سورة القصص دراسة تحليلية

محمد مطني

مقدمة

سورة القصص.. دراسة تحليلة تأليف الدكتور محمد مطني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد لله والشكر له وهو الشكور الحميد، منزل الَقُرْآن هدى ورحمة، {مِنْهُ ءايَاتٌ مُحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَبِ} ((1)) . والصلاة والسلام والبركات على سيدنا ورسولنا ونبينا وحبيبنا أبي القاسم مُحَمَّد بن عَبْد الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وتابعيه ووارثيه، القائل: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) ((2)) . فصَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ وَسَلَّمَ عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. أما بعد: فقصتي مع هذه الأطروحة غريبة كلّ الغرابة، فقد كان من المقدر ـ والله المقدر ـ أن يكون كاتب هذه الأطروحة شخصاً سواي وبمنهج غير هذا المنهج وبطريقة غير هذه الطريقة. فشاءت مشيئة الله أن يتوفى هذا الشخص رَحِمَه الله بالحرق قبل الشروع بها فعزمت على تحقيق رغبته بدراسة هذا الموضوع وباقتراح من الأستاذ الدكتور مُحَمَّد صالح عطية الذي أراد أن أحقق رغبة أخي الشيخ جاسم مُحَمَّد سلطان ـ رَحِمَه الله ـ الذي وافاه الأجل قبل أن يحقق ما أراد.

_ (1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7. (2) صحيح البُخاري. مُحَمَّد بن إسماعيل أبو عَبْد الله البخاري الجعفي. (194 ـ 256) . تحقيق: د. مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير , اليمامة. بيروت. ط3. 1407هـ - 1987 م: 4 /1919 رقم (4739) . من حديث عثمان ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـ.

فاقترح علي المشرف الأستاذ الدكتور مُحَمَّد صالح عطية أن تقسم السّورة على مقاطع موضوعية يحلل كلّ منها على حدة، وقد وجهت باختيار منهجية علمية أكاديمية في تحليل كلّ مقطع وفق النظام الآتي: تحليل الألفاظ على وفق المصطلح المعجمي. إبراز المناسبة بين الآيات في المقطع وما قبلها وما بعدها. تخريج القراءات الَقُرْآنيّة ومواردها في كلّ مقطع. ذكر القضايا البلاغية. المعنى العام للمقطع. ما يستفاد من المقطع. وقد سرت على طريقتين في كتابتي هذه الأطروحة: الطريقة الأولى: الاعتماد على المصادر والمراجع في استعراض الآراء في تفسير وتأويل المقطع دون إبداء رأي شخصي في التأويل والتحليل، لأن مورد النصّ لا يحتمل في بعض الأحيان الزيادة على آراء السابقين ـ رَحِمَهم الله ـ ولو بكلمة، لتكاملها، فكان عملي الوحيد فيها هو العرض مع الترجيح بين هذه الآراء. الطريقة الثانية: أن أبرز الرأي في تأويل بعض المواضع والمواضيع التي تحتمل إبداء الرأي ولا سيما في المواضيع الصورية ـ البيانية ـ الأسلوبية غير المقطعية، وكان في ذلك مجال واسع لإبراز الرأي الجديد مع ربطه بما ذهب إليه القدماء. وقد استشرفت في بحثي الأطر الخاصة والعامة، والذي تمثل في مواضع مثلتها جملة من المفاهيم نحو (التربية والسلوك، والزمن، والتوحيد، والشخصية والهوية، والإيمان والكفر) . ولقد حاولت هنا أن أدرس ارتباط الماضي بالحاضر في القراءة التأويلية لسُوْرَة الْقَصَصِ بمقارنة فرعون ودولته بالولايات المتحدة الأمريكية على ما يراه القارئ في الفصل الثامن من هذه الأطروحة.

إن هذا العمل في حد ذاته كان عملاً مبتكراً في بابه، ذلك أن إبداء الرأي ـ بصورة غير منهجية ـ في بعض مواضع الَقُرْآن الكَرِيم من الأمور المنهي عنها في الحديث الشريف، ولكني قمت بذلك تبعاً لمنهج أهل السنة والجماعة، وهكذا فلم أتعرض لتأويل آيات الصفات في سُوْرَة الْقَصَصِ، ولكني أولت آيات تتعلق بهذا العصر في مواضعها لمسيس الحاجة إليها، لإيقاظ عقول الشباب وقلوبهم من الغفلة والوهن إلى الاندفاع والعزيمة في مبشرات سُوْرَة الْقَصَصِ، تبعاً للقراءة الجهادية لسُوْرَة الْقَصَصِ. وقد كانت لي استفادة في قراءتي التحليلية لسُوْرَة الْقَصَصِ من جمهرة كبيرة من المصادر والمراجع القديمة والحديثة بطبعاتها القديمة والحديثة ـ مع صعوبة الحصول عليها في ظل الظروف الحالية ـ وقد كان لي من شبكة المعلومات العالمية (الانترنيت) معيناً في الحصول على بعض التوجيهات المعلوماتية وبعض الآراء الحديثة. إن البحث في الدراسة التحليلية لكل سورة على حدة أمر مهم، لأن هذا التحليل يظهر وجوه الإعجاز الَقُرْآني في كال نواحيه المتطورة. وكان هذا الأمر من بين الأسباب التي دفعتني لاختيار سُوْرَة الْقَصَصِ لما تحمله من مبشرات بزوال دول الكفر والطغيان، وذلك بما بشر به رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قبل الهجرة المباركة من أن النصر آت، وربطها بين حال رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وبين حال موسى (- عليه السلام -) ، وبين قوة قريش ومالها ونفوذها، وبين قوة فرعون وهامان وقارون ومالهم ونفوذهم، وما آلت إليه قوى هؤلاء جميعاً إلى الزوال والهلاك. وكان من منهجي في البحث فضلاً عما أبرزته فيما سبق هو ربط الماضي بالحاضر، وهو ما جاء متماشياً مع الخطوط العامة للسورة، ويعقبها التحليل الذي شمل المباحث والمطالب.

وأدى هذا إلى جعل مهمة الباحث تنتقل بين نقل تفسيرات الأقدمين وتأويلاتهم وإبراز الفهم الحديث للتفسير والتأويل حسب ما يقدح في ذهن الباحث في أثناء الدراسة الموضوعية دون الخروج عن مذاهب القدماء في ابتعادهم عن التفسير بالرأي. وقد كانت أهم المصادر والمراجع التي اعتمدتها، جمهرة من كتب التفاسير والمعجمات والتأويلات الجزئية لبعض آيات سُوْرَة الْقَصَصِ، وكتب القراءات والبلاغة والإعراب، والكتب التي تحدث عن انتصار الإسلام، والكتب التي تقارن فرعون ذلك العصر بفرعون هذا العصر، الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى ما يراه القارئ في فهرست المصادر والمراجع الملحق بآخر الرسالة. وقد قمت بتحليل بعض المواضع التي يستنبط منها أحكام الفقه، والتي سبقني إليها القدماء، مع أن سُوْرَة الْقَصَصِ لا تتضمن الأحكام الفقهية المباشرة، بل ما استنبطه منها الفقهاء والأصوليون من أحكام من قصة زواج موسى (- عليه السلام -) . إن أهمية الكتابة في سُوْرَة الْقَصَصِ تبرز في خمسة محاور: تحليل آراء القدماء في السّورة نفسها. إظهار بعض أوجه الإعجاز الَقُرْآني التي لا تحصى عدداً. إبراز النصر الإلهي الممتد من زمن موسى ومُحَمَّد ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ إلى قيام الساعة. بيان أن الحاكمية لله جَلَّ جَلاُله. فهم الماضي وصولاً لفهم الحاضر والمستقبل. وسُوْرَة الْقَصَصِ حافلة بالحقائق التاريخية، وتتوافق أحداثها مع ما أثبته العلم الحديث. وقد سارت الأطروحة في أصلها تبعاً لمنهجية حسبت أنها الأفضل في التحليل العام لسُوْرَة الْقَصَصِ، فكانت خطتي في الأطروحة هي: الفصل الأول التمهيدي وضمنته ستة مباحث. أما الفصل الثاني فقد أسميته وقفات بين يدي السّورة، وقسمته على مبحثين. وقد خصصت الفصل الثالث لدراسة الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ، وقد قسمت هذا الفصل على مبحثين أيضاً.

وفي الفصل الرابع. ناقشت نشأة سيدنا موسى (- عليه السلام -) والظروف المحيطة به. واقتضت مستلزمات البحث أن أقسم هذا الفصل على مبحثين. وخصصت الفصل الخامس لمناقشة موضوع هجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مدين. وكان هذا الفصل من مبحثين. وفي الفصل السادس تناولت عودة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مصر واشتمل على مبحثين. وقد تناولت في الفصل السابع، الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ودعوته في سُوْرَة الْقَصَصِ، وقد قسمته على ثلاثة مباحث. وقد قارنت في الفصل الثامن بين هيمنة فرعون وأمريكا وسقوط وانتصار الإسلام من خلال سُوْرَة الْقَصَصِ في دلالاتها السياسية الحديثة. وقد توزع هذا الفصل على تمهيد ومبحثين. وختمت هذا كله بخاتمة أوجزت فيها ما استطعت التوصل إليه من نتائج. لقد أدى المنهج الجديد الذي اعتمدت عليه في بحثي إلى صعوبات وصعوبات قد لا يتسع المجال لذكرها، غير أن أبرزها هو ما واجهني في مواضع لم أجد القدماء قد بحثوا فيها بما يلائم منهج البحث، ولا سيما ما يوافق حال المجتمعات الإسلامية اليوم. وأياً ما كان فهذا هو جهدي الذي بذلت ما وسعني الجهد والاجتهاد والبحث والدرس، فإن أصبت فبفضل الله جَلَّ جَلاَله هو أهل الفضل، وإن كان غير ذلك فمني، ولا أملك هنا إلا أن أقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ((1)) . وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين الباحث

_ (1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 286.

الفصل الأول: التمهيدي

الفصل الأول: التمهيدي المبحث الأول: دراسة عامة عن السّورة المطلب الأول: اسمها " ثبت أن جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار " ((1)) . والمعروف أن تسمية السور القرآنية على ما يبدو من أسمائها، كتسمية السورة بكلمة أو باشتقاق كلمة واردة فيها، وأن اختلاف المصاحف في تسمية بعض السور ناشئ عن تعدد الروايات الواردة في ذلك ((2)) . " ومن عادة العرب قديماً أن تراعي في كثير من المسميات أخذ أسمائها من شيء نادر أو مستغرب، يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه، ويسمون القصيدة بأشهر ما ورد فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور القرآن، لأن الَقُرْآن الكَرِيم جاء على سنن العرب في كلامها وخطابها ((3)) . وسورة القصص سميت بذلك لاشتمالها على كلمة (القصص) في قوله تعالى: {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} ((4)) ، أي: وقص موسى على شعيب ((5)) . وهي السّورة الوحيدة التي انفردت بذكر موسى (- عليه السلام -) وسبب هجرته من مصر إلى مدين، وهو المذكور بعد تفصيله بقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} ((6)) .

_ (1) الإتقان في عُلُوْم القُرْآن. السيوطي. ت 911 هـ. الطبعة الثالثة. شركة مَكْتَبَة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. مصر. 1951 م: 1/52. (2) ينظر المصاحف. أبو بكر عَبْد الله بن أَبِي داود السجستاني. ت 316 هـ. نشره: د. آرثر جفري. مطبعة الرحمانية. مصر. 1936 م: ص 182 - 183. (3) الإتقان: 1/ 55. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (5) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. مجد اليدن مُحَمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي المتوفى سنة 817 هـ. تحقيق: مُحَمَّد علي النجار. مطابع شركة الإعلانات الشرقية. القاهرة. 1383هـ ـ 1963 م: 1/353. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.

المطلب الثاني: التعريف اللغوي والاصطلاحي للقصص

فهي قصص موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ وهو في مصر مع المصريين، وليس قصصه مع فرعون وقومه، ولعل هذا القصص الخاص هنا هو الوجه في تسمية السّورة باسم (القصص) ((1)) . وقيل: " سميت بدلالة قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} ((2)) الدال على نجاة من هرب من مكان الأعداء إلى مكان الأنبياء، اعتباراً بقصصهم الدالة على نجاة الهاربين، وهلاك الباقين بمكان الأعداء، من الهلاك " ((3)) . وتسمى أيضاً سورة (طسم) على ما ورد في بعض الروايات ((4)) وتسمى أيضاً سورة موسى ((5)) ، وهو رأي شاذ. وأسماء السور توقيفية على ما ورد في صَحِيْح البُخَارِي ((6)) ، وبذلك تكون هذه السورة إنما سميت بدلالة لفظة عامة فيها خصصتها بالتسمية، وهو الصواب من الأقوال. المطلب الثاني: التعريف اللغوي والاصطلاحي للقصص

_ (1) إلى الَقُرْآن الكَرِيم. محمود شلتوت. دار الهلال. (د. ت) : ص111. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 52. (3) محاسن التَّأؤيِل. المُسَمَّى (تَفْسِير القَاسِمي) . تَأَلِيْف مُحَمَّد جَمَال الدِّيْن القَاسِمي. ت 1914م. تصحيح وتعليق: مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد البَاقِي. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه. 1995 م: 13/4695. (4) مرويات الإمام أحمد بن حنبل في التفسير. جمع وتخريج أحمد أحمد البزرا، ومُحَمَّد بن برزق بن الطرهوني، وحكمت بشير ياسين. الطبعة الأولى. مكتبة المؤيد. السعودية. 1414 هـ ـ 1994 م.: 3 /329. (5) الفتوحات الإلهية بتوضيح تَفْسِير الجلالين للدقائق الخفية. للعَلاَّمَة الشيخ سليمان بن عمر العجيلي الشافعي المشهور بالجمل. المتوفى سنة 1204 هـ. مطبعة الاستقامة. القاهرة. (د. ت) : 3 /333. (6) 4/ 1788 كتاب التفسير. باب تفسير سورة القصص.

القصة لغة: " من القص، فعل القاصِ إذا قصَّ القِصَصَ، والقصة معروفة ويقال: في رأسه قصة، يعني الجملة من الكلام، مثل قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص} ((1)) ، أي: بينت لك أحسن التبيان ... ويقال: قصصت الشيء، إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} ((2)) ، أي: اتبعي أثره، وقد يأتي القصُّ والقصصُ والقصَصُ الصدر من كل شيء، وقيل: هو وسطه " ((3)) . والقصة الخبر، وهو القَصص، وقصَّ عليَّ خبره يقُصه قصاً وقصصاً، والقصص الخبر المقصوص، وضِع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، والقِصص بكسر القاف جمع القصة التي تكتب، وتقصص الخبر تتبعه، والقِصة الأمر والحديث، واقتصصت الحديث رويته على وجه، كأنه يتتبع معانيها وألفاظها، ويقال: خرج فلان قصصاً في أثر فلان وقصاً، وذلك إذا اقتصَّ أثره ((4)) .

_ (1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 3. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11. (3) أساس البلاغة. جار الله محمود بن عمر الزَّمَخْشِرِي أبو القَاسِم. ت 538 هـ. تحقيق: عَبْد الرحيم محمود. مطبعة أورفاند بالقاهرة. ط1. 1953 م: ص 770 – 771. لسان العرب. جَمَال الدِّيْن مُحَمَّد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري أبو الفضل. ت 711 هـ. الطبعة الأولى. دار صادر. بيروت. لبنان. 1968 م: مَادة (قصص) 7 /73 –75. (4) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (قصص) 7/74.

وقيل: إنه المصدر، وقيل: إنه مفعول به، وعلى القول الأول يكون المعنى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص} ((1)) ، أي: نحن نقصُّ عليك أحسن الاقتصاص كما يقال: نحن نكلمك أحسن التكليم ونبين لك أحسن البيان. وعلى القول الثاني يكون المعنى، نحن نقصُّ عليك أحسن ما يقصُّ، أي: أحسن الأخبار المقصوصات، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} ((2)) ، ويدل على هذا وأنه هو المراد قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} ((3)) . أي: المراد خبرهم، ونبأهم وحديثهم، وليس المراد مجرد المصدر فالقولان متلازمان في المعنى، ولهذا يجوز أن تكون كلمة (القصص) قد جمعت بين معنى المصدر ومعنى المفعول به، لأن فيه كلا المعنيين، بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به، فإنه إذا انتصب بهذا المعنى وامتنع المعنى الآخر ((4)) . والذي يبدو أن دلالة (قص) بمعنى القطع هي الدالة على اقتطاع القصة من الكلام.

_ (1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 3. (2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 122. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (4) ينظر الكشاف عَنْ حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التَّأؤيِل. أبو القَاسِم جار الله محمود بن عمر الزمخشري. ت 538 هـ. ط2. دار الكِتَاب العربي. بيروت. لبنان. (د. ت.) : 2 /300. مجموع فتاوى أحمد بن تيميه. ت 728 هـ. جمع وترتيب: عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن قَاسِم العاصمي النَّجْدِي الحَنْبَلِي وساعده ابنه مُحَمَّد. مطبعة الحكومة بمَكّة المُكَّرمة 1386 هـ: 17 /22.

المطلب الثالث ترتيب سورة القصص في المصحف

وللقصة تعاريف كثيرة لدى العلماء، ومنها ما ذكره الرازي بأنها: " مجموع الكلام المشتمل على ما يهدى إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة " ((1)) . فالقرآن الكريم أطلق لفظ القصص على ما حدث من أخبار القرون الأولى في مجالات الرسالات السماوية، وما كان يقع في محيطها من صراع بين قوى الحق والضلال وبين مواكب النور وجحافل الظلام ((2)) . وقيل: " هي كشف عن آثار وتنقيب عن أحداث نسيها الناس أو غفلوا عنها، وغاية ما يراد لهذا الكشف هو إعادة عرضها من جديد لتذكير الناس بها، ليكون لهم منها عبرة وموعظة " ((3)) . والذي يبدو أن التعريف الاصطلاحي للقصص يعني أحاديث الأخبار الماضية، أو غير المرتبطة بزمن محدد. ولكنها في الَقُرْآن الكَرِيم دالة على التاريخ الماضي حصراً. المطلب الثالث ترتيب سورة القصص في المصحف وعدد آياتها وكلماتها وحروفها قيل: " إن الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك " ((4)) . أما ترتيب السور أهو توقيفي أم باجتهاد الصحابة؟ ففيه أقوال:

_ (1) مفاتيح الغيب المعروف بالتفسير الكبير. وبتفسير الرَّازِي. فَخْر الدِّيْن مُحَمَّد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الشافعي الرَّازِي أبو عَبْد الله. ت 606 هـ. المطبعة البهية المصرية بميدان الأزهر. مصر. ط3. (د. ت.) : 8/ 83 -84. (2) ينظر القصص الَقُرْآني في منظومه ومفهومه. عبد الكريم الخطيب. بيروت، لبنان. (د. ت) .: ص40. (3) المصدر نفسه: ص 48. (4) الإتقان في علوم القرآن: 1/60.

المطلب الرابع فضلها

فجمهور العلماء أنه حصل ترتيب سوره باجتهاد من الصحابة الكرام، منهم الإمام مالك، واستدل أصحاب هذا الرأي باختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، وهو مصحف علي (- رضي الله عنه -) حيث كان أوله: أقرأ، ثُمَّ المدثر … ثُمَّ النساء، ثُمَّ البقرة ثُمَّ آل عمران. ومنهم من رتبها ترتيباً أخراً كمصحفي أبيّ بن كعب، وعَبْد الله بن مسعود. وهناك من قال إن ترتيب السور في القرآن توقيفي كترتيب الآيات ((1)) . إن ترتيب سورة القصص بين سور القرآن هو أنها السورة الثمانة والعشرون، وعدد آياتها ثمانية وثمانون آية، ولا يماثلها في عدد آياتها إلا سورة (ص) ، وعدد حروفها خمسة آلاف وثمانمائة حرف ((2)) ، وعدد كلماتها ألف وأربعمائة وكلمة واحد ((3)) . وقد ذكر ابن الجوزي أعداداً أخرى مقاربة لا تخرج عما أوردناه هاهنا ((4)) . المطلب الرابع فضلها

_ (1) الإتقان في علوم القرآن: 1/61-62. (2) ينظر لباب التَّأويِل في معاني التنزيل (المُسَمَّى: تَفْسِير الخازن) . علاء الدِّيْن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن إبراهيم البغدادي الصوفي المعروف بالخازن. ت 725 هـ. الطبعة الثانية. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. 1955 م: 3/423. (3) بصائر ذوي التمييز: 1/353. (4) فنون الأفنان في عجائب عُلُوْم القُرْآن. أبو الفرج عَبْد الرَّحْمَن بن عَلِيّ بن الجوزي. ت 597 هـ. تحقيق: د. رشيد عَبْد الرَّحْمَن العبيدي. مطبعة المَجْمَع العلمي العراقي. 1988م: ص117-118.

ذكر الطبرسي في مجمع البيان رواية عن أبي بن كعب (- رضي الله عنه -) عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((من قرأ طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به، ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة، أنه كان صادقاً أن كل شيء هالك إلا وجهه)) ((1)) والحديث الآخر: ((يا علي من قرأ طسم القصص أعطاه الله مثل ثواب يعقوب وله بكل آية مدينة عند الله)) ((2)) ، ومعظم الأحاديث في فضل سورة القصص من الموضوعات كما صرح بذلك الإمام عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه ((3)) .

_ (1) مَجْمَع البَيَان في تَفْسِير القُرْآن المعروف بتفسير الطَّبَرْسِي. الفَضْل بن الحَسَن بن الفضل الطَّبَرْسِي الطُّوْسي السَّبْزَواري أبو عَلِيّ. ت 548 هـ. تصحيح وتعليق: هاشم الرسولي وفضل الله الطباطبائي اليَزْدِي. شركة المعارف الإسلامية. إِيْرَان. ط1. 1379 هـ: 7/338، بصائر ذوي التمييز: 1/358. والحديث لم أقف عليه في كتب الأحاديث. وقد أورده الطرابلسي ت 1177 هـ، في الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع. تحقيق د. مُحَمَّد محمود أحمد بكاء. الطبعة الأولى. مكتبة الطالب الجامعي. الريان. مكة المكرمة. 1408 هـ: 1 /986. (2) ينظر الكشاف، 3/194. والحديث لم أقف عليه في كتب الأحاديث، وقد ضعفه الحافظ ابن حجر في تخريجه لأحاديث الكشاف. (3) الموضوعات. أبو الفرج عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن عثمان بن عَلِيّ بن الجوزي القرشي. ت 510 هـ. تحقيق: عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد عثمان. الطبعة الأولى. المكتبة السلفية. المدينة المنورة. 1966 م: 2/232-234.

المطلب الخامس: سورة القصص أمكية هي أم مدنية؟

والذي يبدو أن لكل سورة في الَقُرْآن الكَرِيم فضل خاص بها، وإن كانت جميع سور الَقُرْآن الكَرِيم لها فضيلة، ولكن وردت أحاديث في فضائل سور وآيات مخصوصات كالإخلاص، والكرسي، ولم أقف على حديث صحيح في فضل سُوْرَة الْقَصَصِ. المطلب الخامس: سورة القصص أمكية هي أم مدنية؟ سُوْرَة الْقَصَصِ مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء، وقال مقاتل: فيها من المدني قوله تعالى: {الَّذِينَ ءاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ مِنْ قَبْلِهِ} إلى قوله تعالى: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِين} ((1)) ، وذكر السيوطي أنها نزلت هي وأواخر الحديد في أصحاب النجاشي ((2)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: من الآيات 52 - 55. ومقاتل ممن لا يحتج بقوله في التفسير، فقد كذبوه وهجروه ورموه بالتجسيم. ينظر: تقريب التهذيب. أبو الفضل أَحْمَد بِن عَلِيّ بِن حَجَر العَسْقلاني الشافعي. (773 ـ 852 هـ) . تحقيق: مُحَمَّد عوامة. الطبعة الأولى. دار الرشيد. دمشق. سوريا. 1406 هـ ـ 1986 م: ص 454. (2) ينظر الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 / 16.

وقال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ وقتادة: مكية إلا آية نزلت بين مكة والمدينة ((1)) ، وقال ابن سلام: نزلت بالجحفة ((2)) في وقت هجرة النبي (- صلى الله عليه وسلم -) إلى المدينة، وهي قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد} ((3)) .

_ (1) ينظر الكَشَّاف: 3/ 164. زاد المسير في علم التفسير. جَمَال الدِّيْن عَبْد الرَّحْمَن بن عَلِيّ بن مُحَمَّد التَّيْمِي البِكْري القُرَشي البَغْدادي الحَنْبَلِي. المعروف بابن الجَوْزِي أبو الفَرَج. ت 597 هـ. المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. بيروت. ط3. 1404 هـ ـ 1990 م: 6/200. مَفَاتِيح الغَيْب: 23/ 224. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن (المعروف بتفسير القرطبي) أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن أحمد القرطبي. ت 671 هـ. الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد عَبْد العليم البردوني. مركز تحقيق التراث. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1978 م: 6/ 4962. البَحْر المُحِيْط. أثِيْر الدِّيْن مُحَمَّد بن يوسُف بن عَلِيّ بن يوسُف بن حَيَّان الأَْندَلُسيِ أبو عَبْد الله. الشهير بابن حَيَّان وبأَبي حَيَّان. ت 754 هـ. مطبعة السعادة. مصر. 1329 هـ: 7 /104. (2) الجحفة: موضع بين مكة والمدينة. معجم البلدان شهاب الدِّيْن ياقوت بن عَبْد الله الحموي الرومي البغدادي أبو عَبْد الله. ت 626 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) : 3 /114. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

المطلب السادس: الأغراض العامة لسورة القصص ومقاصدها

إن سياق النص في سورة القصص الشريفة يدل على مكيتها وكونها ذات صبغة مكية من خلال الضوابط التي وضعها العلماء للتميز بين المكي والمدني، ولما اشتملت عليه من ذكر القصص بإسهاب، ومن الدلائل على توحيد الله عزل وجل بأسلوب الجملة الطويلة، وخلوها من الجملة القصيرة. وتكرار ذكر الله عَزَّ وجَلَّ، واليوم الآخر فيها، وذلك من ضوابط السور المكية. المطلب السادس: الأغراض العامة لسورة القصص ومقاصدها قبل التحدث عن غرض السورة، ينبغي أن نبين الظروف التي نزلت فيها، لأن معرفتنا لذلك تفتح لنا الباب الواسع أمام معرفة أغراض السورة وأهدافها التي من أجلها أنزلت. كما هو معلوم أن السورة مكية نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، وقد لاقى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وأصحابه (- رضي الله عنهم -) ألواناً من العذاب، فقد مات تحت العذاب من مات، وسلم من سلم، في حين نجد تجمع المال والقوة العددية في يد المشركين، والمسلمون لا يملكون سوى قلوباً عامرة بالإيمان، يصارعون بها كل جبروت قريش ((1)) ، فنرى تشابهاً واضحاً بين الظروف التي أحاطت بالمسلمين، مع الظروف التي مر بها سيدنا موسى (- عليه السلام -) مع قومه، حيث تسلط جبروت فرعون والأقباط على سيدنا موسى (- عليه السلام -) ـ وبني اسرائيل يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم، فجاءت هذه السورة بأغراض مهمة، يمكن أن نعد منها:

_ (1) ينظر السيرة النبوية: عَبْد الملك بن هشام بن أيوب الحِمْيَري المَعَافِري البَصْري أبو مُحَمَّد ت 213 هـ تقديم وتعليق: طه عَبْد الرَّؤُوْف سَعَد. دار الجيل. بيروت. 1411 هـ: 2 /254.

أولاً: تسلية الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) وأصحابه الكرام وشد أزرهم، ليعلموا أن النصر حليفهم مهما طالت ساعة إعلانه وكذلك لتبين لهم حقيقة مهمة وهي ان كل اصحاب الرسالات السماوية السابقة لم يكن طريق الدعوة الى الله أمامهم معبداً ممهداً، بل جاهدوا وقاتلوا وقَتلوا وعُذبوا حتىأتى نصرالله، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيْبٌ} ((1)) . وربما يسأل سائل: لماذا هذا العذاب الذي يلقاه الأنبياء وأتباعهم؟ والجواب عن ذلك أن الأنسان بطبيعته مكلف بالعبادة لله، فهو مقرون بهذه التكلفة فلا عبودية بدون تكليف، والتكليف يستلزم تحمل المشاق ففي كلّ الدعوات إلى الله هناك تكليف وهناك تحمل مشاق لحكم ثلاث، هي: 1- لاثبات صفة العبودية لله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} ((2)) .? 2- لإثبات صفة التكليف المتفرعة من صفة العبودية فما من مؤمن يبلغ سن الرشد إلا وهو مكلف من الله عَزَّ وجَلَّ بتحقيق شرعه وعليه أن يتحمل في سبيل ذلك كثيراً من المشاق والأذى ((3)) 3- لإظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ} ((4)) .

_ (1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 214. (2) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 56. (3) ينظر فقه السيرة. مُحَمَّد سعيد رمضان البوطي. ط7. مَكْتَبَة الشرق الجديد. بغداد (د. ت) : ص85-86. (4) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 3.

ثانيا - نزلت هذه السورة لتضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، ولتبين أن هناك قوة واحدة مؤثرة في الكون ألا وهي قوة الله وحده وأن هناك قيمة واحدة في الكون هي قيمة الإيمان. وجاءت السورة لتقرر حقيقة مهمة ثابتة على مرّ العصور أن النصر لا يأتي بالضرورة مع الكثرة والقوة وأن النصر يأتي بأمر الله وحده فهو الناصر الذي ينصر عباده، فمن كانت معه قوة الله فلا خوف عليه ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع قوى الكون ((1)) . ومن كتب الله عليه العذاب لا تنفعه كل استحكامات العالم. ففرعون لما أخبره الكهنة بان قتله سيكون على يد طفل من بني إسرائيل ((2)) ، أستخدم نفوذه وجبروته وسلطانه في قتل الأطفال من بني إسرائيل ووضع الأعين من نساء مصر لكي يخبرنه عن أي مولود لم يصل إليه خبره ولكن يقظته وحذره وسلطانه وعيونه لم تمكنه من إزالة الخطر عن نفسه ولم تدفع عنه خطر الطفل الصغير المجرد من كل قوة إلا من قوة الله عز وجل فهي القوة الحقيقية في الكون فكان هذا الطفل الذي تربى في حجر فرعون سبباً في إنهاء جبروت فرعون وسلطانه.

_ (1) ينظر في ظلال الَقُرْآن. سيد قطب. الطبعة الثانية. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1971 م: 6 /317. (2) تفسير القرآن العظيم. الإِمَام الحَافِظ عماد الدِّيْن أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي. ت 774 هـ. ط1. دار مَكْتَبَة الهلال. بيروت. لبنان. 1986 م: 2 /225.

ثالثاً - بعد أن بين الله جل وعلا نهاية طغيان الملك والقوة أمام قوة الله تنتقل الآيات لتبين حقيقة أخرى وغرض آخر وهو نهاية طغيان الكفر، ثُمَّ نهاية طغيان المال وذلك من خلال قصة قارون مع قومه وكان قارون من قوم موسى قال تعالى: {إِنَّ قَرُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِم} ((1)) فخرج على قومه بهيئة المتبختر وهو يحسب انه أوتي هذا المال والعلم عن ذكاء ودهاء فانقسم قومه على فريقين فريق فتن فيه وتمنوا مكانه: ... {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَرُون} ((2)) . ... وفريق آخر هم عباد الله الصالحين لم يهتزوا بهذه المظاهر الزائفة {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} ((3)) . ... وهنا تتدخل قوة الله فتخسف به وبداره الارض فلا يغني عنه ماله وعلمه من الله شيئاً. وقصة قارون مرتبطة كلّ الارتباط بنهاية فرعون وطغيانه، فالقصتان تعبران عن استمرار الانذار الإلهي. رابعاً - كذلك تعزز السورةغرضاً آخراً، وهو التاكيد على أن الدنيا زائفة فانية، وأن الدار الباقية هي دار القرار (الجنة) جعلها الله للذين لا يريدون علواً في الارض ولا فساداً، وأن العاقبة للمتقين. خامساً - في ختام السورة هناك وعدٌُ وبشارة للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) وصحبه الكرام بنصر الله والرجوع الى مكة فاتحاً منتصراً لنشر دعوة الاسلام الى أرجاء المعمورة وإمتلاك زمام الامور في الجزيرة العربية وانتقال مركز القوى من يد الشر الى الخير والى الابد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 80. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

المطلب السابع: التناسب والتناسق بين سورة القصص وما قبلها وما بعدها.

. من كل ما سبق يمكن أن نستفيد دروساً وعبراً تفيدنا في تجاوز حالة الضعف والهوان التي يمر بها المسلمون اليوم. ... واليوم نرى تخاذل كثير حكام المسلمين اليوم أمام أعداء الاسلام اليهود والامريكان منبهرين بما تمتلكه أمريكا من قوه عسكرية وإقتصادية فأشاعوا وهولوا هذه القوة حتى أصبح بعض هؤلاء الحكام أبواق دعاية لهذه القوة الغاشمة. فلو كان النصر لا يأتي الأ مع القوة والمال لاستسلم سيدنا محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وصحبه الكرام وهم قلة أمام قوة قريش المادية والعددية ولاستسلم موسى (- عليه السلام -) من قبل وبني أسرائيل أمام جبروت فرعون وقوة الاقباط فقد كانت بأيديهم خزائن مصر، نعم إن المال والقوة من أسباب النصر، ولكن الناصر هو الله، فلو وعى المسلمون اليوم هذه الحقيقة جيداً لما وقفت أمام دعوتهم كل قوى الشر، لأنهم أصحاب دعوة سامية ورسالة الهية إن هم تمسكوا بها وقد جاء ذلك واضحاً في نهاية سورة القصص: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) . فقد حكم الله جل وعلا بأنه لا سلطان إلا سلطان الله وكل قوة هالكة الأّ قوة الله. ولادلالة (إليه ترجعون) واضحة فيما نذهب إليه من رجوع النصر إلى هذه الأمة. المطلب السابع: التناسب والتناسق بين سورة القصص وما قبلها وما بعدها. لا ريب أن فهم العلاقة التناسبية والروابط المتناسقة بين كل سورة قرآنية وما قبلها وما بعدها مما يعين على فهم أدق لجوهر السورة نفسها إذا ما أخذنا بالرأي الراجح القائل إن الصحابة لم يضعوا سورة معينة في موضع إلا بإشارة من رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . والرسول (- صلى الله عليه وسلم -) لم يضعها إلا بوحي إلهي.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

ولذا نجد أن هناك وشائج بين أواخر سورة النمل وأوائل سورة القصص بحديثهما معاً عن تلاوة القرآن، {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} (1) ، و {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ*نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْن} ((2)) ، وحديثهما عن منة الله تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّه} ((3)) ، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ((4)) ، وأما قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ((5)) ، فقد تناسب مع قوله تعالى: في سُوْرَة الْقَصَصِ {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ((6)) .

_ (1) سورة النمل: الآية 92. (2) سورة القصص: الآية 2-3. (3) سورة النمل: الآية 93. (4) سورة القصص: الآية5. (5) سورة النمل: الآية 93. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

إذ تناسب الكلام عن عدم غفلة الله تعالى وحاشاه عن افعال العباد، وعن علو فرعون في الأرض ثم تناسب أيضاً قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ((1)) مع أوائل السورة في ايراد الاحرف المقطعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى {طسم} ((2)) ، وليس بينهما الا فاصل البسملة فكل هذا يرجح الرأي الذي نذهب اليه من ان القرآن الكريم قطعة واحدة، في السبك والصياغة والبلاغة، ولعل هذا أحد أوجه إعجاز القرآن الكريم التي طالما نبه عليها المفسرون والمتكلمون واللغويون، فاذا ما جئنا الى اخر سورة القصص وأوائل سورة العنكبوت نجد تشابهاً جد عظيم، وتناسقاً كبيراً، وتناسباً في المعنى والمبنى والمضمون والسبك والصياغة فكان أوائل سورة العنكبوت إمتداد لآواخر سورة القصص فنجد أن هنالك حديثاً عن العودة الى الله تعالى كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((3)) ، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ((4)) ، وكلام عن الفتنة {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} ((5)) ، وذلك مرتبط بقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ((6)) . فالحديث هو هو لا زال متسقاً مترابطأً متماسك الصيغة.

_ (1) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 93. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 1. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (4) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 5. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (6) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 3.

ونجد كلاماً عن الايمان الالهي في قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ((1)) ، وذلك مع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((2)) . فإن وجه المناسبة بينهما في عدم دعوة إلهاً آخر مع جزاء الإيمان والعمل الصالح. ونجد كلاماً مهماً عن الدعوة الى الله تعالى {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((3)) يتناسب مع قوله تعالى في أوائل سورة العنكبوت {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ((4)) ، وبذلك كله يستقيم لنا ترابط سورة القصص وتناسقها وتناسبها مع آواخر ما قبلها (النمل) ومع أوائل ما بعدها (العنكبوت) ، وذلك بعض أوجه الاعجاز القرآني، لأنه مما يرد على أولئك القائلين باضطراب النصّ الَقُرْآنيّ في انتقال الخطاب ((5)) ، فسُوْرَة الْقَصَصِ في تناسبها أوجدت تناسباً ووحدة في الموضوع في أوائلها وأواخرها.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (2) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 7. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (4) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 6. (5) الَقُرْآن والكتاب. الأب الحداد. الطبعة الثانية. (د. ن.) . بيروت، لبنان. 1986 م: 135- 137.

المطلب الثامن: التناسب بين بداية السورة وخاتمتها

المطلب الثامن: التناسب بين بداية السورة وخاتمتها مذهب العرب في نظم الكلام أن يوازنوا كلّ الموازنة بين مطلعه ونهايته، لأجل أن يستقيم الكلام ولا يخرج أوله عن آخره، ولا آخره عن أوله، وهذا المذهب البلاغي تنبه له قدماء البلاغيين كالجاحظ ((1)) ، وأبي هلال العسكري ((2)) ، وقدامة بن جعفر ((3)) ، وابن المعتز ((4)) ، وابن الأثير ((5)) . وقد جاء الَقُرْآن الكَرِيم على سنن العرب في كلامها في فنونه البديعة، وأفانينه البلاغية البيانية، وكان من ذلك أن يستقيم المعنى في أول السورة وآخرها بحيث يأخذ أولها برقبة آخرها لأجل أن يظهر الإعجاز القرآني ((6)) .

_ (1) ينظر البَيَان والتبيين. أَبِي عثمان عمرو بن بحر. ت 255 هـ. تحقيق: المحامي فوزي عطوي. دار صعب. بيروت. ط1. 1968م: 1 /20. (2) ينظر كتاب الصناعتين: النظم والشعر، العسكري، أبو هلال الحسن ابن عبد الله بن سهل ت 395 هـ، تحقيق: مُحَمَّد علي البجاوي ورفيقه، الطبعة الأولى، مطبعة الأستانة، 1952م: ص 149. (3) ينظر نقد الشعر. أسامة بن منقذ. تحقيق: مُحَمَّد زغلول سلام. الطبعة الثانية. بيروت، لبنان. مصورة عن طبعة مصر. 1975 م: ص 29. (4) ينظر نقد الشعر: ص 38. (5) ينظر المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. ضياء الدِّيْن نصر الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَبْد الكَرِيْم الموصلي أبو الفتح. ت 637 هـ. تحقيق: مُحَمَّد محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. المكتبة العصرية. بيروت. ط1. 1995 م: 2 /104. (6) ينظر الإعجاز القُرْآن. مُحَمَّد بن الطيب بن مُحَمَّد بن جعفر بن القَاسِم الباقلاني أبو بكر. ت 403 هـ. تحقيق: السيد أحمد صقر. دار المعارف. القاهرة. (د. ت) : ص 196.

وقد فصل بعض ذلك البقاعي في كتابه (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) ((1)) ، والسيوطي في كتابه (تناسق الدرر في تناسب السور) ((2)) . ونجد في سُوْرَة الْقَصَصِ ـ التي نقوم هنا بتحليلها ـ أنها جاءت على هذه السنة في الأسلوب العرضي لمادتها الداخلية، ويتضح ذلك أكثر ما يتضح باستعراض مبادئ هذه العلاقة المترابطة بين فاتحة السورة وخاتمتها، وتشمل هذه المبادئ المتشابهة: ذكر الآيات الإلهية مثل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ} ((3)) ، وقوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} ((4)) . المقابلة بين الإيمان والكفر، كما في قوله: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((5)) ، وقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَبُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} ((6)) .

_ (1) ينظر مثلاً: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور. الإِمَام برهان الدِّيْن أَبِي الحَسَن إبراهيم بن عمر البقاعي. ت 885 هـ. خرج الآيات وأحدثه ووضع حواشيه: عَبْد الرَّزَّاق غالب المهدي. الطبعة الأولى دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1995 م: 1/ 126. (2) ينظر مثلاً: تناسق الدرر في تناسب السور. جلال الدِّيْن السيوطي. ت 911 هـ. ط2. تحقيق: عَبْد الله مُحَمَّد الدرويش. دار عالم الكتب. بيروت. لبنان. 1408 هـ – 1987 م: 1 /216. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.

ذكر عاقبة العلو، كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الاَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} (1) ، وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((2)) بيان الوراثة الإيمانية، كما في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((3)) ، وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((4)) . كون كلّ طغيان يعقبه هلاك كلّ شيء يطغى به، كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((5)) ، وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((6)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

المقابلة بين عودة موسى (- عليه السلام -) إلى أمه، وعودة رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إلى مكة كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) وقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ((2)) . فموسى (- عليه السلام -) عاد إلى أمه، ورسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عاد إلى أم القرى، وهو معنى استنبطناه من السياق. فهذه المبادئ المتشابهة في حد ذاتها بين فواتح السورة وخواتيمها تدل على ما ذهبنا إليه، فسنرى مثلاً أن العلاقة بين قوله تعالى: {تِلْكَ آيَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ} (3) في إشارتها إلى الَقُرْآن الكَرِيم، وما أنزل على الرسل من قبل ـ عَلَيْهم السَّلام ـ تماثل العلاقة مع قوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} ((4)) ، كونها إشارة إلى آيات الله تعَاَلىَ التي أنزلت على رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . ثم أن هنا علاقة وثيقة بين قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((5)) وبين قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((6)) لأن المفسدين مقابل لفظي للمشركين، والعلاقة بينهما علاقة تضاد الإفساد بالشرك، وهي علاقة مترابطة ترابط الإفساد والشرك.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.

ونجد أن قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} ((1)) موافق تمام الموافقة لقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَبُ إِلاَّ رَحْمَةً} ((2)) ، لأن التلاوة الإلهية متعلقة بما ألقي على رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من الكتاب المتلو رحمة. ونجد أن قوله تعالى: {بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((3)) موافق في دلالته المتناسقة مضمونياً مع قوله تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4)) ، لأن من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون برجوعهم لله سبحانه وتعالى، وهذا اتساق في المعنى. نجد كذلك أن الآية: {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((5)) مطابقة في تناسبها المضموني مع الآية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((6)) في كون الآيتين تتحدثان عن الوراثة الإلهية والعودة النبوية، فكما ورث بنو إسرائيل ما تركه آل فرعون، ورث المؤمنون من أصحاب مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) أرضاً لم تورث إلا لهم، وهذا من الاتفاقات الإلهية التي انفردت سورة القصص بإظهارها في أبان العصر المكي.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

ونحن نجد أن قوله تعالى في فاتحة سُوْرَة الْقَصَصِ: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} ((1)) متعلقة في كون الإمامة هاهنا إمامة دعوية، أي: أئمة يدعون إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما عبرت عنه الآية القرآنية في خاتمتها {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((2)) ، لأن الدعاة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هم أئمة الهدى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فصفات الدعاة إلى الله تعَاَلىَ بينت في سُوْرَة الْقَصَصِ، في أولها وفي آخرها. ونجد أن صفات المؤمنين في أولها كانت: الإيمان {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((3)) . الوراثة {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((4)) . التمكين في الأرض {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((5)) . ثم نجد في خاتمة السورة أن صفات المؤمنين هي: الإيمان {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((6)) الوراثة {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((7)) . التمكين في الأرض {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((8)) .

_ (1) سورة القصص: الآية5. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.

المبحث الثاني: الحروف المقطعة في القرآن الكريم وسورة القصص

وبهذا يتضح هذا التناسق بين أول السورة وآخرها، ثُمَّ أننا نجد أمراً أخراً هو إظهار عاقبة الطغاة والمتكبرين والمفسدين في الأرض، لقوله تعالى: {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((1)) ، ويقابله في آخر السّورة قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله} ((2)) ، لأن {وَجُنُودَهُمَا} متقابلة كلّ التقابل مع {فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله} أي: الجنود الذين كانوا يحرسون قارون، وهذا اتساق بياني في المعنى المتوافق. وبهذا يكون أول السّورة مترابطاً كلّ الترابط مع آخرها، ومتناسباً معه بما يجعل من داخل السورة وحدة متكاملة في مبناها ومعناها، وهو بعض أوجه الإعجاز الَقُرْآنيّ. * * * المبحث الثاني: الحروف المقطعة في الَقُرْآن الكَرِيم وسُوْرَة الْقَصَصِ المطلب الأول: أقوال العلماء في معاني الحروف المقطعة معاني الحروف المقطعة في القرآن وإعرابها: إن الحروف المقطعة على اختلاف الأقوال فيها، من الافتتاحيات الرائعة التي يصدر بها الكلام. وقد " قال أهل البيان من البلاغة حسن الابتداء، وهو أن يتأنق في أول الكلام لأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان محرراً أقبل السامع ووعاه وإلاّ أعرض عنه، ولو كان الباقي في نهاية الحسن، فينبغي أن يؤتى فيه بأعذب لفظ وأجزله، وأرقه وأسلسه، وأحسنه نظماً وسبكاً، وأوضحه معنى وأوضحه، وأخلاه من التعقيد والتقديم والتأخير الملبس، أو الذي لا يناسب. وقد أتت جميع فواتح السور على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها كالتحميدات وحروف الهجاء والنداء وغير ذلك من الابتداء الحسن " ((3)) وما يعنينا هنا هو الحروف المقطعة، وحسن ابتداء الكلام بها.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81. (3) الإتقان في علوم القرآن: 2/106.

إن في القران الكريم تسعاً وعشرين سورة تبدأ بحروف الهجاء المقطعة منها ما يبدأ بحرف واحد وهي ثلاث سور هي (ص0ق0ن) ومنها عشر سور مفتتحه بحرفين وهي سورة (غافر. فصلت. الشورى. الزخرف. الدخان. الجاثية. الأحقاف. طه. النمل. يس) ، ومنها ما يبدأ بثلاثة أحرف، وهي: (البقرة. آل عمران. العنكبوت. الروم. لقمان. السجدة. يونس. يوسف. إبراهيم الحجر. الشعراء. القصص) . ومن السور ما يفتتح بأربعة أحرف هما (الأعراف، والرعد) ومنها ما يفتح بخمس أحرف (كهيعص) سورة مريم، و (حم عسق) الدخان. أقوال العلماء في معاني الأحرف المقطعة: قبل الخوض في أقوال العلماء لابدّ من الإشارة إلا انه لم ينقل عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بيان لمعانيها وبناء على ذلك اختلفت أقوال العلماء في بيان معانيها إلى ما يأتي:

القول الأول: وهي سر الله في القرآن وهي من المتشابه ((1)) ، الذي انفرد الله بعلمه ولا يجوز أن يتكلم فيه، ولكن نؤمن بها ونقرأها كما جاءت روي ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي بن أبى طالب، وابن مسعود (- رضي الله عنهم -) أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر ((2)) ، ومما يؤيد هذا القول الادلة النقلية والعقلية الاتية: 1- الادلة النقلية: ما روته السيدة عائشة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قالت: قرأ رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} ((3)) .

_ (1) المتشابه: هوا للفظ الذي خفي المراد منه فلا تدل صيغته على المراد منه ولا سبيل إلى إدراكه إذ لا توجد قرينة تزيل هذا الخفاء واستأثر الشارع لعلمه (مثل الحروف المقطعة في أوائل السور) . ينظر أنوار الربيع في أنوار البديع. علي صدر الدين بن معصوم المدني. تحقيق: شاكر هادي شكر. النجف الأشرف. 1388 هـ ـ 1968 م: 217. (2) ينظر بحر العُلُوْم. المُسَمَّى (تَفْسِير السمرقندي) . أبو الليث نصر بن مُحَمَّد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي. ت 375 هـ. تحقيق: عَلِيّ مُحَمَّد معوض. وآخرون. ط1. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1413 هـ. 1993 م: 1/249-250. والجامع لأحكام القرآن: 1/134. (3) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.

. قالت: فقال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((فأذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) ((1)) . ... إذن والله أعلم، إن هذه الاحرف من المتشابه الذي لا يعرفه الا الله جل وعلا لقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ((2)) . 2-الادلة العقلية: ذكر القرطبي عن الصحابي الجليل الربيع بن خيثم (- رضي الله عنه -) : إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما يشاء، وأطلعكم على علم ما يشاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه، فلا تسألوا عنه، وأما ما أطلعكم عليه، فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به وما بكل القرآن تعلمون ولا بكل ما تعلمون تعملون " ((3)) ، فإن الله جل وعلا قد ستر معاني هذه الأحرف عن خلقه اختباراً من الله عز وجل وامتحاناً، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم، وشأنها شأن كثير من الأفعال التي كلفنا بها ولا نعرف وجه الحكمة فيها، كرمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة. ... ثم إن ورود هذه الحروف في أوائل السور، منها إفهام للبشر أنهم مهما بلغوا من العلم، فإنهم لن يطلعوا على كثير من الأسرار، ومنها معاني هذه الحروف، بهذه الصورة ستكون دافعاً إلى إعمال الفكر والنظر والاجتهاد في الوصول إلى حقيقتها، وفي هذا شحن همة العقل إلى التأمل والحركة، حتى لا يبقى جامداً أمام حقائق جاهزة ((4)) . وهذا رأي أهل السنة والجماعة.

_ (1) صَحِيْح البُخَارِي: كتاب: التفسير، باب: منه آيات محكمات 4 /1655. (2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /134. (4) ينظر تطور تفسير الَقُرْآن. نظرة جديدة. د. محسن عبد الحميد. جامعة بغداد. 1989م: ص 55.

القول الثاني: قال جمع كبير من العلماء: يجب أن نتكلم فيها ونلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها. واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، منها القريب ومنها الغريب. أولاً: فقد روي عن ابن عباس ورواية عن علي ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ أن الحروف المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم، إلا إننا لا نعرف تأليفه منها ((1)) . ثانياً: وقد نقل السيوطي عن ابن عباس (- رضي الله عنه -) أنها حروف مقطعة كل حرف منها مأخوذ من إسم من أسمائه تعالى، ففي قوله في (آلم) قال: معناها (أنا الله أعلم) ، وفي قوله: (ألمص) : (أنا الله أفصل) ، وفي قوله: (ألر) قال معناها: (أنا الله أرى) ، (ألمص) : الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد. و (ق) : حرف من اسمه قادر، (ن) : إنه مفتاح اسمه نور وناصر ((2)) . ثالثاً: عن ابن عباس (- رضي الله عنه -) أنها قسم أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه. ... وقد رد بعض العلماء هذا القول، فقالوا: لا يصح أنها قسم لأن القسم معقود على حرف مثل (إن، وقد، ولقد، وما) ولم يوجد هاهنا حرف من هذه الحروف فلا يجوز أن يكون قسماً ((3)) ، وقد أجيب بان موضوع القسم في سورة البقرة (لا ريب فيه) فلو أن إنساناً حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه لكان الكلام سديداً وتكون (لا) جواب القسم ((4)) . ... وذكر الزمخشري أن حرف القسم مضمر كأنه أقسم بهذه السورة وبالكتاب المبين إنا جعلناه ((5)) . رابعاً- وقيل إنها أسماء للقرآن. خامساً- قيل إنها أسماء للسور.

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /134. (2) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 2 /9. (3) بَحْر العلوم: 1 /246. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /134. (4) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /135. (5) ينظر الكَشَّاف: 1/ 92.

سادساً- قال قطرب، والفراء: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. ... وقيل: إن العرب المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ((1)) ، فانزل الله هذا القرآن ليعجبوا منه ويكون تعجبهم منه سبباً لأستماعهم له فترق قلوبهم وتلين الافئدة ((2)) . ... وقد اعترض ابن كثير على أن هذه الحروف جاءت خطاباً للمشركين بقوله: " إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وال عمرآن مدنيتان وليستا خطاباً للمشركين) ((3)) . وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: أولا- المنقول، قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ((4)) . وجه الدلالة ان الله جل وعلا حثنا على تدبر القرآن ومعرفة معانيه ومن تدبر القرآن البحث عن معرفة معاني الحروف المقطعة. ثانيا- قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ((5)) . ووجه الدلالة ان الله تعالى قد أنزل القرآن الكريم ويسره للناس ليذَّكروا آياته، فيمكن معرفة جميع المراد منه لان الله يسره للناس ومنها هذه الحروف المقطعة.

_ (1) سُوْرَة فُصِّلَتِ: الآية 26. (2) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 2/ 10. (3) تفسير القُرْآن العَظِيْم: 1 /37. (4) البرهان في عُلُوْم القُرْآن. الإِمَام بدر الدِّيْن مُحَمَّد بن عَبْد الله الزركشي. ت 794 هـ. تحقيق: مُحَمَّد أَبِي الفضل إبراهيم. دار المعرفة. بيروت. 1391 هـ. 1972 م: 1/172. (5) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 24.

. وقول أهل ... المعقول ان القرآن الكريم أنزله الله جل وعلا كتاب هداية وبيان للبشر فلا يمكن أن يكون فيه ما هو غير مفهوم لهم ((1)) . ومن التفسيرات الغريبة: 1-ما قاله الشيخ محي الدين بن عربي " إن مبادىء السور لا يعلم حقيقتها الا أهل الصورة المعقولة، فجعلها تبارك وتعالى تسع وعشرون سورة وهو كمال الصورة {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ((2)) ، والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجوده، وهو سر (آل عمران) (آلم) ، ولولا ذلك لما ثبتت الثمانية والعشرون، وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفاً فالثمانية حقيقة البضع، قال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((الايمان بضع وسبعون شعبة)) ((3)) ، وهذه الحروف ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد اسرار الايمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها " ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَمَرِ: الآية 17. (2) سُوْرَة (يس) : الآية 39. (3) متفق عليه، صَحِيْح البُخَارِي: كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان 1 /12. صحيح مُسلم، مسلم بن الحجَّاج القُشَيْري النَّيْسابوري أبو الحسين، (206 ـ 261) ، تحقيق: مُحَمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بَيْرُوت، (د. ت) : كتاب الإيمان، باب عدد شعب الإيمان 1/ 63. (4) الفتوحات المكية. أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن عَلِيّ المعروف بابن عربي الحاتمي الطائي. ت 628 هـ. دار صادر. بيروت. لبنان. (د. ت.) : 4/ 64-66.

2- " زعم قسم من العلماء أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم " ((1)) ، " كما استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى: {آلم * غُلِبَتْ الرُّومُ} ((2)) أن البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ووقع كما قال. وقال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للأشارة الى مدة بقاء هذه الامة، وهو من أراء الحروفيين واهل الروحانيات منقولاً عن الإسرائيليات " ((3)) . ... وقد رد ابن كثير هذا الرأي، ومن قال به لانه ادّعى ما ليس له وطار في غير مطاره، وإن مقتضى هذا المسلك ان كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرار فأعظم ((4)) . الرأي الراجح: ... والراي الراجح والله أعلم، الرأي الاول، وذلك لأنه لا يمكن القطع بمعانيها لعدم ورود نص يبين معنى هذه الحروف المقطعة لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، وإنها من قبيل المتشابه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ((5)) .

_ (1) تفسير القرآن العظيم: 1 /38. (2) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآيتان 1- 2. (3) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 /10. (4) تفسير القرآن العظيم: 1 /38. (5) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.

المطلب الثاني: إعراب الحروف المقطعة

ثم إن العلم بمعانيها لا يفيدنا بشيء ولا يتوقف على العلم بها إقامة العبادة لله وإنها إختبار وامتحان للخلف فالاولى السكوت عن معانيها كما هو صنيع السلف الصالح في التفويض. المطلب الثاني: إعراب الحروف المقطعة اختلفت آراء العلماء في إعرابها على رأيين. الرأي الاول: ليس لها محل من الاعراب وهي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية، اي: حروف مقطعة لا محل لها من الاعراب ((1)) . الرأي الثاني: لها محل من الاعراب ((2)) : فمن قال إنها اسماء للسور فموضوعها عنده الرفع على انها عنده خبر ابتداء مضمر، اي: هذه (الم) أو (طسم) كما تقول هذه سورة البقرة، او تكون رفعاً على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول زيد ذلك الرجل، وقال ابن كيسان في موضع نصب كما تقول: إقرأ (طسم) ، أو عليك (طسم) ، وقيل: في موضع خفض بالقسم لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها ((3)) . أما الزمخشري فقد قسم هذه الحروف على ضربين: أحدهما: ما لا يتأتى فيه إعراب نحو (كهيعص، المر) . ثانيهما: ما يتأتى فيه الاعراب، وهو إما أن يكون اسماً فرداً (ص، ق ن) ، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كـ (حم، طس، يس) ، فانها موازية لقابيل وهابيل، وكذلك (طسم) يتأتى فيها أن تفتح نونها وتصير ميماً مضمومة إلى (طس) فيجعلا اسماً واحداً كدار بجرد فالنوع الاول محكي يس الا واماالنوع الثاني فسائغ فيه الامر ان الاعراب والحكاية ((4)) .

_ (1) ينظر إعراب القُرْآن. أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد بن إسماعيل النحاس. ت 338 هـ. تحقيق: د. زهير غازي زاهد. عالم الكتب. مَكْتَبَة النهضة العربية. (د. ت.) : 1/127 (2) الكَشَّاف: 1/83. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1/136. (3) الكَشَّاف: 1/83. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1/136. (4) الكَشَّاف: 1 /83.

المبحث الثالث: شبه وجود الأساطير والتكرار في القصة القرآنية والرد عليها

والراجح هو الرأي الأول، القائل أنها لا محل لها من الإعراب، وأرى أن الخلاف في إعرابها، وعدم إعاربها لا يفيد العلم بشيء، وليس له أي ثمرة. المبحث الثالث: شبه وجود الأساطير والتكرار في القصة القرآنية والرد عليها التمهيد ((1)) إن بعض أصحاب المدرسة البيانية الحديثة تبنوا فكرة الطعن بالقرآن من خلال القصص القرآنية بحجة أن في القرآن قصصاً مكررة وأن فيه أساطير ((2)) ، إلى غير ذلك من الترهات، تنزه كتاب الله عن كل ذلك. وسمي من يؤمن بهذه الفكرة بأصحاب المدرسة الأمينية نسبة إلى الشيخ (أمين الخولي) الذي تبنى هذه الفكرة ثم أشرف بنفسه على رسالة دكتوراه تحت عنوان (الفن القصصي في القرآن) لمحمد أحمد خلف الله قدمت إلى جامعة الأزهر، وقد ردت هذه الرسالة، وأثارت هذه الأفكار الشاذة زوبعة فكرية تأثر بها شرذمة قليلة من ضعاف العقول ممن انبهر بالفكر الغربي، وقد اعترف صاحب هذه الرسالة بوضوح وبكل صراحة بتأثره بالآراء العلمانية. فيقول: " كنت قد أحسست بحاجتي الملحة إلى الإطلاع على ما يفعله علماء الغرب حيث يدرسون الأدب وتاريخه، فاستجبت لهذا الإحساس، وقرأت بعض الكتب التي تعالج هذه المسائل " ((3)) . فالذي يقرأ هذه الرسالة لا يشك لحظة واحدة أن وراء كتابة هذه الرسالة يداً خبيثة تريد العبث والتشكيك بكتاب الله وعقائد المسلمين، وقد قام علماء أجلاء بالرد على هذه الرسالة منهم العلامة محمد الخضر الحسين شيخ الأزهر الأسبق في كتابه نقد كتاب الفن القصصي في القرآن. والأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه قصص القرآن وأجاد في الرد.

_ (1) أوردنا هذا المبحث لأن نفي الواقعة التاريخية في القصص الَقُرْآنيّ يشمل كلّ سُوْرَة الْقَصَصِ أيضاً. (2) ينظر الفن القصصي في الَقُرْآن الكَرِيم. مُحَمَّد أحمد خلف الله. الطبعة السادسة. دار امريث للنشر. القاهرة. 1936 م: 17 -27. (3) المصدر نفسه: ص 11.

المطلب الأول: أدلة القائلين بوجود الأساطير والتكرار في القرآن الكريم والرد عليهم

" وقد أجمع علماء الإسلام في هذا العصر على رفض هذا الرأي وعده مخالفاً لضوابط تفسير القرآن، بل عدوه تكذيباً للقرآن نفسه " ((1)) ، فقد قال جل وعلا: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ} ((2)) . وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَق} ((3)) ، وقوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} ((4)) ، وقوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَق} ((5)) . ونحن نعلم مما تقدم إن هذه المحاولات الإلحادية للقضاء على حقيقة النص القرآني ورميه بالزيف التاريخي وحاشاه فقد بدأها طه حسين ((6)) نقلا عن نولدكه (المستشرق اليهودي الألماني الشهير) ((7)) ، وليس الهدف منه سوى الإساءة للنص القرآني في مبناه ومعناه على ما نراه في المطلب القادم. المطلب الأول: أدلة القائلين بوجود الأساطير والتكرار في القرآن الكريم والرد عليهم لقد اعتمد القائلون بوجود الأسطورة (بمعناها الخرافي، أي الذي لا وجود له إلا في القصص) على الأدلة الآتية التي تدعم زعمهم بوجودها في الَقُرْآن الكَرِيم نفسه:

_ (1) تطور تفسير القرآن: ص85. (2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 62. (3) سُوْرَة الكَهْفِ: الآية 13. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (5) سُوْرَة هُوْد: الآية 17. (6) في الشعر الجاهلي. طه حسين. ط1. دار المعارف بمصر. 1924 م: ص31 (7) المستشرقون. نجيب العفيفي. ط4. دار المعارف بمصر 1985 ـ 1987 م: 11/213، وكتابه اسمه (تاريخ الَقُرْآن) وهو أول من تبنى هذه النظرية.

1-إن الأساطير في اللغة: " الأباطيل، والأساطير أحاديث لا نظام لها. قال الليث: يقال سطر فلان علينا يُسَطرِّ، إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل " ((1)) ، وذكر محمد خلف الله في رسالته: " إن القران الكريم لا ينكر أن فيه أساطير وإنما ينكر أن تكون الأساطير هي الدليل على أنه من عند مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ((2)) ، وقد استدل على رأيه ذلك ببعض الآيات القرآنية التي جاءت لتنقل أقوال المشركين عن القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين، مثل: أـ قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين} ((3)) . ب ـ قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((4)) . ج ـ قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((5)) . فيقول ما يفهم من النظر في هذه الآيات أن المشركين كانوا يعتقدون بما يقولون اعتقاداً صادقاً وأن الشبه عندهم كانت قوية جازمة ((6)) . ... ثم يذكر بان " ما يفهم من النظر في هذه الآيات التي كل ما تحدث به القرآن عن الأساطير أن القرآن لم يحرص على أن ينفي عن نفسه وجود الأساطير " ((7)) ، ثم يذكر " أن القرآن اكتفى بتهديد القوم في سورة الأنعام والمطففين، فهل هذا الرد ينفي ورود الأساطير في القرآن " ((8)) .

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (سطر) 4/ 363. (2) الفن القصصي في القرآن: ص209. (3) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 25. (4) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 31. (5) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 24. (6) الفن القصصي: ص202. (7) المصدر نفسه: ص 203. (8) المصدر نفسه: ص 203.

2- إن حقائق النص القرآني لا تدل على حقيقة تاريخية ((1)) . وهذه الآراء في حقيقة ورودها هي آراء نولدكه، وطه حسين التي تقدمت الإشارة إليها. مناقشة الأدلة ونحن نخالف ذلك وفق المنهجية العلمية لعدة أسباب: أولاً ـ إن آية الأنعام ـ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((2)) تتحدث عن الوعيد لمن كذب بآيات الله، ثم تتحدث عن وحدانية الله تعالى، فهم حين قالوا: أساطير الأولين لا يقصدون القصص القرآني فقط، بل كل ما جاء به النبي (- صلى الله عليه وسلم -) والقرآن الكريم من تشريع وعقيدة، فاستكبروا وعتوا عتواً كبيراً ((3)) . ثانياً ـ إن آية النحل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((4)) التي تتحدث عن قدرة الله وعلمه وحكمته. إن الآيتان تتحدثان بصيغة المقول لا بصيغة القول. وليس في هذه الآيات شئ من القصص، فقولهم: أساطير الأولين يقصدون قرآن الله. ... ونلاحظ أن استدلاله بالآيات يتم من خلال استدلاله بالجمل التي تدل على ما ذهب إليه باجتزائها من موقعها. ... ثم إن قوله: " إن القرآن لم ينف وجود الأساطير فيه "، فهذا كذب صريح، ومن الآيات التي ترد على الكافرين القائلين بأنه أساطير الأولين:

_ (1) تاريخ الَقُرْآن. ثيودور نولدكه. ترجمة: عَبْد الرَّحْمَن حسن عَبْد الرَّحْمَن. الطبعة الأولى. مطبعة حسان. بيروت، لبنان 1992 م: 317-319. (2) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 25. (3) ينظر القصص القرآني في منظومه: ص 308. (4) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 24.

قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون} ((1)) ، فكان رد القرآن الكريم {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} ((2)) . قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ((3)) . فكان رد القرآن الكريم {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} ((4)) . ... ثم إن القول: إن في القرآن الكريم أساطير هو تكذيب لله جل وعلا لأن الأسطورة هي عبارة عن قصص خيالية وأوهام استقرت في أذهان الشعوب. وحاشا أن يكون في كتاب الله مثل ذلك، والذي يعتقد بأن في القرآن أساطير وقصص خرافية لا فرق بينه وبين كفار قريش في رميهم الَقُرْآن بأنه (أساطير الأولين) وهو حديث النضر بن الحارث، وأبي جهل ((5)) . ونحن نعجب لهذه الآراء التي تبناها المستشرقون وتلامذتهم الذين يكيدون للإسلام، ولكننا نقول لهم: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} ((6)) . فكيف يكون فيه أساطير، والله جل وعلا يحكم بأنه لا ريب فيه قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ((7)) . وكيف يكون فيه أساطير، والله جل وعلا يحكم بأنه نزّل الكتاب بالحق قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ((8)) .

_ (1) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 4. (2) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 4. (3) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآيتان 5 - 6. (4) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 6. (5) ينظر سيرة ابن هشام: 2 /41. (6) سُوْرَة الطَّارِقِ: الآيتان 15 -16. (7) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 2. (8) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 176.

فالذي يقول بأن في القرآن أساطير كافر بالقرآن، وقد توعده الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ((1)) . قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((2)) . وهاهنا أمر آخر جدُّ مهم، وهو أن الزعم بوجود الأسطورة في القرآن الكريم يؤدي بالقائلين به على اختلاف مشاربهم إلى مناقضة نتائج العلم الحديث من خلال علم (الاحفوريات الحديثة) ، التي جاءت لتؤكد ما جاء به القرآن الكريم ((3)) من أخبار الأمم السابقة وأنبيائها ـ عَلَيْهما السَّلام ـ، وفي ذلك يقول بعض الباحثين: " لقد تبين أن النظريات التي تبناها نولدكه وجولدزيهر وطه حسين وإسماعيل مظهر وأمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله وسيد القمني التي تتلخص بعدم وجود حقائق تاريخية في آيات وسور القرآن الكريم هي نظرية متهافتة ساقطة مردودة لأن العلم الحديث أثبت وجود كلّ الأمم التي قصها القرآن الكريم، ووجود أسماء أنبيائهم على ما ذكره القرآن الكريم مما يجعل القرآن الكريم مهيمناً على التوراة والإنجيل المحرفين اليوم في قصص الحق " ((4)) .

_ (1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 4. (2) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 25. (3) علم الجيولوجيا والقرآن الكريم. موريس بوكاي. ترجمة: رشوان غالب. الطبعة الثانية. الدار الأكاديمية. قطر. 1412 هـ: ص78. (4) في التراث والحداثة: ص 193.

المطلب الثاني: قضية التكرار

ونحن نوافق الباحث فيما ذهب إليه ونعتقد أن الزعم بوجود الأساطير في القصص القرآني إنما هو فرية إستشراقية أعانهم عليها بعض بني جلدتنا، وليس ذلك مما يستغرب من تلامذة المستشرقين ((1)) . ونرى أن ما جاء في سُوْرَة الْقَصَصِ من قصص تاريخي هو ما وقع فعلاً في التاريخ، وحدثنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو أصدق القائلين في الَقُرْآن الكَرِيم. المطلب الثاني: قضية التكرار إن معنى التكرار في اللغة: " عبارة عن الإتيان بشيء مرة بعد أخرى " ((2)) ، أو " هو الرجوع على الشيء " ((3)) . وكان بعض تلامذة المستشرقين قد عاب قضية التكرار في مواضع معينة من الَقُرْآن الكَرِيم منها تكرار قصة موسى في سُوْرَة الْقَصَصِ، فذكر محمد خلف الله في رسالته أن في القرآن قصصاً مكررة اعتماداً على ورود بعض قصص الأنبياء في أكثر من سورة. فيتساءل هازئاً: " لماذا كرر القرآن قصص آدم، ونوح، وهود، ولوط، وصالح، وشعيب وغيرهم من الرسل والأنبياء؟ إن الوقوف على تاريخ كلّ واحد من هؤلاء يكفي في إيراد القصة الواحدة في الموطن الواحد، وليس يلزم أن تكرر القصة في أكثر من موطن من مواطن القرآن " ((4)) .

_ (1) ينظر دفاع عن القرآن: ص 21. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (كرر) 5/135. (3) التعريفات. أبو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن عَلِيّ الجرجاني المعروف بالسيد الشريف. ت 816 هـ. تحقيق: إبراهيم الأبياري. دار الكِتَاب العربي. بيروت. الطبعة الأولى 1405 هـ. ص 98. (4) الفن القصصي: ص37.

وقد رد سيد قطب على ذلك بقوله: " قد يحسب أناس أن هناك تكراراً في القصص القرآني لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد إنه ما من قصة أو حلقة قد تكررت في صورة واحدة من ناحية القدر الذي يساق وطريقة الأداء في السياق، وأنه حينما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه ينفي حقيقة التكرار " ((1)) . وذكر النورسي " أن القرآن الكريم يظهر نوعاً من إعجازه البديع أيضا في تكراره البليغ لجملة واحدة أو لفظة، وذلك عند إرشاده طبقات متباينة من المخاطبين إلى عدة معانٍ، وعبر كثيرة في تلك الآية أو القصة فاقتضى التكرار، حيث إنه كتاب دعاء ودعوة، كما أنه كتاب ذكر وتوحيد، وكل من هذا يقتضي التكرار. فكل ما كرر في القرآن الكريم إذاً من آية أو قصة إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة " ((2)) .

_ (1) في ظلال القرآن: 1 /64. (2) المعجزات الَقُرْآنيّة. بديع الزمان سعيد النورسي. ترجمة: إحسان قاسم الصالحي. الطبعة الأولى. العراق. 1410 هـ ـ 1990 م: ص184-185.

وذكر الشيخ محمد رشيد رضا أنه قد تكرر القصة الواحدة في القرآن، ولكن في تكرارها فوائد في كل منها فائدة لا توجد في الأخرى من غير تعارض في المجموع، لأنها لما كانت منزَّلة لأجل العبرة والموعظة والتأثير في العقول والقلوب؛ اختلفت أساليبها بين إيجاز وإطناب، وذكر في بعضها من المعاني والفوائد ما ليس في بعضها الآخر حتَّى لا تُملَّ ألفاظها ومعانيها، ثُمَّ إن الأقوال المحكية فيها إنما هي معبرة عن المعاني وشارحة للحقائق وليست نقلا لألفاظ المحكي عنهم بأعيانهم، فإن بعض أولئك المحكي عنهم أعاجم، ولم تكن لغة العربي منهم كلغة القرآن في فصاحتها وبلاغتها، هذا وإن اختلاف الأساليب وطرق التعبير في قصص القرآن وفي القرآن عموماً عن المعنى الواحد لا تختلف إلا لكي تفيد في فهمها فائدة لفظية أو معنوية ((1)) . ونحن نرى رأي الشيخ مُحَمَّد رشيد رضا، ونعدّ التكرار إنما أتى في مواضع من الَقُرْآن الكَرِيم كي يستزيد المؤمن إيماناً كون التكرار الذي يراه في الَقُرْآن الكَرِيم يأتي في كلّ مرة بأٍسلوب جديد، وصياغة جديدة وهو ما وقع في سُوْرَة الْقَصَصِ، فقصة موسى (- عليه السلام -) لا تشبه قصته نفسها في إطارها العام في سُوْرَة (طَه) .

_ (1) ينظر تفسير المَنَار (تَفْسِير القُرْآن الحكيم) . السيد مُحَمَّد رَشِيد رِضا. ت 1935 م. وفيه صفوة ما قاله الأستاذ الإِمَام الشيخ مُحَمَّد عبده. ت 1905 م. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972 ـ 1979 م: 8/343-344.

المطلب الثالث: الحكمة من التكرار

المطلب الثالث: الحكمة من التكرار إن اعتقادنا أنه لا يوجد تكرار في القصص القرآني بمعنى مشابه للتكرار في القصة التاريخية أو الأدبية، لأن القرآن الكريم كتاب دعوة، والقصة إحدى وسائله لإبلاغ هذه الدعوة وتثبيتها، والقصة تتكون من الحدث والشخصية، ففي القصص التاريخية نلاحظ التركيز على الشخصية، فحينما تقرأ أي قصة تجد أنها تركز على شخصية أو مجموعة أشخاص من أول القصة إلى خاتمتها، أما في القصص القرآني فنرى إعجازاً آخر يضاف إلى إعجازات القران الكثيرة، وهو الملائمة بين الحدث والشخصية. لذلك كان التكرار غير مقصود لذاته، بل جاء لإيراد معنى آخر في سياق القصة نفسها. وإضافة إلى ما تقدم يمكن أن نبين الحكم الجلية الجليلة لتكرار القصة في القرآن الكريم: قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه وتذكيراً له عند حدوث سببه خوف نسيانه ((1)) ، فالعرب حينما تكرر أمراً أو تؤكده، يدل ذلك على الاهتمام بذلك الأمر، فتكرير صفات الله دال على الاعتناء بمعرفتها والعمل بموجبها ((2)) . رسوخها في الأذهان بتكريرها مرة بعد مرة. ظهور البلاغة، فإن تكرار الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يَثقُلَ على البليغ، فإذا جاء اللاحقُ منه إثر السابق تفنن في المعاني، وتفنن في الألفاظ وتراكيبها، وتفنن في المحسنات البديعية المعنوية واللفظية كان ذلك من الحدود القصوى في البلاغة ((3)) . أن يقتضي سياق السورة الواردة فيها القصة أن تذكر مختصرة وتذكر في موضع آخر بشكل أوسع لاقتضاء ذلك التطويل في هذا الموضع الثاني.

_ (1) ينظر البرهان في علوم القرآن: 1/29. (2) محاسن التأويل: 1 / 257. (3) أَسَاس البَلاَغَة: مادة (ق. ص. ص) ص 468.

المطلب الرابع: فوائد القصص القرآني

إن حفظ القرآن كاملاً لم يتيسر لكل الناس، فبعضهم يحفظ بعض السور، فيكون الذي حفظ إحدى السور التي ذكرت فيها قصة معينة عالماً بتلك القصة كعلم من حفظ سورة أخرى ذكرت فيها تلك القصة ((1)) . وفي ذلك يقول بعض الباحثين: " إن في القصص القرآني المعاد مبناها ومعناها فوائد عديدة، ولكن أهمها هو أن حكمة إعادتها تشتمل على التذكير بالله عز وجل والطريق للوصول إلى معرفته عز اسمه " ((2)) . ونحن نعتقد من خلال استقراء سورة القصص أن ما ورد فيها من ذلك يحمل كل الحكمة والموعظة الحسنة. لأن التكرار الذي فيها إنما كان في قصة موسى (- عليه السلام -) وفرعون في تكرار تعداد نِعم الله عَزَّ وجَلَّ، وفي تكرار التحذير من الدنيا، وكل تلك المعاني صيغت في سُوْرَة الْقَصَصِ بأسلوب آخر مختلف كلّ الاختلاف عن أي سورة أخرى من سور الَقُرْآن الكَرِيم، فبطل ما ادعاه هؤلاء (المتحذلقون) في سوء فهم التكرار في النصّ الَقُرْآنيّ عموماً وفي سُوْرَة الْقَصَصِ خصوصاً. المطلب الرابع: فوائد القصص القرآني

_ (1) التَّحْرِيْر والتَّنْوِير. تَأَلِيْف مُحَمَّد الطاهر ابن عاشور. الدار التونسية للنشر. سنة 1984 م: 1 /68- 69. (2) إعادة المعنى في النصّ الَقُرْآني. د. عَبْد الله سلوم. الطبعة الثانية. الدار الجامعية للنشر. بيروت، لبنان. 1994 م: ص 228-129.

إن القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي يتضمن كلماته إلى خاتم رسله وأنبيائه محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ، هو كتاب الدين كله، وهو عمدة الملة وروح الوجود الإسلامي منه تستمد العقيدة والشريعة والأخلاق، فهو كتاب لكل الأزمان جعله الله هدى للعالمين من الإنس والجان. كل شيء فيه لحكمة وقد قص الله علينا في كتابه أحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص} ((1)) ، وهذا يتناول كل ما قصه الله علينا في كتابه العظيم، وكان لإيراد القصص القرآنية حكماً ودروساً لتربية الأفراد والمجتمعات للقادة والدعاة، ومن هذه الفوائد التي تلاحظ بمجملها في سورة القصص الشريفة وفي باقي سور القرآن الكريم: أن نفقه ما جاء في هذه القصص من أخبار وحقائق ومعاني وأنماط من المدافعات بين أهل الحق والباطل وان نعتبر به. فمن ذلك ما حصل للأنبياء وما أصابهم من الأذى في سبيل الله، ثم إن الله نصرهم وجعل العاقبة الحسنى لهم، وفي ذلك عبرة للمؤمنين ((2)) ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} ((3)) . التحدي العظيم لأهل الكتاب، لأن أهل الكتاب كانوا في ذلك العصر لهم معرفة بأخبار الأنبياء لاسيما أحبارهم ورهبانهم، فقطع القرآن حجتهم على المسلمين قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} ((4)) ، فكان حملة القرآن أحق بان يوصفوا بالعلم الذي وصفت به أحبار اليهود، فانقطعت صفة الأمية عن المسلمين في نظر اليهود ((5)) .

_ (1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 3. (2) المستفاد من قصص الَقُرْآن للدعوة والدعاة. د. عبد الكريم زيدان. الطبعة الأولى. مؤسسة الرسالة. بيروت. 1997 م: 1/7. (3) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 111. (4) سُوْرَة هُوْد: الآية 49. (5) التحرير والتنوير: 1 /65.

في القصص القرآنية فائدة عظيمة للكفار والمشركين والعصاة والظلمة والمتكبرين، لكي يروا ما حصل بأمثالهم من الأمم السابقة ليتعظوا قال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ((1)) . في قصص القرآن بيان لسنن الله في خلقه من الأمم والجماعات والأفراد، وهي سنن جرت على الماضين، وتجري على اللاحقين ليعتبر بها المؤمنون، فلهذا لا يراد بقصص القرآن الكريم السرد التاريخي للأمم والأشخاص والجماعات، وإنما يذكر منها مواضع العبرة والاتعاظ والتذكر، كما قال تعالى: {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، لذلك لا تذكر الحوادث بالترتيب ولا تستقصى ((3)) . في القصص القرآني فائدة كبيرة لأهل الدعوة والدعاة لا غنى لهم عن معرفتها فهي تعرفهم: مناهج الأنبياء ـ عَلَيْهما السَّلام ـ في دعوة أقوامهم إلى الله وبيان ما أصابهم من أذى في سبيل الله، وكان النصر في نهاية المطاف نصيبهم، وكيف أن الله أظهرهم على عدوهم رغم قلة عددهم. فعلى اللاحقين من المؤمنين عدم اليأس، وليعلموا أن ما أصابهم من أذى قد أصاب من قبلهم، ولكن العاقبة أبداً للمتقين ((4)) لما قال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((5)) . وكذلك هناك فائدة أخرى للدعاة، وهي ما اشتملت عليه القصص القرآنية من بيان لما جبلت عليه النفس الإنسانية من غرائز وميول ورغبات وكيف عالج الأنبياء ـ عَلَيْهما السَّلام ـ أحوال الناس وفقاً لهذه الميول والرغبات.

_ (1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 176. (2) سُوْرَة هُوْد: الآية 120. (3) ينظر محاسن التأويل: 1 /144. المستفاد من قصص القرآن: 1/ 7. (4) المستفاد من قصص القرآن: 1/ 7. (5) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 128.

هناك فائدة أخرى يمكن أن يستفاد منها التربويون من خلال دراسة المنهج التربوي في القصص القرآني. وكذلك يمكن الاستفادة من القصص القرآني لأهل الاقتصاد من خلال دراسة المعالجة الاقتصادية كما في قصة سيدنا يوسف (- عليه السلام -) مثلاً، أو اقتصاد قارون الجامع بين العلم والكفر كاقتصاد العولمة الحديث مثلاً. والقادة كذلك لا غنى لهم عن دراسة القصص القرآني من خلال إدارة بعض الأنبياء لشؤون الناس، إضافة إلى مهمة النبوة، ولهم في قصة سيدنا سليمان (- عليه السلام -) المثل الأعلى، وكيف استطاع الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) في زمن بسيط من أن يجعل كل جزيرة العرب تحت لوائه قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ((1)) ((2)) . ويتعلم الشباب من قصة سيدنا يوسف (- عليه السلام -) العفاف وكيفية كبح الشهوات. وكذلك من حياء ابنة شعيب في سُوْرَة الْقَصَصِ في قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((3)) . وفي القصص تسلية للمبتلين فقد ابتلي سيدنا أيوب (- عليه السلام -) بالمال والأولاد والنفس. وأغرى إبليس قومه فطردوه وجعلوه بعيداً عن الديار فلم يزده ذلك إلا شكراً وصبراً حتى عوفي ((4)) . ولا ريب أن كل ذلك مما يستقيم به بناء الشخصية الإسلامية قرآنياً أو على قول بعض الباحثين:

_ (1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 159. (2) المستفاد من قصص القرآن: 2 /211. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (4) القصص الحق. وهبة رشدي. تقديم: مُحَمَّد عمارة. الطبعة الأولى. دار البيان العربي. القاهرة. 1992 م: 1/214-215.

" يستفاد من قصص القرآن الكريم التأسي الحق بأنبياء الحق ـ عَلَيْهم الصَلاة والسَّلام ـ وفي ذلك فائدة وأي فائدة " ((1)) ، وهو الذي نعده نحن أحد مقومات السلوك الإيماني للشخصية الإسلامية من خلال تكرار القصص القرآني المتلو يومياً وإعادتها. وفي سُوْرَة الْقَصَصِ استفدنا أيضاً أربعة فوائد: إن الطاغية مهما بلغ جنده وتجبره مآله الهزيمة. إن قوة الإيمان تغلب كلّ قوة كفرية. إن المال الذي يؤدي بصاحبه إلى الهلاك، هو مال لا فائدة فيه في الحياة الدنيا. إن مآل الإنسان المؤمن هو الرجوع إلى معاده الذي أحب في الدنيا أو في الآخرة.

_ (1) المصدر نفسه: 2/ 397.

الفصل الثاني: وقفات بين يدي السورة

الفصل الثاني: وقفات بين يدي السّورة المبحث الأول: نظرات توجيهية في سُوْرَة الْقَصَصِ المطلب الأول: توجيه المعنى في ذاتية السورة من الواضح للعيان أن السمة الغالبة على سورة القصص هي نظام الجملة الطويلة، المؤدية للبيان في تفخيم اللفظ وتعظيم المعنى، وذلك أن اختلاف سياق قصة نبي الله موسى (- عليه السلام -) فيها، يختلف كل الاختلاف عن قصة النبي الكريم نفسه في باقي مواضعها من القرآن الكريم. وقد علل ذلك الدكتور راجي رفاعي بقوله: " وقصة نبي الله موسى (- عليه السلام -) في سورة القصص تأخذ بعداً شمولياً مؤدياً لذاتية حقيقة القصة في إطالة مقصودة بذاتها، لتشمل فيما تشمله من أشياء: أولاً: زيادة التبيين للسياق الذي تسير فيه القصة بأسلوب جديد. ثانياً: الإكثار من ذكر الجزئيّات القصصية التي لم تعرف من قبل. ثالثاً: إعادة الرواية الحقيقية التي حرفت في التوراة المنحولة " ((1)) . ونحن نوافق هذا الباحث فيما ذهب إليه، ونزيد عليه في توجيه المعنى الذي هو: (الأخذ بسياق النص نحو إبراز تأويلاته المؤدية إلى معناه) ((2)) . بأن نحاول بناء مخطط بياني بخطوط عريضة لذاتية سورة القصص، فهذا المخطط سوف يشمل ((3)) : علو فرعون في الأرض. استضعاف بني إسرائيل. ولادة موسى (- عليه السلام -) والتقاط آل فرعون له. قصة إرضاع موسى (- عليه السلام -) . حادثة قتل موسى (- عليه السلام -) لعدوه. هم موسى (- عليه السلام -) بالبطش بالعدو الآخر. خروج موسى من المدينة بعد التآمر عليه. وصول موسى (- عليه السلام -) إلى مدين وسقيه الماء للمرأتين. زواج موسى (- عليه السلام -) من بنت شعيب (- عليه السلام -) .

_ (1) موسى (- عليه السلام -) في الكتاب والسنة. د. راجي رفاعي. الطبعة الأولى. دار النشر الأكاديمية. القاهرة. 1992 م: ص238. وراجع قصص الأنبياء في المرويات الإسلامية. دراسة مقارنة. فهيمة مُحَمَّد علي. الطبعة الأولى. . دار الشرق. القاهرة. 1994 م: ص 299. إذ تؤيد مؤلفته ما نقلناه بقولها: " إن في سُوْرَة الْقَصَصِ انسجاماً في إعطاء تشخيص كلي لصورة موسى عليه الصلاة والسلام ". (2) التحليل التطبيقي للنصوص. حكيمة محسن. الطبعة الثانية. مكتبة الفكر. بيروت، لبنان. 1988 م: ص 337. (3) استناداً إلى السورة نفسها.

ونلاحظ ههنا أن اسم الأب لم يذكر صراحة في سورة القصص ولا في سواها، غير أن الآثار الصحيحة وردت بذلك ((1)) . قضاء سيدنا موسى (- عليه السلام -) الأجل. قصة إرسال موسى (- عليه السلام -) وكلام الله تعالى له. إرسال هارون مع موسى (- عليه السلام -) . أمر فرعون لهامان ببناء الصرح. إغراق جنود فرعون معه. المنة على موسى (- عليه السلام -) . تذكير رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما جرى، وذكر كفر قومه. صفات المؤمنين. شروط إهلاك القرى. آلاء الله عز وجل يوم القيامة. صفات الله عز وجل. ذكر قصة قارون. تذكير رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما لله من قوة. والملاحظ على هذا المخطط الذي يختصر لنا مقاصد سورة القصص أنه يشمل أموراً يرتبط بعضها ببعض، ويأخذ بعضها برقبة بعض.

_ (1) ينظر قصص الأنبياء في المرويات الإسلامية: 299، وراجع قصص الأنبياء. الحَافِظ عماد الدِّيْن إسماعيل بن عمر بن كَثِير القُرَشي الدَّمَشْقي أبو الفِداء. ت 774 هـ. الطبعة الثانية. تحقيق وتعليق: مُحَمَّد عَلِيّ الصابوني. دار القُرْآن الكَرِيْم. مصر. 1981م: ص224. قصص الأنبياء. عبد الوهاب النجار. مكتبة النهضة العربية. الطبعة الثالثة. مصر. (د. ت) : ص169، وهو يشكك في ذلك.

ومن قبل تنبه القدماء لذلك، فقال ابن جماعة المقدسي: " وقد تضمنت سورة القصص جماع قصة موسى ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ، وجاءت القصة في موضعها ناصعة كالشمس في رابعة السماء، ثم بعد ذلك أثنى الله جل جلاله على نفسه وعدد على رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) نعمه حتَّى انتهاء السورة " ((1)) . ويزيد هذا النص المهم وضوحاً ما ذكره بعض الباحثين المحدثين، إذ قال: " والمتتبع لما احتجنته سورة القصص يجد جانباً من جوانب إبراز النص المكرر بصيغة لا تشعر بتكراره، ولم يأت ذلك إلا في كلام الله تعالى، فقصة نبي الله موسى (- صلى الله عليه وسلم -) متفرقة في عدة آيات، إلا أن صيغتها الإلهية في سورة القصص تجعلها من الروعة بمكان، ثم إن وجه الإعجاز يظهر بعد ذلك في المقارنة القرآنية بين فرعون وجنوده وقريش وأظن ظناً يقرب من اليقين أن خواتيم سورة القصص التي احتوت على قصة قارون، هي إشارة لقريش وعظماء أغنياء رجالها بأنهم إن لم يسلموا ويؤمنوا ويتقوا، فإنهم سيواجهون الخسف ـ مصير قارون ـ وفي ذلك ما يدلنا على الرابط المعنوي لأوائل السور بنهاياتها، وما فيها من إشارات" ((2)) .

_ (1) رسالة في فضائل السّور. مُحَمَّد بن إبراهيم بن سَعَد الله بن جماعة. (639 ـ 727) . تحقيق: مُحَمَّد رشاد. الطبعة الأولى. دار الحديث. مصر. 1408 هـ. رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية. غانم قدوري الحمد. الطبعة الأولى. اللجنة الوطنية للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري. مؤسسة المطبوعات العربية. 1402 هـ ـ 1982 م: ص 47-48. (2) الوحدة الموضوعية في الَقُرْآن الكَرِيم. سليم سليمان. الطبعة الثانية. الدار التونسية للنشر. تونس. 1988 م: ص391.

ونحن إِذَا اتجهنا ناحية التوجيه المعنوي لذاتية السورة في محاولتنا لإبراز مكامن التحليل البحثي لهذه السورة نجد أن آيات سورة القصص تأخذ طريقاً مبيناً في الإيضاح فقوله تعالى: {َلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) قد سبك في صياغته اللفظية بجملة غير مسبوقة، في التعبير القرآني {وَصَّلْنَا} ، واقتران هذا الإيصال والتوصيل بالتذكير بالفعل المضارع يرينا وجهاً من وجوه آفاق النص القرآني، ويمكن فهم هذا الوجه بأن جملة {لَهُمُ الْقَوْلَ} مقترنة بما بعدها لا بما قبلها، فينتج عن ذلك أن نخرج بالمعنى العام: إنا نواصل إرسال رسلنا بكلماتنا للناس كافة لأجل ان يتذكروا الإيمان ((2)) . وهو بعض ما تنبه له قدماء المفسرين ((3)) ، فإذا ما أخذنا آية أخرى وحاولنا تحليلها تحليلاً موضوعياً فإننا سنأخذ على سبيل المثال لا الحصر في ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 51. (2) ينظر الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 /177. (3) جامع البَيَان عَنْ تَأوِيل آي القُرْآن المعروف بتفسير الطَّبَري. أبو جعفر مُحَمَّد بن جَرِير الطَّبَري. ت 310 هـ. حققه وخرج أحاديثه: محمود مُحَمَّد شاكر. راجع أحاديثه: أحمد مُحَمَّد شاكر. دار المعارف بمصر ج 8 سنة 1971. ج 11 سنة 1957 م: 8 /199. وقارن مَفَاتِيح الغَيْب: 12/ 262. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.

فإن سياق المعنى في الآية هو خطاب أهل مكة من الكفار والمشركين لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، والملاحظ أن الصيغة التي أتت بها بعض ألفاظها تحمل إعجازاً محسوساً في حد ذاتها فقوله تعالى: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} يكاد أن يشخص حالهم بين الخوف والاستهزاء، وهو ماتنبه له بعض المفسرين المعاصرين فقال: " وقوله تعالى: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} مشعر في جوهره ومضمونه أنهم ـ أي الكفار من قريش ـ مزجوا رفضهم الانكاري بمحاولة إبراز ما في دواخل أنفسهم من خوف من أنهم إِذَا ما اسلموا اخرجتهم العرب من الحرم ـ هكذا تصوروا وزعموا ـ فمنّ الله عليهم بتمكين الحرم، ووصف أكثرهم بعدم العلم " ((1)) . فتوجيه المعنى واضح هنا كلّ الوضوح في سياقه من سُوْرَة الْقَصَصِ، ونحن في توجيهنا للمعنى العام نلاحظ أن هنالك تواصلاً بين قصة موسى (- عليه السلام -) وهذه الآية، فبنو اسرائيل بعد أن أنجاهم الله تعالى من فرعون وجنوده جادلوا رسولهم ورفضوا دخول الارض المقدسة. والسياق التعبيري القرآني يشعر في بعض معانيه بأن حال هؤلاء كحال هؤلاء ((2)) ، أي: إن بني إسرائيل كادوا يتخطفون في رفضهم دخول الأرض المقدسة، وهو أمر إلهي.

_ (1) تفسير آيات الجدل في القرآن الكريم. حسن رفاعي. الطبعة الأولى. القاهرة. 1994 م.: ص497. (2) ينظر التفسير الحديث. مُحَمَّد عزة دروزة. الطبعة الرابعة، بيروت، لبنان. 1984 م: 7/118.

ونجد من هذا التوجيه للمعنى في داخل السورة أن قوله تعالى فيها: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ((1)) ، يتوجه نحو تقرير موضوع جديد في النفوس بواسطة ابراز مآل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وهي آية طالما آثارت عند المفسرين نقاشات لإبراز المعاني الأولى، والمعاني الثانية، لا بل والمعنى الكامن في سياق النص، فقال ابن قتيبة: " معاد الرجل بلده، لانه يتصرف في البلاد، ثُمَّ يعود إليه. وفي الآية تقديم وتاخير، والمعنى أن الذي فرض عليك القرآن، أي: جعلك نبياً، ينزل عليك القرآن، وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبياً يوحى اليك الكتاب، لرادك إلى مكة ظاهراً قاهراً " ((2)) . وهو تأويل معنوي يشعر بإحساس ابن قتيبة بتحليل المضمون بدلالة الفظ، بينما يقرر مفسر من المحدثين في توجيهه للمعنى أنه: " اختلفت الآراء في هذا المعاد الذي تقرره الآية الكريمة، فقال قوم: أي إلى وطنك مكة. وقال قوم: أي إلى يوم القيامة. وعزز الرأي الاول ما تلاها من قوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} ((3)) ، فإن السياق مشعر بالرأي الاول " ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (2) تَأوِيل مُشْكِل القُرْآن. ابن قتيبة أبو مُحَمَّد عَبْد الله بن مسلم. ت 276. الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد صقر. المكتبة العلمية. المدينة المنورة. 1981 م.: ص 425. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (4) مكامن العرفان في تفسير الَقُرْآن. الشيخ حازم عَبْد الله. الطبعة الأولى. الدار الإسلامية، بيروت، لبنان. 1995 م: 4 / 266-267.

وهكذا يستبين لنا أن آفاق النص المفتوح توجه المعاني في تأويله، ومثل ذلك قوله تعالى فيها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((1)) ، وهي آية صيغت صياغة جميلة ذات دلالة على ما يرضي الله عزوجل، غير أن كلمة {الْفَرِحِينَ} تفتح أبواباً لتفسيرها وتأويلها بين كونها على الحقيقة، أو على المجاز. فقال مجاهد: " يعني المبذخين الأشرين البطرين الذين لايشكرون الله فيما أعطاهم " ((2)) ، فأول الفرحين بمن هذه صفتهم، ولا ريب في أن توجيه هذا التأويل يتطلب أن يكون قد تم نقله من المعنى الحقيقي الذي هو كل فرح ضمن سياق الفرح الانساني. الى المعنى المجازي، الذي هو: الفرح، كل من أوتي نعمة فكفرها وجحدها وفرح بكفره وجحوده في الدنيا، أو بمعنى آخر هو أن مجازية معنى (الفرح) انتقلت إلى حال من نهي عن الفرح بما أوتي في الدنيا، ولم يحبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فيتوجه المعنى في ذلك إلى سياق جديد مجازي، وهو ما تنبه عليه بعض الدارسين للنص القرآني، فقال: " الفرح مفهوم مجازي حقيقته السرور، ومجازه الحب الدنيوي، والأطمئنان لها، وفي سورة القصص جاء قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((3)) . وفسرت كلمة {الْفَرِحِينَ} بمعنىالكفار، فنقلت إلى المجاز، ولا ريب أن نقل الكلمة من الحقيقة إلى المجاز لا يتم الا بقرينة صارفة " ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (2) تفسير مجاهد. مجاهد بن جبر المخزومي التابعي أبو الحجاج. (21 ـ 104) . تحقيق: عَبْد الرَّحْمَن الطاهر مُحَمَّد السورتي. المنشورات العلمية. بيروت. (د. ت) : ص490. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (4) الألفاظ الَقُرْآنية بين الحقيقة والمجاز. دراسة نقدية. عَبْد الله إمام عَبْد الله. الطبعة الأولى. مطبعة الرحمة. القاهرة. 1991 م: ص 322 –323.

ونحن نعتقد أن الأسلوب القرآني في سورة القصص من أولها إلى أخرها جاء في شكل من أشكال التعبير الإنسيابي الذي فتح المعنى الكامن في سياق الألفاظ؛ ليتوجه تأويل قدماء المفسرين ومحدثيهم، فالمعنى في سورة القصص يجري في شكل يأخذ بمجامع القلوب. وقد تنبه دارسو الأسلوب القرآني على حقيقة ذلك، وقرروا أن نص آيات سورة القصص في أسلوبه يحمل من أوجه الإعجاز ما يفتح المعاني لتنساب انسياباً وفق البناء اللغوي المعنوي ((1)) . وقد وجدنا أثناء التحليل الشمولي لسورة القصص أن في ضمن آياتها معاني لا تتأتى من مجرد القراءة الأولى ولا الثانية، بل تحتاج إلى قراءات وقراءات ليتفتح للعقل من إعادة استقرائها استنباط إشارات النص وهو أمر يمس توجيه المعنى يحبث يكون متواصلاً ومترابطاً معه، ولا بأس باستعراض نموذج سوى ما قدمناه في استعراضنا للنماذج الأخرى المنتقاة من سورة القصص، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ((2)) . فإن سياق الآية في توجيهها المعنوي يختلف عن آيات أخرى جاءت بالمعنى نفسه في مواضع أخرى من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ((3)) ، وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ((4)) .

_ (1) ينظر دراسات في أساليب القرآن الكريم. مُحَمَّد عبد الخالق عظيمة. الطبعة الثالثة. مَكْتَبَة الخانجي بالقاهرة. 1986 م: 5 / 351. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68. (3) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 8. (4) سُوْرَة الرَّعْدِ: الآية 16. سُوْرَة الزُّمَرِ: الآية 62.

المطلب الثاني: توجيه الآيات التي أشكل إعرابها

فإن قوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار} دال على شمولية الخلق وفق المشيئة الإلهية التي لا اختيار معها، والنصف الثاني من الاية: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} دال في معناه المستنبط على أن لا خيار لمخلوق في خلق مع خلق الله ((1)) . وقد دل العلم الحديث على إعجاز هذه الآية إعجازاً سبق القرن العشرين الميلادي بخمسة عشر قرناً، ونجد ذلك في النص الآتي الذي يحلل فيه أحد الباحثين هذه الآية: " وفي القرآن الكريم آيه تفتح معانيها الظاهرة والباطنة (المعاني الكامنة) أعين المؤمنين والكافرين في الإعجاز الذي تُؤَوَّل وتؤُول إليه وهي: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، أي: في الخلق والاختيار فيه، فقد دلت البحوث العلمية الأكاديمية أن لا إمكانية مطلقاً رغم كل التطور العلمي والتقني لاختيار خارجي في التكاثر والحمل والإنجاب، بعد أن أثبت العلم الحديث استحالة إيجاد خلق جديد من لا شيء سوى الانتخاب العلمي، وبهذا فإن الجملة وردت في آية قصيرة سبقت كل علوم الغرب الحديثة " ((2)) . ونحن إنما نقلنا هذا النص استئناساً به في تحليلنا لعملية توجيه المعنى في سورة القصص. المطلب الثاني: توجيه الآيات التي أشكل إعرابها في سورة القصص وأثرها في تغيير المعاني لاحظ القدماء أن الإعراب يدل على المعنى الكامن في الجملة لذلك جعلوا الإعراب كما يقول الدكتور ثروت سعيد:

_ (1) الجواهر في تفسير الَقُرْآن الكَرِيم. الشيخ طنطاوي جوهري. الطبعة الثانية. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. 1350 هـ: 13 / 45. (2) الَقُرْآن الكَرِيم والعلوم الطبية الحديثة. د. رشدي عبد الحميد. الطبعة الثانية. الدار العلمية. الكويت. 1416 هـ ـ 1996 م: ص325.

" باباً للولوج إلى باحة النص وضياءً ينير ظلمة المخفي، فالإعراب ليس كما فهمه بعض الناس أنه مجرد معرفةُ أماكن الرفع والنصب والخفض، بل هو في حقيقة الأمر مفتاح فهم النص وتأويله وشرحه " ((1)) . وقد اهتم القدماء من المفسرين بتوجيه إعراب سورة القصص نحو المبنى والمعنى، وخرجوا من ذلك بنتائج مهمة جداً على صعيد البلاغة والمعاني ((2)) . ومن الملاحظ نحوياً أن سورة القصص نصّ متعدد المعاني، لذلك كان اختلاف القدماء والمحدثين في توجيه الإعراب أحد أسباب (ثراء النص المعرب) رغم إنهم أوجدوا مشكلاً في الإعراب ـ هكذا بزعمهم ـ ولكن كل ذلك كان في خدمة النصّ القرآني في سورة القصص في حد ذاتها ((3)) . وفي ذلك يقول بعض الباحثين:

_ (1) أثر الإعراب في علم المعاني. د. ثروت أحمد سعيد. الطبعة الثانية. دار النشر الحديث. مصر. 1996 م: ص177. (2) راجع في إعراب سُوْرَة الْقَصَصِ نحوياً وبلاغياً لدى القدماء الكشاف: 3/164. البحر المحيط: ص104. ومن المحدثين، دراسات في أساليب القرآن الكريم: 5/35. (3) إعراب القرآن المنسوب للزجاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل، ت 311 هـ، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الطبعة الثالثة، دار الكتب اللبنانية، 1406 هـ ـ 1986 م.: 1/71، 1/123 و 2/433 و 3/802. البَيَان في غريب إعراب القُرْآن. أبو البركات الأنباري. ت 577 هـ. تحقيق: طه عَبْد الحميد طه. مراجعة مصطفى السقا. الناشر الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر. مصر. 1390 هـ. 1970 م: 2/329. مشكل إعراب القُرْآن. مكي بن أَبِي طالب القيسي أبو مُحَمَّد. ت 437 هـ. تحقيق: د. حَاتِم صالح الضامن. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط2. 1405 هـ: 1 /541.

" إن في سورة القصص مواطن أشكلت إعرابياً على بعض المعربين القدماء إلا أن ذلك الإشكال والاختلاف أثرى معاني الآيات، مما جعل المفسرين يستعينون بنتائج تلك الإشكالات الإعرابية في زيادة المعاني المؤداة. ومن ذلك اختلافهم في إعراب: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((1)) ، فقد أشكل في النص إضمار الفاعل (وهو الله جل جلاله) ، فأعرب بعضهم (نتلو) فعلاً مضارعاً وفاعله محذوف تقديره نحن، ولكن بعضهم أعربوا (نتلو) بأن فاعله ظاهر، لأنهم لم يستحلوا دينياً أن يقدروا حذف الفاعل في أول النص " ((2)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (2) المشكلات الإعرابية في النصّ الَقُرْآني. د. عماد علي خربوطلي. الطبعة الثانية. مؤسسة النشر الحديث. القاهرة. 1986 م: ص317.

وكل هذا أدى إلى أن تكون عملية إعراب كلمات آيات سورة القصص ذات خاصية استلهامية في توجيه معنى النص المعرب، مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} ((1)) ((2)) ، فان الإعراب هو الذي كشف عن العائد إلى الضمير في {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي} هل هو الإسرائيلي أم هو المصري؟ فإن قوله: {بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} ، وهي جملة مكونة من (جار ومجرور للاسم الموصول ومبتدأ وخبره مرتبط ذلك كلّ بالجار والمجرور (لهما) ، وفاعل هو المراد معرفته) دلت على أن الثاني (أي المصري الآخر ليس هو الذي يدلّ عليه النص القرآني بصيغة (عدو لهما) أبداً بل هو الإسرائيلي نفسه ((3)) . وفي ذلك يقول الدكتور عبد الله عبد الله:

_ (1) جامع البيان: 8 /218. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 19. (3) المعاني الكامنة في النصّ الَقُرْآنيّ. دراسة تحليلية. د. عَبْد الله عَبْد الله. الطبعة الأولى. الدار الجماهيرية. طرابلس. ليبيا. 1412 هـ:: ص318.

" إن استنباط المعنى من ذاتية الإعراب يفيد في فهم ذات الآية، وهو علم تنبه له القدماء إلا أنهم لم يطوروه بل نقلوا علم المعاني من علم النحو إلى علوم البلاغة، ولو أنهم أبقوهما سوياً لما اضطروا إلى التنازع في عائد الضمير في قوله تعالى في سورة القصص {عَدُوٌّ لَهُمَا} ، فلو أنهم أعربوه فاعلاً مقترناً جاره بضمير موسى والمصري، لتوصلوا إلى تحديد المراد من خلال دلالة الإعراب، وهناك آيات أخرى لا يمكن حل مشكلاتها المعنوية إلا بالعودة إلى الإعراب وتوجيه المعنى " ((1)) . وقد وجدنا كثيراً من الباحثين يقومون بإعادة إعراب سورة القصص (كاملة) ليستخرجوا من ذلك دواعي الظواهر التأويلية فافلحوا في ذلك ((2)) . إن سُوْرَة الْقَصَصِ في حد ذاتها من السور القليلة التي تتميز بانسيابية المعنى الإعرابي، ويتواصل التوجيه النحوي ـ الإعرابي ـ كما تقدم أيضاً ـ لذلك قمنا في سياق الرسالة بإعراب كلّ مقطع من مقاطعها، ضمن فصله الخاص به، غير أنا في هذا المطلب قمنا بعملية توجيه نحوي للدلالة الإعرابية المختلف فيها بين بعض المفسرين ومشكلاتها لدى بعض المعربين لأجل فهم أدق لما يؤدي إليه اختلاف الإعراب من اختلاف في المعنى بين الإعراب القديم والتوجيه الحديث، ولم نذكر في توجيهها إلا ما يقتضيه السياق في بعض الآيات وفق ترتيبها في سُوْرَة الْقَصَصِ لأجل الاستفادة من دلالة الإعراب، وقمنا بذلك وفق التقسيم الآتي: ذكر الآية أو بعض الآية موضع الخلاف الإعرابي.

_ (1) المعاني الكامنة: ص 321. (2) معجم مفردات ألفاظ الَقُرْآن. أبو القَاسِم بن حسين بن مُحَمَّد المعروف بالراغب الأصفهاني. ت 502 هـ. تحقيق: نديم المرعشلي. دار الفكر. بيروت. (د. ت) : ص506. إعراب القرآن وبيانه وصرفه، محيي الدين درويش. دار ابن كثير للطباعة والنشر. بيروت، لبنان. 1412 هـ.: 5/ 276.

ذكر رأي أو رأيين أو أكثر في الاختلاف في إعراب الآية. توجيه الرأي المختار وفق تحليلنا. وبذلك نكون ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ قد أتممنا الدلالات الإعرابية المختلف فيها. {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1)) قال مكي بن أبي طالب القيسي: " (تلك) في موضع رفع بمعنى هذه تلك، و (آيات) بدل منها، ويجوز في الكلام أن تكون (تلك) في موضع نصب بـ (نتلو) وتنصب آيات على البدل من (تلك) " ((2)) . وقال القرطبي: " (تلك) في موضع رفع بمعنى هذه تلك، و (آيات) بدل منها، ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ (نتلو) ، و (آيات) بدل منها أيضاً، وتنصبها كما تقول: زيداً ضربت. و (المبين) ، أي: المبين بركته وخيره، والمبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - " ((3)) . وقال محي الدين درويش: " (تلك) مبتدأ، و (آيات الكتاب المبين) خبرها " ((4)) . وقال محمود صافي: " وجملة (نتلو) لا محل لها، استئناف بياني، أو في محل رفع خبر المبتدأ (تلك) ، والرابط مقدر، أي: نتلوها … و (آيات) بدل من الإشارة، أو هي خبر ثان … ويجوز أن تكون في محل نصب حال من (آيات) والعامل الإشارة " ((5)) .

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 2. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 541. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن (المعروف بتفسير القرطبي) أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن أحمد القرطبي. ت 671 هـ. الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد عَبْد العليم البردوني. مركز تحقيق التراث. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1978 م: 6/ 4963. (4) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 278. (5) الجدول في إعراب القُرْآن وصرفه وبيانه. محمود صافي. الطبعة الأولى. دار الرشيد. دمشق. 1991 م: 20/ 221.

إن الاختلاف بين المعربين أدى إلى أن يكون إعراب كلمة (تلك) بكونها مرفوعة دال على الثبات لآيات الَقُرْآن الكَرِيم التي أنزلت، أما إعرابها منصوبة بالفتحة بتقدير: أعني، فهو تكلف لا يضيف إلى المعنى شيئاً. {نَتْلُوا عَلَيْكَ} ((1)) قال العكبري: " مفعوله محذوف دلت عليه صفته، تقديره شيئاً من نبأ موسى، وعلى قول الأخفش (من) زائدة و (بالحق) حال من النبأ " ((2)) . وقال السمين الحلبي: " ويجوز أن يكون مفعوله محذوف دلت عليه صفته، وهي (مِنْ نَبَإِ مُوسَى) ، ويجوز أن تكون (من) مزيدة، أي: نتلو عليك نبأ موسى. (وبالحق) يجوز أن يكون حالاً من فاعل (نتلو) أو من مفعوله، أي: متلبسين أو ملتبساً بالحق، أو متعلق بنفس (نتلو) يعني نتلوه بسبب الحق " ((3)) .

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 3. (2) التبيان في إعراب القُرْآن. محب الدِّيْن عَبْد الله بن أَبِي عَبْد الله الحسين بن أَبِي البقاء عَبْد الله بن الحسين العكبري أبو البقاء. (538 ـ 616) . تحقيق: عَلِيّ مُحَمَّد البجاوى. إحياء الكتب العربية. (د. ت) : 1 /176. (3) ينظر الدُّرُّ المَصُوْن في عُلُوْم الكِتَاب المَكْنُوْن. ابن السمين الحلبي. شهاب الدِّيْن أبو العباس بن يوسف. ت 756 هـ. تحقيق الشيخ عَلِيّ بن معوض. وآخرون. ط1. دار الكتب العلمية. بيروت. 1414 هـ. 1993 م: 5/ 331.

ونحن نرى أن إعراب (نتلو) وتعليقه بما سبق من الكلام على رأي بعض المعربين فيه إبعاد للمعنى عن وضعه الذي وضع ذلك التقدير له، وذلك إن جعل مفعوله محذوفاً وتقديره (شيئاً) على رأي العكبري، أوجه في دلالته الإعرابية من باقي الآراء، أما رأي الأخفش في كون (من) زائدة، فلا يليق بالمقام التفخيمي لألفاظ الَقُرْآن الكَرِيم حتَّى وإن أتى ذلك التعبير في مقام الإعراب، وأياً ما يكن، فنحن نرجح هنا أن (نتلو) ـ بعيداً عن الخلاف فيها ـ فعل مضارع مرفوع وأنه لا محذوف في تقديره. {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((1)) قال مكي بن أبي طالب: " مفعولان لـ (جعل) بمعنى صير، فإن كانت بمعنى خلق تعدت إلى مفعول واحد " ((2)) . وقال ابن الأنباري: " نصب (أهلها) و (شيعاً) لأنهما مفعولا (جعل) لأنه بمعنى صيَّر " ((3)) . وقال النحاس: " و {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} مفعولان " ((4)) . وقال محي الدين درويش: " (جعل أهلها) فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول و (شيعاً) مفعول به ثانٍ " ((5)) . ونحن نرى أن الدلالة الإعرابية لـ (جعل) في نصبها مفعولين بعدها، أوجبت تصور شدة الظلم من فرعون، ولا خلاف بينهم في كون (جعل) نصبت مفعولين، إنما الخلاف في كونها بمعنى (صيّر) ، فدلالة (جعل) غير دلالة (صيّر) وإن كانتا مما ينصب مفعولين من بعدهما، ففرعون جعل على الحقيقة ولم يصيّر على المجاز، ومن هاهنا كان تقدير الإعراب على حقيقته خيراً من الاختلاف في كون (جعل) بمعنى (صيّر) كما هو واضح. {يَسْتَضْعِفُ} ((6))

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 4. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /541. (3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 229. (4) إعراب القرآن (النحاس) : 2/ 542. (5) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 279. (6) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 4.

قال السمين الحلبي: " يجوز فيها ثلاثة أوجه: الأول ـ إنه مستأنف بيان لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً. الثاني ـ إنه حال من فاعل (جعل) ، أي: جعلهم كذا حال كونه مُسْتَضْعِفَاً طائفة منهم. الثالث ـ إنه صفة لطائفة " ((1)) . وقال الزمخشري: " حال من الضمير في (وجعل) أو صفة لـ (شيعاً) أو كلام مستأنف " ((2)) . وقال أبو حيان: " والظاهر أن (يستضعف) استئناف يبين حال بعض الشيع، ويجوز أن يكون حالاً من مضير " ((3)) . ونحن نرى مما تقدم في الأوجه الخلافية في إعراب (يستضعف) أنهما جميعاً ذات إثراء للنص القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ، وإن كنا نرجح كون (يستضعف) حالاً على رأي الزمخشري، وابن السمين الحلبي، خلافاً لأبي حيان في جعله إياها استئنافاً، وهو تقدير لا يليق بالكلام الإلهي، لأن بلاغة إعراب النص حالاً أقوى من بلاغة إعراب النص استئنافاً، وذلك بمعنى أن الفعل المضارع (يستضعف) إذا أعرب حالاً دل على أن فرعون قام بالاستضعاف حقيقة فعلية، أما إعرابها استئنافاً فليس فيه تلك الدلالة. {يُذَبِّحُ} ((4)) قال السمين الحلبي: " يجوز فيها ثلاثة أوجه: الاستئناف تفسيراً لـ (يستضعف) ، أو حال من فاعله، أو صفة ثانية لـ (طائفة) " ((5)) .

_ (1) ينظر الدُّرُّ المَصُون: 5/ 331. (2) الكَشَّاف: 3/ 165. (3) البَحْر المُحِيْط: 7/ 104. (4) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 4. (5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 332.

إن دلالة إعراب (يذبّح) ـ وهو فعل مضارع مضعف للمبالغة ـ في كونه حالاً أبلغ وأشدّ بلاغة من إعرابه صفة، لأن الصفة هاهنا لا تدلّ على ما يدلّ عليه الحال الذي هو للاستمرارية والدوام، وذلك لأن الحال في مقاييس الإعراب يتوجه للديمومة الزمنية خلافاً للصفة التي هي جامدة في كلّ حالاتها الإعرابية، ونحن إذا ما أعربنا (يذبّح) هاهنا حالاً دللنا على الزمنية المستمرة، أما إعراب ذلك استئنافاً فلا محل له في أوجه الدلالة الإعرابية، إذ تنتفي بذلك زمنية عملية قيام فرعون بالاستضعاف والقتل والتذبيح والاستحياء، لأن الاستئناف جملة جديدة بعد قوله تعالى: {علاَ فِي الأَرْضِ} والجمل الجديدة تستحق أن تعربا حالاً في موقعها. {وَنُرِيدُ} ((1)) قال السمين الحلبي: " فيه وجهان: أظهرهما إنه عطف على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} عطف فعلية على اسمية، لأن كلتيهما تفسير للنبأ. والثاني إنه حال من فاعل (يستضعف) وفيه ضعف من حيث الصناعة، ومن حيث المعنى، أما الصناعة فلكونه مضارعاً مثبتاً فحقه أن يتجرد من الواو وإضمار مبتدأ قبله، أي: ونحن نريد، ولا حاجة إليه، أما المعنى فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المِنَّة من الله تعَاَلىَ؟ لأنه متى منَّ الله عليهم تعذر استضعاف فرعون إياهم، وقد أجيب عن ذلك بأنه لما كانت المِنَّة بخلاصهم من فرعون سريعة الوقوع قريبة جُعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم " ((2)) .

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 5. (2) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 332.

وقال الزمخشري: " وعطفه على (نتلو) و (يستضعف) غير سديد. قلت: هي جملة معطوفة على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ} ، لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى وفرعون، واقتصاصاً له، (ونريد) حكاية حال ماضية. ويجوز أن يكون حالاً من (يستضعف) ، أي: يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمنّ عليهم، فإن قلت: كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله المّنَّة عليهم، وإذا أراد الله شيئاَ كان ولم يتوقف إلى وقت آخر؟ قلت: لما كانت مِنَّة الله بخلاصهم من فرعون قرينة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم " ((1)) . إن حجج الاختلاف التأويلي في إعراب (ونريد) مما يثري النص القرآني ودلالاته المتعددة، وذلك أن كونه عطفاً على (إن فرعون) لا يستقيم به المعنى، أما ما يستقيم به المعنى فهو جعل (ونريد) حالاً لديمومة القدرة الإلهية، لأن الحال كما قدمنا يدلّ على الاستمرارية، ولا ريب أن عطفه ـ أي النصّ ـ على (ويستضعف) غير سديد لاختلاف التوجيه في الرفع والنصب، وبذلك يستقيم النصّ إعرابياً. {قُرَّةُ عَيْنٍ} ((2)) قال مكي: " رفع على إضمار مبتدأ، أي: هو قُرَّة عَيْنٍ لي. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر (لا تقتلوه) . ويجوز نصبه بإضمار فعل يفسره (لا تقتلوه) تقديره: اتركوا قُرَّة عَيْنٍ لا تقتلوه " ((3)) . وقال ابن الأنباري: " (قُرَّة عَيْنٍ) مرفوع من وجهين: أحدهما أن يكون مرفوعاً لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو قُرَّة عَيْنٍ. والثاني: أن يكون مرفوعاً لأنه مبتدأ، و (لا تقتلوه) خبر " ((4)) .

_ (1) الكَشَّاف: 3 /165. (2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 9. (3) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 547. (4) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 229 –230.

وقال النّحاس: " قال الكسائي: المعنى هذا قُرَّة عَيْنٍ لي ولكَ، وقال أبو جعفر: وفي رفعه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسْحًاق: يكون رفعاً بالابتداء والخبر (لا تقتلوه) ، وإنما بَعُدَ لأنه يصير المعنى: إنه معروف بأنه قُرَّة عَيْنٍ له، وجوزاه أن يكون المعنى: إذا كان قُرَّة عَيْنٍ لي ولك فلا تقتلوه، ولم تقل نقتله، وهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبارون، وكما يخبرون عن أنفسهم (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) يكون لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون لقوم فرعون، أي: لا يشعرون أن يسلبهم مُلكهم ((1)) . وقال العكبري: " أي هو قُرَّة عَيْنٍ و (لي ولك) صفتان لـ (قُرَّة) " ((2)) . وقال أبو حيان: " و (قُرَّة) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو قُرَّة، ويبعد أن يكون مبتدأ والخبر (لا تقتلوه) " ((3)) . وقال الحلبي: " (قُرَّة عَيْنٍ) فيها وجهان أظهرهما أنه خبر مبتدأ أي: هو قُرَّة عَيْنٍ. والثاني ـ وهو بعيد جداً ـ أن يكون مبتدأ والخبر (لا تَقْتُلُوهُ) وكأن هذا القائل حقه أن [لا] يذكر فيقول لا تَقْتُلُوها إِلاَّ أنه لما كان المراد مذكراً ساغ ذلك " ((4)) . وعلى الرغم من هذا الخلاف الواسع في إعراب (قُرَّة عَيْنٍ) فإن جعل المضاف والمضاف إليه رفعاً على المبتدأ والخبر مما يستقيم به النص في دلالاته، وذلك أن الرفع أقوى تقديراً من حالتي النصب والجر وكون المرفوع المبتدأ مضافاً لا يستلزم له تقدير محذوف أو محذوفين، على رأي الكسائي في تقديره، وأبي حيان في تقديره أيضاً، فإهمال التقدير في إعراب أوجه من تكلف ما لا يحتاجه النص القرآني التام.

_ (1) إعراب القرآن (النحاس) : 2/ 543- 544. (2) التبيان في إعراب القرآن: 1/ 176. (3) البَحْر المُحِيْط: 7/ 106. (4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 332 – 333.

وإن هذا الاختلاف في إعراب (قُرَّة عَيْنٍ) يستنتج منه أن جعل الجملة (مضافاً ومضاف إليه) هو أرجح الأقوال عندنا لأنه يدلّ على القوة في إقناع امرأة فرعون لفرعون بدلالة الرفع دون أن نقدر أي محذوف. {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ((1)) قال مكي بن أبي طالب: " (أن) في موضع رفع والجواب محذوف " ((2)) . وقال النَّحَّاس: " (أنْ في موضع رفع، وحُذف الجواب لأَنَّهُ قد تقدم ما يدلّ عليه، ولا سيما وبعده {لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} " ((3)) . وقال السمين الحلبي: " جوابها محذوف، أي: لأبدت {لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} متعلق بـ (ربطنا) ، والباء في (به) مزيدة، أي: لتُظْهِرَه. وقيل: ليست زائدة بل سببية، والمفعول محذوف أي: لتُبْدي القول بسبب موسى أو بسبب الوحي، فالضمير يجوز عوده على موسى أو على الوحي " ((4)) . ونحن نرى أن المعنى الذي أوجبه اختلاف موضع التقدير في مرفوع (أن) يتوجه إِلى أَنَّ أم موسى اطمأنت بإيمانها بالربط على قلبها دون أنْ نقدر المحذوف الذي قدره ابن السَّمِين الحَلَبِي (أبدت) لأَنَّهُ يخل بالمعنى، وفيه زيادة على النص لا داعي لها. {بَلَغَ أَشُدَّهُ} ((5)) قال مكي بن أبي طالب: " (أشدّه) عند سيبويه وزنه أَفْعُل، وهو عنده جمع شدّة، كنعمة وأنعم، وقال غيره هو جمع شدّ من قدّ واقد. وقيل: هو واحد وليس في الكلام اسم مفرد على أفعل بغير هاء إلا اصبعاً في بعض لغاته " ((6)) . وقال الأَنْبَارِي: " أشد جمع فيه ثلاثة أوجه:

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 10. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542. (3) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 544. (4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 333. (5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 14. (6) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.وينظر إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2 /545.

