شبهات حول السنة

عبد الرزاق عفيفي

مقدمة

[مقدمة] شبهات حول السنة بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره علي الدين كله وكفى بالله شهيدًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإِحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن الله تعالى قد منَّ على عباده بإرسال محمد عليه الصلاة والسلام، وإنزال القرآن الكريم عليه، وإيتائه السنّة التي هي صنو القرآن الكريم من حيث حجيتها ومنزلتها في التشريع {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] فالكتاب هو القرآن العظيم، والحكمة هي السنَّة النبوية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم.

وقد فرض الله على الناس الأخذ بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من السنَّة، وبيَّن أنها قسم من الوحي وجزء منه، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال جل وعلا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] فالسنَّة النبوية هي قسيمة القرآن تندرج معه في الوحي الإلهي، وهي تبينه وتوضحه، والأخذ بها سبب للاهتداء كما يدل لهذا قول الله عز وجل {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] فمن كان نصيبه من طاعة النبي عليه الصلاة والسلام والأخذ بسنَّته والاستمساك بها أكمل كان حظه من الاهتداء أتمَّ، وعكسه بعكسه، فإن الإنسان يفوته من الاهتداء بقدر ما فاته من السنَّة علمًا وعملا. ومن تمام نصح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم

لأمته وحرصه عليهم ومحبته الخير لهم أوصاهم بسنّته، وحثهم عليها، وأمرهم بالأخذ بها، كما في قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تَأمَّرَ عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثَات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» . . [رواه الإمام أحمد في المسند (4 / 126) ، والترمذي في كتاب العلم (2600) ، والدارمي في المقدمة (95) ] . ومن دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام إخباره بما يكون من الدعوة إلى ترك سنَّته والاكتفاء بالقرآن، وتحذيره ممن يدعو إلى ذلك، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» [رواه أبو داود في كتاب السنَّة (3988) ] .

وقد وقع مصداق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام فوجد قديما وحديثًا من يدعو إلى الاقتصار على القرآن، ويقلل من شأن السنّة وأهميتها، ويطعن في نقلها وحملتها وعلمائها وأهلها. ومن حفظ الله لدينه وفضله على عباده أن هيأ لسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم من يحفظها وينقلها ويعلّمها وينافح عنها وينفي عنها الدخيل، ويدحض شبهات المبطلين ويفندها. وهذا الكتاب إسهام كريم من العلامة الكبير الشيخ / عبد الرزّاق عفيفي في نصرة السنَّة النبويَّة، كتبه قديما في تفنيد شبهات أعدائها وخصومها، فرحمه الله رحمة واسعة ورفع درجاته وأعلى منزلته. ويأتي نشر هذا الكتاب قيامًا من الوزارة ببعض الواجب في نصرة السنَّة والذَّب عنها والذود عن حياضها، وإسهامًا منها في دحض ما يروّجه المبطلون وتفنيد ما يزعمونه، ونصحًا للمسلمين، وامتدادًا لجهود المملكة

العربية السعودية في نصرة الإسلام والعناية بمصدريه العظيمين القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة اللذين منهما تستمد المملكة دستورها ومنهاجها. والله المسؤول أن ينفع بهذا الكتاب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى اَله وصحبه وسلَّم. وكالة المطبوعات والبحث العلمي

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . وبعد: فلا بد من الإقرار والتصديق بوقوع الرسالة، وهي صلة بين الله جل شأنه وبين أنبيائه، ووجوب تكليف العباد بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهذه الأصول الأولى لا بد من إثباتها؛ حتى يكون الاحتجاجٍ بما ورد في السنَّة على إثبات أحكام شرعية، احتجاجا مبنيًّا على أساس وحتى لا يحتاج الناس بعد ذلك إلا إلى دفع شُبه قد ترد. لا بد أن يكون الأصل ثابتًا * من جهة ما أجمع عليه: من وجود موح يوحي بشرع ومن وجود رسل يُوصلون إلى العباد ليهْدوهم سواء السبيل. * ومن جهة الوجوب: وجوب ما جاءت به الرسل

عقيدة وعملا على الأمة التي أرسلت إليها الرسل. فإذا أراد الإنسان أن يستوفي الموضوع فلا بد له من أن يبدأه من أوله، ومن الأساس. أما هذه الرسالة، فستكون في موضوع شبه، أو بعض الشّبه التي وردت على الاحتجاج بالسنَّة أو العمل بها، أو اعتقاد ما جاءت به. * * *

اختلاف موقف المدافع عن السنة باختلاف حال من يورد الشبهة

[اختلاف موقف المدافع عن السنة باختلاف حال من يورد الشبهة] اختلاف موقف المدافع عن السنة باختلاف حال من يورد الشبهة إن المسلم الداعية، أو المناظر الذي يثبت حجيَّة السنَّة، والذي يدفع الشبه عنها يختلف موقفه باختلاف من يناظره: فتارة يكون منكرًا للسنَّة من أصلها؛ أي جميع ما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام من الأحاديث قولا أو عملا أو خُلُقًا، ينكره ويكتفي بما جاء في القرآن الكريم، فموقفه الواجب مع هؤلاء أن يثبت لهم حاجة المسلمين في فهمهِم للقرآن وعملهم بالقرآن، حاجتهم في ذلك إلى السنّة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا. * * *

شبهات حول السنة

[شبهات حول السنة] [الشبهة الأولى الاقتصار على القرآن وإنكار السنة وجوابها] الشبهة الأولى الاقتصار على القرآن وإنكار السنة فإذا لم يُحتج بالقرآن؛ وقال: إن الله تعالى أغنانا بالقرآن لقوله فيه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] فالقرآن بيّنٌ، واضحٌ، ومبيِّنٌ لكل شيء، فلا يحتاج معه إلى سُنة، فلماذا نتكلف البحث فيها والركون إليها أو الاحتجاج بها؟ لماذا نتكلف هذا مع أن الله تكفل لنا ببيان كل ما نحتاج إليه في محكم كتابه لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النحل: 89] وهو القرآن {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] فلا حاجة إلى أن نكلف أنفسنا عناء البحث في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعمل بما فيها وقد أغنانا (¬1) بالقرآن عنها، ويقول سبحانه في آية ¬

(¬1) الأولَى أن يقال: " وقد أغنانا الله بالقرآن عنها ".

أخرى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] ويريدون بالكتاب القرآن، فيكون المعنى ما فرطنا في القرآن من شيء، ففي القرآن كل شيء فلا حاجة إلى السنَّة، وهذا إنكار للسنَّة بجملتها أو إنكار للحاجة إليها وإلى الاحتجاج بها في الجملة، اكتفاءً بما جاء في القرآن بهاتين الآيتين. * الجواب على هذه الشبهة: وقد أجاب العلماء عن الاستدلال بهاتين الآيتين بأجوبة منها: أنه أراد بقوله تعالى: {فِي الْكِتَابِ} [الأنعام: 38] في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] المراد به اللوح المحفوظ. والسورة مكية، ولم يكن نزل من القرآن إلا قليل، سورة البقرة مدنية، براءة مدنية، النساء مدنية، آل عمران مدنية، كثير من آيات الأحكام والفروع كثير منها مدني،

وما يتصل بالصلاة إنما وضح وتبين وتكامل في المدينة، وأحكام المعاملات إنما نزلت في القرآن بالمدينة ونزلت أصولها في القرآن بعد الهجرة، وأحكام الجنايات من قصاص وديات نزلت في المدينة. والسورة، سورة الأنعام كلها مكية على الصحيح، قد يكون منها آيات تشبه الآيات المدنية، كآيات الذبح وذكر اسم الله على الذبائح، قد يكون مثل هذا نزل بالمدينة، لكن الغالب عليها أنها مكية، فكيف يكون القرآن؟ كيف يكون في الكتاب الذي هو القرآن بيان كل شيء في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية؟ ، مع أن تلكم الأحكام إنما نزلت أصولها في المدينة لا في مكة. ثم عدد الصلوات وتحديد أوقاتها وعدد ركعاتها وسائر كيفياتها؛ لم تُعرف من القرآن إنما عُرفت من السنَّة. أحكام الزكاة من جهة النصاب ومن جهة المستحقين

لم تكن عُرفت في مكة، بل فريضة الزكاة لم تكن شُرعت في مكة إنما الذي شُرع الصدقات العامة، وفرض الزكاة وبدايتها إنما كان في المدينة، فبيان المستحقين للزكاة إنما نزل في المدينة في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] إلى آخر الآية التي فيها الأصناف الثمانية، ثم النصاب نصاب الزكاة ليس محددًا في القرآن، وشرطها وهو حول الحول ليس محددًا في القرآن ولا مبينًا فيه. فالواقع يدل على أن القرآن اشتمل على الأصول العامة، وأنه لم يكن فيه كل شيء. تفسير الكتاب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فتفسير الكتاب بالقرآن في آية: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] تفسير غير صحيح، إنما المراد به اللوح المحفوظ الذي هدى الله تعالى القلم أن يكتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة.

