سهام الإسلام

عبد اللطيف سلطاني

عبد اللطيف بن علي السلطاني سهام الإسلام

عبد اللطيف بن علي السلطاني سهام الإسلام حقوق الطبع محفوظة للمؤلف طبع بمطابع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع 3 شارع زيروت يوسف - الجزائر بمطبعة أحمد زبانة

صدرت الطبعة الأولى في: صفر الخير 1400هـ / يناير 1980م وصدرت للطبعة الثانية في: رجب الفرد 1400هـ / جوان 1980م

بسم الله الرحمن الرحيم {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} صدق الله العظيم سورة الرعد. آيتا 19 و 20. عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ الْإِسْلَامُ سَهْمٌ، وَالصَّلَاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَحَجُّ الْبَيْتِ سَهْمٌ، وَالصِّيَامُ سَهْمٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَهْمٌ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ". أخرجه البزار في مسنده "البحر الزخار".

الإهداء

الإهداء إلى شباب الإسلام الذين آمنوا بدينهم، وامتلأت بالإيمان وحب الخير قلوبهم، وانقادت للإسلام أفكارهم وجوارحهم، إلى كل من يرى أن الصيحة التي أيقظت النائم، وأرشدت الحائر، ونبهت الغافل، وأرجعت صواب التائه، إنما هي صيحة الإسلام، صيحة رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم. إليهم أهدي كتابي هذا ـ[سهام الإسلام]ـ كي يساهموا في إعادة بناء صرحه الشامخ المتين. المؤلف

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والنجاح للعاملين، والنجاة من الأهوال للفائزين، والسعادة الدائمة للمخلصين، والسلامة من التبعات للسباقين، والعقبى للطائعين، الممتثلين لما جاءت به شرائع خالق الأولين والآخرين، ففي ذلك الفوز والنجاة، وفي سواه الردى والهلاك. والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المرسلين، وخاتم رسل الله أجمعين، وقائد الغر المحجلين، ورضوان الله عن آل بيته المكرمين، وأصحابه الميامين، وعلى من سلك سبيلهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين. أما بعد فيقول أحوج الناس إلى عفو خالقه ورضاه، وأفقر العبيد إلى سيده ومولاه / عبد اللطيف بن علي بن أحمد السلطاني القنطري: هذه خواطر جمعتها، كانت تتوارد وتمر على خاطري المرة بعد المرة، في كل وقت وحين، وعندما تمر بخاطري الواحدة منها،

كنت أسجلها في ذاكرتي المكدودة، إلى أن توفر عندي منها ما لا يليق أن يبقى محجوزا غير طليق، فعزمت على إخراجها من حيز ذلك المضيق، ونشرتها عسى أن تجد مكانها في قلوب ذوي العقيدة الإسلامية، من خيار هذه الأمة المحمدية، وأرجو أن أكون من الذين قدموا لإخوانهم عملا مفيدا، قد يفيدهم في دينهم ودنياهم، وفي هذا لفت نظرهم إلى ما هم مطالبون به من الأعمال، التي تحفظ على الإسلام رونقه وبهاءه، وتصون جوهره من تزييف المزيفين، وسلامته من الغش والتدليس، وتبليغه إلى أولي النهى، وذوي العقول والأحجا، الكمل الموفقين، فقد تقاعس الكثير منا في هذه الأعصر الأخيرة عن العمل لخير وسلامة العقيدة من الزيغ والانجراف إلى سوء العقائد، والانحراف عن نهج الأسلاف الأماجد، كل ذلك من أجل إصلاح المجتمع الإسلامي، إصلاحا يتمشى مع أخلاقنا الإسلامية، وعقيدتنا الدينية، إذ اشتغل معظم المفكرين من هذه الأمة بما لا يفيد الإسلام والعقيدة إلا بالنزر اليسير، ولربما كان هذا قليلا أيضا على قلة أهله، فاجتمع لدي منها ما قد يسمى "كتابا" فاستخرجتها من ذاكرتي وكتبتها، وسودت بها صحائف قد تكون مفيدة، شاركت بها من تقدمني لخدمة هذا الدين الذي نعتز بالانتساب إليه، ونحمد الله على أن جعلنا من أهله الفائزين الرابحين، إن شاء الله رب العالمين، ولم يجعلنا من خصومه أو المفرطين فيه، حتى لا نكون من الهالكين والخاسرين. وأسميته ـ[سهام الإسلام]ـ أخذا من حديث روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كما سيمر بالقارئ الكريم، وتفاؤلا بمشاركتي للعاملين والمساهمين في إعلاء منزلة الإسلام بين الأنام، ورفعة شأنه، وإعلاء كلمته (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وإعزازها، ونشر دينه الذي هو رحمة للعالمين، ولا نجاة للبشرية ولا سعادة لها ما دامت بعيدة عن الأخذ بشريعته، والاهتداء بهديه والتحاكم إلى

قوانينه ونبذ القوانين الوضعية التي لم تغن شيئا في كل ميادين الحياة، بل ما زادتها إلا توغلا في الغواية والضلال، وانصرافا عن المنهج القويم في استقرار الأوضاع وحماية حقوق الإنسان، التي داستها سنابك خيل الطغيان وجبروت الظلم والعدوان. وعسى الله أن ينفعنا جميعا بما نعلم على قلته، ويمن علينا بالخلاص من قيود أنفسنا المحيطة بنا، كما ندعوه أن يمن علينا بالدعوة إلى الإسلام قولا وعملا، وعقيدة وغاية ومقصدا، إنه السميع العليم المجيب، ولا حول لنا ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وهو مولانا، فنعم المولى ونعم النصير. ***

الاسلام دين الفطرة

الإسلام دين الفطرة تمهيد قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 30 من سورة الروم. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها) ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه قول الله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. وروى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن عياض بن حمار المجاشعي قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته: (إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما

علمني في يومي هذا: كل ما نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) الخ الحديث وهو طويل، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه على ما سيأتي قريبا، قال ابن كثير في تفسيره لآية الروم السابقة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} الخ: انفرد بإخراجه مسلم فرواه من طرق عن قتادة به. وقوله أتتهم الشياطين فأضلتهم الخ - وفي رواية مسلم فاجتالتهم - أي حولتهم عن فطرة الله فأهلكتهم، ومعنى هذا أن المولود بعد الولادة لو تركته شياطين الإنس والجن كما خلقه الله على الفطرة والجبلة - فطرة الله تعالى - لما اختار غير ما فطره الله عليه، من التوحيد والطاعة لله تعالى، وهي الفطرة التي فطره عليها كما نراه الآن في سكان البوادي الذين لم يخالطوا المدن التي تكثر فيها الطوائف المختلفة وتتنوع فيها المجتمعات التي تتأثر بما تسمع فيها من مختلف الأفكار والعقائد البشرية، وقد نقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: "اللهم ارزقني إيمانا كإيمان العجائز" ذلك لأن البدوي متهيء لقبول الحق والتوحيد طبعا وطوعا لفراغ فكره من المؤثرات الخارجية والبعيدة عن فكره وعقله، وفي صحيح مسلم: (ما من مولود إلا وهو على الملة) وفيه أيضا (ليس من مولود إلا على هذه الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه) ذلك أن الله تعالى خلقه وفطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله إلا هو، كما تشهد بهذا آية سورة الأعراف، وهي قوله تعالى:

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الآية 172 من سورة الأعراف. أما حديث مسلم فهو عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا الخ) والحديث طويل كما قلت ومن أراده فعليه به في الجزء 17 منه في باب (الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار) فنفهم من قوله تعالى: {أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أن من معاني هذه الإقامة أن تجعل الدين - دائما - إمامك وقدوتك في حياتك، وتسير أنت وراءه وفي خطه واتجاهه باتباعك له، وإياك أن توليه ظهرك وقفاك. فبناء على ما تقدم تفصيله يظهر منه استعداد المولود حين ولادته لتلقي الدين الحق - دين الفطرة - وشرع الله (الإسلام) لو لم يصرفه صارف خارج عن أصل خلقته، جاءه من أبويه اللذين ظلا قائمين عليه بالتربية والتدريب على ما هما عليه من الدين والعقيدة التي ورثاها - هما أيضا - عن أبويهما، فيوجهانه الوجهة التي وجهاهما إليها.

وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه الأبوي مثلا، وهو البهيمة الحيوانية التي تولد كاملة الخلقة لا ينقص منها شيء، حتى تمتد إليها يد الإنسان، فتشق أذنها - مثلا - أو تقطع منها قطعة، دفعها إلى هذا القطع أو الشق لها عقيدة كامنة في نفس صاحبها، ورثها ممن قبله، مثل البحيرة والسائبة، أو يفعل بها ذلك ليميزها - بما فعل - عن غيرها من بقية نظيراتها، حتى لا تشتبه بغيرها، وهو مثل صادق تماما على أصل خلقة الإنسان. وكلمة "الفطرة" مأخوذة من أصل فطر، بمعنى خلق وشق. فمن ورود الفطر بمعنى الخلق والإيجاد قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬1) أي خلقني وحده لا شريك له، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬2) أي خالقهما ومبدعهما، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬3) أي لا أعبد الأوثان التي تعبدونها، وإنما أعبد الله الذي خلقني وحده، فلا أشرك في عبادته أحدا، فجعل كلمة التوحيد باقية مستمرة في عقبه وذريته إلى يوم القيامة. ¬

_ (¬1) الآية 22 من سورة يس. (¬2) الآية 14 من سورة الأنعام. (¬3) الآيات 26، 27، 28 من سورة الزخرف.

والفطرة - بالكسر - الخلقة، والفطرة أيضا ما فطر الله عليه الخلق من معرفته والاهتداء بها إلى أنه خالقهم ولا خالق لهم سواه، وفطر الله الشيء بمعنى: أنشأه وابتدأه وابتدعه، ومن هذا قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وفي الحديث المتقدم (ما من مولود إلا يولد على الفطرة). ومن ورود الفطرة المأخوذة من فطر بمعنى شق قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} بمعنى انشقت، وقو له: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أي شقوق، وفي حديث قيام الليل (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه) أي انشقت قدماه، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أي بدأتها وابتدعتها. فالفطرة من معانيها الخلقة، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. أي خالقهما ومبدعهما، ومنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهذا ما ذكره الله في شأن خليله إبراهيم عليه السلام حين اهتدى بفطرته - من صغره - إلى أن ما عليه قومه من عبادة غير الله أمر باطل وعمل خارج عن أصل الخلقة ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) الآيتان 51 - 52 من سورة الأنبياء.

ففطرته لم تبدل ولم تغير، لهذا توصل بها إلى توحيد الله وأنكر ما كان عليه قومه من صغره، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}. الآية 83 من سورة الأنعام. هذه هي الفطرة التي فطر الخالق الخلق عليها، خلقهم ليكونوا مؤمنين به، بأنه إله واحد لا شريك له، وكل خلقه محتاجون إليه وهو غني عنهم، فإذا لم يقروا له بالوحدانية، وإذا لم يتبعوا شرعه الذي جاءهم من عند خالقهم بواسطة رسله إليهم، إذا لم يكن منهم هذا فقد نقضوا عهدهم الذي أخذه منهم خالقهم وهم كالدر في أصلاب آبائهم، واتبعوا الشياطين التي أضلتهم واجتالتهم عن دينهم الحق، وهذا ما تشير إليه الآية السابقة - آية سورة الأعراف - وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (¬1). فقد ذكر الله فيها ما أخذه من العهد والميثاق على ذرية آدم وهم في أصلاب آبائهم، وقد بينت كتب السنة كيف تم أخذ هذا العهد والميثاق من ذرية آدم، على أن يكونوا مؤمنين به موحدين له لا يشركون به شيئا يعبدونه، فلا يعبدون غيره، فإذا أشركوا معه غيره، وعبدوا سواه وأطاعوا الشياطين وعصوا ربهم وخالقهم فقد هلكوا وضلوا. ¬

_ (¬1) الآية 172 من سورة الأعراف.

وقد ذكر المفسرون لهذه الآية أحاديث مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسيرها، فالمجال هنا ليس للعقل يجري فيه كما يشاء ويريد، بل القول هنا لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، والروايات عنه متعددة، وكلها تحوم حول كيفية أخذ هذا العهد من بني آدم، ونقتصر منها على واحدة رواها الإمام مالك في الموطأ بسنده إلى مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (¬1) قال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم ثم مسح ظهرة بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار) كما أخرجه الترمذي في سننه، وأخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم في المستدرك وقال الترمذي هذا ¬

_ (¬1) الآية 172 من سورة الأعراف.

حديث حسن، ولاحظ على سنده بأن مسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلا مجهولا، وقال بعض رجال الحديث أن هذا الرجل المجهول هو نعيم بن ربيعة الأزدي، والمعروف عن الإمام مالك رحمه الله أنه يتحرى في نقله للأحاديث، وإذا رأى واحدا مجهول الحال فإنه يهمله من السند. والحديث روي من طرق متعددة ومختلفة، وكلها تؤيد وتفسر ما جاء في الآية الكريمة، ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم، وهو (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) أي أنت ربنا. فندرك من كل ما تقدم أن الدين الحق هو دين التوحيد، وهو ما وافق خلقة الإنسان وجبلته وطبيعته التي خلقه الله عليها، ولهذا كان ديننا "الإسلام" الحنيف دين الفطرة والخلقة الأولى للإنسان، ليس فيه وثنية ولا أحكام إلا يقبلها العقل السليم من المؤثرات الخارجة عن أصل الخلقة، والتي لا تستسيغها الطبائع البشرية السليمة، كما نرى ذلك في غيره من الأديان الغابرة والحاضرة من أعمال وتشريعات تخالف تماما العقل النير الصافي، ذلك لما طرأ عليها من تحريف أتباعها. وتظهر الفطرة السليمة في الإنسان البدوي البعيد عن الحضارة البشرية، وهو الذي لم يتلق العلم في المدرسة، ولم يكن ممن

نشأ في المجتمعات المتحضرة، فقد سئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فأجاب: يا سبحان الله. (إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟) فقد اهتدى هذا الأعرابي البدوي بفطرته السليمة البسيطة على وجود الصانع لهذا العالم، في حين لم يهتد إلى هذا فلاسفة هذا العصر المادي وكبار العلماء من مخترعي الذرة والصواريخ الدافعة للمركبات الفضائية، والصواريخ الجهنمية المحطمة لما بنته وشيدته يد وعقل الإنسان، فقالوا فيما قالوا: (لا إله والحياة مادة) .. اهتدى بآثار صنع الله في هذا الكون. فجاء الإسلام بما يوافق ما تتطلبه الفطرة السليمة، التي لا زالت على سلامتها وبساطتها، لم تدنس بدنس الإيحاء الشيطاني، فيأمر الإسلام بالاعتراف بوجود الإله الواحد القهار القادر العليم الحكيم، الخالق لكل مخلوق الموجود لكل موجود، سبحانه (لا إله إلا الله) فهي أساس كل دين سماوي جاء من خالق الأكوان، وهو رب العالمين كلهم. ***

السهام

السهام السهام جمع سهم، ويجمع السهم أيضا على أسهم وسهمان، والسهم في اللغة العربية له دلالة على مسميات عدة. 1 - السهم بمعنى الحظ والنصيب - القسمة - وهو مستعمل كثيرا في لغتنا إلى اليوم، فيقول القائل: سهمي في كذا، كذا، أو أسهمني معك، بمعنى اجعل لي قسمة ونصيبا معك. فمن ورود السهم بمعنى الحظ والنصيب: سهام الفرائض في قسمة التركات، ومنه - أيضا - ما ورد في كتب الطب والرقى من كتب السنة النبوية، فقد ذكرت أن رهطا - جماعة - من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها، فنزلوا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فاتفق أن لدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء ممكن لشفائه، فلم ينفعه شيء، فذهبوا إلى رهط الصحابة يسألونهم، هل لديهم علاج يعالجون به سيد الحي؟ فقالوا لهم نعم، على شرط أن تجعلوا لنا جعلا - أجرا - فاتفقوا على قطيع من الغنم - قيل ثلاثين - فرقاه أحد الصحابة بسورة الفاتحة،

فشفاه الله في الحين، وقام كأنما نشط من عقال، فلما أخذاوا منهم الجعل - الأجر - توقفوا في أكله مع شدة حاجتهم إليه، وقال الذي رقى - وهو أبو سعيد الخدري كما جاء مصرحا به في إحدى الروايات -: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله، هل ما أخذناه على الرقية حلال لنا أو حرام علينا؟ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا له ما وقع، قال للسائل: (وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) أي اجعلوا لي معكم سهما ونصيبا فيما أخذتموه، قال لهم هذا تطمينا لقلوبهم وتطييبا لخاطرهم وتشريعا لأمته حتى لا يبقى لهم أي شك في حلية ما أخذوه عن رقيتهم للديغ، والقصة مبسوطة في كتب الحديث بطرق مختلفة، لأنه قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله). أخرجه الإمام البخاري في كتاب الطب من صحيحه، كما أخرجه غيره. 2 - ويطلق السهم - أيضا - على واحد السهام التي كان العرب في الجاهلية يقترعون بها فيما بينهم، ويستقسمون بها وهي - الأزلام - واحدها زلم - فقد كانوا يقترعون بها على ما يريدون، ويلعبون بها القمار، وتسمى - أيضا - القداح، واحدها قدح بكسر القاف، فكانوا إذا اختلفوا في شيء كتبوا أسماءهم على السهام فمن خرج سهمه غلب غيره، فالسهام والأزلام والأقداح معناها واحد.

ومن ورود الاستهام في الاقتراع ما جاء في القرآن الكريم، في قصة السيدة مريم بنت عمران عليها السلام، حين اقترع عليها أهلها فيمن يتولى كفالتها وحفظها إلى أن تكبر، ومن بين المقترعين "زكرياء" عليه السلام، وكانت خالتها تحته، فطلبها منهم ليكفلها، فأبوا أن يسلموها له إلا بالقرعة فيما بينهم، ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (¬1) ذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم. وفي قصة رسول الله (يونس بن متى) عليه السلام حين اقترع بالسهام مع من كانوا معه في السفينه، فخسر القرعة، وذلك في قوله تعالى {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (¬2)} بمعنى قارع فكان من المغلوبين. ومن مجىء الاستهام في الاقتراع ما جاء في كتب السنة النبوية، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام مبينا فضل الأذان والصف الأول في الصلاة: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) أي لاقترعوا عليهما أيهم يؤذن للصلاة، أو أيهم يجد مكانا في الصف الأول لمزيد الثواب والأجر فيهما، رواه الإمام البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما رواه الإمام مالك في الموطأ في باب ¬

_ (¬1) الآية 44 من سورة آل عمران. (¬2) الآيات 139 - 140 من سورة والصافات.

النداء من كتاب الصلاة، فالاستهام هنا بمعنى الاقتراع في أشهر الأقوال. 3 - أو يطلق السهم - أيضا - على واحد النبل -، - والنبل جمع لا واحد له من لفظه - وقيل واحده "نبلة " والسهم بمعنى واحد النبل عود من خشب، يسوى وتزال منه العيدان التي في أطرافه، ويركب في طرفه نصل - حديدة - يرمي به الرماة عن القوس، وهذا السهم يستعمل في الصيد وفي الحروب قبل اختراع الأسلحة الحربية القديمة والحديثة، ويطلق عليه اسم (النشاب). ***

سهام الإسلام

سهام الإسلام سهام الإسلام هي وظائفه وشرائعه وأحكامه، وحدوده وجميع ما شرعه الله لعباده في شريعة الإسلام، وهي ما طلب - شرعا - من المكلف فعله أو تركه، لأن الخالق جل وعلا طلب من عباده أن يمتثلوا شرعه ودينه الذي أرسل به رسله الأكرمين إلى عباده أجمعين، وهو الغني عن الاحتياج إلى شيء من ذلك، فلا تنفعه طاعة المطيع كما لا تضره معصية العاصي، إنما المقصود من الشرائع المرسلة إلى العباد هو الامتثال والطاعة للآمر أو الناهي فيما أمر به أو نهى عنه، كما قال تعالى في ذبائح الحج: - النسك - {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} الآية 37 من سورة الحج، وكما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} سورة والذاريات. والمراد منها أيضا إصلاح حال العباد في معائشهم ومعاملاتهم فيما بينهم، لتستقيم لهم هذه الحياة، وبدون شرائع الله تعالى التي شرعها لعباده تكون حياتهم مشابهة لحياة الحيوانات التي

لا إدراك لها ولا تمييز عندها بين الحسن والقبيح، والأدلة على هذا متوفرة في هذا الوقت - بالخصوص - وقت التقدم الإنساني في جميع الميادين، سواء كانت علمية أو اقتصادية أو حظارية، ذلك التقدم الذي لم تشاهد مثله الدنيا فيما مضى من أزمانها. وأرى أن "الإسلام" مثل شركة المساهمة، وهي الشركة المكونة من شركاء مساهمين فيها، فمهما كثرت أسهمها والمساهمون فيها إلا وازدادت أرباحها وسمعتها، وعمت وانتشرت في الآفاق، وزاد ربح المساهمين فيها وعظم نفعها على حسب أسهمهم فيها وأنصبائهم منها، ورأيت أن أشبه "الإسلام" بشركة المساهمة، أخذا من الحديث الآتي الذي رواه الصحابي الجليل حذيفة رضي الله عنه، ومنه أخذت عنوان الكتاب. فمهما ألقيت ببصرك وسمعك إلى ما حولك من بلدان العالم ودوله، هذا العالم الذي نعيش فيه الا ووجدت كثرة الشركات فيه ذوات الأسهم المتعددة، وبالطبع تجد المساهمين فيها ذوي ثراء ومال عظيمين، مع ما يتمتعون به من جاه واسع، وطويل عريض، كل الناس يرغبون في الدخول فيها والانتساب إليها لينالوا نصيبا من أسهمها وحظوظها وفوائدها. هذه هي الحقيقة عن واقع الحياة كما نشاهدها بأبصارنا، ونفهمها بعقولنا، ولا نعبأ بالأقوال الجوفاء التي يلوكها أدعياء السياسة المزيفة، لأنها ميتة وخالية من روح الحقيقة والواقع.

لهذه الاعتبارات فإن المساهمين في تلك الشركات التجارية أو الصناعية أو غيرهما نراهم في رغد من العيش، وسعة من المال والجاه في هذه الحياة، بل وفي كثير من الأوطان يسيرون دفة حكومتهم وحكومات غيرهم من بعيد حسب ما يريدون ويرغبون، كما في الشركات المتعددة الجنسيات التي اتسع نفوذها وكاد يعم العالم، فكل واحد من المساهمين فيها يحرص كل الحرص على تقوية شركته وجعلها ذات أرباح وفوائد تعود على المساهمين فيها بالربح الوافر والعز والجاه الواسع، والهيبة في أعين الناس، في الدنيا كلها، وتراهم جادين في رفع مستواها وإعلاء شأنها، متجنبين كل نقص أو تقصير قد يؤدي إلى إفلاسها وموتها وزوالها من الوجود بل بالعكس من هذا كله فتراهم عاملين على نشرها وانتشارها وتوسعة نشاطها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، لأن في موتها خسارة - لا تعوض - على المساهمين والمنتفعين منها كلهم، وفي بقائها النفع والربح الكثير للجميع. هذا ما هو جار ومعمول به في الأوطان التي تتمتع بالنظم الحرة غير المقيدة بقيود الاشتراكية والشيوعية التي تحتكر حكومتها التجارة والصناعة وحتى الفلاحة، وتمنع أو تضيق من انتشار الشركات الحرة على عموم المواطنين، وترى أنها خطر على نظامها المفروض على الأمم فرضا، لأنه لا يقبله - بالاختيار - ذو عقل نقي صحيح، فهي ترى أن تترك الشعوب التي تحتها لا تكثر من تأسيس الشركات حتى لا تنال

بها المال الوافر والغنى الكبير، فتضيق عليها الخناق ولا تزودها بما هي في حاجة إليه إلا بمقدار ضئيل ومحدود مما هي في حاجة إليه لتسيير مؤسساتها، ليبقى المجال لها يوحدها، لتستعمل فيه عملاءها وخدامها وأذنابها، كي يحافظوا على بقائها ودوامها ممسكة بأزمة الأمور، فتكون هي الشركات وتضفي عليها اسم "الوطنية" والواقع أنها ملك للدولة، فكأن الشركات التي يمتلكها المواطنون غير وطنية، والذين يمتلكونها ويسيرونها كأنهم أجانب عن الوطن، وهذا اصطلاح في النطق والإطلاق يثير الضحك والسخرية. وبهذه المعاملة الشاذة ينتج الحد من نشاط النبهاء العاملين. إن الله تعالى وتقدس الخالق لكل شيء، ومن مخلوقاته هذا الإنسان الذي سخر له كل شيء يمكنه الاستفادة منه، لم يترك هذا الإنسان يشقى في حياته فاعتنى به عناية عظمى ترفع من شأنه ومنزلته، فأرسل الرسل بالشرائع ليهديه بها إلى السبيل السوي الأقوم، حتى لا يضل ولا يشقى، فيخسر الحياة الكريمة وما تجلبه له من الراحة والسعادة، فهو قد وهبه عقلا يفكر به، ويدبر شؤونه بفكره وعقله، فيفعل ما يراه حسنا نافعا له في حياته كلها، لائقا بكرامته، ككائن حي خلق ليحيى ويسعد، فيجتنب ما يعلم أن فيه مضرته وشقاوته ما وسعه ذلك. إن الدين الإسلامي النقي من كل أدناس العقائد والأعمال المدنسة لروحه، قد وجه المسلمين إلى ما يرفع من درجاتهم

بين أمم العالم إذا عملوا بما حواه من مأمورات، واجتنبوا ما نهاهم عنه من منهيات ومنكرات، فإذا حموه ودافعوا عنه وأذاعوه في الناس - فالخير أرادوا - فقد فازوا فوزا عظيما، ونجحوا في حياتهم هذه نجاحا كبيرا، وكان في ذلك كله قوة لهم، لا يستغنون عنها أبدا، وتاريخ السلف الصالح في صدر الإسلام الحجة الواضحة واللسان الصادق الذي لا تخفى على ذوي الألباب آثاره. لذا قلت - فيما رأيت - أن الإسلام يشبه الشركة - التجارية أو الصناعية - ذات الأسهم المالية في عصرنا هذا، فإذا قام المساهمون فيها قيام رجل واحد، بعزم وصدق وإخلاص، وغذاوها بأموالهم وأعمالهم ونشاطهم واجتهداوا في إنجاحها، وأتعبوا أنفسهم من أجلها - ليعم خيرها ونفعها - أصابوا منها خيرا كبيرا، وربحا عظيما - لهم ولمن انتفع منها - ودرت عليهم بالفوائد الجمة والأموال الغزيرة وعاشوا عيشة السعداء، فهكذا الإسلام تماما، فبقيام المسلمين بالعمل به والدعواة له ونشره بين العباد يعظم لهم الأجر والثواب والربح في الدنيا والآخر ولجميع بني الإنسان، وإن تركوا - الشركاء - شر كتهم مهملة، فلم يمدوها بما يملكون من طاقات مالية وجهود فكرية وبدنية، لو كان من بين المساهمين فيها من يعمل لفائدة غيرها، أو يسعى - بجهله - لتعطيلها أو إضعافها، فإن هذه الشركة تخسر ولا تنجح أسهمها، وتضعف عن مقاومة تيارات الشركات الأخرى المنافسة والمزاحمة لها ولفوائدها وللمساهمين فيها.

وهذا ما نراه اليوم ماثلا أماما أعيننا في الشركات العالمية المجدة في عملها، الدائبة على تحسين صنعتها ومنتوجاتها، كي تستولي بها على أسواق العالم، لترويج إنتاجها المتقن والجيد في آن واحد، فأين هم المساهمون في إنتاج الإسلام؟. فالإسلام بناء على هذا شركة مساهمة بين جميع المسلمين، فبالعمل به وله يسعدون وينتشر ويقوى، والعكس بالعكس. فقد رأينا خصوم الإسلام توجهوا لمحاربته بكل طاقاتهم - في الهيآت - بكل الوسائل، لذا يتحتم ويتأكد على النخبة الصالحة من أبناء الإسلام العاملين له، ولو كانوا حديثي عهد به - لا الأدعياء الدخلاء فيه بالإرث فقط عليهم أن يلتفوا حوله ويبعدوا عنه هذه البضاغة الرخيصة الحقيرة التي جاءت لتزاحم بضاعة الإسلام الممتازة المختارة من بين منتوجات العالم ومصانعه، فدخلت هذه البضاعة سوق المعروضات الرخيصة التي غزت أسواق العالم بتفاهتها وحقارتها وقذارتها كي تصد الناس عن الإسلام وبضاعته الجيدة والممتازة، في حين أنها لا تستطيع أن تثبت أمام إتقان المعروضات الإسلامية ومتانتها وصلاحيتها وحسن منظرها ومخبرها واستعمالها والتجمل بها، بل حتى والفخر بها والاعتزاز بجودتها، لو وجدت من يقوم بحسن عرضها على الأنظار والدعاية لها. وأعني ببضاعة الإسلام المختارة والممتازة شريعته بعقائدها وعباداتها وأحكامها وأخلاقها.

أما البضاعة المزاحمة لبضاعته فهي هذا الإلحاد وسوء الأخلاق وما يتبعهما. إن البضاعة المزيفة والمغشوشة التي يدعي لابسوها ومروجوها إنها من بضاعة الإسلام وصنعه فإن الحقيقة أثبتت أنها غريبة عنه، وما هي من اتناج مصانع الإسلام، فقد كثرت وانتشرت في أسواق العالم، وكادت البضاعة الجيدة والصافية من الغش والتدليس أن تختفي من تلك الأسواق، إما لقلة عارضيها - وكثرة معارضيها - وإما لقلة المساهمين في شركتها فكان انتاجها قليلا لقلة المساهمين في شركتها أو لكون العرض جاء ناقصا عما عليه أولئك المزاحمون. ***

كم هي سهام الإسلام؟

كم هي سهام الإسلام؟ على المسلم أن يعرف ما هي سهام الإسلام؟ وما هي ماهيتها ومقاديرها وأرباحها؟؟؟ وعليه أن يعرف أيضا ما هي هذه السهام أو الأسهم؟ التي نشترك بها في شركة الإسلام الرابحة إن شاء الله، لتنمو أرباحنا وأرباحها، حتى يتقوى الإسلام وينتشر ضوؤه ويعم خيره. سهام الإسلام ورد ذكرها في بعض الآثار النبوية مختلفة الطرق والعدد - تارة بلفظ سهام وتارة بلفط أسهم -، ففي بعضها أنها ثلاثة سهام، وفي البعض الآخر أنها ثمانية أسهم، وورد في بعض أنها ثلاثون سهما، وهي موزعة في سور من القرآن ما بين مأمور به ومنهي عنه، والكل بعد عدها وإحصائها والتدبر فيها صحيح وموافق لما عرضه القرآن في آياته. ومن المعروف في شركات المساهمة أن الفائدة توزع بقدر عدد السهام بين قلتها وكثرتها، فمن كان في شركة مساهمة، وساهم فيها بحظ وافو من السهام ذات القيمة العالية، فإن نصيبه في الربح منها يكون أوفر وأكثر ممن كانت مساهمته فيها بنصيب

أقل منه، وهكذا في الإسلام، فمن عمل واجتهد وامتثل لما طلب منه، فقام بفرائضه، وحافظ عليها، وترك منهياته وابتعد عنها، كان من الرابحين بنصيب وافر من الأجر والثواب والعزة والكرامة، وكان ربحه دائما ومدده متواصلا غير مقطوع عنه ولا ممنوع، لأنه ناله من كسب أمره به رب العالمين. ذكرت سهام الإسلام في بعض كتب الحديث، حيث رواها رواة اختلفت درجاتهم في الضبط والتحري، كما اختلفت في عددها بحسب ما رووه من الأحاديث، وسأتعرض لها فيما يلي: أ) جاء في كتاب "الترغيب والترهيب" من الحديث الشريف للحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري رحمه الله في ج 1 ص 517 قال: (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث أحلف عليهن: 1 - لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة/ الصلاة، والصوم، والزكاة. 2 - ولا يتولى الله عبد في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة. 3 - ولا يحب رجل قوما إلا جعلة معهم. والرابعة لو حلفت عليها رجوت أن لا آثم/ لا يستر الله عبدا في الدنيا الا ستره يوم القيامة) رواه أحمد بسند جيد. وأخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك، ج، 1، ص 19 من كتاب "الإيمان" قال بعد أن ذكر السند إلى قوله عن إسحاق

ابن عبد الله بن أبي طلحة، قال حدثني شيبة الحضرمي أنه شهد عروة بن الزبير يحدث عمر بن عبد العزيز عن عائشة أن رسول الله عليه وسلم قال: (ثلاث أحلف عليهن: 1 - لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وسهام الإسلام/ الصوم والصلاة والصدقة. 2 - ولا يتولى الله عبد في الدنيا فيوليه غيره يوم القايامة. 3 - ولا يحب رجل قوما إلا جعله معهم. والرابعة إن حلفت عليها رجوت أن لا آثم/ ما يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره في الآخرة. فقال عمر بن عبد العزيز: إذا سمعتم مثل هذا الحديث يحدث به عروة عن عائشة فاحفظوه. زاد الحاكم فقال: شيبة الحضرمي قد خرجه البخاري، وقال في التاريخ، ويقال الخضري سمع عروة وعمر بن عبد العزيز وجاء في الجزء الرابع من التاريخ الكبير للإمام البخاري ترجمة (2669) قوله: شيبة الحضرمي، سمع عروة وعمر بن عبد العزيز - قال المعلق الخضري وهو الصواب - روى عنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال الحاكم - كعادته: وهذا الحديث صحيح الإسناد. ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: قلت ما خرج له سوى النسائي هذا الحديث، وفيه جهالة. وقد ذكره الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي في كتابه "مجمع الزاوائد ومنبع الفوائد" بروايات متعددة، ومنها رواية عائشة المتقدمة، وقال فيها:

رواه أحمد ورجاله ثقات، كما رواه أبو يعلى أيضا، ذكره في باب (بيان فرائض الإسلام وسهامه). ب) وجاء في بعض كتب الحديث أن سهام الإسلام ثمانية أسهم، منها: كتاب "الترغيب والترهيب" من الحديث الشريف للحافظ عبد العظيم المنذري، من كتاب "الصدقات" الحديث رقم "9" قال: (وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الإسلام ثمانية أسهم / الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له) رواه البزار موفوعا، وفيه يزيد بن عطاء اليشكري، ورواه أبو يعلى من حديث علي مرفوعا أيضا، وروي موقوفا على حذيفة، وهو أصح، قاله الدارقطني وغيره. كما أخرجه الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي في كتابه (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) في باب "بيان فرائض الإسلام وسهامه" قال: (عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام ثمانية أسهم/ الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وحج البيب سهم، والصيام سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له) قال الهيثمي: رواه البزار، وفيه يزيد بن عطاء وثقه أحمد وغيره، وضعفه جماعة، ورجاله ثقات اهـ من الجزء الأول صفحة "38".

والحديث كما رأينا جمع ثمانية من فرائض الإسلام المعتبرة فيه، إنما المدار فيه على الراوي يزيد بن عطاء اليشكري فمن علماء الحديث من وثقه، ومنهم من ضعفه، وله طريقان في سنده، الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوقف عن الراوي الأخير، وهو حذيفة رضي الله عنه، قال الدارقطني وغيره: الوقف أصح. قال الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في كتابه "المغني في الضعفاء" يزيد بن عطاء اليشكري مولى أبي عوانة، قال أحمد: حديثه مقارب، وقال ابن سعد ضعيف، قال أبو حاتم لا يحتج به. وترجم له الإمام الذهبي - أيضا - في كتابه "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" في الترجمة - 9731 - : يزيد بن عطاء اليشكري الذي أعتق أبا عوانة الوضاح بن عبد الله، يكني أبا خالد الواسطي البزاز، عن منصور وعلقمة بن مرثد، ونافع مولى ابن عمر، وعنه عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى الوضاحي وطائفة، قال أحمد مقارب الحديث، وقال ابن سعد ضعيف، وقال أبو حاتم لا يحتج به، وقال ابن عدى حسن الحديث، وقال أحمد أيضا ليس به بأس، وقال النسائي وغيره ليس بالقوي. ومما يؤيد ويقوي ما جاء في هذا الحديث على تعدد رواياته واختلاف طرق نقله وضعفها وقوتها الخ أن هذه السهام ذكرت مفرقة في كثير من الآيات القرآنية، منها هذه الآية التي جمعت

أربعة من تلك السهام، وهي قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (¬1) قال زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وعند الله ثواب ما صنعوا، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول (لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له) وقوله أيضا: (وقد خاب من لا سهم له). ج) أما ترجمان القرآن وحبر الأمة/ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم ربه بأن يعلمه التأويل، فإنه تتبع آيات القرآن الكريم، فأحصى أصول فرائض الإسلام وشرائعه، وبلغ بها الثلاثين سهما، فهو قد رآى أن سهام الإسلام التي أمر الله بها أو نهى عنها، - وبها يكتمل هذا الدين عند أتباعه المسلمين - تصل إلى ثلاثين سهما، وهذا منه رضي الله عنه لا يصدر عنه من قبل الرأي المجرد، لو لم يكن له فيه سماع من صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، فإنه أخذها من آيات القرآن الكريم، وهو ظاهر واضح كما سنبينه حسبما نقل عنه، وذلك في قوله تعالى مادحا خليله ورسوله أبراهيم عليه السلام في سورة البقرة {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}. (¬2) وقوله تعالى في سورة والنجم {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (¬3). ¬

_ (¬1) الآية 41 من سورة الحج. (¬2) الآية 124. (¬3) الآية 37.