الأول: أن يكون جمع (شِدّة) كنِعْمَة وأنعم، وأصل أشدّ أشدُد على وزن أفعل، إلاَ أَنْه اجتمع حرفان متحركان من جنس واحد في كلمة واحدة، فسكنوا الأول وأدغموه في الثاني. وقيل: أشدّ جمع شدّ نحو قدّ وأقُدّ الثالث: أن يكون واحد ليس في الأسماء المفردة ما هو على وزن أفعُل ألا أصبع في بعض اللغات" ((1)) . والاختلاف الصرفي في تقدير وزن (أشده) إنما يستقيم تصريفه على رأي سيبويه في جعله له جمع شدة خلافاً للباقين الذين قدروا فيه عدة وجوه، منها ألا يكون له جمع كما ذكر ابن الأَنْبَارِي، وكذلك زعمهم أنه على زنة أفعل، وكل ذلك تكلف في التقدير الصرفي، أما إعرابه فهو مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، وتقديره هو، أي: لما بلغ أشده هو على رأي النحاة. {يَقْتَتلاَنِ} ((2)) قال السمين الحلبي: صفة لرجلين. وقال ابن عطية: حال منهما وسيبويه وإن كان جَوَّزَها من النكرة مطلقاً إلاَ أَنْ غيره ـ وهم الأكثر ـ يشترطون فيها ما سيُسَوِّغُ الابتداء بها ((3)) . إِنَّ دلالة كون (يقتتلان) في الاختلاف الإعرابي ذات توجيه للمعنى كون إعراب الكلمة صفة أبلغ من إعرابها حالاً، والرأي الذي ذكره سيبويه فيه توجيه للمعنى كون النكرة المطلقة تفيد عموم القتال بين الاثنين، وإن كانت العرب لا تجوز الابتداء بالنكرة في ذلك.

_ (1) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /230. (2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 15. (3) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 335. وينظر المُحَرِّر الوَجِيْز في تَفْسِير الكِتَاب العزيز (المعروف بتفسير ابن عطية) . عَبْد الحق الغرناطي الأندلسي ابن عطية أبو مُحَمَّد. ت 541 هـ. تحقيق: عَبْد الله بن إبراهيم الأنصاري. ورفيقه مؤسسة دار العُلُوْم. الدوحة. ط1. 1404 هـ. 1984 م: 12 /151.

يعدّ رأي سيبويه الراجح في أَنَّ التوجيه الدلالي للمعنى أنما جعل الصفة أبلغ من الحال والمعلوم أَنَّ يقتتلان فيه فعل مطاوعة ومشاركة فيقارب المعنى أن يكون عموم القتال في كون الصفة أنما لازمت (يقتتلان) بدلالة الآية الأخرى حيث كان الإسرائيلي يقاتل القبطي الآخر مرة أخرى، فدلّ ذلك على ملازمة صفة القتال عدة مرات للإسرائيلي أي إن القتال صار طبعاً له. {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} ((1)) قال مكي بن أبي طالب: " أي من أعدائه، ومعناه إذا نظر إليهما الناظر قال ذلك " ((2)) . وقال الأَنْبَارِي: " أراد بهما حكاية حال كانت فيما مضى كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} ((3)) ، فأعمل اسم الفاعل وإن كان لماضي على حكاية الحال من (عدوه) ، أي: من أعدائه، وهو يصلح للواحد والجمع " ((4)) . وقال النَّحَّاس: " ابتداء وخبر، والمعنى إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته، أي: من بني إسرائيل {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} ، أي: من قوم فرعون، وعدوّه بمعنى أعداء، وكذا يقال في المؤنث: هي عدو لك ومن العرب من يدخل الهاء في المؤنث هي عدو لك، لأنه بمعنى معادنه عند البصريين وعند الكوفيين " ((5)) . إن رأي ابن الأَنْبَارِي يفيد معنى الدوام كون الحال لما مضى يفيد الدوام. إن جذور العداء بين القبط وبني إسرائيل متأصلة في القدم، أما رأي النَّحَّاس فيفيد قصر المعنى على المبتدأ والخبر في وقته ـ أي وقت موسى (- عليه السلام -) ـ فكانت الرسالة الإعرابية في كون {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} للحال الماضي أبلغ وأتم لواقع النص القرآني.

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 15. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542. (3) سُوْرَة الكَهْفِ: الآية 18. (4) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /230. (5) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 546.

قال النَّحَّاس: " فيه قولان أحدهما أنه بمعنى الدعاء، وهذا قول الكسائي، والفرّاء. وقدّره الفرّاء بمعنى اللهم فلن أكون ظهيراً للمجرمين والقول الآخر أَنه بمعنى الخبر. وقال أبو جعفر: إِنْ يكون بمعنى الخبر أولى وأشبه بنسق الكلام " ((1)) . وقال العكبري: " (بما أنعمت) يجوز أن يكون قسماً والجواب محذوف، و (فلن أكون) تفسير له، أي: لأتوبنّ، ويجوز أنْ يكون استعطافاً، أي: كما أنعمت عليّ فاعصمني فلن أكون " ((2)) . وقال الزمخشري: " يجوز أن يكون قسماً جوابه محذوف تقديره أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبنّ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} وأن يكون استعطافاً كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيراً للمجرمين " ((3)) . {بِمَا أَنْعَمْتَ} يجوز في الباء أن تكون قسماً والجواب لأتوبنَّ مقدراً ويفسره (فَلَنْ أَكُونَ) وأن تكون متعلقة بمحذوف ومعناها السببية، أي: اعصمني بسبب ما أنعمت به عليّ، ويترتب عليه قوله {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} . و (ما) مصدرية، أو بمعنى الذي والعائد محذوف. وقوله: (فَلَنْ) نفي على حقيقته. وزعم بعضهم أَنه دعاء، وأَنَّ (لن) واقعة موقع (لا) ، وأجاز قوم ذلك مستدلين بهذه الآية، وبقول الشاعر ((4)) : لنْ تزالوا كذاكُمْ ثُمَّ لا زِلتَ لهم خالداً خُلود الجبالِ ((5))

_ (1) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 547. (2) التبيان في إعراب القرآن: 1/ 177. (3) الكَشَّاف: 3 /169. (4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 335. (5) البيت للأعشى، ينظر ديوان الأعشى. تحقيق: المحامي فوزي عطيوي. الشركة اللبنانية للكتاب. بيروت. لبنان 1968 م: ص 169.

والذي أراه أَنَّ الراجح هو رأي من قال إن الجملة (قسم) بدلالة الباء في (بما) وليس استعطافاً دعائياً وإن احتملت الجملة ذلك، وسبب ترجيحنا لكون (بما أنعمت) دعاء هو أن الباء باء القسم التي تجر (ما) في كلّ حالاتها. {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((1)) قال مكي بن أبي طالب: " (خائفاً) خبر (أصبح) وإن شئت على الحال، و (في المدنية) خبر " ((2)) . وقال ابن الأَنْبَارِي: " (خائفاً) منصوب لأنه خبر (أصبح) ، ويجوز أن يكون (في المدينة) خبرها، و (خائفاً) منصوب على الحال " ((3)) . قال السمين الحلبي: " (يترقب) يجوز أن يكون خبراً ثانياً وأن يكون حالاً ثانية، وأن يكون بدلاً من الحال الأولى، أو الخبر الأول، أو حالاً من الضمير في (خائفاً) فتكون متداخلة. ومفعول (يترقب) محذوف، أي: يترقب المكروه أو الفرج أو الخبر هل وصل لفرعون أم لا؟ " ((4)) . ونحن نرجح الرأي الذي يجعل الجملة حالية لأنها أقوى في دلالة المعنى من كلّ الآراء الأخرى، لأن الحال يدلّ على الاستمرارية في كون فترة بقائه (- عليه السلام -) في المدينة كلّ الوقت بخوف وتوجس، فلو أعربناها صفة لكان المعنى أَنه خاف مرة وترقب مرة، وهذا ما لا يدلّ عليه النصّ القرآني. {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} ((5))

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 18. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542. (3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /230- 231. وينظر إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 547. (4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 336. (5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 18.

قال مكي بن أبي طالب: " (الذي) مبتدأ وما بعده صلته، و (يستصرخه) الخبر، ويجوز أن تكون إذاً هي الخبر و (يستصرخه) حال " ((1)) . وقال ابن الأَنْبَارِي: " (الذي) في موضع رفع لأنه مبتدأ. وفي خبره وجهان: أولهما ـ أن يكون خبره (يستصرخه) . ثانيهما ـ أن يكون خبره (إذا) و (يستصرخه) في موضع نصب على الحال " ((2)) . قال النَّحَّاس: " (أمس) إذا دخلت عليه الألف واللام تمكنّ وأعرب عند أكثر النحويين، ومنهم من يبنيه وفيه الألف واللام، وإذا أضيف أو نُكِرَ تمكن أيضاً، والصلة في بنائه عند مُحَمَّد بن يزيد أن تصريفه ليس كتصريف المتمكنات، فوجب أنْ يبنى ولا يعرب، فكسر أخره لالتقاء الساكنين. ومذهب الخليل أن الياء محذوفة منه. وللكوفيين فيه قولان: أحدهما أنه منقول من قولهم أَمسى بخير، والآخر أن خِلقة السين الكسر، هذا قول الفراء، وحكى سيبويه وغيره أن من العرب من يجري أمسى مجرى ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة " ((3)) . إِنْ إعراب (الذي) مبتدأ هو أوجه الأقوال لأن الرفع فيه يدلّ على الفاعلية، والخبر هو (يستصرخه) . والتقدير: الذي هو يستصرخه. وإنما حذف (هو) وجعل تقديراً. وأما إعراب (بالأمس) فهو جار ومجرور في موضع الظرف الزمني حالاً، وهذا ما نذهب إليه هاهنا في كون المعنى دلّ على أن الذي استنصره في اليوم الماضي هو نفسه الذي استنصره اليوم، بسوء فعله في قتاله القبطي، فكان إعراب الآية في كونها في موضع الحال مما يدلّ على أن خلق الإسرائيلي هو هو لم يتبدل. {قَالَ لَهُ مُوسَى} ((4))

_ (1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542. (2) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 231. وينظر إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 547. (3) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 549. (4) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 18.

قال أبو حيان: " الظاهر أن الضمير في (له) عائد على الذي {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} بكونك كنت سبباً في قتل القبطي بالأمس، قال ذلك على سبيل العتاب والتأنيب. وقيل: الضمير في (له) والخطاب للقبطي ودل عليه قوله (يستصرخه) ولم يفهم الإسرائيلي أن الخطاب للقبطي " ((1)) . وقال القرطبي: " أي إنك لغويّ في قتال من لا تطيق دفع شره عنك " ((2)) . الذي يدلّ عليه السياق الإعرابي أن المتكلم هو الإسرائيلي خلافاً لمن قال إنه القبطي لأن بعدها: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} ، فاستخدم الاستفهام و (أن) المصدرية هنا بعدها، والفعل الماضي مع تاء الخطاب، والجار والمجرور (بالأمس) فيدل على أن المتكلم هو الإسرائيلي الذي هو من شيعته، وليس القبطي، فما أدرى القبطي أن موسى قتل نفساً بالأمس، وهذا من توجيه الإعراب للمعنى في سُوْرَة الْقَصَصِ. {يَسْعَى} ((3)) قال السمين الحلبي: " يجوز أن يكون صفة وأن يكون حالاً، لأن النكرة قد تخصصت بالوصف بقوله {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} ، فإن جعلت (مِنْ أَقْصَى) متعلقاً بـ (جاء) فـ (يسعى) صفة ليس إلا، قاله الزمخشري بناء على مذهب الجمهور، وتقدم أن سيبويه يجيز ذلك من غير شرط، وفي سورة (يس) قدّم {مِنْ أَقْصَى} على {رَجُلٍ} ((4)) لأنه لم يكن من أقصاها، وإنما جاء منها، وهنا وصفه بأنه من أقصاها وهما رجلان مختلفان وقضيتان متباينتان " ((5)) .

_ (1) البَحْر المُحِيْط: 7/ 110. (2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4981. (3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 20. (4) سُوْرَة (يس) : الآية 20. (5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 337.

إِنَّ الفعل المضارع (يسعى) هاهنا في إعرابه صفة لا يصلح دلالة أن يعرب عليها، بل إن إعرابه حالاً أبلغ في الدلالة الإعرابية من النعت، وهي في كلّ الأحوال متعلقة بالفعل الماضي، والفاعل (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) والدلالة الإعرابية أوضح في الحالية منها في الصفة. يدلّ الفعل (يسعى) على أنه صفة للرجل، و (مِنْ أَقْصَى) متعلق به، وبـ (جاء) ، والرجل إنما قدم مرة واحدة، فكان إعراب ذلك صفة أوجب في دلالة المعنى ليدلّ على كون المجيء في وقت بعينه. {تَذُودَانِ} ((1)) قال السمين الحلبي: (تَذُودَانِ) صفة لـ (امرأتين) لا مفعول ثاني، لأن (وَجَدَ) بمعنى لقي، والذّودُ الطرد والدفع، وقيل: حَبَسَ ومفعوله محذوف أي تَذُودَانِ الناس عن غنمهما أو غنمها عن مزاحمة الناس (من دونهم) ، أي: من مكان أسفل من مكانهم. وقال الزمخشري: " فإن قلت لم ترك المفعول غير مذكور في (يسقون) و (تَذُودَانِ) و (لا نسقي) ؟ قلت: لأن الغرض هو الفعل لا المفعول، وكذلك قولهما: (لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) المقصود منه السقي لا المسقي ((2)) . إِنَّ اختلاف إعراب (تَذُودَانِ) بين الصفة والمفعول خلاف لا يعتدّ به، لأَنَّ الرأي الذي يجعل الكلمة مفعولاً ثانياً بعيداً عن الدلالة، أما إعرابها صفة فهو الذي يجعل النصّ ظاهر المعنى، والصفة لـ (امرأتين) هي الأرجح إعرابياً. {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((3))

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 23. (2) ينظر الكَشَّاف: 3/ 169. الدُّرُّ المَصُون: 5/ 338. (3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 25.

قال مكي بن أبي طالب: " (تَمْشِي) في موضع الحال من إحداهما، والعامل فيه (جاء) و (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في موضع الحال من المضمر في (تَمْشِي) والعامل فيه (تَمْشِي) ، ويجوز أن يكون (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في موضع الحال المقدمة من المضمر في (قالت) والعامل فيه (قالت) ، والأول أحسن " ((1)) . قال أبو حيان: " في الكلام حذف، والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في السقي وقصتا عليه أمر الذي سقى لهما، و (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في موضع الحال، أي: مستحيية متحفزة " ((2)) . إِنَّ الدلالة الإعرابية الممتزجة بمعاني البلاغة الكامنة في قوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} واضحة جداً، فالدلالة الإعرابية للفعل المضارع ثُمَّ ما أعقبه من حروف الجر والمصدر المزيد بالألف والسين والتاء، وزيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني ـ كما قال أهل العربية ـ كلّ ذلك جعل الجملة حالية ـ كما قال مكي بن أبي طالب رَحِمَه الله ـ وأجاد في هذا القول خلافاً لبعض من أعربها خلاف ذلك، ولا تعلق لـ (قالت) بما تقدم، فإن في ذلك تكلفاً في الإعراب وفي التقدير الإعرابي. {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} ((3)) قال السمين الحلبي: " (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) في موضع نصب على الحال إما من الفاعل أو من المفعول، أي: مشروطاً عليّ أو عليك ذلك و (تَأْجُرَنِي) مضارع أجَرْتُه: كنت له أجيراً، ومفعوله الثاني محذوف، أي: تَأْجُرَنِي نفسك. و (ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ظرف له ((4)) . ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنها هي المفعول الثاني ((5)) .

_ (1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542 – 543. (2) البَحْر المُحِيْط: 7/ 114. (3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 27. (4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 339. (5) البَحْر المُحِيْط: 7/114.

قلت: الزمخشري لم يجعلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجه، وإنما جعلها مفعولاً ثانياً على وجه أخر، وأما على هذا الوجه فلم يجعلها غير ظرف، وهذا نصّه ليتبين لك، قال: " تَأْجُرَنِي من أَجَرْتُه كنت له أجيراً كقولك: أَبَوْتَه إذا كنت له أباً، و (ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ظرف أو مِنْ أجَرْتُه كذا إذا أثبته إياه، ومنه تعزية الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أجركم الله ورحمكم)) ((1)) ، و (ثَمَانِيَ حِجَجٍ) مفعول به. وكيف يستقيم ذلك أو يتجه؟ وانظر إلى الزمخشري كيف قدّر مضافاً ليصبح المعنى به، أي: رعي ثَمَانِيَ حِجَجٍ لأن العمل الذي تقع به الإنابة لا نفس الزمان فكيف يوجه الإجارة على الزمان " ((2)) ؟ إِنَّ الجملة الإعرابية (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) انما كانت منصوبة الإعراب نحواً ولغة لأن مفهوم النصّ في إعرابها حالاً هو الأقوى في العربية من إعرابها صفة، فكما قدمنا أن الحال أقوى في الاستدلال به من أي ظاهرة أخرى، لأن الحال للدوام المتجدد، لذلك كان قوله (أَنْ تَأْجُرَنِي) حال من المصدر (إيجارك لي) ، وهو أبلغ في السياق. {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} ((3)) قال مكي بن أبي طالب: " (ذلك) مبتدأ وما بعده خبره، ومعناه عند سيبويه ذلك بيننا " ((4)) . وقال الزمخشري: " (ذلك) مبتدأ و (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) خبره، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب، يريد ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشاطرتني عليه" (5) .

_ (1) لم اقف عليه في كتب الحديث. وقد ذكره الزمخشري في الكَشَّاف: 3 /172. (2) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 339. وينظر أيضاً الكشاف: 3 /172. (3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 28. (4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 543. (5) الكَشَّاف: 3 /173.

إِنَّ دلالة الفعل الماضي (قال) في اقترانه بالمبتدأ يدلّ على استمرارية العهد في الإيجار، وتقدير سيبويه (ذلك بيننا) مبتدأ وخبر هو التقدير الأصوب لأنه يدلّ على العهد بين الاثنين، لأن موسى (- عليه السلام -) وفقاً لهذه الآية إنما أتم الإيجار الأوفى الأتم والأكمل لقوله (بيني وبينك) على ما يدلّ عليه السياق الإعرابي للعهد الذي تقدم ذكره. {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} ((1)) قال مكي بن أبي طالب: " نصبت (أي) بـ (قضيت) ، و (ما) زائدة للتأكيد وخفضت (الأجلين) بإضافة أي إليهما. وقال ابن كيسان: (ما) في موضع خفض بإضافة (أي) إليها، وهي نكرة، و (الأجلين) بدل من (ما) " (2) . وقال الزمخشري: " وفي قراءة عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُود: (أيّ الأجلين مَا قضيت) ، وقريء (أيْما) بسكون الياء … فإن قلت: ما الفرق بين موقعي (ما) المزيدة في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام أي زائدة في شياعها، وفي الشاذة تأكيد القضاء كأنه قال: أي الأجلين صممت على قضائه " ((3)) . وقال القرطبي: " (أيما) استفهام منصوب بـ (قضيت) و (الأجلين) مخفوض بإضافة (أي) إليهما، و (ما) صلة للتأكيد، وفيه معنى الشرط وجوابه (فلا عدوان) ، وأن (عدوان) منصوب بـ (لا) " ((4)) . (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ) (أي) شرطية وجوابها (فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ) وفي (ما) هذه قولان: أشهرهما أنها زائدة كزيادتها في أخوتها من أدوات الشرط، والثاني أنها نكرة، و (الأَجَلَيْنِ) بدل منها ((5)) .

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 28. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 543. البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 231. (3) الكَشَّاف: 3/ 174. (4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4995. (5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 339.

إِنَّ إعراب (أي) مفعولاً مقدماً هو الوجه الراجح، أما كون (ما) زائدة، فلسنا ممن يقول بالأحرف الزائدة في الَقُرْآن الكَرِيم، وهي مضافة إلى الأجلين، والتقدير: أي الأجلين، وليست مضافة إلى (ما) لأن دلالة ما اخترناه من الإعراب تزيل الإشكال الإعرابي الموجود، وبذلك تستقيم الجملة في دلالتهما الإعرابية في موقعها ليكون المعنى: أي أجل من الأجلين اخترته فهو لك بالخيار، وهذا مما يوجه المعنى نحوياً. {أَنْ يَا مُوسَى} ((1)) قال مكي بن أبي طالب: " (أن) في موضع نصب بحذف حرف الجر، أي: بأن يا موسى " ((2)) . إننا نرى أن (أن) هنا منصوبة على تقدير (أعني) لا على تقدير (حذف حرف الجر الباء) فذلك تكلف، وبما اخترناه يكون جعلها منصوبة أوجه في العربية ليستقيم فهم المعنى بنصبها نحوياً ليكون المعنى أكثر قوة من حذف حرف الجر بتقدير (النداء) . {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} ((3)) قال مكي بن أبي طالب: " هو تثنية (ذا) المرفوع، وهو رفع بالابتداء، وألف (ذا) محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ومن قرأه بتشديد النون فإنه جعل التشديد عوضاً من ذهاب ألف (ذا) … إنما شدد النون في هذه المبهمات ليفرق بين النون التي هي عوض من حركة وتنوين، أو من تنوين، وذلك موجود في الواحد، أو مقدر فيه … وقيل: شددت للفرق بين النون التي تحذف في الإضافة، والنون التي لا تحذف في الإضافة أبداً، وهي نون تثنية المبهم " ((4)) .

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 30. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 543. وينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4999. (3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 32. (4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 544 – 545.

وقال القرطبي في تعليل تشديده خمسة أقوال: " قيل: شدّد النون عوضاً من الألف الساقطة في (ذَانِكَ) الذي هو تثنية (ذا) المرفوع، وهو رفع الابتداء، وألف (ذا) محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين لأن أصله (فَذَانِكَ) ، فحذف الألف الأولى عوضاً من النون الشديدة. وقيل: التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك وقيل: إن من شدّد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ذلك، فلما بنى أثبت اللام بعد نون التثنية، ثُمَّ أدغم اللام في النون على حكم إدغام الثاني في الأول، والأصل أن يدغم الأول أبداً في الثاني إلاّ أن يمنع من ذلك علة، فيدغم الثاني في الأول، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني أنه لو فعل ذلك لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لام مشددة، فيتغير لفظ التثنية، فأدغم الثاني في الأول لذلك، فصار نوناً مشددة. وقد قيل: إنه لما تنافى في ذلك أثبت اللام قبل النون، ثم أدغم الأول في الثاني على أصول الإدغام، فصار نوناً مشددة. وقيل: شددت فرقاً بينها وبين الظاهر التي تسقط الإضافة نونه، لأن (ذان) لا يضاف. وقيل: للفرق بين الاسم المتمكن وبينها " ((1)) . وقد أختلف المعربون في تقدير إعراب (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ) فقيل: إنهما رفعا بالابتداء والخبر. أما تشديد النون فهو قراءة، والقراءة سنة متبعة، والتشديد قد يدلّ في العربية بزيادته على زيادة في المعنى غير موجودة في التحقيق، وتقدير الجملة: هذان برهانان، ولكن النون والكاف الإشارية أبلغ مما قدرناه وبهما جاء النص القرآني. {فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً} ((2))

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5002. (2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 34.

قال مكي بن أبي طالب: " (ردءاً) حال من (الهاء) في (أرسله) وكذلك (يصدقني) حال في قراءة من رفعه، أو نعت لـ (ردءاً) ، ومن جزمه فعلى جواب الطلب " ((1)) . وقال القرطبي: " أختار الرفع أبو عبيد على الحال من الهاء في (أرسله) ، أي: أرسله ردءاً مصدقاً حالة التصديق، ويجوز أن يكون صفة لقوله (ردءاً) " (2) . تقدير (ردءاً) حالاً هو الوجه المستقيم في الدلالة الإعرابية، لهذه الآية، أما (يصدقني) فهي صفة (نعت) وليست حالاً كما زعم بعضهم وليست مجزومة إلاّ في بعض القراءات، والقراءة سنة متبعة لا تناقش ولا تعلل، إلاَ أَن دلالة فعل الأمر الطلبي في الدعاء (فأرسله) ، وجعله حالاً لـ (يصدقني) قد يحمل بعض معاني الإلحاح في الطلب من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما يتوجه له إعراب الآية في دلالتها. {بِآيَاتِنَا} ((3)) قال السمين الحلبي: (بِآيَاتِنَا) يجوز فيه أوجه: أن يتعلق بـ (جعل) أو بـ (يصلون) وبمحذوف، أي: أذهب، أو على البيان، فيتعلق بمحذوف أيضاً، أو بـ (الغالبون) على أن (أل) ليست موصولة أو محولة، واتبع فيه ما لا يتبع في غيره، أو قسم وجوابه متقدم، وهو (فلا يصون) أو من كَفْوِ القسم قالهما الزمخشري، ورد عليه أبو حيان بأن جواب القسم لا يدخله الفاء عند الجمهور، ويريد بالقسم أن جوابه محذوف، أي: وحق آياتنا لتغلبن ((4)) .

_ (1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /545. (2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5004. (3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 35. (4) ينظر الكَشَّاف: 3 /176. البَحْر المُحِيْط: 7/ 115. الدُّرُّ المَصُون: 5/ 345.

الوجه أن تعرب (بِآيَاتِنَا) متعلقة بالجار والمجرور، والضمير الخاص بالمتكلمين هو أكثر دلالة في العربية على كون الآيات مستمرة في السريان على يد موسى (- عليه السلام -) وأخوه من فرعون وملأه بآيات الله، وإنما صيغت الجملة على صيغة التعظيم والتفخيم لتكون أكثر دلالة. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} ((1)) قال مكي بن أبي طالب: " انتصب (يوم) على أنه مفعول به على السعة، كأنه قال: واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة، ثم حذفت اللعنة لدلالة الأولى عليها، وقام يوم قيامها، وانتصب انتصابها ويجوز أن تنصب اليوم على أن تعطفه على موضع في هذه الدنيا … ويجوز نصب (يوم) على أنه ظرف للمقبوحين، أي: وهم من المقبوحين يوم القيامة ثم قدم الظرف " ((2)) . وزاد ابن الأَنْبَارِي على ما تمّ ذكره أن يكون منصوباً بما يدلّ عليه قوله (مِنْ الْمَقْبُوحِينَ) لأن الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول " ((3)) . والذي يبدو لي أن إعرابه ظرفاً أرجح لدلالته الظرفية. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ} قال السمين الحلبي: فيه أوجه: أحدهما أن يتعلق بـ (الْمَقْبُوحِينَ) على أن (أل) ليست موصولة واتسع فيها، وأن يتعلق بمحذوف يفسره (الْمَقْبُوحِينَ) كأنه قيل: وقُبِّحُوا يوم القيامة نحو: {لِعَمَلِكُمْ مِنَ القَاليْنَ} ((4)) أو يعطف على موضع (في الدنيا) ، أي: واتبعناهم لعنة يوم القيامة، أو معطوفة على (لعنة) على حذف مضاف، أي: لعنة يوم القيامة.

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 42. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 545- 546. (3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /34. وينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5006. (4) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 168.

والوجه الثاني أظهرها، والمقبوح المطرود قبحه الله وطرده ((1)) . تدلّ الآية في سياقها الإعرابي على أن الظرف (يوم) أعطى لمعنى الآية معنى أخر، هو أن الكفرة قبحوا يوم القيامة بما ارتكبوه في الدنيا بدلالة (هم) مع الظرف الزماني. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} ((2)) قال مكي بن أبي طالب: " نصب كله على الحال من (الكتاب) " ((3)) . وقال أبو حيان: " (بصائر) على الحال، أي: طرائق هدى يستبصر بها " ((4)) . إن إعراب (بَصَائِرَ) و (هدى) و (رحمة) أحوالاً متوالية متتالية هو الصواب في الدلالة الإعرابية، أما موسى (- عليه السلام -) فمفعول أول، و (الكتاب) مفعول ثانٍ، و (القرون) مفعول به و (الأولى) صفة له، والتقدير: نحن أنزلنا على موسى ـ عَلَيْه الصَلاة والسَّلام ـ التوراة بعد هلاك الأمم بصائر وهدى ورحمة. فاستغنى اللفظ القرآني المعجز عن هذه الإطالة بما أنزله الله جَلَّ جَلاَله، وهذا بعض ما دلت عليه الدلالات الإعرابية للآية. {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ((5))

_ (1) الدُّرُّ المَصُون: 5 /445. (2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 43. (3) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 546. (4) البَحْر المُحِيْط: 7/ 121. (5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 46

قال مكي بن أبي طالب: " انتصبت الرحمة على المصدر عند الأخفش بمعنى: ولكن رحمك ربك يا محمد رحمة، وهو مفعول من أجله عند الزجاج، أي: ولكن للرحمة فعل ذلك، أي: من أجل الرحمة. وقال الكسائي: هي خبر (كان) مضمرة بمعنى: ولكن كان ذلك رحمة من ربك. ويجوز في الكلام الرفع على معنى: ولكن هي رحمة " ((1)) . والذي أراه أنه قد نصبت (الرحمة) على المصدر لتدلّ على توالي الرحمة الإلهية على رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال النصب في المصدر. {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} ((2)) قال أبو البقاء: " عدّاه بنفسه، لأن معنى (نمكن) : نجعل. وقد صرّح به في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} ((3)) ، أي: من الخسف. و (مكن) متعد بنفسه من غير أن يضمن معنى جعل كقوله: {مَكَّنَّاهُمْ} ((4)) . و (آمِنًا) قيل: بمعنى مُؤمن أي يُؤمن من دخله. وقيل: هو على حذف مضاف، أي: أمنا أهله. وقيل: فعل بمعنى السبب، أي: ذا أمن " ((5)) . والذي أراه أن التعدية بنفس الفعل الذي هو بمعنى صيّر وجعل، لأن (مكن) من الأفعال المتعدية، وهو الأصوب، ويعرب (نمكن) فعلاً مضارعاً و (حرماً آمنا) مفعول، وصفته التابعة له في النعت بمعنى أن المعنى الجديد هو إبراز منة الله عَزَّ وجَلَّ على أهل مكة في أمان الحرم وما تأتيه من الأرزاق، وهذا من دلالات الإعراب.

_ (1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /564. وينظر الكَشَّاف: 3 /182. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5008. (2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 57. (3) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 67. (4) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 6. سُوْرَة الْحِجْرِ: الآية 41. سُوْرَة الأحقاف: الآية 26. (5) التبيان في إعراب القرآن: 2 /179. وينظر الدُّرُّ المَصُون: 5/ 349.

{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((1)) قال مكي بن أبي طالب: " المعيشة نصب عند المازني على حذف حرف الجر تقديره: بطرت في معيشتها. وقال الفراء: هي نصب على التفسير. وهو بعيد، لأنها معرفة، والتفسير لا يكون إلا نكرة. وقيل: هي نصب بـ (بطرت) ، وبطرت بمعنى جهلت، أي: جهلت شكر معيشتها، ثُمَّ حذف المضاف " ((2)) . وقال ابن الأَنْبَارِي: " ولا يجوز أن يكون منصوباً على التمييز لأن التمييز لا يكون إلا نكرة، و (مَعِيشَتَهَا) معرفة " ((3)) . وقال القرطبي: " وانتصبت (مَعِيشَتَهَا) إما بحذف الجار والمجرور وإيصال الفعل، وإما على الظرف بنفسها كقوله: زيد ظني مقيم، أو بتقدير حذف الزمان لمضاف، أصله بطرت أيام معيشتها " ((4)) إِنَّ الجملة (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) هي فعل ماضٍ، وتاء المؤنث المحكي عنها، وهي فاعل، والمعيشة مفعول به، والضمير (هي) في محل نصب، وهذا التقدير يستقيم به دلالة (كفران النعمة) المرادة من (بطر المعيشة) وهذه الجملة مما اختلف فيه المفسرون لأنه مشكل إعرابياً، وإن كنا لا نرى ذلك خلافاً لمن رآه، وذلك يدلّ على الاستمرارية في الزمان والمكان أي أن كلّ قرية تبطر سيهلكها. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((5))

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 58. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /546. (3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /235. (4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3 /186. (5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 68.

قال مكي بن أبي طالب: " (ما) الثانية للنفي لا موضع لها من الإعراب. وقال بعض العلماء كالطبري: هي في موضع نصب بـ (يختار) ، وليس ذلك بحسن في الإعراب، لأنه لا عائد يعود على ما في الكلام. وهو أيضاً بعيد في المعنى والاعتقاد، لأن كونها للنفي يوجب أن تعم جميع الأشياء … وإذا جعلت (ما) في موضع نصب بـ (يختار) لم تعمّ جميع الأشياء على أنها مختارة لله … وهذا هو مذهب القدرية والمعتزلة، فكون (ما) للنفي أولى في المعنى، وأصح في التفسير، وأحسن في الاعتقاد، وأقوى في العربية، ألا ترى أنك لو جعلت (ما) في موضع نصب لكان ضميرها في كان اسمها، ولوجب نصب الخيرة، ولم يقرأ بذلك أحد … وهذه الآية تحتاج إلى بسط كثير " ((1)) . وقال ابن الأَنْبَارِي: " (ما) الأولى اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب لأنها مفعول (يخلق) ، و (ما) الثانية نافية ولا موضع لها من الإعراب " (2) . وقال الزمخشري: " فإن قلت: فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت (ما) موصولة؟ قلت: أصل الكلام ما كان لهم فيه الخيرة فحذف فيه كما حذف منه قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ((3)) " ((4)) .

_ (1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 547- 548. (2) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /235. (3) سُوْرَة لُقْمَان: الآية 17. سُوْرَة الشُّورَى: الآية 43. (4) الكَشَّاف: 3/ 188.

وقال القرطبي: " والوقف التام على (ويختار) . وقال علي بن سليمان: هذا وقف التمام ولا يجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بـ (يختار) ، لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء. قال: وفي هذا ردّ على القدرية. قال النحاس: التمام: ويختار، أي: ويختار الرسل {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ، أي: ليس يرسل من اختاروه هم. قال أبو إسحاق: ويجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بـ (يختار) ، ويكون المعنى: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة. وقال القشيري: الصحيح الأول لإطباقهم على الوقف على قوله: (ويختار) . وقال المهدوي ـ وهو أشبه بمذهب أهل السنة ـ: و (ما) من قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} نفي عام لجميع الأشياء أن يكون للعبد فيها شيء سوى اكتسابه بقدرة الله عز وجل. وأجاز الزجاج، وغيره: أن تكون (ما) منصوبة بـ (يختار) ، وأنكر الطبري أن تكون (ما) نافية لئلا يكون المعنى: إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى، وهي لهم فيما يستقبل، ولأنه لم يتقدم كلام بنفي. قال المهدوي: ولا يلزم ذلك، لأن (ما) تنفي الحال والاستقبال كـ (ليس) ، ولذلك عملت عملها … فـ (ما) على هذا لمن يعقل، وهي بمعنى الذي. و (الخيرة) رفع بالابتداء، و (لهم) الخبر، والجملة خبر كان وشبهه بقولك: كان زيد أبوه منطلق. وفيه ضعف إذ ليس في الكلام عائد يعود على اسم كان، إلا أن يقدر فيه حذف، فيجوز على بعد " ((1)) . قال السمين الحلبي: " {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} فيه أوجه: الأول: أن (ما) نافية، فالوقف على (يختار) . الثاني: (ما) مصدرية، أي: يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول به، أي: مختارهم.

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3/ 5021 –5022.

الثالث: أن تكون بمعنى: الذي، والعائد محذوف، أي: ما كان لهم الخيرة فيه كقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ((1)) ، أي: منه. وجوز ابن عطية أن تكون تامة و (لَهُمْ الْخِيَرَةُ فيه) جملة مستأنفة قال: " ويتجه عندي أن تكون (ما) مفعولة، إذا قدرنا (كان) تامة، أي: إن الله يختار كلّ كائن و (لَهُمْ الْخِيَرَةُ) مستأنفة معناه تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم لو قبلوا، وجعل بعضهم في (كان) ضمير الشأن. وأنشد: أمِن سُمَيَّةَ دَمْعُ العين ذَرِيفُ لَو كان ذا منك قبل اليوم معروف ((2)) ولو كان (ذا) اسمها لقال معروفاً " ((3)) . وابن عطية منع ذلك في الآية قال: لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف. قلت: كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف، وضمير الشان لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها، إلا أن في هذا نظر إن أراده، لأن هذا الجار قائم مقام الخرب، ولا أظن أحداً يمنع هو السلطان في البلد، وهي هند في الدار، و (الخيرة) من التخيير كالطيرة من التطير، فيستعملان استعمال المصدر. قال الزمخشري: " ما كان لهم الخيرة بيان لقوله (ويختار) لأن معناه: ويختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف، والمعنى أن الخيرة له تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها لا أحد من خلقه أن يختار عليه " ((4)) . قلت: لم يزل الناس يقولون أن الوقف على (يختار) والابتداء بـ (ما) على أنها نافية، وهو مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة، وهو رأي الطبري ((5)) .

_ (1) سُوْرَة الشُّورَى: الآية 43. (2) ديوان عنترة بن شداد العبسي، الطبعة الثانية. دار صادر. بيروت. لبنان. 1967 م: ص 53. (3) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 351. المحرر الوجيز: 12 /181. (4) الكَشَّاف: 3 /188. (5) جامع البيان: 10 /95.

لقد تقدم اختلاف المعربين في هذه الآية، فاختلاف الإعراب هنا يوجب اختلاف العقيدة، حسب الدلالات المطلوبة من التقدير، والذي نرجحه في ذلك رأي الطبري، وهو الأقرب في التأويل إلى مهب أهل السنة والجماعة، دون غيره في جعل الآية الثانية (مَا كَانَ) في موضع نصب بـ (يختار) لأن تقدير الطبري يكون لدلالة الآية بجعلها تدلّ على أن لا خيار للإنسان في الخلق خلافاً للمعتزلة الذين يوافقون القدرية والفلاسفة في خلق الإنسان لفعله، وبذلك استقام لنا النصّ وفق دلالته الإعرابية بما يعزز رأي أهل السنة والجماعة. {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} ((1)) قال مكي بن أبي طالب: " (ما) في موضع نصب بـ (آتيناه) مفعول ثاني، و (إن) واسمها وخبرها وما يتصل بها إلى قوله: {أُولِي الْقُوَّةِ} صلة (ما) وواحد أولي: ذي " ((2)) . وقال الأَنْبَارِي: " (ما) اسم موصول بمعنى: الذي، في موضع نصب بـ (آتيناه) وصلته (إن) وما عملت فيه وكسرت (إن) في الصلة لأن الاسم الموصول يوُصل بالجملة الاسمية والجملة الفعلية، و (إن) متى وقعت قي موضع يصلح للاسم والفعل كانت مكسورة، و (أولي) واحدها (ذو) من غير لفظها " ((3)) . وقال القرطبي: " (إن) واسمها وخبرها في صلة (ما) ، و (ما) مفعوله (آتينا) " ((4)) . وقال النَّحَّاس: " قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات أنه لا يجوز أن يكون صلة الذي وأخوانه (إن) وما عملت فيه، وفي الَقُرْآن {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} . وهو جمع مفتح " ((5)) .

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 76. (2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /548. (3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 236. (4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5027. (5) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 558.

نحن نرى أن (ما) هنا تفسيرية خلافاً لمكي بن أبي طالب وسواه ممن جعلها في موضع نصب بـ (آتيناه) ، لأن كونها تفسيرية يجعل القطع في الجملة الجديدة يدلّ على عظم كنوز قارون، وهو الدلالة التضمينية للآية الشريفة. {وَلاَ يُسْأَلُ} ((1)) قال السمين الحلبي: " هذه قراءة العامة على البناء للمفعول وبالياء من تحت ورفع الفعل وأن تركه مرفوعاً يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون (المجرمون) خبر مبتدأ محذوف ي0 هم المجرمون. الآخر: أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في (ذنوبهم) لأنهما مرفوعا المحل" (2) . إن قوله تعالى: {وَلاَ يُسْأَلُ} يدلّ على عدم السؤال لوجود (لا) النافية، فصار المعنى أن المجرمين لا يسألون بعد عقوبتهم، وذلك هو المعنى الإعرابي للفعل المضارع المنفي. {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} ((3)) قال مكي بن أبي طالب: " (وَيْكَأَنَّ) أصلها (وي) منفصلة من الكاف. قال سيبويه عن الخليل في معناها: إن القوم انتبهوا أو نبهوا فقالوا: (وي) ، وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته. وقال الفراء: (وي) متصلة بالكاف وأصلها: ويلك إن الله، ثم حذف اللام واتصلت الكاف بـ (أن) . وفيه بعد في المعنى والإعراب، لأن القوم لم يخاطبوا أحداً، ولأن حذف اللام من هذا لا يعرف، ولأنه كان يجب أن تكون (أن) مكسورة إذ لاشيء يوجب فتحها " ((4)) .

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 78. (2) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 353. (3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 82. (4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /548.

وقال الأَنْبَارِي: " منهم من قال (وي) منفصلة من (كان) وهي اسم سٌمِّي الفعل به، وهو (أعجب) ، وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته وكأن الله لفظهُ لفظ التشبيه، وهي عارية عن معنى التشبيه، وهذا مذهب لخليل وسيبويه. وذهب الأخفش إلى أنَّ الكاف متصلة بـ (وي) وتقديره: ويك أعلم أن الله. و (ويك) كلمة تقرير، و (أن) مفتوحة بتقدير: أعلم. وهو كقولك للرجل: أما ترى إلى صنيع الله وإحسانه. وذهب الفرّاء إلى أَن (وي) متصلة بالكاف وأصله (ويلك) وحذفت اللام، وهو ضعيف لأن القوم لم يخاطبوا واحداً، ولأن اللام من هذا لا يُعرف " ((1)) . وقال السمين الحلبي: قوله: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} (وَيْكَأَنَّ) فيه مذاهب منها: الأول: إن (وي) كلمة برأسها، وهي اسم فعل معناها أعجب، أي: أنا والكاف للتعليل، و (أن) وما في خبرها مجرورة بها، أي: أعجب لأنه لا يفلح الكافرون، وسمِعَ كما أَنه يعلم غفر الله له. قياس هذا القول أن يوقف على (وي) وحدها، وقد فعل ذلك الكسائي، إلاَ أَنه ينقل عنه أَنه يعتقد في الكلمة أن أصلها (ويلك) الثاني: قال بعضهم: (كأن) هنا للتشبيه إلاَ أَنه ذهب منه معناها وصارت للخبر والتيقن. الثالث: إن (ويك) كلمة برأسها، والكاف حرف خطاب و (أن) معمولة لمحذوف، أي: أعلم أنه لا يفلح، قاله الأخفش. الرابع: إن أصلها (ويلك) فحذف اللام، واليه ذهب الكسائي. الخامس: إن (وَيْكَأَنَّ) كلها كلمة مستقلة بسيطة، ومعناها ألم تر وربما نقل ذلك عن ابْن عَبَّاس ((2)) .

_ (1) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /237. (2) الدُّرُّ المَصُون: 5 /354.

والخلاف في (وَيْكَأَنَّ) صرفي ـ نحوي في اشتقاقها وأصلها، ونحن نرجح من استعراض الأقوال السابقة أن أصل (وَيْكَأَنَّ) هو (وي) كلمة الندم، وكاف الخطاب، و (أن) المحذوف ما بعدها، وهو مفهوم رأي سيبويه ـ رَحِمَه الله ـ وما سوى ذلك فتكلف في التقدير وتمحل في الإعراب، وهي منصوبة أو مبنية على النصب على خلاف في ذلك، ولا فائدة في ترجيح أي من القولين فيه، لأن ذلك ما لا يزيد النص القرآني أي دلالة. {إِلاَ رَحْمَةً} ((1)) قال السمين الحلبي: فيه وجهان: " أحدهما: هو منقطع، أي: لكن رحمك رحمة. والآخر: إنه متصل، قال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة، فيكون استثناءً من الأحوال أو من المفعول له " ((2)) . والذي أراه أن المستثنى هاهنا في كونه منقطعاً يوازي كونه متصلاً على رأي الزمخشري ـ رَحِمَه الله ـ وإنما الاستثناء منقطع لأنه لم يتقدم في الكلام ما يدلّ عليه، فكان منقطعاً غير متصل، وأما كونه متصلاً فلتلحقه باستمرارية إنزال الكتاب، ونحن نرى أنه استثناء متصل أي أن إنزال الكتاب متعلق بالرحمة في إنزاله، وهو الرأي الذي نرجحه. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((3)) قال مكي بن أبي طالب: " انتصب الوجه على الاستثناء، ويجوز في الكلام الرفع على معنى الصفة كأنه قال: غير وجهه… كذلك جواز الآية " ((4)) . قال القرطبي: " قال الزجّاج: (وَجْهَهُ) منصوب على الاستثناء، ولو كان في غير القرآن كان: إلا وجهه بالرفع بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك " ((5)) .

_ (1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 86. (2) الدُّرُّ المَصُون: 5 /355. وينظر أيضاً الكَشَّاف: 3 /194. (3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 88. (4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /549. (5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5038.

المطلب الثالث: التوجيه المضموني في سورة القصص ودلالاته

يجوز في هذه الآية رفع ونصب الوجه، وذلك أن الرفع يكون صفة، والنصب بأداة الاستثناء (إلاّ) ، ودلت الآية على أن الله عَزَّ وجَلَّ غير هالك، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل به، فيكون المعنى أن الكون بما فيه هالك إلا الله عَزَّ وجَلَّ، وإنما خصّ تعالى الوجه بالاستثناء للتعظيم. ومما تقدم يتضح لنا أن اختلاف الإعراب في الآيات المختلف في إعرابها بين النحاة، أكسب النص القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ آفاقاً جديدة في استفادة معانٍ أخرى، وهو ما يشعر بتجدد الفهم عند التفسير، وذلك لأن الاختلاف هو تجدد وتجديد في إضافة المعاني الجديدة التي تختلف بتعدد سياقات التوجيه الإعرابي بين النحاة، وهكذا فإن ما اختلفوا فيه وما قمت بترجيحه، تبعاً لقراءة سُوْرَة الْقَصَصِ هو إضافة جديدة للمعنى، يمكن أن تعين على تصور أدق لبعض المواضع (المشكلة إعرابياً) في سُوْرَة الْقَصَصِ. المطلب الثالث: التوجيه المضموني في سورة القصص ودلالاته يتعلق موضوع التوجيه المضموني بموضوع (الوحدة الموضوعية) وبتعبير أدق: التوجيه المضموني: هو " تحليل نص بإعادة صياغته من جديد وإبراز مكامن الاتصال فيه باعتباره وحدة عفوية متكاملة " ((1)) . ويبدو أن هذا الموضوع متعلق كما نعتقده بما أسماه القدماء (تناسق وتناسب الآيات السور) ، وممن صنف فيه: البقاعي. السيوطي. وكتاباهما مطبوعان وفيهما فوائد مهمة في بابهما ((2)) ، وقد ذكر السيوطي ذلك كله في الإتقان وأشاد به ((3)) . ونحن نستفيد من الجمع بين التحليل التراثي والمعاصر لفهم كلي للنص القرآني، وبخاصة في موضوعنا هنا عن سورة القصص الشريفة.

_ (1) المصطلحات النقدية. سليمة الحكيم. الطبعة الأولى. دار البيان. دمشق. 1989 م.: ص121. (2) سبق الإشارة إليها ص 19. (3) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 2 /118.

قال بعض الباحثين: " لابدّ في تحليل أي سورة قرآنية من إدراك العلاقة بين آياتها وترابطها فيما بينها، والصلات بين أولها وآخرها، ومكامن الوحدة الموضوعية فيها وذاتيتها الخاصة " ((1)) . ونحن في التوجيه المضموني لسورة القصص واجدون من ذلك الكثير. إذ تتميز سورة القصص بكونها ذات خصوصية في ترابط موضوعاتها بعضها مع بعض، بحيث أن القارئ يجد فيها انسياباً للمعاني وهي تصب في هدف واحد، على رغم أن السورة تنقسم على نصفين: النصف الأول: خاص بقصة موسى (- عليه السلام -) . النصف الثاني: خاص بتعداد آلاء الله عز وجل ونعمه، ثم تأتي في أواخر آيات السورة قصة الخسف بقارون لتعيد التذكير بأول القصة في أول السورة {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} ((2)) ، فيتم بذلك التلاحم المضموني. وقد فصل سليم سليمان فقال: تتميز آيات سورة القصص بأنها تمثل لوحة متكاملة المعالم واضحة الأطر، لا زيادة فيها ولا نقصان فيها فهي بذلك تسير وفق قواعد الوحدة الموضوعية ((3)) . والبناء الموضوعي للسورة يعدّ في الذروة من الالتزام بعدم الخروج عن المعنى المراد إيصاله، فهي بذلك " نص متكامل " لا يمكن حذف شيء منه، ولا يمكن إضافة شيء إليه البتة، فقوله جل جلاله: {أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} (4) له علاقة وطيدة بقوله تعالى فيها: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} ((5)) . فتتجلى بعض مظاهر تلك العلاقة في الأمن الإلهي الذي حبى به موسى (- عليه السلام -) وقريش.

_ (1) التحليل التطبيقي للنصوص: ص400. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (3) ينظر الوحدة الموضوعية: ص388. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.

المطلب الرابع: التوجيه البياني التفسيري في سورة القصص

وقد لاحظ الباحث ذلك ووجد أن البناء المضموني لسورة القصص يسير في اتجاه واحد، مثل قافلة من المعاني المتدفقة المتلاحقة، مما أكسب النص الإلهي إعجازاً إلى إعجازه، لأن هذه الصفات ليست من صفات البشر في كلامهم يعتريه النقص والاختلاف في مصادر موارده. وأنى للبشر أن يكون له كلام متكامل مثل ما نجده في الربط الوحدوي واللغوي في قوله تعالى في سورة القصص: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((1)) ، وقوله تعالى فيها أيضاً: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ((2)) ، وقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةَِ} ((3)) ، فالآيات الثلاث على رغم اختلاف موضوعها في داخل السورة، يكمّل بعضها بعضاً، ويأخذ أحدها بمعنى الآخر في وحدة موضوعية شمولية ذات دلالة كلية كونها جميعاً آيات توحيد خالص. المطلب الرابع: التوجيه البياني التفسيري في سُوْرَة الْقَصَصِ إذا كان التحليل قد كشف عن سياق بناء النص، وإذا كان فهم الدلالة الإعرابية قد أوضح مفهوم النص، فإن التوجيه البياني يفيد في إيضاح ما أسماه أسلافنا ((4)) البيان التفسيري الذي يسمى أحياناً (البيان المبين) ، والمقصود به: " ما يستخرج من فهم بلاغة النص من المعاني الأخر " ((5)) ، لاجل ذلك أقتبسنا في هذا المبحث هذا المصطلح لفهم أدق لمجموعة الظواهر البلاغية الموجودة في سورة القصص، ولاستخراج ما فيها من كوامن المعاني.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 70. (4) رسالة في البلاغة. ابن كمال باشا. تحقيق: نور الدين حسن. الطبعة الأولى. منشورات كلية الآداب. جامعة القاهرة. 1991 م: ص47. (5) رسالة في البلاغة: ص 48.

ولا ريب أن التوجيه البياني معين على فهم إعجاز القرآن الكريم وفي ذلك يقول بعض الباحثين: " إن مباحث إعجاز القرآن قد اقترنت بمباحث البلاغة إقتراناً مشعراً بالدور المهم المكمل من أحدهما للآخر، وهكذا نشعر أن الغاية من علم البلاغة فهم وإدراك إعجاز القرآن، وأن الغاية من تحديد إعجاز القرآن تسطير مباحث ومضامين علم البلاغة " ((1)) . وقد عبر عن مثل ذلك وزاده ايضاحاً باحث أخر فقال: " والمتتبع للظواهر البلاغية الثلاثة البيان – المعاني – البديع. وما تتضمنه من تفرعات وتقسيمات يلاحظ لأول وهلة بادىء ذي بدء أن لكلها شواهد من القرآن الكريم تدل على ما يتعلق بها من آيات تضمنت معانيها تلك المحسنات اللفظية والمعنوية، وهو الأمر الذي تنبه له الزمخشري في (الكشاف) ، والجرجاني في كتابيه (أسرار البلاغة) (ودلائل الإعجاز) " ((2)) .

_ (1) مباحث في البلاغة والإعجاز. د. سعد خليفة أحمد. الطبعة الأولى. دار الأندلس. دمشق. 1984 م: ص88-89. (2) الصلة بين إعجاز الَقُرْآن الكَرِيم وعلوم البلاغة. د. محمود مُحَمَّد محمود. الطبعة الأولى. مطبعة جامعة المعزى. (د. ت) .: ص 187.

والباحث يرى أن القدماء اهتموا بإبراز العلاقة بين سورة القصص والتوجيه البلاغي لظواهرها اللغوية، ومن أقدم النصوص في ذلك ما أورده القاضي الباقلاني اذ قال ـ رَحِمَه الله ـ في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((1)) ، " هذه تشتمل على ست كلمات سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف. وهي تشتمل على جملة وتفصيل وجامعة وتفسير، ذكر العلو في الارض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما، لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره " ((2)) ، ثم قال ـ رَحِمَه الله ـ عن قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((3)) ، " وهي خمس كلمات متباعدة في المواقع نائية المطارح قد جعلها النظم البديع أشد تألفاً من الشيء المؤتلف في الأصل، وأحسن توافقاً من المتطابق في أول الوضع " ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (2) إعْجَاز القُرْآن: ص 193. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (4) إعْجَاز القُرْآن: ص 194.

وهذا الكلام لرجل قد بحث الجوانب البلاغية لسورة القصص من كل نواحيها، ونحن نلاحظ في التحليل البلاغي لسورة القصص إِذَا ما أخذناها على حده أنها تكاد أن تكون جامعة لمعظم ـ إن لم يكن كلّ ـ الظواهر البلاغية، فالسياق البلاغي يجري فيها بأسلوب جزل فخم مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) . فإن هذه الآية تبدأ بداية هادئة، ثم يتصاعد إيقاع جرسها البلاغي، ثم يهبط بالسكينة والطمأنينة على أم موسى (- عليه السلام -) ، ثم يأتي الوعد الالهي ولم يقل تعالى: (جاعلوه مرسلاً) ، بل جعله في جملة المرسلين ـ عَلَيْهم السَّلام ـ {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} لأن (من) التبعيضية هنا تدخله في أوائلهم، وهو كذلك (- عليه السلام -) من الرسل الخمسة أولي العزم. وقد تنبه الزمخشري في الكشاف لهذه الطريقة البلاغية في سورة القصص لولا أنه خلط بعض مباحثه بنظريته الإعتزالية، فحاول إقحام الإعتزال في المعنى المستخرج من آيات سورة القصص ليعزز ما كان ـرَحِمَه الله ـ يذهب إليه فيه (2) . وقد حاول بعض الباحثين إيضاح ذلك كله (أي توجيه المعنى بلاغياً في سورة القصص) ، فقال: " وفي سورة القصص نجد صوراً بلاغية في آيات الصفات أخذت حيزاً كبيراً جداً في التفكير الاعتقادي، لأن القائلين بالحقيقة والمجاز في القرآن الكريم حاولوا أن يستدلوا بها (أي بصورة هذه الآيات) على ما كانوا يذهبون إليه من آراء ومذاهب، ولا ننسى هنا أن المعتزلة كانوا على رأس أولئك القوم.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (2) الكَشَّاف: 3 /229.

فقوله عزّ من قائل: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) ، يحتوي على أمر، وخبر، وتقرير، ورد صدر على عجز، ومؤدى ذلك صورة بلاغية للإله الواحد الباقي. ولكن طوائف المعتزله القائلين بالمجاز أولوا الآية بلاغياً لأجل نفي الوجه عن الله عز وجل، فأخطاؤا الصواب " ((2)) . ونحن مع هذا الباحث فيما ذهب إليه، وسنحاول فيما يلي هذه الصفحة إعادة ترتيب الظواهر البلاغية في سورة القصص وفق التقسيم البلاغي ((3)) . والغرض من هذه العملية إبراز دور تلك الظواهر البلاغية في تحسين وتزيين وتجميل المبنى والمعنى في كلام الله وهو أصدق القائلين إستناداً إلى ما ذكره بعض الدارسين، اذ قال: " إن وضع آيات كل سورة تحت التقسيم البلاغي التراثي يدلنا على مواطن الإعجاز في كل سورة من السور، مما يفتح الطريق أمام جمهرة الباحثين لإعادة صياغة إعجاز القرآن الكريم " ((4)) . وهو ما يراه القارىء في الصفحات الآتية: ونحن سنختار بعض الأنواع البلاغية لا كلها من باب الإشارة إلى الشيء للدلالة على ما هو أعم. 1-التشبيه: هو (ما حذفت فيه أداة التشبيه، ووجه الشبه) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (2) الصورة البلاغية في آيات الصفات في الَقُرْآن الكَرِيم. الشافعي حسن. الطبعة الأولى. دار المعارف بمصر. 1994: ص397-399 (3) ينظر معجم المصطلحات البلاغية. د. أحمد مطلوب. الطبعة الأولى. منشورات المجمع العلمي العراقي. بغداد. 1984 م.: 1/3. (4) الظواهر البلاغية في سورة البقرة: ص 122. (5) ينظر أنوار الربيع: 3 /45.

{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((1)) ، فإن الإحسان الإلهي هو المشبه به، والمشبه هو المأمور بالإحسان، ووجه الشبه الموازنة بين الأمر بالإحسان ليوافق إحسان الله جل جلاله. 2-الاستعارة: هو (اللفظ المستعمل فيما يشبه معناه الأصلي لعلاقة المشابهة، أو هي استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة) ((2)) . مثل قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} ((3)) . فإن قرة العين بردها واستقرارها، فجعل استعارة عن الولد. 3-الكناية: هو (أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وهي مصدر من كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به، واصطلاحا: لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه معه أيضا) ((4)) ، مثل قوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((5)) ، فإن جملة {وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} تشمل كناية عن سبيهن واغتصابهن. 4- الإيغال: هو (ختم الكلام نثراً كان أو نظماً بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها) ((6)) ، مثل قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ((7)) . 5- الإلتفات:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (2) شرح التلخيص في عُلُوْم البلاغة. للإمام جلال الدِّيْن بن عَبْد الرَّحْمَن القزويني. ت 739 هـ. دار الجيل. بيروت. لبنان. (د. ت) : ص 339. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9. (4) ينظر شرح التلخيص: 155. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (6) أنوار الربيع: 5 /333. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10.

هو (إنصراف المتكلم عن المخاطبة الى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة، أو الإنصراف من معنى يكون فيه إلى معنى آخر) ((1)) ، مثل قوله تعالى فيها: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ((2)) ، فإن قوله تعالى: {يَسْتَصْرِخُهُ} إلتفاف في الخطاب، وتغير في سياقه من الإسرائيلي والمصري لموسى (- عليه السلام -) . 6- المجاز: هو (نقل الشيء عن حقيقته التي وضع لها إلى معنى آخر) ((3)) ، وذكروا أن من أمثلته في سورة القصص قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه} ((4)) ، والنص لا يستقيم بزعمهم إلا بنقله للمجاز والله أعلم بالصواب في ذلك. 7- المقابلة: هي (أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو اكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَة} ((6)) ، فإن الحسنة مقابلة للسيئة، وقد ازدات بها الجملة جمالاً. 8- الإشارة:

_ (1) بديع الَقُرْآن. ابن أبي الإصبع المصري. (585 ـ 654 هـ) . تحقيق: حفني مُحَمَّد شرف. الطبعة الأولى. مكتبة نهضة مصر. الفجالة. 1957 م: ص 58. العمدة في مَحَاسِن الشعر وآدابه ونقده. أبو الحَسَن بن رشيق القيرواني الأزدي. ت 456 هـ. تحقيق: مُحَمَّد محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. دار الجيل. بيروت. لبنان. (د. ت.) .: 2 /46. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18. (3) الإيضاح في علوم البلاغة، القزويني، أبو عبد الله جلال الدين بن سعد الدين أبي محمّد بن عبد الرحمن الخطيب، ت 739 هـ، تحقيق مُحَمَّد عبد المنعم خفاجي، بيروت، 1983 م: ص 155. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (5) شرح التلخيص: ص 163. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.

هي (أن تطلق لفظاً جلياً تريد به معنى خفياً) ((1)) ، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} ((2)) ، فإن المعاد إشارة إلى مكة المكرمة أو يوم القيامة، فازداد النص بها حسناً. 9-الخبر الإنشائي: هو (صيغة الكلام التامة الدالة على معنى جميل) ((3)) ، مثل قوله تعالى فيها: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (4) . فمجمل الكلام الإلهي في هذه الاية هو خبر إنشائي حقيقي، الغرض منه الخروج بمفهوم نصي، وأما قوله تعالى في الآية: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ، فهو نص إعجازي لايتأتى نظمه أو نظم مثله للبشر. 10- المثل: هو (كلام يتداوله الناس لجماله وقصره وحكمته، ومتى فشا استعماله سمي مثلاً، ولذلك لا تغيّر الأمثال) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ((6)) ، فهذه الجملة القرآنية قد غدت مثلاً إلهياً ينطقه الناس، للدلالة على أخذ القوي الأمين في العمل المراد له، فصارت مثلاً بليغاً. 11- الدعاء:

_ (1) الفوائد. أبو عَبْد الله بن أَبِي بكر ابن قيم الجوزية. . ت 751 هـ. دار الفكر ببيروت للطباعة والنشر والتوزيع. (د. ت) : ص 125. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (3) ينظر الإيضاح في علوم البلاغة: ص 15. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (5) ينظر الإيضاح في علوم البلاغة: ص 307. شرح التلخيص: 4 /147. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 26.

هو (طلب من هو أدنى ممن هو أعلى بألفاظ بليغة) ((1)) ، مثل قوله تعالى فيها: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ((2)) ، فهذا النص دعاء علمنا الله عز وجل أن ندعوه به على لسان موسى (- عليه السلام -) . 12- الأمر: هو (طلب من هو أعلى أمراً ممن هو دونه، أو اقتضاء فعل غير كف مدلول عليه بغير لفظ كف، ولا يعبر به علو ولا استعلاء على الأصح) ((3)) ، مثل قوله تعالى فيها: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء} ((4)) ، فجملة {اسْلُكْ يَدَكَ} أمر إلهي صيغ صياغة بلاغية إعجازية، فدلّ على جماليته في حد ذاته. 13- الإضراب: هو (ذكر شيء قد يستقبح، إلا أن القرينة تدل على حسنه، أو الإعراض عن الشيء تركاً وإهمالاً بعد الإقبال عليه) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء} ، فإن قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ سُوء} إضراب لئلا يظن البرص بيده (- عليه السلام -) فكمل بها الكلام.? 14- تجاهل العارف:

_ (1) ينظر التوقيف على مهمات التعاريف. مُحَمَّد عَبْد الرَّؤُوْف المناوي. (952 ـ 1031) . تحقيق: د. مُحَمَّد رضوان الداية. دار الفكر المعاصر ـ دمشق , دار الفكر ـ بيروت. ط1 1410 هـ: ص 338. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24. (3) التوقيف على مهمات التعاريف: ص 92. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32. (5) التوقيف على مهمات التعاريف: ص 71.

المطلب الخامس: الصورة البلاغية في سورة القصص

هو (استخدام العارف صيغة تشعر الجهل عند من لا يجهل، أو سوق المعلوم مساق غيره لنكتة) ((1)) ، كقوله تعالى فيها: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ((2)) ، فإن جملة {لأَظُنُّهُ} تأتي بمعنى (لأوقنه) . وهو تجاهل العارف لأن فرعون كان يعلم أن موسى (- عليه السلام -) من الصادقين، بدليل حكاية الله عز وجل عنه أنه قال في آخر عمره: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} ((3)) . 15- الاستثناء البلاغي: هو (ذكر أمر ثم تخصيصه بغير صيغ الاستثناء المعروفة) ((4)) ، مثل قوله تعالى فيها: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((5)) ، فجملة {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} هي استثناء بلاغي أخرج بها قارون من قوم موسى بغير أدوات الاستثناء المستخدمة في مثل هذه الحالات. إن ما تقدم كان محاولة لإبراز بعض الظواهر البلاغية في سورة القصص، وتخريجها وتحليلها بإيجاز، ليتطابق ذلك مع منهجها في درس وتحليل سورة القصص من كل جوانبها، وهو الأمر الذي عبر عنه أحد الباحثين بقوله: " إن استخراج أي ظاهرة بلاغية في أي آية، ثم تحليلها يتيح لنا فهماً كاملاً لإعجاز هذه الاية نفسها، لأن الظاهرة البلاغية كانت وما زالت مفتاح إدراك الإعجاز " ((6)) . المطلب الخامس: الصورة البلاغية في سُوْرَة الْقَصَصِ

_ (1) التعريفات (الجرجاني) : ص 73. التوقيف على مهمات التعاريف: ص 160. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38. (3) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 90. (4) التوقيف على مهمات التعاريف: ص 55. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (6) الظواهر البلاغية: ص 27.

يعدّ مفهوم الصورة البلاغية بوصفه فناً من فنون البلاغة الحديثة أحد أوجه التشكيل الصوري البياني للمعنى الملفوظ من خلال ذاتية المبنى وقد عرف أحد دارسي البلاغة الصورة البلاغية بأنها: " التشخيص الذي يحسه القارئ مصوراً في ذاته عند قراءته نصاً ما استناداً إلى الإبداع الفني في نقل النص المكتوب من عالم اللفظ والمعنى إلى عالم الصورة بكل أطرها وألوانها " ((1)) . ولا ريب أن قضية الصورة هي قضية قديمة قدم البلاغة العربية، فقد عرفها القدماء بأسماء مثل ((2)) . 1-التصوير. 2-التشبيه (في بعض جوانبه) . 3-الاستعارة (في بعض جوانبها) . وقد ورد ذكر ما يشبه مفهوم الصورة البلاغية لدى علماء البيان باسم (الإيغال في الوصف) ((3)) ، وأرادوا بذلك: " أن يغرق الكاتب أو الشاعر في وصفه لشيء ما، حتى يخرجه إلى مخرج الصورة المصورة، فإذا كان ذلك كذلك تم له الوصف، وأجاد به " ((4)) . ونحن نعتقد أن مفهوم الصورة البلاغية بكل جوانبه الداخلية والخارجية يمكن تطبيقه في الدراسات الحديثة للنص القرآني، وقد فعل ذلك سيد قطب في كتابه (التصوير الفني في القرآن الكريم) ((5)) ، ومحمد عبد الله في كتابه (الصورة والتشخيص البياني في القرآن الكريم) ((6)) .

_ (1) البلاغة الحديثة. عطية فرج. الطبعة الأولى. دار مصر العلمية. القاهرة. 1988 م: ص 221-222. (2) ينظر الصناعتين: ص193. (3) المصدر نفسه: ص 315. (4) رسالة في البلاغة: ص22. (5) ينظر التصوير الفني في الَقُرْآن الكَرِيم. سيد قطب. دار الكتاب العربي. بيروت، لبنان. (د. ت) : ص 177. الصورة والتشخيص البياني في الَقُرْآن الكَرِيم. سليمان عبد الحكيم. الطبعة الأولى. بيروت، لبنان. 1994 م: ص 257. (6) ينظر الصورة والتشخيص البياني في القرآن الكريم: ص 257.

وأثناء دراستنا في هذه الرسالة لكل ما يتعلق بسورة القصص، وتحليلنا لكافة جوانبها، كان لزاماً علينا أن ندرس قضية الصورة البلاغية فيها باعتبار أن ما ورد في سورة القصص من صورة بلاغية يعدّ دليلاً للكاتب والشاعر على حد سواء في إقامة تصوير النص استناداً إليها ((1)) . لقد تحققت في سورة القصص التطبيقات البلاغية من خلال جوانب الصورة البلاغية التي احتوتها في ذاتها. ... ولا شك أن هذا التحليل باب من أبواب إدراك إعجاز النص القرآني الذي أخرس القائلين، وأبكم الناطقين. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} ((2)) ، ففي قوله تعالى فيها: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ((3)) . نجد أن مشهد صورة هذا القول الكريم من (امرأة فرعون) هو مشهد شاخص بكل جوانب الصورة، فيكاد القارىء للنص أن يحسّ بمشاعر (امرأة فرعون) ، وقلقها أمام فرعون وكبار قومه وآله. وفي قولها: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} ما يشعر من خلال استخدام لفظة (عسى) بمحاولتها التأثير عليهم نفسياً بأسلوب الترجي، وفي قولها: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} جعلت الصورة مصورة أمام عين فرعون، الذي يبدو أنه لم يكن له (ولد) ، وتأخيرها جعل موسى ولداً على رجاء النفع منه، فيه نكتة بلاغية جميلة في أسلوب الحث على فعل شيء ليكون الطلب بالتدريج ((4)) .

_ (1) الصورة والتشخيص البياني في الَقُرْآن الكَرِيم: ص257-260. (2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 82. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9. (4) الصورة والتشخيص: ص 237.

ونجد أن قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُون} ((1)) ، يجسد صورة بلاغية فنية مبدعة في لفظها وجرسها ومعناها وصوته الذاتي، ذلك أن لفظة (قصيه) لفظة مفتوحه على معانٍ متعددة ((2)) . ولكن من الممكن هاهنا أن نفهم منها معنى (قص الاثر والبحث والنظر عن بعد) ، ويعزز المعنى الاخير قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ، وفي ذلك صورة الأخت الحنون التي تبحث عن أخيها بأمر من أمها الوالهة التي فقدته، وهي صورة لا تتكرر في البيان. أما قوله تعالى فيها: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ((3)) ، فهو تصوير فني ـ بلاغي متكامل الصورة، النبي الكريم موسى ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ في نضجه واكتماله، وقد كان الربط بين الفعل الماضي (بلغ) ، والمفعول به (أشده) ، ثم مجيء الفعل المضارع (استوى) ربطاً متكاملاً في جوانب الصورة كلها، بحيث يشعر قارىء النص وسامعه على حد سواء ان هنالك رجلاً (مكتمل الخلقة) بدلالة الافعال المتتالية المتوالية. والصورة البلاغية واضحة كل الوضوح، وظاهرة كل الظهور في قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّب} ((4)) ، فإن الفعل الناقص (أصبح) ، والحال (خائفاً) ، ثم الفعل المضارع التام (يترقب) يتركب منها تصوير بلاغي تام، يدل على إنسان يتلفت إلى يمينه ويساره وفي هذه الصورة إعجاز صوري لا يتأتى لأي أحد إعادة تصويره مهما بلغ من إجادة وإتقان، وتلك إحدى خصائص النص القرآني في إعجازه.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (قصص) 7 /75. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.

ونجد أن قوله تعالى: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ((1)) فيه تصوير بلاغي تام، فيخيل للقارىء أنه يرى في ذهنه أمام ناظريه مجيء رجل من أطراف تلك المدينة راكضاً ليبلغ موسى (- عليه السلام -) نبأ المؤامرة. وليس في أي أسلوب من أساليب العربية ما يمكن أن يماثل قوله تعالى: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ، فلو قال القائل: (أتى إنسان من أطراف المدينة راكضاً) . أو (وصل رجل من أقصى المدينة مبلغاً) . وعشرات الصيغ الاخرى المقترحة لم يكن لقوله: (أي القائل) بكل صيغة روعة إعجاز قوله تعالى: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} بما تضمنه من صورة بلاغية. أما قوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((2)) ، فهي من الآيات التصويرية التي تصور لنا امرأة كلها حياء وعفة وحشمة وتواضع، وكل ذلك استدللنا عليه بقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} لأن استعارة الفعل المضارع الحقيقي تمشي، ونقل (على) من الأرض المحذوفة إلى (استحياء) بالتنكير المشعر بفخامة القصد المراد، يرينا صورة بلاغية أعجزت الأولين والآخرين، لذلك قال في هذه الآية بعض الباحثين: " إن المتتبع لقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} لا يجد لها نظيراً في كافة التعبيرات الإنشائية البلاغية، وما ذلك إلا لأن إستعارة الشيء الحقيقي لمجازية الاستحياء مشعرة بالتصوير البياني الخاص بالصورة الفنية بكل أوجهها من حقائق السير إلى مجازات الحياء بأنواعه، فالآية بذلك قمة من قمم الإعجاز التصويري القرآني " ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (3) الإعجاز التمثيلي في آيات الوصف. دراسة تحليلية. د. حسن رفاعي. الطبعة الأولى. دار المعارف بمصر. 4994 م: ص424.

ونحن واجدون في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} ((1)) ما يعدّ آية الآيات في التصوير البلاغي في القرآن، وبخاصة في سورة القصص. فتوالي حروف الجر، وتوالي الاضافات، والتصاق كل ذلك بعضه ببعض، ثم التقريب من العام إلى الخاص (شاطىء الواد) ، (البقعة المباركة) ، (من الشجرة) ، يدلّ على تصوير المعنى بأبلغ الصفات التي تدلّ (بما قبلها) على (ما بعدها) من قوله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) ، ومايتلوه من قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ((3)) ، ففي كل ذلك التصوير، شُخِّصَ المعنى بأبلغ لفظ موجز، وهو نوع من أنواع الإيغال البلاغي، وفيه التفاف في الوصف. وجملة (نودي) المبنية للمجهول تدلّ على تعظيم المنادى والمنادي. ونجد أن قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} ((4)) ، يضم صورة بلاغية بجنب مجموعة من الصور الفنية تتمثل في أن الأمر نتيجته هاهنا الحقيقة في الوقوع ـ وليس المجاز فلو أن الأمر (اسلك) كان مؤداه مجازاً لبطل وجه من أوجه الإعجاز الخبري في صدق قوله تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} بقرينة {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} احترازاً عن البرص الذي هو بياض بسوء.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.

وقوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ((1)) مشعر بعظم الصورة التي يتصورها الإنسان من (النبذ) الذي هو إلقاء باحتقار ثم إن قوله تعالى {فَأَخَذْنَاهُ} مشعر بكلية الجيش المنبوذ في اليم، وحقيقة الصورة نابعة من صورة المجاز فيها (الأخذ) و (النبذ) . وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} ((2)) فيها أحد أجمل أنواع التصوير البلاغي في بابه، وذلك متمثل في أن (سماع اللغو) نتيجته (الإعراض عنه) ، وقد تأتى ذلك التصوير للقوم االمؤمنين من خلال أداة الشرط (إذا) وجواب الشرط (عرضوا) ، ثم حذف (اللغو) والاستعاضة عنه بهاء (عنه) ، فأنظر كيف غدا النص اعجازباً تصويرياً بلاغياً، لا يمكن لأحد أن يجيء بمثله مهما حاول من محاولات. وقوله تعالى: {اللَّيْلَ سَرْمَداً} ((3)) ، وقوله تعالى: {النَّهَارَ سَرْمَداً} ((4)) على التوالي صورة مجازية لتقرير إستفهامي هو سؤال العارف، فصارت الصورة في الذهن منقلبة عن الصورة الحقيقية (الليل اللاسرمدي) و (النهار اللاسرمدي) إلى الصورة المجازية الآتية من الإستفهام عن الليل والنهار السرمديين، وهذا من أبلغ التصوير. وقوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} ((5)) ، قول بديع بليغ فيه كل أنواع التصوير الفني، وذلك نابع من أن إسناد النوء بالحمل مجازياً إلى المفاتيح لا إلى (العصبة أولي القوة) ، فهو من المقلوب لفظاً ومعنى.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 71. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 72. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.

وفي هذا القلب يتجسد التصوير البلاغي وتتمثل الصورة البلاغية واضحة كل الوضوح بما يراه القارىء في ذهنه من صورة (عصبة) (أولي قوة) تنوء بهم مفاتيحهم الخاصة بكنوز قارون. فكأن القرآن الكريم أسند كل الصورة هاهنا إلى المفاتيح، وجعلها محور النص، لأن من عادة العرب في كلامها أنها: (تقدم ما بيانه عندها أهم) ((1)) ، فقدمت المفاتح لنكتة بلاغية في التصوير البلاغي. وقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِه} ((2)) فيه من الصورة البلاغية، الصورة المقبوحة لشخص طاغية متكبر متجبر، تراه في نفسك وقد خرج على قومه، (وقد أسند الضمير لقومه تمييزاً لهم عن المؤمنين) . وفيه قوله تعالى: (في زينته) مشعر بأنه خرج بكل ما عنده من هيئة ولباس وحلي وكنوز، ولا يستطيع أي إنسان مهما بلغت به البلاغة أن يعيد تجسيد هذا المشهد إلا وهو ينتقص إما من اللفظ، وإما من المعنى. ثم نجد بعد ذلك متواصلاً معه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} ((3)) ، فنحسّ أن ذلك الخسف متعلق بخروجه متكبراً في زينته بعد ما كاد يفتن قلوب فريق من المؤمنين. والخسف الحقيقي هاهنا (لا المجازي) هو الذي جعل هذه القوة المتدفقة من النص يحسّها القارىء، ويشعر بها السامع على حد سواء.

_ (1) ينظر تأويل مشكل القرآن: ص 197. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.

المطلب السادس: الحكمة من استخدام الجمل والصيغ والعبارات في سورة القصص

ولعل إحدى أهم الصور البيانية قوله تعالى فيها: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) ، فهي آية قد لا يشعر القارىء لأول وهلة بصورتها البيانية غير أنه ما إن يمضي بها ليصل إلى قوله تعال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} يجد نفسه مستعيداً الصورة السابقة بالنهي عن دعاء سواه تعالى، ثم متقدماً على الصورة اللاحقة {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وهل قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} حقيقة أو مجاز؟ ففي ذلك خلاف بين علماء الكلام منذ أمد بعيد، غير أن الأصل في ذلك أن الألفاظ القرآنية على حقيقتها ما لم تصرفها قرينة إلى المجاز. وبذلك تكون الصورة في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} صورة حقيقية كل الحقيقة، مشعرة بما فيها من بلاغة وفن بلاغي وإيجاز في الوصف. وإذا وصلنا إلى هذا الموضع من هذا التحليل، نجدنا قد حاولنا أن نبرز جملة الصور البلاغية من خلال المفهوم العام للصورة البلاغية في آيات سورة القصص. المطلب السادس: الحكمة من استخدام الجمل والصيغ والعبارات في سُوْرَة الْقَصَصِ

_ (1) سُوْرَة (ص) : الآية 88.

من الواضح أن في اللغة العربية أساليب متباينة يمكن من خلالها فهم دلالات ألفاظ نفسها، أو بمقارنتها بغيرها، وذلك أن علم اللغة الحديث المأخوذ من أصوله التراثية قد أثبت أن أي نص لا يمكن فهم أسلوبه إلا بمقارنته بنص آخر، أو بإبدال بعض كلماته (بمرادفات) أخرى. ولا ريب أن علم إعجاز القرآن استفاد فائدة كبرى قديماً وحديثاً من ذلك، لأن علم إعجاز القرآن يبحث في خصائص الأسلوب وبدائل الأسلوب. وقد حاولت استناداً إلى ذلك أن أدرس بعض الكلمات والألفاظ في آيات مختارة من سورة القصص مع توجيه المعنى المقارن نحو بدائلها بحيث يبدو إعجاز الأسلوب القرآني في سورة القصص خاصةً، وذلك من ثلاثة أوجه: أولاً ـ البديل اللفظي. ثانياً ـ البديل الأٍسلوبي. ثالثاً ـ البديل المعنوي. والجمع بين هذه البدائل فعله القاضي الباقلاني من قبل في كتابه إعجاز القرآن في سورة أخرى، ودرسها القاضي عبد الجبار في كتابه المغني في أبواب التوحيد والعدل، والإمام عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز، وابن أبي الإصبع المصري في كتابه بديع القرآن. وممن درسها من المحدثين: الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطي ((1)) . الشيخ مُحَمَّد عبد الخالق عضيمة ((2)) . الدكتور فاضل السامرائي ((3)) . وسواهم من النحاة والبلاغيين المعاصرين الذين درسوا إعجاز النصّ القرآني لغوياً. ونحن في دراستنا لسورة القصص أردنا ان ندلي بدلونا في ذلك، فنفهم لماذا جاءت بعض الأشكال اللغوية في مواقع منها دون أشكال أخرى قد يتوقع الإنسان أن تجيء في كلام بديل لو كان كلاماً بشرياً.

_ (1) التفسير البياني للقرآن الكريم. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ. الطبعة الثامنة. دار المعارف بمصر. 1982 م: ص 88. (2) دراسات في أسلوب القرآن الكريم: 5 /119. (3) التعبير القرآني. د. فاضل صالح السامرائي. بيت الحكمة. بغداد. 1989 م: ص 51.

وهذا الفن أولع به الأدباء إذ يروي اليازجي: إن رجلاً سأل عن قول المتنبي: قد شرف الله أرضا أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سوّاك إنساناً فقال: لماذا لم يقل خلاك بدل سواك؟ فأجابه ابن جني: إن قوله: (خلاك) لا يعطي النصّ بلاغته التي أعطته إياها (الصيغة القرآنية) سواك التي جاءت في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} ((1)) ((2)) وقد أكثر الدكتور فاضل السامرائي من ذكر النصوص المشابهة ((3)) إن سورة القصص في ألفاظها ومعانيها تحتوي على ما يمس القلوب والأرواح في المعاني المنطبعة في النفس الإنسانية عند قراءتها لأسباب تتعلق بذاتية الألفاظ وفق خمسة عوامل. أولاً ـ الجرس اللفظي. ثانياً ـ بنية الكلمة. ثالثاً ـ موقع الكلمة. رابعاً ـ سياق الكلمة. خامساً ـ مقارنة الألفاظ بمرادفاتها. ونحن سنحاول ان ندرس المرادفات البديلة التي تبرز إعجاز الألفاظ الأصلية. إن الأسلوب الذي أنزلت به هذه السورة في مكة المكرمة يحمل كلّ سمات الأسلوب المكي (المختلف في دلالاته عن سمات الأسلوب المدني) ، وبذلك فإن الصورة العامة لسورة القصص تتميز بأن بناءها في إطاره العام خال من الجمل التي توجه المعنى نحو الدلالة الفقهية ـ الشرعية. بل إن جمله توجه المعنى نحو الدلالة التوحيدية التي تزرع العقيدة الصحيحة المستندة إلى نفي الشريك عن الله، والداعية إلى عبادة الله وحده. والتي تسلي رَسُول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وتشد من أزره وأصحابه لمواجهة ظلم قريش.

_ (1) سُوْرَة الانْفِطَارِ: الآية 7. (2) العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب. تحقيق: إِبْرَاهِيمُ اليازجي. الطبعة الثانية. دار العلم. بيروت. 1978 م: 2 /622. (3) التعبير القرآني: ص 51.

واستناداً إلى ذلك فإن آيات سورة القصص تعبر كلماتها تمام التعبير عن مقتضيات واقع الحال المراد إبانته لمن أنزلت السورة في زمنهم وبين أيديهم من أهل مكة. فنحن نسأل استناداً إلى ذلك لماذا جاء النصّ القرآني في قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1)) ولم يستخدم كلمة أخرى في صفة الكتاب مثل (الحكيم) ، (العزيز) ، (المجيد) ؟ والذي نراه أن المبين هاهنا أنسب، لأن الإبانة متناسبة مع صفة الكتاب كونها الإبانة بليغة الدلالة على الظهور والنصاعة في تلك الفترة، أما لو قيل: (الكتاب الحكيم) فمن أين لهم ان يعرفوا حكمته. أو العزيز فمن أين لهم أن يعرفوا عزه ولأنكروا ذلك رأسا، فقيل لهم: (الكتاب المبين) وهم لفصاحتهم لا يستطيعون إنكار إبانته ((2)) . فالله جل وعلا وصف كلامه بصفة يعرفها أهل مكة أكثر من سواهم لاشتهارهم بهذا فكأن القرآن أراد أن يتحدا بيانه. ونحن نجد أن الصيغة القرآنية: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ} ((3)) تحتمل سؤالاً هو: لِمَ لَمْ يقل تعالى: (طغى) ، أو (بغى) ، أو (استكبر) ؟ والذي نراه في ذلك أن دلالة (علا) من العلو الزماني والمكاني أبلغ من تلك الصيغ الأخرى، ومن كلّ صيغة، لأنه لو كانت العبارة (إن فرعون طغى) لكان ذلك دليلاً على الطغيان فقط، والطغيان (لا يعم، بل هو خاص بفرعون ولا يشمل جنوده ولا هامان) . ولو قيل: (إن فرعون تكبر) لكان التكبر خاصاً به وبقومه لأن الإنسان لا يتكبر إلا على من هم من حوله يرونه ويراهم.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2. (2) ينظر الكشاف: 3 / 164. جامع البيان: 6 /4963. البحر المحيط: 7 /104. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

ولو قيل: (إن فرعون بغى) لكانت الجملة غير مبينة عن هذا البغي، فجاءت العبارة (علا في الأرض) لتدل على أن فرعون جمع الطغيان والبغي والتكبر الذين اجتمعوا جميعاً في العلو على الأرض، فكان إعجاز استخدام الفعل الماضي (علا) دالاً تفضيلها على غيرها من الصيغ الأخرى، لأن كلمة (علا) في هذا الموقع في ذكر فرعون أبلغ في مكان الآية من أي صيغة أخرى، فالآية تصف دولة فرعون ومجتمعه أي نظام دولة كامل. فلا بد من كلمة تصف نظام دولة فرعون. ولا يوجد أليق من كلمة (علا) في هذه السورة من القرآن الكريم، وربما استخدمت بقية الكلمات في مواضع أخرى من سورة أخرى فناسبت موضعها في تلك السور ((1)) . إن قوله تعالى: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((2)) يحمل في استخدامه اسم الجمع (شيع) وهو منصوب بكونه مفعولاً به ثانياً دلالة خاصة تختلف عما لو استخدم فيه أي لفظ مرادف للكلمة نفسها، مثل (فرقاً) أو (أحزاباً) على سبيل المثال. ونحن نرى أن صيغة (شيعاً) التي جاءت في النص أبلغ من كلّ صيغة، لأن الشيع هي العصبة، ومن معانيها العصبة القوية، وفرعون إنما قسم الناس على شيع، أي: أقسام، فجعل منهم شيعته وشيعة موسى، ولو جاء النصّ بصيغة (فرقا) لدلّ على تحزب قوم دون كونهم من شيعته، أي: المطاوعون له.

_ (1) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4964. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

ونحن نجد أن قوله تعالى في سُوْرَة الْقَصَصِ {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} ((1)) . {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} ((2)) دالان على كون شيعة موسى (وهم اليهود) تمبزوا منذ ذلك الوقت عن شيعة فرعون، فدل ذلك على أن الشيعة بالنسبة للرجل عصبته، وقد غرقت شيعة فرعون معه في اليم لإيمانهم بدعوته، بدلالة: {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((3)) . وليس من الأسلوب القرآني ذكر جنود ملك ما إلا إذا بلغوا في عداوتهم للإيمان مبلغاً عظيماً. وهذا يجرنا إلى صيغة (يحذرون) لماذا جاءت بهذه الصيغة في النصّ، ونحن نعلن أن الحذر " هو احتراز عن مخيف " وقد كانوا جميعاً أي: فرعون وهامان وجنودهما يحذرون مولوداً بعينه هو موسى (- عليه السلام -) فجاءت الصيغة (يحذرون) بدلاً من غيرها من الصيغ مثل (يخشون) ، لأن الخشية هي خوف أو (يخافون) ، فالخوف هو أمر يقع بالمواجهة، وهم لم يواجهوا موسى (- عليه السلام -) ، فكانت صيغة (يحذرون) ابلغ في دلالتها من كلّ دلالة أخرى.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

ونحن نجد أن قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ((1)) يثير سؤالاً مهماً هو ما دلالة العداوة والحزن في كينونة موسى (- عليه السلام -) ولم لم تستخدم أي صفة أخرى مثل (وبالاً وصعوبة) أو (كائداً ومعسراً) والذي أراه والله أعلم أن ذكر المصدر (العدو) والاسم (الحزن) أبلغ من أي تعبير أخر، لأن التقاط آل فرعون (وهي صيغة عمومية) بمعنى ذكر الحال بالمآل لموسى (- عليه السلام -) وهو رضيع في أيامه الأولى لا يحمل يومذاك لهم أي معنى بأن هذا الصغير سيكون سبب عسرهم (الحزن) وسيكون عدواً لهم (كلّ العداوة) في سبيل الله جَلَّ جَلاَله. ولو قيل: (ليكون لهم وبالاً) أو (كائداً) أو (معسراً) لم يكن كذلك ذا معنى، لأن كلّ ذلك لا يمكن أن يتحقق من طفل صغير رضيع فكانت صيغة (عدواً وحزناً) هنا دالة على أنه سيعاديهم هم وليكون حزنهم هم دون سواهم، فكانت هذه الصيغة أبلغ في حد ذاتها مما لو استخدمت ألفاظ الآية أي مجموعة أخرى من الصفات، واللام في هذه الآية تدلّ على أنها لام التعليل، أو لام كي ((2)) . ومما يؤيد هذا المعنى الذي ذكر ليكون موسى عدواً خاصاً لهم تقديم الجار والمجرور (لهم) من عدواً وحزناً، فهذا التقديم أفاد الاختصاص. وقوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ((3)) يَدُلُّ على أن الإعجاز الَقُرْآني إنما كان في استخدام لفظة (يشعرون) ونفيهما بـ (لا) لأن الشعور هو (العلم الدقيق) ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8. (2) الكَشَّاف: 3 /166. مفاتيح الغيب: 12 /228. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 / 4968. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11. (4) ينظر جامع البيان: 1 0/38. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 269. مفاتيح الغيب: 12 /230.

و (لا يشعرون) أي لا تدركون بالحواس ودلالة (لا يشعرون) في هذا الموضع أبلغ من أية دلالة أخرى مثل لا يعلمون لأن العلم متحقق بعد وجود شيء ما معروف في العقل وليس الشعور بشيء مادي، بل هو شيء معنوي دقيق كلّ الدقة كخبر ولادة موسى (- عليه السلام -) ، وكونه بين ظهراني قوم فرعون، وأما دلالة (يعقلون) هاهنا فقد تكفل بهما وببيانهما الراغب الأصبهاني إذ قال: " ولو قال في كثير مما جاء فيه (لا يشعرون) لا يعقلون لم يكن يجوز، إذ كان كثير مما لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً " ((1)) ، والشعور إحساس، والعقل معرفة ونحن نرى أن هذه الآيات كذلك، وهو يوافق ما ذهبنا إليه آنفاً، لأن المعنى هو أن عدم شعورهم يعني انهم لم يحسوا بلهفتها عليه، ولو قيل: إنهم لا يعقلون لكان المعنى أنهم لا عقل لهم قط. ونحن نجد أن قوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} ((2)) يثير سؤالاً هو: لماذا جاءت الصيغة القرآنية (يستصرخه) هكذا، ولم تجيء في الاستخدام أية صيغة أخرى مثل (يستنجده) ، أو (يستغيثه) ، أو (يستنصره) ؟ والجواب عن ذلك هو أن أية صيغة أخرى إذا ما وضعت موضع كلمة (يستصرخه) لا يمكن أن تدلّ على المضمون الذي دلت عليه الصيغة القرآنية، فلو قلنا (يستنجده بالأمس) دلّ ذلك على طلب النجدة ولم يكن ذلك حال الرجل. ولو قلنا: (يستغيثه) لم يكن ذلك الاستخدام مناسباً، فطلب الغوث دعاء من قريب لبعيد، وليس ذلك واقع الحال، لأنهم كانوا جميعاً في مكان واحد.

_ (1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 12 /230. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.

فكانت كلمة (يستصرخه) في مبناها القوي الصياغة أوفى بالمراد إذ فيها الحروف القوية (الصاد، والخاء) جرسيّاً، وفي معناها إذ نتخيل رجلاً يسترعي الانتباه من صراخه بأن يجيء له موسى (- عليه السلام -) وهي المعبرة كلّ التعبير عن حال الرجل، لأن المعركة بين الإسرائيلي والقبطي لم تكن في علم موسى (- عليه السلام -) ((1)) . ونحن كذلك نجد في سُوْرَة الْقَصَصِ أن قوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((2)) وهي من الآيات البليغة التي عدّها قدامى المفسرين من الآيات المعجزة كلّ الإعجاز، يحمل في طياته تساءلاً.. لماذا استخدم الَقُرْآن الكَرِيم المصدر المزيد بأحرف الزيادة (استحياء) ، ولم يستخدم ألفاظ أخرى مثل (تمشي على حياء) ، أو (تمشي على خجل) أما استخدام (حياء) فإن المصدر المزيد أبلغ في دلالته من المصدر العادي، لأن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني، على ما قاله اللغويون، فناسبت شدة الحياء أن يجاء لها بمصدر مزيد (استحياء) . أما الخجل فإنه أخص من الحياء الذي هو أعم، فالخجل يكون من أمر معين، أما الحياء فإنه خصلة في الذات، وهو إحدى شعب الإيمان، لذلك كان استخدام النكرة المصدرية المزيدة (استحياء) أبلغ من أي استخدام أخر. وإن استخدام صيغة (استفعل) تدلّ على الطلب فكأنها تريد أن تثير في مقابلها هذه الخصلة الشريفة ((3)) .

_ (1) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 236. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 980. البَحْر المُحِيْط: 7/ 110. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (3) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /240. البَحْر المُحِيْط: 7 / 114.

وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ} ((1)) يثير في النفس سؤالاً هو: لماذا جاءت الصيغة القرآنية بالمصدر (الرهب) ، وهي صيغة استعيرت من فعل الطائر، لأنه إذا خوف نشر جناحيه، ولم تجيء مثلاً على صيغة (الخوف) ، أو (الخشية) ، أو (التوجس) ، أو أية صيغة من صيغ العموم؟ والذي أراه، والله أعلم بالصواب، أن دلالة استخدام أي مصدر أخر غير (الرهب) لا يمكن أن تكون له في نفس المقام الذي جاءت به. فلو قيل: (من الخوف) لم يكن للخوف، وهو معادل لفظي للجبن، أية دلالة، ولو قيل: (من الخشية) ، وهي لفظة تدلّ على ذات نفسية غير مطمئنة لم يكن لها أية دلالة، ولأن المراد الإلهي، والله أعلم بالصواب إنما كان أن يضمم موسى (- عليه السلام -) جناحه (يديه) من رهبته من الموقف الذي تلقى فيه الوحي دون الخوف الذي تقدم في قوله تعالى: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} ((2)) والأوامر الإلهية بعد صدورها متحققة كما هي القاعدة المعروفة، كان استخدام صيغة (من الرهب) هو الأبلغ في دلالته، فاستعارة صورة الطائر صور لنا دقة حال سيدنا (- عليه السلام -) ، فكأنه من حذره صار كالطائر الذي يتوجس من كلّ شيء ((3)) . وقد يسأل سائل: لماذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (4) ، وليس هناك أحد يدعو إلى النار؟ قلنا: إن هذه الصيغة جاءت وفيها فائدتان:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31. (3) ينظر الكَشَّاف: 3/ 175. مفاتيح الغيب: 12 /247. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5000. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 41.

الفائدة الأولى ـ غن النار هنا بتأويل ما سيكون، أي: إنهم يدعون لما يؤدي إلى النار في خاتمتهم، وهو كقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} ((1)) ، والخمر لا تعصر بل العنب هو الذي يعصر، ولكنه بما أنه سيكون العنب خمراً قيل: {أَعْصِرُ خَمْرًا} ورأي أبي مسلم أن " النار هنا بمعنى التقدم نحو النار " ((2)) ، فهو بتأويل ما سيكون. الفائدة الثانية ـ إن الصيغة القرآنية لو جاءت بلفظ (يدعون إلى الضلال) مثلاً، لم تكن معبرة عن دعوة فرعون وجنوده، وكذا لو جاءت بلفظ (يدعون إلى الكفر) لكان المعنى أنهم في كفرهم يدعون إلى كفر، وهكذا على التوالي، فجاءت صيغة {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لتدل على المعنى الذي أريد لها أن تجيء به، وهو ما زاد النصّ الَقُرْآني جمالاً على جمال ((3)) . وارى أن الدعوة إلى النار بمعنى الكينونة في النار.

_ (1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 36. (2) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /254. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5005. (3) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 254. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5005.

وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، فإن السؤال الذي قد يثار، هو عن دلالة قوله تعالى: {بَصَائِرَ} ، والبصائر جمع بصيرة، بمعنى العبرة ـ كما قال الراغب الأصفهاني ـ ودلالة العبر هاهنا أبلغ من أية دلالة أخرى، فمعنى الآية إذا ما حللناها هو أن التوراة أنزلت على موسى (- عليه السلام -) عبرة للناس وهدى ورحمة، أما دلالتها (أي كلمة بصائر) فهي أن في التوراة عبراً بالجمع، وليس عبرة بالإفراد، لأنها قد حوت على أحكام ومواعظ وقصص، وقد جمعت البصائر، والله أعلم لدلالة العبر البليغة وكونها أكثر في التعبير الَقُرْآني معنىً مما لو جاءت بلفظ أخر مثل (دلائل) ، أو (معالم) ، أو أي جمع أخر. فلو قيل: (دلائل) لم تدلّ هذه الكلمة إلا على كون التوراة علامات، لأن الدليل هو العلامة، ولو قيل: (معالم) لكان المعنى إشارات، لأن المَعْلَم هو الإشارة، أما لفظة (بصائر) فدلت على أن المعنى هو العبر تلو العبر ((2)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43. (2) ينظر جامع البيان: 10 /76. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 47. مفاتيح الغيب: 12/ 255. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5007.

وأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) . فإن سؤالاً قد يتبادر هنا عن دلالة (عميت) دون سواها من الصيغ، لأن إسناد المعنى لتاء الضمير الخاص بالمذكورين آنفاً يَدُلُّ على حقيقة العمى عن رد السؤال، ولو جاءت الصيغة بلفظ (فذهبت عنهم الأنباء) لم يكن ذلك دالاً على أي شيء، فذهاب الأنباء عن قوم يحتمل ردهم لجوابهما، ولو قيل: (فغادرت عنهم الأنباء) لكان كذلك، والمعنى أن حال الكفار والمشركين الظالمين يوم القيامة عند سؤالهم سؤال توبيخ، هو العمى الكامل حتَّى عمى الإجابة، ويفسر هذا المعنى الَقُرْآن الكَرِيم في آية أخرى هي قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ((2)) وهذا هو المعنى بعينه في الوصف الَقُرْآني، فدل ذلك على أن المعنى هو هو في الحالتين يوم القيامة، ولكن الأسلوب الَقُرْآني هو إعادة المعنى بأكثر من صيغة أسلوبية لإبراز أوجه الإعجاز في الَقُرْآن الكَرِيم، وقد أشار الطبري إلى غياب الحجة عنهم عند السؤال يوم القيامة فقال: " وإنما عني بذلك أنهم عميت عليهم الحجة، فلم يدروا ما يحتجون لأن الله تعَاَلىَ قد كان ابلغ إليهم في المعذرة " ((3)) . وهذا يوافق ما ذهبنا إليه.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 65 – 66. (2) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 72. (3) جامع البيان: 10 /94. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 360.

ونجد في قوله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((1)) يحمل صيغة قرآنية ذات دلالة خاصة في عموميتها البلاغية وقد يسأل سائل: لماذا لم تجيء الصيغة بلفظة (أمماً) ، أو (طوائف) أو (شعوباً) ، أو (أناساً) بدل (قروناًُ) ؟ والجواب والله أعلم: إن دلالة (قروناً) في موضعها أبلغ مما لو قيل (أمماً) لأن الأمم هي المجموعات من الناس، والطوائف هي أناس بعينهم، والشعوب مجموعات غير متجانسة، والأناس، جمع ناس، وهم المجموعة ذات السمات المميزة، أما صيغة (قروناً) فتحمل كلّ تلك المعاني مجتمعة في لفظها، ولأن الَقُرْآن الكَرِيم يستخدم الألفاظ القصيرة التي تدلّ على المعاني العديدة، فاستخدم الَقُرْآن الكَرِيم لفظة (قروناً) بدل أية صيغة أخرى، وتلك خصيصة من خصائص النصّ القرأني، والآية تحمل معنى تقدم ذكر رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . وتطاول العمر مشعر بتقادم ذكر رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ((2)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45. (2) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5706.

وفي قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((1)) تسائل عن ماهية دلالة (بطرت) بدل كلّ الصيغ الأخرى التي ترادفها، مثل (كفرت) ، أو (بغت في) ، أو (عتت) ، أو (طغت في نعمتها) ؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: إن صيغة (كفرت معيشتها) لا تحمل دلالة البطر لأن الفرق بين الكفر ـ وهو إخفاء الشيء ـ والبطر ـ وهو التكبر على الشيء ـ واضح بين، ولو جاءت الصيغة (بغت في معيشتها) لم تدلّ على البطر. ولو قيل: (عتت في معيشتها) لم تكن الصيغة دالة على معنى البطر مع دلالة انتصاب الفعل، لذلك كانت صيغة (بطرت) أوضح كلّ الوضوح من أية صيغة أخرى ((2)) . أما قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} ((3)) فإن سؤالاً قد يثار في معنى كلمة (سرمداً) المنصوبة مفعولاً به، هو: لماذا جاءت هذه الصيغة هاهنا بهذا اللفظ دون سواه؟ والذي أراه والله أعلم أن دلالة السرمد بمعنى (الدائم) أبلغ من أية دلالة أخرى، فالسرمد هو الدائم غير المنقطع، ولو استخدمت أية صيغة أخرى لم تدلّ على ما دلت عليه هذه الصيغة في مبناها ومعناها. فلو قيل بدلها: (دائماً) فإن الدوام هو البقاء، ولكنه لا يعطي المعنى الذي يعطيه معنى كلمة (سرمد) الذي يفيد الاستمرارية.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58. (2) ينظر مفاتيح الغيب: 13/ 6.الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5017. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 71.

وقد بين الطبري، والقرطبي المعنى نفسه، ففسرا السرمد بمعنى الدائم، ونحن نرى أن معنى الآية هو امتنان الله عَزَّ وجَلَّ على الناس جميعاً بكون الليل والنهار ليسا سرمديين " أي: ليسا دائمين، وقد تكررت كلمة (سرمد) في الموضعين في ذكر الليل والنهار، لأن العرب تبدأ اليوم بالليل قبل النهار، ليكون أبلغ في التعبير البياني عن فضل الله عَزَّ وجَلَّ ((1)) . وأما قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} ((2)) فإنه يثير سؤالاً مهماً جداً، هو لماذا جاءت كلمة (شهيد) هاهنا وهي بمعنى النبي في هذا المقام دون صيغة نبي أو رسول، مع أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالشهيد هنا هو النبي الذي يشهد على قومه بما فعلوه؟ قال الطبري في تفسير هذه الآية: " أي وأحضرنا من كلّ جماعة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله من الرسالة " ((3)) . وقيل: " أي نبياً عن مجاهد. وقيل: هم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا " ((4)) . ونحن نرى أن دلالة النبوة والرسالة في موضعها تفهم من خلال سياق معنى الآية لأن الآية تدلّ على أن الأمم يوم القيامة ينزع من كل منها نبيها يشهد على ما فعلوه عند دعوته لهم.

_ (1) ينظر الكَشَّاف: 3 /189. جامع البيان: 10 /98. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 236 (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75. (3) جامع البيان: 10 /89. (4) مفاتيح الغيب: 13 /13.

المطلب السابع: الرسم القرآني في سورة القصص وعلاقته بأداء المعنى

ولو جاءت الصيغة (نبياً) لم تدلّ على الشهادة النبوية، لأن النبوة مقام لا يَدُلُّ في معناه على النزع، وقد جاءت الصيغة (نزعنا) وهي تدلّ على الأخذ، ولا يليق موضع النبوة والرسالة بصيغة (نزعنا) لأن النصّ لو جاء بصيغة نزعنا من كلّ أمة نبياً لما كان في النصّ من معنى سوى ما فيه من أخذ الأنبياء. والَقُرْآن ينقل النصوص في حالة تغير المعاني من معنى إلى أخر ليهذبها، فجاءت الصيغة كما تقدم، وهي وجه من وجوه الإعجاز القرآني في تبديل الصيغ والأساليب ((1)) . إن ما تقدم كان محاولة لاستعراض بعض كلمات وصيغ سُوْرَة الْقَصَصِ وتحليلها وفق نظام الصيغ القرآنية وبدائلها اللغوية، ولعلنا حاولنا محاولة في الصياغة اللغوية. المطلب السابع: الرسم الَقُرْآني في سُوْرَة الْقَصَصِ وعلاقته بأداء المعنى أجمع القدماء على أن هنالك خطان لا يقاس عليهما: خط المصحف. خط العروض ((2)) . ولكن قوماً ممن بلغوا في العربية والتفسير مبلغاً كبيراً أجمعوا على أن رسم المصحف يمثل تطوراً كبيراً في أداء المعنى ((3)) ، وأنه إنما كتب ورسم بلسان وأحرف قريش لغابات معنوية مهمة كلّ الأهمية، وتروي الرواية الشهيرة عن جمع القرآن: ((وقال عثمان (- رضي الله عنه -) للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شيء من الَقُرْآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم)) ((4)) .

_ (1) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 274. (2) ينظر في اللغة والنحو. د. طه إِبْرَاهِيمُ، الطبعة الأولى، مصر، 1985 م: 21 -22. (3) صَحِيْح البُخَارِي: 6 /224. (4) صَحِيْح البُخَارِي: 6 /224.

مما يَدُلُّ على أن فعل عثمان (- رضي الله عنه -) ، " وفعله حجة في بابه على ما هو مشهور من حجية قول الصحابي " ((1)) ، إنما يبين كيف أن بعض صور الرسم للخط الَقُرْآني لا يمكن فهمها إلا بكتابتها ورسمها بلسان قريش. ولا ريب أن مسألة الَقُرْآن بالأحرف السبعة امتزجت في بعض الحالات بظواهر الرسم الَقُرْآني على رأي طائفة من العلماء الذين ذهبوا إلى أنَّ الأحرف السبعة موجودة في اللفظ والصوت الَقُرْآني وهو رأي مشهور ((2)) . وقد ألف قوم كثيرون في رسم الخط المصحفي الَقُرْآني وما فيه من فوائد ((3)) ، وقد بين القدماء أن من الواجب التزام ظواهر الرسم المصحفي في كتابة المصاحف، وجعلوا خط المصاحف خاصاً بها ((4)) . وقد ذكر الزمخشري في الكشاف أن: " خط المصحف سنة لا يتغير " ((5)) . وقد علل كثير منهم ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية أو بيانية، وبينوا أوجه بعض أشكال الرسم بيانياً ((6)) . ويقول ابن قتيبة: " وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها " ((7)) .

_ (1) المُسْتَصْفَى من علم الأصول. مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغَزَالي أبو حامد. (450 ـ 505) . تحقيق: مُحَمَّد عَبْد السلام عَبْد الشافي. دار الكتب العلمية. بيروت. ط1. 1413 هـ.: 2 /115. (2) تأويل مشكل الَقُرْآن: ص 30. جامع البيان: 1/47 –48 و 57-58. (3) ينظر رسم المصحف: 168. (4) همع الهوامع شرح جمع الجوامع. جلال الدِّيْن عَبْد الرَّحْمَن السيوطي الشافعي. ت 911هـ. دار المعرفة. بيروت. لبنان. 1327 هـ. مصورة عَنْ ط1. بولاق. مصر: 2 / 243. (5) الكَشَّاف: 3 /209. (6) المحكم في نقط المصاحف. عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو. (371 ـ 444) . تحقيق: د. عزة حسن. دار الفكر. دمشق. ط1. 1407 هـ: ص 196. (7) تَأوِيل مُشْكِل القُرْآن: ص 40 –41.

ويقول ابن خلدون: " ثُمَّ اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها (أي المصاحف) تبركاً بما رسمه أصحاب رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كلام الله تعَاَلىَ وكلامه … " ((1)) . ثُمَّ يذكر بعض ما يتعلق بعلاقة الرسم الَقُرْآني بأداء المعنى استناداً للخط فيقول ناقلاً: " ويقولون في مثل زيادة الألف في (لا أذبحنه) ((2)) أنه نبع على أن الذبح لم يقع. وفي زيادة الياء في (بأييد) ((3)) أنه تنبيه على كمال القدرة الربانية وأمثال ذلك " ((4)) . وقد ذكر القدماء أن من صور اختلاف الرسم ما يكون لاختلاف المعنى ((5)) ، وكان ممن أولع بذلك المراكشي ـ على ما نقله القسطلاني رَحِمَه الله ـ ((6)) . ونحن في هذا المطلب سنحاول أن نعلل تعليلاً معنوياً بعض صور الرسم في سُوْرَة الْقَصَصِ لأننا نعد ذلك ذا فائدة في إيضاح بعض معاني هذا السورة. ونحن نجد من صور رسم المصحف في هذه السورة: 1. ءايت: إذ رسمت الهمزة مستقلة وحذفت الألف بعد الياء. ولعل ذلك يَدُلُّ على كمال الجمع في كون تقديم الهمزة مشعر بذلك. 2. يستحي: إذ رسمت بياء واحدة، وكان حقها أن ترسم بيائين، ولعل ذلك يَدُلُّ على شدة المبالغة في الإبقاء على النساء دون الرجال. 3. ءَاَلُ:

_ (1) مقدمة ابن خلدون. عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن خلدون الحضرمي. ت 808 هـ. دار القلم. بيروت. ط5. 1984 م: ص 757 و 791. (2) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 21. (3) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 47. (4) المصدر نفسه: ص 758. (5) ينظر رسم المصحف: 223. (6) لطائف الإشارات لفنون القراءات. للإمام شهاب الدِّيْن أبو العباس أحمد بن مُحَمَّد القسطلاني. 851 هـ ـ ت 923 هـ. تحقيق: عامر السيد عثمان. د. عَبْد الصبور شاهين. طبع المجلس العلمي للشؤون الإسلامية. القاهرة. 1972 م: 283 –284.

إذ رسمت همزة بدل علامة المد على الألف. ولعل ذلك للدلالة على أن هؤلاء الآل غير الصالحين، لأن الهمزة حرف تقليل أحياناً ((1)) . 4. امرأتُ: إذ رسمت بتاء طويلة بدل التاء المدورة، ولعل ذلك ليدل على كمالها ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ لأن التاء الطويلة تدلّ على الكمال والعظمة. 5. يموسى: إذ رسمت ياء النداء بغير ألف، ولعل ذلك للدلالة على سرعة النداء والخطاب في الحالتين ((2)) . 6. استئجره: إذ رسمت الهمزة على كرسي، واستئجرت إذ رسمت الهمزة كذلك، ولعل ذلك للدلالة على مبالغتها وحرصها على طلب إجارة موسى (- عليه السلام -) لحاجتها وأختها لحمايته، فجاء الرسم الَقُرْآني بهذه الصيغة مشعراً بذلك. 7. ءانس: إذ رسمت الهمزة لوحدها، ولعل ذلك لبيان شدة أنسه بالنار التي رآها. 8. فذنك: إذ رسمت بغير ألف. ولعل ذلك للدلالة على اسم الإشارة، وكونه موجهاً للبراهين الإلهية. 9. يهمن: إذ رسمت بكرسي ياء بدل الألف، ولعل ذلك للدلالة على استعجال فرعون في ندائه لهامان. 10. ما اتهم: إذ رسمت بكرسي بدل الألف، ولعل ذلك يتوجه لعدم مجيء النذير لهم من قبل. 11. سحران: إذ رسمت بصيغة تقرأ بها بعدة قراءات، ولعل ذلك لكي يتوجه النصّ لعدة آفاق من القراءات، وبذلك إما للإشارة إلى موسى وهارون ـ عَلَيْهما السَّلام ـ (ساحران) ، أو موسى ومحمد ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ. وأما للإشارة إلى سحر معه سحر، أي سحر موسى وهارون ـ عَلَيْهما السَّلام ـ، وكل ذلك مما يفتح آفاق متعددة للنص. 12. شركاءي:

_ (1) لقد رسمت في بعض المصاحف (سلام على آل ياسين) بألف ممدودة للتكريم، كما في الكَشَّاف: إذ قال: " وأما من قرأ آل ياسين اسم أبي إلياس أضيف إليه الآل ". الكَشَّاف: 3/ 353 –353. (2) أي الآية 29 و 30 من سُوْرَة الْقَصَصِ.

المبحث الثاني: الأطر العامة لسورة القصص

إذ لم ترسم الهمزة على كرسيها،، ولعل ذلك للإشارة إلى انتفاء الشركاء وكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فرداً، لأن إفراد الهمزة مشعر بذلك كما لا يخفى. 13. ءامن: إذ رسمت الهمزة منفردة دون رسم الألف وعليها علامة المد،، ولعل ذلك للإشارة إلى الثواب الموحد لمن آمن بجعل الهمزة مفردة، كما أن المؤمن مفرد في إيمانه. إننا لا ندعي أن ما قدمناه من تأويلات للمعنى وفق ظواهر الرسم هو التأويل الوحيد، ولكن ما قدمناه هو تعليل استنتجناه من استقراء ظواهر الرسم المصحفي في سُوْرَة الْقَصَصِ، وهو في كلّ الأحوال اجتهاد مجتهد، ولسنا ممن يقول في الَقُرْآن الكَرِيم برأيه، فحاشى لله من ذلك، وإنما هو رأي أبديناه. المبحث الثاني: الأطر العامة لسُوْرَة الْقَصَصِ المطلب الأول: دلالة التوحيد في سورة القصص أنزل الله جل جلاله القرآن هادياً للناس ومرشداً لهم، ووضع لهم فيه المنهج الأقوم، والمنهاج الأحكم، فكان كما وصفه في ملازمته لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) {النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} ((1)) ، وتتضمن سور القرآن الكريم دلالات متعددة على التوحيد الإلهي الذي هو ذات (المعرفة الإلهية) ((2)) ، ولذلك كانت سورة الإخلاص تعدل (ثلث القرآن) ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 157. (2) حال أهل الحقيقة مع الله. السيد أحمد الرفاعي. (512 ـ 578 هـ) . تحقيق: مُحَمَّد علي مُحَمَّد. الدار الجماهيرية. ليبيا. 1975 م: ص111. (3) صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد 4 /1915 رقم (4726) . من حديث أبي سعيد الخدري عن الرَّسُول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قوله: والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن) . وصحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد. رقم (1344) من حديث أبي هريرة (- رضي الله عنه -) .

ولعل من السور التي تضمنت جوانب متعددة من دلالة التوحيد سورة القصص (المكية) ((1)) ، التي وصفها بعض الباحثين، فقال: " إن سورة القصص قد احتوت في ذاتها على جوانب تشريعية في باطن النص، وفي نفس الوقت فقد احتوت على جوانب توحيدية في ظاهر النص بما لا يدع مجالاً للشك في أن سورة القصص تضمنت في مجملها روحاً إيمانياً يفيض على المؤمنين بوداعة وسكينة " ((2)) .

_ (1) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 /58. (2) قصص الَقُرْآن، دروس وعبر. سعد يوسف أبو عزيز. الطبعة الأولى. دار الفجر للتراث. القاهرة. 1420 هـ. ص224 وما بعدها.

وتلك هي ميزة النص في سورة القصص كونه يحتوي على أسلوب خطاب يقرر حقيقة التوحيد بأسلوب غير مباشر، كما في قوله تعالى فيها: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ((1)) ، فمفهوم النص في هذه الآيات له ظاهر وباطن معنوي، فأما المفهوم الظاهر، فهو إن الله عز وجل هو الذي يصرف الكون ويقدر تصرفه فيه وما يجري فيه، أما المفهوم الداخلي ((2)) الإشاري، فيقرر حقيقة توحيدية أخرى، هي (أن إرجاع موسى (- عليه السلام -) إلى أمه كان لقدير إلهي ليكون فرعون وقومه الذين التقطوه في خانة المحاجة بكفرهم، وهو رسول الله تعالى لهم، ونحن نجد في سورة القصص أن آيات دلالة التوحيد ذات مبنى ومعنى صيغا بأسلوب يقرر حقيقة التوحيد حتى لدى أولئك الذين لا يؤمنون بالله جل جلاله ((3)) ، مثل قوله تعالى فيها: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} ((4)) في بيان الوعد الإلهي، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ((5)) في المشيئة الكلية، {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((6)

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (2) لا ريب أننا لا نعني بالمفهوم الداخلي هاهنا ما كان يعنيه الباطنيون من ملاحدة القرامطة والإسماعيلية، بل إن مفهومنا لهذا التعبير هو (معرفة إشارات النص الكامنة فيه) ، راجع فضائح الباطنية. مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغزالي أبو حامد. (450 ـ 505) . تحقيق: عَبْد الرَّحْمَن بدوي. مؤسسة دار الكتب الثقافية. الكويت. (د. ت) .: ص45. (3) ينظر التوحيد والمعرفة في الفكر الإسلامي. أحمد حسن الزين. الطبعة الثانية. دار العرفان. بيروت، لبنان. 1988 م.: ص 222-224. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.

) الوكالة الإلهية، {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((1)) التوحيد الخاص بالربوبية، {بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} ((2)) معطي الهدى، {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ((3)) . وقد عرف العلماء التوحيد بأنه: " إفراد الله تعالى بالعبودية، والإقرار له بالوحدانية " ((4)) . وهذا التعريف الذي يراه الباحث جامعاً مانعاً يرينا كيف أن سورة القصص قد تضمنت ما يمكن أن يكون بحق (كل دلائل التوحيد ودلالاتها) استناداً إلى ما ذهب إليه أحد الباحثين إذ قال: " إن آيات التوحيد الخالص في سورة القصص تنطق في حد ذاتها بمعنى (لا إله إلاَّ الله) على سبيل الإيضاح، أو الإشارة على حد سواء، لا بل يكاد أن يكون السياق العام للسورة في خطها البياني التصاعدي المتصاعد نحو الذروة ناطقاً بإفراد التوحيد. فسورة القصص في هذا الباب شارحة للصفات الالهية التوحيدية " ((5)) . ولقد لاحظنا أن سورة القصص فيها عشرة مطالب توحيدية نوجزها في النقاط الآتية: 1- المنّ على المؤمنين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((6)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37. (4) علم الكلام نظرة تحليلية. د. عبد الكريم راجي. الطبعة الثانية. دار ذات السلاسل. الكويت. 1988 م.: ص93. (5) القصص القرآني: ص307 وما بعدها. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.

2- صدق وعد الله عز وجل: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) . 3- الجزاء الصالح: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((2)) . 4- غفران الله لعبادة المؤمنين: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ((3)) . 5- الهداية الإلهية: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((4)) . 6- إشهاد الله عز وجل: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((5)) . 7- الربوبية: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((6)) . 8- الحق والهداية من الله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ((7)) ، و {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ((8))

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 16. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

9- عدم إهلاك القرى إلا بإنذار: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((1)) . 10- التوحيد بإسناد الصفات: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((2)) . فهذه المطالب العشرة تبين لنا أن آيات التوحيد في سورة القصص تجري في نظام قرآني إعجازي لا يدانيه بحق أي نظام لغوي آخر. وفي ذلك يقول الدكتور ناصر الحسن: " والذي يحلل ما جاء في سورة القصص الشريفة يلاحظ كيف أن مجرى آيات وحدانية الله عز وجل فيها تسير في طريق مستقيم فتأخذ بالعقول والقلوب كمثل قوله تعالى فيها: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} ((3)) ، فإن دلالته على أن الله عز وجل يتكفل برسله، ويصطفيهم منذ طفولتهم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فالآية هنا تجعل تحريم المراضع على موسى (- عليه السلام -) في قصر فرعون فعلاً من أفعال الله عز وجل، وفي ذلك دلالة عظمى على وحدانيته تعالى " ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 12. (4) مباحث في إعجاز الَقُرْآن. د. سليمان علي. الطبعة الثانية. دار المعارف بمصر. 1986 م.: ص 158.

وإذا ما حاول الباحث ـ استناداً إلى ما تقدم ـ إعادة صياغة معنى الآيات التوحيدية في سورة القصص، فإنه يخرج بما يمكن أن نوجزه من صفات الله عز وجل في النص الآتي المستخلص من السورة نفسها على ما قدمنا نقله من سوابق الآيات: (إن وعد الله حق يلحق بالصالحين وهو وكيلهم، رب العالمين ببراهينه، وهو العليم بمن جاء بالهدى، وإن الهدى هو هداه الذي هو الحق من عنده وبيده وحده الهداية، الذي لا يعذب قرية إلا بعد أن يقيم عليها الحجة، وما عنده هو الخير الباقي الذي يخلق، والذي يعلم الخوافي، لا إله إلا هو رب الليل والنهار، وهو الذي لا يحب الفرحين ولا المفسدين، مهلك القرون الماضية الذي ثوابه الثواب لمن آمن وما من احد يشعر امراً من دونه الذي يرد الناس إلى معاد، كلّ شيء هالك إلاّ وجه جل جلالة) .

وهذه الإشارات لاقت هوى من العارفين، فتحققوا بها، وبخاصة ما ورد منها على الاجمال ((1)) . وقد كان لآية {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((2)) دلالة توحيدية تنزيهية تشبه دلالة قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} ((3)) ، أو دلالة قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ((4)) ، فإثبات الوجه لله تعالى دون كيفية هو قمة من قمم التوحيد. وفي ذلك يقول الدكتور محمد عياش الكبيسي: " وصفات لا يدل ظاهرها على علاقة معنوية مع هذه الاسماء بل إن ظاهرها ولّد نوع إشكال في فهم المدارس الكلامية ... كإبعاض وأعضاء أضيفت إلى الله تعالى مثل الوجه في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} " ((5)) . ثم يعود الدكتور ليقرر ذلك، فيقول: " إن العقيدة القرآنية عقيدة عامة تناسب جميع المكلفين، لأنها جاءت لهم جميعاً ... وعلى هذا نرى كيف استطاعت عقيدة القرآن أن تقنع مختلف المستويات الفكرية والاجتماعية وغيرها ودفعت بالجميع إلى الغاية العظيمة " ((6)) .

_ (1) النظام الخاص لأهل الاختصاص. السيد أحمد الرفاعي (512 ـ 578 هـ) تحقيق: مُحَمَّد علي مُحَمَّد. الدار الجماهيرية. ليبيا. 1978 م.: ص85. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (3) سُوْرَة الرَّحْمَنِ: الآية 27. (4) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 115. (5) العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم ومناهج المتكلمين. مُحَمَّد عباس الكبيسي. الطبعة الأولى. بغداد. 1992 م.: ص121. (6) المصدر نفسه: ص 32.