أما الآية الأخرى وهي: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] فيقال فيها: المراد بالكتاب القرآن، ولكن سورة النحل التي نزلت فيها هذه الآية أو هذه الجملة سورة مكية، ولم يكن نزل التشريع كله في مكة إنما نزلت أصول التوحيد وما يتصل بمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وأما الفروع فقد نزلت في المدينة. فكيف يقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] بالكتاب في هذه الآية من سورة النحل القرآن، لكن ليس المراد ببيانه لكل شيء بيانه لجميع أحكام الفروع، إنما هو مثل الآية التي قال الله فيها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] ؛ إخبارًا عن الريح التي أرسلها الله جل شأنه على عاد قوم هود، أرسل عليهم ريحًا وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] وهي إنما دمرت قوم هود:

دمرت عادًا ودمرت ديارهم، فالأمارات الحسية، أو الأدلة الحسية وواقع الهالكين الذين هلكوا وتحدث الله عنهم في القرآن يدل على أن المراد بالآية الخصوص لا العموم، كذلك قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] إلى آخر الآية هي مما أريد به الخصوص، وإلا ففي أي آية من الآيات بيان عدد الصلوات، وبيان تفاصيل الزكوات، أو بيان الحج إلى بيت الله الحرام بأصله وتفاصيله؟ لم يكن شُرعَ في هذا الوقت إنما شُرعَ في المدينة في السنة التاسعة أو السنة العاشرة على الخلاف بين العلماء، وما كان من حج قبل ذلك فهو على الطريقة الموروثة عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما بنى البيت هو وابنه إسماعيل، وأمره الله أن يؤذن في الناس كان الحج مشروعًا، وممتدا شرعه من أيام رسالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أيام العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمنه،

أما فرضُه في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد نزل ضمن آيات سورة آل عمران، وهذا لم ينزل في مكة، إنما نزل في السنة التاسعة من الهجرة أو في السنة العاشرة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وهو لم يتبين فيه أصل فرضية الحج ولا تفاصيل الحج ولا تفاصيل الصيام. والصيام أيضًا فُرض في المدينة بعد الهجرة بسنة، أين الصيام وتفاصيله؟ ، والجهاد بالسلاح وتفاصيله؟ ، والبيوع وتفاصيلها؟ ، والربا ما نزل إلا في المدينة. فالآية إما أن يقال فيها: إنها من العام الذي أريد به الخصوص، وإما أن يقال: تبيانًا لكل شيء شرعه وفرضه على المسلمين وهم في مكة؛ لأن السورة مكية، {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] مما أوجبه عليهم وشرعه لهم لا أنها بيان لكل حكم من أحكام الإسلام. فهؤلاء الذين أنكروا السنَّة جُملة أو قالوا لا حاجة

إليها جملة بتمامها اكتفاءً بالقرآن واستدلالا بهاتين الآيتين، قد أخطأوا الطريق ولم يعرفوا تاريخ التنزيل، ولم يعرفوا واقع التشريع، وأن بيان ما في القرآن من العبادات والمعاملات واقع في السنّة، ثم أين تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها؟ أين تحريم زواج الإنسان بامرأة أبيه. إنما كان هذا كله في المدينة، تفاصيل الأحوال الشخصية من مواريث، وزيجات، ووصايا، ونكاح، وطلاق، تفاصيل هذا كله إنما كان بالمدينة، في الآيات التي نزلت بالمدينة، وبيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته. فواقع التشريع، وعمل المسلمين جميعًا: برهانٌ واضحٌ يدل دلالة ضرورية على أن السنَّة جاءت بيانًا للقرآن، بيَّنت في مكة ما يحتاجون إليه، بقدر ما نزل من أحكام أصول التشريع، وبيَّنت في المدينة ما طرأت الحاجة إليه من بيوع، ومعاملات، وجنايات، وحدود.

كل هذا ما نزلت تفصيلات آياته إلا في المدينة، ولم يبيِّن الرسول تفصيله قولا وعملا إلا في المدينة. فهذا الاستدلال بالآيتين استدلال مردود، ولا نقول: الآيتان مردودتان، هذا هو التعبير الدقيق، ما يقال: رد على الدليل بكذا، إنما يقال رد على استدلالهم بالآيتين بكذا. قلت ابتداءً: إن موقف الداعية من المدعوين يختلف باختلاف حالهم، فمن أنكر الاحتجاج بالسنَّة جملة اكتفاءً بكتاب الله- احتج بالآيتين والرد عليهم كما سبق ذكره.

الشبهة الثانية رد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل والجواب عنها

[الشبهة الثانية رد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل والجواب عنها] الشبهة الثانية رد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل أو لمعارضتها المستقر في بعض الأذهان بعض الناس من المسلمين يردُّ بعض أحاديث: إما لمعارضتها لفكره فيما يزعم، أو معارضتها لما يرى أن الطب جاء به، وأن الطب قرَّر قرارًا صحيحًا في أمور لا يليقُ أن يأتي على خلافها حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فأمثال هؤلاء يردون أحاديث: إما لمعارضتها لفكرهم وعقولهم، وإما لمعارضتها لقواعد صحيّة. مثَلاَ: فحديث الذباب والأمر بغمسه إذا سقط في الطعام أو في الشراب: أولا: يرده جماعة ممن اقتنعوا بالطب، وبالنظريات الطبية، وقدسوا النظريات الطبية، ووثقوا بعقول الأطباء وبتجارب الأطباء، أعظم وأقوى من ثقتهم بتشريع الله

وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسنوا نظرهم بالنظريات الطبية أكثر مما حسنوه بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. * وفي هذا طعن في أحد أمرين: - إما طعن في المشرعَ. - أو في المبلَغ وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو خفض لوظيفته ومهمته. * يقولون: إن وظيفة التشريع صيام، وصلاة وكذا. . . وليس له دراية بالطب، وما الذي يدخله في الطب؟ فهو له دائرة محدودة يدور فيها هي دائرة التشريع من صلاة، وصيام، وبيع، وشراء، وأمثال ذلك، فما الذي يدخله في هذا؟ . . . هذا ليس من اختصاصه، فالعمل فيه إنما يكون على النظريات الطبية لا على ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الفن ليس فنًّا له ولا هو من اختصاصه. ثانيًا: وإما أن يكون ردهم لهذا الحديث من جهة أخرى، هي طعنهم في الرواة الذين رووا هذا الحديث.

* الجواب على هذه الشبهة: أما من الجهة الأولى: فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم العلَّة؛ فقال: «إن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء» . وتعليله هذا- وهو أميٌّ لم يدخل مدارس طب، ولم يتفنن بتجارب قام بها- دليلٌ على أنه إنما تكلم بهذا عن طريق الوحي من الله جل شأنه. والله سبحانه عليم بخواص مخلوقاته؛ فهو عليم بجناح الذباب، وما فيه من داء وما فيه من دواء، وأن هذا يكون علاجًا لهذا، يقول الله عزَّ وجلَّ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ومعروف في الذباب، أنه إذا هبط من أعلى إلى أسفل في كل مرة أنه يهبط بميل، حتى الطائرات؛ ما تنزل الطائرة رأسية؛ لا بد أن تنزل مائلة إلا إن كانت طائرات مروحية (هليوكبتر) ، إنما الطائرات العادية المعروفة تنزل مائلة؛ ثم إذا أرادت أن تنزل من الجانب الآخر تميل. . وهكذا، هذا

النظام الكوني والطيور إذا أرادت أن تنزل تنزل بجناح، وإذا أرادت أن تقف في الجو تنصب الجناحين إلى الجانبين كما نراها. القصد أن الذباب كسائر الطيور إذا نزل بالجناح مال على أحد جناحيه، فإذا غمسته كان جناحه الثاني وما فيه من شفاء علاجًا لما أصاب الشراب أو الطعام من الداء الذي نزل في الطعام من الجناح الآخر. فهذا التعليلُ دليلٌ على أنه- وهو أميٌّ لم يقرأ ولم يكتب وليس صاحب تجارب في الطب، ولمْ يدخل مدارس طب، ولا جامعات طب- ليس تخمينا من عند نفسه ودخوله فيما لا يخصه من عند نفسه، إنما هو بوحي من الله جل شأنه والله عليم بمخلوقاته وما فيها من خواص. والرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ عن الله، وقد بلَّغ هذا عن ربه ويجب على الإنسان أن يثق بوحي الله جل شأنه أعظم من ثقته بنظريات الأطباء. إن الأطباء لم يتفقوا على ما بنى عليه هؤلاء المعترضون

على هذا الحديث، هم مختلفون أيضًا فيما بينهم، والمسألة مسألة نظرية اجتهادية من الأطباء. فكيف يُرَدُّ بمسألة نظرية اجتهادية- مازالت تحت البحث- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأما من الجهة الثانية جهة السند: فالسند على طريقة المحدثين سند صحيح مستوف الشروط التي اشترطها علماء الحديث. والناس الذين اعترضوا على هذا الحديث من جهة رجاله ليس عندهم سند يستندون إليه في ذلك، وهم فيِ معاملتهم وقبولهم للأخبار التي تصل إليهم يعتقدون يقينًا أو يظنون ظنًّا غالبًا بما وصلهم من الأخبار، يعتقدون ما دلت عليه فيلزمهم أن يقبلوا ما جاء عن رواة هذا الحديث، لأنهم أوثق وأضبط وأعدل من الرواة الذين يروون لهم أخبارًا بسفر فلان وفي إدانة فلان، وفي شهادة فلان، هم يقبلون ذلك عن أقل من الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

هذا الحديث. ثم إن الذين يردون بعض الأحاديث لأنها لا تتفق مع أفكارهم ومداركهم يسلكون في ردِّها أحد ثلاثة مسالك: * الأول: فإما أن يردوها ويكذبوها، ويقولون: خالفت العقل إن لم يمكنهم أن يؤولوها. * الثاني: وإما أن يتأولوها على خلاف ما دلَّت عليه مع كثرتها. * الثالث: وإما أن يردوها لأنها أخبار آحاد. . وهذا أيضًا وضع غير سليم واعتراض غير سليم فإن عقولهم يعتريها الخطأ والصواب، والوحي- الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وثبت عنهم- جاء عن الصادق الأمين بوحي من ربه، وهو لا ينطق عن الهوى.

