاستمرار في خلقه الإنساني النبيل؟ وكيف شبه الرسول الكريم ما يلحق ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) أي الرماد الحار. (¬3) رواه مسلم.

أولئك العتاة الجفاة المسيئين من الإثم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، جزاء ما اقترفوه في حق هذا المحسن الكريم الودود من تقصير وإساءة وجفاء؟ من هنا كان المسلم الحق واصلا رحمه على كل حال، متطلعا دوما إلى مرضاة ربه في هذه الصلة، مترفعا أبدا عن الجهالات والحماقات والإساءات، تبدر بين الحين والحين من ذوي قرابته، معرضا عن الصغائر والتفاهات التي تشغل الصغار من الناس، وتوغر منهم الصدور. فالمسلم التقي الواعي أكبر من أن يصغي لهذه الجهالات والحماقات والصغائر والتفاهات، فتؤثر على علاقاته بذوي رحمه وبره بهم، وهو يسمع قول الرسول الكريم: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطغني قطعة الله)) (¬1). ¬

_ (¬1) متفق عليه.

المسلم مع جيرانه

7 - المسلم مع جيرانه أحسن الناس معاملة لجيرانه: المسلم الحصيف الواعي أحكام دينه أحسن الناس معاملة لجيرانه، وأكثرهم برا بهم، وحدبا عليهم. وعيه هدي الإسلام في الإحسان إلى الجار: ذلك أنه يعي هدي الإسلام الثر وتوصياته الغنية بالجار، والمكانة الرفيعة التي أحله إياها في سلم العلاقات البشرية، وإنها لمكانة ما عرفتها قبل هذا الدين شريعة، ولا داناها بعدة نظام. فقد أمر الله تعالى في محكم كتابه بالإحسان إلى الجار، فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ... } (¬1). والجار ذو القربى هو الذي تجمعك به مع الجوار آصرة النسب أو الدين، والجار الجنب هو الذي لا تجمعك به صلة من نسب أو دين، والصاحب بالجنب هو الرفيق في أمر حسن. ¬

_ (¬1) النساء: 36.

فكل من جاورك في السكن له عليك حق الجوار، ولو لم يكن بينك وبينه وشيجة من نسب، أو رابطة من دين. وفي هذا تكريم للجار أي تكريم في شرعة الإسلام الإنسانية السمحة الغراء. ومن هنا كانت أحاديث الرسول الكريم تترى موصية بالجار على وجه العموم، غير ناظرة إلى قرابته أو دينه، مؤكدة أهمية علاقة الجوار في الإسلام، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) (¬1). إنها للمنزلة الكريمة العالية، يمنحها الإسلام للجار على لسان الروح الأمين جبريل، الذي ما فتئ يؤصلها ويؤكدها للرسول الكريم حتى حسب أنها سترفعه إلى درجة القرابة، فتجعله وارثا مثلهم. وقد لهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إزاء توصية جبريل، بالحض على إكرام الجار والإحسان إليه، حتى إنه لم يخل خطبته التاريخية في حجة الوداع التي اعتصر فيها أهم ما ينبغي قوله للمسلمين من أن يجعل للجار فيها حيزا كبيرا، لفت نظر الصحابى الجليل أبي أمامة، حتى ظن أيضا أن الرسول الكريم سيورثه، وذلك في قوله: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: أوصيكم بالجار حتى أكثر، فقلت: إنه يورثه)) (¬2). وتبلغ وصية الرسول الكريم بالجار حدا من الأهمية والخطورة، يجعل الإحسان إليه، والتنزه عن أذاه، علامة من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر، ونتيجة حتمية من نتائجه الحسان، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه الطبراني بإسناد جيد.

المسلم الحق سمح مع جاره

((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت)) (¬1). وفي رواية للبخاري: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ... )). المسلم الحق سمح مع جاره: فلا بدع أن يكون المسلم الحق المستنير قلبه وعقله بهدي هذا الدين سمحا مع جاره، موطأ الكنف، حسن العشرة، لطيف المعاملة، لا يمنعه من الاستفادة من بيته إن احتاج إلى شيء من ذلك، مستهديا بهدي الرسول الكريم القائل: ((لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره)) (¬2). يحب له ما يحب لنفسه: والمسلم المتفتح البصيرة، المستهدي بنور دينه السمح، رقيق القلب، يقظ الفكر، لبق، مرهف، يحس بإحساس جاره، يفرح لفرحه، ويألم لألمه، يحب له ما يحب لنفسه، أخذا بقول الرسول الكريم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (¬3). وفي رواية لمسلم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي ييده لا يومن عبد حتى يحب لجاره، أو قال: لأخيه، ما يحب لنفسه)). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه.

شقاء الإنسانية بسبب غياب المسلم وأخلاقه

ولا يغيب عنه أن يتعهد جيرانه المعسرين كلما انبعثت روائح الطبخ والشواء من منزله، ويعز عليه أن يتأذى جيرانه المملقون من روائح قدره أو شوائه، فتثور في نفوسهم الشهوة إلى الطعام، وهم غير قادرين على تحصيله، وقد يكون بينهم الصغير القاصر، واليتيم البائس، والأرملة المسكينة، والشيخ العاجز، ذلك أن المسلم الحق متيقظ دوما إلى روح التكافل الاجتماعي التي غرسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفوس المسلمين إذ قال في حديثه لأبي ذر: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك)) (¬1). وفي رواية: ((إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف)) (¬2). إن المسلم الصادق لا يحتمل وجدانه المرهف أن يكون جاره في ضيق وفاقة وعسر، وهو في بحبوحة من العيش، منعم، مرفه. وكيف يحتمل وجدانه الذي أرهفه الإسلام هذه المفارقة بينه وبين جاره، وهو يسمع قول الرسول الكريم: ((ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم)) (¬3). وقوله: ((ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع)) (¬4). شقاء الإنسانية بسبب غياب المسلم وأخلاقه: من هنا ندرك أن الشقاء الذي حاق بالإنسانية في كل مكان، إنما كان بسبب غياب المسلم الحق عن مسرح الحياة الموجهة، وتواري مبادئ ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن. (¬4) رواه الطبراني وأبو يعلى، ورجاله ثقات.

الإسلام الإنسانية العادلة خلف ركام المبادئ الوضعية المتخلفة، التي لم تجن منها الإنسانية سوى البؤس والفاقة والاستغلال والجوع والعري في عصر الفضاء، عصر الصواريخ والأقمار الصناعية وصعود الإنسان إلى القمر؛ فلقد أعلنت منظمة الأغذية والزراعة العالمية التابعة للأمم المتحدة عام 1975 أن هناك ما بين عشرين إلى مئة مليون شخص في إفريقيا وآسيا يواجهون احتمال الموت جوعا خلال السنوات القليلة القادمة، وأن الوضع إذا استمر على ما هو عليه فإنه يهدد بموت ثلاثة ملايين نسمة كل أسبوع جوعا، وأن هناك ما بين 460 مليونا وألف مليون شخص يعانون سوء التغذية. وتناقلت وكالات الأنباء في العام نفسه قصة، مفادها أن فتاة أوروبية تطوعت للعمل ممرضة في إحدى المناطق الأفريقية التي يعاني سكانها سوء التغذية المزمنة، وكانت النتيجة أنها أصيبت بحالة انهيار عصبي شديد كاد يودي بها إلى الجنون المطبق، وذلك بعد أن شاهدت صراعا داميا بين بعض الأطفال الأفريقيين الذين دفعهم الجوع إلى الاقتتال الوحشي من أجل الفوز بقطعة من ثمر "المانجو"، ولم يتوقف القتال إلا بعد أن فقأ أحد الأطفال عين زميله، ولم يكن أكبر المقاتلين سنا يتجاوز الثامنة من عمره. وكم سبب هذا الجوع العمى الكامل بسبب افتقار الجسم الدائم إلى الفيتامينات، وأضوى أجسام الأطفال، فاستحالت إلى هياكل عظمية، وفقدت مناعتها من الأمراض، وأصبحت بين فكي الموت! وفي الوقت الذي يزحف فيه الجوع على آسيا وأفريقيا نجد العالم الآخر، عالم الغرب، عالم الأثرياء الذين يكونون 20% فقط من سكان العالم، ويستحوذون على 80% من الثروة العالمية، يعمل أهله بجنون على الاحتفاظ بهذه الثروة. فلقد أحرقت البرازيل في عام 1975 آلاف الأطنان من البن محافظة على مستوى سعره العالمي، ودفعت دول السوق الأوروبية

المسلم يحسن إلى جاره قدر طاقته

المشتركة خمسين مليون دولار لتدمير الأغذية والمنتوجات الزراعية الفائضة عن حاجتها لحفظ أسعارها مرتفعة، وتنفق أمريكا ثلاثة آلاف مليون دولار سنويا تعويضات على عدم إنتاج الأغذية، لتبقى محتفظة بأسعارها العالية! ويقتل المزارعون الأمريكيون عشرات الألوف من العجول، ويدفنونها أرضا، محافظة على مستوى سعر اللحم، في حين مات في العام نفسه عشرات الألوف من الجوع في أفريفيا وآسيا وأمريكا الجنوبية! ألا ما أبعد الفرق بين حضارة الإسلام الإنسانية التي لم ترض للإنسان الفقير أن يتأذى بريح قدر جاره المثير لشهوة الطعام، وبين حضارة الغرب المادية التي تهدد ملايين الأنفس بالموت جوعا! وما أشقى الإنسانية اللاهثة وراء النظم المادية، شرقيها وغربيها، متخبطة في داجي جاهلية حالكة السواد! وما أعظم مسؤولية المسلمين في حمل مشعل النور الذي يوقد من شجرة مباركة، لا شرقية ولا غربية، فبه وحده تتبدد حنادس الجاهلية، وبنوره وحده تستضيء العقول والقلوب، وتفيء الإنسانية إلى الرشد والهداية والأمن والرخاء. المسلم يحسن إلى جاره قدر طاقته: والمسلم الواعي هدي دينه الحنيف يندفع في الإحسان إلى جاره على قدر طاقته، ولا يحقر القليل من الإحسان يسديه إلى جاره، كما يفعل بعض الجهلة، إذ يستقل المعروف فيمتنع عن تقديمه لجاره، فيحرم نفسه، ويحرم جاره من الخير، وهذا ما نبه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء خاصة؛ لأنهن كثيرا ما يستحيين من تقديم القليل من المعروف لجاراتهن، فقال:

يخص بإحسانه جيرانه المسلمين وغير المسلمين

((يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) (¬1) وفرسن الشاة: ظلفها، وهو كناية عن القلة، أي لا تحقرن جارة أسدت إلى جارتها شيئا من معروف، ولو كان قليلا كفرسن شاة، فهو خير من العدم، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (¬2)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) (¬3). على أن هذا الحديث الشريف، بما أفاد سياقه من عموم، يحتمل أن يكون نهيا للجارة المعطاة أيضا عن الاحتقار، ويكون معناه عندئذ: لا تحقرن جارة معروفا أسدته إليها جارتها، ولو كان هذا المعروف قليلا كفرسن شاة، بل ينبغي أن تشكرها عليه، فبالشكر على المعروف تشيع الألفة بين الجيران، وتنمو المودة ويربو التكافل والتراحم في حياتهم، هذا إلى ما في شكر الإنسان على المعروف من خلق إسلامي أصيل، أكده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحض عليه بقوله: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) (¬4). يخص بإحسانه جيرانه المسلمين وغير المسلمين: ولا يقتصر المسلم الواعي في إحسانه لجيرانه على الأقربين منهم أو المسلمين، بل يتعداهم إلى جيرانه من غير المسلمين؛ ذلك أن سماحة الإسلام تمتد وتتسع، حتى إنها لتشمل الناس جميعا، على اختلاف أديانهم ونحلهم؛ فهذا عبد الله بن عمرو الصحابي الجليل تذبح له شاة، فيسأل غلامه: ((أهديت لجارنا اليهودي؟ أهديت لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) الزلزلة: 7. (¬3) رواه البخاري. (¬4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

يقدم في إحسانه الأقرب فالأقرب

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) (¬1). ومن هنا كان أهل الكتاب يعيشون في جوار المسلمين، آمنين مطمئنين على أنفسهم كأعراضهم وأموالهم ومعتقداتهم، ينعمون بحسن الجوار، وكرم المعاملة، وحرية العقيدة، يشهد لذلك قيام كنائسهم منذ أقدم العصور في قرى مسلمة معلقة فوق رؤوس الجبال، وحولها آلاف المسلمين، يحيطون جيرانهم من أهل الكتاب بالرعاية والحماية والبر والعدل، جريا على أدب القرآن القائل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬2). يقدم في إحسانه الأقرب فالأقرب: ولا يغيب عن بال المسلم الواعي التنظيم الدقيق الذي وضعه الإسلام حينما صنف الإحسان للجيران، فأمر بتقديم الأقرب فالأقرب، مراعيا قوة العلاقة بين الجارين المتلاصقين، وما يكون بينهما عادة من حساسيات يجدر مراعاتها، استبقاء للألفة والمودة والوئام. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربهما بابا)) (¬3). ولقد وعى الصحابة الكرام هذا الهدي النبوي الرفيع في معاملة الجيران، فكانوا لا يخصون ببرهم وإكرامهم الجار الأقصى قبل الأدنى، وفي ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) الممتحنة: 8. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

المسلم الحق خير جار

ذلك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ((ولا يبدأ بجاره الأقصى قبل الأدنى، ولكن يبدأ بالأدنى قبل الأقصى)) (¬1). على أن هذا التصنيف في الإحسان للجيران لا يلوي عنق المسلم، ولا يصرف نظره عن الجيران الأبعدين عن مسكنه؛ فكل من كان في دائرة بيته داخل في ذمة الجوار، وله عليه حق الجار، وما ذلك التصنيف في تقديم الجار الأقرب إلا تصنيف تنظيمى، راعى فيه الرسول الكريم نفسية الجار الأقرب، لما يكون بينهما عادة من احتكاك وتعامل واتصال مستمر. المسلم الحق خير جار: والإحسان إلى الجار شعور أصيل عميق في وجدان المسلم الصادق، وصفة مميزة له عند الله والناس؛ ذلك أن المسلم الحق الواعي الذي رضع لبان الإسلام، وخالطت قلبه بشاشة تعاليمه السمحة، لا يستطيع إلا أن يكون خير صاحب في الأصحاب، وخير جار في الجيران، وهو من عناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيراني عند الله خيرهم لجاره)) (¬2). ومن هنا جعل الإسلام من سعادة المرء المسلم الجار الصالح؛ فجواره قرة عين لجاره، ومبعث سعادة وهناءة وارتياح وأمن وطمأنينة، وحسب الجار الصالح تكريما ورفعة أن يجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركنا من أركان السعادة في حياة المسلم فيقول: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) رواه الترمذي بإسناد صحيح.

جار السوء وصفحته السوداء

((من سعادة المرء المسلم في الدنيا الجار الصالح، والمنزل الواسع والمركب الهنيء)) (¬1). ولقد بلغ من تقدير السلف للجار الصالح أنهم كانوا يعدون جواره نعمة لا تقدر بمال، وغنيمة لا يعدلها عرض من أعراض الدنيا. ومما يروى في ذلك أن جار سعيد بن العاص ساوم على مئة ألف درهم في داره، ثم قال للمشتري: هذا ثمن الدار، وبكم تشتري جوار سعيد؟ فلما علم سعيد بذلك بعث إليه بالثمن واستبقاه في داره. هذه هي منزلة الجار في الإسلام، وهذه هي خلائق الجار المسلم الصالح، وهذه هي صفحته المشرقة الغراء، فما هي صفحة جار السوء؟ جار السوء وصفحته السوداء: إنها لصفحة قاتمة كابية كالحة معتمة، لا يستطيع الوجدان المسلم المرهف أن يتملاها دون أن يهتز فرقا، ويمتلئ هلعا ورعبا وكراهية لجار السوء. جار السوء إنسان عري من نعمة الإيمان: إنه إنسان عري من نعمة الإيمان، أكبر نعم الخالق على خلقه، ورأس كل فضيلة في هذه الحياة، وقد أكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انسلاخ هذه النعمة عن جار السوء تأكيدا لا هوادة فيه ولا تساهل ولا لين فقال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه (¬2))) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أحمد والحاكم بإسناد صحيح. (¬2) البوائق: الغوائل والشرور. (¬3) متفق عليه.

جار السوء إنسان حبط عمله

وفى رواية لمسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)). فأكبر بها من جريمة، يرتكبها جار السوء في حق جاره، إذ يسيء إليه، حتى إنها لتخرجه من نعمة الإيمان، وتحرمه من دخول الجنان!!! وإن المسلم الحق الواعي الحصيف ليصغي إلى مثل هذه النصوص بقلبه المفتوح وذهنه اليقظ، فلا يدور له في خلد أن يكون يوما مع أحد من جيرانه على خصام ومشاحنة وكيد؛ لأن ذلك يطيح بإيمانه، ويودي بآخرته، وهل بعد خسارة الإيمان والدار الآخرة من خسارة، ينهلع لها قلب المسلم التقي، ويهتز كيانه، ويطير صوابه؟. جار السوء إنسان حبط عمله: ولا غرو أن تأتي النصوص بعد ذلك تعلن أن جار السوء إنسان حبط عمله، فما تنفعه مع أذى جاره طاعة، ولا يرفع له عمل صالح؛ ذلك أن العمل الصالح في الإسلام يرتكز دوما على قاعدة الإيمان، وجار السوء لا إيمان له بنص الحديث السالف الذكر؛ فبدهي جدا أن لا يقبل الله منه عملا صالحا مهما بلغ، بل يمحقه محقا، ولو أفنى فيه بياض أيامه وسواد لياليه. قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا خير فيها، هي من أهل النار)). قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بأثوار (¬1)، ولا تؤذي أحدا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هي من أهل الجنة)) (¬2). وجار السوء من العواقر التي حددها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ¬

_ (¬1) الأثوار: جمع ثور، وهي قطعة من اللبن الجامد المستحجر. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

المسلم الحق يحذر من الوقوع في خطيئة مع جاره

((ثلاثة من العواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء إن رأى خيرا دفنه، وإن رأى شرا أذاعه، وامرأة إن حضرت آذتك، وإن غبت عنها خانتك)) (¬1). ومن هنا ترتسم في مخيلة المسلم التقي الواعي صورة جار السوء البشعة، كما وصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو منها بعيد جد بعيد. المسلم الحق يحذر من الوقوع في خطيئة مع جاره: ويحذر المسلم الحق من الوقوع في إثم أو خطيئة مع جاره على وجه الخصوص؛ ذلك أن الإثم مع الجار أشد وقعا، وأفدح جريمة مع سواه، وذلك مصداق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ سأل أصحابه عن الزنا، فقالوا: حرام، حرمه الله ورسوله، فقال: ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره)). وسألهم عن السرقة، فقالوا: حرام، حرمها الله عز وجل ورسوله، فقال: ((لأن يسرق من عشرة أهل أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره)) (¬2). إن للجار في الإسلام لحرمة مصونة، لم تعرفها قوانين الأخلاق، ولا شرائع البشر، بل إن تلك القوانين والشرائع الوضعية لتستمرئ العبث بحرمة الجار وعرضه، إذ غالبا ما يكون العبث بعرض الجار أسهل تناولا، وأقل كلفة، وأسنح فرصة من العبث بأعراض غيره. وما شاعت فينا تلك الأغاني المائعة التي تصف جار الشباك وغيره إلا حينما زايلتنا أخلاق الفتوة والإيمان، وغشيتنا غواش من ليل التقليد وموجات الغزو الفكري والحضاري، فبات الفتى الأرعن الرخيص فينا يتغنى بجارته ويتغزل بها، في ¬

_ (¬1) رواه الطبراني، ورجاله ثقات. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ورجاله ثقات.

لا يقصر في إسداء المعروف إليه

حين لم يعرف هذا عنا في جاهليتنا، بله إسلامنا، إذ كان شاعرنا الشهم الغيور على الأعراض يقول حينما يصادف جارته (¬1): وأغض طرفي ما بدت لي جارتى…حتى يواري جارتي مأواها وقال الشاعر الأموي مسكين الدارمي: ناري ونار الجار واحدة…وإليه قبلي تنزل القدر ما ضر جارا لي أجاوره…ألا يكون لبابه ستر أعمى إذا ما جارتي برزت…حتى يغيب جارتي الخدر ولقد نمى الإسلام هذا الخلق الإنساني النبيل فينا، إذ حشد تلك النصوص الضخمة في رعاية الجار، وصيانة عرضه، والحفاظ على شرفه، وستر عورته، وسد خلته (¬2)، وغض البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه ويسيء إليه. فلا بدع أن يكون المسلم الحق الصادق خير جار عرفته المجتمعات البشرية في كل آن ومكان. إن المسلم المتفتح الذهن، اليقظ البصيرة، المرهف الإحساس، الواعي أخلاق دينه وتوجيهاته الاجتماعية الراقية نحو جيرانه، ليحسب ألف حساب لخصومة قد تستعر بينه وبينهم لسبب من الأسباب؛ ذلك أن تحذير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مخاصمة الجيران لا يبارح سمعه: ((أول خصمين يوم القيامة جاران)) (¬3). لا يقصر في إسداء المعروف إليه: بل إن المسلم الراقي في إسلامه، لا يدخر وسعا في إسداء المعروف ¬

_ (¬1) البيت لعنترة، وهو في ديوانه تحقيق المولوي ص: 308. (¬2) أي حاجته. (¬3) رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن.

لجاره، فيفتح له باب الرعاية والود والإكرام على مصراعيه، محاذرا أن يقصر في واجبه نحوه، فيصدق عليه ما بينه الرسول الكريم في شأن الجار الكنود الكز قبيل المعروف في قوله: ((كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة، يقول: يا رب، هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه)) (¬1). فيا لسوء الموقف! ويا لخجلة الجار الضنين بمعروفه على جاره يوم الأشهاد! إن المسلمين في نظر الإسلام بناء سامق متراص، لبناته أبناء هذه الأمة، وكل لبنة ينبغي أن تكون متينة متماسكة، شديدة الارتباط باللبنات الأخرى، ليتوافر للبناء تماسكه وقوته وصموده، وإلا فإنه يتعرض للوهن والتداعي والانهيار. ومن هنا أحاط الإسلام لبناته برباط وثيق من الزاد الروحي، يحفظ تماسكها وتساندها ومقاومتها، ليبقى بناء المسلمين قويا، لا تزعزعه عوارض الأحداث، ولا يهز من كيانه عاتي الأعاصير. وما أروع التمثيل النبوي لتماسك المسلمين وتكافلهم وتساندهم في قول الرسول الكريم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا)) (¬2). وقوله: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬3). إن دينا يحرص على تماسك أفراد الأمة هذا التماسك العجيب لبدهي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه.

صبور على هناته وأذاه

أن يوثق علاقة الجار بجاره، ويقيمها على أساس ثابت ركين من المودة والبر والتكافل وحسن المعاملة. صبور على هناته وأذاه: لهذا كله، كان المسلم المستنير بهدي دينه صبورا على جاره، لا يستشيط غضبا إن بدرت منه هنة من الهنات، ولا يحاسب جاره على زلة زلها، أو تقصير وقع فيه، يعفو ويصفح عنه، محتسبا ذلك كله في جنب الله، واثقا أن هذا الصفح وذلك العفو لا يضيعان عند الله، بل إنهما ليكسبانه محبته ورضوانه، يشهد لذلك حديث أبي ذر حينما لقيه مطرف بن عبد الله، فقال له: يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديثك، وكنت أشتهي لقاكك. قال: لله تبارك وتعالى أبوك! قد لقيتني، قلت: حديثا بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثك، قال: ((إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة)). قال: فما إخالني أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل؟ قال: ((رجل غزا في سبيل الله صابرا محتسبا، فقاتل حتى قتل، وأنتم تجدونه عندكم في كتاب الله عز وجل، ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، قلت: ومن؟ قال: ((رجل كان له جار سوء يؤذيه، فصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت ... )) (¬1). لا يقابل إساءة جاره بمثلها: لقد كان من هدي هذا الدين الذي بسطه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة ألا يقابل الجار جاره بالسوء بل يصبر على أذاه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، عسى أن يرعوي من نفسه، ويكف عن الأذى، حين يرى جاره لا يقابل سيئته بمثلها، بل يتجمل بالصبر والحلم والأناة، وهذا لعمري من أسمى الأخلاق ¬

_ (¬1) رواه أحمد والطبراني بإسناد صحيح.

يعرف حق جاره عليه

وأنبلها، وأبرع الأساليب النفسية التربوية في اقتلاع جذور السوء من بعض النفوس. أتى محمد بن عبد الله بن سلام رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: آذاني جاري، فقال: ((اصبر))، ثم عاد إليه الثانية، فقال: آذاني جاري، فقال: ((اصبر))، ثم عاد الثالثة، فقال: آذاني جاري، فقال: ((اعمد إلى متاعك فاقذفه في السكة، فإذا أتى عليك آت، فقل: آذاني جاري، فتحقق عليه اللعنة، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره .... )) (¬1). يعرف حق جاره عليه: بهذا الهدي النبوي العالي، وتوجيهاته السامية في حسن الجوار يعرف المسلم التقي الواعي حق جاره عليه في كل آن، فإذا هو عون له في الشدائد، وبهجة في الرخاء، يأسى لأساه، ويفرح لما يسره ويرضيه، إن افتقر بره وأسعفه، وإن ألم به مرض عاده وواساه وأعانه، وإن وافاه الأجل شيعه وواسى أهله وأحسن إليهم، ولا يغيب عن باله قط مراعاة شعور جاره وشعور أسرته، والبعد عما يخدش هذا الشعور أو يؤذيه من قريب أو بعيد. هذه نظرة الإسلام العالية للجار، وتلك تعاليمه الراقية السمحة فيه لكل مسلم مهتد إلى حقيقة إسلامه، مستضيء بنور هديه، مطبق أحكامه على نفسه وعلى أسرته. فهل من عجب- بعد هذا كله- أن يكون المسلم الصادق أفضل جار عرفته المجتمعات البشرية؟! ¬

_ (¬1) حياة الصحابة 3/ 50.

المسلم مع إخوانه وأصدقائه

8 - المسلم مع إخوانه وأصدقائه يحبهم في الله: إن من أبرز صفات المسلم الصادق حبه لإخوانه وأصدقائه حبا ساميا، مجردا عن كل منفعة، بريئا من أي غرض، نقيا من كل شائبة، إنه الحب الأخوي الصادق، الذي استمد صفاءه وشفافيته من مشكاة الوحي وهدي النبوة، فكان نسيج وحده في العلاقات البشرية، وكانت آثاره في سلوك الإنسان المسلم فريدة في تاريخ المعاملات. ذلك أن الرابطة التي تربط المسلم بأخيه مهما كان جنسه ولونه ولغته، هي رابطة الإيمان بالله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1)، وأخوة الإيمان أوثق روابط النفوس، وأمتن عرى القلوب، وأسمى صلات العقول والأرواح. فلا عجب أن تثمر تلك الأخوة الفريدة نمطا من الحب عجيبا في سموه ونقائه وعمقه وديمومته، يسميه الإسلام الحب في الله، ويجد المسلم الصادق فيه حلاوة الإيمان. ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذة الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) (¬2). ¬

_ (¬1) الحجرات: 10. (¬2) متفق عليه.

مقام المتحابين في الل

مقام المتحابين في الله: ولقد جاءت الأحاديث الشريفة تترى، ترفع من مقام المتحابين في الله، وتصور منزلتهم العالية التي أعدها الله لهم في جنته، والشرف الرفيع الذي يسبغه الله عليهم يوم يقوم الناس لرب العالمين. من هذه الأحاديث حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله، وهم: ((إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتقرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) (¬1). فهذا نص صريح يسلك المتحابين في الله في زمرة السبعة المصطفين الأخيار، الذين أظلهم الله في ظله، وشملهم برحمته وبره، وفي ذلك تكريم لهم أي تكريم! وحسب المتحابين في الله شرفا أن رب العزة يحفل بهم في ساحة الحشر يوم القيامة، فيقول: ((أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) (¬2). فما أرفعه من شرف! وما أوفاه من جزاء! يلقاه المتحابون الصادقون في الله، يوم الشدة والهول والكرب الشديد. ذلك أن الحب في الله، لا لشيء آخر في هذه الحياة الحافلة بالمطامع ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه مسلم.

والمنافع والشهوات مرتقى صعب، لا يستطيع بلوغه إلا من صفت نفوسهم، وسمت أرواحهم، وهانت عليهم الدنيا بجانب مرضاة الله، فلا غرو أن يعد الله لهؤلاء من المكانة والنعيم ما يليق بسموهم في الدنيا وارتفاعهم على شواغلها وحطامها، نجد ذلك فيما رواه معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)) (¬1). بل لا غرو أن يحبو الله عباده المتحابين فيه ما هو أجل وأسمى من تلك المنزلة وذلك النعيم، يحبوهم حبه الغالي، الذي تتقطع دونه الأعناق، وتنتهي عنده معسولات الأماني، وذلك في حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا (¬2)، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها (¬3) عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) (¬4). فما أعظمه من حب، يرفع الإنسان إلى الدرجة التي يحبه الله فيها ويرضى عنه! ويسمو التوجيه النبوي صعدا بالمسلم في هذا المرتقى العالي الوضيء، إذ يقرر أن أفضل الأخوين المتحابين في الله من كان أشد حبا لأخيه، وفي ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. (¬2) أي على طريقه. (¬3) أي تقوم بها. (¬4) رواه مسلم.

((ما تحاب الرجلان إلا كان أفضلهما أشدهما حبا بصاحبه)) (¬1). بل إنه ليذهب إلى أبعد من ذلك في إشاعة المحبة في المجتمع المسلم الراشد، فيطلب من المسلم إذا أحب أخاه أن يخبره بأنه يحبه، وفي ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) (¬2). لقد كان الرسول الكريم صلوات الله عليه يدرك ما لهذا الحب النقي القوي من أثر في بناء المجتمعات والأمم، فكان لا يدع مناسبة تمر إلا ويدعو المسلمين إلى التحابب، ويأمرهم أن يعلنوا عن هذا التحابب، لتنفتح مغاليق القلوب، وتشيع المودة والصفاء بين الصفوف. فعن أنس رضي الله عنه أن رجلا كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمر به رجل، فقال: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أأعلمته؟! قال: لا، قال: أعلمه))، فلحقه فقال: إني لأحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له)) (¬3). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك بنفسه، معلما المسلمين كيف يبنون مجتمع المحبة والتواد والتآخي، وذلك حينما أخذ بيد معاذ وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، ثم أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) (¬4). وقد انطلق معاذ ينشر شذى هذا الحب الطاهر بين المسلمين في ديار ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح. (¬3) رواه أبو داود بإسناد صحيح. (¬4) رواه أحمد بإسناد صحيح.

تأثير الحب في الله في حياة المسلمين

الإسلام، فيحدثهم بما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أعده الله للمتحابين فيه من ثواب جزل، ومحبة منه أكبر؛ فقد روى الإمام مالك في موطئه بإسناده الصحيح عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا (¬1)، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما كان من الغد هجرت (¬2) فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك، فقال:- آلله؟ فقلت. ألله، فقال: آلله؟ فقلت ألله، فأخذني بحبوة ردائي، فجذبني إليه، فقال: أبشر، فإني سمعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في)). تأثير الحب في الله في حياة المسلمين: ويؤكد الرسول الكريم في حديث آخر أن هذه المحبة بين المؤمنين شرط من شروط الإيمان الذي يدخل صاحبه الجنة، وذلك فيما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) (¬3). لقد أدرك النبي الكريم بثاقب نظرته التربوية التي استقاها من تأديب الله إياه، أنه لا يستل سخائم الحقد من الصدور، ولا ينتزع أدران التنافس والحسد من النفوس، إلا أخوة صادقة عالية، تسود حياة المسلمين، وتقوم ¬

_ (¬1) أي أبيض الثغر حسن المبسم. (¬2) أي بكرت. (¬3) رواه مسلم.

على المحبة، والتواد، والتناصح، والألفة، والبشر، وينتفي منها الكيد والغل والحسد والتجهم والتباغض، ولذلك دعا إلى إفشاء السلام بين الإخوة، ليكون مفتاح القلوب للمحبة والتلاقي على الخير. وكان صلوات الله عليه يكرر هذا المعنى على مسامع أصحابه، متوخيا إلقاء بذرة المحبة في القلوب، وتعهدها بالرعاية، حتى تثمر ذلك الحب الوضيء الكبير الذي أراده الإسلام للمسلمين. بهذه المحبة الناصعة بنى رسول - صلى الله عليه وسلم - جيل الإسلام الأول الذي بلغ رسالة السماء إلى الأرض، وكان القاعدة الصلبة التي حملت صرح الإسلام الشامخ للناس. وبدون هذه المحبة الصافية التي تفرد بزرعها الإسلام في القلوب، ما كان المسلمون الأوائل ليستطيعوا التماسك والصمود في تحمل تبعات الجهاد، وتقديم التضحيات الجسيمة في بناء دولة الإسلام ونشر أعلامه في الخافقين. وبهذه المحبة الصادقة العجيبة استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينشىء مجتمع المؤمنين الأمثل في تاريخ الإنسانية، الذي صور تماسكه العجيب أروع تصوير بقوله: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) (¬1). وبقوله أيضا: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه.

لا يقاطع إخوانه ولا يهجرهم

وبقوله أيضا: ((المسلمون كرجل واحد، إن اشتكت عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)) (¬1). إن المسلم الواعي الصادق لا يسعه أمام هذا الهدي النبوي العالي إلا أن يخفق قلبه بحب إخوانه وأخلائه، ويقبل عليهم بقلبه ومشاعره، فإذا هو عنصر خير ووئام وبناء في دنياه، والفائز برضوان ربه ومحبته في أخراه. لا يقاطع إخوانه ولا يهجرهم: والمسلم الحق الواعي أحكام دينه يعلم أن الإسلام الذي دعا إلى المحبة والتواصل والتعاطف، هو هو الذي حرم التباغض والقطيعة والهجر، وبين أن المتحابين الصادقين لا تفرق بينهما الهنوات العارضات؛ ذلك أن عروة الحب في الله أوثق من أن تنفصم من أول ذنب يقترفه أحدهما، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تواد اثنان في الله جل وعز، أو في الإسلام، فيفرق بينهما أول ذنب يحدثه أحدهما)) (¬2). على أن الإسلام لم يغفل طبيعة النفس البشرية، وأنها عرضة لنزوات الغضب وتقلبات العاطفة في لحظات الضعف، فوضع حدا للمدة التي يمكن أن تفثأ فيها نار الغضب، ويخمد أوار الانفعال، وحرم على المسلمين المتنازعين أن تمضي هذه المدة، ولا يسارع أحدهما أو كلاهما للصلح والتصافي والوئام، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬3) متفق عليه.

والمسلم الصادق المرهف الذي يتأمل هذا النص الثابت، لا يصبر على هجرة أخيه ومخاصمته مهما تكن الأسباب، بل يسارع إلى مصافاته والتسليم عليه، لأن خيرهما الذي يبدأ بالسلام، فإن رد عليه السلام اشترك الاثنان في أجر المصالحة، وإن لم يرد عليه، فقد برئ المسلم من إثم القطيعة والهجر، وباء الممتنع عن رد السلام وحده بالإثم، وهذا ما يوضحه حديث أبي هريرة القائل: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحل لرجل أن يهجر مؤمنا فوق ثلاتة أيام، فإذا مرت ثلاثة أيام فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد برئ المسلم من الهجرة (¬1))) (¬2). وكلما زادت مدة المصارمة والهجر زاد الإثم وكبرت الخطيئة واشتد الوعيد للمتصارمين المتنازعين؟ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)) (¬3). إن منهج الإسلام في تربية النفوس قائم على التحابب والتقارب والتآلف، ومن هنا لا تباغض ولا تحاسد ولا تدابر في حياة المسلم الصادق، وكيف يكون في حياته شيء من هذه الخلائق الوضيعة، وصوت النبوة يسكب في سمعه أروع منهج للأخلاق عرفته البشرية منذ أن كان إنسان على ظهر الأرض بقوله: ((لا تقاطعوا، ولا تدابروا ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا إخوانا كما أمركم الله)) (¬4). ¬

_ (¬1) أي من إثم الهجرة. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬4) رواه مسلم.

وبقوله: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا (¬1)، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا)) (¬2). وبقوله: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا (¬3)، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا- ويشير إلى صدره ثلات مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) (¬4). إن المسلم الذي يتأمل هذا الهدي النبوي العالي، الحاوي على مكارم الأخلاق كلها من حب وتعاطف وتآخ، لا يقيم على شحناء، إلا إذا كان في قلبه مرض، وفي طبعه جفوة، وفي فطرته التواء. ومن هنا جاء الوعيد شديدا لأولئك القساة الغلاظ، الملتوين عن جادة الإسلام الخلقية، المحجوبين عن بشاشته وسماحته، بإصرارهم على الهجر، يهددهم في آخرتهم، فيحجب عنهم رحمة الله ومغفرته، ويغلق دونهم أبواب الجنة، وذلك في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى ¬

_ (¬1) أي لا تبحثوا عن عيوب ولا تتبعوها. (¬2) منفق علبه. (¬3) التناجش: أن يزيد المرء في السلعة ولا رغبة له في شرائها بل ليغر غيره في شرائها. (¬4) رواه مسلم.