فقد أخرج الحاكم في المستدرك بسنده عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سهام الإسلام ثلاثون سهما، لم يتممها أحد قبل ابراهيم عليه السلام، قال الله عز وجل: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} واستدل على ما ذهب إليه بقوله تعالى مثنيا على خليله ابراهيم عليه السلام بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} وذلك من قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (¬1) قال الحاكم - جريا على عادته - هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه - أي البخاري ومسلم - (¬2) وذكر الحاكم في المستدرك أيضا رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الإسلام ثلاثون سهما، وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: وإبراهيم الذي وفى، فكتب له براءة من النار) قال الحاكم هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه (¬3). أما أسماء هذه السهام التي أشار اليها ابن عباس رضي الله عنهما، والتي هي وظائف الإسلام وشرائعه، فهي ما بين مأمور به ومنهي عنه، وترغيب في الخير وحث على فعله، وتحذير من الشر وعواقبه، وقد أشار إليها جل المفسرين لكتاب الله عند كلامهم على قوله تعالى في سورة البقرة {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} وقوله تعالى في سورة والنجم {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}. ¬

_ (¬1) الآيتان 36 - 37 من سورة والنجم. (¬2) المستدرك ج 2 ص 470. (¬3) ج 2 ص 552 من كتاب التاريخ من المستدرك.

ومن أولئك المفسرين/ الإمام ابن جرير الطبري، والزمخشري، والقرطبي، والخطيب الشربيني، والألو سي وغيرهم، وأخذوها من آيات القرآن الكريم، وقالوا فيها انها مذكورة في هذه الآيات الكريمة من كلام ربنا عز وجل. ففي سورة التوبة عشرة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْالخ} وفى سورة الأحزاب عشرة في قوله تعا لى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِالخ} والعشرة الباقية موزعة بين سورتي/ قد أفلخ المؤمنون، وسأل سائل كما سنبينه بتوفيق الله. قال أولئك المفسرون لكلام الله تعالى: ان السهام العشرة الواردة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْالخ} تبتدئي من قو له تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الخ}، فبعد عدي لها وجدتها تسعة فقط فرجعت أفكر في الآية فاهتديت إلى أنا السهم العاشر هو قوله تعالى: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وبهذا تتم العشرة لأن القتال هنا هو الجهاد المصرح به في الحديث الذي رواه حذيفة رضي الله عنه - كما تقدم في حديثه - وعند هذا انتظم الإحصاء فكانت السهام في هذه الآية عشرة، أردت بهذا التنبيه فقط، لأن المفسرين رحمهم الله أشاروا إليها فقط ولم يحصوها. فنعود إلى تلك الآية - آية التوبة - لنستخرج منها السهام العشرة، قال الله تعالى في الآيتين: "111 - 112" {إِنَّ اللَّهَ

اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ 1 - يقاتلون في سبيل الله (1) الجهاد في سبيل الله. 2 - التائبون (2) التوبة من الذنوب. 3 - العابدون (3) العبادة لله وحده. 4 - الحامدون (4) حمد الله تعالى على نعمه الوافرة. 5 - السائحون (5) السياحة في الارض لنشر الدين وعقيدة التوحيد. 6 - الراكعون (6) الركوع لله وحده. 7 - الساجدون (7) السجود لله الواحد القهار لا لغيره. 8 - الآمرون بالمعروف (8) الأمر بالمعروف وهو كل ما فيه الخير والصلاح للمسلم في دينه ودنياه. 9 - والناهون عن المنكر (9) النهي عن ارتكاب كل فعل ذميم مكروه من العقلاء. 10 - والحافظون لحدود الله (10) المحافظة على ما حدده الله لعباده المؤمنين لتستقيم أمورهم، وعدم مجاوزته امتثالا لأمر الله. وبعض المفسرين جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهما واحدا، وعلى هذا لا يستقيم الاحصاء. أما العشرة التي في سورة الأحزاب فهي في قوله تعالى:

1 - إن المسلمين والمسلمات (1) الإسلام وذلك بتوحيد الله توحيدا تاما. 2 - والمؤمنين والمؤمنات (2) الإيمان بكل ما جاء من عند الله بواسطة رسله الكرام. 3 - والقانتين والقانتات (3) القنوت والطاعة لله تعالى وكثرة الدعاء. 4 - والصادقين والصادقات (4) الصدق في الحديث وفى غيره كالمعاملات وجميع المواقف. 5 - والصابرين والصابرات (5) الصبر المحمود في كل شيء مثل الطاعات والمعاصي. 6 - والخاشعين والخاشعات (6) الخشوع والتذلل لله الواحد القهار. 7 - والمتصدقين والمتصدقات (7) بذل الصدقات للمحتاجين إليها كيفما كان نوعها. 8 - والصائمين والصائمات (8) الصيام بجميع أنواعه. 9 - والحافظين فروجهم والحافظات (9) العفة والتنزه عن الخنا والفاحشة بجميع ألوانها وأنواعها. 10 - والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم تمغفرة وأجرا عظيما. (10) الاكثار من ذكر الله في كل حين من غير سهو عنه ولا تقصير. والملاحظ أن ما جاء في هذه الآية (35) من سورة الأحزاب قد ذكرت كلا من الصنفين المخاطبين بالإسلام - الذكر والأنثى - فكل واحد منهما مطالب بالإتيان بهذه السهام وغيرها.

وعشرة سهام موزعة ما بين سورتي (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وسَأَلَ سَائِلٌ)، ففي سورة قد أفلح ستة، وفى سورة سأل سائل أربعة، وما ورد في هاتين السورتين مما قد يكون مكررا مع غيره فهو في وجه آخر من أوجه تنوع دلالة القرآن الكريم على ما يدعو إليه، من الترغيب والتشويق لتبادر النفس المؤمنة إلى الامتثال والاتباع. فلنأخذ هذه العشرة الباقية من السورتين الكريمتين المشار إليهما آنفا: 1 - قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون (1) الخشوع في الصلاة. 2 - والذين هم عن اللغو معرضون (2) الاعراض والترك لكل ما لا يليق بكرامة المسلم. 3 - والذين هم للزكاة فاعلون (3) أداء الزكاة المفروضة وإعطاؤها لمن يستحقها. 4 - والذين هم يفروجهم حافظون إلا على أزواجهم الخ. (4) ترك الزنى والخنا والأقذار والمباح هو ما بعد الاستثناء 5 - والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. (5) المحافظة والوفاء بالعهود والأمانات. 6 - والذين هم على صلواتهم يحافطون. (6) المحافظة على الصلوات بشروطها وفرائضها واركانها. وإقامتها والمبادرة إلى فعلها في أوائل أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها الخ.

والتي هي في سورة (سَأَلَ سَائِلٌ) جاءت في قوله تعالى بعد الاستثناء: 7 - إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون الآية 23 منها. (7) المداومة على فعل الصلاة، فلا يتركونها ولا يؤخرونها عن وقتها. 8 - والذين يصدقون بيوم الدين الآية 26. (8) الايمان بيوم القيامة والبعث والحساب الخ. 9 - والذين هم من عذاب ربهم مشفقون الآية 27. (9) الخوف من عذاب الله وتجنب ما يوجبه ويوصل إليه. 10 - والذين هم بشهادتهم قائمون الآية 33. (10) أداء الشهادات على وجهها من غير كتمانها وترك شهادة الزور. هذه هي سهام الإسلام الثلاثون على ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهي مستمدة من الآيات القرآنية، ولم يكن منها سهم خارجا عما أمر به رب العالمين أو نهى عنه أحكم الحاكمين، (وقد خاب من لا سهم له) وقد خسر حياتهم أولئك الذين لم يشاركوا في هذه الشركة الرابحة، بأن لم يكن لهم فيها أي سهم، أو أولئك الذين اشتركوا وشاركوا في المؤسسات والهيآت التي زاحمت شركة الإسلام محاولين بذلك إفلاس الإسلام والقضاء عليه، فكانت الدائرة عليهم، والنصر والبقاء للإسلام لأنه دين الله وشرعه الذي أنقذ به البشرية من الضلالات.

فاحرص أيها المسلم الكامل - على المساهمة في شركة الإسلام الرابحة، بكل ما تستطيع من السهام، سواء كانت تلك السهام ثلاثة، أو ثمانية، أو ثلاثين، حتى لا تفوتك هذه الفائدة العظمى، فائدة الدنيا والاخرة، فتكون - إن لم تفعل - في يوم من الأيام من النادمين الخاسرين، بعد أن يفوتك زمن التدارك واللحوق بصف الرابحين الناجحين، وتبقى مع الخاسرين الهالكين، فلا يغرنك الغرار، فيلحق بك المذلة والهوان والعار، ولله در من قال: عَلَى نَفْسِهِ فَلْيَبْكِ مَنْ ضَاعَ عُمْرُهُ … وَلَيْسَ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ وَلَا سَهْمُ وسنشرع بحول الله - في بيان سهام الإسلام الثمانية التي جاءت في حديث حذيفة رضي الله عنه، فهي التي اعتمدتها وبنيت عليها هذا الكتاب، وأسميته ـ[سهام الإسلام]ـ فخذ بها أيها المسلم وطبقها في نفسك، وادع لها - ما استطعت - كيفما كان اعتبارك لهذه السهام، سواء اعتبرتها حظوظا وأنصباء - بحسب مدلول لفظ السهم - فخذ بحظك ونصيبك من الإسلام ولا تهمله وتضيعه فتضيع أنت. أو اعتبرتها نبالا - حسب ذلك المدلول اللغوي أيضا - فأقمها وسددها واعمل بها تكن قد وجهتها لصدور أعداء

الإسلام، ورميت بها في نحورهم، فإنك بكل اعتبار من العاملين الفائزين، ان شاء الله. ومن الله نطلب التوفيق والإعانة والحفط من الخطأ، والخطل والزلل، فهو المرجو والمسؤول والستار العليم. ***

السهم الأول: الإسلام الشهادة

السهم الأول: الإسلام الشهادة تطلق كلمة الإسلام ويراد بها "الشهادة" أي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، إذ هي الأساس الذي بني عليه صرح الإسلام، فبدونها لا تقبل جميع أعمال الإسلام، وبعدها تأتي بقية أركانه، لأنها أول ما يطلبه الدين الإسلامي من أتباعه، اذ لا تتحقق بقية أركانه، ولا تقبل من فاعلها الا إذا أتى بها عقيدة، ونطق بها لسانه، فلا تقبل صلاته ولا صيامه الخ أركانه الا بالنطق بكلمة التوحيد المعبرة بصدق عما يكنه الناطق بها في قلبه، فلو كانت منبعثة من اللسان فقط بلا اعتقاد يصدقها في القلب لم تكن لها قيمة في الشرع، ويكون الناطق بها منافقا كاذبا في نطقه بها، اذن لا بد من المطابقة والموافقة بين ما في القلب وما ينطق به اللسان، لأن الإسلام دين التوحيد، أي وحدانية الله الخالق لكل موجود، والإسلام يرى أن الشرك بالله ظلم وعدوان على مقام جلالته وعظمته وقدرته، فالإسلام من أول أهدافه محاربة الشرك والمشركين، لأن الشرك مناف لفطرة الإنسان التي فطر عليها، كما قال الله في محكم كتابه:

{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فمن كان مؤمنا بالله موحدا لربه وخالقه فقد ساهم بنفسه في نشر وإذاعة التوحيد الذي هو الحق، ودين التوحيد هو الذي لا يقبل من أحد من خلق الله أي عمل من أعمال الطاعات والقربات إلا إذا كان العامل له موحدا لربه وخالقه مخلصا له في فعله وطاعته، فكل دين يدان الله به لابد أن يكون مما شرعه الله لعباده وأمرهم باتباعه كي يعبدوه به لا بسواه من سائر الأديان والشرائع التي لا توافق ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، كما قال في محكم التنزيل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬1) وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2). فشهادة أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله، عليها قام دين الإسلام الذي هو دين جميع الانبياء والمرسلين الذين أرسلهم الله إلى البشر لينقذوهم من ضلال الضالين، ووسوسة الشياطين، وليس لله دين يرضى به سواه، ولا يقبل من أحد غيره، هذه هي الدعوة التي دعا إليها جميع الرسل الكرام، ونادوا بها في قومهم وأتباعهم، وقد نادى بها ودعا إليها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، أسوة بمن سبقه من أمثاله ¬

_ (¬1) الآيتان 18 - و19 من سورة آل عمران. (¬2) الآية 85 من نفس السورة.

المرسلين، كما أمره الله بها وأن يدعو الناس عموما إليها، فقال تعالى آمرا رسوله بالجهر بها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1). هذه الدعوة الموجهة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ربه إلى أهل الكتاب - اليهود والنصارى - لا زالت قائمة إلى اليوم والمطالب بالقيام بها هم المسلمون الصادقون أنصار الإسلام ودعاة التوحيد وحب الخير إلى جميع عباد الله، لأنه دعاهم ليعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا كيفما كان أصله ونوعه، فالمسلمون كلهم فيها سواء متساوون لا يفضل أحد على أحد الا بطاعة الله واتباع شرعه الذي شرعه لعباده. روى ابن جرير الطبرى - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬2) بسنده إلى قتادة رضي الله عنه قال: "والإسلام شهادة أن لا اله إلا الله، والاقرار بما جاء به - يعني رسول الله - من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره ولا يجزى الا به" وعلق على هذا الأستاذ أحمد شاكر فقال: قوله "بما جاء به" الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ¬

_ (¬1) الآية 64 منها. (¬2) منها آية 19.

كأنه قال "شهادة أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله" ولا تتم شهادة الا به، وهكذا ذكره السيوطي رحمه الله في الدر المنثور ج 2 ص 12 ونسبه إلى عبد بن حميد أيضا بهذا اللفظ. وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في تفسيره - القيم - لهذه الآية {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}: والإسلام هو توحيده سبحانه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: افتخر المشركون بآبائهم، فقال كل فريق: لا دين الا دين آبائنا وما كانوا عليه، فأكذبهم الله تعالى فقال: {إن الدين عند الله الإسلام} يعني الذي جاء به محمد، وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وليس لله دين سواه، كما قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} التفسير القيم لابن القيم. ويتضح لنا من كل هذا أن هذا الدين - الإسلام - هو الدين الذي أرسل به رسله الأكرمين من أول رسول منهم إلى آخرهم، وكلهم جاءوا بتوحيد الله عز وجل وطاعته في كل ما أمر به ونهى عنه - ومن شذ عن هذا شذ في النار - فدين التوحيد - الإسلام - هو دين رسل الله وأتباعهم، وأنه لم يكن لله - قط - دين غيره. فتوحيد الله سبحانه وتعالى واجب على كل أحد، ولا يكون هذا الا بالإسلام والطاعة لله وحده في كل شيء والانقياد والخضوع لأحكام شرع الله المدبر الحكيم، فلا طاعة ولا عبادة

ولا خضوح ولا انقياد الا لله رب العالمين، وبهذا يتحقق في المسلم التوحيد، ويحققه في كل شيء من أعماله وتصرفاته ومعاملاته. فالإسلام - وحده - هو دين أهل السموات والأرض من أهل التوحيد، ولا يقبل من أحد دينا غيره. فاليهودية والنصرانية جاءتا بما جاء به الإسلام صافيتين، من غير شرك ولا وثنية ولا طاعة فيهما الا لله الواحد القهار، ثم حرفتا من أتباعهما فأخرجتا من دائرة التوحيد إلى الوثنية أو ما يشبهها. فالوحدانية واجبة في حق الله تعالى، وحدانية في العبادة، بمعنى الطاعة والخضوع والانقياد والرضى بشرع الله، فلا طاعة ولا خضوع ولا انقياد الا له سبحانه وتعالى الواحد الأحد، الفرد الصمد في ألوهيته، فمن خضع وانقاد لغيره فقد زاغ عن سبيل العقل والادراك، ومن أطاع غير الله فيما تجب فيه طاعته لله فقد ضل وخرج عن سبيل الحق والصواب، واتبع سبيل الشياطين الذين أضلوا كثيرا من عباد الله. والوحدانية كذلك واجبة في حق ربوبيته تعالى، فلا خالق غيره، ولا مدبر لشؤون جميع المخلوقات سواه، فقد انكشف لأهل الايمان به أن التصرف في هذا الكون بالايجاد والاعدام والاعطاء والمنع وغير ذلك مما اختص به سبحانه الواحد القهار، لا يشاركه في هذا أحد، فما شاءه وأراده كان بأمره وارادته، وما لم يشأه لم يكن كذلك بمشيئته وإرادته.

فالمسلم إذا قال: أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقد أقر واعترف - بكلمة التوحيد - أنه لا اله يعبد بالحق غير الله الخالق لكل شيء وهو المسير - بإرادته - لكل ما في هذا الكون الذي نشاهده ونشاهد فيه آثار القدرة الباهرة ظاهرة لا تخفي على ذوي البصائر والعقول الصافية. ذكر الألوسي رحمه الله في تفسيره - روح المعاني - عند تعرضه لتفسير هذه الآية {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} قال: وروى علي بن ابراهيم عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال في خطبة له: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي: "الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الاقرار، والاقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، ثم قال: ان المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه، ان الؤمن يعرف إيمانه في عمله، وان الكافر يعرف كفره بانكاره، أيها الناس دينكم دينكم، فان السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، ان السيئة فيه تغفر، وأن الحسنة في غيره لا تقبل. فأول ما يطلبه الإسلام ممن يرغب في الدخول فيه واتباع شريعته وأحكامه، والعمل بما فيه وفى تشريعه هو الاعتراف والاقرار بوحدانية الله، وأنه لا اله غيره، هو الواحد الفرد في ألوهيته وربوبيته، وهو الخالق لكل شيء منه وحده الايجاد والاعدام، والعطاء والمنع "أشهد أن لا إله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله" فهو المبلغ لهذا الدين إلى بني الإنسان،

وهو المرسل من عند الله الواحد القهار بالرسالة الخالدة الباقية ما بقيت لحظة من هذه الحياة، فإذا لم ينطق بها الراغب في الإسلام، واذا لم تكن خارجة وصادرة من قلب مؤمن ومصدق بما يقول لسانه فليس هو بالمؤمن ولم تنله أحكام الإسلام، ولو فعل كل ما دعا اليه الإسلام في شريعته. فإذا نطق المسلم بكلمة التوحيد "أشهد أن لا إله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله" وأدرك معناها كما هو مطلوب منه، فان كل قوة مهما عظمت في هذا العالم الا وتضعف وتحتقر وتهان وتتضاءل في عقيدة المسلم أمام قوة الواحد القهار، وهذا هو عين الحقيقة، فمن مفاهيم كلمة التوحيد الشعور بقدرة الله على كل شيء، ولا يقع في هذا العالم الا ما أراده خالقه وقدره وشاءه، فلا طاعة الا له، ولا خوف الا منه، ولا رجاء الا فيه، ولا رضى الا له، فان لم يكن هذا هو شعور المسلم في نطقه بكلمة الشهادة فان نطقه بها مجردة عن هذا المعنى لا يبعث في نفسه الخوف من عقابه إذا هو عصاه وخالف شرعه واتبع هواه، أو الأمن والنجاة من عذابه إذا هو أطاعه واتبع شرعه وعمل على رضاه، وهذا ما نشاهده في الكثيرين من مسلمي هذا الزمان، فعندما غاب هذا الادراك لمعنى كلمة التوحيد عن عقولهم استهانوا بأحكام دينهم، فأعرضوا عن أداء فرائضه المفروضة عليهم، وأقبلوا على المحرمات والمعاصي المنهي عنها يرتكبونها ويأتونها بلا خجل ولا حياء ولا وازع، ولاخوف من عقابه إذا رجعوا اليه ووقفوا بين يديه في يوم الحساب،

بل أن البعض منهم أنكر وجحد هذا الرجوع وذلك الحساب، لما أذاعه فيهم أعداؤهم وأعداء ربهم ودينهم، فاتبعوهم في باطلهم، وأعرضوا عن الحق الوضاح. ان الكثيرين من العصاة إذا ما لا مهم لائم على ما يرتكبونه من المعاصي، أو على تهاونهم بفروض دينهم أجابوه - جواب الجاهل المغرور - بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وغفلوا عما بعده، من ذكر العقاب الأليم، ذلك قوله في نفس الآية: {نبئ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} الآيتان 49 - 50 من سورة الحجر، ذلك ان الله يقرن في كثير من الآيات القرآنية المغفرة بالعقاب حتى لا يتجرأ العباد على فعل المنهيات وترك المأمورات اتكالا على سعة رحمة الله، وتشويقا لتلك الرحمة التي لا ينالها الا الطائعون، وحتى لا يطمع أحد من عباده في نيل تلك المغفرة بلا عمل للطاعات، وكي لا ييأس عامل لها من فضله ورحمته، فالمغفرة إنما ينالها الطائعون، والعقاب انما هو من نصيب العصاة والمذنبين، وهذا هو عين العدل الرباني، اما مغفرة بلا طاعة، أو عقاب بلا ذنب فذلك لا يكون من الحكيم العادل العليم، وهو القائل: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} الآيتان 35 - 36 من سورة القلم. فتوحيد الله - كما قلنا - هو دعوة كل رسول بعثه الله إلى عباده من حين ظهور الشرك وعبادة الأوثان فيهم، بدل

عبادة الرحمن، وهذا من زمن رسوله نوح عليه السلام، وهو الزمن الذي ظهر فيه الشرك بالله، إلى آخر الرسل الكرام، وهو محمد عليهم جميعا الصلاة والسلام، ويتجلى هذا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} سورة النحل الآية 36 - وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا يُوحَي إِلَيْهِ- أو نُوحِي - أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} سورة الأنبياء آية 25، ويفصح عن هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه لوسلم أنه قال: " نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد". فكل الرسل جاءوا بتوحيد الله، وان اختلفت شرائعهم فدينهم واحد، وهو عبادة الله وحده، وهذا هو معنى أولاد علات، وأولاد العلات هم الأولاد الذين يولدون من أب واحد وأمهات شتى، وهم الأخوة للأب كما يسمون في باب الفرائض. وفى النطق بلفظ الشهادة المذكورة الصادرة من قلب آمن بما قال تطهير له من كل اعتقاد في غير الله، بأنه ينفع ويضر ويعبد ويطاع الخ، لأن اعتقاد الألوهية في غير الله مخالف للفطرة التي فطر الله عليها الناس، وهي فطرة توحيد الله عز وجل، اذ "التخلية قبل التحلية" كما هو معروف، يخلي قلبه من كل ما سوى الله، ثم يحلي ويزين نفسه بالحلية التي أمر بها الإسلام، وهي التوحيد، كمن يرغب في التحلي والتجمل باللباس النقي الجميل، فان عليه أن ينظف بدنه بغسله من جميع الأوساخ

التي كانت فيه ثم يلبس اللباس النظيف الطاهر الجميل، ويتطيب بما شاء وأراد من أنواع الطيب والعطورات ليظهر للناس في حالته الحسنة التي تدعو اليها الفطرة السليمة والأخلاق الكريمة، فالله منزه عن كل صفات البشر، بهذا أمر الإسلام أتباعه. طلب العرب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم هذا الرب الذي دعاهم للايمان به والعمل بدينه، فنزلت عليه من ربه "سورة الاخلاص" والتوحيد، وفيها الكفاية، وفيها الجواب الكافي عن سؤالهم عما يريدون منه، ان كانوا صادقين في سؤالهم، وسألوا ليعلموا ويعملوا، فقال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمره أن يخبر هؤلاء المشركين عن الاله الذي دعوا للايمان به: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. وصدق الله العظيم فيما قال وأخبر عن ذاته، فهو كما قال وأخبر، وسبحان الله الواحد الأحد عما يقوله فيه الكافرون والمشركون. ***

السهم الثاني: الصلاة

السهم الثاني: الصلاة فرضها ومدلولها: الصلاة إحدى قواعد الإسلام الخمس التي بني عليها، وهي دعامة هامة في بناء هيكله، ومظهر حيوي من مظاهره، كما جاء في الأثر الذي رواه البيهقي في شعب الايمان عن عمر رضي الله عنه "الصلاة عماد الدين" ونقل عن عمر أنه قال: "من ترك الصلاة فلا دين له". وجاء في سنن النسائي وغيره عن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" قال العلماء هذا توبيخ لتارك الصلاة وتحذير له من الكفر. والصلاة بما فيها من قراءة القرآن والتكبير والتحميد والتسبيح لله عز وجل من أجل وأعظم القربات إلى الله تعالى وهي مؤقتة بأوقاتها، لا يسع المسلم تركها أو تأخيرها عن وقتها بغير عذر، أو التهاون في أدائها، فلا يستقيم للمسلم إسلامه الا بها، وهي الفارق بين الايمان والكفر، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ

كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬1) ولم يشترط الإسلام في أي ركن من أركانه ما اشترطه في أداء الصلاة، كالطهارة - مثلا - في بدن المصلي ولباسه ومكان الصلاة، فلا تقبل ولا تبرأ ذمته منها الا إذا كان طاهرا من كل الخبائث والنجاسات، متوجها وقت أدائها إلى القبلة التي وحدت بين جميع المسلمين في التوجه اليها عند كل صلاة، ولها مزية زائدة على كل فرائض الإسلام، لأنها شرعت وفرضت على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أمته من فوق سبع سموات في ليلة الاسراء والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كثر ذكرها في القرآن وتكرر، ولم يرد هذا في سائر فرائض الإسلام وشعائر هذا الدين، وهذا للعناية بها والاهتمام بشأنها، وهي أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله في الدنيا يوم الحساب، فإذا صلحت صلح عمله، وإذا ساءت ساء عمله كله، وهي من آخر ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته لينبه أمته كي لا تتهاون بها ولا تقصر في فعلها فقال: "الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم" فقد أوصى بالمحافظة على الصلاة والرفق والاحسان بالمملوك الضعيف. واسمها مشتق قيل من الصلة لأنها تصل بين العبد وربه، ولأنها تقرب من حافظ عليها من مولاه وتصله به، ليحوز رضاه، ومن معانيها في اللغة الرحمة، والدعاء، لأنها تشتمل عليهما ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية 103.

كقوله - المصلي - في قراءة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ومن معانيها في اللغة الاستغفار وطلب الرحمة من الله بحسب من تصدر منه، كقوله تعالى لرسوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}. لدافعي الزكاة له، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. ومن استعمالها في الدعاء دعاء الملائكة للمؤمنين بالرحمة والمغفرة، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. ومن استعمالها في الرحمة قولنا في الدعاء له صلى الله عليه يوسملم: (اللهم صل علي محمد) بمعنى ارحمه وعظمه وأكرمه، ومن استعمالها في الصلة - صلة العبد بربه - قوله عليه الصلاة والسلام: "إن المصلي يناجي ربه". أخرجه الإمام مالك في الموطأ في باب (العمل في القراءة). أما معناها في الشرع فهي العبادة المعروفة المشتملة على أفعال وأقوال مخصوصة، من القراءة والتكبير والركوع والسجود والتسليم الخ، فهي كما جاء تعريفها في الشرع: (مفتاحها الطهور وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فعند افتتاح الصلاة والشروع في أدائها لابد أن يكون المصلي على طهارة تامة من كل النجاسات، في بدنه وفى ثيابه وفي مكان صلاته، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) عند كلامه على قوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}: (إذ به - التطهير - تمام إصلاح

المحافظة والمداومة عليها

الأعمال والأخلاق، لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن، ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز وجل بإزالتها والبعد عنها) (¬1). المحافظة والمداومة عليها: المحافظة على أدائها والمداومة على فعلها في أوقاتها من صفات المؤمنين، قال الله تعالى في سورة المؤمنون: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وقال في سورة المعارج: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} فقد أثنى الله جل جلاله على المحافظين على صلواتهم والمداومين لفعلها. جاء في حديث جابر بن عبد الله عند ابن ماجة قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" وقال عمر رضي الله عنه: "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". فالمحافظة على الصلاة غير المداومة عليها، ذلك أن المداومة على الصلاة هي استمراره - المصلي - على فعلها وأدائها في أوقاتها، من غير إخلال بأي شيء منها، ولا يشغله عنها أي شاغل، كأن يؤديها على كل حال، ولا يخرجها عن وقتها في وقت الصحة وفى وقت المرض، على حسب ما يتيسر له كما هو مبسوط في كتب الفقه، من قيام أو جلوس أو استناد، ولو ¬

_ (¬1) ج 2 ص 21.

فى اللحظات الأخيرة من حياته، بل حتى في أوقات الحرب ومواجهة العدو، فإنه يصليها ولو كان وسط المعمعة والمعركة والقتال، فإن القرآن بين لنا كيف يؤدي المقاتلون صلاتهم في وقتها ولا ينتظرون نهاية المعركة، فإن المحاربين يجمعون بين طاعتهم لله مولاهم والواجب عليهم نحوه، وبين الدفاع عن الدين والوطن إذا كانوا في حرب مع خصومهم وأعدائهم. قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} الخ الآية (102) من سورة النساء. أما المحافظة عليها فهذا يرجع إلى هيأتها، وذلك بالقيام بشروطها المقررة لها وأركانها الواجبة لها، كالطهارة واستقبال القبلة وقت أدائها والقراءة الواجبة فيها وترك كل ما تخدش فيها وفي سلامتها من كل نقص يخل بها ويجعلها ناقصة عن الكمال، أو فاسدة وباطلة ويجعلها غير مقبولة، لأن الصلاة في الشريعة الإسلامية كالعمود الذي يرفع الفسطاط - الخيمة - فإذا كان العمود قائما ارتفعت الخيمة وظهرت من بعيد وإنتفع بها صاحبها، وإذا سقط العمود سقط الفسطاط. نرى هذا التشبيه ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، إلى آخر

النهي الشديد عن تركها

ما ورد في لفظ الحديث، وفى أثنائه قال له: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر - يعني الدين - الإسلام - أي الشهادة - وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد). أخرجه الترمذي وغيره، والإسلام لا يتصور في المسلم بدون الصلاة الواجبة والقاعدة المهمة فيه وفى ظهوره وبروزه إلى الواقع المشاهد، لذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة). النهي الشديد عن تركها: الصلاة كما تقدم إحدى قواعد الإسلام الخمس الواجبة على كل مسلم ومسلمة يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بأن الإسلام دين جاء من الله إلى عامة الناس بواسطة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهي فرض على كل مسلم ومسلمة بالغيين عاقلين بشروطها المذكورة في كتب الفقه، ولا يسع المسلم تركها أو التهاون فيها، إذ هي الفارق والمميز بين الإسلام والايمان به وبما جاء به، وبين الكفر والجحود بالله وبما شرعه لعباده، كما جاء مصرحا به في جملة من الأحاديث، منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عند الترمذي، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بين الايمان والكفر ترك الصلاة) وفى رواية عنه (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاه). عند مسلم والترمذي وأبي داود وابن ماجة، ويرى بعض العلماء - كابن حبيب عند

المالكية - أن تارك الصلاة كافر جاحد لا يصلى عليه إذا مات ولا يدفن في مقابر المسلمين - اعتمادا على هذا الحديث وغيره - ذلك لأن الوعيد من الله شديد على تارك الصلاة، ويظهر هذا - أيضا - من جواب الكافرين يوم القيامة عندما يسألهم أهل الجنة عن الموجب الذي أدخلهم إلى سقر - جهنم - ذلك في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} (¬1). هذه آيات بينات من كلام رب العالين، الخالق العليم، العادل الرحيم، تضطرب لها فرائص ذوي الألباب، وتخشى مدلولها القلوب الحية الحساسة، وتقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم، وتتزلزل من وقعها الأقدام، وتتجاهلها القلوب الميتة، المظلمة بظلام الكفر والمعاصي، {سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} (¬2) هناك في يوم القيامة، لا وسيط ولا شفيع يتوسط بينهم وبين الحاكم العادل بل ما هناك الا الجزاء على الأعمال التي وقعت في الحياة الدنيا، قال الله بعد ذلك: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ ¬

_ (¬1) سورة المدثر من الآيات 38 إلى 47. (¬2) نفس السورة 26 - 29.

التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (¬1) ومعنى كل ذلك يقول أهل سقر لأهل الجنة ردا عن سؤالهم/ لم نكن في حياتنا الدنيا نعبد الله ربنا، ولم نكن نسعف ونعين الفقراء المحتاجين من خلقه بأموالنا، الخ أعمالهم وأقوالهم. بل جاء التهديد والوعيد الشديد في حق الساهي عن صلاته المتهاون في أدائها، وفي نسيانها أيضا، كل هذا لمكانتها ومنزلتها في الإسلام، حتى لا يتهاون بها متهاون، وذلك قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} والسهو عنها كيفما كان يدل على عدم الاهتمام بها. ولا شك بين المسلمين في أنها فرض عين، وواجب على كل فرد من أفراد المسلمين وأعيانهم المكلفين بالشرائع وإقامتها، فهي فرض على كل مسلم ذكر وأنثى، يفعلها في كل حالاته من صحة ومرض، وإقامة وسفر، في حالة سلم وحرب، يترك جميع أشغاله لأدائها إذا حان وقتها، ويعاقب إذا أخرها عن وقتها بلا عذر مقبول شرعا، ففرضها ووجوبها على كل مسلم معروف من الدين بالضرورة كما يقول الفقهاء، فلا يحتاج إلى جدال ومناقشة في فرضها، فمنكر فرضها كافر جاحد يعامل معاملة الكافرين بالله الجاحدين لربهم وخالقهم، المنكرين لشرائعه التي كلف المرسلين بتبليغها إلى عباده ليعبدوه بها وحده لا شريك له، ¬

_ (¬1) من الآية 48 إلى 51 من نفس السورة.