المطلب الثاني: المرأة في سورة القصص

وهذا الكلام مهم جداً جداً في بابه ونجاحه في تقرير آية الوجه في سورة القصص، التي هي في نفس الوقت آية من الآيات التي تتضمن دلالة التوحيد بما أراده هو سبحانه وتعالى أن يثبته لنفسه {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ((1)) ، ومن الواضح استناداً إلى ما تقدم أن آيات وجود الله عز وجل في سورة القصص، قد احتوت على كثير من دلالات التوحيد ذات المضمون العام المباشر الظاهر اللفظ والمعنى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} ((2)) . المطلب الثاني: المرأة في سُوْرَة الْقَصَصِ هنالك في سور القرآن الكريم وآياته مواضع كثيرة ذكرت فيها المرأة، وبينت فيها أحكامها، وخوطبت أكرم خطاب وأعزها أعظم إعزاز ((3)) . وقد كانت المرأة وما زالت مكرمه بإيمانها في النص القرآني، لها ما للرجل، وعليها ماعليه، وحفظ لها القرآن الكريم كرامتها وشخصيتها وبينت ذلك أحاديث رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وأبرزت ذلك كله الشريعه السمحاء. ويذكر ذلك بعض الباحثين فيقول: " إن توجيه الخطاب للمرأة في النصوص القرآنية حظي بأسلوب إلهي خاص جدير بالدراسه إستناداً إلى ظواهر النصوص وبواطنها، ذلك أن آليات المعنى تشير خلافاً إلى ما يزعمه مبغضو الاسلام إلى أن المرأة في الخطاب القرآني الموجه لها حضيت بالإكرام الذي ما بعد إكرام " ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 180. (2) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 19. (3) ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القُرْآن الكَرِيْم. وضعه مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد البَاقِي. مطابع الشعب. ط1. 1378 هـ. مادة (نساء) ، (امرأة) ، (المؤمنات) ، (فتياتكم) . . .. الخ. (4) خطاب المرأة الَقُرْآني. د. سعاد الحكيم. الطبعة الأولى. دار المعرفة. بيروت. 1988 م: ص88 - 89.

وقد حاولنا في هذا البحث أن ندرس ـ ضمن دراستنا المتكاملة إن شاء الله تعالى لسورة القصص ـ طبيعة الوصف القرآني للمرأة فيها، وهو ما أوضحه الدكتور مرشد عبد العزيز، فقال في ذلك: " لقد كانت سورة القصص المكية تجد وصفين لنوعين من أنواع النساء: 1- النساء المؤمنات (امرأة فرعون. أُم موسى) . 2- النساء بصورة عامة (يستحيي نساءهم) . وذلك أوجد نوعاً من ثنائية الوصف الدلالي في إيضاح الصورة القرآنية للمرأة في سورة القصص " ((1)) . ونحن نجد أن هذا التقييم قاصر في حد ذاته، فسورة القصص تحتوي ضمن وصفها الإلهي للمرأة على عدة أنواع من النساء تتعلق بها عدة طبائع ونوازع يمكن تلخيصها في الآتي بيانه إن شاء الله تعالى: 1. النساء الأسيرات (يستحيي نساءهم) : والاستحياء ترك القتل مع الأسر، وقد فعل ذلك فرعون بنساء بني إسرائيل، وهن يظهرن في هذا النص بغير شخصية، فكأنهن ذبن في مجتمع العبيد الفرعوني. 2. الام:

_ (1) خطاب المرأة القرآني: ص 191.

وتتجسد ملامح الأم في عدة مواضع من سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) ، {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، {وَقَالَتْ لأُِخْتِهِ قُصِّيهِ} ((3)) ، {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} ((4)) ، ففي هذه المواضع نجد أم موسى (- عليه السلام -) في أبهى مشاعرها بالامومة من ارضاعة الاول إلى إلقائه في التابوت في البحر، وتوكيل الله تعالى، وعدم الخوف، إلى فراغ فؤادها، وكونها كادت أن تخبر بذلك لولا أن سكَّن الله ذلك عنها، ثم أمرها لأخته بالبحث عنه وإرجاعه إليها بسلام لترضعه من بيت فرعون، فهذه مجموعة مشاعر الأم مجسدة في آيات سورة القصص على حده. 3. الاخت: ونجدها هنا صورة الأخت التي تطيع أمها، وتتمتع بقدرات خارقة للنظر عن بعد كما يوحي بذلك سياق الاية: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ((5)) ، {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ((6)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 12.

فنحن نشاهد في هاتين الآيتين اللطف في خطاب أخت موسى لحاشية فرعون لتعيد أخاها ـ بإذن الله جل جلاله ـ إلى أمها بأمر الله تعالى، والله على كل شيء قدير. 4. الملكة المؤمنة: ويصورها النص القرآني بأنها تتلطف في الخطاب لتحافظ على موسى (- عليه السلام -) من بطش زوجها الكافر. {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ((1)) . 5. المرأة المستضعفة: وهي شخصية تصورها سورة القصص في حكايتها لأخبار ابنتي النبي الكريم شعيب ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ في قوله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ((2)) . 6. المرأة الحيية: وهي سورة بليغة في كل بلاغة النص القرآني، وسورة معجزة في الوصف بما صورها الله تعالى في وصف حياء ابنة شعيب (- عليه السلام -) ، {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ((3)) . وتتجسد في هذه السورة أعلى مراحل كرامة المرأة في النص وأعظم مراتب شخصيتها القرآنية. 7. المرأة المخطوبة: ويستخدم القرآن الكريم في هذا الموضع صيغة خطبة الأب لإبنته لمن رآه مكافئاً لها كما في قوله تعالى فيها: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ((4)) . 8. المرآة المتزوجة:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 23. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.

المطلب الثالث: الزمن في سورة القصص

والنص في سورة القصص يضيف المرآة المتزوجة إلى زوجها اكراماً لها بضمير الغائب، وهذا من بدائع الوصف القرآني للمرآة، كما في قوله تعالى: {فَسَارَ بِأَهْلِهِ} ، {قَالَ لأهْلِهِ} ، والمعنى القرآني الكامن في وصف المرأة المتزوجة، وإضافتها إلى موسى (- عليه السلام -) تقرّ بأن المرأة تبع لزوجها، وهذا من حكمة الله تعالى في خلقه، فإذا أدركنا مما تقدم صورة المرأة، والوصف القرآني في سورة القصص أدركنا إلى أي حد، وإلى أي مقدار كرم القرآن الكريم المرأة، وامتدحها وأثنى عليها ووصف ذكأها، وجعل لها أحكاماً خاصة بها دون مشقة ولا عسر. المطلب الثالث: الزمن في سورة القصص يعد الزمن بعداً دلالياً خاضعاً لتغيرات فلسفية ـ ذات صيغة عامة في كونها تتميز بأبعاد لا يمكن وصفها إلا من خلال تعريف الزمن بأنه: " البعد الدال على تغير الوقت " ((1)) . أو هو " مرور الوقت في المكان الذي هو نقيض حركة الزمن " ((2)) ، ويمكن ربط المفهوم الحديث للزمن بالمفهوم العربي الإسلامي لفكرة الزمن بأنه: " تلك المداولة الإلهية للساعات والثواني والدقائق واللحظات التي تتحكم بحركة الإنسان على الأرض من خلال تقرير إلهي لليل والنهار المرتبطين بالشمس والقمر في دورانهما حيث دارا " ((3)) . ونجد إضافة إلى ذلك كله ومقارنة به كله، أن للزمن بعداً لغوياً ـ بلاغياً يمكن تلمسه في قول بعض الباحثين:

_ (1) موجز تاريخ الزمن. هربرت رج. ترجمة: رضوان علي رضوان. الطبعة الثانية. دار الشؤون الأكاديمية. بيروت، لبنان 1989 م.: ص 47. وينظر الزمن في الفكر الحديث. ديفد رأي. ترجمة: أحمد عَبْد الله. الطبعة الأولى. دار الشؤون الأكاديمية. بيروت، لبنان 1992 م.: ص 115. (2) موجز تاريخ الزمن: ص48. وينظر الزمن في الفكر الحديث: ص 117. (3) الزمن في الفكر الحديث: ص 120.

" لم يختلف اللغويون والنحاة والبلاغيون والكتاب المنشؤون العرب اختلافهم في دلالة لفظة الزمن على معناها فهي في مقابل الوقت تدلّ على المداولة اليومية للساعات. وقد شرح القرآن الكريم شرحاً وافياً فكرة أن الأيام بليلها ونهارها من الله سبحانه وتعالى، وهي الفكرة التي تبناها العلماء العرب في الكلام وفي اللغة على حد سواء، فالزمن عندهم جميعاً آلة حركة الوقت " ((1)) . وقد حاول بعض المستشرقين أن ينفوا من اللغة العربية وجود دلالة زمنية في الأفعال (الماضية والحاضرة والمستقبلية) تدل على معنى زمني ((2)) ، وهذا الزعم باطل من أساسه لأن الدلالة الذاتية للفعل العربي تحمل الدلالة الزمنية في الماضي الذي ذهب، والحاضر الذي يضارع الكلام، والمستقبل المجرد عن سوف والسين، أو التصق بهما لفظاً وتقديراً في كون تلك الأفعال في معناها الفعلي وفي معناها البلاغي تدل على زمن ((3)) . ولا ريب أن هذه الفرية بعض ما تعود المستشرقون على إلصاقه باللغة العربية منذ زمن طويل ((4)) .

_ (1) اللغة العربية وفكرة الزمن. د. علي دك الباب. الطبعة الأولى. الطبعة الأولى. دار الكتاب العربي. بيروت. دمشق. 1994 م.: ص 145. (2) اللغة العربية وفكرة الزمن: ص 217. (3) ينظر اللغة العربية وفكرة الزمن: ص 192. (4) أباطيل وأسحار. محمود مُحَمَّد شاكر. الطبعة الرابعة. مَكْتَبَة الخانجي بالقاهرة. 1988 م: ص 244.

ونحن في هذا المطلب سنحاول ـ إن شاء الله تعالى ـ دراسة البلاغة القرآنية المعجزة إلهياً في استخدام الزمن بصيغه الماضية، والحاضرة، والمستقبلية في سورة القصص تحديداً لما لاحظناه من هذا الإكثار الذي يكاد أن يعم في مدلولات الزمن، وكل ذلك إنما أتى لحكمة إلهية قد تكون غابت يوماً عن عصر المفسرين القدماء والبلاغيين القدماء وفق معارف عصرهم، أما اليوم فمن واجب المفسر المحدث إظهارها. وقد تنبه الرازي لبعض ذلك فقال في تفسير قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} ((1)) ، " (ونريد) للاستقبال، ولكن أريد به حكاية حال ماضية، ويجوز أن يكون حالاً من يستضعف، أي: يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم " ((2)) ، فنحن واجدون في سورة القصص أن قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ((3)) يحمل دلالة زمنية في كون الخطاب الحاضر متعلقاً بحال ماضي يؤول في مجمله إلى المستقبل، وهذا أحد أوجه الإعجاز القرآني في أسلوبه الفخم المتعدد الدلالات والمعاني.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (2) مفاتيح الغيب: 12 / 226. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.

واستخدام صيغ الماضي بكثرة في سورة القصص مثلما ورد في قصة موسى (- عليه السلام -) مثلاً: {علاَ فِي الأَرْضِ} ((1)) ، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((2)) ، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} ((3)) ، {وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} ((4)) {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} ((5)) ، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ((6)) ، {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} ((7)) ، مشعر في حد ذاته بأن الزمن الماضي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالزمن الحاضر لا يكاد ينفصل عنه أبداً، لأن ذلك الاستخدام لا يكاد يفارق ما مضى إلا لدلالة أخرى بقرينة أخرى، فقوله تعالى: {علاَ فِي الأَرْضِ} هو نفسه (يعلو) و (سيعلو) لما ضارع ولما استقبل في دلالته، وكذلك تنبه لهذه الدلالة الماضية الإمام الآلوسي ـ رحمه الله برحمته ـ فقال في تفسير قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} ((8)) ، " (بالأمس) منذ زمان قريب، وهو مجاز شائع، وجوز حمله على الحقيقة، والجار والمجرور متعلق بـ (تمنوا) أو بمكانه، قيل: والعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في (فخسفنا) يدل عليه " ((9)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 12. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82. (9) روح المعاني في تَفْسِير القُرْآن العَظِيْم والسبع المثاني. لأبي الفضل شهاب الدِّيْن السيد محمود الآلوسي البغدادي. ت 1307 هـ. إدارة الطباعة المنيرية بمصر (د. ت) : 20 / 124.

ونحن نوافق الآلوسي في ذلك، فإن دلالة الفعل الماضي الناقص (وأصبح) مقترنة (بالأمس) أصبحت تظهر استمرارية الزمن الماضي ودلالات الماضي في هذه السورة بلاغياً توجب الانبهار لبديع الأسلوب القرآني المعجز فقوله تعالى فيها: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) ، يدلّ على اقتران الفعل الماضي (عما) بالظرف الزماني (يومئذ) يصلح في استخدامه لوصف حال أولئك القوم الذين مضوا، مثلما يصلح في استخدامه لوصف حال كل قوم عميت عليهم الأنباء، فهم لا يتساءلون عن أي شيء لأنهم لا يستفيدون من سؤالهم بعد أن ذهب عنهم الزمن الذي هم فيه. وقد تنبه على ذلك الزمخشري ـ رحمه الله برحمته ـ فقال في قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} : " فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم، {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} لا يسال بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات، لأنهم يتساوون جميعاً في عمى الأنباء عليهم " ((2)) . أما دلالات الفعل المضارع على الحاضر في سورة القصص، فهي ذات صيغة خاصة تجعل قارئ النص القرآني في سورة القصص يشعر بكونه مشاهداً لما يقرأون في خياله الذي يتصور به الأشياء. فقوله تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((3)) يدلّ فيما يدلّ عليه على أن توالي الأفعال المضارعة (يستضعف) ، (يذبح) ، (يستحي) خاص بهذه الصيغة الزمنية التي تجعل النص ليس خاصاً ببني إسرائيل وفرعون فحسب، بل خاصاً بكل من استضعف في الأرض.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 66. (2) الكَشَّاف: 3/188. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

وقوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((1)) ، يدلّ في (تمشي) وهو فعل مضارع تام على أن المشي استمر في النص، وهذه دلالة زمنية بليغة كل البلاغة تشعر بإعجاز النص القرآني. وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِن الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، فقد توالت الأفعال المضارعة توالياً جعلها سنة إلهية خاصة بكل مجموعة من الناس في الماضي، والحاضر، والمستقبل. وهذه الدلالات المضارعة تنبه لها الزمخشري رحمه الله فقال: " وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤول معناه إلى قولك: ولولا قولهم هذا " ((3)) ، فجعل الزمخشري هذه الآية دالة على الزمن بكل دلالاته. فقد قدمنا فيما مضى استعراضاً موجزاً يبرز مكامن دلالات الزمن في سورة القصص، لنبرهن على جمالية (الاستخدام القرآني) ليجعل منه نصاً متحركاً قابلاً للعمل به في كل زمان ومكان.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 47. (3) الكشاف الزمخشري: 3 / 183.

المطلب الرابع: التربية والسلوك في سورة القصص

فالذي دفعني لكتابة هذا المطلب في موضوع الزمن في سورة القصص بصورة خاصة، والذي يعبر عن دلالته في القرآن الكريم بصورة عامة هو ما يتفوه به بعض المتشدقين بالحضارة الغربية، والمنبهرين بترهاتها، مما أدى بهم إلى أن ادعوا ظلماً وبهتاناً أن القرآن لم يعد يصلح لزمن العولمة ولزمن الإنترنت ((1)) ، فنحن نريد أن نثبت ونبرهن من خلال هذا المطلب أن الزمن مستمر في دلالته على الماضي، والحاضر، والمستقبل على ما سنبينه ـ إن شاء الله تعالى ـ في الفصل الثامن، وبهذا بينا وجهاً من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم بقدرته على الأخذ بدقة الحياة وتوجيهها نحو شاطئ الأمان، بعد أن تاه الناس في دوامة الأيديولوجيات الغربية والأفكار المشوهة، فإنها خطوة أولى تتبعها خطوات على طريق تفعيل العمل بالقرآن الكريم. قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ((2)) . المطلب الرابع: التربية والسلوك في سورة القصص لا يمكن إغفال أمر مهم كل الأهمية في استعراضنا التحليلي لسورة القصص، مفاده أن المرامي التربوية والسلوكية فيها تختلف كل الاختلاف عن باقي السور القرآنية التي تحتوي على غايات تربوية وسلوكية وإرشادية في كونها استهدفت أربعة أمور استطعنا أن نستخلصها من تحليلنا العام للسورة: تسلية قلوب المؤمنين إيمانياً. طمأنينة النفوس الإيمانية. توجيه الفهم المعرفي إيمانياً. إبراز المآل والعاقبة في الدنيا والآخرة ((3)) .

_ (1) مفاهيم قرآنية. مُحَمَّد أحمد خلف الله. الطبعة الثانية. الكويت. 1985 م.: (2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 65. (3) ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم. د. عبد الحميد سليمان. الطبعة الأولى. دار الرياض. جدة. 1411 هـ: ص 221 - 222.

ولا ريب في أن هذه الأمور تستلزم أن نفهم مسارد مجيء الآيات القرآنية في سورة القصص من تلك التي تحتوي فيما تحتويه على مكامن تربوية وسلوكية وتحليلها، وفق نظرة عصرية حديثة جديدة، لأجل فهم أدق وأشمل لتلك الجوانب التربوية والسلوكية، تعد سورة القصص ـ وهي مكية كما قدمنا ـ من أوائل السور التي احتوت على كافة مبادئ الإرشاد التربوي الخمسة: القراءة: {نَتْلُو عَلَيْكَ} ((1)) . البيئة: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} ((2)) . الاطمئنان: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} ((3)) . الوصول: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ} ((4)) التذكير {وَمَا كُنتَ} ((5)) . وهذه المبادئ الإرشادية التربوية الخمسة احتوت فيما احتوته على جوانب هي في حد ذاتها جوانب التربية والسلوك القرآني الإيماني، فنحن نجد مثلاً أن دلالة قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((6)) ، تدل فيما تدل عليه على أن الإنسان في بلوغه أشد عمره واستواء فهمه يؤتى إذا ما اخلص نيته لله سبحانه وتعالى الحكم والعلم، وبخاصة إذا ما ترقى في مرتبة الإحسان التي هي ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) ((7)) ، وبهذا تستقيم التربية التي حض عليها الله سبحانه وتعالى.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44، 45، 46، 86. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14. (7) صحيح البخاري وهو جزء من حديث طويل عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه: كتاب الإيمان. باب سؤال جبريل ـ عَلَيْه السَّلام ـ عن الإيمان والإسلام والإحسان 4 / 1793. رقم (50) .

ونجد كذلك أن دلالة قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((1)) ، تدل فيما تدل عليه على أن الخروج لطلب العلم والمعرفة والفهم تكمن في النفسية التي تستطيع بشخصيتها أن تستهدي بالله سبحانه وتعالى، لأن الهداية الإلهية أساس طلب العلم، وهذا من أهم مبادئ السلوك التربوي الحديث التي سبقت آيات سورة القصص نظريات التربية الحديثة إلى أبرزها، ونجد أن قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} ((2)) ، يدل فيما يدل عليه على أن المراد بالحياء التربوي أساس من أساسيات السلوك العام والخاص الذي يتوجه، كما قال علماء النفس والسلوك: في أن الحياء خصلة من خصال التربية التي لا يمكن إقامة نظام تربوي متكامل إلا بها، لأن الحياء في أساسه أساس فعل كل شيء، أو الامتناع عن فعل كل شيء ((3)) . ونجد في قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} ((4)) أنه يدل على جواز طلب الاستعانة في العلم بمن هو ناطق اللسان، وهذا من مبادئ علم السلوك التربوي الحديثة التي تنص على أن من حق الطالب أن يستعين في عرض آرائه بمن هو أقدر منه على عرض المادة.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (3) ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم: ص 232 – 235. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.

ونجد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، أنه يدل في مجمل دلالاته الكلية والجزئية على أن إتيان الكتاب يكون من بعد إهلاك من لا يستحق إتيان الكتاب، وأن في العلم البصيرة والبصر، والهداية والهدى، والرحمة، وأن الغاية التربوية من ذلك كله التذكر العلمي الذي تكون نتيجة تحصيل كمال المعرفة، وقد نص علماء السلوك على أن أخذ العلم بعد ذهاب من لا يستحقونه ينتج عنه كمال العلم نفسه، وبهذا كذلك نجد السبق التربوي السلوكي للقرآن الكريم من قبل أصحاب هذه النظريات الحديثة. ونجد أن قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} ((2)) ، يدل في اقتضاءات سياقاته التربوية على أن نقصان الهداية وإتباع الهوى يؤدي إلى الضلال، وهذا ما قرره علماء التربية الحديثة، إذ جعلوا الهوى أحد مهلكات تحصيل العلم، وقرنوا بين الهوى النفسي (الرغبات الشخصية الذاتية) وبين الجهل المطبق، فجاء القرآن الكريم وأثبت هذه الحقيقة مما يدل على مصدره الإلهي.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 51.

ونجد أن قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} ((1)) ، يدل في الذي يدل عليه على الأمر بترك سماع ما لا ينفع، لأنه يأخذ مساحة من العقل، جديرة بأن يخزن فيها أمر نافع، ولعل ذلك بعض العلة في تعوذ رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من العلم الذي لا ينفع ((2)) . وهو عين ما قرره علماء الإرشاد التربوي اليوم. ونجد أن قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} ((3)) ، ثم نهاية قارون التي خسف فيه من خلالها، يدل على عدم جواز الاغترار بالعلم وحده، بل لا بد من تطبيق العلم والعمل، أو العمل والعلم. ورحم الله الإمام السنوسي صاحب الجوهرة إذ قال: وعالم بعلمه لم يعلمن ... ... معذب من قبل عباد الوثن وكل من بغير علم يعمل ... ... أعماله مردودة لا تقبل ((4))

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55. (2) إشارة إلى حديث رواه مسلم عن زيد بن أرقم قال: ((لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يقول، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) . صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، 4/ 2088 رقم (2722) . (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (4) بوارق الحقائق. مُحَمَّد مهدي بهاء الدين الرواس. تحقيق: عبد الحكيم القباني. الطبعة الرابعة. (د. ن.) . دمشق. 1994 م: ص 218.

وهذا هو عين ما قرره علماء السلوك التربوي إذ قالوا: إن من اغتر بعلمه جهل نفسه وعلمه، وكان القرآن الكريم قد سبقهم إلى ذلك في هذه الحقيقة التي لا زالت عندهم هنالك في الغرب نظرية لم تحقق، وهذا بعض أوجه الإعجاز التربوي القرآني. ونجد أن قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ((1)) ، يدل في مفهومه العام على أن الإنسان مهما كان في ماضيه، وحاضره، ومستقبله لا يمكن له أن يتنبأ بما يؤول إليه أمره في العلم والمعرفة، لأن ذلك من الأمور المقدرة المسلمة بيد الله سبحانه وتعالى، وهذه الحقيقة كررها في العصر الحديث علماء التربية إذ ذهبوا إلى أن الإنسان مهما بلغ ذكاؤه لا يمكنه أن يعلم ما سيكون عليه مستواه العلمي والتعليمي، ولكنهم لكفرهم لم ينسبوا ذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى، أما القرآن الكريم كلام الله جلَّ جلاله، فقد أسند هذه الحقيقة لله سبحانه وتعالى ليسبق هؤلاء العلماء في هذه الحقيقة التربوية. وبذلك يمكن لنا أن نقول: إن سورة القصص الكريمة قد احتوت فيما احتوته على كافة المبادئ التربوية والإرشادية والسلوكية التي لم يتوصل إليها علماء النفس من التربويين إلا في أخريات العصر الحديث، وهذا مما توصلت إليه بحمد الله وشكره.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.

فسورة القصص الكريمة في جوانبها التربوية، وفي مضامينها للسلوك التربوي لا تغفل أمراً، هو جد مهم في الحياة الإرشادية التعليمية والتفهيمية للإنسان ألا وهي الحرص على الجمع بين الدنيا والآخرة، وبين العمل للآخرة ـ وهو العمل الأهم ـ وبين عموم نسيان نصيب الإنسان من الحياة الدنيا ـ وهو العمل المهم ـ وهكذا فإن من قيم سُوْرَة الْقَصَصِ الإرشادية في ذلك قوله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((1)) ، فالإمامة للدنيا في بعض معانيها، والوراثة للآخرة، كما ذهب إلى ذلك من ذهب ((2)) . ونجد أن الإرشاد في ذلك يتمثل في قوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} (3) ، فالتمكين في الأرض يكون بنصيب من الحياة الدنيا مقابل (الجنة) التي هي نصيب الآخرة. ونجد أن موسى (- عليه السلام -) أجر نفسه ثمان حجج أو عشراَ، وهذا أمر دنيوي أريدت به مجموعة الأمور الأخروية، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (2) ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم: ص 187. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.

المطلب الخامس: النظرة القرآنية لليهود في سورة القصص

وهكذا تتضح قيمة التربية الإلهية، والإرشاد السلوكي في الجمع الذي تقدم ذكره قي قوله تعالى حاكياً عن بعض قوم موسى في مخاطبتهم لقرون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((1)) ، فهذه الآية تدلّ في قيمتها التربوية التي تحملها على أن هناك عدة أمور يجب التنبه لها في التربية الإيمانية: ابتغاء وجه الله عَزَّ وجَلَّ. تذكر الدار الآخرة. عدم نسيان نصيب الحياة الدنيا. الإحسان، وهو أحد أعظم المراتب المعرفية التربوية السلوكية. الابتعاد عن الفساد، لأنه خلاف أوامر الله عَزَّ وجَلَّ. وفي ذلك يقول الله عَزَّ وجَلَّ في سُوْرَة الْقَصَصِ واصفاً الدار الآخرة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} ((2)) ، ثُمَّ أعقبها بقوله: {وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . بمعنى تربوي أن الذين يأخذون العلو في الأرض بعيداً عن الفساد يأخذون بفضل الله عَزَّ وجَلَّ ورحمته الدار الآخرة. وبذلك تستقيم الحياة الدنيا بالآخرة في القيم التربوية، وفي الإرشاد التربوي السلوكي في سُوْرَة الْقَصَصِ. المطلب الخامس: النظرة القرآنية لليهود في سورة القصص تعد الشخصية اليهودية الإسرائيلية نسباً، من الشخصيات المحورية المعقدة كل التعقيد في القرآن الكريم، ذلك أن السمات العامة لهذه الشخصية في مجمل آيات القرآن الكريم على ما لاحظناه تتجسد في انهماكها في: الكفر والشرك والإلحاد والاستهزاء الديني. المال والبيع والشراء والاقتصاد والتجارة. الانغماس في اللذات والأخذ بالدنيا.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.

الغرور بالنسب والدين والقوية والجنس وما في الوعود السابقة. الجرأة على انتهاك حدود الله عَزَّ وجَلَّ. والإجرام هو محور هذه الشخصية، والصفة التي اتصفت بها طوال عصورها، ومع هذا الإجرام هناك لعنة الجبن المحيطة بهذه الشخصية في كل أطوارها، وفي كل نزالاتها الداخلية والخارجية ((1)) . ومن الملاحظ أن سورة القصص قد حفلت بجانب كبير، ضمنياً، أو مضمونياً، أو تصريحاً، أو تلميحاً من هذه الجوانب في إطارها الذي حللناه ودرسناه في كافة فصول هذه الرسالة. فموسى (- عليه السلام -) وهو الشخصية المحورية في سورة القصص، وقصته هي الأساس الذي بينت عليه السورة كما يتضح من استقرائنا لها بصورة عمومية يتمحور من حوله اليهود وبنو إسرائيل، بمؤمنيهم وكافريهم، وطغاتهم وطواغيتهم. ونحن نحسب أن من المفيد جداً أن نفهم من خلال كل سورة على حدة كيفية تطور الشخصية اليهودية دينياً، ووظيفة بعض آيات القرآن الكريم في التحذير منهم، وفي التنبيه إلى الحكمة الإلهية التي أوجبت أن يتحولوا إلى قردة وخنازير، على ما ورد في النص القرآني على الحقيقة لا على المجاز على ما أخبر الله سبحانه وتعالى ((2)) . لذلك يمكن أن نجد في هذا المطلب السمات الشخصية العامة للشخصية اليهودية في سورة القصص باستقراء كلي شمولي للآيات القرآنية الخاصة بهذا الموضوع. وفائدة هذا الموضوع تتجلى في كونه معيناً على التصور العام لكل يهودي من بني إسرائيل في مضمون النص المحلل، وفق آليات الفهم الداخلي والخارجي للمعنى، ومعنى المعنى في آيات سورة القصص. إن سورة القصص تجعل الشخصية اليهودية لبني إسرائيل متجسدة كل التجسد في:

_ (1) ينظر بنو إسرائيل في الكتاب والسنة. مُحَمَّد السيد طنطاوي. الطبعة الرابعة. القاهرة. 1988 م: 1 /197 –198. (2) ينظر بنو إسرائيل في الكتاب والسنة: 2/ 284 –287.

الاستضعاف وموافقة الظالم في طغيانه. {إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((1)) . الجبن والعام والسقوط تحت سيف القتل. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} ((2)) . الاستهانة بالعرض وعدم الالتفات لما يقع عليه. {وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((3)) . نبذ الإمامة والوراثة من قبل موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بدليل الوعود الإلهية في قوله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((4)) . حاجتهم إلى قوة إلهية للنصر على أعدائهم. {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((5)) . الإيغال في الشر والقتال بسب أو بدون سبب. {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ((6)) . العودة لصنع الفتن والمشاكل وافتعال الشر والتكرار البالغ فيه. ... {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ((7)) . الغدر ونكران المعروف. {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} ((8)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5- 6. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 19.

الكذب على الإنسان في وجهه وصنع البهتان. {إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ} ((1)) وهذا باب من أبواب نكر الجميل، فالشخصية هاهنا كما صورت في سورة القصص لا ينفع معها معروف أبداً. طول العمر قد ينسيهم ذكر الله عزَّ وجلَّ. {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((2)) . البغي. {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((3)) . الفرح بالنعمة الدنيوية. {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((4)) . نسيان الآخرة. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} ((5)) . عدم الموازنة بين الدنيا والآخرة. {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} ((6)) ، فإن الشخصية اليهودية تميل إلى عدم التوازن بين الدنيا والآخرة، وجعل جل الاهتمام بالدنيا وعبادتهم للمال والمظاهر الدنيوية. عدم الإحسان. {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((7)) . الإفساد. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((8)) . الظن الكاذب بأن المال يؤتى عن طريق العلم الشخصي. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((9)) . محبة الزينة. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ((10)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 19. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.

المطلب السادس: المال مفهومه وغاياته في سورة القصص

محبة الحياة الدنيا. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا} ((1)) . الطع والشراهة وحسد الآخرين. {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} ((2)) . الجهل العميق. {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ((3)) . عدم نصرة بعضهم لبعض إذا وقع في أمر معضل. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ((4)) . حلول اللعنة الأبدية عليهم. {وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ} ((5)) . الانهزامية وعدم الثبات على رأي. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ((6)) . تقريرهم للحقائق بعد وقوعها رغم علمهم السابق بها. {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ((7)) . ونحن إذا حللنا ما تقدم من مقومات الشخصية اليهودية في سورة القصص والتي وضعنا لكل منها دليلاً في آيات السورة، نجد مثلاً أن صفة الاستضعاف وما تلاها من صفات هي صفات دائمة مما يوصلنا إلى نتيجة مهمة وهي: إن الشخصية اليهودية في سورة القصص، مصورة في أحوال وأشكال تجمع كل ما وصفهم به القرآن الكريم في كل آياته وسوره ((8)) ، وهو وجه آخر من وجوه الإعجاز القرآني في سورة القصص. المطلب السادس: المال مفهومه وغاياته في سورة القصص

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82. (8) ينظر بنو إسرائيل في الكتاب والسنة: 1 / 98.

تعد النظرة القرآنية في الحدود الإلهية للمال ومقوماته، وسبل جمعه وخصائصه، ومقومات وجوده، والهدف منه، نظرة تجعله سبيلاً لا غاية ولا هدفاً، بل إن كثيراً من آيات القرآن الكريم تحضّ على عدم الالتهاء والانغرار بالمال، وتجعل المال في الوقت نفسه مما يلهي، ومما ينسب للذين نسوا الله عزَّ وجلَّ. ولا ريب في أن للمال في القرآن الكريم مفهوماً مادياً يجعله مما يلهي ويعجب أو يبعث على الحسد، وأحياناً يزيد من طغيان الطاغية، وتجبر المتجبر ((1)) . ونلاحظ في سورة القصص التي حللنا كافة مضامينها في هذه الرسالة أنها أشارت إشارات متعددة للمال تصريحاً، أو مجازاً، أو ضمن مفهوم سياق النص على أنه من الأشياء المذمومة التي تبعث على الابتعاد عن الله عزَّ وجلَّ، ولكن آيات سورة القصص في الوقت نفسه حضت على عدم نسيان نصيب الإنسان من الدنيا: (وهو ما يشمل المال بأنواعه المتنوعة) ((2)) ، لذلك كانت لسورة القصص مجموعة من المفاهيم (عن المال) ، ودعوه لمجموعة من الغايات (للمال نفسه) يمكن إيجازها في النقاط الآتية استناداً إلى تحليلنا وتفسيرنا للآيات: الوراثة الإلهية للمستضعفين مالياً ضمن كل أنواع الإرث من خلال وعد الله عزَّ وجلَّ: {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((3)) ، فهاهنا موقف وسط غير رافض للمال في حد ذاته كونه مالاً، وإلا لم يوعد به كلّ هؤلاء المستضعفين من الله جلَّ جلاله مع التمكين في الأرض وإنما المرفوض ما كان من تصرف فرعون بماله حتَّى: {علاَ فِي الأَرْضِ} ((4)) كما قررت سورة القصص.

_ (1) ينظر في الاقتصاد الإسلامي. د. عمر شقرا. الطبعة الثالثة. دار الحكمة. لندن. 1994 م: ص 277 – 278. (2) ينظر المصدر نفسه: ص 310. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5 – 6. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

الإجارة المالية وإعطاءها حقها الوافي التام، وما يترتب عليها من أجور مالية أو غير مالية، وهو الوقت الذي قرره الله عزَّ وجلَّ في طلب شعيب ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ من موسى أن يؤجر نفسه له إذ قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ} ((1)) ، فلم يكن للمال وجود في هذه الإجارة، ورغم ذلك قبل موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك، وزاد عليه في قبوله عندما قال لشعيب (- عليه السلام -) : {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((2)) ، فإن موسى (- عليه السلام -) لم يجعل المال (وهو أحد شروط الإجارة عرفاً وعقلاً وشرعاً وفقهاً في القديم والحديث) غاية، بل قبل بهذه الإجارة الطويلة الأمد، مما يدل على أن المال هاهنا مفهوم مجازي بعيد كل البعد عن عقله (- عليه السلام -) (وذلك كذلك قبل بنفسه ـ عليه الصلاة والسلام ـ) . الإنفاق المالي من رزق الله جلَّ جلاله من صفات المؤمنين، وذلك بدليل قوله عزَّ وجلَّ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ((3)) ، فإن هذا المدح بصفة هؤلاء المؤمنين هنا إنما كان لأنهم جعلوا المال وسيلة لا هدف، وإنما كانوا ينفقون بقدر الرزق بإنصاف دون إسراف، فكان ذلك من صفات إيمانهم والذكر المجازي للمال دون التصريح به في سياق هذه الآية يجعله بعيداً كل البعد عن الذم، بل ربما كان هنا مما يؤجر عليه.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.

المال قد يكون سبباً في البطر والكفر على رغم أنه نعمة من نعم الله عزَّ وجلَّ، وذلك فيما أمتنه الله عزَّ وجلَّ على قوم الرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إذ قال جلَّ جلاله بعد أن قالوا: {إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ((1)) ، فبين الله عزَّ وجلَّ منته (مالياً) عليهم بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((2)) ، فالمال في مفهومه المجازي هاهنا مع الثمرات والرزق لم يكن سبباً لإيمان هؤلاء القوم، بل خافوا على أموالهم، فبين الله عزَّ وجلَّ لهم سوء رأيهم (المالي) في ذلك بأسلوب إعجازي مبين. إن الهلاك قد يكون بسبب طغيان المال وبطر المعيشة، وذلك أن بطر المعيشة بمعنى التمادي في الإسراف ونسيان الآخرة بالدنيا سبب وفرة المال مفهوم كفري بينه الله عزَّ وجلَّ في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((3)) ، وما ذكره الله عزَّ وجلَّ من نسبة الوراثة هذه له تعالى يعزز ما ذهبنا إليه آنفاً.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.

إن المال في حد ذاته أمر دنيوي، وذلك واضح في جعل الله عزَّ وجلَّ للمال في سورة القصص شيئاً دنيوياً لا يؤبه له في قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ((1)) ، بمعنى آخر أن كل مال هو متاع دنيوي معرض إلى زوال، أي: انه غير باق، وهذا من دلالات السياق القرآني. إن المال متاع دنيوي لا أخروية له إلا بمقدار ما يوصل المرء إلى إقامة الدين، وذلك واضح في قوله عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} ((2)) ، فمن كانت هذه صفته في استمتاعه المالي كان محضراً للحساب يوم القيامة، كما تقرر هذه الآية الشريفة. المال فضل من الافضال. وذلك في سياق من الله عزَّ وجلَّ للناس أن جعل لهم أوقات اليوم في قوله عزَّ وجلَّ: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ((3)) ، ثم بين الله عزَّ وجلَّ كون ذلك الفضل محتاجاً للشكر (اليوم) في قوله عزَّ وجلَّ بعد ذلك (لعلكم تشكرون) ، لان الشكر دال على الفضل في ابتغاء هذا الرزق، وهذا من معاني القرآن الكريم التي تجيء بلفظ مختصر يغني عن المقولات.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 60. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 73.

المال الذي يكون هدفاً في حد ذاته موجب للعذاب، وذلك في قصة قارون إذ أن كنوزه المالية على كثرتها جعلته يفرح بما ليس له قط ونسي نصيبه من الآخرة، إذ جعل كل نصيبه من الدنيا وابتعد عن الإحسان (وإعطاء المال بعض صور الإحسان) وابتغى الفساد بماله ثم زاد على ذلك بأن قال ((1)) {: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((2)) ثم كان المال عنده وسيلة للظهور بزينته المادية والمعنوية وفتنته لبعض ضعاف الإيمان ممن زعموا أن له حظاُ عظيماً، ثم كان عاقبته أنه كما قال عزَّ وجلَّ فيه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ} ((3)) وهذا أمر يشمل ما مضى ومن سيأتي! .

_ (1) في عصرنا هذا كان من مبادئ العولمة أن المال إنما يأتي من العلم الموجود عند دعاة العولمة من خلال ثورة المعلومات وأجهزة الاتصالات لنقل المعلومات، فجمعوا مثل قارون بين ما عندهم وبين العلم الموجود عندهم، ولا ريب أن الاستقراء المستقبلي لمستقبل العولمة يرينا أنها ستكون في تفككها مثل تخسف قارون بماله في الأرض، وتلك سنة الله جلَّ جلاله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ونحن نجد أن كل من يقول لدعاة العولمة (اتقوا الله ولا تكفروا) يستهزئون به كما فعل قارون وحاشيته بمن وعظوهم، وهذا من عجائب تكرر التاريخ بنفسه؟ ! ، لان استمرارية (كان) في الماضي، والحاضر، والمستقبل في قوله تعالى: {وما كان من المنتصرين} تدلّ على تلك النهاية التي نراها للعولمة إن شاء الله العلي العظيم. وينظر نذر العولمة. عبد الحي زلوم. الطبعة الثانية. بيروت، لبنان. 1998 م.: ص 188 – 189. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.

المطلب السابع: أسلوب الدعوة في سورة القصص

إن المال في بسط الرزق منسوب لله عزَّ وجلَّ وكذلك التقتير، وهذه من حقائق الفوائد القرآنية التي تكرر ذكرها فيه بدليل قوله تعالى في سورة القصص: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ((1)) ، وهذه النسبة للرزق المالي لله عزَّ وجلَّ تجعل المؤمن مطمئناً عند تحققه الإيماني بأن المال مفهوم مساعد وليس هدفاً مطلوباً في حد ذاته. ونصل من ذلك إلى أن المال في سورة القصص في الوقت الذي قد يوصل بعض الأشخاص للعذاب بعد الطغيان، يمكن أن يوصل المؤمنين للرحمة بعد المحن والصبر عليها، وهم أولئك الذين استحقوا وراثة الدنيا والآخرة. المطلب السابع: أسلوب الدعوة في سورة القصص إن أسلوب الدعوة في سورة القصص يكمن في توجيه النظر الإنساني في نحو معرفة الله عزَّ وجلَّ، ونحو الوصول إلى الله عن طريق الأداء المعرفي، لذلك كانت غايات الدعوة وأهدافها في سورة القصص عبارة عن غايات عالمية وأهداف إنسانية ((2)) . فالدعوة القرآنية عموماً لله عزَّ وجلَّ في كل سور وآيات القرآن الكريم ذات خصوصية مميزة هي (الحكمة والموعظة الحسنة) ((3)) ، أما سورة القصص فقد جمعت في مجموع آياتها ما يتعلق بركني الدعوة الإسلامية: جمعت الحكمة في أخبار الماضين. جمعت الموعظة الحسنة في المعاصرة في الخطاب.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82. (2) ينظر الدعوة إلى الإسلام. د. حسن عَبْد الله. الطبعة الثانية. دار العلم للملايين. 1986 م: ص 121 - 122. (3) ينظر المصدر نفسه: ص 88 -89. 147 - 150.

وقد لاحظت في تحليلي لسورة القصص والاتجاه الدعوي فيها أن أسلوب الدعوة لله عزَّ وجلَّ يتميز بالتوحيد في الخطاب (بمعنى توجيه الخطاب نحو مخاطب واحد) ، ويتميز بالتذكير في الوحي (بمعنى تعداد نِعَمِ الله عزَّ وجلَّ) ، ويتميز بالأسلوب المفتوح في عرض الدعوة وإبراز ما أصاب من رفضوا الدعوة من الأمم الماضية. وقد لاحظت أن أسلوب الدعوة في سورة القصص جاء بعدة أساليب: أسلوب التاريخ الماضي. أسلوب الحاضر الموجود. أسلوب المستقبل القادم. أسلوب ما فوق الزمان والمكان من قوى إلهية أصابت الأمم. أسلوب تمثيل الطغاة. أسلوب تمثيل الدعاة. أسلوب الرجع والمال. أسلوب الجمع بين الدنيا بنصيبها والآخرة بكليتها الجمعية. وهذه الأساليب الدعوية حفلت بمواطن تبعث على الرجوع إلى الله جلَّ جلاله. إن أسلوب الدعوة في سورة القصص في مبناها ومعناها يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط أساسية: الإيمان بالله سبحانه وتعالى. ترك الظلم والطغيان. معرفة نصيب الدنيا ونصيب الآخرة من الإنسان. وإذا كان علماء الاجتماع المحدثون قد بينوا أن الدعوة لعقيدة ما أنما تكون بالتيسير لا بالتعسير ((1)) ، فإن الأسلوب القرآني في سورة القصص جمع تلك النظرية وعرضها بالخطاب الإلهي في دلالة قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((2)) فإن دلالة التلاوة هاهنا مع ذكر وتقديم موسى أولاً، وتأخير فرعون ثانياً ثم ذكر المصدر مقرون بحرف الجر (بالحق) وذكر أن ذلك إنما هو لقوم يؤمنون، كل ذلك يبين أن أسلوب الدعوة في سورة القصص هي بالتيسير في الدعوة نحو العقيدة الحقيقية ((3)) .

_ (1) في علم الاجتماع الإسلامي. أحمد العلمي. الطبعة الأولى. دمشق. الدار الإسلامية. 1986 م: ص 22 –23. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (3) ينظر في علم الاجتماع الإسلامي: ص 171 – 172. 184 –187.

ويمكن ان نلتمس في سورة القصص أسلوب الدعوة في النقاط الآتية، من خلال ذكر القاعدة الدعوية والآية القرآنية من سورة القصص: إبراز أن الله عزَّ وجلَّ وعد المؤمنين بالاستخلاف والنصر. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((1)) فهذا الخطاب الوعدي جعل للدعاة لله عزَّ وجلَّ: الإمامة. الوراثة. التمكين في الأرض. إن اللين في الدعوة مطلوب حتَّى مع الكفر، بدليل خطاب امرأة فرعون لفرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} ((2)) ، ثم قالت: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ((3)) ، مع أنها بإيمانها كانت تعلم أن فرعون حريص على قتل موسى (- عليه السلام -) . إن التوفيق الإلهي بالنصر الرباني يعزز الدعاة في ضيقهم بالاطمئنان بدليل قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ((4)) . إن من صفات الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ الشدة والاستواء في الكمال بدليل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (5) ، فهذه الصفات تؤول إلى الحكم والعلم، وجزاء ذلك (الإحسان) ، وأن يكون الداعية من (المحسنين) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5 – 6. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.

إن النصح حتَّى في أوقات المخاطر من صفات الدعاة بدليل قوله عزَّ وجلَّ في حكاية مؤمن آل فرعون ودعوته لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} ((1)) ، فهذا الخطاب الدعوي تميز بأنه خطاب ناصح مشفق شفيق. إن من واجب الدعاة طلب الهداية الإلهية في دعوتهم ومنهاجهم: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((2)) ، فهذه الآية في إبرازها لقصة موسى (- عليه السلام -) وخروجه نحو مدين، بينت انه (- عليه السلام -) استهدى الله عزَّ وجلَّ، وذلك غاية الغايات لكل الدعاة. إن من واجب الداعية أن يكون فصيح اللسان ليكون مستطيعاً في دعوته لله عزَّ وجلَّ ليبرز ما أنزله الله عزَّ وجلَّ للناس، وذلك ماثل في قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} ((3)) . إن الداعية يجب ان يلين في الخطاب {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((4)) ، فخطاب موسى (- عليه السلام -) احتوى على: نسبة العلم لله تعالى. نسبة الهداية لله تعالى. نسبة عاقبة الدار لله عزَّ وجلَّ. إبراز عدم فلاح الظالمين.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.

إن الكتاب الإلهي هو أساس كل دعوة بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، فهذه الآية احتوت على صفات الكتاب الدعوي: إنه بصيرة لكل الناس. إنه هداية ربانية. إنه رحمة إلهية. إنه أساس التذكر. ومعلوم عند علماء الدعوة أن هذه الصفات هي مميزات كل كتاب دعوة، وهي في الإسلام خاصة بالقرآن الكريم، فجاءت سورة القصص وأبرزت ذلك في خطاب متناسق. إن من إحدى أساليب خطاب الداعية هو الخطاب الإنذاري بدليل قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((2)) ، إن الغرض من الإنذار لأجل التذكر على ما نصت عليه الآية، وقد جعل علماء الدعوة الذكرى والتذكر من أهم صفات من توجه لهم الدعوة. إن الإبلاغ هو أساس الدعوة بدليل قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} ((3)) ، بدليل أن صبغة الأمر المجرد (قل) تعني الإبلاغ، وفي هذه الآيات دلالة دعوية مهمة تتمثل في كون المجتمع الذي يتبع هواه بغير علم بعيداً عن السبيل الإلهي والطريق النبوي، فلا يستجيب للداعين مهما بلغت بلاغة الدعوة.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 49 –50.

إن معرفة حقائق القرآن إنما تكون للعلماء الربانيين الداعين إلى الله عزَّ وجلَّ بإذنه بدليل قوله جلَّ جلاله في هذه السورة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} ((1)) . إن الصبر من صفات الدعاة بدليل سياق الآية المتممة لما سبق {بِمَا صَبَرُوا} ((2)) . إن من صفات الدعاة اللين في الدعوة بدليل قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ((3)) . إن الخلق الكريم من صفات الدعاة بدليل قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (4) . إن الهداية في الدعوة من الله جلَّ جلاله، حتَّى وإن رغب الدعاة بمزيد هداية لمن أحبوا بدليل قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ((5)) ، وهذا الخطاب وإن رجع إلى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، إلا انه في محتواه خطاب عام يصلح في دلالته الحالية أن يكون على ما قدمناه صفة من صفات الدعاة الربانيين، لأن الهداية في آية سورة القصص نسبت حصراً لله عزَّ وجلَّ.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 52 –54. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

إن الله عزَّ وجلَّ لا يخلي أرضاً من رسول، أو نبي، أو داعية بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ((1)) . إن وعظ الدعاة يكون في كل حال، وخاصة عند ظهور الفساد بدليل خطاب بعض قوم قارون لقارون بعد أن طغى وتكبر وتجبر: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} ((2)) ، فقد تضمنت هذه الآيات جملة من صفات (المَدْعُوِّ) وهي: النهي عن الفرح. الأمر بابتغاء الآخرة. عدم نسيان نصيب الدعوة من الدنيا. لزوم الإحسان في المعاملة مع الله عزَّ وجلَّ ومع الناس جميعاً. نبذ الفساد. فهذه الصفات تلزم (المدعو) بعد أن يتحقق بها معه الداعي في دعوته. إن من واجب الدعاة التحذير والإنذار بدليل خطاب بعض قوم قارون لمن تمنوا مكانه، وهم ممن وصفوا في الآية بأنهم (أوتوا العلم) إذ قالوا: لهؤلاء الجهلة من بني إسرائيل: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَ الصَّابِرُونَ} ((3)) . تحقق الوعد الإلهي بالنصر بدليل عموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 76 –77. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 80. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

المطلب الثامن: النظرة القرآنية للإنسان في سورة القصص

إن الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ أمر إلهي خوطب به رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وما كان خطاباً عاماً لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، فهو خطاب خاص لأمته على ما قرره علماء الأصول وما كان خطاباً عاماً للنبي، فهو خطاب خاص لأمته، ولذلك كان قوله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} ((1)) ، يشمل عموم الدعاة من أمة المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) ، إذ أن هذا الأمر مشترك في الدعوة بين دعوة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، ودعوة الدعاة العلماء من أمته ـ عليه الصلاة والسلام ـ ((2)) . وبعد ذلك يمكن أن نقرر استناداً إلى ما تقدم إن سورة القصص سورة دعوية (خاصة وأنها مما نزل بمكة المكرمة) ، وأنها سورة احتوت أوصاف الدعاة، ومن تمت دعوتهم، ووعد الله عزَّ وجلَّ لهم بالنصر، والتمكين، والإمامة، والوراثة. المطلب الثامن: النظرة القرآنية للإنسان في سورة القصص إن النظرة القرآنية للإنسان في كل أطواره وأحواله هي نظرة جامعة لكل خير ومانعة لكل شر، ذلك أن الإنسان في القرآن الكريم هو الشخصية المحورية المخلوقة للعبادة والاستخلاف في الأرض، وإصلاح ما فيها من فساد، واستعمارها بالوعد الإلهي، فإذا ما زاغ عن الحق، أو عن طريق الحق، أمكن بواسطة السنن الإلهية إرجاعه، وذلك لأن الإنسان في القرآن الكريم له مقومات شخصية ((3)) . يمكن أن نجعل منها أمرين على أنها أهم المهم: الاستخلاف الإلهي. العبادة الإيمانية.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (2) ينظر الدعوة إلى الإسلام: ص 139. (3) ينظر الإنسان الحضاري في الَقُرْآن الكَرِيم: د. سليمة أحمد حسن. الطبعة الثانية. دار الهدى. تونس. 1991 م: ص 141.

وهكذا فإن سورة القصص تجسد النظرة القرآنية للإنسان في إيجاز يجمع ما تفرق في كثير من سوره وآياته الشريفة، ذلك أن سورة القصص تحمل في مضمونها العام النزوع الإنساني نحو الإيمان بالله جلَّ جلاله، والثقة بنصره، والتحذير من نسيان اليوم الآخر ((1)) . وسورة القصص في مضامينها الإنسانية تحمل الدواعي الذاتية للتوجه نحو الله عزَّ وجلَّ من خلال استلهام الإنسان لمعنى إنسانيته التي سبقت علم النفس اليوم، ومعنى وجوده، ومعنى تكوينه على الأرض منذ آدم (- عليه السلام -) إلى يوم القيامة، وهو الأمر الذي تكفلت سورة القصص بإبرازه. إن سورة القصص تبدأ بالإنسان وتنتهي بالإنسان، وما بين ذلك علاقة الإنسان بالله عزَّ وجلَّ وبالرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وبالمجتمع الإنساني المحيط به، فسورة القصص تذكر ضمن الإطار الإنساني في نظرتها الإلهية: التلاوة للمؤمنين بما يراعي الضعف وفق أساس فكري. {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((2)) . الضعف الإنساني. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} ((3)) . المن الإلهي على الإنسان. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} ((4)) . تحذير الإنسان من تجاوزه في الظلم. {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((5)) .

_ (1) ينظر الصورة الَقُرْآنيّة للإنسان. عَبْد الله مُحَمَّد. الطبعة الأولى. دار الهدى الإسلامي. بيروت، لبنان. 1992 م: ص 230 – 231. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

الأمومة الإنسانية ومشاعرها المتحيرة في نمطها. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} ((1)) . الأخوة الإنسانية ومشاعرها. {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ((2)) . كمال الإنسانية بالحكم (الحكمة) والعلم. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((3)) . الاقتتال قد يكون في نوازع الشر الإنسانية. {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} ((4)) . الإنابة الإنسانية. {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ((5)) . الخوف سمة إنسانية. {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((6)) . إن الإنسان محتاج في استهدائه لله عزَّ وجلَّ. {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((7)) . الرحمة صفة من صفات الطبع الإنساني. {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ((8)) . الحياء سمة النساء. {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((9)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 16. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24. (9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.

إن طلب النصر للأخ صفة إنسانية كما قرر علماء النفس. {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} ((1)) . إن الإنسان يتهم ما لا يعرفه بالسحر. {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} ((2)) . إن الظلم لا يدوم إنسانياً. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((3)) . إن الكتب الإلهية هداية ربانية. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((4)) . طول العمر الحضاري الأممي مبعد عن الله عزَّ وجلَّ. {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((5)) . إن اتباع الهوى صفة إنسانية قد تفني. {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((6)) . الإيمان الإنساني قد يكون بالنصح فقط أو الهداية. {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ((7)) . إن الهداية الإنسانية من الله عزَّ وجلَّ. {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ((8)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

إن البطر الإنساني سمة وسم بها الكفرة. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((1)) . إن الوعد الإلهي في صميم التحقق الإنساني. {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ((2)) . إن التوبة تعيد الإنسان لله عزَّ وجلَّ. {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} ((3)) . ليس للإنسان الخيار في الخلق. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((4)) . إن مكنونات الصدور بعلم الله سبحانه وتعالى. {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} ((5)) . إن الإنسان قد يطغى بالمال ويبغي. {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((6)) . إن الإنسان قد لا يجازي الإحسان بالإحسان. {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((7)) كما قال الأصوليون. إن الاغترار بالعلم يؤدي للاغترار والاجتراء على الله تعالى. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((8)) فنسب علمه لنفسه.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 69. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.

المطلب التاسع: الإيمان والكفر في سورة القصص

إن الحسد على النعم موجود في بعض الطبيعة البشرية. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ((1)) . إن الإنسان يفعل ويصنع حسناته وسيئاته بنفسه. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((2)) . إن الضلال الإنساني كله في علم الله جلَّ جلاله. {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((3)) . إن الإنسان يشعر بالراحة الأبدية إذا ما أوكل الأمور في الحكم والرجعة الأخروية إلى لله عزَّ وجلَّ. {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4)) . إن هذه القواعد في أصولها القرآنية، إنما تكشف عن مجمل السمات البشرية، وترينا كيفية النظرة القرآنية في سورة القصص للإنسان وأفعاله وأقواله وأحواله، كما يجعل سورة القصص إحدى النصوص الإلهية التي سبقت علم النفس، والتي جمعت جمعاً عظيماً صفات النفس البشرية، وهو وجه آخر من أوجه إعجازها الكثيرة ((5)) . المطلب التاسع: الإيمان والكفر في سورة القصص

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 84. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (5) ينظر الصورة الَقُرْآنيّة للإنسان: ص 197 -198.

الإيمان بالله عزَّ وجلَّ هو: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان على ما ذهب إليه أكثر المحققين ((1)) . فالإيمان إذاً هو تصديق بالغيب وإطاعة لما صدق به الإنسان في قراره قلبه، أما الكفر فهو جحود الخالق، والشرك تثنية إله أو آلهة مع الله عزَّ وجلَّ. وقد حفلت سورة القصص في خطوطها العامة والخاصة بمقومات الإيمان وخصائصه، وبآليات الكفر والشرك، ومآل الكافرين والمشركين على حد سواء. جمعت سورة القصص في معانيها الكامنة ومعانيها الظاهرة أنواعاً عديدة من الإيمان مثل: الإيمان العام. الإيمان الخاص. وأبرزت في حقائقها حقائق الكفر والشرك مثل: حقيقة الادعاء بالألوهية بعد الطغيان. حقيقة الحجج التي يسوقها الكفرة والمشركون. ولا ريب في أن ذلك ساهم ضمن فوائد سورة القصص في استفادة أمر جداً مهم هو: (إن الإيمان في صراعه مع الكفر والشرك مصيره النصر الإلهي وتعزيز الرسالة النبوية، ودعم كل المؤمنين، وتوريثهم الأرض في الدنيا والنصيب الحسن في الآخرة) . ونحن في محاولتنا هذه لإبراز كل ما يتعلق بما تحتويه سورة القصص، سوف نحاول هاهنا ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ إبراز آيات الإيمان والكفر والشرك في سورة القصص بتحليلها شمولياً، وإظهار معانيها: 1. التلاوة القصصية إنما تكون للمؤمنين حصراً:

_ (1) ينظر التعريفات (الجرجاني) : ص 70. شرح النسفية. تحقيق: د. عبد الملك السعدي الطبعة الأولى. دار الأنبار. 1988 م: ص 165.

{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((1)) ، فالآية تقرير إلهي بصيغة الجمع لقصة رسول كريم مع كافر، والقيد القرآني (بالحق) دليل على حصرية المعنى في حقيقته، ثم لماذا استخدم التعبير القرآني {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، ولم يقل للمؤمنين، وذلك في رأينا الذي توصلنا إليه من خلال الاستقراء اللغوي هو أن دلالة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أبلغ في هذا المقام مما لو استخدمت لفظة (للمؤمنين) العامة فقد أراد القرآن الكريم أن يخصص (قوماً) بالتنكير، وهم أمة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، ولا يعمم كلّ مؤمن (مما قد يشمل من لا يؤمن بحقيقية هذه القصة كبعض طوائف يهود من الذين آمنوا بالله تعالى، وأنكروا قصة موسى (- عليه السلام -) وفرعون، وقالوا: إنها رمز، ومنهم في عصرنا هذا سيجموند فرويد (ت 1939 م) عالم النفس الشهير في كتابه موسى والتوحيد ((2)) ! . 2. إن العلو في الأرض دليل الكفر:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (2) موسى والتوحيد. سيجموند فرويد. ترجمة: جورج طرابيشي. الطبعة السادسة. دار الطليعة. بيروت. 1985 م: ص 57 – 58.

{إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((1)) ، وذلك أن عمل الإنسان قد يكون دليل إيمانه، وقد يكون دليل كفره، لذلك كان القتل كبيرة، والفساد كبيرة، وقد صح عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) ((2)) ، وهكذا بقية الكبائر المعروفة، فلما علا فرعون في الأرض ارتكب من خلال سياق الآية أعمالاً توجب كفره كما تقدم. ومن هاهنا بان لنا خطأ بعض القائلين بإيمان فرعون في آخر لحظة مستندين إلى قوله: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} ((3)) ، بدليل قوله تعالى في آية أخرى من سورة القصص عن فرعون وهامان وجندهما: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} ((4)) ، فالآية هاهنا دلت دلالة قطعية على أن العلو في الأرض دليل من أدلة الكفر المؤدي إلى النار، والعياذ بالله جلَّ جلاله. 3. إن الوحي الإيماني ليس دليلاً على رسالة النساء:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، صَحِيْح البُخَارِي: كتاب المظالم والغصب، باب النهب بغير إذن صاحبه. 2 /875 رقم (2343) . صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس 1 /76 رقم (57) . (3) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 90. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 41.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ((1)) الآية، وذلك ان قوماً من الجهلة لم يفهموا المراد من الوحي الإلهي والإيماني في بعض الحالات فزعموا استناد إلى قصتي أم موسى (- عليه السلام -) ومريم ـ عليها السلام ـ جواز إرسال النساء نبيات، وقد تأثروا في ذلك بما ورد في التلمود ((2)) من كون أم موسى نبية فوافقوا بذلك اليهود، وسياق آيات سورة القصص مع قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} ((3)) يدلّ على خلاف ذلك في المفهوم الإيماني، وذلك أن سورة القصص {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (2) الكنز المرصود في قواعد التلمود. مجهول المؤلف. الطبعة الرابعة. دار العلوم. بيروت، لبنان (د. ت) : ص 227 –228. (3) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 109. سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 43.

لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) قررت في الوحي الإلهي لأم موسى جملة حقائق (تبطل نبوتها التي توهمها المتوهمون) ، إذ قررت الآيات هنالك لأم موسى (- عليه السلام -) : الأمر بالإرضاع. الأمر بالإلقاء في اليم. الأمر بعدم الخوف والحزن. الربط على قلبها. علمها بأن وعد الله حق. وليس في هذه التقريرات ما يتعلق بالنبوة والأنبياء، ولا الرسالة والرسل، فبان بذلك كونها ـ عليها الرضوان ـ غير نبية، وبأن الوحي هاهنا هو مفهوم الأمر الإلهي الخاص على ما قرره القدماء! . 4. إن من الإيمان الدعاء الدائم:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 7 –13.

بدليل توجه موسى (- عليه السلام -) في كل مواقفه لله سبحانه وتعالى بالدعاء: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} ((1)) ، {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ((2)) ، {رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((3)) ، {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ((4)) ، {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((5)) ، وسياق هذه الآيات الثلاث الغير متوالية يدل من خلال تحليلها على أن شخصية موسى (- عليه السلام -) كانت شخصية مطمئنة راضية مرضية، لا تهتم بشيء قبل البعثة ولا بعدها ما دامت تعرف الله عزَّ وجلَّ حق معرفته، فموسى (- عليه السلام -) وجه لله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حقيقة مآله التي هي: ظلم النفس. الوعد بعدم مظاهرة المجرمين. طلب النجاة. الفقر لله تعالى. طلب الهداية. ويقابلها في مواطنها العامة: الإيمان بمعرفة ظلم النفس بدليل آية يونس: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} ((6)) . الإيمان بمعرفة ان مظاهرة المجرمين كفر: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ((7)) . الإيمان بنسبة الانجاء لله جلَّ جلاله بدليل: (رَبِّ نَجِّنِي) . الإيمان بمعرفة مقام الفقر لله تعالى بدليل: (فَقِيرٌ) في سياق دعائه. الإيمان بالاستهداء. وهذه المواطن الخمسة أوجبت في سورة القصص أن يكون الدعاء باب الإيمان الدائم.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 16. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 17. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22. (6) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 87. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 17.

إن دعاء موسى (- عليه السلام -) في سورة القصص طريق إيماني يوضح فضل الدعاء بصورة غير مباشرة، وذلك بعض الفوائد الخفية المستنبطة من سورة القصص. 5. إن إشهاد الله تعالى دليل إيماني: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((1)) ، إن موسى (- عليه السلام -) قبل بعثته الشريفة (بعد ان أثبت لنا لجؤه إليه في كل موطن بالدعاء) جعل الوكالة الإلهية له في عهوده وعقوده طريق للمعرفة الحقيقة، وهو ما يعبر عنه العارفون في الإسلام بجعل (الوكالة له بطريق التوكل) كما قالوا: وتلك من معالم الإيمان، وعلائم التحقق بمعرفة الله عزَّ وجلَّ إيمانياً. 6. إن الرسالة تنير القلب بالإيمان كله فيزول الخوف الطبيعي في النفس بالأمان: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) ، {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} ((3)) ، إن ملاحظة سياق هاتين الآيتين في هذا الموطن يرينا من خلال التحليل المقارن كيف وازن النص القرآني بين ذكر الألوهية العظمى التي سرت في روح وقلب ونفس وعقل موسى (- عليه السلام -) وما لاقاه من خوف انجلى عنه إيمانياً بالأمر الإلهي بالإقبال ونبذ الخوف وهذا يذكر بالأمر الإلهي لأمه {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} ((4)) ، فكان كل خوف عن هذه الأسرة أزاله الله عزَّ وجلَّ بالإيمان كله الذي أنار القلوب كلها، وتلك شوارق نورانية عرفانية من بوارق سورة القصص. 7. إن أهل الكفر والشرك يختلقون المعاذير للكفر والشرك:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} ((1)) ، فالكفرة والمشركون من قوم فرعون، وإسناد الكلام هنا لهم بصيغة الجمع مشعر باستحقاقهم الغرق مع فرعون، جعلوا ما جاء به موسى (- عليه السلام -) من الآيات الإيمانية سحراً مما لم يألفون بزعمهم، فكان الرد الإيماني من موسى (- عليه السلام -) في وجههم مسكتاً لهم جميعاً، {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((2)) ، وقد يثار سؤال هاهنا لما استخدم القرآن الكريم (الظالمون) ، ولم يستخدم (الكافرون) في هذا السياق، والذي توصلت إليه أن ظلمهم بالتكذيب أعم من كفرهم بالرسالة، فناسب الظلم أن يستخدم في هذا السياق. 8. إن كل أمة لم يأتها نذير ليدلها على الإيمان، يرسل الله عزَّ وجلَّ لها من يدلها على الإيمان به ليكون حجة عليها: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((3)) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ((4)) ، إن هاتين الآيتين تدلان على أن الله عزَّ وجلَّ لا يعاقب قوماً على كفرهم إلا بعد أن يقيم عليهم الحجة بالإنذار بالرسالة، وهذا ما أثبته القرآن الكريم في أكثر من موضع، وهو من الدلالات الإيمانية في سورة القصص. 9. إن الكفرة قد يلجئون للأعذار في كفرهم عند حسابهم يوم القيامة:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.

{فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} ((1)) ، إن هذه الآية تحلل تحليلاً نفسياً (يسبق كل التحليلات النفسية للشخصية الباطنية الإنسانية) ، كيف أن الكفرة بعد أن تصيبهم مصيبة في الدنيا، أو مصيبة العذاب في الآخرة، يحاولون أن يجادلوا بالباطل، فيسألون الله عزَّ وجلَّ بطريقة سؤال العارف عن رسلهم، ولِمَ لَمْ يرسلوا إليهم وهم قد جاءتهم الرسل، ولكنها الطبيعة البشرية في الإنسان الذي كان أكثر شيء جدلاً، فهذه الآية في سورة القصص تبرز الشخصية الإنسانية الكافرة على حقيقتها. 10. إن للإيمان وللمؤمنين شروط خاصة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ((2)) ، حفلت هذه الآيات من سورة القصص بما يعزز هذه القاعدة من كون الشروط الإيمانية للمؤمنين ذات دلالات خاصة، وهي هاهنا في هذه الآيات تشمل: الإيمان بما مضى من الكتب السماوية (التوراة ـ الزبور ـ الإنجيل) مع القرآن الكريم. الإيمان قلبياً عند سماع التلاوة، وهي أعلى مراتب المعرفة الإيمانية عند العارفين. الإيمان بالحق المنزل من الله (واستخدم القرآن الكريم لفظة (ربنا)) بدل لفظة الجلالة (الله) تعالى لخصوصيتها في هذا الموضع.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 47. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 52 –55.

الإيمان بأن كل الأديان تدعو إلى الإسلام من قبل الإسلام {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ((1)) . الإيمان بالصبر. درء السيئة بالحسنة (وقدم القرآن الكريم الحسنة وأخر السيئة، لأن المقصود في الوضع اللغوي أن تقدم العرب المهم في الكلام وهو هنا (ما يدرؤون) وهي الحسنة، وليس ما درؤا وهي السيئة، جعل تقديم الحسنة لازماً على ما ذكروا وهي السيئة، وهذا من إعجاز النص القرآني في سورة القصص) . الإنفاق من الرزق الإلهي. الإعراض عن سماع اللغو. ترك عمل الكافرين وجعل أعمالهم لهم (لنا) . عدم ابتغاء الجدال مع الجاهلين. وهذه الصفات العشرة هي عين ما جاءت به الفطرة السليمة للمؤمنين بالله عزَّ وجلَّ. 11. إن الإيمان هو هداية إلهية: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ((2)) فنسبة الهداية لله عزَّ وجلَّ تقرير لحقيقة الإيمان من الله الهادي عزَّ وجلَّ، وهذا من مستنبطات سورة القصص في القرآن الكريم. 12. إن المشركين معرضون للتوبيخ الشديد يوم القيامة:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ((1)) فصيغة النداء ونسبتها للمشركين، ومقول القول باستخدام الفعل المضارع مع فاء التعليل (فيقول) ، ثم استخدام صيغة الاستفهام (أين) ، ونسبة الشركاء لياء المتكلم في لفظة الجلالة (توبيخاً) ، والإتيان بالاسم الموصول مع الفعل الماضي الناقص، وصيغة (زعم) المضارعة كل ذلك جعل هذه الحقيقة التوبيخية تكون أشد إيلاماً وتبكيتاً للمشركين بالله عزَّ وجلَّ بدليل ما بعدها: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} ((2)) ، وهو خطاب بليغ كل البلاغة في وصف توبيخ المشركين، ونلاحظ أن هذه الآية تكررت مرة أخرى في الآية {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ((3)) ، وتكرارها هنالك كان تحقيقاً لموقعها في سياق آيات أتت بينهن ولا تختلف دلالتها عما حللناه. 12. إن التوبة والعمل الصالح مقترنان بالإيمان ثم الفلاح: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} ((4)) ، فهذه الآية تقرر حقيقة الإيمان في أسلوب تقريري (التوبة، والإيمان) مقابل (العمل الصالح، والفلاح) وهي معادلة قرآنية عظيمة كل العظمة تقرر حقيقة الإيمان في النفس. 13. إن نسبة الإعادة لله تعالى تقرر حقيقة الهدى الإيماني:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 62. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 64. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 74. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67.

الفصل الثالث: الطغيان والتكبر في سورة القصص

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((1)) ، فهذه الآية تجعل الإيمان النبوي في رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) مقروناً بعلمه (- صلى الله عليه وسلم -) بأن الله عزَّ وجلَّ يرجعه بالنصر إلى مكة المكرمة، وهو ما تحقق يوم الفتح (ولنحن نعلم أن هذه الآيات نزلت بمكة المكرمة قبل الهجرة) فكانت بشارة إيمانية من الله عزَّ وجلَّ لتقرر حقيقة الإيمان في مقابل الكفر والشرك من خلال كون جملة {مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} تعني رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وجملة {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} تعني الكفرة والمشركين من قريش، وذلك يبرّز الإيمان في مقابل الكفر والشرك. وبذلك يمكن لنا أن نبين كيف أن الإيمان والكفر والشرك في سورة القصص برزت بروزاً واضح المعالم في كل الآيات الشريفة التي تقدم ذكرها. الفصل الثالث: الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ المبحث الأول: مفهوم الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ تمهيد لازال البحث في المفاهيم القرآنية ميداناً فيه مجال عظيم السعة للسير فيه ما وسع الباحث السير. ذلك أن جملة المفاهيم القرآنية تحتوي في ظاهرها وباطنها على دلالات عقلية ـ قلبية تعين على إدراك النص الكامن في ظواهر معاني الآيات والسور. لذلك اهتم العلماء بهذه المفاهيم القرآنية، وأولوها الاهتمام كله سواء من درسها درساً لغوياً أو درساً بيانياً أو درساً تفسيرياً بالمأثور والمعقول من القدماء والمحدثين. ولعل من تلك المفاهيم مفهوما (الطغيان) و (التكبر) اللذين وردا في جملة من آيات وسور القران الكريم، وكانا بدلالتهما معبرين عن المعنى المراد لهما إيضاحه للمؤمن المسلم ((2)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (2) ينظر الصورة الَقُرْآنيّة للإنسان: ص 133 -134.

وقد ورد هذان المفهومان في سورة القصص التي هي بإجماع المفسرين (مكية) ، ونحن نعلم أن مجموعة السور المكية مما أنزل قبل هجرة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) احتوت على إشارات من أخبار الأمم السابقة تقرع أسماع طغاة ومتكبري قريش من الكفرة الذين جحدوا رسالة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فكان لزاماً عليهم التنبه لسبب أسماعهم أخبار الطغاة والمتكبرين لعلهم يتعظوا بها، ويرجعوا عن طغيانهم وتكبرهم في الأرض ((1)) . وسوف نحاول فيما يأتي تحليل هاتين المادتين في سورة القصص بلفظهما ومعناها حسب ما يتضح من سياق السورة، وأهمية ذلك تكمن في أن الفهم الشمولي لمفاهيم المصطلحات القرآنية يعين على الإدراك الكلي للنص القرآني. وسنحاول في البداية تبيين المعنى التعريفي للمادتين من خلال كتاب (المفردات في غريب القران) للراغب الأصفهاني ((2)) ، ومقارنة ذلك بالتأويل المفهوم من نص سورة القصص إن شاء الله العلي العظيم.

_ (1) ينظر المصدر نفسه: ص 205 –207. (2) ص 121 وما بعدها.

قال الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات: " طغى طغوت وطغيت طغواناً، وطغينا وطغاة، كذا حمله على الطغيان، وذلك تجاوز الحدّ في العصيان. قال تعالى: {إِنَّهُ طَغَى} ((1)) {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} ((2)) . وقال تعالى: {قَالا رَبَّنَا انَّنَا نَخَافُ أن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أو أن يَطْغَى} ((3)) ، {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} ((4)) ، قال تعالى: {فَخَشِينَا أن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانا وَكُفْرا} ((5)) ، {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (6)) {إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} ((7)) ، {وَانَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} ((8)) ، {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ} ((9)) . والطغوى الاسم منه، قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} ((10)) ، تنبيهاً أنهم لم يصدقوا إذ خوفوا بعقوبة طغيانهم. وقوله تعالى: {هُمْ أظْلَمَ وَأطْغَى} ((11)) .

_ (1) سُوْرَة (طَه) : الآية 24. والآية: 43. وسُوْرَة النَّازِعَاتِ: الآية 17. (2) سُوْرَة الْعَلَق: الآية 6. (3) سُوْرَة (طَه) : الآية 45. (4) سُوْرَة (طَه) : الآية 81. (5) سُوْرَة الكَهْفِ: الآية 80. (6) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 15. (7) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 60. (8) سُوْرَة (ص) : الآية 55. (9) سُوْرَة (ق) : الآية 27. (10) سُوْرَة الشَّمْسِ: الآية 11. (11) سُوْرَة النَّجْم: الآية 53.

تنبيهاً على أن الطغيان لا ينجي الإنسان، فقد كان قوم نوح أطغى منهم فاهلكوا وقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} ((1)) ، فاستعير الطغيان فيه لتجاوز الماء الحد. وقوله: {فَاهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} ((2)) ، فإشارة إلى الطوفان المعبر عنه بقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} . والطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله، ويستعمل في الواحد والجمع قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} ((3)) " ((4)) . وقال ـ رَحِمَه الله ـ في المادة الأخرى: " كبير … فالكبر والتكبر والاستكبار تتقارب، فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان في إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره وأعظم. والتكبر على الله تعالى بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة. والاستكبار… أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيراً…وأن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له" (5) .

_ (1) سُوْرَة الحَاقَّة: الآية 11. (2) سُوْرَة الحَاقَّة: الآية 5. (3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 256. (4) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 121. (5) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص80 وما بعدها. وينظر معجم المفردات والألفاظ والأعلام الَقُرْآنيّة. د. شفيق حسن. الطبعة الثانية. دار المعرفة للتوزيع والنشر. القاهرة. 1984 م.: 2/156.

فإذا جئنا إلى سورة القصص الكريمة وجدنا أن مادة (طغى) وردت فيها (معنى) ، وإن مادة (تكبر) وردة فيها لفظاً ومعنى من خلال مفهوم النص، والمزج بين الوارد لفظاً ومعنى يدلنا على اقتضاء معرفة السياق القرآني. فقوله تعالى فيها: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ((1)) ، فيه دلالة التكبر العام. وفي ذلك يقول مصلح رافع: " والقارئ للآية الرابعة من سورة القصص يجد أن إفساد فرعون في الأرض كان بسبب طغيانه وكفره وتكبره وعتوه لأمارة في نفسه (الحمقاء) من أن الملك الأرضي معادل للملك الإلهي العام، لذلك ظن أنه صار الرب، فعاث في الأرض فساداً، ولكن العلو في الأرض بالنسبة له مفهوم مجازي، فهو يرى نفسه الأعلى ـ وحاش لله ـ كما في قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ((2)) ، وقوله لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إله مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} ((3)) ، لذلك كان ما ورد عنه في سورة القصص مشعراً بحمقه، في عين الوقت المشعر بطغيانه " ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (2) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51. (3) سُوْرَة غَافِرِ: الآيتان 36 –37. (4) آيات الإفساد في الَقُرْآن الكَرِيم. د. رشدي أحمد. الطبعة الأولى. دار المعارف الجامعية. الإسكندرية. 1984 م.: ص 11.

ونحن نوافق الباحث الفاضل فيما ذهب إليه، ونزيد عليه أن فرعون لم يميز في ادعائه الألوهية بين ذاته الفانية، وبين الذات الإلهية الخالدة. وهذا الطغيان والتكبر برأينا عائد إلى أن المصريين (الفراعنة) كانوا يؤمنون بأنهم هم الآلهة. وحتى (إخناتون) و (توت عنخ آمون) كانا يؤمنان بإله واحد هو (إله القمر الساري فيهما) خلافاً لبعض المتعصبين المصرين الذين يزعمون أنهما كانا موحدين!!! فالتوحيد بمعنى توحيد الله عَزَّ وجَلَّ لم يكن في يوم من الأيام دين قدامى المصريين أبداً. ودليلنا في ذلك ما قاله أحد المستشرقين، إذ ذكر في ذلك: " لقد كان معظم الفراعنة يرون أنفسهم أعظم وأطهر وأسمى وأقدس من عامة الناس، لذلك كانوا يتصورون أنهم هم (الآلهة) ، وتظهر البرديات أن (رمسيس) الذي يراه البعض الفرعون المذكور في القران كان أشدهم إحساساً بنفسه في علوه على الناس، حتى إنه أمر بطمس كل ذكر للفراعنة الذين سبقوه ليحظى بذكر أنه هو الإله الأوحد، وقد أساء السيرة في الناس، وفي الإسرائيليين الذين سكنوا أرض مصر في عصره حتى زمن الخروج " ((1)) .

_ (1) عصر الفراعنة. لويس توبريان. ترجمة: مُحَمَّد كمال مُحَمَّد. الطبعة الأولى. القاهرة. 1992 م: ص99-101.

فهذا النص يدلنا على هذا التكبر والطغيان. ونجد في سورة القصص تكبراً لعامة الناس عن مساعدة النساء، وهو ما ورد في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ((1)) ، فهذا النص دال على أن هؤلاء الناس في (مدين) كانوا على درجة عالية من قلة الأدب، ومن العلو ومن التكبر الواضح في سقي رعائهم لأنفسهم، وفي منعهم النساء من السقي، (والنص يشعر بأن هذا الفعل يومي متجدد) . وفي ذلك يقول بعض الباحثين: " تشعر هذه الآية ((2)) إن موسى (- عليه السلام -) كان يحمل من التواضع الشيء العظيم، وإن شعب مدين كان يحمل من التكبر والتجبر الشيء العظيم، ويبدو أنهم كانوا من تلك الشعوب التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية " ((3)) . ويعود السياق القرآني ليرينا صورة أخرى من صور تكبر وطغيان فرعون: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((4)) ، فالآية الشريفة مشعرة بان فرعون كان إذ يستكبر في الأرض يظن الخلود، وأنه لا يرجع إلى الله تعالى، ويبدو أنها كانت عقيدة جنوده كذلك على ما يوحي به السياق. ويقول تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((5)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 23. (2) أي الآية 23 من سُوْرَة الْقَصَصِ. (3) ينظر الصفة الإنسانية في الَقُرْآن الكَرِيم. أحمد عَبْد الله. مكتبة الناشر العربي. دمشق. 1988 م.: ص119 – 120. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.

فتجد في مفهوم النص الطغيان المادي لتلك القرى التي بطرت فاستكبرت وطغت، ويقول تعالى في الطغيان البشري والتكبر الروحي: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((1)) . ثم يقول تعالى في ذلك السياق: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ((2)) . ثم يقول تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ((3)) . فتجد أن البغي القاروني كان بسبب تكبره وطغيانه في الأرض بماله الذي هو رزق الله عز وجل والذي ليس له منه مقدار شعرة. والنص القرآني واضح كل الوضوح في أن هذا التكبر لا عاقبه له إلا أن يخسف بالمتكبر وبداره الأرض {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} ((4)) . ويذكر الله تعالى في نقض مفهومي التكبر والطغيان على حد سواء في السورة نفسها {تِلْكَ الدَّارُ الأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادا ً} ((5)) ، فتجد أن السياق القرآني يتواصل معك في استقرار نفسي يجعلك تنبذ في ذاتك (إن كان فيك ذرة من كبر، أو طغيان) . وهذا من بدائع إعجاز النص القرآني في سورة القصص. وذلك لأن سياق بعض الآيات في سورة القصص ـ وخاصة ما ورد منها في شان مادتي الطغيان (مفهوماً) والتكبر (لفظاً) على حد سواء ـ يجعل القارئ والسامع والمخاطب بها يستشعر في نفسه أن كلّ ذلك التكبر والطغيان مما يستحي منه لا مما يتفاخر به لان قوله تعالى فيها: {تِلْكَ الدَّارُ الأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} ((6)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.

المطلب الأول: علو فرعون في الأرض

ينقل النفس الإنسانية لهذا الجعل الإلهي: (والذي هو أصدق جعل في الوعد) ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} ((1)) . لذلك كانت هذه الآية إحدى آيات اطمئنان النفس في القران الكريم ((2)) . المطلب الأول: علو فرعون في الأرض {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَا مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * انَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ اهْلَهَا شِيَعا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ ابْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ انَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ((3)) . تحليل الألفاظ 1. {آيَاتُ} : قال الراغب الاصفهاني: " واشتقاق الآيات إما من أيٍّ فأنها هي التي تُبَيِّنُ أيّا من أيٍّ، والصحيح أنها مشتقة من التّأيّي الذي هوَ التثبت والإقامة على الشيء، يُقال: تأيَّ، أي: ارفُق، أو من قولِهِم: آوي إليه وقيل للبناء العالي ولِكلِّ جملة من القران دالة على حكم أو طغيان سورة كانت أو فصولاً أو فصلاً من سورة. وقد يقال لِكلِّ كلامٍ منه مُنفَصِل بفَصلِ لفظيٍ آية " ((4)) . وقال أبو بكر: سميت الآيات من القران لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام، ويقال: سميت لأنها جماعة من حروف القرآن " ((5)) . فهذا النص يدل على أن المعنى العام لا يرجعون وجمعها ذا دلالة واحدة. 2. {الْكِتَاب} :

_ (1) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 122. (2) السكينة النفسية في الَقُرْآن الكَرِيم. د. سلمان أحمد. الطبعة الأولى. المكتبة العلمية. القاهرة. 1998 م: ص88 وما بعدها. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات: 2 - 4. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص28. (5) لِسَان العَرَب: مَادة (ايي) 14 /62.

في الأصل مصدر ثم سُمِّيَ المكتُوُبُ فيه كتاباً، والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب ((1)) . وقد وردت لفظة (الكتاب) في القران في مواضع عدة ولمعاني مختلفة، فقد جاءت بمعنى التوراة، كقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ} ((2)) . وجاءت بمعنى اللوح المحفوظ قال تعالى: {إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ انْ نَبْرَأهَا} ((3)) إشارة إلى اللوح المحفوظ كما ذكر الخازن ((4)) . والأرجح أن المراد به القران الكريم لان ما بعده يفسره: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ، أي: نتلو عليك يا محمد في القران من نبأ موسى وفرعون. بمعنى أن الكتاب (في معناه الذي يدل على المجموع) دال على الضم. 3. {الْمُبِينِ} : " من البيان، ما بُيِّنَ به الشيء من الدلالة وغيرها، وبان الشيءُ بياناً: اتضح، فهو بَيِّنٌ وأبَنْتُهُ: أي أوضحته، واستبانَ الشيءُ ظهرَ، وقيل: المبين الذي أبان طُرقَ الهُدى من طرق الضلالة، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة. وقيل: معنى مبين خيره وبركته. وقيل: مبين الحق من الباطل والحلال من الحرام " ((5)) . فهذا يدل على استقلالية معنى كلمة (المبين) . 4. {نَبَإِ} : النَّبأ، هو " القراءة المجمع عليها طرح الهمز وقد همز جماعة من أهل المدينة جميع ما في القران من هذا، واشتقاقه من نَبأَ وأنبأ، أي: أخبر. قال: والأجود ترك الهمز " ((6)) .

_ (1) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 440. (2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 101. (3) سُوْرَة الحَدِيْد: الآية 22. (4) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /423. (5) لِسَان العَرَب: مَادة (بين) 13 /68. (6) لِسَان العَرَب: مَادة (نبأ) 15/ 303.

وقال الراغب الأصفهاني: " النَّبأ خبرٌ ذو فائدة عظيمة يحصل بها علمٌ أو غَلَبهُ ظَنّ، وحق الخبر الذي يقال فيه نبأ أن يتعرَّى عن الكذب كالتواتر، وخَبرَ الله تعالى، وخبر النبي (- صلى الله عليه وسلم -) " ((1)) . 5. {عَلاَ} : قال الراغب: (العُلوُ ضِدَّ السُّفلِ والعُلُوُّ الارتفاع، وقد عَلا يَعلُو عُلُوا وهو عالٍٍ. وقيل: إنَّ علا تقّال في المحمود والمذموم " ((2)) . وقال ابن منظور: " العُلُوُّ العَظمة والتجَبُّر والتكبر في الأرض، وقال الحسن: والفساد المعاصي، يقال: علا في الأرض استكبر " ((3)) . فجاء كلامهما دالاً على استلهام المعنى اللغوي والاصطلاحي. 6. {شِيَعًا} : قال ابن منظور: " الشَّيعُ مِقدارٌ من العدد، والشيعة القوم الذين يجتمعون على الأمر، وقيل: الذين يتبع بعضهم بعضاً، وليس كلهم متفقين. وقيل: الشَّيَعُ الفِرًقُ " ((4)) . 7. {يَسْتَضْعِفُ} : " من الضَّعفُ والضُعفُ خلاف القوة. وقيل: الضُعفُ في الجسد والضَّعف بالفتح في الرأي والعقل. استَضعَفَه وتَضَعَّفَه وجده ضعيفاً فركبه بسوء. قال ابن الأثير: يقال تَضَعَفتُه واستَضعَفتُه بمعنى للذي يتضعفه الناس ويتجبَّرون عليه في الدنيا للفقر ورَثاثَةِ الحال " ((5)) . 8. {يُذَبِّح} : " أصل الذبح شق حَلقِ الحيوانات، المراد هنا في هذه الآيات التكثير، أي: يَذبَح بَعضُهم اثَرَ بَعضٍ " ((6)) .

_ (1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 500. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 357. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (علا) 15/ 85. (4) المصدر نفسه: مادة (شيع) 18/ 188. (5) المصدر نفسه: مَادة (ضعف) 9/ 204. (6) المصدر نفسه: مَادة (ذبح) 2 /400.

فمجمل هذه الألفاظ تدل في اجتماعها على أن افتتاح السورة بها كان مقصوداً به تنبيه السامع وقرع سمعه على ما يراه ويسمعه فيما يتلوه من الآيات. القراءات القرآنية 1. {طسم} : بإمالة فتحة الطاء. قرأ بها كل من (حمزة، والكسائي، وخلف وشعبة) . بإمالة فتحة الطاء بين بين (نافع) . بإظهار نون سين عند الميم، قرأ بها (حمزة، وأبو جعفر) . بالسكت على الحروف، قرأ بها (أبو جعفر) ((1)) . 2. {الْمُبِينِ نَتْلُو} : بالإدغام (الكبير) ((2)) ، على ما قاله مجاهد بمعنى إدغام النون الأولى بالنون الثانية من دون أن يظهر ذلك بينهما. 3. {مُوسَى} : قرأ بالإمالة كل من (حمزة، والكسائي، وأبي جعفر، وخلف، وورش) ((3)) . 4. {فِرعَونَ} : قُرأ (فُرعون) بضم الفاء وكسرها والكسر أحسن كالقُسطاس والقِسطاس ((4)) . 5. {يُذَبِّحُ} : قرأ الجهور يذبح مضعّفا، وأبو حيوة، وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال (يَذْبَحُ) ((5)) . القضايا البلاغية 1. {نَتْلُو} : إسناد التلاوة إلى الله إسناد مجازي، لأنه الذي يأمر بتلاوة ما يوحى إليه من الكلام، والذي يتلو حقيقة هو جبريل بأمر من الله، وجعلت التلاوة على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لأنه الذي يتلقى ذلك المتلوّ، وعبر عن هذا الخبر بالنبأ لإفادة إنه خبر ذو شأن وأهمية ((6)) . 2. {عَلا فِي الأَرْضِ} : مجاز إسنادي، لأن فرعون لم يعل بل استعلى بكفره. 3. {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} :

_ (1) معجم القراءات القُرْآنية. د. أحمد مختار عمر. عَبْد العال سالم مكرم. الطبعة الثانية. مطبوعات جامعة الكويت. سنة 1988 م.: 5/5. (2) معجم القراءات القرآنية: 5 /5. (3) المصدر نفسه: 5 /5. (4) مفاتيح الغيب: 24 /225. (5) البَحْر المُحِيْط: 7 /104. (6) التحرير والتنوير: 2 /64.

استعارة مكنية، لأن استحياء النساء وضع لغة للترك، فاستعير في الآيات لنبذ النساء وامتهانهن، وهذا من بليغ إعجاز النص القرآني في بلاغته ((1)) . المعنى العام {تِلْكَ} : أي هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} . قال ابن كثير: " أي الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور، وعلم ما قد كان وما هو كائن " ((2)) . {نَتْلُو عَلَيْكَ} قال البيضاوي: " نقرؤه بقراءة جبريل، ويجوز أن يكون بمعنى ننزله مجازاً " ((3)) . {نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} قال القرطبي: " نتلو عليك بعض خبرهما " ((4)) . {بِالْحَقِّ} ، قال البقاعي: " الذي يطابقه الواقع، فإنا ما أخبرنا فيه بمستقبل إلا طابقه الكائن عند وقوعه، ونبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولي الإذعان بقوله " ((5)) . {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قال الزمخشري: " لمن سبق في علمنا أنه يؤمن لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم " ((6)) . {إِنَّ فِرْعَوْنَ ((7)

_ (1) معجم المصطلحات البلاغية: 3 /154. (2) تفسير القرآن العظيم3: /379. (3) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل وأسرار التَّأؤيِل المعروف بتفسير البَيُضَاوي. نَاصِر الدِّيْن عَبْد الله بن عمر بن مُحَمَّد الشِّيُرَازي البَيُضَاوِي الشافعي أبو سعيد. المُتَوَّفَىَ 685 هـ. تحقيق: عَبْد القادر عرفات العشا حسونة. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. 1416 هـ – 1996 م.: 2/209. (4) الجامع لأحكام القرآن: 6/4964. (5) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: 5/461. (6) الكشاف: 3/164. (7) فرعون: اسم أعجمي، قيل: إنه اسم ذلك الملك بعينه، وقيل: لقبه. إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس، وقيصر للروم، والنجاشي للحبشة. وقد قيل في اسمه أقوال: أولا ـ قابوس في قول أهل الكتاب. ثانياً ـ الوليد بن مصعب بن الريان، ويكنى أبا مرة، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح ـ عَلَيْه السَّلام ـ. ثالثاً ـ قال السهيلي: كلّ ولي القبط ومصر فهو فرعون. رابعاً ـ قال الجوهري: لقب لكل عاتٍ وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة، أي: دهاء ومكر. خامساً ـ قيل: هو فيطوس قاله مقاتل. سادساً ـ قيل: اسمه مغيث، والفراعنة هم ملوك القبط بالديار المصرية. ينظر: زَاد المَسِيْر: 1 /77. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1/327. والمختصر في أخبار البشر. عماد الدين إسماعيل بن كثير. ت 774 هـ. الطبعة الأولى. المطبعة الحسينية المصرية. (د. ت) .: 1/56.

) عَلاَ فِي الأَرْضِ} قال المفسرون: " استكبر وتجبر وبغى وتعاظم في أرض مصر " ((1)) . {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} قال الزمخشري: " فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه، أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته، أو أصنافاً في استخدامه يسخر صنفاً في بناء، وصنفاً في حرث، وصنفاً في حفر، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية، أو فرقاً مختلفة، قد أغرى بينهم العداوة، وهم بنو إسرائيل والقبط " ((2)) .

_ (1) الوَسِيْط في تَفْسِير القُرْآن المجيد. النيسابوري. الإِمَام أبو الحَسَن عَلِيّ بن أحمد الواحدي. ت 468 هـ. تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عَبْد الموجود. وآخرون عَلِيّ مُحَمَّد معوض. مَكْتَبَة الباز. مَكْتَبَة المدينة المنورة. (د. ت.) .: 3/389. (2) الكَشَّاف: 3 /156.

{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} قال المراغي: " أي يجعلهم أذلاء مقهورين وهم بنو إسرائيل " ((1)) . {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ، قال ابن عطية: " يذبِّح مضعف للمبالغة، والعبارة عن تكرار الفعل وقال قتادة: كان هذا الفعل من فرعون بأنه قال له كهنته وعلماءه: إن غلاماً لبني إسرائيل يفسد ملكه. وقال السدي: رأى في ذلك رؤيا فأخذ بني إسرائيل يذبح الأطفال سنين، فرأى أنه يقطع نسلهم، فعاد يذبح عاماً ويستحيي عاماً، فولد هارون في عام الاستحياء، وولد موسى في عام الذبح. وقال وهب بن منبه: إن فرعون ذبح سبعين ألفاً من الأطفال. وقال النقاش: جميع ما قتل ستة عشر طفلاً " ((2)) . والذي يبدو من اختلاف الروايات أنه لا يوجد نص ثابت يبين عدد الأطفال، لذا لا يمكن الجزم بعدد معين، أو ترجيح قول على أخر، ولكن ما جاء في رأي النقاش بعيد عن الحقيقة، وذلك لأن الَقُرْآن الكَرِيم استخدم صيغة المبالغة (يذّبح) للدلالة على المبالغة في الذبح. {وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} قال ابن عاشور: " يستبقي حياة الإناث من الأطفال، فأطلق عليهنَّ اسم النساء باعتبار المال إيماء إلى أنه يستحيهن ليصرنَ نساء، فتصلحن لما تصلح له النساء، وهو أن يصرن بغايا إذ ليس لهن أزواج، وإذا كان احتقارهن بصدّ قومه عن التزوج بهنَّ لم يبق لهنَّ حظّ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، وباعتبار هذا المقصد انقلب الاستحياء مفسدة بمنزلة تذبيح الأبناء، إذ كل ذلك اعتداء على الحق " ((3)) .

_ (1) تفسير المراغي. أحمد مصطفى المراغي. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. (د. ت) .: 20/33. (2) المحرر الوجيز: 12/142. (3) التحرير والتنوير: 20 /70.

{إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} قال أبو السعود: " أي الراسخين في الفساد، ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء ـ عَلَيْهم الصَلاة والسَّلام ـ " ((1)) . ما يستفاد من النصّ أشارت الآيات التي مرت إلى جانب من حياة مصر في حقبة حكم الفراعنة إلى فرعون موسى على وجه الخصوص بقوله تعالى: {انَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ ابْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ، فمن هذه الآيات يمكن لنا أن نستنتج صورة للحياة في تلك الحقبة الزمنية من تاريخ مصر. أولاً ـ الحالة الاجتماعية: لنتكلم أولاً عن الحالة الاجتماعية في تلك الفترة حتى تكتمل الصورة. " فان أهل مصر كانوا أهل ملك عظيم ما بين قبطي ويوناني وعمليقي، إلا أن جمهرتهم قبط، وأكثر ما يملك مصر الغرباء، وقد تعاقب على مصر ملوك كاليونان، ثم ملوك الروم والفراعنة الذين هم ملوك القبط " ((2)) .

_ (1) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القُرْآن الكَرِيْم. مُحَمَّد بن مُحَمَّد العِمَادي أبو السعود. ت 982 هـ. دار إحياء التراث العربي. بيروت. (د. ت) : 7 /2 – 3. (2) المختصر في أخبار البشر: 1/56.

ولقد كان العبرانيون الذين كانوا يدعون (بني إسرائيل) أصحاب شرف وأموال سكنوا الديار المصرية برضى ملكها، واستملكوا الأراضي وساهموا في بناء مصر، فكان سبب مجيئهم إلى هذه الديار هو أن عزيز مصر اشترى سيدنا يوسف (- عليه السلام -) صغيراً حينما وجده السقاة في غيابة الجُبِّ، وعاش وكبر في قصره، إلا أن مُلِّك إدارة شؤون مصر ثم نقل سكن والديه وأخوته إلى مصر، وهكذا تناسلوا وتكاثروا مع من آمن بنبوة سيدنا موسى (- عليه السلام -) فأصبحوا عدد لا يستهان به. ولكن بعد أن توفي سيدنا يوسف (- عليه السلام -) تغيرت الأحوال بعد ذلك، فقد فسدت أخلاق معظمهم وتركوا الدعوة إلى الله ودعاء الخلق إلى الله وسقطوا على الدنيا وتغير لهم الناس أيضاً، وصاروا ينظرون إليهم بغير ما كانوا ينظرون إلى آبائهم، وصاروا كسائر الناس لا يمتازون عن الناس إلا بالنسب، وصار الناس يحسدون الغني منهم ويحتقرون الفقير منهم، وصار أهل مصر ينظرون إليهم كغريب جاء من بلد آخر، وليس له حق في مصر، وكان أهل مصر يعتقدون أنهم أهل البلاد وهم أحق بها، ونسي كثير منهم فضل يوسف (- عليه السلام -) وتدبيره اللذان أنقذا مصر من الموت جوعاً (1) .

_ (1) ينظر: قصص النبيين. أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي. الطبعة الثالثة. دار القلم. دمشق. 1988 م.: ص140.

" وتوارثت الفراعنة ملك مصر ونشر الله بني إسرائيل، فلم يزل بنو إسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم ـ عَلَيْهم السَّلام ـ، شرعوا فيهم من الإسلام، حتَّى كان فرعون موسى، وكان أعتاهم على الله، وأعظم قولاً وأطولهم عمراً، واسمه فيما ذكر الوليد بن مصعب، وكان سيئ الملكة على بني إسرائيل، يعذبهم ويجعلهم خولاً ويسومهم سوء العذاب " ((1)) . ثانياً ـ الحالة الأخلاقية: إن الذي يقرأ قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ، تتجسد أمامه أخلاقية فرعون الفاسدة، والتي كانت سبباً في هلاكه وهلاك ملكه، فقد بينت الآيات جملة من الصفات الفاسدة التي كان يتصف بها فرعون والتي كانت السبب في هلاك ملكة وهي: 1. الكِبرُ: قال تعالى: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ} ، والكِبرُ " والتَكبُّرُ والاستكبار تتقارب، فالكِبرُ الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره " ((2)) .

_ (1) الكامل في التاريخ. عز الدِّيْن أبو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن الأثير الجزري. ت 630 هـ. تحقيق: أَبِي الفداء عَبْد الله القاضي. دار الكتب العلمية. بيروت. ط2. 1415 هـ – 1995 م: 1/96. (2) مفردات ألفاظ القران: ص438. وينظر: لِسَان العَرَب: مَادة (كبر) 5/129.

والكبر مولوداً من (العُجبِ) وذلك " إنَّ ذا العُجب إذا مرّ نظره إلى أدنى منه تبين له أنه ممتاز عنه بما سما به في نظرة نفسه، فيرى ذلك الغير في درجة منحطة عن درجته، فيعتقد أن مستواه فوق مستوى غيره، فالمتكبر يعتقد في قرارة نفسه أنه أكبر وأعظم من غيره، فيرى غيره بعين الصغر والحقارة ويرى نفسه بعين العظمة والفخامة " ((1)) . ومعنى العُلوّ في الآيات الكِبْر، وهو المذموم من العُلو المعنوي ((2)) كالذي في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} ((3)) . وللكبر آثار تظهر على الجوارح فتراه إذا مشى مع الناس يريد التقدم عليهم، وتراه إن جالسهم يصدر نفسه في المجلس، يسره أن يتكلم ويسمعوا له، وأن لا ينطق غيره بحرف، ثم هو ينتظر من الناس أن يتلقوا كل كلمة يقولها بالقبول والتصديق. كقولة تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} ((4)) . فالمتكبر يحتقر الناس ويستضعف حقوقهم، ويسيء معاشرتهم، ويبث عدوانه فيهم، ويزداد الأمر سوءً إن كان ذلك المتكبر ولي أمرهم وراعيهم، فتنتج صفة الكبر في الحالة سوء رعايته لهم، والاعتداء على حقوقهم، وينظر إليهم بعين الاحتقار، ويرى دائماً أنه صاحب الفضل عليهم. 2. العُجبُ: وهو الزَّهُوَّ ورجل مُعجَبٌ مزهُوّ بما يكون منة حسناً أو قبيحاً.

_ (1) أمراض القلوب وشفاؤها. أحمد بن تيمية. (661 ـ 728) . المطبعة السلفية. القاهرة. ط2. 1399هـ.: ص 568. (2) التحرير والتنوير: 2 /66. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83. (4) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 123.

وقيل: العُجب فضلةٌ من الحمق صَرَفَتهَا إلى العُجب ((1)) ، وقيل لمن يروقه نفسه فلان مُعجبٌ بنفسه ((2)) . وهو من أمراض القلوب المهلكة أعاذنا الله منها. وأيضاً هو " نظر الإنسان إلى ما حباه الله به من كمال نظر استعظام وتفخيم وفرحة به باعتباره أثراً من آثاره ونتيجة من نتائج ما بذل من مجهود في تحصيله، ولا يخطر على باله أنه يزول عنه يوماً من الأيام " ((3)) . وهذا ما يتضح من قول فرعون إلى قومه: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} ((4)) ، فقد وهم فرعون بوحدانيته بملكه وقصوره وعبيده، فظن أن هذه النعم هي ملكه وحده، وهو أحق بها ن فقد أضاف إلى نفسه ملك مصر وأنهارها، وظن أنها لن تبيد، فأداه عُجبُه بنفسه ومُلكه أن أدعى الربوبية لنفسه. ولكن شاءت إرادة الله تعالى وسنته في خلقه بهلاك المتكبرين من الأمم والأفراد أن ينزع عنهم النعمة التي لم يشكروها، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيم * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} ((5)) . إن العاقل هو الذي إذا ما انعم الله عليه أن يبادر بشكرها، والمجنون هو من إذا ما حباه الله بنعمة تخيل إنها جاءته بجهده وعقله وذكائه، فالنعم كلها لا يمكن أن تكون إلا من بعد أن يهبها الله لمن شاء من عباده كما يقول عز وجل: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه} ((6)) . 3. التفرقة العنصرية: ويتبين ذلك من خلال:

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (عجب) 1 /582. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 334. (3) أمراض القلوب: ص 598. (4) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51. (5) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآيات 57 –59. (6) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 52.

أ. قوله تعالى: {وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعًا} ، أي: " فرقاً. قال قتادة: فرّق بين بني إسرائيل والقبط، والمعنى يكرم قوماً ويذل آخرين بالاستبعاد والأعمال الشاقة. وقيل: جعل إسرائيل أصنافاً في الخدمة والتسخير " ((1)) ، فهذه التفرقة العنصرية كانت سبباً أيضاً في هلاك دولته فجعل هناك تمايز طبقي بين الأقباط وبين بني إسرائيل، فكان يرى ويرى الأقباط معه أن مصر هي ملك لهم، وما وجود بني إسرائيل إلا لخدمتهم في هذه الحياة، فجعل من مملكته فرقاً مختلفة، وجعل منهم شيعاً مقربين منه، والقسم الآخر ناصبهم العداء، وجعل بين الطائفتين العداوة والبغضاء ليسهل له السيطرة عليهم جميعاً. ب. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} ، يعني بني إسرائيل بالاستبعاد والأعمال القذرة، فجعل من هذه الطائفة محقّرة مهتضمة الحقوق لا مساواة بينها وبين الأقباط مع أنهما يسكنان في أرض واحدة وتحت سماء واحدة. والسبب في ذلك لأنه يرى أنهم غرباء عنه في النسب والدين، لأنهم كانوا يعتقدون بعقيدة تختلف عن عقيدته هو وقومه، فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ـ عَلَيْهما السَّلام ـ، فهم يعتقدون بإله واحد هو الله، وينكرون ألوهية فرعون، وكذلك أحسَّ فرعون أن هناك خطراً على عرشه من وجود هذه الطائفة في مصر، ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها، فهم جماعة كبيرة قد يتحالفون مع أعدائه من دول الجوار الذين كانت تقوم بينهم وبين فرعون حروباً. فاحتقرهم ولم يجعل لهم دوراً في الحياة السياسية والإدارية في مصر، فجعل منهم خدماً، وفرض عليهم الضرائب الباهظة، وكلفهم بالأعمال الشاقة. 4. التصفية الجسدية: {يُذَبِّحُ أبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ انَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}

_ (1) مجمع البيان: 7/ 239.

يُذَبِّحُ على التكثير، أي: يَذبح بعضهم إثر بعض ((1)) ، وذكر الرازي ((2)) في سبب ذبح الأبناء وجوه: أحدهما ـ إن كاهناً قال له: يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا يذهب بملكه على يده، فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً فقتلهم. قال وهب: قتل القبط في طلب موسى (- عليه السلام -) تسعين ألفاً من بني إسرائيل. قال بعضهم: " العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل " ((3)) . ثانياً ـ وهو قول السدي: إن فرعون رأى في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس، واشتملت على مصر، فأحرقت القبط دون بني إسرائيل، فسأل عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يده هلاك مصر، فأمر بقتل الذكور. ثالثاً ـ إن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى (- عليه السلام -) بشروا بمجيئه وفرعون كان قد سمع ذلك، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل، وهذا الذي يرجحه الرازي ((4)) . ومن صور التصفية الجسدية ما توعده للسحرة الذين آمنوا برب موسى (- عليه السلام -) {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأَقَطِّعَنَّ أيْدِيَكُمْ وَأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أجْمَعِينَ} ((5)) ، وهذا أبشع أنواع الظلم ألا وهو مصادرة الحرية الدينية والاعتقادية والفكرية، ففرعون قام بذلك لأنه أحس بالخطر على ملكه من إيمان أقرب الناس إليه وهم سحرته. ثالثاً ـ الحالة الدينية:

_ (1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 180. (2) مفاتيح الغيب: 24/ 225. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4964. (4) ينظر مفاتيح الغيب: 24 /225. (5) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآيتان 123 –124.

خلال الفترة ما بين وفاة سيدنا يوسف (- عليه السلام -) إلى الفترة التي بُعث فيها سيدنا موسى (- عليه السلام -) يبدو أن المصريين لم يستقروا على عبادة إله واحد، فكان الناس غالباً على دين ملوكهم إلا القلة القليلة من أحفاد نبي الله يعقوب (- عليه السلام -) ومن آمن معهم كانوا موحدين " مع أن كثيراً منهم فسدت أخلاقهم وسقطوا على الدنيا وتركوا دعوة الناس إلى الله " ((1)) ، فكانوا يعبدون الأصنام ((2)) ، ويعبدون الشمس فلقد " أخذت عبادة الشمس تنتشر منذ عصر الدولة القديمة، ولعّل السبب في ذلك أن ملوك الآسرة الخامسة الذين حكموا مصر من عام (2560) إلى (2420) قبل الميلاد كانوا ينتمون إلى هذا الإله، فأصبح هذا المعبود أكثر المعبودات تقديساً عندهم، فقد أخذ الناس على مدى الألف سنة التالية يضيفون في كلّ مكان اسم (رع) الشمس على أسماء الآلهة القديمة، وقد أرادوا بذلك أن يضيفوا إلى الآلهة الأخرى نصيباً من القوة التي تتمتع بها إله الشمس " ((3)) . وحينما جاء إخناتون دعا إلى عبادة إله واحد خالق كل شيء (الشمس) ، وقد تصور المصريون إله الشمس على صورة آدمي، أو على هيئة صقر، ونستطيع أن نستشف صورة الوضع الديني من خلال الآيات القرآنية التي تحدثت عن فرعون وقومه، وتتميز هذه الفترة بما يأتي:

_ (1) قصص النبيين: ص 140. (2) المختصر في أخبار البشر: 1 /56. (3) ديانة مصر القديمة. أدولف إرمان. ترجمة: د. عبد المنعم أبو بكر. ورفيقه. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. (د. ت) .: ص 19 –21. والعرب واليهود في التاريخ. د. أحمد سوسة. الطبعة السادسة. دمشق. 1987 م.: ص 389.

تنقسم عبادة المجتمع في فترة حكم فرعون موسى إلى قسمين: الفئة القليلة كانوا يعبدون الله، وهم من بقي على دينه من أحفاد نبي الله يعقوب (- عليه السلام -) ، فكانوا يلاقون ألواناً من العذاب والتصفية الجسدية لرفضهم عبادة غير الله، والقسم الأكبر كانوا يعبدون فرعون. لقد وصل الكبر والطغيان والجبروت بفرعون أن ادّعى الألوهية، وأجبر رعيته وسكان مصر على ذلك " فجعل من نفسه إلهاً وأنه ابن الشمس " ((1)) . فقال فرعون في خطابه لسيدنا موسى (- عليه السلام -) : {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلها غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين} ((2)) . وقال تعالى أيضاً على لسان فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا ايُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي} ((3)) . وكلّ هذِهِ الآيات نؤكد بما لا يقبل الشك أن فرعون ادّعى الألوهية. وقد قص القران الكريم أنه ادّعى الإيمان لحظة موته: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} ((4)) . وهناك تأويلات لألوهية فرعون وعبادته هو، نورد بعضها: قال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام فكان يعْبدُ ويُعْبدَ. وقال سليمان التيمي: بلغني أن فرعون كان يعبد البقر. وقيلَ معنى: {وَآلِهَتِكَ} ، أي: وطاعتك كما قيل في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرْبَابا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ((5)) ، فإنهم ما عبدوهم، ولكن أطاعوهم فصار تمثيلاً. على قراءة انس بن مالك: (ونذرُك) بالرفع والنون، أي: نذر عبادتك إن تركت موسى حياً.

_ (1) التحرير والتنوير: 20 / 66. (2) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 30. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38. (4) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 90. (5) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 31.

المطلب الثاني: نصرة المستضعفين

قرأ علي بن أبي طالب (- رضي الله عنه -) ، وابن عباس، والضحاك: (وإلآهتك) ، معناه: وعبادتك. فعلى هذه القراءة كان يعَبُد ويُعبَد. قال أبو بكر الأنباري: فمن مذهب أصحاب هذه القراءة أن فرعون لما قال: {أنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} ((1)) ، و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي} ((2)) . نفى أن يكون له رب وإله، فقيل له: {وَيَذَرَكَ وَالِهَتَك} ((3)) بمعنى ويتركك وعبادة الناس لك ((4)) . وهناك رأي ينسب لابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ على قراءة من قرأ: (ويذرك والهتك) بمعنى ويدعك والشمس، لأن العب تسمي الشمس آلهة، وهي إن فرعون قد كان يعبد الشمس ((5)) . والذي يراه الباحث أن فرعون كان لا يعبد إي إله، بل كان يدعو الناس إلى عبادته على عادة فراعنة مصر في زمنه. المطلب الثاني: نصرة المستضعَفين {وَنُرِيدُ انْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الارْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((6)) . المناسبة

_ (1) سُوْرَة النَّازِعَاتِ: الآية 24. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38. (3) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 128. (4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3 /2698. (5) الروايات التفسيرية عن عَبْد الله بْن عَبَّاس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ. د. حسن عبد المجيد. الطبعة الأولى. الدار السعودية. جدة. 1412 هـ: ص 198. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5 - 6.

أخبر جل وعلا فيما سبق من الآيات عن فعل فرعون الشنيع بقتل الأولاد واستحياء النساء، واستضعاف بني إسرائيل وتفرقهم شيعاً لغرض المحافظة على دوام ملكه كما يعتقد، لأن كهنته وعلماءه أخبروه بأنه سيولد مولود من بني إسرائيل يكون زوال الملك على يديه. ثُمَّ عطفه على هذه الأفعال الشنيعة لفرعون. فمنّ الله على عباده المستضعفين بأن يخلصهم من فرعون ويورثهم ملكهم. وقال البقاعي: " عطف عليه قوله يحكي تلك لحالة الماضية {وَنُرِيدُ} ، أو هي حالية، أي: يستضعفهم، والحال أنا نريد في المستقبل أن نقويهم، أي: يريد دوام استضعافهم حال إرادتنا ضده من أنا نقطع ذلك بإرادة {أَنْ نَمُنَّ} ، فكانت إرادة الله فوق إرادة فرعون وملأه وتبقى إرادة الله فوق إرادة الظلمة والمتجبرين {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ((1)) " ((2)) . تحليل الألفاظ {نَمُنَّ} : من المِنَّةُ " النعمة الثقيلة، ويقال ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: مَنَّ فلان على فلان، إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ((3)) ، وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى.

_ (1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 54. (2) نظم الدرر: 5/ 464. (3) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 164.

ثانيهما: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: المِنّةُ تَهدِمُ الضَّيِعةَ، ولحُسنِ ذكرها عند الكفران قيل: إذا كُفِرتِ النّعمَةُ حَسُنَتِ المِنَّةُ. قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ اسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ} ((1)) ، فالمنة منهم بالقول، ومِنَّةُ الله عليهم بالفعل وهو هدايتهُ إياهم " ((2)) . {نُمَكِّنَ} : المَكنُ والمَكِنُ: بيض الضَّبَّةِ والجرادة، والمُكنةُ: التمكن، تقول العرب: إن بني فلان لذوو مَكِنةٍ من السلطان، أي: تمكُّنٍ. قال الجوهري: يقال: الناس على مكانتِهم، أي: على استقامتهم. وقال: لا يصح أن يقال في المكنة: إنه المكان الأعلى التَّوسُّعِ، لأن المُكْنة إنما هي بمعنى التَمكُّنِ مثل الطَّلِبَة بمعنى التَّطَلُّب، يقال: إن فلانا لذو مكنِةٍ من السلطان فسمي موضع الطير مَكنِةً لتمكُّنه فيه " ((3)) . وقال الآلوسي: " أصل التمكن أن يجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه، ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر وشاع في ذلك " ((4)) . {يَحْذَرُونَ} " الحِذرُ والحَذَرُ: الخيفة، حَذرَهُ يَحْذَرُهُ حَذَراً " ((5)) . القراءات القرآنية 1. {أَئِمَّةً} : قرأت بعدة أوجه: بتسهيل الهمزة مع القصر، قرأ به (ابن كثير، وأبو عمر، ونافع، والأزرق، ورويس، والأصفهاني، وقالون) .

_ (1) سُوْرَة الْحِجْرِ: الآية 17. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 494. (3) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية. إسماعيل بن حماد الجوهري. ت 393 هـ. تحقيق: أحمد عَبْد الغفور عطا. دار العلم للملايين. بيروت. لبنان. ط2. 1404 هـ – 1984 م.: مادة (مكن) . لِسَان العَرَب: مَادة (مكن) 13 /412. (4) روح المعاني: 2/ 44. (5) لِسَان العَرَب: مَادة (حذر) 4 /174.

بالتسهيل مع المد (الأصفهاني، وأبو جعفر) . بالتحقيق والفصل بألف (هشام) ((1)) . 2. {وُنَمِكّنَ} : وقرأ الأعمش (ولِنُمكِّنَ) بزيادة لام كي، أي: وأردنا ((2)) . 3. {وَنُرىَ فرِعَونَ} : اختلفوا في النون والياء ورفع الأسماء ونصبها. فقرأ حمزة، والكسائي، وخلف بالياء وفتحها وإمالة الراء بعدها ورفع الأسماء الثلاثة.

_ (1) معجم القراءات القرآنية: 5/ 6. (2) البَحْر المُحِيْط: 7/105.

وقرأ بالنون عامة قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيون: (وَنرُيَ فرعونَ وهامان) ونصب الأسماء بعده، وحجة من قرأ (نرُي) أن ما قبله للمتكلم فينفي أن يكون ما بعده أيضاً كذلك ليكون الكلام على وجه واحد، لأن فرعون يُرى ذلك ((1)) . وحجة من قرأ: (يَرَى) أن فرعون وحزبه يرون ذلك ويُعلُم أنهم يرونه إذا رأوه ((2)) ، وذكر الطبري أن معنى من قرأ على هذه القراءة أن الفعل لفرعون بمعنى ويعاين فرعون بالياء من يرى، ورُفع فرعون وهامان والجنود ((3)) . ونحن لا يمكن أن نوازن بين القراءات، لأن القراءة سنة متبعة تعرض كما هي، وإنما عرضنا لاختلاف القراء ـ رحمهم الله برحمته ـ في ذلك على ما أوردته كتب القراءات والتفاسير. القضايا البلاغية 1. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْض} .

_ (1) ينظر النشر في القراءات العشر. أبو الخير مُحَمَّد بن مُحَمَّد الدمشقي. الشهير ابن الجزري. ت 333 هـ. ط2. صححه وراجعه عَلِيّ مُحَمَّد الضباع. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1978 م.:2/ 341. المحرر الوجيز: 12/ 143. الإقناع في القراءات السبع. أبو جعفر أحمد بن عَلِيّ بن خلف الأنصاري المعروف بابن الباذش. ت 540هـ. ط1. تحقيق: أحمد فريد المربدي. قَدَّمَ لَهُ وقَرَّظَهُ: فتحي عَبْد الرَّحْمَن حجازي. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1419 هـ – 1999 م.: 2 /723. (2) الحجة في علل القراءات السبع. أبو عَلِيّ الحَسَن بن أحمد الغفاري الفارسي. ت 377 هـ. تحقيق: د. عَلِيّ النجدي ناصف. د. عَبْد الحليم النجار. د. عَبْد الفتاح شلبي. مراجعة: مُحَمَّد عَلِيّ النجار. ط1. دار المأمون. دمشق. 1992 م.: 5/ 412. (3) جامع البيان: 10 /29.

قال الرازي: " فإن قيل: كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المنّ عليهم، وإذا أراد الله شيئا لم يتوقف إلى وقت آخر؟ قلنا: لما كان مِنّة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنه لاستضعافهم " ((1)) . وهذه من القضايا البلاغية المهمة في هذا النص القرآني لكونها تدلّ على أن المنة فضل بعد الاستضعاف. وذكر البقاعي أيضاً: " والآية من الاحتباك ((2)) ، ذكر الاستضعاف أولاً دليلاً على القوة ثانياً، وإرادة الحذر ثانياً دليلاً على إرادة المحبوب أولاً، وسر ذلك أنه ذكر المُسلي والمرجي ترغيباً في الصبر وانتظام الفرج " ((3)) . 2. {وَنُمَكِّنَ} : " أصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه، ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر " ((4)) . المعنى العام 1. {وَنُرِيدُ انْ نَمُنّ َ} : قال البيضاوي: " إن يتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه (ونريد) حكاية حال معطوفة على أن فرعون علا من حيث أنهما واقعان تفسيراً للنبأ، أو حال من يستضعف " ((5)) . 2. {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} : في معناها قولان ذكرهما الماوردي أحدهما: " بنو إسرائيل قاله يحيى بن سلام.

_ (1) مفاتيح الغيب: 22/ 226. (2) الاحتباك: هو أن يجتمع في الكلام متقابلان، ويحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر ينظر التعريفات (الجرجاني) : ص25. (3) نظم الدرر: 5 /465. (4) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /209. (5) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /209.

والثاني يوسف وولده قاله علي (- رضي الله عنه -) " ((1)) . والذي أرجحه أن المراد بالذي استضعفوا هم بنو إسرائيل، وذلك لأن السورة سبقت في ذكر قصة سيدنا موسى مع فرعون، وفرعون إنما يستضعف بني إسرائيل. 3. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} : قال الطبري: " ولاة الأمر " ((2)) . وقال الرازي: " أي متقدمين في الدنيا والدين. وعن مجاهد دعاة إلى الخير " ((3)) . 4. {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} : أي: " لملك فرعون يرثون ملكه ويسكنون مساكن القبط، وهذا معنى قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي اسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} ((4)) " ((5)) . 5. {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} : أي: " نوطد لهم أرض مصر والشام ونجعلها لهم سكناً " ((6)) ، وهو الوعد القديم لهم قبل تبديلهم دينهم الذي أنزله الله تعالى. 6. {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} :

_ (1) النُكَت والعُيُوْن (المُسَمَّى: تَفْسِير المَاوَرْدِي) . أبو الحَسَن عَلِيّ بن حَبِيْب البصري، ت 450 هـ. ط2. علق عليه: السيد بن عَبْد المقصود بن عَبْد الرحيم. مؤسسة الكتب الثقافية. بيروت. دار الكتب العلمية. بيروت. 1992 م.: 3 /216.وينظر تفسير القُرْآن العَظِيْم مُسْنَدا عَنْ رَسُوْل الله – صلى الله عليه وسلم – والصَّحَابَة والتَّابِعِيْن. الإِمَام الحَافِظ عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن إِدْرِيْس الرَّازِي ابن أَبِي حَاتِم ت (327) هـ. تحقيق أسعد مُحَمَّد الطيب. مَكْتَبَة نزار مصطفى الباز. مكة المكرمة. الطبعة الأول. عام 1997 م.: 9/ 2941. (2) جامع البيان: 10/28. (3) مفاتيح الغيب: 24 /226. (4) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 137. (5) مفاتيح الغيب: 24 /226. (6) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /423.