الرد على أهل المسلك الأول القائلين برد السنة لمخالفتها العقل

[الرد على أهل المسلك الأول القائلين برد السنة لمخالفتها العقل] الرد على أهل المسلك الأول القائلين برد السنة لمخالفتها العقل فيجب على الإنسان أن يتهم عقله وتفكيره بدلا من أن يتهم رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الرواة العدول، أو أن يتهم ربه في وحيه، وليثق بربه وبرسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من ثقته في تفكيره، فإن العقل قاصر، وجُرب عليه الخطأ كثيرًا ومداه محدود، وما يجهله أكثر مما يعلمه. فعليه أن يعتقد في تفكيره القصور، وأن يعتقد في وحي الله الكمال والصدق، وأن يعتقد- في الرواة الذين استوفوا شروط النقل المضبوطة المعروفة عند المحدثين الثقة بهم أكثر من ثقته بتفكيره. هذا جواب على من ينكر الحديث لمعارضته لتفكيره. فيُقَال اتهم عقلك بالقصور فإن ما يعلمه أقل مما يجهله، اتهم عقلك بالخطأ وبالجهل في تفكيرك لأنك كثيرًا ما تخطئ، وجُرب عليك هذا، أما هؤلاء العدول

الضباط (¬1) الذين استوفوا شروط النقل، نقل الأحاديث، فهؤلاء يندر فيهم أن يخطئ أحدهم وخطؤه إلى جانب صوابه قليل جدًّا، بل نادر. ¬

(¬1) المعروف: الضابطون.

الرد على أهل المسلك الثاني القائلين برد السنة بتأويلها على ظاهرها

[الرد على أهل المسلك الثاني القائلين برد السنة بتأويلها على ظاهرها] الرد على أهل المسلك الثاني القائلين برد السنة بتأويلها على ظاهرها ويمكن لهؤلاء أن يحملوا ذلك النوع من الأحاديث على غير ظاهره وهم يسلكون هذا المسلك في كتاب الله جل شأنه أيضًا، ويتأولون كثيرًا من (1) نصوص آيات الأسماء والصفات ونصوص الرؤية، كقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] وغيرها من آيات الأسماء والصفات. (2) وأحاديث عذاب القبر، ونعيم القبر، وسؤال القبر، وعذاب الأبدان: يحملون العذاب على عذاب الأرواح، وكذلك بعث الأجساد يحملونه على بعث الأرواح. (3) وينكرون عروج النبي صلى الله عليه وسلم ببدنه إلى السماء، وإسراءه من مكة إلى بيت المقدس ببدنه، ويقولون: هذا

إسراء بالروح، وعروج بالروح؛ تحكيمًا للسنن الكونية، والعادات المألوفة في الخلق، فإن الإنسان لا يسير تلك المسافة في جزء ليلة، ولا يعرج إلى السماء السابعة في جزء ليلة. الأنبياء ليسوا كغيرهم في المعجزات، وقياس غيرهم عليهم في المعجزات باطل: ولا ينظرون إلى أن الأنبياء جاءوا بخوارق العادات، فخوارق العادات بالنظر إلى الأنبياء والمعجزات الكونية والسنن الكونية التي خصَّ الله بها الأنبياء، هذه تعتبر عادية بالنظر لخصوص الأنبياء، وإن كانت خارقة للعادة وغير مألوفة بالنظر لغير الأنبياء، فلماذا تقيسون الأنبياء بما أوتوا من الله على الأفراد العاديين، هذا قياس باطل، لا يصح الاحتجاج به؛ لأن الأنبياء يختلفون عن غيرهم في جريان خوارق العادات على أيديهم معجزة لهم.

استطراد في الرد على منكري الإسراء والمعراج

[استطراد في الرد على منكري الإسراء والمعراج] استطراد في الرد على منكري الإسراء والمعراج ثم الإسراء قد ثبت في القرآن، فتأويلهمٍ لا يكون تأويلا لحديث الإسراء، وإنما هو تأويل- أيضا- للقرآن، القرآن جاء فيه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] ثم كثير من النصارى، فقط يعتقدون في عيسى أنه يُحيي الموتى بإذن الله، وَأنه يُبرئ الأكمه الذي ولد أعمى، يبرئه بإذن الله، وأنه يُصوِّرُ طيرًا فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وأنه يُبرئ الأبرص بإذن الله، وليس بطريقة علاج؛ فهو لم يفتح مستشفى، إنما هي خوارق عادات (¬1) وكذلكم اليهود يؤمنون بخوارق العادات، فما الذي ¬

(¬1) والعادات: هي السنن الكونية، وخوارقها: ما يخالف نظامها، وهي ثلاثة أنواع: (الأول) : المعجزة؛ على يد النبي صلى الله عليه وسلم تأييدًا له وتحديا لقومه. و (الثاني) : الكرامة؛ على يد الولي تأييدًا له وإكراما لمتابعته للنبي صلى الله عليه وسلم. و (الثالث) : السحر؛ على يد الساحر المشعوذ فتنة وابتلاءَ.

جعل خوارق العادات لموسى بانفلاق البحر، ونجاة موسى ومن معه على الشاطئ الآخر، وجَعْل الممر يابسًا اثنى عشر طريقًا على عدد الأسباط، حتى لا يتنازع سبط مع سبط جعلها يبسًا يمرون في هذه الممرات دون أن يغرقوا، والماء متماسك بدون حواجز؛ هذا سلب لخاصية الماء، معجزةً لموسى وإكرامًا له ولمن معه حيث أنجاهم بإذنه سبحانه وتعالى، ثم ما جعله نجاةً لموسى ومن معه جعله نكبة ودمارًا وهلاكًا لخصومه وأعدائه. إن الكفار من اليهود والنصارى يعترفون بخوارق العادات وبهذه المعجزات، العرب يؤمنون بإبراهيم عليه السلام، وبأن الله نجّاه من النار حين ألقيَ فيها، فما الذي يجعلهمْ يؤمنون بسلب الله خاصية النار حتى تكون بردًا وسلاما على إبراهيم، ولا يؤمنون بالإسراء بمحمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم العروج به إلى السماء السابعة؟ ! (أ) يذكرون في عروجه، وفي إسرائه، يقولون:

(1) هذه السرعة إلى هذا الحد تمزِّق البدن، لأن احتكاك البدن بالهواء الذي في الجو يُولِّدُ نارًا؛ فيحترق. (2) كذلك الصعود لأعلى بهذه السرعة يُوَلِّدُ نارًا؛ فيحترق، وأي شيء آخر إذا صعد إلى أعلى حتى لم يكن هناك هواء ينفجر ويتمزّق؛ لأن الضغط الخارجي على جلده وعلى جسمه من جميع الجهات بالهواء فُقدَ، فينفجر. (ب) يقولون في الطبقات التي لا هواء فيها: الذين يصعدون في هذه الأيامِ ويريدون القمر، يتزودون ويأخذون لأنفسهم هواء، ويأخذون وقايات من هنا ومن هناك، والعرب ما كان عندهم هذا الاختراع. فكيف صعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أعلى؟ وكيف تغلّب على الجاذبية الأرضية؟ وكيف لم يثبُتْ على الجاذبية التي فوق جاذبية الكواكب (المجموعة الشمسية وأمثالها) ؟

وكيف خلص من الجاذبية الأرضية، ولا أجنحة له، ولا طائرة ركبها، إنما هو بُراق؟ !! هذه شبه يوردونها على الإسراء، ويوردونها على المعراج. وقد ألَّفَ بعض أهل السنَّة في هذا تأليفًا يرد فيه على أولئك، منهم الشيخ محمد عبد الحليم الرمالي (¬1) له رسالة صغيرة في الإسراء والمعراج ذكر فيها جميع الشُبه التي ترد على الإسراء والمعراج سواء كانت من جهة الحديث أو كانت من جهة السنن الكونية، فالرد عليها واحد. والرد: أن خوارق العادات في معجزات الأنبياء سنن تشبه السنن العادية بالنظر لفاعل الخلق جل وعلا، فهم ¬

(¬1) هو الشيخ محمد عبد الحليم الرمالي (شيخ السنة والعالم السلفي المحقق) ، ولد بمصر، وتوفي بها في 22 ذو القعدة سنة 1368هـ، وكان رفيق الشيخ محمد حامد الفقي، كون هيئة لعلماء السنة سنة 1356 هـ، هو والشيخ الفقي، وكان معهم العلامة أحمد شاكر، والعلامة عبد الرزاق عفيفي، وكون أيضا جماعة الاعتصام بهدي الإسلام سنة 1921 بمصر، وكان له دور بارز في الدعوة إلى الله في مساجد جماعة أنصار السنة وغيرها.