الحكمة من أدائها في أوقاتها، وفى عدد ركعاتها

بشرائعه المذكورة، فمنكرها ليس من المسلمين، وليس له ما لهم وعليه ما عليهم. الحكمة من أدائها في أوقاتها، وفى عدد ركعاتها: جميع المسلمين المتمسكين بإسلامهم، يعرفون أن الصلاة المفراوضة عليهم في اليوم والليلة خمس صلوات هي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح. فالصبح ركعتان، والظهر أربع ركعات، والعصر أربع كذلك، أما المغرب فثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات، فمجموع الركعات الواجبة على المسلم والسلمة في اليوم والليلة (سبع عشرة ركعة). ويرى بعض العلماء أن الحكمة في تخصيص فرض هذه السبع عشرة ركعة بين اليوم والليلة على المسلم والمسلمة ترجع إلى توزيعها على سائر ساعات العمل واليقظة في الغالب بين اليوم والليلة، فمجموع ساعات اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، تكون في الغالب الأعم موزعة بين ساعات النوم للراحة والسكون وبين ساعات اليقظة للعمل والحركة، كما قال ربنا في سورة النبأ: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} فللنوم سبع ساعات، وللعمل واليقظة سبع عشرة ساعة، فساعات النهار اثنتا عشرة ساعة، ونحو ثلاث من الغروب إلى وقت النوم، ونحو ساعتين من قبيل الفجر إلى طلوع الشمس، هذا هو الغالب في حياة المسلم الذي ينظم حياته اليومية تنظيما إسلاميا بين العمل للكسب

وبين النوم للراحة، ففي ساعات النوم السبع يكون المسلم نائما، والنائم غير مكلف بشيء، أما في ساعات اليقظة والعمل السبع عشرة فلربما يقصر في شيء من أمر دينه، أو يفعل ما لا يليق بالمسلم فعله، فتكون كل ركعة من الركعات السبع عشرة المفروضة عليه في اليوم والليلة تقابل كل ساعة من ساعات اليقظة والعمل، لتجبر ما كان قد حدث فيها من التقصير. هذا رأي واستنباط بعض الفقهاء في حكمة عدد ركعات الصلاة المفروضة على المسلمين في اليوم والليلة. أما اختصاص الصلوات الخمس بأوقاتها التي تؤدى فيها، كما هو معروف، والمحددة لها شرعا من غير تأخير عنها فوقت صلاة الظهر يبتديء من زوال الشمس عن كبد السماء، وصلاة العصر يدخل وقتها عندما يكون ظل كل شيء - قائم - مثله، وصلاة المغرب بعد غروب الشمس مباشرة، وصلاة العشاء وقتها بعد مغيب الشفق الأحمر المعروف، أما صلاة الصبح فوقتها يبتديء من طلوع الفجر الصادق. فأما أداء وفعل الصلوات المفروضة في هذه الأوقات المعينة والمحددة لها شرعا فهو أمر - تعبدي - عند كثير من العلماء، بمعنى أن الله أمرنا بأن نفعل ونؤدي الصلوات الخمس في هذه الأوقات والأزمنة المحددة لها شرعا، من غير أن نسأل ونبحث لماذا كانت صلاة كذا في وقت كذا؟ ولم تكن في وقت كذا، ولماذا لم تكن صلاة كذا في وقت كذا؟ إلى آخر الصلوات المفروضة. ولماذا كان عدد الركعات محصورا في كذا الخ؟

إن تعيين هذه الأوقات للصلوات الخمس قد جاء من طريق السنة النبوية، حسبما ورد في كتب السنة النبوية، فقد جاء فيها أن الملك جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة ليلة الاسراء والمعراج وفرض الصلاة، ليعلمه أوقات أدائها بإمامة جبريل له عليه الصلاة والسلام، فصلى به جبريل عليه السلام، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، من غير أن يرى الناس جبريل، فجاءه في اليوم الأول، أي صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة - وهي ليلة الاسراء والمعراج - وعين له أول وقت صلاة الظهر - وهي الأوقات التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولهذا تسمى الصلاة الأولى، فعين له وقت صلاة الظهر - وهو الزوال - ثم جاءه وقت صلاة العصر، وهو إذا كان ظل كل شيء قائم مثله، وهكذا وقت صلاة المغرب بعد غروب الشمس، ثم صلاة العشاء بعد مغيب الشفق الأحمر، ثم أتاه من غد وقت الفجر لصلاة الصبح، وأتاه من الغد بعد هذه الأوقات في آخر وقت كل صلاة، وصلى به الصلوات المذكورة آنفا، وبين له أن ما بين أول وقت الصلاة في المرة الأولى وبين وقت الصلاة في المرة الآخرة هو الوقت المحدد من الله لتفعل وتؤدى فيه الصلوات المفروضة. وقد رآى بعض العلماء في تخصيص هذه الأوقات للصلوات المفروضة رأيا وأخذ منه الحكمة لكل صلاة في وقتها المحدد لها على حسب ما تقدم بيانه، ومن أحسن ما قيل في هذا هو:

تذكر الإنسان بها نشأته الأولى وبداية خلقه، إذ ولادته كطلوع الشمس، ونشوؤه كارتفاعها، وشبابه كوقوفها عند الاستواء، وكهولته كميلها للزوال، وشيخوخته كقربها للغروب، وموته كغروبها، وفناء جسمه كانمحاق أثرها وهو الشفق الأحمر، فوجبت حينئذ صلاة العشاء، تذكيرا له بذلك، كما أن كمال خلقته في بطن أمه وتهيئته للخروج كطلوع الفجر، الذي هو مقدمة لطلوع الشمس المشبهة بالولادة، فوجبت صلاة الصبح حينئذ تذكيرا بذلك أيضا. وكأن حكمة كون صلاة الصبح ركعتين تكمن في بقاء كسل النوم لهذا خففت، أما كون صلاة الظهر أربعا والعصر أربعا فلتوفر النشاط عند وقتهما، لأن وقتهما وقت أعمال وتعاطي أسباب اكتساب المعيشة، وكان حكمة جعلهما أربعا أربعا فلما في جسم الإنسان من الأخلاط الأربعة وهي / الصفراء، والسوداء، والدم، والبلغم، فجعل لكل من ذلك في حال النشاط ركعة لتصلحه وتعدله، وكانت المغرب ثلاثا لأنها وتر النهار، كما جاء في الحديث "المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل" (¬1) فتعود بركة الوترية على المصلي، "إن الله تعالى وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن" (¬2) وألحقت العشاء بالعصرين - في كونها أربعا - لينجبر نقص الليل عن النهار، اذ فيه فرضان فقط، وفى النهار ثلاثة فروض، لكون النفس في النهار أقوى على الحركة ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر. (¬2) أخرجه الترمذي عن علي، وابن ماجة عن ابن مسعود.

كثرة ثوابها، وتكفيرها لذنوب المحافظ عليها

والعمل من الليل، والله وحده العالم بالأسرار والحكم، إنما هذا افتراض وفهم للحكمة الربانية فقط. والعلم عند الله. كثرة ثوابها، وتكفيرها لذنوب المحافظ عليها: فى إقامة الصلاة وأدائها كما أمر الله، والمحافظة عليها أجر كبير وثواب عظيم يناله من يؤديها كاملة غير منقوصة، ففي إسباغ الوضوء لها أجر، وفى المشي إلى المسجد والاقامة فيه بنية الصلاة ثواب، وفي صلاتها في جماعة وبإمام لها مزية على غيرها وجزاء أوفر، وكون المصلي يدع أشغاله لأدائها زيادة في الأجر والثواب، وغير هذا مما له صلة بها كالخشوع فيها وغيره. لهذا حرض عليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كثيرا وكرر الحث والتحريض على فعلها لمكانتها في الشريعة الإسلامية، وضرب لها الأمثال ليعتبر بذلك المسلمون، ويتعظوا حتى لا يزهدوا فيها وفى فضلها، أو يتهاونوا في شأنها. من ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه وبسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مخاطبا أصحابه رضوان الله عليهم، ومبينا لهم فضل الصلاة: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا، ما تقول في ذلك؟ يبقي من درنه؟ قالوا لا يبقي من درنه شيئا، قال فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا" كما رواه مسلم وغيره بألفاظ متقاربة، والأحاديث في فضلها كثيرة.

السهم الثالث: الزكاة

السهم الثالث: - الزكاة - السهم الثالث من أسهم الإسلام - كما ورد في حديث حذيفة - هو الزكاة، وهي في اللغة العربية يعطي مدلولها معنى النمو والزيادة في الشيء والتطهير، فالمال الذي تخرج منه الزكاة ينمو ويزيد، وهذا بالشاهدة والتجريب. وتطهر المزكي من مرض الشح وهي قاعدة معتبرة في الشريعة الإسلامية الرحيمة بالأمة المحمدية الكريمة، فقد فرضها الخالق الحكيم على ذوي الثراء والمال ليقاوم بها طغيانه وجبروته على الضعفاء والعجزة والمحاويج من عباد الله، كما يقاوم بها الفقر الذي كاد أن يكون كفرا، بمعنى أحد أسباب الكفر، لأنه يدخل القنوط واليأس من الرزق ومن الله الرازق على قلوب الفقراء وليجعل للفقراء حظوظا وسهاما وقسمة في أموال الأغنياء، حتى لا يبقى الفقير محروما من وسائل العيش الشريف، في حين يرى الغني متمتعا في حياته الدنيوية، وأيضا حتى لا تستولي الأحقاد والضغائن والحسد على قلوب الفقراء، فيقاوموا الأغنياء على غناهم وما هم فيه من رغد العيش والبذخ، فيناصبوهم العداء

والكراهية، وما ينشأ عن هذا الا الشرور والمفاسد، من السرقات والاعتداءات، وليصفو الجو بين كل أبناء الشريعة الإسلامية، وتتحسن العلاقات ويسود بينهم جو الأخوة الدينية الحقيقية التي جعلها الله بين المسلمين، وكي لا تكون الخصومات والعداوات، من أجل حطام الدنيا الفانية، فأوجب الله على الغني أن يشرك معه الفقير فيما أعطاه الله من رزق ومال، من غير من عليه، ولا ظلم له ولا احتقار، فقد أشركه معه بنصيب من ماله لا يجحف به ولا يضر بمصلحته، بل ولا يشعر بثقله عليه، في الوقت الذي ينتفع به الفقير والعاجز عن الكسب والعمل على تحصيل مال ينفقه على ضرورياته المعيشية، وليمحو الله به آثار الفقر وذل السؤال من وسط المجتمع الإسلامي، فكل المسلمين تسود بينهم روح المودة والأخوة والصفاء والعطف على بعضهم بعضا، فإذا أدى المسلمون الزكاة المفروضة عليهم فقد سدوا منفذا عظيما كان ينفذ منه الشيطان لافساد ذات بينهم بوساوسه لاشعال نار الفتنة بينهم، حتى لا يتربص فقيرهم بغنيهم الدوائر، كما شاهدنا هذا في الأوقات التي عطل فيها بعض المسلمين أحكام الله تعالى، فمنعوا الفقراء والمساكين من حقهم الذي منحهم إياه الخالق الحكيم كما قال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬1). هذا هو التشريع الحق - وأيم الله - الذي لا يتنافى والفطرة الإنسانية التي فطر الله عليها عباده، تشريع حكيم إذا طبق على ¬

_ (¬1) الآيتان 24 - 25 من سورة المعارج.

حقيقته فإن ينابيع الرحمة تنبع وتتفجر منه كذلك عيون العطف، فتسقي القلوب العطشى التي هي في حاجة إلى من يسقيها بماء الرحمة والحياة، لا ذلك الاضطهاد والقهر الذي جاءت به الاشتراكية الماركسية وزرعته في بعض الأوطان الإسلامية التي اختارته وفضلته على التشريع الرباني فأفسدت به القلوب وتركتها متنافرة متباغضة، فسلبت الناس أموالهم لتثرى بها (أذنابها) وتبني بها القصور - كما هو مشاهد - وتعيش بها عيشة البذخ والترف، في حين يعيش فيه أرباب تلك الأموال عيشة التعاسة والحرمان، فما أعدل التشريع الإسلامي وما أحكمه، فإنه لم يظلم أحدا، ولم يمتهن فقيرا، ولا أغضب غنيا، ولم يعط أحدا ما لا يستحقه ولا يقدر عليه. فلو فعل كل ذوي الثراء والمال من المسلمين ما فرضه الله عليهم، فأخرجوا زكوات أموالهم وجمعت - كما هو المطلوب منهم - سواء في بيت مال المسلمين - إذا كانت الدولة إسلامية - عملا وتطبيقا - أو في مؤسسة خاصة بها، وتولاها أناس مسلمون - حقيقة - أمناء عليها يوزعونها بين الفقراء والمساكين في جميع أوقات الحاجة إليها - لما رأينا سائلا يسأل المارة في الطرقات، وأمام أعين غير المسلمين، وفى هذا خدش لكرامة الإنسان، ومهانة لسكان الوطن الإسلامي، فهذا أليق من أن يتولاها ويتولى توزيعها من وجبت عليه مباشرة منه إلى الفقير، فمهما يكن حريصا على إخراجها وأدائها الا أنه قد لا يصادف بها من يستحقها ومن هو في أشد الحاجة اليها، فيتلقفها منه من ليس هو من أهلها، دفعه إلى أخذها

منه الاحتيال والشعوذة، وتظاهره بالفقر والمسكنة، لأن حاله خافية عن المزكي، فتضيع الحكمة من إخراجها، وفى هذه الحالة تنعدم الفائدة منها، وهي سد حاجة الفقير وستر حاله أمام أعين الناس حتى لا ينكشف أمره فيظهر فقره، والمطلوب أن يكون ممن قال الله فيهم: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬1). وحكمة فرضها على المسلمين في القمة من مزايا وحسنات شريعتنا الإسلامية التي سوت بين الناس، وفرض الزكاة وإخراجها يعبر عن الرحمة والتعاطف والمواساة لكل أبناء الملة الإسلامية، والى هذا الوقت - وقت التقدم العلمي والاقتصادي والحضارة الإنسانية - لم تشرع فيه أية دولة - من دوله - مهما بلغت ما بلغت من الحضارة والازدهار والرقي المادي ووفرة المال والمشاريع والشركات ما شرعته الشريعة الإسلامية في باب مقاومة الفقر والتسول والاحتياج للمسلمين - لو فعلوا ما شرعته لهم شريعتهم - وقد أعجب بهذا التشريع الحكيم بعض من لا يدينون بدين الإسلام، واعتبروه من أفضل ما دعت اليه شريعتنا، فهو وسيلة من وسائل تخفيف آلام الفقر والحرمان، كما هو في ذات الوقت نعم العون على مقاومة الشرور والمفاسد كالسرقة وغيرها، هذه هي الشريعة العادلة، زادها الله حبا في قلوب المسلمين وعملا على ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 273.

نشرها وتعميمها وتطبيقها في بلدانهم على بني الإنسانية كلهم، فإنها لم تلق في أوساط المسلمين من يدعو لها ويحببها إلى الناس الا قليلا من بعض الأفراد والهيآت الإسلامية في بعض الأوطان، التي تتزعم حركة الدعوة اليها، ولكنها غير كافية ولا وافية بالغرض منها، مع اتساع رقعة الأوطان التي يسكنها المسلمون. والعمل - هنا - يكون بوسائله المفيدة والنافعة، ومن أفضلها تطبيقها والعمل بها فعلا - لا ادعاء - في نفس تلك الأوطان، وتطبيقها نصا وروحا، حتى يكون للدعوة صداها وتأثيرها العميق في قلوب المدعوين إلى تطبيقها والعمل بها، وحتى لا يقال لهم ما قيل لغير العاملين بأقوالهم، كما قص الله علينا في القرآن حين قال وقوله الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬1). أما تاريخ فرضها على المسلمين من رب العالمين فقد كان في السنة الثانية من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وقد وجد فيها الفقراء بعض ما سد خلتهم وأنقذهم من ضيق الفقر والحاجة إلى غيرهم. وأما من هم المستحقون لها؟ وما هو النصاب - المقدار - الذي ان وجد عند الغني وملكه وجبت عليه فيه الزكاة؟ وما هو القدر المدفوع من ذلك المال للفقراء والمساكين؟ فكل هذا قد تكفلت ¬

_ (¬1) سورة الصف الآيتان 2 - 3.

ببيانه كتب السنة النبوية المستمدة من شرح وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم، كما هو مبسوط في كتب الفقه المأخوذة من كتب السنة النبوية الشريفة. ذلك أن الصلاة والزكاة المفروضتين من الله على عباده المسلمين جاء ذكرهما في القرآن مجملا من غير بيان ولا تفصيل، حيث أمر الله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقط من غير تعيين لأسماء الصلوات، ولا لأوقاتها، ولا لعدد ركعاتها، ولا لكونها سرية أو جهرية الخ كما لم يتعرض القرآن لأصناف ما يزكى من الأموال وما لا يزكى ولا للمبلغ الذي تدفع منه ولا للمقدار الذي يؤخذ على الأموال الخ، فقد قال الله تعالى في كثير من الآيات القرآنية ذات الصلة بالصلاة والزكاة: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} والذي بين الصلوات بأسمائها وأوقاتها وأفعالها، وحدد مقدار الزكاة والأموال التي تؤخذ منها إنما هو الرسول صلى الله عليه وسلم بوحي من الله - غير القرآن - ذلك أن الله قال له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1) وقال هو لأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقال كذلك: "لتأخذوا عني مناسككم" فقد أمرهم بالاقتداء والاتباع له ولأفعاله، حيث أمرهم بأن يأخذوا عنه هيئة صلاتهم وأفعال حجهم ليوافقوا ما أمرهم الله به من حسن أدائهما، وكالصلاة والحج ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 33.

مسألة خطيرة

الزكاة المفروضة، فالقرآن لم يوضح لنا ما هو نوع المال الذي تؤخذ منه، ولا المقدار المأخوذ، ولا، ولا، إنما وكل هذا إلى صاحب الشريعة المرسل بها من الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لقد أوتيت القرآن ومثله معه" يشير إلى أن الوحي الذي أنزل عليه منه ما هو قرآن يتلى، ومنه ما هو شرح وبيان للقرآن، فهو الذي بلغ وبين وشرح للمسلمين دينهم. مسألة خطيرة وبمناسبة الكلام على الصلاة والزكاة، وخاصة هذه الآية الكريمة {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ننبه إخوان التوحيد والإسلام إلى شائعات خطيرة تشاع وتذاع، فتسربت إلى عقول وأفكار بعض المتنطعين ممن ينتسبون إلى الإسلام والعلم الناقص، تلقفوها من أفواه أعداء الإسلام من ملاحدة ومستشرقين وغيرهم من الذين يبثون دعايتهم الدنسة وأفكارهم المسمومة في أوساط الشباب المنسوب إلى الإسلام، ذلك الشباب الناقص التفقه في الدين ومعرفة أسرار شريعتهم وأهدافها. بث المستشرقون والملاحدة في أوساط شباب المسلمين - شبهة - أولئك الشبان الذين دخلوا مدارسهم وتخرجوا منها بشهاداتهم العلمية، وبالطبع فإن التعليم الديني الإسلامي غير موجود فيها البتة، بل فيها تعليم إلحادي يحارب الدين ويعاديه، هذه الشبهة التي قد تخفى عليهم معرفتها هي قولهم: إننا نعلم أن أحكام الدين الإسلامي مستمدة من القرآن، فهو كتاب الفرائض الدينية الواجبة على المسلمين، لكننا لا نجد فيه

أحكام بعض المسائل الدينية، سواء منها الواجبة أو المحرمة، مثل الصلاة والخمر - مثلا - فالقرآن لم ترد فيه آية تحدد صلاة واحدة وتبين صورة أدائها وكيفية فعلها، كما لم يذكر فيه آية تنص على تحريم شرب الخمر وكل ما يتصل بالخمر من بيع وشراء وعمل الخ فيكون فيها حروف تنص على تحريحها "حرم" فمن أين جاء هذا التحريم؟ وكأنواع الصلوات الخمس فلم يرد فيه ذكر أسمائها ولا أوقاتها ولا صفاتها. هكذا يفتنون شبابنا - بهذه الفتنة - ليصدوهم عن دينهم ويشككوهم فيه وفى تشريعه، وفعلا كان لكلامهم هذا تأثير على البعض من الشباب، فزهدوا في واجبات دينهم، وتعاطوا بعض ما حرمه الله. ولكشف شبهتهم هذه، ونقض كلامهم الباطل ورد دعايتهم المسمومة نقول: إنه لا يخفى على ذوي الألباب النيرة والادراك المبني على الحجة والدليل أن أحكام الشريعة الإسلامية مستمدة من أصول التشريع الخمسة وهي/ الكتاب والسنة، والقياس، والاجماع - اجماع العلماء المجتهدين - والمصالح المرسلة، عند بعض العلماء في هذا الأخير. فالكتاب - القرآن - كتاب الله، والسنة النبوية هي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وإقراره، وسكوته. أما القياس فهو عند عدم النص من هذين الأصلين - الكتاب والسنة - فيقاس عليهما، أما الاجماع فهو اجماح العلماء المجتهدين على حكم فيما إذا حدث أمر ولم يكن فيه نص، مما ذكر، فهو متفرع عن الكتاب والسنة.

فالسنة شارحة ومبنية للقرآن، ففي تحريم الخمر - مثلا - نستطيع أخذ حكم التحريم لها من القرآن - زيادة عن النصوص الكثيرة والأحاديث الواردة من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم - نفسه، من غير احتياج إلى حروف - حرم - لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1) فقوله تعالى {فَاجْتَنِبُوهُ} هذا أمر، والأمر إذا أطلق في اللفط ولم يقيد بشيء أفاد الوجوب، كما هي القاعدة الأصولية، أفلا يفهم هؤلاء المتنطعون من هذا الأمر التحريم؟ فالقرآن نزل باللسان العربي، فمن أراد أن يفهمه فعليه بتعلم العربية والا فليمسك لسانه عن الخوض فيه، فمعنى الآية/ أيها المؤمنون يجب عليكم اجتناب وترك هذه المذكورات هنا وهي: الخمر، والميسر - القمار - والأنصاب - وهي الأوثان التي كانت العرب تعبدها، والأزلام - عملية القرعة على أمور معروفة عند العرب، كل هذه المذكورات في هذه الآية رجس وقذر من وساوس الشيطان وتزيينه لها في أعين الجاهلين لعواقبها السيئة، فظهر من أعمال بعض المستشرقين والملاحدة أنهم تطوعوا من تلقاء أنفسهم، واكتشفوا ما لم يكتشفه علماء المسلمين منذ أربعة عشر قرنا واكتشافهم هذا باطل ولا أصل له، اللهم الا اعانتهم للشيطان في خدماته المعروفة، وهي فتنته وإفتانه للمؤمنين، فشاركوا إبليس ¬

_ (¬1) الآية 90 من سورة المائدة.

فى أعماله، والا فما هو الحامل والدافع لهم على هذا التشكيك الذي حاولوا نشره في مجتمعات وملتقيات الشباب الإسلامي غير الواعي لدينه وشريعته، فهؤلاء القوم دائمو البحث والتنقيب عن شبهات يبثونها في مجتمعات الشباب الجاهل لدينه، ولكن هيهات لما يريدون هيهات، فديننا قوي متين في حجته وفى تشريعه. ان المسلم الصادق في إسلامه لا يفرق بين ما شرعه القرآن وبين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، لايمانه بهما معا، فقد قال الله تعالى في القرآن: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1) وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم توقع أنه سيحدث في وقت - ما - من يفتن المسلمين ويصدهم عن دينهم بما يذيعه وينشره بينهم من شبهات، فيقول قائلهم: لا نعمل إلا بما هو مذكور في القرآن، كما صرح بهذا في المدة الأخيرة أحد الحمقى من زعماء التجديد ممن له سلطة في حكومة لشعب مسلم ذاق ألوانا من الاستعمار الفشيستي، ولما تحرر منه تسلط عليه هذا الطائش فراح يصرح ويتهم علماء الحديث الصحيح ويشكك الناس في دينهم وسنة نبيهم، بناء على جهله وطيشه وخفته، والا فمن أين له أن يصل إلى مرتبة العلماء ذوي الرأي الصائب والفكر الثاقب فقد فضح نفسه، وجعل من كان يحترمه بالأمس يسخط عليه لوقاحته وسوء أدبه مع نصوص الشرع الإسلامي الحنيف وسار في خط الملاحدة والمستشرقين الذين ¬

_ (¬1) الآية 7 من سورة الحشر.

يشككون المسلمين في أصول دينهم، فقد أقدم بتصريحاته على القدح في أمانة رجال الحديث كالإمام البخاري رحمه الله، وهو الذي كرس حياته وأفناها في تخليص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من دسائس المزورين والمدلسين وجمع الصحيح فقط من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فخدم بعمله هذا الدين الإسلامي خدمة تذكر له بالاعجاب والتقدير والاحترام، فيجيء في آخر الزمان رجل يستهين بهذا العمل الجليل، فيشكك الناس في الحديث ويدعي أن واحدا لا يستطيع أين يجزم بما في صحيح البخاري على أنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، من أمثال هذا جاء تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، فقد جاء في كتب الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" أخرجه الأئمة/ أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة في سننهم، وكذا ابن حبان والحاكم في المستدرك، كلهم عن أبي رافع، وقد رواه الحاكم في المستدرك بألفاظ وطرق متعددة، كلها عن أبي رافع، وجاء في آخر بعضها: فيقول ما ندري هذا هو كتاب الله وليس هذا فيه وجاء في آخر البعض منها، فيقول: ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا، كما جاء في بعضها قوله: "بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه" فقال رسول

الله صلى الله عليه وسلم رادا عليهم أقوالهم: "وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله". وقد تكرر حدوث هذا الشك في السنوات الأخيرة، حتى من بعض من ينتسبون للعلم والدين، ممن كانوا تلقوا تعلمهم في المدارس غير الإسلامية، فتأثرت عقولهم بكلام المستشرقين والملاحدة، وبالفعل وقعت بيني وبين بعضهم محاورة في هذا الأمر مما دل على أنهم أخذوا بآراء أعداء الإسلام، وان نزغاتهم قد تأثرت بها عقولهم، فقلت لمحدثي: - وهو شيخ طاعن في السن - يا شيخ أعيذك بالله من هذه الآراء الضارة بالدين والعقيدة، فإنها مدسوسة بين المسلمين لافساد دينهم عليهم، وتشكيكهم في أحد مصادر دينهم المعتبرة، بعد القرآن كلام الله، وتلوت عليه الحديث المتقدم (لا ألفين أحدكم الخ) وقد بلغني عنه أنه كان ينطق بلفظ الإمام البخاري بتفخيم الخاء، على أنه مأخوذ من البخار لأن كلامه ورأيه يتبخر في الفضاء، وهو منطق منه عجيب، هدانا الله وإياه وجميع المسلمين لاحتيام ديننا وعلمائنا. وما وقع لي مع هذا الشيخ العالم وقع لغيري من هذا الصنف في قديم الزمان وحاضره، ولا زال يقع إلى يومنا هذا مع من لم يشرب من معين الإسلام الصافي، ولم يتذوق طعمه الحلو المرىء، ومن القديم ما أخرجه الحاكم في المستدرك - في كتاب العلم منه - بسنده إلى الحسن - يعني البصري - قال: (بينما عمران بن حصين يحدث سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، اذ قال له رجل: يا أبا نجيد حدثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت

وأصحابك تقرأون القرآن، أكنت محدثي عن الصلاة وما فيها وما حدودها؟؟؟ أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب، والابل، والبقر، وأصناف المال؟؟؟ ولكن قد شهدت وغبت أنت، ثم قال: قد فرض علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل: أحييتني أحياك الله، (¬1) قال الحسن: فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين، وقد أقر الذهبي هذا الأثر ولم يعترض عليه لثقة رواته. من أجل هذا التلاحم بين ما شرع بواسطة القرآن كلام الله وبين ما شرع من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العلماء: ان من لم يصدق بما جاء في السنة النبوية عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام فقد كفر بالله وبرسوله وبشريعته والعياذ بالله، نسأل الله السلامة من هذا، والتوفيق إلى طيب الأقوال والأعمال. ان الزكاة المفروضة على المسلمين في أموالهم من رب العالمين سهم مهم من أسهم الإسلام، له بال في الشريعة الإسلامية، وأثر بالغ الأهمية في المجتمع الإسلامي لا يخفى على أحد ممن لهم عناية واهتمام بالمجتمع. أما المعرض عنها والمانع لها فيا ويله يوم الحساب من أليم العذاب، كما أوضح القرآن ذلك، قال عز من قائل: "وَلَا يَحْسَبَنَّ ¬

_ (¬1) ج 1 ص 109.

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬1). فالمال كله ملك لله، وما العبد الا نائب ووكيل عنه، وخليفة للمالك الحقيقي، ورب المال هو الذي أمر هذا الخليفة بالانفاق منه، فلماذا لا يعمل هذا الخليفة بما أمره به صاحب المال ومالكه؟ والله يقول وهو بما أمر عليم، اذ هو رب المال وصاحبه، وهو قادر على انتزاعه من خليفته: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (¬2) فالمال مال الله، "والخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" (¬3). ان الدين الإسلامي ربط بين أتباعه برباط الاخوة والمحبة حتى لا يبتعد المسلمون بعضهم عن بعض، فتبقى هذه الصلة قائمة بينهم في كل الأوقات والأزمنة، وأن الايمان يبعث في النفوس الاهتمام والرعاية لهذه الأخوة والنسب الديني في كل الظروف، في الرخاء والشدة، واليسر والعسر، ووصايا الإسلام لا زالت شاهدة على هذا، وان أهملها أتباعه، وكشاهد ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية 180. (¬2) الآية 7 من سورة الحديد. (¬3) أخرجه أبو يعلى في المسند والبزار عن أنس وأخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر.

على هذا، الحديث الذي رواه البزار والطبراني عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما آمن بي من بات شيعان، وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به" أي إيماين هذا؟ إذا كان المسلم لا يهمه ولا يهتم إلا بما هو فيه من نعمة وترف، ولا يتألم مما فيه أخوه وجاره الجائع، فلا يطعمه مما أعطاه الله، إذا كان يعلم بحاله وحاجته، ولا يمد له يد المعونة والاحسان، فمن كان هذا حاله مع إخوانه فقد ظهر منه أنه لم يستكمل الايمان، ولم يكن في مستوى المؤمنين. فدفع الزكاة للفقراء والمساكين دليل على أن مخرجها شاكر لنعمة الله عليه، غير كافر بها، ولهذا يبسط الله خالقه له في الرزق والمال، ويزيده من فضله، وذلك مصداق قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (¬1) فرب المال - وهو الله تعالى - أخبر عباده بما وعدهم به من الزيادة في مال الشاكرين لنعمه عليهم. وإخراج الزكاة - أيضا - دليل على ما في قلب مخرجها من الرحمة والعطف على البؤساء والمحاويج. ووجوب الزكاة على المسلمين في أموالهم أمر معلوم من الدين بالضرورة، لكثرة الأدلة على هذا من آيات القرآن الحكيم وأحاديث الرسول ووصاياه صلى الله عليه وسلم، فهي مسألة إنسانية ودينية، فمن لم يعترف بوجوبها فهو كافر بالله، ومن ¬

_ (¬1) الآية 7 من سورة ابراهيم عليه السلام.

اعترف بوجوبها ولم يذعن لدفعها من المسلمين ويعطيها لمستحقيها أخذت منه بالقوة - وان بقتال - كما فعل الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخليفة الراشد: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مع مانعي الزكاة في أول خلافته، فإنه وقف منهم موقفا دل على حزمه وشدة حرصه على صيانة هذا الدين وحفظه من نقصه، وانتقاص فروضه وذهابها الواحد، بعد الآخر، مثلما نراه في هذا الزمان من ذهابها في كثير من الأوطان التي تدير الإسلام، ولا من يغار عليها ويعمل على بقائها ودوامها وحفظها، فإن الخليفة الراشد أبا بكر اعتبر مانعي الزكاة مرتدين فحاربهم على منعها وسميت حربه لهم في التاريخ الإسلامي بحرب أهل الردة، لأنهم في رأيه مرتدون عن الإسلام، لامتناعهم عن دفعها وقال قولته المشهورة في التاريخ الإسلامي: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا - وفى رواية عناقا - كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه" وتسمى هذه الوقعة (بحرب الردة) كما مر قريبا، لأنه اعتبرهم مرتدين عن الإسلام الذي تركه لهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كاملا لا نقص فيه، وأمانة في أعناق المسلمين، يجب عليهم أن يحافظوا عليه كما تركه لهم، سواء منهم الحاكم أو المحكوم، بعد أن آمنوا به وأعطوا العهد على العمل بكل ما جاء فيه، فالواجب عليهم المحافظة عليه سالما كاملا كما تركه لهم صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام، وقد رأى في هذه القضية بعض الصحابة رأيا

غير الذي رآه أبو بكر، فلم يوافقوه في أول الأمر على حرب مانعي الزكاة، منهم عمر بن الخطاب فقال لأبي بكر: كيف تقاتل قوما يقولون لا اله الا الله محمد رسول الله؟ فإن من قالها فقد عصم بها دمه وماله، فأجابه أبو بكر بكلمته المتقدمة: "والله لو منعوني الخ" الدالة على يقظته وحزمه على المحافظة على الإسلام سالما من كل نقص كما تركه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الكلمة الكبيرة في معناها "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاه الخ" فقال أبو بكر لعمر المشهور بالشدة والتصلب في أمر الله، يا عمر "أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟ " ثم اقتنع عمر وبقية الصحابة رضوان الله عليهم بما ذهب اليه أبو بكر وارتضوه، وخاصة عمر، فقد شرح الله صدره وقبل ما اختاره أبو بكر من محاربة أهل الردة مانعي زكاة أموالهم عن الفقراء والمساكين، واتفق الجميع على رأي واحد لصيانة قواعد الإسلام من عبث العابثين، حتى لا يتجرأ أحد على نقض عرى الإسلام وقواعده وفرائضه، كما هو واقع الآن في الأوطان الإسلامية، بينما ملوك المسلمين أصحاب الجلالة، ورؤساؤهم أصحاب الفخامة والعظمة وأولياء أمورهم منهمكون وغرقى - إلى أذقانهم - في بحور شهوات نفوسهم، وصيانة قصورهم وكراسيهم بشدة الحراسة وكثرة الجند والسلاح، والإسلام ينتقص منه ويهان - وهم الرعاة والمسؤولون عن رعيتهم - وينقص هيكله شيئا فشيئا، ولا نعلم مآله،

والأمر لله السميع البصير {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (¬1). فى كثير من الآيات القرآنية يحث الله تعالى فيها على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الدين الحق الذي أمر به الله جل جلاله يتجلى ويظهر من خلال هدين الفرضين المهمين، قال الله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة في هذا المعنى، وهي متنوعة المقاصد، في الترغيب والحث على دفعها لمستحقيها، والنهي والوعيد لمانعيها، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخد من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب" أورد هذا الحديث بهذه الألفاظ في باب "أخذ الصدقة من الأغنياء وترد على الفقراء ". ¬

_ (¬1) الآية 42 من سورة ابراهيم عليه السلام.

فى هذا الحديث يحس المسلم ويشعر من خلاله بالرحمة والشفقة تتجلى للعيان من خلال كلماته، كما يدرك طريقة التشريع الإسلامي في التدرج بالمسلم من درجة إلى أخرى حتى تطمئن نفسه إلى فرائض الإسلام، فمن توحيد الله تعالى والاقرار بوحدانيته إلى الاعتراف برسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إلى طاعة الله بالصلاة الواجبة عليه، إلى إجابة ربه فيما أمره به من إخراج زكاته، فتؤخذ من الأغنياء لتعود فائدتها على الفقراء لا على خزينة الدولة التي لها موارد أخرى، ثم يوصي العامل على جمعها بأن يكون رفيقا بالناس الذين يدفعونها، ويحذره من الشطط في ذلك، فلا يأخذ كرائمها وخيارها منه، فإن هذا قد ينفر دافعها ويوغر صدره على الدولة، بل يأخذ من أموال الناس الوسط، وهو ما بين الكبيرة والصغيرة، والسمينة والعجفاء، ثم يحذره مرة ثانية من ظلم الناس، بأن يأخذ فوق الواجب عليهم، ويقول له: "واتق دعوة المظلوم" ذلك أن المظلوم إذا دعا ربه يستنصره عليه - الظالم - فإن الله يستجيب له ويعاقب الظالم على ظلمه، وباب الله ليس عليها حاجب ولا بواب يمنع من وصولها إلى مالك الملوك، كما هو الحال في أبواب الملوك والرؤساء من البشر، وفى هذا التحذير إيماء إلى منع أخذ الرشوة من أرباب المصالح والأموال، وفى قصة عبد الله بن اللتبية ما فيها من الموعظة للولاة، حين قدم بالزكاة التي سيره الرسول صلى الله عليه وسلم لقبضها ممن وجبت عليهم، فلما جاء بها قال: هذا لكم وهذا أهدي الي، (والحال أن له نصيبا وسهما في الزكاة

التي جمعها يأخذه جزاء على عمله في جمعها، إذ هو أحد الأصناف الثمانية الذين تصرف لهم الزكاة). فغضب من قوله هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وجمع الناس وخطب فيهم خطبته المشهورة الناهية عن أخذ الرشوة من الناس فيما يعود إلى عمل الموظفين الذين لهم أجرة من خزينة الدولة، كما هو الحال في وقتنا هذا، مما هو معلوم لدى الخاص والعام. أورد الإمامان/ البخاري ومسلم في صحيحهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الازد يقال له عبد الله بن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدى إلي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته ان كان صادقا، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقيه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر" متفق عليه، هذا في الهدية على عمل الموظف الذي له أجر عمله، فما بالك بمن يختلسون أموال خزينة الدولة بشتى الحيل، فإن سلموا من العقاب في الدنيا بالوسائط والشفاعات الخ فإنهم لا يسلمون أمام من لا تخفى عليه خافية يوم القيامة، والحقيقة أن الأموال التي اختلسوها هي أموال الشعب، وفيه الفقير والعاجز واليتيم.

