سنة الترك ودلالتها على الأحكام الشرعية

محمد حسين الجيزاني

[المقدمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [المقدمة] الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. أما بعد؛ فهذه دراسة أصولية تطبيقية لقاعدة شرعية عظيمة، وهي سُنَّة الترك، وهذا الترك نوع من أنواع سُنَّتِه المطهرة _عليه الصلاة والسلام. والملاحظ أن عناية الأصوليين ببحث هذه المسألة كانت جد يسيرة. وذلك أن معظم الأصوليين لم يتعرض أصلا لذكر السُّنة التركية، ومن تعرض إليها منهم فعلى سبيل الإشارة، وذلك عند الكلام على أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. وقد نبه إلى ذلك الإمام بدر الدين الزركشي إذ قال في معرض بيانه أقسام السنة النبوية: القسم السابع: التَّرْكُ لم يتعرضوا لتركه - عليه السلام - (¬1). ومن هنا فقد عَزَمْتُ على الكتابة في هذه المسألة وجمع ما يتعلق بها من كلام أهل العلم في كتب أصول الفقه وغيرها. ¬

(¬1) البحر المحيط (4/ 214).

الدراسات السابقة

ومن الدراسات السابقة التي وقفت عليها في هذه المسألة: كلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (¬1). كلام ابن القيم في إعلام الموقعين (¬2). كلام الشاطبي في الموافقات (¬3). كلام الشاطبي في الاعتصام (¬4). أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - للدكتور محمد العروسي عبد القادر (¬5). أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - للدكتور محمد سليمان الأشقر (¬6). وقد اقتضى المقام أن تكون خطة البحث في تمهيد وثلاثة فصول بيانها كالآتي. التمهيد في التعريف بالسُّنَّة وأقسامها وحجيتها. الفصل الأول: حقيقة السُّنَّة التركية. وفي هذا الفصل خمسة مطالب: المطلب الأول: تعريف الترك وأحكامه. المطلب الثاني: تعريف السُّنَّة التركية. المطلب الثالث: أقسام السُّنَّة التركية. ¬

(¬1) انظر (2/ 519 - 597). (¬2) انظر (2/ 389 - 391). (¬3) انظر (2/ 409 - 414). (¬4) انظر (1/ 360 - 365). (¬5) انظر (207 - 227). (¬6) انظر (45 - 69).

المطلب الرابع: علاقة سُنَّة الترك بالسنة التقريرية. المطلب الخامس: علاقة سُنَّة الترك بالمصالح المرسلة. الفصل الثاني: حجية السُّنَّة التركية. وفي هذا الفصل ثلاثة مطالب. المطلب الأول: دلالة السُّنَّة التركية. المطلب الثاني: شروط الاحتجاج بالسُّنَّة التركية. المطلب الثالث: الأدلة على حجية السُّنَّة التركية. الفصل الثالث: أثر الاحتجاج بالسُّنَّة التركية. وفي هذا الفصل أربعة فروع: الفرع الأول: أثر سُنَّة الترك في تخصيص العموم. الفرع الثاني: أثر سُنَّة الترك في معرفة مقاصد الشريعة. الفرع الثالث: أثر سُنَّة الترك في إبطال البدع والرَّد على المبتدعة. الفرع الرابع: أثر سُنَّة الترك في المسائل المعاصرة. وقد ذيلت هذا البحث بخاتمة، تضمنت خُلاصة البحث، ثم بقائمة للمصادر والمراجع. أسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

التمهيد

التمهيد في التعريف بالسُّنَّة وأقسامها وحجيتها وفيه ثلاثة مسائل: المسألة الأولى: تعريف السُّنَّة لغة واصطلاحًا. المسألة الثانية: أقسام السُّنَّة. المسألة الثالثة: حجية السُّنَّة.

المسألة الأولى تعريف السنة لغة واصطلاحا

المسألة الأولى تعريف السُّنَّة لغة واصطلاحًا 1 - السُّنَّة في اللغة (¬1): السُّنَّة لغة: الطريقة والسيرة, حميدة كانت أو ذميمة؛ فكل من ابتدأ أمرًا عمل به قوم من بعده قيل هو سُنَّة. ومن الأمثلة على ورود لفظ السُّنَّة بمعناه اللغوي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سُنُّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (¬2). 2 - السُّنَّة في الاصطلاح (¬3): للسُّنَّة في اصطلاح أهل الشرع إطلاقات عدة: فتطلق تارة على ما يقابل القرآن. ¬

(¬1) انظر: لسان العرب (13/ 225) والمصباح المنير ص (292) , والمعجم الوسيط ص (456). (¬2) أخرجه مسلم ص1393برقم (1017). (¬3) انظر شرح مختصر الروضة (2/ 60 - 64) والموافقات (4/ 3 - 7) وشرح الكوكب المنير (2/ 159 - 160).