في معجزاتهم يسيرون في طريق كوني عادي بالنظر لهم؛ كما أن الناس يسيرون على سطح الأرض سيرًا عاديًّا، وكما أن الطيور ترتفع بأجنحتها ارتفاعًا وصعودًا عاديًّا فالرد واحد: وهو أن هذه المعجزات من خوارق العادات التي أجراها الله جل شأنه على أيدي رسله عليهم الصلاة والسلام. * والموضوع في ذاته طويل إذا دُرس أصله: 1 - من جهة إثبات وجود الله. 2 - إلى جانب إثبات حاجة العباد والمخلوقات إلى موجد. 3 - إلى جانب وحدانية الله في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته وفي تشريعه. 4 - إلى جانب إمكان حاجة البشر إلى الرسالة. 5 - وإمكان الرسالة. 6 - ثبوت الوحي. 7 - وثبوت الرسالة.

فالأمر يحتاج إلى إثبات هذا كله، وهو عبارة عن مقرر توحيد يدرس في سنوات (¬1) وأنا أتكلم في دائرة محدودة في " شبهات حول السنة ". ¬

(¬1) تكلم الشيخ عبد الرزاق رحمة الله على هذه المسائل بإجمال في رسالته المشهورة والمطبوعة باسم (مذكرة التوحيد) .

الرد على أهل المسلك الثالث القائلين برد السنة لأنها أخبار آحاد

[الرد على أهل المسلك الثالث القائلين برد السنة لأنها أخبار آحاد] الرد على أهل المسلك الثالث القائلين برد السنة لأنها أخبار آحاد والذين يعترضون على الأحاديث، أو على بعض الأحاديث: يؤمنون بما تواتر من الأحاديث لفظًا ومعنى، وهو عدد قليل من الأحاديث؛ كحديث: «من كذب عليَّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار» (¬1) أو الأحاديث المتواترة معنى، كأحاديث رؤية الله تعالى (¬2) وأحاديث المسح على الخفين، وأحاديث عذاب القبر ونعيم القبر (¬3) . يؤمنون بمثل هذا: إما لمجيئه في القرآن، وإما لتواتره ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1 / 241) ، ومسلم في صحيحه (1 / 65) . (¬2) رؤية الله جل وعلا ثابتة بالقرآن والسنة الصحيحة، انظر: صحيح البخاري (554) ، ومسلم (633) ، وانظر: كتاب الرؤية للإمام الدارقطني، وحادي الأرواح لابن القيم (204) ، وشرح السنة للالكائي ص240، وانظر: تعليق العلامة ابن عثيمين على العقيدة الواسطية (1 / 448) ، (2 / 57) . (¬3) انظر: الأزهار المتناثرة للأحاديث المتواترة للإمام السيوطي، والنظم المتناثر في الحديث المتواتر للكتاني.

في السنَّة، وإما لوجوده في الاثنين جميعًا. لكنهم لا يؤمنون بأحاديث الآحاد، وذلك لأنهم يرون أنها لا تفيد إلا ظنا غير غالب. فيردون أمثال هذه الأحاديث ولا يحتجون بها أصلا، أو يحتجون بها في الفروع دون الأصول. أما شبهتهم في رد حجية (حديث الآحاد) (¬1) فهم يقولون: إن الراوي يخطئ ويصيب، وإن الراوي قد يكون عدلا فيما يظهر؛ وهو كذاب أو منافق في باطن أمره. ويقولون: إن عمر بن الخطاب ردَّ على أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما- حديثه في الانصراف بعد الاستئذان ثلاثًا. فيقولون: هذا عمر بن الخطاب لم يقبل رواية صحابي جليل لحديث، فهذا يدل على أن في رواية الواحد دخنًا، ¬

(¬1) عقد ابن قيم الجوزية فصلا نفيسا جدا في تفنيد هذه الشبهة في كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، كما في مختصره 2 / 362 و363.

وأنه مثار تهمة فلا نعملُ به حتى يتأيد بغيره (¬1) وقد ورد مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أعرابي. * الجواب على هذه الشبهة: وهذا وأمثاله يُرد عليه بأمرين: الأمر الأول: أن عمر بن الخطاب لم يكذبه إنما أراد: 1 - أن يتثبت من جهة. 2 - وإلى جانب التثبت: خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجترئ الناس على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأظهر لهم القوة حتى يحتاطوا لأنفسهم عند البلاغ فلا يبلغ إلا وهو واثق مما يتكلمِ به، هذا جانب بدليل أنه قَبلَ خبر الواحد في مرات أخر: - قبل خبر الواحد في إملاص المرأة. ¬

(¬1) لو كان عمر رضي الله عنه رد حديث أبي موسى لأنه خبر واحد لاشترط التواتر ولما اكتفى بشهادة واحد على صدق أبي موسى؛ لأن شهادة الواحد والاثنين لا يتحقق بها التواتر، ولا يخرج بها الحديث عن كونه حديث آحاد كما هو مقرر.

- ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتمد خبر الواحد، فكان يُرسل رسولا واحدًا بكتابه (¬1) وما أدرى أولئك أن هذا صادق في أن هذا كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس عندهم بصمة له، ولا عندهم صورة لخاتمه. ما الذي يدريهم بأن دحية الكلبي (¬2) رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف لزمهم البلاغ؟ وكيف أصيب كسرى (¬3) بعذاب من عند الله حينما مزق الكتاب؛ كيف لزمتهم الحجة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل الواحد؛ إلا وهو يعتقد أن الحجة تقوم به، وهذا أمر معلوم بالضرورة من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم أفرادًا إلى جهات لنشر الدعوة وإقامة الحجة، وقد أرسل ¬

(¬1) راجع في ذلك كتاب أخبار الآحاد من صحيح البخاري 13 / 244. (¬2) بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي بكتابه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل، أخرجه البخاري من حديث ابن عباس (6) . (¬3) كسرى لقب لكل من تملك الفرس، وقصة إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه إليه مع عبد الله بن حذافة السهمي، أخرجها البخاري (4424) .

معاذ بن جبل رضي الله عنه ليقضي، ويكون أميرًا في اليمن، وأرسل عليًّا رضي الله عنه وأرسل أبا موسى الأشعري رضي الله عنه. القصد: أن إرسال الواحد من الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكرَّر مرات، وَهو لا يرسله إلا إذا كان يعتقد أن الحجة تقوم به، وأن خبرهُ يجبُ أن يُصَدَّق. والمهم فيه أن يتخير عدلا، أمينًا، صادقًا، وأنه يقوى على البلاغ. وليس من المهم أن يكون عددًا بدليل أنه أرسل فردًا فردًا إلى دول، وليس إلى أفراد، وفى أصل الدين وهو العقيدة وليس في الفروع فقط. فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم يُحتج به على قبول خبر الواحد، ضد هؤلاء الذين يتهمون الراوي إذا كان واحدًا، وإن كان: - عدلا، ضابطًا. - مع اتصال الإسناد.

- ومع عدم مخالفة من هو أوثق منه. - ومع عدم الوقوف على علة قادحة يُرَدُّ بها الحديث. هذا العمل من الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم، وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَبلَ خبر الواحد عدة مرات، فلماذا يتمسكون بهذه القصة، ولا يتمسكون بغيرها وغيرها أكثر منها. الأمر الثاني: في عمر بن الخطاب رضي الله عنه. عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان عنده قوة في التثبت وكان يجتهد ويستوثق أكثر، لا لأنه مُتَّهم لمن استوثق في خبره، كما جاء في حادث التحقيق مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما كان- في العراق- أميرًا وقاضيا وقائد السرية، وإمامًا في الصلاة وخطيبًا في الجمعة، اشتكاه واحد من العراقيين إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكتب إليه كتابا؛ يقول فيه: " إنه لا يخرج بالسرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يحسن الصلاة "، فأرسل شخصًا يُحقِّقُ في الموضوع، مع أنه واثق من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لكن لا يريد

الفتن ولا القلاقل، ويريد أن يستوثق أكثر، وفعلا حقَّقَ داخل المساجد ومرَّ على أناس هنا وهناك، فكلهم يثنون خيرا على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، إلا المكان الذي فيه بؤرة الفساد والرجل الذي بلَّغ فانتصَبَ له، فحكى نفس الكلمة وسعد يسمع، فقال: " اللهم إن كان كاذبًا فأطل عمره، وأدم فقره، وأكثر عياله، وعرّضه للفتن " (¬1) أربع دعوات نظير أربع تهم وجهها الرجل إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فطال عمر الرجل، وكثر عياله، ودام فقره، وكبر في السن حتى صار وهو يمشي في الطريق ينظر إلى النساء بعين خائنة، وقد سقط حاجبه على عينه، فيقال له: ما بك وقد شبت؟ فيقول: مسكين، أصابتني دعوة سعد. أقول: عمر بن الخطاب (لما استخلفَ ستة) (¬2) حينما طُعن، وأيس من أن يبقى، فقالوا: استخلف؟ فقال: لا أحملكم حيًّا وميتًا، ولما ألحوا عليه استخلف ستة يختارون ¬

(¬1) رواه البخاري. (¬2) أخرجه البخاري (3700) .

من بينهم خليفة، واستجاب لهم في الجملة، ثم جعل من الستة سعدًا رضي الله عنه، ثم قال: اعلموا أني لم أعزله لشكِّي فيه ولا اتهامًا له، ولهذا رضي به خليفة باختيارهم إياه، ثم إذا لم تصبه نصحهم بأن يستشيروه، وأن يرجعوا إليه فيما يبرمون من أمور الدولة. فهذا يدل على اتجاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قبول خبر الآحاد. والقصد أن هذا جواب لاعتمادهم على طلب عمر من أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما، أن يأتيه بآخر يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث وأسأل الله أن يوفقني، وإياكم لما فيه رضاه، وأن يشرح صدورنا بالعلم النافع، وأن يجعل لنا بصيرة في إصابة الحق، وأن يوفقنا للعمل بما علَّمنا، فإنه مجيب الدعاء.