وعيد مانعي الزكاة

هذا وقد قال بعض العلماء: ان ما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"فى هذا الحديث دليل على أن نقل الزكاة من بلد الوجوب إلى بلد آخر لا يجوز، مع وجود من يستحقها في بلد المزكي، فقال: صدقة كل ناحية هي لمستحقيها من تلك الناحية، واستدلوا بما فعله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حيث رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام، فردها إلى مكانها من خراسان، وهذه المسألة محل خلاف بين العلماء، فقد كره أكرهم نقلها، غير أنهم قالوا ومع الكراهة فإن الفرض يسقط عن صاحبها. وعيد مانعي الزكاة: من هذا الوعيد قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة التوبة الآية 34، قال عبد الله بن عمر مبينا ما هو الكنز: "كل مال تؤدي منه الزكاة فليس بكنز، وإن كان مدفونا، وكل مال لا تؤدي منة الزكاة فه كنز، وإن لم يكن مدفونا" أخرجه مالك في الموطأ والشافعي في المسند، وأخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، أو والذي لا إله غيره، أو كما حلف، ما من رجل تكون له إبل، أو بقر، أو غنم، لا

يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس" وأخرخ البخاري - أيضا - في صحيحه عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوفه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول، أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية - 180 - من سورة آل عمران". ان عقاب الله تعالى الذي توعد به مانعي الزكاة عن مستحقيها في يوم القيامة - يوم الحساب - عقاب شديد لا يتحمله بشر في الدنيا، فكيف به يوم القيامة ويطول هذا العذاب حتى ينتهي الخالق من حساب عباده، فإن كان المال الذي لم تخرج منه الزكاة ذهبا أو فضة فإنه يصير في ذلك اليوم صفائح ثم تحمى في نار جهنم ثم تكوى بها جبهته وجنبه وظهره كما نصت عليه آية التوبة {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الخ وان كانت إبلا فإنها تطؤه بأخفافها، وإن كانت بقرا أو غنما فإنها تنطحه بقرونها وهكذا، فأي امرئي منع زكاة ماله في الدنيا، فإن عذابه يوم القيامة محقق لا شك فيه، فليحذر هذا الذين يتهاونون في أداء ما أوجبه الله عليهم في أموالهم.

السهم الرابع: الصيام

السهم الرابع: الصيام الفرض أو السهم الرابع من سهام الإسلام هو صيام شهر رمضان، وهو فرض وركن عظيم من أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها، وقد فرضه الله على هذه الأمة المحمدية - كما فرضه على الأمم المتقدمة عليها في الوجود - فرضه في شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة، على صاحبها الصلاة والسلام، والصوم محك تمتحن به النفوس، فتظهر على حقيقتها ووإقعها، قوية الايمان بربها مطيعة لأحكامه، أو ضعيفة خوارة، فالأولى تستجيب لنداء خالقها، والآخرة تعرض عنه وتنسحب من ميدان السباق إلى الفضائل وما يزكي النفوس، إلى ساحة الشهوات والرذائل (مهزومة) فالنفوس المؤمنة تستجيب لأمر الخالق العليم، فتؤديه برغبة صادقة مؤمنة بوعد خالقها، تهون عليها الدنيا كلها بملذاتها، فلا رغبة لها فيها ولا يرضيها الا الاستجابة لأمر الله العلي العظيم في قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1) هذا الأمر الذي لا يعصيه الا جاحد أو ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية 185.

منافق خبيث سيئى الطوية، منكر للجميل، معرض عن أوامر خالقه ورازقه ومولاه. إن الصوم عبادة لله، ورياضة للنفوس، وامتحان للعزائم والإرادات، كان يقوم به كل من يرغب في طاعة ربه ومعبوده الحق، وتقربه إليه، وهو مما تعود الناس أن يقوموا به لكسر شهوات ورغبات النفوس الجامحة، كان هذا في الأمم الغابرة، كما ذكره من كتبوا عن عبادات الأمم السابقة عنا، قبل أمتنا، وقد صرح القرآن بهذا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1). والصوم الذي شرعه الله وأمر عباده به هو ترك الأكل والشرب وكل الشهوات النفسية من ملاذ الحياة الدنيا مدة شهر قمري يبتدئي العمل به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس من كل يوم طيلة هذا الشهر الكريم الذي أنزل الله فيه القرآن على أشرف خلقه وأكمل رسله محمد عليه الصلاة والسلام. ففي هذا الشهر المفضل يشتد تعلق المسلم بدينه الحق الذي ليس لديه في حياته ما هو أحق بالعناية والاهتمام منه، فيظل يومه صائما ممسكا عن كل ما يفسد عنه صومه وطاعته لله مولاه، ويعرض إعراضا كاملا عن كل ما يخل به أو ينقصه عن الكمال، ¬

_ (¬1) الآية 183 من سورة البقرة.

تتهذب به نفسه وتترفع عن النقائص التي تقدح في كرامة المسلم، وتتحلى بحلية الأخلاق الإسلامية والإنسانية العالية، فيكف لسانه وجوارحه عن خسيس الأقوال وسيئ الأعمال، فلا رفث ولا لغو ولا فحش ولا بذاءة، لا ينطق الا بطيب القول وحميد الكلام، ولا يفعل الا ما يرضي الله ورسوله وصالح المؤمنين، بين ذكر لله تعالى، وتلاوة لكتابه العزيز، إلى المحافظة على الصلوات في أوقاتها، وخاصة قيام الليل الذي يتمثل في صلاة التراويح في المساجد التي يسرع إليها عمارها في كل ليلة منه يستمعون إلى كلام الله، ويتعظون ويتزودون من كلام خالق الأكوان ومدبر شؤون هذا العالم الواسع الارجاء، والذي يدل على قدرة الصانع العليم الخبير، ومهيئى هذه الفرصة لعباده المؤمنين، ليقوموا بشكره وطاعته المتمثلة في العمل بما في شرع الله القويم، وهديه وصراطه المستقيم وليهظروا للناس بأنهم أشبه بملائكته المكرمين العابدين له الطائعين لأوامره الراكعين الساجدين له في كل وقت وحين ليس لهم ما يشغلهم عن ذلك، وهنا يظهر المسلم أنه مثل الملك النوراني في غنى عن الأكل والشرب زكت روحه وتطهرت بصيامه لله، وإمساكه عن كل ما يفسد عنه تشبهه بملائكة الرحمن. ان الصوم نعم المربي للمسلم، يربي فيه العزيمة والارادة والصبر والصدق، وبهذه الصفات يستطيع التغلب على جميع الصعاب التي قد تصادفه في مسيرة حياته، كما يرفع الإنسان إلى درجات القادة ذوي العزائم الفولاذية غير جبان ولا خوار ولا

ضعيف الارادة، لأنه بصيامه قد تغلب على أكبر عدو له، وهو نفسه التي قد تسوقه إلى ما فيه هلاكه عندما تحل به إحدى مآسي هذه الحياة ومشاكلها، فقد رأينا غير المسلمين من هذه الأمم التي نساكنها في هذه الحياة، عندما تضيق بالواحد منهم سبل حياته، أو تصادفه في طريق حياته إحدى العقبات، سواء كان منشؤها من نفسه هو أو من أسرته، أو من حكومته، أو من مجتمعه، فإنه يضعف عن مقاومة تلك الشدائد والمآسي، وهنا لا يخطر بباله ولا يرى أمامه الا أن يتخلص منها بالانتحار وقتل نفسه والقضاء على حياته ليستريح مما هو فيه من عناء وأزمات وصدمات، لأنه لم يقو على التغلب عليها، وليس له إيمان بربه مبدل الأحوال من حال إلى حال، وتسأل لم أقدم على هذا؟ الجواب واضح لأنه لم يتعود الصبر وتحمل تقلبات الزمان، ولهذا تجد جريمة الانتحار التي شاعت بين الأمم في الزمان الأخير، قليلة ونادرة في الأوطان الإسلامية، لما ذكرنا من تأثير فعل الصيام في المسلمين، لأنه عودهم الصبر وتحمل ما يشق على النفوس، والقرآن ينهى عن قتل النفس والانتحار ويقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (¬1). وأيضا فإن غير المسلم لا يؤمن بأن له ربا ومالكا هو وحده بيده تصريف الأمور، من سعادة إلى شقاوة وبالعكس من ¬

_ (¬1) الآيتان 29 - 30 من سورة النساء.

أجل فقدان هذا الايمان الذي يبعث على الاطمئنان ويقضي على اليأس والقنوط يعمد إلى الانتحار، إما بإلقاء نفس المريد له نفسه من شاهق، أو أمام قطار سريع، في وقت سيره، أو بشرب سم قاتل أو بشنق نفسه أو بطلق رصاصة على رأسه الخ، فيزهق روحه، وهذا كله أصابه من عدم إيمانه بخالقه ونكرانه له وجهله بنفسه وبعاقبة أمره ومآله، وهنا نرى أن البعض ممن ينتسبون إلى الإسلام قد سلكوا هذا السلوك المخالف لطبيعة الإسلام وماضي المسلمين، فاقتدوا بالكافرين الذين لا يرجون من الله ما يرجوه المؤمنون، فكثر فيهم الانتحار في هذا العصر الذي كادت تغيب فيه شمس الإسلام في بعض الأوطان، وغشيتها سحابة سوداء دخل فيها هذا النوع من الناس الفاقدين ليقين الايمان وطمأنينة القلوب بذلك الايمان وعاقبة الصبر الجميل الذي ألفوه من درس الصيام. أما المسلم الصائم لله فإنه تعود على التصرف في نفسه، يتصرف فيها ولا تتصرف فيه هي، تصارعه ويصارعها فيغلبها ويقهرها، فهو دائما معها في صراع، وهي عدوه اللدود، لا يسمح لها بأن تعلو عليه، فتسوقه إلى الخاطر بله إلى الحتوف والمهالك، فهو يفضل امتثال أمر مولاه على امتثال أمرها، ويؤثر حكم الله على حكمها، يرضي الله ويغضبها، فهو يكون دائما في راحة مما يعانيه غيره، قانع بما في يده من حطام الدنيا، مجد في عمله المفيد، سواء مما يعود عليه نفعه في حياته الدنيا أو في حياته الأخرى.

الحكمة من فرض الصيام

وهذا ناتج من نور الايمان الذي ملأ قلبه، فهو قد أبصر النور الذي بصره به خالقه الذي قال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}، وفاض على حواسه، فأدرك الغاية من هذه الحياة، وأنها مطية يركبها - ولا تركبه هي - لتصل به سالما إلى الحياة الأخرى دار الإقامة يؤمن بالقرآن كلام الله، وبما جاء فيه من رب العالمين، وقد ورد فيه قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} إذ هو الذي أنزل القرآن على رسوله الأمين ليكون للعالمين نذيرا. الحكمة من فرض الصيام: قد ذكر بعض العلماء الحكم والفوائد التي يحصل عليها القائم بأداء هذا الركن من أركان الإسلام، والمنافع التي حواها هذا السهم من سهام الإسلام، التي اجتمعت فيه، فكل عالم ذكر ما وصل إليه علمه في هذا الشأن من أخذ الحكم والمنافع من مشروعية الصوم، أهمها وأجلها طاعة الله عز وجل فيما أمر به عباده، وهي غاية ما يطلبه المؤمن بربه، أما ما يستفيده الصائم من صومه غير هذا فذاك أمر حصل من أداء هذا الفرض الجليل، مثل التشبه بالملائكة الكرام، ومثل تربية الارادة والعزيمة في الصائم، والاحساس بألم الجوع وما ينشأ عنه ليتذكر به أخاه الفقير البائس، وخلو المعدة - بيت الداء - طوال أيام هذا الشهر المبارك لتستعيد بهذا نشاطها وعملها بعده، فهذا أمر ظهرت نتائجه وبانت لدى أطباء الأجساد، فصاروا يحذرون

فضل الصيام

مرضاهم من الاسراف في تناول الطعام فوق ما هو لازم لحياة الجسد، ويرغبونهم في عدم الاكثار منه إلا في أوقات قليلة ومحددة، والحكم متعددة ومتوفرة في الصوم وأعلاها اعتبارا كما قلت هي طاعة الله، لأنه الآمر به وكفى، وشكره على ما أولانا وحبانا من النعم التي لا تعد ولا تحصى، أفلا يليق بالنعم عليه لأن يشكر المنعم على تلك النعم؟ وإذا لم يشكره عليها بطاعته له فكيف يشكره؟ وبأي وسيلة يكون ذلك الشكر؟ حقا - كما قيل - إذا شبع ابن آدم كفر. فضل الصيام: أحاديث نبوية شريفة وردت في فضل صوم شهر رمضان المعظم وداعية ومرغبة في صومه، ومنبهة على فضله والقيام بحقه، في تطهير النفوس المؤمنة، وتنقية عمل المرء من كل ما يعوقه عن التزكية والتحلي بالفضائل الخلقية المرضية، منها ما رواه اأبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ل"إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة - وفى رواية السماء - وغلقت أبواب جهنم - وفي رواية النار - وسلسلت الشياطين - وفى رواية ضفدت - " أخرجه الإمام البخاري وغيره. ثواب من صام رمضان: وروى البخاري وغيره بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانا

باب الريان

واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق على صحته. باب الريان: وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد" فالصائمون هنا هم المكثرون منه لا لمن يفعل ذلك مرة فقط كل عام، كمن يقتصر على الفرض فحسب، والمكثرون هم المعتادون الصيام حتى كان لهم عادة. جزاء الصائم لله تعالى: ندرك الفيض الرباني الذي أفاضه على الصائمين المخلصين من الأحاديث المروية عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، وفيها الوعد الحق من الملك الديان بما فيه الكفاية للراغبين في حياة السعادة والراحة والكرامة، فقد من الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما يثبت لها التعظيم والتبجيل على السابقين من عباد الله، ومن إكرام الله لهذه الأمة ذلك الجزاء الوافر الذي وعد الله به على أداء هذا الفرض العظيم الذي يكشف حقيقة

الايمان الحق من الايمان المزيف الذي لم تخالط بشاشته النفوس الا ظاهرا، روى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه يوسلم "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله: الا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" وفى رواية: (الصوم جنة الصوم جنة) ان الصوم يهذب النفس - إذا كان على وجهه الشرعي - ويصون اللسان عن فاحش الكلام، ويكفه عن البذاءة وردىء القول ومنكرالأخلاق، هذا إذا كان صوما شرعيا، وهو ما شرعه الله لعباده المؤمنين فيه، ولم يكن مما شرعه الشيطان لأوليائه وأتباعه العاملين بوساوسه وهمزاته. أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأن يحافظ الصائم على ما عرف به المسلم في سلوكه مع عامة الناس، من حفط لسانه عن النطق بما يخل بأدب الصائم، فلا ينطق بالفحش ولا يفعل أفعال الجاهلين، فإن ابتلي بمن لا خلاق له فلا يجاريه في سفاهته وطيشه، حتى لا يظهر بمظهر الطائشين، وليعتصم بالسكوت والصبر على ما أصابه، فهو أليق وأفضل من مجاراته للسفيه الطائش، ان الصوم جنة وساتر يستر صاحبه من نار جهنم ومن أفعال السفهاء غير العقلاء، هذه المعاني جاءت في حديث

الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي فيه أمته بالمحافظة على أدب الصائم وأخلاقه، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه وبسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها" ففي هذا الحديث وصية جليلة وتربية عظيمة للمسلم، كي يزكي نفسه ويطهرها من أعمال السفهاء والطائشين، ويرتفع بها إلى مصاف الأزكياء والأطهار، ومن الله نرجو التوفيق والصلاح. ***

السهم الخامس: حج بيت الله

السهم الخامس: حج بيت الله من أسهم الإسلام الثمانية حج بيت الله الحرام، وهو الخامس منها، وهو قصد بيت الله الحرام في بلدة مكة المكرمة من أرض الحجاز، واستعمال كلمة الحج في لغة العرب يدل على القصد والتوجه، فإذا قلنا حج بيت الله الحرام معناه قصد بيت الله والتوجه إليه، والحج المذكور كان مشروعا ومقررا لدى العرب من القديم، من زمن إبراهيم الخليل عليه السلام، أي قبل الإسلام، فقد كان العرب يحجون إلى مكة لزيادة بيت الله العتيق الذي بناه أبو العرب اسماعيل وأبوه خليل الرحمن ابراهيم عليهما السلام، وقد حكى الله هذا في قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1). والعرب المشركون في زمن جاهليتهم كانوا يعتقدون أنهم متمسكون بملة ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ويقولون هذا، ¬

_ (¬1) الآيه 126 من سورة البقرة.

لهذا كانوا يترددون على البيت الحرام وخاصة في زمن الحج، ويقولون إنهم على دين إبراهيم، والواقع يكذبهم، لأن إبراهيم الخليل كما حكى الله عنه كان حنيفا مسلما ولم يكن من المشركين جاء هذا في قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬1) فحرفوا وبدلوا دين التوحيد الذي كان عليه أبواهم - إبراهيم واسماعيل - عليهما السلام، وأشركوا مع الله غيره من آلهة عبدوها وسووها برب العالمين ونذروا لها النذور، وأعطوها حقوق الاله، من عبادة وطاعة وخضوع وطلب قضاء حوائجهم منها، وحموها ودافعوا عنها، فدافعوا الحق وحاربوه من أجلها، وأخرجوا الرسول من بينهم لما أظهرها على حقيقتها من عجزها وفساد عبادتها. فلما جاء الإسلام بالتوحيد الخالص والطاعة لله وحده لا شريك له في ذلك كفروا به، والإسلام هو دين جميع أنبياء الله ورسله من لدن آدم إلى آخر رسول من رسل الله قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عيسى عليه السلام. ان الدين الحق الذي رضيه رب العباد للعباد إنما هو الإسلام، دين جميع الرسل الكرام الذي جاء به إبراهيم وغيره، فكل من العرب المشركين واليهود والنصارى كانوا يزعمون ويدعون أنهم على دين إبراهيم وملته، وهم المحرفون والمغيرون لها، ¬

_ (¬1) الآية 67 من سورة آل عمران.

فأكذبهم الله في قولهم هذا بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. فشأن العرب في هذا الحج شأن الأمم السابقة، فإن التاريخ يحكي لنا أن الأمم المتقدمة في التاريخ القديم، كأمة اليونان كانت تحج إلى هياكل مقدسة عندها، وكان اليهود يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد القديم، وكان المسيحيون يحجون إلى بيت المقدس والى بيت لحم مقر ولادة المسيح عليه السلام - ولا زالوا إلى يومنا هذا - ويسمون هذا حجا، ومثلهم الصينيون واليابانيون وغيرهم من الأمم، قال الله تعالى مشيرا إلى هذا: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (¬1) وفسر النسك بمكان الذبح وبالشريعة. فكان للأمم الموغلة في القدم أماكن يعظمونها ويحجون إليها، ويجتمعون فيها لعبادة معبوداتهم، ويذبحون عندها الذبائح والقرابين، ويرون أن هذا الحج إليها يقربهم منها ويرضيها عنهم، وبهذا تدفع عنهم المصائب وتعينهم على قضاء مصالحهم الدنيوية، وبقطع النظر عن فساد هذا الاعتقاد، فإنه لا زال سائدا لدى بعض الشعوب الوثنية إلى وقتنا هذا، كما هو معروف وجار لدى الأمة الهندوكية وغيرها. ¬

_ (¬1) الآية 67 من سورة الحج.

فلما بعث الله محمدا الرسول العربي بالإسلام الشريعة الطاهرة المطهرة للأفكار والعقول من بقايا الشرك والوثنية توجه إلى أصنام العرب يعيبها ويبين عجزها وغباوة عابديها، ويدعو المشركين إلى هجرها والابتعاد عنها لأنها مخلوقة عاجزة، وعبادتها ضلال وخسران وانحطاط عقلي وسخافة لا يليق بالعاقل أن يتخذها آلهة دون الله الخالق لكل شيء الواحد في ملكه لا شريك له، لا في الربوبية - الخلق والتكوين - ولا في الألوهية - العبادة والطاعة - لأنها عاجزة، وعجزها ظاهر غير خفي على أحد. تصدى لأصنام العرب فقضى عليها وعلى عبادتها المخلة بكرامة ابن ادم، وكانت له مواقف مع عابديها - المشركين - وحطمها في مناسبات عدة، إلى أن قضى على آخر معاقلها يوم فتح مكة المكرمة سنة ثمان من الهجرة وبعيدها وأزالها إلى الأبد - إن شاء الله - وتبين للعرب المشركين أنهم كانوا خاطئين مخطئين، وعلى ضلال مبين، حين كانوا يعبدونها ويسوونها برب العالمين، كما حكى الله عما سيقع بين الأصنام وعابديها من الخصام يوم القيامة عند ساعة الحساب بين يدي رب الأرباب، وهو قوله تعالى: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} (¬1) هذه المخاصمة التي ستقع بين عبدة الاصنام والاصنام دليل على ¬

_ (¬1) الآيات 96 - 99 من سورة الشعراء.

ما يصيب عبدة الأوثان من الحسرة والندم، حيث لا واسطة ولا شفيع ولا منقذ لهم مما لحقهم من العذاب بسبب عبادتهم وطاعتهم لغير الله، ومثل ما قيل في حق الأصنام وعابديها يقال في حق الذين يستجيبون لأوامر الحكام الظالمين في الدنيا فيطيعونهم ويعصون الله تعالى، حيث فضلوا طاعة الحاكم الظالم على طاعة الله الخلاق العليم، في يوم الحساب يقول أتباع الظلمة وهم في حسرة وندامة من غير أن ينفعهم شيء: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (¬1) فجزاء الذين يطيعون أوامر الظالمين ويعصون أوامر الله نار جهنم وهو ما قصه الله في القرآن، حتى يعلم كل أحد مصيره من الآن. ان العرب أسرفوا في عبادة الأصنام بإيحاء وتزيين لهم من الشيطان، فعبدوها وحجوا اليها وذبحوا عندها ورجوا منفعتها وغير هذا، كل ذلك كون فيهم سوء الاعتقاد، مما دل على جهلهم وسوء فهمهم للواقع، فقد نصبوها داخل الكعبة المشرفة - البيت الذي بناه أبو الموحدين إبر اهيم - وخارجها، وعلى الصفا والمروة، وفى كل حي من أحياء العرب إله معبود - من دون الله - لأهل الحي وغيرهم. ¬

_ (¬1) الآيتان 67 - 68 من سورة الاحزاب.

فلما من الله على الإنسانية بإخراجها من هذا الضلال المبين، وجاء الإسلام دين التوحيد، أبطل عبادة المخلوق للمخلوق، وخصها - وهذا هو الحق - بالخالق الواحد، لا معبود بحق غيره "لا اله الا الله محمد رسول الله" سعدت الإنسانية وزال عن وجهها ظلام الكفر والجهالة، والحمد لله رب العالمين. والحج إلى بيت الله الحرام فرض فرضه الله على من توفرت فيه الشروط من المسلمين القادرين، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1) وقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬2) وقال عليه الصلاة والسلام: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر. وكان فرضه من الله على هذه الأمة في السنة السادسة من الهجرة، مرة واحدة في العمر، فمن أبي هريرة رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام، يا رسول الله؟ ¬

_ (¬1) الآيتان 96 - 97 من آل عمران. (¬2) من الآية 196 من سورة البقرة.

فسكت حتى قالها ثلاثا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم". وكانت مكة إبان فرض الحج إلى بيت الله الحرام لا زالت بلد شرك ووثنية، إلى أن تم فتحها سنة ثمان من الهجرة فحج رسول الله صلى الله عليه بالمسلمين سنة عشر، فكانت حجته لتعليم المسلمين مناسك وأفعال الحج، وقال لهم: "خذوا عني مناسككم" وبين للمسلمين ما يفعلونه في أيام حجهم. وكان قبل حجته صلى الله عليه وسلم بعث صاحبه أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليحج بالناس، وكان هذا سنة تسع من الهجرة وبعث بعده علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في مهمة خاصة وهي إبلاغ المشركين أن الله تعالى أنزل في حقهم آيات من سورة "براءة" ينهاهم الله فيها عن الحج إلى بيت الله بعد هذا العام، وأمر عليا أن يقرأها على الناس في هذا الموسم العظيم، وأن لا يحج مشرك بعد هذا العام، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة. وهذا بعد ما أنزل عليه أول سورة "براءة" بعد رجوعه من غزوة "تبوك " وقد هم بالحج وعزم عليه، لكنه ذكر أن المشركين سيحجون ويحضرون هذا الموسم على عادتهم في ذلك، لأن المنع من حج المشركين إلى البيت لا زال لم يبلغهم، وأنهم يطوفون بالبيت عراة كسالف عهدهم، ولم يرغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤيتهم على ما ألفوه جاهليتهم، وقبل فتح مكة، وقد

فتح مكة سنة ثمان وحطم الأوثان التي كانت في الكعبة وما حولها، وفى غيرها من الأماكن التي كانت فيها، وهذا نوع مهم من التطهير، لأن تطهير العقول من سوء الاعتقاد له تأثير كبير في تلقي ما يقدم لها من إرشاد وتوجيه، وهذا ما نراه في تبديل الحكومات في وقتنا هذا، فإن نجاح الحكومة الجديدة يتوقف إلى حد بعيد على نباهة رئيسها في إلغاء ما تركته الحكومة السالفة عليه، وإزالة بقاياها من الرجال والقوانين التي سنتها ولربما تكون جائرة، فإذا قام الرئيس الجديد بهذا فإنه يجلب إلى صفه كل من اضطهد في عهد الحكومة السالفة، وهذا سر نجاح الحكومة الجديدة وألا تفعل هذا فإن الأمة لا تميل إليها وتراها نسخة طبق الأصل، من أجل هذا التطهير تأخر حج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا العام - العام التاسع من الهجرة - وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه مكانه أميرا على الحج ليقيم للناس مناسكهم، فلما خرج أبو بكر متوجها إلى مكة المكرمة بمن معه من الحجاج نزلت آيات سورة براءة فبعث في أثره علي ابن أبي طالب رضي الله عنه مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الحج، وأن ينادي في الناس ويخبرهم بما نزل من القرآن، من أول هذه السورة - براءة - وذلك ثلاثون آية وقيل أربعون آية من آياتها الأولى، وفيها {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} إلى آخر الآيات المذكورة، فقرأها علي على الناس كما أمره بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، قرأها عليهم في أماكنهم التي تعودوا النزول فيها، وفى أماكن بيعهم وشرائهم وفى عرفة ومنى، حتى

سمع كل الناس ما أنزل من القرآن في حق منع المشركين من الحج، ومما قاله لهم: "لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان". وهكذا تطهرت بيت الله وحرمه من كل ما لا يرضي الله ورسوله من أفعال المشركين التي لا تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية التي تأمر بالحياء والأخلاق الطيبة. وكان العرب في جاهليتهم لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي كانوا يتعاطون فيها أعمالهم، فإذا أراد الواحد منهم أن يطوف بالبيت اتخذ ثوبا جديدا، وإذا لم يكن عنده ثوب جديد استعار ثوبا من أحد القرشيين الذين يسمون أنفسهم - الحمس - فإذا لم يسعف الطائف به طاف بالبيت عريانا، وحتى النساء كن يطفن بالبيت عاريات، إذا لم يجدن أثوابا جديدة، فمنع الله المشركين - المناجيس - بعد مجيء إلإسلام من الطواف بالبيت عراة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬1). والحمس جمع أحمس هم أهل مكة/ قريش، وكنانة، وخزاعة ومن دان بدينهم، وهم سكان الحرم، - والأحمسي المتشدد في دينه والشجاع في القتال، فإذا حج - الصرورة - والصرورة/ هو الرجل أو المرأة اللذين لم يتقدم لهما حج، لا يسمح له أن يطوف بالبيت ألا وهو عريان، ولا يطوف بالبيت في ثيابه التي جاء بها، إلا أن يطوف في ثوب أحمسي، إما إعارة وإما إجارة، ¬

_ (¬1) الآية 28 من سورة براءة.

فإذا جاء من يريد أن يطوف - صرورة - فإن وجد من يعيره ثوبا يطوف فيه أو يكريه إياه طاف في ثوب ذلك "الأحمسي" وإلا ألقى ثيابه من خارج ثم يدخل إلى الطواف وهو عريان وكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة إذا لم تجد من يعيرها أو يكريها ثوبا تطوف فيه، وهي تقول - حياء - كما جاء في كتب التاريخ والسير، بعد أن تستر عورتها بيديها وهي تقول: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ وهذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي بدلوا بها وحرفوا وغيروا شرائع الله التي جاءهم بها الأنبياء والمرسلون وعملوا بما زينه لهم الشيطان، فقد غيروا الشريعة الحنيفية، شريعة أبيهم إبراهيم الخليل وأبيهم اسماعيل عليهما السلام، وحافظوا على شريعة الشيطان الذي لا يأمرهم إلا بما فيه هلاكهم ولا يدلهم إلا على الفواحش والمناكر وقبيح الأعمال. إن في فريضة الحج من الفوائد والمعاني السامية ما يزيد في الإيمان ويقويه، كما فيه ما يعجز اللسان والقلم عن وصفه، ذلك لأنها كثيرة وذات أهداف سامية، فهي زيادة عما فيها منه طاعة الله فيما أمر به وحث عليه من الطواف بالبيت العتيق والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة، إلى آخر أقوال الحج وأعماله، تلك الأقوال والأعمال التي تجسد للحاج وتريه ما في تلك الأماكن من حقائق تاريخية لا يجدها إلا هناك، فهي تعطيه كذلك ضوءا يستنير به في بقية حياته - لمن فقه سر ما يفعل - من زيارته لتلك الأماكن والمشاهد، التي تترك أثرها الطيب في نفوس الحجاج.

والمهم - زيادة عما ذكر - هو مغزى هذا اللقاء العام والكبير بين أبناء الملة الإسلامية من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، عربها وعجمها حاضرها وباديها، فقيرها وغنيها، حاكمها ومحكومها إلى آخر ما في الأمة من طبقات وأصناف جمعت بين كل هؤلاء غاية واحدة وروح واحدة هي استجابة الدعوة وتلبية النداء. فالحج - بحق - مؤتمر إسلامي من الطراز الأول في الملتقيات والمؤتمرات الدولية والشعوبية التي نسمع بها تعقد بين رجال السياسة والاقتصاد والمشاكل الدولية، وحتى أهل الأديان من غير المسلمين في شتى بقاع العالم، وما ذلك الا من أجل تأثير دعوة الداعي - وهو الله الخالق الحكيم - في نفوس المسلمين الصادقين. إن المسلمين - في وقتنا الحاضر - لم يفكروا في حكمة هذا المؤتمر التفكير الجدي المفيد، لتستفيد منه عامتهم أينما كانوا، ونعني بالمسلمين من بيدهم تصريف أمورهم وهم ولاتهم وزعماؤهم وقادتهم، فالإلحاد والشيوعية ودعاة إبليس كلها تعمل بجد ونشاط متواصلين لتخريب العقائد الدينية والأخلاق المرضية، كل هذه القوى وغيرها تعمل بنشاط وحزم في أوساط العمال والشباب الإسلامي لكي تصرف المسلمين عن دينهم، وكان من بين هؤلاء العمال والشباب من هم دعاة لهذه القوى المخربة، وفى نفس الوقت تزين لهم أنواع المعاصي والفجور والإلحاد، وما يتبعها من إغراء ووسوسة لا تقل عن وسوسة إبليس، وأعانها على ذيوعها وانتشار مبادئها ما تلقاه من السكوت الذي ضرب خيمته

على العلماء - إلا القليل منهم - حيث اشتغلوا بما يخصهم في غالب الأوقات، وتخلوا عن مهمتهم المكلفين بها. ومن جهة أخرى تشجيع بعض الحكام المخربين للمفسدين، وذلك بغض الطرف عن أعمالهم وأقوالهم المناهضة للإسلام وعقيدته. إنه لم تظهر أعمال كافية وناجعة ممن يفكرون في الاستفادة من هذا اللقاء السنوي العظيم، وإذا وجد من يفكر فيه فإنه لم يعمل من أجله ما يناسبه، من وضع أسس له وبرامج تدرس فيه أو قبله، ثم تعرض على مفكري المسلمين وقادتهم، وخاصة اجتماعهم لحجهم، يوم يتفرغون من أعمالهم التي حضروا من أجلها، ويدعى إلى هذا الاجتماع كل ذوي الرأي الصائب ممن لهم الخبرة العامة والدراية التامة بأحكام الشريعة الإسلامية وما ترمي إليه من توحيد الصف وجمع كلمة المسلمين وبحث مشاكلهم ومستقبلهم، سواء كانت هذه المشاكل مما له صلة بالحج وأعماله أو كانت تحدث بينهم في أوطانهم، مع بعضهم البعض أو حكوماتهم وزعمائهم، ولكن هل يتركهم أعداؤهم ينفذون هذه الرغبة؟ والكثير من حكام المسلمين ينقادون بطواعية إلى أعدائهم، وفى الكثير من الأوقات ينفذون لهم رغباتهم وإن أضرت بدينهم وعقيدتهم. والكثير من حكام المسلمين أنانيون انتفاعيون، لهم خطط يعملون على تنفيذها، ولا يهمهم أمر المسلمين، ومنهم من يقول: إننا مستقلون لا نريد من أي كان أن يتدخل في شؤوننا وشؤون بلادنا، ومن أجل هذا ضعف صوت الحق ولم يستطع الدخول

الى قلوب أولئك الحكام، وقوى نداء الباطل وتمكن من الاستحواذ على تفكير بعض القادة والزعماء والمسيرين لشؤون المسلمين، هذا والحجاج المساكين مهملون يرثى لحالهم، ليس هناك من يفكر لا في حالهم ولا في مآلهم، ونشطت حركة الاستغلال الشخصي والثراء غير المشروع وانتهاز الفرص لكسب المال من ضيوف الرحمن كما يوصف بهذا الحجاج، من غير مراقبة ممن بيدهم مقاليد الأمور، فترتفع الأسعار للمواد الضرورية اللازمة لراحة الحجاج وأمنهم، مع العلم بأن النظم الحالية لا تسمح بإخراج المال إلا بمقدار قليل. فقد رأيت الكثير من الحجاج مهملين ومشردين في الطرقات، يجرون وراء رغباتهم ومشاكلهم، فهذا مع المطوف الذي ساقه حظه إليه، والذي اتخذ من مهمته وسيلة ثراء وغناء على حساب الحجاج الوافدين عليه - ضيوف الرحمن - حيث صاروا كالملوك في كل شيء، لا من يراقبهم لكي يوقفهم عن إفراطهم وتفريطهم وجشعهم الذي لا حد له، كما رأيت من يبحث عن رفيق له ضل عن الطريق - وبالأخص النساء - وهذا سرقت منه نقوده وبقي هائما على وجهه يستجدي أو يستقرض، وهذا، وهذا إلى آخر ما يشاهده الحاج في أيام مكة وعرفات ومنى مما يشوه وجه الإسلام، وجمال الحج، وتلك الأماكن المطهرة من الاستغلال وكسب الأموال، ولو كان في القلوب إيمان بالله وخوف من سطوته وانتقامه للمظلومين لما حدث شيء من هذا، كارتفاع الأسعار مثلا، في حين أن ما يأتي به الحجاج من الأموال هو قدر ضئيل سمحت به لهم أنظمة بلادهم وحكوماتهم.