سمح عفو عنهم

يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)) (¬1). وكان الصحابي الجليل أبو الدرداء يقول: ألا أحدثكم بما هو خير لكم من الصدقة والصيام؟ صلاح ذات البين. ألا وإن البغضة هي الحالقة (¬2))) (¬3). إنها لنظرة نافذة عميقة لروح هذا الدين القائم على التآخي والمحبة، من هذا الصحابي الجليل الذي كان موضع ثقة الرسول الكريم في حسن تفكيره ونفاذ بصيرته، إذ رأى التباغض يحبط العمل، ويضيع الأجر، ويمحق الحسنات، ومن هنا كان صلاح ذات البين للمسلم المقاطع أخاه خيرا له من الصدقة والصيام، إذ أن بقاءه على القطيعة والهجر والتباغض يودي بما يجنيه من عباداته من حسنات. ولقد أخذ الصحابي أبو الدرداء حديثه هذا من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الترمذي عنه أيضا: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى، قال: ((إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة)). قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)). سمح عفو عنهم: والمسلم الحق إذا مسه الغيظ من أخيه كظم غيظه، ثم هو لا يأنف أن يسارع إلى العفو عنه، والتغاضي عن زلته، ولا يرى في صفحه عن أخيه ذلا يحيق به، ولا عارا يلبسه، بل يرى فيه إحسانا يقربه من الله زلفى، ويكسبه محبته التي خص بها المحسنين من عباده في قوله: ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أي الماحية للثواب. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬1). إن الإنسان قد يكظم غيظه، ولكن مراجل الحقد والضغينة تفور في صدره، فيتحول غيظه الفائر إلى إحنة متأججة، ويستحيل غضبه الظاهر إلى حقد دفين. والغضب والغيظ أطهر وأنظف من الحقد والضغينة. أما المسلم الحق الذي أشربت نفسه هدي هذا الدين فلا يحقد ولا يضطغن، إنه إن كظم غيظه، اتبع ذلك بالصفح والعفو، وكان من المحسنين. إن الغيظ وقر ثقيل على النفس حين تكظمه، وشواظ يلفح القلب ودخان. أما حين تصفح النفس، ويعفو القلب، فهو الانطلاق من ذلك الوقر والرفرفة في آفاق النور، والبرد على القلب، والسلام في الضمير، وهذا هو الشعور بالإحسان، يحسه المسلم، وهو يصفح ويعفو عن أخيه. والمسلم الحق في إقباله على أخيه صفوحا عفوا، إنما يتواضع لأخيه ويعفو عنه لله، مبتغيا من لدنه العزة والرفعة التي ألمع إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (¬2). وإنهما لعزة ورفعة من الله، يجتمعان إلى الإحسان الذي اتصف به المسلم السمح العفو الصفوح، فإذا هو من المحسنين الذي أحبهم الله، ومن الأعزة الأماثل الذين يحبهم الناس. إن الحقد لا مكان له في قلب المسلم المرهف الحس، الواعي توجيهات دينه، المتأثر بلمساتها في أعماق وجدانه؛ ذلك أنه يدرك قيمة ¬

_ (¬1) آل عمران: 134. (¬2) رواه مسلم.

يلقاهم بوجه طليق

العفو وصفاء القلب في مغفرة الله له، كما بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((ثلاث من لم يكن فيه غفر له ما سواه لمن شاء: من مات لا يشرك بالله شيئا، ولم يكن ساحرا بتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه (¬1). يلقاهم بوجه طليق: وإنه لحري بالمسلم بعد هذا كله أن يكون نقي السريرة، صافي القلب، بش الوجه، طلق المحيا، مفتر الأسارير، لا يلقى إخوانه إلا متهللا مبتسما كما أراد سول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)) (¬2). فبشاشة الوجه خليقة حسنة حض عليها الإسلام، وجعلها من الأعمال الصالحات التي تكسب صاحبها المثوبة والأجر؛ لأن الوجه الطليق الصافي مرآة القلب النظيف الصافي، وهذا الصفاء في المظهر والمخبر من خلائق الإسلام الجلية في المسلمين الصادقين. ومن هنا كان من هدي الرسول الكريم: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة)) (¬3). وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبش دوما في وجوه أصحابه، فما يكاد يقع بصره على أحد منهم إلا تبسم له، يشهد لذلك الحديث الذي رواه الشيخان عن الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي: ((ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم)). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه الترمذي، وقال: حسن غريب.

ينصح لهم

وكان من حديث على رضي الله عنه: ((إذا اجتمع المسلمان فتذاكرا غفر الله لأبشهما وجها)). ولذلك كان من عادة الصحابة الكرام الذي كان هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفوسهم حيا طريا أن يتصافحوا إذا تلاقوا وإذا قدموا من سفر تعانقوا، وفي ذلك إشاعة للمحبة الود بين الإخوة المتلاقين. ويروي ابن سعد في طبقاته (¬1) عن الشعبي قال: لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر تلقاه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فالتزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقبل ما بين عينيه، وقال: ما أدري بأيهما أنا أفرح، بقدوم جعفر أو بفتح خيبر. وزاد في رواية أخرى: وضمه إليه واعتنقه. لقد حبب الإسلام إفشاء السلام، والمصافحة والمعانقة، عند تلاقي الإخوة، لتبقى أسباب الود بين القلوب معقودة الأواصر، ولتزداد وشائج الأخوة بين المؤمنين صلابة وقوة، وبذلك يستطيع المجتمع المسلم أن يعيش إسلامه، وينهض بتكاليف رسالته في الحياة. ينصح لهم: والمسلم الصادق ناصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))، فلا عجب أن يكون ناصحا لإخوانه، لا يخدعهم ولا يغشهم. والنصيحة في حس المسلم المرهف من أمهات قواعد الإسلام التي كان المؤمنون الأولون يبايعون رسول الله عليها، يؤكد ذلك قول جرير بن ¬

_ (¬1) 4/ 34.

عبد الله رضي الله عنه: ((بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسليم)) (¬1). ولقد رأينا في الحديث السابق أن الرسول الكريم عرف الدين بكلمة واحدة هي ((النصيحة))، دلالة على أن النصيحة مرتكز الدين الأصيل، وأساسه الراسخ، إذ بدونها لا يصح إيمان المرء، ولا يحسن إسلامه، وهذا مصداق قول الرسول الكريم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (¬2). ولا يمكن أن يحب له ما يحب لنفسه إلا إذا كان له محبا نصوحا. لا جرم أنه مرتقى صعب عسير المنال أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، ولكنه ليس بالمستحيل إذا استقر في حس هذا الإنسان أن حبه لأخيه ما يحب لنفسه شرط من شروط الإيمان، وأن الدين النصيحة، بل إنه ليغدو شيئا طبيعيا في تصرفات المسلم الحق الصادق الذي خالطت قلبه بشاشة الإسلام، وتاريخنا في القديم والحديث مليء بالشواهد على حب المسلمين الصادقين لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم. ويحضرني في هذا المقام ما يتناقله شيوخ الجيل السابق من الأحياء عن التجار في بلاد الشام، ممن تجمعهم سوق واحدة، كسوق العطارين، وسوق الصباغين، وسوق الخياطين، وغيرها من الأسواق المسقوفة القديمة، كان أحدهم إذا سبق إليه مشتر، فاشترى منه بضاعة، ثم جاءه مشتر ثان، وكان جاره لم يستفتح نهاره ببيع بعد، قال له بلطف: اذهب واشتر ما يلزمك من جاري، فإني قد بعت، وهو لم يبع بعد. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه.

يا لله! كم تبدو الحياة بهيجة شائقة ممتعة في ظلال هذا الإخاء وهذا التعاطف! وكم يبدو الأحياء سعداء حين تسري فيهم روح الإسلام، وتسود في معاملاتهم قيمه! إنهم حينئذ يعيشون في سمو ما وصل إليه الإنسان إلا حين استظل بهذا الدين الذي علمه أن ((الدين: النصيحة))، وأنه لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. من هذا المنطلق السامي الرفيع من المحبة والنصيحة، كان الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ((المؤمن مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيبا أصلحه)) (¬1). وأبو هريرة في حديثه هذا يقتبس من هدي الرسول الكريم القائل: ((المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته (¬2) ويحوطه من ورائه)) (¬3). إنها طبيعة الأشياء أن يقف المسلم الحق الصادق من أخيه المسلم هذا الموقف السامى النبيل، ولو أراد أن يقف منه غير هذا الموقف لما استطاع، إذ ما كان لمن يعيش في ذلك الأفق العالي الوضيء أن يهبط في مواقفه إلى مستوى الفردية والأنانية والمنفعة الخاصة؛ فكل إناء بالذي فيه ينضح، والزهر لا ينفح إلا الشذا، والأرض الطيبة لا تخرج إلا النبات الطيب، ولله در الشاعر (¬4) إذ يقول: وهل ينبت الخطي إلا وشيجه…وتغرس إلا في منابتها النخل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) أي يمنع ضياعه وهلاكه ويتكفله. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬4) هو زهير بن أبي سلمى.

مطبوع على البر والوفاء

مطبوع على البر والوفاء: إن الإسلام ليطبع أبناءه على الوفاء وبر الأصدقاء، حتى يشمل بذلك أصدقاء الوالد، كما تقدم في كلامنا على "المسلم مع والديه"، وذلك تفديرا منه لفضيلة الوفاء، وإعظاما لعروة الأخوة والصداقة، وكتب التراث تفيض بنماذج رائعة من البر والوفاء، تمثلها السلف في حياتهم، فكانوا في أخلاقهم بحق خير أمة أخرجت للناس. من هذا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه)). وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله، إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه)) (¬1). لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعهد قلوب المسلمين فيغرس فيها غرسات الوفاء، كلما وجد مناسبة يسمعهم فيها شيئا من هديه وتوجيهه، فقد جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: ((نعم، الصلاة عليهما (¬2)، والاستغفار لهما، وإنفاذ ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أي الدعاء لهما.

عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)) (¬1). وكان حرص الرسول الكريم على هذا الوفاء للصداقة مما يغيظ أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، إذ كان يشمل بر أصدقاء خديجة، فتغار منها. وهذا ما حدثت به السيدة عائشة، فقالت: ((ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! فيقول: ((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد)) (¬2). وفي رواية: ((وإن كان ليذبح الشاة، فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن)). إنه الوفاء الإسلامي الذي ما بعده وفاء، يمتد فيشمل ببره ونداه الأصدقاء الأبعدين للآباء والزوجات الأموات، فكيف بالأصدقاء الأقربين لنا نحن معشر الأحياء؟! ومن مقتضيات المحبة والنصحية والبر والوفاء في شرعة الإسلام أن ينصر الرجل أخاه في جميع الأحوال، ينصره إن كان على الحق، فيقف بجانبه، يؤازره ويذود عنه، وينصره إن كان على غير الحق، فينهاه، وينصحه، ويزجره على الارتكاس في حمأة الباطل، والتردي في مستنقعات الظلم. وهذا ما دعا إليه الرسول الكريم في قوله: ¬

_ (¬1) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه. (¬2) متفق عليه.

رفيق بإخوانه

((لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما؛ إن كان ظالما فلينهه، فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره)) (¬1). إن المسلم الحق لا يتخلى عن أخيه ظالما كان أو مظلوما؛ ذلك أن الإسلام علمه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وما دام لا يحب لنفسه أن يكون ظالما أو مظلوما، فهو لا يحب ذلك لأخيه أيضا، ولذلك فهو يقف إلى جانبه إن كان مظلوما فينصره ويدفع عنه، ويقف إلى جانبه يكفه عن الظلم إن كان ظالما، ولعمري إن هذه هي النصيحة الخالصة، وإن هذا هو البر الصادق، وإنهما لخليقتان يتصف بهما المسلم الحق البر الوفي الذي صاغه الإسلام، أيان عاش، وحيثما كان. رفيق بإخوانه: والمسلم الحق المتمثل أحكام دينه وقيمه لطيف المعشر مع إخوانه، رفيق بهم، آلف لهم، مألوف لديهم، وهو في ذلك كله يستقي من توجيهات الإسلام التي تحض على مكارم الأخلاق. فالله تبارك وتعالى يصف المؤمنين بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬2). وفي ذلك من اللين والتواضع وحسن التعامل مع الأخوة المؤمنين ما يصل إلى درجة متناهية في اللطف، هي أشبه بالذلة. ويأتي بعد ذلك التوجيه النبوي العالي فى تحبيب الرفق إلى المسلم تحبيبا يجعله زينة كل شيء في الحياة، وذلك في قول الرسول الكريم. ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) المائدة: 54. (¬3) رواه مسلم.

لا يغتابهم

وتتجلى لعين المسلم شخصية الرسول الكريم في سيرته، فإذا هي كلها رفق ودماثة وكرم وخلق، لم يعرف عنه يوما أنه أفحش في لفظ، ولا لعن أو سب مسلما، وها هو ذا أنس رضي الله عنه خادمه وملازمه يصف خلقه العظيم، فيقول: ((لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا لعانا ولا سبابا، كان يقول عند المعتبه: ما له ترب جبينه (¬1)؟)) (¬2). لا يغتابهم: والمسلم الحق الصادق يحفظ غيبة إخوانه وأصدقائه، فلا يغتابهم؛ لأنه يعلم أن الغيبة حرام بنص القرآن الكريم: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (¬3). إن نفس المسلم المرهفة المتأدبة بأدب الإسلام، المرتشفة من رحيق أخلاقه، لتقشعر من هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم للمغتاب، يأكل لحم أخيه ميتا، بكلمات يتفوه بها عنه في غيابه، فإذا هو يسارع إلى التقوى التي ذيل الله بها آية الغيبة، ويلوذ بالتوبة النصوح منها إن تورط فيها، ويمسك عليه لسانه، فلا يطلقه على إخوانه إلا بخير، ذاكرا قول الرسول الكريم: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد ¬

_ (¬1) قيل في تفسير هذه العبارة: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بها دعاء له بكثرة السجود، ففي ذلك هداية له لإصلاح. (¬2) رواه البخاري. (¬3) للحجرات: 12.

اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)) (¬1). إن المسلم التقى يجتنب الغيبة الظاهرة والخفية، حرصا منه على ألا يكون آكلا لحم أخيه بحال، وتنزيها للسانه أن يكبه في النار، كما جاء في تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين أخذ بلسانه وقال: ((كف عليك هذا))، فقال معاذ: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم؟)) (¬2). إن الغيبه خلق ذميم، لا يتصف به الرجال، وإنما يتصف به أشباه الرجال الجبناء من ذوي الوجهين الذين يغتابون إخوانهم وأصدقاءهم أمام الناس، فإذا لقوهم هشوا لهم وبشوا وتظاهروا بالصداقة والود، ومن هنا كان المسلم الحق أبعد الناس عن الغيبة والتلون بلونين، لأن الإسلام علمه الرجولة، ولقنه الاستقامة، وحبب إليه التقوى في القول والعمل، وكره إليه النفاق والتلون والتذبذب، بل نفره من هذه الخصال تنفيرا، حين جعل ذا الوجهين من شرار الناس عند الله، وذلك في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)) (¬3). إن للمسلم الحق وجها واحدا، لا وجهين، وإنه لوجه أغر أبلج مشرق واضح، لا يلقى به قوما دون قوم، بل يلقى به الناس جميعا، لأنه يعلم أن اتخاذ الوجهين هو النفاق بعينه، والإسلام والنفاق لا يجتمعان، وأن ذا الوجهين منافق، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار. ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) حديث حسن صحيح، رواه ابن ماجه. (¬3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

يجتنب معهم الجدل والمزاح المؤذي والإخلاف بالوعد

يجتنب معهم الجدل والمزاح المؤذي والإخلاف بالوعد: ومن خلائق المسلم الحق أنه لا يعنت إخوانه وأصدقاءه بالجدل العقيم، ولا يثقل عليهم بالمزاح المؤذي، ولا يخلفهم موعدا وعدهم إياه، مستهديا في ذلك كله بهدي الرسول الكريم القائل: ((لا تمار أخاك (¬1)، ولا تمازحه (¬2)، ولا تعده موعدا فتخلفه)) (¬3). ذلك أن المراء لا يأتي بخير، والمزاح المؤذي كثيرا ما يؤول إلى النفور والكراهية وسقوط المهابة، والإخلاف بالوعد يكدر النفس وينزع المحبة من القلب. والمسلم الصادق بعيد عن هذا كله. كريم يؤثر إخوانه على نفسه: والمسلم الحق كريم جواد، يده مبسوطة سخاء على إخوانه وأصدقائه، وبدهي أن إخوانه وأصدقاءه كافة من المؤمنين الأتقياء، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي)) (¬4). ومن هنا كان المسلم الواعي بصيرا بمواطن الكرم ومناسباته ودواعيه؛ فهو لا يغدق أمواله بسخاء، ولا يحتفي إلا بإخوانه وأصدقائه المؤمنين الأتقياء، ولا يرضى أن يكون بقرة حلوبا لسفلة القوم من الملحدين الطغام اتقاء شرهم، أو تألفا لهم إن كانوا من أصحاب النفوذ، الذين لا يتورعون عن استغلال بعض المتدينين السذج الأجواد، فتراهم مصطفين على موائدهم ¬

_ (¬1) أي لا تجادله مخاصما. (¬2) أي لا تفرط في المزاح. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬4) رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن.

السخيه، وإنهم ليضحكون في قرارة نفوسهم من ذلك الكرم الساذج الذي وضعه صاحبه في غير محله. إن المسلم الواعي كريم، وكرمه في محله، ذلك أن الكرم خلق إسلامي أصيل، يجمل صاحبه، ويسمو به، ويحبب الناس فيه، ويدنيهم منه. وقد كان هذا الخلق العظيم متأصلا في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم، وكان الاتصاف به من أحب الأعمال الصالحة إليهم، يصور ذلك قول علي رضي الله عنه: لأن أجمع نفرا من إخواني على صاع أو صاعين من طعام، أحب إلي من أن أخرج إلى سوقكم فأعتق رقبة (¬1). ذلك أن مثل هذه اللقاءات الودية على الطعام، توطد أواصر المحبة بين الإخوان الأصدقاء، وتقوي روح التعاطف فيهم، وتشيع في حياتهم ندى العاطفة الإنسانية الذي افتقده إنسان الحضارة المادية الحديثة، بعد أن أصبح لا يهتم إلا بنفسه ومصلحته، فإذا هو يعاني خواء روحيا وجفافا عاطفيا، نتج عنهما شعور عميق بالحرمان من الصداقة والأصدقاء المخلصين. وما حفاوته باقتناء الكلاب، وإقباله على تدليلها والعناية بها، إلا تعويض عما فقد من ري العاطفة الإنسانية الذي جففته في نفسه الفلسفة المادية التي اتخذها دينا له، وإطارا يتحرك ضمنه في متقلبه ومثواه؛ فقد جاء في تقرير فرنسي أن هناك سبعة ملايين من الكلاب في فرنسا التي يبلغ عدد سكانها اثنين وخمسين مليون نسمة، وتعيش هذه الكلاب مع أصحابها كأنها من أقاربهم. ولم يعد غريبا في مطاعم باريس أن تشاهد الكلب وصاحبه يتناولان طعامهما على مائدة واحدة. وحين سئل مسؤول في جمعية رعاية الحيوان بباريس: (لماذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

يعامل الفرنسيون كلابهم مثل ما يعاملون به أنفسهم) أجاب: (لأنهم يريدون أن يحبوا، ولكنهم لا يعثرون بين الناس على من يحبونه) (¬1). إن الإنسان المادي في الغرب أو في الشرق لم يعد يجد الإنسان الصديق الوفي الودود في مجتمعه، ليمنحه حبه وعاطفته، فاتجه إلى هذه الحيوانات التي وجد فيها من الألفة والوفاء أكثر مما وجد في الناس الذين حوله. فهل بعد هذا من ارتكاس عاطفي يهوي بالإنسان، فيجعله أليف الحيوان، بعد فقده إشراقة الهدى ونعمة الإيمان؟ ولقد كان هذا الارتكاس العاطفي الذي مني به إنسان الغرب، فجفف ينابيع الشعور الإنساني في نفسه، أول ما لفت أنظار أدباء المهجر من مسلمين وغير مسلمين؛ ذلك أنهم نظروا إلى الحياة الغربية المادية التي جرفت الإنسان في مجتمعات الغرب، فجعلته كالآلة، لا يعرف من الحياة إلا الكد والإنتاج والتسابق العنيف على الكسب، لا يهش قلبه لصديق، ولا يفتر ثغره عن ابتسامة حب لرفيق، وإنما هو ذاهل مأخوذ بالسرعة والالة والازدحام، فهالهم ذلك كله، وهم الذين نشأوا في ديار الإسلام، وتنفسوا في أجواء روحانيته السمحة، وأترعت نفوسهم بحب الإنسان لأخيه الإنسان، فانطلقوا يدعون الغربيين بحرارة إلى الحب والتآخي والتعارف. فهذا نسيب عريضة يحمل لواء هذه الدعوة الإنسانية، فينادي الإنسان الغربي الذي رانت على قلبه المادة، وأعشت بصره أضواء الحضارة، وأصم أذنيه ضجيج الآلة، قائلا له: يابن ودي، يا صاحبي يا رفيقي…ليس حبي تطفلا أو ثقالة ¬

_ (¬1) من مقال للأستاذ وحيد الدين خان بعنوان (وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في كل زمان ومكان)، نشره في مجلة المجتمع الكويتية، العدد 325، في 24 ذو القعدة 1396 هـ - 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1976 م.

فأجبني "بيا أخي" يا صديقي…وأعد، إنها ألد مقالة وإذا شئت أن تسير وحيدا…وإذا ما اعترتك مني ملالة فامض، لكنما ستسمع صوتي…صارخا: (يا أخي) يؤدي الرسالة وسيأتيك أين كنت صدى حبي…فتدري جماله وجلالة وتشتد في تلك الديار وطأة الحياة المادية على يوسف أسعد غانم، فيسأم هذه الحياة المثقلة بالأعباء، الغارقة في لجة التيار المادي الجاف العنيف، لا ترف عليها نسمة ندية من روحانية أو تآخ أو تعاطف، فتتفجر في نفسه ينابيع الشوق والحنين إلى الأرض العربية في ديار الإسلام، حيث مهبط النبوات، ومصدر الروحانيات، وموطن الحب والتآخي والصفاء، وإذا هو يتمنى أن يعيش في خيمة عربية، ويترك دنيا الحضارة وما فيها من صخب وضجيج وأضواء، فيقول: ((ولو تبخر عمري كله قصيرا في أي صعيد عربي، لحمدت الله على حياة قصيرة عريضة في دنيا يقيم الله في قلوب أبنائها ... لقد تعبت في الغرب حتى ملني التعب، خذوا السيارة والطيارة، وأعطوني جملا وحصانا، خذوا الدنيا الغربية، أرضا وبحرا وسماء، وأعطوني خيمة عربية أنصبها على إحدى روابي وطني لبنان، على ضفاف بردى، على شواطىء الرافدين، في أرباض عمان، في الصحراء السعودية، في مجاهل اليمن، في سفح الأهرام، في واحات ليبيا، أعطوني خيمة عربية لأضعها في كفة، وأضع الدنيا في كفة، وأنا الرابح .... )). والنصوص التي تعزف هذه النغمة كثيرة جدا في أدب المهجر، أكتفي منها بهذين النصين، وكلها تصور ظمأ المهاجرين إلى الري العاطفي الذي افتقدوه في عالم الغرب المادي، ففجر فقده في نفوسهم ينابيع الشوق والحنين

إلى الشرق الذي أشاع الإسلام فيه المحبة والأخوة والتعاطف والتكافل ... وكلما حبب الإسلام في لقاءات الإخوة، وندبهم إلى التنافس في الكرم والبذل والسخاء فيما يوثق عروة الأخوة بينهم، حتى أصبح الجود والإنفاق على الإخوة خلقا أصيلا فيهم، جعل قبول دعوة الأخ المسلم من أخيه واجبا عليه، لا ينبغي التقصير فيه. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يلبون داعي الأخوة، ويجيبون أخاهم إذا دعاهم، بل يرون إجابته حقا له واجبا عليهم، يأثمون إن هم قصروا في أدائه، يشهد لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد عن زياد بن أنعم الإفريقي، قال: ((كنا غزاة في البحر زمن معاوية رضي الله عنه، فانضم مركبنا إلى مركب أبي أيوب الأنصارى رضي الله عنه، فلما حضر غداؤنا أرسلنا إليه، فأتانا، فقال: دعوتموني وأنا صائم، فلم يكن لي بد من أن أجيبكم، لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن للمسلم على أخيه ست خصال واجبة، إن ترك منها شيئا فقد ترك حقا واجبا لأخيه عليه: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويحضره إذا مات، وينصحه إذا استنصحه)). بل إنهم ليرون في إباء المسلم دعوة أخيه من غير عذر معصية لله ولرسوله، نص على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) (¬1). إن أخوة الإيمان ليست شعارات ترفع، ولا تبجحا يقصد به الإعلان والدعاية، وإنما هي رابطة مقدسة لها التزاماتها وتكاليفها وحقوقها، يعرف هذا ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

من آمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، وتمثل حقائق الإسلام حق التمثل، وإننا لنجد أثر هذا الإيمان وثمرة هذا التمثل في صنيع الأنصار الذين ضربوا المثل الأعلى في الحب والإيثار لإخوانهم المهاجرين حين قدموا عليهم مهاجرين بدينهم، لا يملكون شيئا، فقدم لهم الأنصار كل شيء، حتى كان أحدهم يقول لأخيه: هذا مالي فخذ شطره، وهاتان زوجتاي، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها لتكون زوجة لك بعد انقضاء عدتها، وكان الأخ المهاجر يقابل عاطفة أخيه الأنصارى بأحسن منها، فيقول له: بارك الله لك في مالك وأهلك، ما لشيء من هذا في نفسي حاجة، ولكن دلوني على السوق لأعمل. وكان الأنصاري يستضيف أخاه من المهاجرين، وليس في بيته من الزاد إلا قوت صبيانه، فيؤثره على نفسه وعياله، قائلا لزوجه: نومي صبيانك، وأطفئي السراج، وقدمي ما عندك للضيف، ونجلس معه إلى المائدة، نوهمه أننا نأكل معه، ولا نأكل. ويجلسون إلى المائدة، ويأكل الضيف وحده، ويبيت الزوجان طاويين، ويغدو الأنصاري على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول له: ((لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة)) (¬1). وبلغ من إيثار الأنصار للمهاجرين ومواساتهم لهم بأموالهم أنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفوننا المؤونة (¬2)، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا)) (¬3). وقد أكبر المهاجرون صنيع إخوانهم من الأنصار، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) أي تساعدوننا في زراعة البساتين. (¬3) رواه البخاري.

بذلا من كثير، لقد كلفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ (¬1)، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: لا، ما أثنيتم عليهم، ودعوتم الله لهم)) (¬2). وحسب الأنصار ثناء الله عليهم، وتنويهه بحسن صنيعهم، إذ أنزل فيهم قرآنا يتلى، فيحكي قصة إيثارهم الفريد على وجه الزمان، ويخلدهم نماذج واقعية حية رفيعة للتحرر من شح النفوس: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3). وستبقى صورة الأنصار الوضيئة في القرآن الكريم منار هداية وإشعاع للإنسانية الضاربة في تيه المطامع والأثرة والشح والإمساك، ما أقبل ليل وأدبر نهار، ودعي الناس للبذل والسخاء والإيثار. لقد أدرك الأنصار رضوان الله عليهم ما تعنيه أخوة الإيمان، حين آخى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم وبين المهاجرين، فكانوا مؤمنين حقا، أحبوا لإخوانهم ما أحبوا لأنفسهم، كما سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يمسكوا عنهم شيئا من حطام الدنيا، بل نزلوا عن شطر ما يملكون لإخوانهم طائعين مختارين، طيبة بذلك نفوسهم، راضية قلوبهم، وكانو في أول الهجرة يورثون المهاجرين دون أرحامهم، ليقوموا بحق الأخوة التي رفع لواءها فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يشهد لذلك الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس، قال: ((كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون رحمه للأخوة ¬

_ (¬1) أي الهنيء الذي يأتيك بلا مشقة. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد وأبو داود والترمدي والنسائي وإسناده صحيح. (¬3) الحشر: 9.

يدعو لإخوانه بظهر الغيب

التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، نسخ الميراث وبقي النصر والإرفاد والإيثار والمواساة. يدعو لإخوانه بظهر الغيب: والمسلم الحق الصادق الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لا يفوته في ساعات الصفاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب، دعوة غائب لغائب، تتجلى فيها خفقة القلب المحب الصدوق، ورفة الروح الشفافة الحانية؛ ففي دعائه له بالخير تأكيا لمحبته إياه، وتوثيق لعروة الأخوة النقيه في قلبه، وإنه ليعلم أن هذه الدعوة الحارة أسرع الدعوات إجابة، لما تميزت به من إخلاص وصدق وصفاء، يؤكد ذلك قول الرسول الكريم: ((أسرع الدعاء إجابه دعاء غائب لغائب)) (¬1). ولهذا طلب الرسول الكريم من عمر رضي الله عنه حين جاءه يستأذنه في العمرة أن يدعو له؛ فعن عمر رضي الله عنه قال: ((استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمرة، فأذن، وقال: ((لا تنسنا يا أخي من دعائك))، فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا)) (¬2). وقد وقر هذا المعنى في نفوس الصحابة الكرام، فكانوا يطلبون الدعاء من إخوانهم كلما وقفوا موقفا يستجاب فيه الدعاء، يستوي في ذلك الرجال والنساء، مما يدل على ارتفاع مستوى المجتمع كله في تلك الفترة الوضيئة من تاريخنا؛ فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، وكانت تحته الدرداء بنت أبي الدرداء، قال: قدمت عليهم الشام، فوجدت أم الدرداء، في البيت، ولم أجد أبا الدرداء، قالت: أتريد الحج؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

قلت: نعم، قالت: فادع لنا بخير، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((إن دعوة المرء المسلم مستجابة لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال: آمين، ولك بمثل)). قال: فلقيت أبا الدرداء في الشوق، فقال مثل ذلك، يأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. لقد كان الرسول الكريم يربي في أصحابه الروح الجماعية، ويشيع بينهم شعور الغيرية، فيلفتهم في كل مناسبة إلى الإحساس بمعنى الأخوة الشاملة، بحيث لا يبقى في حس الأخ المسلم مجال للأنانية الضيقة الفردية، التي تعشي الأبصار، وتختم على القلوب، وتصدئ النفوس. ومن لفتاته التربوية الرائعة التي تؤصل في النفس روح الأخوة الجماعية، وتقتلع بذور الأنانية الفردية، ما قاله لرجل هتف داعيا: اللهم اغفر لي ولمحمد وحدنا، قال له: ((لقد حجبتها عن ناس كثيرين)) (¬1) فعلمه بذلك أن روح الإسلام تأبى على المسلم أن يستأثر بالخير وحده، ولو كان معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن المؤمن ينبغي أن يحب لأخيه دوما ما يحب لنفسه. وبعد، فهذا هو المسلم الحق، محب لإخوانه وأصدقائه، مخلص، ناصح لهم، أمين على سمعتهم وأعراضهم وأموالهم، في حضورهم وغيبتهم، مؤثر لهم على نفسه، متسامح عفو غفور لزلاتهم، وهو معهم لطيف العشرة، موطأ الكنف، حسن اللقاء، نقي السريرة، نظيف اليد واللسان والجوارح، جواد لا يبخل، صادق لا يكذب، ودود لا يجفو، وفي لا يخون، شهم لا يغدر، مستقيم لا يتلون، ولا عجب أن يتصف بهذا كله، إنه معجزة الإسلام، في صوغ الإنسان، إنه المسلم كما يريده الإسلام. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

المسلم مع مجتمعه

9 - المسلم مع مجتمعه تمهيد: المسلم الواعي أحكام دينه اجتماعي بطبعه، لأنه صاحب رسالة في الحياة، وأصحاب الرسالات لا بد لهم من الاتصال بالناس، يخالطونهم، ويعاملونهم، ويبادلونهم الأخذ والعطاء. والإنسان المسلم اجتماعي من الطراز الرفيع، بما لقن من أحكام دينه الحق، وبما تمثل من أخلاقه الإنسانية الرفيعة النبيلة التي دعا إليها، وحض على التخلق بها في مجال التعامل الاجتماعي. وشخصية المسلم الاجتماعية التي استنارت بهدي القرآن الكريم، وارتوت من منهل السنة النبوية المطهرة، شخصية فريدة، لا تقاس بالشخصية الاجتماعية التي ربتها النظم الوضعية المعاصرة، ولا الشرائع القديمة التي تعب في صياغتها الفلاسفة والمفكرون. إنها شخصية اجتماعية راقية، كونتها مجموعة كبيرة جدا من مكارم الأخلاق، نطقت بها نصوص هذا الدين الحنيف من قرآن كريم وحديث شريف، وجعلت التخلق بها دينا يثاب المرء عليه، ويحاسب على تركه، فاستطاعت بذلك أن تجعل من شخصية المسلم الصادق نموذجا فذا للإنسان الاجتماعي الراقي المهذب التقى الخير النظيف.

صادق

وإن الباحث المطلع على هذه النصوص في مظانها، ليدهش من غزارتها واستيعابها وشمولها ودقتها؛ إذ لم تدع جانبا من جوانب الحياة الاجتماعية إلا تناولته، وقالت كلمتها فيه، مشيرة إلى المرتقى العالي الوضيء الطهور الذي أراد الإسلام للمسلم أن يسمو إليه، وإنه لسام إليه بلا ريب، متى استقرت حقيقة الإسلام في قلبه، وانسرب هديه اللألاء في جوانب نفسه، وخالطت بشاشته روحه، وعمرت قيمه كيانه. وقوام مكونات شخصية المسلم الاجتماعية وقوفه عند حدود الله في سلوكه الاجتماعي ومعاملته للناس. فمن هذا الأصل الكبير من أصول العقيدة الإسلامية تتفرع الأخلاق الاجتماعية التي يتحلى بها المسلم التقي المرهف في سلوكه، وعلى هذا الأساس المتين يقيم المسلم الصادق علاقاته الاجتماعية مع الناس. صادق: فهو صادق مع الناس جميعا، لأن هدي الإسلام الذي تغلغل في كيانه علمه أن الصدق رأس الفضائل، وأس مكارم الأخلاق، وهو بالتالي يهدي إلى البر المفضي بصاحبه إلى الجنة، في حين يهدي الكذب إلى الفجور المفضي بصاحبه إلى النار، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) (¬1). ومن هنا كان المسلم الحق صديقا، يتحرى الصدق في أقواله وأفعاله، وإنها لمرتبة عالية كريمة، أن يكتب الإنسان عند ربه صديقا. ¬

_ (¬1) متفق عليه.

لا يغش ولا يخدع ولا يغدر

لا يغش ولا يخدع ولا يغدر: والمسلم الصدوق الذي بلغ هذه المرتبة الرفيعة لا يغش ولا يخدع ولا يغدر؛ ذلك أن مقتضى الصدق النصيحة والصفاء والإنصاف والوفاء، لا الغش والخديعة والمخاتلة والإجحاف والغدر. إن وجدان المسلم المرهف الصادق لا يطيق الغش ولا يصبر عليه، بل إنه ليرتجف هلعا منه، إذ يرى في ارتكابه انخلاعا من الانتساب للإسلام، يقرره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم: ((من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا)). وفي رواية لمسلم أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة (¬1) طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء (¬2) يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس! من غش فليس مني)). إن مجتمع المسلمين مجتمع يعمره الحب، وتسوده النصيحة، ويغلب على أفراده البر والصدق والوفاء، ومن هنا لا مكان فيه لغشاش مخادع مخاتل مراوغ كفور غدار. ولقد اشتد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتنديد بالغش والخديعة والغدر، فلم يكتف بنبذ الغشاش الغدار، ورميه بعيدا عن مجتمع المسلمين في الدنيا، بل أعلن أن كل غادر سيحشر يوم القيامة، وهو يحمل لواء غدرته، والمنادي ينادي في ساحة العرض الكبير، دالا عليه، لافتا إلى غدرته الأنظار، وذلك في قوله: ¬

_ (¬1) أي كومة. (¬2) أي المطر.

((لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان)) (¬1). فيا لخجلة الغدارين الذين حسبوا أن غدراتهم طوتها الأيام، فإذا هي تنشر يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وألويتها مرفوعة بأيديهم. وإن خجلتهم لتزداد سوءا وخزيا يوم القيامة، حين يجدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المؤمل المرجى للشفاعة في هذا الموقف الرهيب، يعلن أن رب العزة يقف خصما لهم؛ لأنهم اقترفوا جريمة الغدر الفادحة، وإنها لجريمة كبرى، تحجب عن صاحبها رحمة الله، وتحرمه شفاعة رسوله الكريم: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنة، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) (¬2). إن المسلم الحق الذي أرهف الإسلام مشاعره، وفتح نوافذ البصيرة في نفسه، ليأنف من الخديعة والغش والغدر والكذب مهما جرت عليه هذه الصفات من منافع، ومهما حققت له من مكاسب؛ ذلك أن هدي الإسلام يعد أصحاب هذه الصفات من المنافقين وإن المنافقين لفي الدرك الأسفل من النار، ولا ناصر لهم يوم القيامة: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (¬3). ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه البخاري. (¬3) النساء:145. (¬4) متفق عليه.

لا يحسد

لا يحسد: ومما يلحق بهذه الصفات القبيحة غير اللائقة بالمسلم التقي: الحسد، ولذلك حذر الرسول الكريم منه تحذيرا شديدا إذ أخبر أن الحسد والإيمان لا يجتمعان فى قلب مؤمن: ((لا يجتمع في جوفي عبد الإيمان والحسد)) (¬1). وعن ضمرة بن ثعلبة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا)) (¬2). إن من سمات المسلم الحق صفاء النفس من الغش والحسد، ومن الغدر والضغينة، وإن هذا الصفاء ليدخل صاحبه الجنة، وما هو من العباد المكثرين من العبادة، القائمين الليل، الصائمين النهار؛ فقد أخرج الإمام أحمد بإسناد حسن والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنا جلوسا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنه)) فطلع رجل من الأنصار (¬3)، تنطف لحيته من وضوئه (¬4)، فد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى. فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - تبعه (¬5) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: إني لاحيت (¬6) أبي فأقسمت إني لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار (¬7) وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر، حتى يقوم ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في صحيحه. (¬2) رواه الطبراني، ورواته ثقات. (¬3) هو سعد بن أبى وقاص كما جاء مصرحا باسمه في البداية والنهاية لابن كثير 8/ 74. (¬4) أي من الماء الذي يتوضأ به. (¬5) أي تبع الرجل. (¬6) أي خاصمت. (¬7) أي استيقظ من نومه.

لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث الليالي وكدت احتقر عمله قلت: يا عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ثلاث مرات: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة))، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك فانظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق)). إن هذا الحديث الشريف ليدل على أثر صفاء النفس من الحقد والحسد، وسلامة الصدر من الضغينة والغدر في تقرير مصير الإنسان في آخرته، ورفع مكانته عند الله، وتقبل عمله، ولو قل. وإن هذا الأثر ليبدو واضحا جدا بمقارنة هذا الرجل الذي لم يأت من العبادة إلا بالقليل، ودخل الجنة بصفاء سريرته وسلامة الناس من أذاه، بالمرأة التي سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، وهي امرأة تقوم الليل وتصوم النهار، ولكنها تؤذي جيرانها، فقال: ((لا خير فيها، هي من أهل النار)) (¬1). ذلك أن الإنسان الذي ترجح كفته دوما في ميزان الإسلام هو الإنسان الصادق الصافي الخالية نفسه من الغش والغدر والحسد والضغينة، ولو كان قليل العبادة، فمثله، على قلة عبادته، كمثل لبنة متماسكة نظيفة في بناء المجتمع الإسلامي، أما الإنسان الذي طوى صدره على مقت الناس وحسدهم وأذاهم وغشهم، فإن كفته تطيش في ميزان الإسلام، ولو كثرت عبادته، لأن مثله كمثل لبنة هشة فاسدة في بناء المجتمع، وقد تكون هي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

ناصح

وأمثالها سببا في تداعيه وانهياره، والمسلم النموذجي الحق الذي يريده الإسلام هو الذي جمع بين حسن العبادة وصفاء النفس وحسن المعاملة، فطابقت سريرته علانيته، وصدق فعله قوله، فمن هذا المسلم وأمثاله يرتفع صرح المجتمع الإسلامي الراشد القوي، فإذا هو كما وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وهذا هو المجتمع النظيف المتماسك الراقي الجدير بحمل رسالة الله للناس. ناصح: والمسلم الحق لا يبرأ من هذه الصفات الذميمة فحسب، بل يتحلى بالخلق الإيجابي البناء، خلق النصح الصادق لكل مسلم في مجتمعه، إيمانا منه بأن دينه هو النصيحة بعينها، كما قرر ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوله: ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬1). وكان الصحابة الكرام يبايعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الصلاة والزكاة والنصيحة لكل مسلم، يشهد لذلك قول جرير بن عبد الله رضي الله عنه: ((بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)) (¬2). إن في اقتران النصيحة بالصلاة والزكاة في بيعة هذا الصحابي الجليل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لدليلا على أهميتها في ميزان أعمال المسلم، وخطورتها في تقرير مصيره في آخرته، ومن هنا كانت خليقة أصيلة من خلائق المسلم الصادق التقي، الحريص على حسن عاقبته يوم الحساب. ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) متفق عليه.

موف بالعهد

وتزداد خطورة النصيحة في تقرير مصير المسلم في آخرته حين يلي أمرا من أمور المسلمين، إنها حينئذ المفتاح الذي يلج به جنان الخلد، فإن لم يحز عليه في دنياه حرم عليه دخولها في آخرته وعقباه، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد يسترعيه الله رعيته، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة)) (¬1). وفي رواية: ((فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة)). وفي رواية لمسلم: ((ما من أمير يلي أموز المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح لهثم إلا لم يدخل معهم الجنة)). ألا ما أعظتم مسؤولية الحاكم في الإسلام، ومسؤولية كل إنسان ولي أمرا من أمور المسلمين! وما أعظم أثر النصيحة للرعية في تقرير مصير الراعي، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وإذا ما تمثلت لأبصارنا مسؤولية كل واحد منا في دائرته الاجتماعية التي بينها الرسول الكريم بقوله: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) أدركنا شمول المسؤولية في مجتمع المسلمين، حتى ما يكاد يفلت من قبضتها إنسان، ومن هنا كان المجتمع الإسلامي الحق القائم على هذه المبادئ والقيم الربانية، أرقى المجتمعات البشرية وأكثرها أمنا ونظافة واستقامة. موف بالعهد: والمسلم الحق الذي ارتوت نفسه من هدي الإسلام، يتحلى أيضا بالخلق الإيجابى المحبب، خلق الوفاء بالعهد، وإنجاز الوعد. ولا نغالي إذا قلنا: إن هذا الخلق من أهم عوامل نجاح الإنسان في مجتمعه، ومن أدل الخلائق على رقة الإنسان وسمو منزلته ورفعة مستواه الاجتماعي. ¬

_ (¬1) متفق عليه.

والمسلم من هذا النمط الراقي من الناس الموفين بالعهد، بل هو أرقاهم على الإطلاق حين يكون مسلما حقا، لأن خلق الوفاء بالعهد من آصل الأخلاق الإسلامية، ومن أكثرها دلالة على صحة إيمان المسلم وحسن إسلامه، وقد جاءت بذلك الآيات والأحاديث الكثيرة، تحض على التحلي بهذا الخلق وتشير إلى أنه من علامات الإيمان، وتهدد المتحللين منه، وتؤكد أنه من علامات النفاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1). {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (¬2). فليس العهد كلمة طائرة يلقيها صاحبها، ولا يفي بالتزاماتها كما يفعل كثير من المسلمين اليوم، وإنما هي مسؤولية سيناقش عليها الحساب. {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (¬3). إنه عهد الله، أضيف اليه، فاكتسب الجلالة والقدسية والاحترام، ووجب الوفاء به، مهما تكن الظروف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬4). فالإخلاف بالوعد، والتحلل من العهد، من المقت السيء الكبير الذي يكرهه الله لعباده المؤمنين، ولا يريد لهم أن يسفوا إليه، ولا يخفى ما في الاستفهام في صدر الآية من إنكار يخزى منه المؤمن الوفي، ويندى له جبينه حياء من ربه. ¬

_ (¬1) المائدة: 1. (¬2) الإسراء: 34. (¬3) النحل:91. (¬4) الصف:2.

حسن الخلق

ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (¬1). وفي رواية لمسلم: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)). إن حسن إسلام المرء لا تؤكده العبادات التي يقوم بها من صيام وصلاة وحج فحسب، كما أسلفت، وإنما تؤكده نفسية الإنسان التي انفعلت بتعاليم الإسلام، وارتشفت من رحيق هداه، حتى غدت تنضح بشذا أخلاقه العالية، وقيمه الرفيعة، وأحكامه السمحة، فتراها وقافة عند حدود الله، ملتزمة أمره، مجتنبة نهيه، منصاعة لهداه في كل شيء. ومن هنا ينتفي من حياة المسلم الحق الصادق الكذب والإخلاف بالوعد وخيانة العهود والمواثيق، لأنها منافية لخلق الإسلام، ولا توجد إلا في أخلاق المنافقين. ألا فليعلم تلك الحقيقة المرة كثير من التجار والصناع والموظفين، الذين يعدون الناس بإنجاز أعمالهم في وقت محدد، ثم يخلفون المواعيد، وليعلمها أولئك الذين يتعاهدون على أمر، ثم ينقضون ما تعاهدوا عليه، وكذلك الذين يؤتمنون على مال أو سر أو ورثة أو غير ذلك، ثم يخونون الأمانة. ليعلم هؤلاء جميعا أنهم في زمرة المنافقين، ولو صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون، وإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. حسن الخلق: والمسلم الحق حسن الخلق، موطأ الكنف، لين القول، عملا بهدي الإسلام، وتأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) متفق عليه.

فلقد ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يروي خادمه أنس، أحسن الناس خلقا)) (¬1) ولم يكن أنس رضي الله عنه مبالغا في قوله، ولم تحمله محبته له على المبالغة، فلقد رأى من حسن خلق الرسول الكريم ما لم تره عين، ولا سمعت به أذن. وندع أنسا رضي الله عنه يحدثنا عن طرف من خلق نبي الإسلام العظيم، فيقول: ((لقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعلة: ألا فعلت كذا؟)) (¬2). ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فاحشا ولا متفخشا، كما يقول عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان يكرر على أسماع الصحابة قوله: ((إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا)) (¬3). وقوله: ((إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقا)) (¬4). وقوله: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون (¬5) والمتشدقون (¬6) ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه الطبراني وأحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات. (¬5) الثرثارة كثير الكلام. (¬6) المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحا وتعظيما لكلامه.

والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبرون)) (¬1). كان الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون هذا التوجيه الخلقي العالي من الرسول الكريم، ويرون بأعينهم الخلق الرفيع الذي كان يعامل به الناس، فيعملون بقوله، ويتأسون بفعله، وبذلك قام مجتمعهم الأمثل الذي ما داناه مجتمع في تاريخ الإنسان. يقول أنس رضي الله عنه: ((كان النبي رحيما، وكان لا يأتيه أحد إلا وعده، وأنجز له إن كان عنده. وأقيمت الصلاة، وجاءه أعرابى فأخذ بثوبه فقال: إنما بقي من حاجتي يسيرة، وأخاف أنساها، فقام معه حتى فرغ من حاجته، ثم أقبل فصلى)) (¬2). لم يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرجا في أن يستمع إلى الأعرابي ويقضي حاجته، وقد أقيمت الصلاة، ولم يضق صدره بذاك الأعرابي الذي أخذ بثوبه، وأصر على قضاء حاجته قبل الصلاة، لأنه، صلوات الله عليه، كان يبني مجتمع الأخلاق، ويعلم المسلمين بفعله كيف يجب أن يعامل المسلم أخاه الإنسان، ويقرر لهم المبدأ الخلقي الذي ينبغي أن يسود مجتمع المسلمين. وإذا كان حسن الخلق عند غير المسلمين يرجع إلى حسن التربية وسلامة التنشئة ورقي التعليم، فإن حسن الخلق عند المسلمين يعود قبل هذا كله إلى هدي الدين الذي جعل الخلق سجية أصيلة في الإنسان المسلم، ترفع من منزلته في الدنيا، وترجح كفة ميزانه في الآخرة، إذ ما من عمل أثقل ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

في ميزان الإنسان المؤمن يوم الحساب من حسن الخلق، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن؛ فإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذئ)) (¬1). بل إن الإسلام جعل حسن الخلق من كمال الإيمان، إذ عد أحسن الناس خلقا أكملهم إيمانا، وذلك في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)) (¬2). وجعل أحسن الناس خلقا من أحب عباد الله إليه يشهد لذلك حديث أسامة بن شريك، قال: كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنما على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذ جاءه ناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: ((أحسنهم أخلاقا)) (¬3). ولا غرو أن يكون أحسن الناس خلقا أحبهم إلى الله، ذلك أن حسن الخلق في شريعة الإسلام شيء عظيم، إنه لأثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة كما رأينا، وإنه ليعدل الصلاة والصيام، ركني الإسلام الكبيرين، كما قرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((لا يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن حسن الخلق ليبلغ بصاحبه درجة الصوم والصلاة)) (¬4). وفي رواية: ((إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحح. (¬3) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬4) رواه الترمذي والبزار ورجاله ثقات.

ومن هنا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤكد أهمية حسن الخلق للصحابة الكرام، ويحضهم على التجمل به، ويحببه إلى نفوسهم بأساليب شتى من قوله وفعله، إدراكا منه لأثره الكبير في تهذيب الطباع، وتزكية النفوس، وتجميل الخلائق، ومن ذلك قوله لأبي ذر: ((يا أبا ذر، ألا أدلك على خصلتين، هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرهما؟)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((عليك بحسن الخلق، وطول الصمت. فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق (¬1) بمثلهما)) (¬2). وقوله: ((حسن الخلق نماء، وسوء الخلق شؤم، والبر زيادة في العمر، والصدقة تمنع ميتة السوء)) (¬3). وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم أحسنت خلقي، فأحسن خلقي)) (¬4). إن دعاء الرسول الكريم أن يحسن الله خلقه، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬5) لدليل عميق على اهتمامه الشديد بحسن الخلق، ورغبته الحارة في أن يستزيد المسلمون دوما منه، مهما سموا في معارجه الوضاء، كما كان يستزيد نبيهم العظيم منه بهذا الدعاء. وحسن الخلق كلمة جامعة، يندرج تحتها كل خلق كريم يجمل الإنسان، ويزكيه، ويسمو به، كالحياء والحلم والرفق والعفو والسماحة والبشر والصدق والأمانة ¬

_ (¬1) الخلائق: جمع الخليقة، والخليقة هنا: الناس، ففي القاموس: ((الخليقة: الناس كالخلق)). وفي الصحاح: ((الخلقية: الخلق، والجمع: الخلائق. يقال: هم خليقة الله أيضا)). (¬2) رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، ورجال أبي يعلى ثقات. (¬3) رواه أحمد، ورجاله ثقات. (¬4) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬5) القلم: 4.

متصف بالحياء

والنصيحة والاستقامة وصفاء السريرة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق. بيد أن الباحث المستقصي نصوص التوجيه الاجتماعي في الإسلام، يجد نفسه أمام حشد كبير جدا من النصوص التي تحض على كل خلق من هذه الأخلاق الاجتماعية الرفيعة، مما يدل على عناية الإسلام البالغة في تكوين شخصية المسلم الاجتماعية تكوينا دقيقا، لا يكتفي بالعموميات، بل يقف عند كل جزئية من الجزئيات الخلقية التي تكون جانبا من جوانب الشخصية الاجتماعية المتكاملة. وهذا الاستيعاب والشمول لم يتوافرا في منهج من مناهج التربية الاجتماعية توافرهما في منهج هذا الدين. ولا مناص للباحث من الوقوف عند هذه النصوص جميعا، والإلمام بما تضمنته من هدي وتوجيه وتشريع، ليستطيع تجلية الشخصية الاجتماعية الراقية التي تميز بها المسلم التقي الواعي وتفرد. ولقد وقفنا فيما سلف عند بعض هذه النصوص التي جفت جوانب من شخصية المسلم المستجيب لهدي دينه، الوقاف عند أمر ربه ونهيه، وتبين لنا من خلالها أن المسلم الحق صادق، وفي، لا يغش، ولا يخدع، ولا يغدر، ولا يخون، ولا يحسد، حسن الخلق مع الناس جميعا. وها نحن أولاء نمضي مع النصوص الأخرى الكثيرة التي تصوغ شخصية المسلم الاجتماعية، وتحدد طابعها المتميز في شتى النواحي، ومنها أنه: متصف بالحياء: فالمسلم الحق يتصف بالحياء تأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان المثل الأعلى في الحياء، يشهد لذلك قول الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:

((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه)) (¬1). والحياء- كما عرفه العلماء- خلق نبيل يبعث دوما على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق أصحاب الحقوق، ومن هنا أشاد به الهدي النبوي في عدد من الأحاديث الشريفة، وعده خيرا محضا على صاحبه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه. فعن عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) (¬2). وفي رواية لمسلم: ((الحياء خير كله. أو قال: الحياء كله خير)). وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (¬3). إن المسلم الصادق التقي حيي مهذب ذمث مرهف الشعور، لا يصدر عنه فعل قبيح يؤذي الناس، ولا يقصر في حق أحد ذي حق- ذلك أن خلق الحياء فيه يحجبه عن ذلك كله، ويذوده عن الوقوع فيه، لا حياء وخجلا من الناس فحسب، وإنما حياء من الله تعاله، وتحرجا أن يلبس إيمانه بظلم، إذ الحياء شعبة من شعب الإيمان. وهذا أرقى ما وصل إليه الإنسان من تخلق بالحياء. إن ربط البواعث الخلقية بالإيمان بالله واليوم الآخر، يميز الإنسان ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه.

رفيق بالناس

المسلم عن غيره بالإخلاص العميق في الأخلاق التي يتصف بها، وبثبات هذه الأخلاق وديمومتها فيه، مهما تقلبت الأيام به وتغيرت الأحوال؛ ذلك أنها صادرة عن وجدان حي مرهف يستحيي من مقارفة الخيانة، وحياؤه من الله المطلع على الخبيء من أسراره، قبل حيائه من الناس المطلعين على الظاهر من أخباره، وهذا الحياء من الله هو مفرق الطريق بين أخلاق المسلم وأخلاق غير المسلم. رفيق بالناس: والمسلم الحق لطيف متأن رفيق بالناس، حين يحسن اللطف، ويستحب الرفق، وتحمد الأناة؛ ذلك أن اللطف والرفق والأناة خصال حميدة، يحبها الله في عباده المؤمنين، لأنها تكسب من تحلى بها دماثة الخلق، وررقة الجانب، وحسن العشرة، وتجعله قريبا من نفوس الناس، محببا إلى قلوبهم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (¬1). ولقد جاءت النصوص متضافرة متتابعة، تحبب في الرفق، وتحض عليه، وتؤكد أنه خلق عال ينبغي أن يسود مجتمع المسلمين، ويتصف به كل مسلم عاش في هذا المجتمع، ووعى أحكام دينه، واستنار بهديه اللألاء، وحسب المسلم أن يعلم أن الرفق من صفات الله تعالى العليا التي أحبها لعباده في الأمور كلها: ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) (¬2). ¬

_ (¬1) فصلت: 34، 35. (¬2) متفق عليه.

وإنه لخلق عظيم يثيب الله عليه من عطائه الجزل ما لا يثيبه على خلق آخر: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)) (¬1). ويشيد الهدي النبوي العالي بالرفق، فيجعله زينة كل شيء، ما حل في شيء إلا زانه وحببه إلى النفوس والأبصار، وما نرع من شيء إلا شانه ونفر منه القلوب والأرواح: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) (¬2). وكان الرسول الكريم صلوات الله عليه يعلم المسلمين الرفق في معاملة الناس، ويسددهم إلى التصرف اللبق الأمثل الذي يليق بالمسلم الداعية إلى دين الله الرحيم الرفيق بالعباد، مهما كان الموقف مثيرا للحفائظ، داعيا للغضب والاشمئزار. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا (¬3) من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) (¬4). فبالرفق والتيسير واللين والسماحة تفتح مغالق القلوب، ويدعى الناس إلى الحق، لا بالعنف والتعسير والشدة والمؤاخذة والزجر، ومن هنا كان من هدي الرسول الكريم في هذا الباب: ((بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)) (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم: (¬3) السجل: الدلو الممتلئة ماء، وكذلك الذنوب. (¬4) رواه البخاري. (¬5) متفق عليه.

ذلك أن الناس ينفرون بطبائعهم من الفظاظة والخشونة والعنف، ويألفون الرقة والدماثة واللين والرفق، ومن هنا كان قول الله تبارك وتعالى لنبيه الكريم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (¬1). وإنه لقول خالد، ودستور مقيم ثابت، لكل داعية تصدى لدعوة الناس إلى الهدى، إذ عليه أن يحسن التأتي إلى قلوبهم، ويسلك سبيل الرفق واللباقة واللين، ولو كان المدعو من الطغاة العتاة الظالمين، وهذا ما زود الله به نبيه موسه عليه السلام وأخاه هرون حين أرسلهما إلى فرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬2). فلا بدع أن يكون الرفق في هدي هذا الدين هو الخير كله، من أوتيه فقد حاز الخير كله، ومن حرمه حرم الخير كله، وذلك في الحديث الذي رواه جرير بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من يحرم الرفق يحرم الخير)) (¬3). ولقد بين الهدي النبوي العالي أن هذا الخير ينصب على الأفراد والبيوت والأقوام إذا ساد حياتهم الرفق، وكان من خلائقهم الغر الحسان، نجد ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها: ((يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيرا دلهم على الرفق)) (¬4). وفي رواية: ((إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق)) (¬5). ¬

_ (¬1) آل عمران: 159. (¬2) طه: 43. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. (¬5) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

رحيم

وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أراد الله بقوم خيرا أدخل عليهم الرفق)) (¬1). وأي خير أعظم من خليقة يتخلق بها الإنسان، فتكون له وقاية من النار؟ كما أخبر بذلك الرسول الكريم في حديث آخر فقال: ((ألا اخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل)) (¬2). ويسمو الهدي النبوي الكريم بالإنسان، وهو يغرس فيه خلق الرفق، فيطالبه بالرفق حتى بالحيوان الذبيح، ويعد ذلك من الإحسان، أعلى المراتب التي يرقى إليها الأتقياء الصالحون: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) (¬3). ذلك أن الرفق بالحيوان الأعجم الذبيح دليل على رقة نفس الإنسان الذي يذبحه، وعلى تمثلها الرحمة بكل ذي روح، ومن وقرت في نفسه هذه المعاني في معاملته لذوي الأرواح من الحيوان، كان بالإنسان أرفق وألطف، وإلى هذا الهدف البعيد ترمي توجيهات الإسلام لكل مسلم بالرفق حتى بالحيوان. رحيم: والمسلم الواعي أحكام دينه، المنفعل بتعاليمه السمحة: رحيم، تتفجر ينابيع الرحمة من قلبه؛ إذ يدرك أن رحمة العباد في الأرض سبب لرحمة السماء تنهل عليه بنداها البرود: ¬

_ (¬1) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. (¬3) رواه مسلم.

((ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)) (¬1). ولأنه تعلم من هدي دينه أن: ((من لم يرحم الناس لم يرحمه الله)) (¬2). وأن: ((الرحمة لا تنزغ إلا من شقي)) (¬3). بل إن المسلم الحق الواعي لتتسع في نفسه دائرة الرحمة، فلا يقصرها على أهله وأولاده وذوي قرابته وصداقته فحسب، بل يشمل بها الناس جميعا؛ إذ يسمع الهدي النبوي يعم بها الناس جميعا ويجعلها من شروط الإيمان، وذلك فيما رواه أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس، رحمة العامة)) (¬4) إنها الرحمة العامة الشاملة، رحمة الناس عامة، يفجرها الإسلام في قلب الفرد المسلم، ليغدو مجتمع المسلمين متراحما، يموج بالمحبة الصادقة، والنصيحة الخالصة، والتعاطف العميق. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثالا فذا للرحمة، تجسدت فيه معانيها، وفاضت بها نفسه، حتى إنه ليكون في الصلاة فيسمع بكاء الصبي، فتأخذه الرحمة بأمه الولهى لبكاء طفلها، فيوجز في صلاته، وذلك فيما أخرجه الشيخان عن أنس رضى الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه الطبراني وإسناده حسن. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬4) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

إني لأدخل الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)). وجاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتقبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟)) (¬1). وقبل الرسول الكريم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا. فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((من لا يرحم لا يرحم)) (¬2). وأراد عمر رضي الله عنه أن يولي رجلا على المسلمين، فسمعه يقول قولة الأقرع بن حابس: إنه لا يقبل صبيانه، فعدل عمر عن توليته قائلا: إذا كانت نفسك لا تبض بالرحمة لأولادك، فكيف تكون رحيما بالناس؟ والله لا أوليك أبدا، ثم مزق الكتاب الذي أعده لتوليته. ولقد وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائرة الرحمة في حس الإنسان المسلم فإذا هي تشمل الحيوان أيضا فضلا على الإنسان، وذلك فيما كان ينثره على أسماع المسلمين من هدي حكيم؛ فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد به العطش، فوجذ بئرا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خفه ¬

_ (¬1) رواه الشيخان. (¬2) رواه البخاري ومسلم.

ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له)). قالوا: وإن لنا في البهائم لأجرا؟ قال: ((في كل كبد رطبة أجر)) (¬1). وروى الشيخان أيضا عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا، فدخلت فيها النار. قال: فقالوا- والله أعلم-: لا أنت أطعيتها ولا سقيتها حين حبستها، ولا أنت أرسلتها، فأكلت من خشاش الأرض)). ويبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأو الرحمة العالي، إذ نزل منزلا فجاءت حمرة ترف على رأسه الشريف، وكأنها تلوذ به شاكية له ظلم رجل أخذ بيضتها، فقال: ((أيكم فجع هذه ببيضتها؟ فقال: رجل: يا رسول الله، أنا أخذت بيضتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((ارددها رحمة لها)) (¬2). لقد أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموقف أن يغرس في حس المسلمين معنى الرحمة الواسع الشامل، ليغدو المسلم رحيما بطبعه، حتى بالحيوان؛ لأن من كان له قلب يحنو على الحيوان، لا يقسو على أخيه الإنسان. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذوب رحمة للإنسان والحيوان، وكان لا يني يعلم المسلمين أن يكونوا كذلك، لكي تعم الرحمة دنيا المسلمين، وتغمر مجتمعاتهم وأوطانهم، ومتى شاعت الرحمة في الأرض انهلت سكائب رحمة الله عليها وعلى ساكنيها من السماء، مصداقا لقول الرسول الكريم: ((ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الشيخان. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬3) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

عفو غفور

عفو غفور: والمسلم التقي المستجيب لهدي دينه عفو غفور، والعفو خلق إنساني عال، أشادت به النصوص القرآنية إشادة بالغة، وجعلت المتخلقين به من أرقى النماذج التقية في الإسلام، إذ أدخلهم في زمرة المحسنين الذين فازوا بمحبة الله ورضوانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬1) ذلك أنهم كظموا غيظهم ولم يحقدوا ولم يضطغنوا، بل تحرروا من وقر الضغينة والحقد، وانطلقوا في آفاق العفو والمغفرة والصفح والتسامح، ففازوا بصفاء النفس وغبطتها ونقائها وراحتها، وبما هو أكبر من ذلك، فازوا بمحبة الله ورضوانه. إن العفو والصفح والمسامحة مرتقى عال لا يستطيع بلوغه إلا الذين انفتحت مغاليق قلوبهم لهدي الإسلام، وانفعلت نفوسهم بأخلاقه السمحة، فآثروا ما عند الله من مغفرة وثواب وتكريم على ما هجست به من حب الانتصار والانتقام والانتصاف. ولقد سلك القرآن الكريم أبرع أسلوب في دفع النفس الإنسانية إلى ذلك المرتقى العالي الصعب، إذ قرر أن الذي أصابه البغي له أن ينتصر لنفسه ويرد عنها البغي والعدوان، ذلك أن جزاء السيئة سيئة مثلها، ولكنه لم يدع الإنسان التي أصابه الحيف والبغي من أخيه لعاطفة التشفي والانتصار والانتقام، بل أخذ بيده برفق إلى مرتقى الصبر والغفران والتسامح، وأكد له أن بلوغ ذلك المرتقى من عزم الأمور: ¬

_ (¬1) آل عمران: 134.

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬1). وحينما أجتاحت موجة الحزن نفس أبي بكر لما سمع من حديث الإفك، تلوكه بعض الألسنة الآثمة، فتنال من ابنته السيدة عائشة أم المؤنين، آلى على نفسه أن يقطع عونه عن أولئك الجاحدين للفضل ممن خاضوا في هذا الحديث الآثم، فتنزل توله تعالى فيه: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). إن مجتمع المؤمنين لا تقوم المعاملة بين أفراده على المؤاخذة والمحاسبة والانتصار للذات والانتصاف لها في كل صغيرة وكبيرة، وإنما تقوم فيه المعاملة بين الأفراد على المسامحة والتغاضي والصفح والصبر، وهذا ما دعت إليه نصوص الإسلام، وحض عليه هديه العالي القويم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (¬3). إن السيئة إذا قوبلت دائما بالسيئة أوغرت الصدور، وأرثت الأحقاد، وأنبتت الضغائن. أما إذا قوبلت السيئة بالحسنة أطفأت أوار الغضب، وهدأت من فورة النفس، وغسلت أدران الضغينة، فإذا المتعاديان يصبحان صديقين ¬

_ (¬1) الشورى: 40 - 44. (¬2) النور: 23. (¬3) فصلت: 34، 35.

حميمين، بكلمة طيبة، أو بسمة حانية من أحدهما، وإنه لفوز عظيم لمن دفع السيئة بالتي هي أحسن، لا يناله إلا ذو حظ عظيم، كما أشارت الآية الكريمة، بشيء من الصبر على السيئة التي ووجه بها، فصبر، وقابلها بالحسنة. هذا هو خلق المؤمن في مجتمع المؤمنين، تضافرت الآيات الكريمة على تأصيله في نفوسهم، ومن هنا كانت تطلب من المؤمن في مثل هذه المواقف أن يكظم غيظه، ويعفو، ويصفح الصفح الجميل الذي لا يترك وراءه أثرا من حقد أو موجدة أو ضغينة: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (¬1). ولا تقل الأحاديث الشريفة عن الآيات الكريمة احتفالا بهذا الخلق الإنساني النبيل، خلق العفو والتسامح، وحضا على تأصيله فى نفوس المسلمين، واصفة السلوك التطبيقي العالي لهذا الخلق الذي اتصف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قدوة المسلمين وإمامهم ومربيهم، داعية إلى الاقتداء به والسير على هداه: فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى، فينتقم لله تعالى (¬2). كان صلوات الله عليه يتمثل توجيه رب العزة له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬3). ¬

_ (¬1) الحجر: 85. (¬2) رواه مسلم. (¬3) الأعراف: 199.

ويتمثل قوته تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1). فإذا هو آية فريدة من آيات الخلق الرباني، يسع الناس بخلقه العظيم، فلا يقابل إساءتهم بإساءة، بل يقابلها بخلق العفو والعرف والإعراض عن الجاهلين، ويدفعها بالتي هي أحسن: فعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجبذه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفث إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء)) (¬2). وبلغ من أصالة خلق العفو وعمقه في نفسه الشريفة أنه عفا عن المرأة اليهودية التي أهدت إليه شاة مسمومة، وذلك فيما رواه الشيخان وغيرهما أن امرأة يهودية أهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة مسمومة، فاأكل منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكل رهط من أصحابه معه ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمسكوا فإنها مسمومة)). وجيء بالمرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: ((ما حملك على ما صنعت؟)) قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه، ولن تضرك. وإن لم تكن نبيا استرحنا منك. قالوا: ألا نقتلها؟ قال: ((لا))، وعفا عنها. ولما عصت دوس، وأبت الإذعان لأمر الله - صلى الله عليه وسلم - رسوله، جاء الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن دوسا قد عصت وأبت، ¬

_ (¬1) فصلت: 34. (¬2) متفق عليه.

سمح

فادع الله عليهم، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا. ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرحيم الحاني السمح المشفق على العباد أن يمسهم عذاب الله راح يدعو لدوس قائلا: ((اللهم اهد دوسا وائت بهم، اللهم اهد دوسا وائت بهم، اللهم اهد دوسا وائت بهم)) (¬1). وكان صلوات الله عليه يغرس في نفوس المسلمين دوما خلق العفو والتسامح، وإن قوبلوا بالصد والإعراض والقطيعة؛ إذ كان يدرك بثاقب نظرته التربوية التي زوده الله بها أن الناس يستجيبون بالخلق العالي السمح أكثر مما يستجيبون بالشدة القطيحة والعنف، ومن هنا كان من هديه القويم لعقبة بن عامر حين قال: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال، فقال: ((يا عقبة، صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك)). وفي رواية: ((واعف عمن ظلمك)) (¬2). سمح: والمسلم الواعي أحكام دينه سمح في معاملته الناس؛ إذ يدرك أن ليس كالسماحه من خلق يجلب للإنسان الخير في دنياه وآخرته. إنه بخلقه السمح اللين الرضي ينفذ إلى قلوب الناس فيحبونه، وبخلقه السمح اللين الرضى يستحق مرضاة الله وعفوه ورحمته، وهذا ما نطقت به النصوص الثابتة من هدي الرسول الكريم: فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الشيخان. (¬2) رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات. (¬3) رواه البخاري.

طليق الوجه

وعن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير إلا أنه كان رجلا يخالط الناس، وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر. قال الله عز وجل: فنحن أحق بذلك منه، فتجاوزوا عنه)) (¬1). ألا ما أثقل هذا الخلق في ميزان الإنسان! وما أحوج هذا الإنسان إليه يوم العرض الكبير وساعاته العصيبة الشداد! طليق الوجه: ومن مستلزمات هذا الخلق السمح اللين أن يكون صاحبه مع الناس طلق المحيا، مفتر الأسارير، تعلو الابتسامة وجهه، ويطفح البشر من محياه؛ وهذا كله من حسن الخلق، ومن المعروف الذي حض عليه الإسلام. ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)). وأخرج الشيخان عن الصحابي الجليل جرير بن عبد الله أنه قال: ((ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم)). إن المجتمع الذي تشيع السماحة والود والابتسام بين أفراده لهو مجتمع إنساني راق متواد متماسك، يكرم فيه الإنسان، وتحترم الأخلاق، وتسود القيم الإنسانية العليا، وهذا هو المجتمع الإسلامي الذي تضافرت النصوص والمبادئ الإسلامية التربوية على إنشائه، ليكون غرة في جبين المجتمعات، وإننا لنلمس الفرق الكبير بين هذا المجتمع الرباني وبين المجتمعات المادية التي يعيش فيها الإنسان في جفاف عاطفي قاتل، لا يهش لجار أو قريب، ولا يكاد يفتر ثغره عن ابتسامة حب لصديق، وإنما هو دوما مهموم مشغول ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

خفيف الظل

سادر في متطلبات الحياة المادية التي أطفات فيه شعلة العاطفة الإنسانية، وجففت ينابيع الري الروحي، وجعلته داثرا في فلكها كالدوامة، لا يكاد يهدأ ولا يقر له قرار. خفيف الظل: والمسلم خفيف الظل مع الناس، محبب العشرة لهم، يخالطهم ويمازحهم عندما يحسن المزاح وتلطف المداعبة، وهو في مزاحه لا يغلو ولا يشتط ولا يؤذي، كما هو في جده لا يقسو ولا يتزمت ولا يتجافى؛ فمزاحه هو المزاح الإسلامي المشروع السمح الذي لا يخرج به عن دائرة الحق، كما كان شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام في مزاحهم ومداعبتهم، فقد أثر عن الصحابة أنهم قالوا للرسول الكريم: إنك تداعبنا، فقال: ((إني لا أقول إلا حقا)) (¬1). فالرسول ي كان يمزح، ولكنه كان لايقول في مزاحه إلاحقا، وكذلك كان الصحابة الكرام، ولهم في المزاح والمداعبة أخبار طريفة، كانت تجري بينهم وبين الرسول الكريم. من هذه الأخبار ما روته كتب الحديث والسير من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمازح طفلا صغيرا من أبناء الصحابة يكنى أبا عمير، له طائر يلعب فيه. وفي ذات يوم رآه حزينا، فقال: ما لي أرى أبا عمير حزينا؟ قالوا: مات نغره الذي كان يلعب به يا رسول الله، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول مداعبا الطفل: ((أبا عمير، ما فعل النغير (¬2)؟)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) النغير: تصغير النغر، وهو طائر يشبه العصفور. (¬3) حياة الصحابة 3/ 149.

وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحمله، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ممازحا: ((إنا حاملوك على ولد ناقة)) فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد ناقة؟ فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((وهل تلد الإبل إلا النوق؟)) (¬1). وأخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا، وكان يهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية من البادية، فيجهزه النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه))، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه، وكان رجلا دميما، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، ولا يبصره الرجل، فقال: أرسلني! من هذا؟ فالتفت فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرفه وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من يشتري العبد؟)) فقال: يا رسول الله! إذن والله تجدني كاسدا، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لكن عند الله لست بكاسد))، أو قال: ((لكن عند الله أنت غال)). وأتت عجوز النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال مداعبا: ((يا أم فلان، إن الجنة لا تدخلها عجوز))، فولت العجوز تبكي، فقال: ((أخبروها أنها لا تدخلها، وهي عجوز؛ إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (¬2). ومن الأحاديث الدالة على نفسية الرسول المرحة المحبة للمداعبة والمزاح ما أخرجه الإمام أحمد عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: ((خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: ((تقدموا))، فتقدموا، ثم قال لي: ((تعالي حتى أسابقك))، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم، وبدنت، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) رواه الترمذي. وهو حسن بشواهده.

ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: ((تقدموا))، فتقدموا، ثم قال لي: ((تعالي حتى أسابقك))، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: ((هذه بتلك)). ولذلك لم يكن الصحابة الكرام يرون حرجا في المزاح والمداعبة، فلقد رأوا الرسول الكريم، وهو إمامهم وقائدهم ومعلمهم، يمزح أحيانا، ويمرح أحيانا أخرى، فكانت لهم مواقف من المزاح والمرح طريفة، تدل على سماحة المجتمع الإسلامي الأول وبعده عن التزمت والتجهم والانقباض. أخرج البخاري في الأدب عن بكر بن عبد الله قال: ((كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبادحون بالبطيخ (¬1)، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال)). إنه المزاح الإسلامي المقتصد المعتدل الذي لا يخرج أصحابه عن جادة الحق، ولا يطفىء فيهم شعلة الرجولة، وإنما يؤدي غرضه في تنشيط النفوس، وجلاء الأذهان، وترويح القلوب. ومن طرائف ما روي من مزاح الصحابة الكرام الذي ضحك له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرجه الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه خرج تاجرا إلى بصرى، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة رضي الله عنهما، وكلاهما بدري (¬2)، وكان سويبط على الزاد، فقال له نعمان: أطعمني! قال: حتى يجيء أبو بكر، وكان نعيمان مضحاكا مزاحا، فذهب إلى ناس جلبوا ظهرا فقال: ابتاعوا مني غلاما عربيا فارها؟ قالوا: نعم، قال: إنه ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني لا تفسدوه علي! فقالوا: بل نبتاعه، فابتاعوه منه بعشر قلائص، فأقبل بها ¬

_ (¬1) أي يترامون. (¬2) أي شهد بدرا.

يسوقها، وقال: دونكم هو هذا! فقال سويبط: هو كاذب، أنا رجل حر! قالوا: قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته، فذهبوا به فجاء أبو بكر فأخبر، فذهب هو وأصحابه إليهم، فردوا القلائص وأخذوه، ثم أخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فضحك هو وأصحابه منها حولا. وجاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل المسجد وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنعيمان بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه، وكان يقال له: النعيمان: لو نحرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم (¬1)، ويغرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمنها، فنحرها النعيمان، ثم خرج الأعرابي فرأى راحلته فصاح: واعقراه يا محمد! فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من فعل هذا؟ قالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه، فوجده في دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنه قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد والسعف، فأشار إليه رجل ورفع صوته يقول: ما رأيته يا رسول الله، وأشار بإصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تغير وجهه بالسعف الذي سقط عليه، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح عن وجهه ويضحك، ثم غرمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وبعد، فليس بعد هذه الآثار وأمثالها دليل أنصع على ما يريده الإسلام لأبنائه من خفة ظل، ومرح نفس، وعذوبة روح، وإنها لصفات تكسب صاحبها شخصية دمثة محببة، تستطيع أن تغزو القلوب، وتغلغل في بواطن النفوس، والمسلم الداعية في أشد الحاجة إلى مثل هذه الشخصية وتلك الصفات. ¬

_ (¬1) أي اشتهينا. (¬2) انظر حياة الصحابة 3/ 154، 155.