الشبهة الثالثة دندنة البعض بأن السنة لم تدون والجواب عنها

[الشبهة الثالثة دندنة البعض بأن السنة لم تدوَّن والجواب عنها] الشبهة الثالثة دندنة البعض بأن السنة لم تدوَّن س1: يدندن بعض المعارضين لحجية السنَّة بأن أسانيد الأحاديث لم تدون إلا بعد قرن من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فما رأي سماحتكم في ذلك؟ * الجواب على هذه الشبهة: هذا صحيح من أحد الجوانب، فإن السنَّة لم تدون أسانيدها إلا في وقت متأخر، أما متون الأحاديث فمن المفروغ منه أنه دونها بعضهم، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- دوَّن وكتب بعض الأحاديث لنفسه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتاب لبعض الوفود فكتبوا لهم كتابًا ببعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده صحيفة لما سُئل: ما عندكم غير الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما عندنا إلا كتاب الله

وهذه الصحيفة وفيها جملة أحكام أخرجه البخاري (111) ، (1870) . وعلى هذا فقد كان بعض السنَّة مدونًا في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لكن هذا ليس بصفة عامة، حيث إن أغلب السنَّة كان غير مدون، ومن دوَّن فقد دوّن لنفسه، أو لجماعة خاصة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. إلا أن أذهان أولئك كانت أذهانًا سيَّالة تغنيهم عن التقييد والكتابة، وقد مُنعوا من الكتابة ابتداءً مخافة أن تلتبس السنَّة بالقرآن، وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة في كتاب العلم في صحيح البخاري (¬1) وغيره من دواوين ¬

(¬1) انظر: كتاب العلم في البخاري، باب كتابة العلم (1 / 246) ، فتح الباري. وقد ذكر البخاري أحاديث تدل على إذن النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة الأحاديث عنه كحديث أبي هريرة (ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب) . قال الحافظ في الفتح (1 / 251) في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن " والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربهما مع أنه لا ينافيها، وقيل: النهي خاص لمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ والإذن لمن أمن من ذلك.

السنّة، أما الأسانيد فلم تكن طويلة في القرن الأول حتى يحتاج المسلمون إلى تدوين هذه الأسانيد، وقد انتهت خلافة عمر بن عبد العزيز صلى الله عليه وسلم على رأس المائة والحال هذه؛ في قوة الدولة الإسلامية، وفي تماسك المسلمين، وحرصهم على الدين، وبقاء عدد من الصحابة رضي الله عنه يأخذ عنهم التابعون، ومن وُجد إلى عهد عمر بن عبد العزيز فقد التقى ببعض الصحابة فهو تابعي، إلا أنه يوجد تابعون كبار وأوساط تابعين وصغار تابعين، فمن أين علم هؤلاء المعارضون أن الذين نقلوا عن الصحابة لم يدونوا لأنفسهم ولم يكتبوا اسم الصحابي الذي روى لهم، إنما الذي تأخر بعد المائة جمع المتون والأحاديث في دواوين مختلطة بالآثار والفقهيات أولا، ثم جُرِّد هذا من هذا في بعض الكتب كما جُرِّد صحيح مسلم من الآثار والفقهيات، وبقي الوضع على هذا في بعض الدواوين؛ مثل صحيح البخاري، وكذلك موطأ مالك الذي فيه ما بين مالك والصحابي رجل واحد أحيانًا كنافع - مولى ابن عمر -، وأحيانًا يكون غيره.

* ففي رد هذه الشبهة يراعى ما يلي: أولا: أنه لم يكن هناك بعد السند الطويل الذي يحتاج إلى تدوين وإلى كتابة الدواوين. ثانيًا: أنه ليس في تأخر تدوين دواوين الحديث إلى ما بعد ذلك دليل على أن أولئك الأتباع لم يكتبوا عمن رووا عنه، من شيخ أو شيخ شيخ، والسند في ذلك الوقت لم يكن فيه سوى راو واحد أو اثنين. ثالثًا ثم الشروط التي اشترطت من جهة الضبط وعدالة الراوي وأمانته واتصال السند كفيلة ببعث الثقة في النفس بأن هذا ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

استفسار وبياناته

[استفسار وبياناته] استفسار وبياناته س2: هل في السنَّة شرع مبتدأ ليس له أصل في القرآن أو زيادة على هذا القرآن، فإذا كان الأمر كذلك فكيف نفرق قول الشاطبي في الموافقات بأثره، ومن تفرع من الراجح من كبار العلماء العز بن عبد السلام في كتابه الفوائد؟ * الجواب: أما سؤال: هل في السُّنة أحاديث ليست في القرآن أو أصلها ليس في القرآن؟ فهذا فيه خلاف ذكره الشاطبي (¬1) في الموافقات وكذلك غيره، والخلاف في هذا يكاد يكون لفظيًّا؛ لأن الذين اختاروا أنه ليس في السنَّة شيء زائد على ما في القرآن، وإنما كل ما وجد في السنَّة فهو بيان لأصل في القرآن، فهؤلاء يتأولون ما قال مخالفوهم بأنه ليس في القرآن بل زائد. فمثلا في الحديث الذي فيه النهي عن الجمع بين المرأة ¬

(¬1) انظر الموافقات (4 / 12) وما بعدها.

وخالتها أو عمتها (¬1) علل فيه الرسول عليه الصلاة والسلام هذا النهي، فقال: " إن تفعلوا ذلك تقطعوا أرحامكم "، فبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا وسيلة لقطيعة الرحم. وهذا التعليل جعله الشاطبي (¬2) وجماعة أصلا من الأصول، وبين أن هذا الأصل من القرآن، وهو الذي بني عليه تحريم الأم، وتحريم الزواج بالبنت، وتحريم الزواج بالأخت، لأنه يصير فيه جانبان متقابلان متعارضان؛ حقوقِ الزوجية للزوج، وحق أمه عليه، وهي أقوى من حُرِّم نكاحه، ولذلك جاء في أول المحرمات في الآية، وكلما تأخر كان أخف في المفسدة، وفي تعارض الحقوق. فلمَّا بيّن الله تعالى في القرآن الأصل الذي بُني عليه تحريم نكاح الأمهات والأخوات؛ وهو أن ذلك يؤدي إلى تعارض الحقوق وتقطع الأرحام أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا في حديث ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5109) ومسلم (1408) ، وأخرج البخاري (5108) عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. (¬2) انظر الموافقات (4 / 43) .

النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. وعلى هذا يكون حديث النهي بيانا للتعليل الذي بني عليه تحريم من حرم نكاحه في نص القرآن، وقد فهمه النبي صلى الله عليه وسلم وعلل به، وبهذا لم يكن الحديث زائدا عن التقعيد الذي في القرآن، إنما هو استنباط من ذلك التعقيد. وكان التحريم فيه أخف، لأن تقطيع الرحم فيه أقل، وتعارض الحقوق فيه أقل، فجاء التحريم في الجمع دون التحريم في أصل الزواج، فله أن يطلِّق المرأة ويتزوج عمتها أو يطلِّق المرأة ويتزوج خالتها، وكذلك فإن أصل هذا التقعيد الذي فيه خفة في المفسدة موجود في تحريم الجمع بين الأختين، لأن الضرة من شأنها أن يقع بينهِا وبين ضرتها الخصومة، فحُرِّم الجمع بينهما مخافة المضارّة التي هي من شأن البشر، وخاصة النساء، فحُرِّم الجمع دون أن يحرم تزوج الأخت بعد وفاة أختها، أو بعد طلاق أختها. ومن أجل هذا يقول الشاطبي ومن وافقه: إنه مبني

على تقعيد مستنبط من القرآن فهو بيان لا تأصيل. أما غيرهم فنظر إلى الظاهر، وأن هذا الحكم لم يكن موجودًا نصًّا، إذًا هو زائد على ما في القرآن، وهذا التعليل موجود في الموافقات للشاطبي ومن أحب فليرجع إليه. س3: في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الداء والدواء في جناحي الذباب (¬1) هل جناح الذباب الذي فيه دواء موافق لهذا الداء الذي في الجناح الآخر؟ أو داء أو مرض غيره؟ وهل الذباب المذكور في الحديث هو الذباب المعروف؟ * الجواب على هذا يتضح مما يلي: أولا: المعروف بالذباب في لغة العرب هو هذا النوع الذي يسقط على القاذورات والأوساخ، والذي يسقط في الطعام أو الشراب، وبهذا الفهم أيضًا هو ما يقصده الأطباء، فهو ليس عامًّا إذن في كل ما يطير بجناحيه. ¬

(¬1) أخرج البخاري (3320) (5782) وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وَقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء ".