وهو اصطلاح الأصوليين، وهو أن السُّنَّة هي: ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن (¬1). والسُّنَّة بهذا المعنى تشمل أنواعًا ثلاثة، وهي: قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره؛ وهذا الإطلاق هو المراد في هذا المقام؛ وتطلق السُّنَّة تارة على ما يقابل الفرض وغيره من الأحكام الخمسة؛ كفروض الوضوء والصلاة والصوم وسننها؛ وتطلق السُّنَّة أيضًا على ما يقابل البدعة ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحدث قوم بدعة إلا رُفِعَ مثلها من السُّنَّة فتمسك بِسُنَّة خير من إحداث بدعة» (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة؛ فإما إلى سنُةَّ وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سُنَّة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» (¬3). ومعنى السُّنَّة في هذا الإطلاق: الطريقة المسلوكة في الدين؛ وهي ما عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وإن كان الغالب تخصيص ¬

(¬1) انظر الإحكام للآمدي (1/ 169) وقواعد الأصول ص (38) والبحر المحيط (4/ 739) وشرح الكوكب المنير (2/ 160). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 105). (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 158).

اسم السُّنَّة بما يتعلق بالاعتقادات؛ لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم (¬1). ¬

(¬1) انظر جامع العلوم والحكم (2/ 120).

المسألة الثانية أقسام السنة

المسألة الثانية أقسام السُّنَّة أولا: تنقسم السُّنَّة باعتبار ذاتها إلى: قولية, وفعلية، وتقريرية (¬1). وهذا يشمل قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره وكتابته وإشارته وهَمَّه وترْكه (¬2). وهذه الأنواع قد يدخل بعضها في بعض؛ فيدخل في الفعل كل من الكتابة والإشارة والهم والترك (¬3). وقد زاد بعض الأصوليين (¬4): سُنَّة الخلفاء الراشدين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين, عَضُّوًا عليها بالنَّواجِذ» (¬5). قال ابن رجب: "وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتباع سُنَّته وسُنَّة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمر عمومًا دليل ¬

(¬1) انظر: شرح مختصر الروضة (2/ 62) ومختصر ابن اللحام ص (74). (¬2) انظر مجموع الفتاوى (1/ 282) وجامع العلوم والحكم (2/ 121). (¬3) انظر: شرح الكوكب المنير (2/ 160 - 166). (¬4) انظر الموافقات (4/ 4 - 7). (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (4/ 200، 201) برقم (4607) والترمذي في سننه (5/ 44) برقم (2676) وقال حديث حسن صحيح.

ثانيا

على أن سُنَّة الخلفاء الراشدين مُتَّبَعَة، كاتباع سُنَّته" (¬1). ثانيًا: تنقسم السُّنَّة باعتبار وصولها إلينا وعدد نقلتها ورواتها إلى متواتر وآحاد (¬2). ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم (2/ 121). (¬2) انظر: المستصفى, ص (155) والإحكام للآمدي (2/ 13) وشرح مختصر الروضة (2/ 71).

المسألة الثالثة حجية السنة

المسألة الثالثة حُجِّيَّة السُّنَّة أجمع المسلمون على وجوب طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولزوم سُنَّته (¬1). قال الإمام الشافعي: "لم أسمع أحدًا نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم - يخالف في أن فرض الله - عز وجل - اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسليم لحكمه؛ بأن الله - عز وجل - لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , وأن ما سواهما تبع لهما, وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحد، لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى" (¬2). وقال أيضًا: "ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحدًا أخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قبل خبره وانتهى إليه وأثبت ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (19/ 82 - 92) وإعلام الموقعين (2/ 290 - 293). (¬2) جماع العلم ص (11، 12).

ذلك سُنَّة" (¬1). وقال - رحمه الله: "إذا وجدتم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُنَّة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد" (¬2). وقال ابن تيمية: "وهذه السُّنَّة إذا ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب اتباعها" (¬3). والأدلة على وجوب اتباع السُّنَّة كثيرة جدًا (¬4): فمن القرآن الكريم (¬5): 1 - الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال - تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]. 2 - ترتيب الوعيد على من يخالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - , قال - تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. 3 - نفي الخيار عن المؤمنين إذا صدر حكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال - تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ¬

(¬1) مفتاح الجنة, ص (34) (¬2) مفتاح الجنة ص (77). (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 85، 86). (¬4) انظر مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (3/ 1355 - 1361) ومعارج القبول (2/ 416 - 420) وللاستزادة يراجع كتاب حجية السنة للدكتور عبد الغني عبد الخالق ص (178) وما بعدها، وكتاب السنة حجيتها ومكانتها للدكتور محمد لقام السلفي ص (29، 30). (¬5) انظر الرسالة ص (79، 84) ومجموع الفتاوى (19/ 83) وإعلام الموقعين (1/ 49، 50) (2/ 289، 290).

اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. 4 - الأمر بالرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند النزاع، قال - تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. 5 - جعل الرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند النزاع من موجبات الإيمان ولوازمه، قال - تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [النساء: 59]. ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ» (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه, وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود والترمذي، وقد تقدم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه ص (480) برقم (7288). (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4/ 200) برقم (4604) ونحوه عند الترمذي في سننه (5/ 37، 38) برقم (2663، 2664) وقال: حسن صحيح، وابن ماجة في سننه (1/ 6، 7) برقم (12، 13).