قال البيضاوي: " من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم " ((1)) . وقال الشهاب في حاشيته: " لما يحذرون ولا شبهة في أنه المحذور عندهم، وهو الذي خافوا منه بعد إخبار الكهان حتى حملهم على القتل، وأما كون ذلك مرئياً، فإن كانت الرؤية بمعنى المعرفة، وهم قد عرفوا ذلك لما شاهدوه من ظهورهم عليهم وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم فظاهر. وإن كانت بصرية، وهو المناسب للبلاغة، فالرؤية لمقدماته جعلت رؤية له مبالغة، وهذا مستفسر منهم حتى يقال: رأى موته بعينه، وشاهد هلاكه، أو المراد رؤيته وقت الهلاك فلا يرد أنهم لم يروا ما ذكر وإنما الرائي له بنو إسرائيل " ((2)) . وقال المراغي: " أي ونري أولئك الأقوياء والأعداء والأدلاء على أيدي بني إسرائيل من المذلة والهون، وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم، ولكن لا ينجي حذر من قدر، فنفذ حكم الله الذي جرى به العلم عن القدم على يد هذا الغلام " ((3)) . 7. {وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} :

_ (1) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /209. (2) حَاشِيَة الشِّهَاب الخفاجي على تَفْسِير البيضاوي المسماة عناية القاضي وكفاية الراضي. شهاب الدِّيْن أحمد بن مُحَمَّد بن عمر الخفاجي. ت 1069 هـ. تحقيق: عبد الرزاق المهدي. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1997 م: 7 /64. (3) تفسير المراغي: 20 /34.

في الحقيقة لم اعثر على الاسم الكامل لهامان، فقد اكتفى المؤرخون كالطبري، وابن الأثير، وابن قتيبة، وكذلك المفسرون بالقول إنه وزير فرعون فقط. وقد رجح ابن عاشور: " أن هامان ليس باسم علم ولكنه لقب مثل فرعون وكسرى وقيصر ونجاشي، فالظاهر أن هامان لقب وزير الملك في مصر في ذلك العصر، وقد جاء في كتاب استير من كتب اليهود الملحقة بالتوراة المحرفة تسمية وزير احشويردش ملك الفرس (هامان) ، فظنوه علماً، فزعموا أنه لم يكن لفرعون وزير اسمه هامان، واتخذوا هذا الظن مطعناً في هذه الآيات. والرد على ذلك أن الأعلام لا تنحصر، وكذلك ألقاب الولايات قد تشترك بالاسم وخاصة المتجاورة، فيجوز أن يكون هامان علماً من الأمان، فإن الأعلام تتكرر في الأمم والعصور، ويجوز أن يكون لقب خطه في مصر، فنقل اليهود هذا اللقب إلى بلاد فارس في مدة أسرهم " ((1)) . أما أنا فاذهب إلى أنه اسم للرجل لأن النص القرآني إذا أخبر باسم رجل فهو على حقيقته. ما يستفاد من النصّ عبرت الآيات بكلمات معدودة عن الحالة المأساوية التي عاشتها مصر في ظل حكم الفراعنة مما تعجز أن تصفها مجلدات، فيمكن أن نستنبط منها المعاني الآتية: أولاً: حاجة البشرية إلى هدي النبوة.

_ (1) ينظر التحرير والتنوير: 20 /72. وينظر الحياة ترجمة تفسيرية. جمع ج. س. سنتر. الطبعة الأولى. مصر الجديدة. القاهرة. (د. ت) .: ص 647.

فقد خلق الله تعالى هذا الكون وفق نظام دقيق متوازن، وجعل الحاجة الفطرية من مخلوقات الله تعالى، ومن ذلك فطرة الله تعالى للإنسان، فإن الله خلق البشر وخلق فيهم حاجتهم إلى الدين، فالإنسان بفطرته بحاجة إلى الدين. قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ((1)) ، والإنسان مفتقر إلى منهج ينظم حياته إذ إنه قاصر عن بلوغ هذه الغاية لتسلط الأهواء عليه، فإن النفس الإنسانية مائلة إلى الكسب وأخذ ما ليس لها، فلا بد للبشر في كل العصور إلى رسل الله لربط تصرفات الإنسان بخالقه وبأخيه الإنسان، ولمعرفة ثواب المطيع وعقاب العاصي، وأهداف أخرى كثيرة سنذكر منها فقط ما يخص حاجة أهل مصر إلى هدي النبوة في ضوء هذه الآيات من سورة القصص. 1-الدعوة إلى عبادة الله وحده: لو عدنا إلى الآيات السابقة من سورة القصص: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ ابْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ انَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ((2)) . فبعد هذا العرض القرآني الذي يبين فيه حاجة أهل مصر إلى هدي النبوة لإنقاذ المستضعفين وإحقاق الحق وإرجاع الناس من عبادة فرعون إلى عبادة الله تعالى الواحد الأحد. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأَنْسَ الاَّ لِيَعْبُدُونِ} ((3)) ، ويتحقق معنى العبودية لله بتحقيق معنى التوحيد، أي: إخلاص العبودية لله وحده لا شريك له، والخضوع له خضوعاً تاماً، والاستسلام له في جميع شؤون الحياة.

_ (1) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآية 30. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (3) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 56.

ومن معاني التوحيد هو الاستقامة في الأرض ضمن المنهج الذي يريده الله جل وعلا، وكل هذه المعاني لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها بدون بعثة الرسل، فقد امتحنت البشرية مرات عديدة حينما بعد بها العهد من الله تعالى ورسالاته فعبدت غير الله. 2. الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر: إن الإيمان باليوم الآخر من أساسيات كل الأديان السماوية، وجاءت جميعاً لتقيم الأدلة على إثبات اليوم الآخر، وأن هناك ثواب للطائعين وعقاب للعاصين، فجاءت رسالة موسى (- عليه السلام -) لتدعو إلى الإيمان باليوم الآخر، فقد كان فرعون وقومه لا يؤمنون باليوم الآخر {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا انَّهُمْ الَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} ((1)) ، فجاء أمر الله إلى سيدنا موسى وهارون لتحذير فرعون وملئه من اليوم الآخر. {إنَّا قَدْ أوحِيَ إلَيْنَا أنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأَولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ((2)) . 3. إصلاح النظام الأخلاقي والاجتماعي:

_ (1) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 39. (2) سُوْرَة (طَه) : الآيات 48 –53.

إن إصلاح النظام الأخلاقي والاجتماعي هو قاسم مشترك بين كل الديانات، ورسالة الله للبشر في كل العصور، ولأن الإنسان مخلوق كرّمه الله وسخّر له كل ما في الكون من أرض وسماء لخدمته، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ((1)) ، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مِنْهُ} ((2)) . فلذلك أنكر الله جل وعلا على قوم فرعون، لأنهم فقدوا شخصيتهم وأصبحوا أذنابا لفرعون، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطَاعُوهُ} ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 70. (2) سُوْرَة الجَاثِيَةِ: الآية 13. (3) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51.

فالناس سواسية عند الله تعالى، لا فرق بين ملك ومملوك إلا بالتقوى {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقَاكُم} ((1)) ، هذه سنة الله في خلقه، ولكن فرعون أراد أن يغير هذه السنة، فجعل أهل مصر شيعاً وطبقات متفاوتة، فمن أطاعه بما يريد حظي بالعيش الرغيد، والمكانة المرموقة، ومن يخالفه ـ كما حصل لبني إسرائيل ممن بقي على التوحيد ـ جعلهم خدماً للأقباط يذيقونهم ألوان العذاب، وحفظ الله للإنسان في هذه الدنيا حق الحياة للذكور والإناث، ومن سنة الله في الأرض إنّه حرّم الظلم بكلّ أنواعه، فالإنسان بطبيعة خلقه فيه غرائز وشهوات وميول ونزوات تدفعه إلى تحصيل ما يريد بأي السبل، وهنا تتجلى حاجة البشر إلى هدي النبوة فالشرع هو الذي يضبط هذه الشهوات والغرائز من أن تتعدى حدودها بالعقوبات الدنيوية والأخروية، وقد جاءت آيات كثيرة تتحدث عن الظلم في عهد فرعون، فقد وصف بالطاغية {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} ((2)) وحيثما قلبت صفحات التاريخ في تلك الفترة، فلن تعثر إلا على الفساد والضياع وفي كل مجالات الحياة، فإن المجتمع الذي بعث فيه سيدنا موسى (- عليه السلام -) عالم بأمس الحاجة إلى منقذ، فأرسله الله بحكمته ورحمته وعدالته لينقذ الناس من ظلام الكفر إلى نور الإيمان الساطع الوضاء، ومن قسوة الظلم إلى حلاوة العدالة. ثانياً. دلت الآيات كذلك على أسباب هلاك دولة فرعون وسقوط حضارته فبعد أن ذكر الله جل وعلا أسباباً خمسة للهلاك: إنه علا في الأرض. جعل أهلها شيعاً. يذّبح أبناءهم. ويستحي نساءهم. إنه كان من المفسدين. قابلها بخمسة: وَنُرِيدُ انْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} . وَنَجْعَلهُمْ أئِمَّةً} . وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} .

_ (1) سُوْرَة الْحُجُرَات: الآية 13. (2) سُوْرَة (طَه) : الآية 24.

المبحث الثاني: الاستعلاء والطغيان بالثروة والمال

وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} . فهذه الخمسة مقابل تلك الخمسة يثبت صدق الوعد الإلهي ويثبت عاقبة الطغاة. ثالثا: دلت الآيات كذلك على إحدى المبشرات بانتصار الإسلام والمسلمين على أعدائهم بعد الأخذ بأسباب النصر، فكل أسباب الهلاك متوفرة في أعدائهم، وكل أسباب النصر متوافرة في المؤمنين بدلالات النصّ. المبحث الثاني: الاستعلاء والطغيان بالثروة والمال المطلب الأول: قارون وكنوزه {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((1)) . المناسبة

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.

لما دل قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ امَّةٍ شَهِيدا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا انَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((1)) " على عجزهم في تلك الدار وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار إنما هو الواحد القهار، دلّ على أن ذلك له أيضاً في هذه الدار وقوع العلم به بالهلاك أولى البطر والمرح والأثر من غير أن يغنوا عمن أضلوا أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق، وما أضلهم من صامت تطبيقاً لعموم {وَكَمْ اهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((2)) على بعض الجزئيات تخويفاً لمن كذب النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، ولاسيما من نسبة إلى السحر، وإعلاماً بأن الأنبياء ـ عَلَيْهم الصَلاة والسَّلام ـ يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء لأنه سبحانه وتعالى عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحدهم من بني إسرائيل ومن أقرب من بني إسرائيل إلى موسى (- عليه السلام -) " ((3)) . فبعد أن بينت الآيات السابقات تخلي الشركاء يوم القيامة عن الاستجابة لمن اتخذوهم شركاء، وضل عنهم ما كانوا يفترون، يبين الله جَلَّ وَعَلا في هذه الآيات تخلى المال عن صاحبه المغتر به، وانتفاء الانتفاع به، وانعدام الفائدة له في إنقاذه من عقاب الله تعَاَلىَ ليستكمل المعنى أنه لا ناصر إلا الله، ولا معز إلا الله، فنلاحظ الترابط بين الآيات والتلازم بين المعاني. تحليل الألفاظ 1. {فَبَغَى} :

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58. (3) نظم الدرر: 5 /516.

البَغْيُ: التَّعَدَّي، وبَغَى الرجلُ علينا بَغْياً: عدل عن الحق واستطال. وقال الفراء: البَغْي استطالة على الناس. وقال الأزهري: معناه الكبر والَغَي الظُّلم والفساد. والبَغْيُ معظم الأمر، وقال: معنى البَغْي قصد الفساد، ويقال: فلان يَبْغي على الناس إذا ظلمهم وطلب آذاهم، وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء بَغْيٌ ((1)) ، بمعنى أن البغي يتلوه سوء العاقبة والخاتمة، والعياذ بالله سبحانه وتعالى. 2. {الْكُنُوزِ} : الكَنْزُ، قال الراغب الأصفهاني: " الكَنْزُ جَعْلُ المال بعضَهُ على بعض وحفظُه، وأصْلُه من كنزتُ التّمْرَ في الوِعاءِ " ((2)) . " وقيل: الكنز المال المدفون، وجمعه كُنُوزٌ، كَنَزَهُ يَكْنزُه كَنْزاً واكْتَنَزَهُ، وتسمي العرب كلّ كثيرٍ مجموع يتنافس فيه كنزاً " ((3)) . 3. {لَتَنُوءُ} : " النّأنَأةُ: العَجْزُ والضَّعْفُ، وروى عِكْرمِةُ عن أبي بكر الصديق (- رضي الله عنه -) أنه قال: طُوبَى لِمَنْ مات في النَّانَاةَِ، مهموزة يعني أول الإسلام قبل أن يَقْوَى ويكنُزَ أهله وناصريُه والدّاخِلونُ فيه، فهو عند الناس ضعيف. وتَنَأنَأ: ضَعُفَ واستَرخَى، ورجل نَأنأ ونَأناءُ بالمد والقص: عاجز جبان ضعيف، ونَأنَأتُ الرجل نَأنأةً، أي: حَمَلتُه على أن ضَّعُفَ عما أراد وتراخى " ((4)) . 4. {بِالْعُصْبَةِ} : " العُصبةُ والعِصابةُ جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين، وقال الأخفش: والعُصبة والعِصَابة جماعة ليس لها واحد، والتَّعَصُّبُ من العَصَبِيَّة أن يَدعُوَ الرجلَ إلى نُصرة عَصَبِته والتَالُّبِ معهم على من يناوئهم.

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (بغي) 17 /78. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 460. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (كنز) 5 /402. (4) لِسَان العَرَب: مادة (نأي) 1 /161 – 162.

واعصَوصَبُوا: استَجمعوا فإذا تَجَمَعَّوُا على فريق آخر قيل: تَعَصَبَّوُا واعصَوصَبُوا استَجمعوا " ((1)) . وقال الراغب: " والعُصبَةُ جماعةٌ مُتَعَصِّبَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ " ((2)) . 5. {الْفَرِحِينَ} : " الفرح نقيض الحزن. وقال ثعلب: إن يجد في قلبه خِفَّةً، فَرِحَ فَرَحاً، ورجل فَرِحٌ وفَرُحٌ ومفروح. وعن ابن جني: وفرحانُ من قوم فَراحَى وفرَحَى، وامرأةُ فَرِحةُ وفَرحَى، وامرأةٌ فَرِحةٌ وفَرحَى وفَرحانة " ((3)) . القراءات القرآنية 1. {عَلَيْهُمْ} : قرأها حمزه بضم الهاء وسكون الميم ((4)) . 2. {فَبَغَى} : وقرأ بالإمالة كل من حمزة، والكسائي، وخلف، وورش ((5)) . 3. {مَفَاتِحَه لتنوّاُ} : قرأ الأعمش: (مفاتيحه لتنوء) . وقرأ بديل بن ميسرة: (مفتاحه لينوء) . وروي أيضاً عن يديل بن ميسرة: (مفاتحه لينوء) ((6)) . 4. {الفَرِحيِنَ} : وقرأ (الفَارحين) حكاه عيسى بن سليمان ((7)) . 5. {وَاتَبعِ} : وقرأ واتَّبعْ ((8)) . القضايا البلاغية 1. القلب:

_ (1) المصدر نفسه: مَادة (عصب) 1 /605- 606. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 348. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (فرح) 2/ 541. (4) معجم القراءات القرآنية: 5 /31. (5) المصدر نفسه: 5/ 32. (6) الكَشَّاف: 3 /190. البَحْر المُحِيْط: 7/132. معجم القراءات القرآنية: 5/ 32. (7) البَحْر المُحِيْط: 7 /133. روح المعاني: 20 /112. معجم القراءات القرآنية: 5 /32. (8) الكَشَّاف: 3/191.

وذلك في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا انَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} الأصل هو: لتنوء العصبة بالمفاتح، أي: لتنهض بها بجهد. وقال أبو عبيد هو كقولهم: عرضت الناقة على الحوض، وأصله عرضت الحوض على الناقة. وقيل: يجوز أن لا يكون هناك قلب لأن المفاتح تنهض ملابسة للعصبة إذا نهضت العصبة بها، ورجح الآلوسي الرأي الأول فهو منقول عن الخليل، وسيبويه، والفراء، واختاره النحاس ((1)) . 2. المبالغة: وذلك في وصف كنوز قارون حيث ذكرها جمعاً الكنوز والمفاتح، والنوء والعصبة، وأولي القوة. وقال محي الدين درويش: " وهذه المبالغة في القرآن من أحسن المبالغات وأغربها عند الحذاق وهي أن يتقصى جميع ما يدل على الكثرة، وتعدد ما يتعلق بما يملكه " ((2)) . 3. بلاغة التعليل: وذلك في قوله: {إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ انَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . حسن تعليل جميل بجملة {انَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((3)) . المعنى العام 1. {انَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} : {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} فيه وجوه: أولاً ـ إنه بغى بسبب ماله، وبغيه إنه استخف بالفقراء ولم يرع لهم حق الإيمان ولا عظمهم مع كثرة أمواله. الثاني ـ إنه من الظلم، قيل: ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. الثالث ـ بغى عليهم، أي: طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده ((4)

_ (1) إعراب القرآن (النحاس) : 2/ 558. روح المعاني: 20/ 111. (2) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 380. (3) المصدر نفسه: 5/ 380. (4) نقل الطبري عن ابن جريج: هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب كان من قوم موسى يقول كان من عشيرة موسى بن عمران النبي وهو ابن عمه لأبيه وأمه. جامع البيان: 10 /99. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: " كان قارون ابن عم موسى أخي أبيه، وكان قطع البحر مع بني إسرائيل، وكان يسمى المنور من حسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري فأهلكه الله لبغيه. ينظر تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3005. ونقل الطبري عن ابن إسحاق: " إن يصهر بن قاهث تزوج سميت بنت بتاويت بن بركنا بن بقشان بن إبراهيم، فولدت له عمران بن يصهر وقارون بن يصهر، فنكح عمران بخنت بنت شمويل بن بركنا بن بقشان بن بركنا، فولدت له هارون بن عمران، وموسى بن عمران صفي الله ونبيه، فموسى على ما ذكر ابن إسحاق ابن أخي قارون، وقارون هو عمه أخو أبيه لأبيه ولأمه. وأكثر أهل العلم في ذلك على ما قاله ابن جريج. ينظر جامع البيان: 10/ 99. تاريخ الطَّبَري (تاريخ الرُّسُل والملوك) . أبو جعفر مُحَمَّد بن جَرْير الطَّبَري. ت 310 هـ. تحقيق: مُحَمَّد أَبِي الفَضْل إبراهيم. دار المعارف بمصر. ط2. 1967 ـ 1976 م: 1 /385. الكامل في التاريخ: 1 /115

) . الرابع ـ قال الضحاك: طغى عليهم واستطال، فلم يوفقهم في أمر. الخامس ـ قال ابن عباس: تجبر وتكبر عليهم وسخط عليهم. السادس ـ قال شهر بن حوشب: بغيه عليهم إنه زاد عليهم في الثياب شبراً، وهذا يعود إلى التكبر. السابع ـ أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس (- رضي الله عنه -) قال: " كان ابن عمه، وكان يبتغي العلم حتَّى جمع علماً، فلم يزل في أمره ذلك حتَّى أبقى على موسى (- عليه السلام -) وحده، وقال له موسى (- عليه السلام -) : إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فآبي، فقال: إن موسى (- عليه السلام -) يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، فتحملوه إن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل، فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها، فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى (- عليه السلام -) إنه فجر بك، قالت: نعم، فجاء قارون إلى موسى (- عليه السلام -) ، قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال: نعم، فجمعهم، فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني ربي أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تصلوا الرحم كذا وكذا، وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن بالرجم قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا، فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى (- عليه السلام -) ؟ فقال لها موسى (- عليه السلام -) : أشهدك بالله آلا ما صدقت؟ قالت: آما إذ أنشدتني بالله، فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله. فخر موسى (- عليه السلام -) ساجداً يبكي، فأوحى الله إليه: ما يبكيك! قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم، فأخذتهم

إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى! يا موسى! ، فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى! يا موسى! فقال: خذيهم فانطبقت عليهم، فأوحى الله: يا موسى سالك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم. قال ابن عباس: وذلك قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} ((1)) . 2. {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} : قال أبو السعود: " أي: الأموال المدخرة " ((2)) . ونقل الرازي رواية عن سعيد بن المسيب، والضحاك " بأن سيدنا موسى (- عليه السلام -) أنزل عليه علم الكيمياء من السماء، فعلّم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه، وكالب ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضه والنحاس يجعله ذهباً " ((3)) .

_ (1) ينظر الكِتَاب المصنف في الأحاديث والآثار. أبو بكر عَبْد الله بن مُحَمَّد بن أَبِي شيبة الكوفي. (159 ـ 235) . تحقيق: كمال يوسف الحوت. مَكْتَبَة الرشد. الرياض. ط1. 1409 هـ.: 6/ 334. تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3006. المستدرك على الصحيحين. الحاكم النيسابوري. مُحَمَّد بن عَبْد الله أبو عَبْد الله. ت 405 هـ. وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي. دار الكِتَاب العربي. بيروت. (د. ت.) : 2 /443 قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. جامع البيان: 20 /117. تاريخ الرُّسُل والملوك: 1 /264. مفاتيح الغيب: 13 /15. الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمَأَثُوْر. الإِمَام جلال الدِّيْن السيوطي. ت 911 هـ. ضبط النصّ والتصحيح وإسناد الآيات ووضع الحواشي والفهارس بإشراف دار الفكر. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت.) .: 6 /436. (2) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7/ 24. (3) مفاتيح الغيب: 13/ 17.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} ، قال: أصاب كنزاً من كنوز يوسف (- عليه السلام -) ((1)) . 3. {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} : قيل في معنى المفاتح وجوه: المفاتح ظاهرها أنها الذي يفتح بها، ويحتمل أن يريد أنها الخزائن والأوعية الكبار قاله الضحاك، لأن المفتح في كلام العرب الخزانة ((2)) . وأخرج ابن أبي حاتم عن خيثمة قال: " كانت مفاتح كنوز قارون من جلود، كلّ مفتاح مثل الإصبع، كلّ مفتاح على خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلاً أغراً محجلاً " ((3)) . إن مفاتح الكنوز: إحاطة علمه بها، حكاه ابن بحر ((4)) لقول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْب} ((5)) ، ونقل الرازي إن هناك من طعن بذلك من وجهين: أولاً: إن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ، ولو أنا قدرنا بلدةً مملوءة من الذهب والجواهر لكفاها أعداد قليلة من المفاتح، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتح. ثانياً: إن الكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض، فلا يجوز أن يكون لها مفاتح. وأجاب الرازي عن الأول: إن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقد؛ جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد. وأيضاً فهذا الذي يقال: إن تلك المفاتح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القران، فلا تقبل هذه الرواية، وتفسير القران إن تلك المفاتح كانت كثيرة، وكان كلّ واحد منها معيناً لشيء آخر، فكان يثقل على الصعبة ضبطها ومعرفتها بسبب كثرتها، وعلى هذا الوجه يزول الاستبعاد.

_ (1) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /3007. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6/437. (2) المحرر الوجيز: 12/ 186. (3) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3007. (4) النُّكَت والعُيون: 3/ 237. (5) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 59.

وعن الثاني: إن ظاهر الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا، فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها إغلاق ((1)) . 4. {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أي: نثقل وتميلهم ((2)) . (والعصبة) : قال الطبري: فإنها الجماعة، واختلف أهل التأويل في مبلغ عددها الذي أريد به في هذا الوضع: مبلغ عددها أربعون رجلا وعن قتادة: إن العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين. قال آخرون: ستون رجلاً. وعن ابن عباس: العصبة (ثلاثة) ، وقال أيضاً: العصبة ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: كانت تحمل على ما بين عشرة إلى خمسة عشر ((3)) . والذي أرجحه أن كل تلك عبارة عن روايات، ولا يعلم الحقيقي إلا الله عز وجل، لأنه مما لا ينضبط عدداً. 5. {أُولِي الْقُوَّةِ} : قال الطبري: أولي الشدة ((4)) . 6. {ِ إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} : أخرج ابن حاتم عن السدي في قوله تعالى: {إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} قال: هم المؤمنون منهم قالوا: يا قارون لا تفرح بما أوليت، فتبطر. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قوله: لأن الله لا يحب الفرحين المتمدحين الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أيضاً: إن الفرح هنا البغي. وعن السدي قوله: إن الله لا يحب الفرح بطراً ((5)) . ما يستفاد من النصّ

_ (1) مفاتيح الغيب: 13 /16. (2) زَاد المَسِيْر: 6/ 240. (3) جامع البيان: 10 /104. (4) المصدر نفسه: 10 /102. (5) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3009.

" عرضت السورة في بدايتها قوة السلطات والحكم، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم والكفران بالله والبعد عن هداه، والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر والاستكبار على الخلق، وجحود نعمة الخالق " ((1)) . وسنعرض فيما يأتي بعض المعاني والعبر التي يمكن استقصائها من قصة قارون: أولا: دلت آيات على أن قارون كان من قوم موسى (- عليه السلام -) ولم تمنعه قرابته من عذاب الله ومقته بعد أن بغى وبطر، واستكبر وابتعد عن منهج الله، ولم يسمع نصيحة الناصحين. فإن ما يمرّ به المسلمون اليوم من ضعف وتكالب الأعداء عليهم شبيه بقصة قارون، فكثير من الدول الإسلامية اليوم، وأغنياء المسلمين يملكون من الأموال الكثير، لكن هذه الأموال والموارد الكثيرة لم تستغل بالشكل الصحيح في طاعة الله، ووفق منهج الله وسنته في المال، وبينما يعيش قسم من دول المسلمين في حالة رفاهية مطبقة وترف كبير وبذخ في الملذات وفيما يغضب الله، هناك من المسلمين من يصارع الموت من الجوع والمرض بسبب الفقر، فلم تنفع المسلمين أموالهم في صد كيد الأعداء المتكالبين، فكثير من أثرياء المسلمين اليوم يستثمر أمواله في البنوك الغربية، ولا يستثمرها في البنوك الإسلامية المحتاجة.

_ (1) في ظلال القرآن: 6/ 312.

ثانيا: الغنى والفقر لا يعنيان رضا الله أو سخطه على عبدة، إن الله عز وجل يعطي المال للمؤمن والكافر. قال تعالى: {كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} ((1)) ، فالله جل وعلا رب العالمين، وقد وعد واخبر بأنه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ((2)) ، فكل ذي روح يدب على الأرض، فإن الله يرزقه ويهيأ له أسباب تلقى هذا الرزق سواء كان كافراً أو مؤمناً ((3)) . فلا يعني أبداً وجود المال عند شخص ما أن الله راضي عنه، ولا يعني أبداً أن تضيق الرزق على عبد ما أو فقره على سخط الله على هذا العبد. فلقد أعطى الله تعالى المال الكثير والكنوز لقارون، ولم يكن ذلك دليلاً على رضا الله عنه، لأن الله خسف به وبداره الأرض. وقال تعالى: {فَأمَّا الإَنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَاكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي اكْرَمَنِ * وَأمَّا إذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهَانَنِ} ((4)) ، فقد أنكر جل وعلا في هذه الآيات على الإنسان اعتقاده إن توسعة الرزق على الإنسان دليل على إكرام الله، أو اعتقاده أنَّ تضيق الرزق على الإنسان دليل على إهانة الله له ((5)) .

_ (1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 20. (2) سُوْرَة هُوْد: الآية 6. (3) ينظر السنن الإلهية. د. عبد الكريم زيدان. الشركة المتحدة للتوزيع. مؤسسة الرسالة. بيروت. (د. ت) .: ص 270. (4) سُوْرَة الفَجْرِ: الآيات 16 - 18. (5) ينظر المستفاد من قصص القرآن: 1/ 531- 533.

ثالثاً: ودلت الآيات كذلك على ذم الله للبطر والفرح بالدنيا وزهوتها، والاغترار بالمال إثر نصيحة قوم قارون له. قال الآلوسي: " والفرح بالدنيا لذاتها مذموم، لأنه نتيجة حبها والرضا بها، والذهول عن ذهابها، فإن العلم بان ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتماً، كما قال أبو الطيب: أشدُّ الضم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالاً ((1)) ولذلك قال تعالى: {لِكَيْلا تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ((2)) ، وعلل سبحانه النهي هاهنا بكون الفرح مانعاً من محبته عز وجل، فقال تعالى: {انَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ، فهو دليل على أن الفرح بالدنيا مذموم شرعاً. وإنما قلنا إن الفرح بها لذاتها مذموم، لأن الفرح بها لكونها وسيلة إلى أمر من أمور الآخرة غير مذموم. وليس المقصود هو النهي عن الفرح مطلقاً، فالفرح والحزن فطرة فطر الناس عليها، فالمؤمن يفرح بما يفرحه ويشكر الله على ذلك وإذا أصابه ما يحزنه يصبر. فالفرح المنهي عنه هو فرح البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، ولما في هذا الفرح من تفضيل الدنيا على الآخرة التي هي دار الخلود" ((3)) .

_ (1) ديوان المتنبي. أبو الطيب المتنبي. دار صادر. بيروت: ص 224. (2) سُوْرَة الحَدِيْد: الآية 23. (3) روح المعاني: 20 /112.

المطلب الثاني: تجبر قارون واستكباره

المطلب الثاني: تجبر قارون واستكباره {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَ الصَّابِرُونَ} ((1)) . المناسبة لما كان ترك الفرح في قوله تعالى: {انَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} سبباً للزهد، وهو سبب للقرب إلى الله، كأنه قيل: وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين ((2)) ، فقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} . ومن الواضح أن كفره سول له البقاء على ذلك والعياذ بالله تعالى، فخسف الله به وبداره الأرض جزاءً وفاقاً لكفره وتكبره على ما أخبرنا عز وجل في سورة القصص في الآيات التي نحللها هنا. تحليل الألفاظ 1. {وَابْتَغِ} : بَغَى الشيءَ ما كان خيرا أو شراً يَبغِيه بُغاءٍ وبُغىً: طَلَبَه، وبغى ضالّته وكذلك كل طَلبِة، بُغاءً بالضم والمد وبُغايةً. وقال اللحياني: بَغَى الرجلُ الخير والشر وكلّ ما يطلبه بُغاءً وبِغيَة وبِغّى مقصور والبُغْيَهُ: الحاجة. وقال الأصمعي: بَغَى الرجلُ حاجته أو ضالته يَبغْيها بُغاءً وبُغايةً إذا طلبها ((3)) . 2. {وَلاَ تَنسَ} :

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 77 -80. (2) نظم الدرر: 5/ 518. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (بغي) 14/ 75 -76.

والنسِيان بكسر النون ضدّ الذِّكر والحِفظ نَسِيِه نِسيْاً ونسيْاناً ونِسْوةً ونَساوة. والنسيان الترك يقال: أنسيته، أي: أمرت بتركه ونَسيِتهُ تَرَكْتهُ ((1)) . وقال ابن عاشور: " والنهي في {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ} مستعمل في الإباحة والنسيان كناية عن الترك " ((2)) . 3. {نَصِيبَكَ} : " الحظ والقسط وهو فيصل من النصب، لأن ما يعطى لا حد ينصب له ويميز " ((3)) . 4. {زِينَتِهِ} : الزَّيْنُ خلاف الشين، وجمعه أزيانٌ زانه زَيْناً وأزانه وأزْيَنَه على الأصل، وتَزَيَّن هو وازْدان بمعنىً، وهو افتعل من الزّينةِ، والَّزينة اسم جامع لكل شيء يُتَزَيَّن به والزَّينَةُ ما يتزين بهِ ((4)) . القراءات القرآنية 1. {وابَتغِ} : ذكر الزمخشري أن هناك من قرأ: (وإتبع) دون أن يذكر من قرأ بذلك ((5)) . 2. {ءاتَاكَ} : قرأ حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة ((6)) . 3. {عِندِي} : قال أبو ربيعة عن البُزي، وقنبل بالإسكان، وفتح نافع (عندِيَ) وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر ((7)) . القضايا البلاغية 1. التتميم: وذلك في قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . ففيه تتميم لابد منه، لأنه إذا لم يغتنمها ليعمل للآخرة لم يكن له نصيب فيها ((8)) . 2. تشبيه: في قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((9)) . 3. الاستعارة:

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (نسي) 15/ 321 –322. (2) التحرير والتنوير: 20 /179. (3) المصدر نفسه: 20 /179. (4) لِسَان العَرَب: مَادة (زين) 13/ 201. (5) ينظر الكَشَّاف: 3 /191. (6) ينظر معجم القراءات القرآنية: 5/ 32. (7) الإقناع في القراءات السبع: 2/ 724. (8) الجدول في إعراب القرآن: 20/ 294. (9) ينظر ص من هذه الأطروحة.

في قوله تعالى: {وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابِرُونَ} ،" التلقية جعل الشيء لاقياً، أي: مجتمعاً مع شيء آخر، وهو مستعمل في الإعطاء على طريقة الاستعارة، أي: لا يعطى تلك الخصلة أو السيرة إلا الصابرون " ((1)) . المعنى العام 1. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ} : أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل بها الثواب في الدنيا والآخرة. 2. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} : فقد اختلف المفسرون فيه، فقال ابن عباس، والجمهور: لا تضيع عمرك في إلا تعمل عملاً صالحاً في دنياك إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها، فالكلام على هذا التأويل شدّة في الموعظة. وقال ابن عطية: فالكلام كله على هذا التأويل شدة في الموعظة. وقال الحسن، وقتادة: معناه لا تضيع حظك من تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك ((2)) . 3. {وَأحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ} : فيه عدة تأويلات: أحدهما ـ أعط فضل مالك كلما زاد على قدر حاجتك، وهذا معنى قول ابن زيد. ثانيا ـ وأحسن فيما افترض الله عليك كما أحسن في إنعامه عليك. قاله يحيى بن سلام. ثالثا ـ أحسن في طلب الحلال كما أحسن إليك في الحلال ((3)) .

_ (1) التحرير والتنوير: 20/ 185. (2) ينظر المحرر الوجيز: 12/ 189. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 503. تفسير القرآن العظيم: 3/ 399. (3) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /238.

رابعا ـ وقال القرطبي: " أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك. ومنه حديث ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه)) ((1)) . وقيل هو أمر بصله المساكين. قال ابن عربي: فيه أقوال كثيرة: جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله ((2)) . 4. {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} : قال البقاعي: " لا ترد إرادة ما بتقتير ولا تبذير، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير، ثم اتبع ذلك علته لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب، فقيل: {إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ، أي: لا يعاملهم معاملة من يحبه، فلا يكرمهم " ((3)) . 5. {قَالَ إنَّمَا آوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} : يقول الله عز وجل في هذه الآية مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير فيه خمسة أقوال: أحدها ـ على علم عندي بصنعة الذهب رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: وهذا لا أصل له، لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له ((4)) . والثاني ـ يرضى الله عني. وقال ابن كثير: وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الحمن بن زيد بن أسلم فإنه قال في قوله: {قَالَ إنَّمَا آوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ، قال: لولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال. وقرأ: {أوَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأكْثَرُ جَمْعاً} . وقال: هكذا يقول من قلَّ علمه إذا رأى مَنْ وسّع الله عليه لولا أن يستحق ذلك لما أعطي ((5)) .

_ (1) صحيح البخاري: 4 / 1793، وهو جزء من حديث طويل عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه. (2) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5030. (3) نظم الدرر: 5/ 519. (4) ينظر زَاد المَسِيْر: 6/ 242. (5) ينظر تفسير القرآن العظيم: 3/ 401.

الثالث ـ على خبرِ عَلِمَهُ، قاله مقاتل. الرابع ـ إنما أعطيته لفضل علمي، قاله الفراء. قال الزجاج: ادعّى أنه أُعطي المال لعلمه بالتوراة. الخامس ـ على علم عندي بوجوه المكاسب، حكاه الماوردي ((1)) عن ابن عيسى. 6. {أوَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأكْثَرُ جَمْعاً} : قال المراغي: في معناها " أَنسي ولم يعلم حين زعم أنه أوتي الكنوز لفضل علم عنده، فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتي؟ إن الله قد أهلك من قبله من الأمم من هم أشد منه بطشاً وأكثر جمعاً للأموال؟ ولو كان الله يؤتى الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ورضاه عنه، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال الذين كانوا أكثر منه مالاً، لأن من يرضى عنه فمحال أن يهلكه وهو عنه راضٍ، وإنما يهلك من كان عليه ساخطاً، ألم يشاهد فرعون وهو في أبَّهة ملكه، وحقق أمره يوم هُلْكه، وفي هذا الأسلوب تعجيب ما من حاله، وتوبيخ له على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك " ((2)) . 7. {وَلا يُسْالُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} : " فأخرج أبي حاتم عن قتادة في معنى هذه الآية يقول: المشركون لا يسألون عن ذنوبهم، يعذبون ولا يحاسبون. وأخرج أبي حاتم عن الربيع بن أنس قوله: لا يسألون عن إحصائها، يقول: هاتوا فبينوها لنا ولكن أعطوها في كتب فلم يشكوا الظلم يومئذٍ، ولكن شكوا الإحصاء. وهذه الآية نظير قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُم} ((3)) أي: سود الوجوه زرقاً، الملائكة لا تسال عنهم قد عرفتهم، كما روي عن مجاهد ((4)) . 8. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} :

_ (1) ينظر النُّكَت والعُيون: 3/ 239. (2) تفسير المراغي: 20 /95. (3) سُوْرَة الرَّحْمَنِ: الآية 41. (4) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3013.

قال ابن عطية: " إن قارون خرج على قومه وقد أظهر قدرته من الملابس والمراكب وزينته الدنيا. قال جابر، ومجاهد خرج: في ثياب حمر. وقال ابن زيد: خرج هو وجملته في ثياب معصفرة. وقيل: في ثياب الأرجوان ((1)) . وقيل غير هذا. وأكثر المفسرين في تحديد زينة قارون وتعينها بما لا صحة له " ((2)) . 9. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} : أي: الذين معه تعلقت إرادتهم فيها، وصارت منتهى رغبتهم ليس لهم إرادة في سواها ((3)) . 10. {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أوتِيَ قَارُونُ} : من الدنيا ومتاعها وزهرتها. 11. {إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} : وصدقوا إنه لذو حظ عظيم لو كان الأمر منتهياً إلى رغباتهم، وإنه ليس وراء الدنيا دار أخرى، فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعيم بنعيم الدنيا، واقتدر بذلك على جميع مطالبه، فصار هذا الحظ العظيم بحسب همتهم، وأن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى مطالبها لمن أدنى الهمم وأسفلها، وليس لها أدنى صعد إلى المرادات العالية والمطالب الغالية ((4)) . 12. {وَقَالَ الَّذِينَ آوتُوا الْعِلْمَ} : قال أبو السعود: " أي بأحوال الدنيا واكثر المفسرون كما ينبغي وإنما لم يوصفوا بإرادة ثواب الآخرة تنبيهاً على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضي الإعراض عن الأولى والإقبال على الثانية حتماً، وأن تمني المتمنين إلا لعدم علمهم بها كما ينبغي " ((5)) .

_ (1) الأرجوان: صبغ أحمر، ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5033. (2) المحرر الوجيز: 12/ 191. (3) ينظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي. (1307 ـ 1376 هـ) دار الصفا للنشر. الزقازيق. (د. ت) .: 4/ 43. (4) ينظر تيسير الكريم الرحمن: 4/ 43. (5) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /26.

13. {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} : قال الخازن: " أي ما عند الله من الثواب والخير لمن آمن وصدق بتوحيد الله وعمل صالحاً خيرٌ مما أوتي قارون في الدنيا " ((1)) . 14. {وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابِرُون} : قال ابن عطية: " أي يُمكن فيها ويخولها إلا الصابر على طاعة الله وعن شهوات نفسه، وهذا هو جماع الخيرُ كله " ((2)) . ما يستفاد من النصّ يمكن إن نستنبط من هذه الآيات المعاني الآتية: أولاً ـ اعتدال المنهج الرباني فيما يخص الإنسان وعلاقته بالدنيا والآخرة فقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} . وقال: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . وقد بين سيد قطب أن في الآية توازناً يتمثل باعتدال " المنهج الإلهي القويم المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة، بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفاً كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها " ((3)) . ونلاحظ أن الله عز وعلا أكد أولاً على الآخرة، وأن يوظف الإنسان هذا المال الذي هو مال الله أصلاً في طاعة الله، والتقرب إليه بأنواع القربات، وأن لا يستخدم هذا المال فيما لا يحل له، وهذا المنهج الرباني ينبغي أن تعمل عليه الدول الإسلامية في توظيف ثروات وأموال المسلمين ومواردهم التي أنعم الله بها عليهم في طاعة الله وخدمة الإنسانية.

_ (1) لُبَاب التَأَوْيِل: 3/ 421. (2) المحرر الوجيز: 12/ 192. (3) في ظلال القرآن: 6/ 374.

ثانياً ـ وجهت الآيات من خلال قصة قارون الأغنياء على مساعدة الفقراء عيال الله، فقال تعالى حكاية عن نصيحة المؤمنين لقارون: {وَأحسن كَمَا أحسن اللَّهُ إلَيْكَ} . قال ابن كثير: " أي أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك " ((1)) ، فالمال هو مال الله، وإحسان منه اختص به بعض عباده، فليقابل من اختصم الله بنعمته بالإحسان إلى الفقراء. قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ((2)) . ثالثا ـ كثرة المال قد توقع صاحبه في البغي والبطر، فإن المال فتنة، قال تعالى: {إنَّمَا أمْوَالُكُمْ وَأوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ} ((3)) ، فيمتحن الله بهذا المال عباده. " ووجه الفتنة في المال أنه يوقع صاحبه في الشحّ والبخل، وعدم القيام بشكره بإخراج حق الله فيه، كما أن كثرة المال تسهل عليه سبل الترف والطغيان ـوبطر النعمة، فيصير من المترفين الطاغين البطرين " ((4)) . وهذا ما حصل فعلاً مع قارون، فقد أطغاه المال فبغى على قومه وادعى أنه حصل على هذا المال بعلمه: {قَالَ إنَّمَا آوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ، وليس هذا يعني ان على المسلم أن يبتعد عن المال مخافة أن يطغيه، ولا بأس من أن يمتلك المسلم المال إذا أطاع به الله.

_ (1) تفسير القرآن العظيم: 3/ 399. (2) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 33. (3) سُوْرَة التَّغَابُن: الآية 15. (4) المستفاد من قصص القرآن: 1/ 533.

فالمسلم الحقيقي هو من ينبغي أن يكون لديه المال، فهو أمين على ما استخلفه الله فيه، يساعد الفقراء، ويجاهد في سبيل الله كما فعل سيدنا عثمان (- رضي الله عنه -) بتجهيزه جيش العسرة، فامتدح اللهُ الرسولَ وأصحابَه، قال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ وَأولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} ((1)) وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ أعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ((2)) . رابعاً ـ ودلت الآيات كذلك على أن على الدعاة واجب النصح لأهل الأموال الذين نسوا الله وشغلتهم أموالهم عن طاعته، فشابه حالهم حال قارون، وتذكيرهم لما جرى لقارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .

_ (1) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 88. (2) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 20.

المطلب الثالث: هلاك قارون وماله

المطلب الثالث: هلاك قارون وماله {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ* وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((1)) . المناسبة أكدت هذه الآيات صدق مقولة أهل العلم لقارون: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَ الصَّابِرُونَ} ، فبادرت بعدها مباشرة إلى الحديث عن إهلاك الله تعالى لقارون وأمواله وزينته. فأنزل الله عليه العذاب وهو في موكبه أمام الناس. وصُدِّر الكلام بحرف الفاء التي أفادت العطف على جملة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ، وأفادت أيضاً التعقيب ((2)) : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} . تحليل الألفاظ 1. {فَخَسَفْنَا} :

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات: 81 - 84. (2) عاقبة الطغيان والفساد في سُوْرَة الْقَصَصِ. عبد الحميد طهماز. دار القلم. دمشق. (د. ت) : ص 64.

" الخسف سُؤُوخُ الأرض بما عليها. خَسَفَتْ تَخْسِفُ خَسفْاً وخَسوفَاً وانْخَسَفَتْ وخَسَفَها الله، وخَسفَ الله به الأرض خَسْفاً، أي: غابَ به فيها وخَسفَ هو في الأرض وخُسفَ به. وقال الأزهري: وخُسِفَ بالرجل وبالقومِ إذا أخذته الأرض ودخل فيها " ((1)) . 2. (فَسَادًا) : الفساد: " نقيض الصلاح، فَسَدَ يَفْسُدُ وَيفْسِدُ وفَسُدَ فساداً وفُسُداً فهو فاسد وفَسيِدُ فيها، ولا يقال: انفَسَد وأفْسَدْتُه أنا وقوم فَسْدَى كما قالوا: ساقِط وسُقْطَى. قال سيبويه: جمعوه جمع هَلْكى لتقاربهما في المعنى وأفَسدَه هو وأسْتفْسَد فلان إلى فلان، وتفاسد القوم تدابروا وقطعوا الأرحام. والمفسد خلاف المصلح، وفَسَّدَ الشيءِ إذا أباره " ((2)) . 3. {الْعَاقِبَةُ} : " عَقِبُ كلَّ شيء وَعْقُبه وعاقبِتهُ وعاقِبهُ وعُقْبَهُ، وعُقُبْاه وُعقْبانُه لآخره، والجمع العَواقِبُ، والعَقَبُ والعُقْبانُ والعْقبَى كالعاقبةِ والعُقْبِ والعقبى جزاء الأمر " ((3)) . وقال ابن عاشور عن العاقبة: " وصف عومل معاملة الأسماء لكثرة الوصف به، وهي الحالة الآخرة بعد حالة سابقة، وغلب إطلاقها على عاقبة الخير " ((4)) . القراءات القرآنية 1. {فِئَةٍ} : قرأ أبو جعفر: فِيَةٍ ((5)) . 2. {وَيْكَأنَّ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (خسف) 9/ 76. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (فسد) 3 /235. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (عقب) 1/ 611. (4) التحرير والتنوير: 20 /190. (5) معجم القراءات القرآنية: 5/ 33.

" قال ابن جني في (ويكأن) ثلاثة أقوال: منهم من جعلها كلمة واحدة فلم يقف على (وي) . ومنهم من وقف على (وي) . ومنهم من قال: (ويك) وهو مذهب أبي الحسن. والوجه عندنا ـ وهو قول الخليل وسيبويه ـ وهو أن (وي) اسم سمي به الفعل في الخبر، فكأنه اسم اعجب، ثم أبتدأ فقال: كأنه لا يفلح الكافرون، وكأن الله يبسط الرزق. فـ (وي) منفصلة من كأن. ومن قال: إنها (ويك) ، فكأنه قال: أعجب، لأنه لا يفلح الكافرون، وأعجب لأن الله يبسط الرزق، وهو قول أبي الحسن. وينبغي أن يكون الكاف حرف خطاب بمنزلة الكاف في ذلك وأولئك ((1)) ، ويشهد لهذا قول عنترة: ولقد شفا نفسي وأَذهب سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم ((2)) 3. {أن مَّنَّ اللهُ} : قرأ الأعمش: (لولا منَّ الله) بحذف أن وهي مزادة. وروي عنه (مَنَّّّ الله) برفع النون والإضافة ((3)) . 4. {لخَسَفَ} : قرأ الجهور: (لَخُسُفَ) مبنياً للمفعول، وقرأ حفص، وعصمة، وأبان عن عاصم، وابن أبي حماد عن أبي بكر مبنياً للفاعل (لَخُسِفَ) . وقرأ ابن مسعود، وطلحة، والأعمش: (لانْخُسِفَ) ، كقولك انقطع بنا وعن ابن مسعود أيضاً: (لَتُخُسُِّفَ) بتاء وشدّ السين مبنياً للمفعول ((4)) . 5. {يُجزَي اللذِينَ} : قرأت بالإمالة (وقفاً) ، وهي مروية عن حمزة، والكسائي، وورش ((5)) . القضايا البلاغية 1. {وَأصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} : (الأمس) مستعمل في مطلق زمن مضى قريباً على طريقة المجاز المرسل. 2. {وَيكَأن اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} :

_ (1) مجمع البيان: 7/ 264- 265. (2) ديوان عنترة: (3) البَحْر المُحِيْط: 7/ 135. (4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن:

يقدر مضارع قدر المتعدي وهو بمعنى أعدي بمقدار، وهو مجاز في القلة، لأن التقدير يستلزم قلة المقدار، اعسر تقدير الشيء الكثير. 3. {مِنْ عِبَادِهِ} : فائدة البيان بقوله: (مِنْ عِبَادِهِ) الإيمان إلى أنه في بسطه الأرزاق وقدرها متصرف تصرف المالك في ملكه، إذ المبسوط لهم والمقدور عليهم كلهم عبيدة، فحقهم الرضى بما قسم لهم مولاهم ((1)) . المعنى العام 1. {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} : قال ابن عاشور في ذلك: " دلت الفاء على تعقيب ساعة خروج قارون في ازدهائه، وما جرى فيها من تمني قومه أن يكونوا مثله، والخسف انقلاب بعض ظاهر إلى باطنها، والباء في قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ} باء المصاحبة، أي: خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو عليها " ((2)) . " ولما أمر قارون البَغيَّ بقذف موسى (- عليه السلام -) غضب موسى (- عليه السلام -) ، فأوحى الله تعالى إليه: إني قد أمرت الأرض أن تُطيعكَ فُمْرُها فقال موسى (- عليه السلام -) : يا أرض خُذيه، فأخذته حتى غيَّبَتْ سريره، فلمّا رأى ذلك ناشده بالَّرحم فقال: خُذيه فأخذته حتى غيَّبت قدميه، فما زال يقول: خذيه حتى غيَّبته، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى ما أفظك، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته " ((3)) . وقال سمره ابن جندب: " إنه يخُسف به كلَّ يوم قامة، فتبلغ به الأرض السفلى يوم القيامة " ((4)) .

_ (1) التحرير والتنوير: 20 / 185 - 187. (2) التحرير والتنوير: 2 /185. (3) تقدم تخريجه: ص 237. (4) زَاد المَسِيْر: 6/ 345. وذكره السيوطي في الدَّرُّ المَنْثُوْرُ من رواية ابن أبي حاتم من طريق قتادة عن سمرة بن جندب: 7/ 442.

وقال مقاتل: " لما أمر موسى الأرض فابتلعته قال بنو إسرائيل: إنما أهلكه ليرن ما له لأنه كان ابن عمه أخي أبيه، فخسف الله تعالى به وبداره الأرض وبجميع أمواله بعد ثلاثة أيام " ((1)) . وجاء في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب (- رضي الله عنه -) : أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) ((2)) . وعن أبي هريرة (- رضي الله عنه -) أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((بينما رجل يتبختر يمشي في بُردته قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) ((3)) . 2. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِين َ} : أي " فما كان له جماعة يمنعونه العذاب، وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه اللذان اكتسبها بعمله، فلم يقه جمعه، ولم تفده قوته من دون الله، وبان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه " ((4)) . 3. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} :

_ (1) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5034. (2) صَحِيْح البُخَارِي: كتاب الأنبياء: 3/ 1285 رقم (3297) . (3) صحيح مسلم: باب تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه: 3 /1654 رقم (2088) (4) تفسير الميزان في الَقُرْآن. مُحَمَّد حسين طباطبائي. الطبعة الثانية. مؤسسة الأعلمي. بيروت، لبنان. 1393 هـ ـ 1973 م.: 16/ 80.

قال الطبري: " وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس من الدنيا وغناه وكثرة ماله، وما بسط له منها بالأمس ـ يعني قبل أن ينزل به ما أنزل من سخط الله وعقابه ـ يقولون ويكأن الله " ((1)) . وقال سيد قطب: " وقفوا يحمدون الله إن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس، ولم يؤتهم ما أتى قارون، وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة، وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب، ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف " ((2)) . 4. {لَوْلا أن مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} : قال ابن كثير: " لولا لطف الله بنا وإحسانه إليه لخسف بنا كما خسف به لأنا وددنا أن نكون مثله " ((3)) . 5. {وَيْكَأنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} : وروى ابن أبي حاتم عن قتادة يقول: أو لا يعلم أنه لا يفلح الكافرون ". وفي رواية أخرى عن قتادة بلفظ " أو لا يرى أنه لا يفلح الكافرون " ((4)) . 6. {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} : قال الرازي " " فتعظيم لها، وتفخيم لشانها، يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتها وميل القلب إليها، فعن علي (- رضي الله عنه -) : (إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها) ((5)) .

_ (1) جامع البيان: 10 /112. (2) في ظلال القرآن: 6/ 378. (3) تفسير القرآن العظيم: 3/ 401. (4) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3022. (5) مفاتيح الغيب: 3/ 20 - 21.

وقال الزمخشري: " ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون متعلقا بقوله: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} ، ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر " ((1)) . 7. {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} : قال المراغي: " أي العاقبة المحمودة وهي الجنة لمن اتقى عذاب الله بعمل الطاعات وترك المحرمات، ولم يكن كفرعون في الاستكبار على الله بعدم امتثال أوامره، والارتداع عن زواجره، ولا كقارون في إرادة الفساد في الأرض " ((2)) . 8. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ الاّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : يقول الطبري في معناها: " من جاء الله يوم القيامة بإخلاص التوحيد، فله خير، وذلك الخير هو الجنة والنعيم الدائم، ومن جاء بالسيئة وهي الشرك بالله فله الشر " ((3)) . ما يستفاد من النصّ دلت الآيات القرآنية على ما يأتي: أولاَ ـ دلّ ارتباط الفاء بالخسف في قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} على الترتيب والتعقيب، أي: إن الله خسف به وبماله بعدها خرج على قومه في زينته، وكان خروجه هذا هو السبب المباشر في خسف الله به لغروره وتكبره ((4)) . وفي هذا دلالة أكيدة على بغض الله للتكبر والمتكبرين، وقد يكون التبختر والغرور سبب لعقاب صاحبه، فقد روى البخاري من حديث الزهري عن سالم: إن أباه حدثه أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) ((5)) .

_ (1) الكَشَّاف: 3 /193. (2) تفسير المراغي: 20/ 102 -103. (3) جامع البيان: 10 /115. (4) ينظر القصص القرآني: 3 / 60 - 61. (5) تقدم تخريجه: ص 258.

(لقد اخذ الله قارون هو في أوج انتعاشه وغروره وتكبره وفرحه وبطره، وقصمه قصماً وهو في سكرته وزينته خسف به وبداره الأرض، انشقت الأرض وابتلعته، ابتلعت أمواله وكنوزه، وابتلعت خزائنه ومفاتحه، وابتلعت داره وملكه، ولم تنفعه أمواله وكنوزه لأنها لم تمنع عنه عذاب الله، ولم ينصره المتجمعون حوله المنتفعون بأمواله ولم يدفعوا عنه عذاب الله " ((1)) . فيمكن للدعاة أن يوظفوا هذه القصة لنصح أصحاب الأموال المتبخترين بأموالهم وتذكيرهم بعقاب الله. ثانياً ـ قد يعجل العقاب على مستحقيه في الدنيا. " الأصل في العقاب لمستحقيه أنه يكون في الآخرة، ولكن قد يعجّله الله لمستحقيه في الدنيا مع ما ينتظره من عقاب الآخرة، كما عجل الله عقاب قارون في الدنيا حيث خسف به وبداره الأرض، وهذا التعجيل إنذار وتحذير قد ينتفع به بعض العصاة، فينزجروا عن معصيتهم وينتفع به ضعفاف الإيمان حيث يتقوى إيمانهم " ((2)) . ولكن لا يعني هذا أن كل عاص لله ينال عقابه في الدنيا، فإن شاء الله عجّل للعصاة العذاب في الدنيا، وإن شاء آخر لهم العقاب إلى يوم القيامة. ثالثاً ـ الرجوع عن الخطأ فضيلة. ويتضح هذا من خلال رجوع الذين تمنوا أن يكون لهم مثل ما أوتي قارون من المال. {وَأصبح الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَانَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} .

_ (1) القصص القرآني: 3/61. وينظر عوامل فساد الأمم كما يصورها الَقُرْآن. فائز صالح الخطيب. رسالة ماجستير غير منشورة. كلية أصول الدين. جامعة الأزهر. 1400 هـ.: ص 155. (2) المستفاد من قصص القرآن: 1/ 536.

الفصل الرابع: نشأة سيدنا موسى (عليه السلام) والظروف المحيطة به

الفصل الرابع: نشأة سيدنا موسى (عليه السلام) والظروف المحيطة به المبحث الأول: ولادة سيدنا موسى (عليه السلام) المطلب الأول: إلقاء سيدنا موسى (- عليه السلام -) في اليم {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) . المناسبة بعد أن قال الله جلّ وعلا في بداية السورة: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((2)) ، قصّ حالة بني إسرائيل في ظل حكم فرعون بقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ((3)) ، فأوضح أن الفرج قريب بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ((4)) ، فلما تعلقت إرادة الله بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم، وهو الذي كان يحذره فرعون على ملكه، وكان يذبح أبناء بني إسرائيل لأجله وقضينا بأن يسمى موسى بسبب أنه يوجد بين ماء وشجر وتربيته في بيت الذي يحذره ويحتاط لأجله، عطف على هذا المعلوم التقدير أول نعمة منّ بها على الذين استضعفوا ((5)) ، فقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ((6)) . تحليل الألفاظ 1. {أوْحَيْنَا} :

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (5) ينظر نظم الدرر: 5/ 465. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.

قال ابن منظور: " الوَحْيُّ الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، يقال: وَحَيْتُ إليه الكلام وأَوْحَيْتُ ووَحَى وَحْياً وأَوْحَى أيضاً، أي: كتب. والوحي: المكتوب والكتاب أيضاً، وعلى ذلك جمعوا فقالوا: وَحِيٌّ مثل حُلْيٌّ وحُلِيٌّ " ((1)) . وقال الراغب: " معنى الوحي الإشارة السريعة، ولتضمنّ السرعة قيل: أمر وَحْيٌ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة. ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأوليائه: وحي " ((2)) . وقد بين القرآن الكريم أنواع الوحي في سورة الشورى بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} ((3)) . وعليه فقد بين الراغب الأصبهاني أنواع الوحي بما يأتي ((4)) : أولاً ـ الوحي برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل (- عليه السلام -) للنبي في صورة معينة. ثانياً ـ بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى لكلام الله.

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (وحي) 15/ 379. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 552. (3) سُوْرَة الشُّورَى: الآية 51. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 552.

ثالثاً ـ بإلقاء في الروع كما ذكر (- صلى الله عليه وسلم -) : ((إن روح القدس نفث في روعي)) ((1)) . رابعاً ـ بالهام نحو: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ((2)) . خامساً ـ بتسخير مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ((3)) . سادساً ـ بمنام لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((انقطع الوحي وبقيت المبشرات الرؤيا الصالحة)) ((4)) . ونحن نعد الوحي إنما جاء من القول الخفي على ما قالته العرب في كلامها. 2. {أَرْضِعِيهِ} : قال ابن منظور: " رَضَع الصَّبيُّ وغيره يَرْضع مثال ضرب يضرب، لغة نجدية، ورَضِعَ مثال سَمِعَ يَرْضَع رَضْعاً ورَضَعاً ورَضِعاً ورَضاعاً ورِضاعاً ورَضَاعةً ورِضاعة، فهو راضِعٌ، والجمع رُضّع " ((5)) .

_ (1) مُصَنَّف ابن أبي شَيْبَة: 7 /79. رقم (34332) . فتح البَاري بشرح صحيح الإِمَام أَبِي عَبْد الله مُحَمَّد بن إسماعيل البُخَاري. ومقدمته: هَدْيُ السَّاري لأَحمد بن عَلِيّ المعروف بابن حَجَر العَسْقَلاني. ت 825 هـ. الناشر: دار المعرفة ببيروت. بيروت. ط1. 1379 هـ.: 1/20 وقال: الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (3) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 68. (4) صَحِيْح البُخَارِي: باب المبشرات 6 /2564 رقم (6589) من حديث أبي هريرة. (5) لِسَان العَرَب: مَادة (رضع) 8/ 125.

وقال الراغب: " يقال: رضع المولود يرضع، ورضع يرضع رضاعاً ورضاعة، وعنه استعير: لئيم راضع: لمن تناهى لؤمه، وإن كان في الأصل لمن يرضع غنمه ليلاً؛ لئلا يسمع صوت شخبه ((1)) ، فلما تُعورف في ذلك قيل: رضع فلان، نحو: لَؤُم " ((2)) 3. (ولا تحزني) : الحَزَنُ: نقيضُ الفرَح، وهو خلافُ السُّرور. والجمعُ أَحْزانٌ، لا يكسَّر على غير ذلك، وقد حَزِنَ بالكسر، حَزَناً وتحازَنَ وتَحَزَّن. ورجل حَزْنانٌ ومِحْزانٌ: شديد الحُزْنِ. وحَزَنَه الأَمْرُ يَحْزُنُه حُزْناً وأَحْزَنَه، فهو مَحْزونٌ ومُحْزَنٌ وحَزِينٌ وحَزِنٌ؛ وقال سيبويه: أَحزَنَه جعله حَزِيناً، وحَزَنَه جعلَ فيه حُزْناً " ((3)) . وقال الراغب: " والحزن: خشونة في الأرض، وخشونة في النفس لما يحصل فيه من الغم " ((4)) . والأمر هاهنا للوجوب الإلهي كما هو مبين في سياق الخطاب لأم موسى (- عليه السلام -) . 4. {الْمُرْسَلِينَ} :

_ (1) الشخب: صوت اللبن عند الحلب. ينظر الصحاح: مادة (شخب) . (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 202. وينظر كتاب الأفعال. عَلِيّ بن جعفر السَّعْدِي أبو القَاسِم. ت 515 هـ. عالم الكتب. بيروت. ط1. 1983 م.: 3/91. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (حزن) 13/ 111. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 114.

الرَّسَل: القَطِيع من الإِبل والغنم؛ والجمع الأَرْسال؛ والرَّسَل: قَطيعٌ من الإِبِلِ قَدْر عشر يُرْسَل بعد قَطِيع. والإرسال: التوجيه. قد أرسل إليه، والاسم الرسالة والرسول والرسيل. والرسول بمعنى الرسالة يؤنث ويذكر. وتراسل القوم: أرسل بعضهم إلى بعض. والرسول والرسالة والمرسل. والرسول معناه في اللغة: الذي يتابع أخبار لذي بعثه أخذاً من قولهم: جاءت الإبل رسلاً، أي: متتابعة. وقال الأخفش: سمّي الرسول رسولاً لأنه ذو رسول، أي: ذو رسالة. والرسول اسم من أرسلت. وكذلك الرسالة ((1)) . وقال الراغب: " أصل الرسل: الانبعاث على التؤدة " ((2)) . أما تعريف الرسول في الاصطلاح: " هو من يأتي بشرع على الابتداء أو بفسخ بعض أحكام شريعة قبله " ((3)) . والرسالة: " هي سفارة العبد بين الله وبين ذوي الألباب من خليقته ليزيح بها عللهم فيما قصرت عنه عقولهم من مصالح الدنيا والآخرة " ((4)) . أما النبي: هو الذي ألقي إليه الروح شيئاً اقتصر به ذلك النبي على نفسه خاصة، وإن قيل له بلغ ما أنزل إليك، فهو رسول، فعلى هذا كلّ رسول نبي، وليس كلّ نبي رسول " ((5)) .

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (رسل) 11 /281 - 284. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 200. (3) أصول الدين. أبو الميسر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الكريم البَزْدَوِي. ت 993 هجرية. تحقيق: د. هانز بيترلس. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه. مصر. القاهرة. 1963 م.: ص 115. (4) شرح العقائد النسفية. الإِمَام سَعَد الدِّيْن مسعود بن عمر التفتازاني. طبع شركة صحافية عثمانية. مطبعة سي. 1320هـ.: ص 133. (5) اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر. للشيخ عَبْد الوهاب الشعراني. مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378 هـ.: 1/ 177.

ويظهر الرسول في فرق عن معنى النبي لأن بينهما عموماً وخصوصاً ((1)) . القراءات القرآنية 1. {أَنْ أَرْضِعِيهِ} قرأ عمرو بن عبد الواحد، وعمر بن عبد العزيز (أنِ ارْضِعيه) بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس، لأن القياس فيه نقل حركة الهمزة وهي الفتحة إلى النون كقراءة ورش (أَنَ ارْضِعيه) ((2)) . وقد حذف عمرو بن عبد الواحد الهمزة من نون (أن) ووصلها بالراء من (أَرْضَعيه) بعد تسهيل همزة الأمر، وهذه من سنن العرب في كلامها أن تسهل الهمزة ليستقيم النطق عندهم ((3)) . القضايا البلاغية 1. في هذه الآية من الدلائل على الإعجاز القرآني حيث اشتملت على أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، فذكر القرطبي أن الأصمعي قال: " سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول: استغفر الله لذنبي كله قبّلت إنساناً بغير حله مثل الغزال ناعماً في دلّه وانتصف الليل ولم أحله

_ (1) التعريفات (الجرجاني) : ص 167. (2) المُحْتَسَب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها. عُثمان ابن جِنِّي أبو الفتح. ت 392 هـ. تحقيق: عَلِيّ النجدي ناصف. وآخرون. لجنة أحياء التراث الإسلامي. القاهرة. ط1. 1966 م.: 2/ 147. البَحْر المُحِيْط: 7 /105. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4966. (3) ينظر القراءات القرآنية والدلالات البيانية. د. مُحَمَّد عبد العزيز. الطبعة الأولى. مطبعة جامعة عبد العزيز آل سعود. الرياض. 1411 هـ.: ص 117 -118.

فقلت: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت له: أيعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية ((1)) ، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. فالخبران هما (وأوحينا إلى أم موسى) وقوله (فإذا خفت عليه) لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه، والأمران (أرضعيه) و (ألقيه) . والنهيان (لا تخافي) و (لا تحزني) . والبشارتان (إنا رادوه إليك) و (وجاعلوه من المرسلين) ((2)) . 2. معنى الخوف والحزن: " لقائل أن يقول: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} ؟ ثُمَّ أليس من التناقض أن يثبت الخوف في قوله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} ، ثُمَّ ينفيه بقوله: {وَلاَ تَخَافِي} ؟ . الجواب على التناقض المزعوم أن الخوف الأول المثبت هو غرقه في النيل، والثاني هو خوف الذبح، فاندفع ما يتوهم من تناقض. أما الاعتراض الأول، فهو مندفع بأن هذا من باب الإطناب، بل هو قسم نادر من أجمل أقسامه، وهو أن يذكر الشيء فيؤتى فيه بمعانٍ متداخلة إلا أن كل معنىً مختص بخصيصة ليست للآخر " ((3)) . وهذا يدل على إعجاز الأسلوب القرآني في كونه يوهم أحياناً شيئاً فإذا ما قرأه القارئ المتمعن بان له خلاف ما توهمه، وتلك سمة من سمات إعجازه. المعنى العام 1. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} : هنا يتبادر إلى الذهن سؤال هو ما المقصود بالوحي إلى أم موسى؟

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4968. (2) التحرير والتنوير: 20/ 74. (3) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 285.

فقد ذكر الرازي أنه قد أتفق الأكثرون على أن أم موسى (- صلى الله عليه وسلم -) ما كانت من الأنبياء والرسل ((1)) ، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء، لأن المرأة لا تكون نبية لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} ((2)) خلافاً لليهود حيث ورد في بعض كتبهم كون بعض نسائهم من الأنبياء. وقد اختلف العلماء في المراد بهذا الوحي على وجوه: أحدهما ـ المراد رؤيا رأتها أم موسى (- عليه السلام -) وكان تأويلها وضع موسى (- عليه السلام -) في التابوت وقذفه في البحر وأن الله يرده إليها. ثانياً ـ أن المراد عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة. ثالثاً ـ المراد منه الإلهام فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} يقول: أي ألهمناها الذي صنعت بموسى ((3)) . رابعاً ـ لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب (- عليه السلام -) أو غيره، ثم إن ذلك النبي عرّفها إما مشافهة أو مراسلة. خامساً ـ لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ـ عَلَيْهم السَّلام ـ أخبروا بذلك وانتهى ذلك الخبر إلى تلك المرأة. سادساً ـ لعل الله تعالى بعث إليها ملكاً، لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم ـ عَلَيْها السَّلام ـ. والذي يرجحه الباحث من هذه الوجوه هو الوجه الثالث القائل بأن الله تعالى ألهمها لا إلهاماً على جهة النبوة، بل هو إلهام لا يشبه أي صيغة أخرى، وهو الأقرب للمنقول والمعقول. 2. اسم أم موسى:

_ (1) مفاتيح الغيب: 11/ 51. وينظر زَاد المَسِيْر: 6 /301 - 302. (2) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 109. (3) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 2941.

اختلف المفسرون والمؤرخون في اسمها، فذكر الطبري أن اسمها " يحيب ابنة شمويل بن بركبا " ((1)) . وذكر ابن قتيبة أن اسمها " أباحثة وفي التوراة اسمها يوخابث " ((2)) وذكر ابن الأثير أن اسمها " يوحانذ " ((3)) . وذكر الصاوي أن اسمها " لوحا بنت هاند بن لاوي " ((4)) . والذي أرجحه هو أنها من مبهمات القرآن التي ليس في معرفتها كبير فائدة. 3. {أَنْ أَرْضِعِيهِ} : نقل القرطبي عن مجاهد قوله " بأن الوحي إليها بالرضاعة كان قبل الولادة " ((5)) . وذكر أبو حيان في تفسيره " أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة، فيكون ثم جملة محذوفة، أي: وضعت موسى أمه في زمن الذبح وخافت عليه " ((6)) . فقد اخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي عبد الرحمن الحبلي أن الله أوحى إلى أم موسى حين وضعت أن ترضعه. واخرج عن مجاهد أن الله أوحى إلى أم موسى حين تقارب ولادها أن ارضعيه ((7)) .

_ (1) تاريخ الرُّسُل والملوك: 1/ 385. (2) المَعَارف، ابن قُتَيْبَة الدِّيْنوَري أبو مُحَمَّد عَبْد اله بن مسلم. ت 276 هـ. تحقيق وتقديم: الدكتور ثروت عكاشة. ط2 1969 م دار المعارف بمصر.: ص 20. (3) الكامل في التاريخ: 1 /95. (4) حاشية العلامة الصاوي على تفسير الجلالين. أحمد بن مُحَمَّد الصَّاوِي المالكي الخَلْوَتي. ت 1241 هـ. المكتبة الإسلامية. القاهرة. (د. ت) .: 3/ 209. (5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4966. (6) البَحْر المُحِيْط: 7 /105. (7) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 2941 -2942.

والذي أرجحه أن الوحي إليها كان بعد الولادة وبعد تسميته، لأن القرآن قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} ، فبعد أن وضعته وكانت خائفة عليه من الذبح، وطمأنها ربها بأن ترضعه ليتقوى للمهمة اللاحقة، وهي المدة التي يستغرقها في سيره في اليم لحين وصوله إلى قصر فرعون، ثم عودته إلى أمه بعد معجزة تحريم المراضع عليه. ونقل ابن الجوزي، والقرطبي رواية " أنها حين اقتربت وضربها الطلق كانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصاحبة لها فقالت: لينفعني حُبُّك اليوم، فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها ثم قالت: ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون، ولكني وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله قط فاحفظيه. فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفّته في خرقةٍ ووضعته في تنور مسجور ناراً لم تعلم ما تصنع لما طاش عقلها، فطلبوا، فلم يلقوا شيئاً، فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور وقد جعل الله عليه النار برداً وسلاما " ((1)) . 4. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} : الخوف هو " توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة " ((2)) ، وأم موسى حينما خافت على مولودها من القتل كان ذلك بأمارة معلومة، فهي ترى بعينها يومياً عشرات الأطفال يذبحون.

_ (1) زَاد المَسِيْر: 6 /202. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4967. ونرى في هذه القصة أنها مصدرة بكلمة (روي) ولم يذكروا عمن رويت ولا تخريجها، فلعلها من الإسرائيليات التي نقلها بعض المفسرين، فلو كانت صحيحة لذكرها الَقُرْآن الكَرِيم لنا، لأن فيها معجزة، وهي إنقاذه من النار في التنور المسجور، وهي أبلغ في الإعجاز من إنقاذه من الغرق لأنه موضوع في تابوت. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 161.

وذكر القرطبي " أنه استخدم (إذا) لما يستقبل من الزمان، أي: إذا خفت عليه أن يصبح ويكشف أمره فيقتل. ويروى أنها اتخذت له تابوتاً من بردي وقيرَّته بالقار من داخله، ووضعت فيه موسى، وألقته في نيل مصر" ((1)) . 5. {فَأَلْقِيهِ} : " أي بعد أن تضعيه في شي يحفظه من الماء " ((2)) . 6. {فِي الْيَمِّ} : " أي: في النيل الذي كان يشق مدينة فرعون من حيث منازل بني إسرائيل. واليم في كلام العرب مرادف للبحر، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر، فالنهر العظيم يسمى بحراً " ((3)) . 7. {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} : اخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد في قوله الله {وَلاَ تَخَافِي} : قال: لا تخافي عليه البحر. {وَلاَ تَحْزَنِي} ، يقول: لا تحزني لفراقه ((4)) . وقال يحيى بن سلام: لا تحزني أن يقتل ((5)) . 8. {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} : " لتكوني أنت المرضعة له " ((6)) . 9. {وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق في معناها " أي: باعثوه إلى هذه الطاغية، وجاعلو هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه " ((7)) . ما يستفاد من النصّ

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4967. (2) نظم الدرر: 5/ 465. (3) التحرير والتنوير: 20/ 74. (4) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2942. إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7/3. (5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4967. (6) مفاتيح الغيب: 12 /227. (7) تفسير ابن أبي حاتم: 9 / 2943.

دلّ قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} على إعجاز طبي سبق العلم الحديث بآلاف السنين، وهو الإشارة إلى فائدة الرضاعة الطبيعية للطفل المولود، فقد أكد الأطباء هذه الحقيقة العلمية، وذلك بأن حليب الأم مصدر مهم للطاقة والبروتين، وهو يساعد على وقاية الطفل من المرض، ويساعد كذلك على نمو الطفل العقلي والعاطفي، ويكسب شخصيته توازناً أكبر. وهذا بعض إعجاز القران ((1)) . نلاحظ من النص القرآني أن الله جل وعلا بعد أن نهى أم موسى عن الخوف والحزن {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} أراد الله جل وعلا طمأنتها أكثر من خلال المبشرات التي أعقبت النهي، لتقوية قلبها، وإزالة خوفها وحزنها. فالبشارة الأولى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} . وهذا أهم شي يشغل بالها. والبشارة الثانية هي البشارة بمستقبله بأنه سيكون من المرسلين. ودلت كذلك على التحدي الإلهي بهذا الطفل الرضيع لقوة فرعون وجبروته، وليقتحم به حصون فرعون وجيوشه، فيستدل منه على أن الأمن والخوف بيد الله تعَاَلىَ. فإذا شاءت إرادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعل الخوف أمناً كإلقاء أم موسى لطفلها في اليم، وإن شاء جعل الأمن خوفاً كما حصل لفرعون إذ قتل مئات الأطفال ليأمن. ولكن الله جعل من أمنه خوفاً، فأدخل الله موسى (- عليه السلام -) إلى قصر من حرص أن لا يدخله، وقَتَل ما قتل من أجل ذلك.

_ (1) لحياة أفضل. تأليف مجموعة من الأطباء. هيئة الطفولة. هيئة اليونسيف بالتعاون مع وزارة الصحة العراقية. الطبعة الأولى. 1997 م: ص 22 –23.

المطلب الثاني: سيدنا موسى في بيت فرعون

دلّ قوله تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} على أن الأمر كله بيد الله يرفع أقواماً ويضع آخرين. وهذا ما أكدته الآيات اللاحقة من سُوْرَة الْقَصَصِ كقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) وما ختم به سُوْرَة الْقَصَصِ بقوله: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((2)) ليؤكد للناس ولأمة هذا القرآن أن القوة لله، فهو المعزّ والمذلّ، وليؤكد مرة أخرى على الترابط القرآني بين أوله وآخره. المطلب الثاني: سيدنا موسى في بيت فرعون {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ((3)) . المناسبة صورت الآيات السابقة مشهد الأم الحائرة الخائفة على ولدها من فرعون وجنوده، ثم يأتيها الإيحاء بالبشرى من الله، وبما يثبت فؤادها {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((4)) ، ثم تبتدئ أولى الخطوات اللازمة في طريق إرجاعه إلى أمه، أن يلتقطه آل فرعون ويرجعونه إلى أمه بعد أن امتنع عن قبول الرضاعة من صدور المربيات والمرضعات، ليكون ذلك سبباً لإرجاعه لأمه لتحقق أولى البشارات.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 70. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 8 - 9. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.

قال البقاعي: " ولما كان الوحي إليها بهذا السبب لإلقائه في البحر وأن إلقاءه سبب لالتقاطه قال {فَالْتَقَطَهُ} " ((1)) . وقال الرازي: " لفاء فصيحة مفصحة عن عطفه على جملة محذوفة. والمعنى: فعلت ما أمرت به من إرضاعه وإلقائه في اليم لما خافت عليه. وحذف ما حذف تعويلاً على دلالة الحال، وإيذاناً بكمال سرعة الامتثال " ((2)) . فنلاحظ الترابط البديع بين الآيات القرآنية باستخدام الحروف المناسبة والمغنية عن استخدام الجمل العديدة. تحليل الألفاظ 1. {فَالْتَقَطَهُ} : اللَّقْطُ: أَخْذُ الشي من الأرض لَقَطَه يَلْقُطَه لَقْطاً. وَالْتَقَطَه: أخذه من الأرض، يقال لكل ساقطة لاقِطة. الالتقاط أن تَعْثَرَ على الشي من غير قصد وطلب، وشيء لقيط وملقوط. واللقِّيط: إلى، يُلتقط لأنه يُلتقط والأنثى لقيطة ((3)) . 2. {خَاطِئِينَ} : الخَطَأ والخَطاء ضدُّ الصواب. وقد أخطأ وأخطأ الطريق عَدَل عنه وأخطأ الرَّامي الغرض: لم يُصِبه. وخَطِئَ الرجل يَخْطأ خِطْأ وخِطْأَةَ على فِعْلة: أذنب. وخَطّأه تَخطِئة وتَخْطِيئاً نسبة إلى الخطأ وقال أَخْطَأتَ والخَطَأ ما لم يُتَعَمَّد. والخِطء ما تُعُمِّد، والخَطِيْئَة الذَّنْب على عمد والخِطءَ الذنب ((4)) . 3. {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} :

_ (1) نظم الدرر: 5/ 446. (2) مفاتيح الغيب: 20 /45. وينظر تنوير الأذهان من تَفْسِير روح البَيَان. إسماعيل حقي البروسوي. ت 1137 هـ. تحقيق: مُحَمَّد عَلِيّ الصابوني. دار القلم. دمشق. ط2. 1409 هـ – 1989 م.: 3 /120. (3) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (لقط) 7/ 392 –393. (4) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (خطأ) 1 /65.

" قال ابن سيده: وقرَّت عينه تَقَرّ هذه أعلى عن ثعلب، أعني فَعِلْت تَفْعَل، وقَرَّت تَقَرُّ قَرَّةً وقُرَّةً، الأخيرة عن ثعلب، وقال: هي مصدر، وقُروراً وهي ضدّ سَخِنَت، قال: ولذلك اختار بعضهم أن يكون قرَّت فعلت ليجيء بها على بناء ضدها " ((1)) . وقول العرب قَرَّت عين فلان جاء من خلال استقرئنا لدلالة الكلمة على معنى رؤية المحبوب. القراءات القرآنية 1. {وَحَزَنًا} : اختلف العلماء في قرائتها في فتح الحاء وضمها، فقرأ حمزة والكسائي (وحُزْناً) بضم الحاء وإسكان الزاي. وقرأ الباقون بفتحتين. وقال أبو علي الفارسي (الحُزْن) (والحَزَنُ) لغتان مثل العُجْم والعَجَم والعُرْب والعَرَب ((2)) . 2. {خَاطِئِينَ} : قرئت بغير همز بتخفيف، أي: خاطين الصواب ((3)) ، فاحتمال أن يكون أصله الهمز وحذفت وهو الظاهر. وقيل: من خطا بخطو ((4)) . 3. {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (وقر) 5 /86. (2) النشر في القراءات العشر: 2 /141. الحجة في القراءات السبع. الحسين بن أحمد بن خالويه أبو عَبْد الله. (314 ـ 370) . تحقيق: د. عَبْد العال سالم مكرم. دار الشروق. بيروت. ط4. 1401 هـ.: 5 /412. الكشف عَنْ وجوه القراءات السبع. وعللها وحججها. القيسي. مُحَمَّد بن أَبِي طالب. ت 437 هـ. تحقيق: د. محيي الدِّيْن رمضان. بيروت. لبنان. 1394. 1974.: 2 /172. (3) الكَشَّاف: 3/ 166. (4) البَحْر المُحِيْط: 7 /106.

قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (قُرَّةْ) وقفا. وقرأ ابن مسعود بتقديم لا تقتلوه: (لا تقتلوه قرة عين لي ولك) ((1)) . وروي عن ابن مسعود انه قرأها: (قرة عين لي وله) . وقرأ: (قرة عين لي ولك لا تقتلونه) ((2)) . القضايا البلاغية الاستعارة في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} لام التعليل، وهي المعروفة بلام كي. وقد استعملت في الآية استعمالاً وارداً على طريقة الاستعارة دون الحقيقة لظهور أنهم لم يكن داعيهم إلى التقاطه أن يكون لهم عدواً وحزناً، ولكنهم التقطوه رأفة به، وحباً له لما أُلقي في نفوسهم من شفقة عليه. ولكن لما كانت عاقبة التقاطهم إياه أن كان لهم عدواً في الله، وموجب حزن لهم، شبهت العاقبة بالعلة في كونها نتيجة للفعل كشان العلة غالباً، فاستعير لترتب العاقبة المشبّه الحرف الذي يدل على ترتب العلة تبعاً لاستعارة معنى الحرف إلى معنى أخر، استعارة تبعية، أي: استعير الحرف تبعاً لاستعارة معناه ((3)) . والذي اعتقده أن في الآية تأويلاً بما سيكون خلافاً لما قال الشهاب الخفاجي، وابن عاشور، لأن موسى حينما كان طفلاً لا يعلم أنه عدو لفرعون، ولا فرعون يعلم أن هذا الطفل بعينه هو الذي سيقتله.

_ (1) إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر المسمى (منتهى الأماني والمسرات في علوم القراءات) ، أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الغني الدمياطي الشافعي، الشهير بالبناء ت 1117 هـ الطبعة الأولى، تحقيق: د. شعبان محمّد إسماعيل، عالم الكتب، بيروت، 1407 هـ، 1987 م.: ص 341. (2) الكَشَّاف: 3 /166. (3) ينظر حاشية الشهاب: 7 /64. التحرير والتنوير: 20 /76.

المجاز العقلي في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} والمعنى هذا ليكون لهم حزناً، والإسناد مجاز عقلي لأنه سبب الحزن وليس هو حزناً ((1)) . وهنالك إشارة بلاغية أشار إليها أبو حيان في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} ، وهي أنه أضيف الجند وفيما قبل إلى فرعون وهامان، وإن كان هامان لا جنود له، لأن أمر الجنود لا يستقيم إلا بالملك والوزير، إذ بالوزير تحصل الأموال، وبالملك وقهره يتوصل إلى تحصيلها، ولا يكون قوام الجند إلا بالأموال ((2)) . ذكر الآلوسي " إن امرأة فرعون قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} ، وعدلت عن قولها (لنا) لتفخيم شأن القرّة وقدمت نفسها عليه لما تعلم من مزيد حب فرعون إياها، وأن مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه، فيكون ذلك أبلغ في ترغيبه بترك قتلة " ((3)) . وفيه استعارة، فإن قرة العين بردها واستقرارها، فجعل استعارة عن الولد. المجاز بليغ الخطاب في {لاَ تَقْتُلُوهُ} قيل لفرعون. وإسناد الفعل إليه مجازي لأنه الآمر. والجمع للتعظيم. قال أبو علي الفارسي: من سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجمع، فيقال للرجل العظيم: انظروا في أمري. وهو مجاز بليغ ((4)) . وقال الطباطبائي في الميزان: إنما خاطب بالجمع لأن شركاء العقل كانوا كثيرين من مسبب ومباشر، وآمر ومأمور ((5)) . المعنى العام 1. {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} لقد اختلف المفسرون في المقصود بآل فرعون:

_ (1) ينظر التحرير والتنوير: 20 /76. (2) البَحْر المُحِيْط: 7 /106. (3) روح المعاني: 20 /48. (4) ينظر روح المعاني: 20 /48. (5) ينظر الميزان: 16/ 11.

فقد ذكر الطبري أن قسماً من أهل التأويل قال: المراد به (جواري امرأة فرعون) . ثم ساق رواية عن السدي قوله: " أقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويحفظه مرة، حتى أدخله بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسيا امرأة فرعون يغسلن، فوجدن التابوت فأخذنه إلى آسيا، فلما نظرت إليه آسيا، وقعت عليها رحمته، فأحبته فلما أخبرت به فرعون أراد أن يذبحه، فلم تزل آسيا تكلمه حتى تركه لها ((1)) . وذكر عن قسم آخر أن المراد به ابنة فرعون حيث كانت ابنة فرعون برصاء، فجاءت إلى النيل، فإذا التابوت في النيل تخفقه الأمواج، فأخذته بنت فرعون، فلما فتحت التابوت، فإذا هي بصبي، فلما اطلعت في وجهه برأت من البرص، فجاءت به إلى أمها فقالت: إن هذا الصبي مبارك لما نظرت إليه برئت، فقال فرعون: هذا من صبيان بني إسرائيل هلم حتى أقتله فقالت امرأته: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} ((2)) . عني به أعوان فرعون لأن فرعون أصبح في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كل غداة، فبينما هو جالس إذ مر بالنيل تابوت يقذف به، وآسيا بنت مزاحم جالسة إلى جنبه فقالت: إن هذا لشيء في البحر فأتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به ففتح التابوت فإذا فيه صبي في مهده، فألقى الله عليه محبته ولطّف عليه نفسه فقالت امرأته آسيا ((3)) : {لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ((4)) . والذي نرجحه: إن المراد بـ (آل فرعون) هم أتباع فرعون وأعوانه لعدة أسباب: أولا ـ إن ابنة فرعون تعيش في قصر أبيها وخدمه وأعوانه، فليس من المعقول أن تلتقط بنفسها التابوت من النيل المتلاطم الأمواج، وهذا يحتاج إلى جهد كبير لا يقوم به إلا الرجال.

_ (1) ينظر جامع البيان: 10 /31. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9. (3) ينظر جامع البيان: 10 /31. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.

ثانيا ـ إن ما بعد كلمة (آل فرعون) يدلّ على أن من قام بالتقاطه هم أتباع فرعون من جنوه أو خدام قصره. قال تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ، فكلمة (لهم) تدلّ على أن من قام بالالتقاط اكثر من واحد. وقد يسال سائل ويقول: إن كلمة (الآل) لا تستعمل إلا فيما فيه شرف. والجواب عن ذلك: " إنه مبني على الغالب، أو الشرف فيه أعم من الشرف الحقيقي والصوري. ومعنى التقاطهم إياه (- عليه السلام -) أخذ اعتناء به وصيانة له عن الضياع " ((1)) . 2. {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} : قال ابن كثير: " إن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدواً لهم وحزناً، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} " ((2)) . وقال القاسمي: " إنهم مجرمون، فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم على يديه " ((3)) . ومن النكت البديعة في الآية أنه دلت على ما يكون عليه آل فرعون من غرقهم في البحر من طرف خفي، فهم قد التقطوه ليكون لهم مغرقاً في البحر، فلا يلتقطه أحد، وهو من شواهد الإعجاز القرآني. 3. {وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} : {امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} وهي " آسيا بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمان يوسف الصديق (- عليه السلام -) ، وعلى هذا الرأي لم تكن من بني إسرائيل " ((4)) .

_ (1) مفاتيح الغيب: 20 /46. (2) تفسير القرآن العظيم: 3 /380. (3) محاسن التأويل: 13 /4697. (4) روح المعاني: 20 /47.

وقيل: " إن آسيا كانت امرأة قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف، فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، ويقال: إن الوليد تزوج آسيا ابنة مزاحم بعد أخيه " ((1)) . وقيل: " كانت من بني إسرائيل. وقيل: كانت من سبط موسى " ((2)) . وحكى السهيلي أنها عمته. وقال الآلوسي: " هذا القول غريب "، ويرجح الآلوسي أنها لم تكن من بني إسرائيل ((3)) . وقد امتدحها القران الكريم في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((4)) . وأثنى عليها رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فقد أخرج الإمام احمد عن أنس بن مالك قوله: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)) ((5)) . 4. {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} :

_ (1) تاريخ الرُّسُل والملوك: 1 /386. الكامل في التاريخ: 1 /95 –96. (2) السبط: هو ولد الولد كأنه امتداد الفروع. ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 227. (3) ينظر روح المعاني: 20 /47. (4) سُوْرَة التَّحْرِيمِ: الآية 11. (5) مسند أحمد بن حنبل (241 هـ) شرحه ووضع فهارسه: أحمد مُحَمَّد شاكر. دار المعارف للطباعة والنشر بمصر. 1368 هـ – 1949 م.: 14 /147. صحيح ابن حبان. مُحَمَّد بن حبان بن أحمد أبوحَاتِم التميمي البستي. ت 354 هـ. ضبط وتحقيق: عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد عثمان. المكتبة السلفية. المدينة المنورة. ط1. 1970م.: 15 /401. المستدرك على الصحيحين: 3 /171.

أختلف الأقوال في هذه الآية، فقيل: أي قالت تخاصم عنه وتحببه إلى فرعون: إنه مما تقر به العيون، وتفرح لرؤيته القلوب، فلا تقتلوه. ثم ذكرت العلة التي قالت لأجلها ما قالت {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ، أي: لعلنا نصيب منه خيراً لأني أرى فيه مخايل اليمن ودلائل النجابة، أو نتخذه ولداً لما فيه من الوسامة وجمال المنظر التي تجعله أهلا لتبني الملوك له، وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون، فوهبه لها " ((1)) . أخرج ابن جرير عن محمد بن قيس قال: " قال امرأة فرعون: {قرت عين لي ولك لا تقتلوه} قال فرعون: قرة عين لك أمّا لي فلا. قال محمد بن قيس: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لو قال فرعون قرة عين لي ولك لكان لهما جميعاً)) " ((2)) . 5. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} : " أي: بإلقائه هو الذي يفسد ملك فرعون على يده قاله قتادة، وغيره " ((3)) . ما يستفاد من النصّ يمكن إن نفيد من هذه الآيات العبر والعضات الآتية:

_ (1) تفسير المراغي: 20/39. (2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 13 / 254. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6 /394. والحديث لم أقف عليه في كتب الحديث. (3) الجواهر الحسان في تَفْسِير القُرْآن. عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مخلوف الثعالبي. ت 876 هـ. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. بيروت. (د. ت) .: 4 /265.

أولا ـ إن الحذر لا ينفع من القدر، ويتبين ذلك في التحدي الإلهي الكبير لقوة فرعون الغاشمة من طفل رضيع لا حول له ولا قوة، إلا من قوة الله وحمايته. فيتحدى الله به جبروت فرعون وعظمته، فقد قتل فرعون مئات الأطفال من أجل العثور على هذا الطفل الموعود الذي سيكون على يديه هلاك ملكه، فيتحدى الله كلّ حصونه، ويفشل كلّ تدابيره، ويجعل هذا الطفل الموعود في متناول يده وبين جنده وحراسه وفي قصره، ولا يستطيع أن يؤذيه. فقد زود الباري عز وجل هذا المولود الرضيع بسلاح لم يعهده الناس من قبل كسلاح لدفع الخطر عنه، وهو سلاح (الحب) قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ((1)) ، فملأ الله قلب امرأة فرعون (آسيا) المؤمنة بالحب لهذا الطفل، فاستخدمت ذكائها وفطرتها في منع فرعون من أن تناله، فقدمت عذر المنفعة {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا} ، وأردفته بعذر آخر وهو {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} لأن فرعون كان بحاجة إلى الولد. ثانيا ـ إن وجود الصالحين في المجتمعات الفاسدة يخفف من أذى المفسدين، فإن وجود امرأة فرعون كان سبباً في إنقاذ سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، فقالت امرأة فرعون: {لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ، وهذا من المعاني الكامنة في سياق النص.

_ (1) سُوْرَة (طَه) : الآية 39.

ثالثا ـ الاستفادة من منهج القران في تناول الأحداث في ربط الماضي بالحاضر، فإن ما حدث لأمريكا في 11 أيلول من ضربات شبيهة بما حدث لفرعون ودولته، ويعيد المسلمين إلى القران ودراسة منهجه في تحليل الأحداث والأزمات. والقرآن يؤكد دائماً على أن الأمر كله لله. وهذه حقيقة ينبغي لكل مسلم أن يعتقد فيها. ففي ظل الهيمنة الأمريكية التي بلغت ذروة عنفوانها بعد دمار الاتحاد السوفيتي وتفكك معسكره، ظن كثير ممن يضع يده في يد أمريكا، وخُدع بالإعلام الأمريكي الذي طبل وزمر وروج لأمريكا، فأدخل الرعب في قلوبهم، إنها وأجهزة مخابراتها تعلم دقائق الأمور وجلائلها. ولسان حاله يقول: نخشى أن تصيبنا دائرة فجاء هذا الحادث ليرد على مثل هذه الأراجيف والخور الذي يخالط أفئدة من في قلوبهم مرض، والسامعين لهم، والمتأثرين بما يبثون من أفكار لتخضع الأمة، ليقول الجميع: إن الأمر كله لله من قبل 11 أيلول، ومن بعده، وما أمريكا أو غيرها من قوى الظلم والطغيان مهما بلغت في تكبرها وتجبرها، إلا منفذة لأمر الله العزيز الجبار، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وكذلك لتؤكد هذه الأحداث أن الحذر لا ينفع من القدر فأمريكا لم تنفعها كل استحكاماتها وقوة مخابراتها من قدر الله شيئاً، كما لم تنفع فرعون من قبل كل استحكاماته وحذره من قدر الله في شيء.

المطلب الثالث: المعجزة الإلهية في تحريم المراضع على سيدنا موسى (- عليه السلام -)

المطلب الثالث: المعجزة الإلهية في تحريم المراضع على سيدنا موسى (- عليه السلام -) {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) . المناسبة يستمر النص القرآني بمتابعة مسيرة حياة سيدنا موسى (- عليه السلام -) فبعد أن بين القرآن الكريم حالة الأم الحائرة في بداية ولادة سيدنا موسى، وإنزال الإيحاء المطمئن لها والمبشر بأن ترضعه وتضعه في تابوت في البحر. ثُمَّ يتابع النص مسيرته ووصوله إلى يد ملتقطيه من آل فرعون وما حصل له في القصر، وكيف أن الله جَلَّ وَعَلا هيئ له أسباب النجاة بزرع محبته في قلب امرأة فرعون. ثُمَّ ينتقل النص بالقارئ من القصر مباشرة إلى البيت الذي ولد فيه موسى (- عليه السلام -) ليصف لنا حالة أمه بعد فراق ولدها وفلذة كبدها، فالتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة كالصورة الحية فقال: (فارغاً) ، أي: لا عقل فيه ولاوعي ولا قدرة على نظر أو تصريف، فكادت من شدة خوفها عليه أن تذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أن أضعت طفلي ((2)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 10 -13. (2) ينظر في ظلال القرآن: 6 /327.

فيأتي الإعجاز الإلهي بالربط على قلبها وتثبيته، ثم تأتى المعجزة الأخرى، تحريم المراضع عليه، ليجعلهم يحتارون به، وهي مرحلة إعادته إلى أمه لينجز لها الوعد الإلهي، ويلاحظ الترابط العجيب بين الأحداث كما هو حاصل في الجمل والعبارات: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) . تحليل الألفاظ 1. {فُؤَادُ} : التَّفَؤُّدُ: التَّوَقُّد. والفؤاد القلب لِتَفَؤُدِه وتوَّقِده مذكر لا غير، صرّح بذلك اللحياني، يكون بذلك لنوع الإنسان وغيره من أنواع الحيوان الذي له قلب. والفؤاد القلب. وقيل: وسطه. وقيل: الفؤاد غشاء القلب حبته وسويداؤه والجمع أفئدة ((2)) . 2. {فَارِغًا} : الفَرَاغُ: الخلاء. فَرَغَ يَفْرَغُ ويَفْرُغ فَراغَاً وفُروغاً. وفَرغ يَفرَغ وفَرَّغ المكان: أخلاه. وتَفْرِّيغ الظُّرُوف إخلاؤها ((3)) . 3. {لَتُبْدِي} :

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (2) ينظر العين، الفراهيدي، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد، ت 175 هـ، تحقيق: د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، بغداد، 1980 ـ 1985. مادة (فود) 8/ 79. لِسَان العَرَب: مَادة (فود) 3/ 328. (3) ينظر العين: مادة (فرغ) 4 /408. القاموس المحيط. مجد الدِّيْن مُحَمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي الصديقي الشيرازي أبو الطاهر. ت 817 هـ. المؤسسة العربية للطباعة والنشر. بيروت. لبنان. (د. ت) .: مادة (فرغ) 1 /1016. لِسَان العَرَب: مَادة (فرغ) 8 /444 –445. المصباح المنير. الفيومي. أحمد بن مُحَمَّد بن عَلِيّ المقرئ. = = ت 770 هـ. تصحيح: مصطفى السقا. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. ط1. 1322 هـ.: مادة (فرغ) 2 /554.

بَدَا الشيء يَبْدُو بَدْواً وبُدُوّاُ وبَداءً وبَداً، الأخذ عن سيبويه: ظهر. وأبديتهُ إن أظهرته ((1)) . 4. {رَبَطْنَا} : " رَبَطَ الشيءَ يَرْبِطُه ويَرْبُطُه رَبْطاً، فهو مَرْبُوطٌ ورَبِيطٌ: شدَّه. والرِّباطُ: ما رُبِطَ به، والجمع رُبُطٌ، وربَط الدابةَ يربِطُها ويربُطُها رَبْطاً وارْتَبَطَها … والرِّباط الفؤاد كأن الجسم رُبِط به ورجل رابِطُ الجأش " ((2)) . 5. {قُصِّيهِ} : يقال: قَصَصْت الشيء إِذا تتبّعْت أَثره شيئاً بعد شيء. قال الأزهري: القصّ اتباع الأثر، ويقال: خرج فلان قصَصَاً في إثر فلان، وقصّاً وذلك إذا اقتص أثره. وقيل: القاصّ يقصّ لاتباعه خبراً بعد خبر والقَصِيصَة البعير أو الدابة يُتَّبع بها الأثر. وهو الرؤيا عن بعد ((3)) . 6. {جُنُبٍ} : الجَنْبُ والجَنَبَة والجَانِب: شِقُّ الإنسانِ وغيره، تقول: قعدت إلى جَنب فلان وإلى جانبِه والجمع جُنُوب وجَوَانِب وجَنَائِب، والأخيرة نادرة وقال الفراء: الجنب القرب، والجنب الناحية ((4)) . 7. {يَكْفُلُونَهُ} :

_ (1) العين: مادة (بدو) 8 /83. القاموس المحيط: مادة (بدا) 1 /1629. لِسَان العَرَب: مَادة (بدو) 14/ 65. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (ربط) 7/ 302 –303. (3) ينظر المصباح المنير: مادة (قصص) 2/ 505. لِسَان العَرَب: مَادة (قصص) 7/ 73 –75. (4) ينظر القاموس المحيط: مادة (الجنب) 1 /88 –89. لِسَان العَرَب: مَادة (جنب) 1 /275 –276.

الكافِل: العائل، كَفَلَه يكَفْلُه وكَفَّله إياه، والكافِل القائم بأمر اليتيم المربِّي له، وهو الكفيل الضمين. والكافل فهو الذي كَفَلَ إنساناً يَعُوله ويُنْفِق عليه ((1)) . 8. {نَاصِحُونَ} : نَصَح الشيء خَلَص. والنَاصِح الخَالِص من العسل وغيره، وكل شيء خَلَصَ فقد نَصَحَ. والنُّصْح نقيض الغِشّ، مشتق منه نَصَحَه وله نُصْحًاً ونَصِيحة ونَصَاحَة ونِصَاحَة ونَصاحِيّةً ونَصْحَاً. ويقال: نَصَحَت له نَصِيْحَتي نَصُوحَاً، أي: أخْلَصْتُ وصَدَقْتُ ((2)) . القراءات القرآنية 1. {فُؤَادُ} : قرأ أحمد بن موسى عن أبي عمرو: (فُوَاد) بالواو ((3)) . 2. {مُوسَى} : وقريء (مؤسى) بالهمز جعلت الضمة في جارة الواو وهي الميم كأنها منها فهمزت ((4)) . 3. {فَارِغًا} :

_ (1) ينظر مختار الصحاح. مُحَمَّد بن أَبِي بكر بن عَبْد القادر الرَّازِي. ت 666 هـ. دار الكِتَاب العربي. بيروت. لبنان. ط1. 1401 هـ ـ 1981 م.: مادة (كفل) 1 /239. لِسَان العَرَب: مَادة (كفل) 11/ 599 –560. المصباح المنير: مادة (كفل) 2 /563. (2) ينظر أَسَاس البَلاَغَة: ص 458. لِسَان العَرَب: مَادة (نصح) 2 /615. (3) ينظر معاني القُرْآن. يحْيى بن زِياد الفَرَّاء أبو زَكَرّيا. ت 207 هـ. مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب. ط3. 1972 ـ 1973 م.: 2 / 303. المحتسب: 2 /147. التبيان في إعراب القرآن: 2 /96. البَحْر المُحِيْط: 3 /106. (4) ينظر المحتسب: 2 /148. الكَشَّاف: 3 /167. التبيان في إعراب القرآن: 2 /95 –96.

قال أبو حيان: " القراءات الشواذ في اللفظة قرأ فضالة بن عبيد، والحسن، ويزيد بن قطيب، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير (فَزِعَاً) بالزاي والعين المهملة من الفزع وهو الخوف. وعن ابن عباس (قَرِعًاً) بالقاف وكسر الراء وإسكانها (قَرْعَاً) . وقرأ بعض الصحابة (فِزْعًاً) بغين منقوطة، ومعناه ذاهباً. وقرأ الخليل بن أحمد (فُرُغًاً) بضم الفاء والراء ((1)) . وقرأ فضالة بن عبيد (فَرِغَاً) بفتح الفاء وكسر الراء ((2)) . 4. {فَبَصُرَتْ} : وقرأ قتادة بفتح الفاء والباء والصاد (فَبَصَرت) . وقرأ عيسى بكسر الصاد (فَبَصِرَت) ((3)) . 5. {جُنُبٍ} : قرأ قتادة، والحسن، والأعرج، وزيد بن علي (جَنْب) بفتح الجيم وسكون النون. وعن قتادة بفتحها (جَنَب) . وعن الحسن بضم الجيم وإسكان النون (الجُنْب) . وقرأ النعمان بن سالم (عن جَانِب) وكلها بمعنى واحد ((4)) . القضايا البلاغية 1. الكناية ((5)) ، وذلك في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} ، فإن ذلك كناية عن فقدان الفعل وطيش اللب. والمعنى أنها حيث سمعت بوقوعه في يد فرعون طاش صوابها وطار عقلها لما أنتابها من فرط الجزع والدهش. ومثله قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} ((6)) ، أي: جوف لا عقول فيها، ومنه بيت حسان:

_ (1) ينظر المحتسب: 2 /148.: البَحْر المُحِيْط: 3 /106. (2) ينظر الكَشَّاف: 3/167. (3) ينظر الكَشَّاف: 3 /167. البَحْر المُحِيْط: 7/107. (4) ينظر الكَشَّاف: 3 /167. مفاتيح الغيب: 12/ 320. البَحْر المُحِيْط: 7 /107. (5) الكناية: هو أن تتكلم بالشيء وتريد غيره، وكنى عن الأمر بغيره. معجم المصطلحات البلاغية: 3 /154. (6) سُوْرَة إِبْرَاهِيمُ: الآية 43.

ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء ((1)) وذلك أن القلب مراكز العقول ((2)) ، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ((3)) . 2. الاستعارة في قوله تعالى: {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} شبّه ما قذف الله في قلبها من الصبر بربط الشيء المنفلت خشية الضياع، واستعار لفظ الربط للصبر ((4)) . 3. الاستعارة في قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} " لما كان التحريم الحقيقي بكونه عبارة عن النهي واقتضاء ترك الفعل غير متصور هاهنا، لكونه فرع التكليف جعل التحريم مستعاراً للمنع من الإرتضاع بأن شبّه المنع بالتحريم للمناسبة بينهما في التأدية إلى الامتناع فأطلق عليه اسم التحريم واشتق منه حرمنا " ((5)) . المعنى العام 1. {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} : (أصبح) فيها وجهان للعلماء: أحدهما أنما ألقته ليلاً فاصبح فؤادها في النهار فارغاً. الثاني أنها ألقته نهاراً. ومعنى (أصبح) ، أي: صار كما قال الشاعر:

_ (1) ينظر ديوان حسان بن ثابت. تحقيق: فوزي عطوي. الطبعة الثانية. دار الكتاب العربي. بيروت. 1975 م.: ص 110. (2) ينظر الكَشَّاف: 3 /167. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 / 286. (3) سُوْرَة الحَجِّ: الآية 46. (4) ينظر حاشية الشهاب: 7 /66. صفوة التفاسير. تَأَلِيْف مُحَمَّد عَلِيّ الصابوني. الطبعة السادسة. دار القُرْآن الكَرِيْم. 1981م.: 2 /428. (5) حَاشِيَة الشيخ محيي الدِّيْن أحمد القنوجي. والمسمى حَاشِيَة الشيخ زاده على تَفْسِير البيضاوي. ت 1307 هـ. المطبعة السلطانية. الإستانة. 1283 هـ.: 2 /506.

مضى الخلفاء بالأمر الرشيد وأصبحت المدينة للوليد ((1)) (فارغاً) في معناها أربعة أقوال: القول الأول: أي: خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك. القول الثاني: وقال الحسن، وابن إسحاق، وابن زيد: فارغاً من الوحي إذ أوحي إليه حين أمر إن تلقيه في البحر {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} ((2)) ، والعهد الذي عهده إليه إن يرده ويجعله من المرسلين. القول الثالث: فارغاً من الهم والحزن لعلمها أنه لم يغرق. قاله أبو عبيدة. والأخفش ((3)) . وقد ردّ أغلب المفسرين هذا الرأي، فقال ابن قتيبة في (غريب القرآن) : " وهذا من أعجب التفسير، كيف يكون فؤادها من الحزن فارغاً في وقتها ذاك والله تعالى يقول: {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ، وهل يربط إلا على قلب الجازع والمحزون، والعرب تقول للخائف والجبان: فؤاده هواء " ((4)) .

_ (1) ينظر جامع البيان: 10 /35- 36. زَاد المَسِيْر: 6/ 204. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4972. البَحْر المُحِيْط: 7 /106 –107. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (3) نسب القرطبي هذا القول للأخفش في الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4917. ولكن حينما رجعت إلى كتاب معاني القُرْآن. صنفه الأخفش الأوسط. الإِمَام أبو الحَسَن سعيد بن مسعده المجاشعي البلخي البصري. ت 215 هـ. تحقيق: د. فائز فارس. ط1 1400 – 1979. ط2 1401 – 1980. 2/ 652 وجدته يقول بأن معنى (فارغاً) من الوحي، ولا يقول بأنه فارغاً من الحزن. (4) تفسير غريب القُرْآن. ابن قتيبة. ت 276 هـ. تحقيق: أحمد صقر. مطبعة البابي الحلبي. مصر. 1329 هـ.: ص 328.

وقال الطبري: " هذا قول لا معنى له لخلافه قول جميع أهل التأويل " ((1)) . وقال أبو حيان: " وهذا فيه بعد، وتبعده القراءات الشواذ التي في اللفظة " ((2)) . وقد ردّ الشيخ زاده على هذه الردود بقوله: " الحصر ممنوع، فأنه تعالى كما يربط على قلب الجازع الحزين يربط على قلب الواثق بوعد الله تعالى وضمانه، ومعنى الربط على القلب إلهامه الصبر وتقويته، كما يربط على الشيء المتقلب ليقرّ ويطمئن " ((3)) . القول الرابع: أصبح فؤادها فزعاً، أو نافراً. قاله العلاء بن زياد. وقال الكسائي: ذاهلاً. وقيل: والهاً، قاله سعيد بن جبير، وهو ذهاب العقل. والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش، ونحوه قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} ((4)) ، أي: جوفى لا عقول بها، وذلك أن القلوب مراكز العقول ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ((5)) . ويستدلون على قولهم بقراءة من قرأ: (أصبح فؤاد أم موسى فَزعاً) بزاي معجمة ((6)) . والذي أراه: أن أولى الآراء ملاءمة مع النص القرآني هو قول من قال بأن معناه أن فؤاد أم موسى أصبح فارغاً من كل شيء إلا من هم موسى، بدلالة قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} من شدة الخوف على ولدها، فلم يبق لها أي تفكير سوى تفكيرها بسلامة ولدها. 2. {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في معناها: كادت أن تقول وا أبناه ((7)) .

_ (1) جامع البيان: 10 /36. (2) البَحْر المُحِيْط: 7 /107. (3) حاشية الشيخ زاده: 2 /506. (4) سُوْرَة إِبْرَاهِيمُ: الآية 43. (5) سُوْرَة الحَجِّ: الآية 46. (6) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4917. (7) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2947.

وأخرج القرطبي عن السدي: كادت تقول لما حُمِلت لإرضاعه وحضانته: هو ابني. وقيل: " إنه لما شَبَّ سمعت الناس يقولون موسى بن فرعون، فشق عليها وضاق صدرها وكادت تقول هو ابني " ((1)) . 3. {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} : قال قتادة: بالإيمان. وقال السدي: بالعصمة ((2)) . 4. {لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} : أي: المصدقين بوعد الله تعالى أو من الواثقين بحفظه لا بتبني فرعون وتعطفه، فالمراد بالمؤمنين المصدقون بوعد الله ((3)) ، فاستعمل الإيمان هنا بمعناه اللغوي دون الشرعي، لأنها كانت من المؤمنين من قبل أو أريد من كاملات الإيمان ((4)) . 5. {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} : أي: اتبعي أثره وانظري أين وقع وإلى من صار، يقال: قصصت الشيء إذا تتبعت أثره متعرفاً حاله ((5)) . وفي اسم أخت موسى قولان: القول الأول: مريم بنت عمران، وافق اسمها اسم مريم أم عيسى (- عليه السلام -) ذكره السهيلي والثعلبي. القول الثاني: ذكره الماوردي عن الضحاك أن اسمها كلثمة. وقيل: كلثوم ((6)) . فإن قيل: ما الغرض من التعبير القرآني بلفظ (لأخته) دون أن يقال: (لبنتها) ؟ قال أبو السعود: للتصريح بمدار المحبة الموجبة للامتثال بالأمر ((7)) . 6. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} :

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4972. (2) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4972. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6 /395. (3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /5. (4) التحرير والتنوير: 20 /82. (5) ينظر الوسيط: 3/ 392. (6) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /219.الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4972. (7) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /5.

قال ابن عباس (- رضي الله عنه -) : أبصرته. قال المبرد: أبصرته وبصرت به بمعنى واحد ((1)) . والفاء فصيحة، أي: فقصت أثره فبصرت به. (عن جنب) قال قتادة: تنظر إليه كأنها لا تريده ((2)) . وقيل: " عن شوق إليه حكاه أبو عمرو " ((3)) . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قوله: " بصرت به وهي مجانبة لم تأته ". وإخراج عن مجاهد قوله: " عن بعيد " ((4)) . (وهم لا يشعرون) . قال المراغي: " أي وهم لا شعور لهم بما خبأه لهم القدر، وبما يؤول إليه أمرهم معه من عظائم الأمور التي تؤدي إلى هلاكهم، وإنما علم ذلك لدى علام الغيوب " ((5)) . وسياق الأمر يشعر بالحنان في كلام أخت أم موسى (- عليه السلام -) على ما يظهر في المعاني المستنبطة من كلامها. 7. {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} : قال ابن عاشور: " هو تحريم تكويني، أي: قدرنا في نفس الطفل الامتناع من إلتقام أثداء المراضع وكراهيتها ليضطر آل فرعون إلى البحث عن مرضع يتقبل ثديها " ((6)) . و (المراضع) : " جمع مُرضِع، وهي المرأة التي ترضع أو جمع مَرضَع وهو موضع الرضاع، أي: الثدي أو الرضاع " ((7)) . وقيل: المقصود بذلك المراضع المحضرة التي أحضرها فرعون ((8)) .

_ (1) ينظر روح المعاني: 20/50. (2) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4973. (3) البَحْر المُحِيْط: 7 /107. (4) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2948. (5) ينظر تفسير المراغي: 20 /39 –40. (6) التحرير والتنوير: 20 /83. (7) مفاتيح الغيب: 20 /230. مدارك التنزيل وحقائق التَّأؤيِل. المعروف بتفسير النسفي. عَبْد الله بن احمد بن محمود النسفي. ت 710 هـ. دار الكِتَاب العربي. طبع بهامش تَفْسِير الخازن. مؤسسة الرسالة. بيروت. لبنان. (د. ت.) .: 3 / 228. (8) الفُتُوحَات الإِلَهِية: 3 /338.

(من قبل) " أي: من قبل قصها أثره " ((1)) . 8. {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} : قال ابن عاشور: " الفاء فصيحة تؤذن بجملة مقدرة، أي: فأظهرت أخته نفسها كأنها مرت بهم عن غير قصد، وإنما قالت ذلك بعد أن فشا في الناس طلب المراضع له، وتبديل مرضعة عقب أخرى، حتى عرض على عدد كثير في حصة قصيرة، فعرضت أخته سعيها في ذلك بطريق الاستفهام المستعمل في العرض تلطفاً مع آل فرعون، وإبعاداً للظنة عن نفسها " ((2)) . يقول الباحث: إن أخت موسى قالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ولم تقل على أم ترضعه؟ فلماذا كان ذلك؟ وقال البقاعي: " لتوسع دائرة الظن " ((3)) ، أي: أرادت أن تبعد معرفتها بهذه المرأة المرضعة وصلتها بالطفل الرضيع. وذكر الآلوسي تخريجاً آخر " وهو أن المراد بذلك امرأة من أهل الشرف تليق بخدمة الملوك " ((4)) . والذي أراه أن المعنى الأول اقرب لأن الموقف صعب جداً على أخت موسى، فأرادت بأي طريقة أن تخفي هوية هذا الطفل، وهوية المرضعة. (يكفلونه) " أي: يضمونه ويقومون بشؤونه ويرضعونه " ((5)) . (وهم له ناصحون) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: " فأخذوها فقالوا: ما يدريك ما نصحهم له وشفقتهم عليه؟ هل تعرفونه؟ حتَّى شكوا في ذلك، فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك رجاء منفعة فأرسلوها " ((6)) .

_ (1) محاسن التأويل: 13 /4698. (2) التحرير والتنوير: 20 /83. (3) نظم الدرر: 5/ 469. (4) روح المعاني: 20 /50. (5) التفسير الفريد للقرآن المجيد. د. مُحَمَّد فريد وجدي. الطبعة الثالثة. دار الزهراء. القاهرة. 1976 م.: 3 /2358. (6) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2950.

وأخرج عن السدي: " فأخذوها فقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله؟ فقالت: ما أعرفه، ولكن إنما هم للملك ناصحون، فلما جاءت أمه أخذ منها " ((1)) . 9. {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ} : قال القرطبي: " أي: رددناه. وقد عَطّف الله قلب العدو عليه، ووفينا لها بالوعد كي تقرعينها ولا تحزن " ((2)) . قال البقاعي: " أي: تبرد وتستقر عن الطرف في تطلبه إلى كل جهة، وتنام بإرضاعه وكفالته في بيتها آمنة لا تخاف " ((3)) . 10. {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : قال ابن كثير: " أي: فيما وعد من رده إليه وجعله من المرسلين فحينئذ تحققت برده إليها إنه كائن من المرسلين " ((4)) . 11. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} : فيها أربعة وجوه: أحدهما: ولكن اكثر الناس في ذلك العهد وبعد لا يعلمون لإعراضهم عن النظر في آيات الله. ثانياً: قال الضحاك، ومقاتل: يعني أهل مصر لا يعقلون أن الله وعدها برده إليها. ثالثاً: هذا كالتعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى (- عليه السلام -) فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً. رابعاً: أن يكون المعنى أنا إنما رددناه إليك لتعلم أن وعد الله حق، والمقصود الأصلي من ذلك الرد هذا الغرض الديني، ولكن الأكثر لا يعلمون أن هذا هو الغرض الأصلي ((5)) . ما يستفاد من النصّ

_ (1) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2950. (2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4974. (3) نظم الدرر: 5/ 470. (4) تفسير القرآن العظيم: 3 /382. (5) مفاتيح الغيب: 12 /231.

أولاً. الفرج بعد الشدة قد يكون سريعاً، وقد يكون بعد حين. وكل ذلك بمشيئة الله وحكمته، فهو الذي يدفع الضر عن الإنسان، ويأتي بالفرج بعد الشدة، فعلى المسلم أن يتوجه إلى ربه لرفع ما حل به من شدة وضرر، ولكن لا يجوز له أن يوقت لله تعالى، فقد يكون سريعاً، وقد يكون بعد حين. فمن أمثلة الفرج السريع ردّ موسى وهو رضيع إلى أمه بعد أن ألقته في اليم ((1)) . قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ} ، فقال ابن كثير: " ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل يوم وليله " ((2)) . وأمثلة الفرج بعد أمد إرجاع سيدنا يوسف (- عليه السلام -) لوالده يعقوب (- عليه السلام -) بعد عشرات السنين. وحصول الفرج لسيدنا أيوب (- عليه السلام -) بعد أن لازمه المرض سنين عديدة. قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ((3)) . فمن ذلك يتبين لنا أن الله مع المؤمنين الصابرين يعزهم بنصره، بعد أن يبتليهم بالشدائد والمصائب، فعلى المؤمنين أن يصبروا في الشدائد ويلتجئوا إلى الله تعَاَلىَ بالدعاء، ولا يستعجلون النصر، مع الأخذ بالأسباب. ثانياً. في قوله تعالى {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} إضافة إلى ما قاله المفسرون في تفسيرهم لقوله تعالى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ينقدح في ذهن الباحث أن هناك إشارة واضحة أراد الله جل وعلا أن ينفي الألوهية عن فرعون، وينفي كذلك علمه بالغيب، إذ لو كان إلهاً كما يدعي لأمكنه أن يتعرف على هوية الطفل، فأراد الله جل وعلا أن يظهر كذب فرعون بادعائه الألوهية من خلال واقع ملموس وتجربه حية.

_ (1) ينظر المستفاد من قصص القرآن: 1 /362. (2) تفسير القرآن العظيم: 3 /382. (3) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 83.

وذلك نظير ما كان يعتقد الناس في زمن سيدنا سليمان (- عليه السلام -) أن الجن تعلم الغيب. قال تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} ((1)) ، ولم يستطع سيدنا سليمان (- عليه السلام -) أن يغير قناعة الناس، فأراد الله جل في علاه من خلال إماتته لسيدنا سليمان وهو متكأ على عصاه والجن تخدمه ولم يعلموا بذلك إلا بعد أن أكلت الإرضة عصاه فخرّ، وحينها تأكد للجميع أن الجن لا تعلم الغيب، من خلال واقع ملموس. ثالثًا. ما في قوله تعالى: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} من الإشارة إلى تذكير المؤمنين في كل زمان بأن النصر الذي وعدهم إياه حاصل لا محالة، وفيه إنذار للظالمين ولأعداء الإسلام بأن وعيد الله لهم لا مفرّ لهم منه، فالثقة واليقين بنصر الله سبيل الراشدين والفائزين بالنصر، ولابد للمسلم أن لا يتأثر بما يوضع لهم من عراقيل، بل إن ذلك يزيدهم طموحاً وتفاؤلاً، لأنه واثقاً بنصر الله، فالمؤمنون هم المتفائلون، وغيرهم البائسون، وآيات البشارة مبثوثة في آيات كثيرة من القرآن الكريم منها: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} ((2)) . {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ((3)) .

_ (1) سُوْرَة سَبَأ: الآية 14. (2) سُوْرَة الصَّافَاتِ: الآية 173. (3) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 33.

المبحث الثاني: سيدنا موسى (- عليه السلام -) في مرحلة البلوغ

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} ((1)) . {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) . في هذه الآيات أخبر الباري سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين ولكن متى؟ إذا قاموا بنصر دينه، وإذا قاموا بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فقد وعد الله باستخلافهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى {يَاءيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ((3)) . المبحث الثاني: سيدنا موسى (- عليه السلام -) في مرحلة البلوغ المطلب الأول: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يهبه الله الحكم والعلم {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((4)) المناسبة

_ (1) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 55. (2) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآية 47. (3) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 7. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.

نلاحظ أن النص القرآني قد تحدث عن المرحلة التي سبقت ميلاد سيدنا موسى (- عليه السلام -) بصورة موجزة، ثم فترة ولادته وإرضاعه، ولم يتحدث عن الفترة التي هي ما بين إرضاعه إلى أن بلغ أشده واستوى. فمن الطبيعي أن أم موسى بعد أن أكملت إرضاعه عادت به إلى قصر فرعون وتربى فيه وهو صغير، بدليل قوله تعالى حكاية عن فرعون: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} ((1)) . قال البقاعي في هذا الصدد: " ولما استقر الحال على هذا المنوال عُلم أنه ليس بعده إلا الخير والإقبال والعز بتبني فرعون له والجلال، فترك ما بينه وبين السن الصالح للإرسال وقال مخبراً عما بعد ذلك من الأحوال {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} " ((2)) . وقال ابن عاشور: " هذا اعتراض بين أجزاء القصة المرتبة على حسب ظهورها في الخارج، وهذا الاعتراض نشأ عن جملة {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ((3)) ، فأن وعد الله لها قد حُكي في قوله تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((4)) ، فلما انتهى إلى حكاية رده إلى أمه بقوله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} ((5)) إلى أخره كمّل ما فيه وفاء وعد الله إياها بهذا الاستطراد في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} ، وإنما أوتي الحكم أعني النبوءة بعد خروجه من أرض مدين كما سيجيء في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} ((6)) " ((7)) .

_ (1) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 18. (2) نظم الدرر: 5 /470. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29. (7) التحرير والتنوير: 20 /87.