أرجو لو يفكر قادة الشعوب الإسلامية، وخاصة منهم العلماء في الاستفادة من هذا الجمع والمجمع الهائل العظيم، فيضعوا برامج وتدرس بدقة وإمعان، وتحدد تحديدا يلائم روح العصر من غير أن تخرج عن إطارها الإسلامي، ثم تعرض على النخبة المختارة من المجتمعين والمؤتمرين وتناقش بكل حرية من ذوي الرأي منهم وتؤخذ بعين الاعتبار ما أفصحت عنه آراؤهم بعد التصفية، وتذاع في الحجاج أينما كانوا وتجمعوا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليقرأ على الناس ما نزل من القرآن في شأن منع كل مشرك من حج بيت الله الحرام بعد ذلك العام، وفعلا منعوا منه لأنهم مشركون، ويطلب منهم بإلحاح العمل بما يقرره هذا المؤتمر بعد رجوعهم إلى أوطانهم، وهذا أمر ممكن إذا وجد من ذوي الرأي من له استعداد للعمل بمعونة الحكام الذين يهمهم أمر الإسلام وحالة المسلمين. إن وسائل التنقل والسفر العصري المتعددة قد جعلت الحج ميسورا على كل أحد، غير أنه حج مبتور لا روح فيه، فقد يرجع الحاج إلى وطنه فارغا من كل معنى عميق للحج في شعوره وإدراكه لمعناه، إن بعض الحجاج يأتون إلى الحج وهم جاهلون لما هم مطالبون به من أعمال الحج التي لا يصح إلا بها، كالاحرام والطواف وغيرهما، ولا يهمهم إلا أن يذهبوا إلى مكة ويقضوا مآربهم ويعودوا بلقب الحاج، ولا يدري هل كان حجه صحيحا مبرورا أو لا، والحج المبرور هو الذي يظهر أثره على الحاج

فى استقامته على نهج الشرع العزيز، بعد عودته إلى بلده، من الاستقامة وحسن السلوك والتمسك بأحكام الدين وعرى الإسلام، بعد أن شاهد موطن الإسلام الأول والثاني، أعني مكة والمدينة، وعلم ما أصاب المسلمين الأولين في سبيل عقيدة التوحيد وإعلان كلمة الإسلام عالية مدوية من تلك الجبال والسهول والرمال، إلى أن وصلت إلى حيث شاء الله لها أن تصل، إلى آخر تلك المشاهد التي من المناسب أن ينبه إليها الحجاج الغافلون والجاهلون، ومسؤولية هذا التقصير ترجع إلى حكوماتهم. إن من عجائب الزمان أن تكون حكومات الشعوب الإسلامية - وهي على ما هي عليه - هي التي تتحكم في التوجيه الديني، تبعث من يمثلها في تلك المواطن، وأمام الجموع الحاشدة من شتى بقاع المعمورة، وأن المسؤولين عن البقاع المقدسة والمسيرين لشؤونها لا يستقبلون إلا أعضاء الوفود الرسمية - كما يقولون - وهؤلاء بالطبع لا يصرحون إلا بما يرضي عنهم حكوماتهم إذا رجعوا إليها، ولعلهم ينعم عليهم بكلمات يتخذونها مثل الوسام يعلقونه على صدورهم، لأن هذه الحكومات لا يتسع صدرها للنقد والتوجيه والاعتراض، وترى في مثل هذا تشهيرا بأعمالها غير اللائقة أمام الملأ العظيم، وقد رأيت وسمعت في يوم عرفات من بعض من حضر ذلك الموقف من يدعو بصوت عال بعد صلاة العصر لرئيس حكومة بلاده الظالم الملحد أمام أهل بلده الذين يعرفون أحوال بلادهم وتصرفات رجالهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيبقى المسلمون لا يعرفون

ما هو واقع بإخوانهم المسلمين في جزء - ما - من أجزاء الوطن الإسلامي، وإذا وجد في الحجاج من كشف الغطاء عما يقع في بلده من أمراض شتى فإنه يحاسب بعد عودته إلى بلده حسابا عسيرا - وهذا من ضيق صدور الحكام - وربما لا يسمح له في المستقبل بالعودة إلى معقل الإسلام، والوقت كما قلت وقت علاج أمراض المسلمين من أي بلد جاءت وفي أي بلد كانت. إن البعض من الهيئات الإسلامية في الأراضي المقدسة عملت وتعمل على أن لا يذهب هذا المؤتمر سدى فتنظم ملتقيات على قدر ما تسمح به حالتها، فتهيىء العلماء لإلقاء محاضرات ودروس في مكة وعرفات ومنى - جزاها الله خيرا وأجرا عظيما - غير أن هذا لا يكفي، لا في الزمان ولا في المكان، بالنظر لكثرة الحجاج من جهة وبالنظر لما تتطلبه مشاكل المسلمين، ومن أهمها زهد الحجاج في الاستفادة من هذه الملتقيات التي لا تخلو من الفوائد العظيمة يتزود بها الحجاج ليسعدوا بها في الدنيا الآخرة، فكما يرجع الحاج إلى بلده بوافر الأجر والمغفرة إن قبل حجه فكذلك يرجع مزودا بالنصائح وما استفاده من تلك المحاضرات المتنوعة المقاصد والمواضيع. ومن جهة أخرى فإن أولئك العلماء لا يشتغلون بالتوجيه لما يستقبل من الزمن، والبعض الآخر منهم غير مطلع على ما يجري في موطن - ما - من مواطن الإسلام، إذ ليس هناك من يقدم تقريرا مفصلا عما يجري في وطنه لإخوانه المسلمين، وقد شاهدت هذا بنفسي في موسم الحج من سنة 1397 أيام مكة وعرفات

ومنى، هناك دروس من غير تنسيق وترتيب، وأكثرها - فيما سمعت - منصبة على مقاومة البدع المستحدثة والدعوة إلى التمسك بالسنة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وهذا إنما يفيد في ناحية واحدة من حياة المسلم، ولكن هناك نواح ونواح لم تطرق ويكشف عنها الستار، لأن هذه الدروس تلقى من شيوخ وأساتذة هم الذين اختاروا بأنفسهم ما يلقون، ولم تكن هناك - فيما علمت - هيئة هي التي هيأت - بعد دراسة تلك المواضيع - لهم ما يلقون. فلو تولى هذا - الاعداد - عالم مطلع خبير نصوح من كل وطن إسلامي أو هيئة لكان أنفع وأفيد للحجاج، وهذا من باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر عليه، فيكون من مادة النصيحة لعامة المسلمين وخاصتهم، والتوفيق من الله وحده. إن المطلوب - دينا - من العلماء الناصحين هو التفكير الجدي في حالة المسلمين وعلاقتهم بدينهم والعمل على تدعيم الرابطة التي تربط بعضهم ببعض، وتقوية الروح الدينية فيهم، والعمل النافع لإنقاذ الإسلام من الأخطار الكثيرة المحدقة به، سواء التي مصدرها من أبنائه الأدعياء - لأن إسلامهم وراثي - أو من خصومه الأعداء، خصوصا وأن الكثير من حكومات الشعوب الإسلامية ليس لها من الحماس والشجاعة والانتصار والعمل لفائدة الإسلام، حيث مسخت وجه الإسلام النقي بما سنته من دساتير وما شرعته من قوانين وما نفذته من أحكام كلها عملت على إبعاد شريعة الإسلام وجذب شريعة الشيطان إلى شعوبهم (وسمت

هذا تطورا أو تقدما يقبله الإسلام)، وبقي الإسلام حيا بما فيه من طاقات حية ويعيش على رصيد قديم تركه له أبناؤه المخلصون الأولون، هذا إن لم نقل أن الكثيرين من هؤالاء الحكام هم ضد الإسلام ويعملون - جاهدين - لعرقلة الإسلام عن التقدم إلى الأمام بأبناء عقيدته وشريعته، فهم يعملون على نصرة الشيطان وحزبه الخاسر على الإسلام وحزبه الرابح وأنصاره المخلصين، ثم التشهير في تلك المجامع - إن أمكن - بمن بقي مصرا على سلوكه المنحرف ضد الإسلام وإعلان هذا على الملأ من سمع العالم وبصره - ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة - كما ينبغي أن يكون ذلك العمل من المؤتمر - بعد دراسة شاملة لما هو واقع في أي وطن من أوطان الإسلام، وبعد الدراسة لتلك المشاكل - بشجاعة - يكون البحث عن إيجاد الحلول المفيدة والمناسبة لتلك المشاكل التي يعاني منها المسلمون الصادقون من العذاب ألوانا، كل ذلك حسب الاستطاعة والقدرة، ومن أبى ولم يمتثل لما قرره المؤتمر هذا - من غير نظر إلى بلده وشخصيته - يشهر به في كل بلد إسلامي ليكون له درسا ولغيره عبرة ومعروفا بأعماله ضد الإسلام، ويترك الانتقام منه لله الواحد القهار مهلك الظالمين ومبيد الطغاة الجبارين. إذا لم يقم العلماء بهذا العمل اويتولوا هم الدفاع عن الإسلام وعقيدته فمن يا ترى يقوم مقامهم ويتولى مهمتهم؟ هل يتولى الدفاع عن الإسلام وحمايته حكام وضعوا أنفسهم مواضع الآلهة، يجب أن يطاعوا في كل أمر ولو خالف أمر الملك الديان

وشريعة الله، همهم الوحيد التمتع بالملاذ النفسية، ومنها حب السلطة وقهر العباد، لا ينازعهم فيها منازع ولو كان هو صاحبها، ومن نازهم فيها قصموا ظهره وأخذوا أنفاسه. إن العلماء قدموا "قرابين" من أنفسهم في القديم الماضي من التاريخ وفى الحديث الذي لا زال في العقول محفوظا، وإن الكثير من الحكام المنسوبين إلى الإسلام قد أصدروا أوامرهم بمنع العلماء من مواعظهم في مساجد بلادهم التي بناها المسلمون بأموالهم لتكون منارات تضيء سبيل الله للمهتدين، فتصرفوا فيها هم - بمنع العلماء منها - تصرف الجبابرة الطغاة، فأخلوها من عمارها إلا لمن يرضون عنه لأنه باع ذمته منهم، فصار محل ثقتهم، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} فالآية تصرح بأن أكثر الظلم وأشده ما جاء ممن منع الناس من ذكر الله ودراسة دينه وتعليمه في المساجد - بيوت الله - ممن عمل واجتهد في فراغها من عمارها، وهذا هو خرابها، ونعوذ بالله منهما معا. ربما يقال: ان علماء الإسلام ليس لهم قوة أو سلطة على حكامهم في أوطانهم، نعم إن هذا صحيح، فإن البعض من الحكام قد ركب رأسه، وحسب نفسه فوق كل الناس، وأنه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} - وقد قالها أخيرا بعض العلماء ... في رئيس دولته ... وهذه الصفة في التصرف لا تقال إلا للخالق والمالك

لكل شيء، ويرى بعض هؤلاء الحكام أنه لا يرد عليه ولا يعترض سبيله ... ، وليس هو بالمعصوم من الخطإ، وقد نقل عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه كان يقول في درسه وهو مقابل لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ومشيرا بيده إلى قبره: "كلكم راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" تلك هي تربية الإسلام التي لا تبريء المرء من الخطإ مهما كانت درجته في العلم وحصافة الرأي، يقول بعض الحكام هذا ولا يحب أن يعترض سبيله لأن وراءه الجيش بمعداته، وقد استولى على الحكم والسلطة بواسطته، وليست الأمة هي التي بوأته تلك المنزلة وأولته إياها ورفعته إلى كرسي الحكم وقد يكون هذا، ولكن تجب معرفته على حقيقته وواقعه. ومن الحكام قلة قليلة عملت وتعمل لصالح الإسلام والمسلمين، غير أنها لا تظهر أمام هذه الكثرة ممن يعملون على عرقلة الإسلام بل ومحوه من الوجود، وخاصة تلقاء تشريعه وظهوره أمام الملأ من الناس، والله على كل شيء قدير. وإنني أخشى أن تقول تلك الحكومات للعلماء: لقد أفسدتم علينا ما بيننا وبين الحكومة الفلانية من علاقات ديبلوماسية وغيرها من العلاقات الأخرى، لأن العلاقات التي تتعامل بها حكومات العصر الحاضر إنما هي العلاقات السياسية والاقتصادية والمصالح المتبادلة بين الدول، لا العلاقات الروحية الدينية التي يجب أن تسود جميع العلاقات القائمة بين الدول الإسلامية وغيرها، فبعض الدول الإسلامية ترغب في تمتين علاقاتها مع الدول الغربية،

وأخرى تحاول تقوية علاقاتها مع الدول الشرقية الملحدة، وها هنا ذهبت علاقات الاخوة الدينية وعصفت بها الرياح. والحج واجب على كل مسلم بالغ مستطيع توفرت فيه شروطه المفصلة في كتب الفقه، وهو فرض على الذكر والأنثى سواء، الا أن المرأة بالنظر إلى ضعفها في كل شيء فقد حدد الله لها ما يوفر لها حجها كاملا غير منقوص، كالمحرم لها، فلا تسافر - خصوصا إذا كانت المسافة بعيدة - إلا بصحبة زوجها أو مع أحد محارمها، أو مع رفقة مأمونة دينيا وأخلاقيا. وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة الا ومعها محرم" فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة، قال له: "اذهب فاحجج مع امرأتك" فقد صرفه عن الجهاد في سبيل الله إلى أن يكون رفيق امرأته في حجها، محافظة على صيانتها وكرامتها. وحج بيت الله الحرام أوجبه الله على المسلمين مرة واحدة في العمر، وهذا ظاهر من تيسير الله على عباده في أمر القيام بفروض شريعتهم من غير إرهاق لهم ولا تكليف بما قد يعجزون عنه، إلا أن الله رغب عباده المؤمنين في أن لا يقطعوا صلتهم بتلك البقاع الطاهرة، ومواطن ينبوع الرحمة، ومصدر النور الالهي الذي

أضاء به سبل هذه الحياة، وطمس به معالم الشرك ومراكز الضلال، فقد حبب إلى المسلمين زيارة هذه الأمكنة للاعتبار بها وزيادة في تقوية إيمانهم ليزدادوا قوة ونشاطا ومحبة في دينهم، فاستحب منهم أن يتعهدوها - بعد أداء الفريضة - المرة بعد المرة، وهذا للقادر على ذلك - بدنيا وماليا - حتى لا ينسوها ولا تلهيهم أشغال هذه الحياة الدنيا عن مواطن الكرامة الإنسانية، ومنبت دين التوحيد - فقد أخرج أبو يعلى في مسنده، وابن حبان بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال: "إن عبدا أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم". ***

السهم السادس: الأمر بالمعروف

السهم السادس: الأمر بالمعروف قال الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). حفاظا على سلامة الأمة المسلمة من كل ما يفسد عنها دينها وأخلاقها وطبائعها، أمر الله جل جلاله عباده المسلمين بأن يكونوا دعاة للخير والصلاح والفضيلة، لتستقيم لهم الحياة، كما أمرهم أن يحاربوا الرذيلة والشر والفساد، ذلك لأن الإسلام - بتوجيهاته للمسلمين - قد قوم معوجهم وأصلح خللهم، ودلهم على طريق العزة والكرامة وحب الخير، وطاعة ربهم واتباع سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان الاختلاط بغير المسلمين أمرا متوقعا، نظرا لاحتكاك سكان المعمورة بعضهم ببعض، وفيهم المسلم والكافر، والعالم ¬

_ (¬1) الآية 104 من سورة آل عمران.

والجاهل والمحسن والمسيء، أمرت الشريعة الإسلامية المسلمين بالمحافظة على عقيدتهم ودينهم وأخلاقهم حتى لا تتأثر جماعتهم بما تراه وتسمعه من أقوال وأعمال من لم يكن على ملتهم وأخلاقهم. وهذا أمر له مغزاه في بقاء الأمة المسلمة سالمة من كل ما يفسد عليها دينها وعقيدتها وأخلاقها، كما هو مشاهد في هذا الوقت الذي قل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث فرضت الحكومات عليه قيودا أبعدت بها من هم أهل للقيام به خير قيام، وأوكلته إلى غير أهله إذ ليس لهم منه نصيب، لكل هذا وغيره جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليبقى جوهر الإسلام نقيا سالما من التأثر بما لم يكن ملائما له في شكله ومضمونه بل وجوهره أيضا. فقد رأينا في هذا العصر الذي نعيش فيه كيف تبدلت أخلاق الكثيرين من المسلمين بسبب اتصالهم بغير المسلمين، ومساكنتهم إياهم في المنازل والبيوت والمتاجر وفى الأسواق والمجتمعات، وحتى في المعاهد التعليمية والجامعات، مما هو مشاهد ومعروف، فقد تأثر المسلمون بما عاينوه في غيرهم، وما لمسوه فيهم، فتغيرت - تبعا لهذا - عوائدهم الفاضلة، وأخلاقهم الإسلامية العالية، حتى صار البعض من المسلمين المجاورين للمسيحيين يحتفلون بليلة الخامس والعشرين من شهر ديسمبر أعني ليلة ذكرى ميلاد المسيح عليه السلام، فيتخذون في منازلهم شجرة الميلاد، ويزينونها كما يزينها المسيحيون بأنواع الزينة

من حلويات وغيرها، ويهدون لأطفالهم هدايا عيد الميلاد كما يربي المسيحيون أطفالهم على تقبل تلك الهدايا التي يقدمونها لأولادهم بدعوى أنها هدية من أبيهم المسيح الخ، كي يشبوا على حب المسيح عليه السلام، وحتى بعض النساء المسلمات - وخاصة العجائز غير المثقفات - كن يقدمن الشموع - وقد رأيت ذلك بعيني - لبعض الكنائس المحترمة عند المسيحيبن، فكيف يقف العالم المشاهد لأمثال هذه المهازل ساكتا أمام هذه العقائد الضالة والمضللة؟ وكيف لا يجد العون والتشجيع من لدن حكومته التي كتبت في دستورها "الإسلام دين الدولة" وهل يقر الإسلام هذا؟ اللهم لا، فإذا لم يفسح المجال للعلماء كي يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر فإن عاقبتنا غير مرضية. ذلك ما حدث سواء في أوساط الشباب المسلم بالوراثة أو غيرهم من الرجال والنساء، فانتشر في الرجال ترك الصلاة وأكل رمضان وشرب الخمور وغير ذلك كاختلاط الرجال بالنساء في المجتمعات من غير حرج، وخاصة فقد نزعت من الكثير منهم الغيرة على حرماتهم اقتداء بمقلديهم، وكثر في المسلمات السفور والتبرج وانعدام الحياء وغير ذلك، مما أضر بهم في دينهم وعقيدتهم، فشربت الخمور المحرمة شرعا في المجتمعات العامة والخاصة وفى الأفراح وحتى في المنازل، وتركت الصلوات وانتهك المسلم حرمة شهر رمضان، فأكل جهارا في نهار رمضان، وانتهكت الحرمات، كل هذا من الدخلاء الذين جيء بهم إلى الأوطان الإسلامية ليعينوهم على النهوض ببلادهم بعد إخراج

المستعمرات منها، كما جاء هذا من مهاجرة المسلمين إلى الاوطان غير الإسلامية للعمل أو الدراسة، وجاوز هذا إلى الزواج بغير المسلمات والمسلمين، وكل هذا على مرآى ومسمع من الحكومات الإسلامية الدستور، فهي إذا لم تشجعه عمليا فقد شجعته بالسكوت عنه فلم تتأثر مما هو جار في وطنها المسؤولة عنه، ولم تقف حائلا دون تسربه إلى المجتمع الإسلامي النقي، ذلك أنه لا يعنيها أمر الدين وضياع الأخلاق الإسلامية وانتهاك الحرمات وفساد الأمة المحمدية، وهذا ما يشكو منه عقلاؤنا وينحسرون على وقوعه بيننا، ورضي به ذوو النفوس المريضة من الإسلام وعقيدته، وسموا ما هم فيه من فساد في الأخلاق وذبذبة في الأعمال - تقدما ونجاحا، حينما يرون البنت المسلمة - أو حتى المرأة - تتبرج في زي يبعث على السخرية والانحطاط الخلقي، كلباس "السراويل" الضيقة والمحددة، وما يتبعها من مخازي العصر الحاضر الذي أطلقوا عليه عصر التقدم والمدنية والرقي، ولست أدري هذا الرقي إلى أين؟ أإلي أعلى أم إلى أسفل؟. وبهذه المخازي وأمثالها فقدنا الروح الوطنية الطيبة، وألفنا حياة المجون والفجور، وحياة الكسل والتسكع في الطرقات من الرجال والنساء، ونبذنا الأخلاق الكريمة والعزة النفسية والكرامة الإنسانية، وحتى الشهامة العربية والعزة القومية، فقدناها وفى فقدانها خسارة علينا لا يعوضها لنا ما ندعي أننا اكتسبناه.

وللقيام بهذا السهم العظيم من سهام الإسلام يجب أن نعرف أن القيام بالأمر بالمعروف له شروط مدروسة ومعروفة، منها الأهلية والقدرة على ذلك، وحرية الكلام وإفساح المجال له، كالمساجد والمجتمعات العامة، فإذا نظرنا بعين الواقع - اليوم - إلى الأوطان الإسلامية تكشف - لنا واقع هذه الأمة وشعوبها، فمن بيده من حكامهم الحل والعقد، والاباحة والمنع هم رجال السلطة القائمة في البلاد، وهذه السلطة بيد أناس تعلمهم كان في غير مدارس المسلمين، ومعلموهم من غير المسلمين طبعا، ومن هنا جاء الخطر على الإسلام، لهذا فهم لا يهتمون بشؤون الإسلام، ومن لا يهتم بشؤون الإسلام والمسلمين فليس منهم، وسواء عليهم أتقدم الإسلام أم تأخر؟ فلم يفسحوا المجال للقائمين بالأمر بالمعرواف والنهي عن النكر، بل ضيقوا عليهم مجاله الواسع، إذ لا يهمهم أمر هذا الدين حيي أو مات. فكيف يستطيع المسلم أن يقوم بهذا الفرض الكفائي أو العيني - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وهو مكمم الفم، مكسر القلم، معطل التفكير، وقد حيل بينه وبين قيامه بهذا الواجب الديني العظيم الحاث على الاستقامة على صراط الله المستقيم، في حين أفسح المجال لأعوان إبليس ودعاة الضلالة والفجور يقولون ما يشاؤون ويفعلون ما يريدون؟ وحالهم حال من قال: أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ ... إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ. من أجل هذه الطوارئ الدخيلة علينا، والتي تنتاب المجتمع الإسلامي بين الحين والآخر، منها القوى التأثير، ومنها ضعيفه،

من أجل هذه وأمثالها أمر الإسلام المسلمين بالمحافظة على كيانهم ووحدتهم المتميزة عن غيرها، حتى لا يتزعزع أو يتصدع بنيانها، ولا يذهب رواؤها وبهاؤها، فأوجب على كل طوائف الأمة أن تكون يقظة حذرة من كل دخيل مفسد، ففرض الله على هذه الأمة المسلمة لذلك أن تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تسلم ذاتها من كل مرض خطير قد يجرها إلى العاقبة التي لا يرضاها رب العباد لها. فالأمر بالمعروف من الفروض المؤكدة على من كانت فيه أهلية القيام به، سواء أكانت هذه الأهلية بسلطان الدولة أم بسلطان العلم والجاه، وكلا السلطانين مسؤول أمام الله عما هو واجب عليه، ولا تبرأ ذمته إلا بأداء ما هو فرض عليه، وخاصة من كان بيده قوة الزجر والردع، للكلمة المشهورة والمنقولة عن الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وهي: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). والمعروف ما عرفه الشرع الإسلامي وحبذه ودعا إليه ورغب فيه، من فعل الواجبات والسنن وجميع الطاعات لحماية البيئة وأخلاقها الطيبة، وللمحافظة على سلامة الأمة في دينها وأخلاقها وطاعتها لربها، فالأمر بالمعروف فرض كفاية على الذكر والأنثى سواء. فالآمر بالمعروف داع يدعو الناس إلى فضيلة وخير وصلاح، وهذا واجب على كل المسلمين كما تقدم، لا ينجو منه أحد دون

أحد، إلا إذا وجد من يقوم به - وهذا هو فرض الكفاية - ويصلح الخلل الذي يطرأ على الفرد والمجتمع، وهو كما قلت فرض كفاية على جميع المسلمين، فإذا قام به قائم منهم سقط فرضه عن غيره، وإذا لم يقم به أحد من المسلمين تعلق الفرض والعقاب بالجميع، شأنه في هذا شأن سائر فروض الكفاية، كغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه. ومن المعلوم - شرعا - أن الفرض فرضان، فرض عين وهو على كل أحد، وفرض كفاية، إذا فعله البعض فإنه يكفي عن جميع المسلمين، ففرض العين واجب على كل واحد بعينه، كصيام شهر رمضان والصلاة والشهادة وسائر أركان الإسلام الخمسة. أما فرض الكفاية فإنه فرض في الجملة على المسلمين، فالمطلوب به وبفعله هي الأمة والجماعة، فإذا فعلته طائفة أو واحد منها فإن بقية الجماعة غير مسؤولة عنه ولا مطالبة بفعله، وقد سقط عنها التكليف به والفعل له، لأن واحدا من الجماعة قد فعله وقام به. وفرض العين أهم وأعظم من فرض الكفاية في الطلب والاعتبار. ويرى جماعة من العلماء المحققين أن فرض الكفاية أهم من فرض العين، والاشتغال به أفضل من الاشتغلال بأداء فرض العين، وعللوا رأيهم هذا بأن القيام بفرض الكفاية - الواجب على العموم - يسقط الطلب عن جميع المسلمين المطالبين به، بخلاف فرض العين فإنه لو ترك ولم يفعل فإن الطالب به إنما

هو المطلوب به فقط والاثم يقع عليه وحده إذا لم يفعله، أما فرض الكفاية فإن لم يفعل وترك طولب به جميع المسلمين والاثم عليهم كلهم، ولو فعل وان من واحد سقط الحرج والطلب والاثم عن جميع المسلمين، فالقائم بفرض الكفاية عامل على صيانة وحفظ الأمة كلها من الاثم والعقاب، ولا شك في رجحان من عمل وحل محل المسلمين كلهم في القيام بأمر مهم من مهمات الدين. فقد قال الإمام النووي - رحمه الله -: للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين، من حيث أنه أسقط الحرج عن نفسه وعن كل المسلمين، كما قاله - أيضا - إمام الحرمين وأبوه الشيخ الجويني رحمهما الله (¬1). والقرآن - كلام الله - الخالق العليم - نوه بشأن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، واعتبر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل أمة عمرت هذا الكون من بين من سبقها في الوجود من الأمم الهالكة، وهذا التفضيل من أجل قيامها بهذا الركن العظيم، الذي له آثاره الثابتة والقائمة في تحسين حالة الأمة وإصلاح شأنها، ذلك أن الفرد أو الجماعة قد يطغى هو أو تطغى هي بالمال أو الجاه أو السلطان - وهذا ما هو مشاهد حتى في وقتنا هذا - قلت قد يطغى الفرد أو الجماعة بسبب ما ذكر، فيتجالوز حدوده التي هي من اختصاصه فيمد يده إلى غير ما هو له، غير ناظر إلى ما يخوله له حقه في هذه الحياة، فيفعل ما لا ¬

_ (¬1) متن جمع الجوامع وشرحه للجلال المحلي.

يليق به كفرد وسط أمة لها حقوق عليه وعلى غيره، فالواجب عليه أن يحترم نفسه، فلا يقول ولا يفعل ما ليس له فيه حق، فإذا تطاول هذا الطاغي بالمال - مثلا - كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} أو ذاك بالجاه - مثلا - وجد في الأمة من يوفقه عند حده المحدود له وخطه المرسوم له بحكم درجته أو مركزه في مجتمع أمته، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا لم تقم هذه الأمة بهذا السهم العظيم من سهام الإسلام في إصلاح أحوال مجتمعها سلبت منها هذه الأفضلية وصارت مثل الأمم المتقدمة عليها زمنيا. لهذه المعاني وردت آية القرآن الكريمة مصرحة بما لهذه الأمة من المزية أو المزايا على غيرها من الأمم السابقة عليها لأنها - هذه الأمة - تعمل على ردع كل متجاوز لحدوده، بخلاف ما كانت عليه الأمم السابقة، كالأمة الاسرائيلية في أيامها من سكوتها - ولو كانت غير راضية - على مخالفي أحكام الشرائع الإلهية، فيما فعلوه أو تركوه، وأماتوه من أحكام شريعتهم التي كان عليها أسلافهم، والتي جاء بها من عند الله رسلهم وأنبياؤهم، قال تعالى في حق أمتنا المحمدية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬1). ¬

_ (¬1) الآية 110 من سورة آل عمران.

والإسلام - كما قال العلماء - حياته وبقاؤه ودوامه وانتشاره متوقف على قيام أتباعه بهذا الركن العظيم، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبهما انتشر وعم الأقطار، وبهما - إذا تركا - يضعف ويموت - لا قدر الله هذا - وتموت أمته بموته، وإن كانت حية حياة الحيوانات والبهائم، التي لا يحسب لها أي حساب، ولا يعتير لها وجود إلا بقدر ما تستغل حياتها البهيمية لصالح غيرها. والأمر بالمعروف من أوكد الواجبات على من فيهم قابلية للقيام به، ولا بد للآمر بالمعروف أن يكون هو مطبقا وممتثلا في نفسه وفي كل أعماله وأقواله وفى كل تصرفاته لما يأمر به من المعروف، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أراد أن يأمر بشيء بدأ بأهله، ويتوعد كل من يخالف منهم عما يأمر به، فإذا لم يطبق على نفسه ما يأمر به، فهو من الخاسرين الهالكين، فهذا سيدنا شعيب عليه السلام أعطانا مثلا من نفسه، كما ذكر الله في القرآن، فقال تعالى في حقه عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬1) وقال تعالى في حق من يخالف فعله قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) الآية 88 من سورة هود. (¬2) الآية 44 من سورة البقرة.

ومثل ما ورد في القرآن ما جاء في السنة النبوية من أحوال من يأمر بالمعروف ولا يأتمر هو، فلا يطبق على نفسه ما يدعو الناس إليه، وما أكثر هذا الصنف في الدعاة في وقتنا هذا، بل وما أخطره على الإسلام ودعوته، من حيث أنهم يصدون الناس عن الاهتداء بهدى الله، يصدونهم عن هذا بتصرفاتهم المخالفة لروح الشريعة التي نصبوا أنفسهم دعاة لها يصدونهم ويبعدونهم عن ساحة الإسلام الطاهرة والنقية من أمثال هؤلاء الدعاة الأدعياء في الإسلام، خصوصا إذا لم يكن الواحد منهم متمكنا من معرفة الشريعة، فإن عامة المسلمين - غير العالمين - ينظرون إلى الشخص الماثل أمامهم رافعا صوته بالدعوة إلى الدين، ويرون كذلك أنه العالم بالدين العامل به والمطبق لأحكامه، وما بدر منه هو الحق وهو الإسلام، ويجب الاقتداء به، وقد لفت الإسلام النظر إلى أعمال هذا الصنف من الناس، كأنه يقول لا تغتروا بالمظاهر وبما يظهر لكم من تصرفات وأعمال هؤلاء الآمرين بالمعروف، حتى تزنوا أعمالهم وتقابلوها بأقوالهم، وفى مثل هؤلاء ورد الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى!! قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه".

هذا هو جزاء وعقاب الذين يقولون ما لا يفعلون، فقد شرح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين لنا ما ينتظرهم يوم الجزاء على الأعمال والأقوال المخالفة لشرع الله، وعقابهم هذا - زيادة عن كونهم في نار جهنم - عقاب شديد، حيث أن الواحد منهم يلقى ويرمى في نار جهنم إلقاء شديدا يؤدي به إلى خروج أمعائه من بطنه - وهو معنى تندلق - والأقتاب واحدها - قتب بالفتح - وهي الأمعاء أو المعي. اللهم إننا نسألك يا رحيم بعباده الضعفاء أن توفقنا إلى صالح الأقوال والأعمال، واحفظنا من أفعال من تخالف أفعالهم أقوالهم يا رحيم يا رحمن، آمين. ***

السهم السابع: النهي عن المنكر

السهم السابع: النهي عن المنكر من حظوظ وسهام الإسلام مقاومة الشرور والمخازي والفساد بجميع أنواعها وأشكالها، وهو المعروف في الشريعة الإسلامية باسم النهي عن المنكر، وهو كل فعل قبيح أو قول شنيع لا تستسيغه الفطر السليمة الصافية من الدغل والخبث، وهو - السهم - الذي جعله الله علامة ودليلا على يقظة المسلمين واهتمامهم بأمر دينهم ومجتمعهم، ليبقى سليما لهم من كل طارىء يطرأ على جوهره النقي، فيبدله أو يحرفه عن خطه الذي رسمه له رب العالمين. والمنكر عرفه العلماء وبينوه بأنه كل أمر فظيع يستحي فاعله - إذا كان من ذوي المروءات - من فعله أو قوله جهارا وأمام الملأ من الناس، أو سرا حيث لا يراه أحد إلا خالقه المطلع عليه في كل حالاته. والمنكر هو ما أنكره الشرع ونهى عنه لما فيه من المفاسد والأضرار التي يعود ضررها على الفرد أو المجتمع، وذلك لقبحه

أيضا، ومن المشاهد أن الناس في درجات الايمان بخالقهم وتحليهم بحلية الايمان والحياء من الله ومن الناس متباينون ومختلفون، فمن الناس من يتغلب على طبعه الايمان والحياء، فيعز عليه أن يهان أو يسخر منه العباد، أو يتأثر - في نفسه - بما فعله من مخالفة لشرع الله، فيما نهى الله عنه، ذلك النهي الشديد المؤدي بفاعله إلى الوعيد والعذاب الشديد، فهو يترك المنكرات المنهي عنها لهذا المعنى. والمنكرات التي تفسد على المسلم إسلامه قد تصدر ممن لا يخافون الله فيما يأتون، ولهذا يجب على الأمة جمعاء أن تكون يقظة منتبهة إلى ما يحدث في وسطها من كل ما لا يليق بالمسلم فعله إن كان قبيحا، أو تركه إن كان واجبا عليه فعله، وهذا من باب النصيحة لخاصة المسلمين وعامتهم، وقد بين العلماء من هم أهل الإنكار على فاعلي المناكر واشترطوا في القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالما بما يأمر به أو ينهى عنه، ليخرج الجاهل منه، لأنه ليس أهلا له، وقد يكون أمره أو نهيه سببا يؤدي إلى الضرر والفساد في وسط المجتمع، فينتج عنه خلاف المقصود، وهو الضرر لا النفع، أو الفساد لا الصلاح، كما يشترط فيه أيضا الإسلام، فلا يتولى هذا المنصب الكافر، لأنه أولى بنفسه من غيره أن يتولى إصلاحها، فهو في حاجة إلى من يأمره هو بالمعروف - الإسلام - وينهاه عن المنكر - وهو الكفر - المتلبس به لأن هذا من خصال الإيمان، إذ المؤمن يدفعه إيمانه إلى القيام بهذا الواجب الكبير، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وللقيام بهذا الواجب العظيم - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - يتحتم على المسلم القادر عليه أن يفعل ما هو مطالب به دينا من غير حاجة إلى إذن خاص من الحاكم، ولا يتوقف هذا عن التصريح - أو التسريح - له بذلك، لمن أراد أين يتولى هذا، بل عليه أن يقوم بما فرضه الله عليه حسب القدرة والطاقة والتحمل لمسؤولية ما اعتزم القيام به، إنما عليه أن يتجنب ما قد يحدث عن فعله، إذ قد يحدث منه ردود فعل قد تكون أقبح وأسوأ من فعله، إذ ربما يجلب الضرر عليه أو على غيره، وبهذا يسقط عنه القيام به. والقيام بهذا الواجب العظيم على كل واحد من أهله، سواء كانوا من علماء الدين أو كانوا من حكام المسلمين صار في وقتنا هذا مقيدا غير مطلق، ذلك أن رؤساء وملوك المسلمين الحاليين تركوا القيام بهذا الركن العظيم، إما لعدم معرفتهم به حيث لم يكونوا من أهله، وإما لأن تعلمهم كان في مدارس غير إسلامية، فتغذوا بلبانها، فامتزج بها دمهم ولحمهم، ومن المعروف المسلم به أن هذه المدارس والمعاهد لا تعلم الدين ولا تدعو له ولا تشجع عليه، بل تحاربه، ولربما تسخر منه وترميه بالنقص، هذا هو الغالب عليهم، ومن القليل جدا من خرج عن هذا الإطار - لأمور خارجة عن تعلمه، كتربيته في صغره وسط أسرة محافظة على دينها وعقيدتها فعملت للدين وتقويته ونشره - وقليل ما هم - فاهتدى هذا القليل بهديهم، واقتدى بأسلافه أهل الدين والتقوى.