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله» (¬1). هذه بعض النصوص الدالة على حُجِّيَّة السُّنَّة وبذلك يعلم أن الاحتجاج بالسُّنَّة أصل ثابت من أصول هذا الدين وقاعدة ضرورية من قواعد. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه (1/ 6) برقم (12) والترمذي في سننه (5/ 38) برقم (2664) وقال: حسن غريب.

الفصل الأول حقيقة السنة التركية

الفصل الأول حقيقة السُّنَّة التَّرْكِيَّة وفي هذا الفصل خمسة مطالب: المطلب الأول: تعريف التَّرْك وأحكامه. المطلب الثاني: تعريف السُّنَّة التَّرْكِيَّة. المطلب الثالث: أقسام السُّنَّة التَّرْكِيَّة. المطلب الرابع: علاقة سُنَّة التَّرْك بالسُّنَّة التقريرية. المطلب الخامس: علاقة سُنَّة التَّرْك بالمصالح المُرْسَلة.

المطلب الأول تعريف الترك وأحكامه

المطلب الأول تعريف التَّرْكِ وأحكامه وفيه مسألتان: المسألة الأولى: تعريف التَّرْكِ (¬1): التَّرْكُ لُغَةً: تَرْكُ الشيءَ تَرْكًا وتَرْكَانًا، طرحه وخلَّاه، ويُقال: تركتُ المنزل تركًا، رحلتُ عنه؛ وتركتُ الرجل: فارقته. والتَّرْكُ: عدم فعل المقدور عليه. وأما عدم ما لا قدرة عليه فلا يُسمَّى تَرْكًا، ولذلك لا يُقال: تَرَكَ فلانٌ خَلْقَ الأجسام. وذلك أن التَّرْكُ فعل الضد لأنه مقدور، ولا بد أن يكون كلا الضدين مقدورَين حتى يكون ارتكاب أحدهما تَرْكًا للآخر، فإذا لم يكن أحدهما أو كلاهما مقدورًا لم يصح استعمال التَّرْكِ هناك، فلا يقال: تَرَكَ بقعوده الصعود إلى السماء، ولا تَرَكَ بحركته الاضطرارية حركته الاختيارية. ¬

(¬1) انظر: المواقف (2/ 163) والمصباح المنير ص (74) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2/ 174) والمعجم الوسيط ص (84).

المسألة الثانية: أحكام الترك

ثم إن عُدِمَ فعل المقدور إنما يُسمَّى تَرْكًا إذا كان حاصلا بالقصد فلا يُقال تَرَكَ النائم الكتابة، ولذلك يتعلق بالتَّرْكِ الذم والمدح والثواب والعقاب، فلولا أنه اعتبر فيه القصد لم يكن كذلك قطعًا. وذلك أن التَّرْكَ من أفعال القلوب؛ لأنه انصراف القلب عن الفعل وكَفُّ النَّفس عن ارتياده. المسألة الثانية: أحكام التَّرْكِ: ويمكن بيان ذلك في النقاط الآتية: أولاً: أن التَّرْكَ داخل تحت التكليف (¬1). التَّرْكُ معدود من الأفعال المُكلَّف بها؛ خلافًا لمن زعم أن التَّرك أمر عدمي لا وجود له، والعدم عبارة عن لا شيء. والدليل على أن الترك فعل من القرآن قوله - تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] فسمَّى الله عدم تناهيهم عن المنكر فعلا وذمهم على هذا الفعل، فقال - سبحانه: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} , ومن السُّنَّة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المُسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (¬2) فَسُمِّيَ تَرْكُ الأذى إسلامًا وهو يدل على أن التُّرْك فعل. ¬

(¬1) انظر: مذكرة الشنقيطي ص (38، 39). (¬2) أخرجه البخاري ص (8) برقم (10) ومسلم ص (47) ص (41).

ثانيًا: متى يكون الترك مطلوبًا أو مباحًا في الشرع؟ (¬1) 1 - إذا وقع تَرْك ما أحله الله على وجه معتبر شرعًا وذلك إذا اقترن بهذا التَّرْك نية صحيحة، أو كان التَّرك وسيلة مفضية إلى العمل الصالح وعونًا عليه؛ فإن هذا التَّرك على هذا الوجه يدخل تحت معنى العبادة، فلا يكون بدعة حينئذ، وذلك كمن نوى بترك النَّوم ليلًا لإدراك صلاة الفجر، أو كان ترك النوم بالنسبة إليه سببًا للبر بوالديه أو أحدهما. 2 - إذا وقع التَّرك لسبب معقول؛ كمن يترك الطعام لأنه يضره في جسمه، أو لأنه لا يجد ثمنه، أو ما أشبه ذلك من الدواعي الخاصة، ومنه تَرْك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأكل الضَّب لقوله فيه «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أَعافه» (¬2) , ولا يُسَمَّى مثل هذا تحريمًا لأن التحريم يستلزم القصد إليه، وهذا ليس كذلك فهذا التَّرْك في أصله من قبيل المباح. 3 - ترك الأمور المشتبهات من باب الاحتياط؛ فإن هذا من باب الورع، وهو الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (¬3) , وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه ¬

(¬1) انظر: الحوادث والبدع ص (43) والباعث ص (57) والاعتصام (1/ 42، 45) (2/ 107) والإبداع ص (51 - 53). (¬2) أخرجه البخاري ص (1134) برقم (5391) ومسلم ص (1041) برقم (1946). (¬3) أخرجه الترمذي (4/ 668) برقم (2518) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني انظر: صحيح الجامع (2/ 637) برقم (3378).