تحليل الألفاظ 1. {بَلَغَ} : بَلَغَ الشيء يَبلَغُ بُلُوغاً وبَلاغاً: وصل وانتهى ((1)) . 2. {أَشُدَّهُ} : شدد الشّدّة: الصلابة، وهي نقيض اللين تكون في الجواهر والأعراض، والجمع شِدَدٌ. وعن سيبويه قال: جاء على الأصل لأنه لم يشبه الفعل وقد شَدَّه يَشُدَّه ويَشِدَّه شَدَّاً فَاشْتَدَّ، وكل ما أحكم فقد شُدَّ وشُدِّدَ. والأشُدّ: مبلغ الرجل الحُنْكَةَ والمَعْرِفَة. قال الفراء: الأَشُدُّ واحدها شُدّ في القياس، قال: ولم أسمع لها بواحد. وقا أبو الهيثم: وواحدة الأَنْعُم نعْمَة وواحدة الأَشُدَّ شِدَّة. قال: والشِّدَّة القوة والجلادة، والشَّدِيد الرجل القوي. وقال الأزهري: الأشُدّ في كتاب الله تعالى في ثلاثة معان يقرب اختلافها، فأما قوله تعالى في قصة يوسف (- عليه السلام -) : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ((2)) فمعناه الإدراك والبلوغ، وحينئذ راودته امرأة العزيز عن نفسه. وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ((3)) ، قال الزجاج: معناه احفظوا عليه ماله حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله. قال: وبلوغه أشُدّه أن يؤنس منه الرُّشْد مع أن يكون بالغاً. وأما قوله في قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ، فإنه قرن بلوغ الأشد بالاستواءِ، وهو أن يجتمع أمره وقوته ويكتهل وينتهي شبابه.

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (بلغ) 8 /419. (2) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 22. (3) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 152. سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 34.

وأما قوله تعالى في سورة الأحقاف: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} ((1)) ، فهو أقصى نهاية بلوغ الأشد، وعند تمامها بعث النبي محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وقد اجتمعت حُنكته وتمام عقلهِ ((2)) . 3. {وَاسْتَوَى} : قال الليث: الاسْتِواء فعل لازم من قولك سَويْتُه فاستوى. قال أبو الهيثم: العرب تقول استوى الشيء مع كذا وكذا وبكذا، إلاّ قولهم للغلام إذا تمَّ شبابه: قد استوى. واستوى الشيء: اعتدل، والاسم السواء، يقال: سَوَاءُ عَليَّ قمتَ أو قعدت، واستوى الرجل بلغ أَشُدّه. وقيل: بلغ أربعين سنة ((3)) . 4. {حُكْمًا} : قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى الحَكَم والحَكِيمُ، وهما بمعنى الحَاكِم وهو القاضي، فهو فعيل بمعنى فاعِل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، والحُكم العلم والفقه قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} ((4)) أي: علماً وفقهاً، هذا ليحيى بن زكريا. والحُكْم العِلْم والفِقْه والقَضَاء بالعَدْل، وهو مصدر من حَكَم يَحْكُم. والعرب تقول: حَكَمْت وأَحْكَمْت وحَكَمْت بمعنى مَنَعْت ورَدَدْتُ، ومن هذا قيل للحاكم بين الناس: حَاكِم لأنه يمنع الظالم من الظلم ((5)) . 5. {وَعِلْمًا} : من صفات الله عز وجل العَلِيْم والعَالِم والعَلاّمُ. والعِلمُ نقيض الجهل عَلِم عِلْماً وعَلُمَ هو نفسه، ورجل عَالِم وعَلِيم من قوم عُلَمَاء فيهما جميعاً " ((6)) .

_ (1) سُوْرَة الأَحْقَافِ: الآية 15. (2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (شدد) 3 /232 –236. (3) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (سوي) 14 / 410 – 414. (4) سُوْرَة مَرْيَمْ: الآية 12. (5) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (حكم) 14 /141 –144. (6) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (علم) 12 /416 –417.

وقال الراغب الأصفهاني: " العِلْمُ إدراك الشيء بحقيقته، وذلك ضربان: أحدهما إدراك الشيء. والثاني الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود له، أو نفي شيء هو منفي عنه. والعلم من وجه ضربان: نظري وعملي، فالنظري ما إذا عُلِمَ فقد كَمَلَ نحو: العِلْم بِمُوجُودَات العالم، والعملي مالا يتم إلا بأن يعمل كالعِلْم بالعبادات، ومن وجه آخر عقلي وسمعي " ((1)) . المعنى العام 1. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} . قد اختلف العلماء في مدة بلوغ الأشد إلى تسعة أقاويل: إحداهما: أربعون سنة قاله الحسن. الثاني: أربع وثلاثون سنة، قاله سفيان. الثالث: ثلاث وثلاثون سنة، قاله ابن عباس. الرابع: ثلاثون سنة، قاله السدي. الخامس: خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة. السادس: عشرون سنة، حكاه يحيى بن سلام. السابع: ثماني عشرة سنة، قاله ابن جبير. الثامن: خمس عشرة سنة، قاله محمد بن قيس. التاسع: الحلم، قاله ربيعه، ومالك. والذي نراه أن لا فائدة تذكر في ترجيح أي من هذه الآراء على الرأي الآخر، مما لا توجب علماً ولا عملاً على ما قاله الأقدمون، بل هي منصوصة بأية أخرى دالة على أن بلوغ الأشد يكون ببلوغ الأربعين سنة، وهي قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} ((2)) . 2. {وَاسْتَوَى} : فيه كذلك أربعة أقوال: أحدهما: اعتدال القوة. الثاني: خروج اللحية. الثالث: أي استحكم وانتهى شبابه واستقر، فلم تكن فيه زيادة ((3)) الرابع. أربعون سنة ((4)) . وقد اختلوا في مدة الاستواء إلى قولين:

_ (1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 356. (2) سُوْرَة الأَحْقَافِ: الآية 15. (3) غريب القرآن (ابن قتيبة) : ص 329. (4) النُّكَت والعُيون: 3 /22.

أحدهما: إنه أربعون سنة، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. والثاني: ستون سنة، ذكره ابن جرير ((1)) . والذي أراه أنه (أربعون سنة) بقرائن الآيات الأخرى، وهي من إرسال المرسلين ـ عَلَيْهم الصَلاة والسَّلام ـ. وقد ذكر الرازي اختلافاً آخر في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ، فذكر فيها قولين: أحدهما: إنهما بمعنى واحد وهو استكمال القوة واعتدال المزاج والبنية. الثاني: وهو الأصح إنما معنيان متغايران. ثم اختلوا على وجوه: الأشد عبارة عن كمال القوة الجسمانية البدنية، والاستواء عبارة عن كمال القوة العقلية. الأشد عبارة عن كمال القوة، والاستواء عبارة عن كمال البنية والخلقة. قال ابن عباس: الأشد ما بين الثمانية عشر سنة إلى الثلاثين، ثم من الثلاثين سنة إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة ولا نقصان، ومن الأربعين يأخذ في النقصان ((2)) . والذي يحسم الخلاف في ذلك كله هو قوله الآلوسي ـ رَحِمَه الله ـ والذي أرى أنه الراجح، " بأن البلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقوه الجسمانية، وينتهي فيه نموه المعتد به. والاستواء اعتدال عقله وكماله، ولا ينبغي تعين وقت لذلك في حق موسى (- عليه السلام -) إلا بخبر يعول عليه، ولأن الوقت يختلف باختلاف الأقاليم والأعصار والأحوال " ((3)) . ومن المشهور أن الله لم يبعث نبياً قبل الأربعين، والسر في ذلك لأن قوى الإنسان الجسمانية من الشهوة والغضب والحس قبل الأربعين قوية مستكملة، فيكون الإنسان منجذباً إليها، فإذا انتهى إلى الأربعين أخذت القوى الجسمانية في الانتقاص، والقوة العقلية في الازدياد فهناك يكون الرجل أكمل ما يكون ((4)) .

_ (1) زَاد المَسِيْر: 6 /207. (2) مفاتيح الغيب: 12/ 232. (3) روح المعاني: 20 /51. (4) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /232.

3. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} : وقد قيل في المراد بالحكم أربعة أقوال: إنه العقل، قاله عكرمة. النبوة، قاله السدي أو علماً على ما هو من خواص النبوة على ما تأول به بعضهم كلامه. القوة، قاله مجاهد. الفقه، قاله ابن إسحاق. ويحتمل أن يراد به علم الحكماء وأخلاقهم ((1)) . وذكر الزمخشري " أن المراد بالحكم السنة، وحكمة الأنبياء سنتهم " ((2)) ، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ((3)) . وقد ذكر الرازي أنه قد يعترض معترض على من قال إن معنى الحكمة: النبوة وما يقترن بها من العلوم والأخلاق، فتكون النبوة قبل قتل القبطي، فسياق الآيات يخالف ذلك، فإن الله قد أعطاه الحكم والعلم، ثم دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} . ويجيب: ليس في الآيات دليل على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القطبي أو بعده، لأن الواو في قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} لا تفيد الترتيب ((4)) . والذي أرجحه هو قول الشيخ زاده بأن المراد بالحكم علم الحكماء وأخلاقهم (5) ، ولا يمكن أن يراد به النبوة لما يأتي: أولاً: لقوله تعالى في نهاية الآيات {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ، فجعل الله إيتاء الحكم والعلم مجازاة على إحسانه، والنبوة اصطفاء من الله لا تأتي جزاء على عمل.

_ (1) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /220. حاشية الشيخ زاده: 2 /507. (2) الكَشَّاف: 3 /168. (3) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 34. (4) مفاتيح الغيب: 12 /232. وينظر حاشية الشيخ زاده: 2 /507. (5) حاشية الشيخ زاده: 2 /507.

ثانياً: لو كان المراد بالحلم والعلم النبوة لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين ((1)) لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . وقد اختلف العلماء كذلك في المراد بالعلم إلى ثلاثة أوجه: أحدهما: إنه الفهم. الثاني: الفقه. الثالث: العلم بما في دينه من شرائعه وحدوده ((2)) . والرأي الراجح عندي إنه العلم بما في دينه لأنه مما أوحي إليه. 4. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} : " أي: كما جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله وألقت ولدها في البحر وصدقت بوعد الله فرددنا ولدها إليها، ثم وهبنا له العقل والحكمة والنبوة، وكذلك نجزي كل محسن " ((3)) . ما يستفاد من النصّ

_ (1) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 232. (2) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /220. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4975.

المطلب الثاني: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يقتل قبطيا خطأ

نستدل من هذه الآية على عصمة الأنبياء فإن سيدنا موسى (- عليه السلام -) مع أنه عاش في بيت فرعون لم يتأثر بالجو الديني والأخلاقي الفاسد في داخل القصر، إن الله جل وعلا قد حماه منذ ولاته إلى أن بلغ، فنجاه من القتل، وحماه من الغرق، وحماه وهو في قصر فرعون من أن يصاب برذاذ الكفر والأخلاق الفاسدة، فلم يلج الكفر قلبه صغيراً كان أو كبيراً، وأنه رضع عقيدة التوحيد والإيمان بالله مع لبن أمه، كيف لا وقد تعهد الله بحفظه بقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ((1)) . فقد كان مؤمناً بالله، منيباً إليه، وتبين ذلك من خلال ندمه وطلب المغفرة من الله حينما ضرب القبطي فقتله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ((2)) . ومما هو معروف أن هذه الحادثة قد وقعت قبل نبوته. المطلب الثاني: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يقتل قبطياً خطأً

_ (1) سُوْرَة (طَه) : الآية 39. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 16 -17.

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِين} ((1)) . المناسبة بعد أن أوضحت الآيات السابقات الإرهاصات التي تسبق نبوته (- عليه السلام -) ، وذلك بإتيانه الحكم والعلم بقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . فقد أخبرت هذه الآيات سبب هجرته (- عليه السلام -) إلى مدين، وجملة {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} عطف على جملة {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ((2)) عطف جزء القصة على جزء أخر منها. وقد علم موسى أنه من بني إسرائيل لعلمه بأن أمه كانت تتصل به في قصر فرعون، وكانت تقصّ عليه نبأه كله ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 15 -19. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (3) ينظر التحرير والتنوير: 20 /88.

فنلاحظ كيف أفاد العطف في الإجابة عن ما تبادر إلى الذهن من سؤال: هو كيف علم إنه إسرائيلي؟ وذلك عن طريق أمه التي جيء بها لإرضاعه في قصر فرعون، فمن ذلك يتبين لنا الإعجاز القرآني في استخدام الإشارات القرآنية للتعبير عن معاني كامنة اكتفى الَقُرْآن الكَرِيم بالإشارة إليها باستخدامه للعطف. تحليل الألفاظ 1. {الْمَدِينَةَ} : مَدَنَ بالمكان أقام به، فِعْل، ومنه المَدِينَة وهي فَعِيلة وتجمع على مدائن بالهمز. ومُدْن ومُدُن بالتخفيف والتثقيل. وفيه قول آخر إنه مفعلة من دَنَت، أي: ملكت. قال ابن بري: لو كانت الميم في مدينة زائدة لم يجز جمعها على مُدْن. وفلان مَدَّنَ المَدَائِن، كما يقال: مصّر الأمصار والمدينة الحصن، وكلّ أرض يبنى بها حصن فهي مدينة، والنسبة إليه مديني، والجمع مدائن ومدن ((1)) . 2. {غَفْلَةٍ} : غَفَل عنه يغَفْل غُفُولاً وغَفْلةً وأَغْفَلَه عنه: غيره. وأَغْفَلَه تركه وسها عنه ((2)) . وقال الراغب الأصفهاني: " الغَفْلَة سهوٌ يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، يقال: غفل فهو غافل " ((3)) . 3. {فَاسْتَغَاثَهُ} : غوث، أجاب الله غَوْثاه وغُواثَه وغَواثَه. وحكى ابن الإعرابي: أجاب الله غِياثَه. والغُواث بالضم الإغاثة، وغَوَّث الرجل واسْتَغَاث صاح واغَوْثَاه، والاسم الغَوْث الغُواث والغَواث بالفتح كالغِيّاث بالكسر من الإغاثة. وقال الراغب الأصفهاني: " الغَوْث يقال في النصرة، والغَيْث في المطر " ((4)) . 4. {فَوَكَزَهُ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (مدن) 13 /402. وينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 485. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (غفل) 11 /497. (3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 375. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 379.

وَكَزَه وَكْزاً: دفعه وضربه، مثل نَكَزه. والتَّوْكز الطعن، ووَكَزَه أيضاً طعنه بجُمْعِ كفه. وقيل: وَكَزَه، أي: ضربه بجمع يده على ذقنه. وقال الكسائي: وَكَزته ونَكَزْتُه ونَهَزْتُه ولَهَزْتُه بمعنى واحد ((1)) . وقال الزمخشري: " الوَكْز الدفع بأطراف الأصابع. وقيل: بجمع الكف " ((2)) وقيل: الوَكْز الضرب في الصدر ((3)) . وقيل: الوَكز على القلب، واللَكْز في اللحى. وقال أبو زيد: في جميع الجسد وقال: هو بالجُمْع في اللهازم والرقبة ((4)) . 5. {الشَّيْطَانِ} : وهو البعيد عن الحق ومنه شَطَنَتْ الدابة شَطَنَت شُطُوناً، أي: بعدت، ومنه نوا شُطوناً بعيداً شاقة. والشَّطْن مصدر شَطَن بَشْطُنه شطاناً أي: خالفه عن وجهه (5)) . وذكر قسم من العلماء على وزن فيعال من شَطَن إذا بعد. وقال قسم من العلماء: إنها زائدة على وزن فعلان من شَاط يَشِيط إذا هلك واحترق مثل هيمان وغيمان من همام وغام ((6)) .

_ (1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (وكز) 5 /430. (2) الكَشَّاف: 30 /186. (3) ينظر لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /427. (4) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4976. (5) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (شطن) 13/ 238 –239. وينظر تاج العروس من جواهر القاموس، الزَّبَيْدِيّ، محيي الدين أبو الفضل محمد مرتضى الحسيني الواسطي الحنفي، ت 1205 هـ، مطبعة حكومة الكويت. 1386 – 1396 هـ: مادة (شطن) 15/ 353. (6) ينظر تفسير القرآن العظيم: 1 /16.

والذي يبدو لي أن الكلمة تدلّ على المعنيين، فتدل على البعد، لأن الشيطان بعيد عن الحق والصواب، وتدلّ كذلك على الاحتراق لأن الشيطان محترق بذنوبه. فلفظ الشيطان يطلق على كل متمرد من الجن والإنس والحيوان. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} ((1)) . وركب سيدنا عمر (- رضي الله عنه -) برذوناً فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً، فنزل فقال: ((ما حملتموني إلا على شيطان)) ((2)) . 6. {ظَهِيرًا} : التظاهر التعاون والتساعد، واسْتَظْهَر به، أي: استعان. وظَهَرتُ عليه: أعنته، وظَهَر عليّ أعانني كلاهما عن ثعلب. وتَظَاهَرُوا عليه تعاونوا. وظَاهَر بعضهم بعضاً أعانه. والظَّهِيْر العون الواحد والجمع في ذلك سواء، وإنما لم يجمع ظهير لأن فعيلاً وفعولاً قد يستوي فيها المذكر والمؤنث والجمع ((3)) . 7. {لِلْمُجْرِمِينَ} :

_ (1) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 31. (2) مسند الإمام أحمد: 5 /178. سُنَن النَّسَائي الكبرى. أحمد بن شُعَيب بن عَلِيّ بن عَبْد الرَّحْمَن النسائي أبو عَبْد. (215 ـ 303) . تحقيق: د. عَبْد الغفار سليمان البنداري. وسيد كسروي حسن. دار الكتب العلمية. بيروت. ط1. 1411 هـ ـ 1991م.: 8 /275. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. ضياء الدِّيْن نصر الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَبْد الكَرِيْم الموصلي أبو الفتح. ت 637 هـ. تحقيق: مُحَمَّد محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. المكتبة العصرية. بيروت. ط1. 1995 م.: 1 /160. (3) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (ظهر) 4/ 525.

الجُرْم التَّعْدي، والجرم الذنب والجمع أجْرام وجُرُوم وهو الجَرِيمَة وقد جَرَم يَجْرِم جُرْمَاً واجْتَرَم وأَجْرَم، فهو مُجْرِم وجَرِيم وتَجَّرَم عليَّ فلان، أي: ادعى ذنباً لم أفعله. وجَرَم إليهم وعليهم جَرِيمَة وإِجْرَام جنى جناية، وجَرُم إذا عظم جُرْمُه، أي: أذنب، والجُرْم مصدر الجَارِم الذي يَجْرِم نفسه وقومه شرّاً. الجَارِم الجَانِي: المُجْرِم المُذْنِب ((1)) . 8. {يَتَرَقَّبُ} : رَقَبَه يَرْقَبَه رِقْبَةً ورِقْبَاناً بالكسر فيها، ورُقُوباً وتَرَقَّبَه وارْتَقَبَه انتظره ورصده. والتَّرَقُّب الانتظار، وكذلك الارْتِقَاب، والتَّرَقُب تَنَظُّرُ وتَوَقُّع شيء ((2)) . وتفسير الرقيب على وجهين: الوجه الأول: يعني حفيظاً كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ((3)) يعني حفيظاً لأعمالكم. الوجه الثاني: يعني الانتظار لقوله تعالى: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} ((4)) . 9. {اسْتَنصَرَهُ} : الاسْتِنْصار: اسْتِمْدَاد النَّصْر. واسْتَنْصَرَه على عَدُوّه، أَي: سأَله أَن ينصُره عليه. والتَّناصُر: التَّعاون على النَّصْر. وتَنَاصَرُوا نَصَر بعضُهم بعضاً. والنَّصِير فعيل بمعنى فاعِل أَو مفعول لأَن كل واحد من المتَناصِرَيْن ناصِر ومَنْصُور. وقد نصَره ينصُره نصْراً إِذا أَعانه على عدُوّه وشَدَّ منه ((5)) . 10. {يَسْتَصْرِخُهُ} :

_ (1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (جرم) 12 /91. (2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (رقب) 1 /424. (3) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 1. (4) سُوْرَة الدُّخَانِ: الآية 59. (5) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (نصر) 5 /210.

الصَّرْخَة: الصيحة الشديدة عند الفزع أو المصيبة. الصارخ والصريخ: المستغيث. وقيل: الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث والمستصرخ المستغيث، والاستصراخ الاستغاثة، صرخ فلان يصرخ صراخاً إذا استغاث فقال: واغوثاه واصرختاه ((1)) . 11. {يَبْطِشَ} : البَطْش: التناول بشدة عند الصَّوْلة، والأَخذُ الشديدُ في كلّ شيء بطشٌ؛ بَطَشَ يَبْطُش ويَبْطِش بَطْشاً. والبَطْشُ: الأَخذ القويّ الشديد. والبَطْشة: السَّطْوة والأَخذُ بالعُنْف. ووردت البطش في القرآن على وجهين: الوجه الأول: العقوبة كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} ((2)) . الوجه الثاني: البطش القوة {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} ((3)) يعني قوة ((4)) . القراءات القرآنية 1. {على حِينِ غَفْلَةٍ} : قرأ أبو طالب القارئ: (على حِينَ) بفتح النون، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال: على حين غفل أهلها فبناه، كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض كقوله: (على حين عاتبت المشيب على الصبا) . وقال أبو حيان: هذا توجيه شذوذ ((5)) . 2. {يَقْتَتِلاَنِ} : قرأ نعيم بن ميسرة (يقِّلان) بالإدغام، نقل فتحة الأولى إلى القاف وأدغم ((6)) . 2. {فَاسْتَغَاثَهُ} :

_ (1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (صرخ) 3 /33. (2) سُوْرَة الْقَمَرِ: الآية 36. (3) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 8. (4) الوجوه والنظائر في الَقُرْآن الكَرِيم عن هارون بن موسى. تحقيق: د. حاتم الضامن. سلسة خزانة دار صدام للمخطوطات. وزارة الثقافة والإعلام. العراق. 1988 م.: ص 370. (5) ينظر البَحْر المُحِيْط: 7 /109. الدُّرُّ المَصُون: 5 /334. (6) ينظر الدُّرُّ المَصُون: 5 /334.

هذه قراءة الجمهور من الغَوْث، أي: طلب غوثه ونصره. وقرأ سيبويه، وابن مقسم، والزعفراني بالعين المهملة والنون (فَاسْتَعَانَهُ) من الإعانة. قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة: والاختيار قراءة ابن مقسم، لأن الإعانة أولى في هذا الباب. وقال ابن عطية: ذكرها الأخفش وهي تصحيف لا قراءة. وقال أبو حيان: ليست تصحيفاً فقد نقلها ابن خالويه عن سيبويه، وابن جبارة عن ابن مقسم، والزعفراني ((1)) . 3. {فَوَكَزَهُ} : قرأ ابن مسعود: (فَلَكَزَهُ) و (فَنَكَزَهُ) باللام والنون ((2)) ، والفرق بين الوكز واللكز أن الأول بجمع الكف، والثاني بأطراف الأصابع. وقيل: بالعكس والنكز كاللكز ((3)) . 4. {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} : وهنالك قراءة أخرى عند عبد الله بن مسعود: (فلا تجعلني ظهيراً) وعلى هذه القراءة دعا ربه ((4)) . 5. {يَبْطِشَ} : هذه قراءة الجمهور. وقرأ الحسن، وأبو جعفر بضمها: (يَبْطُش) ((5)) . القضايا البلاغة استخدام صيغ المبالغة (جبار، غوي، مبين) لأن فعال، وفعيل من صيغ المبالغة. الطباق المعنوي، وهو مقابلة الشي بضده في المعنى لا في اللفظ ((6)) ، {جَبَّارًا … وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ} ، لأن الجبار المفسد المخرب المكثر للقتل وسفك الدماء، ففيه طباق في المعنى ((7)) .

_ (1) ينظر المحرر الوجيز: 12 /151.البَحْر المُحِيْط: 7 /109. الدُّرُّ المَصُون: 5 /335. (2) ينظر البَحْر المُحِيْط: 7 /109. (3) ينظر الدُّرُّ المَصُون: 5 /335. (4) جامع البيان: 10 /46. (5) ينظر الكَشَّاف: 3 /169. البَحْر المُحِيْط: 7/ 110. (6) أنوار الربيع: 2 /39. (7) ينظر صفوة التفاسير: 2 /428.

الاستعطاف {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ((1)) . {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} استخدم (على) للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالى: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} ((2)) ، أي: متمكناً من حين غفلة ((3)) . وقال النحاس: " دخلت المدينة حين غفل أهلها، ولا يقال على حين غفل أهلها. ودخلت (على) في هذه الآيات، لأن الغفلة هي المقصودة، فصار هذا كما تقول: جئت على غفلة، وإن شئت قلت: جئت على حين غفلة، فكذا الآية " ((4)) . والذي يراه الباحث أن الَقُرْآن الكَرِيم أراد تخصيص دخول موسى (- عليه السلام -) إلى المدينة دون ظرفي الدخول زمانياً (حيناً) ومكانياً (المدينة) ، وهذا التخصيص المقصود منه إظهار معنى الدخول وحده، فجاءت الآية في صورتها البلاغية محتوية على الزمن (الفعل الماضي: دخل) والمكان (الاسم: المدينة) ، وإنما جاء وسط ذلك الظرف (حين) ليكون أبلغ في استشعار صيغة الدخول. المعنى العام {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} . من خلال هذه الآيات يتبادر مجموعة من الأسئلة: أولا. ما المقصود بالمدينة في هذه الآيات؟ لقد اختلف العلماء في المراد بالمدينة:

_ (1) ينظر التبيان في إعراب القرآن: 2 /1018. (2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 5. (3) ينظر التحرير والتنوير: 20 /90. (4) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2 /546.

ذكر الطبري إنما مدينة منف. ونقل أبو حيان الأندلسي هذا القول عن ابن عباس ((1)) . وقال ابن إسحاق: المقصود بالمدينة (مصر) نفسها. وقيل: خرج من قصر فرعون ودخل (مصر) . وقيل: هي مدينة عين شمس. وقيل: قرية على بعد فرسخين من مصر يقال لها: (حابين) . وقيل: الإسكندرية ((2)) . ثانياً. ما السبب الذي دعا سيدنا موسى (- عليه السلام -) لدخول المدينة متخفياً؟ لقد نقل الطبري أقوال أهل العلم في ذلك: قيل دخلها متتبعاً أثر فرعون، لأن فرعون ركب وموسى غير شاهد، فما حضر علم بركوبه فركب واتبع أثره وأدركه المقيل في هذه المدينة. وقال السدي: كان موسى حيث كبرَ يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى ابن فرعون، ثم أن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فما جاء موسى. قيل له: إن فرعون قد ركب فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض يقال لها: (منف) فدخلها نصف النهار، وقد تغلقت أسواقها وليس في طرفها أحد. ونقل الطبري عن ابن إسحاق: بل دخلها مستخفياً من فرعون وقومه، لأنه كان قد خالفهم في دينهم وعاب ما كانوا عليه. وقال آخرون: بل كان فرعون قد أمر بإخراجه من مدينته حين علاه بالعصا، فلم يدخلها إلا بعد أن كبر وبلغ أشده ((3)) .

_ (1) ينظر جامع البيان: 10 /43. البَحْر المُحِيْط: 7/109. (2) ينظر مجمع البيان: 7 /243. البَحْر المُحِيْط: 7/109. لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /241. (3) ينظر جامع البيان: 10 /42.

وأرى أن المقصود بالمدينة عاصمة ملكه، والتي يعيش فيها الأقباط، وبني إسرائيل المستضعفين. فسيدنا موسى (- عليه السلام -) لما بلغ أشده واستوى أتاه الله الحكم والعلم {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((1)) ، ونوّر بصره بالحكم والعلم، وبدء ينكر على فرعون ظلمه لبني إسرائيل، وينكر عليه ادعاءه الألوهية وعبادة الأقباط له من دون الله، فأصبحت له من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويطيعونه ويجتمعون إليه، فسمع فرعون وقومه فأغضبهم ذلك حتى ناصبوه العداء، فخاف على نفسه منهم، فلا يدخل المدينة إلا متخفياً منهم. ثالثاً. ما هو الوقت الذي دخل فيه موسى المدينة؟ قيل: وقت القيلولة، أو بين العشائين. وقيل: المقصود في وقت لا يعتاد دخولها أو ليتوقعونه. وقيل: كان يوم عيد، وهم مشغولون بلهوهم ((2)) . وذكر ابن عاشور أن " المقصود من ذكر الوقت، الإشارة إلى أن قتله القبطي لم يشعر به أحد تمهيداً لقوله بعد: {قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} ، ومقدمة لذكر خروجه من أرض مصر " ((3)) . {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} أحدهما ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل، والآخر من مخالفيه وهم القبط وإلا شارة على الحكاية ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14. (2) ينظر جامع البيان: 10 /42. (3) التحرير والتنوير: 20 /88. (4) ينظر حاشية الشهاب: 7 /286.

وقد أختلف في سبب تقاتل هذين الرجلين، فقيل: كان أمراً دينياً. وقيل: كان أمراً دنيوياً، فقد روي أن القبطي كلف الإسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون، فأبي فاقتتلا لذلك، وكان القبطي خبازاً لفرعون كما ذكر ذلك سعيد بن جبير ((1)) . وذكر الرازي قولاً غربياً لمقاتل بأن الرجلان كانا كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط، واستدل بقول سيدنا موسى في اليوم التالي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ((2)) . ويمكن الجواب على ذلك: أن المشهور إن الذي من شيعته كان مسلماً، لأنه لا يقال فيمن يخالف الرجل في دينه وطريقة إنه من شيعته فالمقصود بـ (مِنْ شِيْعَتِهِ) ، أي: ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه، أو في الدين {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ، أي: " فاستنصر الإسرائيلي موسى على القبطي " ((3)) ، " فضربه بمجمع كفه فقتله " ((4)) . وذكر ابن عاشور " والاستغاثة طلب الغوث، وهو التخلص من شدة، أو العون على دفع مشقة، وإنما يكون هذا الطلب بالنداء، فذكر الاستغاثة يؤذن بأن الإسرائيلي كان مغلوباً، وأن القبطي اشتد عليه وكان ظالماً " ((5)) . {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} قال المراغي: " إن هذا الذي حدث من القتل هو من تزيين الشيطان ووسوسته، ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه فقال: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (6) ، أي: إنه عدو فينبغي الحذر منه مضل لا يقود إلى خير بيّن العداوة والإضلال) .

_ (1) ينظر روح المعاني: 20 /53. (2) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /239. (3) الوسيط: 3 /393. (4) محاسن التأويل: 13/ 4699. (5) التحرير والتنوير: 20/89. (6) تفسير المراغي: 20/44.

{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} ، أي: بوكزٍ ترتب عليه القتل {فَاغْفِرْ لِي} ذنبي، وإنما قال (- عليه السلام -) ما قال، لأنه فعل ما لم يؤذن له به، وليس من سنن آبائه الأنبياء (- عليه السلام -) في مثل هذه الحادثة التي شاهدها، وقد أفضى إلى قتل نفس لم يشرع فيه شريعة من الشرائع قتلها ((1)) . {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} رأي المبالغ في مغفرة ذنوب عباده وصمتهم " ((2)) . {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} الباء في {بِمَا أَنْعَمْتَ} للقسم والتقدير: أقسم بما أنعمت به عليّ من المغفرة والجواب محذوف، أي: لأتوبن فلن أكون، أو متعلقة بمحذوف، أي: لاتوبنّ فلن أكون، أو متعلقة بمحذوف تقديره: " اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة، فلن أكون إن عصمتني ظهيراً للمجرمين. وقيل: (فلن أكون) دعاء لا خبر، و (لن) بمعنى لا في الدعاء. وذكر أبو حيان أن (لن) لا تكون في الدعاء ((3)) . وذكر الزمخشري أنه أراد بمظاهرة المجرمين: أما صحبة فرعون وانتظامه في حملته وتكثيره سواده حيث كان يركب ركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون. أما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له ((4)) . {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}

_ (1) ينظر روح المعاني: 20 /54 –55. (2) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /7. (3) ينظر التبيان في إعراب القرآن: 2 /177. البَحْر المُحِيْط: 7/ 109. (4) الكَشَّاف: 3 /169.

قال ابن عطية: " فأصبح عبارة عن كونه دائم الخوف في كل أوقاته كما تقول: أصبح زيداً عالماً. ويترقب معناه عليه رقبة من فعله في القتل فهو متحسس. قال ابن عباس: فمرّ وهو بحالة الترقب، وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قتل القبطي بالأمس يقاتل أخر من القبط، وكان قتل القبطي قد خفي عن الناس واكتتم، فلما رأى الإسرائيلي موسى استصرخه بمعنى صاح به مستغيثاً، فلما رأى موسى قتاله لأخر أعظم ذلك وقال له معاتباً ومؤنباً: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ، وكانت إرادة مع موسى مع ذلك أن ينصر الإسرائيلي، فما دنا منهما خشى الإسرائيلي وفزع منه، وظن أنه ربما ضربه وفزع من قوته التي رأى بالأمس، فناداه بالفضيحة وشهر أمر المقتول " ((1)) . {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} " وظاهر قوله: {عَدُوٌّ لَهُمَا} أنه قبطي، وربما جعل عدّواً لهما لأن عداوته للإسرائيلي معروفة فاشية بين القبط، وأما عداوته لموسى فلأنه أراد أن يظلم رجلاً، والظلم عدّو لنفس موسى، لأنه نشأ على زكاء نفسي هيأها الله للرسالة " ((2)) . واختلف العلماء فيمن قال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} هل هو الإسرائيلي أم القبطي؟ الرأي الأول ـ قال قسم من العلماء: هذا القول للإسرائيلي لما خاطبه سيدنا موسى (- عليه السلام -) : {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ، ورآه غضبان وقد همُ موسى أن يبطش بالفرعوني، فظن أنه يريده، فخاف على نفسه، فقال {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ} الآية.

_ (1) المحرر الوجيز: 12 /158. (2) التحرير والتنوير: 20 /94.

الرأي الثاني ـ قال آخرون: بل هو قول القبطي، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي ((1)) . والرازي يرجح هذا الرأي ويستدل بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى} ، " فهذا القول من القبطي. وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} لا يليق إلا أن يكون من كافر " ((2)) . والذي نرجحه أن القول للإسرائيلي وليس للقبطي لسببين: أولاً ـ إن حادث القتل لا يعلم به إلا موسى، وهذا الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس وكان لقول الإسرائيلي: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} سبباً لظهور قاتل القبطي. ثانياً ـ وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ} يدلّ على أنه قول الإسرائيلي لمعرفته بأخلاق موسى (- عليه السلام -) بأنه رجل صالح مصلح لا يحب البغي والتجبر، فأراد أن يذكره بهذا لأنه يخالف ما عرف عنه. {إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ} قال أبو حيان: " وشأن الجبّار أن يقتل بغير حق. وقال الشعبي: من قتل رجلين فهو جبار ـ يعني بغير حق ـ ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح " ((3)) . " فما سمع الفرعوني هذا ترك الإسرائيلي، فأوصل الخبر إلى فرعون فوقع الأمر بقتل موسى (- عليه السلام -) " ((4)) . وذكر الرازي إنه احتج بهذه الآيات من طعن في عصمة الأنبياء ـ عَلَيْهم السَّلام ـ من وجوه:

_ (1) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 234. (2) مفاتيح الغيب: 12 / 234. (3) البَحْر المُحِيْط: 7 /110. (4) نظم الدرر: 5 /474.

أحدهما ـ إن ذلك القبطي إما أن يقال إنه كان مستحق القتل، أو لم يكن كذلك، فإن كان الأول فلم قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، ولم قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} ، ولم قال في سورة أخرى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} ((1)) . وإن كان الثاني وهو أن ذلك القبطي لم يكن مستحق القتل، وكان قتله معصية وذنب. ثانياً ـ إن قوله: {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} يدلّ على أنه كان كافراً حربياً، فكان دمه مباحاً، فلم استغفر عنه، والاستغفار عن الفعل المباح غير جائز، لأنه يوهم في المباح كونه حراماً ((2)) ؟ ورد على هذه الطعونات بعدة أجوبة: الجواب عن الأول: لم لا يجوز أن يقال: إنه كان لكفره مباح الدم. أما قوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ففيه وجوه: أحدهما ـ لعل الله وإن أباح قتل الكافر، إلا أنه قال الأولى تأخير قتلهم إلى زمان أخ، فلما قتل ترك ذلك المندوب، فقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} معناه: قدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان. وثانيا ـ إن قوله هذا إثارة عمل المقتول لا إلى عمل نفسه، فقوله {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، أي: عمل هذا المقتول من عمل الشيطان، المراد منه بيان كونه مخالفاً لله تعالى مستحقاً للقتل. وثالثاَ ـ إن يكون قوله هذا إشارة إلى المقتول، يعني إنه من جند الشيطان وحزبه يقال: فلان من عمل الشيطان، أي: من أحزابه ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 20. (2) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 235. (3) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 234 –235.

وهذا بعيد جداً عن المعنى الحقيقي لأن سيدنا موسى (- عليه السلام -) في الآية الأخرى استغفر لتسرعه في قتل هذا القبطي، وطلب المغفرة من الله تدلّ على أن المراد بقوله تعالى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، أي: العجلة وإطاعة النفس، والانسياق وراء الغضب من عمل الشيطان. ويتابع الرازي رده على هذه الطعونات: أما قوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} فعلى نهج قول أدم (- عليه السلام -) : {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} ((1)) . والمراد أحد وجهين: إما على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه، وإن لم يكن هناك ذنب قط. أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب. أما قوله: {فَاغْفِرْ لِي} ، أي: فاغفر لي ترك هذا المندوب، وفيه وجه أخر وهو أن يكون المراد {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} حيث قتلت هذا الملعون، فإن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به {فَاغْفِرْ لِي} ، أي: فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون. ويدلّ على هذا التأويل أنه على عقبه قال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ، ولو كانت إعانة المؤمن ههنا سبباً للمعصية لما قال ذلك. أما قوله: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} ((2)) ، المقصود بكونه ضالاً، أي: متحيراً لا يدري ما يجب عليه أن يفعله. أما قوله: إن كان كافراً حربياً فلم استغفر عن قتله، قلنا: كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 23. (2) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 20. (3) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /235.

والذي أراه أنه لا حاجة إلى هذا التكلف في التفسير، لأن القتل كان خطأً، ولأن الوكز ـ وهو الضرب بمجمع اليد ـ لا يقتل عادةً، إضافة إلى ذلك فإن هذه الحادثة وقعت له قبل النبوة. فقد روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله يقول: ((إن الفتنة تجيء من هاهنا وأومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال عز وجل {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} ((1)) )) ((2)) . ما يستفاد من النصّ يمكن أن نستخلص المعاني الآتية من خلال قراءتنا للآيات القرآنية التي مرّ شرحها.

_ (1) سُوْرَة (طَه) : الآية 40. (2) الحديث بتمامه في مسند أَبِي يعلى. أحمد بن عَلِيّ بن المثنى الموصلي التميمي أبو يعلى. (210 ـ 307) . تحقيق: حسين سليم أسد. دار المأمون للتراث. دمشق. ط1. 1404هـ ـ 1984 م.: 9 /383 رقم (5511) . وشطر الحديث الأول إلى قوله (قرنا الشيطان) أخرجه مسلم في صحيحه: باب الفتنة من المشرق 4 /2229 رقم (2905) . وينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4977.

أولا. نصرة المظلوم واجبة. فسيدنا موسى (- عليه السلام -) انتصر للذي استغاثة ضد ظالمه، لأن نصرة المظلوم واجبة، ولكنها ينبغي أن تكون بقدر ما يندفع به ظلم الظالم وبغيه، ولهذا لما وكز موسى الرجل المعتدي فقضى عليه قال عن فعله هذا إنه من عمل الشيطان، لتجاوز موسى (- عليه السلام -) حدّ الدفاع الشرعي عن المظلوم، وإن كان هذا التجاوز دون قصد ولا عمد من موسى (- عليه السلام -) ((1)) . لذلك قال موسى (- عليه السلام -) : {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . وجعل الله القتال لنصره المظلومين واجب شرعي في نص القرآن الكريم قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} ((2)) . وقال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله)) ((3))

_ (1) ينظر المستفاد من قصص القرآن: 1 /364. (2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 75. (3) متفق عليه من حديث عبدُ الله بْن عمر ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ. صحيح البخاري: باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه 2 /862 رقم (2310) . صحيح مسلم باب تحريم الظلم 4/ 1996 رقم (2580) .

فمن خذلان المسلم أن لا تدفع الظلم عنه وأنت قادر على ذلك، فينبغي أن يؤكد الدعاة ويحثوا المسلمين على نصرة المظلومين، ولاسيما في هذه المرحلة التي تخلى الكثير من المسلمين عن هذا الواجب الشرعي فيرى المسلمون من على شاشات التلفاز ويسمعوا عن قتل للمسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان، وفي كل مكان من قبل أعداء الله اليهود والنصارى ولا يتحركوا لرفع الظلم عنهم. ثانيا. دلت الآيات كذلك على حرمة معونة (المجرمين) ، ولفظة المجرمين جاءت في القرآن الكريم وصفاً لعدة معاني. جاءت وصفاً للكفار قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} ((1)) . وللمنافقين قال تعالى في وصف حال المنافقين في المدينة {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} ((2)) . وجاءت وصفاً للمكذبين لله ورسوله قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآيتان 12 –13. (2) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 66. (3) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 147.

وكذلك جاءت وصفاً للظلمة قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ((1)) . فعلى هذا يحرم مناصرة ومعاونة كل مجرم وكل من ينطبق عليه لفظ المجرم من المعاني سالفة الذكر. وهذه الآية نظير قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} ((2)) . قال سلمة بن ثُبَيْط: بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى وقال: أعظهم، فقال: اعفني، فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه، فقيل: له ما عليك أن تعظهم وأنت لا ترزؤهم شيئاً؟ قال لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم.

_ (1) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 123. (2) سُوْرَة هُوْد: الآية 113.

وقال عبد الله بن الوليد الوصّافي: قلت لعطاء بن أبي رباح: إن لي أخاً يأخذ بقلمه وإنما بحسب ما يدخل ويخرج، وله عيال، ولو ترك ذلك لاحتاج وآدَّانَ؟ فقال من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله القسري. قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالح: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} . قال ابن عباس: فلم يستثن فأبتلى به ثانية فأعانه الله فلا يعينهم أخوك فإن الله يعينه ((1)) . وفي الحديث: ((إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشياه الظلمة، حتى من لاق لهم دواة وبراً لهم، فلما يتجمعون في تابوت واحد، ثم سيق بهم على رؤوس الخلائق إلى نار جهنم)) ((2)) .

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4979. (2) الفردوس بمأثور الخطاب. أبو شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي الهمذاني. (445 ـ 509) . تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول. دار الكتب العلمية. بيروت ط1. 1986 م.: 1 /255 من حديث أبي هريرة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـ ورواه الديلمي دون ذكر سند الحديث. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 13 /263. والذي أراه أنه حديث ضعيف.

وقال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبّت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزل فيه الأقدام، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام)) ((1)) . وقال ابن عطية وهو يفسر هذه الآية: " احتجّ أهل الفضل والعلم بهذه الآية في منع خدمة أهل الجور ومعونتهم في شيء من أمرهم، ورأوا أن هذه الآية تتناول ذلك، نص عليه عطاء بن أبي رباح " ((2)) . وتدل الآية كذلك ـ كما قلنا ـ على حرمة معونة الظالمين سواء أكانوا دولاً أو حكام، فينبغي للدعاة أن يبصِّروا الناس بحرمة وخطورة نصرة الظلمة من الحكام والدول. ويحرم معاونتهم بأي شكل من أشكال المعاونة، فقد جاء النهي عن معونة الظالم بقوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} ((3)) . وجاء في تفسيرها: الركون هو الميل اليسير إلى الشيء والنهي متناول لانحطاط في هوى الذين ظلموا والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم ((4)) .

_ (1) حِلْيَة الأولياء وطبقات الأصفياء. أحمد بن عَبْد الله الأَصْبَهاني أبو نعيم. ت 430 هـ. دار الكِتَاب العربي. بيروت. ط4. 1405 هـ.: 6 /348. وأصل الحديث عند الشيخين: ((المسلم أخو المسلم …)) الحديث وقال المنذري وهذه زيادة رزين العبدري وهي من رواية ابن أبي الدنيا والأصبهاني. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف. عَبْد العَظِيْم بن عَبْد القوي المنذري أبو مُحَمَّد. (581 ـ656) . تحقيق: إبراهيم شمس الدِّيْن. دار الكتب العلمية. بيروت. ط1. 1417 هـ: 3 /262. (2) المحرر الوجيز: 12 /153. (3) سُوْرَة هُوْد: الآية 113. (4) ينظر الكَشَّاف: 2 /433. المستفاد من قصص القرآن: 1 /366.

المطلب الثالث: فرعون يريد قتل موسى (- عليه السلام -) لقتله القبطي

فإذا كان كل هذا داخلاً فكيف بمن يعين دول الكفر على المسلمين ويفتح ديار المسلمين ومطاردتهم لضرب المسلمين. فأعوان الظلمة ظلمة مثلهم وشركاه لهم في العذاب الدنيوي والأخروي، ولذلك لما نزل العذاب بفرعون نزل بأعوانه أيضاً. قال تعالى عن هلاك فرعون وجنوده بالغرق: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((1)) . " فجعلهم الله جميعاً ظالمين، فرعون لمباشرته الظلم إرادة له وأمراً به، وجنوده لمعاونتهم له بتنفيذ ظلمه وما يأمرهم به من أنواع بغيه وظلمه " ((2)) . وهم مشتركون في العذاب الأخروي قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} ((3)) . ثالثاً. ودلت الآيات كذلك على عدم التعسف في أخذ الحق، ولذلك عد سيدنا موسى (- عليه السلام -) إفراطه بما لا يقصد في ردع المعتدي من عمل الشيطان {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} . وقد جاء كذلك في القرآن النهي عن الإسراف في أخذ الحق قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً} ((4)) . رابعاً. ودلت الآيات كذلك على أن الغضب من الشيطان، وعلى الإنسان أن يبادر إلى التعوذ بالله من الشيطان الرجيم في حالة امتلكه الغضب. خامساً. وتدل الآيات كذلك على أن يبادر الإنسان إلى الاستغفار عند حصول الذنب والالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه. المطلب الثالث: فرعون يريد قتل موسى (- عليه السلام -) لقتله القبطي

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40. (2) المستفاد من قصص القرآن: 1 /367. (3) سُوْرَة هُوْد: الآية 98. (4) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 33.

{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((1)) . المناسبة بعد أن بينت الآيات السابقات ما جرى من محاورة بين سيدنا موسى (- عليه السلام -) والإسرائيلي الذي كشف بحماقته أمر موسى (- عليه السلام -) ، وسمع الفرعوني كلماته فترك الخصومة وأسرع ليخبر جنود فرعون الموكلين بالبحث عن القاتل ليخبرهم بما سمع، أدرك سيدنا موسى أنه أصبح في خطر، وأن جنود فرعون سيلاحقونه، فأخذ يفكر في وسيلة للنجاة. " وظاهر النظم أن الرجل جاء على حين محاورة القبطي مع موسى، فلذلك انطوى أمر محاورتها ما هو أهم منه وأجدى في القصة " ((2)) . وفي هذه الأثناء تضيق الدنيا أمام عيني سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، إلا من رحمة الله وعونه، فلا ناصر إلا هو، فهنا تسفر يد القدرة في اللحظة المطلوبة لتتم مشيئتها، فانتدبت يد القدرة واحداً من الملأ ليحذر موسى ويخبره بضرورة خروجه من مصر ((3)) . فنلاحظ من الترابط بين هذا النص والذي قبله أن الآيات بينت الخطر الذي يمرّ به سيدنا موسى (- عليه السلام -) من خلال كشف الإسرائيلي لأمر موسى، فتأتى الآيات التي بعدها لتبين التدخل الإلهي لإنقاذ نبيه (- عليه السلام -) من القتل بقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} . تحليل الألفاظ 1. {أَقْصَى} :

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 20 –21. (2) في ظلال القرآن: 6 /334. (3) التحرير والتنوير: 2 0/95.

" قَصَا عنه قَصْوا وقُصُوَّا وقَصَا وقَصاء وقَصِيَ: بَعُدَ. وقَصَا المكانُ يَقْصُو قُصُوًّا: بَعُدَ. والقَصِيُّ والقَاصِي: البعيد والجمع أقْصَاء فيها كشَاهِد وأَشْهَاد ونَصِير وأَنْصَار " ((1)) . 2. {يَسْعَى} : قال ابن منظور: " السَّعْيُ: عَدْوٌ دُوْنَ الشَّدِّ سَعَى يَسْعَى سَعْيًا " ((2)) وجاء السعي في القران الكريم على ثلاثة وجوه: الوجه الأول: المشي كقوله تعالى في {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} ((3)) . الوجه الثاني: السعي يعني العمل كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} ((4)) . الوجه الثالث: السعي يعني أسرع كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ((5)) . 3. {الْمَلأَ} : قال ابن منظور: " المَلأَ الرؤساء سموا بذلك، لأنهم مِلاء بما يحتاج إليه. والمَلأ مهموز مقصور الجماعة. وقيل: أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم " ((6)) . 4. {يَأْتَمِرُونَ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (قصي) 15/ 183. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (سعي) 14 /385. (3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 260. (4) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 19. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20. (6) لِسَان العَرَب: مَادة (ملأ) 1 /195. وينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 492.

قال ابن منظور: تأمَّروا على الأمْرِ. وائْتَمَرُوا: تَمَارَوْا وأَجْمَعُوا آرَاءَهم. وفي التنزيل: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} . قال أبو عبده أي: يتشاورون عليك ليقتلوك. وقال القتيبي: إن معناها إن الملأ يأتمرون بك، أي: يهمون بك، ولو كان كما قال أبو عبيدة لقال: يَتَأَمَّرُون بك. وقال الزجاج: معناها يأمُرُ بعضهم بعضاً بقتلك ((1)) . وقال ابن عاشور: " أصل الائتمار قبول أمر الأمر فهو مطاوع أمره، ثم شاع إطلاق الائتمار على التشاور لأن المتشاورين يأخذ أمر بعض فيأتمر به الجميع ((2)) . القراءات القرآنية 1. {أَقْصَى الْمَدِينَةِ} : قرئت بالإمالة وقفاً عند كل من حمزة، والكسائي، وورش، وخلف. 2. {يَسْعَى} : قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وورش بالإمالة. {عَسَى} : قرأ حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة أيضاً ((3)) . 4. {رَبِّ} : قرئت بالفتح (رَبَّىَ) عند كل من نافع، وابن كثير، وأبي عمر، وأبي جعفر ((4)) . المعنى العام 1. {وَجَاءَ رَجُلٌ} : قيل: إن اسم الرجل سمعون. وقيل: سمعان. وقيل: حزقيل بن صبورا مؤمن من آل فرعون، وكان ابن عم فرعون ذكر ذلك الثعلبي. وقيل: طالوت ذكره السهيلي. وقيل: شمعان ((5)) . 2. {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} :

_ (1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (أمر) 4 / 29. (2) التحرير والتنوير: 20 / 96. (3) إتحاف فضلاء البشر: ص 341. غيث النفع في القراءات السبع. عَلِيّ النوري الصفاقسي. مطبوع بذيل كتاب سراج القاري المبتدي وتذكار المقرئ المنتهي. ط1. المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1352هـ – 1934 م.: ص 316. (4) النشر في القراءات العشر: 2 /342. الكشف عن وجوه القراءات: 2 /176. (5) ينظر جامع البيان: 10 /5. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4982.

قال البقاعي: " أبعدها مكاناً " ((1)) . وقال ابن عاشور: " والظاهر أن (أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هو ناحية قصور فرعون وقومه، فإن عادة الملوك السكنى في أطراف المدن توقياً من الثورات والغارات لتكون مساكنهم بخروجهم عند الخوف " ((2)) . 3. {يَسْعَى} : قال قتادة: " يعجل " ((3)) . وقال البقاعي: " إنه بين بقوله: {يَسْعَى} كان ماشياً، ولكنه اختصر طريقاً وأسرع في مشيه، بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي، وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه " ((4)) . 4. {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} : قيل في معنى {يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ثلاثة أقوال: الأول: يتشاورون فيك ليقتلوك، قاله أبو عبيدة. الثاني: يهمّون بك، قاله ابن قتيبة. الثالث: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك، قاله الزجاج ((5)) . والذي أراه راجحاً هو الرأي الأول. 5. {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} : قال البقاعي: " ثم علل ذلك على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرقه من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك {إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ) ، أي: العريقين في نصحك " ((6)) . وقد جاء ذكر الرجل المؤمن في القرآن الكريم في عدة مواضع من الَقُرْآن الكَرِيم: استذكر على فرعون وملئه حينما قرروا قتل موسى (- عليه السلام -) قال تعالى عن لسان فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} ((7)) فقال لهم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} ((8)) .

_ (1) نظم الدرر: 5 /474. (2) التحرير والتنوير: 20 /95. (3) جامع البيان: 10 /50. (4) نظم الدرر: 5 /474. (5) زَاد المَسِيْر: 6 /210 –211. (6) نظم الدرر: 5 /475. (7) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 26. (8) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 28.

لما قال فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ((1)) . {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} ((2)) . وبعد أن أمر فرعون هامان بناء الصرح استهزاءً بوعود موسى (- عليه السلام -) : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} ((3)) . فقال الرجل المؤمن: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ((4)) ، ثم أراد تخويفهم وتهديدهم فقال لهم: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} ((5)) . قال مقاتل: قال هذه الكلمات فقصدوا قتله، فهرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه، وقيل: نجا مع موسى في البحر وفر معه قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} ((6)) . 6. {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : فخرج من المدينة خائفاً يترقب لحوق الظالمين. {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : خلصني منهم واحفظني من لحوقهم ((7)) . ما يستفاد من النصّ نستطيع أن نستنبط من الآيات السابقة المعاني الآتية:

_ (1) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 29. (2) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 30. (3) سُوْرَة غَافِرِ: الآيتان 36 –37. (4) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 38. (5) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 44. (6) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 45. (7) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /8.

أولا. إنه يجوز عند الضرورة خروج الداعي من بلده فراراً من عدوه، ولهذا قبل موسى (- عليه السلام -) نصيحة مؤمن آل فرعون بالخروج من مصر، لأن الملأ من قوم فرعون يتشاورون في قتله، ولا يعدّ هذا الفرار جبناً من الداعية، لأن الداعي في كرّ وفرّ مع أعداء الله. والداعية إذ يفعل ذلك، فلأن حياته ليست ملكاً له، بل هي ملك الله، ومن الأولى الإبقاء عليها خدمة لدعوته، ولا يجوز له أن يعرضها للهلاك بالبقاء في مواجهة العدو مع عدم التكافئ في القوة بينه وبين عدوه. ثانياً. يلمح المتابع أن هناك تشابهاً كبيراً بين خروج سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، وهجرة الرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ، وما رافقها من ظروف صعبة شبيهة بالتي مرت على موسى (- عليه السلام -) . فلما خشيت قريش من تفاقم أمر النبي (- صلى الله عليه وسلم -) واتساعه، اجتمعوا في دار الندوة للتشاور فيما يجب أن يفعلوه برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق. وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعض آخر: أخرجوه من مكة، فقال لهم أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من بطون قريش غلاماً وتعطوه سيفاً فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ((1)) . وهنا تتدخل القدرة الإلهية لحمايته (- صلى الله عليه وسلم -) ، فيرسل الله جل وعلا سيدنا جبريل (- عليه السلام -) ليخبر الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) بما عزم عليه المشركون، وأخبره بأن الله أذن له بالهجرة إلى المدينة.

_ (1) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 30.

الفصل الخامس: هجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مدين

فقد ذكر ابن كثير أنه قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما أتمروا بك؟ قال يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني؟ فقال من أخبرك بهذا قال ربي ((1)) ؟ الفصل الخامس: هجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مدين المبحث الأول: سيدنا موسى (- عليه السلام -) على ماء مدين المطلب الأول: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يسقي الماء لبنات شعيب (- عليه السلام -) {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ((2)) . المناسبة لما دعا سيدنا موسى (- عليه السلام -) من الله أن ينجيه من القوم الظالمين في الآية السابقة: {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((3)) ، أراد الله جل وعلا أن يعلم باستجابته منه مخبراً بجهة قصده زيادة في الإفادة، فقال: (ولما) ، أي: فاستجاب الله دعاءه فنجاه منهم ووجهه إلى مدين ((4)) .

_ (1) تفسير القرآن العظيم: 2 /302 -303. وينظر أيضاً الكَشَّاف: 2 /215. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 22 -24. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21. (4) ينظر نظم الدرر: 5 /475.

فقوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} عطف على جملة محذوفة تقديرها: ولما خرج من المدينة هائماً على وجهه فهداه الله إلى الطريق الذي يؤدي إلى أرض مدين فلما سلك هذا الطريق ((1)) ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} . فنلاحظ الترابط بين الكلمات والمعاني، ومناسبة الآيات بعضها للبعض الآخر فبدت كنسيج واحد دقيق يكمل بعضه بعضاً ليدل على المعنى المراد توصيله بأقرب الطرق، وأبلغ العبارات وأقصرها، وهذه ميزة أخرى من المزايا التي تميز بها الَقُرْآن الكَرِيم عن غيره، ومعجزة أخرى تؤكد أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا من عند الله جَلَّ وَعَلا. تحليل الألفاظ 1. {تَوَجَّهَ} : الجِهَةُ، والوِجهَةُ جميعاً الموضع الذي تتوجه إليه وتقصده وضلَّ وِجْهَةَ أمره، أي: قصده وخَلَ عن جِهَتِه: يريد جِهَةَ الطريق، وتَوَجَهَ إليه ذهب ((2)) . وقال النسفي: " التوجه الإقبال على الشيء " ((3)) . وقال أبو حيان: " توجه وجهة تلقاء أي ناحية وجهه استعمل المصدر استعمال الظرف " ((4)) . 2. {تِلْقَاءَ} : أصله مصدر على وزن التِفعال بكسر التاء، وليس له نظير في كسر التاء إلا تِمثال. قال ابن سيدة: وَتَلَقاه والتَقاه والتَقَيْنا وتَلاقَينْا والتَقَوْا وتَلاقَوْا بمعنى، وجلس تِلقاء، أي: حِذاءه. وقال الطبري: " يقال داره تلقاء دار فلان إذاَ كانت محاذيتها " ((5)) . 3. {وَرَدَ} :

_ (1) ينظر التحرير والتنوير: 20 /97. (2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (وجه) 13/ 556. (3) مدارك التنزيل: 3 /231. (4) البَحْر المُحِيْط: 7/ 111. (5) التحرير والتنوير: 20 /97.

وردَ الوِرْدُ ووُردُ القوم الماء والوِرْدُ الماء الذي يُورَدُ، والوِرْدُ الإبل الواردة … المَوْرِدةُ الطريق إلى الماء. وقال ابن سيدة: وَوَرَدَ الماء وغيره وَرْداً ووُرُوداً، وورد عليه أشرف عليه دخله أو لم يدخله ((1)) . وقال الراغب الأصفهاني: أصل الورود قصد الماء ثم يستعمل في غيره (2) . 4. {أُمَّةً} : " كلّ جماعة يجمعهم أمرُ واحد، إما دينٌ واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيراً، أو اختياراً وجمعها أمم ((3)) . قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ((4)) . فالمراد بالأمة في هذه جماعة كثيرة يجمعهم أمر واحد وهو سقيهم للمواشي في مكان واحد وهو البئر. 5. {تَذُودَانِ} : الذَوْدُ: السَوق والطرد والدفع تقول: ذُدْتُه عن كذا، وذاده عن الشيء ذَوْداً وذِياداً ورجل ذائد، أي: حامي الحقيقة دفاع، وذُدتُ الإبل أذودها ذَوْداً إذا طردتها وسقتها ((5)) . وذكر الرازي أن معنى (الذود) الدفع والطرد فقوله: (تذودان) ، أي: تحبسان ((6)) . والذي تبين مما سبق أن الدفع والطرد والحبس من معاني الذود فكلها تعطي معنى واحداً. القراءات القرآنية 1. {عَسَى} : قرأ حمزة والكسائي وورش بالإمالة ((7)) . 2. {رَبِىَ} : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر (رَبىَ) ((8)) . 3. {دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ} :

_ (1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (ورد) 3 /456. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 556. (3) المصدر نفسه: ص 19. (4) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 38. (5) لِسَان العَرَب: مَادة (ذود) 3 /168. (6) مفاتيح الغيب: 12 /239. (7) الكَشَّاف: 3 /169. البَحْر المُحِيْط: 7 /113. (8) النشر في القراءات العشر: 2 /342.

قرأ أبو عمرو: (دونِهِمِ) ، وقرأ حمزة، والكسائي: (دونِهُمُ) ((1)) . 4. {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} : نقل القرطبي أنه في بعض المصاحف (امرأتين حابستين تذودان) وهي من القراءات الشاذة التي لم يذكرها غير القرطبي ((2)) . 5. {خَطبُكُما} : قال أبو حيان: وقرأ شمر بكسر الخاء (خِطْبُكُما) ، أي: من زوجكما ولم لا يسقي هو، وهذه قراءة شاذة ((3)) . 6. {لاَ نَسقِي} : قرأ أبن مصرف بضم النون (لا نُسقِي) ((4)) . 7. {يُصْدِرَ} : قرأ أبو جعفر، وشيبة، والحسن، وقتادة: (يَصدُر) ، أي: يصدرون بأغنامهم ((5)) . 8. {الرِعَآءُ} : هذه قراءة الجمهور جمع تكسير. قال الزمخشري: " وإما الرِعاء بالكسر فقياس كصيام وقيام " ((6)) . وقال أبو حيان: " وليس بقياس لأنه جمع راع، وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعله، كقاض وقضاة، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس. وقرأ: (الرُعاء) بضم وهو اسم جمع كالرجال والثناء ((7)) . القضايا البلاغية

_ (1) غيث النفع: ص 315. (2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4984. (3) البَحْر المُحِيْط: 7 /113. (4) الكَشَّاف: 3 /169. البَحْر المُحِيْط: 7 /113. (5) البَحْر المُحِيْط: 7 /113. (6) الكَشَّاف: 3 /170. (7) البَحْر المُحِيْط: 7 /113.

الإيجاز ((1)) : فقد حذف المفعول في أربعة أماكن: أحدها مفعول (يسقون) ، أي: مواشيهم. والثاني مفعول (تذودان) ، أي: مواشيهما، وعلة الحذف أن الفرض هو أن يعلم أنه كان من الناس سقي ومن البنتين ذود، وإنهما قالتا: (لا نسقي) ، أي: لا يكون من سقي حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى سقي ((2)) . (ماء مدين) مجاز من إطلاق الحال وإرادة المحل ((3)) . الكناية ((4)) في قوله تعالى: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} فقد استخدمتا الكناية تعبيراً عن المعنى المراد، فقد أرادتا أن تقولا له إننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ومالنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ طاعن في السن قد أضعفه الكبر وأعياه، فلا بد لنا من ترك السقيا وإرجائها إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء، وبذلك طابق جوابهما سؤاله لأنه سألهما عن علة الذود فقالتا ما قالتاه ((5)) . المعنى العام وذكر الرازي اختلاف العلماء في قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} :

_ (1) الإيجاز: أن يكون اللفظ أقل من المعنى مع الوفاء به، وإلا كان إخلالاً يفسد الكلام. ينظر معجم المصطلحات البلاغية: 1 /344. (2) ينظر بديع الَقُرْآن: ص 186. البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن. كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني. تحقيق: د. خديجة الحديثي ود. أحمد مطلوب. الطبعة الأولى. مطبعة العاني. بغداد 1394 هـ ـ 1974 م.: ص 245. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /304. (3) ينظر روح المعاني: 20 /59. (4) الكناية: هو أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وكنى عنه الأمر يغيره. معجم المصطلحات البلاغية: 3 /154. (5) ينظر الكَشَّاف: 3 /171. الجدول في إعراب القرآن: 20 /245.

القول الأول: قال بعضهم: إنه خرج وما قصد مدين، ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة، فوصله الله تعالى إلى مدين. وهذا قول ابن عباس (- رضي الله عنه -) . القول الثاني: إنه لما خرج قصد مدين، لأنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم (- عليه السلام -) ، وهو كان من بني إسرائيل، لكن لم يكن له علم بالطريق بل أعتمد على الله. القول الثالث: ومن الناس من قال بل جاءه جبريل (- عليه السلام -) وعلمه الطريق. وذكر ابن جرير عن السدي: لما أخذ موسى (- عليه السلام -) في السير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال: لا تفعل واتبعني، فتبعه نحو مدين. وهذه الرواية غير صحيحة لأنه لا يمكن لموسى أن يسجد لغير الله تعَاَلىَ حتَّى ولو كان قبل النبوة لأن الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها، واستغرب من عدم رد الرازي لها. ورجح الرازي القول الأول للأدلة الآتية: قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} ولو كان قاصداً الذهاب إلى مدي (1) لقال: ولما توجه إلى مدين، فلما لم يقل ذلك بل قال: {تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} علمنا أنه لم يتوجه إلا إلى ذلك الجانب من غير أن يعلم أن ذلك الجانب إلى أين ينتهي.

_ (1) مدين: وهي قرية سميت باسم مدين بن إبراهيم (- عليه السلام -) ، وهي بلاد واقعة حول خليج العقبة من عند نهايته الشمالية وشمال الحجاز وجنوب فلسطين. وذكر الطبري إن بين مصر ومدين مسيرة ثمان ليالِ، وكان يقال على نحو من الكوفة إلى البصرة , ينظر جامع البيان: 10/ 52. معجم البلدان: 5 /7 8. روح المعاني: 20/59.

قوله تعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ، وهذا كلام شاك لا عالم، والأقرب أن يقال: إنه قصد الذهاب إلى مدين وما كان عالماً بالطريق، ثم إنه كان يسأل الناس عن كيفية الطريق، لأنه يبعد من موسى (- عليه السلام -) في عقله وذكائه أن لا يسأل ((1)) . وهو الذي نرجحه، فإضافة إلى الأدلة السابقة، نضيف دليلاً عقلياً أخر وهو أن سيدنا موسى (- عليه السلام -) قضى أغلب مراحل حياته في قصر فرعون، ولا علم له بأقاربه في المدن الأخرى، ولا سيما أنها تبعد عن مصر ثمان ليال، هذا جانب. والجانب الأخر هو أن سيدنا موسى (- عليه السلام -) كان في حالة خوف شديد من أن تصله أيدي جنود فرعون فأراد أن يخرج من هذا المكان بأسرع وقت حتى نسي أن يأخذ الزاد معه ولوازم السفر، فكيف له في هذه اللحظات العصيبة أن يتذكر أقربائه في مدين. {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} قيل عُني بـ {سَوَاءَ السَّبِيلِ} الطريق إلى مدين، وهذا قول مجاهد. وقيل: معناه قصد السبيل. وقيل: الطريق المستقيم ((2)) . {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ} وذكر أبو حيان الأندلسي إن الورود يكون بمعنى الوصول إلى الشيء وبمعنى الدخول فيه ((3)) . وذكر القرطبي: " أن المراد بقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} مشى موسى (- عليه السلام -) حتى ورد ماء مدين، أي: بلغها. ووروده الماء معناه بلغها لا أنه دخل فيه، ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول وقد تكون بمعنى الاطلاع والبلوغ إليه، وإن لم يدخل فورود موسى كان بالوصول إليه " ((4)) .

_ (1) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /238 –239. (2) جامع البيان: 10 /52. (3) البَحْر المُحِيْط: 7 /111. (4) الجامع لأحكام القران: 6/4983.

وذكر البقاعي أن المراد بقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ} " أي: حضر سيدنا موسى (- عليه السلام -) حضور من يشرب" ((1)) . وذكر الآلوسي " أن الورد بمعنى الدخول وبمعنى الشرب" (2) والذي أراه أن المراد بالورود في هذه الآية هو الوصول إلى مكان الماء، ولا يدل أبداً على معنى الشرب في هذه الآية، فسياق الآية يصور المشهد وكأنك تراه، ففي الآية السابقة ذكر جل وعلا {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي: جهتها وقبل الوصول إلى الماء. وفي هذه الآية يبين جل وعلا أن سيدنا موسى (- عليه السلام -) وصل ماء مدين، فالسياق القرآني يتابع هجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) مرحلة مرحلة، وهذه الآيات تنقل قارئ القرآن إلى مشهد وصوله إلى الماء. {مَاءَ مَدْيَنَ} بئر كانوا يسقون منه ((3)) {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ} . " وجد فوق شفيره ومستقاه " ((4)) والمراد بالأمة كما بينا في التحليل اللغوي للألفاظ جماعة كثير يجمعهم أمر واحد وهو سقيهم للمواشي في مكان واحد وهو البئر {يَسْقُونَ} ، أي: ماشيتهم ((5)) ، ولم يبين نوع الماشية. والظاهر أنهم كانوا يسقون مواشي مختلفة لم يبينها النص القرآني، لأن المهم في سياق القصة السقي لا المسقي. {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ} . قال النسفي: " في مكان أسفل من مكانهم " ((6)) . وقال القرطبي: " معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصوله إلى الأمة " ((7)) .

_ (1) نظم الدرر: 5/475 (2) روح المعاني: 20/59 (3) روح المعاني: 20/59 (4) الكَشَّاف: 3 /170. (5) المصدر نفسه: 6 /4984. (6) مدارك التنزيل: 3/ 231. (7) الجامع لأحكام القران: 6/ 4984.

قال ابن عاشور: " في مكان غير المكان الذي حل الماء، أي: في جانب مباعد للأمة من الناس، لأن حقيقة كلمة (دون) أنها وصف للشيء الأسفل من غيره ((1)) . {امْرَأتَيْنِ} . قيل: اسم أحدهما ليا. وقيل: عبرا. وقيل: شرفا. واسم الأخرى صفوريا. وقيل: صفوراء. وقيل: صفيراء ((2)) . ولا أرى فائدة من ترجيح اسم على آخر، فضلاً عن كون ذلك كله من الإسرائيليات. {تَذُودَانِ} ، أي: تمنعان ما معهما من الأغنام عن التقدم إلى البئر كيلا تختلط بالأغنام الأخرى ((3)) . واختلفوا في علة ذودهما الغنم على وجوه: أحدها ـ قال الزجاج، لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي. ثانيها ـ كانتا تكرهان المزاحمة على الماء. ثالثها ـ لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم. رابعها: لئلا تختلط بالرجال ((4)) . {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} قال ابن عطية: " أي ما أمركما وشأنكما، وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر، فكأنه بالجملة في شر، فأخبرتاه بخبرهما وأن أباهما شيخ كبير، فالمعنى أنّه لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا يقدران على مزاحمة الأقوياء، وإن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى وحينئذ تردان " ((5)) . {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} وقد أختلف العلماء في اسم هذا الشيخ الكبير إلى الأقوال وهي: القول الأول ـ قال الجهور: هو شعيب (- عليه السلام -) ، وهما ابنتاه.

_ (1) التحرير والتنوير: 20/99. (2) روح المعاني: 20/ 59. (3) إرشاد العقل السليم:7/8 (4) مفاتيح الغيب: 12/ 239 (5) ينظر جامع البيان: 10 /61 –62. المحرر الوجيز: 12/ 158. تفسير القران العظيم: 3/ 384. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6/ 407-408.

القول الثاني ـ قال الحسن: هو ابن أخي شعيب واسمه ثروان، وقال أبو عبيدة: يثرون. القول الثالث ـ قيل: هو رجل صالح ليس من شعيب بنسب. القول الرابع ـ قال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى (- عليه السلام -) بمدة طويلة ((1)) ، لأنه قال لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} ((2)) . وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل (- عليه السلام -) بنص القرآن. وقد علم أنه كان بين الخليل وبين موسى (- عليه السلام -) مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة كما ذكر غير واحد. وما قيل إن شعيباً عاش مدة طويلة إنما هو والله اعلم احترازاً من هذا الاشكال. ويرجح ابن كثير أنه ليس بشعيب، ويقول: من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن هاهنا، وما جاء في بعض الأحاديث التصريح باسمه لم يصح سنده ((3)) . ورجح القرطبي أنهما ابنتا شعيب ((4)) فهو ظاهر القرآن. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} ((5)) . وقوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} ((6)) . والذي يرجحه الباحث هو القول الأول، وأنه سيدنا شعيب الرسول وذلك لأن علماء الفقه الإسلامي قد استدلوا بما في هذه القصة من أحكام عند من يرى أن شرع من قبلنا من الرسل شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ومنها مباشرة المرأة الأعمال ووجود الحياء فيها، وولاية الأب في النكاح وجعل النكاح والإجارة في عقد واحد ((7) على ما سنوضحه لاحقاً.

_ (1) جامع البيان: 10 /60 –61.الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6 /407 –408. (2) سُوْرَة هُوْد: الآية 89. (3) ينظر تفسير القران العظيم: 3/ 384. (4) الجامع لأحكام القران 6: / 4986. (5) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 85. (6) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآيتان 176- 177. (7) ينظر التحرير والتنوير: 20/ 101.

{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} {فَسَقَى لَهُمَا} ، أي: سقى غنمهما لأجلهما، وفي كيفية السقي ذكر الرازي أقوالاً: القول الأول ـ إنه (- عليه السلام -) سأل القوم أن يفسحوا ففسحوا. القول الثاني ـ قال قوم: عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلاّ عشرة. وقيل: أربعون. وقيل: مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر. القول الثالث: إن القوم لما زاحمهم موسى (- عليه السلام -) تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو (- عليه السلام -) رمى ذلك الحجر، وسقى لهما ((1)) . والصحيح أنه لم يرد بيان من القرآن يبين كيفية السقي، ولكن المرأة وصفت سيدنا موسى بالقوة حينما طلبت من والدها استئجاره {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ، فدلّ ذلك على أنها رأت منه قوة كبيرة وصفته بها أمام والدها ودعتها لطلب استئجاره. وأن موسى (- عليه السلام -) رفع صخرة كبيرة لا يستطيع غيره من الرجال أن يرفعها ليسقي لهما الماء. {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي انصرف موسى (- عليه السلام -) جاعلاً ظهره يلي ما كان يلي وجهه ليقيل تحت الظل، ويستره مقبلاً على الخالق. وذكر الطبري أنه قال هذا القول {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ، وهو محتاج، وهو بجهد شديد، وعرض ذلك للمرأتين تعريضاً لهما لعلهما أن تطعماه مما به من شدة الجوع ((2)) .

_ (1) مفاتيح الغيب: 12/ 239. (2) جامع البيان: 1/ 56- 57.

وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر. ونقل ابن كثير رواية عن ابن عباس: " سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافياً، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وأن بطنه لاصق بظهره من الجوع " ((1)) . {فَقَالَ رَبِّ} " لأنه ليس في الشكوى إلى المولى العلي الغني المطلق نقص، ولما كان حاله في عظيم صبره، حالة من لا يطلب أكدّ سؤاله إعلاماَ بشديد تشوقه لما سأل، فيه زيادة في التضرع والرأفة، فقال {إني} وأكد الافتقار بالإلصاق باللام دون (إلى) فقال {لما} ، أي: لأي شيء، ولما كان الرزق الآتي إلى الإنسان مسبباً عن القضاء الآتي عن العلي الكبير عبر بالإنزال، وعبر بالماضي تعميماً لحالة الافتقار وتحققاً لإنجاز الوعد بالرزق " ((2)) . وأما اسم الشجرة، فقد ذكر القرطبي أنها (سمرة) قاله ابن مسعود ((3)) . ما يستفاد من النصّ دلت الآيات السابقة على جملة المعاني وهي: أولا ـ الدعاء وأثره في تفريج الكروب، فقد رأينا كيف صور القرآن الكريم حالة سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، بعد أن اخبره الذي آمن بوصول أمر القبطي (المقتول) إلى سماع فرعون وتآمرهم على قتله، فانتابته حالة من الخوف والترقب، ودعا الله أن ينجيه من القوم الظالمين، فمرة أخرى يتعرض إلى محنة أخرى، ومرة أخرى يتحدى الله جل وعلا فرعون وجنوده من أن ينالوا ممن اصطفاه واصطنعه لنفسه.

_ (1) تفسير القران العظيم: 3/ 384. (2) نظم الدرر: 5/ 477. (3) السمرة: شجرة صغيرة الورق قصير الشوك لها برقة صفراء. ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4985.

المطلب الثاني: زواج سيدنا موسى (- عليه السلام -) من ابنة شعيب (- عليه السلام -)

فماذا يفعل شخص مثله مطارد وحيد مجرد من كل قوى الأرض الظاهرة جميعاً لا يعلم إلى أين يتوجه، أي الطرق تخرجه من أرض الخطر، فقد سدت في وجهه كل طرق النجاة إلا طريقاً واحداً هو طريق الله، فاتجه إلى ربه داعياً أن يهديه سبيل النجاة فهداه الله جل وعلا إلى مدين، ومن هذا نتعلم درساً مهما هو أن على المسلم أن يلتجأ إلى الله في يسره وعسره. ثانياً. على المسلم أن يقدم المساعدة للمحتاج ولو لم يطلبها، وهذا ما فعله سيدنا موسى (- عليه السلام -) مع بنات سيدنا شعيب (- عليه السلام -) . المطلب الثاني: زواج سيدنا موسى (- عليه السلام -) من ابنة شعيب (- عليه السلام -) {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((1)) المناسبة

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 25 - 28.

قال تعالى قبل هذه الآيات: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ((1)) " ولما كان سماعهما لقوله هذا مع إحسانه إليهما سبباً لدعاء شعيب (- عليه السلام -) قال بانياً على ما تقديره: فذهبت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه بخبرهما وبإحسانه إليهما، فأمر بدعائه ليكافئه، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ} ، أي: بسبب قول الأب، وعلى الفور " ((2)) . فجاءت فاء التعقيب في قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} مشعرةً باستجابة الله له بأن ألهم شعيباً أن يرسل وراءه لينزله عنده ويزوجه ابنته ((3)) . فنلاحظ مرة أخرى الإعجاز القرآني في استخدام الحروف في مواضعها بحيث تغني عن جمل كثيرة، ونلاحظ كذلك التناسب في موارد مجيء الحروف في الجمل القرآنية، ونرى كيف أن هذه الآية جاءت متناسقة متناسبة مع الآية التي سبقتها في كمال المعنى واكتماله. تحليل الألفاظ 1. {اسْتِحْيَاءٍ} : الحياء التوبة والحِشْمَة، وقد حَيَي منه حَيَاء واسْتحيا واسْتَحَى، حذفوا الياء الأخيرة كراهية التقاء الياءين، والأخيرتان تتعديان بحرف وبغير حرف يقولون: اسْتَحياء منك واسْتَحْياك، واسْتَحَى منك واسْتَحَاك قال ابن بري: شاهد الحياء بمعنى الاسْتحياء ((4)) . وقال الراغب الأصفهاني: الحياء انقباض النفس عن القبائح وتركها ((5)) . 2. {لِيَجْزِيَكَ} :

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24. (2) نظم الدر: 5/ 475. (3) ينظر التحرير والتنوير: 20/ 103. (4) ينظر لسان العرب: مادة (حيي) 14/ 217. (5) معجم مفردات ألفاظ القران: 140.

الجزاء المكافأة على الشيء جَزَاء به وعليه جَزَاء جَازَاه مُجَازَاة وجَزَاء. قال أبو الهيثم: الجزاء يكون ثواباً ويكون عقاباً ((1)) . 3. {حِجَجٍ} : الحجّ: القصد حجّ إلينا فلان، أي: قَدِم. وحَجَّه يُحِجَّه حَجّاً قصده يقرا بفتح الحاء وكسرها والفتح الأصل. والحَجُّ اسم العمل والحَجّ والحِجّ ليس عند الكسائي بينها فرقان وغيره يقول: الحَجّ حَجّ البيت. والحِجّ عمل السُّنَّة. والحِجّة السَّنَة والجمع حِجَج ((2)) . وقال ابن عاشور: الحِجَج جمع حِجَة بكسر الحاء، وهي السُّنَّة مشتقة من اسم الحَجّ، لأن الحَجّ يقع كل سنة وموسم الحَجّ يقع في آخر شهر من السنة العربية ((3)) . القراءات الَقُرْآنيّة 1. {فَسَقَى} : قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وورش بالإمالة. 2. {تَوَلَّى} : قرأ حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة ((4)) . 3. {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} : قرأ ابن محيصن: (فجاءتهُ احْداهما) بحذف الهمزة على غير قياس كقولهم يا أبا فلان ((5)) . 4. {يَا أَبَتِ} : قرأ ابن عامر (يا أبتَ) . وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، وأبو جعفر (يا أَبَهْ) وقفاً ((6)) 5. {أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى} :

_ (1) ينظر لسان العرب: مادة (جزى) 14/ 143. (2) لسان العرب: مادة (حجج) 2/ 277. (3) التحرير والتنوير: 20/ 107. (4) غيث النفع: ص 316. معجم القراءات القرآنية: 5/ 14. (5) المحتسب: 2/150. البَحْر المُحِيْط: 7/114. الدُّرُّ المَصُون: 5/ 338. (6) النشر في القراءات العشر: 2/ 131. التيسير في القراءات السبع. أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني. ت 444 هـ. تحقيق: أوتو برترزل. طبع دار الكتب العلمية. بيروت. 1996.: ص 127. إتحاف فضلاء البشر: ص 342.

روى عن أبي عمرو (أنكحك حْدى) بحذف همزة إحدى ((1)) . 6. {هَاتَيْنِ} : قرأ ابن كثير (هَاتَّيْنِ) بتشديد النون ((2)) . 7. {سَتَجِدُنِي} : قرأ نافع، وأبو جعفر: (سَتَجِدْنيَ) ((3)) . 8. {أَيَّمَا} : قرأ أبو عمرو، والعباس، والحسن بسكون الباء (أَيْمَا) . وقرأ ابن مسعود (أيَّ الأجلين ما قضيت) بإقحام ما بين الأجلين وقضيت، فإن قلت: ما الفرق بين موقعي (ما) المزيدة في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة الإبهام، أي: زائدة في شياعها، وفي الشاذة تأكيد القضاء كأنه قال، أيّ: القضاء صممت على قضاءه وجردت عزيمتي له ((4)) . 9. {عُدْوَانَ} : قرأ أبو حيوة، وابن قطيب: (عِدْوَان) ((5)) . القضايا البلاغية 1. قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} :

_ (1) البحر المحيط: 7/ 115. مختصر في شواذ القُرْآن (كتاب القراءات الشاذة) من كتاب البديع. لابن خالويه. ت 370 هـ. تحقيق: برجستراسر. الطبعة الثانية. بيروت، لبنان 1986 م.: 112. (2) النشر في القراءات العشر 1/ 312-313. التيسير في القراءات السبع: ص 95. الدر المصون: 5/ 339. (3) التيسير في القراءات السبع: ص 172. إتحاف فضلاء البشر: ص 342. معجم القراءات القرآنية 5/ 16 (4) الكشاف: 3/ 174. البحر المحيط: 7/ 115. (5) البحر المحيط 7/ 115.

هي من الآيات الصورية التي تصور لنا امرأة كلها حياء وعفة وحشمة استدللنا عليه بقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ، فذكر الفعل المضارع (تمشي) ليبني عليه قوله: {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ، وإلا فان فعل (جاءته) مغن عن ذكر (تمشي) ، واستخدم (على) للاستعلاء المجازي مستعارة للتمكن من الوصف، والمعنى أنها مستحية في مشيها، أي: تمشي غير متبخترة ولا متثنية، ولا مظهرة زينة، ولكنها مبالغة في الحياء و (الاستحياء) مبالغة في الحياء ((1)) . " فان المتبع لقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} لا يجد له نظيراً في كافة التعبيرات الإنشائية البلاغية، وما ذلك إلا لأن استعارة المشي الحقيقي لمجازية الاستحياء مشعرة بالتصوير البياني الخاص بالصورة الفنية بكل أوجهها من حقائق السير إلى مجازات الحياء بأنواعه فالآية قمة من قمم الإعجاز التصويري القرآني " ((2)) . 2.الكلام الجامع المانع:

_ (1) التحرير والتنوير: 20/ 103 (2) الإعجاز التمثيلي في آيات الوصف: 424

في قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} في هذه الآية فنون عديدة، فلهذا جعلها علماء البلاغة أنها من الكلام الجامع المانع الحكيم الذي لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشؤونك وهما الكفاية والأمانة، فقد فرغ بالك وتم مرادك وأصبح هذا القول مثلاً يتداوله الناس على مر العصور، وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول استأجره لقوته وأمانته. وفي التعميم الذي هو أجمل وأليق في مدح النساء للرجال من المدح الخاص، وأبقى للتحشم والتصون ولا سيما بعد أن فهمت غرض أبيها وهو تزويجها منه، وهذا الإبهام من ابنة شعيب (- عليه السلام -) قد سلكته زليخا مع يوسف (- عليه السلام -) ، ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والمستعمل حيث قالت لسيدها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ((1)) ، وهي تعني ما جزاء يوسف بما أرادني من السوء إلا أن تسجنه، أو تعذبه عذاباً أليماً، ولكنها أوهمت زوجها الحياء أن تنطق بالعصمة منسوباً إليها الخنا إيذاناً بان هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر يمنعها من مراودة يوسف بطريقة الأحرى والأولى. إذاً هذه الآية قد حوت الإيجاز والمثل والتعميم والإبهام ((2)) .

_ (1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 25. (2) ينظر الكشاف: 3/ 172، والانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. نَاصِر الدِّيْن أحمد بن مُحَمَّد بن المنير الإسكندري المالكي. ت 683 هـ. دار الكِتَاب العربي. بيروت. لبنان. (د. ت.) .: 3/ 172.

3.الإيجاز ((1)) في قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} إيجاز بليغ: فان معنى شق عليه الأمر مترجح بين اليأس والرجاء، وفيه إيماء إلى أولئك المعاسرين الذين يكلفون عمالهم أعمالاً تربو على طوقهم وتتجاوز حدود قدرتهم المعهودة، وعلى هذا درجت الشرائع في حسن المعاملة والأخذ بالأسهل ((2)) . المعنى العام {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ذكر الطبري أنه جاءت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما تمشي على استحياء من موسى وقد سترت وجهها بثوبها، وعن سيدنا عمر بن الخطاب (- رضي الله عنه -) قال: ((مستترة بكم درعها، أو بكم قميصها)) ((3)) . {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} قال الآلوسي: " وأسندت الدعوة إلى أبيها وعللتها بالجزاء لئلا يوهم كلامها ريبة، وفيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة ما لا يخفى. فقام معها موسى (- عليه السلام -) ، فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف جسدك " ((4)) . {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال ابن عطية: " فوصل موسى (- عليه السلام -) إلى داعيه، فقص إليه أمره من أوله إلى أخره، فآنسه بقوله: لا تخف من القوم الظالمين، وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون " ((5)) . شبه وردها

_ (1) الإيجاز: أن يكون اللفظ أقل من المعنى مع الوفاء به، وإلا كان إخلالاً يفسد الكلام. معجم المصطلحات البلاغية: 1 /344. (2) إعراب القران وبيانه وصرفه: 5/ 310. (3) جامع البيان: 10/ 58. (4) روح المعاني: 20 /59. (5) المحرر الوجيز: 12/ 160.

ذكر الزمخشري، والرازي ((1)) مجموعة افتراضات لشبه أجابا عنها مدارهما على قول ابنة الشيخ الكبير: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} . الشبهة الأولى: فان قيل: كيف ساغ لموسى (- عليه السلام -) أن يعمل بقول امرأة، وأن يمشي معها وهي أجنبية؟ الجواب عنها: أما العمل بقول امرأة، فكما يعمل بقول الواحد حراً كان أو عبداً، ذكراً كان أو أنثى في الأخبار، وما كانت إلا مخبرة عن أبيها بأنه يدعوه ليجزيه. وأما مماشاته امرأة أجنبية فلا باس بها في نظائر تلك الحال مع ذلك الاحتياط والتورع. الشبهة الثانية: إنه سقى أغنامها تقرباً إلى الله تعالى، فكيف يلق به أخذ الأجرة عليه، فان ذلك غير جائز في المروءة ولا في الشريعة؟ الجواب: إن المرأة وإن قالت ذلك، فَلعَلَّ موسى (- عليه السلام -) ما ذهب إليهم طلباً للأجرة، بل للتبرك برؤية ذلك الشيخ. وروي أنها لما قالت: ليجزيك كره ذلك. ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال: (إنا أهل البيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمناً) . حتَّى قال شعيب هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا. وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ به إلى حيث ما كان يطيق تحمله، فقبل ذلك على سبيل الاضطرار. الشبه الثالثة: كيف يليق بشعيب النبي (- عليه السلام -) أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون ذلك الرجل عفيفاً أو فاسقاً؟ الجواب: لعله (- عليه السلام -) كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها فكان يعتمد عليها.

_ (1) الكشاف: 3/171. مفاتيح الغيب: 12 /241.

والذي يظهرا من خلال قراءة متفحصة للآية أن المسافة كانت قصيرة جداً بدليل سرعة رجوعها إلى سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، فالذي يبدو أنهم كانوا ساكنين بقرب بئر الماء على عادة أهل البادية بالتجمع قرب مصادر المياه بحيث يرى ابنته حينما ذهبت لدعوة موسى، فهي قريبة منه، فلا خوف عليها، وإنه حسن الظن به بسبب مدح بناته له لأنه سقى لهما، فهو يحمل صفة المروءة والمساعدة. {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} قال أبو حيان: إن القائلة هي التي ذهبت إلى موسى والتي تزوجها فيما بعد ((1)) . وجاء لفظ استأجرت بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وعن ابن مسعود (- رضي الله عنه -) قال: " أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا} ((2)) ، وأبو بكر في عمر. فقد عرفت قوته من رفعه الصخرة ولا يطيقه إلا عشر رجال. وقيل: أكثر، وأمانته من قوله لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق ((3)) . {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} يفهم من قوله: (هاتين) على أنه كان له غيرهما، وأراد بهاتين الحاضرتين اللتين سقيت لهما ليتأملها، فينظر من يقع اختياره عليها منها ليعقد له عليها ((4)) . وجعل لموسى اختيار إحداهما لأنه قد عرفها، وكانت التي اختارها موسى (صفّورة) وهي الصغرى وإنما اختارها دون أختها لأنها التي عرف أخلاقها باستحيائها وكلامها، فكان ذلك ترجيحاً لها عنده ((5)) .

_ (1) الكشاف: 3/172. (2) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 21. (3) ينظر المحرر الوجيز: 12/16. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6/405. (4) ينظر المحرر الوجيز: 12/160. روح المعاني: 20/67. (5) التحرير والتنوير: 20/106.

{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ} أي: " قال أبو المرأتين اللتين سقى لهما موسى: إني أريد أن أزوجك إحدى ابنتيّ على أن تكون أجيراً لي ثماني سنوات ترعى لنا فيها غنمي، فإن أتممت الثماني السنين التي شرطتها عليك فجعلتها عشراً فإحسان من عندك، وما احب أن أشاقك بمناقشة، أو مراعاة أوقات، أو أكلفك ما فيه مشقة، وإنك ستجدني إن شاء الله ممن تحسن صحبتهم ويوفون بما تريد من خير لك ولنا " ((1)) . {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي: " ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه، أيما الأجلين أطولهما أو أقصرهما وفيتك إياه، فلا يتعدى عليّ بطلب الزيادة، فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على ثماني، أو فلا أكون معتدياً بترك الزيادة عليه كقولك: لا إثم علي، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي ((2)) . والله على ما نقول وكيل حافظ يراقبنا ويعلم ما تعاقدنا عليه " ((3)) . ما يستفاد من النصّ يمكن أن نستنتج المعاني الآتية من الآيات القرآنية الخاصة بزواج سيدنا موسى: فقد رأينا الحياء والعفة المتمثلتين في ابنة سيدنا شعيب (- عليه السلام -) وهو ما ينبغي لكل امرأة أن لا ترفع عنها هذه النعمة العظيمة التي يريد أعداء الله أن ينتزعوه عنها بدعوى الثقافة والانفتاح.

_ (1) تفسير المراغي: 20/52. (2) أنوار التنزيل: 2/214. (3) تفسير الكريم الرحمن: 4/ 14.

المبحث الثاني: المسائل الفقهية المتعلقة بهجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مدين

ودلت كذلك على جانب عظيم من المروءة المتمثل بمساعدة سيدنا موسى (- عليه السلام -) في السقي لبنات شعيب، وعدم أخذ الأجرة على ما قدمه من مساعدة وابتغاء بهذا العمل وجه الله جل وعلا. ودلت الآيات كذلك على ضرورة أن يجتمع في العمل شرطان أساسيان وهما: القوة، والأمانة. فلا تصلح القوة بلا أمانة، ولا تنفع الأمانة بلا قوة. ودلت كذلك على جملة من المسائل الفقهية وهذا ما سنناقشه في مبحث خاص. المبحث الثاني: المسائل الفقهية المتعلقة بهجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مدين المطلب الأول: المسائل المتعلقة بزواج سيدنا موسى (- عليه السلام -) من ابنة شعيب (- عليه السلام -) أولاً ـ تعريفه وألفاظه ومسائله: 1 ـ تعريف النكاح في اللغة: " نكح فلان امرأة ينكحها نكاحاً إذا تزوجها ونَكَحها ينكِحُها إذا تزوجها. أصل النكاح في كلام العرب الوطء. وقيل: للتزويج وطأً، لأنه سبب النكاح وعقد التزويج يسمى النكاح " ((1)) . وذكر الراغب الأصفهاني " أصل النّكاح للعقد، ثُمَّ أُستعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع، ثُمَّ أُستعير للعقد لان أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره " ((2)) . وذكر الشافعي " أن اسم النكاح يتناول العقد فقط " ((3)) . وفي الحقيقة أن لفظة النكاح جاءت في القران الكريم للعقد وللوطء أما التي للعقد فقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوف} ((4)) ، فالمقصود اعقدوا عليهنَّ بإذن أهلهن آتوهنَّ مهورهنّ. فلا يمكن أن يقصد بالنكاح في هذه الآية الوطء، لأنه من غير المعقول أن يقول لوالد المرأة ائذن لي أن أطأ ابنتك أو موكلتك.

_ (1) لسان العرب: مادة (نكح) 2/625 ـ 626. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 526. (3) المبسوط. شمس الأئمة مُحَمَّد بن أحمد بن أَبِي سَهْل السَّرَخْسي الحنفي أبو بَكْر. ت 483 هـ. ط2. دار المعرفة. بيروت. 1406 هـ.: 4/192. (4) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 25.

وقد وردت في القران الكريم لفظة النكاح بمعنى الوطء قال تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ((1)) ، فقد أخرج البخاري في جامعه الصحيح: أن رفاعة القرظي تزوج امرأة، ثُمَّ طلقها فتزوجت أخر، فأتت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثلُ هدبةٍ، فقال النبي (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لا حتى تتذوقي عويسلته ويذوق عويسلتك)) ((2)) ، إن المقصود بذوق (العويسلة) كناية عن المجامعة أي الوطء ((3)) . 2 ـ النكاح في الاصطلاح الشرعي: (عقد يفيد ملك المتعة قصداً) ، أي: حلّ استمتاع الرجل من المرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي ((4)) . عقد يتضمن إباحة وطء ((5)) .

_ (1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 230. (2) صحيح البخاري بشرح العسقلاني: 8/180. (3) المصدر نفسه: 8 /180. (4) حَاشِيَة الطَّحْطَاوي أحمد بن مُحَمَّد بن إسماعيل الحَنَفي. ت 1231 هـ. على الدُّرُّ المختار لمحمد بن عَلِيّ الملَقَّب علاء الدِّيْن الحَصْكَفي الدمشقي. ت 1088 هـ. والدُّرُّ المختار هو شرح تنوير الأبصار لمحمد بن عَبْد الله بن أحمد الخَطيب التُّمُرْتَاشي الحَنَفي الغَزِّي. ت 1400 هـ. دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت سنة 1975. وهي طبعة مصورة على المطبوعة بدار الطباعة العامرة ببولاق مصر سنة 1254 هـ.: 2/3. (5) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج. شمس الدِّيْن مُحَمَّد بن أَبِي العباس شهاب الدِّيْن أحمد بن حمزة الرَّمْلي المُتَوَّفَىَ المَصِري الأنصاري. الشهير بالشافعي الصغير. ت 1004 هـ. مَكْتَبَة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1938 م.: 6/179.

ثانيا ـ ألفاظ عقد النكاح (الإيجاب ـ القبول)

وعرفه بعض الفقهاء بأنه: عقد يفيد حلّ استمتاع كل من العاقدين بالآخر على الوجه المشروع ((1)) . عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمته ((2)) . ثانياً ـ ألفاظ عقد النكاح (الإيجاب ـ القبول) لا خلاف بين الفقهاء في أن الإيجاب والقبول في عقد النكاح يصحّ أن يكونا بلفظ التزويج، أو بلفظ الانكاح، وينعقد بهما لورود هذين اللفظيين في القران الكريم: أولاً ـ بلفظ الزواج، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} ((3)) . ثانياً ـ بلفظ النكاح، قال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ((4)) .

_ (1) عقد الزواج وآثاره. مُحَمَّد أبو زهرة. مطبعة مخيمر بالقاهرة. 1958 م.: 37. المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية. د. عبد الكريم زيدان. الطبعة الأولى. مؤسسة الرسالة. بيروت. 1993 م.: 6/10. (2) مُغْني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج. شمس الدِّيْن مُحَمَّد بن أحمد الشَّرْبِيْني القاهري الشافعي الخَطِيب. ت 977 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) .: 3/123. (3) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 37. (4) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 22.

وسواء اتفق العاقدان في استعمال واحد من هذين اللفظين، أو اختلفا مثل أن يقول ولي الأمر للخاطب: زوجتك ابنتي هذه، فيقول الخاطب: قبلت النكاح، أو قبلت هذا التزويج ((1)) . وقد اختلف الفقهاء في ألفاظ عقد النكاح في غير لفظي التزويج والانكاح، وقد استدل من قال بأن النكاح موقوف على لفظ التزويج والانكاح بقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} ، وسنعرض موجزاً لأقوال الفقهاء في ذلك مع أدلتهم: القول الأول: لا يصح الإيجاب والقبول بغير هذين اللفظين (التزويج والانكاح) وبهذا قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والزهري، وربيعة، والشافعي وهو مذهب الحنابلة (2)) . الدليل: قوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((اتقوا الله في النساء، فأنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) ((3)) ، وكلمة الله هي التزويج، أو الانكاح فإنه لم يذكر في القرآن سواهما، فوجب الوقوف معهما تعبداً واحتياطاً.

_ (1) المُغْني. مُوَفَّق الدِّيْن أبو مُحَمَّد عَبْد الله بن أحمد بم مُحَمَّد بن قُدَامة المَقْدِسي. ت 620 هـ. الناشر: دار الكِتَاب العربي ببيروت سنة 1972.: 7/3. مغني المحتاج 3/139. (2) المغني (ابن قدامة) : 7/78. نهاية المحتاج: 6/207. مغني المحتاج: 3/140. (3) صحيح مسلم: باب حجة النبي (- صلى الله عليه وسلم -) 2 /889 رقم (1218) من حديث جابر (- رضي الله عنه -) .

أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ((1)) ، فذكر الهبة في الزواج هو خاص بالرسول (- صلى الله عليه وسلم -) ، والهبة تجمع أن ينعقد له عليها عقد النكاح بأن تهب نفسها له بلا مهر وفي هذا دلالة على أن لا يجوز نكاح إلا باسم النكاح، أو التزويج ولا يقع بكلام غيرهما وإن كانت معه نية التزويج ((2)) . القول الثاني: ذهبت الظاهرية إلى جواز الإيجاب والقبول في عقد النكاح بلفظ التمليك إضافة إلى لفظي التزويج والانكاح، لورود لفظ التمليك في قوله: (- صلى الله عليه وسلم -) إنه زوج امرأة فقال: ((ملكتكها بما معك من القرآن)) ((3)) . القول الثالث:

_ (1) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 50. (2) الأم. مُحَمَّد بن إِدْرِيْس الشافعي أبو عَبْد الله. (150 ـ 204) . برواية الربيع بن سليمان المرادي. الطبعة الأولى. شركة الطباعة الفنية المتحدة. القاهرة. 1381 هـ.: 5/37. (3) المحلى. عَلِيّ بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو مُحَمَّد. (383 ـ 456) . تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي. دار الآفاق الجديدة. بيروت. (د. ت) .: 9/464. وينظر المفصل في أحكام المرأة: 6/83.

ينعقد عقد النكاح بلفظ النكاح والزواج وبكل ما يفيد التملك من الألفاظ مثل لفظة (البيع. الهبة. الصدقة. والتمليك) إذا شهد عليه، قال به أبو حنيفة، وأصحابه، والنوري، والحسن بن حىّ ((1)) . وقد استدلوا بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، فقد انعقد نكاح الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) بلفظ الهبة، فينعقد به نكاح أُمته. ولأن الطلاق يقع بالصريح والكناية قالوا، فكذلك النكاح. القول الرابع: عند المالكية الألفاظ من جهة انعقاد النكاح بها هي كالآتي: الألفاظ تصلح للإيجاب والقبول وينعقد بها النكاح إن ذكر المهر، وهذه الألفاظ هي الانكاح والتزويج. يصح بها الإيجاب والقبول، وينعقد بها النكاح إن ذكر المهر وهذه الألفاظ لفظ (وهبت) . ما في صحة الإيجاب والقبول به خلاف، وهو كلفظ يقضي البقاء مدى الحياة كبعت، أو ملكت، فبعض المالكية جعلها مثل وهبت وبعضهم لم يجعلها بمنزلة وهبت، فلا ينعقد بها النكاح.

_ (1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. الكاساني. علاء الدِّيْن أبو بكر مسعود. ت 587 هـ. تقديم أحمد مختار عثمان. الناشر: زكريا عَلِيّ يوسف. مطبعة العاصمة. القاهرة. 1928 م.: 2/229. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4988. (2) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 50.

ثالثا ـ مسائله:

ما لا ينعقد بها النكاح مطلقاً ولا يصحّ أن يعبر به عن الإيجاب، أو القبول، وهو كلفظ لا يقضي البقاء مدى الحياة كلفظ الإجارة والعارية ((1)) . القول الراجح لاشك إن الأولى الالتزام بألفاظ النكاح الصريحة كلفظ التزويج والانكاح وذلك لخطورة عقد الزواج ومنعاً للمتلاعبين. ولكن إذا كان العرف في مدينة من المدن يستعمل لفظة معينة لديهم، وتدل هذه على إنشاء عقد الزواج على التأييد ووجَود القرائن كالشهود والمهر فلا مانع من ذلك. ثالثاً ـ مسائله: المسألة الأولى - الإشهاد على عقد الزواج قال تعالى حكاية عن أحد المتعاقدين: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ، قيل: هو قول موسى. وقيل: هو قول والد المرأة ((2)) . والمهم أنه قد اكتفى النبيان الصالحان ـ صلوات الله عليهماـ في الإشهاد عليها بالله ولم يشهدا أحد من الخلق. وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح القول الأول: وهو قول جمهور الفقهاء من الشافعية، والحنفية، والحنابلة قالوا باشتراط الإشهاد لصحة النكاح، وإلا كان فاسداً. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وقول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، وقتادة، والنووي، والأوزاعي ((3)) . القول الثاني:

_ (1) بُلْغَة السالك لأقرب المسالك. لأحمد بن مُحَمَّد الصَّاوِي المالكي الخَلْوَتي. ت 1241 هـ. خرج أحاديثه وفهرسه وقرر عليه بالمقارنة بالقانون الحديث: الدكتور مصطفى كمال وصفي. مطبعة دار المعارف. مصر. ط1. 1972 ـ 1974 م.: 1/380. المفصل في أحكام المرأة: 6/84. (2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4996. (3) الأم: للشافعي. المبسوط (السرخسي) : 5/30. بدائع الصنائع: 5/252.

ونقل الكاساني عن مالك قوله: " وقال مالك: الشهادة ليست بشرط وإنما الشرط هو الإعلان حتى لو عقد النكاح وشرط الإعلان جاز، وإن لم يحضر شهود، ولو حضر شهود وشرط عليهم الكتمان لم يجز " ((1)) . أدلة القول الأول: أخرج الإمام الترمذي في جامعه عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) إنه قال: ((البغايا: اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة)) ((2)) ، والتسمية بالبغايا تشديد والمراد بالبينة الوليّ والشهود. أخرج الإمام البيهقي عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)) ((3)) .

_ (1) بدائع الصنائع: 2/252. وينظر المفصل في أحكام المرأة: 6/110. (2) تُحْفًةُ الأَحْوَذِيّ بشرح جامع التُّرْمِذيّ. مُحَمَّد عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد الرحيم المباركفوري أبو العلا. (1283 ـ 1353) . دار الكتب العلمية. بيروت. (د. ت) .: 4/234. (3) سُنَن البَيْهَقي الكُبرى. أحمد بن الحسين بن عَلِيّ بن موسى البَيْهَقي أبو بكْر. (384 ـ 458) . تحقيق: مُحَمَّد عَبْد القادر عطا. مَكْتَبَة دار الباز. مكة المكرمة. 1414 هـ ـ 1994 م: 7/125.

المسألة الثانية - الولاية في عقد الزواج

أخرج الإمام مالك: أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أُتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة، فقال: ((هذا نكاح السرّ ولا أجيزه)) ((1)) . أدلة المالكية: إنه عقد معاوضة، فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بين النكاح والسفاح: الدُّفُّ. فقد روي عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال: ((أعلنوا النكاح ولو بالدّف)) ((2)) ، وإن اشترط الإعلان لنفي التهم، لأن الزنا لا يكون إلا بالسر فالحلال لا يكون إلا ضده، وذلك بالإعلان عنه ((3)) . المسألة الثانية - الولاية في عقد الزواج الولاية في الاصطلاح الفقهي تعريف الولاية في اللغة:

_ (1) الموطأ. الإمام مالك بن أنس أبو عَبْد الله الأصبحي. (93 ـ 179) . تحقيق: مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد البَاقِي. دار إحياء التراث العربي. مصر. (د. ت) .: 2 /535. مجمع الزوائد: 4 /285 وقال: رواه الطبراني في الروض الداني (المعجم الصغير) . سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني أبو القَاسِم. (260 ـ 360) . تحقيق: مُحَمَّد شكور محمود الحاج أمرير. المكتب الإسلامي , دار عمار. بيروت , عمان. ط2. 1405 هـ ـ 1985 م. عن مُحَمَّد بن عبد الصمد بن أبي الجراح لم يتكلم فيه أحد وبقية رجاله ثقات. (2) صحيح ابن حبان: 9 / 374. المستدرك على الصحيحين: 2 /200 قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. كلاهما دون لفظ (بالدف) . وهو بهذه الزيادة في البحر الزخار المعروف بمسند البزار. أحمد بن عمرو بن عَبْد الخالق البزار أبو بكر. (215 ـ 292) . تحقيق: د. محفوظ الرَّحْمَن زين الله. مؤسسة عُلُوْم القُرْآن ـ مَكْتَبَة العُلُوْم والحكم. بيروت ـ المدينة. ط1. 1409 هـ.: 6 /171 وقال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن ابن الزبير إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. (3) المبسوط (السرخسي) : 5/31.

في أسماء الله تعالى: الولي الناصر. قيل: الوِلاية بالكسر السلطان والوَلاية الوِلاية النَصرة. قيل: هم عليّ وَِلاية، أي: مجتمعون في النّصرة، قال سيبويه: الوَلاية بالفتح المصدر، والوِلاية بالكسر الاسم مثل الأمارة لأنه اسم لما توليه وقمت به، فإذا أرادوا المصدر فتحوا. الوَليّ: ولي اليتيم الذي يلي أمره ويقوم بكفايته، وولي المرأة الذي يلي عقد النكاح دونه ((1)) . تعريف الولاية في الاصطلاح الشرعي: " تنفيذ القول على الغير " ((2)) . وقبل الخوض في أحكام الولاية علينا أن نبين: أسباب الولاية وهي القرابة. الملك. الولاء. الإمامة. الوصية ((3)) مع اختلاف في بعضها وليس هنا مقام تفصيله. أنواع الولاية "ولاية الإجبار. ولاية الندب والاستحباب. ولاية الشركة" (4) . شروط الولي " العقل. البلوغ. الحرية. اتحاد الدين. العدالة. الذكورة. الرشد) ((5)) . الولاية على تزويج البالغة العاقلة تعريف البلوغُ: البلوغُ والبلاغُ الانتهاء إلى أقصى المقْصِد والمنُتهى مكاناً كان، أو زَماناً، أو أمراً من الأمور المقدرة ((6)) .

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (ولي) 5 /407. (2) حاشية الطحاوي: 2/6. (3) بدائع الصنائع: 2/237. المفصل في أحكام المرأة: 6/341 – 342. (4) بدائع الصنائع: 2/241 - 247. شرح فتح القدير. كمال الدِّيْن مُحَمَّد بن عَبْد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام. ت 681 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) .: 2/393. (5) المغني (ابن قدامة) : 7/21. بدائع الصنائع: 2/239. مغني المحتاج: 3/154. (6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 58.

وعلامات البلوغ في الأنثى هي الحيض. الاحتلام ((1)) . وأدنى سن لظهور علامات بلوغ الأنثى من العمر تسع سنوات. وقال الشافعية: استكمال تسع سنين قمرية. بالنسبة للذكر أدنى سن لاحتلام الذكر أثنتا عشرة سنة ((2)) . فسنستعرض أقوال الفقهاء في مسألة تزويج الأب ابنته البالغة، وهل يستأمرها؟ مع أدلتهم باختصار وبما يفي بغرض التفسير التحليلي فقط، فقد استدل قسم من العلماء بقوله تعالى: {أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيّ} على أن النكاح للولي ولاحظ للمرأة فيه، لأن صالح مدين تولاه وبه قال فقهاء الأمصار وخالف في ذلك الحنفية. واستدل الأمام مالك على أن للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير إستئمار، وبقول مالك قال الشافعي وكثير من العلماء، وخالف بذلك أبو حنيفة ((3)) . سنتعرف على آراء العلماء في هذه المسالة مع الأدلة وبشكل مختصر: أولاً ـ مذهب الحنفية:

_ (1) المبسوط (السرخسي) : 9/184. بدائع الصنائع: 7/171. (2) المبسوط (السرخسي) : 9/184. مغني المحتاج: 2/167. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4987.

قالوا: لا يجوز للولي أياً كان، أو غيره إجبار البالغة العاقلة البكر على النكاح، لأن علة ولاية الإجبار في النكاح هي الصغر، وقد زالت ببلوغها ((1)) ، ومن حقها أن تزِّوج نفسها بنفسها دون الحاجة إلى إذن الوليّ، ولا إلى أن يتولى عقد نكاحها نيابة عنها. ولكن للولي حق الاعتراض على زواجها بغير كفء، أو بأقل من مهر المثل إذا كان هذا الولي من عصباتها ((2)) . أدلة الحنفية: 1. من القرآن: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} ((3)) . وجوه الدلالة أـ إضافة عقد النكاح إليها من غير ذكر الوليّ في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} . ب ـ إضافة المراجعة إليها من غير ذكر الوليّ في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} ((4)) . 2. من السنة:

_ (1) الهِداية شرح بداية المُبتدي. برهان الدِّيْن عَلِيّ بن أَبِي بكر بن عَبْد الجليل المَرْغِيْنَاني الفَرْغَاني أبو الحسين. (511 ـ 593) . المكتبة الإسلامية. بيروت (د. ت) .: 1/196. حاشية الطحاوي على الدر المختار: 2/26. (2) حاشية الطحاوي على الدر المختار: 2/26. المبسوط (السرخسي) : 5/10 ـ 11. (3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 230. (4) أحكام القُرْآن. أحمد بن عَلِيّ الرَّازِي الجَصَّاص أبو بكر. (305 ـ 370) . تحقيق: مُحَمَّد الصادق قمحاوي. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1405 هـ.: 1 /400.

روت خنساء بنت خذام الأنصارية: ((أنها أتت رسول الله فذكرت أن أباها زوَّجها وهي كارهة فخيّرها النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بين فسخ النكاح وبين بقائه وعدم فسخه)) ((1)) ((2)) . من المعقول أن البالغة العاقلة البكر في تزويج نفسها بنفسها إنما تتصرف في خالص حقها، وهي من أهل التصرف لكونها بالغة عاقلة، ولهذا كان لها التصرف في مالها فكذا التصرف بزواجها ((3)) . 3. الإجماع: اتفق الفقهاء جميعاً على جواز قيام الرجل بعقد النكاح لنفسه إذا كان جائز التصرف بماله، والمرأة البالغة العاقلة لما كانت جائزة التصرف بمالها وجب جواز عقد نكاحها بنفسها ((4)) . ثانياً ـ مذهب الشافعية والمالكية: قال الشافعي: لا تزوج المرأة نفسها، أي لا تملك مباشرة عقد النكاح بحال لا بأذن من وليّها ولا من غيره. سواء كانت هي الموجبة في عقد النكاح، أو القابلة له. وإن الذي يباشر عقد النكاح لها هو وليها وليست هي ((5)) . وللأب ولاية الإجبار على ابنته البالغة العاقلة البكر فله أن يزوجها بدون حاجة إلى إذنها ولا توقف على هذا الإذن ((6)) . الأدلة: 1. من القرآن:

_ (1) صَحِيْح البُخَارِي: باب إذا زوج ابنته وهي كارهة 5 /1974 رقم (4845) . (2) الهداية: 1/196. (3) أحكام القرآن (الجَصَّاص) : 1/402. (4) أحكام القرآن (الجَصَّاص) : 1 /402. (5) الأم: 5/12 ـ 13. نهاية المحتاج: 6/ 224. مغني المحتاج: 3/174. بدية المُجتهِد ونهاية المقتصد. مُحَمَّد بن أحمد بن مُحَمَّد بن رشد القرطبي بن الإِمَام مُحَمَّد بن أحمد بن رُشْد القُرْطُبي. الملقب بابن رُشْد الحَفيد أَبِي الوليد. ت 595 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) .: 2/5. (6) الأم: 5/19. مغني المحتاج: 3/149. نهاية المحتاج: 6/224.

قال تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ((1)) دليل على اعتبار الوليّ في عقد النكاح، وأنه هو الذي يتولى عقد لموليّته. ولو كان الحقُّ لها في عقد النكاح لنفسها لما كان لعضله معنى. 2. من السنة النبوية: قوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لا نكاح إلا بولي)) ((2)) . وقوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطلْ)) ((3)) . قوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((الثيب أحق بنفسها من وليِّها، والبكر يزوجها أبوها)) ((4)) . 3. المعقول: لا يليق بمحاسن العادات دخول المرأة في أمر النكاح ولا اشتراكها مع الرجل في إنشاء عقد النكاح. وقال الشافعي: يستحب للولي المجبر (الأب) أن يستأذن ابنته البالغة العاقلة البكر في تزويجها قبل أن يعقد لها عقد النكاح تطييباً لخاطرها ((5)) . ثالثاً. الحنابلة: فهم مع الشافعية والأحناف في مسألة أن المرأة البالغة البكر لا تملك تزويج نفسها، أما في مسالة هل للأب ولاية الإجبار على ابنته البالغة العاقلة البكر فيزوجها جبراً دون توقف على إذنها. قال أبن قدامة الحنبلي عن أحمد روايتان: الرواية الأولى: له إجبارها على النكاح وتزويجها بغير إذنها كالصغيرة.

_ (1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 232. (2) صَحِيْح البُخَارِي: باب من قال لا نكاح إلا بولي 5/1970. صحيح ابن حبان: 9 /386 من حديث عائشة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ. (3) صحيح ابن حبان: 9/ 384. المستدرك على الصحيحين: 2 /182 من حديث عائشة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (4) صحيح مسلم: باب استئذان الثيب في النكاح 2/ 1037 رقم (1421) من حديث ابْن عَبَّاس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ. (5) ينظر المفصل في أحكام المرأة: 6/ 344.

المسألة الثالثة - تعين الزوجة

الرواية الثانية: ليس له ذلك واختارها أبو بكر وهو مذهب الأوزاعي، والنوري ((1)) . والدليل على الرواية الأخيرة ما روي عن ابن عباس: ((أن جارية بكراً أتت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فذكرت أن أباها زوَّجها وهي كارهة فخَّيرها النبي (- صلى الله عليه وسلم -)) ) ((2)) ، ولأنها جائزة التصرف في مالها فلم يجز إجبارها على الزواج كالثيب والرجل. المسألة الثالثة - تعين الزوجة ذكر القرطبي ـ رحمه الله ـ في قوله: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} ما يدل على أنه عرض لا عقد، لأنه لو كان عقداً لعين المعقود عليها له لأن العلماء وإن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال: بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا، فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح، لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح.

_ (1) المغني (ابن قدامة) : 7/40. (2) . سُليمان بن الأشعث السِّجِسْتَاني الأزدي أبو داود. ت 275 هـ. تحقيق: مُحَمَّد محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. دار الفكر للطباعة والنشر. (د. ت) .: 2 /232 رقم (2096) . السنن الكبرى (البيهقي) : 7 /117 رقم (13447) وقال البيهقي: فهذا حديث أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختياني والمحفوظ عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

المسألة الرابعة - المهر

وذكر القرطبي أنه إنما عرض الأمر مجملاً (أي والد البنتين) ، ثُمَّ عين بعد ذلك وقد قيل: إنه زوّجه صفوريا وهي الصغرى، وهي التي جاءت خلفه القائلة: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} . وقيل: إن الحكمة في تزويجه الصغرى من قبل الكبرى إنه توقع أن يميل إليها لأنه رآها عند البئر وما شاهده في إقباله إلى أبيها معها فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره ((1)) . قال الشافعي بهذا الخصوص: " لا يكون التزويج إلا لامرأة بعينها " ((2)) . المسألة الرابعة - المهر تعريف المهر لغة واصطلاحاً: 1. المهر في اللغة: المهر: الصداق، وقد مهر المرأة بمهَرها ويمهُرها مهراً وأمهرتها زوجتها غيري على مهر ((3)) . 2. المهر في الاصطلاح:

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4988. منتهى المرام في شرح آيات الأحكام. عبد السلام مُحَمَّد بن الحسين بن الإمام القاسم بن مُحَمَّد. الدار اليمنية للنشر والتوزيع. الطبعة الثانية. 1986 م.: 426. (2) الأم: 5/38. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (مهر) 5/184.

وهو الصداق، وهو اسم لما يجب على الرجل للنساء في النكاح والوطء ((1)) . وللمهر أسماء: الصداق. الصدقة. النِحلة. الفريضة. والأجر. الطول. العلائق. العقر. وزاد بعضهم اسم النكاح لقوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} ((2)) ((3)) . أما الدليل على مشروعيته فقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ((4)) . وهناك عدة تساؤلات فيما يخص المهر وبخصوص زواج سيدنا موسى مع صالح مدين، وهي: أولا ـ هل تكون المنفعة مهراً؟ قال الجمهور: تصح تسمية المنفعة مهراً في عقد النكاح كسكن الدار، أو منفعة عمل يقوم به حرّاً، أو عبد ((5)) ، فالقاعدة عندهم كلّ ما جاز ثمناً في البيع، أو أجرة في الإجارة من العين والدين والمال المؤجل والقليل والكثير ومنافع الحر والعبد وغيرها جاز أن تكون صداقاً (أي مهراً) ((6)) .

_ (1) ينظر حَاشِيَة الدسوقي على الشرح الكبير. مُحَمَّد بن أحمد بن عَرَفة الدُّسُوقي المالكي. ت 1230 هـ. تحقيق: مُحَمَّد عليش. دار الفكر. بيروت. (د. ت) .: 2 /293. كشاف القناع: 5 /128. حَاشِيَة رَدّ المحتار على الدُّرُّ المُختار شرح تَنْوير الأبصار. رد المحتار. السيد مُحَمَّد أمين عابِدِيْن بن السيد عُمَر عابِدِيْن بن عَبْد العزيز الدَّمَشْقي الحنفي. ت 1252 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. ط2. 1386 هـ.: 2 /329 (2) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 33. (3) المغني (ابن قدامة) : 7/209. مغني المحتاج: 3/220. (4) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 4. (5) المحلى: 9 /603.المغني (ابن قدامة) : 7/212. مغني المحتاج: 3/220. (6) المغني (ابن قدامة) : 7/212. ينظر المفصل في أحكام المرأة: 7/54 ـ 55.

ويترتب على ذلك أنه يجوز أن يكون المهر عملاً يقوم به الزوج حراً كان أو عبداً فيه منفعة لزوجته سواء كان خدمة معينة لها كخدمة سنة كذلك لو جعل مهرها أن يبني دارها، أو يخيط ثوباً لها، أو يرعى غنمها مدة معينة ((1)) . وفيما يأتي تفصيل آراء العلماء في ذلك: الشافعية: قال الشافعي: " الصداق ثمن من الأثمان، فكل ما يصلح أن يكون ثمناً صلح أن يكون صداقاً، وذلك مثل أن تنكح المرأة الرجل على أن يخيط لها الثوب، ويبني لها البيت، ويذهب بها البلد، ويعمل لها العمل، فإن قال قائل: ما دلّ على هذا؟ قيل: إذا كان المهر ثمناً كان في معنى هذا، وقد أجازه الله عز وجل في الإجارة في كتابه، وأجازه المسلمون، فذكر قصة شعيب وموسى في النكاح فقالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} وقال: " لا أحفظ من أحدٍ في أن ما جازت عليه الإجارة جاز أن يكون مهراً " ((2)) . المالكية: المشهور عن مالك الكراهة، ولذلك رأى نسخه قبل الدخول وأجازه من أصحابه أصبغ وسحنون ((3)) . الحنفية: لقد فصل الأحناف القول في هذه المسألة: فعندهم منافع الأعيان من المنقولات والعقارات تقع تسميتها مهراً في عقد النكاح، لأن هذه المنافع تعتبر أموالاً، أو إنها ألحقت بالأموال في سائر العقود ولمكان الحاجة إليها. منافع الحر. جعل مهرها خدمتها: قالوا: لو تزوج رجل حرّ امرأة على أن يخدمها سنة، فالتسمية فاسدة ولها مهر المثل في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. وعند محمد التسمية صحيحة ولها قيمة الخدمة. تزوجها على فعل لها غير خدمتها:

_ (1) المغني (ابن قدامة) : 7/212. (2) الأم: 5/161. منتهى المرام: 426. (3) بداية المجتهد: 2/20.