ثانيا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا في هذا الحديث أن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً، وهذا يدلنا على أن المراد بالجناح جناح هذا الذباب الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر في هذا عن كونه دواءً لغير هذا الداء، لأنه يعلل ما ذُكر في كلامه بالغمس ولم يجعل صلى الله عليه وسلم هذا تعليلا عامًّا لعلاج كل داء، إنما ذكره بمناسبة الداء الذي في جناح الذبابة، يقول: «فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاء» . إذن فقوله صلى الله عليه وسلم عن دواء في الجناح هو دواء للداء الذي ينزل من الجناح الآخر، ولا يصح أن يقال: إن هذا يتعدى إلى علاج داء آخرإلا بدليل. فالأصل أن ذلك يخص ما ذُكر في الخبر ولا يجوز تعديه إلى غيره، مثل أي طبيب يقول هذا الدواء دواء لهذا الداء، فلو ذهبت إلى الصيدلية لوجدتها مملوءة بالأدوية وكل ما فيها يقال: إنه دواء لكن لا يستعمل كل

دواء في الصيدلية لكل داء أيًّا كان، بل الأدوية التي في الصيدلية موزعة على الأدواء والأمراض، وفق خاصية الداء وخاصية الدواء. وعلى هذا فلا بد للإنسان أن يقف عند ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام دون أن يتجاوزه بجعل هذا الدواء دواءً لكل داء.

الجمع بين حديث الذباب وحديث أنتم أعلم بأمور دنياكم

[الجمع بين حديث الذباب وحديث أنتم أعلم بأمور دنياكم] الجمع بين حديث الذباب وحديث أنتم أعلم بأمور دنياكم س4: كيف نجمع بين حديث الذباب وبين قول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» (¬1) . * الجواب: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في أرض عربية، والبلاد بلاد نخيل، وهو يعرف شيئًا ما عن هذا في الجملة، ولا أقول: إنه يعرف كمعرفة الزراع أو أرباب النخيل والثمار، لكنه مطّلع على ذلك في الجملة، والرسول عليه الصلاة والسلام ما قال: أنا أعلم بأمور دنياكم، بل نفى أنه أعلم بأمور الدنيا منهم، نفى هذا في مسألة النخيل وفي غيرها، فالشؤون التي تتصل بالدنيا هم فيها أعلم، وإنما يعلم منها ما أوحى الله به إليه. ¬

(¬1) أخرج مسلم (2363) من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: لو لم تفعلوا لصلح قال: فخرج شيصًا فمر بهم فقال ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم.

وحيث إن الشيء الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام وأشباهه مما رجع عنه مثل هذه الأمور الاجتهادية، فهذا يدلنا على أنه قال باجتهاده، ولهذا رجع عنها، أما الذي لا مدخل للاجتهاد فيه مثل حديث الذباب إنما مثله يقال من طريق الوحي، بدليل التعليم الذي أشعر بذلك كما تقدم في السؤال السابق. وحيث إنه لم يقل فيه صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ، ولم يرجع عنه، ولم يعارضه أحد، فهذا محمول على أنه وحي من الله. أما ما كان في مسألة النخيل فهو من الأمور التي تؤخذ بالتجارب، وكذلك مسألة النزول على غير ماء في بدر، حين قال الصحابة رضي الله عنه: «أهو الرأي أو هو من الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا هو الرأي. قالوا: لا، الرأي أن ننزل على الماء» (¬1) وهذا يبين أنه أمر اجتهادي. ¬

(¬1) ذكر العلامة الألباني رضي الله عنه أن سند هذا الحديث ضعيف، وانظر: تخريجه لكتاب فقه السيرة للشيخ الغزالي رحمه الله.

فالأمور التي فيها مجال للاجتهاد ومنها تأبير النخل يمكن أن يقول فيها باجتهاده، فإذا أخطأ قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم، والأمور التي لا مجال لمثله للاجتهاد فيها يتبين لنا أنها وحي من الله، ويؤيد هذا التعليل أنه صلى الله عليه وسلم أمي ولا عهد لأمته بالطب الذي من هذا الجنس ولا تجارب عندهم في هذا وخوضه فيه لا يليق برسالته لأنه يكون مجازفًا إذ بنى شيئًا على غير تجربة، ولا مجال لأمثاله في أن يجرب في مثل هذا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء» ، وهذا أمر لا يعلم إلا عن طريق تحليل جناح الذباب، فمن أجل هذا قلت: إن هذا وحي من السماء. أما مسألة تأبير النخل في الحديث المذكور، ففيها نوع من الاجتهاد قد أخطأ فيه صلى الله عليه وسلم، فهو يخطئ في الأمور الاجتهادية من شئون الدنيا، ويهيئ الله له من يتكلم معه ويناقشه فيرجع عن خطئه إلى ما هم عليه صواب، فمن أجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» وهذا في الأمور

التي تكتسب بالخيرة وغيرها. * ومن جهة أخرى: مسألة الذباب لم ينته الأطباء، وأهل الاختصاص فيها إلى رأي واحد، بل مازالت إلى اليوم محل بحث ومحل تجربة، وأكثر ما فيها الاستقذار لسقوط الذباب على الأوساخ وعلى الأذى، وأن النفس تعاف الطعام أو الشراب الذي سقط فيه؛ وقد قلنا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأمر المسلم أن يأكل أو يشرب ما وقع فيه الذباب، وعلى ذلك فهو حر إن شاء أكله أو شربه وإن شاء أعطاه غيره، فلا إشكال في الأمر، وكل ما أمره به أن يغمسه؛ لأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء. * س5: ما حكم من ابتلع من الشراب أو من الأكل الذي وقع عليه الذباب ثم قاءه مع إيمانه بالحديث؟ * الجواب: هذا أشرت إليه في الجواب السابق، وقلت: إن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمر أحدًا بأن يأكله، إنما بيَّن لهم الفائدة في غمسه وأن ما فيه من داء يعالَج

بما فيه من دواء، ولم يأمر مَنْ غَمَسَه بأكله فهذا إليه إن استقذره فهو غير ملزم بأكله لكنه يعطيه من يطعمه ولا يستقذره ولا يضيّع ماله. س6: هل تصح نسبة كتاب النبوات لابن تيمية؟ الجواب، في نظري أنه لابن تيمية، فالأسلوب أسلوبه، وأنا لم أحكم أن نسبته لابن تيمية تثبت بخطوط، فهذا لا أستند إليه ولا أجعله دليلا لي لأني لا أعرف الخطوط، ولا أعرف خط ابن تيمية حتى أطبق على المخطوط، وكذلك لم أحكم من جهة سلسلة موثوق بها من عهد ابن تيمية إلى يومي هذا، فليس عندي ذلك السند إنما الذي أستند إليه في هذا معرفتي بأسلوب ابن تيمية، فإنني إذا قرأت في كتاب الطبري لابن جرير الطبري أو كتب ابن تيمية أعرف طريقته في الاستدلال، وأعرف دورانه وجدله حول الموضوع، وذلك بكثرة قراءتي لكتبه، وأنا قرأت كتاب النبوات وأعرف أن الأسلوب أسلوبه وأن كثيرًا منه موجود في كتب أثق بأنها كتب ابن تيمية غير هذا الكتاب.

حكم من رد السنة جملة وتفصيلا

[حكم من رد السنة جملة وتفصيَلا] حكم من رد السنة جملة وتفصيَلا س7: كيف ترون التعامل مع من يرد سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك جملة أو تفصيلا، خاصة وأن من هؤلاء من يتولون الحكم في بعض بلاد المسلمين اليوم؟ * الجواب: الحكم فيمن رد السنَّة جملة- أي كلها- فهو كافر؛ فمن لم يقبل منها إلا ما كان في القرآن فهو كافر لأنه معارض للقرآن، فهو كافر مناقض لآيات القرآن، والله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32] ويقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ويقول تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .

فقوله: فَاتَّبِعُونِي هذا عام، فحد المفعول طريق من طرق إفادة العموم، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وَمَا من صيغ العموم، وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} [النساء: 59] أي: تنازع الرعية، وأولو الأمر من العلماء والحكام فِي شَيْءٍ فردوه إلى الله والرسول، فلم يجعله إلى الله وحده، بل جعله إلى الله وإلى الرسول، ورده إلى الله رده إلى كتاب الله، ورده إلى الرسول بعد وفاته رده إلى سنته عليه الصلاة والسلام، فدعواه أنه يعمل بالقرآن عقيدة وعملا خلقًا ويرد السنَّة جملة- هذه الطائفة التي تسمى نفسها (القرآنية) - دعوى باطلة، وهو مناقض لنفسه لأنه كذّب آيات القرآن التي فيها الأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ ما جاء به، وطاعته فيما جاء به من عند الله عمومًا دون أن يخص آيات القرآن، ثم هو في الوقت نفسه كيف يصلي؟ ، وكيف يحدد أوقات الصلوات؟ ، وكيف يصوم؟ ، وعن أي شيء يصوم؟ ، وتفاصيل الصيام

كيف يعرفها؟ ، وكيف يحج بيت الله الحرام؟ فليس هناك إلا أركان محدودة من الحج في سورة البقرة، وكذلك أين نصب الزكاة؟ وكيف يزكي؟ ! فمن يدّعي هذا مغالط ومناقض لنفسه، ومناقض للقران؛ لأنه رد آياته الكثيرة التي ورد فيها الأمر بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام والأخذ بما جاء به، ومناقض لإجماع المسلمين ولإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم جميعًا لم يشذ واحد منهم عن الأخذ بالسنَّة، فإذًا هو كافر بالقرآن وإن ادّعى أنه مؤمن به، والكافر بآية منه كالكافر بكل آياته، كافر بالإجماع منكر له، أي: إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فما فيهم واحد شذَّ عن السنة وأنكرها جملة، وإذا أنكر أحدهم شيئًا فإنما ينكر حديثًا من جهة الراوي لا من جهة أنه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، أي: السنَّة. وهذا أيضًا لا يقوى على أن يقوم بالصلوات الخمس على وجهها المعلوم من الدين بالضرورة، فصلاة العصر

الاجتهاد شيء ورد الأحاديث شيء آخر

أربع ركعات، وصلاة الصبح ركعتان، لا يجد هذا في كتاب الله فمن أين جاء هذا؟ ما جاء إلا من تعليم جبريل للرسول عليه الصلاة والسلام (¬1) وتعليم الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه، فمن أين يأتي بهذا؟ فهذا مجمل الرد عليه، وإثبات أنه كافر بالقرآن كافر بالإجماع اليقيني، كافر بالمعلوم من الدين بالضرورة، من مثل أن ركعات الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، والصبح ركعتان، وكافر أيضًا بتفاصيل الصيام لأنها ليست في القرآن، وهي معلومة من الدين بالضرورة، فلذلك كان كافرًا. [الاجتهاد شيء ورد الأحاديث شيء آخر] الاجتهاد شيء ورد الأحاديث شيء آخر: أما الذي ينكر حديثًا لعلّة في سنده يختلف فيها مع غيره من رجال الحديث، فهذا نوع من الاجتهاد يقال فيه: أخطأ وأصاب، ولا يقال فيه: آمن وكفر. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (521) ومسلم (608) .