وعرضه» (¬1). 4 - تَرْك بعض السُّنَّة سُدًا للذريعة؛ لئلا يُظن الوجوب وهذا خاص بمن كان من الناس في مظنة الاقتداء به، وهو منقول عن السلف؛ كَتَرْكِ بعض الصحابة - رضي الله عنهم - الأُضحية؛ خشية أن يظن الناس أنها واجبة؛ نُقِلَ ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عباس - رضي الله عنهما - وقال أبو مسعود البدري - رضي الله عنه: «إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة» (¬2). والأصل في ذلك: تَرْك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين (¬3) , وتَرْكه - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - (¬4). قال ابن القيم: " .. هذا إذا أمن المفتي غائلة الفتوى، فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها أمسك عنها، ترجيحًا لدفع أعلى المَفسدتين باحتمال أدناهما، وقد أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نقض الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم لأجل حُدثان عهد قريش ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (17) برقم (52) ومسلم واللفظ ص (833) برقم (1599). (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 265) وصححه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 145). (¬3) أخرجه البخاري ص (735) برقم (3518) ومسلم ص (1351) برقم (2584). (¬4) أخرجه البخاري ص (704) برقم (3368).

بالإسلام، وأن ذلك رُبَّما نفَّرهم عنه بعد الدخول فيه". وكذلك إن كان عقل السائل لا يحتمل الجواب عمَّا سأل عنه، وخاف المسئول أن يكون فِتْنَة له، أمسك عن جوابه (¬1). ثالثًا: متى يصير التَّرْكُ بدعة (¬2)؟ ترك ما أحلَّه الله - تعالى - يصير بدعة ضلالة في حالتين: الحالة الأولى: أن يعتقد تحريم فعل ما أحلَّه الله. والأصل في ذلك: التحريم الواقع من الكفار؛ كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام؛ كما ورد ذلك في قوله - تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. ومن الأمثلة على ذلك: 1 - اعتقاد تحريم التمتع بالطيبات. 2 - اعتقاد حُرْمة جميع ما يُصنع ويأتي من بلاد الكافرين, من أطعمة وألبسة وغيرها. 3 - اعتقاد حُرْمة بعض المخترعات العصرية, كالوسائل الكهربائية. والحالة الثانية: أن يقترن بِتَرْك فِعْل ما أحَلَّه الله قصد ¬

(¬1) إعلام الموقعين (4/ 157، 158). (¬2) انظر الاعتصام (1/ 42 - 45) والإبداع ص (51 - 53).

التعبد ونية التقرب إلى الله، من وجه لم يعتبره الشارع، وإن كان هذا التَّارِك يعتقد في نفسه أن إتيان هذا الفعل حلال من حيث الأصل. وذلك مثل التَّقَرُّب إلى الله - تعالى - بِتَرْك النوم ليلًا أو تَرْك الأكل نهارًا، أو تَرْك إتيان النساء، وهذا ما وَرَدَ في قصة الرَّهْطِ الثلاثة. فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروه كأنهم تَقَالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفْطِر. وقال آخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفْطِر، وأُصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مني» (¬1). وذلك أن هؤلاء الثلاثة أرادوا التقرب إلى الله - تعالى - بِتَرْكِ الحلال، وهو تَرْكُ النوم ليلًا، وتَرَكُ الإفطار نهارًا، وتَرَكُ الزَّواج. ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (1070) برقم (5063).

ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر عليهم صنيعهم هذا وبَيَّنَ سُنَّتِه وجَلَّاها, فقال: «لَكِنِّي أصوم وأُفطر، وأُصلي وأرقد، وأتزوج النِّساء، فمن رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي» والرغبة عن السنة مُوقِع في البدعة. والأصل في ذلك: قول الله - تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] حيث نهى أوَّلًا عن تحريم الحلال ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداء لا يحبه الله، وذلك أن التَّرك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل. ومما يَحْلَق بهذا النوع من التَّرك: الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة، أو الاقتصار على البشيع في المأكل من غير عذر فإنه تَنَطُّع؛ لأنه من قبيل التشديد والتَّنَطُّع المذموم، وفيه أيضًا مَنْ قصد الشهرة ما فيه، وهذا كله قد يفضي إلى الوقوع في الغلو المنهي عنه. رابعًا: متى يصير الترك معصية (¬1). يُعَدُّ التَّرْكُ معصية: إذا تُرِكَ ما هو مطلوب في الشرع كَسَلًا أو تضييعًا أو عبثًا، فهذا الضرب من التَّرْكِ راجع إلى مخالفة أمر الشارع, فإن كان في أمر يفيد الوجوب فالتَّرك يكون حينئذ معصية؛ كَتَرْك الطَّعام يوم العيد. ¬

(¬1) انظر: الاعتصام (1/ 42 - 45) والإبداع ص (51 - 53).