المسألة الخامسة - مسألة الدخول قبل النقد

أما لو تزوجها على مهره وأن يقوم لها بفعل، وليس في الفعل استهانة له ولا مذلة كزراعة أرضها ونحو ذلك من الأعمال خارج البيت التي لا مهانة فيها ولا مذلة صحت تسمية هذه الأفعال مهراً في عقد النكاح. وقال الكاساني: لفظ رواية الأصل يدل على أن التسمية لا تصحّ في رعي غنمها كما لا تصح في خدمتها لأن رعي غنمها كخدمتها ((1)) . وجاء في الفتاوى الهندية في فقه الحنفية: " ولو تزوجها على أن يرعى غنمها، أو يزرع أرضها في رواية لا يجوز، وفي رواية جاز، والأولى رواية الأصل والجامع. والصواب أن يسلم لها إجماعاً استدلالاً بقصة موسى وشعيب (- عليه السلام -) وشريعة من قبلنا تلزمنا إذا قص الله تعالى أو رسوله بلا إنكار ((2)) . المسألة الخامسة - مسألة الدخول قبل النقد قال تعالى عن شعيب (- عليه السلام -) في قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} هنا يتبادر سؤالاً مهماً هل دخل سيدنا موسى (- عليه السلام -) حين عقد أم حين سافر؟ فإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز، وإن كان مدى العمر بغير شرط ((3)) .

_ (1) ينظر بدائع الصنائع: 2 /278. (2) الفتاوى الهِندية (العالَمْكَيْرية) . جمعت بأمر سلطان الهند محيي الدِّيْن مُحَمَّد اورُنْك زِيْب عالَم كَير ت 1118 هـ. المكتبة الإسلامية بديار بَكْر بتُرْكيا. ط3 1393 هـ. وهي مصورة على ط2 المطبوعة بالمطبعة الأميرية ببولاق مصر 1310 هـ.: 1/283. وينظر المفصل في أحكام المرأة: 7/56 ـ 57. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4990.

المسألة السادسة - اشتراط الولي شيئا من المهر لنفسه

وإن كان دخل حين عقد؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال نود أن نبين " أن المهر يجبُ بنفس عقد الزواج، لأنه من آثار هذا العقد، فإن اتفق عليه الطرفان فهو المهر المسمى وهو الواجب بعقد الزواج، ولكن هذا الوجوب يبقى قلقاً لا يستقر ولا يتأكد وجوبه ويلزم الزوج به إلا إذا حصل ما يؤكده ومؤكداته هي: الدخول، أو موت أحد الزوجين، أو الخلوة الصحيحة " ((1)) . وقد ذكر القرطبي " قد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار، قاله ابن القاسم والمتأخرين من أصحابنا قالوا: تعجيل، أو شئ منه مستحب، فإن كان الصداق رعيةُ الغنم فقد نقد الشرع في الخدمة " ((2)) . وقال ابن قدامة: " لا يجوز الدخول بالمرأة قبل إعطائها شيئاً سواء كانت مفوضة، أو مسمى لها، قاله سعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والنووي الشافعي، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، والزهري، وقتادة، ومالك لا يدخل حتى يعطيها شيئاً " ((3)) . المسألة السادسة - اشتراط الولي شيئاً من المهر لنفسه لقد استدل قسم من العلماء باشتراط سيدنا شعيب (- عليه السلام -) الإجارة من سيدنا موسى (- عليه السلام -) مقابل تزويجه ابنته، قال الله تعَاَلىَ على لسان شعيب: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . وقسم أخر من العلماء لم ير أن له الحق في ذلك، وفيما يأتي أقوال العلماء في ذلك: قال الحنابلة: " يجوز لأبي المرأة أن يشترط شيئاً من صداق ابنته لنفسه، وبهذا قال إسحاق، وروي نحو ذلك عن علي بن الحسين " ((4)) .

_ (1) المفصل في أحكام المرأة: 7/88 (2) الجامع لأحكام القرآن: 6/4990 (3) المغني (ابن قدامة) : 7/245 (4) المغني (ابن قدامة) : 7/224 ـ 225. المفصل في أحكام المرأة: 7/80

وقال الشافعي: " إذا فعل ذلك فلها مهر المثل وتفسد التسمية لأنه تعطي من صداقها لأجل هذا الشرط الفاسد، ولأن المهر لا يجب إلا للزوجة لأنه عوض بعضها " ((1)) . واحتج الحنابلة: بقوله تعالى في قصة شعيب وتزويجه إحدى ابنتيه موسى (- عليه السلام -) {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَج} فجعل المهر الإجارة على رعاية غنمه وهو شرط لنفسه. وذكر القرطبي أن قسم من العلماء قالوا: " هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكراً لصداق المرأة، وإنما كان اشتراطاً لنفسه على ما يفعله الأعراب، فإنها تشترط صداق بناتها وتقول: لي كذا في خاصة نفسي. وترك المهر مفوضاً ونكاح التفويض جائز " ((2)) .

_ (1) المغني (ابن قدامة) : 7/224 ـ 225. المفصل في أحكام المرأة: 7/80. (2) الجامع لأحكام القرآن:6/4994.

المطلب الثاني: الإجارة

قال ابن العربي: " هذا الذي تفعَلُه الأعراب هو حلوان وزيادةُ على مهر. وهو حرام لا يليق بالأنبياء، فأما إذا شرط الوليُّ شيئاً لنفسه فقد اختلف علماؤنا فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين: أحدهما أنه جائز، والآخر لا يجوز. والذي يصح عندي التقسيم. فان المرأة لا تخلو إما أن تكون بكراً، أو ثيباً، فان كانت ثيّباً جاز لأن نكاحهَا بيدها، وإنما يكون للوليّ مباشرة العقد، ولا يمتنع العِوَض عنه كما يأخذُه الوكيلُ على عقد البيع، وإن كانت بكراً كان العَقْدُ بيده، فكأنه عِوَضٌ في النكاح لغير الزوجة، وذلك باطل، فإن وقع فُسِخ قبل البناء وثبت بعده على مشهور الرواية " ((1)) . المطلب الثاني: الإجارة تعريفها، وأركانها، ودليل مشروعيتها، والمسائل المتعلقة بها تعريف الإجارة في اللغة: الإجارة من أجرَ يَأجِرُ، وهو ما أعطيت من أجر في عمل، والأجر الثواب. والأجر الجزاء على العمل والجمع أجور، أجر الإنسان واستأجره. والأجير المستأجَرُ وجمعه أجَراءُ والاسم منه الإجارة، والأجرة: الكراء ((2)) . تعريف الإجارة في الاصطلاح: " تمليك نفع بعوض " ((3)) . وقيل: " عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعرض معلوم " ((4)) . أركانها أربعة: عاقدان، وصيغة، وأجرة، ومنفعة ((5)) . مشروعية الإجارة:

_ (1) أحكام القُرْآن. مُحَمَّد بن عَبْد الله بن مُحَمَّد بن عَبْد الله بن أحمد أبو بكر. المعروف بابن العَرَبي. المَعَافري الاِشْبِيْلي. ت 543 هـ. تحقيق: عَلِيّ مُحَمَّد البجاوي. مطبعة عيسى البِابي الحَلَبي بمصر. سنة 1974 م.: 3/ 1473. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (أجر) 4/10. (3) حاشية الطحاوي على الدر المختار: 4/2. (4) مغني المحتاج: 2/332. (5) المصدر نفسه: 2 /332.

قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْه} دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة، وكذلك كانت في كل ملة. وهي من ضرورة الخليقة ومصلحة الخلطة بين الناس ((1)) . وقد اتفق الفقهاء على مشروعية عقد الإجارة ما عدا أبا بكر الأصم وإسماعيل بن غُلبة، فأنهم لم يجيزوه. ودليلهم في ذلك أن الإجارة بيع المنفعة والمنافع حال انعقاد العقد معدومة القبض، ثُمَّ تستوفى شيئاً فشيئاً مع الزمن، والمعدوم لا يحتمل البيع، ولا يجوز إضافة البيع إلى شئ في المستقبل. وقد رد عليهم ابن رشد " إنها وإن كانت معدومة في حال العقد فهي مستوفاة في الغالب، والشرع إنما لحظ من هذه المنافع ما يستوفى في الغالب، أو يكون استفتاؤه وعدم استيفائه على السواء " ((2)) . وقد استدل الجمهور على جواز عقد الإجارة بالقرآن، والسنة: أولاً ـ القرآن: قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ((3)) . قوله تعالى حاكياً قول إحدى ابنتي شعيب (- عليه السلام -) : {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} ((4)) . والاستدلال بهذه الآية صحيح عند القائلين بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ((5)) . ثانياً ـ السنة النبوية:

_ (1) الجامع لأحكام القرآن: 6 /4987. (2) بداية المجتهد: 2/218. (3) سُوْرَة الطلاق: الآية 6. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 26 ـ 28. (5) الفقه الإسلامي وأدلته. (د. نش) . وهبة الزحيلي. ط4. دار الفكر. دمشق. سوريا. 1997 م.: 5/3801.

قوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) ((1)) .

_ (1) مُسْنَد أَبِي يَعْلَى: 12 /35. سُنَن ابن مَاجَه. مُحَمَّد بن يَزِيد القَزْويني أبو عَبْد الله. (207 ـ 275) . تحقيق: مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد البَاقِي. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) .: 2/ 817. الروض الداني (المعجم الصغير) . سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني أبو القَاسِم. (260 ـ 360) . تحقيق: مُحَمَّد شكور محمود الحاج أمرير. = = المكتب الإسلامي , دار عمار. بيروت , عمان. ط2. 1405 هـ ـ 1985 م.: 1 /43. السنن الكبرى (البيهقي) : 6 /120. روي من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث جابر، ومن حديث أنس، فحديث أبي هريرة رواة أبي يعلى في مسنده، وحديث ابن عمر أخرجه ابن ماجة في سننه، وحديث جابر رواه الطبراني في معجمه الصغير، وحديث أنس رواه الترمذي في نوادر الأصول. قال ابن حجر: كلها ضعاف. ينظر نَصْب الرَّايَة لأحاديث الهِداية. جَمَال الدِّيْن بن عَبْد الله بن يوسُف الحَنَفي الزَّيْلَعِي أبو مُحَمَّد. ت 762 هـ. تحقيق: مُحَمَّد يوسف البنوري.. دار الحديث. مصر. ط1. 1357 هـ.: 4/129 وما بعدها. مجمع الزوائد: 4/97. سُبُل السَّلام شرح بلوغ المَرَام من جمع أَدلَّة الأحكام. مُحَمَّد بن إسماعيل الصَّنْعَانِي الأمير. ت 1182هـ. تحقيق: مُحَمَّد عَبْد العزيز الخولي. ط4. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1379 هـ ـ 1960 م.: 3/81.

المسألة الأولى: ذكر المدة دون ذكر الخدمة

روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) : ((إن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) احتجم وأعطي الحجام أجره)) ((1)) . ثالثاً ـ الإجماع: فقد أجمعت الأمة على جواز الإيجار لحاجة الناس إليه من ضرورة الخليقة، ومصلحة الخلطة بين الناس والحاجة إليها إذ ليس لكل أحد مركوب ومسكن وخادم، فجوزت لذلك كما جوزت بيع الأعيان ((2)) . المسألة الأولى: ذكر المدة دون ذكر الخدمة قاله تعالى حكاية عن قول الشيخ الكبير: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} نلاحظ في هذه الآية الكريمة كان ذكر للمدة دون ذكر الخدمة، فهنا يتبادر سؤالاً هو: هل يصح في عقد الإجارة ذكر المدة دون ذكر الخدمة؟ قال أبو حنيفة، والشافعي: لا يجوز حتَّى يسمي، لأنه مجهول. وقال مالك: إنه جائز ويحمل على العرف فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة ((3)) . وذكر ابن العربي " دليلاً معلوم لأنه استحقاق لمنافعه فيما يصرف فيه مثله، والعُرْفُ يشهد لذلك ويقضي به، فيحمل عليه، ويعضد هذا بظاهر قصة موسى، فإنه ذكر إجارة مطلقة على أن أهل التفسير ذكروا أنه عيّنَ له رَِعْيةَ الغنم، ولم يرووا ذلك من طريق صحيحة، ولكن قالوا: إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم، فكان ما عُلِم من حاله قائماً مقام تعيين الخدمة فيه ((4)) .

_ (1) صَحِيْح البُخَارِي: باب السعوط. 5 /2154 رقم (5367) صحيح مسلم: باب حل أجرة الحجامة 3 /1205 رقم (1202) . وينظر نصب الراية: 4/134. نيْل الأوطار شرح مُنتقَى الأَخْبَار من أحاديث سيّد الأخيار. الشيخ مُحَمَّد بن عَلِيّ بن مُحَمَّد الشَّوْكَاني. ت 1250 هـ. مَكْتَبَة دار الجيل. بيروت. ط1. 1973 م.: 5/285. سبل السلام: 3/80. (2) مغني المحتاج: 2/232. بداية المجتهد: 2/218. (3) الجامع لأحكام القرآن: 6/4991. (4) أحكام القرآن (ابن العربي) : 3 /1472.

المسألة الثانية: الإجارة على رعاية الغنم

المسألة الثانية: الإجارة على رعاية الغنم أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهوراً معلومة بأجرة معلومة لرعاية غنم معدودة. فإن كانت معدودة معينة، ففيها تفصيل: قال ابن القاسم: لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت، وهي رواية ضعيفة جداً. الرد عليه: فقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه، وقد رآها ولم يشترط خلفا ((1)) . وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا قاله ابن العربي. وقال: " إنما عوّل علماؤنا على العرف، وأنه يعطي على قدر ما تحتمل قوَّتهُ. وزاد بعضهم أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدْرَ قوته، فإن صالح مدين قد علم قَدْرَ قوة موسى برفع الحجر. وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يجوز لجهالتها ((2)) . المسالة الثالثة: اجتماع إجارة ونكاح وفي حكم اجتماع الإجارة مع النكاح ثلاثة أقوال: القول الأول: قال في ثمانية أبي زيد يكره ابتداء، فإن وقع مضى. القول الثاني: قال مالك، وابن القاسم في المشهور: لا يجوز ويُفسخ قبل الدخول وبعده لاختلاف مقاصدها كسائر العقود المتباينة. القول الثالث: أجازه أشهب، وأصبغ. وقال ابن العربي: والصحيح جوازُه، وعليه تدل الآية. وقد قال مالك: النكاح أشبه شيء بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع، أو بين بيع ونكاح ((3)) .

_ (1) الجامع لأحكام القرآن:6/4990 (2) أحكام القران (ابن العربي) : 3/1460 (3) ينظر الجامع لأحكام القرآن: 6/4990. أحكام القران (ابن العربي) : 3/1464.

المسالة الرابعة: شبهات وردها

المسالة الرابعة: شبهات وردها أثارت الهجمة الفكرية التي يشنها أعداء الإسلام في كل مكان عدة شبهات، وتأثر بها ومع الأسف بعض ممن يدعون الإسلام وبدئوا يروجون لها وهي فيما يخص اختلاط المرأة بالرجل وعملها. متهمين الإسلام بأنه قد ظلم المرأة وجعل منها حبيسة الجدران، وقبل بيان موقف الإسلام من اختلاط وعمل المرأة، نود أن نبين جملة حقائق مهمة لابد منها لغرض رفع الحيف الكبير عن الإسلام. إن الإسلام العظيم كرّم المرأة أيّما تكريم، وانصفها أعظم إنصاف وأنقذها من الظلم، منذ أن خلق الخليقة لا يوجد هناك نظام، أو دين أنصف المرأة وأكرمها مثل الإسلام، فقد كرّم الإسلام المرأة كإنسانة، فأكد أهليتها للتكليف والمسؤولية والجزاء ودخول الجنة، فلها ما للرجل من حقوق إنسانية وعليها ما عليه. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((1)) . وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} ((2)) وكرم الإسلام المرأة كأم، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} ((3)) . وكرم المرأة بنتاً، فقد انتقد الإسلام وحرم وأد البنات التي كانت عادة منتشرة في الجاهلية، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ((4)) .

_ (1) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 97. (2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 124. (3) سُوْرَة لُقْمَان: الآية 14. (4) سُوْرَة التَّكْوِيْرِ: الآيتان 8 ـ 9.

وكرمها كزوجة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ((1)) . وكذلك القرآن يجعل الرجل والمرأة شريكين في تحمل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} ((2)) ، فإن دعاة التغريب يريدون من المرأة أن تكون ألعوبة يلعبون بها كيف يشاءون، فمرة ينزعون عنها ثوب حياءها من خلال نزع الحجاب عنها وإلباسها ملابس الرجال حتى لا نكاد نفرق بين المرأة والرجل. ودعوتها للاختلاط بالرجال ومزاحمتهم بحجة المساواة بين الرجل والمرأة، فحملوها اكثر مما تطيق. وسنبين موقف الإسلام من هذه الشبهات فيما يأتي. موقف الإسلام من اختلاط المرأة وعملها قد يستدل البعض بقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا} على إباحة الاختلاط بين الرجال والنساء، وعلى حِليّة عمل المرأة، فلغرض توضيح هذه المسألة سنتكلم عنها ضمن محورين وبصورة مختصرة: المحور الأول موقف الإسلام من الاختلاط تعريف الاختلاط في اللغة:

_ (1) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآية 21. (2) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 71.

قال ابن منظور: " خلط الشيء بالشيء يخلطه خلطاً وخلطه فاختلط: مزجه وخالط الشيء مخالطة وخِلاطاً: مازَجَه والخِلاط اختلاط الإبل والناس والمواشي " ((1)) . حكم الاختلاط من جهة الحظر، أو الإباحة: إن الأصل في اختلاط المرأة بالرجل هو الخطر ويتبين ذلك من خلال الأدلة الآتية: 1. القران الكريم: في الحقيقة لا توجد أية صريحة تحرّم عمل المرأة واختلاطها، ولكن من خلال الإشارات في بعض الآيات القرآنية يمكن الاستدلال بها على حرمة الاختلاط إلا للضرورة: أـ قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} ((2)) ، قد يعترض معترض بالاستدلال بهذه الآية لكونها تخص أزواج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، ويمكن الإجابة عليه بان الله جل وعلا قد ارتضى لأمهات المؤمنين في هذه الآية لزوم البيت وترك التبرج الجاهلي، فعلى النساء أن ترضى بما رضي الله به لأمهاتهنّ أزواج الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) ، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ب ـ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ((3)) . هذه الآية تحث المؤمنين والمؤمنات على غض البصر، وفي قولنا بتحليل الاختلاط تعطيل لعمل هذه الآية، لأن في الاختلاط صعوبة التحرر عن النظر إذا قلنا استحالة ذلك. 2. السنة النبوية:

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (خلط) 7/291. (2) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 33. (3) سُوْرَة النُّوْرِ: الآيتان 30 - 31.

روى الإمام البخاري ـ رَحِمَه الله ـ في صحيحة أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) . وفي رواية الإمام مسلم أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذم محرم)) . وقد قال العلماء في معنى الحديث: " وفيه منع الخلوة بالأجنبية وهو إجماع لا خلاف فيه " ((1)) . وقال الإمام النووي: " وقال أصحابنا ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها في صلاة، أو غيرها " ((2)) . أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها) قالت: ((استأذنت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) في الجهاد فقال: جهادكن الحج)) . وقد نقل العسقلاني عن ابن بطال في شرحه لهذا الحديث يقوله: " دلّ الحديث على أن الجهاد غير واجب على النساء، وإنما لم يكن عليهن واجباً لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال " ((3)) .

_ (1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني: 3/324. نيل الأوطار: 4/324. سبل السلام: 2/183. (2) صحيح مسلم بشرح النووي. النووي. يحيى بن شرف. ت 676 هـ. دار الفكر. بيروت. لبنان. 1410 هـ – 1981 م.: 9/109. (3) صحيح البخاري بشرح العسقلاني: 5/82.

أخرج أبو داود عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه: إنه سمع رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) للنساء: ((إستاخرن، فإنه ليس لكنَّ أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق)) ، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها به ((1)) . معنى الحديث الشريف إبعدْنَ عن الطريق، أي: لا تسيروا في وسطه، وإنما سيروا في حافاته حتى لا تختلطوا بالرجال، فأطَعْنَ كلام رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وسْرنَ في جوانب الطريق، حتى إن إحداهن من شدة تنَّحيها عن وسط الطريق وابتعادها عنه، أَن ثوبها ليعلق بالجدار على جانب الطريق من شدة التصاقها به مبالغة في الابتعاد عن وسط الطريق ((2)) . وفي هذا الحديث دلالة واضحة وصريحة في النهي عن اختلاط النساء بالرجال، وأن الأصل فيه هو الحظر ((3)) . المحور الثاني موقف الإسلام من عمل المرأة الجواب على ذلك يكون في التفصيل الآتي فإن المرأة لا تخلو إما أن تكون في عصمة الزوج، أي: متزوجة، أو غير متزوجة.

_ (1) سُنَن أَبِي داود: 14/190. والحديث حسن الإسناد كما ذكر الحافظ المزي في تَهْذيب الكَمَال في أسماء الرجال. جَمَال الدِّيْن يوسف بن المَزِّي عَبْد الرَّحْمَن المزي أبو الحَجاج. (654 ـ 742) . تحقيق: د. بشار عواد معروف. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط1 ج 1 سنة 1400 هـ ـ 1980 م وج 2 سنة 1982 م.: 12 / 402. (2) عَوْن المعبود على سُنَن أَبِي داود سُليمان بن الأَشْعَث السِّجِسْتَاني ت 275 هـ. شَمس الحقّ أبو عَبْد الرَّحْمَن الشهير بمحمد أَشرف بن أَمير بن عَلِيّ ابن حيدر الصِّدِّيقي العَظِيْم آبادي. دار الكتب العلمية. بيروت. ط2. 1415 هـ.: 14/190 ـ 191. (3) المفصل في أحكام المرأة: 3/426.

فان كانت في عصمة الزوج: " فنفقتها على زوجها سواء كانت غنية، أو فقيرة فهي مكفية المؤونة فالعمل إذن في حقها مباح، وإذا كان العمل للاكتساب والرزق وتحصيل أسباب العيش مباحاً في حق المرأة، فإن هذا المباح يجب أن لا يزاحم ما هو واجب عليها. فواجب المرأة هو القيام بأعمال البيت وما تتطلبه الحياة الزوجية والوفاء بحق الزوج عليه وقيامها بشؤون أولادها وتربيتهم وخدمتهم، وهذه الواجبات كثيرة ومتعبة تحتاج إلى تفرغ المرأة لها، وبالتالي لا يمكنها عادة وغالباً القيام بالعمل المباح لها خارج البيت إلا على حساب التفريط بهذه الواجبات والتقصير في أدائها، وحيث أن من أصول الحقوق والواجبات عدم جواز مزاحمة ما هو حق للإنسان لما هو واجب عليه " ((1)) . فان لم تكن في عصمة زوج: فنفقتها على أبيها إن لم تكن ذات مال، فإن لم يكن لها أب فنفقتها على أخيها، أو من يلزمه نفقتها، فلا حاجة لها إلى العمل، لأن بقاءها في البيت أسترها، وهي مكفية المؤونة والشرع يندب إليها القرار في البيت ويرغبها في البقاء فيه ما دام لا يوجد مبرر شرعي لخروجها، وهي ملزمة برعاية أبويها، أما إذا كانت هناك ضرورة لعملها خارج البيت كأن لا يوجد هناك مورد مالي لها، ولا من يعيلها، أو كان من يعيلها شيخ كبير كما هو حال المرأتين التي سقى لهما سيدنا موسى (- عليه السلام -) وحالات أخرى تعتبر ضرورة، والضرورة تقدر بقدرتها ((2)) . وقد يسال سائل ويقول هل يباحُ الاختلاط والعمل للضرورة؟

_ (1) المفصل في أحكام المرأة: 4/265. (2) ينظر المفصل في أحكام المرأة: 4/265 ـ 267.

وللجواب على ذلك نعود إلى نفس الآية التي استدل بها على إباحة الاختلاط والعمل أخذاً من سقى البنات لغنمهن: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا} ، نستدل بها على إباحة العمل والاختلاط للضرورة، فإن الآية الكريمة قد أجابت عن من يتسأل في السبب الذي دعا الشيخ لدفع بناته للعمل ولاحتمالية الاختلاط، فقالت إحدى البنتين حينما سألها موسى (- عليه السلام -) عن سبب امتناعها عن السقي: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ، فقد كان الجواب عن سؤال موسى المعلن وهو سبب عدم السقي {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} . وأجابت عن سؤال مضمر في نفس موسى كأنها أحست أخفاه من الحياء، وهو لماذا لم يأتي رَجل مكانهن، فقالت: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ، أي: إنا مضطرات، لأن والدنا كان في حالة عجز عن القيام بمهمة السقي، ولا يوجد رجل يقوم مقامهن، لأن والدهن لم يكن لديه من يخلفه غيرهما. وقد قال الإمام الرازي بهذا الخصوص " فإن قيل: كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب أن يرضى لابنته بسقي الماشية؟ فالجواب: إنا وإن سلمنا أنه كان شعيباً النبي (- عليه السلام -) ، لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه وأما المروءة، فالناس فيها مختلفون، وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر لاسيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة " ((1)) .

_ (1) مفاتيح الغيب: 12/240.

ومما يدلل على أنهن مارسن عمل السقي للضرورة طلب إحدى البنات من أبيها أن يستأجر سيدنا موسى (- عليه السلام -) {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} تبين هذه الآية أنها كانت متحرجة جداً من العمل، ولكنها مضطرة للعمل لعدم وجود البديل، فحال توفر البديل طلبت من أبيها استئجاره ليقوم بمهمة السقي بدل عنهما. وقد جاء في السنة النبوية روايات في عمل المرأة خارج البيت للحاجة، سنذكر قسماً منها، ونذكر كذلك بعض الحالات التي يجوز الاختلاط فيها للحاجة. الشروط العامة بعمل المرأة واختلاطها للضرورة: وإذ كان عمل المرأة واختلاطها قد يباح للضرورة لكن بشروط وهي كآلاتي: عدم مزاحمة الرجال ويتبين ذلك من قول إحدى البنات {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} فقد امتنعن عن السقي لعدم مزاحمة الرجال. أن تلتزم بالآداب الشرعية ويتبين ذلك من خلال قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ، وأن تتوقر في مشيتها لقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ((1)) . أن تبتعد عن التميع في الكلام مع الرجال إذا كان في كلامها مع الرجال ضرورة، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} ((2)) .

_ (1) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 31. (2) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 32.

ونلاحظ من خلال المحادثة التي دارت بين المرأة وسيدنا موسى (- عليه السلام -) أنها كانت قصيرة، ودخلت في الموضوع الذي جاءت به بدون إطالة في الكلام مبينة السبب في طلب والدها مباشرة: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ((1)) ، فقد كان تحدثها معه للضرورة. ارتداء الحجاب، قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} ((2)) . غض البصر، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ((3)) . الأمر بعدم الخلوة، قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)) ((4)) . أن تتجنب كل ما يجذب انتباه الرجل إليها ويغريه بها، قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أيما امرأة استعطرت، ثُمَّ خرجت من بيتها ليشم الناس فهي زانية)) ((5)) . ما جاء في السنة النبوية من عمل المرأة خارج البيت للحاجة:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (2) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 31. (3) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 31. (4) متفق عليه من حديث ابْن عَبَّاس. صحيح البخاري: باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له عذر هل يؤذن له 3 / 1094 رقم (2844) . صحيح مسلم باب 2سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره / 978 رقم (1341) (5) رواه أبو داود عن أبي موسى 4 /79 رقم (4173) . سنن الترمذي: 5 /106 رقم (2786) وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. سنن النسائي: 8 /53 كتاب الشريعة. وينظر مركز المرأة في الحياة الإسلامية. تأليف مجموعة من العلماء. دار الفكر الإسلامي. الكويت. 1975 م.: ص 40.

1- أخرج الإمام البخاري (رحمه الله تعالى) في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنها) قالت: ((تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا مملوك ولا شئ غير ناضح وغير فرسه، فكنت اعلفُ فرسه، واستقي الماء، وأحرزُ غربه، وأعجن، ولم أكن أعجنُ، ولم أكن أحسن أخبز، فكان يخبزه جاراتٌ من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على رأسي، فلقيت رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، ومعه نفر من الأنصار فدعاني، ثُمَّ قال: أخ أخ، ليحملني خلفه، فاستحيت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغيرَ الناس، فعرف رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إني قد استحيت فمضى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، فجئتُ الزبير فقلت: لقيني رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأ ركب فاستحيت منه عرفتُ غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشدُّ علي من ركوبك معه، قالت: حتَّى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم، تكفينني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني)) ((1)) .

_ (1) صَحِيْح البُخَارِي: باب الغيرة 5/ 2002 رقم (4962) . الناضح الجمل الذي يستقى عليه الماء. الأرض التي أقطعه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) تدخل في الإقطاع، وهو تمليك قطعة الأرض دون رقبتها. ينظر فتح الباري: 9/319 ـ 320.

" قصة أسماء وحملها النوى من أرض بعيدة عن بيتها لحاجة زوجها لهذا العمل، واطلاع النبي (- صلى الله عليه وسلم -) على حالها وفعلها وسكوته، دليل واضح على جواز عمل المرأة خارج البيت إذا كان هناك ضرورة لعملها، ووجه الضرورة في عمل أسماء، أن زوجها الزبير كان في حال انشغال بالإسلام والجهاد في سبيله، وعجزه عن استئجار من يقوم له بما كانت تقوم به زوجته أسماء " ((1)) . 2- وكذلك يجوز للمرأة أن تعمل خارج بيتها جهاداً في سبيل الله، فقد روى الإمام البخاري ـ رَحِمَه الله ـ في صحيحه عن الرُّبِّيع بنت موذ قالت: ((كنا مع النبي (() نستقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة)) ((2)) ، وكذلك كلّ الأعمال التي لا يمكن إلا أن تقوم بها المرأة كتوليد النساء. وأمثلة اختلاط المرأة للضرورة: ذكر النووي " وقال أصحابنا: ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في صلاة، أو غيرها، ويستثنى من هذا كله مواضيع الضرورة بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق، أو نحو ذلك فيباح له استصحابها بل ويلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها، وهذا لا خلاف فيه " ((3)) . وذكر الدكتور عبد الكريم زيدان حالات لجواز الاختلاط للحاجة منها: الاختلاط لإجراء المعاملات المالية الاختلاط لحاجة مباشرة أعمال القضاء، فعلى رأي الأحناف يجوز للمرأة أن تتولى القضاء في غير الحدود، أو في جميع القضايا بما فيها الحدود عند الظاهرية والإمام الطبري. الاختلاط لغرض تحمل الشهادة ((4)) .

_ (1) المفصل في أحكام المرأة: 4/270 ـ 271. (2) ينظر صحيح البخاري بشرح العسقلاني: 5/85. (3) صحيح مسلم بشرح النووي 9/109 (4) المحلى: 9 /429 -430. بدائع الصنائع: 7 /3. بداية المجتهد: 2/449. المفصل في أحكام المرأة: 4 /271.

المطلب الأول: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يرى نارا في جانب الطور

الفصل السادس: عودة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مصر المبحث الأول: بعثة سيدنا موسى (- عليه السلام -) المطلب الأول: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يرى ناراً في جانب الطور {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} (1) . المناسبة بينت الآيات التي سبقت هذه الآيات الاتفاق الذي حصل بين سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، وشعيب على الإجارة والنكاح، وحدد سيدنا شعيب المدة بثماني سنوات، فإن أتم العشرة فهو فضل من عند موسى {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((2)) ، فلما كان من المعلوم أن التقدير فلما التزم موسى (- عليه السلام -) بما اتفقا عليه، زوجه ابنته كما شرط، واستمر عنده حتى قضى ما عليه بنى عليها {فَلَمَّا قَضَى} ، أي: وفى وأتم موسى الإجارة، أي: الأوفى وهو العشر، فقد ورد أنه قضى من الأجلين أوفاهما، وتزوج من المرأتين صفارهما ((3)) . والظاهر أنه مكث عنده بعد الإجارة أيضاً مدة لأنه عطف بالواو لقوله {وَسَارَ} ولم يجعله جواباً للما ((4)) ، فنلاحظ الترابط الواضح بين هذه الآيات والتي قبلها، وكذلك نلاحظ الاختصار الشديد غير المخل بالعبارات، إذ أغنت كلمات عن جمل، فأغنت {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} عن كلمات كثيرة، أبهم بعضها القرآن كما هو الحال في كثير من المبهمات التي جاءت في سُوْرَة الْقَصَصِ، كاسم التي تزوجها موسى، واسم أخته، وأمه، وعن نوع المواشي التي سقاها موسى

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28. (3) أخرجه البزار: 2244. والطبراني في الصغير: 815، والأوسط كما في مجمع الزوائد: 7/ 88 من حديث أبي ذر، وضعف الهيثمي إسناد البزار وحسن إسناد الصغير والأوسط (4) ينظر نظم الدرر: 5/ 482- 483.

لبنات شعيب، وكذلك أبهم الأجل الذي قضاه موسى أولاً لعدم أهمية المبهم في المعنى بشيء، وليبتعد القرآن عن السرد القصصي الممل الذي يقصه القصاصون، وكذلك ليحفز العقل البشري على التفكير في هذا المبهم بواسطة القرائن الواردة في النصّ القرآني، وليجعل النصّ متحركاً غير جامد، قابلاً للتطبيق في كلّ زمان ومكان. تحليل الألفاظ 1. {آنَسَ} : " آنس الشيء أحَسَّه وآنَسَ الشَّخص واستأنسه وأبْصَرَه ونَظَر إليه. وقال ابن الأعرابي: آنِسْتُ بفلان، أي: فَرِحْت به وآنَسْت فَزَعاً وآنَسْته إذا أحْسَسْتُه ووجدته في نفسك. وفي التنزيل: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} يعني: موسى أبصر ناراً، وهو الإيناس" ((1)) . وقال الزمخشري: " الإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين، لأنه يتبين به الشيء، والإنس لظهورهم. وقيل: هو أبصار ما يؤنس به " ((2)) . 2. {الطُّورِ} : ذكر أبو السعود أن " الطور بالسريانية الجبل، والمراد به طور سينين، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى كلام الله تعالى " ((3)) . 3. {امْكُثُوا} : " المُكْث الأناة واللَّبْثُ والانتظار، مَكَثَ يَمْكُث ومَكَث مَكْثاً ومُكْثاً مُكُوثاً ومَكُوثاُ ومَكَاثة. والمُكْث: الإقامة مع الانتظار، والتلبث في المكان " ((4)) . 4. {جَذْوَةٍ} : " الجَذْوَة والجِذْوَة والجُذْوة: القبة من النار. وقيل: هي الجمرة والجمع جِذاً وجُذاً. وحكى الفارسي جِذاء ممدودة. وقال أبو عبيدة: الجِذْوَة مثل الجِذْمة وهي القطعة الغليظة من الخشب ليس فيها لهب " ((5)) . 5. {تَصْطَلُونَ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (أنس) 6/15. (2) الكشاف: 2/ 531. (3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 8/ 146. (4) لِسَان العَرَب: مَادة (مكث) 2/ 191. (5) لِسَان العَرَب: مَادة (جذذ) 14/ 138.

صَلِيَ بالنار وصَلِيْها صَلْياً وصُلِياً وصِلِياً وصَلَى وصِلاءً واصْطَلَى بها وتَصَّلاها: قاس حرّها، والاصْطِلاء افتعال من صَلا النار والتسخين بها. واصْطَلى بالنار استدفأ ((1)) . القراءات القرآنية 1. {إِنِّي آنَسْتُ} : قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر بفتح الياء: (إِنَّيَ) ((2)) . 2. {جَذْوَةٍ} : واختلفوا في ضم الجيم وكسرها وفتحها، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عامر، والكسائي: (جِذْوَة) بكسر الجيم. وقرأ حمزة، وخلف، والأعشى، وطلحة، وأبو حيوة، ويحيى: (جُذْوَة) . وقرأ عاصم: (جَذْوَة) ((3)) . القضايا البلاغية 1ـ الترجي ((4)) في قوله تعالى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} .

_ (1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (صلي) 14/ 467- 468. (2) التيسير في القراءات السبع: ص 172. إتحاف فضلاء البشر: ص 342.غيث النفع: ص 316. (3) ينظر النشر في القراءات العشر: 2/ 341: الحجة لقراء السبعة. أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي. (288 ـ 377 هـ) . الطبعة الأولى. دار المأمون للتراث. 1992 م.: 5/ 413. الكَشَّاف: 3 / 174. البحر المحيط: 7/116. (4) الترجي: من أساليب الإنشاء، ويكون في القريب والممكن والمتوقع، وهو بحرفين: لعل، وعسى. معترك الأقران في إعجاز القُرْآن. الإِمَام جلال الدِّيْن عَبْد الرَّحْمَن أبو بكر السيوطي الشافعي. ت 911 هـ. ط1. ضبطه وصححه وكتب فهارسه: أحمد شمس الدِّيْن. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1408 هـ – 1988 م.: 1 /446.

2 ـ التقسيم ((1)) في قوله تعالى: {بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ} . المعنى العام {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}

_ (1) التقسيم: هو أن يؤتى بالأقسام مستوفية لم يخل بشيء منها، ومخلصة لم يدخل بعضها في بعض. جواهر الألفاظ. قدامة بن جعفر. تحقيق: رشيد كمال. الطبعة الأولى. المطبعة العلمية. بيروت، لبنان 1411 هـ.: ص 5.

أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) سأل جبريل: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما. وأخرجه عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((يا أبا ذر إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل: خيرهما وأوفاهما)) ((1)) . وأخرجه الحاكم في المستدرك مرفوعاً ((2)) . وفي الدر المنثور، وعزاه إلى البيهقي عن ابن عباس ((3)) . وأخرجه ابن عطية عن سعيد بن جبير قال: سألني رجل من النصارى أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري حتَّى أقدم على حبر العرب ـ أعني ابن عباس ـ فقدمت عليه فسألته فقال: قضى أكملهما وأوفاهما، إن رسول الله إذا قال وفى، فعدت فأعلمت النصراني، فقال: صدق هذا. وروى عن ابن عباس أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قضى عشراً، أو عشراً وبعدها. وقال ابن عطية: هذا ضعيف ((4)) . والمراد بالأهل هنا الزوجة ((5)) . {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}

_ (1) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 29. المعجم الصغير (الطبراني) : 2 /79. المعجم الكبير (الطبراني) : 9 /176. قال الحافظ الهيتمي: " رواه الطبراني في الصغير والأوسط والبزار باختصار، وفي إسناد الطبراني عويد بن أبي عمران الجوني ضعفه ابن معين وغيره، ووثقه ابن حبان، وبقية رجال الطبراني ثقات " مجمع الزوائد: 8 /203. (2) المستدرك على الصحيحين: 2/ 407 من حديث عبدُ الله بْن عَبَّاس بلفظ (أبعدهما وأطيبهما) قال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. (3) السنن الكبرى (البيهقي) : 6 /117 من حديث سعيد بن جبير. الدر المنثور: 6/ 410. (4) المحرر الوجيز: 12/ 162. (5) التحرير والتنوير: 20/ 111.

" أي أبصر من الجهة التي تلي الطور لا من بعضه كما هو المتبادر " ((1)) . فبعد أن ضلوا الطريق واشتد عليهم البرد، فبينما هو كذلك إذ رأى ناراً، وكان ذلك نوراً من الله تعالى قد التبس بشجرة. قال وهب: كانت عليقاً ((2)) . وقال قتادة: عوسجاً (3) . وقيل: زعروراً ((4)) . وقيل: سمرة ((5)) قاله ابن مسعود، وأنس. معناه أحس، والإحساس بالصبر، وكان هذا الأمر كله في جانب الطور وهو جبل في الشام ((6)) . وقال بعض العارفين: " كان المبصر في صورة النار الحقيقية، أما حقيقته فوراء طور العقل، إلا أن موسى (- عليه السلام -) ظنه النار المعروفة " ((7)) . {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} بعد أن أظلم عليهم الليل في الصحراء، وضلوا طريقهم، فوجدوا برداً شديداً، فأبصر النار، فسار إليها يطلب من يدله على الطريق، وهو قوله: {آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} دلالة على أنه ضل. وفي قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} دلالة على البرد ((8)) . ما يستفاد من النصّ

_ (1) روح المعاني: 20/ 72. (2) العليق: نبات شانك معرش من فصيلة الورديات، زهوره صغيرة بيضاء أو وردية اللون، وله ثمار كثمار التوت، ينظر المحرر الوجيز: 12/ 163. (3) العوسج: جنس شجيرات من فصيلة الباذنجانيات أغصانه شائكة وأزهاره مختلفة الألوان ينظر: المحرر والوجيز: 12/ 163. (4) الزعرور: شجرة مثمر من فصيلة الورديات يكثر في مناطق المتوسط، ثمره أحمر وأصفر ينظر: المحرر الوجيز: 12/ 163. (5) السمرة: وهو شجر من العضاة، وليس في العضاة أجود خشباً منه. ينظر: المحرر الوجيز: 12/ 163. (6) ينظر: المحرر الوجيز: 12/ 163. (7) روح المعاني: 20/ 72. (8) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 244.

يمكن أن نستفيد من هذه الآية المعاني الآتية: 1.دلت الآيات على الوفاء بالعهد، وأنها من شيم المؤمنين وأخلاق الأنبياء، فقد وفى سيدنا موسى بما قبل على نفسه من شرط، ونفذ سيدنا شعيب ما جعله جزاء لهذا الشرط. 2.وفي هذه الآية دليل على أن للرجل أن يذهب بأهله حيث يشاء مما يرضي الله لما له عليها من فضل القوّامية وزيادة الدرجة، إلا أن يلتزم لها أمراً، فالمؤمنين عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج ((1)) . 3.ونستدل من قول سيدنا موسى {امْكُثُوا} على غيرته الشديدة على زوجته، وهو ما ينبغي أن يكون علية كل إنسان، فسيدنا موسى لما رأى النار لم يعرف مصدرها، فما أراد أن يأخذ أهله إليها لاحتمال وجود خطر، فأراد أن يجازف بنفسه ويعرف مصدرها ثم يرجع إليهم. 4.يتبين من سياق الآيات أن مسيرهم كان ليلاً، لقوله تعالى: {آنَسْتُ نَارًا} ، فالنار في الليل تُرى من مسافة بعيدة، وهذا ما جعله يرى النار من مسافة بعيدة، ولأن السفر في الليل أستر للعائلة وأسهل في المنفعة.

_ (1) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4997.

المطلب الثاني: تكليم الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -)

المطلب الثاني: تكليم الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -) {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي} ((1)) . المناسبة بعد أن بينت الآيات السابقات مرحلة مهمة من حياة سيدنا موسى (- عليه السلام -) وهي تأهله وزواجه من ابنة شعيب لتكون له عوناً على تحمل مشاق الدعوة، وفي طريق عودته إلى مصر يرى ناراً، وتحرك ليعرف مصدر هذه النار، أو ليأتي بشيء منها {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ((2)) جاءت هذه الآيات لتبين مصدر النار ومصدر النداء قال {فَلَمَّا أَتَاهَا} ، أي: النار، ولما كان آخر الكلام دالاً دلالة واضحة على أن المنادي هو الله سبحانه وتعالى بنى للمفعول قوله دالاً على ما في أول الأمر من الخفاء {نُودِي} (3) . تحليل الألفاظ 1. {تَهْتَزُّ} :

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 30 - 33. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39. (3) نظم الدر: 5/ 482.

الهزّ تحريك الشيء كما تَهْتَزّ القناة فتضطرب وتَهْتَز وهَزَّه يَهِزَّه هَزّاً وهَزَّ به وهَزَزَّه، والعرب تقول: هزّه وهزّ به إذا حركه ((1)) . 2. {جَانٌّ} : " جَنَّ الشيء يَجِنَّه جَنّاً ستره، وكل شئ ستر عنك فقد جُنَّ عنك وجَنَّه الليل يَجِنَّه جَنَّاً وجُنُوناً وجَنَّ عليه يَجُنُّ بالضم. وسمي الجِنّ لاستتارهم واختفائهم عن الإبصار. والجَان أبو الجِنّ خُلق من نار، ثم خُلق من نسله. والجان: الجن، وهو اسم جمع ضرب من الحيات أكحل العينين يضرب إلى الصفرة، لا يؤذي، وهو كثير في بيوت الناس والجمع جِنَان. والجَانّ الشيطان أيضا ((2)) . 3. {وَلَّى} : يقول الراغب الأصفهاني: " التولي يكون بالجسم وقد يكون بترك الإصغاء والإئتمار يقال: ولاه دبره إذا انهزم. قال تعالى {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ} (3) . 4. {مُدْبِرًا} : الدُّبر: نقيض القُبُل، ودُبُر كل شئ عَقِبُه ومُؤَخَّره وجمعها أَدْبَار ودُبُر كل شئ خلاف قبله في كل شئ ((4)) . 5. {يُعَقِّبْ} : العَقِبُ مؤخر الرجل. وقيل: عُقْب وجمعه أَعْقَاب وعَقبُ الشهر آخره، ورجع على عَقِبِه إذا انثنى راجعاً، وانقلب على عَقِبِه نحو رجع على حافرته، وعَقَبُه إذا تلاه عَقباً نحو دَبَره وقَفَاه. وقوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ((5)) ، أي: لم يلتفت وراءه " ((6)) . 6. {اسْلُكْ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (هزز) 5/ 423 (2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (جنن) 13/ 92 وما بعدها. (3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 352، سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 111. (4) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (دبر) 4/ 268 (5) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 10. سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31. (6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 352.

" السُّلوك مصدر سَلَك طريقاً وسَلَك المكان يَسْلُكه سَلْكاً وسُلُوكاً وسَلَكَه غيره، والسَّلْك بالفتح مصدر سَلَكَت الشيء في الشيء فانْسَلَكَ، أي: أدخلته فيه فدخل، وسَلَكَ يده في الجيب يَسْلُكها وأَسْلَكَها: أدخلها فيه " ((1)) . 7. {الرَّهْبِ} : " بالكسر يَرْهَب رَهْبَة ورُهْباً بالضم ورَهَبَاً بالتحريك، أي: خاف ورَهَبَ الشيء رَهْباً ورَهْبَة خافه " ((2)) . القراءات القرآنية 1. {الْبُقْعَةِ} : وقرأ مسلمة، والأشهب، والعقيلي بفتحها (البَقْعَة) . وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقول: هذه بَقْعَة طيبة ((3)) . 2. {إِنِّي أَنَا} : قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر بالفتح على الياء (إنيَ) ((4)) . وقرأ الجمهور على الكسر على إضمار القول، أو على تضمين النداء معناه. وقريء بالفتح (إنيَّ) وفيه إشكال لأنه إن جعلت أن تفسيرية وجب كسر (إني) للاستئناف والمفسر للنداء بما كان، وإن جعلتها مخففة لزم تقدير (إني) بمصدر، والمصدر مفرد وضمير الشأن لا يفسر بمفرد، والذي ينبغي أن يخرج عليه هذه القراءة أن تكون (أن) تفسيرية وإني معمولة لفعل مضمر تقديره: أن يا موسى أعلم إني أنا الله ((5)) . 3. {رَآهَا} : قرأ الأصبهاني، وورش بتسهيل الهمزة، وقرأ حمزة، والكسائي وابن ذكوان بإمالة الراء والهمزة، وهنالك قراءة لأبي عمرو بإمالة الهمزة فقط، وهناك قراءة للسوسي بإمالة الراء ((6)) . 4. {وَلَّى} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (سلك) 10/ 442- 443. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (رهب) 1/ 436. (3) ينظر الكَشَّاف: 3 /175. البحر المحيط: 7/ 116. (4) النشر في القراءات العشر: 2 /342. الكشف عن وجوه القراءات: 2/176. (5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 341. (6) النشر في القراءات العشر: 1/ 45 ـ 46. وينظر معجم القراءات القرآنية: 5/ 19.

قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وورش بالإمالة ((1)) . 5. {الرَّهْبِ} : وقرأ بفتح الراء والهاء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر: (الرَّهَب) . وقرأ حفص بفتح الراء وسكون الهاء، وباقي السبعة بضم الراء وإسكان الهاء: (الرَّهْب) . وقرأ قتادة، والحسن، وعيسى، والجحدري بضمها: (الرُّهُب) ((2)) . 6. {فَذَانِكَ} : قرأ " ابن كثير، وأبو عمرو: (فَذَانّك) بتشديد النون، وباقي السبعة بتخفيفها. وقرأ ابن مسعود، وعيسى، وأبو نوفل: (فذانِيكَ) وهي لغة هذيل. وقرأ ابن كثير: (فذانَيْك) على لغة من فتح نون التثنية وقرأ ابن مسعود بتشديد النون مكسورة: (فذانِّيكَ) ((3)) . 7. {يَقْتُلُونِي} : قرأ يعقوب: (يَقْتُلُونِي) وصلاً ووقفاً ((4)) . القضايا البلاغية 1.التشبيه المرسل المجمل ((5)) في قوله تعالى: {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} حذف وجه الشبه فاصبح مجملاً.

_ (1) النشر في القراءات العشر: 2 /45 –46. إتحاف فضلاء البشر: ص 342. (2) ينظر البحر المحيط: 7/ 118. (3) ينظر كتاب السبعة في القراءات. أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي أبو بكر. (245 ـ 324) . تحقيق: د. شوقي ضيف. دار المعارف. القاهرة. ط2. 1400 هـ: ص 493. التبيان في إعراب القرآن: 2/ 1020. الدر المصون: 5/ 342. (4) ينظر النشر في القراءات العشر: 2/ 342. (5) التشبيه المرسل: ما ذكرت أداته. والتشبيه المجمل: هو الذي لم يذكر فيه وجه الشبه، وهذه الآية جمعت التشبيهين. ينظر: التلخيص في عُلُوْم البلاغة. للإمام جلال الدِّيْن بن عَبْد الرَّحْمَن القزويني. ت 739 هـ. الطبعة الرابعة. مكتبة الكليات الأزهرية. 1384 هـ.: ص274 و 288.

2. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} ، فقد أورد الزمخشري ما في هذه الآية من فنون الإعجاز البلاغي " قلت: فيه معنيان: أحدهما أن موسى (- عليه السلام -) لما قلب الله العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فادخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد، لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى، فقد ضم جناحه إليه. والثاني أن يراه بضم جناحه إليه تجلده وضبط نفسه، وتشدده عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خوف نشر جناحيه وأرخاهما، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران، ومعنى {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} ، وقوله: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} على أحد التفسيرين واحد، ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، فالغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} . وقوله: {واضمم يدك إلى جناحك فالتوفيق؟ قلت: المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، والمضموم إليه اليد اليسرى، وكل واحد من يمنى اليد ويسراهما جناح " ((1)) . فيمكن أن نستنتج أن في هذه الآية تكرير حيث كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. وقال ابن عاشور: " وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في الكشاف بعيد " ((2)) .

_ (1) ينظر الكشاف: 3/ 175. (2) التحرير والتنوير: 20/ 114.

وفيها كناية، فضم الجناح كناية عن التجلد والضبط، وهو مأخوذ من فعل الطائر عند الأمن بعد الخوف، وهو في الأصل مستعار (استعارة تمثيلية) من فعل الطائر عند هذه الحالة، ثم كثر استعماله في التجلد وضبط النفس حتى صار مثلاً فيه وكناية عنه ((1)) . 3.وهناك التفاته بلاغية أشار إليها الزمخشري في قوله تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} ، " فإن قلت: لم سميت الحجة برهاناً؟ قلت: لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء: برهرهة بتكرير العين واللام معاً، والدليل على زيادة النون قولهم: أبره الرجل إذا جاء بالبرهان " ((2)) . المعنى العام {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {فَلَمَّا أَتَاهَا} يعني: الشجرة حيث قدم ضميرها عليها ((3)) . {نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ} . قال ابن عطية: " روي أنه كان يمشي إلى ذلك النور فكان يبعد منه تمشي به الشجرة وهي خضراء غضة حتى نودي، والشاطئ والشط ضفة الوادي. وقوله: {الأَيْمَنِ} يحتمل أن يكون من اليمن صفة للوادي أو للشاطئ. ويحتمل أن يكون المعادل لليسار، فذلك لا يوصف به الشاطئ إلا بإضافة إلى موسى في استقباله مهبط الوادي أو يعكس ذلك " ((4)) .

_ (1) ينظر حاشية الشهاب: 7/ 297. الجدول في إعراب القرآن: 10/ 254. (2) الكشاف: 3/ 176. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4996. (4) المحرر الوجيز: 12/ 164.

{فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} " وصفت البقعة بالمباركة لما خصت به من آيات الله، وأنواره وتكليمه لسيدنا موسى (- عليه السلام -) ، أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة " ((1)) . والذي ببدو لي أنها وصفت بالمباركة بسبب ما جرى عندها من تكليم الله لسيدنا موسى، وامتلاءها بالأنوار الإلهية. وقيل: الشجرة العناب، أو هي شجرة العليق، أو سمرة، أو العوسج ((2)) ، ولا يوجد ثمة دليل قطعي يبين نوع الشجرة لا من كتاب ولا من سنه صحيحة، ولا يتوقف على معرفة نوع الشجرة في المعنى شئ من الأشياء. وقد اختلف العلماء قديماً في مسالة كلام الله هل هو مخلوق أم لا؟ فأدى ذلك إلى نشوء عدة فرق، وكان سبباً لتسمية علم العقائد، أو علم التوحيد بعلم الكلام، لأن أهم مسألة وقع الخلاف فيها هي كلام الله، كما اختلفوا في تفسير آيات الصفات، فنشأت مدرستين مدرسة الإثبات، وتسمى في المشهور مدرسة السلف. " ومذهب السلف فإنهم يثبتون جميع الصفات التي وصف الله جل وعلا نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شئ " ((3)) .

_ (1) البحر المحيط: 7/ 116. (2) روح المعاني: 20/ 73. (3) ينظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيميه. (661 ـ 728) . جمع وترتيب: عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن قَاسِم العاصمي النَّجْدِي الحَنْبَلِي وساعده ابنه مُحَمَّد. مطابع الرياض 1381 مطبعة الحكومة بمَكّة المُكَّرمة 1386 هـ.: 5/ 26. تفسير آيات الصفات بين المثبتة والمؤولة. د. محسن عبد الحميد. بغداد. (د. ت) .: ص 13.

ومدرسة التأويل المنضبط الأصولي التي ظهرت نتيجة لاستجابة علماء الإسلام للتحديات العقيدية والفكرية التي واجهتهم، فهؤلاء التزموا في تفسيراتهم بالقران والسنة، وقواعد اللغة، وقواطع العقل السليم ((1)) . ولكن ظهرت بعض الفرق التي لم تلتزم بمنهج مدرسة التأويل المنضبط منها المؤولة من الفلاسفة وفرق الباطنية، فظهرت آراء غريبة من غير ضابط من النص من القران أو السنة الصحيحة، أو اللغة ولا قواطع الأدلة، في تفاسير غريبة يتقاطع بعضها مع الَقُرْآن الكَرِيم والسنة النبوية لأنها نتاج عقول بشرية، وفي الحديث: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ)) ((2)) . آراء العلماء في مسالة كلام الله أولاً ـ ذكر البزدوي ـ رَحِمَه الله ـ أن أهل السنة والجماعة قالوا: إن الله تعالى متكلم بالكلام وهو قديم بكلامه كما هو قديم بجميع صفاته وكلامه غير مخلوق ولا مختلف ولا حادث ولا محدث ((3)) ثانياً ـ قالت المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والروافض، والمجبرة أن كلام الله تعالى محدث ((4)) ، وحقيقة الكلام عند المعتزلة أنه حروف منظومة وأصوات مقطعة شاهداً وغياباً، والكلام ليس جنساً أو نوعاً ذا حقيقة عقلية كسائر المعاني، بل هو مجرد اصطلاح لا يكون إلا باللسان، فمن قدر عليه فهو المتكلم، ومن لم يقدر فهو الأعجم الأبكم ((5)) .

_ (1) تفسير آيات الصفات: ص 13. (2) سنن الترمذي: 5 /199 رقم (2951) وقال الترمذي: وهذا حديث حسن. (3) أصول الدين: ص 53. (4) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أُصُوْل الاعتقاد. إمام الحرمين الجويني. ت 478 هـ. تحقيق: د. مُحَمَّد يوسف موسى. وعلي عَبْد المنعم عَبْد الحسين. مطبعة السعادة.1369 هـ - 1950 م. أوفست مَكْتَبَة المثنى. بغداد. (د. ت.) .: ص 100. (5) المعتزلة. زهدي حسن جار الله. مطبعة مصر. القاهرة. 1947.: ص 77.

ثالثاً ـ الكرامية " إن كلام الله تعالى حادث، فإن القادر على الكلام لا يكون متكلماً، والقدرة على الكلام يكون كلاماً كالقدرة على الحركة ليست بحركة " ((1)) . رابعاً ـ وذهب الإمام الجويني إلى القول أنه " ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس، وهو الفكر الذي لا يبدو في الخلد، وتدل عليه العبارات تارة، وما يصطلح عليه من الإشارات ونحوها " ((2)) . خامساً ـ قال هشام بن الحكم " إن لله تعالى كلاماً، ولا أقول إنه مخلوق أو غير مخلوق وروي عن أبي عبد الله البلخي، وعبد الله بن المبارك أنهما قالا بذلك، وهو مذهب أهل الحديث، وقالوا لا حاجة إلى القول إنه مخلوق أو غير مخلوق " ((3)) . أما كيف كلم الله موسى (- عليه السلام -) ؟ فقد نقل الرازي آراء العلماء في ذلك: الأول ـ قول المعتزلة إن الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في جسم. احتجوا بقوله تعالى: {مِنْ الشَّجَرَةِ} ، فهذا صريح في أن موسى (- عليه السلام -) سمع النداء من الشجرة، والمتكلم بذلك النداء هو الله سبحانه وتعالى، متنزه أن يكون في جسم، فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم ((4)) . وقد أجاب القائلون بقدم الكلام فقالوا: لنا مذهبان: الأول قول أبو منصور الماتريدي وأئمته ما وراء النهر، هو أن الكلام القديم القائم بذات الله تعالى غير مسموع، إنما المسموع هو الصوت والحرف، وذلك كان مخلوقاً في الشجرة منها، وعلى هذا التقدير زال السؤال ((5)) .

_ (1) أصول الدين: ص 54. (2) الإرشاد إلى قواطع الأدلة: ص 105. (3) أصول الدين: ص 54. (4) أصول الدين: ص 59. مفاتيح الغيب: 12/ 244. (5) مفاتيح الغيب: 12/ 244.

الثاني: قول أبي الحسن الأشعري، وهو أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعاً، كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية، فعلى هذا القول لا يبعد أنه سمع الحرف والصوت من الشجرة، وسمع الكلام القديم من الله تعالى لا من الشجرة فلا منافاة بين الأمرين. واحتج أهل السنة بان محل قوله: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} لو كان هو الشجرة لكان قد قالت الشجرة إني أنا الله. والمعتزلة أجابوا بأن هذا إنما يلزم لو كان المتكلم بالكلام هو محل الكلام لا فاعله، وهذا هو أصل المسألة. أجاب أهل السنة: بأن الذراع المسموم قال: لا تأكل مني فإني مسموم ((1)) ، ففاعل ذلك الكلام هو الله تعالى، فإن كان المتكلم بالكلام هو فاعل ذلك الكلام لزم أن يكون الله قد قال: لا تأكل مني فإني مسموم، وهذا باطل، وإن كان المتكلم هو محل الكلام لزم أن تكون الشجرة قد قالت: إني أنا الله، وكل ذلك باطل ((2)) . ونقل القرطبي كلاماً لأهل العلم في كيفية تكليم الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -) : قال المهدوي: " وكلم الله موسى (- عليه السلام -) من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء، أو لا يجوز أن يوصف بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين.

_ (1) إشارة إلى تسميم الذراع الذي قدم لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . سنن أبي داود: 3 /350 رقم (3781) بلفظ (وسم في الذراع وكان يرى أن اليهود هم الذين سموه) . والحديث حسن. (2) مفاتيح الغيب: 12/ 245 أصول الدين: ص 65.

وقال أبو المعالي: وأهل المعاني وأهل الحق يقولون: من كلّمه الله تعالى وخصّه بالرتبة العليا والغاية القصوى، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات، كما أن من خصّه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته، ورزقه رؤيته، يرى الله سبحانه وتعالى منزهاً عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث، ولا مثيل له سبحانه في ذاته وصفاته. وقال الأستاذ أبو إسحاق: واتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى (- عليه السلام -) معنى من المعاني أدرك به كلامه، وكان اختصاصه في سماعه وانه قادر على مثله في جميع خلقه. وقال عبد الله بن سعد بن كلاب: " أن موسى (- عليه السلام -) فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام " ((1)) . ونقل الآلوسي رحمه الله عن الشيخ الأشعري، والإمام الغزالي أنه " سمع كلامه تعالى النفسي القديم بلا صوت ولا حرف، وهذا كما ترى ذاته عز وجل بلا كيف ولا كم. وذكر بعض العارفين أنه إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت، وكان ذلك بعد ظهوره عز وجل بما شاء من المظاهر التي تقتضيها الحكمة، وهو سبحانه مع ظهوره تعالى كذلك باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق " ((2)) . قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي} . هل هو نداء الوحي أم نداء الكلام؟ نقل الرازي اختلاف أهل العلم في ذلك " قال الحسن أن موسى (- عليه السلام -) نودي نداء الوحي لا نداء الكلام، والدليل عليه قول تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} ((3)) .

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4998. (2) روح المعاني: 20/74. (3) سُوْرَة (طَه) : الآية 13.

وقال الجمهور: " إن الله تعالى كلّمه من غير واسطة بدليل قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ((1)) ، وسائر الآيات، وأما الذي تمسك به الحسن فضعيف، لأن قوله تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} ((2)) لم يكن بالوحي، لأنه لو كان ذلك أيضا بالوحي لانتهى أخر الأمر إلى كلام يسمعه المكلف لا بالوحي والإلزام المتسلسل، بل المراد من قوله تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وصيته بأن يتشدد في الأمور التي تصل إليه في مستقبل الزمان بالوحي " ((3)) . {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} قال ابن عطية: " أمره الله تعالى بإلقاء العصا فألقاها، فانقلبت حية عظيمة ولها اضطراب الجان ـ وهو صغير الحيات ـ فجمعت هول الثعبان، ونشاط الجان. وهذا قول بعضهم. قالت فرقة: بل الجان يعمّ الكبير والصغير، وإنما شبه بالجان جملة العصا لاضطرابها فقط، وولى موسى (- عليه السلام -) فزعاً منها ولم يعقب معناه: لم يرجع على عقبه من توليه فقال الله تعالى: يا موسى اقبل، فأقبل وقد آمن بتأمين الله إياه " ((4)) . فانقلاب العصا حية أحد المعجزات التي أيد الله بها نبيه موسى (- عليه السلام -) . وذكر الرازي عدة روايات في تبيان العصا سنذكر أهمها:

_ (1) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 164. (2) سُوْرَة (طَه) : الآية 13. (3) مفاتيح الغيب: 12/ 245. (4) المحرر الوجيز: 12/ 165.

قالوا: إن شعيباً كانت عنده عصى الأنبياء ـ عَلَيْهم السَّلام ـ فقال لموسى بالليل: إذا دخلت البيت فخذ عصا من تلك العصي، فأخذ عصا هبط بها آدم (- عليه السلام -) من الجنة، ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقفت إلى شعيب (- عليه السلام -) ، فقال: أرني العصا، فلمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال: خذ غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات، فعلم أن له معها شأناً. وقال بعضهم: تلك العصا هي عصا آدم (- عليه السلام -) ، وأن جبريل (- عليه السلام -) أخذ تلك العصا بعد موت آدم (- عليه السلام -) ، فكانت معه حتى لقى بها موسى (- عليه السلام -) ربه ليلاً ((1)) . وقال الحسن: ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً، أي: أخذها من عرض الشجر، يقال: اعتراض، أي: لم يتخير. وعن الكلبي الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج، ومنها كانت عصاه ((2)) . والذي أراه أنه لا يمكن ترجيح إحدى هذه الراويات على الأخرى، لأنه لم يرد نص صحيح صريح في بيان ذلك، إلا ما ورد في سورة طه قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ((3)) ، فقد نقل الرازي عدة روايات في معنى سؤال الله عن العصا التي مع سيدنا موسى منها " إنه تعالى لما عرف موسى كمال الألوهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية، فسأله عن منافع العصا، فذكره بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر " ((4))

_ (1) مفاتيح الغيب: 12/ 246- 247. (2) ينظر تفسير القُرْآن. عَبْد الرَّزَّاق بن هَمَّام الصَّنْعَانِي. (126 ـ 211) . تحقيق: د. مصطفى مسلم مُحَمَّد. مَكْتَبَة الرشد. الرياض. ط2. 1410 هـ.: 2/ 493. مفاتيح الغيب: 12/ 247. (3) سُوْرَة (طَه) : الآيتان 17 – 18. (4) مفاتيح الغيب: 12 /25.

يرى الباحث أن سؤال الله سيدنا موسى (- عليه السلام -) عنها فيه دلالة على أن هذه العصا لم تكن عصا عادية، وأن الله قد أودع فيها مكنونات أسراره. وقد كانت المعجزة في العصا من عدة وجوه: أولا ـ تحولها إلى حية تسعى قال تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} ((1)) . وقال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} ((2)) . وقول تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} ((3)) . ثانياً ـ في تلقفها لحيات السحرة. قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} ((4)) . وقال تعالى: {أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} ((5)) . ثالثاً ـ ضرب بها البحر فشق طريقاً له ولقومه. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} ((6)) . رابعاً ـ استخدم العصا في ضرب الحجر. قال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} ((7)) . ونقل الرازي عن الشيخ أبي القاسم الأنصاري ـ رَحِمَه الله ـ " وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة " ((8)) . والمعجزة الثانية بياض اليد من غير سوء:

_ (1) سُوْرَة (طَه) : الآية 20. (2) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 107. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31. (4) سُوْرَة (طَه) : الآية 69. (5) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 117. (6) سُوْرَة (طَه) : الآية 117. (7) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 77. (8) مفاتيح الغيب: 11/ 29.

قال تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وقد جاء هذا الأمر في القرآن الكريم بثلاث عبارات: أولها ـ في سورة طه: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (1) . ثانيهما ـ في سورة النمل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ((2)) . ثالثهما ـ الذي في سورة القصص، والذي نحن بصدد تفسيره: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} . " قال قتادة: في جيب قميصك، كانت له مدرعة من صوف لا كمين لها. وقال ابن عباس، ومجاهد: كان كمها إلى بعض يده. وقال السدي: في جيبك، أي: تحت إبطك " ((3)) . {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير برص. ونقل الطبري رواية عن الحسن قال: " خرجت كأنها المصباح فأيقن موسى أنه لقى ربه " ((4)) . قال سيد قطب: " أطاع موسى الأمر وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره، ثم أخرجها، فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة إنها إشارة إلى إشراق الحق، ووضوح الآية، ونصاعة الدليل، وأدركت موسى طبيعة، فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة، ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة، ذلك أن يضم يده في على قلبه فتخفض من دقاته وتطامن من خفقاته" (5) . {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}

_ (1) سُوْرَة (طَه) : الآية 22. (2) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 12. (3) البحر المحيط: 7/ 58. (4) جامع البيان: 10/70. (5) في ضلال القرآن: 6/ 346.

" والمعنى إذا هالك أمر يدك وشعاعها، فأدخلها في جيبك وأرددها إليك تعد كما كانت. وقيل: أمره الله أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه خوف الحية. قال ابن عباس: ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى (- عليه السلام -) ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب. وعن عمر بن عبد العزيز ـ رَحِمَه الله ـ أن كاتباً كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر، فقام وضرب بقلمه الأرض، فقال له عمر: خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرغ روعك، فإني ما سمعتها من أحد اكثر مما سمعتها من نفسي. وقيل: المعنى اضمم يدك إلى صدرك ليذهب الله ما في صدرك من الخوف " ((1)) . ما يستفاد من النصّ دلت الآيات السابقات على جملة من المعاني التي يمكن تلخيصها بما يأتي: دلت الآيات على أن سيدنا موسى (- عليه السلام -) تلقى نداءً من الله عَزَّ وجَلَّ بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وهذه الآية من الآيات المتشابهات التي اختلف العلماء في المراد منها مما فتحت الباب واسعاً للعلماء لجملة من التساؤلات التي أثارتها الآية، هل الكلام قديم أم حادث؟ وكيفية تكليم الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -) مما بينا آنفاً؟ دلت الآية كذلك على تأييد الله لرسله وأنبياءه بالمعجزات الدالة على صدقهم، وأن الله كذلك يعين الدعاة بالوسائل والأسباب التي تساعدهم على تنفيذ مهمتهم. كذلك دلت على صفات فرعون وجنوده وهي (الفسق) ، والتي كانت سبب من أسباب إرسال سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى فرعون.

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5000.

المطلب الثالث: تأييد الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -) بنبوة أخيه هارون (- عليه السلام -)

ودلت الآية على أنه لا بأس للداعية أن يحذر ما يعتقد أنه يمنعه من تنفيذ مهمته {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي} . والمعنى أخاف أن يذكروا قتلي القبطي فيقتلوني، فأراد ان يكون في أمن إلهي من أعدائه، فهذا تعريض بالدعاء ومقدمة لطلب تأييده لهارون أخيه ((1)) . المطلب الثالث: تأييد الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -) بنبوة أخيه هارون (- عليه السلام -) {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ((2)) . المناسبة لما أمر الله جل وعلا سيدنا موسى (- عليه السلام -) في الآيات السابقات بالتوجه إلى فرعون وملأه ودعوتهم إلى عبادة الله وحده وزوده بالمعجزات المناسبة لزمن فرعون وما اشتهروا به من السحر، وذلك بقلب العصا حية، وخروج اليد بيضاء من غير سوء، عرض سيدنا موسى بالدعاء من الله بأن يحميه من أعدائه، ويكون بمأمن منهم، ومقدمة لطلب تأييده بهارون أخيه {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي} ((3)) ، ولما تسبب عن ذلك طلب الإعانة بشخص فيه كفاية وله عليه شفقة، وكان أخوه هارون أحق الناس بهذا الوصف، كان التقدير فأرسل معي أخي هارون، الخ.

_ (1) التحرير والتنوير: 20 /115. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 34 - 35. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 33.

غير أنه قدم ذكره اهتماماً بشأنه فقال: {وَأَخِي هَارُونُ} ، أي: إنه يخاف أن يفوت مقصود الرسالة، إما بقتله، أو لعدم بيانه، فاكتفى بالتلويح في الكفاية من الأول لأنه لا طاقة لأحد غير الله بها، وصرح بما يكفي من الثانية، فكان التقدير: إني أخاف أن يقتلوني فيفوت المقصود ولا يحمني من ذلك إلا أنت، وأن لساني فيه عقده وأخي هارون … الخ. وزاده في تعظيمه بضمير الفصل فقال: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} ، فنلاحظ هنا وجه أخر من وجوه الإعجاز في الآيات القرآنية هو التناسق والتناسب، فكل حرف وضع بعناية ليؤدي غرضاً بعينة بحيث لو وضعنا غيره لما أعطى المعنى المراد. وشاهدنا ترابط الآيات فيما بينها، وترابط الحروف مع بعضها. تحليل الألفاظ 1. {أَفْصَحُ} : الفصاحة: البيان فَصَحَ الرجل فَصَاحَةً فهو فَصِيْح من قوم فُصَحَاء وفِصاح وفُصَح وامرأة فَصِيحة من نسوة فِصاح وفَصَائِح. وتقول: رجل فَصِيح، وكلام فَصِيح، أي: بليغ، ولسان فَصِيح، أي: طلق ((1)) . 2. {رِدْءاً} : رِدْأ رَدْأ الشي بالشيء، جعله له رِدْءاً. وأَرَدَأَهُ: أعانه وترادأ القوم: تعاونوا، وأرْدَأتُه بنفسي إذا كنت له رِدْءاً، وهو العون، وفلان رِدْءٌ لفلان، أي: ينصره ويشد ظهره ((2)) . 3. {عَضُدَكَ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (فصح) 2/ 544. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (ردء) 1/ 84.

العُضُدُ والعَضِدُ والعَضُدُ من الإنسان وغيره الساعد، وهو ما بين المرفق إلى الكتف، والكلام الأكثر العَضُدُ والعَضُدُ: القوة، لأن الإنسان إنما يَقْوي بعَضُدِهِ فسميت القوة به. وقال الزجاج في معنى قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} ، أي: سنعينك بأخيك. وكل معين فهو عَضُد ((1)) . القراءات القرآنية 1. {رِدْءاً} : هذه قراءة الجمهور. وقرأ نافع، والمدنيان بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى الدال (رِدًاً) والمشهور عن أبى جعفر بالنقل ولا همز ولا تنوين، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف ((2)) . 2. {يُصَدِّقُنِي} : قرأ عاصم، وحمزة بضم القاف فاحتمل الصفة لـ (ردأ) ، والحال احتمل الاستئناف. وقرأ الكسائي، وابن عامر، وأبو عمرو، وابن كثير، ونافع، وأبو جعفر، وخلف، ويعقوب بالإسكان: (يُصَدِّقْنِي) . وقرأ أبي، وزيد بن علي: (يُصَدِّقُوْنِي) والضمير لفرعون وقومه. وقال ابن خالويه: هذا شاهد لمن جزم لأنه لو كان رفعاً لقال: يصدقونني ((3)) . 3. {إِنِّي أَخَافُ} : قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: (إنِّيَّ) ((4)) . 4. {يُكَذِّبُونِي} : قرأ يعقوب وصلاً (يكذبوني) ((5)) . 5. {عَضُدَكَ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (عضد) 3/ 292- 293. (2) ينظر الكشاف: 3/ 176. البحر المحيط: 7/ 118. إتحاف فضلاء البشر: ص 342. غيث النفع: ص 316. (3) ينظر السبعة في القراءات: ص 494. التيسير في القراءات السبع: ص 171. الكشاف: 3/ 176. البحر المحيط: 7/ 118. (4) النشر في القراءات العشر: 2/ 242. الكشف عن وجوه القراءات: 2 /176. غيث النفع: ص 316. (5) النشر في القراءات العشر: 2/ 342. إتحاف فضلاء البشر: ص 343.

قرأ الحسن، وعيسى بالفتح: (عَضَدَكَ) . وقرأ زيد بن علي، وقرأ الحسن أيضاً بالضم (عُضُدَك) . وعن الحسن أيضاً بضم العين وإسكان الضاد (عُضْدُكَ) . وعن بعضهم بفتح العين وكسر الضاد وإسكانها (عَضِدُك، عَضْدُك) ((1) . القضايا البلاغية 1.الإسناد المجازي في قوله تعالى: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} قال الزمخشري: " ليس الغرض بتصديقه أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، فذلك جار مجرى التصديق المفيد كما يصدق القول بالبرهان، ألا ترى إلى قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي} ، وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك، لا لقوله صدقت، فإن سَحْبَان وبَاقِلاّ يستويان فيه، أو يصل جناح كلامه بالبيان حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه، فأسند التصديق إلى هارون، لأنه السبب فيه إسناداً مجازياً، ومعنى الإسناد المجازي: أن التصديق حقيقة في المصدق، فإسناده إليه حقيقية، وليس في السبب تصديق، ولكن استعير له الإسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة، والدليل على ذلك قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} " ((2)) . 2.الاستعارة التمثيلية في قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} " شبّه حال موسى (- عليه السلام -) في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بعضد شديد، ويجوز أن يكون هناك مجاز مرسل من باب إطلاق السبب على المسبب بمرتبتين بأن يكون الأصل سنقويك به، ثم نؤيدك، ثم سنشد عضدك به " ((3)) . المعنى العام

_ (1) ينظر المحتسب: 2 /152. البحر المحيط: 7/ 118.إتحاف فضلاء البشر: ص 343 غيث النفع: ص 316. (2) الكَشَّاف: 3 /176. (3) محاسن التأويل: 13/ 4706 وينظر الجدول في إعراب القران: 20/ 256- 258.

{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} قال: رب إني قتلت من قوم فرعون نفساً فأخاف إن أتيتهم ولم أُبِنْ عن نفسي بحجة أن يقتلوني، لأن ما في لساني من عقدة يحول بيني وبين ما أريد من الكلام، وأخي هارون هو أَفْصَحُ مني لساناً واحسن بياناً فأرسله معي عوناً يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجنب الشبهات ويجادل هؤلاء الجاحدين المعاندين، وإني أخاف أن يكذبوني ولساني لا يطاوعني حين المحاجة، فأجابه سبحانه وتعالى: سنقويك ونعينك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً عظيماً وغلبة على عدوكما، فلا يصلون إليكما بوسيلة من وسائل الغلبة ((1)) . هل كان سيدنا هارون نبياً: لقد وردت آيات كثيرة في القران الكريم تؤكد على نبوة هارون (- عليه السلام -) منها: قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} ((2)) . قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} ((3)) ، فإرشاده لهم باتباعه يدل على أنه نبي.

_ (1) تفسير المراغي: 20/ 57. (2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 163. (3) سُوْرَة (طَه) : الآية 90.

قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} ، فهذه الدعوة من سيدنا موسى بأن يرسل إلى أخيه هارون كما أرسله فاستجاب الله لدعائه وأعطاه ما أراد بقوله: {قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ((1)) . قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ((2)) ، ففي هذه الآية دلالة واضحة على إرسال سيدنا هارون (- عليه السلام -) . قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} ((3)) . {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} ((4)) . قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ((5)) . فقد نقل الرازي أقوال العلماء فيها: " قال مقاتل: المعنى كي يصدقني فرعون، والمعنى أرسل معي أخي هارون حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان، فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون. قال السدي: إن نبيين وآيتين أقوى من نبي واحد وآية واحدة.

_ (1) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 13-15. (2) سُوْرَة المُؤْمِنُوْنَ: الآية 45. (3) سُوْرَة مَرْيَمْ: الآية 53. (4) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 48. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 33- 35.

وقال القاضي: والذي قاله من جهة العادة أقوى، فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم وإن لم ينظر فالحالة واحدة، هذا إذا كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة، فأما إذا اختلفت وأمكن في أحدهما إزالة الشبه، ما لا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يختلفا، ويصلح عند ذلك أن يقال: إنها بمجموعها أقوى من إحداهما على ما قاله السدي، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون ـ عَلَيْهما السَّلام ـ لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة) ((1)) . والذي أراه: إنه بعد استعراضنا الآيات القرآنية تبين لنا بما لا يقبل الشك أن سيدنا هارون (- عليه السلام -) قد كان رسولاً إلى فرعون وملائه وبني إسرائيل، ومن ذلك يتبين لنا حجم المهمة التي اضطلع بها سيدنا موسى وأخيه، فقد أرسله الله إلى ملك متجبر طاغية ضرب به المثل في الظلم والتكبر حتى أداه تكبره إلى ادعاء الربوبية. قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ((2)) . فإن رسالتها رسالة واحدة، قال تعالى في سورة طه: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} ((3)) . وفي الشعراء: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ((4)) . وقال في سورة طه: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} ((5)) ، ففي هذه الآيات وآيات آخر دلالة على أن مهمتهما كانت مهمة واحدة. ما يستفاد من النصّ نستطيع أن نستنبط المعاني الآتية مما مرّ من الآيات القرآنية.

_ (1) مفاتيح الغيب: 12/ 249- 250. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38. (3) سُوْرَة (طَه) : الآية 47. (4) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 16. (5) سُوْرَة (طَه) : الآية 47.

المطلب الرابع: المقارنة بين سورة النمل وسورة القصص

أولا ـ إذا كلف والي أمر المسلمين أحداً بمهمة ما، أو أسند إليه مسؤولية ما، لا ضير عليه أن يطلب إشراك غيره معه في المهمة إذا كانت نيته خالصة لله، ويريد الإخلاص والنجاح في مهمته، حتَّى ولو كان ذلك المستعان به أخوه، أو ابنه، إذا كان ينطبق عليه الشرط السابق للعمل {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ((1)) ، وشرط أن يكون العمل المكلف به مما يرضي الله أولاً. ثانياً ـ وكذلك على المكلف بواجب أو مهمة أن يبين لمن كلّفه ويصارحه بكل شيء يمكن أن يفسد عليه مهمته ويقترح ما يعتقده كافٍ في إزالة هذه العوائق {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} وقد أجابه الله تعالى بإرسال هارون معه إلى فرعون وملائه ((2)) . المطلب الرابع: المقارنة بين سورة النمل وسورة القصص من خلال الآيات الخاصة ببعثة سيدنا موسى (- عليه السلام -) سورة النمل سورة القصص إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ------ سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ فِي تِسْعِ آيَاتٍ ------- إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا امْكُثُوا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 26. (2) ينظر المستفاد من قصص القران: 1/ 373.

------ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ ------ اسْلُكْ يَدَكَ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ من خلال استعرضنا لقصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) في القران الكريم نلاحظ أنها ذكرت مرات عديدة وبصيغ مختلفة، وقد تكلمنا في الفصل التمهيدي عن فوائد وأغراض التكرار في القصة القرآنية، وسنتكلم الآن عن الأوجه المناسبة والاختلاف في بعض الألفاظ بين سورتي النمل والقصص فيما يخص بعثة سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، فقد لا حظنا هناك اختلاف في الزيادة والنقصان في بعض الكلمات، وسنبين أسباب هذا الاختلاف وماذا يعني ذلك. فكما نعرف أن سورة القصص قد استوعبت تقريباً كل مراحل حياة سيدنا موسى (- عليه السلام -) تقريباً ابتداء من اللحظات التي سبقت ولادته إلى بعثته وما بعدها من أحداث، أما ما ورد في سورة النمل فلم يكن بهذا التوسع، وورد بصورة مجملة. وقد درسها الدكتور فاضل صالح السامرائي بالتفصيل في كتابه لمسات بيانية في نصوص من التنزيل ((1)) . وفيما يأتي بعض من هذه المقومات: قال تعالى في سورة النمل {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} وقال في سورة القصص: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} . في سورة القصص زاد {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} ، وذلك لمقام التفصيل الذي بنيت عليه القصة في سورة القصص. قال في سورة النمل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} وقال في سورة القصص: {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} بزيادة {امْكُثُوا} وذلك لمقام التفصيل في سورة القصص أيضاً.

_ (1) لسمات بيانية في نصوص من التنزيل: ص 69- 86

قال في سورة النمل: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} ، وقال في القصص: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} ، فبنى الكلام في سورة النمل على القطع {سَآتِيكُمْ} وفي القصص {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} إن مقام الخوف في القصص لم يدعه يقطع بالأمر، فإن الخائف لا يستطيع القطع بما سيفعل بخلاف الأمن، ولما لم يذكر الخوف في سورة النمل بناه على الوثوق والقطع بالأمر. إن الترجي من سمات سورة القصص، والقطع من سمات سورة النمل واليك الشواهد. قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ((1)) وهو ترجي {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((2)) وهو ترج أيضاً. {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} ((3)) . {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ((4)) . {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} ((5)) . {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((6)) . {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} ((7)) . وقال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ((8)) . أما سورة النمل لم يرد ترجي إلا في موطنين وهما: قوله: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ((9)) . وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ((10)) . فناسب الترجي ما ورد في القصص، وناسب القطع واليقين ما ورد في سورة النمل.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 43، 46، 51. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 73. (9) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 7. (10) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 46.

وكذلك كرر فعل الإتيان في سورة النمل فقال: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ} ، ولم يكرر في القصص بل قال: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ} ، فأكد الإتيان في سورة النمل لقوة يقينه في حين لم يكرر فعل الإتيان في القصص مناسبة لجو الخوف. قال في سورة النمل: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} وقال في القصص: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} . فذكر في سورة النمل أنه يأتيهم بشهاب قبس والشهاب هو شعلة من النار ساطعة ومعنى (القبس) : شعلة نار تقتبس من معظم النار. (والجذوة) العود الغليظ في رأسه نار (1) ، والشهاب الشعلة والقبس: النار المقبوسة ((2)) . أولا: المجيء بالشهاب أحسن من المجيء بالجمرة، لأن الشهاب يدفئ أكثر من الجمرة لما فيها من اللهب الساطع، كما أنه ينفع في الاستنارة أيضاً، فهو أحسن من الجذوة في الاستضاءة والدفء. وثانياً: إنه سيأتي بالشهاب مقبوساً من النار، وليس مختلساً أو محمولاً منها، لأن الشهاب يكون مقبوساً وغير مقبوس ((3)) ، وهذا أدل على القوة والثبات، لأن معناه أنه سيذهب إلى النار ويقبس منها شعلة ساطعة، أما في القصص فقد ذكر أنه ربما أتى بجمرة من النار ولم يقل إنه سيقتبسها منها، ولا شك أن الحالة الأولى أكمل لما فيها من زيادة دفع كل تعبير في موطنه اللائق به، ففي موطن الخوف ذكر الجمرة، وفي غير موطن الخوف ذكر الشهاب القبس.

_ (1) الكشاف 3/ 244 (2) الكشاف 3/ 137 (3) ينظر: الكَشَّاف: 3 /137. البحر المحيط: 7/55.

قال في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} ، وقال في القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي} ، وقد فرق الراغب بين المجيء والإتيان فقال: " المجيء كالإتيان، لكن المجيء أعم لأن الإتيان مجيء بسهولة، والإتيان قد يقال باعتبار القصد وأن لم يكن منه الحصول، والمجيء يقال اعتباراً بالحصول " ((1)) ، فإن ما قطعه موسى على نفسه في سورة النمل أصعب مما في سورة القصص، فقد قطع على نفسه أن يأتيهم بخبر أو بشهاب قبس، في حين ترجى ذلك في القصص، والقطع أشق وأصعب من الترجي، وغالباً ما يستعمل القران الكريم المجيء لما فيه صعوبة ومشقة ((2)) . ذكر في القصص جهة النداء {نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ} ، ولم يذكر الجهة في سورة النمل، وذلك لأن موطن القصص موطن تفصيل وموطن النمل موطن إيجاز. قال في سورة النمل: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقال في القصص: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . قال الرازي: " ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل، إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء " ((3)) ، ولأن الموقف في سورة النمل موقف تعظيم.

_ (1) معجم مفردات ألفاظ القران: ص 120. (2) ينظر: لمسات بيانية في نصوص من التنزيل. د. فاضل صالح السامرائي. الطبعة الأولى. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد. 1999 م: ص 74 - 80. (3) مفاتيح الغيب: 12/ 425. البحر المحيط: 7/ 117.

قال في سورة النمل: {يَا مُوسَى} ، وقال في القصص: {أَنْ يَا مُوسَى} ، فجيء بـ (أن) المفسرة، وذلك لأن المقام في سورة النمل مقام تعظيم لله سبحانه وتعالى وتكريم لموسى فشرفه بالنداء المباشر، في حين ليس المقام كذلك في القصص، فجاء بما يفسر الكلام، أي: ناديناه بنحو هذا، أو بما هذا معناه ((1)) . قال في سورة النمل: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وقال في القصص: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فجيء بضمير الشان الدال على التعظيم في آية النمل (إِنَّهُ أَنَا) ، ولم يأت به في القصص، ثم جاء باسميه الكريمين (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في سورة النمل زيادة في التعظيم. قال في سورة النمل: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} ، وقال في القصص: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، فجيء بـ (أن) المفسرة أو المصدرية، ويقال فيها مثل ما قيل في الفقرة العاشرة من النمل {يَا مُوسَى} ، وفي القصص {أَنْ يَا مُوسَى} . قال في سورة النمل: {يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ} . وقال في القصص: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} بزيادة {أَقْبِلْ} ، وذلك أن مقام الإيجاز في سورة النمل يستدعي عدم الإطالة، ولأن شيوع جو الخوف في القصص يدل على إيغال موسى في الهرب، فدعاه إلى الإقبال وعدم الخوف ((2)) . قال في سورة النمل: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ، وقال في القصص: {إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} ، وذلك أن المقام في سورة القصص مقام الخوف، والخوف يحتاج إلى الأمن، فأمنه قائلاً: {إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} ، وأما في سورة النمل فالمقام مقام تكريم وتشريف. فقال: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ((3)) .

_ (1) لمسات بيانية: ص 80. (2) المصدر نفسه: ص 80. (3) لمسات بيانية: ص 83.

قال في القصص: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ} ، ولم يذكر مثل ذلك في سورة النمل، والرهب هو الخوف، وهو مناسب لجو الخوف الذي تردد في القصة، ومناسب لجو التفصيل فيها ((1)) . يقول الباحث: بعد هذا العرض لأوجه الاختلاف بين هذين النصين يمكن أن نقول أن ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب: السبب الأول ـ هو أن سورة القصص جاءت مفصلة استوعبت كلّ جوانب حياة سيدنا موسى تقريباً، بينما وردت هذه القصة بصورة مجملة في سورة النمل، فكان ذلك سبباً من أسباب الاختلاف. السبب الثاني ـ طابع الخوف الذي كان سمة من سمات سوره القصص فكان سبباً أخراً من أسباب الاختلاف. السبب الثالث ـ إن المقام في سورة النمل مقام تكريم لسيدنا موسى (- عليه السلام -) أوضح مما هو في القصص ((2)) . ففي سورة القصص كان جو القصة مطبوعاً بطابع الخوف، وفيما يأتي جرد لعبارات الخوف التي جاءت في سُوْرَة الْقَصَصِ: فقد خافت أم موسى (- عليه السلام -) على ولدها من فرعون وملائه قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} ((3)) . ومن شدة الخوف اصبح فؤادها فارغاً من الحزن قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ((4)) . خوفه بعد قتل القبطي: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((5)) . وبعد خروجه من مصر قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((6)) .

_ (1) المصدر نفسه: ص 83. (2) المصدر نفسه: ص 70. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21.

المبحث الثاني: موقف فرعون وقومه من دعوة سيدنا موسى (- عليه السلام -)

بعد أن ذهب إلى مدين واتصل بالشيخ الكبير والد البنات وقص عليه قصته فطمأنه: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((1)) . وبعد البعثة طلب المعونة من الله أن يرسل معه أخوه هارون {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} ((2)) . ونلاحظ في سورة النمل أنه لم يرد ذكر للخوف إلا في مقام العصا: {يا يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ((3)) . وانما اخترنا سُوْرَة النَّمْلِ نموذجاً للمقارنة بين القصتين، وقد وضعنا الجدول في أول المطلب لتسهيل المقارنة. المبحث الثاني: موقف فرعون وقومه من دعوة سيدنا موسى (- عليه السلام -) المطلب الأول: اتهام سيدنا موسى بالسحر {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((4)) . المناسبة لقد بينت الآيات السابقات أن الله جل وعلا قد وعد سيدنا موسى بأن يجيب طلبه ودعائه بأن يحميه من فرعون وملائه، وأن يرسل معه أخوه هارون معيناً: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ، وليبين جل وعلا سرعة امتثال موسى وهارون لأمر الله قال: {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34. (3) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 10. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 36 - 37.

وقال البقاعي: " ولما كان التقدير فأتاهم كما أمر الله وعاضده أخوه كما أخبر الله ودعواهم إلى الله تعالى، وأظهر ما أمر به من الآيات بنى عليه قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله {فَلَمَّا جَاءهُمْ} ، أي: فرعون وقومه، ولما كانت رسالة هارون (- عليه السلام -) إنما هي تأييد لموسى (- عليه السلام -) أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي فقال {مُوسَى بِآيَاتِنَا} ((1)) . فنلاحظ مرة أخرى إلى روعة التناسق والتناسب في الآيات القرآنية كذلك الروعة في استخدام الحروف للدلالة على معانٍ لا يمكن أن تعبر عنها الجمل الطويلة. تحليل الألفاظ 1. {سِحْرٌ} : قال ابن منظور: هو كل ما لطف مأخذه ودقّ فهو سِحْر والجمع أسْحَار وسَحُور وسَحَرَة يَسْحَرَه سَحْراً وسِحْراً وسحَّرَه. ورجل ساحِر من قوم سَحَرَة وسُحَّار من قوم سَحَّارِين. وأصل السِحْر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لمّا أُري من الباطل في الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته ـ وقد سَحَر الشيء عن وجهه، أي: صرفه ((2)) وعرف الشافعي السِحْر بأنه: " عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور وقلبه، أو عقله من غير مباشرة وله حقيقته " ((3)) . 2. {مُفْتَرًى} : الفِرْية الكذب فَرَى كَذِباً فَرْيَاً وافْتَرَاه اختلقه، ورجل فَرِىُّ ومِفْرىً وأنه لقبيح الفِرْيَة، قال الليث: يقال فَرَى فلان الكذب يَفْرِيه إذا اختلقه ((4)) . القراءات القرآنية 1. {وَقَالَ مُوسَى} :

_ (1) نظم الدرر: 5/ 488. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (سحر) 4/ 348. (3) المغني (ابن قدامة) : 8/ 28. (4) لِسَان العَرَب: مَادة (فري) 15/ 154.

قرأ ابن كثير: (قال) بغير واو لأنها كذلك في مصحف أهل مكة كأنه استئناف كلام. وقرأه الباقون: (وقال) بالواو، كأنه عطف على ما قبله عطف جملة على جملة ((1)) . 2. {رَبِّي أَعْلَمُ} : وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر بالفتح (رَبِّيَ) بالفتح ((2)) . المعنى العام {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} وهي العصا واليد (بينات) ، أي واضحات الدلالة على صدقه وأنه أمر خارق معجز، كفوا عن مقاومته ومعارضته، فرجعوا إلى البهت والكذب، ونسبوه إلى السحر، لأنهم يرون الشيء على حالة، ثم يرونه على حالة أخرى، ثم يعود إلى الحالة الأولى، فزعموا أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله، فليس بمعجز ثم مع دعواهم إنه سحر مفترى وكذبهم في ذلك، زادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آباءهم، أي: في زمان آبائهم وأيامهم ((3)) . {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} لما اخبره تعالى بقولهم عطف عليه الأخبار بقول موسى (- عليه السلام -) {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، ليوازن السامع بين الكلامين ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما فبضدهما تتبين الأشياء ((4)) .

_ (1) الكشف عن وجوه القراءات: 2/ 174 الإقناع في القراءات السبع: 2/ 723. (2) الكشف عن وجوه القراءات: 2/ 176. (3) ينظر البحر المحيط: 7/ 119. (4) ينظر نظم الدرر: 5/ 489.

وقال الرازي في تفسيره لقوله تعالى: {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} : " من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة، والدليل عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ} ((1)) . وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} ((2)) ، والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقابها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان، وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت، فإن قيل: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأن الدنيا قد تكون خاتمتها خير في حق البعض، وشر في حق البعض الآخر، فلم اختصت خاتمتها بالخير في هذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلنا: إنه قد وضع الله سبحانه وتعالى الدنيا مجازاً إلى الآخرة، وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الخير، وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار، ثُمَّ إنه (- عليه السلام -) أكد ذلك بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، أي: لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع، بل يحصلون على ضد ذلك، وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم " ((3)) . ما يستفاد من النص

_ (1) سُوْرَة الرَّعْدِ: الآيتان 22 -23. (2) سُوْرَة الرَّعْدِ: الآية 42. (3) مفاتيح الغيب: 12 / 351.

أولاً ـ في هذه الآية بشرى من البشارات القرآنية لانتصار المسلمين على أعدائهم، وذلك قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، وهذه الآية نظير ما جاء في سورة الأعراف من قول موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((1)) . فمن السنن الإلهية التي لا تنتهي أبداً هي أن العاقبة الحسنة للمتقين في الدنيا والآخرة، وليست مقصورة على الآخرة بدخول الجنان، وإنما تشمل عاقبتهم الحسنة المرضية في الدنيا، وتشمل انتصارهم على أعدائهم وإزالة الظلم عنهم، واسترداد حقوقهم، وعزتهم وكرامتهم، وعلو مكانتهم. وهذه العاقبة الحسنة هي للمتقين من عباده، وهم القائمون بكل مقتضيات ولوازم العبودية لله، والتي هي عبادة الله وحده لا شريك له، وتنفيذ ما أمر الله به، والابتعاد عمّا نهى عنه، وتحكيم شرع الله، وإقامة المجتمع الصالح القائم على الأخلاق الفاضلة التي ربى عليها الإسلام الجيل الأول ((2)) . ودلت كذلك على الاستعانة بالله في جميع الأحوال وجمع الكلمة، ولا ينبغي للمسلم أن ييأس أبداً.

_ (1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 128. (2) ينظر المستفاد من قصص القران: 1/ 375.

ثانياً ـ نلاحظ التشابه الواضح في رد فعل قوم فرعون من دعوة سيدنا موسى (- عليه السلام -) واتهامهم له بالسحر في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} ، ورد فعل كفار قريش من دعوة المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) وعجزهم عن معارضته لما رأوا فصاحة القران وبلاغته، نسبوه إلى السحر قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} ((1)) ، فعلى الدعاة أن لا يضجروا من عدم استجابة من يدعونهم إلى الله، فالناس بطبيعتهم يختلفون في مدى استعدادهم للاستجابة لصوت الحق وفي سرعة هذه الاستجابة، فمن الناس من يقبل الحق بدون تردد، ومن الناس من لا يقبل الدعوة إلى الله ويظل يقاومها ثُمَّ يقبلها بعد ذلك، فعلى الداعي أن يفقه ذلك، ولا يتعجب ولا ييأس من الاستجابة له حتَّى من أعتى الناس وأشدهم مقاومة للدين ((2)) . وكذلك ما ورد أيضا من تشابه بين ما جاء في خطاب سيدنا موسى (- عليه السلام -) لقومه: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} . وما ورد من خطاب الرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) للمشركين بقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} ((3)) . وهو يرجح ما ذهبت إليه.

_ (1) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 30. (2) ينظر المستفاد من قصص القران: 1/ 376. (3) سُوْرَة سَبَأ: الآيات 24-26.

المطلب الثاني: ادعاء فرعون الألوهية وتكبره وملؤه في الأرض

المطلب الثاني: ادعاء فرعون الألوهية وتكبره وملؤه في الأرض {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((1)) . المناسبة بعد أن بينت الآيات السابقات سرعة امتثال سيدنا موسى لأمر الله بدعوته لفرعون وقومه، وجاءهم بالمعجزات الدالات على صدقه، فاتهموه بالسحر، فقال لهم موسى بكل أدب: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فتضمن رده عليهم ترغيب وترهيب بعد أن قدم لهم المعجزات، وجاء رده عليهم بأسلوب غاية في الروعة، وبأسلوب عالٍ من أدب الخطاب والمناظرة " فهو لم يؤكد أن خصمه في ضلال، كما لم ينسبه إلى نفسه، بل ردده بينهما وهو يعلم انه لأيهما " ((2)) ، ثم علل هذا بأن من سنن الله أن المخذول هو الكاذب فقال: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 38 - 39. (2) تفسير المراغي: 20/ 58.

ثم يأتي النص القرآني والذي نحن بصدد تحليله ليبين في الجانب الآخر رد فرعون على مقالة موسى بمقالة تدل على الجهل ونقصان العقل ليؤكد النص القرآني على أنه بلغ غاية لا حد لها في الإنكار، وأنه لا مطمع في إيمانه لعتوه وطغيانه واستكباره في الأرض، وما جرى له من العذاب في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} ((1)) . فأراد النص القرآني في هذا المقطع أن يبين الفرق بين رد أهل الحق المتمثل في قول موسى المتفائل بنصر الله والمتوكل على الله، ورد فرعون المتكبر الظالم وليبين لنا بوضوح الفرق بين أخلاق الأنبياء، وبين أخلاق أعداء الله. تحليل الألفاظ {صَرْحًا} : الصَّرْح بيت واحد يبنى منفرداً ضخماً طويلاً في السماء. وقيل: هو القصر. وقيل: هو كل بناء مرتفع. وقال الزجاج: الصَّرح في اللغة القصر والصحن ((2)) . وقال الراغب الأصفهاني: " وهو بيت عالي مزوق سمي بذلك اعتباراً بكونه صرحاً عن الشوب، أي: خالصاً " ((3)) . وقال الآلوسي هو: " بناء مكشوف عالياً، من صرح الشيء إذا ظهر " ((4)) . وقال ابن عاشور هو: " القصر المرتفع " ((5)) . القراءات القرآنية 1. {لَعَلِّي} : قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر بالفتح: (لَعَلَى) ((6)) 2. {لاَ يُرْجَعُونَ} :

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 38- 39. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (صرح) 2/ 511. (3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 287. (4) روح المعاني: 20/ 80. (5) التحرير والتنوير: 20/ 123. (6) ينظر الإقناع في القراءات السبع: 2/ 721.

قرأ حمزة، والكسائي، ونافع: (لاَ يَرْجِعُون) مبيناً للفاعل والجهور مبيناً للمفعول ((1)) . القضايا البلاغية في قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} فيها إطناب ((2)) بديع، وذلك أنه لم يقل: اطبخ لي الآجر، وذلك ليتفادى ذكر كلمة الآجر لأن تركيبها على سهولة لفظه ليس فصيحاً، وذلك امر يقرره الذوق وحده، فعبر عن الآجر بالوقود على الطين لأن هذه العبارة أحسن مطابقة لفصاحة القرآن، وعلو طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة، وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين، منادى باسمه بـ (يا) في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر، وقد اشتملت هذه العبارة على الكثير من ألفاظ الجبابرة العتاة، وذلك على الوجه الآتي: نادى وزيره بحرف النداء. توسيط ندائه خلال الأمر وبناء الصرح. رجاؤه الإطلاع إلى الله. الغباء الذي يلازم الجبابرة العتاة، إذ يقعون في التناقض من حيث لا يشعرون، فقد صرح قبل قليل بقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، فعرب عن نفي المعلوم بنفي العلم، وأعلن تصميمه على الجحود، ثُمَّ ما عتم أن أعلن رجاءه الإطلاع، فهل كان مصمماً على الجحود أم لم يكن ((3)) ؟ المعنى العام {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}

_ (1) ينظر الكَشَّاف: 3 /180. البحر المحيط: 7/ 120. (2) الإطناب: هو البلاغة في المنطق والوصف مدحاً كان أو ذماً، وأطنب في الكلام بالغ فيه. ينظر معجم المصطلحات البلاغية: 1 /224. (3) ينظر الكَشَّاف: 3 /179 –180. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /231.

أي: وقال فرعون منكراً لما أتى به موسى (- عليه السلام -) من توحيد الله وحده وعبادته، فقد اخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: " لما قال فرعون: {يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} قال جبريل (- عليه السلام -) : يا رب طغى عبدك، فأذن لي في هلاكه، قال: يا جبريل هو عبدي ولن يسبقني له أجل قد أجلته حتى يجيء ذلك الأجل، فلما قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} ((1)) قال جبريل: قد سكنت روعتك بقى عبدي وقد جاء أوان هلاكه " ((2)) {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} " أي أطبخ لي يا هامان الآجر، فعن ابن عباس (رضي الله عنه) وقتادة: هو أول من صنع الآجر وبنى به " ((3)) . وقد اختلف العلماء في فرعون هل بنى الصرح أم لا؟ 1.فقال قوم: إنه بناه، " فقالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتَّى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الاتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيدوه حتَّى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق فبعث الله تعالى جبريل (- عليه السلام -) عند غروب الشمس فضربه بجناحيه فقطعه ثلاث قطع " ((4)) . ونقل الآلوسي رواية عن السدي " بأنه لما بنى له الصرح ارتقى فوقه، وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي متلطخة دماً فقال: قتلت إله موسى " ((5)) .

_ (1) سُوْرَة النَّازِعَاتِ: الآية 24. (2) ينظر تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 2979. والأثر لم أقف عليه في كتب الأحاديث والآثار. (3) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5004 وما بعدها. (4) مفاتيح الغيب: 12 /253. (5) روح المعاني: 20 /80.

2.ومن الناس من قال: إنه لم يبن ذلك الصرح، لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما يراها حين كان على قرار الأرض، ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل، وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء، وأن من حاول ذلك كان من المجانين، فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل، فيصير ذلك مشرعاً قوياً لمن أحب الطعن في القران ((1)) . والذي أراه أن أمر فرعون لهامان ببناء الصرح لم يكن يقصد البناء حقيقة، ولكنه أراد الاستهزاء بموسى وتكذيبه بدلالة قوله تعالى حكاية عن فرعون: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} بعد الأمر ببناء الصرح، فهو إنما أراد أن يبين لهم بطريقة الاستدلال العقلي أنه لا دليل حيّ على وجود إله موسى، فأوهمهم بأن الإله لا بد أن يكون محسوساً، وهذا ما أراده من قوله لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} أي: ما دمت أنا محسوساً فأنا أحق بالعبادة من إله موسى غير المحسوس وهذا من قلة عقله واستخفافه بعقول قومه. {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}

_ (1) المصدر نفسه: 20/ 80.

أي: رأوا كل من سواهم حقيراً بالإضافة إليهم، ولم يروا العظمة والكبرياء إلا لأنفسهم، فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك للعبيد في الأرض وقوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، لأن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر، أي: المتبالغ في كبرياء الشأن، فكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق ((1)) . قال (- صلى الله عليه وسلم -) فيما يحكيه عن ربه: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحدة منهما قذفته في النار)) ((2)) . {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} الظن، قيل: إما على ظاهره، أو عبر عن اعتقادهم به تحقيراً وتمهيلاً ((3)) . ويقول الرازي في معنى قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ، فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى، إلا أنهم كانوا ينكرون البعث، فلأجل ذلك تمردوا " ((4)) . وقال ابن عاشور: " فذكر (إلينا) لحكاية الواقع وليس بقيد، فلا يتوهم أنهم أنكروا البعث ولم ينكروا وجود الله مثل المشركين، وبتقديم (إلينا) على عامله لأجل الفاصلة، ويمكن أن يكون المعنى: وظنوا أنهم في منعة من أن يقعوا في قبضة قدرتنا " ((5)) . أو أنهم كانوا يعتقدون بالبعث، ولكن الذي يحاسبهم هو فرعون وليس الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما هو الواقع بدليل قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُون} . ما يستفاد من النصّ

_ (1) ينظر الكشاف: 3/ 181. روح المعاني: 20/ 82. (2) صحيح ابن حبان: 2 /35. المستدرك على الصحيحين: 1 /129. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأخرجه مسلم بغير هذا اللفظ. (3) روح المعاني: 20/ 83. (4) مفاتيح الغيب: 12/ 254. (5) التحرير والتنوير: 20/ 124.

المطلب الثالث: عاقبة فرعون وجنوده

لقد ذم القرآن الكريم في آيات كثيرة الكبر بصورة مباشرة أو من خلال ذكره لقصص المتكبرين في الأرض وذمه لهم، وتبيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وفي هذه الآية يقص علينا القرآن قصة من قصص المتكبرين في الأرض، وكيف أوصله تكبره إلى ادعاه الألوهية، فكان عاقبته أنه وقومه في النار. ودلت كذلك على التشابه بين ردّ فرعون وقومه من دعوة موسى (- عليه السلام -) ورد فراعنة قريش من دعوة المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) كأبي جهل، وأمية بن خلف، وغيرهم. وفي هذه الآية تحذير واضح لكل من يقف في طريق الدعوة إلى الله من الحكومات والأفراد، فمهما بلغ من القوة والمنعة فإنه ليس بمأمن من قوة الله وعقابه في الدنيا والآخرة. المطلب الثالث: عاقبة فرعون وجنوده {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) . المناسبة

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 40 - 43.

بعد أن بينت الآيات السابقات الدواعي لاستحقاق فرعون وجنوده العقوبة لادعائه الألوهية وتكبره في الأرض وتهكمه واستهزاءه بموسى أمام قومه ليشكك في صدق مقالته، جاءت هذه الآيات لتخبر بما نالهم من عقاب الدنيا، فقال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ، ثم أمر رسوله محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وقومه بالنظر والاعتبار والتأمل بالعواقب ليعلموا أن هذه سنة الله في كل مكذب برسله ((1)) . فقال: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ، ثم بينت الآيات مصيرهم في النار، فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ} . " فإن السياق هنا يعجل بالضربة القاضية، ويختصر حلقة السحرة التي تذكر في سور أخرى بتفصيل أو إجمال، يختصرها ليصل من التكذيب مباشرة إلى الإهلاك، ثم لا يقتصر عند الأخذ في الدنيا بل يتابع الرحلة إلى الآخرة، وهذا الإسراع في هذه الحلقة مقصود متناسق مع اتجاه القصة في السورة، وهو تدخل القدرة بلا ستار من البشر، فما أن يواجه موسى فرعون، حتى يعجل الله بالعاقبة وتضرب يد القدرة ضربتها الحاسمة بلا تفصيل في المواجهة أو تطويل " ((2)) . تحليل الألفاظ 1. {فَنَبَذْنَاهُمْ} : " النَّبْذُ طرحك الشيء من يدك أمامك أو وراءك، نَبَذْتُ الشيء أَنْبِذَه نَبْذاً إذا ألقيته من يدك، ونَبَّذتُه شدد للكثرة، ونَبَذَت الشيء أيضاً إذا رميته وأبعدته " ((3)) . 2. {الْمَقْبُوحِينَ} :

_ (1) ينظر تفسير المراغي: 20 / 58. (2) في ضلال القران: 6/ 348. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (نبذ) 3/ 511.

" القُبْح ضد الحسن يكون في الصورة، والفعل قَبَحَ يَقْبَح قُبْحاً وقُبُوحاً وقُبَاحة وقُبوحة وهو قَبِيح والجمع قَبَائح وقَباحى، والأنثى قَبِيحة، وقال الأزهري: هو نقيض الحسن عام في كل شيء " ((1)) . 3. {بَصَائِرَ} : قال ابن الأثير في أسماء الله تعالى البصير، وهو الذي يشاهد الأشياء كلها ظاهرها وخافيها بغير جارحة. وقيل: البصر العين إلا أنه مذكر. وقيل: البصر حاسة الرؤية، وقال ابن الأعرابي: أبصر الرجل إذا خرج من الكفر إلى الإيمان ((2)) . القراءات القرآنية 1. {الدُّنْيَا} : قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وورش بالإمالة. 2. {الأُولَى} : قرأ حمزة، والكسائي، وورش، وخلف بالإمالة. 3. {لِلنَّاسِ} : قرأ الدوري بالإمالة. 4. {وَهُدًى} : قرأ كل من حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة ((3)) . القضايا البلاغية تشبيه بليغ في قوله تعالى: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} ، أي: أعطيناه التوراة كأنها أنوار لقلوب الناس، حذف أداة التشبيه ووجه الشبه، فأصبح بليغاً، قال الشيخ زاده: " أي مشبهاً بأنوار القلوب من حيث أن القلوب لو كانت خالية عن أنوار التوراة وعلومها لكانت عمياء لا تبصر ولا تعرف حقاً من باطل " ((4)) . المعنى العام {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي: طرحناهم في البحر المالح. قال قتادة: بحر من وراء مصر يقال له: أساف، أغرقهم الله فيه. وقال وهب، والسدي: المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له: بطن مريرة. وقال مقاتل: يعني نهر النيل ((5)) .

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (قبح) 2/ 552. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (بصر) 4/ 64. (3) ينظر معجم القراءات القرآنية: 5/ 25-26. (4) حاشية الشيخ زاده: 3 /515. وينظر الكَشَّاف: 3 /181. (5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5005.

{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ} جعلهم الله عبرةً لمن سلك وراءهم وأخذ طريقهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع، فأجمع الله عليهم خزي الدنيا موصولاً بذل الآخرة ((1)) {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} أي أهلكهم الله فلا ناصر لهم من دون الله، وأتبعهم زيادة في عقوبتهم وخزيهم في الدنيا، لعنة يلعنون، ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقت والذم وهذا أمر شاهد فهم أئمة الملعونين في الدنيا ومقدمتهم ((2)) . ما يستفاد من النصّ بينت الآيات سنة من سنن الله في الطغاة والظلمة بأن مصيرهم الهلاك مهما تحصنوا، ومهما بلغت قوتهم، ولتنبهنا الآية على هذه الحقيقة الساطعة جاءت بكلمة (فانظر) لتحفز القارئ على الاتعاظ بتأكيدها على عاقبة الظالمين بقوله تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} وهي كلمة عامة تشمل كلّ ظالم من دول وأفراد. ودلت كذلك الآيات على أن الجزاء من جنس العمل، ففرعون كما كان في الدنيا إماماً من أئمة الظلم والطغيان سيكون يوم القيامة هو وجنوده من أئمة النار. ودلت الآيات على أن التاريخ لا يذكر الظالمين إلا بسوء لقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} . ودلت الآيات كذلك على سنة من سنن الله في إرسال الرسل والأنبياء، فكلما تنقضي فترة من الزمن ويصبح الناس بحاجة إلى رسول يبعث ليعيد الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد.

_ (1) ينظر تفسير القران العظيم: 3/ 390. (2) ينظر تفسير الكريم الرحمن: 4/ 20.

المطلب الرابع: الفرق بين الرواية التوراتية وسفر الخروج وبين الرواية القرآنية في سورة القصص لقصة موسى (- عليه السلام -)

المطلب الرابع: الفرق بين الرواية التوراتية وسفر الخروج وبين الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ لقصة موسى (- عليه السلام -) لقد كان الَقُرْآن الكَرِيم ولا زال كتاباً مهيمناً على كلّ الكتب التي سبقته باعتباره أخر الكتب الإلهية المنزلة بعد صحف إِبْرَاهِيمُ وموسى والتوراة وزبور داود وإنجيل عيسى ـ عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فكيف إذا ما حرفت تلك الكتب من بعد أنبيائها على يد اليهود والنصارى، ونحن في تحليلنا العام لسورة القصص الشريفة استطعنا أن نجد أن الرواية القرآنية ـ إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير في وصف كلام الله تعَاَلىَ ـ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كانت ولا زالت مهيمنة وشاملة وعالية فوق النصوص التوراتية لقصة موسى (- صلى الله عليه وسلم -) منذ طفولته حتَّى غرق فرعون على يديه بنصر الله سبحانه وتعالى. وإن ما ذكره الَقُرْآن الكَرِيم كان منزهاً لموسى (- عليه السلام -) ، بل وزائداً على ما في العهد القديم المسمى بالتوراة زيادات فيها فائدة وتوجب حقائق تاريخية ألهمها الله تعَاَلىَ وأوحاها إلى رسوله مُحَمَّد بن عَبْد الله النبي الأمي (- صلى الله عليه وسلم -) مما لم يكن هو (- صلى الله عليه وسلم -) ولا قومه يعرفونه من قبل، وهو ما جعل اليهود يتميزون من الغيظ حسداً وحقداً على ما آتاهم الله من كتابه، فنسوه وحرفوه واشتروا بآياته ثمناً قليلاً ثُمَّ نبذوه وراء ظهورهم، فأنزل الله تعَاَلىَ كتاباً أخر على الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) . ولا ننسى هاهنا أن سُوْرَة الْقَصَصِ مكية أنزلت قبل أن يقدم رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) المدينة المنورة حتَّى لا يقول قائل أن أحداً علم رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) تلك القصة.

وسوف نحاول فيما يلي استعراض الروايتين وفق جداول علمية للمقارنة، ثُمَّ بعد ذلك ـ إِنْ شاء الله العلي العظيم ـ نجري مقارنة نقدية بين الروايتين، لنرجح أي الروايتين هما الأصح والأدق تاريخياً: ت الخروج سُوْرَة الْقَصَصِ (وقام ملك جديد على مصر … فأقاموا عليهم وكلاء تسخير … فاستخدم المصريون بني إسرائيل) (1: 14) . {إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءهُمْ} (4) (ولما لم تستطع أن تخفيه بعد أخذت له سفطاً من بردى … وجعلت الولد فيه) (2: 4) {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (7) (ووقفت أخته من بعيد لتنظر ما يقع له) (5: 2) {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} (11) (فقالت أخته لابنة فرعون هل أذهب وأدعو لك مرضعاً) (2: 8) {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} (12) (فأخذت المرأة الصبي وأرضعته) (2: 10) {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} (13) (إذا برجل مصري يضرب رجلاً عبرانياً من اخوته … فقتل العبري) (2:13) {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (15) (ثُمَّ خرج في اليوم الثاني فإذا برجلين عبرانيين يتضاربان) (2: 14) {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} (18) (أتريد أن تقتلني كما قتلت المصري) (2: 15) {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} (19)

(وسمع فرعون بهذا الخبر فطلب أن يقتل موسى) (2: 16) {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} (20) (فهرب موسى من وجه فرعون) (2: 26) {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (21) (وصار إلى أرض مدين وقعد عند البئر) {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} (22) (وكان لكاهن مدين سبع بنات) (2: 17) {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ} (23) (فجئن واستقين وملأن المساقي ليسقين غنم أبيهن فجاء الرعاء وطردوهن فقام موسى ونجدهن وسقى غنمهن) (2: 118 –19) {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (24) (فقال لبناته وأين هو لم تتركن الرجل ادعونه ليأكل طعاماً) (2: 21) {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (25) (فارتضى موسى أن يقيم عند الرجل فزوجه صفورة أبنته) (2: 22) {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (27) (وكان موسى يرعى غنم بيثرو حميه كاهن مدين فساق الغنم إلى ما وراء البرية حتَّى أفضى إلى جبل الله حوريب) (3: 2) {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} (29) (فتجلى له ملاك الرب في لهيب نار من وسط العليقة) (3:3) {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا} (29)

(ورأى الرب أنه قد مال لينظر فناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى موسى. قال ها أنذا) (3: 5) {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ} (30) (قال لا تدن إلى هاهنا أخلع نعليك من رجلك فإن الموضع الذي انت فيه أرض مقدسة) (3: 6) {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} (31) (فالآن تعال أبعثك إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر) (3: 11) {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (32) (قال موسى لله من أنا حتَّى أمضي إلى فرعون) (3: 12) {إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي} (33) (قال أنا أكون معك) (3: 12) (وقال إنهم لا يصدقوني) (4: 2) {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} (35) {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} (34) (فقال الرب ما تلك التي بيدك قال عصا قال ألقها على الأرض فألقاها على الأرض فصارت حية تسعى فهرب موسى من وجهها فقال الرب لموسى خذ يدك وأمسك بذنبها فمد يده فأمسكها فعادت منا في يده) (4: 1 – 5) {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} (31) (أدخل يدك في جيبك فأدخل يده في جيبه ثُمَّ أخرجها فإذا يده برصاء كالثلج قال أردد يدك في جيبك فرد يده في جيبه ثُمَّ أخرجها من جيبه فعادت كسائر بدنه) (4: 6-8) {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ} (32)

(فإن لم يصدقوك ولم يسمعوا لصوت الآية الأولى يصدقون صوت الآية الأخرى) (4: 9) {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} (32) (فقال موسى للرب رحماك يا رب إني لست أحسن الكلام) (4: 11) {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} (34) (يا رب أبعث من أنت باعثه) (4: 14) {فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} (34) (فاتقد غضب الرب على موسى وقال ألست أعلم أن أخاك هارون اللاوي هو فصيح اللسان وهاهو أيضاً خارج للقائك) (4: 15) {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} (35) (فإني أكون مع فيك وأعلمكما ما تصنعان) (4: 16) {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} (35) (فقال فرعون من هو الرب فاسمع لقوله وأطلق إسرائيل لا أعرف الرب ولا أطلق إسرائيل) (5: 3) {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (38) (وأمر فرعون في ذلك مسخري الشعب ومدبريهم قائلاً لا تعطوا الشعب) (5: 6 –7) {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} (39) (فغرق الرب المصريين في وسط البحر) (14: 28) {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (40)

فحيث نجد في الفقرة الأولى أن الرواية التوراتية تنسب التسخير للمصريين في عهد الملك الجديد، أما الرواية القرآنية فتجعل إسناد الفعل إلى فرعون وهو الأليق والأًصوب لأنه ليس كلّ المصريين كانوا يضطهدون بني إسرائيل، وهذا من الحقد اليهودي العام على كلّ الأمم، أما الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ فتجعل الإلقاء عاماً في اليم، وتوضحها آية أخرى إذ تجعل الإلقاء في التابوت، فالنص القرآني أوضح تاريخياً. ونجد تقارباً بين الفقرة الثالثة في الروايتين التوراتية والقرآنية في المعنى فقط دون اللفظ، فالقرآن استخدم كلمة (قصيه) أي تتبع الأثر فهي تتبع أثر التابوت إلى أنَّ وصل إلى قصر فرعون، فهي أبلغ وأدل على الواقع من العبارة العامية لرواية التوراة، فقد استفاد حاخامات بني إسرائيل من الترجمة العربية للتوراة من النصوص القرآنية التي أعادوا صياغتها. وتجعل الفقرة الرابعة الخطاب مباشراً بين أخت موسى وابنة فرعون، وهو ما تبهمه الرواية القرآنية لحكمة إلهية لتجعل النصّ القرآني أبلغ في التعبير بإبهام المقصود بخطاب الأخت. أما الفقرة الخامسة فتتشابه الروايتان إلاَ أَن صياغة النصّ القرآني أجمل وابلغ وأدق في الدلالة، وهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآني في مبناه ومعناه.

وتصرح الفقرة السادسة بالنسب الخاص بالمتشاجرين، أما النصّ القرآني فجعل النصّ مبهماً (من شيعته) (من عدوه) (يستصرخه) دون تعيين. والفقرة الثامنة تصرح بأن المقتول مصري، أما النصّ القرآني فيستمر في الإبهام، وذلك لأن آفاق إعجاز الإبهام في الَقُرْآن الكَرِيم تتمثل في أن الإبهام لما يأتي بيانه من بعده كون ما قبله أهم منه في الذكر، فقوله تعالى: {مِنْ شِيعَتِهِ} إلهام لهذه الشيعة التي تقدم ذكرها في قوله تعالى: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} وهذا ترابط في النصّ الَقُرْآنيّ، ولم يقل الله عَزَّ وجَلَّ: (وهذا من بني إسرائيل) ولو قيل ذلك لكان غير بليغ، وغير دال بل أبهم الله عَزَّ وجَلَّ الضمير في الخطاب حتَّى يفسر ما تقدم من تقسيم فرعون لأبناء مصر على شيع (أي: جماعات) وفيهم بنو إسرائيل، فهذا من شيعته أي من بني إسرائيل، وهذا وجه مهم إدراكه. ويأتي الإبهام إما تعظيماً، وإما تفخيماً، فجاء النصّ مبهماً في سُوْرَة الْقَصَصِ كذلك وفق الأسلوب القرآني، ولأن الإبهام القرآني قد يراد به في بعض الآراء أن يبحث المسلم في ما أبهم ولا يتكل على الصراحة القرآنية. وتجعل الفقرة التاسعة فرعون هو الذي يأتمر بقتل موسى، أما النصّ القرآني فيجعل الملأ هم الذين يأتمرون بقتل موسى دون تصريح بمن هم أولئك الملأ وهو ما يتعلق بالفقرة العاشرة، إذ تجعل الرواية التوراتية الهرب من فرعون، أما الرواية القرآنية فتجعل الهرب بترقب من المدينة. وفي الفقرة الحادية عشر تتشابه الروايتان إلاَ أَن الفقرة الثانية عشر تجعل نبي الله شعيب (- عليه السلام -) كاهن مدين، وهذا انتقاص منه (- عليه السلام -) خلافاً للنصّ القرآنيّ، أما عدد البنات فتجعله الرواية التوراتية سبعاً على عادة اليهود في تقديس الرقم سبعة، أما الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ فتجعل عدد بناته اثنين.