للسبب المذكور وغيره طغى الباطل على الحق، وانتشر الفساد في جميع الطبقات، وعم وطم وغطى كل فضيلة كانت في المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذا من جانب الحكام الذين تخلوا عما هم مطالبون به أمام الله يوم القيامة، وأمام التاريخ الذي سجل عليهم تخليهم عن أداء واجباتهم وتقصيرهم في مهماتهم، فتسرب بذلك الشيطان وأتباعه بالفساد إلى هيكل الأمة، تسرب إليها بوسواسه الذي نخر عظامها، فسقط هيكلها مهشما لا حراك له. لم يحك التاريخ - فيما حكى - أن حكام المسلمين السابقين منعوا علماء المسلمين من أداء ما هو - فرض عليهم إلا ما صدر من بعض الحكام لأغراض ودوافع سياسية أو شخصية بعيدة عن عداوتها للدين والعقيدة - إلا ما فعله حكام المسلمين في وقتنا الحاضر، ذلك أنهم منعوا العلماء من إلقاء دروسهم الوعظية الدينية في مساجد المسلمين المشيدة بأموال المسلمين لا بأموالهم هم، فتجاوزوا سلطتهم المحدودة إلى ما ليس لهم فيه أي حق، فارتكبوا بهذا خطأ كبيرا وشنيعا لا ينجيهم منه أمام الله أي عذر أو اعتذار، فتركوا أمتهم المحكومة بقوانين غير إسلامية على أيديهم، تركوها تتخبط في ظلمات جاهلية جهلاء، مع فساد الزمان، وفساد الزمان إنما يكون بفساد أهله، مع قلة علماء الدين الذين هم أهل للقيام بهذا الفرض الكبير، هذا ما هو واقع الآن في كل بلد ووطن إسلامي - فيما أعلم - فقد منعوا علماء الإسلام من أداء ما فرضه الله عليهم ليصيروا مثلهم، فهم

قد أهملوا هذا الواجب فكيف لا يمنع منه العلماء ليتساووا معهم، إذ منعوا العلماء من تعليم الدين في بيوت الله ومساجد المسلمين، وقالوا لهم لا يسمح لكم بالتعليم في المساجد إلا بالاستظهار برخصة من الوزارة المكلفة بالشؤون الدينية تسمح لكم بالقيام بما تريدون، (وهذا ما كان ساءدا في زمن الاستعمار، ويكفي أنه استعمار غربي ضد الدين) فإذا طلب العلماء هذه الرخصة فإنها لا تمنح لهم، لأنهم لم يكونوا من الموالين للحكومة الحاكمة في البلاد، أو لأنهم يسيرون في اتجاه معاكس لاتجاهها أي في خط مناقض لخطها غير الإسلامي، وهذه كلها أسباب واهية اتخذت وسيلة للمنع لا غير، وفى المساجد أئمة لم تكن لهم الكفاءة للقيام بهذا الفرض العظيم، إما لعجزهم وضعفهم وأكثريتهم من هذا النوع، وإما لموافقتهم على خطة حكومتهم رضوا بها لأنها ... والأمر كله لله من قبل ومن بعد، وهنا نسأل: هل يسمى عالما إسلاميا من يقر ويرضى بغير الإسلام دينا للمسلمين؟؟ هناك صنف آخر من الناس كانوا يتسمون بالعلم في فترة قريبة خلت، ويسمون علماء المسلمين، رأيناهم قد تخلوا عن هذا اللقب الشريف، وانكمشوا وانزووا على أنفسهم، وتركوا ما كانوا يلهثولن وراءه يوم كان الأمر بيد جمعية العلماء، فما بالهم اليوم سكتوا؟ وأين ذهبت صيحاتهم وانفعالاتهم وحماسهم والإسلام يهان ويبعد عن معاقله؟؟

أخزى الله هذه الدنيا وقبحها فقد أضلت كثيرا من الناس وأخرجتهم من خطهم إلى خطوط أخرى لم تكن لهم ولم يكونوا لها، ونشكرها من جهة ثانية على ما فعلته مع هذا الصنف من العلماء، فقد كشفتهم للعامة على حقيقتهم حتى لا يغتر بهم وبأمثالهم أحد. كنت في ربيع سنة (1397) التقيت بأحد العلماء الأفذاذ الذين خدموا الدين الإسلامي وخلصوا السنة من التزييف وأزالوا الغطاء عنها بتبيين أحاديثها الصحيحة من الضعيفة والباطلة، وسألته يا فضيلة الشيخ هل لكم دروس تؤدونها للسملمين فيها التوجيه والنصح والارشاد؟؟ فأجابني بأن وزارة الدين في بلدهم منعته من التدريس في بيوت الله إلا أن يستظهر برخصة من وزارة الشؤون الدينية تسمح له بما يرغب فيه، قال ولما قدمت الطلب للتحصيل على تلك الرخصة جاء الرد من الوزارة بالرفض والمنع منها، قلت له هذا ما هو معمول به في عامة بلدان الدول العربية، أما غير العربية فلا علم لي بها، فقلت له وبعد هذا فما هو العمل؟، قال تراني عدت إلى التأليف ونشر وطبع الكتب، وفى هذا خدمة للدين الحنيف نرجو من الله التوفيق والقبول. ذلكم هو فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله. أما في الأوطان التي لا تدين بالإسلام فإن حكوماتها تسهل - ما أمكن - على المسلمين المستوطنين فيها كل أمر تراه يعينهم على تأدية شعائر دينهم، وفعلا فقد رأينا وسمعنا من هذا الشيء الكثير، فالمساجد منتشرة في مدينة باريس وبلجيكا وألمانيا

الغربية وهولندة ولندرة وغيرها، والمجال واسع وفسيح للدعاة إلى الدين بينما الأمر على العكس من هذا في البلدان التي كتبت في دستورها عبارة "الإسلام دين الدولة" وهذا تناقض مفضوح وقد قال لي أحد العمال الجزائريين المستوطنين في فرنسا هذه الكلمة: "ما فهمت الإسلام إلا بعد أن جئت إلى فرنسا" فهمته من الدروس التي نتلقاها عن العلماء في المساجد!! أليس في هذا عبرة للمعتبرين، ينتشر الإسلام في أرض الكفر ويوسع على تدريسه وتعليمه بينما يضيق عليه في بلاده، أمر مؤسف والله!!؟ نفكر كثيرا في هذا السلوك الذي سلكه حكام المسلمين إزاء الإسلام والدعوة إليه وتبليغه فنرى أنهم اختاروا هذه الخطة ليؤمنوا مراكزهم وكراسيهم المضعضعة لأنهم يخافون غضبة الأمة المسلمة وانتفاضتها في يوم - ما - إذا هي فقهت دينها وأرادت أن لا تحيد عن نهجه وخطه، وإنني لأفكر من الآن - إن دام هذا الحال - في أنه ربما يأتينا يوما لا نصلي فروضه إلا برخصة من الحكومة - كما في الحج الآن - أما صوم رمضان فإنه قد فرغ منه، إذ صار يعين أول يوم منه مقدما بسنة أو ما يقرب منها، عند طبع وإحراج اليومية للسنة الجديدة، والعتاب الشديد واللوم القاسي والتوبيخ اللاذع إنما يتوجه إلى من يسمون أنفسهم بالعلماء لسكوتهم وجبنهم، أو رضاهم بالأمر الواقع حسب الاصطلاحات السياسية، والأمر واضح لو أرادوا أن يقفوا إلى جانب الدين، لأنه لا دخل للحكومات في أمر ديني

بحت، يعود النظر فيه من قديم الزمان إلى العلماء لا إلى الحكومات، لأنه يندرج في اختصاصاتهم، فنحن مقبلون على ما تذمر منه العربي في القديم من الزمن حين قال: إِنْ دَامَ هَذَا الْحَالُ يَا مَسْعُودُ ... فَلَا جَمَلُ يَبْقَى وَلَا قُعُودُ نعود إلى الموضوع، حيث أننا نعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درجات ثلاث، حسبما يحدث في المجتمع الإسلامي ففيهما الواجب المتأكد - وهي الدرجة الأولى - ويكون باليد أي بالقوة على المعتدي على حدود الله، وهذا ما يطلب من سلطة الحكومة الإسلامية، وقد ألغى هذا ولم تعد سلطة الحكومة تمارسه، وإذا لم يمكن هذا، فليكن باللسان والكلام، أي بالأمر أو النهي لمن ترك الواجب أو فعل المحرم، وهذا من واجب العلماء على من بقي منهم مواليا لدينه وعقيدته، وهي الدرجة الثانية، والدرجة الأخيرة الضعيفة كما جاء في نص الحديث، هي فيما إذا عجز المطالب عن الدرجتين المتقدمتين فإنه ينكر إهمال الواجب أو فعل المحرم بقلبه ولا يرضى بالمنكر يقع أو بالواجب يترك من أي كان، وهذه درجة عامة المسلمين، لا يختص بها واحد دون آخر. فالدرجة الأولى الإنكار باليد. - أي بالقوة - فمن لم يستطع أن يقوم بها انتقل إلى الدرجة الثانية، أي باللسان، فإن خشي الضرر له أو لغيره، فلا أقل من أن ينكر ذلك بقلبه، وهو عدم الرضا بالمنكر والمنكرات، وهذا أقل ما يستطيع فعله، لأن الإنكار بالقلب لا يخشى منه شيء، إذ لا سلطان على القلوب إلا للخالق علام الغيوب ..

وولاة المسلمين في زمننا هذا أكثر الناس جرأة - إلا من قل - على ترك الواجبات وفعل المنهيات، فكيف يرجى منهم الأمر والنهي؟ ودليل ما تقدم حديث مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان". ولرواية هذا الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قصة معروفة وهي: أن مروان بن الحكم الأموي كان واليا على المدينة المنورة من قبل معاوية بن أبي سفيان الأموي أيضا، وحضر العيد فجاء مروان ليصلي بالناس صلاة العيد، كما هي العادة المتبعة في الإسلام من أن صلاة الجمعة والعيد يقوم بهما الولاة - فيا حسرة على ما مضى - فأول ما بدأ به أنه قدم الخطبة وأخر الصلاة، على العكس مما يأمر به الشرع من تقديم الصلاة على الخطبة، وإنما فعل هذا مروان كي لا يتفرق من حوله المصلون بعد الصلاة مباشرة من غير أن يبقوا لسماع الخطبة، لأن الناس لا يحبون أن يسمعوا خطبة واحد من بني أمية، ذلك لأن بني أمية كانت خطبهم تشتمل على شتم وسب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لما وقع بينه وبين معاوية من الخلاف على الخلافة ولم يبطل هذا المنكر الشنيع إلا عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي العادل الصالح رضي الله عنه، فتقدم الوالي مروان بن الحكم وصعد المنبر للخطبة فجذبه من ثوبه الصحابي "أبو سعيد الخدري" رضي الله عنه ودار بينهما هذا

الحوار كما جاء في صحيح الإمام البخاري من كتاب صلاة العيدين، قال أبو سعيد الخدري، فلم يزل الناس على ذلك، - يريد الصلاة قبل الخطبة، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده - حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذته بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له، غيرتم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة اهـ - وكان هذا الحوار بينهما فقط - فكان هذا العمل من مروان خلاف السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الأربعة الراشدون من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما صعد المنبر الوالي المذكور صاح به أحد الحاضرين للصلاة فقال له بصوت عال على رؤوس الناس: الصلاة قبل الخطبة، - يعني أنك خالفت السنة - فما كان من الوالي إلا أن رد عليه بقوله: قد ترك ما هنا لك، فالظاهر من صيحة هذا المصلي في وجه الوالي أنه كان يظن أن الوالي نسي أو أخطأ من غير عمد لتقديمه، الصلاة على الخطبة، لهذا صاح به لما ذكر، والسهو والغفلة قد تحدث للإمام كما تحدث لغيره، غير أنه تبين له من رد مروان عليه أنه متعمد مخالفة السنة النبوية فيما فعل، وغرضه الذي يرمي إليه من هذه المخالفة أن الناس سيبقون إلى الصلاة ولا ينصرفون عنه، لهذا قدم الخطبة وأخر الصلاة.

وكان حاضرا في المصلى - كما مر - الصحابي / أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فلما سمع إنكار المنكر على الوالي ولم يرهبه ويخف منه لهذه الصيحة، عند هذا فال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، ثم ذكر الحديث المتقدم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رآى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان" فدل قوله: أضعف الايمان، على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الايمان وذكرا في القرآن متلازمين، في الغالب من الآيات التي دعت إليهما ورغبت في القيام بهما، وروى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم". والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهما نوع من الجهاد كما جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره عن أبي السعيد الخدري رضي الله عنه وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " أفضل الجهاد كلمة حق - وفى رواية عدل - عند سلطان جائر". وقد روى معنى حديث أبي سعيد الخدري من وجه آخر، فخرجه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره

ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". فهذا الحديث أعم وأشمل من ذلك. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أولى وأجل وأفضل ما يقدمه المسلم الخالص لدينه وأمته، ذلك المسلم الذي يسره الله عليه وأكرمه به وبصره بما يكون بعد القيام بهما من الخير والصلاح لهذه الأمة، وفى تركهما من الشر والفساد - وحتى الكفر - في هذه الأمة، فإنها لا تستقيم أحوالها ولا يستقيم أمرها إلا بالعودة والرجوع إلى ما كان عليه سلفها الصالح، وهذه نصيحة إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه، وكلمته التي بقيت بعده مضرب الأمثال، ومرجع الآمال، في كل وقت وحال، ويتسابق إليها الوعاظ الناصحون في مواعظم، وتلك الكلمة هي قوله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". وقد ينال من قام بهذين الفرضين، أو السهمين الإسلاميين - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ما تكرهه النفوس الضعيفة من أذى وضرر ومكروه في سبيل القيام بهما غير أن الواجب على القائم بهذا هو الصبر والتحمل لكل ما يصيبه في سبيلهما من مكروه، وأين نحن مما أصاب رسل الله في سبيل تبليغ الرسالات إلى من أرسلوا إليهم منهم، وأخبار ذلك مفصلة

ومجملة في القرآن، فقد اتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام بالجنون وهم أكبر الناس عقولا إلى آخر ما هو معلوم وكان من قبلنا يفتنون ويعذبون بأنواع شتى من العذاب كي يتركوا دينهم ولكنهم حافظوا على التمسك به، وأبوا أن يستجيبوا للظالمين فيما دعوهم إليه، فنشروا بالمناشير، وخدت لهم الأخاديد وأضرمت لهم فيها النيران وألقوا فيها فما صدهم كل ذلك عن دينهم، ولا اتبعوا سبيل الظالمين، فهذا هو الايمان بالله صدقا وهذا هو التصديق بوعد الله حقا، وهذا هو اليقين الذي ينجي صاحبه من عذاب الله. فقد ذكر الله في القرآن ما أوصى به لقمان الحكيم لولده، فقد أوصاه بالصبر وتحمل الأذى في سبيل القيام بهذين الواجبين الخطيرين اللذين لا يستطيع أن يتحمل المكروه في سبيل أدائهما والقيام بهما إلا المخلصون المحبون للخير والفضيلة أولي العزم والصدق في اللقاء والعمل لله وحده، فقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬1). حقا إنها درجة عالية لا يهبها الله إلا لذوي النفوس الصبورة على ما يصيبها من أجل القيام بذلك، وأي شيء هذا الذي ينوه به خالق الخلق؟ وما هي فائدة هذا الذي يضعه الخالق في قلوب طاهرة ونفوس قوية الايمان، لا ترضى لهذا المجتمع أو ذاك إلا ¬

_ (¬1) الآية 17 من سورة لقمان.

ما يرضاه لها ربها وخالقها؟ كل ذلك من أجل المحافظة على سلامة العقيدة والدين والمجتمع، حتى لا يصيبه ما أصاب المجتمعات التي سبقتنا، حيث أهمل فيها هذا الركن العظيم من بين أفراد المجتمع وحكوماته المتتالية، فحل بالجميع الهلاك والدمار، وبقيت أخبارهم تتلى في المجتمعات تتناقلها كتب التاريخ، حقا ان في ذلك لعبرة لأولي الألباب. إن هذه المناكر الطارئة والطاغية على حياة المجتمع أكثر ما تكون من الغنى بعد الفقر، والوجد بعد الحرمان كما قال رب العالمين: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} إن وقوع هذه المناكر في المجتمعات التي لم تكن معروفة فيها من قبل تشبه إلى حد بعيد تلك الأمراض الوافدة من خارج الوطن، والتي تفد مع من يفد إلى مجتمع - ما - لأغراض متعددة كالتعاون في وقتنا الحاضر، ومن خاصتها أنها سريعة الانتشار والعدوى، لأن أهل الوطن ينظرون إلى كل ما جاءهم من الخارج أنه حسن لائق بهم، ولهذا رأيناهم يتسابقون إلى فعله ليصبحوا من أهله. ومن المعروف من أقدم الأزمنة إلى يومنا الحاضر/ أن المسؤولين عن تدبير أمور البلد - الولاة - إذا أحسوا بحدوث أي مرض خطير - كالطاعون مثلا - فإنهم يسارعون لدفع خطره عن الوطن بالعلاج النافع الذي يقي الأمة شره وخطره كالتطعيم وغيره، فإذا تركوه من غير عناية به وأهملوا شأنه فإنه يلحق بالأمة أشد أنواع الأمراض وأخطرها ولربما يؤدي إلى هلاكها

وفنائها، والتساهل في مقاومته يودي بخلاصة الأمة وزهرتها، وبعد هذا تندم على تفريطها، ولات ساعة مندم. فترك المعروف من الدين يسمى إهمالا أو تهاونا، وفعل المنكرات يسمى استخفافا وعدم مبالاة بها، والسكوت عنها ممن هم أهل للتصدي لها يؤدي حتما إلى غضب الله وسخطه، وفى غضب الله وسخطه العقاب السريع في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، فالعذاب والعقاب إذا نزل بأمة فإنه يصيب الجميع الفاعل للمنكر والتارك للمعروف والساكت عن الزجر والتقريع والتغيير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكوت أمته عن مقاومة الظلم: (إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم فقد تودع منهم) أخرجه الأئمة أحمد والحاكم والطبراني وغيرهم عن عبد الله بن عمرو. وخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عدي بن عمير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة" وفى سنن أبي داود العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها" فالحديث يدل بصراحة على أن

المنكر للخطيئة والمعصية التي وقعت يعامله الله معاملة الغائب عنها فكأنه لم يشهدها ولم يسمع بها حتى يطالب بإنكارها، فهو لا إثم عليه لأنه غير مطالب بشيء حيث لم ير ولم يسمع، أما إذا رضي بها وبوقوعها ولو كان غائبا عنها ولم يشهدها كان عليه الإثم كإثم فاعلها. إن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ومن أجل هذا شهر القرآن بسكوت أولي الأمر عن فاعلي المنكرات فلم ينهوا عنها، فقد لعن الله الساكتين عن تغيير المنكرات، إذ يراهم كأنهم راضون بفعلها، كما قص علينا ربنا في القرآن قصة بني إسرائيل في هذا المعنى فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬1). فما أقبح هذا الذم وما أشنعه، فليس في العقوبات نوع أشنع من اللعن، إذ معناه أن الملعون مغضوب عليه من رب العالمين، ومطرود من ساحة رحمة الرحمن الرحيم، فإلى أين يتجه هذا الملعون؟ ليس له إلا اتجاه واحد هو عقاب الله الشديد وعذابه الأليم في نار جهنم التي أعدت للعصاة والكافرين. واللعن جاء في القرآن على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم لأناس خالفوا المنهج الإسلامي وغيروا وزوروا ودلسوا الحقائق ¬

_ (¬1) الآيتان 78 - 79 من سورة المائدة.

ليخفوا ما وراءها، ولما كثر فعل ما لا يليق بالمسلمين فعله من الزور والتزوير حذر منه نبينا عليه الصلاة والسلام، من هذا ما ورد منه في صحيح الأخبار والآثار من النهي الشديد وأقبح الوعيد في حق طائفة من الذين لا تعنيهم حقائق الأشياء إلا إذا غيروها وبدلوها وزوروا فيها. من ذلك عملية الواصلة والمستوصلة الخ، فقد ورد في صحيح الإمام مسلم والبخاري وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمة الخ فقد ورد في صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله؟ فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة" والواصلة هي المرأة التي تصل وتربط شعرا بشعر لتزيد في طوله، والمستوصلة هي المرأة التي تطلب ذلك، ومعنى تمرق وفى رواية أخرى تمرط بمعنى تساقط، وهذا من أثر مرضها بالحصبة، والمرأة من الأنصار، فزجرها عن فعله لما فيه من التغرير بالرجل والتزوير والكذب وطمس الحقائق، هذا ما كان في القديم أما الآن فقد يقصر الشعر الطويل، وفي مسلم زيادة عمن ذكره جاء لعن الواشمة والمستوشمة الخ. فقد جاء فيه عن عبد الله - بن مسعود - رضي الله عنه قال: "لعق الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها "أم يعقوب"

وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت (الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله). فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. فقالت المرأة: فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن، فقال: اذهبي فانظري، قال فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئا فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئا، فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها، أي لم نجتمع معا يريد أنه طلقها لو فعلت ما ذكر، وفى رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة). وهؤلاء الملعونات على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم هن: 1 - الواصلة هي التي تصل شعر المرأة بشعر آخر فتضم شعرا غريبا عن شعر المرأة إلى شعر امرأة أخرى. 2 - المستوصلة هي التي تطلب فعل هذا الوصل، أي وصل شعر آخر بشعرها. 3 - والواشمة هي فاعلة الوشم، وهي المرأة التي تغرز إبرة أو نحوها في الجلد حتى يخرج منه الدم، فتحشو ذلك الموضع

بكحل أو حبر أو غيرهما، فإذا جف الدم بقي مكان غرز الإبرة على لون الكحل أو غيره، وهو حرام على الفاعلة والمفعول بها إذا كانت طلبته ورضيت به وكانت عاقلة مدركة وإن كانت صغيرة فالإثم على من فعله لها. 4 - والمستوشمة هي التي تطلب بأن يفعل لها هذا، والموضع الذي وشم يصير نجسا، فإن أمكن إزالته بالعلاج وجبت إزالته. 5 - والنامصة هي التي تزيل الشعر من الوجه، أو من الحواجب بقصد ترقيقهما للتزين. 6 - والمتنمصة هي التي تطلب فعل ذلك بها، ويقال للمنقاش الذي ينتف به الشعر "منماص". 7 - والمتفلجات وهو من الفلج، وهو فرجة تكون بين الأسنان الثنايا أو الرباعيات، والتفليج أن تبرد بالمبرد ما بين هذه الأسنان حتى تجعل منه الفلج، وذلك يعتبر من الحسن والزينة للمرأة، وتفعله المرأة العجوز لتظهر وكأنها صغيرة، لأن الفلج كثيرا ما يكون في البنات، فهو من تغيير خلق الله. وهذه المنهيات هي من المحرمات والمعاصي الكبائر، وهي من وحي الشيطان وأمره، كما حكى القرآن عنه أنه توعد بني آدم وقال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} والوشم كان في القديم في النساء فقط فصار الآن فيهن وفي الرجال.

وبصور وأنواع مختلفة، وعلى جميع أعضاء الجسد، من صدر وساعد وغيرهما، زيادة عن الوجه، وفيه نوع منه يوضع على الجبهة في مكان السجود في الصلاة، ويسمى "الذبابة أو الذبانة " وهو يمثل صليبا واضحا، ولعله من علامة عباد الصليب جعلوه علامة على التعارف بينهم، وإن لم يشعر فاعله به، والكل حرام، وهو من المعاصي الكبائر، كما نبه عليه الإمام ابن حجر في كتابه "الزواجر عن ارتكاب الكبائر" لأن من أمارات المعصية الكبيرة (اللعن). ومن هذا القبيل ما ورد في صحيح الإمام مسلم وغيره عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج وهو على منبر المدينة وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي (شرطي) يقول - معاوية -: "يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو اسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم" ووردت رواية أخرى فيه عن سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة فخطبنا وأخرج كبة من شعر فقال: "ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود"، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور، ولاشك أن ما قاله معاوية قد رآه في نساء المدينة المنورة من وصل الشعر بالشعر كما تقدم، وفى حديث معاوية هذا اعتناء الخلفاء وسائر ولاة أمور المسلمين بإنكار المنكر وإشاعة إزالته، بل فيه توبيخ شديد لمن أهمل إنكار المنكرات من العلماء الذين يتوجه إليهم

ذلك التوبيخ، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة من السكوت عن إنكار المنكر وخاصة علماء الدين، فقد روى أصحاب السنن عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التحذير بل وفيه الوعيد، أخرج الإمام الترمذي في جامعه عن حذيفة بن اليمان هذا الحديث وقال في آخره "حديث حسن" وهو قوله: عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم". والمقصود من كل ما تقدم سواء من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أو من قول معاوية: يا أهل المدينة أين علماؤكم، المقصود من هذا ظاهر وواضح وهو توجيه اللوم والعتاب إلى أولي الأمر منا وخاصة علماء الدين الذين يسكتون عن إنكار ما يحدث ويتجدد في وسط المجتمع الإسلامي من المنكرات، على مرآى ومسمع منهم، سواء وقعت المخالفة للدين من الرجال أم من النساء، إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟: "أفضل الجهاد كلمة عدل - وفى رواية حق - عند سلطان جائر" كما تقدم. فسكوت علماء الإسلام عن النهي والانكار يطور المخالفات الصادرة من بعض الناس إلى الزيادة في فعل تلك المخالفات - كما هو مشاهد بالأبصار ومعلوم بالروايات عن الثقات - حتى

يستفحل الأمر ولا ينفع بعد ذلك فيها العلاج، فيصعب تركها والاقلاع عنها، بل ويصورها الواقع كأنها مباحة لسكوت علماء الدين عن إنكارها والنهي عن تلك المخالفات للشريعة الإسلامية لأن النفوس ألفتها وتعودتها مع طول المدة. فاللهم لا تجعلنا من الذين يرون الباطل ظاهرا - وماثلا - أمام أبصارهم ولا ينكرونه، واجعلنا ممن يرفعون أصواتهم - دائما - بإنكار المنكر من غير أن يتأثروا بمراعاة جانب فلان أو فلتان، فإن الباطل عند السكوت عنه يرفع رأسه وصوته عاليا ليراه الناس ويسمعوه، لأنه لم يجد في طريقه من يصده ويقاومه. إن عصرنا هذا الذي نعيش فيه، أو هذه الفترة التي تمر بها أمتنا الإسلامية فترة صعبة وقاسية على الدين من أجل ما يلاقيه الدعاة إلى الله من الشدة عليهم والعنف معهم، وبالأخص تلك الأوطان التي اشتهرت بمواقفها الحاسمة في أيام تاريخها القديم، فنكوصها على أعقابها أمر لا يليق بماضيها المجيد، فإن الكثير من هذه الأوطان قد انكمش على نفسه، ولا نقول أنه تخلى عن تلك الدعوة والمواقف بتاتا، إنما أصابته فترة فتور، وهذا يرجع إلى أمرين اثنين فيما أعتقد وهما: الأمر الأول طغيان حكامهم الذين تجاوزوا حدود وظائفهم، كرعاة ناصحين ومسؤولين مخلصين لأمتهم رعاة حقا لمصالح الإسلام والمسلمين أولا، وقبل مراعاة مصالحهم الخاصة،

فقد خيل إليهم أنهم وحدهم أصحاب الكلمة والحق في توجيه المسلمين، ولو كان ذلك التوجيه إلى غير الوجهة التي يحبها الله ويرضاها للمسلمين، ولم يستسيغوا مواقف العلماء من هذا الأمر - توجيه المسلمين إلى غير ما دعا إليه الإسلام - ولم يدركوا أن مسؤولية العلماء في ذلك ربما كانت فوق مسؤولياتهم، إذ لهم المحافظة على سلامة الأوطان وما يتبع ذلك، وللعلماء مسؤولية الدفاع عن سلامة الدين والعقيدة والأخلاق الفاضلة من كل طاريء ودخيل، فقد رأيناهم ولمسناهم في مواقفهم وتصرفاتهم أنهم كلما تكلم عالم نصوح لأمته في أي موضوع ديني أو اجتماعي إلا وتخوفوا منه، واعتقدوا أن هذا منه تهديد لسلامتهم وراحتهم (وأمن الدولة) وأمنهم هم، فناصبوه العداء وراقبوا أعماله وتنقلاته كأنه مثير فتنة، أو يريد الاستيلاء على السلطة كما توهموا هذا، فحاربوه ما وسعهم ذلك بالتضييق عليه في أعماله وأقواله والحد من نشاطه الديني، بل وسد الأبواب في وجهه. والقرآن يصور لنا أن مثل هذا لا يصدر إلا عن المنافقين، كما قال تعالى في حق المنافقين الذين حاربوا الإسلام في أيامه الأولى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) الآية 4 من سورة المنافقون.

والأمر الثاني يرجع إلى مواقف العلماء من أولئك الحكام، فمنهم الرعديد الجبان، الذي حمل أمانة العلم لتكون حجة عليه لا له يوم القيامة، ومنهم المداهن المتملق المسالم لضعفه لقول من قال: (سلم تسلم) ومنهم الذين أشربوا في قلوبهم حب المال والكسب والمغنم على حساب الدين، ولا عليه بعد هذا أانتصر الدين والعقيدة على المهاجمين أم انهزما أو وقفا في مكانهما؟. وقد كان العالم الورع الشيخ عبد الله بن المبارك كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات ويقول: رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا وفى كلا الأمرين يوجد رجال آمنوا بوعد ربهم وبمبدئهم وبمسؤوليتهم، ولم يثنهم عن عزمهم قوة أولئك، ولا ضعف هؤلاء، فأدوا ما عليهم من واجبات، قد تكون ثقيلة في بعض الأوقات، وقاموا بمسؤولياتهم خير قيام يقتضيه عامل الزمان والمكان، فكانوا - إن شاء الله من الناجين - ولم تخل الأرض من داع يدعو إلى الله ومن قائم بأمر الله، والحمد لله. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب كل مسلم مؤمن بربه حتى الجالس في قارعة الطريق، حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في طرقات الناس، فقال الصحابة له ما لنا منها بد يا رسول الله، فقال: (فإن أبيتم إلا المجالس

صرخة إلى علماء الإسلام

فأعطوا الطريق حقه)، قالوا وما حقه؟ قال: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وفي هذا الإرشاد فائدة الجميع والحمد لله. صرخة إلى علماء الإسلام. إلى من اصطفاهم الله ليكونوا ورثة أنبيائه ورسله، في تحمل شرائعه والذب عنها، وحملهم أمانة العلم والدين ها أنتم تبصرون بأعينكم وتسمعون بآذانكم وتدركون بعقولكم ما نال الدين والعقيدة الإسلامية من مهانة وما استقر في قلوب المسلمين من ضعف في الايمان، ونكران لفضل الإسلام على البشرية، قد رفع بعض ضعاف الايمان رؤوسهم وأصواتهم عالية، منادين بإبعاد الإسلام عن ساحة المسلمين، مرددين كلمات ألقيت إليهم من خصوم الإسلام فتلقفوها بلهفة تلقف الجائع للقمة الحقيرة، وابتلعوها - من غير مضغ - على ما فيها من سموم قاتلة، تاركين وراءهم عيشة الإسلام الهنيئة المريئة الطاهرة المرضية. أين أنتم يا علماء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها؟ أين أنتم من خطة أسلافكم؟ والإسلام يهان ويضطهد، أما علمتم ما لحق به وبأهله؟ أما رأيتم ما أصابه وأصابهم؟ أما سمعتم ما نزل بأرضه؟ أرضيتم له كل هذا وأنتم من جنوده وأنصاره؟ تناهشته السباع العادية تريد تمزيقه وتقطيع أوصاله، لتقضي عليه فيما تزعم، كلا!!! والله ما تستطيع ذلك، إنما هي محاولات

يائسة، ومساع خائبة، لأن الإسلام - دين الله - لا يموت، وهو حي باق إلى يوم البعث والنشور. الإسلام في حاجة إلى مواقفكم الشجاعة، مواقف تشبه مواقف الرعيل الأول، حين صارعهم الباطل فصرعوه، وهزموا جنده وأذلوه - إلا أن جند الله هم الغالبون - وسدوا عليه مسالكه إلى صفوف المسلمين، فعاد أدراجه مهزوما ومخذولا. ما هذا السكوت - إلا من القليل النادر - بعدما شاهدتم ما هو جار في أوطانكم؟ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}. قد رأيتم جحافل الالحاد والتشويه تجوس خلال الديار، تعثو في الأرض فسادا، ان شرف العلم عظيم، ودرجته أعلى وأرفع، وهذا بالطبع لا يكون إلا للعاملين بعلمهم، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إن مسؤولية العلم وخطره أعلى وأعظم، رفعة وانحطاطا، وقديما قال الحكماء: "فِي زَلَّةِ عَالِمٍ زَلَّةُ عَالَمٍ". ساءت أخلاق المسلمين، فقال الناس: هذا من سكوت العلماء!! انتهكت الحرمات، وفعلت المحرمات، فصاح الناس هذا من سكوت العلماء!!

تركت الفروض والواجبات الدينية، فقالت العامة هذا من غفلة العلماء!! طغى حكامهم وصاروا لا يبالون بالحرام والانحراف فقالت العامة هذا نتيجة لجبن العلماء!! قل الوفاء وكثر الغدر، وضاعت الأمانة من أوساط المسلمين، فقال النقاد هذا من طمع العلماء!! كثر التملق والتزلف والتمسح بأعتاب الحكام والتقرب منهم وتحسين أعمالهم المنافية لأسس الدين، فقال الناس هذا من رغبة العلماء في وظائفهم وأموالهم!! ما هو دوركم في هذه الأوساط التي تشاهدونها؟ هل هو دور المرشد النصوح أو هو دور المبهوت المفضوح؟ أصحاب الضلال والباطل والفتن يعملون بحزم ونشاط، وأصحاب الهدى والحق والرشد سامدون صامتون، يراقبون الزحف على الحق والخير والدين من بعيد!! ما سبب هذا الفتور والحيرة؟ هل لم تستبينوا واقع الإسلام والمسلمين؟ أو لم تدركوا المصير؟ هل تذكرون بهذا وأنتم المذكرون؟ أعيذكم بالله أن تكونوا من الذين لا يهمهم أمر الإسلام والمسلمين في شيء، إن كنتم من الذين لا يعنيهم هذا فإن

خصوم الإسلام - وما أكثرهم - يهمهم شأنهم وشأن باطلهم، فهم في غيهم مجدون، وإلى تنفيذ ما يأمرهم به باطلهم مسرعون، يدعوهم فيستجيبون، ويأمرهم فينفذون، ونحن كما قال القائل: لَقَدْ طُفْتُ فِي تِلْكَ الْمَعَاهِدِ كُلِّهَا ... وَسَرَّحْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ والسلام على من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته. ***

السهم الثامن: الجهاد في سبيل الله

السهم الثامن: الجهاد في سبيل الله هذا السهم من أسهم الإسلام شرعه الله لحماية الدعوة إلى الله، والدعوة إلى دين الله المحاربة من قوى الكفر والالحاد، لأن هذه القوى من أول يوم ظهر فيه هذا الدين - دين التوحيد - وهي لم تدخر وسعا وطاقة للكيد له ولأهله بشتى أنواع المكايد والحيل، لتصد الناس عن الدخول فيه والاهتداء بهديه القويم، ذلك أن هذه القوى تعلم أن هذه الدعوة الإسلامية هي دعوة من الله حقا، وما كانت عليه هذه القوى مخالف للحق والصواب، فقد حرفت شرائع الله وأحكام دين الله، وشرعت لأتباعها شرائع هي من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن ولم يثبت في التاريخ القديم أن أي دين من الأديان وجد من خصومه ما وجده الإسلام من أعدائه، من الاعراض والصدود عنه إلى محاربته بشتى أنواع الحروب، حتى بالتجويع والحصار والقهر والتعذيب والاغتيال والمكائد وغير هذا، ولا زال هذا الوضع إلى الآن، حتى من بعض حكومات الشعوب الإسلامية، لهذا شرع الله الجهاد في سبيل الله.

وكلمة الجهاد في اللغة مشتقة ومأخوذة من الجهد، والجيم فيها تفتح وتضم ولكل معنى، فإن كانت كلمة الجهاد مشتقة من الجهد بفتح الجيم فهذه المادة تدل على المشقة والتعب، فمعنى الجهاد عليها المبالغة في اتعاب النفس في ذات الله وإعلاء كلمته ورفع منار شريعته وإشاعة دينه وعقيدة الحق بين عباده، لأن هذا كله جعله الله سبيلا وطريقا إلى رضوانه ودخول جنته. فالجهاد هو محاربة الأعداء الذين يحاربون الإسلام وعقيدته، وهو فرض كفاية - إذا قام به البعض سقط عن الباقين - إذ هو لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد، وهي (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويتعين في حالة دخول الأعداء إلى بلاد المسلمين، - بمعنى يصير فرض عين - على كل من هو قادر عليه بأي شيء من أنواع القدرة، بالنفس، أو بالمال، أو بالجاه أو غير ما ذكر، من كل ما هو من شرع دين الله، ويطلق الجهاد أيضا على مجاهدة النفس والهوى والشيطان وكل ما يصد عن العمل بدين الله، وهذا من أعظم وأشد أنواعه. فالجهاد إذن هو المبالغة في استفراغ الطاقة والقوة والوسع، سواء بالحرب أو باللسان أو بأية وسيلة تكون لتثبيت العقيدة ونشر الدين ومحاربة الصادين الناس عن دين الله بكل ما يطيق الإنسان من نفس أو مال أو علم، أو غير هذا من كل ما فيه توجيه صالح لعباد الله. ومن العلماء من يرى أنه مشتق من الجهد - بضم الجيم - بمعنى الطاقة والقدرة والوسع، والكل صحيح، وأكثر

العلماء يميلون إلى أنه مأخوذ من الجهد - بفتح الجيم - نظرا للمشقة والتعب التي تلحق المجاهد في سبيل الله، من مكابدة الموت أو الجراح أو غير هذا، فتقول - مثلا - فلان أصابه جهد وهو ما جهد الإنسان وأتعبه، من مرض أو أمر شاق، كما تقول هو مجهود. ومشروعية الجهاد كما تقدم كانت لحماية الدين من عدوان المعتدين، وكل شيء في هذه الحياة يحتاج إلى حماية وصيانة من أهله وأولي شأنه يدفعون بها الراغبين والطامعين في أخذ ما يريدون أو إتلافه، مما هو خاص بأهله وأولي شأنه، إذ الواجب على الإنسان أن يصون عرضه ومتاعه وما يملكه ممن يطمعون فيه وفى الاستيلاء عليه. وقد شرع الجهاد في سبيل الله بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، مثلما كان القتال مشروعا في الأديان السابقة قبل الإسلام، وبه صلحت الشرائع واستمرت أعمالها لهداية الناس، ولولاه لتغلب الكفر وأهله على الدين وأهله، وهذا ما أشار إليه القرآن وصرح به كما في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1) فإذا ضعف مفعول الدين في المجتمع الإنساني ولم يستطع المقاومة تغلب الكفر والإلحاد على ¬

_ (¬1) الآيه 40 مر سورة الحج.