وإن كان التَّرْك في أمر يفيد النَّدب، فهذا التَّرك لا يُعَدُّ معصية؛ كترك الاستياك والتَّطَيُّب لصلاة الجمعة.

المطلب الثاني تعريف السنة التركية

المطلب الثاني تعريف السُّنَّة التَّرْكِيَّة قبل الشروع في تعريف السُّنَّة التَّرْكِيَّة يَجْدُر التعرض بالبيان لأقسام تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - وذلك على النحو الآتي: ينقسم تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - إلى خمسة أقسام: القسم الأول: التَّرْكُ الجِبِلِّيّ أو العادي، وهو ما يرجع إلى الجِبِلَّة أو العادة؛ كَتْرِكه - صلى الله عليه وسلم - أكل الضَّب؛ لكونه لم يكن بأرض قومه (¬1). ومن ذلك: ما تركه - صلى الله عليه وسلم - على جهة النسيان. مثال ذلك: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه - رضي الله عنهم - صلاة فزاد أو نقص، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أَحَدَثَ في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليت كذا وكذا، فثني رجليه بوجهه قال: «إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تَنْسُون فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (1134) برقم (5391) ومسلم ص (1041) برقم (1946) وقد تقدم.

القسم الثاني

عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين» (¬1). القسم الثاني: التَّرك الخاص به - صلى الله عليه وسلم - وهو ما ثبت بالدليل كونه خاصًا به - صلى الله عليه وسلم - كتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - أكل الثَّوم (¬2). القسم الثالث: التَّرك المصلحي، وهو ما يرجع إلى تحقيق مصلحة شرعية. ومن أمثلته ما يأتي: تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - صلاة القيام في رمضان جماعة بأصحابه؛ رحمةً بأمته (¬3). تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - تأليفًا لقلوب أهل مكة؛ لقرب عهدهم بالكفر (¬4). تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين؛ سدًا لذريعة التنفير من الدخول في الإسلام (¬5). تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على صاحب الدَّين (¬6) وتركه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على الغال (¬7) من باب العقوبة لهما والترهيب من صنيعهما. ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (89) برقم (401). (¬2) أخرجه البخاري ص (1492) برقم (7359) ومسلم ص (269) برقم (564). (¬3) أخرجه البخاري ص (1480) برقم (7290). (¬4) أخرجه البخاري ص (704) برقم (3368) وقد تقدم. (¬5) أخرجه البخاري ص (735) برقم (3518) ومسلم ص (1351) برقم (2584) وقد تقدم. (¬6) انظر في ذلك: ما أخرجه البخاري ص (459) برقم (2295). (¬7) انظر في ذلك: ما أخرجه أبو داود في سننه (3/ 68) برقم (2710) وابن ماجة (2/ 950) برقم (2848) والنسائي (4/ 64) والحديث صححه محقق زاد المعاد. انظر: زاد المعاد ص (108).

القسم الرابع

القسم الرابع: التَّرْكُ البياني، أو التَّرْكُ التشريعي، وهو ما تَرَكَه - صلى الله عليه وسلم - بيانًا للشرع؛ كتَرْكه - صلى الله عليه وسلم - الأذان للعيدين وتَرْكه الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القسم من تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - هو المُراد من السُّنَّة التَّرْكية، وإنما يُحْتج به فيجب تَرْك ما تَرَكَ - صلى الله عليه وسلم - , إذا وجد السبب المُقتضي لفعل هذا المتروك في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وانتفى المانع من فعله كما سيأتي. ومما يلتحق بهذا القسم - أعني التُّرْك البياني - ثلاثة أنواع من التَّرْك: الأول: تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - واجتنابه لما هو مُحَرَّم شرعًا، ومن ذلك: تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِم للطيب والصيد؛ فإن المعلوم من شاهد الحال أن ذلك لأجل الإحرام (¬1). الثاني: قاعدة: "تَرْك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يُنَزَّل منزلة العموم في المقال، ويحسن بها الاستدلال", وهي مقالة مشهورة عن الإمام الشافعي (¬2). ¬

(¬1) انظر: إرشاد الفحول ص (213). (¬2) وقد نقل عنه قول آخر يخالف هذا القول هو: "حكاية الحال إذا تطرق إليها الإحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط منها الاستدلال". وقد استشكل ذلك بعض العلماء، وجعلهما بعضهم قولين للشافعي وجمع بعضهم بين القولين بأن الاحتمال إذ كان قريبًا سقط بها الاستدلال وإذا كان بعيدًا فلا يسقط. انظر القواعد والفوائد الأصولية ص (234، 235) وشرح الكوكب المنير (3/ 172 - 174).