وكذلك إذا رد ظاهر الحديث متأولا له تأويلا تُسوِّغهُ اللغة العربية، ففسره بمعنى مختلف عن المعنى الذي فسره به غيره، فهذا حمله على الظاهر وهذا تأوله، فهذا لا يقال فيه: آمن وكفر، إنما يقال فيه: أخطأ وأصاب، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد، ويلزمه العمل بما اعتقده، وإن كان خطأ في نفسه، ودليل ذلك حدث زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى بني قريظة، حين قال: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» (¬1) فاختلفوا على أنفسهم فمنهم من أخّر العصر على ظاهر الحديث مثل ما يقول ابن حزم: لو كنت معهم ما صليت العصر إلا في بني قريظة لأنه ظاهري، وغيرهم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد منا هذا ولكن أراد منا السرعة والمبادرة، ولم يرد منا أن نترك الصلاة في وقتها هذا فرض وذاك فرض، وفريضة الصلاة لا يسقطها الجهاد، فنصلي ثم نسرع ولا نتمهل، وصلوا في الوقت، ولما اجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف طائفة من الطائفتين، ¬

(¬1) أخرجه البخاري (946-4119) ومسلم (770) .

حكم من خالف معلوما من الدين بالضرورة

لا المخطئة ولا المصيبة، لا التي أخرَّت ولا التي عجَّلت. هذا دليل على أن الأحاديث التي هي مجال للاجتهاد يقال في الخلاف فيها: أخطأ وأصاب، لا آمن وكفر، ويُعذَر من أخطأ، وبناؤه عمله على اجتهاده الخاطئ صحيح. والثاني المصيب معلوم أيضًا معروف واضح أنه يُؤجَر أجرين ويجب عليه العمل باجتهاده. القصد أن من ينكر الحديث من جهة سنده للاختلاف بينه وبين غيره في توافر أسباب القبول وعدم توافرها، هذا لا نقول له: إنك آمنت أو كفرت، بل نقول له: أخطأت أو أصبت، وكذلك لو تأول متنًا وفيه مجال للاجتهاد يقال فيه: أخطأ وأصاب. [حكم من خالف معلوما من الدين بالضرورة] حكم من خالف معلوما من الدين بالضرورة: أما أن يأتي بصريح السنَّة مثل صلاة أربع ركعات، ويقول: هذه تصلى ركعتين، نقول له: لا، أنت خالفت معلومًا من الدين بالضرورة، فأنت كافر، وكذلك من

يقول: إن الصلوات في اليوم والليلة صلاتان فقط، صلاة في النهار، وصلاة في الليل، ويذكر القرآن، لأن فيه الصلاة أول النهار وآخر النهار، وصلاة من الليل ففيه ثلاث صلوات، واحدة في الليل بنص القرآن، وواحدة في الغدو، وواحدة في الآصال، فيصلي ثلاث صلوات بنص القرآن، ويُضيِّع صلاة الظهر لأنها ليست في الغدو، ويُضيِّع واحدة من الصلاتين اللتين بالليل، فهذا نقول له: أنت أنكرت معلومًا من الدين بالضرورة، وإن لم يكن في القرآن لكنه ثابت متواتر تواترًا عمليًّا وتواترًا قوليًّا، فإنكارك إيَّاه مثل إنكارك للقرآن، فهذا نقول له: إنه كافر، لأنه خالف معلوما من الدين بالضرورة. وأما إن أنكر شيئًا واحدًا؛ أنكر حديثًا واحدًا، أو عملا واحدًا، مثل من ينكر صلاة الوتر-ولا أقول هذا في الفرائض- سواء قلنا: إن الوتر واجب والواجب أقل من الفرض، أو قلنا: إن الوتر سنَّة مؤكدة، من ينكر صلاة الوتر فهو

كافر، أنكر سنَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم معلومة من الدين بالضرورة، وأنا ما أخص هذا بالفرائض الخمس، يعني الكلام ليس على درجة أهو فرض أو سنَّة، فمن ينكر أن هناك رواتب للفرائض، ركعتان قبل، وركعتان بعد، من ينكر أن هناك تهجد الليل هذا أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، بعضه في القرآن وبعضه في السنَّة، فيقال: كافر. فما كان فيه مجال للاجتهاد، يقال فيه: أخطأ وأصاب ولا يقال فيه: آمن وكفر، وما لم يكن فيه مجال للاجتهاد وهو ثابت ثبوتًا قطعيًّا أو معلومٌ من الدين بالضرورة فهو كافر، وإن كان الذي أنكره شيئًا واحدًا وإن لم يكن أصله في القرآن، هذا هو حكم الصنفين من أنكر الجملة ومن أنكر البعض. . هذا هو التفصيل. س8: هل يجوز للمسلم أن يتمسك برأيه إذا كان مخطئًا ولكنه مجتهد في ذلك؟ وهل يقبل منه ذلك شرعا بحجة أنه مجتهد؟

* الجواب المجتهد إذا رأى رأيًا ولو خطأ وله وجهة من جهة اللغة، ومن جهة مقاصد الشرع- فله أن يتمسك برأيه، لو كان خطأ في الواقع لكنه لم يتبين له خطؤه، وما قامت عليه الحجة، أما إذا تبينت له الحجة، فيجب عليه أن يرجع عن رأيه، ولو كان مجتهدًا، والحق أحقُّ أن يُتبع، أما الذي لا دراية له ولا قدرة له على الاجتهاد إنما هو في تفكيره في دنياه وآخرته على غيره، فهذا ليس له أن يتعصب لمذهب، أو أن يتعصب لرأي، بل عليه أن يضع يده كالأعمى على كتف غيره ممن يثق بهم، يعني يجتهد في اختيار الشخصيات المأمونة المعروفة بالعدل، والمعروفة بالاجتهاد والإصابة في الجملة، عليه أن يجتهد في اختيار الأفراد لا أن يجتهد في النصوص، وليست عنده تلك القوة التي تؤهله للاستنباط من كتاب الله أو سنة رسوله الصحيحة.

الشبهة الرابعة شبهة أخرى والجواب عليها

[الشبهة الرابعة شبهة أخرى والجواب عليها] الشبهة الرابعة شبهة أخرى والجواب عليها س9: ما حكم من يقول: إن بعض الأحاديث تنكر بعضها؟ * الجواب: الرسول عليه الصلاة والسلام ليس برجل بدوي يخبط خبطا عشوائيا وهو أمّي وأمته أميَّة فلا يمكن أن يتكلم بتخمين؛ فكونه يخبر بأن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، لا يمكن أن يتكلم به عن طريق اجتهاده في أمر لا يعنيه وليس من شأنه، إنما يتكلم فيه عن وحي ولذلك علل وقال: في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، فالمسألة ليست مسألة اجتهاد قال بمقتضاه في أمر ليس من شأنه، إنما هو وحي من الله، فمثله لا يمكن أن يدخل فيه باجتهاده، وهو أمي في أمة أمية يقول في أحد جناحي الذباب داء وفي الآخر دواء، وليس هناك من أمته من العرب من يدري عن

خواص الذباب ولا خواص ما في أجنحته، هذا ما يمكن أن يقوله رسول من عند نفسه في شأن من شؤونه، إنما هو وحي من الله أوحى به إلى رسوله فتكلم به. أما موضوع التلقيح فهم رجال نخل في بلاد العرب، وهم رجال التمور، وقد يدخل في مثل هذا باجتهاده، كما دخل في مسألة النزول في ميدان القتال واجتهد، ولما أراد أن يصطلح مع قريش والأحزاب لما جاءت إلى المدينة في غزوة الأحزاب، وأن يبرم معهم صلحًا وأن ينزل لهم عن بعض الشيء فأبى الأنصار فرجع إلى رأي الأنصار الذي أشاروا به وكانت الحرب، هذا فيه مجال للاجتهاد فيمكن أن يقول فيه برأيه، ويمكن أن يظهر له خطؤه وأن يرجع عنه. أما الذي لا يحق لمثله الدخول فيه أصلا وهو من الأمور الغيبية بالنظر له ولأمته فمثل ما جاء في قوله: في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، هذا لا يمكن أن

يكون منه، ولا يجترئ عليه وهو أمي، بل لا بد أن يكون بوحي من الله. فالذين يقولون هذا الكلام ينظرون إلى كلمات المشوشين في الموضوع، الذين يقولون: إنما بُعث للتشريع وهذا صحيح، ولكن أيضًا أحيانًا يخبر بأمور غيبية فيها مصلحة المسلمين وفيها علاج مثل العلاج بالرقية (¬1) وهذا لا يقول به الأطباء، فالأطباء لا يقولون بالكي وهم يكوون، أي يعالجون بالكي وهم ينكرون الكي ويسجنون من كوى وسلم نفسه للكي، فهم يعالجون بعض الأدواء بالكي لكنه لا يسلخ الجلد وذلك بالكهرباء، والعرب يعالجونه بالكي، فهم يعالجون بالكي وهو أسرع- من جهة السبب- في العلاج، والعلاج بالكهرباء بطئ، وذلك مثل الشلل فهو يعالج بالكي وهم يعالجونه بالكهرباء، فهذا فقط نوع من العلاج لا يسلخ الجلد ولا يُوجد جرحًا، وذلك نوع من ¬

(¬1) أحاديث الرقية كثيرة في الصحيحين وغيرهما.