حليم

حليم: والمسلم التقي الذي ارتوت نفسه من هدي الإسلام يروض نفسه دوما على الحلم وكظم الغيظ، متمثلا قول الله تبارك وتعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬1). ذلك أن الشديد في نظر الإسلام ليس بالرجل ذي العضلات المفتولة، القادر على صرع الناس والتغلب عليهم، بل الشديد هو الرجل المتزن الحليم الذي يملك نفسه عند الغضب: ((ليس الشديد بالصرعة (¬2)، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (¬3). إن ضبط النفس عند الغضب مقياس رجولة الرجال، وليس اندفاعهم وراء لوثة الغضب الهوجاء، واستسلامهم لنزق الانفعال الطائر؛ فبضبط الرجل نفسه، وتحكمه في أعصابه حين الثورة والانفعال، يسيطر على المواقف، ويدرأ الفتن والخصومات، ويحسن الوصول إلى الهدف، ويحظى برضا الله والناس. ومن هنا كانت توصية الرسول الكريم للرجل الذي يستوصيه كلمة واحدة: ((لا تغضب))،! وردد الرجل مرارا قوله: أوصني، وكان جواب الرسول الكريم هذه الكلمة الجامعة لمكارم الأخلاق: ((لا تغضب)) (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)) (¬5). ¬

_ (¬1) آل عمران: 134. وانظر فضل بيان في هذه المسألة ص 142، 143. (¬2) أي الذي يصرع الناس ويغلبهم. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه البخاري. (¬5) رواه مسلم.

إن المسلم الحق ليغضب أحيانا، ولكنه لا يغضب إذا غضب لنفسه، وإنما يغضب لله، حين تنتهك حرمة من حرماته، أو يعتدى على شعيرة من شعائر دينه، أو يعطل حكم من أحكامه، هنالك ينتفض المسلم ثورة عارمة على المعتدين الآثمين المنتهكين حرمات الله، العابثين بشرعه وأحكامه وقيمه، وهذا ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه البخاري ومسلم. ((ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله، قينتقم لله بها)). لقد كان صلوات الله عليه يغضب، ويتلون وجهه الشريف حين يجد إساءة لسمعة الدين، أو خطأ في تطبيق أحكامه، أو تساهلا في إقامة حدوده. غضب يوم جاءه رجل فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، فلم ير النبي الكريم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة)) (¬1). وغضب يوم قدم من سفره على عائشة فرأى في بيتها سترا رقيقا فيه تماثيل، فلما رآه هتكه وتلون وجهه، وقال: ((يا عائشة، أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)) (¬2). وغضب يوم كلمه أسامة بن زيد في شأن المرأة المخزومية التي سرقت، وعزم رسول الله على أن يقيم عليها الحد، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه.

يجتنب السباب والفحش

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلمه أسامة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضبا: ((أتشفع في حد من حدود الله تعالى))؟. ثم قام فاختطب، ثم قال: ((إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (¬1). هكذا كان الغضب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه هي مسوغاته في شرعة الإسلام، أن يكون لله، لا للنفس. يجتنب السباب والفحش: وإذا ما أخذ المسلم نفسه بهذا الخلق عند الغضب فبدهي ألا يجري على لسانه سباب أو هجر من القول أو فحش، ويعزز هذا الخلق في نفسية المسلم، وينزه لسانه عن السباب والفحش التزامه الصادق بتوجيهات الإسلام الخلقية التي نفرت من السباب والفحش والطعن واللعن تنفيرا جعل حس المسلم لا يطيق سماع مثل تلك العبارات: فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (¬2). وقال: ((إن الله لا يحب كل فاحش متفحش)) (¬3). وقال: ((إن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء)) (¬4). وقال: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات. (¬4) رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

إنها صفات لا تليق بالمسلم الذي استروح نسمات الإيمان الندية، وخالطت نفسه بشاشة الإسلام السمحة، ومن هنا هو عنها بعيد جد بعيد، وإنه ليزداد عنها بعدا كلما تبدت له الأسوة الحسنة مجسدة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لم تند عنه كلمة واحدة فى حياته تخدش سمع السامع، أو تجرح شعوره أو تمس كرامته. يقول أنس رضي الله عنه: ((لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا، ولا لعانا، ولا سبابا، كان يقول عند المعتبة: ما له؟ ترب جبينه)) (¬1))) (¬2). بل إنه نزه لسانه حتى عن لعنه الكافرين الذين أوصدوا قلوبهم عن دعوته، فلم ينلهم بكلمة نابية جارحة، كما حدث بذلك الصحابي الجليل أبو هريرة، فقال: قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: ((إني لم أبعث لعانا، ولكن بعثت رحمة)) (¬3). ويذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا شرب الخمر، فأتي به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال للناس: ((اضربوه))، فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: ((لا تقولوا هذا، لا تعينوا عليه الشيطان)) (¬4). فيا للنظرة الإنسانية الرحيمة الحانية على الإنسان، ولو كان من المتخبطين في متاهات الشرود والضلال والعصيان! ويبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذروة في اجتثاث شأفة الشر والحقد والعدوان من النفوس حين يصور للمسلمين المصير الأسود الخاسر لمن أطلق لسانه في أعراض الناس، فإذا بتلك الشتائم الجوفاء والقذف الأرعن والاعتداءات ¬

_ (¬1) أي من كثرة السجود. (¬2) رواه البخاري. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه البخاري.

البشعة الرخيصة التي بدرت منه ذات يوم، تأتي على كل ما جناه في حياته من حسنات، وترده مفلسا خالي الوفاض من كل عاصم يعصمه من النار يوم الحساب الرهيب. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، يأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت خسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) (¬1). فلا بدع أن تنتفي من حياة المسلمين الصادقين هذه التفاهات الفارغة، وتندر المشاحنات والخصومات المفضية إلى السباب والشتائم في المجتمع الإسلامي الحق الذي تسود فيه هذه القيم، وتعم تلك التوجيهات الخلقية العالية حياة الناس. إن الفرد في المجتمع المسلم الحق ليحس في أعماقه أنه محاسب على كل كلمة يتفوه بها، إذا جرته غمرات الحياة إلى شيء من تلك الخصومات. إنه ليضبط انفعاله، ويتحكم في أعصابه وتعبيراته، ذاكرا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((المتسابان ما قالا، فعلى البادي منهما (¬2) حتى يعتدي المظلوم (¬3))) (¬4). ومن هنا هو يمسك لسانه عن السباب، ولو وجدت دواعيه، ويكف من ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أي الإثم يقع على البادي. (¬3) أي يتجاوز حد الانتصار. (¬4) رواه مسلم.

لا يرمي أحدا بفسق أو كفر بغير حق

غرب غضبه المشتعل كيلا يقع في الإثم، ويحاذر أن يكون من المعتدين. وإن هذا الخلق في حس المسلم وواقع حياته لينسحب على الأموات أيضا، فلا ينطلق لسانه بسبهم كما يفعل الجهلة السفهاء الرعن الذين لا تقف ألسنتهم عند الأحياء، بل تتعداهم إلى الأموات، عملا بقول الرسول الكريم: ((لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)) (¬1). لا يرمي أحدا بفسق أو كفر بغير حق: والمسلم الذي يصون لسانه عن السباب والشتائم والفحش يربأ بنفسه أن يقع فيما هو أدهى من ذلك وأمر، وهو تفسيق الناس وتكفيرهم بغير حق؛ فقد توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يرمي الأبرياء بذلك أن ترتد الرمية عليهم، فيبوءوا بإثمها الكبير: ((لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك)) (¬2). حيي ستير: ومن خلائق المسلم الحق أنه حيي ستير، لا يحب أن تشيع الفاحشة في المجتمع الإسلامي، عملا بتوجيهات القرآن الكريم والسنة المطهرة، التي جاءت تتوعد أولئك المفسدين الذين يحلو لهم أن يلغوا في أعراض الناس ويتحدثوا عن عوراتهم بأشد العذاب في الدنيا والآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}. (¬3) ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه البخاري. (¬3) النور: 19.

ومن هنا كان الذي يطلق لسانه في نشر أخبار الفاحشة في المجتمع آثما كفاعلها سواء؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((القائل الفاحشة والذي يشيع بها في الإثم سواء)) (¬1). إن الفرد في المجتمع الإسلامي ستير حيي مترفع عن الصغائر والدنايا، له من خلقه الرصين الذي رباه عليه الإسلام ما يصرفه عن الخوض في أعراض الناس، ويصون لسانه عن المجاهرة بالمعصية، سواء أكانت منه أم سمعها أو رآها من غيره، عملا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله)) (¬2). وقوله: ((لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)) (¬3). وجاء قوم إلى عقبة بن عامر فقالوا: إن لنا جيرانا يشربون ويفعلون، أفنرفعهم إلى الإمام؟ قال: لا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من رأى من مسلم عورة فسترها، كان كمن أحيا موءودة من قبرها)) (¬4). إن معالجة الضعف البشري لا يكون بالتنقيب عن عورات الناس وعيوبهم، وفضحهم، والتشهير بهم، وإنما يكون بحسن عرض الحق على أسماعهم، وتزيين الطاعة لهم، وتكريه المعصية إليهم، دونما تصريح ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم. (¬4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

أو مواجهة أو مجابهة، فباللين والرفق وحسن التأتي تنفتح مغاليق القلوب، وتخشع الجوارح، وتلين النفوس. ومن هنا نهى الإسلام عن التجسس وتتبع عورات المسلمين. قال الله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا ... } (¬1). وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتي برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به)) (¬2). ذلك أن تتبع عورات المسلمين، والتجسس عليهم، والتنقيب عن لحظات ضعفهم وتقصيرهم، والتشهير بهم، يؤذي المسلمين المشهر بهم، ويؤذي بالتالي المجتمع الكبير الذي يعيشون فيه، فما شاعت الفاحشة في مجتمع، وكثرت في أعضائه الأقاويل، إلا دب فيه الانحلال، وهانت المعصية، وانتشرت البغضاء، وسرى الكيد، واستكنت الضغينة، وعم الفساد. وقد أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك كله بقوله: ((إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم)) (¬3). ومن هنا اشتد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تنبيه المسلمين إلى خطورة الولوغ في أعراض الناس، والتنقيب عن عوراتهم، مهددا من يستهين بذلك بهتك الستر عنه، وفضحه في جوف بيته، فقال: ((لا تؤذوا عباد الله، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من تطلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته)) (¬4). وفي رواية عن ابن عباس تصور انفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشدته على هؤلاء الوالغين في الأعراض يقول فيها: ¬

_ (¬1) الحجرات: 12. (¬2) رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم. (¬3) رواه أبو داود بإسناد صحيح. (¬4) رواه أحمد بإسناد حسن.

لا يتدخل فيما لا يعنيه

((خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة حتى أسمع العواتق في خدورهن فقال: يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المؤمنين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم هتك الله ستره، ومن يتتبع عورته يفضحة، ولو في جوف بيته)) (¬1). لقد بلغ من شدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء المتساهلين في النيل من أعراض الناس أن خاطبهم بقوله: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه)). فما أعظمه من إثم اقترفه هؤلاء حتى كانوا في زمرة الذين خوت قلوبهم من نعمة الإيمان! إنه لإثم كبير، يحسبونه هينا، وهو عند الله عظيم. لا يتدخل فيما لا يعنيه: إن المسلم الحصيف الحريص على حسن إسلامه، المتطلع إلى مرضاة ربه، لا يتدخل فيما لا يعنيه، ولا يدس أنفه في شؤون الناس الخاصة، ولا يخوض في مهاترات حول ما يقال عنهم وما يشاع؟ وإنه إذ يجتنب ذلك، ليعتقد أنه يستمسك بخلق الإسلام الرصين الذي رفع الإنسان عن هذه التفاهات الفارغة، واللغط الأهوج، والثرثرة الرخيصة: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ان الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا. يرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا. ويكره ¬

_ (¬1) رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬2) أخرجه الترمذي وابن ماجه. وهو صحيح بشواهده.

بعيد عن الغيبة والنميمة

لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) (¬1). إن المجتمع الرباني الذي ينشئه الإسلام، لا مجال فيه لقيل وقال، وكثرة السؤال، والتدخل في شؤون الناس الخاصة، لأن أفراده مشغولون بما هو أجل وأكبر، إنهم مشغولون بتحقيق كلمة الله في الأرض، ورفع راياته فوق الربوع، ونشر قيمه بين الناس، والذين ينهضون بهذه الأعمال الجسام، لا يجدون وقتا للخوض في تلك الآثام. بعيد عن الغيبة والنميمة: ومن هنا كان المسلم بعيدا عن الغيبة والنميمة؛ لأنه، بحكم تنشئته وتكوينه على قيم الإسلام وأخلاته، منصرف عن هذه التفاهات إلى الأمور الجلى في الحياة، مصغ دوما إلى الهدي العالي من كتاب الله - صلى الله عليه وسلم - سنة رسوله، يأخذ بما يأمر به هذا الهدي، ويدع ما نهى عنه. إنه ليقرأ قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (¬2)، فتمتلىء نفسه نفورا من الغيبة وكراهية؛ إذا يرى صورة المغتاب يأكل لحم أخيه ميتا، فإذا هو يسارع إلى التوبة التي ذيل الله بها الآية، حضا لمن وقع في الغيبة على المسارعة إلى التوبة منها. ويصغي إلى الهدي النبوي الكريم يجيب على سؤال سائل: أي المسلمين أفضل يا رسول الله؟ فيكون الجواب: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) الحجرات: 12. (¬3) رواه مسلم.

وإزاء هذا الهدي العالي والتوجيه الحكيم لا يتورط المسلم التقي بغيبة، ولا تمتد يده إلى أحد في مجتمعه بأذى. بل إنه ليذهب إلى أبعد من ذلك، فيطارد الغيبة أنى وجدها، فيذب عن أخيه المسلم في غيبته، إن تناولته ألسنة البغي، ويدفع عنه قالة السوء، عملا بقول الرسول الكريم: ((من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار)) (¬1). والمسلم التقي لا يمشي بالنميمة في مجتمعه؛ لأنه يحرك، بما فقه من هدي دينه، أن النميمة تجعل صاحبها في زمرة الأشرار الذين لا هم لهم إلا الإفساد بين الناس، وتقطيع عرى المحبة بين الأخلاء، فعن أسماء بنت يزيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الذين إذا رؤوا ذكر الله عز وجل. ثم قال: ألا أخبركم بشراركم: المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب)) (¬2). وحسب النمام المفسد خزيا في الدنيا، وسوء عاقبة في الآخرة، هذا الحديث القاطع الذي يسد عليه كل باب من أبواب الأمل والرجاء، إن ظل مصرا على خطيئته: ((لا يدخل الجنة نمام)) (¬3). ومما يملأ النفسق هلعا ورعبا من عواقب النميمة أن عذاب الله الشديد ينصب على النمام المفسد منذ أن يوسد في قبره، وذلك فيما رواه الشيخان ¬

_ (¬1) رواه أحمد بإسناد حسن. (¬2) رواه أحمد بإسناد حسن. (¬3) متفق عليه.

يجتنب قول الزور

وغيرهما عن ابن عباس، قال: ((مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرين، فقال: أما إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله، قال: فدعا بعسيب رطب (¬1)، فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا، وعلى هذا واحدا، ثم قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا)). يجتنب قول الزور: ومن صفات الملسم الحق الواعي أنه لا يدلي بقول زور؛ لأن قول الزور حرام: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (¬2). وشهادة الزور، إلى جانب حرمتها، تزري، بالرجولة، وتقذح في الأمانة، وتخل بالشرف. ومن هنا لا يمكن أن تكون من صفات المؤمنين، ولهذا نفى الله عن عباده المصطفين الأخيار هذه الصفة، فيما نفى عنهم من كبائر، فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (¬3). ومما يدلنا على فداحه هذه المعصية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساقها بعد أكبر كبيرتين في سلم المعاصي: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، ثم كررها على مسامع المسلمين محذرا منذرا، وهو في أشد حالات الانفعال، إذ قال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلا يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، ¬

_ (¬1) أي غصن أخضر. (¬2) الحج: 30. (¬3) الفرقان: 73.

يجتنب ظن السوء

وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)) (¬1). يجتنب ظن السوء: ومن خلائق المسلم الحق أنه لا يظن بالناس ظن السوء، ولا يسمح لنفسه أن يطلق لها عنان الخيال والتصورات التي تصم الناس بالعيب، وتنسب إليهم التهم، وهم منها برآء، وذلك عملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (¬2). ولقد اشتد الهدي النبوي الكريم في التحذير من الظن ورجم الناس بالغيب بعيدا عن الحقيقة واليقين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -. ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) (¬3). لقد عد النبي - صلى الله عليه وسلم - الظن أكذب الحديث، والمسلم الحق الصادق لا يجري على لسانه حديث فيه رائحة الكذب، فكيف يقع في أكذب الحديث!؟ والهدي النبوي العالي، إذ يحذر من الظن، ويعده كذب الحديث، يوجه المسلمين إلى الأخذ بالظاهر من أعمال الناس، والبعد عن رميهم بالظنون والشكوك والأقاويل والأوهام، فليس من خلق المسلم ولا من شأنه أن يكشف عن سرائر الناس ويغوص في خصوصياتهم، ويخوض في أعراضهم، فالسرائر يعلم خبيئها، ويكشف عنها، ويحاسب عليها الإله الذي يعلم السر وأخفى. أما الإنسان فليس له من أخيه إلا الظاهر من عمله، وهذا ما كان عليه ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) الحجرات: 12. (¬3) متفق عليه.

السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين استروحوا نسمات هذا الهدي نقية صافية من كل شائبة وكدر. أخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: ((سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن ناسا كانوا يأخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا آمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه على سريرته، ومن أظهر لنا شرا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة)) (¬1). ومن هنا كان المسلم التقي الواعي متحرزا في كل كلمة يتفوه بها، متثبتا من كل حكم يطلقه، لا يغيب عن حسه وفكره قول الله تبارك وتعالى يهتف به: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬2). فإذا هو وقاف عند هذا النهي الحكيم، لا يتكلم إلا بعلم، ولا يحكم إلا بيقين. وإنه ليزداد رهبة وخشية من الوقوع في إثم الخوض في الأعراض والرجم بالظنون، إذ يتمثل لعين قلبه ذلك الملك الرقيب العتيد الموكل به، الذي يحصي عليه كل كلمة تند عن لسانه، وكل قول يصدر عنه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬3). ¬

_ (¬1) حياة الصحابة 2/ 151. (¬2) الإسراء: 18. (¬3) ق: 18.

حافظ للسر

إن المسلم المستشعر معاني هذه النصوص ليهتز فرقا من مسؤولية الكلمة التي تطير عنه؛ ولذلك تراه متحفظا دوما فيما يصدر عنه من قول، يزن أقواله، ويقلبها على وجوهها قبل التفوه بها؛ لأنه يعلم بما لقن من هدي دينه أن هذه الكلمة التى يطلقها قد ترفعه إلى مقام الرضوان من ربه، وقد تهوي به إلى درك سخطه عليه وغضبه منه، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلع ما بلغت، يكتب الله له بها سخطة إلى يوم القيامة)) (¬1). فما أعظم مسؤولية الكلمة! وما أكبر الآثار المترتبة على ما تقذف به الألسنة الثرثارة من أقاويل! إن المسلم التقي الناصع السريرة لا يستمع إلى هذر الناس، ولا يلقي بالا إلى ما يصدم سمعه من أقاويل وإشاعات وظنون. تموج بها مجتمعاتنا اليوم موجا. وبالتالي لا يرضى لنفسه أبدا أن يروي كل ما يسمع عن الناس من هذه الأقاويل والإشاعات والظنون، من غير تثبت وتيقن، بل إنه ليعد نقل كل ما يسمع وروايته لغيره قبل التثبت من صحته من الكذب المحرم الذي نص عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) (¬2). حافظ للسر: ومن صفات المسلم الحق أنه حافظ للسر، لا يفشي سرا ائتمنه عليه أحد. وحفظ السر دليل رجولة المرء، وقوة شخصيته، ومتانة خلقه، وهذا ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ. (¬2) رواه مسلم.

ما كان عليه صفوة رجال الإسلام ونسائه، ممن ارتشفوا رحيق هدي النبوة، وتمثلته نفوسهم، فكان خلقا بارزا من أخلاقهم، وعادة حميدة من أجمل عاداتهم. وموقف أبي بكر وعثمان من عمر حين عرض عليهما الزواج من ابنته حفصة بعد أن تأيمت (¬1)، وكتمانهما سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه، من أنصع الشواهد على تحلي الصحابة الأولين بفضيلة حفظ السر، وإصرارهم على التمسك بهذه الفضيلة. يروي الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت بنته حفصة قال: ((لقيت عثمان بن عفان رضي الله عنه فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر. قال: سأنظر في أمرى. فلبثث ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر رضي الله عنه، فلم يرجع إلي شيئا، فكنت عليه أوجد (¬2) مني على عثمان. فلبثت ليالي. ثم خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنكحتها إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت (¬3) علي حين عرضت على حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ فقلت: نعم، قال فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - لقبلتها)). ولم تقتصر فضيلة حفظ السر على الرجال من السلف، بل شملت ¬

_ (¬1) أي توفي عنها زوجها. (¬2) أي أشد غضبا. (¬3) أي غضبت.

النساء والأطفال الذي عبوا من هدي الإسلام، واستنارت قلوبهم وعقولهم بنوره اللألاء، ونجد ذلك فيما يرويه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه، قال: ((أتى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي. فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تخبرن بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا. قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك به يا ثابت)) (¬1). لقد رأت أم أنس ابنها حريصا على حفظ سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعززت فيه هذا الحرص، إذ طلبت منه ألا يخبر بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا، فلم يحدث به أحدا حتى التابعين ثابتا البناني الذي روى عنه الحديث، ولم يدفعها حب الاطلاع إلى استدراج ابنها الصغير، لتعرف ذلك السر الذي طواه عنها، وهذه هي تربية الإسلام، وهذا هو المستوى الرفيع الذي رفعت إليه الإنسان، رجلا كان أو امرأة أو طفلا. إن إفشاء الأسرار لمن أسوأ العادات التي يبتلى بها الإنسان؛ ذلك أن ليس كل ما يعلم يقال في هذه الحياة، فهناك أمور تقضي الرجولة والمروءة والشرف والغيرة أن تبقى في طي الكتمان، وبخاصة إذا كانت هذه الأمور من متعلقات الحياة الزوجية. ولا ينشر مثل هذه الأمور على أسماع الناس إلا رجل في عقله لوثة من الجنون، أو في شخصيته ميوعة ودياثة وتفاهة. ومن هنا كان هذا الضرب من الرجال الثرثارين في زمرة الأشرار، بل من شر الناس عند الله، كما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ¬

_ (¬1) رواه مسلم، وروى البخاري بعضه مخصرا. وثابت: هو التابعي الذي روى الحديث عن أنس.

لا يناجي ثانيا وبينهما ثالث

((إن من أشر الناس (¬1) عند الله منزلة يوم القيامه الرجل يفضي إلى المرأة، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها)) (¬2). لا يناجي ثانيا وبينهما ثالث: والمسلم التقي الواعي أحكام دينه مرهف الحس، دقيق الملاحظة، يحترم مشاعر الناس، ويتجنب الإساءة إليهم، ومن هنا لا تنقصه اللباقة في الحديث، ومن أوليات هذه اللباقة ألا يناجي ثانيا وبينهما ثالث، وهذا من الأدب العالي الذي أدب الإسلام به أبناءه، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناج اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن ذلك يحزنه)) (¬3). إن المسلم الذي أرهف الإسلام مشاعره، وربى فيه الذوق العالي، وزوده بالحصافة والكياسة واللباقة، بعيد عن الهمس والتناجي والوشوشة إذا كان في مجتمع لا يتجاوز ثلاثة أشخاص، حرصا على مشاعر الثالث أن تخدش، ولكيلا يداخله شعور بالوحشة والضيق، إلا إذا كانت هناك حاجة ماسة للحديث بين الاثنين، فلا بد عندئذ من استئذان الثالث، والإيجاز في الحديث، والاعتذار إليه. ولقد كان الصحابة الكرام الذين تغلغل الإسلام في حنايا نفوسهم، وخالطت أخلاقه وتعاليمه دماءهم لا يغفلون أبدا عن هذه الأمور الحساسة في ¬

_ (¬1) هكذا جاءت الرواية (أشر)، والنحاة يقولون: لا يجوز أشر وأخير، وإنما يقال: هو خير منه وشر منه، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالوجهين. (¬2) رواه مسلم. (¬3) متفق عليه.

لا يتكبر

معاملتهم الناس، تشهد لذلك الآثار الكثيرة التي تحكي سلوكهم الاجتماعي الراقي، ودقة تقديرهم للمشاعر الإنسانية. ومنها ما رواه الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار، قال: ((كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة التي في السوق، فجاء رجل يريد أن يناجيه، وليس مع ابن عمر أحد غيري، فدعا ابن عمر رجلا آخر، حتى كنا أربعة، فقال لي وللرجل الثالث الذي دعا: استأخرا شيئا. فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يتناج اثنان دون واحد)). لم يرض ابن عمر أن يستمع إلى رجل جاء يناجيه من عرض الطريق فجأة، إذ وجد نفسه أمام ثالث قد يتأذى من إقصائه عنهما، لم يرض أن يستمع إلى سائله حتى استدعى رابعا، وأفهم الجميع أن هذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مرددا على مسامعهم الحديث الشريف، تأكيدا للمسلمين أن هذا هو الموقف الذي ينبغي أن يقفوه في مثل هذه الحالة، حرصا على مشاعر الناس، واتباعا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. لا يتكبر: والمسلم الحق لا يتكبر، ولا يصعر خده للناس، ولا يشمخ عليهم، مستعليا متجافيا منتفشا؛ لأن هدي القرآن ملء سمعه وقلبه وروحه، يهتف به أن المتكبرين إذا طاب لهم التبختر والتعالي والانتفاش كالديكة في هذه الدنيا الفانية، فإنهم قد خسروا الآخرة الباقية، التي حرمها الله على المتكبرين: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1): ¬

_ (¬1) القصص: 83.

ويلقي في سمعه أيضا أن الله لا يحب كل مختال فخور، يصغر خده للناس (¬1)، ويمشي في الأرض مرحا (¬2): {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬3). وينظر الباحث في نصوص السنة المطهرة، فيدهش لشدة عنايتها باستئصال شأفة الكبر من النفوس، بنهيها عنه وتنفيرها منه، وتحذير المبتلين بدائه من أن يخسروا آخرتهم كلها بمثقال ذرة من كبر، ينفثها الشيطان في روعهم، فيحرم عليهم دخول الجنان، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: ((إن الله جميل يحب الجمال (¬4). الكبر بطر الحق (¬5)، وغمط الناس (¬6))) (¬7). وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا أخبركم بأهل النار: كل عتل (¬8)، جواظ (¬9) مستكبر)) (10). وحسب المتكبرين خزيا ومهانة في الدار الآخرة أن الله تعالى لا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يكلمهم، ولا يزكيهم، جزاء وفاقا لما كانوا يستكبرون ¬

_ (¬1) أي يميل خده معرضا عن الناس تكبرا عليهم. (¬2) المرح: التبختر. (¬3) لقمان: 18. (¬4) أي ليس ذلك من الكبر. (¬5) بطر الحق: دفعه. (¬6) أي احتقارهم. (¬7) رواه مسلم. (¬8) أي غليظ شديد. (¬9) أي مختال فى مشيته.

في الأرض، ويستعلون على الناس، وإنها لمهانة معنوية لا يقل وقعها المؤلم على النفوس الحساسة من وقع العذاب على الأجساد في الجحيم: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا)) (¬1). ويقول: ((ثلاثة لا يكفلهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زاني، وملك كذاب، وعائل (¬2) مستكبر)) (¬3). ذلك أن الكبرياء من صفات الألوهية، وليست من شأن البشر المخلوقين الضعفاء، وإن الذين يتكبرون ويتجبرون يعتدون على مقام الألوهية، وينازعون الخالق العظيم في صفة من صفاته العليا، ومن هنا استحقوا عذابه الأليم الذي أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته)) (¬4). ومن أجل ذلك تتابعت نصوص السنة المطهرة محذرة المؤمنين من أن تلابسهم نزوة من كبر في لحظة من لحظات الضعف الإنساني، ولونت لهم أساليب التحذير والتنبيه لكي يبقى المؤمنون الأتقياء في عصمة من الابتلاء بداء الكبر الوبيل. ومن تلك النصوص المحذرة المنبهة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعظم في نفسه، أو اختال في مشيته، لقي الله عز وجل، وهو عليه غضبان)) (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) أي فقير. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه مسلم. (¬5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

متواضع

متواضع: وتقابل هذه النصوص المحذرة المنبهة المتوعدة المتكبرين بأقسى أنواع الخزي والعذاب نصوص تحبب في التواضع وترغب فيه، وتحض عليه، وتؤكد للمتواضعين أنهم كلما تواضعوا امتثالا لأمر الله ازدادوا عند الله رفعة وسموا، ومن هذه النصوص قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (¬1). وقوله: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) (¬2). ولقد كانت سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - العملية مثالا حيا فذا في التواضع، وخفض الجناح، ولين الجانب، وسماحة النفس، حتى إنه كان ليمر على الصبيان يلعبون، فلا تحجبه النبوة والمنزلة العظمى التي خصه الله بها من بين الناس جميعا من أن يسلم على أولئك الصبيان، ويهش لهم، ويتبسط معهم. فقد ذكر أنس رضي الله عنه أنه مر على الصبيان فسلم عليهم، وقال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك)) (¬3). ويروي أنس رضي الله عنه من تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمة من إماء المدينة كانت تأخذ بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت، يقضي لها حاجتها (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه البخاري.

لا يسخر من أحد

ويقدم تميم بن أسيد إلى المدينة، ليسأل عن أحكام الإسلام، فلا يجد هذا الرجل الغريب أمامه مانعا أو حاجبا يحول بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الرجل الأول في الدولة الإسلامية، وهو على المنبر يخطب في الناس، فيتقدم إليه سائلا مستفسرا، فيقبل عليه الرسول الكريم بكل بساطة وتواضع وحنو، ويجيبه إلى سؤله. ولندع تميما يحدثنا عن ذلك كله، فيما رواه عنه الإمام مسلم، قال: ((انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه؟ فأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي، فقعد عليه وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها)). ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغرس في نفوس الصحابة خلق التواضع المبني على السماحة ولين الجانب ودماثة الطبع، فيقول: ((لو دعيت إلى ذراع أو كراع (¬1) لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت)) (¬2). فيا للتواضع في أجلى صوره! ويا للعظمة الإنسانية في أسمى معانيها! لا يسخر من أحد: والشخصية الإسلامية التي أشربت حب التواضع بعيدة كل البعد عن احتقار الناس والسخرية منهم؛ ذلك أن الهدي القرآني الذي غرس فيها حب التواضع والبعد عن الكبر والاستعلاء، نهاها في الوقت ذاته عن السخرية من الناس واحتقارهم: ¬

_ (¬1) الكراع من الدابة: ما بين الركبة إلى الساق. (¬2) رواه البخاري.

يجل الكبير وصاحب الفضل

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ (¬1) وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ (¬2) بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬3). وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن احتقار المسلم أخاه شر محض، أي شر: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) (¬4). يجل الكبير وصاحب الفضل: لقد جاء هدي الإسلام يحض المسلمين على احترام الناس، لا على احتقارهم وازدرائهم، وبخاصة إذا كانوا جديرين بالتقدير والاحترام، بل إنه ليعد احترام الكبير والعالم وصاحب الفضل من الأصول الأخلاقية الكبرى التي تعطي للمسلم هويته في المجتمع الإسلامي، ومن فقدها انخلع من عضوية هذا المجتمع، وجرد من شرف الانتساب لأمة الإسلام، كما قرر ذلك الرسول الكريم بقوله: ((ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)) (¬5). إن احترام الكبير في المجتمع، وتقديمه على من هو أصغر منه دليل رقي ذلك المجتمع، وآية فهم أعضائه لقواعد الأخلاق الإنسانية، وعلامة على سمو نفوسهم وتهذيبها، ومن أجل ذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرص على أن يؤكد هذا ¬

_ (¬1) أي لا يعيب بعضكم بعضا. (¬2) أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب السوء. (¬3) الحجرات: 11. (¬4) رواه مسلم. (¬5) رواه أحمد والطبراني وإسناده حسن.

المعنى في نفوس المسلمين، وهو يرفع قواعد المجتمع الإسلامي، ويرسي دعائم الأخلاق فيه. ومن شواهد حرصه على هذا المعنى قوله لعبد الرحمن بن سهل إذ رآه يتكلم، وكان أصغر القوم في الوفد الماثل بين يدي الرسول: ((كبر، كبر)) (¬1)، فسكت عبد الرحمن، وتكلم من هو أكبر منه (¬2). ويذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبعد مدى في تقدير الكبار وأصحاب الفضل، فيجعل إكرامهم من إجلال الله تعالى؛ وذلك في قوله: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه (¬3)، وإكرام ذي السلطان المقسط (¬4))) (¬5). ولقد أثمرت هذه التربية في نفوس الجيل الأول من المسلمين، فأنشأت رجالا تجسدت فيهم تلك الأخلاق الفاضلة، فكانوا نماذج فذة في إجلال الكبار وأصحاب الفضل، أذكر منها على سبيل المثال أبا سعيد سمرة بن جندب رضي الله عنه الذي يقول: ((لقد كنت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاما، فكنت أحفط عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالا هم أسن مني)) (¬6). ومن هذه النماذج التي يحتاج كل مسلم إلى التأسي بها في إجلال ¬

_ (¬1) أي ليتكلم الأكبر. (¬2) متفق عليه. (¬3) أي التارك له، البعيد عن تلاوته والعمل بما فيه. (¬4) أي العادل. (¬5) حديث حسن رواه أبو داود. (¬6) متفق عليه.

الكبار وأصحاب الفضل عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فقد حضر مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أبو بكر وعمر، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤالا عرف ابن عمر جوابه، ولكنه لم يتكلم احتراما لأبي بكر وعمر، وفي ذلك يقول عبد الله بن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، لا تحت ورقها))، فوقع في نفسي: النخلة، فكرهت أن أتكلم، وثم أبو بكر وعمر. فلما لم يتكلما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هي النخلة)). فلما خرجت مع أبى قلت: يا أبت! وقع في نفسي النخلة، قال: ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا. قال: ما منعني إلا لم أرك، ولا أبا بكر تكلمتما، فكرهت)) (¬1). لقد أنزل الإسلام الناس في المجتمع الإسلامي منازلهم، وذلك بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر ذلك الإمام مسلم في أول صحيحه، فقال: وذكر عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم)). ومن إنزال الناس منازلهم أن تعرف أقدارهم، فيقدم العلماء وحملة القرآن وأصحاب العقول الراجحة وأهل الفضل. ذلك أن للعلماء مكانهم المرموق العالي في المجتمع الإسلامى، ما داموا أمناء على شريعة الله، صداعين بالحق، حراسا لشعائر الإسلام، وقد بوأهم الله تلك المنزلة الكريمة إذ قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الشيخان. (¬2) الزمر: 9.

ولحملة القرآن منزلتهم العالية أيضا في المجتمع الإسلامي، نوهت بها الأحاديث الصحيحة، فجعلت لهم الإمامة في الصلاة، والصدارة والإجلال في المجالس: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنه سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه (¬1)، ولا يقعد في بيته على تكرمته (¬2) إلا بإذنه)) (¬3). ولقد مر بنا قبل قليل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه)) (¬4). ولما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواري شهداء الإسلام في أحد جاعلا في كل قبر اثنين كان يسأل: ((أيهما أكثر أخذا للقرآن (¬5)؟)) فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد (¬6). وكان من توجيه النبى - صلى الله عليه وسلم - الحصيف الرائع في تنزيل الناس منازلهم قوله قبل الصلاة، وهو يسوي الصفوف: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى (¬7))) (¬8). ¬

_ (¬1) أي محل ولايته، أو الموضع الذي يختص به. (¬2) أي الموضع الذي ينفرد بالجلوس فيه. (¬3) رواه مسلم. (¬4) حديث حسن رواه أبو داود. (¬5) أي حفظا له. (¬6) رواه البخاري. (¬7) أولو الأحلام: أهل الحلم والفضل. والنهى: العقول. (¬8) رواه مسلم.

يعاشر كرام الناس

وإنه لتوجيه حكيم له دلالاته الجمة الغزيرة، وفي مقدمتها تصنيف الناس حسب مقاماتهم ومنازلهم ورتبهم. ومكان أصحاب العقول الراجحة وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة يرشحهم للاضطلاع بشتى أمور المسلمين، كل حسب طاقته واختصاصه وإمكاناته. ومن هنا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي الحسن عن أبيه يؤثر أهل الفضل بأدبه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، وكان مجلسه عامرا بالصفوة من المؤمنين العدول الذين يتفاضلون دوما بالتقوى، ويوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب (¬1). والمسلم الحق من فقه هذه الحقائق كلها، وكان متمثلا لها في سلوكه الاجتماعي مع الناس عامة، ومع العلماء وأعيان الفضل وهامات الشرف والتقوى خاصة. يعاشر كرام الناس: ومن خلائق المسلم التقي الاتصال بالصالحين، والتقرب إليهم، وطلب الدعاء منهم، لا يجد حرجا في ذلك، مهما بلغ من علو المنزلة وشرف القدر ورفعة المكانة، عملا بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (¬2)}. ¬

_ (¬1) انظر حياة الصحابة: 1/ 21، 22، 23. (¬2) الكهف: 28.