ومعنى القاعدة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تَرَك السُّؤَال عن تفاصيل واقعة ما فإن عدم السؤال يدل على عموم حكمها، وذلك أن غيلان بن سلمة الثقفي - رضي الله عنه - أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخير أربعًا منهن (¬1). فدَّل تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - سؤاله: هل عقد عليهن معًا أو مرتبًا على عموم الحكم وعدم الفرق بين الأمرين (¬2). قال تاج الدين السبكي: "اشتهر عن الشافعي - رضي الله عنه - أن تَرْكَ الاستفصال في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال". وهذا وإن لم أجده مسطورًا في نصوصه فقد نقله عنه لسان مذهبه، بل لسان الشريعة على الحقيقة أبو المعالي - رضي الله عنه. ¬

(¬1) رواه ابن ماجة في سننه (1/ 628) برقم (1953) والترمذي (3/ 435) برقم (1128) وقال: والعمل على حديث غيلان بن سلمة عند أصحابنا منهم الشافعي وأحمد وإسحاق. (¬2) انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص (234، 235) وشرح الكوكب المنير (3/ 171 - 174) وأضواء البيان (5/ 100، 581، 6/ 516، 547).

ومعناه صحيح؛ فقد كانت من عادته - صلى الله عليه وسلم - أن يستفصل ويستقصي بحيث لا يدع غاية في البيان ولا إشكالا في الإيضاح. الثالث: سكوته - صلى الله عليه وسلم - على حكم لو كان مشروعًا لبينه، فإنه يدل على عدم الحكم (¬1). ومن أمثلته: القول بأن المرأة لا كفارة عليها في الوقاع في نهار رمضان؛ إذ لو وجبت على المرأة كفارة لبَيَّنَهَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمر الأعرابي بتبليغ ذلك لأهله؛ كما أمر أنيسًا لمَّا قال له: «واغْدُ يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارْجُمْها» (¬2). ومما يدل على ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله - عز وجل - فرض فرائض فلا تضيعوها وحرَّم حُرُمات فلا تنتهكوها وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (¬3). ويدل على ذلك - أيضًا - قول ابن عباس - رضي الله عنهما - «وما سكت عنه فهو مما عفا عنه» (¬4). ¬

(¬1) انظر: مفتاح الأصول ص (581 - 583) والموافقات (1/ 161) وما بعدها. (¬2) أخرجه البخاري ص (562) برقم (2724 - 2725) ومسلم ص (902) برقم (1697، 1698). (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 183) برقم (42) من كتاب الرضاع والحديث حسنه النووي في الأربعين النووية: الحديث الثلاثون. (¬4) أخرجه أبو داود (3/ 354) برقم (3800) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي انظر المستدرك (4/ 115) وقد رواه مرفوعًا ابن ماجه في سننه (1/ 1117) برقم (3367) والترمذي (4/ 220) برقم (1726) وقال حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه, وقال: وكأن لحديث الموقوف أصح.

القسم الخامس

قال التلمساني: واعلم أن من شرط هذا الاستدلال بيان أن الوقت وقت حاجة للبيان, بحيث يكون التأخير معصية (¬1). وهذا النوع أعني دلالة سكوته - صلى الله عليه وسلم - يقرب من السنة التقريرية إلا أن السنة التقريرية - كما سيأتي في المطلب الآتي - لا بد أن يقترن بها فعل أو قول من بعض الصحابة - رضي الله عنهم - بخلاف دلالة السُّكوت فإنها أعَمَّ؛ إذ قد يقترن بها استفسار وسؤال سابق, فتكون من قبيل السُّنَّة التَّقريرية، وقد لا يقترن بها سُؤال؛ فتكون من قبيل التمسك بالأصل، وهو براءة الذمة؛ فتكون من قبيل سُنَّة التَّرْكِ. القسم الخامس: ما تَرَكَه - صلى الله عليه وسلم - لعدم القدرة عليه، وهذا التَّرْك لم يوجد معه القصد إلى التَّرْك (¬2). وهذا على التحقيق لا يُسَمَّى تَرْكًا؛ لكونه غير داخل تحت حقيقة التَّرْك؛ إذ الترك كما تقدم مخصوص بتَرْكِ فعل المقدور عليه. ومن الأمثلة عليه: تركه - صلى الله عليه وسلم - الإتيان بالمستجدات الواقعة ¬

(¬1) انظر مفتاح الوصول ص (583). (¬2) انظر مجموع الفتاوى (20/ 314).

بعد عصره - صلى الله عليه وسلم - كَتَرْكه - صلى الله عليه وسلم - قتال مانعي الزكاة؛ فإن جحد وجوب الزكاة إنما وقع في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وكتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - دخول الحَمَّامَات، فإن هذه الحَمَّامَات لم تكن معروفة ولا متوافرة في بلاد المسلمين قبل الفتوحات. وبناء على ذلك فإن تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - عاد إلى أربعة أقسام، وهي ترجع إلى قسمين: تَرْكُ تشريعي وتَرْكُ مُعَلَّل. فالتَّرك التشريعي نوعان: فقد يكون خاصًا به - صلى الله عليه وسلم - , وقد يكون تَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - عامًا له ولأمته، وهذا - أعني التَّرْك التشريعي العام - هو التَّرْك الرَّاتب، وهو مَحَل الاقتداء، وهو الذي يُطْلَق عليه سُنَّة التَّرْك. وأما الأنواع الأخرى من التُّرُوك فإنها داخلة تحت تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - لكنها لا تُسَمَّى سُنَّة تَرْكِيَّة. وأما التَّرْكُ المُعَلَّل فهو ما وقع فيه التَّرْك لأجل عِلَّة معينة غير عِلَّة التشريع وبيان الحكم. وذلك أن الترك - ها هنا - حكم معلل بوجود مانع معين، وهذا المانع يتضمن معنى معتبرًا. إذ قد يرجع هذا المعنى أو المانع إلى الجِبِلَّة والعادة، وقد يرجع إلى تحصيل مصلحة أو درء مفسدة. وحيث إن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا, فإن هذا المعنى أو المانع متى تبين زواله وعُلِمَ انتفاؤه زال حكم التَّرْك