العلاج البدائي أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: «إن كان الشفاء في شيء ففي ثلاث وذكر منها الكي» (¬1) هل أتبع أولئك وأقول هذا ليس من فنه؟ أم أن التجربة أيضًا أثبتت أن هذا يعالج به، فأتخير الشخص الذي يكوي. * ¬

(¬1) تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: * الأول: فعله صلى الله عليه وسلم بيده أو أمره به، أخرج مسلم (2208) وغيره عن جابر قال: " جرح سعد بن معاذ في أكحله قال: فحسمه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بمشقص ثم ورمت فحسمه الثانية ". قال ابن القيم في (زاد المعاد) : أو الحسم: هو الكي ". وأخرج الترمذي (2050) عن أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة "، قال الترمذي: " حسن غريب "، وصححه الشيخ الألباني (المشكاة) (4534) ، وأخرج مسلم (2207) وغيره عن جابر قال: " بعث رسول الله " إلى أبَي ابن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه عليه ". * الثاني: عدم محبته له: أخرج البخاري (7502) ومسلم (2205) (71) عن جابر عن النبي قال: إن كان في شيء من أدويتكم شفاء ففي شرطة محجم، أو لدغة بنار، وما أحب أن أكتوي) . الثالث: الثناء على من تركه، أخرج البخاري (5752) ومسلم (220) من حديث ابن عباس في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال: هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون "، وأخرجه مسلم (218) من حديث عمران قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاَ بغير حساب " قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون " * الرابع: النهي عنه، أخرج البخاري (5680) وغيره عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي ". قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) بعد ذكر هذه الأنواع: " ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى فإن فعله بدل على جوازه وعدم محبته لا تدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه بل يفعل خوفا من حدوث الداء. . والله أعلم ". . أهـ.

كذلك الرقية هل يؤمن بها الأطباء؟ ! هم يتبعون الفرنجة الكفرة فلا يعملون بالرقية، والرقية ثابتة شرعًا، وهي نوع من العلاج، نوع من التشريع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء للتشريع، ولا يقال: ما الذي أدخله في الرقية والعلاج؟ وما الذي يدخله في حل السحر؟ وما الذي يدخله في الإثمد وأنه خير أنواع العلاج للعين؟ فهذه الأمور دخل فيها بحالتين: أ- منها ما يرجع إلى التجربة في قومه. ب- ومنها ما يرجع إلى الوحي. فالتي قامت القرائن على أنه من الوحي نؤمن به

ونكذب الأطباء، فالآن السرطان هل اكتشف الأطباء ميكروب السرطان؟ لم يكتشف الأطباء ميكروب السرطان إلى اليوم، ويوجد كثير من الأشياء ما وصلوا إليها في الوقت الحاضر، وآفات كثيرة ما وصلوا إلى علاجها، وقد يكشف طبيب أو جملة من الأطباء ويشخّصون مرضًا ويتبين أن المرض على خلاف ما شخصوا، وهم جملة، فهم يخطئون. القصد أنني أتهم الأطباء، ولا أتهم الله، ولا أتهم رسوله، ولا أتهم علماء المسلمين العدول، الذين ضبطوا ما نقلوا بسند متصل، ولم ينقض كلام بعضهم بعضًا، وليس هناك تعارض بينهم، وبين القرآن، فأنا أثق بهم أكثر من ثقتي بالأطباء مهما كانوا أقوياء. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

مقال للمؤلف حول تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل

[مقال للمؤلف حول تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل] تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل (¬1) الحمد لله والصلاة والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أيده الله بروح من عنده، أيده في التشريع بالوحي وعصمه من الإخبار عن الكذب: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وما كان منه عليه الصلاة والسلام عن اجتهاده أقره الله تعالى عليه إن أصاب فيه، وكشف له عن الحق وأبان له الصواب إن أخطأ، فكان بفضل الله وتوفيقه على بينة وبصيرة من أمره على كل حال، لم يكله الله لنفسه، ولم يدعه لحسن تفكيره، بل هداه سبحانه في كل شئونه إلى سواء السبيل. ¬

(¬1) مقال للمؤلف نشر في مجلة أنصار السنة المحمدية.

لقد أنزل الله عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدي والفرقان. وأوحى إليه من الأحاديث ما فيه بيان لما أجمل في القرآن، وتفصيل لقواعده، وشرح للعقائد والشرائع، فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ؛ فوجب تصديق ما جاء في كتاب الله وما صح من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها في كل شأن من الشئون، والرضا والتسليم لحكمها دون حرج أو ضيق في الصدور تحقيقًا للإيمان، وتطيرًا للقلوب من درن الشرك والنفاق، قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ولا يغتَرَّنَ إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة

في التفكير، وبسطة في العلم، فيجعل عقله أصلا، ونصوص الكتاب والسنّة الثابتة فرعًا، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه دينًا، وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرَّفه عن موضعه، وأوَّله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره، وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلا- ثقة بعقله- واطمئنانًا إلى القواعد التي أصَّلها بتفكيره واتهامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تحديدًا لمهمة رسالته وتضييقًا لدائرة ما يجب اتباعه فيه واتهامًا لثقاة الأمة وعدولها، وأئمة العلم، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة، ووصلت إلينا عن طريقهم قولا وعملا. فإن في ذلك قلبًا للحقائق، وإهدارًا للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تقويض دعائم الشريعة وإلى القضاء على أصولها. إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب

تفكيرهم الأغراض، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيّات أو الضروريات. فأي عقل من العقول يُجعَل أصلا يُحَّكم فيِ نصوص الشريعة فتُرَدُّ أو تنزل على مقتضاه فهمًا وتأويلا. أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء؟ أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الأسماء والصفات وتحريفها عن موضعها وفي القول بالجبر. أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؟ أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات (¬1) والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال. ¬

(¬1) الظاهر أنه يريد الممثلة الذين غلوا في إثبات الأسماء والصفات حتى مثلوا ما يختص منها بالله عز وجل بما يختص بالمخلوقين.

أم عقل من قالوا بوحدة الوجود. . الخ. ولقد أحسن العلاَّمة أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رضي الله عنه إذ يقول: " ثم المخالفون للكتاب والسنَّة، وسلف الأمّة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج. فإن من ينكر الرؤية بزعم أن العقل يحيلها، وإنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يجهل أن لله علمًا وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد، والأكل والشرب الحقيقيين في الجنّة، يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل. ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوَّز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله.

فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنَّة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء انتهى (¬1) . هذا وإن فريقًا ممن قدّسوا عقولهم، وخدعتهم أنفسهم، واتهموا سنَّة نبيهم قد أنكروا رفع الله نبيه عيسى ابن مريم عليه السلام إلى السماء حيًّا بدنًا وروحًا، ونزوله آخر الزمان حكمًا عدلا، لا لشيء سوى اتباع ما تشابه من الآيات دون ردها إلى المحكم منها، واتباعًا لما ظنوه دليلا عقليًّا، وما هو إلا وهم خيال. وردوا ما ثبت من سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم نزولا على ما أصَّلُوه من عند أنفسهمٍ من أن العقائد لا يستدل عليها بأحاديث الآحاد، واتهاما لبعض الصحابة ومن إليهم فيما نقلوا من الأحاديث، وفي ذلك جرأة منهم على الثقات الأمناء من ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: (5 / 28، 29) .

أهل العلم والعرفان دون حجة أو برهان. وتطاولوا على علماء الحديث وتناولوا رجال الجرح والتعديل بألسنة حداد جهلا منهم بما قدموه من خدمة للدين وحفظ الأصل الثاني من أصول الإسلام وهو السنَّة النبوية، وعجزًا منهم عن أن يبخسوا ما دوّن أولئك الأئمة الأخيار من كتب في قواعد علوم الحديث ودواوين في تاريخ رواة الحديث، وبيان درجاتهم، ومراتبهم في الرواية، وطبقاتهم ومواليدهم ووفياتهم، ولقاء بعضهم بعضًا أو سماعه تمييزًا لمن تُقبل روايته ممن ترد روايته، وما يقبل من الأحاديث وما يرد وذبًّا عن السنَّة النبوية وحفاظًا عليها.

§1/1