ذلك أن عشرة الصالحين ترشح على معاشريهم بالخير والتقوى والسداد في القول والعمل، وتزيدهم تفقها في الدين، وإقبالا على الحق، حتى يعدوا في زمرة الصالحين: بعشرتك الكرام تعد منهم…فلا ترين لغيرهم ألوفا لقد سعى نبي الله موسى عليه السلام وراء العبد الصالح ليتعلم منه، قائلا له بكل تواضع وأدب: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟} (¬1). وعندما أجابه العبدا لصالح: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (¬2). قال له موسى عليه السلام بتودد بالغ وأدب جم: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} (¬3). إن المسلم الحق الواعي لا يألف إلا الأخيار من الناس؛ لأنه فقه من هدي دينه أن الناس كالمعادن، منها النفيس ومنها الخسيس، وأن الطيب لا يألف إلا طيبا: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)) (¬4). وإنه ليعلم من هدي دينه أيضا أن الجلساء صنفان، جليس صالح، ¬

_ (¬1) الكهف: 67. (¬2) الكهف: 68. (¬3) الكهف: 70. (¬4) رواه مسلم.

وجليس سوء، فالجليس الصالح كحامل المسك، في مجالسته الاسترواح والعطاء والعطر والسرور، وجليس السوء كنافخ الكير، في مجالسته وهج اللهب والدخان والنتن والكآبة، وقد مثل ذلك الرسول الكريم صلوات الله عليه أروع تمثيل بقوله: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء: كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة. ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة)) (¬1). ومن هنا كان الصحابة الكرام يتحاضون على زيارة أهل الخير الذين يذكرون بالله، ويرققون القلوب، ويستدرون دموع الخشية والعظة والاعتبار من المآقي، وفي ذلك يروي أنس رضي الله عنه هذه الواقعة: ((قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: انطلق بنا إلى أم أيمن (¬2) نزورها كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها. فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها)) (¬3). بمثل هذه المجالس التي تحفها الملائكة، ويظلها المولى سبحانه برحمته، يقوى إيمان الإنسان، وتصفو روحه، وينجلي قلبه، وتزكو نفسه، ويغدو خيرا محضا على نفسه وأسرته ومجتمعه، وهذا ما يهدف إليه الإسلام في مخاطبة الناس وتوجيههم أفرادا وجماعات. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) هي حاضنة رسول الله وخادمته في طفولته، أعتقها النبي - صلى الله عليه وسلم - جين كبر، وزوجها زيد بن حارثة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكرمها، ويبرها، ويقول: ((أم أيمن أمى)). (¬3) رواه مسلم.

يحرص على نفع الناس ودفع الضر عنهم

يحرص على نفع الناس ودفع الضر عنهم: والمسلم الذي تربى على هدي الإسلام، وارتوت نفسه من معينه الطهور، حريص كل الحرص على نفع الناس في مجتمعه، ودفع الأذى عنهم؛ ذلك أنه بحكم تكوينه وتنشئته على مبادئ الحق والخير والفضيلة غدا عنصرا بناء فعالا نافعا، لا يطيق أن يرى الفرصة متاحة لفعل الخير ولا ينتهزها، وإنه ليعلم أن فعل الخير يؤدي إلى الفلاح: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). إنه ليسارع إلى فعل الخير، واثقا بمثوبة الله له في كل خطوة يخطوها في فعل الخير: ((كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين (¬2) صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) (¬3). وما أروع هذا المزج بين الأفعال الاجتماعية الخيرة التي يقوم بها المسلم في حياته الاجتماعية وبين المشي للصلاة، تأكيدا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن هذا الدين إنما جاء لصلاح أمر الإنسان كله، في دنياه وآخرته، لا تفريق بين الدين والدنيا، والحياة الاجتماعية والحياة الروحية؛ فأعمال الإنسان في تصور المسلم الواعي هدي هذا الدين كلها عبادة، ما دام متجها في نيته إلى الله، مبتغيا بها وجهه الكريم. ومن هنا كانت أبواب الخير مفتوحة أمام المسلم التقي، يلجها متى ¬

_ (¬1) الحج: 77. (¬2) أي تصلح بينهما بالعدل. (¬3) متفق عليه.

شاء، مستنزلا رحمة الله الثرة الواسعة، مستكثرا من ثوابه الجم وفضله العميم. فعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كل معروف صدقة)) (¬1). وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الكلمة الطيبة صدقة)) (¬2). بل إن رحمة الله لتدرك الإنسان الذي أسلم لله وجهه، وأخلص له نيته، فتجعله مثابا إن فعل أثارة من خير، ومثابا إن لم يفعل، شريطة أن يمسك عن الشر: فعن أبى موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((على كل مسلم صدقة)). قالوا: يا رسول الله، أرأيت إن لم يجد؟ قال: ((يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق))، قالوا: أرأيت إن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف))، قالوا: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: ((يأمر بالمعروف أو بالخير))، قالوا: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: ((يمسك عن الشر فإنها له صدقة)) (¬3). لقد استهل الرسول الكريم حديثه بقوله: ((على كل مسلم صدقة))، ثم راح يعدد ألوان البر والخير والمعروف التي يستطيع المسلم أن يجني منها أجور تلك الصدقات؛ فالمسلم إذا عليه صدقة، أي عليه أن يقوم بالأعمال البناءة الخيرة في مجتمعه، فإن عجز، أو لم يفعل لسبب من الأسباب، فلا أقل من أن يكف لسانه وجوارحه عن فعل الشر، ففي ذلك أيضا صدقة، وإيجابيات المسلم وسلبياته كلها موجهة في خدمة الحق الذي يسود مجتمع المسلمين، والمسلم: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) من حديث متفق عليه. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه البخاري.

بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجعل خير المسلمين في المجتمع الإسلامي من يرجى خيره ويؤمن شره، وذلك فيما رواه الإمام أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على ناس جلوس فقال: ((أخبركم بخيركم من شركم؟))، فسكت القوم، فأعادها ثلاث مرات، فقال رجل من القوم: بلى يا رسول الله، قال: ((خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من يرجى خيره ولا يؤمن شره)). إن المسلم لا يقدم لمجتمعه إلا الخير، فإن لم يفعل أحجم عن الشر، وأمسك عن الأذى، والمسلم الحق هو الذي يفعل الخير دوما، ولا يصدر عنه شر؛ ذلك أنه ينطلق دوما من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (¬1). وحب المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه يعني الحرص على نفعهم ودفع الأذى عنهم، ويعني شيئا آخر يميز الفرد في المجتمع الإسلامي، وهو فعاليته ونشاطه ودأبه في خدمة إخوانه المسلمين، يمد في نبعة نشاطه في هذا الميدان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الله في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه)) (¬2). وقوله: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬3) متفق عليه.

وقوله: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخزة)) (¬1). ويسمو الهدي النبوي في إشاعة روح التعاون في المجتمع الإسلامي، فيجعل مشية الأخ في حاجة أخيه خيرا من الاعتكاف الطويل، كما في حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: ((من مشى في حاجة أخيه كان خيرا له من اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق، كل خندق أبعد مما بين الخافقين)) (¬2). ويجعل التبرم من خدمة الناس مع القدرة عليها مهددا النعم بالزوال، كما في حديث ابن عباس أيضا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه، ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرم، فقد عرض تلك النعمة للزوال)) (¬3). ومن الصور الوضيئة المشرقة التي رسمتها الأحاديث الصحيحة لأهل الجنة، صورة رجل يتقلب في أعطاف النعيم في الجنة، لأنه أماط عن طريق المسلمين شجرة كانت تؤذيهم في غدوهم وراوحهم، ونجد ذلك في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي المسلمين)) (¬4). إن دفع الأذى عن المسلمين هو الوجه الأخر للخير الذي يقدم لهم بما ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه الطبراني في الأوسط وإسناده جيد. (¬3) رواه الطبراني في الأوسط وإسناده جيد. (¬4) رواه مسلم.

ينفعهم من أعمال. والذي يجنب المسلمين الأذى والضر هو كمن يقدم لهم الخير والنفع، فكلاهما نفع المسلمين، وفاز بثواب الله - صلى الله عليه وسلم - رحمته ورضوانه. ومن هنا كان التوجيه النبوي للمسلمين يتناول الوجهين: تقديم النفع، ودفع الضر؛ ففيهما معا تسعد الجماعة، وتزدهر المجتمعات، وتنمو أواصر المودة في القلوب. ومن هذا التوجيه العالي في دفع الأذى عن المسلمين ما يرويه أبو برزة، قال: قلت: يا نبي الله، علمني شيئا أنتفع به، قال: ((اعزل الأذى عن طريق المسلمين)) (¬1). وفي رواية: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: ((أمط الأذى عن الطريق فهو لك صدقة)) (¬2). فأي مجتمع مهذب راق هذا المجتمع الذي يبنيه الإسلام، إذ يلقي في حس كل فرد فيه أن من الأعمال الصالحة التي تقرب من الله، وتدخل صاحبها الجنة، إماطة الأذى عن طريق الناس؟ إن مجتمع المسلمين الذي تعيش فيه أمثال هذه التوجيهات التربوية العالية نابضة متدفقة في النفوس، لمن أرقى مجتمعات الأرض بلا ريب؛ إذ لا يتصور إنسان أن يلقى فيه ما يلقاه الناس اليوم في الطريق العام من أكوام الفضلات والقاذورات ومخلفات البناء، وغير ذلك مما تعاتب البلديات عليه الناس، وتحملهم الغرامات الباهظة إن هم ألقوا هذا الأذى في الطريق. وما أعظم الفرق بين مجتمع اهتدى بهدي هذا الدين، فسارع الأفراد فيه لإماطة الأذى عن الطريق امتثالا لأمر الله، وطمعا فى مثوبته، وبين مجتمع ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) حديث صحيح رواه أحمد.

يسعى بالصلح بين المسلمين

شرد عن هدي الله، فإذا أفراده لا يبالون على من تسقط فضلاتهم التي يلقونها من فوق الرفات والنوافذ وأسطحة المنازل! ولقد استطاع العالم الغربي المتمدن أن يصل في مثل هذه الأمور إلى مستوى عال من التنظيم بتعويد أفراده على احترام النظام، وتطبيقه بدقة وصرامة. بيد أن هذا المستوى الاجتماعي العالي عند الغرب يبقى دون المستوى الاجتماعي الإسلامي الصحيح؛ لسبب واضح، هو أن الفرد المسلم الذي أحكم الإسلام تربيته أكثر دقة وأشد إخلاصا في تطبيق النظام، لأنه يعتقد أن الخروج عن هذا النظام عصيان لله، يعاقب عليه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، على حين لا يرى الغربي في مخالفته النظام أكثر من ذنب، قد يؤنبه ضميره عليه، وقد لا يؤنبه، ثم ينتهى الأمر، وبخاصة إذا كانت عين السلطة غافلة عنه. يسعى بالصلح بين المسلمين: ومن الاهتمام بأمر المسلمين، والحرص على نفعهم، ودفع الأذى عنهم، السعي بالصلح بينهم إن كانوا متخاصمين، والنصوص في وجوب الصلح بين المسلمين أكثر من أن تتسع لها هذه الصفحات، منها قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬1). إنه أمر رباني حاسم بالصلح بين الطائفتين المتقاتلتين، ولو أدى الأمر إلى قتال الفئة المتعنتة الباغية، حتى يسود العدل مجتمع المؤمنين، وترف الأخوة بنداها النقي العطر في سمائه من جديد: ¬

_ (¬1) الحجرات: 10.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1). ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بنفسه للصلح بين المتنازعين، على ما كان يشغله من أعباء الدعوة وتكاليفها، مؤكدا للمسلمين بسعيه هذا وجوب الصلح بين المتخاصمين، فعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلح بينهم في أناس معه حتى حانت الصلاة ... في حديث طويل متفق على صحته. لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحرص الحرص كله على أن تسود الأخوة مجتمع المؤمنين، ويرفرف الوئام والصفاء والتفاهم في حياتهم، فكان لا يفتأ يحضهم على فعل المعروف والتسامح والتغاضي والرفق، بأقواله وأفعاله، ويولي هذا الجانب التربوي كثيرا من اهتمامه وعنايته، حتى يحول فورة الغضب والخصومة والتعنت إلى بسمة رضا وصفاء وتسامح، ومن ذلك ما روته أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، إذا أحدهما يستوضع الآخر (¬2)، ويسترفقه (¬3) في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((أين المتألي على الله (¬4) لا يفعل المعروف؟)). وهنا ذاب الخصم خجلا، إذ سمع صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستنكرا معاتبا، فتنازل عن حقه قائلا: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب (¬5). وفي سبيل ذلك الإصلاح بين الناس كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرخص في كثير ¬

_ (¬1) الحجرات: 11. (¬2) أي يسأله أن يضع عنه بعض دينه. (¬3) أي يسأل الرفق. (¬4) أي الحالف. (¬5) متفق عليه.

داعية إلى الحق

من الأقوال التي يتزيد فيها الناس ابتغاء استمالة النفوس النافرة، وتليين القلوب المتحجرة، ولا يعد هذه الأقوال من الكذب الحرام، ولا قائليها من الكذابين الآثمين، ونجد ذلك في حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا (¬1)، أو يقول خيرا)) (¬2). وفي رواية لمسلم زادت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: تعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها. داعية إلى الحق: والمسلم الحق دائم الحركة والنشاط، يعيش دوما في دعوته، لا ينتظر الحوادث والدوافع لتحركه نحو الخير، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى دعوة الناس إلى الحق، مبتغيا الثواب الجزيل الذي أعده الله للدعاة المخلصين، كما جاء في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)) (¬3). إن كلمة طيبة يلقيها الداعية الصادق في أذن امرئ شارد عن الطريق، فيغرس بها بذرة الهداية في قلبه، تعود على الداعية بثواب يفوق حمر النعم، أنفس الأموال التي كان يتطلع إليها العرب آنذاك، ويضيف إلى ثوابه هذا أيضا مثل أجور المهتدين على يديه، كما أخبر بذلك الرسول الكريم: ¬

_ (¬1) أي يبلغ خبرا فيه خير. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه البخاري.

((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)) (¬1). فلا عجب أن يحسد الدعاة على صبرهم وحسن بلائهم في سبيل الله، إذ ينفقون أموالهم وأوقاتهم في دعوة الشاردين المنحرفين عن الجادة، وأن ينوه بهذا الحسد المرغوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) (¬2). ولا يستصغر المسلم بضاعته من العلم، وهو يدعو إلى الله، فحسبه أن يبلغ ما وصل إليه سمعه من الحق، ولو كان آية واحدة من كتاب الله، وهذا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر به أصحابه: ((بلغوا عني ولو آية ... )) (¬3). ذلك أن هداية الإنسان قد تكون متوقفة على كلمة في هذه الآية تلامس قلبه، فتصادف مكمنا من مكامن الإيمان، فإذا شرارة الهداية تنقدح فيه، فتضيء حياة هذا الإنسان وقلبه جميعا، ويغدو خلقا آخر. إن المسلم الحق غيري بطبعه، يحب لأخيه الإنسان ما يحب لنفسه، ويهتم بأمر المسلمين دوما؛ وهو إلى ذلك ناصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم كما تقدم في حديث سابق (¬4). ومن هنا لا يقتصر على هداية نفسه ومن يعول، بل يعمل على إشاعة الهداية بين الناس. إنه لا يريد الجنة لنفسه ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) متفق عليه. (¬3) جزء من حديث رواه البخاري. (¬4) انظر ص: 168.

وأسرته فحسب، وإنما يريدها للناس جميعا؛ ولذلك فهو دوما يدعوهم إلى ما يوصلهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار، وهذه هي أخلاق الداعية التي تميزه من الإنسان العادي، وإنها لأخلاق كريمة عالية، استحقت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التنويه والثناء والدعاء: ((نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)) (¬1). إن المجتمع الإسلامي مجتمع متكافل، تعيش المسؤولية في نفوس أبنائه في أجلى معانيها وأصدق صورها، ولو فقه المسلمون مسؤوليتهم أمام الله، ونهض كل فرد واع بواجب الدعوة في مجتمعه لما انحط المسلمون وتخلفوا عن هدي دينهم حتى وصلوا إلى الدرك الذي هم فيه. ومن هنا جاء الوعيد شديدا لمن يملك أسباب الدعوة ويتقاعس عنها، ويكتم ما آتاه الله من العلم، جاعلا علمه وسيلة لارتقاء المناصب وبلوغ متاع الدنيا الزائل وحطامها الفاني: ((من تعلم علما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة (¬2) يوم القيامة)) (¬3). ((من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) أي ريحها. (¬3) رواه أبو داود بإسناد حسن. (¬4) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.

يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر

يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: وعن مقتضيات الدعوة إلى الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا كان المسلم الداعية آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر بعقل وروية وحسن تأت وحكمة. إنه يتصدى للمنكر فيزيله بيده إن استطاع، ولم يترتب على إزالته فتنة أشد، فإن لم يستطع إزالته بيده بين وجه الحق بلسانه وبيانه، فإن لم يستطع أنكر الباطل بقلبه، وراح يعد العدة لاستئصاله من جذوره، وهذا مصداق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬1). والمسلم حين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إنما ينصح للمسلمين الذين يأمرهم أو ينهاهم، والدين النصيحة، وإذا كان الدين النصيحة، فلا بد إذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتتحقق النصيحة التي عرفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬2). وإن هذه النصيحة وهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليقودان المسلم الصادق الحر إلى الجهر بالحق في وجه الظالم. وإن بقاء هذه الأمة عزيزة حرة كريمة منوط بوجود رجال شجعان أحرار لا يخشون أن يقولوا للظالم: أنت ظالم. ومتى خلت الأمة من هذا النمط من الرجال فقد تودع منها، وهذا مصداق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم.

((إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم، فقد تودع منهم)) (¬1). ولقد جاءت النصوص النبوية تنفث في المسلمين روح البطولة في مواجهة الباطل، مطمئنة الأبطال إلى أن بطولتهم هذه في مواجهة الظالمين لا تنقص من رزق، ولا تقرب من أجل: ((لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه ويذكر بعظيم، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق)) (¬2). وقام رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: ((خير الناس أقرؤهم وأتقاهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم)) (¬3). وقد كان لتأصيل قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع الإسلامي أن غرس في نفوس المسلمين الصادقين الشجاعة والإقدام، واتخاذ المواقف الجريئة في مواجهة الباطل ونصرة المظلومين، وقد جاء الهدي النبوي معززا هذه الخلائق البطولية النبيلة، مؤكدا نصر الله للأبطال المنافحين عن الحق، وخذلانه للجبناء الساكتين عنه: ((ما من امرئ يخذل مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات. (¬4) رواه احمد وأبو داود بإسناد حسن.

ومن هنا كان المسلم الحق صاحب قضية، لا يسكت عن باطل، ولا يقعد عن نصرة الحق، ولا يرضى أن يشيع الظلم في مجتمعه، ويفشو المنكر في ناديه، إنه يعمل دوما على تغيير المنكر، دفعا لعقاب من الله يوشك أن يعم القعدة الجبناء الساكتين عن ذلك التغيير، كما أخبر بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الرسول الكريم: لما ولي أبو بكر رضي الله عنه صعد المنبر، فحمد الله، ثم قال: يأيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنكم تضعونها في غير مواضعها. وإنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) (¬1). إن المسلم الصادق إسلامه، الحيي إيمانه، أبعد ما يكون عن الميوعة والسلبية واللامبالاة، لا يتهاون في قضايا الدين، ولا يتقاعس عن الأمر بالمعروف، ولا يستمرئ المنكر ولا يألفه، ولا يقعد عن إنكاره وتغييره ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ فأمور الدين جد لا هزل فيها، وشؤون العقيدة حزم لا هوادة فيه. ولقد حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تؤول حالنا إلى ما كان عليه اليهود من ميوعة وتراخ ولا مبالاة في أمور دينهم، فيصيبنا ما أصابهم من غضب الله ونقمته، وذلك في حديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل فيهم العامل الخطيئة فنهاه الناهي تعذيرا، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

لبق حكيم في دعوته

والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على أيدي المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ويلعنكم كما لعنهم)) (¬1). لبق حكيم في دعوته: والمسلم الداعية الواعي كيس فطن لبق في وعظه، حكيم في دعوته الناس إلى الحق، متئد في تعليمهم أحكام الدين، يترسم في ذلك كله قول الله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (¬2). ذلك أن من أهم صفات الداعية إلى الله أن يحسن التغلغل في القلوب، فيحبب إليها الإيمان، ويرغبها بالإقبال على الدين، محاذرا أن يكون منه ما ينفر أو يؤذي ويسخط، ومن هنا هو لا يصب على الناس كل ما لديه من علم دفعة واحدة، وإنما يقدم لهم العلم على دفعات، ويسوق لهم الموعظة في خطرات، يلمس بها قلوبهم ومشاعرهم بين الحين والحين، متجنبا الإطالة والإثقال والإملال، وهذا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله في وعظه الناس، كما أخبرنا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان عبد الله بن مسعود يتعهد الناس بالموعظة كل يوم خميس، فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن: لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال: ((أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة (¬3) كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها مخافة السآمة علينا)) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬2) النحل: 125. (¬3) أي أتعهدكم بها في أيام متفرقة. (¬4) متفق عليه.

ومن لباقة الداعية وحسن أسلوبه في الدعوة ألا يطيل في خطبته، وبخاصة إذا كان يخطب في جمهور غفير، فيه المسن والعاجز والمريض، فقصر الخطبة دلالة على فقه الخطيب بدعوته وحسن تفهمه نفسيات الجمهور الذي يستمع إليه، وهذا من هدي النبوة العالي الذي أخبرنا به عمار بن ياسر رضوان الله عنهما، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه (¬1)، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة)) (¬2). ومن أسلوب الداعية الحكيم اللبق الكيس الفطن الأريب أن يترفق بمن يدعوهم، ويصبر على جهلهم وأخطائهم وأسئلتهم الكثيرة المملة، وبطئهم في الفهم والاستيعاب، متأسيا في ذلك كله بسيد الدعاة وخاتم النبيين صلوات الله عليه الذي كان يفسح صدره للسائلين، ويتلطف في إجابتهم وتعليمهم، ويقبل عليهم إقبال المحب المرشد المؤنس المسدد المعلم، ولا يزال يشرح لهم المسألة حتى يفهموها وينصرفوا جذلين مغتبطين فاهمين مقتنعين. ومن أمثلة ذلك ما يرويه الصحابي معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال: ((بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجلى من القوم (¬3)، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني (¬4)، لكنني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي (5)، ¬

_ (¬1) أي علامة دالة على فقهه. (¬2) رواه مسلم. (¬3) أي المصلين. (¬4) أي يسكتونني غضبت.

ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن)) أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهان (¬1)!. قال: ((فلا تأتهم))، قلت: ومنا رجال يتطيرون! (¬2) قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم (¬3))) (¬4). ولقد بلغ من رفق النبي الكريم بالناس حين يدعوهم إلى الخير أنه لا يجبه المسيء بإساءته حرصا على مشاعره أن تخدش وعلى كرامته أن تهان، بل كان يلجأ إلى التورية في استنكار إساءته وتنبيهه إلى سوء فعلته، وهذا الأسلوب أوقع في النفوس، وأدخل إلى القلوب، وأنجع في مداواة العلل والأخطاء. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ... )) (¬5). ومن صفات الداعية الناجح تبيين كلامه وإيضاحه للمخاطب، وتكريره على مسامعه، وهذا ما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يقول أنس رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) الكهان: جمع كاهن، وهو رجل يدعي معرفة الضمير ويخبر عن المستقبل. (¬2) أي يتشاءمون. (¬3) أي فلا يمنعهم ذلك عن وجهتهم فإنه لا يؤثر نفعا ولا ضرا. (¬4) رواه مسلم. (¬5) حياة الصحابة 3/ 129.

لا ينافق

((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا)) (¬1). وتقول السيدة عائشة: ((كان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاما فصلا (¬2)، يفهمه كل من يسمعه)) (¬3). لا ينافق: والمسلم الحق أبعد ما يكون عن النفاق والمداهنة والمجاملة المحرمة والمديح الكاذب؛ ذلك أن له من هدي دينه ما يعصمه من التردي في هذا المنزلق الخطير الذي يقع فيه كثير من الناس في هذا العصر، فيهوون من حيث لا يشعرون إلى قرار سحيق من النفاق المهلك الممقوت. لقد وضع لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوى النجاة من هذا السقوط المريع في حمأة النفاق والمداهنة، إذ قال لبني عامر الذين أقبلوا يمدحونه بقولهم: أنت سيدنا، فقال: ((السيد الله))، وقالوا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: ((قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان (¬4). إني لا أريد أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله تعالى، أنا محمد بن عبد الله، عبده ورسوله)) (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) أي بينا ظاهرا. (¬3) رواه أبو داود بإسناد صحيح. (¬4) لا يستجرينكم: من الجري، وهو الوكيل. تقول: استجريت جريا، أي اتخذت وكيلا. يقول: تكلموا بما يحضركم، ولا تتنطعوا، ولا تتكلفوا، كأنكم وكلاء الشيطان ورسله، كأنما تنطقون عن لسانه. (¬5) حياة الصحابة 3/ 99.

لقد قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطريق على المادحين أن يسترسلوا في كيل المديح للناس، وفيهم من لا يستحق المديح، حين نهى مادحيه عن وصفه بالسيادة والفضل والطول، وهو سيد المسلمين وأعظمهم وأفضلهم لا ريب، لأنه كان يعلم أن باب المديح إذا فتح على مصراعيه أدى إلى مزالق خطيرة من النفاق، لا تستسيغها روح الإسلام الصافية النقية البريئة، ولا يقبلها الحق الذي قام عليه هذا الدين. وكان ينهى الصحابة عن مدح الإنسان في وجهه، لئلا يستجر المادح إلى النفاق، ولكيلا تأخذ الممدوح نشوة التيه والاختيال والاستعلاء والإعجاب بالنفس. أخرج الشيخان عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: أثنى رجل على رجل عند النبى - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((ويلك! قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك)) ثلاثا. ثم قال: ((من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحدا، أحسب كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه)). فالمديح إذا كان لا بد منه فينبغي أن يكون صادقا منطبقا على واقع الممدوح، وينبغي أن يكون معتدلا متحفظا لا غلو فيه ولا شطط ولا مغالاة، وبذلك وحده ينقى المجتمع من أوباء النفاق والكذب والمخاتلة والتزلف والرياء والمجاراة. وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن رجاء عن محجن الأسلمي رضا الله عنه أن رسول الله ومحجنا كانا في المسجد، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلي ويسجد ويركع، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من هذا؟)) فأخذ محجن يطريه، ويقول: يا رسول الله هذا فلان، وهذا فلان، فقال: ((أمسك، لا تسمعه، فتهلكه!)). وفي رواية لأحمد: يا نبي الله، هذا فلان من أحسن أهل المدينة،

أو قال: أكثر أهل المدينة صلاة، قال: ((لا تسمعه، فتهلكه- مرتين أو ثلاثا- إنكم أمة أريد بكم اليسر)). لقد سمى الرسول الكريم إسماع المديح إهلاكا، لما له من آثار نفسية عميقة في النفس البشرية المجبولة على حب سماعه، فإذا الممدوح يتيه على الناس، ويشمخ بأنفه، ويصعر خده لهم، وإذا تكرر ذلك من المداحين المنافقين الكذبة الخداعين، وما أكثرهم حول المتنفذين وأصحاب المناصب والسلطات، صار ذلك عادة له، يلبي رغبة جياشة في نفسه، ومن هنا يكره سماع النصيحة والنقد، ولا يقبل إلا التقريظ والثناء والإشادة وحرق البخور، ولا عجب بعد ذلك إذا ضاع الحق، وقتل العدل، ووئدت الفضيلة، وفسد المجتمع. ومن أجل ذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته أن يحثوا التراب في وجه المداحين، لكيلا يكثر سوادهم في المجتمع الإسلامي، وبكثرتهم يفشو النفاق، ويكثر التزلف، ويعم البلاء. أخرج الشيخان وأحمد والترمذي من غير طريق أن رجلا قام يثني على أمير من الأمراء، فجعل المقداد رضي الله عنه يحثو في وجهه التراب، ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)). ومن هنا كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يتحرجون من المديح يكيله لهم هؤلاء المداحون، مع أنهم أحق به وأهله، اتقاء مزالقه، وخشية هلكته، وتحليا بالخلق الإسلامي الأصيل البعيد عن هذه المظاهر الرخيصة الفارغة؛ فعن نافع رضي الله عنه وغيره أن رجلا قال لابن عمر رضي الله عنه: يا خير الناس! أو يابن خير الناس! فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس ولا

بعيد عن الرياء والمباهاة

ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله تعالى وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه (¬1). وإنها لقالة حكيمة من صحابي جليل، مرهف الحس الإسلامي، وقاف عند هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، متحل به، في سره وعلانيته. لقد فقه الصحابة الكرام هذا الملحظ الدقيق الذي ما فتيء الرسول الكريم يرشد إليه في الأعمال والأقوال وسلامتها من النفاق، وتوضح لديهم الفرق الكبير بين ما هو حق خالص لوجه الله، وما هو نفاق ومداهنة. فعن ابن عمر رضي الله عنه أن ناسا قالوا له: إنا ندخل على سلاطيننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال ابن عمر: ((كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). بعيد عن الرياء والمباهاة: والمسلم الحق الصادق أبعد ما يكون عن الرياء؛ لأنه يحيط الأجر، ويبطل العمل، ويجلب الخزي لصاحبه يوم يقوم الناس لرب العالمين. إن لب لباب هذا الدين الإخلاص لله في القول والعمل، وعبادة الله التي هي الهدف من خلق الجن والإنس، كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، إن هذه العبادة لا تكون عبادة مقبولة إلا إذا كانت خالصة لوجه الله الكريم: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ (¬3)} (¬4). ¬

_ (¬1) حياة الصحابة 3/ 103. (¬2) رواه البخاري. (¬3) أي مائلين إلى الحق مستقيمين مخلصين. (¬4) البينة: 5.

ومتى شابت هذه العبادة شائبة من رياء أو حب ظهور وطلب لسمعة، بطلت، ومحق ثوابها، ونجد هذا في تحذير الله لأولئك الذين ينفقون أموالهم على الفقراء، ويمنون عليهم أن أغنوهم، وسدوا عوزهم، وقضوا حوائجهم، فيجرحون بهذا المن كرامة الفقراء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ (¬1) عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ (¬2) فَتَرَكَهُ صَلْدًا (¬3) لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬4). لقد أودت كلمة المن على الفقراء بثواب هذه الصدقات، كما يودي الماء المنسكب على الحجر الأملس بما عليه من تراب، ويأتي التعقيب المخيف المروع فى آخر الآية مبينا أن أولئك المرائين لا يستحقون هدى الله، وأنهم معدودون في زمرة الكافرين: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. ذلك أن شأن هؤلاء المرائين التظاهر أمام الناس بالعمل الصالح، وليس همهم مرضاة الله عز وجل، وقد حكى الله تعالى شأنهم هذا بقوله: {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬5). ومن هنا كان عملهم مردودا عليهم؛ لأنهم أشركوا مع الله غيره، ¬

_ (¬1) أي حجر أملس ناعم. (¬2) أي مطر غزير. (¬3) أي أملس. (¬4) البقرة: 264. (¬5) النساء: 142.

والله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا محضا لوجهه الكريم، كما جاء في حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه)) (¬1). ولقد بسط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول في هذه المسألة بسطا وافيا شاملا، وبين الخزي الشنيع الذي يلقاه المراءون يوم العرض الكبير، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وذلك في حديث أبي هريرة أيضا الذي يقول فيه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به، فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي بيه، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) (¬2). لقد عرض هذا الحديث الشريف المواطن التي تكثر فيها المباهاة ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم.

مستقيم

والخيلاء والتفاخر بالعمل، وهي الشجاعة، والعلم، والكرم. وبين الخزي الذي يلقاه أصحابها يوم القيامة إذ عروا أمام الناس من كل ما كانوا يأملون من ورائها من مقام حميد، كما بين الخسارة الكبرى التي حاقت بهم، إذ جردوا من كل الثواب الذي أعده الله لهذه الأعمال العظيمة، فإذا هم بدل أن يزفوا إلى جنان الخلد، سحبوا على وجوههم إلى النار. إن المسلم الحق الواعي أحكام دينه، المرهف الإحساس بهديه الحكيم، لينأى عن الرياء في كل عمل من أعماله، ويحرص على أن يمحضها وجه ربه الكريم، واضعا نصب عينيه وأذنيه قول الرسول الكريم صلوات الله عليه: ((من سمع سمع الله به (¬1)، ومن يرائي يرائي الله به (¬2))) (¬3). مستقيم: والمسلم الحق الصادق مستقيم واضح بين، لا يعرف الالتواء ولا الغموض ولا الجمجمة ولا المخاتلة، على ما في الاستقامة من صعوبة وجهد ومشقة، يصادفها الإنسان في حياته الاجتماعية. ذلك أن الاستقامة في حياة المسلم وسلوكه ليست حلية خلقية، له الخيار في أن يتحلى بها أو يدعها، وإنما هي سلوك أمر به الله ورسوله، وجاءت مرتبته في الأهمية بعد الإيمان بالله في كثير من آي الذكر الحكيم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ ¬

_ (¬1) أي من أظهر عمله للناس رياء فضحه الله يوم القيامة. (¬2) أي من أظهر للناس عمله ليعظم عندهم أظهر الله سريرته على رؤوس الخلائق. (¬3) متفق عليه.

الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (¬1). فما أجزل ثواب المؤمنين المستقيمين! وما أكرم نزلهم يوم الدين! وما أجمل البشارة التي تنزلت عليهم تحملها الملائكة!. ذلك أن الاستقامة مرتقى عال صعب، لا يبلغه إلا المؤمنون الأتقياء الذين أخلصوا وجوههم لله، وانخلعوا من ربقة العبودية لغيره، من مال وجاه وسلطان ونعيم ولذاذات وغير ذلك مما تتعلق به قلوب الناس في هذه الحياة. فلا غرو أن يكون ثوابهم عند الله كبيرا، وأن تكون منزلتهم في جواره عالية عالية. وليس أدل على علو منزلة الاستقامة، وصعوبة مرتقاها، من شدة وقعها على حس الرسول اليقظ المرهف البصير بأبعاد الاستقامة وضخامة مدلولها وخطرها في تقرير مصير الإنسان، وذلك فيما رواه ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (¬2)، قال: ((ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية)) (¬3)، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين قالوا له: قد أسرع إليك الشيب، قال: ((شيبتني هود وأخواتها))، مشيرا إلى قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (¬4). وقد كان من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - المطابق قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قوله لسفيان بن عبد الله الثقفي: ((قل آمنت ¬

_ (¬1) فصلت: 30. (¬2) هود: 112. (¬3) رواه مسلم. (¬4) انظر باب جامع أوصاف الإسلام في صحيح مسلم.

يعود المريض

بالله ثم استقم)) (¬1)، وذلك حين سأله قائلا: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. وهذا ما حدا بالإمام مسلم أن يسمي باب الاستقامة (باب جامع أوصاف الإسلام)؛ ففي الاستقامة المنبثقة عن الإيمان بالله تتجمع الفضائل كلها، وتلتقي مكارم الأخلاق، ومن الاستقامة تتشعب خصال الخير، وتتفرع الأعمال الصالحات. ومن أوليات الاستقامة أن يلقى المسلم الناس بوجه واحد، لا يتلون ولا يتغير، كما يفعل المخاتلون المخادعون، الذين توعدهم الرسول الكريم بقوله: ((إن شر الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) (¬2). يعود المريض: والمسلم الحق يعود المريض، ويعد عبادته واجبا إسلاميا حض عليه الدين الحنيف، وليس تفضلا أو تطوعا منه. إنه ليزور المريض، وملء مشاعره أنه ينفذ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني (¬3))) (¬4). والقائل أيضا فيما يروي البراء بن عازب رضي الله عنهما: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيادة المريض، واتباع الجنازة! وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام)) (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه البخاري ومسلم. (¬3) أي الأسير. (¬4) رواه البخاري. (¬5) متفق عليه.

ولقد تأصلت هذه العادة الاجتماعية التي أرسى قواعدها الرسول الكريم في حياة المسلمين، حتى أضحت حقا للمسلم على أخيه، له أن يطالبه به، إن هو كفل عنه أو قصر فيه، والغافل عن حق أخيه أو المقصر فيه آثم مفرط ظالم لنفسه في عرف الشريعة السمحة الغراء: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) (¬1). وفي رواية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حق المسلم على المسلم خمس، قيل: وما هي؟ قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فأنصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاصحبه)) (¬2). والمسلم إذ يعود أخاه المريض يحس في أعماقه أنه لا يؤدي واجبا وينفذ أمرا فحسب، بل يحس غبطة روحية ونشوة نفسيه، لا يحسهما إلا من تدبر الحديث الشريف الرائع الذي يصور جلالة هذه العيادة، وما تشتمل عليه من خير وبركات: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني! قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني! ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه البخاري ومسلم.

قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه! أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟)) (¬1). فما أبركها من عيادة! وما أجلها من زيارة! وما أعظمه من عمل! يقوم به المرء تجاه أخيه المستضعف المريض، فإذا هو في حضرة رب العزة، يشهد عمله الجليل، ويثيبه عليه الثواب الجزيل! وهل هناك أجل وأعظم وأبرك من زيارة يشرفها ويباركها ويحض عليها رب السموات والأرض؟! وما أكبرها من شقوة! تحيق بالمرء المتقاعس عن هذه العيادة، وما أشدها من خسارة تحل به! وما أبشعها من فضيحة يعلنها رب العزة على رؤوس الأشهاد: يا بن آدم مرضت فلم تعدني! ... أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوتجدتني عنده؟! وندع الخيال يتصور مرارة الندم والخيبة والخجلة التي تحز في نفس هذا المقصر المتقاعس المعرض عن عيادة أخيه المريض، ولات ساعة مندم. إن المريض في المجتمع الإسلامي ليحس في ساعة الشدة والكرب أنه ليس وحده، وأن عواطف المعيدين من حوله ودعواتهم تغمره وتخفف من بلواه، وهذه ذروة الرقي الإنساني، وقمة سمو المشاعر الإنسانية. ولم تعرف أمة في التاريخ هذا الري العاطفي، وهذا التجاوب الاجتماعي كما عرفتهما أمة الإسلام. إن الإنسان المريض في الغرب قد يجد المستشفي الذي يضمه، والطبيب الذى يسعفه ويداويه، ولكنه قلما يجد اللمسة الحانية، والكلمة ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

الشافية، والبسمة المنعشة، والدعوة المخلصة، والمشاركة الوجدانية الصادقة. ذلك أن الفلسفة المادية التي غشت حياة الغربيين، أطفأت فيها نورانية العاطفة الإنسانية، وغطت شفافية الشعور الأخوي، وحجبت الإنسان عن الدوافع غير المادية لفعل الخير. إن الإنسان الغربي لا يحس أي دافع يدفعه لعيادة المريض، إذا لم تربطه به مصلحة تعود عليه بالنفع المادي العاجل أو الآجل، في حين نجد الإنسان المسلم مندفعا لعيادة المريض ابتغاء الثواب الذي أعده الله لمن غبر قدمه في هذا السبيل. والنصوص في ذلك كثيرة، تفجر في النفس ينابيع الشعور الأخوي، وتدفع الإنسان لزيارة المريض دفعا من أعماق الوجدان. ومن هذه النصوص قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة (¬1) حتى يرجع)) (¬2) وقوله: ((ما من مسلم يعود مسلما غدوة (¬3) إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة (¬4))) (¬5). ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدرك ببصيرته النافذة الخبيرة بالنفس الإنسانية ¬

_ (¬1) أي جناها. (¬2) رواه مسلم. (¬3) أي صباحا. (¬4) الخريف: الثمر المخروف، أي المجتنى. (¬5) رواه الترمذي وقال حديث حسن.

ما لعيادة المريض من أثر نفسي في المريض وفي آله، ومن هنا كان لا يتوانى في عيادة المرضى، وإسماعهم أرق عبارات الدعاء والمواساة، حتى إن نفسه الشريفة لتسمو فتقود خطوه لعيادة غلام يهودي كان يخدمه، وفي ذلك يقول أنس رضي الله عنه: ((كان غلام يهودي يخدم النبى - صلى الله عليه وسلم -، فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنطر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذة من النار)) (¬1). لم يفت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يعود هذا الغلام اليهودي المريض، أن يدعوه للإسلام، إذ كان يدرك وقع زيارته الشريفة في نفس الغلام وأبيه اللذين غمرهما الرسول بكرمه وفضله ولطفه وحسن تأتيه، فإذا هما يستجيبان لأمر الرسول الكريم، وإذا العيادة تثمر هداية، ويخرج الرسول الكريم منها ولسانه يلهج بحمد الله أن أنقذ به نفسا من النار، فيا للرسول الإنسان العظيم! ويا للداعية الهادي اللبق الحكيم! ومن حفاوة الرسول الكريم بعيادة المريض واهتمامه بشأنها أنه وضع لها أصولا وسننا حفظها عنه الصحابة الكرام، وسجلتها السنة المطهرة. ومنها الجلوس عند رأس المريض كما رأينا في عيادته الغلام اليهودي، وكما أخبر بذلك ابن عباس رضي الله عنه بقوله: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عاد المريض جلس عند رأسه، ثم قال سبع مرار: أسال الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك)) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

يشهد الجنازة

ومنها مسحه جسم المريض بيده اليمنى والدعاء للمريض، كما تروي السيدة عائشة رضي الله عنها قائلة: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعود بعض أهله فيمسح بيد اليمنى ويقول: اللهم رب الناس أذهب البأس (¬1)، أشف، أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)) (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أعرابي يعوده، وكان إذا دخل على من يعوده قال: ((لا بأس، طهور (¬3) إن شاء الله)) (¬4). ولقد تناقلت أجيال المسلمين هذه السنة الحميدة في عيادة المريض، وبقيت في حياة المسلمين الاجتماعية عنوانا على تواصلهم، وتوادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، وتكافلهم، تجبر كسر المهيض، وتكفكف عبرة المحزون، وتجلو غاشية الكرب، وتقشع سدفة اليأس، وتصل حبل الود، وتوثق عرى الأخوة، وتفجر نبعة الوفاء، وتطلق بسمة الرجاء. يشهد الجنازة: والمسلم التقي الواعي يشهد الجنازة في مجتمعه، ويشيعها، امتثالا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) (¬5). ¬

_ (¬1) أي المرض. (¬2) متفق عليه. (¬3) أي مرضك مطهر لذنبك. (¬4) رواه البخاري. (¬5) متفق عليه.

ولا يفوته أن ينشر الوعي الإسلامي الصحيح في هذه المناسبة التي تكثر فيها البدع والأضاليل، كسقوط الصلاة، وارتفاع الأصوات بالنياحة والندب والصياح، وما إلى ذلك مما ينشغل الناس عن تصحيحه وتبيان وجه الصواب فيه بانصرافهم إلى تجهيز الميت وتشييعه، والتخفيف من وقع المصيبة على أهله. فإذا ما حضر ساعة النزع، وشهد المريض المشرف على الهلاك يحتضر، لقنه شهادة أن لا إله إلا الله، عملا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) (¬1). فإذا ما أسلم المحتضر روحه، دعا له بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعا به لأبي سلمة رضي الله عنه حين موته، وهو: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه)) (¬2). ثم يردد على مسامع أهل البيت ما يحفظ من الأحاديث الشريفة التي تهون على المصابين مصيبتهم، مبينا فضيلة احتساب الفقيد عند الله والصبر على موته، وما أعده الله للصابرين المحتسبين من ثواب عظيم، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم أحتسبه (¬3) إلا الجنة)) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم. (¬3) أي أدخره ورجا ثواب الصبر على موته من الله تعالى. (¬4) رواه البخاري.

ويذكر بالموقف الذي يجدر بالمؤمنين أن يقفوه عند الموت، اقتداء بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال: ((أرسلت إحدى بنات النبى - صلى الله عليه وسلم - إليه تدعوه وتخبره أن صبيا لها - أو ابنا- في الموت، فقال للرسول: ((ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر، ولتحتسب)) (¬1). ومما ينبغي للمسلم الواعي فعله في مثل هذه المناسبات الأليمة أن ينبه إلى حرمة النياحة والندب وشق الأثواب ولطم الخدود ورفع الأصوات بالكلام المبكي المثير، مبينا للناس، وبخاصة الجهلة منهم أن هذه الأفعال جميعا تؤذي الميت في قبره، ويأثم فاعلوها إثما كبيرا، كما خبر بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((الميت يعذب في قبره بما نيح عليه)). وفي رواية: ((ما نيح عليه)) (¬2) وقوله: ((ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية)) (¬3). وعن أم عطية نسيبة رضي الله عنها قالت: ((أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع البيعة ألا ننوح)) (¬4) وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه. (¬4) منفق عليه.

((النائحة إذا لم تتب قبل فوتها تقام يوم القيامة، وعليها سربال (¬1) من قطران ودرع من جرب)) (¬2). أما الدموع التي تنهمر من الأعين، تحكي ما يعتلج في القلب من نار الألم واللوعة، فلا تثريب على الباكين فيها ما لم يصاحبها ندب ونياحة وصياح وما إلى ذلك من أفعال محرمة، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد سعد بن عبادة، ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكوا، فقال: ((ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم)) وأشار إلى لسانه (¬3). وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه ابن ابنته، وهو في الموت، ففاضت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: ((هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (¬4). وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على ابنه إبراهيم، وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((يا بن عوف، إنها رحمة)) ثم أتبعها بأخرى، فقال: ((إن العين تدمع، ¬

_ (¬1) أي قميص. (¬2) رواه مسلم. (¬3) متفق عليه. (¬4) متفق عليه.

والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) (¬1). ويحرص المسلم التقي على حضور الجنازة حتى تدفن، لما في حضوره من ثواب عظيم، أخبرنا به الرسول الكريم بقوله: ((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان))، قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)) (¬2). إن في تركيب الإسلام بحضور تشييع الميت حتى دفنه توطيدا لأواصر الأخوة بين المسلمين، وترسيخا لمشاعر الوفاء، وبمثل هذه المشاركات يجد المصابون جميل الصبر، ويحسون برد العزاء، وبخاصة إذا علموا أن الصفوف المتراصة التي تقف لتصلي على ميتهم ستشفع فيه، كما أخبر بذلك الرسول الكريم بقوله: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه)) (¬3). وينبغي للمسلم أن يكون عالما بأحكام صلاة الجنازة، حافظا ما يقرأ فيها من أدعية مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا ما وضع النعش، واصطف الناس للصلاة عليه، يكبر الإمام التكبيرة الأولى، فيتعوذ ويقرأ فاتحة الكتاب، ثم يكبر التكبيرة الثانية، فيصلي بعدها على النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الإبراهيمية، ثم يكبر التكبيرة الثالثة، ويدعو للميت وللمسلمين. ومن أصح الأدعية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - للميت ما يرويه عوف بن مالك رضي الله عنه إذ يقول: ¬

_ (¬1) رواه الشيخان. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم.

((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فحفظت من دعائه، وهو يقول: ((اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله (¬1)، ووسع مدخله (¬2)، واغسله بالماء والثلج والبرد (¬3)، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعده من عذاب القبر ومن عذاب النار)) حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت (¬4). ثم يكبر التكبيرة الرابعة، ويدعو بهذا الدعاء: ((اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله))، ثم يسلم. ويمشي في الموكب حتى يوضع النعش على القبر، فإذا ما تم الدفن استغفر للميت ودعا له بالتثبيت، وهذا ما كان يفعله الرسول الكريم ويأمر به، كما أخبر بذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: ((استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل)) (¬5) وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي)) (¬6). وقال الشافعية: ((ويستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، وإن ختموا القرآن كان أفضل)) (¬7). ¬

_ (¬1) أي منزله في الجنة. (¬2) أي قبره. (¬3) الغرض تعميم أنواع الرحمة والمغفرة في مقابلة أصناف المعصية والغفلة. (¬4) رواه مسلم. (¬5) رواه أبو داود بإسناد حسن. (¬6) رواه مسلم. (¬7) انظر: المجموع للنووي 5/ 254.

يكافيء على المعروف ويشكر عليه

إن مشاركة المسلم في مثل هذه المناسبات دليل على إدراكه الحياة الاجتماعية بأبعادها كافة؛ فليست الحياة أفراحا ومناسبات سعيدة فحسب، وإنما هي فرح وترح، سرور وحزن، طرب وكرب، رخاء وشدة، بسمة ودمعة، والمسلم الحق الواعي له مكانه في هذا كله، لا يغيب عن جانب منه؛ إذ له في كل جانب رسالة يؤديها، وكلمة يقولها، وواجب يقوم به. يكافيء على المعروف ويشكر عليه: ومن خلائق المسلم الطيبة وشمائله الرفيعة أنه يكافىء على المعروف فلا يجحده، ويشكر عليه ولا ينساه؛ عملا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء)) (¬1). وقوله: ((من استعاذ بالله فأعيذوه ... ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه)) (¬2). فالشكر على المعروف في خليقة المسلم دين خض عليه الهدي النبوي الكريم، وليس مجاملة اجتماعية تتحكم فيها الأمزجة والأهواء، وتدفع إليها المنافع والمصالح، وتتذبذب بمدى تحقق تلك المنافع والمصالح. فصاحب المعروف يستحق الشكر عليه، وإن لم تتحقق تلك المنافع والمصالح على يديه، فحسبه أنه أقبل على فعل المعروف، فاستحق كلمة الشكر النابعة من القلب، وهذا ما يريده الإسلام من المسلمين. ولقد بلغ من حرص الإسلام على تأصيل هذه الخليقة في نفس المسلم أنه جعل شكر الله لا يتم، ولا يتحقق على وجهه الأكمل إلا بشكر الناس على ما قدموه من معروف، وما أسدته أيديهم من خير. فالذي لم يألف شكر الناس ¬

_ (¬1) حديث حسن جيد غريب، رواه الترمذي. (¬2) رواه أبو داود والنسائي وأحمد. وإسناده صحيح.

يخالط الناس ويصبر على أذاهم

على معروفهم، ولا تند عنه عبارة تثلج صدور صانعي المعروف، وتهز فيهم المروءة، وتحرك الأريحية، هو إنسان جحود كنود كفور، لا يقدر النعم والفضائل ولا يشكر عليها، فهو غير مؤهل لشكر الله تعالى، واهب النعم والفضائل والخيرات. وفي هذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) (¬1). ذلك أن في شكر من أسدى إليك معروفا إشاعة لفعل الخير، وتشجيعا عليه، وترغيبا فيه، وفيه أيضا تعويد للإنسان على حفظ اليد، وتقدير المعروف، والاعتراف بالجميل، وبهذا وذاك تتوطد أواصر المودة بين أفراد المجتمع، وتنفتح القلوب على الحب، وتنشط النفوس لفعل الخير، وهذا ما يهدف الإسلام إلى ترسيخه في المجتمع الإسلامي. يخالط الناس ويصبر على أذاهم: والمسلم الحق العامل يخالط الناس ويصبر على أذاهم؛ لأنه صاحب قضية، ورائد رسالة، ولسان دعوة. ولا بد لمن تصدى لهذه المهمات الجسام من أن يوطن نفسه على التضحية في سبيل تلك القضية، والصبر على تكاليف الرسالة، وتحمل تبعات الدعوة، ومنها الصبر على آراء الناس الفجة، وسوء تصرفاتهم، وخطل ظنونهم وتصوراتهم، وجفاء طبعهم، وبطء استجابتهم للحق، وتثاقلهم إلى الأرض، والدوران حول المصلحة والذات، إلى غير ذلك مما يبدر من البشر من تفاهات يضيق بها الدعاة ذرعا، فإذا هم يميلون في لحظات السأم والضيق والإعياء إلى الانزواء واعتزال الناس، ومن هنا جاء الهدي النبوي العالي يشد من عزمات المؤمنين، ويربط على قلوبهم، ويثبث ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

منهم الأقدام، فيعلن أن الصابرين في درب الدعوة الشائك الطويل خير من الذي لا يصبرون: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) (¬1). ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء من قبله آية في الصبر على رعونات الناس وتخرصاتهم وتفاهاتهم، ما احوج الدعاة إلى الوقوف عندها كلما نفد صبرهم، وضاقت صدورهم، وبرح بهم الأذى والعدوان. ومن نماذج ذلك الصبر الكبير ما رواه الشيخان من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم قسمة كبعض ما كان يقسم، فقال رجل من الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله عز وجل. وبلغت تلك القالة الظالمة مسامع الرسول الكريم فشق ذلك عليه، وتغير وجهه، وغضب، ثم قال: ((قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر)). بهذه الكلمات القليلة سكت عن الرسول الكريم الغضب، وانقشع الغيظ، وهدأت النفس الكريمة السمحة الصفوح. إنه خلق الأنبياء والدعاة الصادقين في كل زمان ومكان، وهو الصبر على أذى الناس وتخرصاتهم وأقاويلهم، وبدونه لا تستمر دعوة، ولا يثبت دعاة. ولا تنقص المسلم الواعي الحصيف اللباقة في تألف الناس ومداراتهم واتقاء شرهم وفحشهم، إن كانوا من السفهاء؛ فالمؤمن كيس فطن في مخالطته الناس، ذكي لبق في مخاطبتهم، لا يحسون منه جفوة، ولا يلمسون فظاظة أو غلظة، وهذا ما جاء به الهدي النبوي الكريم فيما يرويه الإمام البخاري عن السيدة عائشة من أن رجلا استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

يدخل السرور على القلوب

((ائذنو له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العثسيرة)). فلما ذخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول! فقال: ((أي عائشة: إن من شر الناس منزلة عند الله من تركه، أو ودعه الناس اتقاء فحشه)). وكان أبو الدرداء يقول: ((إتا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم)) (¬1). إن أنماط الناس لا تكون دوما على مزاج الداعية وميوله ورغباته، بل إن فيهم كثيرا ممن يكون على النقيض مما يحب ويرغب، ومن هنا لا بد للداعية من أن يعتصم بالصبر على ما يلقى من هؤلاء، ولا بد له من اللباقة في معاملتهم واستمالتهم إلى الحق الذي يدعوهم إليه. يدخل السرور على القلوب: والمسلم الواعي المستنير بهدي دينه يحرص على أن ينشر المسرة في الربوع التي يحلها، ويشيع بين أهلها الأنس والمودة والغبطة؛ فيدخال السرور على القلوب في إطار ما أحل الله مطلب إسلامي ندب إليه الشرع الحنيف، ورغب في فعله، لتكون بيئات الإسلام وأجواء المسلمين مترعة بالود، ندية بأنسام المسرة، عامرة بالبشر والتفاؤل، ومن أجل ذلك جعل الإسلام جزاء من يدخل السرور على قلوب المسلمين أن يظفر بسرور أكبر، يدخله الله جل جلاله على قلبه يوم القيامة: ((من لقي أخاه المسلم بما يحب الله ليسره بذلك، سره الله عز وجل يوم القيامة)) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه الطبراني في الصغير بإسناده حسن.

يدل على الخير

وكم من المسرات الحلال يستطيع المسلم أن يحملها لإخوانه، كالكلمة الطيبة، والبسمة الودود، والبشرى المفرحة، والمواساة المسلية، والزيارة الخالصة، والرفد الصادق، وغير ذلك مما يفتح القلوب على المحبة، ويحجبها عن الغل والحقد والكراهية. ومن هنا كان المسلم بطبيعة تربيته وتكوينه يدور في إطار من الأعمال الصالحات التي تقربه من الله زلفى، وتحببه إلى قلوب الناس. يدل على الخير: ومن تلك الأعمال الصالحات التي عرف بها المسلم الصادق التقي الدلالة على الخير، فهو لا يزوي خيرا عن أحد، ولا يكتم أمرا فيه للناس منفعة، لأنه تعلم من هدي دينه أن الذي يدل على الخير له مثل أجر فاعله: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) (¬1). ومن هنا كان المسلم بعيدا عن احتجان الخير لنفسه، سيان لديه أقام هو به أم دل عليه؛ فأجره ثابت في الحالين، وفي ذلك إشاعة للخير في المجتمع، ليقوم به كل من يسر له، بعيدا عن التباهي والتفاخر وحب الظهور. وكم حجبت هذه الآفات النفسية القاتلة الخير عن المجتمعات؛ لأن أصحابها يودون أن يقوموا هم دون سواهم بفعل الخير، ولكن ظروفهم لا تمكنهم من القيام به، فيبقى الخير موءودا، والمصالح معطلة، والمجتمعات محرومة من ذلك الخير الذي دار في بعض الرؤوس فكتمته وسكتت عنه انتظارا لفرصة تسنح تمكنهم من تنفيذه، وقد لا تسنح هذه الفرصة، وينتهي العمر، ويبقى الخير حبيس الرؤوس المظلمة. والمسلم ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

ميسر غير معسر

الحق المتطلع إلى رضوان ربه ومثوبته بريء من هذه الآفات، يدل على الخير فور علمه به، ويحظى بثواب ربه كفاعل الخير سواء. ميسر غير معسر: والمسلم التقي الواعي مسير لا يعرف التعسير؛ لأن خلق المؤمنين التيسير في الأمور كلها، وهذا ما ارتضاه الله تبارك وتعالى لعباده إذ قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1). ومن هنا جاء الهدي النبوي الكريم حاضا المسلمين على التيسير، ناهيا إياهم عن التعسير: ((علموا ويسروا ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت)) (¬2). إنه لا يلجأ للتعسير وتعقيد الأمور إلا من كان في خلقه التواء، وفي طبعه كزازة، وفي تربيته نقص وخلل. أما الإنسان السوي المؤدب بآدب الإسلام، فلا يعرف التعسير، ولا يألف التعقيد، ولا يلجأ إلى عرقلة الأمور وتعطيل المصالح، مستهديا بخلق الرسول الكريم الذي أخبرت به أم المؤمنين السيدة عائشة قائلة: ((ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى)) (¬3). إنها النظرة النبوية العالية الحصيفة الخبيرة بضعف الناس وتفاوت استعداداتهم للصعود والارتقاء والصبر، فما كان يناسبهم شيء كالتيسير، ولا ¬

_ (¬1) البقرة: 185. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬3) متفق عليه.

عادل في حكمه

يؤذيهم وينفرهم شيء كالتعسير، ومن هنا اختار الهدي النبوي الكريم التيسير في إطار العمل المشروع الحلال، وجعله سنة في المسلمين، لتخلو حياتهم من جفاف التعسير وعنته وثقله على النفوس. عادل في حكمه: والمسلم الواعي الراشد عادل في حكمه، لا يجور ولا يحيد عن الحق، مهما كانت المناسبات والمواقف والأحوال؛ فالعدل واجتناب الظلم من صميم دينه وعقيدته، نطقت بهما النصوص القاطعة من قرآن كريم وحديث شريف، وأمرت بهما أمرا لا مجال للترخص أو الاجتهاد فيه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (¬1). والعدل الذي عرفه الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي عدد مجرد دقيق خالص، لا يميل ميزانه الود أو الشنآن (¬2)، ولا يؤثر في نصاعته ميل إلى قرابة أو نسب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬4). لقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في العدل حينما جاء أسامة بن ¬

_ (¬1) النساء: 58. (¬2) أي البغض. (¬3) المائدة: 8. (¬4) الأنعام: 152.

لا يظلم

زيد يستشفع في المرأة المخزومية التي سرقت، وعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قطع يدها، فقال له: ((أتشفع في حد من حدود الله؟ وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (¬1). إنه العدل العام المطلق الذي يطلق على الكبير والصغير، والأمير والسوقة، والمسلم وغير المسلم، ولا يفلت من قبضته أحد، وهذا مفرق الطريق بين العدل في المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات. ومما وعاه التاريخ، وأنصتت له بإجلال محافل العدل في العالم كله عبر القرون وقفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بجانب خصمه اليهودي الذي سرق درعه أمام القاضي شريح، الذي لم يمنعه إكباره وإجلاله لأمير المؤمنين أن يطلب منه البينة على سرقة اليهودي درعه. ولما لم يجد أمير المؤمنين البينة حكم القاضي لليهودي على أمير المؤمنين. والتاريخ الإسلامي حافل بأمثال هذه الأخبار الدالة على سيادة الحق والعدل في المجتمع الإسلامي. ومن هنا كان المسلم الحق عادلا في أقواله وأفعاله؛ لأن الحق قديم في تراثه، والعدل عريق في مجتمعه، والإنصاف مقدس في معتقده. لا يظلم: والمسلم الحق بقدر استمساكه بالعدل هو بعيد عن الظلم؛ إذ الظلم ظلمات يتخبط بها الظالمون، كما بين الهدي النبوي الكريم: ((إتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ... )) (¬2). وما أجمل النهي عن الظلم في هذا الحديث القدسي، الذي يأتي فيه ¬

_ (¬1) روه البخاري ومسلم. (¬2) رواه مسلم.

أمر الله القاطع بتحريمه تحريما لا مجال للتأويل أو الاجتهاد فيه: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا)) (¬1). فالظلم شيء حرمه الله على نفسه، وهو الخالق الملك القدوس العزيز الجبار المتكبر، سبحانه، وجعله محرما بين العباد. أفيسوغ بعد ذلك أن يقع الظلم من مسلم مستمسك بعروة دينه الوثقى؟. إن المسلم الحق لا يكون منه ظلم مهما كانت الأسباب والدواعي والظروف، وهذا ما أكده الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ أخبر عن صفات المسلم الحق بقوله: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه (¬2)، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) (¬3). لم يكتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفي الظلم عن المسلم الحق حتى إنه لا يتصور أن يقع منه البتة، بل نفى عنه خذلانه لأخيه أيضا، وفي خذلانه إياه ظلم له وأي ظلم، ورغبه بعد ذلك في قضاء حاجة أخيه، وتفريج كربته، وستره، وكأنه يشير إلى أن التقاعس عن هذه الفضائل ظلم وتقصير وإجحاف في حق الأخوة التي تربط بين المسلم وأخيه. ولقد رأينا النصوص في الفقرة السابقة تحض على العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه حب أو بغض أو ميل أو قرابة أو نسب، ورأينا النصوص في هذه الفقرة تنهى عن الظلم المطلق أيضا، وهذا يعني تطبيق العدل على كل ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أي لا يخذله. (¬3) رواه البخاري.

يحب معالي الأمور

إنسان، واجتناب الظلم لكل إنسان، ولو كان من غير المسلمين؛ فالله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الظلم والإساءة لكل الناس: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬1). يحب معالي الأمور: والمسلم الحق يتوخى في علاقاته الاجتماعية دوما معالي الأمور، ولا يبني تلك العلاقات على أساس من الأغراض السخيفة والمصالح الخسيسة، إذ لا وقت لديه لسفساف الأمور وصغير الأهداف وتوافه الأغراض، وهو بحكم تكوينه علا هدي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يحب الجد ويكره الهزل، ويميل إلى السمو والارتقاء وينفر من الهبوط والانحدار، وهذا ما يحبه الله تبارك وتعالى من أخلاق الرجال، كما أخبر بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن الله عز وجل كريم يحب الكرماء، ويحب معالي الأمور ويكره سفسافها)) (¬2). لا يتنطع في كلامه: ومن هنا كان المسلم الواعي بعيدا عن التنطع في كلامه (¬3)، لا يتكفف النطق حبا بالتظاهر ولفت الأنظار إلى شخصه، فالتنطع والثرثرة الفارغة ليسا من خلق المسلم العامل الذي يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، وإنما هما من خلق الإنسان الفارغ التافه الذي لا يهمه إلا الظهور والبروز وجذب الانتباه إليه، ولذلك اشتد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المتنطعين، واشتد عليهم من بعده ¬

_ (¬1) الممتحنة: 8. (¬2) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. (¬3) المتنطع: المتعمق في الكلام المتكلم بأقصى حلقه.

لا يشمت بأحد

صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى إن عبد الله بن مسعود يقول: ((والذي لا إله إلا هو ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا رأيت أحدا أشد عليهم من بعده من أبي بكر، وإني لأظن عمر كان أشد أهل الأرض خوفا عليهم، أولهم)) (¬1). لا يشمت بأحد: والمسلم الحق بعيد أيضا عن الشماتة والزراية بالآخرين، لأن الشماتة خلق وضيغ مؤذ جارح، نهى عنه الإسلام، وحذر من الوقوع فيه، وذلك في الحديث الشريف القائل: ((لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمة الله ويبتليك)) (¬2). إنه لا مكان للشماتة في نفس المسلم الحق الذي أشربت نفسه روح الإسلام وهديه، بل إن نفس المسلم لتحدب على المبتلى وترثي لحاله، وتسارع إلى التخفيف عنه، وكلها عطف عليه وألم لمصابه. وما تظهر الشماتة إلا في النفوس المريضة البعيدة عن روح الإسلام وهديه، والمنشأة على حب الانتقام والكيد والتربص والوقيعة والأذى. كريم جواد: والمسلم الحق المستنير بتعاليم دينه، القائم بتطبيقها على نفسه في صدق وإخلاص كريم جواد، يداه مبسوطتان، تهميان بالخير (¬3) الثر على أبناء مجتمعه، في شتى المناسبات والأحوال. ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات. (¬2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحح. (¬3) أي تمطران.

وهو، إذ ينفق، يبذل بسخاء المؤمن الواثق بأن عطاياه لا تضيع، إذ هي محفوظة لدى عليم خبير: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬1). وإنه ليؤمن أيضا، وهو يجود بماله، أن ما ينفقه سيعود عليه بالفائدة الجمة والخير العميم، وسيخلفه الله عليه أضعافا مضاعفة في الدنيا والآخرة: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2). {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (¬3). {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (¬4). إن المسلم الصادق لينفق ماله، وهو على يقين أن الله تبارك وتعالى سيعوضه عما أنفقه من ماله في هذه الدنيا بركة ونماء وخلفا، وإذا ما غلبه شح نفسه وأمسك يده عن العطاء والبذل فسيبتليه ربه بماله نقصانا وضياعا وتلفا، وهذا ما صوره الحديث الشريف أوضح تصوير: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)) (¬5). وفي الحديث القدسي: ¬

_ (¬1) البقرة: 273. (¬2) البقرة: 261. (¬3) سبأ: 39. (¬4) البقرة: 272. (¬5) متفق عليه.

((أنفق يابن آدم ينفق عليك)) (¬1). ولا يخالج نفس المسلم الواثق بربه شك أن ما ينفقه في سبيل الله لا ينقص من ماله شيئا؛ فالصدقة تنمي المال ولا تنقصه: ((ما نقصت صدقة من مال ... )) (¬2). أما ثوابه على ما أنفق ابتغاء وجه ربه، فيجل عن الوصف والتقدير بمضاعفة الله إياه أضعافا مضاعفة، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعد المال الباقي حقيقة هو ما انفق في سبيل الله، وذلك في الحديث الذي ترويه السيدة عائشة عن ذبحهم شاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقي إلا كتفها، قال: ((بقي كلها غير كتفها)) (¬3). لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصا على تأصيل فضيلة الكرم في نفوس المسلمين، وجعلها من الفضائل التي يتسابق المسلمون إلى التحلي بها والتنافس فيها، يشهد لذلك قوله: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته (¬4) في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) (¬5). لقد سوى الرسول الكريم بين هلكته المال في الحق وبين الحكمة والقضاء بها وتعليمها، إذ قال: لا حسد، أي لا غبطة إلا في إحدى هاتين الخصلتين، لما في البذل في سبيل الحق من وقع كبير ونفع بالغ في حياة المسلمين الاجتماعية؛ فالمال عصب الحياة الحساس، وهلكته في سبيل ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ومعناه: أنها بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها. (¬4) أي إنفاقه. (¬5) متفق عليه.

الحق عمل عظيم، لا يقل عن عبقرية ذي الحكمة الموهوب، ونفعها للناس. ومن هنا كان المسلم الواعي بصيرا في التصرف بماله بما يعود عليه بالخير والمثوبة والأجر، ولذلك تراه يقدمه للبذل الذي يضمن له المثوبة والأجر، دونما جور على ورثته بحرمانهم منه. ومن غير تقتير وإمساك عن البذل في وجوه الخير، وقوام ذلك كله الاعتدال والتوسط في الحالتين على هدي من الشريعة ومقاصدها الغراء، بحيث لا يكون توريث الثروة للأبناء أحب للرجل من البذل في سبيل الله، بل يكون المال المبذول في سبيل الله أحب إليه من المال المورث؛ لأن الأول هو ماله الباقي في صحيفة عمله، وهذا ما أرشد إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: فإن ماله ما قدم (¬1)، ومال وارثه ما أخر)) (¬2). إن الكرم من أفضل خلائق الإسلام ومن أحسن شمائل المسلم الاجتماعية، ومن هنا كان جواب الرسول الكريم للرجل الذي جاءه سائلا: أي الإسلام خير: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) (¬3). على أن الكرم ما ينبغي أن يجمح بالمسلم إلى حد التفريط والإطاحة بالمال كله، بحيث لا يبقى منه شيء لورثته؛ فالأمور في الإسلام متوازنة متكاملة، لا يجور بعضها على بعض، فكما أن البذل في وجه الخير واجب أو فريضة، كذلك حفظ الذرية وصون كرامتهم من الابتذال والتكفف فريضة أو واجب؛ فقد سأل سعد بن أبي وقاص النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء يعوده في مرضه ¬

_ (¬1) أي في وجوه الخير. (¬2) رواه البخاري. (¬3) متفق عليه.

الذي أشفى منه على الموت، فقال: يا رسول الله ان لي مالا كثيرا، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: الثلث؟ قال: ((الثلث، والثلث كثير)) ثم عقب النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بقوله: ((إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك)) (¬1). ولقد كان الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - مثالا مجسدا للكرم المحض الأصيل ما عرف عنه أنه أمسك يده عن عطاء، ولا رد سائلا تعرض له بسؤال، يحكي ذلك عنه الصحابي جابر رضي الله عنه فيقول: ((ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط، فقال: لا)) (¬2). كان صلوات الله عليه يدرك ما للمال من أثر في نفوس البشر. فيتخذه وسيلة لتأليف القلوب واستمالتها للإسلام، ولا يستكثر أن يبذل الكثير الكثير في سبيل كسب جديد إلى صف الدعوة، وإنه ليعلم أن هذا الذي تطلع إلى المال أول الأمر، سيأخذه الإسلام متى دخل في غمار هديه، فيجعله من أشد الناس إيمانا، ومن أحسنهم إسلاما، وهذا ما يحدثنا به الصحابي الجليل أنس بن مالك إذ يقول: ((ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا! فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري وغيره. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم.

من هنا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبذل كل ما تصل إليه يده، فيوزعه على الناس، لا يذخر منه شيئا لنفسه، ولا لآله. حسبه أن يرد الخير على مستحقيه، يفتح به مغاليق القلوب الصلدة، ويؤصل في النفوس خليقة الكرم، بضربه المثل الأعلى فيه؛ فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه قال: بينما هو يسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقفله من حنين (¬1)، فعلقه الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة (¬2) فخطفت رداءه، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه (¬3) نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا)) (¬4). إن هذا النمط العالي من الكرم الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهو المثل الأعلى للكرم الخالص البعيد عن الغايات والمطامع والشبهات، حققه الرسول الكريم في واقع الحياة، ليكون مثالا للإنسانية، تحاول الارتفاع إليه، وإنه ليؤكد استعداد الإنسان للصعود في مدارجه، وقدرته على بلوغ مستويات رفيعة فيه، متى تألقت حقيقة الإيمان الكبرى في نفسه، ومن هنا يزداد الإنسان كرما كلما ازداد من الله قربا. وكلما استشعر ما أعده الله من نعيم للكرماء الأسخياء الباذلين في سبيله ازداد سخاء وبذلا، وكلما قويت صلته بالله ازداد شعوره بثمرات الكرم عمقا، وزاد عطاؤه امتدادا وسعة. وهذا ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل في رمضان، فقد كانت نسبة الكرم في حياة الرسول الكريم ترتفع في هذا الشهر المبارك، بفعل هذه الصلة المتكررة بالملأ الأعلى؛ إذ كان يلقاه جبريل في كل ليلة من ليالي رمضان، فيترع نفسه ¬

_ (¬1) أي حين رجوعه منها. (¬2) أي شجرة. (¬3) العضاة: شجر له شوك. (¬4) رواه البخاري.

الشريفة بمعاني الخير، ويزيدها فضلا على فضل، وسماحة على سماحة، وجودا على جود. فعن ابن عباس قال: ((كان رسول الله أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، يعرض عليه رسول الله القرآن فإذا لقيه جبريل كان رسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة)) (¬1). ولا عجب أن نجد في الجيل الأول من ارتفع إلى قريب من هذا المستوى العالي من الجود، فإذا هو يجود بماله كله في سبيل الله كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، ومن يجود بنصف ماله كما فعل عمر رضي الله عنه، ومن يجهز جيشا بأكمله كما فعل عثمان رضي الله عنه، ومن يتبرع بأنفس ممتلكاته كما فعل أبو الدحداح الذي وهب أحسن بساتينه صدقة في سبيل الله، ولما علمت زوجه بصنعه قالت له متهللة الوجه مفترة الأسارير: ربح البيع يا أبا الدحداح، وغير هؤلاء الأجواد كثير ممن آثروا الآجلة على العاجلة، فنزلوا عن أموالهم وحظوظ أنفسهم في سبيل الله. ذلك أنهم كانوا صادقين مع الله عز وجل، دائمي الصلة به، ومن هنا كانوا يحققون هذه المعاني، فيترجمونها إلى واقع، ولا يكتفون بتردادها والتغني بها والتأثر بذكرها، كما نجد معظم أغنياء اليوم. إن من أغنياء اليوم من يملك من الملايين والمليارات ما لو أدى زكاتها فحسب لمسح الفقر عن مجتمعه مسحا، بله (¬2) الإنفاق السخي من حر ماله، ولكن أيدي هؤلاء الأغنياء تنقبض حتى عن دفع الزكاة وإنهم ليعلمون أنها ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. (¬2) أي دع.

فريضة وركن من أركان الإسلام، فتراهم يوزعون، إن وزعوا، دريهمات معدودة في المواسم والأعياد، أو يوزعون الخبز والأطعمة في بعض الأقطار الإسلامية على عدد محدود من الفقراء، وعندما يرى الناس البسطاء جماهير الفقراء تقف ببابهم لتأخذ حظها من هذا الفتات الذي يوزع، يشيدون بكرمهم وسخائهم، ويعدونهم من الأجواد الفضلاء، وما درى هؤلاء البسطاء أن مجموع ما يوزعه أصحاب الملايين هؤلاء لا يبلغ جزءا يسيرا جدا مما يتوجب عليهم إنفاقه، وأن هؤلاء الذين ينشرون على الفقراء المسحوقين دراهم معدودة، ذرا للرماد في العيون، وتظاهرا بالطاعة لله والبذل في سبيله، لا يخفى أمرهم على رب العالمين، رب الفقراء والأغنياء، ولن يفلتوا من عقابه، وأنهم يدخلون تحت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬1). إن هذه الفئة التي أثرت في ظل نظام اقتصادي غير إسلامي، كانت سببا من الأسباب التي جلبت الأنظمة والمبادئ اليسارية إلى بلاد المسلمين، بجشعها واستغلالها وشحها وبعدها عن هدي الله، ولو عرفت حق الله في مالها، وأدته كاملا غير منقوص، لما وجد في مجتمعات المسلمين من يجرؤ على الدعوة إلى شيوعية حمراء أو اشتراكية رقشاء، ولما نبت الحقد الطبقي الذي استغلته الأحزاب اليسارية، حتى أقامت عليه أنظمة حكم اشتراكية أطاحت بأصحاب الملايين وبمعاملهم ومؤسساتهم، واستلبت منهم الملايين، فأصبحت خزائنهم خاوية، وكانوا في أيام البسطة والعز والسعة والرخاء والربح يضنون في كثير من الأحيان على العامل الفقير بنصف ليرة يضيفونها إلى ¬

_ (¬1) التوبة: 34 - 35.