وانقطع وصار الإتيان بهذا الأمر المتروك مشروعًا متى ما وُجِدَ في الشرع ما يقتضيه. فهذا القسم من التَّرْكِ يُسَمَّى بالتَّرْك غير الرَّاتب؛ لأنه منوط بقيام علته، ومقيد بها، ولا يُشْرَع فيه الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أشار ابن تيمية إلى هذين القسمين من التَّرْك بقوله: " فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات أو بالموقف بعرفات أو جعل الفجر أربعًا قياسًا على الظهر". والتَّرْكُ الرَّاتب سُنَّة كما أن الفعل الرَّاتب سُنَّة. بخلاف ما كان تَرْكِه بعدم مقتضى أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلَّت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن في المصحف وجَمْعِ الناس التراويح على إمام واحد وتعلم العربية وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين, بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به. وإنَّمَا تَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - لفوات شرطه أو وجود مانع" (¬1): وبذلك يمكن تعريف سُنَّة التَّرْك بأنها: " تَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - فعل الشيء مع وجود مقتضيه بيانًا لأمته". ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (26/ 172).

وقد تضمن هذا التعريف قُيودًا أربعة: القيد الأول: أن يكون هذا الأمر المَتْرُوك مقدورًا عليه من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن التَّرْك - حسبما تقدم في التعريف اللغوي - عدم فعل المقدور عليه. وبهذا القيد يخرج ما تَرَكَه - صلى الله عليه وسلم - لعدم القدرة عليه؛ فإن هذا النوع من الترك لم يوجد معه القصد إلى الترك (¬1). وهذا على التحقيق لا يسمى تَرْكًا؛ لكونه غير داخل تحت حقيقة التَّرْك؛ إذ الترك مخصوص بترك فعل المقدور عليه. ومن الأمثلة على ذلك: تركه - صلى الله عليه وسلم - الإتيان بالمستجدات الواقعة بعد عصره - صلى الله عليه وسلم - مع وجود مقتضيها؛ كتركه - صلى الله عليه وسلم - استعمال مكبرات الصوت الحديثة في نقل الأذان وتكبيرات الإمام والخطبة فهي غير مقدور عليها. وقد مثل ابن تيمية لذلك بتركه - صلى الله عليه وسلم - دخول الحمامات، وذلك أن هذه الحمامات لم تكن معروفة ولا متوافرة في بلاد المسلمين قبل الفتوحات. قال رحمه الله: ليس لأحد أن يحتج على كراهة دخولها أي الحمامات أو عدم استحبابه بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخلها ولا أبو بكر وعمر، فإن هذا إنما يكون حجة لو ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (20/ 314).

امتنعوا من دخول الحمام، وقصدوا اجتنابها، أو أمكنهم دخولها فلم يدخلوها. وقد علم أنه لم يكن في بلادهم حينئذ حمام، فليس إضافة عدم الدخول إلى وجود مانع الكراهة أو عدم ما يقتضي الاستحباب، بأولى من إضافته إلى فوات شرط الدخول، وهو القدرة والإمكان (¬1). القيد الثاني: أن يكون هذا الأمر المتروك من قبيل الأفعال فالسنة التركية مخصوصة بتركه - صلى الله عليه وسلم - للفعل دون تركه - صلى الله عليه وسلم - للقول. وبهذا القيد يحترز من السنة التقريرية؛ فإنها من قبيل السكوت وذلك تركه - صلى الله عليه وسلم - للقول. القيد الثالث: أن يكون هذا الأمر المتروك من الأمور التي قام سببها ووجدت الحاجة إلى فعلها. وبهذا القيد خرج ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعدم الحاجة إليه في زمنه، إلا أن الحاجة إليه طرأت فيما بعد، وهذا هو باب المصالح المرسلة، وذلك أن المصلحة المرسلة فعل أمر لم يكن في عهد النبي لكن دعت الحاجة إلى فعله بعد زمنه. ومن الأمثلة على ذلك: تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - قتال مانعي الزكاة؛ فإن منع الزكاة إنما وقع في عهد أبي بكر - رضي الله عنه. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (20/ 314) ..