الدين وأهله، إلى أن يأتي زمان يشتد فيه ساعد الدين والعقيدة فتكون الغلبة له، وهكذا الحال في كل زمان ومكان. وقد رغب الإسلام فيه، وحبب إلى أتباعه القيام بهذا الفرض الكفائي الذي لا يستقيم أمر المسلمين ولا تستقر لهم الحياة الهنية إلا به وفى ظله، لحمايته وحماية الدعوة إليه وبقائهما قائمين، من غير أن يظن ظان أنه يهدف إلى التوسع في امتلاك الأراضي، لأن التاريخ شاهد عدل يشهد بأن المسلمين في جهادهم وحروبهم مع الكفار لم تكن لهم نية في الاستيلاء على أراضي المحاربين وقهر أهلها واستعبادهم لأغراض تتنافى مع الإنسانية ومساعدتها على النهوض بنفسها من كبوتها بمرور سنوات التعسف والظلم التي ناءت بأثقالها قرونا طوالا، فجاء الإسلام لنشر العدل والرحمة والأخوة الحقيقية لا الزائفة، والتاريخ شاهد أيضا بأن الدعاة إلى الإسلام والفاتحين منهم لم يقهروا سكان الأوطان التي حلوا بها ولم ينتزعوا منهم أراضيهم ليعطوها إلى إخوانهم وأبناء عمومتهم مثل ما فعله المستعمرون في الأراضي التي استولوا عليها بالقهر والقوة من المسلمين، فلم يفعل المسلمون مثل هذا إلا إذا وجدوا من يقف أمامهم في طريق تبليغ الدعوة ويعارض ويقاوم دعوتهم، فإذا استولوا على الأراضي فإنما أخذوها لأن أهلها حاربوا دعوة الله إلى توحيده وقاوموا ناشري شريعة الإسلام.

إن الجهاد في الإسلام إنما هو إنقاذ للبشر من عبادة غير الله الواحد القهار، فمن قبل الدعوة الإسلامية ولم يحاربها فإن ماله يبقى له بكامله، وكذلك نساؤه وكل ما يملك، كما يشهد التاريخ بأن المسلمين الأعفاء لم يعتدوا على عفاف أية امرأة ممن يحاربونهم، ولم يدعوها إلى الخنا لا بالقوة والترهيب ولا بغيرهما من أنواع الاحتيال والترغيب مثلما فعله المتمدنون - كما يزعمون - من الأوروبيين الذين حاربوا المسلمين في أوطانهم، للاستيلاء عليها وعلى أراضيهم وأموالهم وحتى نسائهم - اللائي لم يحاربن - وحليهن، وكان الفرنسيون في حربهم العدوانية في سبيل استيلائهم على الجزائر سنة 1830 يقطعون أعضاء الجزائريات بحليهن ويباع هذا في الأسواق العامة أو يرسل لذويهم كهدايا كما ذكره الفرنسيون أنفسهم، ويكفي شهادة عالم منصف من مؤرخيهم النزهاء عن الكذب والتدليس، ذلكم هو (قوستاف لوبون) قال في كتابه (حضارة العرب): (لم يعرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب) يقصد المسلمين، لتهذيب الإسلام لهم ونهيهم عن الباطل والظلم. ونسأل: هل سمعتم أن أحد الصحابة المجاهدين في سبيل الله أرغم امرأة على الخنا والفجور - حاشاهم رضي الله عنهم من قوم أعفة - لم نسمع بهذا أبدا، بل كانت تصدر الأوامر من مركز القيادة إلى المجاهدين باحترام أهل الدين والشيوخ والعاجزين والصبيان والنساء - ما لم يحملوا السلاح ويحاربوا - فإن الإسلام أمر بصون الجميع وعدم التعرض لهم بأذى، إلا من

أخذ منهم في حالة الحرب مع المسلمين، فإنهم يؤخذون عبيدا وإماء، وحكمهم في الشريعة الإسلامية مقرر ومعروف. أقام الرسول صلى الله عليه وسلم في بلده مكة ثلات عشرة سنة - بعد أن أتته الرسالة من ربه وأمر بالتبليغ من ربه - يدعو الناس إلى الله في المجتمعات العامة وفي أيام الحج وفى الأسواق، يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، فرادى وجماعات إلى أن اشتدت عليه وطأة عداوة قومه له، وبعد موت عمه أبي طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها، وقد كانت درعه الواقية له من أذاهم كعمه، فأمره الله بالهجرة والانتقال من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهذا بعد أن ساق الله له جماعة من أهلها آمنوا برسالته وبدعوته إلى الإسلام، وصدقوه في كل ما جاء به من عند الله، وتعهدوا له بالحماية والدفاع عنه هو وأصحابه وعدم تعرض أي كان إلى دعوته إذا هو انتقل إليهم، وكان هذا التعهد في موسم الحج الأكبر، فوعدهم وبقي ينتظر الإذن من الله حتى جاءه الإذن فهاجر إليها واستقر فيها. هاجر إليها في ليلة تآمر فيها على قتله أعداء الدعوة إلى الله كفار قريش، واتخذ المدينة دار إقامة واستيطان، وقد سبقه إليها أو لحق به من آمن به وبدعوته وكان مستطيعا على الهجرة ولم يطق أن يصبر على أذى المشركين عباد الاحجار، فماذا وجد الرسول صلى الله عليه وسلم في دار هجرته - المدينة أو يثرب كما كانت تسمى قبل الهجرة؟ وجد فيها طوائف مختلفة متفرقة، وبين البعض منها عداوات وخصومات وحروب وقهر واستعلاء استمرت سنين

طوالا، فقوم منهم آمنوا به وبدعوته ورسالته، فكانوا من أنصاره السابقين السباقين للخير والهدى والصلاح، بالاسراع إلى إجابة دعوة الله، فشدوا أزر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقوى بهم الإسلام وبمساندتهم له بأنفسهم وبأموالهم، وهذا شيء مبسوط في محله من كتب التاريخ. ويوجد طوائف من المشركين والمنافقين بهرتهم سرعة الاستجابة لهذا الدين وتغلغله في أوساط سكان يثرب بل وانتشر إلى ما وراءها من الديار، فبهتوا منه ولم يطيقوا صده ولا حربه، فبقوا يناوشونه من وراء بالصد عنه والكيد له، وإن آمنوا به - ظاهرا وهم المنافقون - وأمر المنافقين معروف، فقد أنزل الله فيهم سورة كاملة من القرآن تكشف عن خباياهم، وتحذر من دسائسهم وأكاذيبهم، فإنهم كانوا يعرقلون مسيرة الايمان بالدين وبمن جاء به إلى أن قوي ساعده، عند هذا غلبوا على ما كانوا يذيعونه ورجعوا على أعقابهم خاسرين، وهذا شأن الباطل وصراعه للحق من القديم. كما وجد طائفة أخرى ممن كانوا يسكنون "يثرب" وأحوازها، وهذه الطائفة أعظم خطرا على الإسلام من المنافقين، وهم اليهود، فلما استقر الرسول صلى الله عليه وسلم في "يثرب" وخشوا منه عاهدوه على أن لا يتعرضوا له ولا لدعوته، ولا يتعرض هو لهم في القيام بدينهم، بحيث لا يتدخلون في أمره وأمر الإسلام

والدعوة إليه، ولكن هل لليهود عهد يلتزمون به ويقفون عند حده، أو ميثاق يوفون به؟ الجواب عن هذا السؤال عند التاريخ، وهذا واضح في قوله تعالى فيهم وفي أمثالهم من الناس: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (¬1). فقد نقضوا العهد وغدروا بالوعد، كما هو طبعهم في كل وقت حتى مع خالقهم وأنبيائهم ومع كل من يعاملهم على شيء، ودفع بهم هذا الغدر إلى التحالف مع المشركين - عباد الأوثان - على محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، مثلما وقع في غزوة "الأحزاب" بعد أن فثسلوا في مقاومتهم له وحدهم، وهذا في سبيل القضاء على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففضلوا الشرك بالله وعبادة الأحجار على الايمان بالله وحده وهو الواحد القهار، وهذا في قولهم للمشركين حين سألوهم عما هو أفضل، هل ما هم عليه - أعني المشركين - أو ما هو عليه محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال اليهود للمشركين: دينكم وما أنتم عليه أفضل وأحسن من دين محمد وما هو عليه، وهذا جاء في قوله تعالى في سياق هذا السؤال، للتعجيب من أمرهم وخداعهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ ¬

_ (¬1) الآية 102 من سورة الاعراف

فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} (¬1) والذي دفعهم إلى تفضيل الشرك بالله على الايمان به وحده، ومعنى هذا تفضيل المشركين على المؤمنين، إنما دفعهم إلى هذا الحسد لا غير، إذ هم يعرفون حق المعرفة أنهم في هذا التفضيل كاذبون، كما جاء في الآية بعد هذه، وهي قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} والناس هنا المقصود به هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قاله المفسرون لكتاب الله. ومواقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته مشهورة، ومن أهمها محاولة قتله والقضاء عليه في عدة مناسبات، منها أنهم هموا باغتياله، بواسطة إلقاء صخرة - حجر رحا - عظيمة عليه من أعلى دار كان جالسا بجنب حائطها، ذلك أنه خرج إلى "بني النضير" - وهم فرقة من يهود المدينة - ليستعين بهم على أداء دية رجلين - لما بينه وبينهم من العهد - فاغتنموها فرصة مواتية للقضاء عليه والتخلص منه، فتآمروا فيما بينهم أيهم يصعد إلى السطح ويلقي عليه هذه الصخرة العظيمة لتكون القاضية على حياته إلى الأبد؟ فإذا قام أصحابه يطالبون بدمه قلنا لهم أنها سقطت عليه من تلقاء نفسها، فالتزم بهذا رجل منهم، وبينما هو يتهيأ لفعلته الغادرة نزل عليه الوحي من ربه يأمره بالابتعاد عن المكان الذي كان جالسا فيه، وأخبره بتدبير المكيدة له، فرجع إلى المدينة مسرعا، وخرج من وسط هؤلاء القوم الغادرين. ¬

_ (¬1) الآيتان 51 - 52 من سورة النساء.

وجاء في حوادث غزوة خيبر أن امرأة من يهود "خيبر" تسمى زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم قد أهدت له شاة مصلية - مشوية - وجعلت فيها "سما" فلما جلس هو وبعض أصحابه ليأكلوا منها، تناول عليه السلام منها الذراع - على عادته - فلاك منها مضغة، فلم يسغها ولفظها من فمه وقال لمن معه: ارفعوا أيديكم إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعا بها فاعترفت بما فعلت، ولما سألها عما حملهما على هذا، أجابت بأنها تريد أن تختبره بما فعلت فإن كان نبيا حقا فإنه يعلم به، وإن كان كاذبا فإنه يموت فنستريح منه. وفي قصة لبيد بن الأعصم الساحر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على كيد اليهود له، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في قصة سحره: يا عائشة: أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان - ملكان - فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال مطبوب - مسحور -، فقال: من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر، قال: أين هو؟ قال: في بئر ذروان إلى آخر الحديث" وفى أول الحديث قالت السيدة عائشة: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله

صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، ولبيد بن الأعصم هذا الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم قيل أنه يهودي وقيل بل هو منافق من بني زريق قبيلة من الأنصار وكان حليفا لليهود، وهم الذين طلبوا منه أن يسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، روايتان ذكرهما الإمام البخاري في صحيحه. هذا من مواقف اليهود من الإسلام ورسوله ودعوته. بعد هذا التحالف والاتفاق الذي تم بين هذه العناصر الثلاثة المحاربة للإسلام/ المشركين، والمنافقين، واليهود وبسعي من اليهود على محاربة الإسلام ودعوته، نزل من الله الأمر بالقتال والجهاد في سبيل الله حماية للدعوة من كل من يعترض طريقها ليصد الناس عن الدعوة إلى الله كيفما كانت قوته وجيوشه، من ذلك قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} سورة التوبة آية 30. ونزل في أمر الجهاد قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ

عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} سورة الحج. قال كثير من الصحابة والسلف الصالح: هذه أول آية نزلت من القرآن في الجهاد في سبيل الله، وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} يشعر بأن الله قادر على نصر المؤمنين من غير قتال، ولكنه تعالى القادر على كل شيء أراد من عباده أن يبذلوا جهدهم وطاقتهم في سبيل الله وطاعته ونصر دينه ليعظم لهم بذلك الثواب والأجر، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} سورة التوبة آية 111. والقتال المشروع في الإسلام يكون من أجل أمور منها: الدفاع عن النفس أو المال أو العرض، دفعا لظلم الظالمين المعتدين، أو للدفاع عن العقيدة والشريعة التي آمن بها المؤمنون، فإنها كثيرا ما تتعرض لمحاولة محوها وإزالتها من لدن أعدائها، وفى مثل هذه الحالة جاءت الآية الكريمة في سورة الشورى، وهي قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآيتان 41 - 42 منها،

وقال جل جلاله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الآية 190 من سورة البقرة. (ولا يسمى القتال جهادا - شرعيا - إلا إذا كان لنصرة الدين والعقيدة). والجهاد في سبيل الله ونشر دينه وتعميمه إلى بني الإنسان عبادة كبقية العبادات تحتاج إلى نية صادقة وإخلاص في العمل واجتهاد فيه، لأن النية هي التي تميز العبادة والدافع لها، ولا يقبل الله أية عبادة على ظاهرها إلا إذا كانت بنية وجه الله ونشر دينه، وقد يكون القتال للمغنم والكسب الدنيوي، وهذا لا يسمى شرعا جهادا، وإن سماه الانتهازيون للظروف والوقائع جهادا، والجهاد الشرعي - كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم للسائل له عنه - أن يكون القصد منه نشر دين التوحيد ومقاومة الشرك والظلم في الارض والفساد، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فهو كما قلت عبادة تفتقر إلى نية القصد منه، حتى لا يسمى القتال لارتجاع التراب والشجر والحجر من أيدي الغاصبين لها جهادا، وقد صار القتال لما ذكر "جهادا" والمقاتل مجاهدا، ويعلم الله أنه لأغراض دنيوية وأطماع أخرى لا تتفق مع مشروعية الجهاد والدعوة إلى العمل بشرع الله ونصر دين الإسلام، فقد انكشف القصد منه كما لمسنا هذا في المحاربين للمستعمرين في وقتنا هذا، حيث صارت كلمة المجاهد تعطى لمن حمل السلاح

وقاتل المستعمرين الغاصبين للأوطان، أو لمن سجن، أو عذب لذلك الغرض، فأخرجت كلمة المجاهد من إطارها الديني الخاص بها وأعطيت لأناس هم ضد الدين، إن لم نقل إنهم من أعظم خصومه الصادين عنه، وقد اتضح أمرهم أنهم يعملون ضد الإسلام، ولمحوه وقتله {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. ويكشف عن القصد منه ما رواه الإمام البخاري في صحيحه، من كتاب الجهاد عن أبي موسى - الأشعرى - رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه - وفى رواية يقايل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل غضبا - فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" فهذا هو الجهاد في الشريعة الإسلامية، وهو الذي قصد من ورائه المجاهد رفع كلمة "لا إله الا الله محمد رسول الله" وهي كلمة الله، ومن غير هذه النية والقصد فلا يسمى المقاتل مجاهدا. وبهذا البيان النبوي الشريف الذي قضى به عليه الصلاة والسلام على الزيف والتزييف، ظهر أن من لم تكن عنده نية صادقة في جهاده لرفع شأن الإسلام وإعلاء كلمة الله لا يسمى قتاله جهادا ولا يكون من مات فيه على غير نية إعلاء كلمة الله، شهيدا شرعا، ولو كانت موته في وسط المعركة مع العدو، كما قضى على ما يدعيه الجاهلون من الجهاد والشهادة، لكل

من مات في أيام حرب التحرير الجزائرية، من أجل تحرير الوطن من قبضة المستعمرين في عصرنا الحاضر، بل رأينا البعض من هؤلاء المجاهدين - بالقول لا بالفعل - من تصدى بكليته لمحاربة هذا الدين، الذي ادعى أنه كان من المجاهدين في سبيله، فصارت كلمة المجاهد تعطى - أو تغتصب لتعطى - إلى من هو من المحاربين له، لا من أجله، ليأخذ نصيبه من الغنيمة، وعند الله يوم القيامة يتضح كل شيء، ويظهر تزويرهم وسيجدون جزاءهم بل عقابهم ينتظرهم وسيغرمون ما غنموه في الدني بالكذب والبهتان والخداع. فالإسلام لم يأمر المسلمين بأن يحاربوا عدوهم من أجل قطعة من التراب أو من الحجر أو من الشجر وكسب الدنيا الخ فهذا أمرت به ودعت إليه الأنفة والغيرة والغضب للأوطان المحتلة من طرف الغاصبين لها، بل أمر الإسلام بالحرب من أجل العقيدة وحرية العبادة لله وحده. لهذا لم يعترف الرسول صلى الله عليه وسلم - حسبما جاء في سؤال السائل - بمن كان يقاتل لإظهار شجاعته، أو ليتحدث الناس بشجاعته وببلائه في الحرب، أو ليعرف له الناس مكانته فيحترموه ويعظموه، كل هذا لا يجعله يتحلى بحلية "المجاهد" أو لينال ما أعده الله في الدار الآخرة للمجاهدين في سبيل رفع دينه وإعزازه وبلوغهم الدرجات العلى ونزولهم منازل الكرامة والتكريم.

وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان الإسلام في حاجة إلى تقوية الصف الإسلامي ببذل الأنفس والأموال وفى سبيل ذلك رغب في الهجرة ودعا إليها، ولما فتحت مكة سنة ثمان من الهجرة في غزوة الفتح أوصد باب الهجرة المرغب فيها، لأن مكة صارت بلدا إسلاميا - بعد غزوة الفتح - لا قوة للشرك فيها ولا سيطرة له عليها، من أجل هذا قال عليه الصلاة والسلام كلمته في حديثه المشهور، ليتوجه المسلمون بكليتهم إلى الجهاد لا إلى الهجرة فقال في حديث ابن عباس عند البخاري "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" وبهذا يتصدى المسلمون - بأنفسهم وأموالهم - لنشر الإسلام وعقيدته والقضاء على الشرك والظلم والفساد في الأرض، وفى ذلك خير وسلامة للإنسانية كلها، وقال عليه الصلاة والسلام - مرغبا في الجهاد وحاثا أمته عليه - كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "لغدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها" ذلك أن كل ما يصيب المسلم المجاهد في سبيل الله سيعوضه الله عنه أجرا كبيرا وثوابا عظيما، لأن ما أصابه كان دفاعا عن العقيدة أو نشرا لها، ونلمس هذا المعنى في قول جندب بن سفيان عند البخاري حيث قال: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض المشاهد - الغزوات - وقد دميت أصبعه فقال:

"هل أنت إلا أصبع دميت وفى سبيل الله ما لقيت". هكذا يصيب الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل نشر الإسلام ما يصيب عامة البشر، ليبعث في نفوس المسلمين روح التضحية والصبر على المصاب. إن أدعياء الجهاد كثيرون، ومنهم من لم يكن قتالهم لله وفى سبيل الله، ولم يخطر هذا لهم على بال، بل كان من أجل حطام الدنيا الفانية ومتاعها الزائل، أما من أخلص النية منهم لله في عمله، وجاهد جهادا يحبه الله ويرضاه فهذا لا يبخسه الله حقه، ولا ينقصه من ثواب أتعابه التي أصابته في سبيل إعلاء كلمة الله مقدار قلامة ظفر وهو القائل {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} كل هذا راجع إلى نيته وإخلاصه في ذلك. ولعمري فقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي كل شيء وبه ارتفع كل لبس والتباس ولم يبق عمل المقاتل مبهما يفسره الإنسان كما يحب، فلقد أعطانا ميزانا نزن به أعمال المجاهدين والمقاتلين، فلله ما أروع هذا التوضيح والبيان، فلننظر إليه بعين الاعتبار والادكار واستخلاص العبرة منه حيث كثر الأدعياء والانتهازيون للفرص في وقتنا هذا. فإذا أشكلت علينا الأمور رجعنا فيها إلى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم. أخرج الإمام البخاري في صحيحه وبسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - مقسما بالله -: "والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله

أعلم بمن يكلم في سبيله - الا جاء يوم القيمة، واللون لون الدم، والريح ريح المسك". ما أروع هذا التفسير والاستدراك منه صلى الله عليه وسلم، ليرد به دعوى المدعين للجهاد، في حين أنهم لم يدفعهم إليه حب نصرة الدين وإعزازه، لأن من هؤلاء الأدعياء من ظهرت عليه أمور يخجل الإنسان من ذكرها، في حين أنه يحمل لقب وورقة - مجاهد - أفعال لا يرتضيها الإسلام ولا رب الإسلام الآمر به، فإن النيات لا يعلمها الا علام الغيوب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى أن لا نغتر بالأقوال على ظاهرها، فالله وحده المطلع على سرائر عباده، فليس كل من كلم وجرح زمن القتال كان جرحه لله وفى سبيل الله، بل أمرنا أن لا ننظر إلى الظاهر ولا نحكم بمقتضاه، بل الأمر يحتاج إلى إخلاص النية في العمل لله وحده، كما قال الشاعر العربي "جميل بثينة" لا تغرنكم المظاهر والأقوال، فإن الحقائق قد تكون في غيرهما، وذلك حيث قال: فَمَا كُلُّ مَخْضُوبِ الْبَنَانِ بُثَيْنَة ٌ ... وَلَا كُلُّ مَصْقُولِ الْحَدِيدِ يَمَانِ إن فضل المجاهد في سبيل الله على غيره كبير، فلا يعلم ذلك الآن بل سيبقى مخفيا علينا حتى نفد على الله يوم القيامة للحساب والجزاء على الأعمال، يوم تكشف فيه السرائر، ويظهر ما كان مخبوءا في الضمائر، حيث يكون الجزاء على الأعمال الخالصة لله لا على ما كان لغيره.

إن الشهيد - حقا - في سبيل الله، عندما معاينته للجزاء الكثير الذي ناله بسبب جهاده أعداء الدين واستشهاده في سبيله، يتمنى على الله أن يعيده إلى الدنيا ليجاهد ويستشهد المرة بعد المرة كي ينال أجره المضاعف، فقد ورد في صحيح البخاري قوله: "باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا" ثم ذكر بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثه الذي قال فيه: " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة" وجاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغفر الله للشهيد كل شيء إلا الدين" وفي رواية له: "القتال في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين" ذلك لأنه من حقوق العباد بعضهم على بعض، فهذه الحقوق أو المظالم لا تكفر إلا بالتحلل منها في الدنيا، إما بإرجاعها لأهلها، وإما بالعفو والمسامحة منهم له. ذلك أن المجاهد الشهيد الذي مات في المعركة مع العدو على نية أن ينصر الحق على الباطل، قد أدى واجبه كمدافع مخلص لعقيدته ودينه، فكيف يكون جزاؤه مماثلا لمن لم يقدم ما قدم هو من تضحيات بالمال والنفس والوقت وكل ما يملك من راحة ومتع

جهاد المرأة المسلمة

الحياة الدنيا. وهذا مفهوم من قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ - وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الآية 95 من سورة النساء. والملاحظ على الهيئة الإسلامية التي تتولى الاشراف والتسيير للقتال - حكومة أو غيرها - أنه من واجبها أن ترشد المحاربين في صفوفها إلى تلك المعاني الدينية والأهداف المطلوبة من المقاتلين، حتى لا تضيع مجهودات المجاهدين في سبيل الله وألا تذهب أتعابهم سدى من غير نية صالحة لعملهم، فعليها أن تعلمهم هذا كما تعلمهم الثبات وفنون الحرب والقتال من الكر والفر ومخادعة العدو في الواجهة أو في غيرها حتى تأمن على حياتهم وسلامتهم من حيل الأعداء، كالثبات في المعركة وشرفها وقوة الايمان بالله وبالنصر والجزاء على الشهادة في سبيل الله إلى آخر ما يقتضيه الموقف. جهاد المرأة المسلمة: روى ابن ماجة في سننه عن أم عطية الأنصارية قالت: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى".

وتحكي كتب الحديث والسيرة أن بعض النساء الصحابيات رضي الله عنهن قد رغبن في نيل هذا الأجر العظيم والثواب الجسيم اقتداء بالرجال، وزيادة في قوة المجاهدين، فتقدمن بالتماس هذا إلى القائد الأعلى - حسب تعبير العصر - الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن يسمح لهن بمشاركتهن في الحروب إلى جنب الرجال، فكان جوابه لهن مثل جوابه للسيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها، كما جاء في صحيح البخاري قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: "جهادكن الحج" وفى رواية عنها قالت سأله نساؤه عن الجهاد فقال لهن: "نعم الجهاد الحج" كما تذكر كتب السيرة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض النساء، - وصرح باسم عائشة وأم سليم - في غزوة "أحد" أنهن كن يسقين المرضى، ويداوين الجرحى، وفى حديث البخاري عن الربيع بنت معوذ قالت كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة. والملاحظ على ما جاء في هذا الباب أن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب، أما بعد هذا فلم يثبت، كما لاحظ بعض العلماء - بناء على ما أباحه الإسلام وما منعه - أن العمل الذي قام به بعض النسوة الصحابيات في وقت الجهاد إنما كان مع أزواجهن ومحارمهن، ولم يكن مع عموم الناس، كما صرح بهذا الإمام النووي على مسلم قال: وما كان منها - المرأة - لغيرهم لا يكون فيه مس بشرة الا في موضع الحاجة، فكن يحملن القرب

ويصببن الماء في أفواه الرجال، وفى مسألة الاقتراع بين نساء الرسول صلى الله عليه وسلم حين خرج سهم عائشة دليل على ما ذكر وقد كان هذا بعد نزول آية الحجاب، وفيها قصة حديث "الأفك" فالمرأة المسلمة لم يوجب عليها الإسلام القتال كما أوجبه على الرجل، بالنظر لضعفها وعدم تحملها للمشاق والمصاعب الحربية، ولغير هذا من المحالفظة على أنوثتها وأخلاقها وعفتها، وإبليس في كل مكان لها بالمرصاد، لأنها سلاحه الذي يحارب به الدين والرجال. أما ما يروجه الجهلة بأحكام الشريعة الإسلامية وما يدعونه من إباحة الإسلام ذلك، فهو دليل على جهلهم وغباوتهم، وسوء قصدهم أليق بهم، فهم في زجهم بالمرأة في صفوف الشباب وقت القتال بدعوى الإعانة والنضال والكفاح الخ مخطئون حتى استغلتة المرأة التي كانت في صفوف الاستعمار، فصارت تنادي وتقول أن المرأة ناضلت ويجب أن تتبوأ مكانها كالرجل الخ فكل هذا هم أو هن فيه تابعون لغير الملة الإسلامية من سائر الطوائف والنحل، أما الإسلام فقد عرفنا كلمته عن نبينا ومبلغ الدين إلينا، وقد علمنا من الأخبار الموثوق بها وسمعنا بما وقع لكثير من المناضلات - كما يدعون أو يدعين - من الفضائح، بل ومنهن من تعلقت بكافر وقت ثورة التحرير واتخذته حليلا أو خليلا، والإسلام حكيم في تشريعه وأحكامه، وهنا في هذه القضية لا يخفي على النبهاء هذا الميزان، ذلك أن الرجل هو الرجل في كل زمان ومكان، والمرأة كذلك، وخاصة في وقتنا هذا الذي

قل فيه الايمان وذهب منه الحياء، إذ هو منه، ومن عاش زمن الثورات الحديثة في البلدان الإسلامية - بلا تخصيص - فقد شاهد أو سمع ما وقع فيها من منكرات وفواحش، وبذلك الاحتياط الذي اتخذه الإسلام تظهر عناية الإسلام وحرصه على سلامة أفراد الأمة المسلمة من كل ما تخدش كرامتها أو يخل بشرفها، وكل هذا من حمايته لأخلاقها وقيمها، ومن انساق مع التيار الوقتي وجرى في ميدان غير ميدان الإسلام فقد اقتدى بغير المسلمين في تسخيرهم للمرأة في كل الميادين، ولله در الشاعر العربي الغيور حيث قال: كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُيُولِ والاستعداد للحروب واجب ومطلوب من الجماعة الإسلامية - دولة أو غيرها - فيجب الاستعداد لمواجهة كل ما قد يحدث من الطواريء لمحاربة المسلمين، استعداد في اليقظة، في كل وقت وحين، وفى كل زمان ومكان، استعداد في الرجال، استعداد في العتاد والسلاح الخ ما يتطلبه الوقت والعصر من آلات وغيرها ذلك أن الله تعالى قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}. والذي يؤسف ويجرح القلب حقا سلوك ومواقف حكومات المسلمين، فقد تحولت من الجهاد في سبيل الله والدين والعقيدة إلى قتال ومحاربة بعضهم بعضا لأغراض ومطامع ترابية أو انتقامية، أو عقائدية شيطانية وهذا مما لم يأذن به الله، فهو خروج عن الإسلام ومقاصده الشرعية.

والجهاد في سبيل الله ماض وباق كما أمر به الله إلى يوم القيامة مع الإمام البر والفاجر كما جاء في الحديث، وذلك لرد العدوان والظلم عن العقيدة والدين من طرف أعدائهما، ويجيء من حكام مسؤولين امتلأت قلوبهم بحب الدين والعقيدة، فتأخذهم الغيرة عليهما، فيقومون بأعباء مسؤوليتهم كما يجب أن يكونوا في واقعهم، أما المتخاذلون وأشباه الملاحدة فإنهم يرون ويرون الهجمات والحط من منزلة الدين والعقيدة توجه إلى دينهم وأوطانهم فلا يحركون ساكنا ولا يستنكرون ذلك إلا في بعض الأوقات بأقوالهم دون أفعالهم، فكانوا وبالا على أمتهم من أجل هذا السكوت الطويل منهم على ما يوجبه عليهم دينهم، عاملهم الله بما يستحقون، فتغلب عليهم أعداؤهم وأقصوهم من أوطانهم، ووسمهم الله بسمة الذل والمهانة والاحتقار، وليس وراء هذا من عقاب هو أشد منه، ومن أجل أن لا يكون المسلم أضحوكة بين العباد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من فعل هؤلاء الحكام الذين أهملوا وضيعوا أمر الإسلام، فخسروا عز الدنيا وكرامة الآخرة، وهم المسؤولون - وحدهم - عما أصاب الإسلام من نكسات وهجمات من خصومه الواقفين منه بالمرصاد، وحكام المسلمين في لهوهم ومرحهم وشهوات النفس الأمارة بالسوء. أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون

بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). وبترك المسلمين لهذا الواحب العظيم الذي يحمي الدين والعقيدة - معا - تكالب أعداؤهما عليهما بشتى وسائل الحروب العصرية، من دعاية بوسائلها الحديثة المعروفة، وغزو فكري إلحادي وإباحية مكشوفة، وفتن أضلتهم عن طريق الشرع الإلهي ودينه القويم. فحارب الكفار بالله وبالأديان السماوية - الدين الإسلامي الحنيف، الذي بقي وحده في الميدان - مع قلة العاملين به وله - حاربوه بما يضعفه ويجعله ينكمش عن نفسه في وطنه الضيق، وإذا انتشر فبأعداد قليلة من المومنين به لا يستطيعون حماية أنفسهم من أعدائهم الأقوياء، ومع هذا فإنه بقي - ولازال - يدافع عن عقيدة التوحيد والشريعة المحمدية، وحرب الكفر للإسلام كانت بوسائل شتى من وسائل هذا العصر الكثيرة، فيها ما هو من قبيل المادة والصناعة، وفيها ما هو من قبيل تسليط سوء الأخلاق ونشر الفواحش والمناكر، كنشر الفجور والخمور وما لا يليق ذكره، ومنها الزواج بغير المسلمات - وهذا أخطرها - لأن في هذا تحويلا وإبعادا للأسرة عن الخط الإسلامي ومناهجه في تكوين الأسرة المسلمة،

إلا من قل من الأزواج الذين كونوا وربوا تربية إسلامية فلم تؤثر فيهم زوجاتهم غير المسلمات، وقليل منهن اللواتي اخترن الإسلام وفضلنه على ما كان عليه أهلهن، واخترنه عن حب وإدراك لمحاسنه، لا عن ترضية لبعولتهن فحسب، وهذا النوع قليل كما قلت في الزوجات غير المسلمات، وتحول الاقبال على الزواج من غير المسلمات إلى مآس مضرة بالأسرة المسلمة، فقد كثر الاحتيال من طرف هؤلاء النسوة، فبعد أن تنجب الزوجة من زوجها المسلم أطفالا تحدث له المشاكل كي تفارقه، ويتم لها ما أرادت، فتذهب عنه وتأخذ معها أطفالها منه، وهذا ضرر بالأسرة كما قلت، وكثيرا ما نبهنا الغافلين إلى ما في هذا الزواج بغير المسلمات من الاضرار بالأسرة المسلمة في وطنها، وهذا لا يكون إلا ممن لم يكن لديهم ضمير حي، ولا روح إسلامية شريفة، وهؤلاء لا يفكرون في العواقب الناشئة عن هذا الزواج المشؤوم. إن النفوس الشريفة لا ترى الشرف والنجاة إلا فيما كان عليه سلفها الطيب العنصر، وقد علمنا ربنا نوعا من الدعاء وهو قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي لا تفتنا بهم فنراهم أحسن منا حالا، فنتبعهم فيما هم عليه من ملاذ وشهوات وكفر ومعاص، فنقول: إنهم على حق وصواب، ولهذا مكن الله لهم في الارض وسلطهم علينا ورفع منزلتهم فوقنا (بالعلم والصناعات) ولا تفتنهم بنا - لضعنا - فتسلطهم علينا - بقوتهم - فيكون هذا رادا لهم عن اتباع الحق وسبيل

الهدى - سبيل الله - فيقولون: لو كان المسلمون على الحق - كما يدعون - لما سلطنا الله عليهم، وقد قالوا هذا حين تغلبت جيوش فرنسا على جيش الجزائر - حين احتلالها لمدينة قسنطينة - كما قالوا ويقولون دوما: لو كان المسلمون على الحق لعاشوا كما نعيش نحن، فإننا متمتعون بنعيم الحياة - في زعمهم - من مال وغيره كشرب الخمر والربا وأكل لحم الخنزير الخ ما يتفوه به الضالون والجاهلون، فقالوا: إن المسلمين محرومون من كل ذلك، والذي حدا بالكفرة إلى هذه المقارنة ما علموه وما لمسوه من الضعف وعدم التقيد بالإسلام وأحكامه في المسلمين، فكان المسلمون هم الذين صدوا الكفار وفتنوهم عن اتباع الحق - الإسلام - بسوء سلوكهم وإهمالهم لدينهم وجريهم وراء الشهوات وارتكابهم للمنكرات والمحرمات الدينية، وقد شاهدوا المسمين بالمسلمين يخالفوان دينهم جهارا فيما أوجبه عليهم كترك الصلاة والزكاة والصوم، وكذا فيما حرمه عليهم، كشرب الخمر والربا وارتكاب الجرائم الأخرى كالسرقة والقتل المتعمد وغير هذا، فقد فتنونا باتباعنا لهم في كل شيء حسنه وقبيحه، خيره وشره، ولربما اتبعناهم في الحقير من الأشياء فقط، كما فتناهم نحن - بأفعالنا المخالفة لديننا - فنفروا من الإسلام بسبب ما شاهدوه فينا من تصرفات وأعمال تدل على الاستخفاف بديننا وعقيدتنا، وما أكثر هذا في وقتنا الحاضر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم السميع العليم ...