أجرته الأسبوعية أو الشهرية الزهيده، خشية أن تنقص أرباحهم، بل كان بعضهم يقيم الدنيا ويقعدها من أجل هذه الزيادة البسيطة، ويتعامى عن الآلاف المؤلفة التي يبذرها بعض أبنائهم في الملاهي، وتحت أقدام المومسات، حتى إن بعضهم كان يغلق الملهى بأكمله على حسابه ليستمتع وحده بالحسناوات الراقصات فيه. إن المجتمع الإسلامي السليم لا يعرف ظلم الغني للفقير، ولا حقد الفقير على الغني؛ لأن الغني فيه كريم جواد يعرف حق الفقير في ماله، فلا يبخسه حقه، ولا يتقاعس عن إسعافه ورفده ومعونته وإنصافه؛ ولأن الفقير لا ينظر إلى الغني بعين الحقد والضغينة والكراهية لأنه أكثر منه مالا؛ ذلك أن الغني في المجتمع الإسلامي لا يجمع ماله من حرام، وإنما يجمعه بكده وكدحه واجتهاده وجهده من طريق الكسب الحلال المشروع، ثم إن مبدأ تكافؤ الفرص الذي أتاحه المجتمع الإسلامي لجميع المستظلين بظله ليفسح المجال للفقير أن يعمل ويكدح ليصبح بدوره غنيا إن شاء، فالباب مفتوح للجميع، ليلجه كل طموح نشيط وثاب العزيمة عالي الهمة، ولا داعي للحقد والضغينة والتربص وحب الانتقام، ولا مكان للحاقدين المضطغنين المتربصين للانتقام في مجتمع الحب والتآخي، مجتمع الإسلام. لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم الصحابة الكرام، ويحضهم دوما على البذل، ويقتلع من نفوسهم حب الكنز، لتتوزع الثروة بين الناس، ويشيع الرخاء في حياتهم، ولئلا يرتد المال المكنوز على صاحبه شؤما وعذابا وسخطا يوم القيامة، وكان الرسول الكريم الأسوة الحسنة لهم في ذلك والمثل الأعلى. انطلق يوما إلى البقيع ولحق به أبو ذر، وفي أثناء مسيرتهما قال لأبا ذر:

((إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكلذا في حق))، ثم عرض لهما أحد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا ذر))، فأجابه: لبيك رسول الله وسعديك وأنا فداؤك، قال: ((ما يسرني أن أحدا لآل محمد ذهبا، فيمسي عندهم دينار، أو قال، مثقال .... )) (¬1). وهذا ما يفسر موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أغنياء قريش حينما استراحوا من عناء الفتوح، وأقبلوا على التجارة يثمرون بها أموالهم، فأثروا ثراء فزع عليهم منه عمر فقال: ((ألا إن قريشا يريدون أن يجعلوا مال الله دولة بينهم، أما وابن الخطاب حي، فلا، ألا وإني واقف لهم في حرة المدينة، فآخذ بحجزاتهم أن يتهافتوا في النار)) (¬2). إن تجميع الثروة في أيد قليلة أمر يرفضه الإسلام؛ لأن تجميعها في تلك الأيدي القليلة معناه انحسارها عن الأيدي الكثيرة في المجتمع، وهنا يكون الاختلال، وتكون الطبقية، ويكون الاستغلال، ويكون الظلم، وهذا كله حرام في مجتمع الإسلام. هذه واحدة، والثانية أن عمر بن الخطاب أعلن أنه سيقف لهم في حرة المدينة ليأخذ على أيديهم، ويحول بينهم وبين الاحتكار والكنز، إنقاذا لهم أن يتهافتوا في النار، لا انتقاما منهم وحسدا على ما في أيديهم، كما توسوس به النظم المادية التي تذكي في نفوس الفقراء الحقد والضغينة وحب الانتقام من الأغنياء؛ فالعدالة الاجتماعية مقصودة في الإسلام لخير الغني والفقير سواء، ومنذ بداية الطريق، قبل أن تتفاقم الأمور، وتختل الموازين، وتمتلئ بالحقد الصدور، وهي مقصدة أيضا لأن فيها صلاح دنيا الغني ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. (¬2) انظر: أخبار عمر للطنطاوي: 265.

والفقير وآخرتهما أيضا، ولن تجد هذا الربط المحكم بين الدنيا والآخرة في عالم الاقتصاد، إلا في النظام الاقتصادي في الإسلام. والمسلم الحق كريم مهما كان فقيرا، ومهما كان عطاؤه قليلا، فحسب الإسلام منه أن تنبجس في نفسه عاطفة الرحمة بمن هو أفقر منه، ويحس ما يعانيه غيره من ألم وحرمان. ومن أجل ذلك جاءت النصوص تحض الفقراء على الإنفاق القليل، حسب استطاعتهم، لتبقى نفوسهم ريا بنداوة المشاركة الوجدانية لإخوانهم، ووعد الله هؤلاء المنفقين، على إقلالهم وعسرتهم، بتثمير صدقتهم وتنميتها حتى تصبح كالطود الشامخ، شريطة أن تكون من كسب حلال: ((من تصدق بعدل تمرة (¬1) من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها يصاحبها كما يربي أحدكم فلوه (¬2)، حتى تكون مثل الجبل)) (¬3). ولكيلا تنغلق النفس، وتحتجب عن المشاركة الوجدانية في المجتمع، ولكيلا تجف ينابيع الخير والرحمة والتعاطف فيها، دعاها الرسول الكريم إلى الإنفاق اليسير مهما كانت مقلة معسرة، وحذرها من السلبية والانغلاق والإمسلك، لأن في ذلك مهلكة وبوارا وعذابا، فقال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) (¬4). لقد أراد الله للمسلم أن يكون عنصر بناء ومنفعة وخير في مجتمعه، يفيض دوما بخيره على الناس، سواء أكان غنيا أم فقيرا، ومن هنا جاء الهدي ¬

_ (¬1) أي بقيمتها. (¬2) أي مهره. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه البخاري.

النبوي حاضا الإنسان المسلم على فعل الخير، حسب قدرته وإمكاناته، وجعل له في كل فعل للخير صدقة: ((على كل مسلم صدقة، فقالوا: يا نبى الله، فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف، ويمسك عن الشر، فإن له صدقة)) (¬1). لقد وسع الإسلام دائرة الخير، ليلجها كل مسلم، فلا يحس الفقير المعدم أنه محروم من المشاركة الاجتماعية الخيرة، لصفر يده (¬2) من المال، ففتح له أبواب هذه المشاركة، بجعل كل عمل نافع يقوم به صدقة له، يثاب عليها كما يثاب الغني على إنفاقه: ((كل معروف صدقة)) (¬3). وبذلك ضمن مشاركة جميع الأفراد في بناء المجتمع وخدمته وتحسينه، وأدخل على قلوب أبنائه جميعا الراحة والسرور والابتهاج بهذه المشاركة التي ترد للإنسان اعتباره وتحفظ كرامته وتحقق مثوبته. ولقد كان الإسلام واقعيا رحيما بالمسلمين؛ إذ لم يكلفهم ما لا يطيقون، ولم يطلب منهم إلا أن يبذلوا فضول أموالهم، ولم يلم ذوي الكفاف، وآثر لهم أن يكفوا حاجتهم بأنفسهم؛ إذ اليد العليا في الإسلام خير من اليد السفلى، أما ما زاد عن الحاجة فهو داخل في باب المنافسة في الكرم، والمسلم الحق لا يمسك في وجه من وجوه الخيرة لأنه تعلم من هدي دينه أن في بذله خيرا، وفي إمساكه شرا، ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) أي لخلوها. (¬3) متفق عليه.

((يا بن آدم إنك إن تبذل الفضل (¬1) خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف (¬2)، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) (¬3). ولا يفارق المسلم الواعي البصير كرمه وإقباله على الصدقة متى زاد شيء في يده عن حاجته وحاجة عياله، ولو كان هذا الشيء بمثابة احتياطي يذخره الناس ضمانا من الفقر، أو وسيلة للعروج في مدارج الغنى، بل إنه ليرى في هدي دينه أن صدقته في مثل هذه الحالة هي أعلى أنواع الصدقات طرا، وأفضلها أجرا، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة، قال: ((جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل أجرا؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى. ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) (¬4). والمسلم الحق الجواد يخص بعطائه وكرمه الفئات التي تستحق الرفد والغوث والإعانة، فيتحرى أولئك العفاة والمحرومين من المساكين المتعففين الذين لا يسألون الناس إلحافا، ويحسبهم الناس أغنياء من التعفف، فيذهب إليهم، ويطرق أبوابهم، ويحبوهم ما يسد حاجتهم ويحفظ كرامتهم. ذلك أن هؤلاء المساكين المتعففين هم أولى الناس بالرفد والعطاء، وهم الذين عناهم الرسول الكريم بقوله: ¬

_ (¬1) أي ما زاد عن حاجتك وحاجة عيالك. (¬2) أي إمساك ما تكف به الحاجة. (¬3) رواه مسلم. (¬4) متفق عليه.

((ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف)) (¬1). وفي رواية في الصحيحين: ((ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)). ويخص المسلم السمح الجواد بعطائه اليتيم، فيكفله إن استطاع، فيقوم بالنفقة عليه، والعناية بشؤونه، سواء كان هذا اليتيم قريبا له أم بعيدا، محتسبا ما ينفقه في هذا السبيل عند الله الذي أعد لكافل اليتيم مقاما عليا، تتقطع دونه الأعناق، وتصغر الأماني الحفل المعسولة، بمنحه شرف جوار الرسول الكريم في الجنة، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا وكافل اليتيم (¬2) في الجنة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا)) (¬3). وكذلك يسعى المسلم التقي المحسن السخي على الأرملة والمسكين، امتثالا لهدي دينه القويم، وابتغاء مرضاة ربه، وسعيا وراء المثوبة الكبرى التي أجزلها الله تعالى للساعي على الأرملة والمسكين، حتى إنها لتفوق أجر الصائم القائم، أو المجاهد في سبيل الله، كما أخبر بذلك الرسول الكريم بقوله: ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) أي القائم بأموره. (¬3) متفق عليه.

لا يمن على من يعطيهم

((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)) وأحسبه قال: ((وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر)) (¬1). هذه هي طرق البر التي يسلكها المسلم المنفق الجواد، يبتغي بها مرضاة ربه ومثوبته، وهذه هي الأعمال الصالحات التي تقرب العبد من ربه زلفى، لا تلك الولائم التي تقام للأغنياء والوجهاء، وتراق في إقامتها الأموال الطائلة، طمعا في شهرة أو وجاهة او كسب موقوت؛ فتلك ولائم ذمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه لم يرد بها وجه الله تعالى، وذلك في قوله: ((بئس الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء)) (¬2). ثم إن السعي على الأرملة والمسكين، وتكفل اليتيم والإحسان إليه، فضلا على ما فيهما من ثواب عظيم، ليزكيان نفس المعطي، وينميان إنسانيته، ويرققان قلبه، ويجعلانه يتذوق حلاوة العطاء، ويلتذ بشعور الحنان، ويسعد بفعل الخير. ومن هنا كان الرسول الكريم يروض القلوب القاسية على الإحسان لتخالطها رقة، ويخالجها عطف وندى وحنان. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فقال: ((امسح رأس اليتيم، وأطعم المسيكين)) (¬3). لا يمن على من يعطيهم: والمسلم التقي الواعي إذا وفقه الله للعطاء والبذل في سبيله، لا يمن على من أعطاهم، ويحرص على أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم: ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه الشيخان. (¬3) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). ولا يخفى عليه أن لا شيء أحبط للعمل وأبطل لثواب الصدقة من المن والأذى، بل إن نداء الله تبارك وتعالى للمؤمنين بالنهي والتحذير من المن الذي يبطل الصدقات ويطيح بالحسنات ليملأ سمعه، ويهز كيانه، ويصرفه عن التفكير بالمن أو الأذى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (¬2). إن المن على الإنسان الفقير الذي ألجأته الحاجة إلى الأخذ إهانة لإنسانيته، وامتهان لكرامته، وحط من قدره. وهذا كله محرم في شرعة الإسلام التي تعد المعطي والآخذ أخوين، لا فرق بينهما إلا بالتقوى والعمل الصالح، والأخ لا يمن على أخيه، ولا يؤذيه في نفسه وكرامته. ومن هنا اشتد الوعيد للمنان في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر، إذ صنفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمرة الأشقياء الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فقال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم))، قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل (¬3)، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)). ¬

_ (¬1) البقرة: 262. (¬2) البقرة: 264. (¬3) أي المسبل إزره وثوبه أسفل من الكعبين للخيلاء.

مضياف

مضياف: وبدهي أن المسلم الحق الذي أشربت روحه معاني الكرم مضياف، يهش لاستقبال الضيف، ويسارع إلى إكرامه، مستجيبا إلى خليقة الإسلام الأصيلة في نفسه، المنبثقة من الإيمان بالله واليوم الآخر: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) (¬1). فمكرم الضيف يؤكد بإكرامه ضيفه أنه مؤمن بالله واليوم الآخر، ومن هنا سمي هذا الإكرام جائزة، تقدم للضيف، وكأنها شكر له على ما أتاح للمضيف من عمل صالح، يحقق به إيمانه ويرضي ربه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته))، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: ((يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة)) (¬2). إن إكرام الضيف في الإسلام عمل عزيز محبب للمسلم الصادق، يثاب عليه، وقد نظمه الإسلام ووضع له حدودا، فجائزة الضيف يوم وليلة، ثم يأتي واجب الضيافة، ومدته ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة تثبت في صحيفة الرجل الكريم المضياف. وليس إكرام الضيف في الإسلام أمرا اختياريا يتبع الأمزجة والنفسيات والاجتهادات الشخصية، وإنما هو واجب على المسلم، عليه أن يبادر إلى تأديته إذا ما قرع بابه طارق، أو نزل بفنائه ضيف: ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه.

((ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو دين عليه فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه)) (¬1). أما الذين يضيقون ذرعا باستقبال الضيف، ويغلقون دونه الأبواب، فلا خير فيهم، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ((لا خير فيمن لا يضيف)) (¬2). لقد جعل الإسلام الضيافة واجبة على كل مسلم، وعدها حقا مفروضا للضيف، لا ينبغي أن يقصر في أدائه مسلم، فإن استحكم شح النفوس في قوم، وبلغ بهم أن يمنعوا الضيف حقه، فإن الإسلام أذن للضيف أن يأخذ حقه منهم، وذلك في الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما عن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا، فما ترى في ذلك؟ فقال: ((إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما بنبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)). إن الضيافة خلق إسلامي أصيل، ومن هنا لا تجد مسلما حسن إسلامه بخيلا ممسكا عن الضيف، مهما كانت حاله؛ ذلك أن الإسلام علمه أن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة، وأن لا خوف البتة من طروق الضيف المفاجئ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((طعام الاثتين، كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) رواه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬3) متفق عليه.

وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) (¬1). إن المسلم الحق لا يخاف كثرة الأيدي على الطعام، شأن الإنسان الغربي الذي لا يستقبل ضيفا مفاجئا لم يعد له طعاما من قبل، بل إن المسلم ليستقبل ضيفه المفاجئ، ويرحب في مشاركته طعامه، وما عليه إن نقص حظ معدته لقيمات معدودات؛ لأن الجوع أهون عند المسلم الحق من الإعراض عن الضيف الذي أمر الله رسوله بإكرامه، بل إن الله ليبارك في طعام الواحد فإذا هو يكفي الاثنين ويبارك في طعام الاثنين فإذا هو يكفي الأربعة، وهكذا ... ولا داعي لذلك الجفاف المقيت الذي مني به الإنسان الغربي، ربيب المدنية المادية في الشرق والغرب سواء. ولقد ضرب سلفنا الصالح المثل الأعلى في إكرام الضيف، حتى إن الله تبارك وتعالى عجب من صنيع بعضهم في إكرام الضيف، ونجد ذلك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يضم (أو يضيف) هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبيان، فقال: هيئي طعامك، وأصلحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصلحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، وجعلا يريانه أنهما يأكلان، وباتا طاويين. فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تقد عجب الله من صنيعكما ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

بضيفكما الليلة، وأنزل الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). على أن المسلم الحق كيس فطن، إذا نزل ضيفا على أخيه فإنه يقدر ظروفه، فلا يقيم عنده مسترخيا متثاقلا غير عابئ بما يسبب لمضيفه من إحراج وإثقال وإزعاج قد يبلغ به درجة التذمر والضيق، بل إنه ليجد في هدي الرسول الكريم ما يحرم عليه هذا الإثقال البشع الذي تأباه روح الإسلام، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لمسلم، أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه (¬2)))، قالوا: يا رسول الله!، وكيف يؤثمه؟ قال: ((يقيم عنده ولا شيء له يقريه به)). وفي رواية للبخاري: ((ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه)). وأيا كان الإثم أو الإحراج، فالمسلم الحق بعيد عن إيقاع أخيه المضيف فيهما. والضيف المسلم مؤدب، علمه الإسلام أدب الضيافة وسلوكها الرصين الراشد، ومن هنا هو يتحرى الدقة في تطبيق هذا السلوك، بحيث يكون خفيف الظل على مضيفيه، دمثا في الاستجابة لما يحبون أو يبدون من ملاحظات ورغبات. ¬

_ (¬1) الحشر: 9. (¬2) أي إلى أن يوقعه في الإثم.

يؤثر على نفسه

يؤثر على نفسه: والمسلم الحق الذي ارتوت نفسه من مناهل الإسلام يؤثر على نفسه، ولو كان مقلا به خصاصة (¬1)؛ ذلك أن الإسلام طبع أبناءه بما ساقه لهم من هدي على الإيثار، حتى أصبح الإيثار خليقة أصيلة من خلائق المسلم الحق، بها يعرف ويتميز عن غيره من الناس. ولقد كان الأنصار رضوان الله عليهم الرواد الأوائل للإيثار بعد الرسول الكريم، إذ نزل فيهم قرآن يتلى، يشيد بإيثارهم الفريد على وجه الزمان، الذي جعلهم منارة خالدة للأجيال الإنسانية، تعلمها كيف يكون الجود، وكيف يكون الإيثار، وذلك حين استقبلوا إخوانهم المهاجرين الذين لا يملكون شيئا، فأعطوهم كل شيء (¬2): {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3). ولقد كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حافلة بالإيثار، وبذلك أصله في نفوس المسلمين الأوائل، وركزه في طبائعهم وعاداتهم؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببردة منسوجة، فقالت نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال فلان: اكسنيها، ما أحسنها! فقال: ((نعم))، فجلس النبى - صلى الله عليه وسلم - في المجلس، ثم رجع فطواها. ثم أرسل بها إليه. فقال له القوم: ما أحسنت! لبسها ¬

_ (¬1) أي فقر. (¬2) انظر إيثار الأنصار ص: 168. (¬3) الحشر: 9.

ينفس عن المعسر

النبى - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا، فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه)) (¬1). وكم كان صلوات الله عليه يطيب نفسا إذ يرى ثمرات غرسه في الإيثار تؤتي أكلها في حياة المسلمين، إذا ما دعا إليه داع من جدب أو إقلال، فيعبر عن ذلك بقوله: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم)) (¬2). ينفس عن المعسر: والمسلم الحق سمح، حسن المعاملة، رضي الخلق، يبادر إلى التنفيس عن المعسر، عملا بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬3). ذلك أن الإسلام يريد من المسلم أن يكون إنسانا قبل أن يكون صاحب حق، فإذا ما آنس من أخيه المدين عسرة مطبقة عليه، عذره، وقدر الضيق الذي هو فيه، وأنظره إلى أجل آخر، أو وضع عنه من الدين. وهو إذ يفعل ذلك إنما يمتثل أمر ربه، ويقدم بين يديه عملا صالحا ينجيه من كرب يوم القيامة، ويظله بظل العرش العظيم يوم لا ظل إلاظله: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمول: ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) متفق عليه. (¬3) البقرة: 280.

((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر (¬1) أو يضع عنه (¬2))) (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أنظر معسرا، أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)) (¬4). ولقد ورد في هذا الموضوع نصوص كثيرة، وكلها تؤكد أن تنازل الدائن للمدين لا يضيع عند الله، وإنما سيكون ذلك في صحيفته، وسيعوضه الله الكريم الوهاب بتجاوزه عن دين أخيه تجاوزا أكبر وأغنم وأعظم، يجبر التقصير، ويقيل من الزلل، وينجي من الهول، يوم يقوم الناس لرب العالمين: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كان رجل يداين الناس، وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه)) (¬5). وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس (¬6)، وكان موسرا، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر. قال الله عز وجل: ((نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه)) (¬7). ¬

_ (¬1) أي يفرج عنه كربه بتأخير دفع الدين إن كان دائنا، أو بدفع الدين عنه. (¬2) أي من الدين. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. (¬5) متفق عليه. (¬6) أي يعاملهم بالبيوع والمداينة. (¬7) رواه مسلم.

عفيف لا يتطلع إلى المسألة

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أتي الله بعبد من عباده آتاه الله مالا، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال:- ولا يكتمون الله حديثا- قال: يا رب آتيتنى مالك، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أتيسر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال الله تعالى: ((أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي))، فقال عقبة بن عامر، وأبو مسعود الأنصاري رضي الله عنهما: ((هكذا سمعناه من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). عفيف لا يتطلع إلى المسألة: على أن المسلم الحق عفيف مستغن، لا يتطلع إلى المسألة، إذا ألم به ضيق تذرع بالصبر، وضاعف من الجهد، وحرص على ألا يقف موقف المستعطي المستجدي المستدر أكف المحسنين؛ ذلك أن هدي هذا الدين يربأ بالمسلم أن يضع نفسه في هذا الموقف، ويهيب به أن يستعف ويستغني ويصبر، وسيعينه الله ويهبه الغنى والصبر والعفاف: ((من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خيرا وأوسع من الصبر)) (¬2). إن الإسلام الذي جعل في أموال الأغنياء حقا للفقراء، يتقاضونه بغير منة ولا أذى ولا غضاضة، أراد للفقراء في الوقت نفسه أن يستغنوا عن هذا الحق، وأعلن أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن على المسلم الحق أن يعمل دوما على ألا تكون يده السفلى؛ ذلك أجدر به وأليق وأكرم، وفي ذلك دفع للمقلين أن يضاعفوا من جهودهم، وألا يتكلوا على الصدقة والعطاء، وفيه حفط لماء وجوههم، وصون لكراماتهم، أن تتعرض يوما لأذى، ومن هنا ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) متفق عليه.

آلف مألوف

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلن من على المنبر، وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة، أن ((اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة)) (¬1). آلف مألوف: والمسلم الواعي المستنير بهدي دينه دمث آلف مألوف، يألف الناس ويخالطهم ويوادهم، ويألفه الناس ويخالطونه ويوافونه، وهذه صفة اجتماعية راقية، يتصف بها المسلم الراقي الذي وعى رسالة دينه، وأدرك أن الاتصال بالناس في المجتمع وكسب ثقتهم من أهم واجبات المسلم، وأنه الوسيلة الفعالة الناجعة لإسماعهم كلمة الحق، وتعريفهم بالقيم والمثل العليا التي يحملها؛ ذلك أن الناس لا يستمعون إلا لمن يألفون ويثقون به، ولا يقتنعون بكلام إلا إذا صدر ممن يحملون له شيئا من الثقة والود والقبول؛ ومن هنا جاءت النصوص تعلي من شأن هذا النمط الذي يألف ويؤلف، وتجعله من الفئة المختارة، أحب الفئات إلى الرسول الكريم، وأقربها منه مجالس يوم القيامة: ((ألا أخبركم بأحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؟ فأعادها ثلاثا أو مرتين، قالوا: نعم يا رسول - صلى الله عليه وسلم -، قال: أحسنكم خلقا)) (¬2). وزادت بعض الروايات: ((الموطأون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون)). إن من صفات المؤمن أن يكون آلفا مألوفا، يحب الناس ويحبونه، يقبل عليهم وبقبلون عليه، وإذا لم يكن كذلك فإنه لا يستطيع أن يؤدي رسالة، ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه أحمد وإسناده جيد.

ولا يرخى لأمر، ولا ينهض بعبء، ومن كان كذلك لا خير فيه، كما جاء في الحديث الشريف: ((المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) (¬1). ولقد ضرب الرسول الكريم لأمته المثل الأعلى في حسن سلوكه مع الناس، وبراعته في تأليف القلوب، ودعاها للتاسي به في القول والعمل والسلوك، ورسم لها السبيل القصد في كيفية التسرب إلى قلوب الناس، والوصول إلى حبهم وإعجابهم ومودتهم، فقد كان صلوات الله عليه دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا له عنده في الحق سواء، الناس في مجلسه متعادلون، يتفاضلون بالتقوى، متواضعون، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، يؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. وكان صلوات الله عليه لا يوئس منه راجيه، ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك من الناس ثلاثا: كان لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستحلبونه في المنطق، ويقول: إذا رأيتم صاحب حاجة فارفدوه (¬2)، ولا يقبل ¬

_ (¬1) رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح. (¬2) أي أعينوه.

يخضع عاداته لمقاييس الإسلام

الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام (¬1). وتحدثنا السيدة عائشة أنه كان يتقي شرار الناس، ويستميلهم بلين الكلام وحسن المعاملة؛ فقد استأذن رجل عليه فقال: ((ائذنوا له: بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة))، فلما دخل ألان له الكلام، فقالت عائشة: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام، قال: ((أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس (أو ودعه الناس) اتقاء فحشه)) (¬2). ولا ريب أن المسلم الحق يترسم خطا نبيه الأمين في معاملته الناس، صالحهم وطالحهم، بحيث يكون محبوبا مألوفا مقبولا لدى الناس جميعا. يخضع عاداته لمقاييس الإسلام: ومن أهم ما يميز المسلم الحق الواعي إخضاعه كل عادة مألوفة في مجتمعه لمقاييس الإسلام، ومن هنا كانت قيمه الاجتماعية مستمدة كلها من تصور الإسلام ومفاهيمه ومنطلقاته الأصيلة المتميزة. فهو لا يتختم بالذهب؛ لأن التختم بالذهب حرام على الرجال في دين الإسلام، أعلن ذلك رسول الإسلام إذ رأى رجلا يلبس في أصبعه خاتما من ذهب، فقال: ((أيعمد أحدكم إلى جمرة نار فيضعها في يده؟)) (¬3). ثم نزع الخاتم من أصبع الرجل وطرحه أرضا. وهنا تجلت روعة الطاعة ¬

_ (¬1) انظر حياة الصحابة 1/ 22، 23. (¬2) رواه البخاري ومسلم. (¬3) رواه مسلم.

والامتثال والانصياع لأمر الله ورسوله في ذلك الرجل، إذ قال له أصحابه: خذ خاتمك المطروح فانتفع بثمنه، فقال: لا والله، لا أرفع شيئا طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمسلم الحق لا يأكل ولا يشرب في آنية الذهب والفضة، ولا يلبس الحرير والذيباج؛ لأن الرسول الكريم نهى عن ذلك في أحاديث كثيرة، منها حديث حذيفة رضي الله عنه الذي يقول فيه: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال: ((هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة)) (¬1). وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) (¬2). وفي رواية لمسلم: ((إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب))، وفي رواية له أيضا: ((من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم)). وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنما يلبس الحرير من لا خلاق له (¬3) في الآخرة)) (¬4). وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريرا فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في شماله، ثم قال: ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) أي لا نصيب له. (¬4) رواه البخاري.

((إن هذين حرام على ذكور أمتي)) (¬1). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم)) (¬2). وعن حذيفه رضي الله عنه قال: نهانا النبى - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه)) (¬3). والمسلم الحق يحرم ذلك على نفسه امتثالا لأمر الرسول الكريم، قبل أن تبدو له علة التحريم، اجتماعية نفسية كانت أم اقتصادية، إذ أن دستوره في التحليل والتحريم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬4). وهو لا يتبع ما يسمى اليوم بـ (الموضة) في تقاليد الخطبة والزواج، مما أخذناه عن الغرب كالعمي أو الببغاوات التي تقلد دونما تفكير وترو وتبصر، كلبس خاتم الخطبة في اليد اليمنى، ثم نقله ليلة الزفاف إلى اليد اليسرى، ولا يسمح بدخول مصور غير محرم يلتقط له ولزوجه الصور التذكارية لليلة الزفاف، وغير ذلك مما ألفه الناس في مجتمعاتنا التي منيت بالغزو الفكري والنفسي، فأضحت صورة مشوهة عن المجتمعات الغربية، وهي تحسب أنها لا تزال تنتمي إلى الإسلام الانتماء الكامل. ومن تلك العادات التي يسقطها المسلم الواعي من حياته الاجتماعية ¬

_ (¬1) رواه أبو داود بإسناد حسن. (¬2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. (¬3) رواه البخاري. (¬4) الحشر: 7.

عادة تعليق الصور ونصب التماثيل في البيوت، واقتناء الكلب في البيت إلا لحراسة؛ فقد اشتد الإسلام في محاربة هذه العادات، وجاءت نصوصه القاطعة تحرم ذلك على المؤمنين تحريما لا مجال للترخص فيه: عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الذين يصنعون هذه الصورة يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر، وقد سترت شهوة (¬2) لي بقرام (¬3) فيه تماثيل. فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلون وجهه! وقال: ((يا عائشة، أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله!)). قالت: فقطعناه، فجعلنا منه وسادة أو وسادتين (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس، فيعذبه في جهنم. قال ابن عباس: فإن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا روح فيه (¬5). وعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) (¬6). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: واعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) أي نافذة صغيرة. (¬3) أي ستر. (¬4) متفق عليه. (¬5) متفق عليه. (¬6) متفق عليه.

السلام في ساعة يأتيه فيها فجاءت تلك الساعة ولم يأته! قالت: وكان بيده عصا فطرحها من يده، وهو يقول: ((ما يخلف الله وعده ولا رسله))، ثم التفت، فإذ جرو كلب تحت شريره، فقال: ((متى دخل هذا الكلب؟)) فقلت: والله ما دريت به، فأمر به فأخرج، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وعدتني فجلست لك ولم تأتني)). فقال: ((منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة)) (¬1). والنصوص في ذلك كثيرة، وكلها تحرم نشر الصور ونصب التماثيل. ولقد كشفت الأيام عن حكمة ذلك التحريم، وبخاصة في هذا العصر الذي يسارع فيه المنافقون والمتزلفون وأصحاب المطامع والشهوات إلى الطغاة يزينون لهم التمادي في طغيانهم، ومن ذلك إقامة التماثيل لهم في حياتهم أو بعد مماتهم، ليجعلوا منهم آلهة أو أنصاف آلهة، يتربعون على عرش العظمة، ويلهبون ظهور المستضعفين بالسياط. إن الإسلام الذي جاء بعقيده التوحيد، وحطم أوثان الشرك والجاهلية منذ خمسة عشر قرنا، ليأبى لهذه الأوثان أن تعود مرة أخرى إلى حياة المسلمين، باسم تخليد الزعيم الفلاني تارة، وباسم تكريم الفنان الفلاني تارة أخرى، وباسم تعظيم العالم أو الشاعر أو الأديب الفلاني تارة ثالثة، والمجتمع الإسلامي مجتمع موحد، لا يعرف التعظيم والتقديس والتبجيل إلا لله، ومن هنا لا مكان فيه لمثل هذه الأوثان والأنصاب. أما اقتناء الكلب، فلا مانع منه إذا كان لصيد أو ماشية أو أرض، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

يتأدب بأدب الإسلام في طعامه وشرابه

((من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان)) (¬1). وأما اقتناء الكلاب على الطريقة الغربية في البيوت، والعناية بها وتدليلها، وتخصيص أطعمة وصابون (شامبو) لها، وإنشاء حمامات خاصة بها، إلى غير ذلك مما ينفق عليه الغرب والولايات المتحدة بلايين الدولارات في العام، فليس من الإسلام وعاداته السمحة في شيء. وإذا كانت ظروف القوم النفسية في الغرب، والحياة المادية الجافة التي يحيونها انحرفت بهم إلى هذا التطرف في تربية الكلاب، ليعوضوا بها عن عاطفة الحب الإنساني التي فقدوها في حياتهم الاجتماعية، فإن الحياة الاجتماعية في الإسلام ريا بالعاطفة الإنسانية، ولا حاجة بها لمثل هذا الانحراف (¬2). يتأدب بأدب الإسلام في طعامه وشرابه: ومن أهم ما يميز المسلم الحق أدبه على الطعام. فإذا ما وجد في مجتمع على مائدة طعام عرفته من آداب طعامه وشرابه التي جاء بها الهدي النبوي العالي، ورغب كل مسلم أن يتحلى بها. فهو لا يبدأ الطعام حتى يسمي الله، ويأكل بيمينه، وما يليه، عملا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) (¬3). وإذا نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أول طعامه استدرك ما فاته فقال: ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) انظر تحليلا لهذا الانحراف 154 - 156. (¬3) متفق عليه.

بسم الله أوله وآخره، كما في الحديث الذي روته السيدة عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره)) (¬1). ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهتم جدا بذكر الله تعالى على الطعام، ويحض أصحابه على ذلك لما في هذا الذكر من خير كثير للآكلين، ودفع للشيطان وأذاه عن الطعام وآكليه: فعن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما لم نضع أيدينا حتي يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضع يده. وإنا حضرنا معه مرة طعاما، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضغ يدها في الطعام، فأخذ رسول الله بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذ بيده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله تعالى عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما، ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل)) (¬2). أما المسألة الثانية فهي أكله بيمينه؛ فالمسلم المتأدب بأدب الإسلام يأكل بيمينه، ولا يأكل بشماله، وقد جاء الأمر بالأكل باليمين، والنهي عن الأكل بالشمال، واضحين صريحين في أحاديث كثيرة، منها قول الرسول الله: ((إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه مسلم.

وقوله: ((لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله)). وكان نافع يزيد فيها: ((ولا يأخذ بها ولا يعط بها)) (¬1). وكان الرسول الكريم إذا رأى أحدا يأكل بشماله نهاه ووعظه وأدبه، وربما اشتد ودعا عليه إذا رأى منه كبرا وإصرارا على فعلته: فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلا أكل عند رسول الله بشماله، فقال: ((كل بيمينك)) قال: لا أستطيع. قال: ((لا استطعت))! ما منعه إلا الكبر! فما رفعها إلى فيه (¬2). ذلك أن الرسول الكريم يحب التيامن في كل شيء، ويحض على الأخذ به، وفي ذلك يروي الشيخان والإمام مالك عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بلبن قد شيب بماء من البئر، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر الصديق، فشرب، ثم أعطى الأعرابي، وقال: ((الأيمن فالأيمن)). وأتي مرة بشراب، وكان عن يمينه غلام (¬3)، وعن يساره أشياخ، فشرب، ثم قال للغلام: الشربة لك، فهل تتنازل عنها لهؤلاء الأشياخ؟ فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بسؤرك أحدا يا رسول الله، والحديث المروي في هذا عن سهيل بن سعد رضي الله عنه، ونصه: ((أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب، فشرب منه، وعن يمييه غلام وعن يساره ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم. (¬3) هو ابن عباس.

أشياخ، فقال للغلام: ((أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟)) فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا، فتله (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده (¬2). إن هذه الشواهد والنصوص، وأمثالها كثير، لتدل دلالة قاطعة على أن التيامن أدب هام جدا من آداب الإسلام، يأخذ المسلم الحق به نفسه دونما تساهل أو ترخص أو تراخ، وهذا ما كان عليه الصحابة والتابعون، لا يشذ عن ذلك منهم أحد، ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعير هذا التيامن أهمية كبرى، ولا يتغاضى عمن يتساهل فيه. وفي إحدى جولاته على الرعية متفقدا أحوالهم رأى رجلا يأكل بشماله، فقال له: يا عبد الله كل بيمينك، ورآه ثانية يأكل بشماله، فخفقه بالدرة، وقال له: يا عبد الله كل بيمينك، ورآه مرة ثالثة يأكل بشماله، فخفقه بالدرة، وقال له بحدة: يا عبد الله كل بيمينك، فأجاب الرجل: يا أمير المؤمنين إنها مشغولة، فقال عمر: وما شغلها؟ قال: شغلها يوم مؤتة (¬3)، فبكى عمر، وأقبل على الرجل معتذرا مواسيا قائلا له: من يوضئك؟ من يقوم بحاجاتك؟ من يعينك على أمورك؟ ثم أمر، بإنصافه ورعايته. إن اهتمام أمير المؤنين عمر رضي الله عنه بهذه الجزئية في سلوك رجل من الرعية ليؤكد أهمية هذه الجزئية، ودلالتها الكبيرة على شخصية المسلم، وتعبيرها عن هويته المتميزة، وحرص عمر الشديد على تطبيقها في حياة المسلمين. ومن هنا لا يجوز التساهل فيها أو التغاضي عنها. وأحب أن أسوق هذا الكلام إلى المسلمين الذين أخذوا بنظام المائدة الغربية القاضي بجعل الشوكة على اليسار، والسكين على اليمين، ليقطع ¬

_ (¬1) أي وضعه. (¬2) متفق عليه. (¬3)) أي قطعت في غزوة مؤتة.