وتطيل الرواية التوراتية في الفقرة الثالثة عشر في قصة الاستسقاء بينما توجز ذلك الرواية القرآنية وتجعل موسى (- عليه السلام -) في صورة الحيي الكريم ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ. وفي الفقرة الرابعة عشر يجري الحوار بين شعيب (- عليه السلام -) وبين بناته، أما الرواية القرآنية فهي من الإعجاز الوصفي بمكان عالٍ جداً إذ تقول هذه الرواية الإلهية ـ ومن أصدق من الله قيلاً ـ {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ولا وصف أبلغ من هذا الوصف الإلهي لحياء هذه الفتاة المؤمنة وهو ما أتى بصيغة الحال. وتظهر الفقرة الخامسة عشر رضا موسى (- عليه السلام -) بالمقام عند شعيب (- عليه السلام -) ، وتعلن أن نتيجة هذا المقام الزواج. أما الرواية القرآنية فتظهر أن الخاطب هو والد الفتاتين، أي: شعيب (- عليه السلام -) مقابل تأجير موسى (- عليه السلام -) لنفسه لديه ثماني أو عشر سنين، والنصّ القرآني أبلغ وأفصح وأبين. أما الفقرة السادسة عشر فهي تتناقض في الرواية التوراتية التي تجعل يوم إنزال الوحي هو يوم سوق الغنم إلى جبل الله حوريب مع الرواية القرآنية التي تجعل ذلك بعد قضاء موسى (- عليه السلام -) الأجل وسيره نحو جبل الطور في سيناء، ولا ريب أن تغيير الحقيقة الواحدة من قبل حاخامات بني إسرائيل الذين يحرفون الكلم عن مواضعه إنما كان لمآرب إسرائيلية. وبذلك يتبين لنا أن التحديد القرآني للطور بأنه يوم بدء الوحي لموسى (- عليه السلام -) هو الحقيقة التاريخية المطلقة والمهيمنة على النصّ والرواية التوراتية في سفر الخروج الذي تعرض لتحريف شديد. أما الفقرة الثامنة عشر في الرواية التوراتية فتجعل نداء الرب من وسط شجرة العليق، والرواية القرآنية تجعل النداء الإلهي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وهو تحديد فيه البلاغة كلّ البلاغة والفصاحة كلّ الفصاحة.

وهناك تناقض في الفقرة التاسعة عشر إذ تجعل النداء نهياً لموسى (- عليه السلام -) عن القدوم، أما الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ فتجعل الخطاب الإلهي لموسى (- عليه السلام -) أشرف خطاب بطمأنته ودعوته للإقبال في قوله تعالى: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} وهو نص تكرر في عدة مواضع من الَقُرْآن الكَرِيم. وفي الفقرة العشرين كان سبب الدعوة إخراج بني إسرائيل من مصر، أما الرواية القرآنية فتبين أن السبب هو دعوة فرعون وملأه للهداية إذ كانوا قوماً فاسدين وهذا أسلوب الهداية العالمية القرآنية خلافاً لأسلوب الشعب المختار توراتياً. أما الفقرة الحادية والعشرون فتنسب لموسى (- عليه السلام -) خوفه من البعثة واستهانته بنفسه على العموم، إلاَ أَن الرواية القرآنية تكرم موسى (- عليه السلام -) وتجعل سبب خوفه قتله نفساً من عندهم، وفي هذا قمة التكريم الإلهي لموسى (- عليه السلام -) . وتجعل الفقرة الثانية والعشرون من الله مخاطباً في التوراة لموسى (- عليه السلام -) وهو ما يستقيم به النصّ، أما التكملة فتجعل الخوف من أن لا يُصدق المصريون موسى، أما الرواية القرآنية فتجعل الخوف من التكذيب، وكأن الحاخامات اليهود من بني إسرائيل اقتبسوا هذه الفقرة القرآنية هاهنا في رواية سفر الخروج. ونجد في الفقرة الثالثة والعشرين تشابه بين الرواية التوراتية المأخوذة من الرواية القرآنية في زمن ترجمة التوراة إلى العربية في العصر العباسي على ما حققه التاريخ، لذلك جاءت الروايتان متشابهتان. أما الفقرة الرابعة والعشرون فتجعل اليد برصاء بعد خروجها من الجيب بينما تجعلها الرواية القرآنية {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي منيرة وتزيد على الرواية التوراتية بضم الجناح من الرهب، وهذ معجزة قرآنية في الزيادة على اليهود في توراتهم ما لم يكونوا يعرفونه حتَّى في مروياتهم.

ونجد الفقرة الخامسة والعشرين تتشابه في معناها العام مع الرواية القرآنية في وجود البرهانين الذين تسميهما الرواية التوراتية آيتين، وهو من اختلاف الترجمة في النقل من الآرامية والعبرانية إلى العربية، وهذا ما يعزز ما ذهبنا إليه في هذا البحث من أن حاخامات اليهود اعتمدوا بخفاء على الرواية القرآنية في تنقيح ترجمتهم للتوراة، وهذا ما استندنا في اكتشافه إلى تحليلنا العام لسورة القصص. والفقرة السادسة والعشرون تجعل موسى لا يحسن الكلام، أما الرواية القرآنية فتنسب لموسى (- عليه السلام -) من تواضعه أنه جعل أخاه هارون (- عليه السلام -) أفصح منه لساناً، ونلاحظ هاهنا أن الرواية التوراتية في سفر الخروج تتعمد الانتقاص بصورة غير مباشرة من موسى (- عليه السلام -) ، وهذه عادة اليهود وديدنهم في الانتقاص من الأنبياء، فهم قتلتهم ومن رموهم بالكبائر والصغائر، ومصداق ذلك في الفقرة السابعة والعشرين التي تجعل موسى يخاطب الله تعَاَلىَ ـ حاشاه ـ خطاباً جافاً (أبعث من أنت باعثه) . أما الرواية القرآنية فتجعل الخطاب ألطف خطاب {فَأَرْسِلْهُ مَعِي} وهذا دليل على كمال النصّ القرآني وهيمنته على النصّ التوراتي.

وكذلك نجد أن الفقرة الثامنة والعشرين من هذه الفقرات تنتقص انتقاصاً جد عظيم من نبي الله موسى (- عليه السلام -) بسبب حقد بني إسرائيل على أنبياء الله ـ عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فهي تجعل غضب الرب متعمداً على موسى (- عليه السلام -) ـ وحاشاه ـ ويمن عليه بهارون (- عليه السلام -) ، وهذا خلاف الحقيقة، فإن الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ تجعل الخطاب الإلهي مؤازراً لموسى (- عليه السلام -) {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} وهو ما يتناسب مع واقع الحال كلّ التناسب وليس فيه انتقاص من سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، بل على العكس، فإن فيه تكريم له بشد عضده بأخيه. ونجد في الفقرة التاسعة والعشرين تشابهاً بين الرواية التوراتية والنصّ القرآني وإن كان الخطاب القرآني أعمق في الدلالة والأمر. كذلك في الفقرة الثلاثين وإن اختلف الخطاب في الأمر بإطلاق إسرائيل، ولكن صيغة الخطاب القرآني تجعل إسناد الألوهية لفرعون، وهو ما أغفل عنه النصّ التوراتي المحرف المنحول في أساسه كله على ما قدمناه. أما الفقرة الحادية والثلاثون فتجعل إسناد الأمر من فرعون لأعوانه من مسخري الشعب، بينما يجعل النصّ القرآني إسناد الاستكبار لفرعون وجنوده وينسب إليهم الاعتقاد الذي أثبته علم الحفريات من أن فرعون وقومه يومذاك في مصر كانوا يظنون أنهم لا يرجعون إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل يرجعون إلى دنيا أخرى يحكم فيها فرعون الإله، فسبق النصّ القرآني علم الحفريات الحديث في إثباته اعتقاد الفراعنة بعالم آخر ولكنهم لا يرجعون فيه إلى الله ليحاسبهم، بل إلى فرعون، وهو ما غفل عنه كُتّاب التوراة، وهذا مما يقتضي التنبيه عليه.

أما الفقرة الثانية والثلاثون فتختصر الرواية التوراتية القصة إلى الإغراق، أما النصّ القرآني فهو يزيد بلاغة على بلاغة، إذ يجعل الإغراق بأخذ فرعون وجنوده والتذكير بعاقبة الظالمين، وهذا أحد أوجه الإعجاز القرآني. فإذا استبان لنا من خلال الجدول السابق وتحليلنا له الفرق الشاسع بين الروايتين، فنستطيع أن نؤكد أن العقل السليم يدلّ على أن الرواية القرآنية أصدق دلالة وأكثر تاريخية من تلك الرواية التوراتية لكل الحقائق التاريخية.

الفصل السابع: الرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ودعوته في سورة القصص

الفصل السابع: الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ودعوته في سُوْرَة الْقَصَصِ المبحث الأول: الدلائل الَقُرْآنية على صدق الرَّسُول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) في دعوته المطلب الأول: دلالة قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) على صدق دعوة الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) . المناسبة

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 44 - 51.

بعد أن بين الله عز وجل وعلا قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) وما جرى فيها من أحداث عظام، ينتقل السياق القرآني ليوظف هذه القصة كأحد الأدلة على صدق الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) في دعوته، فرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يتلو هذه الأحداث بتفاصيلها كما يقصها شاهد عيان، وما كان حاضراً زمانها، ولم يكن يقرأ ويكتب، ولكن تنزيل العزيز الرحيم، فبعد أن بين في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) أنه تعالى أرسل سيدنا موسى بعد أن أهلك القرون الأولى، ودرست الشرائع واحتيج إلى نبي يرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم أردف بقوله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} لبيان الحاجة إلى إرسال رسوله محمد (- صلى الله عليه وسلم -) لمثل تلك الدواعي، التي دعت إلى إرسال موسى (- عليه السلام -) ، لئلا يكون للناس حجة ((2)) بعد الرسل، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43. (2) ينظر تفسير المراغي: 20 /65. (3) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 15.

وإن ذكر قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) وما جرى للمكذبين له من عقاب بشارة للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) أن النصر هو حليف المؤمنين مهما عظمت قوة الكافرين. ومن هذا يتبين لنا الإعجاز القرآني في اختيار الآيات والكلمات والمعاني في مواقفها الخاصة بها، وجاء ذكر سيدنا موسى (- عليه السلام -) كدليل على صدق رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، ولوجود توافق كبير بين حياة النبيين الكريمين ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ وللتشابه في الظروف التي مرت بهم، وهذا ما سنبينه لاحقاً إن شاء الله تعالى. فمع وجود قصتين في السورة بينهما زمن طويل، إلاَ أَن السورة جاءت بأحداث القصتين فيها ترابط، وبين آياتها تناسب في دلالتها بحيث وظفت قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) توظيفاً رائعاً للاستدلال بها على صدق الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) وصدق دعوته. أسباب النزول ذكر الطبري في سبب نزول قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} عن مجاهد، قال: اليهود تأمر قريشاً أن تسأل مُحَمَّداً مثل ما أوتي موسى، يقول الله لمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) : قل لقريش يقولوا لهم: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ((1)) ؟

_ (1) جامع البيان: 10 /79.

ونقل القرطبي عن الكلبي: " بعثت قريش إلى اليهود وسألوهم عن بعث مُحَمَّد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الجواب إليهم {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ، وقال قوم: إن اليهود علموا المشركين، وقالوا: قولوا لمحمد لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة، فهذا الاحتجاج وارد على اليهود، أي: أو لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى حين قالوا في موسى وهارون هما ساحران " ((1)) . وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} نقل الطبري عن رفاعة القرظي، قال: " نزلت هذه الآية في عشرة أنا أحدهم " ((2)) . وقال الواحدي: " إن الآية مما اختلف العلماء في سبب نزولها " ((3)) . تحليل الألفاظ 1. {قَضَيْنَا} : القضاء، قال ابن منظور: " الحكم وأصله قضايّ، لأنه من قَضَيْت إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف همزت والجمع الأقضية، القضيّة مثله والجمع القضايا على فَعالى، وأصله فضائل. وقال أبو بكر: قال أهل الحجاز: القاضي معناه في اللغة القاطع للأمور المحكِم لها… والقضايا الأحكام واحدتها قضية. قال ابن السيرافي: قضاهما فرغ من عملها، والقضاء الحكم والأمر، وقضى أي حكم، ومنه القضاء والقدر " ((4)) .

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5010. (2) جامع البيان: 10 /79. (3) أسباب النزول. أبو الحَسَن عَلِيّ بن أحمد الواحدي النيسابوري. ت 468 هـ. ط2. بإشراف لجنة تحقيق التراث. دار مَكْتَبَة الهلال. بيروت. لبنان. 1985 م.: ص 211 وما بعدها. (4) لِسَان العَرَب: مَادة (قضى) 15 /186.

وقال الراغب: " القضاء فصل الآمر قولاً كان ذلك أو فعلاً، وكل واحد منهما على وجهين إلهي وبشري، فمن القول الإلهي قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} ((1)) ، أي: أمر بذلك، ومن القول البشري نحو: قضى الحاكم بكذا، فإن حكم الحاكم يكون بالقول، ومن الفعل البشري: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} ((2)) ، فالقضاء هو الحكم من أعلى إلى أدنى على ما قاله أهل اللغة ((3)) . 2. {قُرُونًا} : قال الراغب: " القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ} ((4)) " ((5)) . وقال ابن منظور: " الأُمَّة تأتى بعد الأَمَةِ. قيل: مدته عشر سنين وقيل: عشرون سنة. وقيل: ثلاثون. وقيل: ستون. وقيل: سبعون. وقيل: ثمانون. وقيل: القرن مائة سنة، والذي يقع عندي إن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي، أو كان فيها طبقة من أهل العلم. قلت السنون أو كثرت " ((6)) . 3. {فَتَطَاوَلَ} : يقال: طويل وطوّال، وعريض وعراض للجمع طِوالُ. وقيل: طيال باعتبار الطول. قيل: للحبل المرخي على الدابة: طَول وطوّل فرسك أي أرخ طِوَلهُ. وقيل: طوال الدهر لمدته الطويلة، وتطاول فلان " إذا اظهر الطوّل أو الطْوّل قال تعالى: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((7)) " ((8)) . 4. {ثَاوِيًا} :

_ (1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 23. (2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 200. (3) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 42. (4) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 13. (5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 417. (6) لِسَان العَرَب: مَادة (قرن) 13/ 333 –334. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45. (8) لِسَان العَرَب: مَادة (طول) 11 / 412 –413.

الثوّاء " طولُ المقام ثَوَى يَثْوي ثَواءً، وَثوَيْتُ بالمكان وثَويَتهُ ثواءً وثوِايّاً مثل مضى يمضي مَضَاء وُمضاءً وُمضّياً، والأخيرة عند سيبويه، وثويت له أطلت الإقامة به وأثْوَيتْه أنا وَثّويْته ألزمته الثّواء فيه، وثَوَى بالمكان نزل فيه، وبه سمي المنزل مثوَى، والمثوَى الموضع الذي يقام به وجمعه المثاوي " ((1)) . وقال الراغب: " الثواء الإقامة مع الاستقرار " ((2)) . 5. {تَظَاهَرَا} : " الظّهر الجارِحَةُ وجمعهُ ظهورُ رجل ُمظَهّرُ شديد الظهر. ويعبّر عن المركوب بالظهر ويستعار لمن يتقوى به ظهر عليه غلبه وظاهرته عاونته قال تعالى: {وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} ((3)) " ((4)) . قال الآلوسي: أي تعاوناً بتصديق كل واحد منهما الآخر تأييده إياه ((5)) . 6. {وَصَّلْنَا} : قال ابن منظور: " وصلت الشيء وصلاً وصلة، والوصل ضد الهجران. وقال ابن سيده: الوصل خلاف الفصل وفي التنزيل: {وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ} ، أي: وصلنا ذكر الأنبياء وأقاصيص بعضها ببعض لعلهم يعتبرون " ((6)) . وقال الراغب: " أي أكثرنا لهم القول موصولاً بعضه البعض " ((7)) . 7. {وَيَدْرَءُونَ} : " الدّرْءُ الدفع درأهُ يَدْرؤهُ دَرْءاً دَرْأ هُو درْأهُ دَفَعَهُ تداَرأ القوم تدافعوا في الخصومة " ((8)) .

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (ثوى) 14 /125. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 81. (3) سُوْرَة المّمْتَحَنَةِ: الآية 9. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 328. (5) روح المعاني: 20/91. (6) لسان العرب: مادة (وصل) 11/726. (7) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 562. (8) لسان العرب: مادة (درء) 1/71.

وقال الراغب: " الَدْرءُ الميل إلى أحد الجانبين يقال: قوّمتُ دَرْأه وَدَرَأتُ عنه َدفعتُ عن جانبه ودارَأتهُ دافعته " ((1)) . 8. {نُتَخَطَّفْ} : الخَطْفُ: الاستلابُ. وقيل: الخَطْفُ الأخذ في سرعِة استلاب خطفِه بالكسر يْخطفهُ خَطفاً بالفتح " ((2)) . وقال الراغب: " الخطف والاختطاف الاختلاس بالسرعة يقال خَطَفَ يَخْطَفَ وخَطفَ يْخِطفْ وقرئ بهما جميعاً " ((3)) . القراءات القرآنية 1. {رَحْمَةً} : قرأت رحمة في قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} بالنصب والرفع، فقد قرأ الجمهور: (رَحْمَةً) بالنصب بمعنى جعلناك رحمة وقدر: أعلمناك ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى، وأبو حيوة بالرفع: (رَحْمَةٌ) ، وقدر: ولكن هو رحمة، أو أنت رحمة ((4)) . 2. {سِحْرَانِ} : واختلف القراء في قراءة (سِحْرَانِ) ، فقرأ الجمهور: (سَاحِرَان) وقرأ عبد الله، وزيد بن علي، والكوفيين: (سِحْرَان) ((5)) . 3. {تَظَاهَرَا} : أصلها تتظاهران ثم أدغمت التاء في الظاء وحذفت النون وروعي ضمير الخطاب، ولو قريء يظاهرا بالياء حملاً على مراعاة ساحران لكان له أوجه، أو على تقديرهما ساحران تظاهرا ((6)) . 4. {أَتَّبِعْهُ} : قرأ زيد بن علي، والفرّاء بالرفع (اتَّبِعُهُ) لأنه صفة لكتاب وكتاب نكرة ((7)) . 5. {وَصَّلْنَا} :

_ (1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 168. (2) لسان العرب: مادة (خطف) 9/75. (3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 152. (4) الكَشَّاف: 3 /182. البَحْر المُحِيْط: 7/123. (5) البَحْر المُحِيْط: 7 /124. (6) البحر المحيط 7/124. معجم القراءات القرآنية: 5/27. (7) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5011.

قرأ الحسن (وَصَلْنا) بالتخفيف ((1)) . القضايا البلاغية المجاز العقلي: {أَنشَأْنَا قُرُونًا} المراد به الأمم، لأنهم يخلقون في تلك الأزمنة، فنسب إلى القرون بطريق المجاز العقلي ((2)) . {تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} جناس الاشتقاق، ويسمّى أيضاً جناساً ناقصاً ((3)) ((4)) . {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} مجاز مرسل ((5)) . قال الزَّمَخْشَرِيّ: " لما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي جعل كلّ عمل معبراً عنه باجتراح الأيدي وتقديم الأيدي وإن كان من أعمال القلوب، وهذا من الاتساع في الكلام وتصير الأقل تابعاً للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل " ((6)) ، أي: من باب إطلاق الجزء على الكل، فالمجاز المرسل بذلك تعلق بما قدمته أيديهم، والأيدي لا تقدم العمل لأن العمل لا يمسك باليد، فكان التعبير القرآني {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} دالاً على عظم الصيغة القرآنية في تصوير القضايا البلاغية.

_ (1) الكَشَّاف: 3 /184. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5011. معجم القراءات القرآنية: 5 /28. (2) صفوة التفاسير: 2 /443. (3) الجناس الناقص، هو التجنيس الناقص، أي غير التام والكامل، وذلك أن يكون نقص في إحدى الكلمتين، وذلك بأن يكون الاختلاف واقعاً في هيئة الحروف. معجم المصطلحات البلاغية: 2/108. (4) البلاغة الَقُرْآنية. د. عَبْد الله أدهم. الطبعة الثانية. القاهرة. 1990م.: ص 115. (5) المجاز المرسل: هو الكلام المستعمل في غير المعنى الذي وضع له لعلاقة غير المتشابه مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. ينظر تنبيه الوسنان إلى علم البَيَان. د. عَبْد الرَّزَّاق عَبْد الرَّحْمَن السَّعْدِي. دار الأنبار للطابعة والنشر. بغداد. 1997 م: ص 29. (6) الكَشَّاف: 3/ 184.

قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ} فالأمر خرج عن حقيقته إلى معنى التعجيز ((1)) ، وهذا من أساليب الَقُرْآن الكَرِيم البليغة أن يأمر الله تعَاَلىَ بشيء هو سبحانه وتعالى يعلم أنهم لا يقدرون عليه كقوله تعالى: {قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} ((2)) ، وهو تعالى يعلم أنهم لا يستطيعون ذلك. المعنى العام للآيات {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ} وما كنت يا محمد بجانب غربي الجبل ((3)) . وقال البقاعي " أي: الوادي من الطور الذي رأى موسى (- عليه السلام -) فيه النار، وهو مما يلي البحر منه من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرفة، ومن ناحية مصر، فناداه منه العزيز الجبار وهو ذو طوى " ((4)) . والمعنى أنك على ما أخبرتك لم تكن موجوداً وقت ذاك {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ} . قال أبو حيان: " والأمر. قيل: النبوة والحكم الذي أتاه الله موسى وقيل: الأمر أمر مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) أن يكون من أمته، وهذا التأويل يستقيم معه مما بعده من قوله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا} . وقيل: الأمر هلاك فرعون بالماء، ويحمل الغربي على اليم، وبدأ أولا بنفي شئ خاص، وهو أنه لم يحضر ومعه وقت قضاء الله لموسى الأمر، ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به، ونفي لشهادة جميع ما جرى لموسى، فكان عموماً بعد خصوص " ((5)) .

_ (1) ينظر روح المعاني: 20 /90. (2) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 50. (3) جامع البيان: 10/ 76. (4) نظم الدرر: 5/494. (5) البَحْر المُحِيْط: 7/120-121.

ويجيب الرازي ـ رَحِمَه الله ـ عن سؤال مهم ربما يخطر في البال وهو: أنه تعالى لما قال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ثبت أنه لم يكن شاهداً، لأن الشاهد لا بد أن يكون معه حاضراً، فما الفائدة إذاً من إعادة قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ} بقوله: " قال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهمَا ـ التقدير: لم تحضر الموضع، ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ويرى " ((1)) . وأرى أن ذلك قمة البلاغة في الوصف القرآني، فيزول بذلك سؤال فخر الدين الرازي، والإشكال الذي افترضه في تفسيره {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} " أي: ولكنا أنشأنا من عهد موسى إلى عهدك قروناً كثيرة، فتطاول عليهم العمر إلى أن وجد القرن الذي أنت فيه، فدرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء وأحوال موسى، وأرسلناك بما فيه سعادة البشر " ((2)) . ونحن نوافق ما أورده القرطبي في الذي ذهب إليه من أن ذكر رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) جاء على لسان كل الأنبياء " ظاهراً هذا يوجب أن يكون جرى لنبينا (- عليه السلام -) ذكر في ذلك الوقت وان الله سيبعثه، ولكن طالت المدة وغلبت القسوة فنسى القوم ذلك " ((3)) .

_ (1) مفاتيح الغيب: 12/ 257. (2) تفسير المراغي: 20/ 65. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5007.

ويشير الزملكاني في البرهان عن إشارة لطيفة في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ …} ، فيقول: " فإن مثل هذا يقال لمن جرى له ذكر. وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ} ، وهو من الشهادة على الشيء، لا أنه بمعنى الحضور، إذ قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} قد أفاده. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ، من باب {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} ((1)) ، وطول العهد منسيٍ ومؤدٍ إلى الإهمال، أي: فأهملوا وصيتنا بالإيمان بك، وهو إشارة إلى ما أوحي إليهم في التوراة من أمر نبينا (- صلى الله عليه وسلم -) " ((2)) . وفي الآية نكتة بلاغية جديرة بالالتفات إليها هي أن الصيغة القرآنية للخطاب ذكرت رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بأنه رسول صادق كصدق موسى الرسول (- عليه السلام -) باقتضاء الدلالة المفهومة بمقابلة (بجانب الغربي) برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في مكة المكرمة.

_ (1) سُوْرَة (طَه) : الآية 86. (2) البرهان الكاشف عن وجوه إعجاز القرآن: ص 76.

وقال أبو حيان في البَحْر المُحِيْط، والرازي في مفاتيح الغيب: " فإن قلت كيف يتصل قوله: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا} بهذا الكلام، ومن أي جهة يكون استدراكاً؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكاً من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قروناً كثيرة، فتطاول على أخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم. واندرست العلوم، فوجب إرسالك، فأرسلناك وكسبنّاك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة النظرة، ودلّ به على المسبب على عادة الله في اختصاره " ((1)) . {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} " أي: وما كنت مقيماً في أهل مدين إقامة موسى وشعيب حال كونك {تَتْلُوا عَلَيْهِمْ} ، أي: تقرأ على أهل مدين بطريق التعليم منهم {آيَاتِنَا} الناطقة بالقصة {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إياك وموحين إليك تلك الآيات " ((2)) . ونقل الرازي وجهين في قوله تعالى: {تَتْلُوا عَلَيْهِمْ} " الوجه الأول ـ قال مقاتل: يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ولكنا كنا مرسلين أرسلناك وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها. الوجه الثاني ـ قال الضحاك: يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب، وإنما كان غيرك، ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً " ((3)) . ونحن نرجح الوجه الأول.

_ (1) البَحْر المُحِيْط: 7 /122. وينظر مفاتيح الغيب: 12 /257. (2) تنوير الأذهان: 3 /149. (3) مفاتيح الغيب: 12 /257.

{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} " أي: كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، فكذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات " ((1)) . {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} " أي: لكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر رحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس " ((2)) . وذكر الرازي لطيفة من لطائف القرآن الكريم الكثيرة، وهي " إنه تعالى لما بين قصة موسى (- عليه السلام -) قال لرسوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ، و {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} ، و {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ، فجمع تعالى بين كل ذلك، لأن هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال العظيمة التي اتفقت لموسى (- عليه السلام -) ، إذ المراد بقوله: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} أول أمره، والمراد ناديناه وسط أمره، وهو ليلة المناجاة لما بين تعالى أنه (- عليه السلام -) لم يكن في هذه الأحوال حاضراً، بين تعالى أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال رحمة للعالمين، ثم فسر تلك الرحمة بأن قال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} " ((3)) . {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} " أي: لم يأتيهم نذير لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة " ((4)) . وفي الآية اقتضاء لرسالة محمد (- صلى الله عليه وسلم -) بتذكيره (- عليه السلام -) بإنذاره كفار قريش الذين لم يأتهم نذير ليتذكروا ذلك، وهذا من بديع الأسلوب القرآني.

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5008. (2) تنوير الأذهان: 3 /149. (3) مفاتيح الغيب: 12 / 258. (4) تنوير الأذهان: 3 /149.

{وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} قال الطبري في تأويل هذه الآية: " لولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك يا محمد إليهم، لو حلّ بهم بأسنا أو أتاهم عذابنا من قبل أن نرسلك إليهم على كفرهم بربهم واكتسابهم الآثام واجتراحهم المعاصي، ربنا هلا أرسلت إلينا رسولاً من قبل أن يحل بنا سخطك والمصيبة في هذا الموضع العذاب والنقمة " ((1)) . وذكر القرطبي أنه تعالى " خص الأيدي بالذكر في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ، لأن الغالب من الكسب إنما يقع بها " ((2)) . وأرى أن الآية دالة في عمومها على معنى المنة على الكفار من أهل مكة بإرسال رسول الله مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، إذ لو لم يرسل لهم لاحتجوا بأنهم لم يعرفوا رسلاً، وهذه بعض مواطن رحمة الله تعالى بعباده، وإقامة الحجة عليهم. {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُون َ}

_ (1) جامع البيان: 10 /79. (2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5009.

قال أبو حيان " والحق هو الرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) جاء بالكتاب المعجز الذي قطع معاذيرهم. وقيل: القرآن. {مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} أي: من قبل الكتاب المنزل جملة واحدة، وانقلاب العصا حية، وفلق البحر وغيرها من الآيات، اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد، كما قالوا: لولا أنزل عليه كنز، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم، وهذه المقالة التي قالوها هي من تعليم اليهود لقريش قالوا لهم ألاَ يأتي بآية باهرة كآيات موسى، فرد الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع من هؤلاء في آيات الرسول " ((1)) . {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} نقل الطبري عن قتادة في قوله تعالى: {قَالُوا سِحْرَانِ} : قالت ذلك أعداء الله اليهود للإنجيل والفرقان فمن قال: (ساحران) فيقول (محمد وعيسى) ((2)) . وقيل: المراد به " أن موسى ومحمد ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ تعاونا على السحر " ((3)) . وقيل: المراد به " موسى وهارون قاله مجاهد، فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة " ((4)) . والذي يبدو لي أن المراد به سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، وسيدنا مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، وذلك بدلالة قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} وهو القرآن، ومن جاء به هو سيدنا مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) . وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} هذا على قراءة (ساحران) أو على قراءة (سحران) يكون المقصود القرآن والتوراة.

_ (1) البَحْر المُحِيْط: 7 /123. (2) جامع البيان: 10 /81. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5010. (4) زَاد المَسِيْر: 6 /227.

{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي " قل يا محمد للقائلين للتوراة والإنجيل هما سحران تظاهرا أتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما لطريق الحق ولسبيل الرشاد {أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم أن هذين الكتابين سحران، وأن الحق في غيرهما " ((1)) . وذكر أبو حيان " أن تعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق متيقن أنه لا يكون ولا يمكن صدقهم، كما أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين " ((2)) . وهذا من آرائه البليغة. {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قال الآلوسي رحمه الله: " فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب أهدى منهما، وإنما عبر عنه بالاستجابة إيذاناً بأنه (- صلى الله عليه وسلم -) على كمال أمن من أمره، كان أمره (- صلى الله عليه وسلم -) لهم بالإتيان بما ذكر دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه. وقيل: المراد فإن لم يستجيبوا دعاءك إياهم إلى الإيمان بعد ما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي جاءهم، فالاستجابة على ظاهرها لأن الإيمان أمر يريد (- صلى الله عليه وسلم -) حقيقة وقوعه منهم بمعنى الإجابة ونتصدى إلى الداعي باللام " ((3)) . والذي يتوجه عندي في ذلك أنهم خوطبوا بذلك لعجزهم الكلي عن الآتيان بكتاب أهدى من الكتب التي أنزلها الله تعالى، وهذا وجه من أوجه الإعجاز القرآني. {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}

_ (1) جامع البيان: 10 / 82. (2) البَحْر المُحِيْط: 7 /124. (3) روح المعاني: 20 /93.وينظر البَحْر المُحِيْط: 7 /124.

قال الفراء: " أنزلنا عليهم الَقُرْآن يتبع بعضه بعضاً " ((1)) . وقال ابن عاشور: " للتوصيل أحوال كثيرة فهو باعتبار ألفاظه ووصلِّ بعضه ببعض، ولم ينزل جملة واحدة، وباعتبار معانيه، ووصلّ أصنافاً من الكلام وعداً ووعيداً، وترغيباً وترهيباً، وقصصاً ومواعظ، وعبراً ونصائح، يعقب بعضه بعضاً " ((2)) . ما يستفاد من النصّ بعد تحلينا للنص والوقوف على معانيه يمكن لنا أن نستخلص المعاني والعبر الآتية: أولا. استدل القرآن الكريم بقصص الأنبياء والأمم السابقة التي جاء ذكرها في القرآن بتفاصيل أحداثها على صدق الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) فيما جاء به فالقرآن الكريم تحدث عن قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) مع فرعون وقومه بتفاصيل دقيقة ربما لا يعرفها حتى أهل الكتاب أنفسهم، وتحدث كذلك عن قصص للأنبياء مع أممهم مما لا علم للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) ولا لأهل جزيرة العرب بها، مما يؤكد كون القرآن وحياً من عند الله بصدقه في الخطاب التاريخي خلافاً لمن زعم أن قصصه للعظة وليست للأخبار التاريخية. ثانياً. دلت هذه الآيات على حاجة البشرية إلى هدي النبوة في عهد سيدنا موسى (- عليه السلام -) بعد أن أهلك القرون الأولى ودرست الشرائع واحتيج إلى نبي يرشد الناس إلى صلاحهم في الدنيا والآخرة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((3)) . ثالثاً. نستدل من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} على تاريخ اليهود المريب تكذيبهم ومحاربتهم لرسل الله ـ عَلَيْهِمْ السَّلاَم ـ على مرّ العصور وقتلهم الأنبياء بغير حق.

_ (1) معاني القرآن (الفراء) : 2 /307. (2) التحرير والتنوير: 20 /142. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.

المطلب الثاني: إيمان طوائف من أهل الكتاب بدعوته (- صلى الله عليه وسلم -)

رابعاً. نستدل من سياق الآيات على الحاجة الماسة في حياتنا المعاصرة للأخذ بالوعي الإلهي المنزل على رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في الدين والدنيا والنفس والمجتمع، لأن ذلك مما يعين على إدراك الاستقرار الروحي الذي نحن جميعاً بأمس الحاجة إليه اليوم. خامساً. إن تلك المعاني القديمة تدل فيما تدل عليه أن التواصل الحضاري لا زال قائماً بين الأمم، وأن الأمم تنسى بمرور الزمن أحداثاً ما كان لها أن تنساها بدلالة قوله تعالى: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} وأن للأمم كلها على اختلافها لهم سنن ثابتة في حياتها الحضارية. المطلب الثاني: إيمان طوائف من أهل الكتاب بدعوته (- صلى الله عليه وسلم -) {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ((1)) . المناسبة نلاحظ أن النص القرآني يعرض في هذه الآيات والتي قبلها صوراً مختلفة للإيمان وللسلوك الخلقي. الصورة الأولى متمثلة في كفر كفار قريش وتكذيبهم للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) مستعينين باليهود على اختلاق الحجج الواهية وزرع الشكوك في نفوس المؤمنين كما مرّ في الآيات السابقة.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 52 - 55.

والصورة الثانية تقدم نموذجاً أخراً، وصوراً أخرى وهي استقامة الطبع وخلوص النية متمثلة في فريق من الذين أوتوا الكتاب الذين كانوا مثلاً للعباد الصالحين، فآمنوا بالنبي محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وصدقوا بالقرآن وكانوا مثالاً في الأخلاق الحميدة، كما عبر عنه المفسرون من قدماء ومحدثين فأراد الَقُرْآن الكَرِيم بامتداحه الذين آمنوا من أهل الكتاب أن يعيب على كفار قريش عدم إيمانهم بالرسول (- صلى الله عليه وسلم -) ، فكان الأولى بهم أن يصدقوه لأنهم يعرفون صدقه وسيرته الحسنة بينهم، ونلاحظ الترابط والتناسق بين هذه الآيات والتي قبلها في مدح الَقُرْآن الكَرِيم للذين آمنوا من قريش، بالمقارنة التي استخدمها الَقُرْآن. أسباب النزول ذكر في سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} عدة روايات منها ما رواه الطبري عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن علي بن رفاعة، قال: خرج عشرة رهط من أهل الكتاب، منهم أبو رفاعة ـ يعني أباه ـ إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، فآمنوا، فأوذوا، فنزلت: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} قبل القرآن ((1)) . ونقل الماوردي قولين في سبب نزول هذه الآية: أحدهما ـ نزلت في عَبْد الله بن سلام، وتميم الداري، والجارود العنبري وسلمان الفارسي، أسلموا، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها، قاله قتادة.

_ (1) جامع البيان: 10 /85.

الآخر ـ إنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي (- صلى الله عليه وسلم -) قبل مبعثه اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه، وثمانية قدموا من الشام منهم بحيرة، وغبرهة، والأرشف، وعامر، وايمن، وإدريس، ونافع، فأنزل الله فيهم هذه الآية، والتي بعدها إثر قوله: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} ((1)) . ونقل القرطبي رواية عن عروة بن الزبير أنها نزلت في النجاشي وأصحابه، ووجه باثني عشر رجلاً، فجلسوا مع النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، وكان أبو جهل وأصحابه قريباً منهم، فآمنوا بالنبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه، فقال لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، ولم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركباً أحمق منكم ولا أجهل، فقالوا: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} ، لم نأل أنفسنا رشداً. {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} ((2)) . ولا يمكن ترجيح رواية على أخرى، ولكن الذي أراه مناسباً أنها نزلت عامة فيمن كان قبل رسالة النبي (- صلى الله عليه وسلم -) على دين سماوي ولما جاء المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) آمنوا به وأوذوا في سبيل الإسلام أشد الأذى فصبروا. تحليل الألفاظ 1. {يُؤْمِنُونَ} : الإيمان ضد الكفر والإيمان بمعنى التصديق ضده التكذيب يقال: آمن به قوم وكذب به قوم.

_ (1) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /232. (2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5012.

وقال الزجاج: الإيمان إظهار الخضوع والقبول للشريعة ولما أتى به النبي (- صلى الله عليه وسلم -) واعتقاده وتصديقه بالقلب، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن مسلم غير مرتاب ولا شاك، وهو الذي يرى أداء الفرائض واجب عليه لا يدخله في ذلك ريب (1) . وقال الراغب الأصفهاني: " الإيمان يستعمل تارة اسماً للشريعة التي جاء بها محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ، ويوصف بها كل من دخل في شريعته مقراً بالله وبنبوته قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ} ((2)) . وتارة يستعمل على سبيل المدح ويراد به إذعان النفس للحق على السبيل التصديق ((3)) . 2. {مُسْلِمِينَ} : الإسلام والاستلام الانقياد والإسلام من الشريعة إظهار الشريعة والتزام ما أتى به النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وبذلك يحقن الدم. قال ثعلب: الإسلام باللسان، والإيمان بالقلب. قال الأزهري: الإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) ، وبه يحقن الدم فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان ((4)) . 3. {وَيَدْرَءُونَ} : الدَرّءُ الدَفّعْ دَرَأهُ يَدْرؤهُ دَرْءاً وَدْرأهً دَفَعهُ وتدارَأ القومُ تدافعوا في الخصومة ونحوها ودرأت بالهمز دافَعْت، وكل من دَفْعتهُ عنك فقد دَرَأْتهُ والمدارَأَةُ المخالفةُ المدافعة ((5)) . قال الراغب الأصفهاني: " الدرْءُ المَيلُ إلى أحَدِ الجانبين يقال: قوّمتُ َدرْأهُ وَدَرأتُ عنه دَفعْتُ عن جانبه " ((6)) . 4. {اللَّغْوَ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (أمن) 13/21. (2) سُوْرَة المَائِدَة: الآية 69. (3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 22. (4) لِسَان العَرَب: مَادة (سلم) 12/ 293-294. (5) لِسَان العَرَب: مَادة (درأ) 11/ 71. (6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 168.

الّلغا الّسقط وما لا ُيعتّد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع. اللّغو والّلغا والَلغوْي ما كان من الكلام غير معقود عليه. اللغو في الإيمان ما لا يعقد عليه القلب مثل قولك (لا والله) . قال الشافعي: اللغو في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه ((1)) . القضايا البلاغية في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} عبر الَقُرْآن الكَرِيم عنهم باسم الإشارة لتنبيه على أنهم جديرون بما سيذكر بعد اسم الإشارة من الأوصاف. {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي أعمالنا مستحقة لنا كناية عن ملازمتهم إياها. وأما قوله: {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} فهو تتميم على حد {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ((2)) . {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} المقصود من السلام أنه سلام المباركة المكنى بها عن الموادعة أن لا نعود لمخاطبتكم. قال الحسن: كلمة (السلام عليكم) تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين، ولعل الَقُرْآن غير مقالتهم بالتقديم والتأخير لتكون مشتملة على الخصوصية المناسبة للإعجاز، لأن تأخير الكلام الذي فيه المباركة إلى أخر الخطاب أولى ان يكون فيه براعة المقطع " ((3)) . المقابلة في قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} فإن الحسنة مقابلة للسيئة، وقد زادت بها الجملة جمالاً.

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (لغو) 15/250. (2) سُوْرَة الكَافِرُوْن: الآية 6. (3) ينظر التحرير والتنوير: 20 /146.

ونحن نرى أن القضايا البلاغية في هذه الآيات هو ما يتمثل في قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} آفاق في الكلام تقديماً وتأخيراً إذ الأصل يدرءون السيئة بالحسنة، ولكن لما كان ذكر الحسنة مقدماً بلاغياً على ذكر السيئة قدمت الحسنة وأضيف لهما باء الجر. المعنى العام للآيات {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ} قال الماوردي: " في معناها وجهان: أحدهما ـ يعني الذين آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل الَقُرْآن وهم بالقرآن يؤمنون قاله يحيى بن سلام. الثاني ـ الذين آتيناهم التوراة والإنجيل هم بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) يؤمنون، قاله ابن شجرة " ((1)) . وهاهنا يثور سؤال مهم: هل المقصود بالذين آتيناهم الكتاب اليهود وحدهم أم اليهود والنصارى؟ والذي أراه أن سياق الآيات يدلّ على أن المقصود جميع أهل الكتاب من يهود ونصارى على اختلاف مشاربهم، فكلهم يعرفون رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) كما يعرفون أبنائهم، ولكن كفر من كفر منهما حسداً وحقداً وغلاً " ((2)) . {مِنْ قَبْلِهِ} ، أي: من قبل الَقُرْآن. وقيل: من قبل مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) {هُمْ بِهِ} ، أي: بالقرآن أو بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) {يُؤْمِنُونَ} ((3)) .

_ (1) النُّكَت والعُيون: 3 /232. (2) ينظر مُحَمَّد في الكتاب المقدس. عبد الأحد داود. الطبعة الثالثة. قطر. الدار الإسلامية. 1404 هـ.: ص 115. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5013.

{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} ، أي: إذا قريء عليهم الَقُرْآن قالوا صدقنا بما فيه {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} . وقال الرازي: " قوله إنه الحق من ربنا يدلّ على التعليل يعني أن كونه حقاً من عند الله يوجب الإيمان به. وقوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} بيان لقوله: {آمَنَّا بِهِ} لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيد، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم، وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء ـ عَلَيْهم السَّلام ـ المتقدمين من البشارة بمقدمه ((1)) . وهو ما تدلّ عليه المعاني الكامنة في الآية الكريمة: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} ، وذكروا في معناها عدة وجوه، وهي: الأول ـ إنهم صبروا على الإيمان بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) قبل أن يبعث ثُمَّ على إتباعه حين بعث، قاله الضحاك. الثاني ـ يؤتون أجورهم مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذين كانوا قبل مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ومرة أخرى بإيمانهم بمُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) . الثالث ـ قال مقاتل: هؤلاء لما آمنوا بمُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران، أجر على الصفح، وأجر على الإيمان، فيروى أَنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه. ويرجح الرازي القول الأول، ويستدل على ذلك بأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا بعد البعثة، وبيّن أيضاً أنهم كانوا به مؤمنين قبل البعثة، ثُمَّ أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك " ((2)) .

_ (1) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /262. البَحْر المُحِيْط: 7 /125. (2) ينظر زَاد المَسِيْر: 6 /230. مفاتيح الغيب: 12/ 162.

والذي أرجحه هو القول الثاني بأنهم يؤتون أجرهم مرتين لإيمانهم بأنبيائهم الذين كانوا قبل النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، ومرة لإيمانهم بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) ، فعن أبي موسى الأشعري (- رضي الله عنه -) : ((أن رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله تعَاَلىَ وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثُمَّ أدبها فأحسن أدبها، ثُمَّ أعتقها وتزوجها فلها أجران " ((1)) . {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} " فيه عدة وجوه: أحدهما ـ (يدفعون) بالعمل الصالح ما تقدم من ذنب، قاله ابن شجرة. الثاني ـ يدفعون بالحلم جهل الجاهل. الثالث ـ يدفعون بالسلام قبح اللقاء، وهذا معنى قول النقاش. الرابع ـ يدفعون بالمعروف المنكر، قاله ابن جبير. الخامس ـ يدفعون بالخير الشر، قاله ابن زيد. السادس ـ يدفعون بالتوبة ما تقدم من المعصية " ((2)) . وأغلب هذه الأقوال يدلّ على مكارم الأخلاق وذات معنى متقارب ولا نجد فيها خلافاً كبيراً. يقول القرطبي: " فهذه آية مهادنة، وهي من صدر الإسلام، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد (- صلى الله عليه وسلم -) إلى يوم القيامة ((3)) .

_ (1) متفق عليه. صحيح البخاري: كتاب العلم، باب العلم 1 /229. . صحيح مسلم كتاب الإيمان باب الإيمان 241 –245. (2) النُّكَت والعُيون: 3 /232. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5014.

ومنه قوله (- صلى الله عليه وسلم -) لأبي ذر: ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) ((1)) . {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} في سبيل الخير {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} فيه ثلاثة أقوال: قال مجاهد: السبّ والأذى. وقال الضحاك: الشرك. وقال ابن زيد: ما غيرته اليهود من وصف الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) {أَعْرَضُوا عَنْهُ} وتركوه تكرماً ((2)) . والراجح أنهم إذا سمعوا ما قال المشركون من الأذى والشتم، أعرضوا عنه ولم ينشغلوا به كقوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} ((3)) . أما قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} فقال الطبرسي: " أي: لا نسأل نحن عن أعمالكم ولا تسألوا عن أعمالنا، بل كلّ منا يجازى على عمله " ((4)) . وهذه الآية نظير قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} ((5)) . {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} قال صاحب الخازن: " ليس المراد من (سلام) تحية، ولكن سلام المشاركة، والمعنى: سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم " ((6)) . {لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} " لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم " ((7)) . ما يستفاد من النصّ

_ (1) سنن الترمذي: 4 /335 وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. المستدرك على الصحيحين: 1 /121 من حديث أبي ذر قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) ينظر روح المعاني: 20 /95. (3) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 72. (4) مجمع البيان: 7 /258. (5) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 63. (6) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /436. (7) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /19.

نستدل من إيمان هؤلاء النفر من أهل الكتاب بنبوة المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) أن جميع رسالات الله ذات أصل واحد فيما يتعلق بالعقائد ومكارم الأخلاق، فهي قاطبة تدعو إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتدعو إلى فعل الخير، وتنهى عن فعل الشر، وتأمر بطاعة الله. والَقُرْآن الكَرِيم قد احتوى على تلك الأسس جميعاً من حلال وحرام، وترغيب وترهيب، ومواعظ وقصص، فجاء مصدقاً للأنبياء من قبله، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) وكذلك تضمن الَقُرْآن فضلاً عن ذلك أحكام وتشريعات جديدة تتناسب ورسالة الله الخاتمة. لما كان الَقُرْآن الكَرِيم مشتملاً على أصول كتبهم ومصدقاً لنبوة أنبيائهم ودعا الناس للإيمان بهم، فصار كفر أهل الكتاب بالنبي (- صلى الله عليه وسلم -) أو بكتابه كفراً بكتبهم ورسلهم، فإن التوراة قد بشرت بنبوته (- صلى الله عليه وسلم -) في عدة أسفار ((2)) ، وكذلك الإنجيل، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ((3)) . {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ودلت هذه الآية كذلك على صفة أخرى من صفات الأتقياء، وهي بذل المال في سبيل الله.

_ (1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 101. (2) إظهار الحق. رحمة الله الهندي. الطبعة الرابعة. دار جدة. السعودية. 1388 هـ: 12/ 145. (3) سُوْرَة الصَّفِ: الآية 6.

المطلب الثالث: الهداية البيانية والهداية التوفيقية

ودل قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} الآية، على الدعوة بالابتعاد عن اللغو، والابتعاد عن الدخول في المنافسات والجدال العقيم في مسائل أخلاقية غير مهمة والابتعاد عن مجادلة الجهلة لأن الجدل مع أهل اللغو لغو، والتركيز على كلّ ما يربط الإنسان بخالقه. نستدل من الآيات على أن الكفر برسالة بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) يدخل اليهود والنصارى في الكفر {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} ((1)) ما دامت الدعوة قد بلغتهم على اختلاف مشاربهم المذهبية. المطلب الثالث: الهداية البيانية والهداية التوفيقية {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ((2)) . المناسبة فيما مرّ من الآيات السابقات تم استعراض نموذجاً من الذين نزل عليهم الوحي، وبلغتهم دعوة المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) النموذج الأول المتمثل في كفار قريش الذين كانوا يمارون بغير حقّ، ويأتون بالحجج لا ليؤمنوا كقولهم: {لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ، فبين الَقُرْآن الكَرِيم أنهم لم يكونوا صادقين في حجتهم بقوله تعالى: {أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} ، والنموذج الآخر هو فريق من الذين أوتوا الكتاب ممن استقام طبعهم، وخلصت نيتهم، فبين الَقُرْآن الكَرِيم طريقة استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم، فقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} .

_ (1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 19. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

ثُمَّ أراد الَقُرْآن الكَرِيم في هذه الآيات أن يبين أن هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم الَقُرْآن ووراءه من قومه من جهده ليؤمن، ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام فلم يقدِّر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه، وما كان النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ليهدي من يحب، إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان ((1)) . فناسبت هذه الآية مكانها في سُوْرَة الْقَصَصِ، وناسبت أيضاً ما قبلها ليكتمل المعنى بأن الهداية التوفيقية هي بيد الله وحده، العالم بمن يستحقها، والهداية البيانية هي مهمة الرسل والأنبياء والدعاة أن يقوموا بها. أسباب النزول أخرج مسلم، عن أبي هريرة (- رضي الله عنه -) قال: قال رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) لعمه: ((قل لا إله إلا الله أشهد لك يوم القيامة. قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقرت بها عينك، فأنزل الله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} )) ((2)) . وأخرج النسائي بسند جيد عن أبي سعيد بن رافع قال: سألت ابن عمر عن هذه الآية: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أفي أبي جهل، وأبي طالب؟ قال: نعم " ((3)) . تحليل الألفاظ 1. {تَهْدِي} :

_ (1) ينظر في ظلال القرآن: 6 /360. (2) صحيح مسلم: باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت 1/55 رقم (25) . (3) السنن الكبرى (النسائي) : 6 /245. وينظر أسباب النزول (الواحدي) : ص 243. لباب النقول في أسباب النزول. عَبْد الرَّحْمَن بن أَبِي بكر بن مُحَمَّد السيوطي أبو الفضل. (849 ـ 911) . الطبعة الأولى. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه. مصر. 1964 م.: ص 598 –599.

الهُدى ضدّ الضلال وهو الرَّشادُ، والهادي من أَسماء الله سبحانه وتعالى. وقد هَداه هُدىً وهَدْياً وهِدايةً وهِديةً وهَداه للدِّين هُدىً وهَداه يَهْدِيه في الدِّين هُدىً. وقال الليث: ومعنى هَدَيْتُ لك في معنى بَيَّنْتُ لك وهُدَى الله، أَي: الصِّراط الذي دَعا إِليه هو طَرِيقُ الحقّ. وقال ابن بري: يقال هديته الطريق بمعنى عرفته. وقال ابن الأَثير: والهادي هو الذي بَصَّرَ عِبادَه وعرَّفَهم طَريقَ معرفته حتى أَقرُّوا برُبُوبِيَّته، وهَدى كل مخلوق إِلى ما لا بُدَّ له منه في بَقائه ودَوام وجُوده ((1)) . وقال الراغب الأصفهاني: " الهداية دلالة بلطف … وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه: الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مكلف من العقل، والفطنة، والمعارف الضرورية. الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء، وإنزال القرآن ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (2) . الثالث: الهداية التوفيقية التي يختص بها من اهتدى، وهو المعني بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} ((3)) . وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ((4)) .

_ (1) النهاية في غريب الحديث والأثر. مجد الدِّيْن بن أَبِي الكرم مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَبْد الكَرِيْم الشيباني الجزري. المعروف بابن الأثير أبو السعادات. (544 ـ 606) . تحقيق: طاهر أحمد الزاوي – محمود مُحَمَّد الطناحي. المكتبة العلمية. بيروت. ط1. 1399هـ – 1979م.: 5 /525. لِسَان العَرَب: مَادة (هدى) 15 /535. (2) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 73. سُوْرَة السَّجْدَةِ: الآية 24. (3) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 17. (4) سُوْرَة التَّغَابُن: الآية 11.

الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعني بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} ((1)) . وهذه الهدايات الأربع مرتبة؛ فإن من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله. أما بقية أنواع الهداية فهي لله وحده، قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، وكل هداية ذكر الله عز وجل أنه منع الظالمين والكافرين منها، فهي الهداية التوفيقية، والرابعة التي هي الثواب في الآخرة، وإدخال الجنة. قال تعالى: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((2)) وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ((3)) … إذ طالب الهدى ومتحريه هو الذي يوفقه ويهديه إلى طريق الجنة لا من يتحرى طريق الظلال والكفر ((4)) . فالهداية بذلك التي هي نقيض الضلال دالة في سياق تعريفها الاصطلاحي على كونها بنوعيها هي من هبات الله عَزَّ وجَلَّ. القضايا البلاغية 1. في الآية طباق سلب بين {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وبين {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . المعنى العام للآيات {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}

_ (1) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 5. (2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 258 وغيرها. (3) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 107. (4) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 536.

" هداية متواصلة إلى البغية لا محالة " ((1)) . وقال الزَّمَخْشَرِيّ: " لا تقدر أن تدخل في الإسلام كلّ من أحببت أن يدخل فيه من قومك ومن غيرهم لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره " ((2)) . وقال النسفي: " يخلف فعل الاهتداء فيمن يشاء " ((3)) . وقال الشيخ أحمد الصاوي: " أي فسلّم أمرك لله، فإنه أعلم بأهل السعادة والشقاء ولا يبالي بأحد " ((4)) . {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} " بالمستعدين لذلك " ((5)) . وقال البقاعي: " أي الذين هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم، فيكونوا عرقيين فيه سواء كانوا من أهل الكتاب أو العرب، أقارب كانوا أو أباعد " ((6)) . وقال الشيخ زاده: " وهذه الآية حجة لنا على المعتزلة في قولهم إن الهدى هو البيان، وقد هدى الناس جميعاً، ولكن لم يهتد البعض منهم بسوء اختيارهم، فهذه الآية دلت على أن وراء البيان ما يسمى هداية، وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة التي هي داعية اكتساب الخير والاجتناب عن الشر إذ يفعل ما يشاء بحكمته لا يسئل عما يفعل " ((7)) . ما يستفاد من النصّ 1ـ كثيراً ما يعتذر المخلّ بواجب الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه الآية، ويتشبث بظاهرها ليرفع اللوم عنه بسبب تكاسله بحجة أن الهداية بيد الله، ونفاها عن حبيبه (- صلى الله عليه وسلم -) ، وكذلك يعتذر بهذه الآية المنهمكون في الشهوات والمعاصي بحجة أن الله لم يهده، والجواب عن ذلك في شقين:

_ (1) روح المعاني: 20 /96. (2) الكَشَّاف: 3 /185. (3) مَدَارِك التَّنْزِيل: 3 /240. (4) حاشية الصاوي: 3 /221. (5) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /19. (6) نظم الدرر: 5 /501. (7) حاشية الشيخ زاده: 2 /518.

إِنْ الله جَلَّ وَعَلا قد أرسل رسله وأنبياءه ليهدون الناس إلى طريق مستقيم، طريق الهداية، وهو ما يسمى بالهداية الإرشادية، لكي لا يكون للناس حجة بعد الرسل، فمن واجب الأنبياء والرسل والدعاة أن يقوموا ما باستطاعتهم ويؤدوا واجبهم في التبليغ، وتبيين شرع الله، وهذا الواجب الذي عليهم، وليس بمقدورهم ولا من واجبهم أن يجعلوا كلّ الناس مهتدين، فهذا بيد الله وحده. إِنْ هداية الله جَلَّ وَعَلا لبعض عباده دون آخرين بما يسمى (الهداية التوفيقية) تسبقها مقدمات مستندة إلى الهدايات الأخرى وهذه المقدمات هي عبارة عن صلاحيات اكتسبها أصحابها بالهداية الأولى العامة، وأتبعها أعمال صالحة، بمعنى أن المعنيين بالهداية الخاصة أصبحوا مستحقين لنزول تلك الرحمة، إما بإنابتهم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} ((1)) ، أو بجهادهم في سبيل الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ((2)) ، أو بأعمالهم الصالحة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} ((3)) ، فإن الله لا يهدي الوقم الكافرين، ولا الظالمين، قال تعالى: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ((4)) ، وقوله: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) . فالظلم والفسوق تكون حجباً تمنع نفوذ الهداية الإلهية (التوفيقية) .

_ (1) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 7. (2) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 69. (3) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 9. (4) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 264 وغيرها. (5) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 37 وغيرها.

2 ـ اختلف المفسرون في إسلام (أبي طالب) استناداً إلى مدلولات هذه الآية {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، ومن الأحاديث الواردة في سبب نزول هذه الآية. قال قسم من المفسرين: إنه لم يسلم. وقال آخرون إنه الأسلم. قال الرازي: " وهذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ". وذكر الطباطبائي أن الروايات المستفيضة عن أهل البيت دلت على إيمانه " والمنقول من أشعاره بالإقرار على صدق النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وحقية دينه، وهو الذي آوى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) صغيراً وحماه بعد البعثة وقبل الهجرة فقد كان آثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريف " ((1)) . الذي أراه أن الثابت في الروايات الصحيحة الواردة في سبب نزول هذه الآية أنه مات على غير الإسلام، أما ما استدل به الطباطبائي من أشعار أبي طالب على إسلامه فليس بحجة، فليس فيها دلائل على إسلامه وإنما فيها دلالة على نصرته، ولم ينكره أحد، كقوله: كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما نطاعن عن حوله ونقاتل ونسلمه حتَّى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ((2))

_ (1) ينظر تفسير الميزان: 16/ 57. (2) ينظر حاشية الشيخ زاده: 2 /518.

المبحث الثاني: موقف المشركين من دعوته (- صلى الله عليه وسلم -)

المبحث الثاني: موقف المشركين من دعوته (- صلى الله عليه وسلم -) المطلب الأول: أعذار المشركين والرد عليها {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ * وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} ((1)) . المناسبة

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 57 -61.

قال البقاعي: " ولما عجب من حال قريش في طلبهم من الآيات مثل ما أوتي موسى (- عليه السلام -) ، ثُمَّ كفرهم به، وبما هو أعظم منه، وختم بِأَنَّهُ أعلم بأهل الخير وأهل الشرّ إلى الإعراض عن الأسف على أحد، والإقبال على عموم الدعاء للقريب والبعيد على حد سواء، قال دليلاً لأنهم إنما يتبعون أهوائهم عاطفاً على قولهم: {لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ((1)) ، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ((2)) ، كان الرد بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} " ((3)) . ومناسبة هذه الآيات على موقعها أنها جاءت لبيان حال قريش في كفرهم برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وكيف أن الله بين تفاهة حججهم بعد تعداد نعمه عليهم. ثُمَّ دعتهم الآيات إلى الاعتبار بإهلاك الله للأمم السابقة لأنهم تنكروا لنعم الله، وبطروا بها، فنلاحظ كيف أن الآيات جاءت متناسقة متناسبة فيما بينها، ولتعطي القارئ صورة لعناد قريش، ثُمَّ تربطه بما جرى للأمم السابقة لغرض العبرة والعظة، ولكي يستمر الاتعاض بها في كلّ زمان ومكان من خلال نبذها للدنيا، وتذكير الإنسان بأن ما عند الله خير وأبقى ((4)) . أسباب النزول

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57. (3) نظم الدرر: 5 /502. (4) ينظر مُحَمَّد والقوى المضادة. مُحَمَّد أحمد خلف الله. الطبعة الثالثة. القاهرة. 1982 م: ص 42 –143.

نقل الطبري عن ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ أن الحارث بن نوفل الذي قال {إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} . وقال أيضاً: قد علمنا أنك رسول الله، ولكن نخاف أن نتخطف من أرضنا، فقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} ((1)) . ونقل الزمخشري " عن الزجاج إجماع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمد أو صدقوه، تفلحوا وترشدوا، فقال النبي (- صلى الله عليه وسلم -) : يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول: لا اله ألا الله أشهد لك بها عند الله، قال: يا ابن أخي قد علمت أنك لصادق، ولكن أكره أن يقال: خرع عند الموت، ولولا أن تكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف. قالت قريش ـ وقيل: إن القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ـ نحن نعلم أنك على الحق، ولكن نخاف أن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة راس ـ أي: قليلون ـ يتخطفونا من أرضنا " ((2)) . وجاء في بيان نزول قول تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} والتي اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية؟ قال مجاهد: نزلت في النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وفي أبي جهل بن هشام.

_ (1) جامع البيان: 10 /89. لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /437. أسباب النزول (السيوطي) : ص 306. (2) جامع البيان: 21 /139. الكَشَّاف: 3 /185.

وعن مجاهد أنها نزلت في حمزة، وعلي بن أبي طالب، وأبي جهل ((1)) . وقيل: نزلت في عمار، وفي الوليد بن المغيرة ((2)) . والذي أرجحه جمعاً بين الروايات أنها نزلت في رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ومن معه ـ رضوان الله عليهم ـ وفي قريش ومن معهم من الكافرين أخذاً لظاهر المعنى وتوجيههاً للقراءات المختلفة فيه. تحليل الألفاظ 1. {نُتَخَطَّفْ} : " الخَطْفُ: الإِسْتِلابُ، وقيل: الخَطْفُ الأَخْذُ في سُرْعةٍ واسْتِلابٍ. خَطِفَه، بالكسر، يَخْطَفُه خَطْفاً، بالفتح، وهي اللغة الجيّدة، وفيه لغة أُخرى حكاها الأَخفش: خَطَفَ، بالفتح، يَخْطِفُ بالكسر، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف: اجّتَذَبه بسُرْعة " ((3)) . وقال الراغب الأصفهاني: " الخطف والاختطاف: الاختلاس بالسرعة، يقال: خَطِفَ يَخْطِف، وخَطَف يَخْطَف، وقرئ بهما جميعاً " ((4)) . 2. {نُمَكِّنْ} : المَكْنُ والمَكِنُ: بيضُ الضَّبَّةِ والجَرَادة ونحوهما واحدته مَكْنةٌ. ومَكِنة، بكسر الكاف. وقد مَكِنَتِ الضَّبَّةُ وهي مَكُونٌ وأَمْكَنتْ وهي مُمْكِنٌ إِذا جمعت البيض في جوفها، والمكنة التمكن، تقول العرب: إِن بني فلان لذوو مَكِنةٍ من السلطان أَي تَمكُّنٍ. قال ابن بري: لا يصح أَن يقال في المَكِنة إِنه المكان إلا على التَّوَسُّع لأن المكنّة إنما هي بمعنى التمكن.

_ (1) جامع البيان: 10 /91 –92. (2) مجمع البيان: 7 /261. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (خطف) 9 /57. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 152.

والطَّلِبَة بمعنى التَّطَلُّبِ والتَّبِعَةِ بمعنى التَّتُّبع. يقال: إِنَّ فلاناً لذو مَكِنةٍ من السلطان، فسمي موضع الطير مَكِنةً لتَمكُّنه، والمَكانةُ المَنْزلة عند الملك. وقال أبو منصور: المكان والمكانة واحد. قال ابن سيده: تَمَكَّنَ من الشيء واستمكن: ظفر ((1)) . 3. {يُجْبَى} : جَبَى الخراجَ والماء والحوضَ يَجْبَاهُ ويَجْبِيه: جَمَعَه. جَبَيْتُ الماء في الحوض وجَبَوْته والجابي: الذي يجمع الماء للإبل. والجِباوةً اسم الماء المجموع، والجبا بالفتح الحوض الذي يجبى فيه الماء ((2)) . قال الراغب الأصفهاني: جبيت الماء في الحوض: جمعته، والحوض الجامع له: جابية، وجمعها جواب. ومنه استعير: جبيت الخراج جباية على طريق الاصطفاء ((3)) . 4. {بَطِرَتْ} : البَطَرُ: النشاط، وقيل: التبختر، وقيل: قلة احتمال النِّعمة، وقيل: الدَّهَشُ والحَيْرَةُ. وقيل: البَطَرُ الطُّغيان في النِّعْمَة. وقيل: هو كراهة الشيء من غير أَن يستحق الكراهية. بَطِرَ بَطَراً، فهو بَطِرٌ. والبَطَرُ: الأَشَر، وهو شدّة المَرَح. وبَطِرَ النِّعْمَةَ بَطَراً، فهو بَطِرٌ: لم يشكرها ((4)) . وقال الراغب الأصفهاني: " البطر: دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها " ((5)) . 5. {مُهْلِكَ} : الهَلْكُ: الهلاك. هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً وهَلْكاً وهَلاكاً: مات. واستعمل أبو حنيفة الهلكة في جفوف النبات ((6)) .

_ (1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (مكن) 13 /412 –413. (2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (جبي) 14 /129 –131. (3) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 85. (4) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (بطر) 4 /68 –69. (5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 48. (6) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (هلك) 10 /503.

وقال الراغب الأصفهاني: " الهلاك على أربعة أوجه: افتقاد الشيء عنك، وهو عند غيرك موجود كقوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} ((1)) . وهلاك الشيء باستحالة وفساد، كقوله: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} ((2)) . والثالث: الموت، كقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ((3)) . بطلان الشيء من العالم وعدمه رأسا، وذلك المسمى فناء المشار إليه بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((4)) ، ويقال للعذاب والخوف والفقر: الهلاك ((5)) . 6. {الْمُحْضَرِينَ} : الحُضُورُ: نقيض المَغيب والغَيْبةِ؛ حَضَرَ يَحْضُرُ حُضُوراً وحِضارَةً؛ وقال الجوهري: حَضْرَةُ الرجل قُرْبهُ وفِناؤه. وقال الأَزهري: الحَضْرَةُ قُرْبُ الشيء، تقول: كنتُ بِحَضْرَةِ الدار، أي: بقربه ((6)) . القراءات القرآنية 1. {الْهُدَى} : قرأها بالإمالة حمزة، والكسائي، وورش ((7)) . 2. {نُتَخَطَّفْ} : قرأ المنقري: (نُتَخَطَّفُ) برفع الفاء ((8)) . 3. {يُجْبَى} : قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر: (تُجْبَى) بتاء التأنيث، وقرأ الباقون بالياء، وحجة من قرأ بتاء التأنيث (الثمرات) ، وحجة من قرأ بالياء أنه فرق بين المؤنث وفعله بـ (إليه) لأنه تأنيث غير حقيقي، ولأن معنى الثمرات الرزق، فحمل على المعنى فَذُكِّر ((9)) . 4. {ثَمَرَاتُ} :

_ (1) سُوْرَة الحَاقَّة: الآية 29. (2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 205. (3) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 176. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 542- 543. (6) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (حضر) 4 /196 –197. (7) غيث النفع: ص 317. (8) البَحْر المُحِيْط: 7 /129. (9) الحجة في علل القراءات: 5 /424. الكشف عن وجوه القراءات: 2 /175.

قرأ الجمهور (ثَمَرَاتُ) بفتحتين، وقرأ أبان بن تغلب بضمتين: (ثُمُرات) ، وهي قراءة شاذة ((1)) . 5. {فِي أُمِّهَا} : قرأ حمزة، والكسائي: (امِّها) وصلاً للإتباع ((2)) . 6. {تَعْقِلُونَ} : قرأ أبو عمرو (يعقلون) بالياء إعراضاً عن خطابهم، وخطاب لغيرهم كأنه قال: انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم أفلا يعقلون يا مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) . وقرأ الجمهور بالتاء على خطابهم وتوبيخهم في كونهم أهملوا العقل في العاقبة، ونسب هذه القراءة أبو علي في الحجة إلى أبي عمرو وحده ((3)) . 7. {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ} : قرأ طلحة: (أمَن وَعَدْنَاه) بحذف الفاء ((4)) . 8. {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : وقريء: (مَتَاعًا الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) انتصب الحياة الدنيا على الظرف ((5)) . 9. {ثُمَّ هُوَ} : بسكون الهاء (هْوَ) كما قرأها الكسائي، وأبو جعفر وصلاً ((6)) . القضايا البلاغية

_ (1) الكَشَّاف: 3 /185. البَحْر المُحِيْط: 7/126. (2) النشر في القراءات العشر: 2 /248. إتحاف فضلاء البشر: ص 343. غيث النفع: ص 317. (3) التيسير في القراءات السبع: ص 172. السبعة في القراءات: ص 495. إتحاف فضلاء البشر: ص 343. (4) البَحْر المُحِيْط: 7/127. (5) البَحْر المُحِيْط: 7 /127. (6) التيسير في القراءات السبع: ص 317. السبعة في القراءات: ص 548. إتحاف فضلاء البشر: ص 343.

1. الإسناد المجازي ((1)) (مجاز عقلي) في قوله: {حَرَمًا آمِنًا} ، لأن المراد أهل الحرم. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} المراد أهلها بدليل قوله تعالى بعد: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً} ، أي: لقد زهوا بها حيناً من الدهر وغرتهم الأماني وأبطرتهم النعمة وكان ديدنهم ديدن المترفين الرافلين في حلل السعادة، فما عتموا أن فنوا وطوتهم الأيام وبقيت آثارهم شواخص ((2)) . المعنى العام الآيات {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} " أي: نستلب من أرضنا يعني أرض مكة والحرم، وقيل: إنما قاله الحارث بن نوفل بن عبد مناف فإنه قال للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) : إنا لنعلم أن قولك الحق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك أن يتخطفنا العرب من أرضنا، ولا طاقة لنا بالعرب ((3)) ، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} . قال الماوردي: " فيه وجهان: أحدهما ـ إنه جعله آمناً بما طبع النفوس عليه من السكون إليه حتَّى لا ينفر منه الغزال والذئب والحمام والحدأة. الثاني ـ إنه جعله آمناً بالأمر الوارد من جهته بأمان من دخله ولاذ به، قاله يحيى بن سلام، يقول: كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبدون غيري أفتخافون إذا عبدتموني وأمنتم بي " ((4)) . {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}

_ (1) الإسناد المجازي: هو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل، ينظر الإيضاح للقزويني: 16. (2) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /256 –257. (3) مجمع البيان: 7 /260. (4) النُّكَت والعُيون: 3 /234.

{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ} " هو استفهام إنكار، وهذا الإنكار يقتضي توبيخاً على هذا الحال التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرماً " ((1)) . {يُجْبَى} أي يجمع ويجلب مما لا يرجونه ولا قدرة لهم على استجلابه {إِلَيْهِ} ، أي: خاصة دون غيره من جزيرة العرب ((2)) . {كُلِّ شَيْءٍ} " أي يجمع إليه ثمرات كلّ أرض وبلد " ((3)) ، وقال ابن عاشور: " عام في كلّ ذي ثمرة، وهو عموم عرفي، أي: ثمر كلّ شيء من الأشياء المثمرة المعروفة " ((4)) . {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} من عندنا، والعندية مجاز في التكريم والبركة أي: رزقاً قدرناه لهم إكراماً، فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص ((5)) . {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} قال النسفي:" متعلق بـ (من لدنا) ، أي: قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله. و (أكثرهم) جهلة لا يعلمون ذلك، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده ولما خافوا التخطف إذ أمنوا به " ((6)) . {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} قال القرطبي: " بين لمن توهم أنه لو آمن لقاتلته العرب أن الخوف في ترك الإيمان أكثر، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار" ((7)) . {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} قال الرازي: " في هذا الاستثناء وجوه:

_ (1) التحرير والتنوير: 20 /149. (2) ينظر نظم الدرر: 5 /504. (3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5016. (4) التحرير والتنوير: 20 /149. (5) ينظر التحرير والتنوير: 20 /149. (6) مَدَارِك التَّنْزِيل: 3 /241. (7) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5016.

أحدهما ـ قال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ: لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة. ثانياً ـ يحتمل أن شؤم معاصي المهلكين بقى أثرها في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً فتهلكه كما أهلكت من قبله " ((1)) . {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} " لهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم، وسائر ما يتصرف فيه، والشيء إذا لم يبق له مالك معين. قيل: إنه ميراث الله هو الباقي بعد خلقه " ((2)) . {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} قال أبو السعود: " بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة، أي: وما صحّ، وما استقام، بل يستحال في سنته المبنية على الحكم البالغة، أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الإنذار، بل كانت عادته أن لا يهلكها {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} " ((3)) . {فِي أُمِّهَا} قال الماوردي فيه ثلاثة أوجه: أحدهما ـ أوائلها، قاله الحسن. الثاني ـ في معظم القرى من سائر الدنيا، حكاه ابن عيسى. الثالث ـ إن أم القرى مكة، قاله قتادة " ((4)) . وقال الخازن: " في أكبرها وأعظمها رسولاً ينذرهم، وخصّ الأم ببعثه الرسول لأنه يبعث إلى الأشراف وهم سكان المدن. وقيل: حتَّى يبعث في أم القرى وهي مكة رسولاً يعني مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) لأنه خاتم الأنبياء " ((5)) . والذي أرجحه أن المقصود هو أم القرى بدلاله السياق.

_ (1) مفاتيح الغيب: 13 /6. (2) تفسير المراغي: 20 /76. (3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /20. (4) النُّكَت والعُيون: 3 /235. (5) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 / 347.

{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ، أي: بتكذيب الرسل والعتو في الكفر " ((1)) . وقال عطاء: " يريد بظلمهم أهلكتهم وظلمهم شركهم " ((2)) . وجاء في المحرر الوجيز " إن الله تعالى يقيم الحجة على عباده بالرسل فلا يعذب إلا بعد أن يتمادى أهل القرى في ظلم وطغيان، والظلم هنا يجمع الكفر والمعاصي والتقصير في الجهاد. وبالجملة وضع الباطل موضع الحق " ((3)) . والذي أراه أن المعنى الخاص بالظلم يشمل كفرهم بالله تعالى على ما يتضح من سياق النص. ويثور هنا سؤالان أوردها الرازي رحمه الله: السؤال الأول: لماذا ما أهلك الله الكفار قبل بعثة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى، والتكذيب بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) ؟ السؤال الثاني: لماذا ما أهلكهم بعد مبعث مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى والتكذيب بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) ؟ فأجاب عن السؤال الأول بقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} . وحاصل الجواب أنه تعالى قدم بيان أن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم، فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة. وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أنفسهم بالشرك، وأهل مكة ليسوا كذلك، فإن بعضهم قد آمن وبعضهم علم الله منهم أنهم سيؤمنون، وبعض آخرون علم الله أنهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يكون مؤمناً ((4)) .

_ (1) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /221. (2) الوسيط: 3 /404. (3) المحرر الوجيز: 12 /178. (4) ينظر مفاتيح الغيب: 13 /6.

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أجاب الله جل وعلا عن شبهتهم التي قالوا فيها تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا، فبين الله تعالى خطأهم في ذلك، لأن ما عند الله خير وأبقى وذلك لوجهين كما ذكر الرازي: أحدهما ـ إن المنافع هناك أعظم. وثانيها ـ إنها خالصة عن الشوائب، ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار بل الضار فيها أكثر. وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومنافع الدنيا منقطعة، ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً، فكيف ونصيب كل أحد بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر، فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستيفاء منافع الدنيا، ونبه عن ذلك بقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يعني: من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجاً عن حد العقل ((1)) . {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} قال المراغي في تفسير هذه الآية "أي: أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا بالجنة وجزيل نعيمها مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر فآمن بما وعدناه وأطاعنا، فاستحق أن نجزله وعدنا فهو لاقيه حتماً وصائر إليه، كمن متعناه الحياة الدنيا ونسي العمل بما واعدنا به أهل الطاعة، وآثر لذة عاجلة على لذة آجلة لا تنفذ، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله من المحضرين لعذابه واليم عقابه " ((2)) . وأرى أن المقصود بذاك الوعد بمغفرة الله تعالى ورضوانه بإقراره في دار القرار والمستقر الجنة يوم القيامة، وهو ما يوضحه المعنى العام للآيات. ما يستفاد من النصّ

_ (1) ينظر مفاتيح الغيب: 13 /7. (2) تفسير المراغي: 20 /79.

1. دل قوله تعالى: {إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} على أنهم لا ينكرون أنه الهدى، فإن أهل الجزيرة العربية بما اشتهروا به من فصاحة اللغة وحسن البيان أدركوا بفطرتهم أن الذي جاء به مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ليس من كلام البشر، ولا هو من سجع الكهان، ولا هو من السحر، ولكن ما منعهم من الإيمان به هو العصبية القبلية، والخشية من ذهاب السلطة الدينية والسياسية والإدارية عن مكة المكرمة. فقد جاء فيما يرويه ابن هشام عن ابن إسحاق أن عتبة بن ربيعه قرا عليه الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) سورة فصلت إلى أن وصل إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} ((1)) ، فأمسك عتبة بفيه وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وذلك خوفاً مما تتضمنه الآية من تهديد. ثم عاد عتبة إلى أصحابه فقالوا: ما ورائك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي إني سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فو الله ليكون لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ((2)) .

_ (1) سُوْرَة فُصِّلَتِ: الآية 13. (2) الطبقات الكبرى. مُحَمَّد بن سَعَد بن مَنِيْع الزُّهْرِي البصري (كاتب الواقدي) أبو عَبْد الله. (168 ـ 230) . قَدَّمَ لَهُ: د. إحسان عباس. دار صار بيروت 1968 م.: 5 /431. سيرة ابن هشام: 2 /131. الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث. أحمد بن الحسين البيهقي. (384 ـ 458) . تحقيق: أحمد عصام الكاتب. دار الآفاق الجديدة. بيروت. ط1. 1401 هـ.: 1 /267. تفسير القرآن العظيم: 4/ 92. فقه السيرة: ص 88.

2. دلت الآيات على أن الأمن والخوف من الله، فالله جل وعلا وحده الحافظ، والنافع والضار، والمحي والمميت، والمعز والمذل، وأنه لو اجتمعت كل قوى الأرض على أن تضر إنساناً أو مجتمعاً دخل في حمى الله لا تستطيع، ولا أن تنصر من خذله الله، فالخوف الحقيقي هو في البعد عن هوى الله، والأمن لا يكون إلا في حمى الله. قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ((1)) . فلو عادت الدول العربية والإسلامية إلى كتابها وتمعنت به لأنقذها من حيرتها أمام القوة الغاشمة (أمريكا) وتفردها بمصائر الشعوب، فقد انهار من انهار من المسلمين أمام قوة أمريكا، وقدم التنازلات تلو الأخرى لإرضائها، ولم يجرأ على مخالفتها، فعلى المسلمين أن يعلموا أن الأمن من الله لا من أمريكا والخوف من الله لا من أمريكا. 3. ودلت كذلك هذه الآيات على أن البطر والظلم من أسباب هلاك الأمم والشعوب قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} . 4. ودلت هذه الآيات كذلك على أن الأمم لا تستمر حضارياً إن عتت باقتصادها ببطران المعيشة، وتغيير نعم الله سبحانه وتعالى، لأن ذلك مشعر ببوار هذه الأمم إلى يوم القيامة.

_ (1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 38.

المطلب الثاني: مشاهد من يوم القيامة وتوبيخ المشركين على مزاعمهم

المطلب الثاني: مشاهد من يوم القيامة وتوبيخ المشركين على مزاعمهم {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ * فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} ((1)) . المناسبة بعد أن ردّ القرآن الكريم على حجج المشركين، وبيَّن تهافتها بتأكيده على أن الأمن يكون بالقرب من الله، وأن الخوف في البعد عنه، يجول النص بهم جولة أخرى بعرض مشهد من مشاهد يوم القيامة وما يحصل فيه من الإهانة والتقريع والعذاب للمشركين حين يسألهم عدة أسئلة للتوبيخ والتأنيب: السؤال الأول: {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ؟ السؤال الثاني: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} ؟ السؤال الثالث: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} ؟ فأراد القرآن الكريم من خلال هذه الآيات أن يجسد حقيقية مهمة لعباده، مفادها أن الخوف ينبغي أن يكون من الله، فهو القاهر فوق عبادة ويبطل الخوف من غيره، فما قدره الله كائن لا محالة، وما لم يقدر لم يقع أبداً. إذن علام الخوف من المرض، وعلام الخوف من الفقر، وعلامة الخوف من الموت إذا كان كلّ شي مقدر ومكتوب؟

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 62 - 67.

قال تعالى {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ((1)) . تحليل الألفاظ 1. {تَزْعُمُونَ} : الزَّعْم والزِّعم والزُّعْم ثلاث لغات القول زَعَمَ زَعْماً وزُعْماً وزِعْماً، أي: قال. وقيل: هو القول يكون حقاً ويكون باطلاً. وقال الليث: سمعت أهل العربية يقولون: إذا قيل: ذكر فلان كذا أو كذا، فإنما يقال ذلك للأمر يستيقن أنه حق، وإذا شك فيه فلم يدر لعله كذب أو باطل. قيل: زعم فلان. وقيل: الزعم الظن. وقيل: الكذب ((2)) . قال الراغب الأصفهاني: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلين به ((3)) . 2. {أَغْوَيْنَا} : غَوَى الغَيَّ الظَّلال والخيبة. غَوَى بالفتح غَيَّاً وغَوِى غِوَايَة، فعن أبي عبيد: ضلَّ ورجل غاوٍ وغَوٍ وغَوَى وغَيَّان ضَالّ وإِغْواء. قال ابن الإعرابي: الغَيّ الفساد ((4)) . قال الراغب الأصفهاني: " الغَيُّ جهل من اعتقاد فاسد " ((5)) . 3. {تَبَرَّأْنَا} : قال الراغب: برأ أصل البُرْء والبَراء والتَّبِّري مما يكره مجاوزته ولذلك. قيل: بَرَأْتُ من المرض، وبَرَأتُ من فلان، وتَبَرَّأتُ وأبْرَأتُه وأَبْرَأتُه من كذا، وبَرَأتُه، ورجل بَرِئ وقوم بُرَاء وبَرِيئُون ((6)) . 4. {فَعَمِيَتْ} :

_ (1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 175. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (زعم) 12/ 264. (3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 217. (4) لِسَان العَرَب: مَادة (غوي) 15 /140. (5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 380. (6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 38.

العمى: ذهاب البصر كله عَمِي يَعْمَى عَمَىً فهو أَعْمَى وأعْمَاي يعَامِي أعْمِياء، وتعمَى في معنى عَمِيَ. قال الليث: رجل أعْمَى وامرأة عَمْياء ولا يقع هذا النعت على العين الواحدة لأن المعنى يقع عليها جميعاً ويقال: امرأتان عُمياً ونسوة عُمياً وقوم عُمي، وتَعَامى الرجل أي أري من نفسه ذلك ((1)) . وقال الراغب: العَمَى في اقتضاء البصر والبصيرة، ويقال في الأول: أعمى، وفي الثاني أعمى وعمٍّ. وعَمِي عليه، أي: أشتبه حتى صار بالإضافة إليه كالأعمى ((2)) . 5. {الْمُفْلِحِينَ} : الفَلح والفَلاح: الفوز والنجاة والبقاء في النعيم والخير. قال الأزهري: إنما قيل لأهل الجنة مفلحون لفوزهم ببقاء الأبد ((3)) . وقال الراغب الأصفهاني: الفلاح الظفر وإدراك بغية، وذلك ضربان دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، وهو البقاء والغنى والعز، وفلاح أخروي وذلك أربعة اشياء بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل " ((4)) . القراءات القرآنية 1. {غَوَيْنَا} : قرأ أبان عن عاصم وبعض الشاميين: (غَوِينا) بكسر الواو ((5)) . 2. {يُنَادِيهِمْ} : قرأ يعقوب: (يناديهم) بضم الهاء ((6)) . 3. {فَعَمِيَتْ} : وقرأ الأعمش، وجناح بن حبيش، وأبو زرعة، وابن عمرو بن جرير بضم العين وتشديد الميم (فَعُمَّيَتْ) والمعنى أظلمت عليهم الأمور فلا يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم ((7)) . 4. {يَتَسَاءَلُونَ} :

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (عمي) 150 /95 – 99. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 361. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (فلح) 2 /547. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: 399. (5) البَحْر المُحِيْط: 7 /128. (6) غيث النفع: ص 343. (7) المحرر الوجيز: 12 /180. البَحْر المُحِيْط: 7/129.

قرأ طلحة (يسَّاءلون) بإدغام التاء في السين، أي: لا يسأل بعضهم بعضاً فيما يتحاجون به ((1)) . القضايا البلاغية أولاً. أسلوب السخرية والتهكم في قول تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ((2)) . ثانياً. تشيبه مرسل في قوله تعالى: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} ووجه الشبة في أنهم تلقوا الغواية من غيرهم فأفاد التشبيه أن المجيبين أغواهم مغوون قبلهم وهم يحسبون هذا الجواب يدفع التبعية عنهم ((3)) . ثالثاً. استعارة تصريحية ((4)) تبعية في قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} أستعير العمى لعدم الاهتداء، فهم لا يهتدون للأنباء، ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وضمن معنى الخفاء فعدي بـ‍ (على) ففيه أنواع من البلاغة الاستعارة والقلب والتضمين ((5)) . المعنى العام للآيات {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}

_ (1) البَحْر المُحِيْط: 7 /129. (2) الكَشَّاف: 3 /187. (3) التحرير والتنوير: 2 /158. (4) الاستعارة التصريحية: ما صرّح فيها بلفظ المشبه به، وذكر فيها شيء من لوازم المشبه. كقول الشاعر: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان المشبه به: المستعار منه: الدقات القائمة والقول بمعنى الدلالة. والمشبه: المستعار: الشيء الدال. والجامع بينهما: إيضاح المراد من الحياة. والقرينة: نسبة القول إلى الدقات. والتبعية منها: هي ما يكون فيها اللفظ المستعار فعلا أو اسما مشتقا أو اسما مبهما أو حرفا. ينظر شرح التلخيص: 122، 144. تنبيه الوسنان: ص 32 –33. (5) ينظر محاسن التأويل: 13/ 4719. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /366.

قال أبو حيان: " يوم يناديهم الله ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة " ((1)) . وقال الثعالبي: " الضمير المتصل بـ‍ (ينادي) لعبدة الأوثان والإشارة إلى قريش وكفار العرب " ((2)) . {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} . قال الرازي: " أين الذين ادعيتم ألهيتهم لتخلصكم؟ أو أين قولكم تقربنا إلى الله زلفى، وقد علموا أن لا اله إلا الله، فيكون ذلك زائداً في غمهم إذا خوطبوا بهذا القول " ((3)) . وقال البقاعي: " ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله {الَّذِينَ كُنتُمْ} ، أي: كوناً أنتم عريقون فيه (تزعمون) ليدفعوا عنكم أو عن أنفسهم " ((4)) . {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ} " الشياطين وأئمة الكفر ورؤوسه و (حق) ، أي: وجب عليهم القول، أي: مقتضاه ((5)) ، وهو قوله تعالى: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ((6)) . نلاحظ تكرار (الذين) : أولاً: {الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} . وثانياً: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ} . ما الغرض من ذلك؟ يجيبنا الآلوسي ـ رحمه الله ـ بقوله: " المراد بالموصول الشركاء والذين كانوا يزعمونهم شركاء من الشياطين ورؤساء الكفر وتخصيصهم بما في حيز الصلة مع شمول مضمونها الاتباع أيضاً لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب، والتعبير عنهم بذلك دون زعمهم شركاء لإخراج مثل عيسى وعزير والملائكة ـ عليهم السلام ـ لشمول الشركاء على ما سمعت له " ((7)) .

_ (1) البَحْر المُحِيْط: 7 /128. (2) الجواهر الحسان: 4 /278. (3) مفاتيح الغيب: 13/ 13. (4) نظم الدرر: 5/ 509. (5) ينظر الوسيط: 3 /405. البَحْر المُحِيْط: 7 /128. (6) سُوْرَة هُوْد: الآية 119. (7) ?????????????????????????????

{رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أي: ربنا أن هؤلاء الاتباع الذين أضللناهم أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن كذلك، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل لا القسر والإلحاد فهم كانوا مختارين حين اقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب المشحونة والزواجر بالوعد والوعيد والمواعظ ((1)) . {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} قال القرطبي: " أي: تبرأ بعضنا من بعض والشياطين يتبرؤون ممن أطاعهم والرؤساء يتبرؤون ممن قبل منهم " ((2)) كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} ((3)) . {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} قال الزمخشري معناها: " إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم " ((4)) . وقال ابن عاشور: " ابتدءوا جوابهم بتوجيه النداء إلى الله بعنوان أنه ربهم، نداء أريد منه الاستعطاف بأنه الذي خلقهم اعترافاً منهم بالعبودية وتمهيداً للتنصل من أن يكونوا هم المخترعين لدين الشرك " ((5)) {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} قال البقاعي: " وقيل: أي ثانياً للاتباع تهكماً بهم وإظهاراً للاستهانة لعجزهم الملزوم لتحسرهم وعظم تأسفهم، وعبر بصيغة المجهول إظهاراً للاستهانة بهم " ((6)) .

_ (1) ????????????????????????????????????????????????????????????? (2) ????????????????????????????????????????????? (3) ?????????????????????????????????????? (4) ?????????????????????????? (5) ?????????????????????????????????? (6) ??????????الدرر: 5 /510.

{فَدَعَوْهُمْ} قال أبو حيان:"هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن لا يجيبهم". وقال ابن عاشور: " والدعاء دعاء الاستغاثة حسب زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله في الدنيا " ((1)) . وقال الآلوسي: " لفرط الحيرة والإفلاس هناك طلب حقيقة الدعاء وقيل: دعوهم لضرورة الامتثال على أن هناك طلباً والغرض من طلب ذلك منهم تفضيحهم على رؤوس الأشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه " ((2)) . {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} قال أبو السعود: " ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة " ((3)) . {وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} ، فكثير من المفسرين زعموا أن جواب (لو) محذوف وذكروا فيه وجوهاً: أحدهما ـ قال الضحاك، ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة. ثانياً. لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أن العذاب حق. ثالثاً. ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون. رابعاً. لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. خامساً. قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذ رأوا العذاب ((4)) ، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ} ((5)) . فإن المراد به ـ والله اعلم ـ أن المشركين حينما يرون العذاب في الآخرة، وأنه واقع بهم لا محالة، وحاصل كما ذكره الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) لهم وحذرهم منه يتمنون لو أنهم كانوا مهتدين، ولات حين مناص، ولا يمكن أن يراد بالعذاب عذاب الدنيا كما قال ابن عاشور ((6)) .

_ (1) التحرير والتنوير: 20/160. (2) روح المعاني: 2 /101. (3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /22. (4) مفاتيح الغيب: 13/9. (5) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 201. (6) التحرير والتنوير: 20 /160- 161.

وذلك لأننا إذا رجعنا قليلاً إلى الآيات التي قبل هذه، فكلها تتحدث عن يوم القيامة قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، أي: يوم القيامة يناديهم ثم ما يحصل من تبرأ بين الذين أتَبَعوا والذين أَتُبِعوا {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} ، ثم يسألهم الله ليوبخهم، ويبين لهم عدم قدرة من اتخذوهم آلهةً على نصرهم. فبعد أن سقطت كل حججهم، وتبين لهم كم كانوا على ضلال ورأوا العذاب، فتمنوا لو أنهم كانوا مهتدين مع من اهتدى. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} . قال القرطبي: " أي: يقول الله لهم ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي " ((1)) . {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} . قال الماوردي: فيها وجهان: " الوجه الأول ـ الحجج، قاله مجاهد. الوجه الثاني ـ الأخبار، قاله السدي " ((2)) . وقال ابن الجوزي: " سميت أنباء لأنها أخبار يخبرها " ((3)) . {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} نقل القرطبي عدة آراء للعلماء في معناها: قال الضحاك: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحجج، لأن الله أدحض حججهم. وقال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ: {لاَ يَتَسَاءَلُونَ} لا ينطقون بحجة. وقيل: {لاَ يَتَسَاءَلُونَ} في تلك الساعة ولا يدرون ما يجيبون من هول تلك الساعة. وقال مجاهد لا يتساءلون بالأنساب. وحكى عيسى أنه لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحمل من ذنوبه شيئاً (4) . والذي أراه في ذلك هو رأي ابْن عَبَّاس لصوابه ودلالته على الحجة.

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5020. (2) النُّكَت والعُيون: 3/ 235. (3) زَاد المَسِيْر: 6/ 236. (4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5020.

{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} {فَأَمَّا مَنْ تَابَ} ، أي: من الشرك {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} جمع بين الإيمان والعمل الصالح {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} قال الآلوسي: " أي: الفائزين بالمطلوب عنده تعالى الناجين عن المهروب " ((1)) . وقد ذكر العلماء في (عسى) وجوه ذكرها الرازي: إنه من الكرام تحقيق والله اكرم الأكرمين. أن يراد ترجي التائب وطمعه كأنه قال فليطمع في الفلاح. عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة والإيمان لجواز أن لا يدوموا ((2)) . وقال الطبري: " وعسى من الله واجب " ((3)) . وابن كثير:" عسى من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضله ومنته لا محالة " (4) . وقال ابن عطية: " وهذا ظن حسن بالله تعالى يشبه فضله وكرمه واللازم من (عسى) أنها ترجيه لا واجبة، وفي كتاب الله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} ((5)) " ((6)) . وقال الثعالبي: " معنى الوجوب الوقوع " ((7)) . وذكر ابن عاشور: " {فَعَسَى} ترج لتمثيل حالهم بحال من يرجى منه الفلاح. و {أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} أشد في إثبات الفلاح ثم أن يفلح " ((8)) . وقال البقاعي: " وإنما يقطع له بالغلام وإن كان مثل ذلك في مجاري عادات الملوك قطعاً إعلاماً بأنه لا يجب عليه سبحانه شيء ليدوم حذره ويتقي قضاؤه وقدرة، فإن الكل منه " ((9)) . ما يستفاد من النصّ دلت الآيات السابقات على ما يأتي:

_ (1) روح المعاني: 20 /103. (2) مفاتيح الغيب: 13 /10. (3) جامع البيان: 10 /94. (4) تفسير القرآن العظيم: 3/ 397. (5) سُوْرَة التَّحْرِيمِ: الآية 5. (6) المحرر الوجيز: 12 /181. (7) الجواهر الحسان: 4/ 279. (8) التحرير والتنوير: 20 /164. (9) نظم الدرر: 5 /512.

أولاً. هناك في الآيات نداءان؛ النداء الأول لإثبات الألوهية لله وحده لا شريك له من خلال إخباره عز وجل عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة حيث يناديهم {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، وقوله تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} . ثانياً. النداء الثاني لإثبات النبوات من خلال قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} ، ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم وكيف كان حالكم معهم، وهذا كما يسئل العبد في قبره: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا اله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله. وأما الكافر فيقول: هاه، هاه لا أدري. ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت، لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) . ثالثاً. أجابت الآيات عن ما يتبادر من سؤال في الذهن وهو: ما حكم من تاب من المشركين ((2)) ؟ بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} . وعطف الإيمان عليها لأن المقصود حصول إقلاع عن عقائد الشرك وإحلال عقائد الإسلام محلها، ولذلك عطف عليه بقوله {وَعَمِلَ صَالِحًا} ، لأن بعض أهل الشرك كانوا شاعرين بفساد دينهم، وكان يصدهم عن تقلد شعائر الإسلام أسباب مغرية من الأعراض الزائلة التي افتتنوا بها " ((3)) . فباب التوبة إذا مفتوح للمشركين ولغيرهم بهذه الشروط: الندم بالقلب. ترك المعصية في الحال. العزم على ألا يعود إلى المعصية.

_ (1) ينظر تفسير القرآن العظيم: 3 /397. (2) ينظر التحرير والتنوير: 20/ 163. (3) التحرير والتنوير: 20 /163.

المطلب الثالث: الله وحده الخالق المتصرف العالم بمكنونات الأنفس

أن تكون التوبة خوفاً وحياءً من الله. أن يكثر الاستغفار. إعادة حقوق الناس إذا كان الأمر يتعلق بهم، لأن الله تعالى لا يتخلى عن حقوق الآخرين ((1)) . قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ((2)) . وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ((3)) . المطلب الثالث: الله وحده الخالق المتصرف العالم بمكنونات الأنفس {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4)) . المناسبة بعد أن بين جل وعلا فيما مضى من الآيات كيف تسقط في يوم القيامة من بين أيدي المشركين الكفرة أعذارهم، ويتخلى عنهم من اعتقدوا في الدنيا أنهم ينصرونهم من دون الله، فأظلمت في وجوههم الأمور وعميت عليهم الأنباء، ثم ينتزع الله تعالى من الكفرة من تاب من كفره وآمن بالله ورسله وعمل بالتقوى، فيرتجي رحمه الله وتوبته له ونعيمه المقيم في جناته، ثم يأتي قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ليخبر بها أنه يختار من بين عباده رسلاً وأنبياء، وليس لأحد من خلقه مثل ذلك ((5)) .

_ (1) ينظر التوابين. ابن قدامة المقدسي. الطبعة الأولى. بيروت، لبنان. 1988 م: ص 320. (2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 160. (3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 222. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 68 -70. (5) ينظر المحرر الوجيز: 12 / 181.

وقال ابن عاشور: " وظاهر عطفه على ما قبله أن معناه آيل إلى التفويض إلى حكمة الله تعالى في خلق قلوب متفتحة للاهتداء ولو بمراحل وقلوب غير متفتحة له، فهي قاسية صماء وأنه الذي اختار فريقاً على فريق " ((1)) . أسباب النزول قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} : اختلف المفسرون في سبب نزولها على قولين: أولاً. أنه عني بذلك قوماً من المشركين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا: هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فنزل ذلك فيهم قاله ابن شجرة ((2)) . ثانياً. وقال جماعة من المفسرين: إنها نزلت جواباً للمشركين حين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ((3)) يعني الوليد بن المغيرة من أهل مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف ((4)) . تحليل الألفاظ 1. {يَخْلُقُ} : الخالق هو الله تعالى، والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم تسبق إليه، وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سبق إليه. وقال أبو بكر الأنباري: الخلق في كلام العرب على وجهين أحدهما: الإنشاء على مثال أبدعه والآخر التقدير. وقال ابن سيده: خلق الله الشيء يخلقه خلقاً أحدثه بعد أن لم يكن ((5)) . وقال الراغب: " الخلق أصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا اقتداء " ((6)) . 2. {الْخِيَرَةُ} :

_ (1) التحرير والتنوير: 20 /164. (2) النُّكَت والعُيون: 3 /236. (3) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 31. (4) ينظر المحرر الوجيز: 12 /181. لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /439. (5) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (خلق) 10 /75. (6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 158.

قال الراغب: " الخبر الفاصل المختص بالخير يقال: ناقة خِيَار وجمل خِيَار واسْتَخَار الله العبد فَخَارَ له، أي: طلب منه الخير فأولاه، وخَابَرت فلاناً كذا فَخِرتَه. والخِيَرَة الحالة التي تحصل للمتَخَيّر والمُخْتَار نحو القِعْدة والجِلْسَة لحال القاعد والجالس " ((1)) . 3. {تُكِنُّ} : " كنت الكِنّ والكِنَّة والكِنَان: وقاء كل شيء وستره. والكِنّ البيت أيضاً والجمع أَكْنَان، وأَكِنَّه وكَنَّ الشيء يَكُنَّه كَنَّا وكُنُوناً وأَكَنَّه وكَنَّنَه ستره " ((2)) . قال الراغب: " الكِنُّ ما يحفظ فيه الشيء يقال: كَنْنَت الشيء كِنًّا جعلته في كِنٍّ، وخصّ كَنْنت بما يُستر ببيت أو ثوب وغير ذلك من الأجسام. وأَكْنَنْت بما يستر في النفس قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} ((3)) " ((4)) . القراءات القرآنية 1. {وَيَخْتَارُ} : قال القرطبي: " الوقف التام على (ويختار) ((5)) . وقال علي بن سليمان: هذا الوقف التام " ((6)) . 2. {تُكِنُّ} : وقرأ ابن محيصن بفتح التاء وضم الكاف (تكن) ((7)) . 3. {تُرْجَعُونَ} : قرأ يعقوب بفتح التاء وإسكان الراء وكسر الجيم (تَرْجِعون) ((8)) القضايا البلاغية

_ (1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 165. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (كنن) 13/ 360. (3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 235. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 459. (5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5021. (6) صفوة التفاسير: 2/ 443. (7) البَحْر المُحِيْط: 7/130. (8) إتحاف فضلاء البشر: ص 343.

أولاً. الإدماج ((1)) في قوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ} فإن هذه الآية أدمجت فيها المبالغة في المطابقة لأن انفراده سبحانه بالحمد في الآخر، وهي الوقت الذي لا يحمد فيه سواه مبالغة في وصف ذاته بالانفراد والحمد، وهذه وإن خرج الكلام مخرج المبالغة في الظاهر فالأمر فيها حقيقة في الباطن لأن أولى بالحمد في الدارين ورب الحمد والشكر والثناء الحسن في المحلين حقيقة وغيره من جميع خلقه إنما يحمد في الدنيا مجازاً وحقيقة حمده راجعه إلى ولي الحمد سبحانه (2) . ثانياً. الطباق بين (تكن ـ ويعلنون) ، وبين (الأولى ـ والآخرة) وهو من المحسنات البديعة ((3)) . المعنى العام للآيات {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} قال ابن عاشور المعنى: إن الله يخلق من يشاء من خلقه من البشر وغيرهم، ويختار من بين مخلوقاته لما يشاء مما يصلح له جنس ما منه الاختيار، ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله، وليس يرسل من اختاروه هم " ((4)) . وقيل: هو جواب لليهود إذ قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به. قال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ: يخلق ما يشاء من خلقه ويختار من يشاء لنبوته. وقال النقاش: يخلق ما يشاء من خلقه يعني محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ويختار الأنصار لدينه ((5)) .

_ (1) الإدماج: هو أن يتضمن الكلام معنيين: معنى مصرح به، ومعنى مشار إليه، ينظر الصناعتين: ص 423. (2) ينظر التحرير والتنوير: 20 /168. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /366. (3) ينظر المصدران أنفسهما. (4) التحرير والتنوير: 20/ 164. (5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5021.

وقال ابن عطية: " ويحتمل أن يريد؛ ويختار الله تعالى الأديان والشرائع وليس لهم الخيرة في أن يميلوا إلى الأصنام في العبادة. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} " ((1)) . قال الزمخشري: " والمعنى الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجود الحكمة فيها ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. وقيل: يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح وهو أعلم بصالحهم من أنفسهم " ((2)) . {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} قال الزمخشري: " أي: الله برئ من إشراكهم وما يحملهم عليه من الجرأة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار " ((3)) . {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي " ما يكنون ويخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة، ومن عداوتهم لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ونحو ذلك {وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وما يظهرونه من الأفعال الشنيعة والطعن فيه (- صلى الله عليه وسلم -) وغير ذلك، ولعله للمبالغة في خباء باطنهم لأن ما فيه مبدأ لما يكون في الظاهر من القبائح لم يقل ما يكنون كما قيل ما يعلنون " ((4)) . وذكر الرازي أن الثواب غير واجب عليه، بل هو سبحانه يعطيه فضلاً وإحساناً، فله الحمد في الآولى والآخرة، ويؤكد ذلك قول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} ((5)) . أما المعتزلة فعندهم الثواب مستحق، فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة، وأما أهل النار فما أنعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم.

_ (1) المحرر الوجيز: 12 /181. (2) الكَشَّاف: 3 /188 –189. (3) المصدر نفسه: 3 /189. (4) روح المعاني: 20 /106. (5) سُوْرَة فَاطِرِ: الآية 34.

وقيل: إنه يستحق الحمد والشكر من أهل النار. وأيضاً بما فعله بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والألطاف وسائر النعم لأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله عليهم من أن يوجب الشكر. وقال الرازي: وهذا فيه نظر لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا بالضرورة أن التوبة عن القبائح يجب على الله قبولها، وعلموا بالضرورة أن الاشتغال بالشكر الواجب عليهم يوجب على الله الثواب وهم قادرون على ذلك وعالمون بأن ذلك مما يخلصهم عن العذاب ويدخلهم في استحقاق الثواب، أفترى أن الإنسان مع العلم بذلك والقدرة عليه يترك هذه التوبة؟ كلا بل لا بد أن يتوبوا، وأن يشتغلوا بالشكر ومتى فعلوا ذلك بطل العقاب ((1)) . {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قال ابن عاشور: " له القضاء، وهو تعيين نفع أو ضر للغير وحذف المتعلق بالحكم لدلالة قوله تعالى: {فِي الآولَى وَالآخِرَةِ} عليه أي: له الحكم في الدارين. والاختصاص مستعمل في حقيقته ومجازه، لأن الحكم في الدنيا يثبت لغير الله على المجاز، وأما الحكم في الآخرة فمقصور على الله، وفي هذا إبطال لتصرف آلهة المشركين فيما يزعمونه من تصرفاتها، وإبطال لشفاعتها التي يزعمونها " ((2)) . {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قال الرازي: " إلى محل حكمه وقضائه ترجعون " ((3)) . ما يستفاد من النصّ

_ (1) ينظر مفاتيح الغيب: 13 /12. (2) التحرير والتنوير: 20 /168. (3) مفاتيح الغيب: 13/12.

أولاً. دلت الآيات على الاختيار الدال على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، فلا أحد يشاركه في اختياره، ولا فيما يفضله جل وعلا، فخلق الخلق، وجعل الأفضلية من بين خلقه للإنسان على كثير ممن خلق تفضيلاً قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ((1)) . ويهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء ذكوراً، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير ٌ} ((2)) .

_ (1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 70. (2) سُوْرَة الشُّورَى: الآيتان 49 – 50.

واختار من بين عبادة رسلاً وأنبياء، واختار منهم سيدنا محمد (- صلى الله عليه وسلم -) لختم الرسل والأنبياء وجعل رسالته خاتمة الرسالات وفضله على جميع الأنبياء والرسل قال تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ((1)) . واختار من بين الأيام يوم النحر كأفضل يوم عند الله، واختار من بين الشهور شهر رمضان، واختار من أفضل الليالي ليلة القدر، واختار يوم الجمعة كأفضل يوم من أيام الأسبوع، واختار البلد الحرام من بين الأمكنة ليكون مكاناً لبيته الحرام، واختار السموات السبع، واختار العليا منها فجعلها مستقراً للمقربين من ملائكته وأسكنها من يشاء من خلقه، فلا أحد له حق الاعتراض على ما فضل، وليس من واجبه معرفة السر في التفضيل والاختيار ((2)) .

_ (1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 55. (2) ينظر محاسن التأويل: 13/ 4722.

ثانياً. أشارت الآية إلى سنة (الاستخارة) التي علمها رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) لأصحابه الكرام، قال بعض العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك، بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ((1)) ، وفي الركعة الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ((2)) ، واختار بعض المشايخ أن يقرا في الركعة الأولى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((3)) ، وفي الركعة الثانية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ((4)) ، وكلٌ حسن، ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام. وهو ما أخرجه البخاري، والترمذي، والبيهقي من حديث جابر (- رضي الله عنه -) ((5)) .

_ (1) سُوْرَة الكافرون: الآية 1. (2) سُوْرَة الإخلاص: الآية 1. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68. (4) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 36. (5) صَحِيْح البُخَارِي: باب ما جاء في التطوع 1 /391 رقم (1109) . سنن الترمذي: 2 /345. السنن الكبرى (البيهقي) : 3/ 52.

قال: ((كان رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: إذَا هَمَّ أحَدُكُمْ بالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وأسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأسألُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فإنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أعْلَمُ، وأنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لي فِي دِيني وَمَعاشِي وَعاقِبَةِ أمْرِي، أو قال: عاجلِ أمْرِي وآجِلِهِ، فاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لي، ثُم بارِكْ لي فِيهِ، وَإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي وَمعاشِي وَعاقِبَةِ أمْرِي، أو قال: عاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ، فاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ، قال: ويُسمِّي حاجَتَهُ)) . وعن سعد بن أبي وقاص (- رضي الله عنه -) : قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((مِنْ سَعَادَةِ ابنِ آدَمَ اسْتِخَارَته الله، وَمِنْ شَقَاوَته تَرْكُهُ)) ((1)) .

_ (1) نوادر الأصول في أحاديث الرَسُوْل. مُحَمَّد بن عَلِيّ بن الحَسَن أبو عَبْد الله الحكيم الترمذي. من علماء القرن الثالث الهجري. تحقيق: د. عَبْد الرَّحْمَن عميرة. دار الجيل. بيروت. ط1. 1992 م.: 2 /107. المسند للشاشي. الهيثم بن كليب الشاشي أبو سعيد. ت 335 هـ. تحقيق: د. محفوظ الرَّحْمَن زين الله. مَكْتَبَة العُلُوْم والحكم. المدينة المنورة. ط1. 1410 هـ.: 1 /224. مجمع الزوائد: 2 /279. وقال الحافظ الهيتمي: وفيه محمد بن أبي حميد وقال ابن عدي ضعفه بين على ما يرويه وحديثه مقارب

المطلب الرابع: دلائل قدرة الله عز وجل في سورة القصص وتأكيد توبيخ المشركين على مزاعمهم

قال العلماء: ينبغي له أن يفرغ قلبه من جميع الخواطر حتى لا يكون حائلا إلى أمر من الأمور. فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه فإن الخير فيه أن شاء الله ((1)) . المطلب الرابع: دلائل قدرة الله عز وجل في سورة القصص وتأكيد توبيخ المشركين على مزاعمهم {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((2)) . المناسبة لما بين من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال بقوله: {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه ما لا يقدر عليه سواه ((3)) ، فقال لرسوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5023. الجواهر الحسان: 4 /280. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 71 - 75. (3) ينظر مفاتيح الغيب: 13 /12.

وقال البقاعي: " ولما قامت على القدرة الشاملة والعلم التام، وأنه الإله وحدوا أو ألحدوا هذه الأعلام على هذا النظام أقام دليلاً على ذلك كله بما اجتمع فيه من العلم والحكمة وتمام القدرة منبهاً على وجوب حمده مفصلاً لبعض ما يحمد عليه " ((1)) . وقال ابن عاشور: " بعد أن تم الاستدلال بما سبق من الآيات على انفراده بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك ببديع مصنوعاته، وفي ضمن هذا الاستدلال إدماج الامتنان على الناس وللتعريض بكفر المشركين جلائل نعمه " ((2)) . فنلاحظ الترابط والتلازم بين الآيات القرآنية، وهو وجه من وجوه الإعجاز القرآني. تحليل الألفاظ 1. {سَرْمَدًا} : قال ابن منظور: السَّرْمَد دوام الزمان من ليل أو نهار. قال الزجاج: السرمد الدائم ((3)) . وقال الزمخشري: " والسرمد الدائم المتصل من السرد وهو المتابعة، ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ((ثلاثة سرد وواحد فرد)) ((4)) . والميم زائدة ووزنه فعمل ((5)) . وقال قسم من العلماء أن الميم أصلية ووزنه فعلل، لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط والآخر ((6)) . 2. {تَسْكُنُونَ} :

_ (1) نظم الدرر: 20 /168. (2) التحرير والتنوير: 20 /168. (3) لِسَان العَرَب: مَادة (سرمد) 3/200. (4) لم اقف عليه في كتب الحديث. وقد رواه المفسرون ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3 /45. تفسير القرآن العظيم: 2 /356. وينظر أيضاً شرح النووي على صحيح مسلم: 11 /168. فَتْح البَاري: 2/ 315. (5) الكشاف: 3/ 189. (6) ينظر إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 / 367.

السُّكُون ضد الحركة سَكَنَ الشيء يَسْكُن سُكُوناً، إذا ذهبت حركته وأَسْكَنه هو وسَكَّنَه غيره تَسْكِيناً، وكل ما هَدَأ فقد سَكَنَ كالريح والحر والبرد ونحو ذلك. وسَكَن الرجل سَكَت. وقال أبو العباس في قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} ((1)) ، قال: إنما الساكن من الناس والبهائم، والبهائم خاصة وقال ابن الأعرابي: معناه وله ما حل في الليل والنهار ((2)) . وقال الراغب الأصفهاني: " السكون ثبوت الشيء بعد تحرك ويستعمل في الاستيطان نحو سكن فلان مكان كذا، أي: استوطن، واسم المكان مسكن، والجمع مساكن " ((3)) . 3. {وَنَزَعْنَا} : " نَزَع الشيء يَنْزَعُه نَزْعَاً فهو مَنْزُوع ونَزِيْع وانْتَزَعَه فانْتَزَعَك اقتلعه فاقتلع. وفرّق سيبويه بين نَزَع وانْتَزَع فقال: انْتَزَع اسْتَلَب ونَزَعَ: حوَّل الشيء عن موضعه، وإن على نحو الاستلاب نَزَع الأمير العامل من عمله أزاله " ((4)) . وقال ابن عاشور: " النَّزْع جذب شيء من بين ما هو مختلط به، واستعير هنا لإخراج بعض من جماعة، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} ((5)) " ((6)) . 4. {شَهِيدًا} :

_ (1) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 13. (2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (سكن) 13/ 211. (3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 242. (4) لِسَان العَرَب: مَادة (نزع) 8/ 349-351. (5) سُوْرَة مَرْيَمْ: الآية 69. (6) التحرير التنوير: 20/ 172.

الشَّهيد من أسماء الله عز وجل الأمين في شهادته. وقيل: الشهيد الذي لا يغيب عن علمه شيء. وقال ابن ميسره: الشاهد العالم الذي يبين ما علمه، والجمع أشهاد وشهود وشهيد والجمع شهداء والشهادة، خبر قاطع تقول منه: شهد الرجل على كذا، وقال أبو العباس: شهد الشاهد عند الحاكم بيَّن ما يعلمه وأظهره ((1)) . وقال الراغب: " الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة أما بالبصر وأما بالبصيرة " ((2)) . 5. {بُرْهَانَكُمْ} : " البرهان بيان للحجة، وهو فعلان مثل الرُّجْحان والثُّنْيان، وقال بعضهم: وهو مصدر بَرَه يَبَرَه إذا أبْيَّض. ورجل أَبَرَه وامرأة بَرْهَاء، وقوم بُرْه. وبَرهَرْهَة شابة بيضاء، والبُّرْهَان أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبداً لا محالة " ((3)) . وقال ابن منظور: " البرهان بيان الحجة واتضاحها " ((4)) . القراءات القرآنية 1. {أَرَأَيْتُمْ} : قرئت بثلاث قراءات: أ. بتسهيل الهمزة بين بين (نافع، وأبو جعفر، والازرق، وورش) . ب. بإبدالها ألفاً ممدودة (الازرق، وورش) . ج‍. بحذفها وليس بحذف قياسي (الكسائي) ((5)) . 2. {بِضِيَاءٍ} : قرا ابن كثير: (بِضَأء) بهمزتين، وقرأها كذلك قنبل. وروى ابن فليح، والبزي عن ابن كثير بغير همز، وهو الصواب ((6)) . 3. {جَعَلَ لَكُمْ} : قرأ بالإدغام الكبير ((7)) . القضايا البلاغية

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (شهد) 3/ 238-239. (2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 276. (3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 42- 43. (4) لِسَان العَرَب: مَادة (بره) 13/ 476. (5) الحجة في علل القراءات: 5 /425. الكشاف: 3/ 189. روح المعاني: 20/ 106. معجم القراءات القرآنية: 5/ 33. (6) الحجة في علل القراءات: 5/ 425. (7) غيث النفع: ص 317. معجم القراءات القرآنية 5/ 33

1. (المناسبة) ((1)) في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا} إلى قوله تعالى: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} ، فإنه سبحانه وتعالى لما أسند جعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة لنفسه، وهو القادر الذي جعل الشيء لا يقدر غيره على مضادته قال: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} ، لمناسبة السماع للطرف المظلم من جهة صلاحية الليل للسماع دون الإبصار لعدم نفوذ البصر في الظلمة. ولما أسند جعل النهار سرمداً إلى يوم القيامة لنفسه كأن لم يخلق فيه ليل ألبتة، قال في فاصلة هذه الآية: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} لمناسبة ما بين النهار والإبصار ((2)) .

_ (1) المناسبة: مرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي أو غير ذلك من أنواع علاقات التلازم الذهني من السبب والمسبب، والعلة والمعلول، وفائدته جعل أجزاء كلام بعضها آخذاً ببعض. معترك الأقران: 1 /57. (2) ينظر الكشاف: 3/ 369. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 369.

2. (اللف والنشر) ((1)) في قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، قال الزمخشري: " زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة: لتسكنوا في أحدها وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار، ولإرادة شكركم، وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء إيذانا بأن لا شيء أجلب الغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده " ((2)) .

_ (1) اللف والنشر: هو لف الخبرين المختلفين ثُمَّ رمي تفسيرهما جملة ثقة بأن السامع يرد إلى كلّ خيره، الكامل في اللغة والأدب، المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد النحوي، ت 285 هـ، تحقيق: مُحَمَّد أبو الفضل إبراهيم. الطبعة الرابعة. مَكْتَبَة الخانجي بالقاهرة. 1987 م.: 1 /112. (2) ينظر الكشاف: 3/189. التحرير التنوير: 20/ 171.

3. صحة المقابلات ((1) " فقد جاء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان، وجاء السكون والحركة في عجزه وهما ضدان، ومقابلة كل طرف منه بالطرف الآخر على الترتيب، وعبر سبحانه عن الحركة بلفظ الإرداف، فاستلزم الكلام ضرباً من المحاسن زائداً على المقابلة، والذي أوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل كون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة، وابتغاء الفضل حركة للمصلحة دون المفسدة، وهي اشتراك الإعانة بالقوة وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل، وسلامة الحس، ويستلزم إضاءة الطرف الذي تلك الحركة المخصوصة واقفة فيه ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب ويتقي أسباب المعاطب. والآية سيقت للاعتداد بالنعم، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه وتابعه ليتم حسن البيان، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح التي لو عدد بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها إلى ألفاظ كثيرة، فحصل بهذا الكلام بهذا السبب عدة ضروب من المحاسن، ألا تراه سبحانه جعل العلة في وجود الليل والنهار حصول منافع الإنسان حيث قال: (لتسكنوا) و (لتبتغوا) بلام التعليل، فجمعت هذه الكلمات المقابلة والتعليل الإشارة والإرداف والائتلاف وحسن النسق وحسن البيان لمجيء الكلام فيها متلاحماً آخذة أعناق بعضه ببعض ثم اخبر بالخبر الصادق أن جميع ما عدد من النعم التي هي من لفظي الإشارة والإرداف بعض رحمته حيث قال بحرف التبعيض (ومن رحمته) وكل هذا في بعض آية

_ (1) صحة المقابلات: هو عبارة عن توخي المتكلم ترتيب الكلام على ما ينبغي، فإذا أتى في صدره بأشياء قابلها في عجزه بأضدادها أو بأغيارها من المخالف أو المواقف على الترتيب بحيث يقابل الأول بالأول والثاني بالثاني ولا يحرم من ذلك شيئاً في المخالف والمواقف ومتى أخل بالترتيب كان الكلام فاسد المقابلة، ينظر نقد الشعر: ص 154. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 370.

عدتها إحدى عشرة لفظة " ((1)) . 4. التفسير ((2)) : في قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} " من هنا للسبب، أي: وبسبب رحمته إياكم جعل لكم الليل والنهار، ثُمَّ علل جعل كل واحد منها، فبدأ بعلة الأول وهو (الليل) ، وهو (لتسكنوا فيه) ، ثم بعلة الثاني وهو (ولتبتغوا من فضله) ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو (لعلكم تشكرون) ، أي: هذه الرحمة والنعمة " ((3)) . المعنى العام للآيات {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} أي (قل) يا محمد لأهل مكة (أرأيتم) اخبروني إن جعل الله عليكم الليل سرمداً بأن يسكن الشمس تحت الأرض إلى يوم القيامة، لا نهار معه، فمن إله غير الله يأتيكم بنور تطلبون فيه المعيشة، ونهار تبصرون فيه، (أفلا تسمعون) ، أي: سماع فهم وقبول، فتستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى ((4)) . {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال أبو السعود: " بإسكانها في وسط السماء، أو بتحريكها على مدار فوق الأفق، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه " ((5)) .

_ (1) ينظر إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /370 –371. (2) التفسير: هو البيان والكشف والتصريح ضد الإبهام. أنوار الربيع: 6/123. (3) البحر المحيط: 7/ 30. (4) ينظر الوسيط: 3 /406. لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /439. حاشية الصاوي: 3 /225. (5) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7/ 23. وينظر أيضاً زاد المسير: 6/ 238.

قال الزمخشري: " فإن قلت: هلا قيل: بنهار تتصرفون فيه كما قيل: بليل تسكنون فيه؟ قلت: ذكر الضياء ـ وهو ضوء الشمس ـ لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء (أفلا تسمعون) ، لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل (أفلا تبصرون) لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون " ((1)) . {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال ابن كثير في معنى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ} بكم {جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، أي: خلق هذا وهذا ((2)) . وقال الخازن: " يتعاقبان بالظلمة والضياء و {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ، أي الليل {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ، أي: بالنهار " ((3)) . {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال البيضاوي: " لكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها " ((4)) . وقال الخازن: " وقيل: إن من نعمة الله تعالى على الخلق أن جعل الليل والنهار يتعاقبان، لأن المرء في حال الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى التعب ليحصل ما يحتاج إليه، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار، ولأجله يحصل الاجتماع، فتمكن المعاملات. ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالراحة والسكون بالليل، فلا بد منهما " ((5)) . {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}

_ (1) الكشاف: 3/ 189. البحر المحيط: 7/ 130. (2) تفسير القرآن العظيم: 3/ 398. (3) لُبَاب التَأَوْيِل: 3/ 439. (4) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2/ 233. (5) لُبَاب التَأَوْيِل: 3/ 439. الفُتُوحَات الإِلَهِية: 3/ 759.

" نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر يناديهم الرب على رؤوس الأشهاد {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، أي: في دار الدنيا " ((1)) . {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي: أخرجنا من كلّ أمة رسولها الذي يشهد عليها بالتبليغ ((2)) . {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} " قال مجاهد: حجتكم بما كنتم تعبدون. وقال مقاتل: حجتكم بأن معي شريكاً " ((3)) . {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} نقل الماوردي في معناها ثلاثة أوجه: أولاً ـ العدل لله. ثانياً ـ التوحيد لله، قاله السدي. ثالثاً ـ الحجة لله، قاله ابن جبير ((4)) . {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} " أي: وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع من ألوهية غير الله والشفاعة لهم" (5) . ما يستفاد من النصّ دلت الآيات فيما دلت عليه على الإعجاز العلمي في تكوين الليل والنهار: 1. دلت الآيات على أن الله جعل ليل ونهار {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فأشارت الآية إلى أن قسم من الناس عليهم ليل يسكنون فيه، والقسم الآخر من الكرة الأرضية المواجه للشمس عليهم نهار يبتغون فيه من فضل الله، وتدور الأرض ويصبح أهل النهار عليهم ليل يسكنون فيه بعد نهار من التعب والعمل، وأهل الليل يكون عليهم نهار للعمل والابتغاء من فضل الله بعد أن أخذوا قسطاً من الراحة استعداداً لليوم التالي، ودل على أن الأرض كروية.

_ (1) تفسير القرآن العظيم: 3 /398. (2) زَاد المَسِيْر: 6 /238. (3) النُّكَت والعُيون: 3 /236. (4) المصدر نفسه: 3 /236. (5) مَدَارِك التَّنْزِيل: 3/ 344.

2. يفهم من تقديم الليل على النهار في قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} على أن النهار انما ينسلخ من الليل كما دل على ذلك قوله تعالى {وَآيَةٌ لَّهُمْ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} ((1)) ، ولقد كشف العلم الحديث أن الليل يحيط بالأرض من كل مكان، وأن الجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض، ويمثل قشرة رقيقة تشبه الجلد وإذا دارت الأرض سلخت حالة النهار الرقيقة التي كانت متكونة بسبب انعكاسات الأشعة القادمة من الشمس على الجزيئات الموجودة في الهواء مما يسبب النهار فيحدث بهذا الدوران سلخ النهار من الله ((2)) .

_ (1) سُوْرَة (يس) : الآية 37. (2) ينظر شبكة الانترنيت موقع (gogele) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، عبد المجيد الزناداني.

3. أطلق القرآن الكريم على ما تصدره الشمس من أشعة ضياء قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} ، وأطلق على ما يصدره القمر نوراً {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا} ((1)) ، فأكثر القواميس لا تفرق بين الضوء والنور، بل يعدهما البعض مرادفين لمعنى واحد، وفي الحقيقة أن هناك فرق كبير بين اللفظيين، فكما معروف أن مصادر الضوء تقسم على نوعين: مصادر مباشرة كالشمس والنجوم، ومصادر غير مباشرة كالقمر والكواكب، فهذه الأخيرة تستمد نورها من الشمس ثم تعكسه علينا، فعلى هذا فأن الأشعة التي تأتي من مصدر ضوئي مباشر تسمى (الضوء) ، والتي تأخذ من مصدر غير مباشر بـ‍ (النور) ((2)) . 4. أشارت الآيات كذلك إلى الفوائد الكثيرة التي لا تحصى لأشعة الشمس، ومنها: أ. يقول الدكتور (بنتلي) عميد كلية الطب بكلكتا أن الشمس تسبب زيادة سكان الممالك أو نقصها كما تسبب نمو المحصولات أو ضعفها ((3)) ب. وأجمع الأطباء على أن ضوء الشمس يجب أن يتخلل جميع حجرات المنزل حتى تقتل الحيوانات الذرية بل أن الأمر فوق ذلك، فكثير من المدارس في ألمانيا تعرض التلاميذ لأشعة الشمس بين فترة وأخرى لفوائدها الكبيرة لجسم الإنسان ((4)) . ج‍. وإن الشمس بها يكون البخار فيصير سحاباً فمطراً فيكون النبات والحيوان. د. أن أشعة الشمس مصدر مهم للطاقة في العصر الحديث يستخدم للإنارة، وتسيير السيارات من خلال خزن الضوء في ألواح زجاجية بلورية وتوليد الطاقة منها.

_ (1) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 5. (2) انظر شبكة الانترنيت موقع (gooele) الإعجاز العلمي في القرآن. (3) تفسير الجواهر: 13/ 58 - 64. (4) المصدر نفسه: 13/ 64.

المبحث الثالث: التوجيهات الإلهية للرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال سورة القصص

5. دل قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} . أ. على أهمية النوم لجسم الإنسان بعد ساعات العمل التي استقر فيها جميع أعضاء الجسد والتي تحتاج إلى الراحة لتبدأ نهاراً جديداً. ب. ونستدل من جعل الليل للسكون على أهمية العتمة والظلام للنائم. المبحث الثالث: التوجيهات الإلهية للرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال سُوْرَة الْقَصَصِ المطلب الأول: وعد الله الرسول بالنصر ورحمة الله على مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) بإرساله بالقرآن {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((1)) . المناسبة قال تعالى في الآيات التي سبقت هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((2)) . فقال البقاعي: " ولما قرر ذكر الآخرة التي هي المرجع وكرره وأثبت الجزاء فيها، وأن العاقبة للمتقين أتبعه ما هو في بيان ذلك كالعلة فقال مستأنفاً مقرراً مؤكداً لما تقرر في أذهانهم في إنكار الآخرة وما يقتضيه حال خروجه (- صلى الله عليه وسلم -) من مكة المشرفة من استبعاد رده إليها ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 83 -84. (3) نظم الدرر: 5/ 529.

فنلاحظ أن الَقُرْآن جعل البشارة بالآخرة في الآيات التي سبقت هذه الآيات للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وفي هذه الآية جعلت البشارة لهم في الدنيا بالتمكين في الأرض بعد أن نوهت إلى هذا التمكين في الآيات السابقات، بقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فيتبين بذلك الترابط بين الآيات، ودلالة بعضها على بعضها الآخر. أسباب النزول {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ذكر القرطبي عن مقاتل: خرج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) من الغار ليلاً مهاجراً إلى المدينة في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، فقال له جرير: إن الله يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ …} ، أي: إلى مكة ظاهراً عليها ((1)) . وفي الخازن: " قال ابن عباس إلى مكة أخرجه البخاري ((2)) عنه " ((3)) . وقال ابن كثير بعد أن أورد رواية ابن أبي حاتم عن الضحاك: " وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان جميع السورة مكية " ((4)) . ونقل القرطبي رواية عن ابن عباس بقوله: نزلت هذه الآية بالحجة ((5)) ليست مكية ولا مدنية ((6)) . والذي أراه أن هذه الآية ما دامت نزلت بالجحفة وهو (- صلى الله عليه وسلم -) متوجه إلى المدينة، وهو إليها أقرب أن تكون مدنية استناداً إلى القاعدة في المكي والمدني.

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5037 (2) صَحِيْح البُخَارِي: باب إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد: 4/ 1790 رقم (4495) . (3) لُبَاب التَأَوْيِل: 3/ 433 (4) تفسير القرآن العظيم: 3/ 403 (5) الجحفة ك موضع بين مكة والمدينة وهي ميقات أهل الشام ينظر حاشية الشيخ زاده: 3/ 524. (6) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5037.

تحليل الألفاظ 1. {فَرَضَ} : " فَرَضْت الشيء أفْرِضُه فَرْضَاً وفَرَّضُته للتكثير أوجبته " ((1)) . وقال الراغب الأصفهاني: " الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه، كفرض الحديد، وفرض الزند والقوس، والفرض كالإيجاب لكن الإيجاب يقال اعتباراً بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه. قال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} ((2)) ، أي: أوجبنا العمل بها عليك. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} ((3)) ، أي: أوجب عليك العمل به، ومنه يقال لما ألزم الحاكم من النفقة: فرض " ((4)) 2. {لَرَادُّكَ} : " الرد صرف الشيء ورجعه، والرَّدُّ مصدر رددت الشيء. ورده عن وجهه يرده رداً ومرداً وترداداً: صرفه وهو بناء للتكثير " ((5)) . وقال الراغب الأصفهاني: " الرد صرف الشيء بذاته أو بحالة من أحواله يقال: ردتته فارتد " ((6)) . وقال ابن عاشور: " الرد إرجاع الشيء إلى حاله أو مكانه " ((7)) . 3. {مَعَادٍ} : المعاد المصير والمرجع. والآخرة معاد الخلق. وقوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، يعني إلى مكة عدة للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) أن يفتحها له. وقال الفراء:" {إِلَى مَعَادٍ} حين ولدت، والمعاد هنا إلى عادتك حيث ولدت وليس من العود " ((8)) .

_ (1) لِسَان العَرَب: مَادة (فرض) 7/202. (2) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 1. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 390. (5) لِسَان العَرَب: مَادة (كثر) 3/ 172. (6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 197. (7) التحرير والتنوير: 20 /192. (8) لِسَان العَرَب: مَادة (عود) 3/ 317.

وقال الراغب: " العود الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه إما انصرافاً بالذات، أو بالقول والعزيمة. والمعاد يقال للعود وللزمان الذي يعود فيه، وقد يكون للمكان الذي يعود إليه " ((1)) . القراءات القرآنية {يُلْقَى} : قرأ حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة ((2)) ، وليس للإمالة ها هنا أي دلالة في توجيه المعنى. القضايا البلاغية قال الزمخشري: " سر التنكر ((3)) في قوله تعالى {إِلَى مَعَادٍ} قيل: المراد به مكة، ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شان، ومرجعاً له اعتداد، لغلبة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عليها وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه ((4)) . وقال ابن عاشور: " والتنكير في (معاد) للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة وموقعها بعد قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ، أي: إلى معاد أي معاد. فتنكير (معاد) أفاد أنه عظيم الشان، وترتبه على الصلة أفاد أنه لا يعطى لغيره مثله، كما أن القرآن لم يفرض على أحد مثله ((5)) . المعنى العام {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به ((6)) . وقد نقل ابن الجوزي ثلاثة أقوال في معنى قوله تعالى: {فَرَضَ عَلَيْكَ} :

_ (1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 219. (2) معجم القراءات القرآنية: 5/ 35. (3) التنكر: هو نقيض المعرفة وخلافها، وما دلّ على شيء لا يعينه. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعُلُوْم حقائق الإعجاز. تَأَلِيْف يحيى بن حمزة بن عَلِيّ العلوي اليمني (669 – 749) هـ. انتشارات طهران. 1385 ش. ق.: 2 /11. (4) الكشاف: 3/ 193-194. التحرير والتنوير: 20/ 192. (5) التحرير والتنوير: 20/ 192. (6) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /28.

أحدهما ـ فرض عليك العمل بالقرآن، قاله عطاء بن أبي رياح، وابن قتيبة. الثاني ـ أعطاك القرآن، قاله مجاهد. الثالث ـ أنزل عليك القرآن، قاله مقاتل، والفراء ((1)) . {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} نقل الماوردي فيها خمسة أوجه: أحدهما ـ إلى مكة، قاله مجاهد، والضحاك، وابن جبير، والسدي. الثاني ـ إلى بيت المقدس، قاله نعيم القارئ. الثالث ـ إلى الموت، قاله ابن عباس، وعكرمة. الرابع ـ إلى يوم القيامة، قاله الحسن. الخامس ـ إلى الجنة، قاله أبو سعيد الخدري ((2)) . وقال الشيخ زاده: إن (معاد) هاهنا بمعنى المصير والمنقلب، لا بمعنى المتبادر منه وهو المكان الذي يكون المرء مدة فيه، ثُمَّ يرجع إليه بعد أن فرق عنه، لأنه (- صلى الله عليه وسلم -) لم يكن في ذلك المقام مدة حتَّى يعود إليه ((3)) . والذي أراه هاهنا أن المقصود بالمعاد (مكة المكرمة) لأن سياق الآية، وما ورد في ذلك من الآراء يعضد الرأي القائل بذلك. {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} قال الرازي: " ووجه تعلقه بما قبله أن الله تعالى لما وعد رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) الرد إلى معاد قال: {قُلْ} للمشركين {رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} يعني: نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والاعتزاز بالإعادة إلى مكة {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} يعنيهم وما يستحقون من العقاب في معادهم ((4)) . ما يستفاد من النصّ أولاً. دلت الآية على معجزة من معجزات الَقُرْآن، وهي إخباره عن الغيب باعتبار ما سيكون. وهي البشرى بدخول مكة، وذلك في وقت كان يتم فيه استضعاف المسلمين.

_ (1) زَاد المَسِيْر: 6 /250. (2) النُّكَت والعُيون: 3 /241. (3) حاشية الشيخ زاده: 3 /524. (4) مفاتيح الغيب: 13 /23.

المطلب الثاني: عدم جواز مظاهرة الكافرين

ثانياً. يمكن أن نستدل من هذه الآية على أن النصر هو للإسلام وللقرآن، مهما كثر أعداؤهما وأنها أحد المبشرات بانتصار الإسلام والمسلمين، فالذي أنزل القرآن ونصر الإسلام والمسلمين في الجيل الأول سينصر دينه وجنده على أعداءه في كلّ زمان ومكان. ولكن النصر مشروط باتباع الهدى {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ((1)) . المطلب الثاني: عدم جواز مظاهرة الكافرين {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} ((2)) . المناسبة بعد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} ، وما عطف عليها وما تخلل بينها مما اقتضى جميعه الوعد بنصره وظهور أمره وفوزه في الدنيا والآخرة، وأنه جاء من الله إلى قوم في ضلال مبين، وأن الذي رحمه فأتاه الكتاب على غير ترقب منه لا يجعل أمره سدى، فأعقب ذلك بتحذيره من أذى مظاهرة المشركين " ((3)) . تحليل الألفاظ {ظَهِيرًا} : " استظهر به أي استعان، وظهرت عليه أعنته، وظهر عليّ أعانني وكلاهما عن ثعلب. وتظاهر فلان فلاناً عاونه، والمظاهرة المعاونة، والظهير العون الواحد والجمع في ذلك، وإنما يجمع ظهير لأن فعيلاً وفعولاً قد يستوي فيه المذكر والجمع " ((4)) . القراءات القرآنية 1. {فَلاَ تَكُونَنَّ} : قرأ ابن مسعود (فلا تجعلنَّ) ((5)) . 2. {لِلْكَافِرِينَ} : قرأ كلّ من أبي عمرو، وورش بالإمالة ((6)) . القضايا البلاغية

_ (1) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 7. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86. (3) التحرير والتنوير: 20 /195. (4) لِسَان العَرَب: مَادة (ظهر) 4/ 252. (5) مختصر شواذ القراءات: ص 113. (6) غيث النفع: ص 318.

قال الشيخ زاده: " {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} في معنى من يلقي إليك، عبر عنه بقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا} للمبالغة فإن نفي رجاء الإلقاء أبلغ من نفي الإلقاء، فكأنه قيل: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة، أي: في حال كونه رحمة، أو إلا لأجل رحمة، فيكون الاستثناء متصلاً مفرغاً، ويكون المستثنى منه أعم الأحوال أو العلل، ولا يجوز أن يكون الاستثناء باعتبار اللفظ لأنه إذا قيل: ما كنت ترجوه إلا رحمة، لزم أن يكون ـ عَلَيْه الصَلاة والسَّلام ـ راجياً أن يلقى إليه الكتاب لأجل الرحمة، وظاهر أنه ـ عَلَيْه الصَلاة والسَّلام ـ لم يكن راجياً له أصلاً " ((1)) . قوله تعالى: {يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} فيه استعارة، وذلك أن معنى إلقاء الكتاب وحيه به إليه، أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة ((2)) {فَلاَ تَكُونَنَّ} قال ابن عاشور: " فإن فعل الكون لما وقع في سياق النهي، وكان سياق النهي مثل سياق النفي، لأن النهي أخو النفي في سائر تصاريف الكلام، كان وقوع فعل الكون في سياقه مفيداً في تعميم النهي عن كلّ كون من أكوان المظاهرة للمشركين ((3)) . المعنى العام {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قال أبو حيان: " هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله، وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلق بها رجاؤه. وقيل: بل هو متعلق بقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} وأنت بحال من لا يرجو ذلك ((4)) . {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ}

_ (1) حاشية الشيخ زاده: 3/ 524. (2) التحرير والتنوير: 20 /194. (3) التحرير والتنوير: 20 / 195. (4) البَحْر المُحِيْط: 7 / 136.

قال القرطبي: " أي عوناً ومساعدة " ((1)) . وقال ابن عاشور: " تعميم النهي عن كون كلّ من أكوان المظاهرة للمشركين، والمظاهرة المعاونة، وهي مراتب أعلاها النصرة، وأدناها المصافحة والتسامح، لأن في المصافحة على المرغوب إعانة لراغبه " ((2)) . ما يستفاد من النصّ هناك معانٍ جليلة يمكن أن نستنبطها من هذه الآية، لأهميتها القصوى في هذه المرحلة الحرجة والمعقدة من حياة المسلمين، فبعد أن ابتعد المسلمون عن منهج الله وتفرقوا، تكالب الأعداء عليهم، واستلبوا حقوقهم و‘إرادتهم، نصَّبوا على كثير من البلاد الإسلامية ولاة أذناباً للأجنبي وللكافرين، فحرفوا منهج الله فقادوا شعوبهم إلى الذل والتخاذل، فأجبروا شعوبهم على تقديم المعاونة لأعداء الله، بل وحتى القتال معهم جنباً إلى جنب، فكلنا يذكر أن قسماً من الدول العربية والإسلامية قاتلت مع أمريكا في حربها الظالمة ضد العراق بفتوى باطلة أصدرها بعض علماء السلاطين. وفي أفغانستان ذلك البلد المسلم الفقير بكل شيء إلا من إيمانهم بالله جل وعلا قام قسم من ولاة المسلمين بفتح قواعده للطائرات الأمريكية الغازية للتزود بالوقود ولضرب الشعب الأفغاني المسلم، وقسم اخر قام بمعاونة الأعداء سراً عن طريق تزويده بالمعلومات الاستخبارية عن المجاهدين الأفغان. سنجعل من قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} منطلقاً للإجابة عن سؤال في غاية الأهمية، هو: ما الحكم الشرعي فيمن يعين دولة أجنبية على دولة إسلامية بما يكون سبباً في سفك دماء المسلمين أو إتلاف ديارهم وأموالهم؟

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5037. (2) التحرير والتنوير: 20/ 195.

إن ظاهر سياق الآية الكريمة {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} جاءت في سياق التوجيهات الإلهية للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) والمقصود بها أمته (- صلى الله عليه وسلم -) لأنه حاشا لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أن يظاهر الكافرين. إن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أولياء بعضهم للبعض الأخر، وحذر كلّ التحذير من موالاة أعداء الإسلام، وجعل الولاء والبراء شرط في الإيمان كما قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} ((1)) وعدَّ الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) الولاء والبراء من أوثق عرى الإيمان كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) ((2)) وهذا من دليل الكمال في آفاق النص القرآني بمعناه العام والخاص. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((3)) .

_ (1) سُوْرَة المَائِدَة: الآية 80 –81. (2) مسند الإمام أحمد: 4 /286. مجمع الزوائد: 1 /89 وقال الهيتمي: رواه أحمد، وفيه ليث بن أبي سليم ضعفه الأكثر. (3) سُوْرَة المَائِدَة: الآية 51.

فمن حارب الإسلام خفيةً أو ظاهراً منفرداً أو مع جماعة فهو عدو المسلمين، وكل من أعانه من المسلمين فهو مرتد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ((1)) ، فقد نفى الله جل وعلا الإيمان نفياً مطلقاً عن الذين يوادون من حاد الله ورسوله. وقال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} ((2)) . فالآية تكشف عن تلك النوايا الخبيثة وتحارب الجرائم التي تنال من جسم الأمة وتفتك بقوتها والولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم ونصرتهم والنصح لهم والدعاء لهم والسلام عليهم وزيارة مريضهم وتشييع ميتهم وإعانتهم والرحمة بهم. والبراءة من الكفار تكون ببغضهم ديناً، ومفارقتهم وعدم الركون إليهم والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعاً، ولما كانت موالاة الكفار تقع على شُعب متفاوتة وصور مختلفة، لذا فإن الحكم فيها ليس حكماً واحداً، فإن من هذه الشُّعب والصور ما يوجب الردة ونقض الإيمان بالله، ومنها ما هو دون ذلك من المعاصي ((3)) . الإجماع، أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تحريم معاونة الكافرين بأي شكل من أشكال المعاونة للأدلة التي سقناها فيما مضى:

_ (1) سُوْرَة المُجَادَلَةِ: الآية 22. (2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 28. (3) رسالة الولاء والبراء. عبد العزيز القحطاني. الطبعة الأولى. دار الدعوة للنشر والتوزيع. 1998 م.: ص 3 – 7.

فقد انعقدت ندوة لواء الإسلام ((1)) بدار لواء الإسلام في مساء الثلاثاء 16 من جمادى الأولى 1376 هجرية الموافق 18 من ديسمبر 1956 م بحضور مجموعة كبرى من علماء الأزهر، وهم كلّ من: أحمد حمزة، صبري عابدين، أمين عز العرب، عبد العزيز عامر، سليمان العقاد، مصطفى زيد، سليم أبو العز، مرسي عَبْد الله الصديق العماري، مُحَمَّد سيد جاد الحق، فهمي خالد مسعود، مُحَمَّد سابق، مُحَمَّد البنا، مُحَمَّد أبو زهرة مُحَمَّد توفيق عربة، مُحَمَّد علي شتا. وبدأت الندوة بمناقشة (الحكم الشرعي فيمن يعين دولة أجنبية على دولة مسلمة) فأجمعوا على تحريم أية معاونة للكافرين على المسلمين باعتبار من فعل ذلك تجري عليه أحكام المرتدين. وقد أجمع ((2)) علماء العراق المجتمعون في مقر منظمة المؤتمر الإسلامي الشعبي ببغداد في صبيحة الثلاثاء الموافق 29 رجب 1422 هجرية الموافق 16 تشرين الثاني 2001 م، وحضره كبار علماء العراق؛ على أنه لا يجوز شرعاً وبإجماع الأمة أن يكون المسلمون عوناً للكافرين تحت أية ذريعة وعلى وفق أي شعار، فلا يجوز لأي مسلم أو مؤسسة تسهيل مهمة العدوان للطاغوت الأمريكي الصهيوني على أمتنا العربية الإسلامية وعلى أية دولة من دولها أو فرد من أفرادها سواء ذلك بالتسهيلات العسكرية أو المعلومات أو فتح القواعد العسكرية أو الأجواء أو الممرات البحرية أو تقديم عون وجهد للعدوان وإن من فعل ذلك يعد خائناً ويعد ناقضاً من نواقض الإيمان العشرة، وإن جهاد الكفار ومقاومة العدوان الأمريكي الصهيوني وتحالفه الصميمي فرض على كلّ مسلم وبالأدوات والوسائل كافة، وجهاده دين وشريعة، وهذا ما قالته نصوص الشريعة وأدلتها، والتي منها:

_ (1) جريدة ندوة لواء الإسلام: ص 619 –623. (2) جريدة الرأي عدد 130.

المطلب الثالث: الدعوة إلى وحدانية الله وعدم الإشراك به شيئا

أولاً ـ قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} ((1)) . ثانياً ـ ويثبت الَقُرْآن الكَرِيم أنه لا ولاية للكافر على المسلم {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ((2)) . ثالثاً ـ كما يثبت الَقُرْآن الكَرِيم أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ((3)) . رابعاً ـ وقال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم، أدناهم يد على من سواهم)) ((4)) . المطلب الثالث: الدعوة إلى وحدانية الله وعدم الإشراك به شيئاً {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((5)) . المناسبة

_ (1) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 92. (2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 141. (3) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 71. (4) سنن ابن ماجه: 2 /895. المستدرك على الصحيحين: 2 /153 ولم يعلق الحاكم عليه. مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه. أحمد بن أَبِي بكر بن إسماعيل الكناني. (762 ـ 840) . تحقيق: مُحَمَّد المنتقى الكشناوي. دار العربية. بيروت. ط2. 1403 هـ.: 3 /134 وقال: إسناده ضعيف لضعف حنش واسمه حسين بن قيس. وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب (- رضي الله عنه -) . (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 87 - 88.

بعد أن ذكَّر الله جَلَّ وَعَلا رسوله الكريم (- صلى الله عليه وسلم -) بنعمه عليه بقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أمره الله بخمسة أشياء: أولاً ـ {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} . ثانياً ـ {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} . ثالثاً ـ {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} . رابعاً ـ {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} . خامساً ـ {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . قال البقاعي: " ولما كان التواني في النهي عن المنكر إعراضاً عن الأوامر، وإن كان المتواني مجتهداً في العمل قال مؤكداً تنبيهاً على شدة الأمر لكثرة الأعداء وتتابع الإيذاء والاعتداء (ولا يصدنك) ، أي: الكفار بمبالغتهم في الإعراض " ((1)) . أسباب النزول نقل السيوطي في الدَّرُّ المَنْثُوْرُ عن ابن المنذر عن ابن جريج (- رضي الله عنه -) قال: لما نزلت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ((2)) قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فلما نزلت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ((3)) قالت الملائكة: هلك كل نفس، فلما نزلت: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((4)) قالت الملائكة: هلك أهل السماء وأهل الأرض.

_ (1) نظم الدرر: 5/ 531. (2) سُوْرَة الرَّحْمَنِ: الآية 26. (3) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 18. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

وذكر السيوطي والآلوسي عن ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} قال: لما نزلت قيل: يا رسول الله فما بال الملائكة؟ فنزلت: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} فبين في هذه الآية فناء الملائكة والثقلين من الجن والإنس وسائر عالم الله وبريته من الطير والوحش والسباع والأنعام، وكل ذي روح أنه هالك ميت ((1)) . تحليل الألفاظ 1. {يَصُدُّنَّكَ} : الصَّدُّ: الإِعْراضُ والصُّدُوف. صَدَّ عنه يَصِدُّ ويَصُدُّ صَدّاً وصُدُوداً: أَعرض. ورجل صادٌّ من قوم صُدُّادٍ، وامرأَة صادَّةٌ من نِسوة صَوادَّ وصُدادٍ أَيضاً. ويقال: صدّه عن الأَمر يَصُدُّه صَدّاً منعه وصرفه عنه ((2)) . وقال الراغب الأصفهاني: " الصدود والصد قد يكون انصرافاً عن الشيء وامتناعاً، نحو: {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} ((3)) ، وقد يكون صرفاً ومنعاً نحو: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} ((4)) " ((5)) 2. {هَالِكٌ} : الهَلْكُ: الهلاك. قال أَبو عبيد: يقال الهَلْك والهُلْكُ؛ هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً وهَلْكاً وهَلاكاً: مات. وقال أبو بكر: قد يجوز أن يكون ماضي يهلك هلك، كعطب فاستغنى عنه، يهلك وبقيت يهلك دليلاً عليها ((6)) . وقال الراغب الأصفهاني: " الهلاك على أربعة أوجه: افتقاد الشيء عنك، وهو عند غيرك موجود كقوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} ((7)) .

_ (1) الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6 /447. روح المعاني: 20 /131. (2) لِسَان العَرَب: مَادة (صدد) 3 /245. (3) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 61. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 283. (6) لِسَان العَرَب: مَادة (هلك) 10 /503 –504. (7) سُوْرَة الحَاقَّة: الآية 29.

وهلاك الشيء باستحالة وفساد كقوله: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} ((1)) . ويقال: هلك الطعام. والثالث: الموت كقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ((2)) . والرابع: بطلان الشيء من العالم وعدمه رأساً، وذلك المسمى فناء المشار إليه بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((3)) " ((4)) . القراءات 1. {يَصُدُّنَّكَ} : قرأ يعقوب (يَصُدَّنْكَ) مجزوم النون. وقرئت (يُصِدَّنَّك) من أصده بمعنى صده وهي لغة في كلب ((5)) . 2. {تُرْجَعُونَ} : قرأ يعقوب، وعيسى: (تَرْجِعون) بفتح التاء وإسكان الراء وكسر الجيم ((6)) . القضايا البلاغية الاستعارة في قال تعالى: {يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} إلقاء الكتاب وحيه إليه، أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة ((7)) . الاستعارة: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الرجوع مستعمل في معنى أخر الكون على وجه الاستعارة، لأن حقيقة الانصراف إلى مكان قد فارقه فاستعمل في مصير الخلق، وهو البعث بعد الموت، شبه برجوع صاحب المنزل إلى منزله ووجه الشبه الاستقرار والخلود ((8)) . المجاز المرسل في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} أي: إلا إياه من ذكر بعض الكلام وإرادة الكل، وقد جرت عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة ((9)) . المعنى العام

_ (1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 205. (2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 176. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 542. (5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5038. البَحْر المُحِيْط: 7/ 137. (6) البَحْر المُحِيْط: 7 /137. (7) المحرر الوجيز: 12 /197. (8) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /369. (9) المصدر نفسه: 5 /396.

{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} قال القرطبي: " يعني أقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت نحوهم وامض لأمرك وشأنك. وقال الضحاك: وذلك حين دعوه إلى دين آبائه، أي: لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدونك عن اتباع آيات الله " ((1)) . {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} قال ابن عاشور: " هذا النهي موجه إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) في الظاهر والمقصود به إبطال الشرك وإظهار ضلال أهله إذ يزعمون أنهم معترفون بألوهية الله تعَاَلىَ، وأنهم إنما اتخذوا له شركاء وشفعاء، فبين أن الله لا إله غيره، وأن انفراده بالألوهية في نفس الأمر يقضي بطلان الإشراك في الاعتقاد ولو أضعف إشراك" (2) . {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} قال أبو السعود ـ رَحِمَه الله ـ: " هذا وما قبله للتهييج والإلهاب وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم وإظهار أن المنهي عنه في القبح والشريّة بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدروه عنه أصلاً " ((3)) . {لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ} قال الطبري: " لا معبود تصلح له العبادة إلا الله الذي كلّ شيء هالك إلا وجهه " ((4)) . {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} قال البيضاوي: " فإن ما عداه ممكن هالك في ذاته معدوم " ((5)) .

_ (1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5038. (2) التحرير والتنوير: 20 /197. (3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /28. (4) جامع البيان: 10 /119. (5) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /225.

وقال الشيخ زاده في تفسير قول البيضاوي: " فإن الممكن لما استفاد الوجود من الخارج كان الوجود له كالثوب المستعار بالنسبة إلى الفقر، فكما لا يخرج الفقير باستعارة ذلك الثوب من الغني عن كونه فقيراً في حد ذاته، فكذا الممكنات لا تخرجن عن كونها هالكة عارية عن الوجود في حد نفسها، فظهر بهذا أن كلّ ما سواه من الممكنات هالك في الحال " ((1)) . وهذه الآية من متشابه الَقُرْآن الكَرِيم وهي من الآيات التي وقف عندها المفسرون. {لَهُ الْحُكْمُ} أي " القضاء النافذ في خلقه، وقيل: الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره " ((2)) . {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} " أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم " ((3)) . ما يستفاد من النصّ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} صحيح أن هذه الآيات في ظاهرها موجه للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) لكنها تشمل كل من يتصدى للدعوة، لأن وظيفة الرسل والأنبياء هي وظيفة الدعاة تبليغ الدعوة وإرشاد الناس إلى طريق الهداية، وعلى هذا فأن المطلوب من الدعاة القيام بواجب تبليغ الدعوة إلى الناس على أحسن ما يكون التبليغ وليس عليهم مسؤولية رفض الناس لدعوتهم كما ليس عليهم إجبارهم. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} ((4)) .

_ (1) حاشية الشيخ زاده: 3 /524. (2) مجمع البيان: 7 /270. (3) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /444. (4) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 108.

ضرورة الصبر للدعاة، فالصبر من أهم عوامل نجاح الدعاة في مهماتهم لأنهم يواجهون الناس بدعوتهم التي تخالف أهواءهم وانحرافهم وغالباً ما يقابلونها بالرفض والإنكار وإيذاء الدعاة، ولهذا أمر الله رسوله الكريم (- صلى الله عليه وسلم -) بالصبر على عناد وأذى المشركين وتكذيبهم له وإصرارهم على الشرك وطعنهم بالقرآن وبث الشبهات الباطلة في طريق الدعوة، وأمره الله جل وعلا في سورة القصص إلى عدم الالتفات إلى هذه الشبه بقوله تعالى: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صبره مستجيباً لأمر الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} ((1)) . أكد في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ} على مبدأ الولاء والبراء عند الدعاة والذي سبق أن بينه في قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ} . " فالولاء هو الإسلام وأهله، والبراء من الشرك وأهله، وهكذا يكون الولاء والبراء عند الدعاة إلى الله، فولاءهم للإسلام ومعانيه ولمن يؤمن به ويدعو إليه، والبراء من كل شيء يخالف الإسلام قولاً وعملاً واعتقاداً وأشخاصاً يحملون هذه المخالفات " ((2)) . على الدعاة واجب أساسي وهو الدعوة إلى التوحيد الخالص لله جلا وعلا وحده لا شريك له والدعوة إلى تحكيم شرع الله في الأرض. وأن لا تشغله الدنيا بما فيها من زخارف وشهوات وملذات عن هذا الهدف السامي لأن المال والجاه والمنصب يفنى ولا يبقى إلا ما كان خالصاً لله جل وعلا. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

_ (1) سُوْرَة الأَحْقَافِ: الآية 37. (2) المستفاد من قصص القرآن: 2 /78.

المطلب الرابع: شخصية الرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال سورة القصص

المطلب الرابع: شخصية الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال سورة القصص لا بد لنا أن نفهم أن لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) صورة مصورة في سورة القصص كانت ذات دلالات متعددة في مبناها ومعناها من خلال تصويرها الإلهي له (- صلى الله عليه وسلم -) وللمؤمنين الذين سيقرأون القرآن الكريم وقد كان تحليلنا في هذا المطلب لهذه الصورة منصباً على إدراك التفصيلات القرآنية (الكلية والجزئية) لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال مواطن ذكره في سورة القصص، ونحن واجدون في سورة القصص إلحاحاً على تأسية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما جرى لرسل الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من قبله وخصوصاً نبي الله موسى (- عليه السلام -) الذي كانت السورة كلها تقريباً مخصصة له (- عليه السلام -) . وهذا ما نلاحظه في مثل قوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} ، فإن دلالتها الخاصة والعامة كانت على أن إخبار رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما جرى في آيات الكتاب المبين إنما هو لحكمة إلهية وسر رباني.

ثم إن تسلية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) جاءت بمعنى متجدد شمولي {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} فتوالي الأفعال (نمن، نجعلهم، نجعلهم) وإسنادها إلى الله سبحانه وتعالى مشعر بأن الخطاب موجه لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) الذي كان يوم أنزلت عليه هذه السورة مستضعفاً في الأرض مع أصحابه ـ عليهم الرضا والرضوان ـ فهو جانب يصور لنا جانباً من شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في سورة القصص، وجانباً آخر هو ما نلاحظه في قوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فهذه الآية هي حديث إخبار عن رد موسى (- عليه السلام -) إلى أمه ونجد جوانباً من تشبيه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بموسى في خروج رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إلى المدينة المنورة مهاجراً {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((1)) ، وهذا من بديع البلاغة القرآنية في تصوير الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بأجمل وأكمل الأوصاف. ونجد وحدة الرسالة في قوله تعالى مخاطباً موسى (والخطاب لمحمد) ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وهو قوله عزَّ وجلَّ فيها {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) ، وهذا يرد على اليهود الذين فرقوا بين الرسل وجعلوا إلههم مختلفاً عن إله العالمين إذ جعلوا أنفسهم شعبه المختار.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.

ونرى تشابهاً في شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في سورة القصص بينه وبين موسى - عليه السلام - في كونها رميا جميعاً بالسحر {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} ((1)) ، {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ((2)) وهو عين ما رمت به قريش رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . ونلاحظ أن ما فعله الله عزَّ وجلَّ بفرعون في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((3)) هو عين ما جازى الله به كفار قريش يوم بدر إذ ألقاهم في يم الصحراء مع جنودهم، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} ((4)) ، وهذا من عجيب الاتفاق الإلهي والله تعالى يخاطب رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) بلفظ الأمر {فَانظُرْ} للدلالة العامة في لفظ الأمر.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40. (4) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 123.

وتبدو لنا شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في سورة القصص واضحة كل الوضوح في قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ((1)) ، {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَن} ((2)) ، لأن ذلك الإخبار الإلهي يدل على صدق رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في كل ما أخبر به عن موسى (- عليه السلام -) في سورة القصص مما لم يكن موجوداً عنده وقومه ولا يعلمه في زمنه (- صلى الله عليه وسلم -) إلا اليهود من أهل الكتاب الأول. ويصدق ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ((3)) ، أما قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((4)) ، فهو دال على أن رسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) إنما كانت عامة عالمية بعد أن ينذر قومه الذين لم يأتيهم نذير ولا رسول لعلهم يتذكرون، فقال الله عزَّ وجلَّ في إرساله رسوله مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) كما أرسل موسى يوم الطور الذي لم يكن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بالطبع موجوداً يومه.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.

ثم ذكر الله عزَّ وجلَّ جانباً من منته على قريش قوم رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بقوله عز من قائل: {وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاَ فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ((1)) ، وهذه الآية موضحة لعموم السنة الإلهية وفضل الوجود النبوي في قومه، وأما قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ((2)) وهذا من بليغ كفر قريش، ثم بين الله أن مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) جاء بالحق من عنده جل جلاله، وواسى الله عزَّ وجلَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} ((3)) ، وفي هذا الخطاب الرقيق الحكيم كل الدلالة على صدق رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في دعوته وفي رغبته بإيمان عامة قومه وعامة العالم لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} ((4)) ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ((5)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 47. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50. (4) سُوْرَة سَبَأ: الآية 28. (5) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 107.

وتتضح بعض جوانب شخصيته رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بقوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ((1)) ، وفي ذلك بيان كافٍ شافٍ في أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) كان يتمنى هداية بعض من يحبهم فبين الله عزَّ وجلَّ له أن الهداية بيده وحدة تعالى. ونجد كذلك شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في إخباره تعالى له بكلام قومه من كفار قريش له في قولهم: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ((2)) وهذا من استهزائهم برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) الذي لا ريب أنه كان يؤذيه لإصرارهم من خلاله على كفرهم وينسب الله عزَّ وجلَّ نفسه لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) تكريماً فيقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} ((3)) . وهذه إضافة تعظيم وتفخيم تشعر بقدر رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ومقداره وقد تكررت هذه الإضافة في مواطن أخرى في سورة القصص.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.

ونرى كذلك أن قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} (1) يتضمن خطاب إلهي مبين لحال الكفار في سرهم ونجواهم وفي ظاهرهم وباطنهم وفي أذاهم لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أمامه ومن ورائه أما الأوامر الإلهية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} ((2)) فهي تنبيه على لسان الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) للكافرين بأنهم إنما ينعمون بفضل الله عزَّ وجلَّ وإخبار الله عزَّ وجلَّ لنبيه مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) بقصة قارون فيه أسرار وحكم إلهية منها: إن حال أغنياء الكافرين من قريش كحال قارون. إن المال سلطة زائلة وليس قوة دائمة. إن قلة الصحابة الفقراء رضوان الله عليهم فيهم البركة. إن الاغترار لا يجر إلا إلى الندم. سرعة انقلاب الناس عن تولي زمانه. الصبر على الفقر في الدنيا نجاح وظفر في الآخرة. وأسرار أخرى تتضح بقراءة الآيات الخاصة بقارون مما كان فيه مفهوم النص الموجه لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . ونلاحظ كذلك أن الله عزَّ وجلَّ بشر رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) في وقت ضعفه بقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((3)) ، فجعل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في أمن وأمان في الدنيا وفي الآخرة، أما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((4)) ، فهو قول فيه جماع شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يستنبط منه: عظمة شخصية المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 69. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 71. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

المطلب الخامس: المناسبة بين رسالة الرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ورسالة سيدنا موسى (- عليه السلام -) كما جاءت في سورة القصص

وثوق النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بربه. عظمة الدار الآخرة في الرجوع إليها. إسناد كل شيء لله سبحانه وتعالى. صحة إنزال القرآن الكريم. أهمية الرجوع لله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة. انتصار الإسلام. العودة للأرض التي أخرج منها رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . إن الهدى والضلال علمها عند الله سبحانه وتعالى. وبذلك تتضح مقومات شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وكذلك الأمر في قوله تعالى مخاطباً رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) : {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ} ((1)) ، فهي آية دالة على أن الله يصطفي من رسله من يشاء عن غير استعداد نفسي منهم كما يقول بعض الفلاسفة والعقلانيين والملاحدة الذين جعلوا الرسالة اصطفاء عقلياً فبان بذلك فضل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . وكذلك قوله تعالى لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) آمراً فإن المأمور من الله تعالى مستلزم لشرفه وفضله (تَكُونَنَّ) (لا يصدنك) (ادع) (لا تدع) فكلها أشرف خطاب لأشرف الرسل عليهم وعليه أفضل الصلاة والسلام. وبذلك كله يمكن أن تصور رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على ما أسلفنا. المطلب الخامس: المناسبة بين رسالة الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ورسالة سيدنا موسى (- عليه السلام -) كما جاءت في سُوْرَة الْقَصَصِ

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.

لقد جاءت سورة القصص في فترة نزولها المكية لتؤكد جانباً مهماً من الجوانب الإيمانية التي نبه عليها المفسرون القدماء منهم والمحدثون ألا وهو جانب المناسبة، بمعنى (التناسب الإيماني) بين الرسالة المحمدية وبين الرسالة الموسوية، ولعل مما يوضح ذلك قول رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لو كان موسى حياً ما وسعه إلا إتباعي)) ((1)) . لذلك اشتدت عناية بعض حاقدي اليهود ومبشري النصارى بتحليل سورة القصص لإثبات كونها مأخوذة من سفر الخروج وسفر تثنية الاشتراع ((2)) . وقد لاحظنا من خلال تحليلنا لسورة القصص أنها تشكل رابطاً خفياً لا يكاد ينتبه إليه أحد في العلاقة بين رسالة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ورسالة موسى (- عليه السلام -) . وهو اتحاد القضيتين في المبنى والمعنى والدلالة. ويكفي في إثبات ذلك أن المناسبة هاهنا تكمن في وجود روابط خفية في السورة بين أولها وآخرها تدلّ على ذلك، وأن هيمنة الرواية القرآنية على المرويات الإسرائيلية (المنحولة) أمر قد غدا في حكم المسلمات العلمية التي تثبت بالبراهين والأدلة ((3)) .

_ (1) مُصَنَّف ابن أبي شَيْبَة: 5 /312 من حديث جابر بن عَبْد الله والحديث حسن الإسناد. (2) ينظر الَقُرْآن والكتاب: 1 /122 و 2/ 142 و 3/225. وفيه يذكر كون سُوْرَة الْقَصَصِ مأخوذة من سفر الخروج مع إعادة صياغة (إسلامية) . (3) ينظر الإنجيل والصليب. عبد الأحد داود. الطبعة الثانية. قطر. الدار الإسلامية. 1405 هـ.: ص 57. الفارق بين الخالق والمخلوق. عَبْد الرَّحْمَن الباججي. الطبعة الأولى. بولاق. مصر. 1305 هـ: ص 145- 147.

وذلك أن الرواية التاريخية في أفاق النص القرآني تعتمد إضافة إلى قدسية مصدرها على الاستعداد الذاتي لقبولها بعد أن تشوهت كل الروايات التاريخية للقصص نفسها في العهد القديم وفي التلموذ (بنسختيه الأورشليمية والبابلية) وفي العهد الجديد بأناجيله الأربعة والرسائل التي تتلوها ((1)) . وهذا ما توصلت له أحدث الدراسات الجديدة للمؤرخين اليهود والنصارى وفق أحدث المكتشفات الأثرية في فلسطين وفي أرض الجزيرة العربية في مطلع القرن العشرين الميلادي على أيدي الرحالة والمستكشفين. وفي ذلك يذكر الدكتور رون سنوبي: " إن المقارنة بين ما ورد في أسفار التوراة (العهد القديم) وما ورد في بعض آيات وسور كتاب المسلمين المقدس ترينا أن النص الإسلامي أبتعد ابتعاداً كلياً عن التعتيم التاريخي اليهودي على حقائق حيوات أنبياء بني إسرائيل أو ما يسمى في الأدب اليهودي ـ المسيحي الأباء الأوائل (البطاركة الأول) ، وهكذا فإن قصة موسى على سبيل المثال ـ وهو كما لا يخفى أساس الوجود اليهودي ـ صيغت في أسفار العهد القديم وبخاصة سفر الخروج صياغة توحي ببدائيتها وبأنها أجترحت لموسى أفكاراً لم تكن له، أما كتاب المسلمين المقدس فأنه يصور (موسى) على أنه نبي واجب الاعتراف له بالنبوة ويصفه بأجمل وأحلى وأحسن الصفات " ((2)) . وقد تنبه لذلك كله قوم آخرون من كبار الباحثين حتَّى وإن كانت توجهاتهم علمانية ـ لا دينية ((3)) .

_ (1) ينظر الديانة اليهودية. إسرائيل شاماك. الطبعة الثانية. دار الطليعة. بيروت. 1995 م.: ص 46. مُحَمَّد في الكتاب المقدس: ص 111. (2) تراث العهد القديم. (مع معجم جغرافي للعهد القديم) . د. برنارد روب. ترجمة: جوميد ميضال. الطبعة الأولى. الدار الكاثوليكية للنشر. المطبعة الكاثوليكية. بيروت، لبنان. 1980 م.: ص 117. (3) ينظر قراءة سياسة التوراة: ص 85.

وهذا الأمر جعل بعض الباحثين من اليهود أنفسهم يتنصلون من قصة موسى - عليه السلام - بكاملها، أو يعيدون صياغتها صياغة تختلف كلّ الاختلاف عن النصّ التوارتي وفق نظريات جديدة، وذلك لما لاحظوه في النص التوراتي من كذب ودجل ((1)) . وفي ذلك يقول فرويد: " المأثور الذي يستند إلى محض تناقل شفهي لا يمكن أن يكون له ذلك الطابع اللجوج التسلطي المميز للظاهرات الدينية، بل هو قد يلقى أذناً صاغية فيقيم ويحاكم وقد ينبذ ويطرح جانباً مثله مثل أي آت من الخارج، ولن يكتب له أبداً في هذه الحال امتياز الإفلات من مقتضيات نمط التفكير المنطقي" (2) . ففرويد في هذا النص الذي يختم به تحليله للنص التوراتي الذي يسرد سيرة موسى يكَّذب كل ما ورد في التوراة عنه، ويقول كذلك: " إن واحدة من خصائص قصة موسى تفسر علة اختلاف هذه القصة عن سائر الخرافات المماثلة لها في النوع " ((3)) . وهذا الكلام السقيم اليهودي ـ النصراني تدحضه سورة القصص في أنبائها لصدق الرواية القرآنية وغلبتها وهيمنتها على الروايات الكاذبة وصولاً إلى صدق رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في رسالته.

_ (1) موسى والتوحيد: ص 98. (2) المصدر نفسه: ص 141. (3) المصدر نفسه: ص 17.

فقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1)) جاء فيها النصّ مفتوح المعنى لاحتمال أن يفهم من خصوصية لآيات الكتاب المنزل على موسى - عليه السلام -، أو على مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) وهذا من إعجاز الأسلوب القرآني وقوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ((2)) يدلّ في اختصاص التلاوة برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على أنه إنما أريد له التسلية عن مواقف فراعنة قريش من كفارها معه - عليه السلام -)) وكون تلك المواقف سيكون عاقبتها الإلهية عاقبة فرعون. وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} ((3)) يحتمل الوارثين وراثة قوم موسى ووراثة أصحاب رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) للأرض، وهو ما تحقق بعد فتح مكة لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فكانت المناسبة ظاهرة بين السنتين الإلهيتين. وقوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((4)) جاءت دالة على المناسبة والمقارنة بين من مكن لهم في الأرض من الطائفتين (بني إسرائيل والصحابة الكرام رضوان الله عليهم) فالتمكين في الأرض من الله تعالى هاهنا دال على أنه يدل في دلالته على المناسبة بين رسالة موسى، ورسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) . وقوله تعالى: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ((5)) فيه تسلية لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في كون الخطاب محتملاً أن يكون مضارعته لام موسى (- عليه السلام -) ، أو أمر (بالتاء) لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وهذا من إعجاز النص القرآني.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.

وقوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((1)) يشبه الذي سيحدث فيها بعد لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من الخروج بخوف مترقباً من مكة عند الهجرة، وذلك قبل أن يهاجر رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بزمن. وقوله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) يدلّ كلّ الدلالة في عموميته وخصوصيته على المناسبة التامة والمقارنة الكاملة بين التوحيد الذي جاء به موسى (- عليه السلام -) ومحمد (- صلى الله عليه وسلم -) خلافاً لبعض الذين زعموا أن موسى تعلم التوحيد من قوم فرعون ((3)) ، ولا يقول بذلك إلا كافر بالله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ((4)) يدلّ في التوجيه المعنوي وفي تحليل عموميات ألفاظه على أن موسى بَشَّر صدقاً وحقاً برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، فرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وهو الذي جائ بالهدى، وهو من كانت له ولأمته عاقبة الدار. وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ((5)) يدلّ على أن توجيه الخطاب لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) خاص بذاته، لأن النبي لم يكن موجوداً بجانب الغربي، ولكنها كانت موجودة بتواصل الرسالة النبوية ـ الإلهية

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30. (3) أسطورة إيزيس. سيد مُحَمَّود القمني. الطبعة الثانية. دار مدبولي. القاهرة. 1994 م.: ص 121. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44.

وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} ((1)) وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ((2)) يحملان المعنى ذاته في تواصل الرسالة بين موسى ومحمد ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ. أما قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} ((3)) فهو نص خاص بأن رسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) كانت متواصلة مع رسالة موسى (- عليه السلام -) من خلال سياق الفعل المضارع (لتنذر) . وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} ((4)) خاص بأن عدم الاستجابة لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) مثل عدم الاستجابة التي قام بها فرعون وقومه لموسى (- عليه السلام -) في العاقبة والمآل. وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِين} ((5)) من أعظم الأدلة على صدق ما عرضنا في هذا المطلب كون هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) كانوا من قبل مسلمين، وهذا دليل ما بعده دليل على المناسبة التواصلية بين الرسالتين. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} ((6)) مما اختلفت فيه العلماء بين أن يكون أمها (أم القرى) ، أو أي مدينة كبيرة على ما قدمنا بيان ذلك فيما مضى، فإذا كان النص محتملاً لهذه المعاني المتواصلة المتقاربة دل على صدق الرسالتين، رسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، ورسالة موسى (- عليه السلام -) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.

قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((1)) . أوتيها قوم موسى فنبذوها وأوتيها أصحاب مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فحافظوا عليهما فجعلت الأرض لهم ديناً ودنيا على مر حضارتهم الزاهرة العظيمة في الماضي والحاضر والمستقبل. أما قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ((2)) فإنهما في خطابهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دالة على صدقه فلو كان هذا القرآن من عنده - صلى الله عليه وسلم - لما خاطب نفسه هذه المخاطبة وهذا كذلك من الدلائل على المناسبة بين الرسالتين. ولا ريب في أننا واجدون من خلال القراءة التحليلية لسورة القصص إن هنالك أوجهاً عجيبة من الشبه النبوي بين سيدنا موسى - عليه السلام - وسيدنا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - من خلال تقصينا لحياتهما قبل النبوة وبعد النبوة وهو الأمر الذي تعده بعض التقديرات الإلهية انطلاقاُ من قوله تعالى (والله أعلم حيث يجعل رسالته) فالاصطفاء الإلهي هو بين الحالتين وهذا عين ما عبرت عنه سورة القصص في فاتحتها بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((3)) فالإشارة العامة للكتاب (أي كتاب إلهي كان) تجعل أفاق المقارنة والمشابهة مفتوحة من خلال التقصي لسيرتي النبيين الكريمين.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.

ولقد عبر عن ذلك النص القرآني أصدق تعبير إذ قال تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((1)) إذ أن مجيء الصيغة المضارعة (يؤمنون) مشعرة باستمرارية التلاوة الحقة وهكذا يمكن لنا أن نجد استناداً إلى ذلك بعض المقارنات التفصيلية بين حالي الرسولين الكريمين ـ عليهما الصلاة والسلام ـ من خلال سيرتهما القرآنية النبوية الموثقة وفي ذلك رد كل الرد على من زعم ان القصص القرآني لا تفيد أي حقبة تاريخية لا في مبناها ولا في معناها. وهكذا فنحن واجدون ما يأتي من خلال القراءة المقارنة لسورة القصص: إن قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ، ثم قوله تعالى على لسان شعيب - عليه السلام -: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((2)) ، ثم قوله تعالى له: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} ((3)) يشبه كل الشبه خوف رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على الإسلام وخروجه من مكة وقوله لأبي بكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} ((4)) ، ثم نزول قوله تعالى له (- صلى الله عليه وسلم -) : {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ((5)) فالأمر واحد في الحالتين، وهو يدل على التشابه التام بين القصتين كحكمة إلهية عالية.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31. (4) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 40. (5) سُوْرَة المَائِدَة: الآية 67.

إن سيدنا موسى قد رعى الغنم فترة من عمره على ما جاء في الآثار العديد {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ((1)) ، فكان له من ذلك خبرة في الحياة فجعل رعية لغنم شعيب (- عليه السلام -) مهراً لأبنته، وسيدنا مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) رعى الغنم فترة من عمره قبل البعثة (على قراريط قريش) ((2)) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) ، فحاز من ذلك الخبرة بالناس ومعرفته لهم وتعوده على الصبر. فقوله تعالى في سورة القصص: {أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ((3)) في رعي الغنم كما في حديث رعي الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) للغنم.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 26. (2) صَحِيْح البُخَارِي: باب رعي الغنم على قراريط 2 /789 رقم (2143) من حديث أبي هريرة (- رضي الله عنه -) . (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.

إن هناك تشابهاً عجيباً في قصتي الهجرتين هجرة موسى (- عليه السلام -) وهجرة الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) فنجد في سورة القصص قوله تعالى: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ((1)) و {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((2)) و {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} ((3)) يشبه كل الشبه قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} ((4)) ، فالنص واحد والمعنى واحد والنهاية واحدة في النجاة الإلهية إلى النصر الإلهي فموسى (- عليه السلام -) انتصر على فرعون {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ((5)) . ومحمد (- صلى الله عليه وسلم -) انتصر على المشركين والكافرين جميعاً {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ((6)) ، وهذا مما يوضح الترابط العفوي بين كل سور وآيات القرآن.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22. (4) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 30. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40. (6) سُوْرَة النَّصْرِ: الآية 1.

إن هنالك رهبة أولى من تلقي الوحي الإلهي متشابهة بين الرسولين الكريمين، فنجد قوله تعالى في سورة القصص: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} ((1)) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ((2)) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} ((3)) ، فالمعنى واحد هو محصول الاطمئنان الإلهي والأمن الرباني بعد الوحي للنبيين إذا أصابهما بعض الروع والخوف فاذهب الله سبحانه وتعالى ذلك عنهما. إن هنالك تشابهاً كبيراً بين سيرة النبيين الكريمين قبل الزواج في اختيار الزوجة، وفي العلاقة التجارية معهما فموسى (- عليه السلام -) كما جاء في سورة القصص عمل أجيراً لدى والد زوجته (- عليه السلام -) {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ((4)) ، أي: أن والدها هو الذي خطبها له. ونجد في السيرة النبوية أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عمل عند خديجة بنت خويلد ـ رضي الله تعالى عنها ـ وأجرته في تجارتها، ثم خطبته لنفسها ونجد أن النبيين عملا لدى والد الزوجة، أو الزوجة نفسها لحكمة إلهية لا تخفى على ذوي الألباب تتمثل في التعويد الإلهي على الدخول على كل أصناف المجتمع وتحمل المشاق والمسؤولية وليؤكد على أهمية العمل.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31. (2) سُوْرَة المُدَّثِرِ: الآيات 1 – 4. (3) سُوْرَة المُزَّمِّلِ: الآيتان 1 – 2. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.

إن النبيين الكريمين ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ استطاعاً من خلال دعائهما أن يحوزا وزيرين يشدان بهما عضدهما وينتصران بهما في دعوتهما فقوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} ((1)) ونجد مقارباً لذلك قول رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) ((2)) . وقوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} ((3)) ففي كلا الحالتين هناك ترابط واحد في السيرتين الشريفتين. إن النبيين الكريمين رميا بالسحر، {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} ((4)) ، {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ((5)) وهذا من ديدن الكفار من الفراعنة، وكفار قريش على حد سواء.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 34 –35. (2) صحيح ابن حبان: 15 /306. المستدرك على الصحيحين: 3 / 89 من حديث ابن عباس. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد صح شاهده عن عائشة بنت الصديق ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ. (3) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 40. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36. (5) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 52.

إننا نجد من هذا التشابه الكبير الواضح بين شخصية الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) وسيرته الشريفة ومراحل دعوته. وسيرة نبي الله موسى (- عليه السلام -) أثناء قراءتنا المعاصرة للنص القرآني بآفاقه المفتوحة في سُوْرَة الْقَصَصِ إن مجيء سيدنا مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) بعد سيدنا موسى (- عليه السلام -) وختم الله به الرسالات دالاً على أن الله ارتضى لصلاح هذا الكون ولخلافة الأرض الديانة الإسلامية، وأن أمة الإسلام لها السيادة في الدنيا والآخرة. وإن من أراد أن يطفئ نور الله الذي هو الإسلام من اليهود والنصارى الذين حرفوا الديانات، وقتلوا الأنبياء، قد حكم الله عليهم في سُوْرَة الْقَصَصِ بأنهم سيلاقون المصير نفسه الذي لاقاه فرعون على يد موسى (- عليه السلام -) لأن الإرادة الإلهية شاءت أن يكون الإسلام الدين المهيمن على كلّ الديانات والناسخ لهما {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} ((1)) ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} ((2)) . وهذا الترابط في سُوْرَة الْقَصَصِ يجعلنا نعرج على ما جاءت به صحاح الآثار في كتب الفتن والملاحم في الصحيحين ـ البخاري، ومسلم رحمهما الله برحمته ـ في أن النهاية القرآنية لبني إسرائيل {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً} ((3)) آتية لا محالة مهما علا اليهود في الأرض كما فعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بفرعون وهامان وجنودهما وقارون.

_ (1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 19. (2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 85. (3) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 5.

الفصل الثامن: دراسة مقارنة بين هيمنة فرعون وأمريكا وسقوط دولتها وانتصار الإسلام من خلال سورة القصص في دلالاتها السياسية الحديثة

أما قوله تعالى في أخر آيتين من السورة: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) فإنها من الآيات التي تلخص سُوْرَة الْقَصَصِ كلها، وتوجه المعاني فها نحو الدلالة العامة على التواصل بين الرسالتين، رسالة موسى (- عليه السلام -) ورسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، وبذلك كله يستقيم لنا الغرض الذي قدمناه من قبل من كون سُوْرَة الْقَصَصِ تحمل صدق رسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، ومن كونها تخالف التوراة المحرفة في تحريفها العام، ومن كونها تربط ربطاً متسلسلاً متواصلاً بين الرسالتين، وتدل على أن منبعهما واحد. ... الفصل الثامن: دراسة مقارنة بين هيمنة فرعون وأمريكا وسقوط دولتها وانتصار الإسلام من خلال سُوْرَة الْقَصَصِ في دلالاتها السياسية الحديثة تمهيد تعدّ القراءة المعاصرة لأي سورة قرآنية في حدود الرأي المأثور باستقراء كوامن النص وبواطنه المعنوية التي تعطي للنص القرآني آفاقا جديدة، عملية مهمة جداً في التفسير القرآني والتأويل الكتابي، وقد حاولت في هذا الفصل من هذه الرسالة أن أقارن بين فرعون وقومه وقارون وأمواله، وبين أمريكا وقومها واليهود وأموالهم، وذلك لوجه الشبه الكبير بين الماضي والحاضر، وصولاً إلى استشراف آفاق المستقبل الإسلامي، فقد تأثر المسلمون اليوم بالهيمنة الأمريكية، كما تأثر قوم موسى ـ عليه السلام ـ من المؤمنين بالهيمنة الفرعونية وهو ما سنلاحظه في هذا الفصل (المقارن) ولأنه عبارة عن فكرة جديدة. وعسى أن لا نكون في ذلك ممن يقول في القرآن الكريم برأيه، فما هي إلا محاولة لخدمة النص القرآني وتجدده الزماني ـ والمكاني.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

المبحث الأول: دراسة مقارنة بين دولة فرعون ودولة أمريكا

المبحث الأول: دراسة مقارنة بين دولة فرعون ودولة أمريكا المطلب الأول: هيمنة فرعون وأمريكا في الملك والقوة والمال والأعلام وفقاً لما جاء في سُوْرَة الْقَصَصِ إن موضوع الهيمنة في الطغيان الفرعوني مقارنة بالهيمنة في الطغيان الأمريكي، هو من المواضيع المتعددة المفاهيم، وذلك لأوجه الشبه والتشابه بين الطغيانين، فكأن التاريخ يكرر نفسه، وهو يكرر نفسه بحق في الصدام الخطابي بين الإيمان والكفر، بين القديم والحديث ((1)) . فنحن نجد في سورة القصص إن قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبين} ((2)) يدلّ في مضمونه اللغوي على استمرارية الدلالة الزمانية ـ المكانية لآيات الكتاب المبين في الماضي والحاضر والمستقبل. وذلك كما قال عزَّ وجلَّ في آية أخرى: {إِنَّ هذا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ((3)) ، بمعنى أن الهداية القرآنية التي دلّ عليها في سورة القصص قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبين} هي هداية مضافة إلى آيات باهرة تجعل الإنسان يفهم س في الأرض: {إِنَّ فِرْعَوْن علاَ في الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طائفة مِنْهُمْ يُذَبِحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((4)) . وقوله في موضع آخر: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} ((5)) يصلح أن يكون إذا ما نقل من قرآنية المعنى إلى إنسانية المعنى، ونقل من الماضي إلى الحاضر لوصف هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم كما نرى في الجدول الآتي المقتبس من دلالات سورة القصص. الموضوع تسلسل هيمنة فرعون هيمنة أميركا هيمنة الملك 1

_ (1) صدام الحضارات. صموئيل هنتنغتون. ترجمة: جميل حماد. الطبعة الثالثة. (د. نش) . بيروت، لبنان. 1998 م: ص 97. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2. (3) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 9. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (5) سُوْرَة النَّازِعَاتِ: الآية 24.

العلو في الأرض: {إِنَّ فرعون علاَ في الأَرْضِ} ((1)) القوة العظمى الوحيدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي 2 جعل أهلها شيعا: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ((2)) . جعل العالم إما معها وإما مع الإرهاب وإما ديمقراطياً وإما غير ديمقراطي وإما حراً وإما غير حر كذلك زرعها الفتن والنزعات الطائفية وتغذيتها 3 كان فرعون يأتمر بالمؤمنين ليقتلهم {يُذَبِّح أَبْنَاءهُمْ} ((3)) . تشن أميركا حرب شعواء على المسلمين في كل بقاع الأرض 4 فرعون ظالم في ملكه {علاَ في الأَرْضِ} ((4)) أميركا ظالمة في قوتها العاتية هيمنة القوة 1 يستضعف طائفة من أهل الأرض {يَسْتَضْعِفُ طائفة مِنْهُمْ} ((5)) . تستضعف أميركا شعوب العالم والمسلمين من خلال تهديدها بالقوة الغاشمة أو من خلال سيطرتها على مقدرات الشعوب. 2 ادعى أن الأرض له: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ((6)) تدعي أميركا اليوم أن كلّ الأرض مفتوحة أمامها باسم حق التدخل المفتوح. 3 كان لفرعون وهامان وجنودهما ما يحذرون من يومئذ ألا وهو الإيمان {وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((7)) . لأميركا وإسرائيل وجنودهما ما يحذرون منه اليوم، وهو الإسلام. هيمنة المال 1

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. . (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (6) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

سلب أموال المستضعفين في الأرض {اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ} ((1)) . سلب كل الأموال المودعة لديها باسم مكافحة الإرهاب، وجمدت أرصدة وحسابات دول وجماعات من الضعفاء 2 سلب إمامتهم في المال. سلب اقتصاديات كثير من الدول التي تعد إمامة في المال، مثلما حدث في أزمة الخمور الأسيوية 1997 م. 3 كان يدعي أن له ملك مصر أو مالها {أَلَيْسَ لِي ملك مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ((2)) . تدعي أميركا أنها ملك العالم وأموالها. هيمنة الإعلام 1 ادعاؤه أن ما جاء به موسى سحر {قَالُوا مَا هذا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} ((3)) . رميها كل ما خالفها بالإرهاب. 2 ادعاؤه أنه الإله الواحد: {ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ((4)) . أميركا تدعي أنها القوة المتحدية الواحدة. تقول أولبرايت ((5)) : " في هذا الكون قوة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية ". 3 استهزائه بموسى وطلبه الإيقاد على الطين برجاً (صرحاً) {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} ((6)) . إن بناء ناطحات السحاب ومكوكات الفضاء الأميركية يشابه الأبراج والصروح التي أراد تشييدها فرعون وهامان. 4 الاستكبار مع الجنود {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ((7)) . إن العقيدة السياسية الأميركية هي أن الأميركي لا يقهر وفق رؤية عصرية. 5

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (2) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38. (5) هي مادلين أولبرايت وزيرة خارجية أمريكا في عهد كلنتون. (6) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 36. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39.

الزعم بأنهم لن يرجعوا لله تعالى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((1)) . أميركا تدعي أنها لن ترجع إلى أي جهة كانت كما جاء في دستور الولايات المتحدة الأميركية بانفرادها بضرب الدول، وتهديدها بالضرب دون الرجوع إلى قرارات مجلس الأمن. الجرائم 1 قتل أبناءهم {يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ} ((2)) . قتل الناس بالجملة كما في هيروشيما ونكازاكي والعراق وأفغانستان. 2 يستحي نسائهم {وَيستحي نِسَاءهُمْ} ((3)) استعباد النساء في الرق الأبيض. 3 الفساد {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((4)) . إشاعة الفساد العالمي والإباحية والشذوذ. 4 التآمر على أهل الإيمان وموسى: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ((5)) تآمر أميركا المستمر على أهل الإيمان وضربها تلك الحركات الإسلامية في جميع أنحاء العالم إن الجدول الماضي المستخلص من سورة القصص للمقارنة بين فرعون وأميركا، يرينا كيف أن فرعون استحق قوله تعالى في سورة القصص: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} ((6)) ، وكذلك أميركا اليوم بقادتها وجنرالاتها المستكبرين في الأرض، وهيمنتها بهم على العالم، استحقت أن تكون ملعونة من قبل كل شعوب العالم في هذه الدنيا، كما لعن فرعون في سورة القصص في الآية السابقة.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 42.

إن هيمنة فرعون قديماً، وأميركا حديثاً واستمرارية ذلك يوضحها في سورة القصص قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((1)) ، بمعنى إننا نستنتج من هذه الآية أن كل قرية (دولة، أمة) ، إذا ما بطرت معيشتها سيكون مصيرها الهلاك، وأميركا دولة باطرة مبطرة، وأمثلة بطرها كثيرة، منها أنها تلقي فائض غذائها في البحر بطراً وعدواناً. وتوضح آيات سورة القصص أن هيمنة فرعون، وبالتالي الهيمنة الأميركية عاقبتها الإهلاك بعد الإنذار، ونجد في العصر الحديث أن أميركا لها من ينذرها من المسلمين، والنصارى المخلصين من الوعاظ الحقيقيين، ولكنها في طغيانها لا ترجع من ذلك الطغيان ((2)) . يقول عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((3)) ، وأي ظلم أشد من الظلم الأميركي اليوم، فكأن هذه الآية تنطق بحال هذا العصر مثلما نطقت بحال العصر الذي وصفته بصورة عامة، وذلك وجه من أوجه الإعجاز القرآني ((4)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58. (2) إعاقة الديمقراطية. نعوم تشومسكي. مركز دراسات الوحدة العربية. 1999 م: ص 187 -188. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59. (4) ينظر الإسلام حضارة الغد. يوسف القرضاوي. الطبعة الثالثة. المكتب الإسلامي. بيروت، لبنان. 1418 هـ.: ص 50 الإسلام ومشكلات الحضارة. سيد قطب. . دار الشرق. بيروت، لبنان. (د. ت) : ص 149.

المطلب الثاني: أسباب زوال الطغاة قديما وحديثا في سورة القصص

المطلب الثاني: أسباب زوال الطغاة قديماً وحديثاً في سُوْرَة الْقَصَصِ كتب كثيراً عن أسباب وآليات زوال الطغاة واندثارهم في القرآن الكريم بصورة عامة، أو في سور من السور القرآنية بصورة خاصة غير أن ما تتميز به سورة القصص ـ موضوع هذه الرسالة ـ هو احتواءها على عوامل وأسباب وآليات وشروط زوال الطغاة في الماضي والحاضر والمستقبل. وذلك أن آفاق المعنى المفتوح في سورة القصص تتضمن البشارات والإنذارات التي حددها الله عزَّ وجلَّ، كي يتعظ من يتعظ بالإنذار، ويزداد إيماناً من يزداد بالبشارات الصادقة جملة وتفصيلاً. لقد احتوت سورة القصص على نقاط كثيرة يمكن إيجازها وفق المنهجية العلمية في النقاط التالية أدناه (أي: أسباب زوال الطغاة) التي هي: عدم التمسك بالشرع الإلهي الذي هو: {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1)) الابتعاد عن شرعة الحق: {نَتْلُو عَلَيْكَ من نَبَإِ موسى وفرعون بِالْحَقِّ} ((2)) . العلو في الأرض: {إِنَّ فِرْعَوْن علاَ في الأَرْضِ} ((3)) . تفريق الناس: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((4)) . استضعاف الناس: {يَسْتَضْعِفُ طائفة مِنْهُمْ} ((5)) . القتل غير المبرر: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} ((6)) . استعباد النساء: {وَيَسْتَحْيِ نِسَاءهُمْ} ((7)) . الفساد العالمي: {إِنَّهُ كَانَ من الْمُفْسِدِينَ} ((8) (. اغتصاب الأرض: {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((9)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.

الاغترار بالجيوش: {وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((1)) . إشاعة الخوف في الناس: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في الْيَمِّ} ((2)) ظهور الأعداء: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} ((3)) . ظهور الأحزان: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . الخطأ العام: {إِنَّ فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} ((4)) الفساد العسكري: {وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطئِينَ} . كثرة الهرج والمرج: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} ((5)) . المؤامرات العالمية: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ((6)) ((7)) . الظلم: {رَبِّ نَجِّنِي من الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((8)) . الفسق الخاص والعام: {إِلَى فِرْعَوْن وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} ((9)) . تكذيب الدعاة: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} ((10)) . وصم الناس المصلحين بصفات مهنية: {مَا هذا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} ((11) . الاغترار بالدساتير الوضعية: {وَمَا سَمِعْنَا بِهذا في آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} ((12)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20. (7) ينظر أحجار على رقعة الشطرنج أدوارد غاي. الطبعة الثالثة. دمشق. دار النهار. 1987 م: ص 127 -130. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21. (9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32. (10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34. (11) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36. (12) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.

جنون العظمة: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ من إِلَهٍ غَيْرِي} ((1)) . طلب المحال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ موسى} ((2)) . الاغترار بالظن الكاذب الشيطاني من الشيطان الذي لعنه الله بنفسه: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ من الْكَاذِبِينَ} ((3)) . الاستكبار العالي: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ} ((4)) . الحكم بغير الحق بظلم الناس: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ بِغير الْحَقِّ} . إنكاره الآخرة: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((5)) . عدم معرفة العواقب: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((6)) . تقبيح الحسن وتحسين القبيح: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ من الْمَقْبُوحِينَ} ((7)) . المطاولة في العمر الحضاري للقوة العظمى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((8)) . كذب الأماني: {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ من عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ موسى} ((9)) . الكفر: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ موسى من قَبْلُ} ((10)) . تسخير الإعلام للإضلال: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} ((11)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 42. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45. (9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48. (10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48. (11) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48.

اتباع الهوى: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} ((1)) . الخوف من غير الله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ من أَرْضِنَا} ((2)) . بطر المعيشة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((3)) . الغواية: {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الذين أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كما غَوَيْنَا} ((4)) . الكذب الدائم: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} ((5)) . عمى الأنباء: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((6)) الفراغ الروحي: {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} . الانشغال بالمادة: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} ((7)) . الزعم الكاذب: {أَيْنَ شُرَكَائِي الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ((8)) . الافتراء: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((9)) . البغي: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ من قَوْمِ موسى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((10)) . وفرة المال والطغيان فيه بنسيان الله عزَّ وجلَّ: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((11)) . الفرح بما هو ليس لهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 63. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 63. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 66. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 64. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 74. (9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75. (10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (11) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.

عدم الإحسان: {وَأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((1)) . بغي الفساد في الأرض: {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((2)) . الاغترار بالعلم: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((3)) . الاغترار باشتداد القوة والجموع: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ من قَبْلِهِ من القُرُونِ من هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} ((4)) . الإجرام: {وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} ((5)) . الاغترار بالزينة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ في زِينَتِهِ} ((6)) . إرادة العلو في الأرض: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرْضِ} ((7)) . إرادة الفساد: {وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((8)) . المجيء بالسيئات: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((9)) . الضلال المبين: {وَمن هُوَ في ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((10)) . مظاهرة الكافرين: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} ((11)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83. (9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 84. (10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (11) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.

الصد عن آيات الله جلَّ جلاله: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} ((1)) . الشرك الظاهر والخفي: {وَلاَ تَكُونَنَّ من الْمُشْرِكِينَ} ((2)) . دعوة إله آخر مع الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ((3)) . الحكم بغير ما أنزل الله عزَّ وجلَّ: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4)) . إن هذه الأسباب التي تقدم ذكرها يمكن رؤيتها بجلاء ووضوح في الطغيان الأميركي المعاصر لنا، وكأن سورة القصص عند التحليل الدقيق لدلالات ألفاظها تصف حال أميركا وما جنته في الأرض من إفساد وفساد عام وخاص، وكيف أنها اليوم تحاول أن تكون القوة العظمى، وتظن أنها لا تهلك ولن تهلك، والله عزَّ وجلَّ يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((5)) ، فلا بدّ من خلال استقراء ما جرى لفرعون وهامان وقارون، وما يشابههم من حال أميركا وجشعها وعدتها من ملاقاة المصير نفسه، لأنه كما قال عزَّ وجلَّ في سورة القصص: {من جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منها وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((6)) ، وهذا ما يعزز ما ذهبنا إليه آنفاً ((7)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 84. (7) دعوة الرسل إلى الله. مُحَمَّد أحمد العدوي. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. 1354 هـ.: ص 176.

المطلب الثالث: أموال قارون واقتصاد العولمة وتفككه في سورة القصص

المطلب الثالث: أموال قارون واقتصاد العولمة وتفككه في سُوْرَة الْقَصَصِ من الواضح مما تقدم أن الولايات المتحدة الأميركية في اعتمادها على الرأسمالية التي طورتها في عقد التسعينات باسم العولمة التي تعني: " تحرير التجارة العالمية، وفتح الحدود، وإلغاء الضرائب والقيود على المعاملات المالية، ونقل قيم الاقتصاد الرأسمالي إلى كل الدول والأنظمة والحكومات على اختلاف مشاربها " ((1)) . حاولت أميركا ولا زالت تحاول من خلال آلياتها العسكرية أن تفرض نظم استهلاكها الاقتصادي، ونظم معاملاتها التجارية، ونظم مصارفها الربوية على العالم كله، اغترارً بما هي عليه من قوة وعلم وجمع مال، ووجود مؤسسات المال الدولية في الأرض الأميركية، حتَّى صار كثير من جهلة الناس يعتقدون أن أميركا هي (أرض الأحلام) ، ويتمنون السكنى فيها والتجنس بجنسيتها، وهو عين ما تتمناه أميركا، وإن تمنعت قليلاً على استحياء. إن مقومات اقتصاد العولمة: رأس المال المشترك. التقانة العلمية. الاتصالات المفتوحة. ثورة المعلومات. يمكن رؤيته على أنه (الوحش الكاسر) الذي يهدد عالمنا كما وصفه بعض مناهضي العولمة. والعولمة: " وهو في الأصل مبدأ اقتصادي يهدد لإشاعة فاحشة الربا في الناس كافة " ((2)) ، وجه من أوجه الطغيان الأميركي، ونحن علينا أن نجد في القراءة المعاصرة لسورة القصص ما يدلّ على ذم العولمة فيها، ومن ذلك: تقسيم العالم إلى أول وثان وثالث: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((3)) السيطرة على سياسات الدول وقراراتها من خلال قروض صندوق النقد الدولي: {يَسْتَضْعِفُ طائفة مِنْهُمْ} ((4)) .

_ (1) نذر العولمة: 27 -28. وينظر القصص الَقُرْآنيّ: 3 /44. (2) نذر العولمة: 27 -28. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

أخذ أموال الناس بالباطل طمعاً: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ من قَوْمِ موسى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((1)) . وذلك أولى بالتالي لأن تتضح صورة هذه العولمة الأميركية في مثل دلالة قوله عزَّ وجلَّ وهو أصدق القائلين: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ بِغير الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((2)) . فأميركا من خلال قوتها العسكرية وهيمنتها الإعلامية، واقتصادها المعولم المحرر التي تريد فرضه مع قيمتها (الأخلاقية) على العالم، واستكبرت هي وجنودها (بقواعدهم) في الأرض، وهي تظن أنها لن ترجع إلى الله عزَّ وجلَّ، بدليل أنها لا ترقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، فعل من لا يخاف الله عزَّ وجلَّ. وقد حاول بعض الناس في العصر الحديث تبرير دخولهم إلى منظمة التجارة العالمية (بوابة العولمة الأميركية) بدعوى أنهم لا يملكون مالاً ولا تجارة ولا ثروات طبيعية، وأنهم محتاجون للعولمة. ومن قبل يبين الله عزَّ وجلَّ حجة أمثال هؤلاء في قوله تعالى في سورة القصص: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ من أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا من لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((3)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.

واقتصاد العولمة المحرر ادعى إلى بطر في المعيشة بفعل الرخاء الغربي، حيث يتنعم الغرب وأميركا والشمال، ويتضور المسلمون والأفارقة والجنوب من الجوع، ولقد بطرت أميركا باقتصادها حتَّى صارت تفرض ما غيرته من خلق الله عزَّ وجلَّ بإدراجها مبرراً فرض قبول الأغذية المعدلة وراثياً في مساعداتها للدول النامية. ونحن نجد مثل ذلك في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ من بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((1)) ، مع قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((2)) ، بمعنى أن ما تقوم به أمريكا في هذا العصر إنما مآله الانتهاء بالاندحار. وهذه الآية تدل فيما تدل عليه أن الاقتصاد البطر (في عصر اقتصاد العولمة) مصيره الهلاك، وهو عين الدستور القرآني في كون الأمم التي تظلم نفسها بجحود النعم، وكفران الله عزَّ وجلَّ، تنقلب بها الأحوال من حال إلى حال، وقد حدث ذلك في عصرنا للاتحاد السوفيتي السابق سنة 1991 م، وسيكون ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ كما تدل عليه قواعد نذر سورة القصص للولايات المتحدة الأميركية. ونجد في قصة قارون في سورة القصص كيف يتطور الاقتصاد (الكفري) ، (اقتصاد العولمة مثلاً) ، ثُمَّ كيف يذهب هذا الاقتصاد بنظرياته وأهله، (كذلك في عصرنا حدث مثل ذلك للنظرية الماركسية الشيوعية في الاقتصاد التي بدأت في أيام ماركس وأنجلز، وطبقت بعد ثورة 1917 م في روسيا، وأنشأت القوة العظمى الثانية للاتحاد السوفيتي ثُمَّ كان لها أن تتفكك وان تغرق في مهاوي النسيان) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68.

ففي سورة القصص نجد أن قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ من قَوْمِ موسى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((1)) يدلّ على أن اليهود الذين هم (من قوم موسى) كانوا ولا زالوا أهل بغي، ثُمَّ نجد قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} ((2)) ، فنلاحظ أن في عصرنا هذا قد كثرت البنوك الرأسمالية حتَّى صار من الصعب إحصاؤها أو عدها أو ذكر أسمائها، وأن ما فيها من أموال يغطي الأرض مرات ومرات، ونجد أن قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ من الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((3)) ، يحمل في طياته كل سمات العولمة الحديثة في وعظ قوم موسى من المؤمنين لقارون، فنجد من سمات العولمة في قصة قارون: الفرح الاحتفالي المبالغ فيه. نسيان الآخرة. جعل الدنيا النصيب كله. عدم الإحسان. الفساد في الأرض. ونجد كذلك في سورة القصص مقومات العولمة العلمية التي هي في عصرنا ثورة المعلومات والاتصالات والتقنيات في جواب قارون لقومه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((4)) . ونجد رياء العولمة وتبخترها وتكبرها في مثل ما نجده في صفة قارون في سورة القصص في قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ في زِينَتِهِ} ((5)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 76- 77. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.

ونجد إعجاب بعض الجهلة بالعولمة التي لا يدرون مآلها ومآلهم معها من قوله تعالى في السورة نفسها: {قَالَ الذين يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ((1)) ، وفي عصرنا تكفلت وسائل الإعلام كلها بتحبيب نموذج العولمة للأذهان، فصار الناس يتشدقون: إن العولمة في هذا العصر هي (الحظ العظيم) ، وهذا ما وسوسه الشيطان الرجيم ـ لعنه الله بلعنته ـ في قلوب الناس. ثم نجد مصير قارون في الخسف هو عين ما يتوقع المنظرون الاقتصاديون للعولمة من مصير (التفكك) في قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ((2)) ، ويبين الله عزَّ وجلَّ الحقيقة على لسان الذين اغتروا بقارون بعد أن رأوا أمثاله (وفي عصرنا بعد أن يروا تفكك العولمة) ، في قوله عزَّ وجلَّ حاكياً عنهم قولهم: {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمن يَشَاءُ من عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ((3)) ، ويقرر القرآن الكريم دلالة حقيقة الاقتصاد العالمي في كل نظرياته بقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ من جَاءَ بِالْهُدَى وَمن هُوَ في ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((4)) ، بمعنى أن النظريات الاقتصادية في هدايتها وفي ضلالها إنما جاءت بمعناها العام لتدل على الخصوصية الاقتصادية العالمية، لأن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد هداية خاصة، والاقتصاد العالمي المعولم اقتصاد ضلال يهودي ربوي، فبان الفرق بينهما في دلالات الآية.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

المطلب الرابع: الاستعداد لمواجهة الطغيان الأميركي من خلال سورة القصص

وبذلك كانت سورة القصص دالة كل الدلالة على وجه الشبه بين أموال قارون واقتصاد العولمة، والخسف والتفكك الذي أصاب وسيصيبها قديماً وحديثاً ((1)) . المطلب الرابع: الاستعداد لمواجهة الطغيان الأميركي من خلال سورة القصص لقد أمر الإسلام الحنيف المؤمنين كافة بالاستعداد وإعداد العدة لأعداء الله عزَّ وجلَّ، وذلك في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ من قُوَّةٍ وَمن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ((2)) . لذلك فإن الولايات المتحدة الأميركية خشيت الاستعداد للجهاد، فبدأت تطالب بإلغاء تدريس آيات القتال في العالم الإسلامي، وخشيت قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} ((3)) ، فاخترعت مصطلحاً وترجمته للعربية بالفعل (ر. هـ. ب) ، وجعلته كلمة مكروه هو (الإرهاب) ، كما كره الغرب للناس من قبل كلمة الاستعمار في ترجمته لها، وهي كلمة قرآنية: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ((4)) ، (فنسب الاستعمار لله عزَّ وجلَّ) وهذا من فساد حياتنا اللغوية! . وهكذا فإن الاستعداد لمواجهة العدو الكافر المشرك ثابت في كل آيات القتال الكريمة ظاهراً وباطناً، غير أنا نجد في سورة القصص آيات كثيرة تتعلق دلالتها الماضية بما سبق، ودلالتها الحاضرة بالوضع العام العالمي الذي نعيشه في عصر الطغيان والهيمنة الأميركية على العالم.

_ (1) ينظر قصص الَقُرْآن: ص 284. دراسات في التفسير الموضوعي للقصص الَقُرْآنيّ. د. أحمد جمال العمري. الطبعة الأولى. مَكْتَبَة الخانجي بالقاهرة. 1406 هـ ـ 1986 م.: ص 295. (2) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 60. (3) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 60. (4) سُوْرَة هُوْد: الآية 61.

وتتلخص آليات الاستعداد لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وكل من كان على شاكلتها في سورة القصص في آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((1)) . فإن هذه الآية في دلالتها العامة والخاصة تشمل الاستعداد بالقوة لوراثة الأرض من أميركا التي استضعفت المؤمنين. ثم نجد أن قوله تعالى: {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((2)) ، يدل في دلالته الحديثة المعاصرة على أن ما وعد به الله عزَّ وجلَّ في الثواب الكريم، ورسوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في السنة النبوية الشريفة من انتصار الإسلام بعد أخذ الحذر والاهبة والاستعداد لقتال الكفرة واليهود، هو أمر متحقق إن شاء الله العلي العظيم. ولا ننسى هاهنا أن أميركا تمثل اليهود، وأن الوعد النبوي الذي ما ينطق صاحبه عن الهوى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقتال اليهود والانتصار عليهم، يشمل أميركا بدلالته، وهو ما نجده في سورة القصص في قوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكما سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكما بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((3)) . ونجد ضمن الاستعداد لمواجهة أميركا قوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} ((4)) ، فالآية تدل على أن من فعل فعل فرعون وهامان وجنودهما ملعون في الدنيا، وفي الاستعداد لمواجهة أميركا (فرعون العصر وهامانه) ، (إذا جاز لي هذا التعبير) ، نجد أن أميركا (أمة ملعونة) كما وصفها بعض أبنائها من قبل! .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 42.

ونجد ضمن الاستعداد لمواجهة أميركا في سورة القصص قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً من رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ من نَذِيرٍ من قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) . وضمن الاستعداد لمواجهة أميركا نجد دلالة قوله تعالى في سورة القصص: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((2)) ، وأي ظلم يجب الاستعداد لملاقاته أشد من ظلم الولايات المتحدة الأميركية منذ نشؤها (وقتلها للهنود الحمر) حتَّى اليوم (في عدوانها على أفغانستان بدعوى محاربة الإرهاب) ؟ ! . ثُمَّ نلاحظ من سمات الاستعداد لمواجهة أميركا دلالة توجيهية لأخذ أميركا بذنوبها بعد أن اعترف شهودها بأن لا برهان لهم على ما تفعله حكومتهم بالعالم، وهو قوله تعالى في سورة القصص: {وَنَزَعْنَا من كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((3)) . ثم خاتمة مطاف الاستعداد لمواجهة أميركا في قوله تعالى في وصف الآخرة مقابل الدنيا الزائلة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((4)) ، مع أن المبدأ الأساسي لأميركا هو: العلو في الأرض. الفساد في الأرض.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.

المبحث الثاني: السنن الإلهية في زوال الأمم وسقوط الحضارات في سورة القصص

وهو ما أوجب على المسلمين أن يستعدوا ما وسعهم الاستعداد للملحمة الكبرى التي تستعد لها أميركا في أدبياتها النصرانية تحت اسم (هار مجدون) ، إذ يظنون أنهم باستعدادهم لملاقاة المسلمين سيعيدون مملكة (يسوع المسيح) في ألفيتها حسب مزاعمهم، وهو ما قرره الكبراء منهم من قسسهم وحاخاماتهم ودجاليهم المنبئين. أما الاستعداد الإسلامي لذلك فنجده مندرجاً تحت قوله عزَّ وجلَّ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) ، على الذي تحقق من دلالته قديماً وحديثاً في التراث والمعاصرة، كما لا يخفى على أحدٍ. المبحث الثاني: السنن الإلهية في زوال الأمم وسقوط الحضارات في سُوْرَة الْقَصَصِ المطلب الأول: الزوال ـ نهاية أميركا مقارنة بفرعون وهامان وقارون في سُوْرَة الْقَصَصِ إن من خصائص النص القرآني أنه نص متجدد يصلح في دلالاته للماضي والحاضر والمستقبل في الدنيا والآخرة على ما قرره العلماء، ونحن يمكن أن نفهم دلالاتها الحقيقية في دلالات معاصرة على أمور نعلم أن الله عزَّ وجلَّ يعلم بها جميعاً وبأعمالها بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ((2)) . لذلك فليس عجيباً أن نجد أن النهاية التي انتهى إليها فرعون وهامان وجنودهما وقارون، هي عين ما يتوقع المنظرون السياسيون وعلماء علم المستقبليات السياسي من الغربيين للولايات المتحدة الأميركية في قابل أيامها ومستقبل أعوامها. ويمكن على وجه من الوجوه رؤية الزوال الفرعوني الهاماني القاروني في الزوال الذي وقع زلزالاً صبيحة 11 / أيلول / 2001 م في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا وسمي باسم (أحداث الحادي عشر من أيلول) على ما هو مشهور معروف! ونحن في قراءتنا المعاصرة الدينية لسورة القصص، نجد أن هنالك نقاطاً تحذيرية ـ تنبيهية كثيرة، عن الزوال الأعظم في الماضي والحاضر:

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (2) سُوْرَة الصَّافَاتِ: الآية 96.

زوال الماضي هو زوال فرعون وهامان وقارون والجنود. زوال الحاضر هو زوال أميركا وإسرائيل وجنود العولمة. ولا ريب أن ذلك منصوص عليه بصورة أكثر صراحة في كثير من أحاديث رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، ولا سيما ما نجده في أبواب الفتن ((1)) . غير أننا في تحليلنا لسورة القصص نجد الأمر بوضوح كبير يكاد لا تخطئه العين. إن هلاك فرعون وهامان وقارون وجنودهم جميعاً في الماضي التاريخي إنما كان بسبب عوامل أسلفنا الحديث عنها في الفصول الماضية ولا ريب في أن هذه العوامل نفسها ستكون سبب في زوال وهلاك أميركا وإسرائيل وجنود العولمة في العصر الحديث، وذلك كما يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الْكِتَابَ من بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((2)) .

_ (1) منها ما روي عَنْ أبي بن كعب ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ((بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)) . المستدرك على الصحيحين: 4 /346 قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.

وهكذا نجد أن قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((1)) يشمل اليوم في دلالاته المسلمين والإسلام، لأنهم استضعفوا في الأرض بعد أن تفرقوا قبل بروز الصحوة الإسلامية، ثم أنهم الآن الأئمة، ولا ريب في أن الوعد الإلهي حق في أن الوراثة لهم، ولا وراثة قبل هلاك أميركا وزوالها، وذهاب دولة إسرائيل على ما ورد في سورة الإسراء، وفي أحاديث رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عن مقاتلة اليهود مصداقاً لهذه الآية من سورة القصص ((2)) . وعن الزوال في سورة القصص نجد قوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((3)) ، وهذا يشبه إلى حد كبير ما ابتدأت أميركا وإسرائيل والجنود يروه من علامات الزوال: أميركا وأحداث 11 / أيلول (مقابل فرعون) . إسرائيل وانتفاضة الأقصى المباركة (مقابل هامان) . جنود العولمة وحركات مناهضة العولمة (مقابل قارون) . وهذا من الأدلة على الصدق الإلهي للنص القرآني.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (2) من ذلك ما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((تُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ)) . صَحِيْح البُخَارِي: كتاب الجهاد والسير، باب قتال اليهود 3 /1070 رقم (2767) . (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

ونجد قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْن لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ((1)) ، إن أميركا تهاوت تحت ضربات أعدائها، وان الأحزاب تغلغلها وتعمها كل العموم في هذا العصر الحديث، مثلما حدث من قبل لفرعون وآله. ونجد أن الإسلام في العصر الحديث في صحوة بالعودة إلى القرآن الكَرِيم والسُّنَّة النَبَوِيَّة. وهو ما يدل عليه بعض الدلالة قوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكما سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكما بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((2)) . ثم نجد أن دلالة قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((3)) ، هي دلالة متجردة تصلح لوصف زوال أميركا بها، وهي في وسط البحار التي تحيط بها والمحيطات، وهذا من عجائب الأقدار الإلهية إغراق فرعون في اليم، وزوال أميركا في أرضها وسط بحارها وحيدة مع جنودها. ثم نجد في سورة القصص أن قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ من بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((4)) ، يدل على قرب زوال أميركا باقتضاء النص لمعانيه الكامنة بين الماضي والحاضر والمستقبل، بل إن هذا النص أجود القواعد القرآنية الدائمة التي حددها العلماء لزوال الأمم والحضارات وفق العقيدة القرآنية.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.

ونجد كذلك أن ما يدل على زوال أميركا وإسرائيل في سورة القصص زوال العولمة وتفككها، بدليل قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ((1)) الذي نستطيع نحن في القراءة التفسيرية الدينية أن نربط الماضي بالحاضر وصولاً إلى آفاق المستقبل، وذلك قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ، لأن هذه الآية تصف وصفاً معاصراً كيف أن الخسف (مع الإغراق) بكل معانيها الحالية والحقيقة المجازية هو مصير عولمة أميركا الإسرائيلية بـ (الوصف السياسي الحديث) ، وهذا من عجائب إعجاز التنبؤات القرآنية في سورة القصص.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.

المطلب الثاني: مصير الكفرة في العصر الحديث مقارنة بسورة القصص

المطلب الثاني: مصير الكفرة في العصر الحديث مقارنة بسُوْرَة الْقَصَصِ من المعروف لدى كافة المفسرين أن النصوص القرآنية في تجددها ذات دلالات تشمل ما مضى وما سيأتي، وأن قواعدها الكلية بمعنى القواعد العامة تشمل كل الناس، وكل الأمم، وكل الأزمنة والأمكنة، وبذلك حللنا في المطالب الماضية علاقة فرعون بأميركا وإسرائيل، وسنحاول في هذا المطلب استعراض الصورة القرآنية لمصير الكفرة في العصر الحديث في سورة القصص من خلال تجدد دلالات الآيات فيها على ما نراه في الصفحات التالية وفق النقاط الآتية أدناه المستنبط بعضها من قوله تعالى فيها في المقارنة بين المؤمنين والكافرين: {أَفَمن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمن مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ من الْمُحْضَرِينَ} ((1)) ، وهذا هو عين وصف مصير الكافرين في الدنيا والآخرة، أما مصير الكافرين في سورة القصص فيتحدد في: إن الكافر يعلو في الأرض: {إِنَّ فِرْعَوْن علاَ في الأَرْضِ} ((2)) إن مصير المؤمنين وراثة الكافرين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ} ((3)) . إن الإمامة والوراثة الإيمانية تكون بعد الإمامة والوراثة الكفرية {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((4)) . إن التمكين الإيماني في مقابل الزلزلة الكفرية: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((5)) . إن الهزيمة مصير الكافرين كلهم: {مِنْهُمْ مَا كَانُوا يحذرون} ((6)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

إن وعد الله حق للمؤمنين: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) . إن الكافر مهما بلغت قوته لا يصل إلى المؤمن: {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكما بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((2)) . إن مصير الاستكبار والكفر الهزيمة والفشل: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((3)) . إن الكفرة ملعونين في الدنيا مقبوحين في الآخرة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ من الْمَقْبُوحِينَ} ((4)) . إن مصير الكفر الهلاك: {من بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} ((5)) . إن الكفرة في مصيرهم يتبعون أهواءهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمن أَضَلُّ مِمن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغير هُدًى من اللَّهِ} ((6)) إن الكفرة لا يهتدون لظلمهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((7)) إن مصير بطر الكافرين هو الهلاك: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ من بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((8))

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 40 – 41. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.

إن الهلاك لا يكون إلا بعد ظهور الحجة على الكافرين بظلمهم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((1)) إن العذاب مصير الكافرين: {وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} ((2)) . العمى مصير الكفرة: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((3)) . إن القوة والجمع ليست بمنجية من عذاب الكافرين: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ من قَبْلِهِ من القُرُونِ من هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} ((4)) . إن الخسف مصير الكافرين: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} ((5)) لا ناصر للكافرين بعد العذاب في الدنيا والآخرة: {فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ((6)) . إن الرجوع والمال والمآب والمعاد إلى الله عزَّ وجلَّ: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((7)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 64. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 66. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

المطلب الثالث: مبشرات انتصار الإسلام

وبهذه النقاط المهمة المستخلصة تحليلياً من مضامين سورة القصص نجد أن لا شيء يعادل الكفرة في كفرهم بالله عزَّ وجلَّ على علم منهم، لذلك كانت آيات سورة القصص تفسر لنا بعض دلالات قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمن يَشَاءُ} ((1)) ، لأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، وهذا من استدلالاتنا الحديثة في تحليلنا الاستقرائي المعاصر لدلالات سورة القصص الشريفة. فلا يغترن أحد بما عليه الكفار اليوم من رغد العيش وتسلط على البشر، وتقدم علمي يريد الله أن يبتليهم به. قال تعالى: {وَالذين كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ من حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ((2)) . هذا من جانب، وأن من سنن الله في خلقه أن من عمل وسعى وبذل جهده وطاقته في تحصيل مقصد وصل إليه، فالمسلمون حين يستجمعون أسباب التوفيق والتمكين المادية والمعنوية فإنهم يصلون في القيادة والريادة إلى ما وصل إليه الغرب وأكثر، فالمسلمون يملكون العون من الله والتوقيف لأنهم حملة دينه، وحماة شرعه. المطلب الثالث: مبشرات انتصار الإسلام في مفهوم {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} مع آيات نصر المؤمنين في سورة القصص في العقيدة الإسلامية الحقة الحقيقية، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة من أهل الحق، نجد تقريرات مهمة لآخر الزمان من عمر الدنيا تشمله كلمتان جامعتان (انتصار الإسلام) .

_ (1) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 48. و 116. (2) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآيتان 182 -183.

وذلك هو الوعد الإلهي الذي تكفل به عزَّ وجلَّ للمؤمنين، وجعله ضمن أشراط الساعة قبل أن تقوم الساعة على شرار الناس، وليس على الأرض من يقول (الله … الله) ، كما ورد في حديث النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ((1)) . ونحن نجد أن ضمن الدلالات الاستنباطية من مفهوم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((2)) ، يمكن لنا أن نفهم منه، وكما فهم بعض القدماء من قبل أن معاد (مكة المكرمة) مع أنه (يوم القيامة) ـ كما قال المفسرون القدماء ـ ((3)) فهماً جديداً ذا دلالات جديدة في موضوع (انتصار الإسلام) . فالمنة الإلهية بفرض القرآن الكريم على رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اقترنت بلام التوكيد برد الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إلى معاد، يمكن لنا أن نفهمه على أنه انتصار الإسلام مع دلالته الحقيقة على يوم القيامة. وهذا النص القرآني تعززه شواهد كثيرة في سورة القصص ضمن مبشرات الإسلام بانتصاره، فالدلالة العامة لقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((4)) هي عين الدلالة التي تدل على انتصار الإسلام بعد استضعاف أهله، وإعادة الإمامة العظمى للإسلام ووراثة الإسلام للأرض فينتشر فيها، بعد أن يتمكن المسلمون من الأرض عند زوال قوم الكفر والشرك (أميركا وإسرائيل ومن تابعهم على حد سواء) .

_ (1) نص الحديث: ((لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله)) . صحيح مسلم: كتاب الإيمان. كتاب باب ذهاب الإيمان آخر الزمان 1 /131 رقم (148) (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (3) ينظر ص: من هذه الرسالة (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.

ودلالة قوله تعالى: {وَلاَ تَخَافي وَلاَ تَحْزَنِي} ((1)) ، يمكن أن تشمل فيما تشمله من دلالات حقيقية أمراً للمسلمين بأن لا يخافوا علو أميركا وإسرائيل، ولا يحزنوا من الهزيمة في معركة إذا ضمنوا من خلال مبشرات سورة القصص ربح الإسلام للحرب كلها. ودلالات قوله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((2)) ، يستنبط منها أن قرة عين المسلمين بالانتصار الإسلامي القادم الذي أخبر به رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في أحاديث كثيرة متواترة (في الصحيحين والسنن الأربعة والمسند والموطأ) ((3)) ـ سنذكرها لاحقاً ـ سيكون تحقيق للوعد الإلهي الحق، ولكن بعض الناس لا يعلمون ذلك، إما كفراً أو استعجالاً لقدر الله جلَّ جلاله، وهو من الأشياء المنهي عنها. ونجد في سورة القصص ضمن مبشرات انتصار الإسلام العامة والخاصة المتعلقة بقوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، قوله تعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((4)) ، وقد هدي المسلمون بالقرآن الكريم والسنة النبوية إلى سواء السبيل لو انهم تمسكوا بها، فإن تمسكوا بها هدوا إلى ذلك السواء وانتصروا على كل أعداء الإسلام، حتَّى وإن كانوا أشد منهم قوة وجمعاً أو لم يعلموا {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ} ((5)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (3) تقدم تخريجه ص: (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22. (5) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 165.

ونجد في سورة القصص أن قوله عزَّ وجلَّ: {وَنَجْعَلُ لَكما سُلْطَانًا} ((1)) ، يمكن أن تجعل كل مؤمن ومسلم يتوكل على الله عزَّ وجلَّ ويدعون بدعاء صادق وبدعوتهم لكل أمة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) بالنصر بدليل دعاء موسى لأخيه هارون ـ عليهما السلام ـ بالغيب. أما قوله تعالى: {أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((2)) ، فإنه شامل لكل من آمن بموسى وهارون ـ عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ والمسلمون جميعاً يؤمنون بهما ويتبعونهما وفق قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بين أَحَدٍ من رُسُلِهِ} ((3)) ، فحقت حقيقة الوعد الإلهية بالغلبة للمتبعين، وهذا من المعاني الدلالية الكامنة. ونجد في سورة القصص أن قوله تعالى: {وَمن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ((4)) ، يشمل أمة الإسلام التي جعلت لها في جاه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عاقبة الدار، ولا شك أنها اليوم بحاجة ماسة إلى أن تعيد صلتها بعاقبة الدار، لتكون الأمة في انتصارها مع المصطفين الأخيار. ونجد ضمن مبشرات انتصار الإسلام القادم ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ في سورة القصص قوله عز من قائل: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((5)) ، فدلت هذه الآية في بناءها ومعناها أن عاقبة الظالمين تشمل كل ظالم، كافر في كل جيل من الأجيال القديمة والحديثة والقادمة على حد سواء، وهذا وعد من الوعود الإلهية الغنية بانتصار الإسلام.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35. (3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 285. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.

ولعل ذلك هو المقصود بقوله تعالى ـ وهو عندي أبلغ الأدلة من سورة القصص على انتصار الإسلام ـ إذ يقول جلَّ جلاله: {أَفَمن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ} ((1)) . ومن بشارات انتصار الإسلام في سورة القصص قوله جلَّ جلاله {فَأَمَّا من تَابَ وَآمن وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ من الْمُفْلِحِينَ} ((2)) ، والفلاح في بعض معانيه النصر والظفر والفوز والغنيمة في الدنيا والآخرة. ومن مبشرات انتصار الإسلام في سورة القصص قوله عزَّ وجلَّ فيها: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} ((3)) ، ونحن نعلم أن الحق الذي وعد الله عزَّ وجلَّ به هذه الأمة هو النصر على أعدائها، وإعلاء كلمة الله جلَّ جلاله العليا. ثم نجد في سورة القصص حقيقة قرآنية هي قوله عزَّ وجلَّ في وصف ديمومة الانتصار الإسلامي في الدنيا والآخرة، ضمن مبشرات سورة القصص، وذلك قوله عزَّ وجلَّ في وصف الآخرة والدنيا باب الآخرة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * من جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منها} ((4)) . والمسلمون من صفاتهم الجماعية: إنهم لا يريدون علو في الأرض. إنهم لا يريدون الفساد. إن التقوى لهم. انهم يجيئون بالحسنة. انهم يعرفون مزية الإحسان بالتقوى والحسنات. فدلت هذه الصفات بمجموعها على وجود مبشرات كثيرة على الانتصار الإسلام ـ إن شاء الله العلي العظيم بحوله وقوته ـ.

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 83 –84.

ونجد بعد ذلك في سورة القصص قوله تعالى: {إِلاَ رَحْمَةً من رَبِّكَ} ((1)) ، وديمومة الرحمة في كلّ شيء تدلّ على انتصار الإسلام، وفق هذه المبشرات التي وردت في سورة القصص، والتي يمكن لنا من استخلاص نتائجها أن نقرر استناداً لها أن انتصار الإسلام والمسلمين قريب قادم على ما تقدم بيانه في هذا المطلب والمطالب التي سبقته من مباحث هذا الفصل، فإننا باستبشارنا بنصر الله لهذه الأمة استندنا إلى عدة أسباب جاء قسم منها في سُوْرَة الْقَصَصِ وفي غيرها، وهي: تحريم اليأس: فلا يجوز للمسلم أن ييأس أبداً، فاليأس قرين الكفر والضلال. بشارة المؤمنين بنصر الله. الصراع الدائم بين المسلمين وأعدائهم، دال على قوة المسلمين وخوف الأعداء منهم، لذا كانوا وما زالوا يكيدون للإسلام والمسلمين لما يرونه في الإسلام من مظاهر القوة. الصحوة التي يشهدها الإسلام اليوم والرجوع الصادق إلى الله تعالى. التاريخ المجيد للأمة العربية الإسلامية الذي يمد المسلمين بالعبر وما فيه من دروس تجاوزت فيها الأمة المحن. واقع الحضارة الغربية الآيلة للانهيار، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وأما الرأسمالية التي تمثلها اليوم أمريكا، فإن واقع المجتمع الأمريكي يحمل أسباب دماره وهلاكه، جراء تفشي الأمراض الخطرة في ميادين الحياة كافة. وسنعرض بعض الحقائق المهمة التي ربما كانت غائبة عن عيون المنبهرين بالغرب وبحضارته الزائفة، ففي ذلك يقول كولن ولسن يصف عمران نيويورك وازدهارها المادي بأنه " غطاء جميل لحالة من التعاسة والشقاء " ((2)) . فالعاصمة الأمريكية عاصمة الخوف والجريمة، يستيقضون كلّ صباح على جريمة قتل، أو سرقة، أو غير ذلك من الجرائم التي ترتكب ببشاعة. وأن عدد الجرائم قد زادت

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86. (2) الإيمان والحياة. د. يوسف القرضاوي. مؤسسة الرسالة. بيروت. 1394 هـ ـ 1979 م.: ص 86.

المطلب الرابع: القواعد الكلية للمجتمعات الإنسانية في سورة القصص

المطلب الرابع: القواعد الكلية للمجتمعات الإنسانية في سُوْرَة الْقَصَصِ من المعلوم شرعاً وعقلاً أن هنالك في كل أنواع الفكر السياسي القديم والحديث قواعد كلية تسير عليها الأمم في سلوكياتها العامة للأخذ بالدين والدنيا، والحاضر والمستقبل. وهو ما يطلق عليه في علم السياسة الحديث اسم (قيم الأمم) . وفي القرآن الكريم مجموعة واسعة موحدة من هذه القواعد الكلية الشمولية التي تصلح في كل عصر، وفي كل زمان، وفي كل مكان، وفي كل أمة من الأمم، على اختلاف توجهاتها الفكرية والدينية والخلقية، وتستوي في ذلك الحضارات والثقافات والقوميات والأعراف، لأن هذه القواعد السياسية (وعندنا ما أسميناه القواعد الكلية القرآنية) تصلح بمجملها لكل المجتمعات الإنسانية. ونجدها في القرآن الكريم إما مفرقة أو مجموعة في مكان واحد، وهذه القواعد يمكن وصفها بأنها تحوي الصادق، كون مصدرها إلهي غير إنساني، بمعنى أنه كما لا يخفى لا يتطرق إليه الخطأ، وحاشا لله سبحانه وتعالى. وفي استعراضنا لسورة القصص في هذا الفصل بمجمله الذي هو أشبه بالقراءة السياسية التأويلية لمضامينها ومعانيها، نجد أن سورة القصص أكدت على جملة من هذه القواعد الكلية التي هي عامة غير خاصة لكل المجتمعات الإنسانية. وسوف نحاول هاهنا عرضها وفق الفهم التحليلي التأويلي الحديث، بمعنى أننا سنعطي القاعدة، ثم دليلها من سورة القصص للوصول أثناء ذلك إلى تمثل أكبر وأدق وأشمل وأكمل لكل الأهداف التي احتوتها سورة القصص في معانيها الظاهرة والباطنة: إن لكل أمة أو مجتمع إنساني وقتاً للاستضعاف ووقتاً للنصر {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((1)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.

إن الظالم في طغيانه لا بد له من ملاقاة ما يحذره {وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((1)) . إن الظالم الخاطئ لا بد له من عدو يحزنه قد يكون قريباً منه {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} ((2)) . إن الوعد الإلهي صادق مهما طال الزمن. {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((3)) . إن جزاء كل محسن الحكم والعلم. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكما وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((4)) . إن القتل الخطأ من عمل الشيطان لعنه الله بلعنته {فَوَكَزَهُ موسى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هذا من عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبين} ((5)) . إن المعجزات الإلهية لا تماثلها خارقات العادة ولا الكرامات. {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ من رَبِّكَ} ((6)) . إن من جعل الله عزَّ وجلَّ له سلطاناً فليس بواصل إليه أحد {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكما سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكما بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((7)) . إن التقليد المخطوء في العقائد سنة الجهلة. {مَا هذا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهذا في آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} ((8)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.

إن الملك في علم الله جلَّ جلاله. {رَبِّي أَعْلَمُ بِمن جَاءَ بِالْهُدَى من عِنْدِهِ وَمن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ((1)) . لا فلاح لظالم. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((2)) . إن استكبار الظالم وجنوده مصيرهم الهلاك. {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ بِغير الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((3)) . إن الظالم ملعون دائماً وأبداً في الدنيا والآخرة. {وَأَتْبَعْنَاهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} ((4)) . إن طول العمر مضل للأمم ومجتمعاتها. {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((5)) . إن التكذيب لله ورسله قد يكون خاصاً وعاماً بذريعة أو بغير ذريعة {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ من عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ موسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ موسى من قَبْلُ} ((6)) . إن اتباع الهوى مضل. {أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمن أَضَلُّ مِمن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغير هُدًى من اللَّهِ} ((7)) . لا هداية للظلمة. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((8)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 39 - 40. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 42. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.

إن الهداية الإلهية للمجتمعات الإنسانية بأمر الله عزَّ وجلَّ {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي من أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ((1)) . إن البطر مؤداه الهلاك. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((2)) . إن مساكن الأمم والمجتمعات الهالكة قليلاً ما تسكن من بعدهم {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ من بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً} ((3)) . إن وراثة الملك لله عزَّ وجلَّ وحده. {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((4)) . إنه لا هلاك إلا بعد إنذار لأي مجتمع من المجتمعات. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((5)) . أن كلّ ملك زائل. وَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ((6)) . أن الغوي قد يغوي الآخرين. أَغْوَيْنَاهُمْ كما غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} ((7)) أن التوبة والعمل الصالح نتيجتهما الفلاح. {فَأَمَّا من تَابَ وَآمن وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ من الْمُفْلِحِينَ} ((8)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 60. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 63. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67.

أن العلم مهما تطور لا يمكن إيجاد الخلق فيه. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ((1)) . أن كل فرية تضل في الدنيا والآخرة. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((2)) . لا قيمة للفرح الإنساني بالمال. {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((3)) . الموازنة بين الدنيا والآخرة من رجاحة العقل. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ من الدُّنْيَا} ((4)) . أن الفساد مؤداه الهلاك في الأمم والمجتمعات. {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((5)) . أن التقانة العملية والتطور والتقدم في المعارف لا يعني الخروج من الهلاك الساحق بالكفر والظلم. {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ من قَبْلِهِ من القُرُونِ من هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} ((6)) . أن الأجرام لا يحتاج إلى إيضاح. {وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} ((7)) . أن الهلاك الضاري لا ناصر له ولا يُنصر. {فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ((8)) . لا فلاح لكافر مهما بلغ ماله من الكثرة. {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ((9)) .

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78. (8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81. (9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.

إن الحسنة والسيئة لهما جزاء محدد من الله عز وجل لكل المجتمعات. {من جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منها وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((1)) . أن النصر الإلهي لا بد أن يأتي لمن آمن وعمل بالكتاب. {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((2)) . إنه لا يجوز أن يكون المؤمن ظهيراً للكافر. {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} ((3)) . أن كل الكون زائل ولا يبقى إلا الله عز وجل. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((4)) . إن الحكم لله عز وجل. {لهُ الْحُكْمُ} ((5)) . أن الرجوع في الدنيا والآخرة لله عز وجل. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((6)) وبذلك يمكن بالابتعاد عن القواعد المذمومة، والقرب من القواعد المحمودة، والإيمان بما يجب الإيمان به منهما، أن تتوحد المجتمعات الإنسانية كلهما، إلى العودة إلى الفطرة الإلهية من خلال هذه القواعد الكلية الثبوتية حكما في سورة القصص الشريفة. الخاتمة وبعد فقد كانت هذه الأطروحة محاولة للقيام بتحليل سورة منفصلة على حدة وإبراز مكانتها التي تدل على ما فيها من عظات وعبر. وإذ أعانني الله جَلَّ جَلاَله على إتمامها أجدني قد توصلت من خلال عملي إلى جملة من النتائج والاستنتاجات التي ظهرت من البحث نفسه أوجزها في النقاط الآتية

_ (1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 84. (2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85. (3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86. (4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. (6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

إن هذه السّورة في حد ذاتها ضمن سياق باقي السور القرآنية، فيها دلالات متعددة، وأوجه مختلفة للإعجاز القرآني. ولعل صيغها اللغوية وما يستنبط من تلك الصيغ من معانٍ وأفكار كان أحد تلك الأوجه. إن في سُوْرَة الْقَصَصِ ربطاً متواصلاً لماضي التاريخ وحاضر الدعوة ومستقبل الأمة. إن النصّ القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ يمكن وصفه بأنه نص متحرك المعاني والدلالات بمعنى أنه يصلح في جملة معانيه وجملة دلالاته لفهم أدق للإيمان الواحد والمصير الواحد والمآل الواحد. كانت سُوْرَة الْقَصَصِ إحدى السور التي امتازت ببناء الجملة الطويلة وتعداد آلاء الله عَزَّ وجَلَّ وتأسية رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بما مضى وتلك بعض خصائص السور المكية. تبرز في سُوْرَة الْقَصَصِ إرشاداتها الوعظية رداً على جميع أولئك الذين رفضوا تحكيم شرع الله وحاولوا الخروج على السنن والحدود الإلهية. أبرزت سُوْرَة الْقَصَصِ معالم تكون الأمة والدولة والمصير الذي يصيب الطغاة بقوته، أو بماله. إن النصّ القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ هو نص متدرج في مقاطع يرتبط بعضها ببعض وفي ذلك رد على تلامذة المستشرقين الذين لمحوا إلى تفكك النصّ القرآني. إن القصة القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ وفي باقي سور القرآن الكريم استناداً إلى ذلك هي نص تاريخي واقعي وليست رمزاً، أو أسطورة، كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين ممن أعماهم الحقد على الإسلام. إن قضية تكرر القصة القرآنية في عدة آيات بصيغة متشابه أو مختلفة هي بعض مناحي الإعجاز الوصفي في القرآن الكريم، وذلك لأن الصياغة إذا اختلفت في الأمر الواحد دلت على القدرة في بلاغة الوصف وهكذا فإن قصة موسى ـ عَلَيْه الصَلاة والسَّلام ـ في سُوْرَة الْقَصَصِ هي صياغة أخرى للقصة نفسها، ولكن وقف جمل وعبارات تؤدي معاني أرادها الله في موضعها.

إن المعنى العام في سُوْرَة الْقَصَصِ يؤكد تأكيداً كلياً على أن أي قوة عسكرية أو أي فساد وطغيان، وأي اقتصاد أريد به الإفساد في الدنيا، إنما يكون مآلهم إلى الهلاك. بشرت سُوْرَة الْقَصَصِ برسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وللأمة من بعده بحتمية النصر الإلهي مها طال الزمن أو مهما استبد الطغاة بطغيانهم. إن الأهداف العامة في سُوْرَة الْقَصَصِ تؤكد على أن وراثة الأرض لا تكون إلا للمؤمنين وأنه لا بد من مآل ورجوع إلى الوطن والأمة في أحلك أوقات الأزمات وهو وعد إلهي تحقق وسيتحقق. تحتوي سُوْرَة الْقَصَصِ على أسس متكاملة لقواعد بناء الدولة في المنظور السياسي والأخلاقي وهي بذلك تنطق بالواقع وتقدم الصورة المثلى للدولة لئلا تظاهر كافراً، أو طاغية، أو تغتر بهما. إن القيم الأخلاقية في السّورة هي منظومة سلوكية تجعل الإنسان الملتزم بها يتخلق بأخلاق القرآن الكريم. إن تطور تفسير القرآن الكريم في ربطه للماضي بالحاضر بين قدامى المفسرين ومحدثيهم ودارسي النصّ القرآني كلياً وجزئياً أبرز لنا أن سُوْرَة الْقَصَصِ ما زالت تحتمل تفسيرات حديثة تنطق بالواقع المعاصر وهكذا فإن إلحاح العالم الإسلامي في تصريحاته وخطبه على تشبه دولة فرعون بالولايات المتحدة الأميركية وقادتها بقائدها، يمكن أن تجد بعض جوانب الصحة في القراءة المعاصرة لسُوْرَة الْقَصَصِ. إن سُوْرَة الْقَصَصِ كانت لها أغراض ومقاصد تتناسب مع فترة نزولها، والبيئة التي نزلت فيها. إن آيات السّورة قد تناسبت وتناسقت في التحليل البلاغي في انتظام بما قبلها وما بعدها بل وتناسبت في مقاطعها بين أولها وآخرها. تضمنت سُوْرَة الْقَصَصِ صوراً بلاغية وحكمة في استخدام الجمل

إن هناك مجموعة من دلالات التوحيد التي أظهرت أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي بيده كلّ شيء وهو المتفرد بالوحدانية وأنه هو المؤثر في هذا الكون، ودلالة وصف المرأة التي كانت في سُوْرَة الْقَصَصِ أماً وزوجةً في إيمانها بالله عَزَّ وجَلَّ، وقد أبرزت أن قيمة الزمن في السّورة قيمة متجددة، ثُمَّ أبرزت دلالات التربية والسلوك، وتحتوي على قواعد شمولية سبقت العلم الحديث. إن الشخصية الإسرائيلية اليهودية في سُوْرَة الْقَصَصِ تتراوح بين ثلاثة أقسام هي: الذلة والضعة. الاعتداء والبغي. الكفر بالمال والحسد. إن للمال مفهوماً وغاية في سُوْرَة الْقَصَصِ فمفهومه أنه يصيب الحياة الدنيا وغايته الاستعانة به على الحياة الدنيا وليس نتيجة الوجود بحد ذاته عن علم، أو عن غير علم. إن أسلوب الدعوة في سُوْرَة الْقَصَصِ يظهر كيف أن التدريج في خطاب الدعاة، إنما يقر الإيمان في النفوس رويداً رويداً. إن في سُوْرَة الْقَصَصِ نظرة قرآنية ذات مفهوم متكامل للإنسان، أي إنسان في مبدأ أمره وخاتمته وفق قربه من الهداية أو بعده منها. إن الإيمان بمعنى الإقرار بالقلب واللسان في سُوْرَة الْقَصَصِ هو نتيجة للهداية التي تنسب لله عَزَّ وجَلَّ وحده. أبرزت سُوْرَة الْقَصَصِ شخصية فرعون الذي حارب موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ وبينت أنه حكم في الأرض وفرق أهلها وذلك مطابق للاكتشافات الأثرية الحديثة. إن في سُوْرَة الْقَصَصِ أحكام فقهية بالاستقراء المقارن بمعنى دلالة القصة على واقعة تستوجب حكمها الفقهي وهو ما فعلته في بعض مطالب السّورة تأسياً بالمفسرين القدامى.

إن هنالك فرقاً بين الرواية التوراتية في سفر الخروج لقصة موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ، وبين الرواية القرآنية لقصة موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ في سُوْرَة الْقَصَصِ، وذلك بالمقارنة النقدية بين العهد القديم والقرآن الكريم، وقد توصل الباحث استناداً إلى ذلك إلى أهمية الرواية القرآنية وتفوقه على تلك الرواية الأخرى من خلال احتوائه على دقائق التاريخ ومعالم التوحيد. إن للرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ صورة متكاملة تنبض في النصف الثاني من سُوْرَة الْقَصَصِ من خلال دلائل القرآن على صدقه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وإيمان طوائف أهل الكتاب بدعوته ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على وفق معالم الهداية البيانية، والهداية التوفيقية. إن هنالك تشابهاً بين قصة موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ ابان بصفته، وما تعرض له من أذى مع فرعون موافقاً لما جرى لرسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ابان دعوته وما جرى له مع فراعنة قريش. إن هناك سنناً إلهية في نظرية سقوط الحضارات تبرز واضحة في سُوْرَة الْقَصَصِ مع القواعد الكلية لنظم المجتمعات. إن العولمة الحديثة تشبه في اعتمادها على الكفر والعلم كنوز قارون المعتمدة على الكفر بالله تعالى، وما نسبه لنفسه من علم وأن مآل الجميع إلى التفكك. إن في سُوْرَة الْقَصَصِ مبشرات بانتصار الإسلام على كلّ من حاربه من قبل ومن بعد، وتبعاً للقياس بأحاديث رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهذه المبشرات ينبغي أن تبرز كلما أصاب الأمة الوهن، لأن الوعد الإلهي متحقق لا محالة. لقد كانت هذه النتائج والاستنتاجات بعض ما خرجت به مما يتسع به المقام ههنا، غير أني أجدني قد توصلت من خلال تحليلي لسُوْرَة الْقَصَصِ إلى نتيجة كلية توصل إليها القدماء وستبقى كذلك إلى الأبد، هي: وحدة وتماسك النصّ القرآني كلياً.

ولا يسعني في ختام هذه الدراسة بعد ما تقدم إلا أن أترك عملي هذا بين يدي القارئ الكريم مطلعاً عليه، تاركاً له وحده الحكم على ما بذلته من جهد، علم الله عَزَّ وجَلَّ إنني لم أقصر في اجتهاده، غير أني أقر بأن عملي لا يخلو من قصور. وقديماً قال الإمام المزني في حق بعض كتبه أبى الله أن يكون كتاباً كاملاً إلا كتابه، وإذا وقف بي القلم حامداً شاكراً مصلياً مسلماً، أسأل الله عَزَّ وجَلَّ أن يتقبل مني هذا العمل خدمة لكتابه الكريم، واعتزازاً بدينه القويم، وأردد ههنا قوله عَزَّ وجَلَّ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ((1)) .

_ (1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 8.

§1/1