مواقف لبعض رؤساء الدول الإسلامية من الإسلام

مواقف لبعض رؤساء الدول الإسلامية من الإسلام: تصدر عن بعض رؤساء دول الشعوب الإسلامية تصرفات وأقوال تخالف أحكام الإسلام وتنقض عراه، ومن هذا ما صدر عن رئيس جمهورية الصومال (محمد زياد بري) وتناقلته شركات الأخبار والصحافة العالمية، الإسلامية منها وغير الإسلامية، ومن ذلك ما نشرته مجلة "الاعتصام" القاهرية، وهي مجلة إسلامية تنشر ما يفيد المسلم وما يهمه الاطلاع عليه، فقد نشرت هذه المجلة في عددها الثامن من سنتها السابعة والثلاثين الصادر في صفر من عام 1395 الموافق لشهر مارس من سنة 1975، تحت عنوان: شاهد عيان يسجل: الماركسية ... في الصومال: وبإمضاء عبد العزيز أحمد رضوان واعظ سيدي سالم ما يلي: نعم أنا عائد من الصومال ... وبقرار من المجلس الأعلى لقيادة الثورة في الصومال الذي اجتمع في مساء الجمعة 17/ 1 / 1975 م لا للنظر في أمر المجاعة التي تحل بالبلد، ولا للتخلف الفظيع، من فقر وجهل ومرض وعاهات مزمنة بنسبة خطيرة، ولكنه اجتمع ليصدر حكم الإعدام الفوري وبصورة غير إنسانية على فئة آمنت بربها وقالت كلمة الحق أمام الجبروت والظلم والإرهاق. فقالت المجلة الإسلامية تلك: خطب رئيس الجمهورية الصومالية (محمد زياد بري) في 11 يناير من سنة 1975 م بمناسبة يوم المرأة فقال: "إن التمسك

بالقرآن في العصر بدعة سيئة، فقد نزل في عصر جاهلي، وهذا العصر قد انقضى إلى غير رجعة، فلم يعد القرآن صالحا لزماننا، ثم إن نصفه على الأقل منسوخ، ونصفه الآخر متنافض، فما ضرورة التمسك به؟ (!!!) ثم قال: إنه يسرني أن أكون رئيس جمهورية تقدمية ثورية مستنيرة، تعلن هذا في وضوح، وتعلن أيضا أن المرأة ستأخذ نصيبها في الميراث مثل الرجل، وما كنا نسمعه عن الثمن والربع (والخمس) والثلث وغير ذلك لن يحدث في الصومال بعد اليوم!!! وأرجو أن يتبعني الناس جميعا، والدول الإسلامية في هذا!!! ثم قال مهددا متوعدا: وأنا أعلم أن هنا في الصومال علماء سميتهم قديما بعلماء السوء تساعدهم الرجعية الصومالية، سيتهامسون ويلغطون ويبلبلون الأفكار، وإنني لهم بالمرصاد، وهذا القرار لا رجعة فيه" انتهى هذا التصريح الخطير الذي أدلى به هذا المغرور بالسلطة الزمنية التي اغتصبها بالقوة، وهو بهذا التصريح يعتبر في نظر وأحكام الشرع اإسلامي مرتدا وكافرا بالله وبالإسلام وبالقرآن، فقد حكم على نفسه بنفسه من خلال هذا التصريح، إذ بن المعلوم أن من أنكر شيئا من القرآن كلام الله فقد كفر والعياذ بالله. ومن الملاحظ أن هذا التصريح المصحوب بالتهديد وأعمال القمع والتعسف يدور حول نطاق واحد ضرب على الدين الإسلامي

وأحكامه، والحق الذي لا مجال للنزاع فيه أن هذه حرب سلطت على الإسلام من أفراد ادعوا أنهم من شعوبهم، وقد كشف الستار عن الوجوه التي تختفي وراء هذه الدعوى الكاذبة والمكذبة من الواقع، فقد بان الصبح لذى عينين أنه مسخر من طرف الملاحدة للقضاء على الإسلام - فيما يزعم - هو وغيره من أذناب الملاحدة وقد جازوه جزاء - سنمار - فقد نبذه الملاحدة ورموه بعيدا عنهم وأداروا له ظهورهم، وولوا وجوههم شطر الأثيوبيين خصومه، وما مواقفهم منه في حربه مع الاثيوبيين بخافية، حيث أمدوا دولة الأثيوبيين المسيحية بالسلاح وسلطوها عليه - وما واقعة أوغادن بخافية - ولا منسية من ذوي الأبصار، وفى هذا عبرة للمغترين الذين يخرجون عن صفهم الإسلامي. فبعد أن تخلى عنه الملاحدة وتركوه بعد ما قضوا منه وطرهم صار يتنقل من عاصمة إسلامية إلى أخرى مستجديا وطالبا الإعانة والإغاثة، وكان الواجب الديني يحتم على حكام تلك البلاد التي تردد عليها أن لا يستقبلوه بتاتا لمواقفه المعادية للإسلام. كما نلاحظ أيضا أن رئيس جمهورية الصومال وأمثاله من الحكام العسكريبن الذين استولوا على الحكم بقوة الجيش - هم في الغالب من حالاتهم مثله في التصرفات المناهضة للإسلام، إذ لم تكن شعوبهم المسلمة هي التي بوأتهم مناصب الحكم بصفة حرة وديموقراطية وبواسطة انتخابات نزيهة كانت لشعوبها الكلمة النالفذة فيها، بل بالعكس من هذا تماما، ومع هذا فأولئك الحكام

يدعون - دون حياء - الديموقراطية، ويقولون أنهم ديموقراطيوين وهذا من عجائب الزمان. أما العلماء الذين هددهم وتوعدهم رئيس جمهورية الصومال لما رفضوا موافقته على ما ذهب إليه من تعطيل أحكام القرآن، فقد تم له ما هددهم به في تصريحه ذلك المتقدم الذكر، فقد نفذ فيه حكمه حيث أعدمهم بواسطة حرقهم بالنار في ميدان عام حسبما تناقلته وكالات الأخبار العالمية، وهم من خيار العلماء، رحمهم الله وأهلك كل ظالم جبار، فقد نشرت مجلة "رابطة العالم الإسلامي" التي تصدر في مكة المكرمة أسماءهم في عددها الصادر في شهر ربيع الأول من سنة 1393هـ وجاء في تلك المجلة قولها: (وفى موقاديشو) بالصومال عشرة من العلماء يقتلون لإنكارهم إبطال العمل بالقرآن في آية الميراث، وهم الشهداء/ 1 - الشهيد شيخ أحمد محمد. 2 - الشهيد شيخ علي حسن درسمة. 3 - الشهيد شيخ حسن عيسى ألبي. 4 - الشهيد شيخ أحمد إيمان. 5 - الشهيد شيخ موسى يوسف. 6 - الشهيد شيخ محمد زياد مرسي.

7 - الشهيد شيخ علي جامع مرسي. 8 - الشهيد شيخ آدم علي مرسي. 9 - الشهيد شيخ سليمان جامع محمد. 10 - الشهيد شيخ ياسين علم عول. انتهى ما نشرته مجلة "رابطة العالم الإسلامي" الصادرة بمكة المكرمة، كما نشرت المجلة الإسلامية الحرة "المعرفة" التونسية في العدد الثامن من سنتها الثانية ما وقع في العراق، وهو من نوع ما وقع في الصومال. قالت "المعرفة" المذكورة وتحت عنوان: فى العراق (صدر حكم بالاعدام على خمسة من العلماء ونفذ، من بينهم/ الشيخ عارف البصري، والشيخ عماد التبريزي لماذا؟ لأنهم رفعوا أصواتهم بقولة الحق وإنكار الباطل). ولا زلنا نذكر الكلمة التي قالها رئيس الجمهورية الجزائرية الهالك في مؤتمر القمة الإسلامي المنعقد في (لاهور) فقد صرح في خطبته بقوله: "إننا نعمل على أن يدخل المسلمون الجنة وهم شباع أولى من أن يدخلوها وهم جياع الخ" والواقع الذي نشاهده في كل حين أن الكثير من هؤلاء المسلمين الذين كانوا محرومين من متاع الدنيا قد أطغاهم المال والمنصب الذي ما كانوا

يحلمون به، فعصوا ربهم وكفروا بنعمة الله وصاروا من أشد أعداء الدين المحاربين له بحكم مناصبهم، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} سورة الانعام الآية 132 كما قال في كتابه العزيز: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} من الآية 42 من سورة إبراهيم عليه السلام. وهكذا يقع في بعض البلدان الإسلامية - التي كانت تحت سلطة المستعمر الأجنبي عن الدين والوطن - ما لم يقع من المستعمر المذكور في أيام حكمه لها، وشاء الله أن يقع هذا ممن يزعمون أنهم جاءوا لخدمة أوطانهم ومواطنيهم، والحقيقة التي كشفتها الأيام أنهم عملاء للشيوعيين الملاحدة، وما استولوا على الحكم إلا لتنفيذ ما يأمرهم به سادتهم، ولكن هل يصد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم هذا الظلم والتعسف؟ نقول لا ... وألف لا ... و (على نفسها جنت براقش) كما جاء في المثل العربي القديم، وكما قال الله في كتابه العزيز: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} من سورة التوبة، وهل في استطاعة البشر أن يحجبوا عن الناس نور الشمس أو نور القمر أو يطفئوا نورهما بأفواههم؟؟؟ ما أعجزك أيها الإنسان الضعيف والمغرور بعفو الله!!

ونعود إلى تتميم ما بقي من الكلام على السهم الثامن من سهام الإسلام وهو (الجهاد في سبيل الله) فنشير إلى أن تطور الأزمنة بما فيها من التقدم العلمي في مجالات الحياة كلها، ومن اختراعات متنوعة متطورة سواء كانت حربية أو صناعية أو اقتصادية إلى غير ما ذكر، فنرى أن كلمة "الجهاد" كلمة عامة في مدلولها ومعناها، فقد تقدم العلم الصناعي بالإنسانية في ميادين الحياة كلها، في لباسها ومعيشتها وغير ما ذكر، والمسلم بما ناله من المستعمر - في أيام حكمه له - بواسطة تفوقه عليه في القوة والسلاح، قد تركه ذلك في آخر ركب الحياة، يدب إليها وفيها دبيبا، بينما عدوه تقدم عليه بعلومه المختلفة وصناعاته المتنوعة، فقد سبقه إلى ميادين الحياة العزيزة والمنيعة، بأشواط وأشواط، والعالم الإسلامي في وقتنا الحاضر بعد ما استرجع من المستعمر أوطانه وجد نفسه ضعيفا أمام قوة عدوه، فلا يستطيع مجاراته، سواء في العلوم أو في الاختراعات، أو في الأسلحة، فهو الآن غير قادر على القتال المنظم، وبالأسلحة العصرية المبنية على العلم والتجربة وذات الأشكال الكثيرة، من طائرات وصواريخ، وهذا لا يملكه المسلم اليوم فضلا عن صنعه، والذي في إمكان المسلم - اليوم - في دفاعه عن دينه وعقيدته وحربه لعدوه، وجهاده في سبيل الله وفى سبيل دينه الذي أمره الله بنشره وإذاعته بين الناس ودفاعه عنه عدوان المعتدين الذي هو في استطاعته والذي يمكن أن يقوم به - متى شاء - لينجو من وعيد ربه للذين لا يجاهدون في سبيل

دين الله، والذين لا يحدثون أنفسهم في أمر هذا الجهاد - هو حرب الكلام المدعم بالحجج والبراهين، ووسائل هذا الآن ميسورة وممكنة، ومن أسلحتها/ "الإذاعة، والتلفزة، والصحافة، وشركات الأخبار، والنشرات، والوفود التي تجوب الأقطار والقارات لتلقي المحاضرات والدروس في فضائل الإسلام وأنه لا نجاة للإنسانية مما تتخبط فيه إلا به، ونشر المباديء الإسلامية الخ ما يتطلبه هذا الجهاد، كما تتلقى هذه الوفود الأسئلة من المسترشدين. فالإذاعة التي تسمع صوتها إلى خارج حدود بلادها تستطيع أن تنقل إلى خارج الوطن الدعوة إلى الله وإلى دين الله، تلك الدعوة المنظمة بشتى اللغات، من أناس فيهم مقدرة على الدعاية بتلك اللغات التي تؤثر في مستميعها، فإن الناس في وقتنا هذا يبحثون عن السبل التي تخرجهم من هذه الحياة الفكرية المضطربة التي يحياها غير المسلمين، - والأحرار منهم بالخصوص - فهم يبحثون عن السبل التي تخرج بهم إلى فضاء الدين الحق، وإلى سعة فضل الله من ضيق العقائد في الاديان الأخرى، كما قال الصحابي المجاهد (ربعي بن عامر) إلى "رستم " قائد جيوش الفرس في المقابلة التي تمت بينهما، فقد جاء في أخبار وحوادث غزوة "القادسية" التي وقعت بين جيش المسلمين وجيوش الفرس بقيادة قائدهم "رستم " وكانت قيادة جيش المسلمين للصحابي سعد بن أبي وقاص في السنة الخامسة عشرة

وقيل في غيرها، فقد طلب قائد الفرس ذلك من قائد المسلمين أن يرسل له من المسلمين من يفاوضه في أمر هذا الدين الذي جئتم إلينا تنشرونه، فأرسل إليه بعضا من الصحابة منهم/ المغيرة بن شعبة وربعي بن عامر وغيرهما بالتناوب، فلما كان المغيرة بن شعبة مع قائد الفرس "رستم" قال له رستم: أخبرني عن هذا الدين الذي تدعوننا إليه، فقال له المغيرة بعد حوار دار بينهما: وقد بعث الله إلينا رسولا قال له قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم منهم بهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، ولا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز، فقال رستم للمغيرة: وأيضا، قال المغيرة: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، إلى آخر ما في القصة، فرجع المغيرة إلى مقر جيش المسلمين بعد أن عرف رستم بمهمة مجيء المسلمين إلى بلادهم، وهي تتمثل في نشر دين التوحيد فقط، ليتحرر الإنسان مسيطرة الإنسان عليه باسم الدين. وبعد مدة أعاد الطلب القائد رستم، فطلب من قائد المسلمين "سعد" أن يرسل اليه رجلا آخر من المسلمين لنفس الغرض الأول، فأرسل اليه الصحابي "ربعي بن عامر" ولما اجتمع به قال له: ما جاء بكم إلينا؟ فقال له "ربعي": الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه الى

خلقه لندعوهم إليه الخ ولما فهم الغرض من مجيء المسلمين مال إلى قبول الإسلام لولا معارضة قادة جيشه له، وأبى يد يتبع الحق، فدارت الدائرة عليه وحاربه المسلمون بما معهم من العتاد الحربي رغم القلة، ولكن الله أمكنهم منهم، ونصر جيش الهدى على جيش الضلال، وجيش الإسلام على جيش الشرك، وزالت دولة الأكاسرة الظالمة، وحلت محلها دولة الإسلام والعدل والحرية، إلى يومنا هذا، وقد أحيا الله به في هذه الأيام الأخيرة ما مات منه بقيادة العالم المجاهد الإمام "آية الله الخميني" فهو بالحق آية من آيات الله التي تظهر بين الفترة والفترة من الزمان، ثبته الله وقواه وأعلى مقامه في الدنيا والآخرة. فكلمة "الجهاد" كلمة عامة في مدلولها ومعناها، إذ هي تدل على بذل الوسع والطاقة والقدرة في سبيل حماية دين الله وإذاعته ونشره بين عباد الله، فالدعوة إلى الدين، والتجول في الأوطان لنشره وإبلاغه إلى عباد الله لإنقاذهم من الضلال والغواية التي عاقبتها الهلاك والخسران، كل ما ذكر جهاد في سبيل الله، ويتطلب من القائمين به بذل مجهودات ضخمة وشاقة، لأنها تتطلب منهم القدرة على الكلام من فصاحة لسان وإطلاع على ما فيه سر تبليغه إلى السامعين، كما تتطلب قوة بدنية تتحمل الأتعاب ومشاق التنقل من مكان إلى مكان بوسائل سريعة ومريحة - أحيانا - حسب الزمان والمكان، وأهم وسائل النجاح إخلاص النية لله وفى سبيل الله، مع حسن السلوك

المعهود من قبل والاستقامة على الطريقة المثلى، وإني أرى أن هذا النوع هو جهاد الوقت الحاضر، وهو المجهود العظيم ذو الفائدة العظمى، ولا يستطيع الفرد وحده أن يتولاه إلا في محيط ضيق، لأن مجهود الفرد قليل ومحدود، إذ لا يستطيع أن يبلغ الأهداف المقصودة منه، فالجهاد بوسائل العصر الحديثة من إذاعة وتلفزة الخ نراه محصورا في دائرة اثنين لما لهما من القدرة عليه، وهما إما: 1 - الحكومات المسلمة - حقيقة وواقعا - لا كتابة في الدستور فقط من غير تطبيق للإسلام وأحكامه، فهي تستطيع أن تدخل ضمن مخططاتها الإنمائية كل سنة مالية ما يلزمها لذلك من رجال وأموال وعتاد وكل ما يتطلبه هذا المشروع الديني من جميع نواحيه، فتدخل في مخططاتها تنمية الروح الدينية، وتكثير سواد المسلمين بدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، مع المحافظة على الروح الإسلامية في أوطانها، بحيث لا تترك منفذا فيها للمخربين والملحدين ينفذون منه ليبثوا في الوسط الإسلامي إلحادهم وكفرهم بأقوالهم وأفعالهم ضد الإسلام والمسلمين، ويعبثوا بالدين، كما قلنا سابقا في إرسال الدعاة إلى خارج الحدود، ثم بعد هذا التخطيط تشرع في العمل الذي كان قد درس من قبل هذا التخطيط، وكان على سبيل الفرض والتقدير فقط، هذا ما أراه ممكنا نظريا حسبما أتوسمه في الحكومة المسلمة، أما عمليا وتطبيقا - فإني أراه غير ممكن الآن وفى هذا الزمن بالخصوص، ذلك لأن حكومات الشعوب الإسلامية الى

الآن لم تدخل في حسابها أنها مسولة أمام الله يوم القيامة عن تقصيرها في الدفاع عن الإسلام والعمل على نشره في ربوع العالم وتقوية الداعين إليه، ولا مفر لها من تحمل مسؤولية هذا التقصير الذي نراه في الحكومات الإسلامية، كما لا ينجيها من تبعة هذه المسؤولية أي اعتذار، في يوم الحساب على الأعمال، والله ولي التوفيق، والتوفيق من الله وحده. فهذه الحكومات في كل وطن إسلامي إنما هي مهتمة بالسياسة والاقتصاد والصناعة وغير ما ذكر مما تراه يعود على خزينتها بالفائدة المادية فقط، أو على سمعتها - في خارج حدودها - كدولة، أما الجانب الديني - المسؤولة عنه - فهو مهمل وملغى من حسابها، فهي - مثلا - تكون رجالا للسلك الديبلوماسي الذين يمثلونها في الخارج، وفي المناسبات، أو لقضاء مصالحها الاقتصادية أو غيرها، وكثيرا ما يكون تمثيلهم لها فيه نقائص، علميا، أو أخلاقيا، أو حتى وطنيا، ولم يراع في تكوينهم الجانب الديني والأخلاقي، لأن الممثل الديبلوماسي المفروض والمطلوب فيه أن يكون نسخة طبق الأصل - الوطن الذي يمثله حتى في لباسه الذي طرح من الحساب تماما عند بعض الشعوب - وحتى يتعرف الناس منه ومن هيأته وسلوكه على صورة بلاده، وإلا كان تمثيله لبلاده ناقصا، وكثيرا ما يكون الممثل الديبلوماسي في واد والشعب الذي يمثله في واد آخر. وأخرى فإننا لمسنا أن الحكومة تنظر إلى مصالح وطنها فقط فإذا كان الوطن أو المواطن في حاجة إلى خبراء اقتصاديين أو صناعيين -

مثلا - فإن الدولة تجلب هذا النوع من الخارج وتبذل لهم كل ما يطلبونه منها من أموال ومساكن وغيرهما، مع امتيازات قد تنوء بحملها خزانتها، ومع كل هذا فإنها تلبي رغباتهم، لما تراه من الفائدة في خبراتهم التي سيستفيد منها الوطن والمواطن معا، وهذا حق لا نكران له، غير أنه كثيرا ما يكون في هؤلاء الخبراء عيوب أو مباديء لا توافق مزاج الشعب أو الدولة التي طلبتهم لمساعدتها، مع أنها في أشد الحاجة إلى خبراتهم، غير أنها تستقدمهم لما ذكر، فيحملون معهم أخلاقهم ومبادئهم، وقد لا توافق أخلاق المواطنين ومبادئهم، وفى هذا الخسارة العظمى على الوطن الذي استقدمهم، ذلك من جهة أخلاق أبنائه، وهذا ما لمسناه فيهم بلا جدال. 2 - الثاني ممن له قدرة على نشر الدين/ هيأة إسلاميه تقوم مقام الدولة في نشر الدين والعمل المثمر في سبيل الدعوة إليه، فيما إذا لم تقم به الدولة المسلمة، حسبما سبق الكلام عليه، فهذه الجماعة المسلمة تتولى جمع المال من أغنياء المسلمين لهذا الغرض، وتتكون من أعضاء صالحين لهم الخبرة الكاملة في الدعوة، وممن لهم غيرة على الدين والأخلاق الفاضلة التي قضى عليها الوقت بأساليبه المتنوعة واختراعاته العلمية التي كانت للدنيا فقط ولم يستفد منها الدين إلا قليلا، فقد أضلت خلقا كثيرا، وفتحت أمامهم أبواب الموبقات والمهلكات، فقد كثر المال والغناء في الناس، وبواسمطته امتدت الأبصار والأيدي وسارعت الأرجل بالسير إلى ما تشتهيه النفوس التي لم تستكمل

إيمانها بعد، بحيث صار الناس لا يتكلمون في ملتقياتهم وسمرهم إلا على كسب المال والربح والأموال المدخرة في المصارف لقضاء الشهوات الخ، أما الجانب الديني فقد ألغي وأهمل من حساباتهم بتاتا إلا من القليل، وهذا غير كاف في توعية الجماهير الضالة من المسلمين شبابهم وشيبهم ذكرانهم وإناثهم، ولو نظر أغنياؤنا إلى نشاط الجمعيات المسيحية التي تتولى التبشير بالدين المسيحي - حتى في الأوساط الإسلامية وأوطانهم - وتتحمل ما تتحمل، وتتحول جموعها إلى أبعد الجهات في العالم، محاولة أن تنشر وتبشر بالدين المسيحي - ولو نظروا - بتأمل - لخجلوا ولأدركوا أنهم مقصرون ومقصرون - كثيرا - فيما هم مطالبون به أمام الله وأمام التاريخ، ومع هؤلاء الأغنياء في المسؤولية العلماء - بل هم أشد - الذين استكانوا للدعة والراحة، وتاقت نفوسهم إلى كسب المال هم أيضا، ونسوا المسؤولية والدار الآخرة، وبهذه المذكورات توقف انتشار الإسلام وتقدمه إلى الأمام، وأرى أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا لا يضيع كالرماد تذروه الرياح، فقد قال، وقوله الحق، لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فيما رواه الترمذي وغيره عن كعب بن عياض: "إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أيضا مخاطبا أصحابه حين تعرضوا له في المسجد بعد انتهائه من صلاة الصبح مؤملين منه أن يوزع بينهم المال الذي جاء به أبو عبيدة من البحرين لأنهم سمعوا بمقدمه به قال مخاطبا لهم:

"فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم" أخرجه مسلم عن عمر بن عوف الأنصاري. وبناء على هذا فإنه لا يستطيع تحمل نفقات الانتقال من بلد إلى بلد أو من وطن إلى وطن، أو من قارة إلى أخرى إلا أحد هذين - المذكورين - / الحكومات الإسلامية أو الهيآت الدينية، وإذا جئنا إلى ميدان التطبيق وجدناه غير ممكن الآن، سواء من جهة الحكومات، أو من جهة الهيآت الدينية، ولماذا لا يمكن يا ترى؟ لأن الحكومات الإسلامية غير متجهة للدين ولا هي مهتمة به بتاتا، وقد رأيناها تضيق عليه المسالك في بلدانها، وتسد وتغلق في وجهه أبواب التوسع والانطلاق، وتتوجس منه خفية ومن الدعاة إليه كذلك، وتصدهم عن مهمتهم بكل وسيلة، وتراهم خطرا على بقائها، فهي تتهمهم بأنهم ما قاموا بدعوتهم الدينية إلا لأنهم يحاولون ويعملون للاستيلاء على السلطة والحكم، وهذا مجرد اتهام لا حجة واقعية عليه، هذا من جهة الواقع، أما من جهة النظر، فهل الحكم والحكومة موقوف على حضراتهم فقط؟ أما الجماعات أو الهيآت التي تتولى الدعوة للدين فإنه لا يتوفر لديهما المال الكافي الذي تنفقه على الوفود في تنقلاتهم ومصاريفهم وغيرهما. وإلى جانب هذه المثبطات فقد شاعت بين حكام المسلمين في هذا الوقت تهمة "الإخوان المسلمين" التي يتذرع بها كل الحكام

ويجعلونها ذريعة لتهمة من أرادوا التنكيل به أو القضاء عليه، فبواسطتها يتم لهم هذا، فكل بادرة تظهر من أي جماعة تعمل أو تقول أو تنادي بالعودة إلى الشريعة الإسلامية إلا وسلطت عليها هذه التهمة من جماعة تحمل في قلبها العداوة والبغضاء للدين الإسلامي، فتوشي بهم إلى السلطة المحلية، وهذه تنزل بهم أشد العقاب، كما فعل جبار مصر الهالك (جمال عبد الناصر) بجماعة الإخوان المسلمين في القاهرة سنة 1966 حيث أنزل عليهم أقسى العقوبات، فسفك دماءهم وعذبهم بما لم ينقل حتى عن أعدى الأعادي للمسلمين، وعاملهم معاملة جبابرة القرون الوسطى، فيما حكاه التاريخ عنهم، ولم يفرق بين كبير وصغير أو ذكر وأنثى، ولم يرحم شيخا لكبر سنه، ولا مريضا لمرضه، حسب أمر تلقاه من الملاحدة، فقد شرد جماعة كانت تدعو إلى الله على بصيرة، وتعمل وتحارب الكفر والإلحاد، وتدعو لتحكيم القرآن وتطبيق شرع الله، وهذا ما يرغب فيه كل مسلم مؤمن بربه، وهل في هذا خطر على أحد إلا على الشيطان وأعوانه؟ وكانت العقوبات تنزل عليهم وكأنهم أعداء الله وأعداء الدين والوطن بلا شفقة ولا إنسانية، وكل هذا قد دخل في طي التاريخ وسجله، وسيجد جزاءه عليه يوم "القيامة" يوم يقف بين يدي خالقه، ويا ويله من ذلك اليوم الذي لا يجد فيه وليا ولا نصيرا ولا معينا ولا شفيعا، بل لا يجد إلا الحساب العسير والجزاء العدل على الأعمال الواقعة من البشر في هذه الحياة الغرارة، فعذاب الله ينتظرهم كما عذبوا هم عباد الله الضعفاء يعذبهم الله،

والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" عن ابن مسعود، متفق عليه، ولم تكن هذه الجماعة إحدى هذه الفرق الثلاث فقتلهم ظلم وحرام شنيع. فعمل الجمعيات الإسلامية، في سبيل الدين هو أقل عمل تقوم به لنشره وإحيائه والتبشير به وقد رأينا توقف نشاطه لما ذكرنا من الأسباب، فقد ظهرت في الفترة الأخيرة بعض الأقوال أو التصريحات من بعض حكام المسلمين يهددون بها كل من يتجرأ على الخروج في حديثه عن حدود الدين، وذلك لما رأوه في حركة الإمام آية الله الخميني من الإطاحة بعرش حاكم إيران - الشاه - بواسطة أحد العلماء الأفذاذ، ولعل ما يأتي من الزمان يتبدل فيه الحال وتتيسر فيه الأمور وينشط فيه الدعاة، ويدرك فيه الحكام ما لهم وما عليهم، وتنطلق فيه الدعوة إلى الدين من عقالها، في داخل الأوطان الإسلامية، وفى خارجها لتبليغ دين الله ونشره بالدعوة إليه، ويجدون ما يساعدهم على هذا، سواء من الحكام أو من أغنياء هذه الأمة التي لا ينقطع منها الخير إن شاء الله تعالى رب العالمين، كما قال رسول الله إلينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الإمام الترمذي وحسنه: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره" رواه الترمذي وغيره.

ومما تجدر الإشارة إليه والتنويه به ما قامت به جماعة مسلمة تأسست في "الهند" وتسمى (جماعة التبليغ) فهي جماعة تدعو إلى الدين بنشاط وتعقد الاجتماعات والملتقيات بين الطوائف المسلمة حيثما سنحت لها الفرصة، وسمحت لها بذلك الظروف والأحوال، ولها دعاة يتنقلون من قارة إلى قارة لتبليغ الدعوة إلى الدين الإسلامي للناس، ودعوتهم إلى العمل به وإحيائه بين الأمم الإسلامية، وتشيد بفضل الإسلام على الإنسانية كلها، وقد أسست لها فروعا في كثير من الأوطان، وخاصة في الأوطان الأروبية، وقد نجحت فيها نجاحا كبيرا، حيث رجع بواسطتها كثير من المسلمين الضائعين إلى دين الله، وحتى غير المسلمين فقد هدى الله بها عددا لا بأس به منهم، وهي جماعة تتسم بالنشاط والعمل الجدي، بدون كلل ولا ملل، مع السمت الحسن، والأخلاق الإسلامية البادية عليهم تجوب الأوطان وتؤسس المساجد لإقامة الصلوات والتوعية فيها بالدروس الدينية والأخلاقية، وقد نجحت في بعض الأوطان نجاحا منقطع النظير، مع التقشف في المعيشة وفى اللباس والتنقل، مع المحافظة على الزي الإسلامي في غير بلده، هذه الجماعة لو وجدت التنظيم الكافي والرجال الأكفاء لتبليغ الدعوة الإسلامية لكان نجاحها كبيرا، وعملها عظيما، يثمر أحسن من أي عمل آخر من نوعه، وعلى كل حال فهي سائرة في طريق النمو والانتشار وتوسيع دائرة نشاطها، ونرجو من الله أن يحقق على يديها نصرا عظيما للإسلام ودعوته الخالدة، وقد حوربت في بعض الأوطان الإسلامية ومنعت من الدخول إليها من طرف حكام تلك الأوطان

التي تنهج منهجا لا يرضى به الإسلام، لأنهم يتخوفون من الدين أكثر من تخوفهم من عدوهم. هذا وذلك هو الجهاد الذي يجب على أهله أن يقوموا به، وأن يوفوا لله بعهدهم - كما تعهدوا - كما هو الحال مع جماعة التبليغ، فإنها تعمل وتبلغ حسب الطاقة والجهد. فالجهاد الشرعي - إذن - يتكيف في كل زمان بحسب أسلحته وكيفيتها، لذا في آية الاستعداد للعدو هذه الإشارة، وهي كما قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} وفى المدلول اللفظي لكلمة - ما - ما يعم كل نوع من أنواع ما يستطيع المسلم أن يعده للدفاع عن دينه وحريته، ولنشره الذي أمره ربه به، وهو ما يستطيع أن يعده لمحاربة عدوه به. وبهذا الاعتبار يتنوع الجهاد على حسب السلاح المستعمل في كل زمان، وقد شاهد الناس جميعا فعالية هذا السلاح المذكور آنفا وتأثيره، سواء في النصر أو في الهزيمة، إذ فيه القضاء على الخصم قضاء تاما، فهناك نوع من السلاح الحاد يقال له (الدعاية) يحمله أناس معروفون يتقنون استعماله في الهجوم وفى الدفاع، فإذا حملوه وتقدموا إلى ميدانه من أجل نصرة "فلان" نصروه وفاز بمرغوبه لأن السلاح المستعمل في نصرته كان موجها بنظام وإتقان وإحكام إلى الخصم، كما يحدث هذا في معارك الانتخابات الحرة والصادقة، فبإتقان الدعاية - وهي السلاح الوحيد - ينتصر فلان وينهزم فلتان، وهذا من أجل التأثير في السامعين،

كلمة ختامية

وبهذا تكون أسلحة الجهاد قد تنوعت، وهذا هو أنجع الجهاد وأضمنه للفوز في هذا العصر الذي نحيا ونعيش فيه، وهو سلاح لا خطر فيه على حامله - في الغالب - ولكن (أين من يستعمله)؟؟؟ كلمة ختامية: إلى ههنا وقف القلم، وكل الذهن، واحتار الفكر في مجال هذا الكون الفسيح، الذي تسبح في جوه وفوق أرضه، هذه السهام الإسلامية الرابحة كالسرج تنير لنا سبل الحياة الفاضلة، فإليكها بعد دراسة لها واستيعاب - حسب الطاقة والامكان - لما تطرقت إليه من هذا الهدى الرباني، والارشاد النبوي الواقي من الندامة وعض البنان - لسهام الإسلام وفروضه وشرائعه، سواء في وفرة محاصيلها وأرباحها، أو في إصابتها لأهدافها، مع سلامة حامليها من العطب. فإليك - أيها المسلم - هذه السهام الإسلامية/ ثلاثثها، أو ثمانيها، أو ثلاثيها، فاشدد عليها بكلتا يديك، وعض عليها بالنواجذ، وإياك أن تفرط في واحد منها فتخسر حياتك، وتضيع كل أتعابك، حياتك التي ليس لك كسب سواها، ولا أخالك إلا عاملا بها، برغبة وحرص واجتهاد، واحذر التسويف فإنه آفة الأعمار، فإن عملت بالنصيحة، فإنك ستحمد العاقبة، وتفوز مع الفائزين، إذ العاقبة للعاملين والمتقين.

ذلك ما حدا بي إلى إخراجها وعرضها على النبهاء والمخلصين والمحبين للخير من أبناء أمتنا المجيدة، تلك الأمة التي لم تتخلف عن الركب الإسلامي في مسيرته الموفقة، بالرغم لمن بعد المسافة، ووعورة الطريق، وقلة الرفاق، ولم تخلف وعدها الذي التزمت به أمام الله وأمام عالمنا الإسلامي، من عقود والتزامات، ولم تخف أية قوة في هذا الكون غير قوة الخلاق العليم، القوي العدل الرحيم، وهذا ما يوجبه صدق الايمان. ومن رحمته بنا هذه الهداية إلى دينه القويم، هذه الهداية التي لا نوفيها حقها من الحمد والشكر والثناء لمسديها إلينا، وهو الله رب العالمين، فمنه - وحده - نطلب العون والنصر على أنفسنا وعلى كل ما يعترض سبيلنا من عقبات صعاب نلقاها أمامنا، من ساحة المبدأ إلى أعتاب عرصات العرض والمأوى والمآرب، نرجوه بيقين المؤمنين، ووجل المذنبين، أن يديم لنا إيماننا، ويحفظ علينا إسلامنا، من عوادي الأيام، وأن يجيرنا من كل معتد ظالم أثيم، كما نسأله ونرجوه أن يتقبل منا عملنا هذا ومن كل عامل لنشر دينه وتثبيت أقدامه، وأن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم، نرجو منه القبول والثواب، والعافية الدائمة وحسن المآب، لنا ولإخواننا العاملين لخير العقيدة الإسلامية، ونسأله أن يقينا من فعل كل ما لا يرضيه عنا مما قد يلحق العار والخزي بنا، أو يكون سببا ومسلكا لنا إلى دخول النار. وأن يتجاوز عنا كل عمل قد يشيننا.

وأن يرحم آباءنا وأجدادنا وجميع المسلمين، وأن يصلح حال المسلمين أينما كانوا وأن يوفقهم لصالح الأقوال والأعمال، إنه السميع المجيب. "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا من يجير ولا يجار. "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". وصلاة الله وسلامة على رسول الله أجمعين، وعلى آلهم وأنصارهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وكان الفراغ من تحريره وتحويره عند منتصف النهار من يوم الثلاثاء في آخر الجماديين، بعد مضي أربعة أيام منها عام تسعة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، الموافق لليوم الأول من شهر ماي سنة تسع وسبعين وتسعمائة وألف من الميلاد. (1399هـ 1979 م) والحمد لله رب العالمين.

§1/1