الأكل بيمينه، ويتناول اللقمة بيساره، فاتبعوه دونما تعديل، فإذا هم يأكلون بيسارهم مخالفين بذلك هدي دينهم، ولم يكلفوا أنفسهم أن ينقلوا الشوكة إلى اليمين، والسكين إلى اليسار، ليأكلوا بيمينهم خشية أن يخدش (الإتيكليت) الغربي. وهذا لون من ألوان الهزيمة النفسية التي منيت بها أمتنا أمام ما يفد إلينا من أشياء مستحدثة، نعكف على تطبيقها دونما تعديل أو تكييف يوائم شخصيتنا وديننا وقيمنا الأصيلة. والمسلم الحق بعيد عن هذا التقليد الببغاوي الأعمى التافه الهزيل. إن المسلم الواعي البصير المعتز بهدي دينه القويم وأدبه العالي الرفيع في شؤون الحياة كافة ليعمد إلى الأكل باليمين، داعيا إلى ذلك، ولا يخجل أن يجهر به في المحافل والمجتمعات التي لا تزال تتمسك بحرفية ما جاءنا من الغرب، حتى يتنبه الغافلون واللامبالون، ويثوبون إلى رشدهم في اتباع هدي السنة النبوية المطهرة في التيامن في الطعام والشراب. وأما المسألة الثالثة، فهي أكله مما يليه، عملا بأدب الإسلام في تناول الطعام. وقد جاء به الأمر النبوي أيضا صريحا واضحا مع التسمية والأكل باليمين في أحاديث كثيرة، ومنها قوله فيما رواه عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: كنت غلاما في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وكانت يدي تطيش في الصحفة (¬2)، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) (¬3). وإذا تناول المسلم طعامه بيده تناوله برفق ولطف وتهذيب، كما كان يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان يتناول طعامه بأصابع ثلاث، ولا يغمس يده كلها ¬

_ (¬1) أي تحت نظره. (¬2) أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الصحفة، وهي الإناء. (¬3) متفق عليه.

في الطعام على نحو تشمئز منه الأنظار وتنفر النفوس، وهذا ما حكاه كعب بن مالك رضي الله عنه قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها)) (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بلعق الأصابع وسلت الصحفة (¬2)، وذلك فيما يروى عن جابر رضي الله عنه من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: ((إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)) (¬3). وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث، وقال: ((إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها، وليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان))، وأمرنا أن نسلت القصعة، وقال: ((إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)) (¬4). وفي هذا الهدي النبوي الكريم، فضلا عن التماس البركة، حض على نظافة الأيدي والآنية؛ ومسحها من بقايا الأطعمة أليق بالإنسان المهذب النظيف، وأدل على نظافته وترتيبه وذوقه المرهف. وقد وصل الغرب اليوم إلى الأخذ بهذه العادة الحسنة التي قررها الرسول الكريم منذ خمسة عشر قرنا؛ فالأوربيون اليوم يمسحون الصحون ولا يدعون فيها شيئا. وبدهي أن المسلم المرهف الحس المتأدب بأدب الإسلام لا يتمطق في أكله، ولا يشخر، ولا ينفخ حين مضغه الطعام محدثا أصواتا منفرة مزعجة، ولا يكبر اللقمة بحيث يصبح منظر فيه منتفخا مزريا قبيحا. ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أي مسحها. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه مسلم.

فإذا فرغ من طعامه، فاه بالحمد لله عز وجل بالصيغة الرائعة التي علمنا إياها الرسول الكريم، شاكرا نعمته، ملتمسا منه أجر ومثوبة الحامدين الشاكرين. فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع مائدته قال: ((الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه، ربنا)) (¬1). وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل طعاما فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدتم من ذنبه)) (¬2). ولا يعيب المسلم المتأدب بأدب الإسلام الطعام مهما كان، أخذا بالهدي النبوي في ذلك، وجريا على فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يأتيه الطعام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((ما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما قط: إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه)) (¬3). وأما آدابه في الشراب فمستمدة أيضا من أدب الإسلام الذي أدب الإنسان، فأحسن تأديبه في كل شأن من شؤون الحياة. فهو يشرب على دفعتين أو ثلاث، بعد التسمية، ولا يتنفس في الإناء، ولا يشرب من فم السقاء ما أمكنه ذلك، ولا ينفخ في الشراب، ويشرب قاعدا إن استطاع. ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. (¬3) متفق عليه.

يفشي السلام

أما الشرب على دفعتين أو ثلاث، فهو ما كان عليه الرسول الكريم، كما أخبر بذلك أنس رضي الله عنه بقوله: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفس في الشراب (¬1) ثلاثا)) (¬2). ولقد نهى الرسول الكريم عن الشرب دفعة واحدة بقوله: ((لا تشربوا واحدا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم)) (¬3). ونهى عن النفخ في الشراب، وجاء ذلك في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: أرى القذاة فيه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فأهرقها)) قال: ((إني لا أروى من نفس واحد، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((فأبن القدح عن فيك ثم تنفس)) (¬4). ومن استعراض الأحاديث الواردة في أدب الشراب يتبين أن الأحسن صنعا والأمثل طريقة ألا يشرب المسلم المهذب من فم السقاء ما أمكنه ذلك، وأن يشرب قاعدا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فذلك أمثل وأكمل وأفضل، كما تدل على ذلك الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، وإن كان الشرب من فم السقاء وفي حالة القيام جائزين؛ لأن الرسول الكريم شرب في هذه الحالات جميعا. يفشي السلام: ومن أدب المسلم الاجتماعي المميز إفشاؤه السلام. وإفشاء السلام في الإسلام ليس تقليدا اجتماعيا، تعاور على وضعه وتنظيمه البشر في عصورهم ¬

_ (¬1) أي يتنفس خارخ الإناء. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. (¬4) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

المختلفة، فهو يتغير ويتطور تبعا للبيئة الاجتماعية والعصر الذي وضع فيه، وإنما هو أدب محدد منظم أصيل، أمر به رب العزة في كتابه الحكيم، ونظمه ووضع قواعده الرسول الكريم في أحاديثه الثرة الغزيرة التي أفردها المحدثون بباب مستقل سموه (كتاب السلام)، أو (باب السلام). لقد أمر الله تعالى المؤنين بالسلام في محكم كتابه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا (¬1) وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (¬2). وأمر برد التحية بأحسن منها أو بمثلها، ومن هنا كان واجبا على كل من سمع تحية أن يردها ولا يتجاهلها أو يتهاون في ردها: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (¬3). وجاء الهدي النبوي ثرا غزيرا يحض بحرارة على إفشاء السلام وإسماعه من نعرف ومن لا نعرف؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) (¬4). وكان السلام إحدى الوصايا السبع التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته بها، ليلتزموها في حياتهم الاجتماعية، وتلتزمها الأمة الإسلامية من بعدهم، وهي كما عددها البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، ¬

_ (¬1) أي تستأذنوا. (¬2) النور: 27. (¬3) النساء: 86. (¬4) متفق عليه.

وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار المقسم)) (¬1). لقد أعطى الرسول الكريم قضية السلام جانبا كبيرا من اهتمامه، وحض على تطبيقه، وحبب فيه، في قسم كبير من أحاديثه، لما كان يعلم من أثره الكبير في تفجير ينابيع الحب في النفوس، وتوثيق عرى القلوب، وإحكام وشائج الود والتقارب والتصافي بين الأفراد والجماعات، حتى إنه جعله سبب المحبة التي تفضي إلى الإيمان، الموصل إلى الجنة، وذلك في قوله: ((والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) (¬2). وجعل أولى الناس بالله ومرضاته ونعمه وخيراته من يبدأ الناس بالسلام: ((إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام)) (¬3). ولذلك كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يغدو إلى السوق فلا يمر على أحد إلا سلم عليه، وسئل يوما: ما تصنع في السوق، وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ فقال: ((إنما نغدو من أجل السلام على من لقينا)) (¬4). وللسلام في المجتمع الإسلامي صيغة واحدة يلتزمها المسلم الحق الواعي آداب دينه، الحريص على تطبيق هديه المتميز الأصيل، وهي: ((السلام عليكم ورحمة الله وبركاته))، يقولها المبتدئ بالسلام هكذا بضمير ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه أبو داود بإسناد جيد، ورواه الترمذي بنحوه وقال: حديث حسن. (¬4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

الجمع، ولو كان المسلم عليه واحدا، ويقول المجيب: ((وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته)). ولا يغني عن هذه الصيغة الشرعية الأصيلة صيغ أخرى قديمة مثل: عم صباحا، أو صيغ مستحدثة كصباح الخير، التي هي ترجمة حرفية لـ ( Good morning) بالإنكليزية، أو ( Bonjour) بالفرنسية، وما إلى ذلك من صيغ تفشت في مجتمعات المسلمين المتخلفين عن هدي دينهم القويم. إن تحية الإسلام هذه هي التحية التي اصطفاها الله تعالى لخلقه منذ خلق آدم، علمه إياها، وأمره أن يحيي بها الملائكة، وأراد لذريته على مدى عصورها واختلاف أمصارها أن تتمسك بها، لما تحمل من معنى السلام، أحب شيء للإنسان في كل زمان ومكان. ولم تبق على هذه التحية الربانية الأصيلة سوى أمة الإسلام التي بقيت على الملة الحنيفية السمحة، لم تغير فيها ولم تبدل، ولم تنحرف عن هديها ولم تمل، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لما خلق الله آدم - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله)) (¬1). لا بدع إذا أن تكون هذه الصيغة هي التحية المباركة الطيبة؛ لأنها جاءتنا من عند الله تعالى، وأمرنا أن نتخذها تحيتنا، ولا نعدل عنها إلى سواها: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) النور: 61.

ومن أجل ذلك التزم بصيغتها جبريل عليه السلام حين قرأ عائشة السلام، وكذلك التزمت السيدة عائشة رضي الله عنها بصيغة الرد، كما جاء في الحديث المتفق عليه: ((عن عاثشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا جبريل يقرأ عليك السلام)) قالت قلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته)) (¬1). وللسلام في الإسلام قواعد أيضا، يحرص المسلم الحق على اتقانها وتطبيقها بدقة في حياته الاجتماعية، وتتلخص هذه القواعد في الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير)) (¬2). وفي رواية للبخاري: ((والصغير على الكبير)). والسلام يكون على الرجال وعلى النساء أيضا، يشهد لذلك حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم)) (¬3). ويكون السلام أيضا على الصبيان، تعويدا لهم على آداب التحية والسلام؛ فعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله (¬4). ومن قواعد السلام وآدابه في الإسلام أن يلقى في الليل برفق وتؤدة وخفض صوت، بحيث يسمعه اليقظان، ولا يوقظ الوسنان، وهذا ما كان ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه الترمذي وقال حديث حسن. (¬4) متفق عليه.

لا يدخل غير بيته إلا باستئذان

يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه المقداد رضي الله عنه في حديثه الطويل، قال: ((كنا نرفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - نصيبه من اللبن، فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما، ويسمع اليقظان، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم كما كان يسلم)) (¬1). ويكون السلام عند الدخول إلى المجلس وحين القيام منه وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة)) (¬2). لا يدخل غير بيته إلا باستئذان: ولا يدخل المسلم الواعي آداب دينه بيتا غير بيته إلا باستئذان. وهذا الاستئذان أمر رباني، لا يجوز التهاون في شأنه أو التغاضي عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا (¬3) وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... } (¬4). إن الدخول إلى بيوت الناس لا يكون نقيا خاليا من الشوائب بعيدا عن الشبهات، إلا إذا كان بإذن أهله. ومن هنا لا مجال للتلصص والاستغفال والترقب والتسرب والدخول غير المشروع الذي يخفي وراءه الريب والشكوك؛ ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. (¬3) أي تستأذنوا. (¬4) النور: 27 - 28، 59.

ذلك أزكى وأنقى لسمعة الزائر والمزور، وهذا ما أراده الله لعباده المؤمنين حين شرع الاستئذان. وللاستئذان آداب حرص الإسلام على تجليتها للمسلم، وأمره بالتحلي بها كلما قادته قدماه إلى زيارة إنسان. وأولها: ألا يقف أمام الباب، بل يأخذ يمنة أو يسرة، وهذا ما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فعن عبد الله بن بسر، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى بابا يريد أن يستأذن لم يستقبله، جاء يمينا أو شمالا، فإن أذن له، وإلا انصرف)) (¬1). ذلك أن الاستئذان جعل من أجل البصر، كما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) (¬2). ومن هنا لا يجوز للمستأذن أن يقف في مواجهة الباب حيث ينصب البصر حين فتحه. وثانيها: السلام فالاستئذان، ولا يصح الاستئذان قبل السلام؛ بهذا جاء الهدي النبوي العالي في حديث ربعي بن حراش، قال: ((حدثنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبى - صلى الله عليه وسلم -، وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخادمه: ((أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟)) فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبى - صلى الله عليه وسلم -، فدخل (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬2) متفق عليه. (¬3) أخرجه البخارى في الأدب المفرد.

وثالثها: أن يسمي نفسه بما يعرف به من اسم أو كنية، إذا قيل له: من أنت؟ ولا يقول كلمة غامضة مثل: أنا، ونحوها؛ فقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجيب الطارق بكلمة أنا التي لا تفصح عن هوية صاحبها وشخصيته، وأمر بذكر الاسم الصريح عند السؤال. عن جابر رضي الله عنه قال: ((أتيث النبى - صلى الله عليه وسلم -، فدققت الباب، فقال: ((من هذا؟، فقلت: أنا، فقال: ((أنا أنا؟!)) كأنه كرهها)) (¬1). لقد علمنا الرسرل الكريم بذلك أن السنة في أدب الاستئذان ذكر الاسم الصريح، وهذا ما كان عليه هو وصحابته الأكرمون. فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وحده، فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال: ((من هذا؟)) فقلت: أبو ذر)) (¬2). وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت: أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل، وفاطمة تستره، فقال: ((من هذه؟)) فقلت: أنا أم هانئ)) (¬3). ورابعها: أن يرجع إذا قيل له: ارجع، دون أن يجد في نفسه شيئا من غضاضة؛ إذ بذلك جاء أمر الله في كتابه العزيز: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (¬4). وبذلك أيضا جاءه الهدي النبوي العالي، مبينا أن الاستئذان ثلاث، فإن ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه. (¬4) النور: 28.

أذن للمستأذن دخل، وإلا رجع، وذلك في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك (¬1)، وإلا فارجع)) (¬2). واستاذن أبو موسى الأشعري مرة على عمر فلم يأذن له، فانصرف، فأرسل إليه عمر، ودار بين الاثنين حديث حول الاستئذان والرجوع، من المفيد إيراده بنصه، ليطلع القارئ على دقة الصحابة الكرام في تقصي هدي الرسول الكريم، وحرصهم على وضعه موضع التطبيق، قال أبو موسى: ((استأذنت على عمر فلم يؤذن لي- ثلاثا- فأدبرت، فأرسل إلي فقال: يا عبد الله، اشتد عليك أن تحتبس على بابي؟ إعلم أن الناس كذلك يشتد عليهم أن يحتبسوا على بابك، فقلت: بل استأذنت عليك ثلاثا، فلم تؤذن لي، فرجعت [وكنا نؤمر بذلك]. فقال: ممن سمعت هذا؟ فقلت: سمعته من النبى - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أسمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع؟ لئن لم تأتني على هذا ببينة لأجعلنك نكالا، فخرجت حتى أتيت نفرا من الأنصار جلوسا في المسجد، فسألتهم، فقالوا: أو يشك في هذا أحد؟ فأخبرتهم ما قال عمر، فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا. فقام معي أبو سعيد الخدري - أو أبو مسعود- إلى عمر، فقال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد سعد بن عبادة، حتى أتاه، فسلم، فلم يؤذن له، ثم سلم الثانية ثم الثالثة، فلم يؤذن له، فقال: قضينا ما علينا. ثم رجع، فأدركه سعد، فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما سلمت من مرة إلا وأنا أسمع وأرد عليك، ولكن أحببت أن تكثر من السلام علي وعلى أهل بيتي. فقال أبو موسى: والله إن ¬

_ (¬1) أي فإن أذن لك فادخل. (¬2) متفق عليه.

يجلس حيث ينتهي به المجلس

كنت لأمينا على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أجل، ولكن أحببت أن أستثبت)) (¬1). وفي رواية لمسلم أيضا أن عمر قال معاتبا نفسه حين ثبت له الحديث: ((خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألهاني عنه الصفق بالأسواق)). يعني الخروج إلى التجارة في الأسواق. يجلس حيث ينتهي به المجلس: وللمسلم الحق الواعي المستنير أدبه المتميز أيضا في المجلس الذي يغشاه، وإنه لأدب عالم مستقى من هدي الرسول القولي والعملي، يجعل من تحلى به آية في الرقي الاجتماعي والدماثة الخلقية. وأول ما يتعلمه المسلم من هذا الهدي الرفيع الجلوس حيث ينتهي به المجلس، فلا يتخطى الرقاب، ولا يزاحم الجلوس ليفسحوا له مكانا بينهم في صدر المجلس، متبعا بذلك السنة الاجتماعية القويمة التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة الكرام حين يغشون مجلسه الكريم. فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: ((كنا إذا أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس أحدنا حيث ينتهي)) (¬2). فالمسلم المتأدب بهذا الأدب العالي يتحاشى أن يقحم نفسه بين اثنين، فيفرق بينهما إلا بإذنهما حين تدعو ضرورة إلى ذلك؛ ذلك أن تفريقه بينهما بغير إذنهما مما نهى عنه الرسول الكريم، وحذر منه بقوله: ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. وانظر: الأدب المفرد، الحديث 1073. (¬2) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح غريب.

((لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما)) (¬1). ذلك أن اقحام الشخص نفسه بين اثنين، سواء كان ذلك في مجلس أم في غير مجلس، من الأمور المستكرهة المستهجنة التي اشتد الإسلام في تبيان قبحها، والتنبيه إلى تجنبها. والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة جدا، ومنها ما يرويه سعيد المقبري، يقول: ((مررت على ابن عمر ومعه رجل يتحدث، فقمت إليهما، فلطم في صدري فقال: إذا وجدت اثنين يتحدثان فلا تقم معهما، ولا تجلس معهما، حتى تستأذنهما. فقلت: أصلحك الله يا أبا عبد الرحمن، إنما رجوت أن أسمع منكما خيرا)) (¬2). وإذا قام له أحد من المجلس ليجلسه مكانه لم يقبل الجلوس فيه؛ ذلك أكرم وأفضل وأمثل، وأشبه بما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا)) (¬3). وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه (¬4). وإذا ما استقر به المجلس كان في أحاديثه وتصرفاته متأدبا ما استطاع بأدب الرسول الكريم حين كان يجالس الناس؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه مسلم. (¬5) انظر حياة الصحابة 1/ 22 - 23.

يجتنب التثاؤب في المجلس ما استطاع

يجتنب التثاؤب في المجلس ما استطاع: والمسلم المهذب الواعي آداب المجالس لا يتثاءب في مجلسه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإذا ما غشيه التثاؤب وغلبه على أمره حاول دفعه ما استطاع، وهذا ما أرشد إليه الرسول الكريم بقوله: ((إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع)) (¬1). أما إذا كان التثاؤب أقوى من أن يكظم أو يدفع، فليضع يده على فمه، وبهذا أمر الرسول الكريم بقوله: ((إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل)) (¬2). إن التثاؤب في المجالس قبيح منفر لا يليق بالإنسان المهذب. ومن هنا لا بد من دفعه أو تحاشيه بستر الفم الفاغر المتثائب باليد، وحجب منظره عن الجالسين، بذلك جاء الهدي النبوي الكريم معلما المسلم التصرف الاجتماعي اللبق الذي لا ينفر الجالسين، ولا يشعرهم بملل المتثائب من مجالستهم، ورغبته في انصرافه عنهم أو انصرافهم عنه. يأخذ بأدب الإسلام عند العطاس: وكلما وضع الإسلام أدبا للتثاؤب في المجالس، وضع أدبا للعطاس، فعلم المسلم كيف يفعل إذا دهمه العطاس، وماذا يقول، وكيف يشمت العاطس ويدعو له. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يجب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. (¬2) رواه مسلم.

تعالى كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله. وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان)) (¬1). إن هذا الحادث الانعكاسي البسيط لا يمر في حياة المسلم دون أن يكون له ضوابط وقواعد وآداب، تجعل المسلم يحس في أعماقه أن هذا الدين جاء لصلاح أمره كله، فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا نظمها ووضع لها الصيغ الخاصة بها التي تربط الإنسان دوما بالله رب العالمين. فإذا ما عطس فعليه أن يقول: الحمد لله، وعلى سامعه أن يقول: يرحمك الله، وعليه أن يجيب على دعاء صاحبه بدعاء: يهديكم الله ويصلح بالكم، وهذا ما أرشد إليه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه البخاري: ((إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاجبه: يرحمك الله. فإذا قال له: يرحمك الله فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم)) (¬2). وصيغة هذا الدعاء: ((يرحمك الله)) تسمى التشميت، وتقال للعاطس على سبيل الاستحباب إذا حمد الله تعالى، فإن لم يحمد الله فلا يشمت، وفي ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه)) (¬3). وعن أنس رضي الله عنه قال: ((عطس رجلان عند النبى - صلى الله عليه وسلم -، فشمت ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه البخاري. (¬3) رواه مسلم.

لا يحد نظره في بيت غيره

أحدهما، ولم يشمت الآخر، فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني؟ فقال: ((هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله)) (¬1). ومن استعراض هذه الصيغ التي حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على قولها في العطاس يبرز الغرض الكبير منها في ذكر الله وحمده، وتعزيز وشائج الإخاء والمودة والتصافي بين المسلمين؛ فالعاطس يحمد الله على تفريج ما اعتمل في رأسه من تحسسات وتفاعلات وتهيجات، والسامع يدعو له بالرحمة إذا سمعه يحمد الله، وحامد الله يستحق دوما رحمة الله، فيقابل العاطس دعاء مشمته بدعاء أطول منه وأشمل، يفيض بمعاني الخير والمحبة والود والإيناس. وهكذا يوجه الإسلام الحوادث العفوية العابرة في حياة المسلمين ليتخذ منها مناسبات تذكر المسلمين بربهم، وتطلق ألسنتهم بحمده، وتعزز في نفوسهم وشائج الأخوة والمودة والتراحم. ومن أدب العطاس أن يضع الإنسان يده على فمه، ويخفض صوته ما استطاع، وهذا ما كان يفعله الرسول الكريم حين العطاس. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض -أو غض- بها صوته. شك الراوي)) (¬2). لا يحد نظره في بيت غيره: ومن أدب المسلم في المجالس أنه لا يحد نظره في بيت جليسه، ولا ينقب عن العورات فيه؛ فذلك ليس من خلق المسلم الحيي الستير المؤدب. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

لا يتشبه بالنساء

وقد توعد الرسول الكريم أصحاب العيون المرسلة في المجالس، المنقبة المتفحصة ثغراتها وعوارتها، وأحل فقء عيونهم، إذ قال: ((من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه)) (¬1). لا يتشبه بالنساء: وفي المجتمع الإسلامي السليم لا تجد المسلم يتشبه بالمرأة، ولا المرأة تتشبه بالرجل؛ ذلك أن تشبه كل جنس بالآخر حرام في شرعة الإسلام، فالرجل في المجتمع الإسلامي رجل له صفاته وخصائصه ومهماته، والمرأة امرأة لها صفاتها وخصائصها ومهماتها، ولا ينبغي أن تزول الفروق بينهما في المظهر والمخبر سواء. ومن هنا اشتد الإسلام في وعيده المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال (¬2)، والمترجلات من النساء. وفي رواية: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)) (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) هم الذين يتشبهون بالنساء في حركاتهم وكلماتهم. (¬3) رواه البخاري. (¬4) رواه أبو داود بإسناد صحيح.

إن ما نشاهده اليوم في بعض المجتمعات الإسلاميه من وجود نفر من الشباب أطال شعره حتى غدا كالفتاة يصعب التمييز بينهما، وبخاصة إذا علق في عنقه سلسلة ذهبية تدلت على صدره المكشوف، ومن وجود فتيات ارتدين البنطالات الضيقة المجسمة والقمصان المشتركة بين الرجال والنساء، وقد كشفن رؤوسهن، وحسرن عن سواعدهن، حتى غدون كالشباب من الرجال، إن هذه المشاهد دخيلة على المجتمعات الإسلامية، وفدت إليها من الغرب الفاجر والشرق الكافر سواء، حيث عمت موجات الهيبية والوجودية والعبثية والعدمية وما إلى ذلك من ضلالات زاغت بها البشرية، وانحرفت عن جادة الفطرة الإنسانية السوية، وكان من نتائجها الوخيمة وثمراتها المرة هذا التيه الذي يتخبط فيه شبابهم من الجنسين. وقد أصابنا منه شواظ ودخان، تلبس بعض الشاردين والشاردات في مجتمعات المسلمين، في عهود الانتكاس والفتنة والشرود والضلال، حتى بدوا غرباء عن جسم الأمة الإسلامية، دخلاء على مجتمعها الأصيل المتميز.

خاتمة وتعقيب

10 - خاتمة وتعقيب لقد جلت الفصول السابقة شخصية الإنسان المسلم كما أرادها الإسلام، وصورتها نصوصه القاطعة من آيات بينات وأحاديث صحيحة، موضحة علاقة الإنسان المسلم بربه، وتحقيقه التوازن الحكيم في نفسه بين جسمه وعقله وروحه، مبينة صلاته الاجتماعية بغيره، كالوالدين، والزوجة، والأولاد، والأقرباء من ذوي الأرحام، والجيران، والإخوان والأصدقاء، وأبناء مجتمعه قاطبة بكل فئاتهم وأنماطهم وطبقاتهم. وبدا واضحا مما تقدم في تلك الفصول: أن الإنسان المسلم الذي أراده الإسلام إنسان فذ فريد في أخلاقه وصلاته الفردية وعلاقاته الاجتماعية جميعا. وبدا واضحا أيضا أن الإنسان في تاريخه الطويل لم يحظ بمكونات الشخصية الفاضلة المتكاملة كما حظي الإنسان المسلم حين تلقى إشراقة الوحي والهداية الربانية من نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة. ذلك أن الإسلام لم يحفل بحشو عقل الإنسان بالمعارف الفلسفية كما صنع اليونان، ولا بالروحانيات المهومة المغرقة كما فعل الهنود، ولا بتربية الجسم الرياضية كما فعل الرومان، ولا بالفلسفة المادية النفعية كما يعنى العالم المادي اليوم شرقيه وغربيه سواء، وإنما اختط الإسلام منهجا متوازنا متكاملا في تربية الإنسان، آخذا بعين الاعتبار جسمه وعقله وروحه، انطلاقا من نظرته القويمة للإنسان على أنه مخلوق مكون من جسم وعقل وروح.

من هنا بدت شخصية الإنسان المسلم متوازنة سوية متكاملة، لا يطغى فيها جانب على آخر، كما يقع في المجتمعات التي يربي الإنسان فيها مناهج البشر القاصرة التي كثيرا ما تتحكم في وضعها الأهواء والبدع والمفاهيم المنحرفة والضلالات. إن شخصية الإنسان المسلم، كما جلتها هذه الدراسة، طائعة لله، منصاعة لهديه، أوابة إلى حماة، راضية بقضائه وقدره، همها دوما مرضاة ربها. وهي شخصية متوازنة تعطي للجسم حقه من العناية، وللمظهر ما يستوجبه من الرعاية، ولا يلهيها هذا المظهر عن المخبر اللائق بالإنسان الذي كرمه الله، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السموات والأرض، بل تعنى بما يكون فيها العقل الراجح، والتفكير السديد، والمنطق السليم، والفهم العميق لحقائق الأشياء، والنظرة النافذة إلى لب هذه الحقائق وجوهرها، ولا يعزب عنها أن الإنسان ليس مكونا من جسم وعقل فحسب، وإنما له قلب يخفق، وروح ترفرف، ونفس تهجس، وأشواق عليا تدفعه إلى الاستعلاء على هذه الحياة المادية وحطامها، والصعود في معارج الخير والفضيلة والنور، ومن هنا تعنى بالتربية الروحية كما تعنى بالتربية الجسمية والعقلية سواء بسواء، في توازن محكم دقيق، بحيث لا يطغى جانب من هذه الجوانب على آخر. وهي مع الوالدين مثال للبر الصادق، والإحسان الجميل، والرحمة المتناهية، والتهذيب الكامل، والوفاء العميق. وهي مع الزوجة مثال لحسن العشرة، ولطف المعاملة، وذكاء التصرف وعمق الفهم لتكوين المرأة ونفسيتها ومزاجها، وحسن القوامة عليها.

وهي مع الأولاد شخصية تدرك المسؤولية الكبرى التي تحملها إزاءهم، وهي، إذ تغمرهم بالحب والحنان والعطف، لا تغفل التربية والتوجيه، متنبهة إلى كل ما يؤثر في تكوين شخصياتهم التكوين الإسلامى السوي الأمثل. وهي مع الأرحام من ذوي القربى الشخصية الواصلة حبل الود، الجامعة للشمل، الواعية ما للرحم من مكانة في شرعة الإسلام، تجعل الإنسان المسلم واصلا لها، مهما تكن الظروف والأحوال. وشخصية المسلم الحق مع الجيران نموذج لحسن الجوار، وطيب المعاملة، ومراعاة المشاعر والأحاسيس، واحتمال الأذى، والإغضاء عن الأخطاء، والتحرز عن الوقوع فيها، والتخلق الدائم بخلق الإسلام الذي أصل التوصية بالجار على لسان الروح الأمين، حتى ظن الرسول الكريم أن جبريل سيورثه، ومن هنا لا تبدر منه بادرة سوء نحو جاره، ولا يند عنه تقصير في حقه، بل إنه لا يألو جهدا في إسداء المعروف إليه، ولا ينتظر على معروفه مكافأة ولا جزاء ولا شكورا. أما علاقته بإخوانه وأصدقائه، فهي أنقى وأصفى وأطهر علاقة؛ إنها علاقة الحب في الله، وهو الحب الأخوي الصادق الصافي الذي استمد صفاءه وشفافيته من مشكاة الوحي وهدي النبوة، فكان نسيج وحده في تاريخ الأخوة الإنسانية والعلاقات البشرية. وقد انبثق عن تلك العلاقة الوثيقة وهذا الحب الكبير طائفة من غرر الأخلاق، جعلت المسلم الحق نموذجا عجيبا من البشر، تمثلت فيه قيم الإسلام وأخلاقه، فإذا هو مع إخوانه وأصدقائه محب لا يجفو، وفي لا يخون، ناصح لا يخدع، رفيق لا يغلظ، سمح عفو لا يحقد ولا يضطعن، كريم يؤثر إخوانه على نفسه، ويدعو لهم دوما بظهر الغيب. وأما علاقاته الاجتماعية مع الناس جميعا، فهي علاقات الإنسان

المهذب الراقي النبيل المتحلي بمكارم الأخلاق التي حض عليها الإسلام، فهي ليست من الذماثة المصطنعة أو التخلق الموقوت الذي يخفي وراءه ما يخفي من نوايا ومآرب وأغراض، وإنما هي الأخلاق الدائمة التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة، وجعلت التخلق بها دينا يحاسب المرء عليه. فهو صادق مع الناس جميعا، لا يغش ولا يخدع ولا يغير، ولا يحسد، موف بالعهد، متصف بالحياء، عفو متسامح غفور، طليق الوجه، خفيف الظل، حليم، يجتنب السباب والفحش وبذيء الكلام، لا يرمي أحدا بفسق أو كفر بغير حق، حيي ستير، لا يتدخل فيما لا يعنيه، بعيد عن غيبة الناس والمشي بالنميمة بينهم، يجتنب قول الزور وظن السوء، إذا اؤتمن على سر حفظه ولم يفشه، متواضع لا بتكبر ولا يسخر من أحد، يجل الكبير ويحترم صاحب الفضل، ويعاشر كرام الناس، يحرص على نفع الناس ودفع الضر عنهم، ويسعى للصلح بين المسلمين، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يعود المريض، ويشهد الجنازة، يكافئ على المعروف ويشكر عليه، يخالط الناس ويصبر على أذاهم، يدخل السرور على القلوب ما استطاع إلى ذلك سبيلا، يدل الناس على الخير، يحب التيسير ويجتنب التعسير في الأمور كلها، عادل في حكمه، لا يظلم ولا يحابي ولا ينافق ولا يداهن ولا يرائي، ولا يباهي بأعماله ومنجزاته، مستقيم لا ينحرف ولا يلتوي ولا يتلون مهما تكن الظروف، يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، لا يتنطع في كلامه، ولا يصغر خده للناس، كريم جواد، لا يمن على من يعطيهم أو يسدي إليهم معروفا، مضياف، لا يتبرم بالضيف ولا يضيق به ذرعا إن ألم به، يؤثر على نفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ينفس عن المعسر، عفيف لا يتطلع إلى المسألة، ويرى اليد العليا خيرا من اليد السفلى، آلف مألوف، يخضع عاداته كلها لمقاييس الإسلام، ويتأدب بأدبه في طعامه وشرابه وسلامه

وزياراته للناس ودخوله عليهم ومجالسته إياهم، وغير ذلك من الأعمال كالصلات الاجتماعية ... هذه هي الصورة الوضيئة الجلية المشرقة لشخصية الإنسان المسلم الذي صاغه الإسلام، وارتوت نفسه من مناهله العذاب، واستنار عقله وقلبه وروحه بنوره الرباني اللألاء. ولعمري إن الوصول بالإنسان إلى مثل هذا المستوى العالي الشفيف من مكارم الأخلاق، وترجمتها سلوكا حيا يمشي على الأرض، لأكبر إنجاز حضاري تتطلع إلى تحقيقه النظم والشرائع والفلسفات و (الأيديولوجيات)، وإنه لإنجاز، دونه المنجزات العلمية المادية التي غمرت عالمنا اليوم، وبهرت بأضوائها وألوانها القلوب والأبصار؛ ذلك أن الإنسان أكرم وأغلى المخلوقات في الوجود، وما بذلت الجهود المضنية عبر القرون وقامت الحضارات البشرية إلا من أجل إسعاده وترقيته وتكريمه، ومناط تكريمه إنسانيته؛ ولهذا كانت الحضارة التي تهتم بإشباع غرائز الإنسان الدنيا، ولا تعنى بتنمية إنسانيته وتزكيتها، وتفجير ينابيع الخير فيها، حضارة قاصرة ناقصة، أخلت بأهم شروط الحضارة الإنسانية، إذ أغفلت إنسانية الإنسان، وهي جوهرته المكنونة، وأثمن شيء فيه. ولا يغني عن الاهتمام بإنسانية الإنسان والعناية بها شيء مما وصلت إليه الحضارة البشرية من مخترعات: كالمدافع والصواريخ، والأقمار الصناعية و (الترانزستور) و (التلفاز) و (الفيديو) و (الكومبيوتر) و (الأنترنت) وغير ذلك من منجزات العلم، ما لم تسخر جميعها من أجل السمو بالإنسان وإسعاده وتزكية نفسه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬1). ¬

_ (¬1) الشمس: 7 - 10.

إن رقي المجتمعات لا يقاس بما حققت من منجزات العلم، وما اكتشفت في عالم المادة من مخترعات فحسب، وإنما يقاس بهذا، وبشيء أهم منه، وهو سيادة القيم الإنسانية فيها، من حب وتعاطف وإيثار وتضحية واستقامة ونظافة في التصور والسلوك والمعاملة. وإذ كان الأفراد هم أساس المجتمعات، والدعائم التي تبنى عليها كل نهضة اجتماعية، عنيت المجتمعات الإنسانية الراشدة بتربية الإنسان، فنمت فيه جوانب الخير والبناء، وحاولت أن تستل من نفسه نزعات الشر والهدم، ليغدو مواطنا صالحا، إذ من مجموع المواطنين الصالحين يتكون المجتمع الصالح القوي الراقي النظيف. والمجتمع الإسلامي مجتمع متكامل راق من الطراز الأول، الإنسان المسلم فيه اجتماعي من النمط الرفيع، بما لقن من أحكام دينه الحق، وبما تمثل من أخلاقه الإنسانية الرفيعة النبيلة التي دعا إليها، وحض على التخلق بها في مجال التعامل الاجتماعي. إن ما نشهده اليوم من تخلف وفرقة وشحناء وقطيعة تقع بين صفوف المسلمين على مستوى الدول والشعوب والأفراد، إن هو إلا دليل صارخ على بعد المسلمين عن عروة الله الوثقى، وتنكرهم لرابطة الإيمان المتينة، ونقضهم لوشيجة الأخوة القويمة، ومن هنا نبتت في بلادهم الدعوات الجاهلية الضالة، وغزتهم المبادئ الأجنبية المستوردة، فارتفعت في سماء المسلمين رايات ورايات، وتسربت إلى مجتمعاتهم سموم وآفات، جعلت منهم غثاء كغثاء السيل. وما كان ذلك كله ليقع في حياة المسلمين، لو سلمت للمسلم شخصيته الأصيلة، وسلمت له مناهله الفكرية والروحية. ولكن الغارة على العالم الإسلامي كانت تستهدف شخصية المسلم،

وتستهدف مناهله الفكرية والروحية أيضا، وكان المغيرون يحاربون الإسلام والمسلمين على جبهتين؛ مهمة الأولى زحزحة المسلم عن شخصيته الأصيلة، ومهمة الثانية تلويث مناهله الفكرية والروحية، أو تحويله عنها إلى مناهل أخرى غريبة عنه. ولقد استطاعوا في كثير من بلاد المسلمين أن يهزوا شخصيه المسلم، ويزحزحوها عن أصالتها، ويزجوا بها في حمأة التبعية الفكرية والشعورية والسلوكية، ويعروها من قيم دينها وأخلاقياته ويفرغوها من المحتوى الرباني الذي به أخرجت للناس، وبه دخلت التاريخ، وبه كانت شيئا مذكورا في حياة الإنسانية. ولن يرد إلى شخصية المسلم عافيتها وأصالتها إلا عودة صادقة إلى منهج الله الخالد، وفهم عميق لحقيقة الرسالة المنوطة بالإنسان المسلم في هذه الحياة، يضع المسلمين أمام واجباتهم الكبرى في حمل هذه الرسالة للناس، بعد أن يتمثلوها عقيدة وعبادة وسلوكا ومنهاج حياة. ويوم تفيء أمتنا التائهة في دروب الجاهلية، الغارقة في ظلام التبعية، الضالة في متاهات العصبية، يوم تفيء أمتنا إلى ظلال منهج الله الوريف الظليل، تعود كما كانت أمة موحدة متراصة متحابة قوية عزيزة حرة، وعندئذ لن يفل لها سلاح، ولن تنكس لها راية، ولن يهزم لها جيش؛ إنها يومئذ أمة الإيمان، ولقد تأذن رب العزة في محكم كتابه أن ينصر دوما أمة الإيمان: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) الروم: 47.

§1/1