وخرج بهذا القيد - أيضًا: تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - للمنهيات والمنكرات، إذ ليس هنالك ما يقتضي فعل المعصية، بل الشرع يقتضي تَرْكها واجتنابها. القيد الرابع: أن يقع هذا التَّرْكُ من النَّبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه التشريع والبيان؛ وذلك أن يَتْرُك الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - فعل الشيء ليبين لأمته أن المشروع في هذا الشيء تَرْكُه وعدم فعله. وبهذا القيد خَرَجَ ما تَرَكَه - صلى الله عليه وسلم - لا على وجه التشريع، وإنما تَرْكُه مِن أجل قيام مانع من الموانع: إما لمانع جِبِلِّي، كَتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - أكل الضَّب (¬1)، أو تأليفًا للقلوب؛ كَتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - نقض الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم - عليه السلام (¬2) , أو لغير ذلك من المعاني. وخرج بهذا القيد - أيضًا - تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - فعل أمر من الأمور الدنيوية المحضة؛ فإن هذا التَّرْك منه - صلى الله عليه وسلم - إنما يقع من جهة كونه بشرًا، فهو راجع إلى أفعاله - صلى الله عليه وسلم - الجِبِلِّيَّة والعادية، وهي في الأصل تأخذ حكم الإباحة. ومن الأمثلة على ذلك: أمرُه - صلى الله عليه وسلم - بِتَرْك تأبير النخل, فعن موسى بن طلحة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رؤوس النخل فقال: «ما يصنع هؤلاء» فقالوا: ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (1134) برقم (5391) ومسلم ص (1041) برقم (1946) وقد تقدم. (¬2) أخرجه البخاري ص (704) برقم (3368) وقد تقدم.

يلقحونه؛ يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما أظن يغني ذلك شيئًا» قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به فإني لن أكذب على الله - عز وجل -» (¬1). وقد خرج بهذا القيد - أيضًا - التَّرْك الخاص به - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن هذا التَّرْك وإن حصل به بيان للشريعة، لكنه بيان يختص به - صلى الله عليه وسلم - دون أمته؛ كَتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - أكل الثوم (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم ص (1243) برقم (2361). (¬2) أخرجه البخاري ص (1492) برقم (7359) ومسلم ص (269) برقم (564) وقد تقدم.

المطلب الثالث أقسام السنة التركية

المطلب الثالث أقسام السُّنَّة التَّرْكِيَّة أولاً: تنقسم السَّنَّة التَّرْكِيَّة بحسب مجالاتها إلى ما يأتي: 1 - باب الاعتقادات, كالقول بأن أول واجب على المكلف هو النظر أو القصد إليه، وكالاستدلال بطريقة الأعراض وحدوثها على إثبات الصانع. 2 - باب العبادات, كَتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - صلاة ركعتين بعد الفراغ من السَّعْي. 3 - باب الأعياد، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ الاحتفال بأيام الإسلام المشهودة ولم يتخذها أعيادًا. قال ابن تيمية: "وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة، مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة، ووقت هجرته ودخوله المدينة، وخُطَب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعيادًا، وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى - عليه السلام - أعيادًا أو اليهود". وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتُّبع، وإلا لم يحدث

ثانيا

في الدين ما ليس منه (¬1). 4 - باب النكاح وما يتعلق به، وقد مَثَّلَ الشاطبي لذلك فقال: "وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المُحَلِّل وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه - عليه الصلاة والسلام - المعنى المقتضى للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليراجعا كما كان أول مرة، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها. 5 - باب الجنايات والحدود، ومن الأمثلة على ذلك: تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - جَلْدَ الزاني المحصن اكتفاءً برجمه. وسيأتي مزيد من الأمثلة لهذه الأبواب وغيرها في الفصل الثالث الخاص بالتطبيقات. ثانيًا: تنقسم السُّنَّة التَّرْكِيَّة بالنسبة إلى نقلها إلى طريقين (¬2): الطريق الأول: أن يرد نص صريح من الصحابي، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ كذا وكذا ولم يفعله، وذلك كقوله: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد بلا أذان ولا إقامة» (¬3). ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 614، 615). (¬2) انظر إعلام الموقعين (2/ 389 - 391). (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1/ 298) برقم (1147) وصححه النووي انظر: لمجموع (5/ 13) وأصل الحديث في الصحيحين.

وقد ورد في السُّنَّة المطهرة تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - الأذان والإقامة لصلاة العيد بألفاظ متعددة فمن ذلك: عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة» (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خطب وأبو بكر وعمر وعثمان في العيد بغير أذان ولا إقامة» (¬2). وفي "صحيح البخاري" أن ابن عباس - رضي الله عنهما - أرسل إلى ابن الزبير - رضي الله عنهما - في أول ما بويع له إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر إنما الخُطْبَة بعد الصلاة (¬3). الطريق الثاني: اجتماع القرائن الدالة على مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على تَرْكِ هذا الفعل، وذلك بأن تتوافر همم الصحابة - رضي الله عنهم - ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعله, فحيث لم ينقله واحد منهم البتة، ولا حدَّث به في مجمع أبدًا عُلم أنه لم يكن. ومن أمثلة ذلك: تَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - التلفظ بالنية عند دخوله في ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2/ 412) وقال: حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أنه لا يؤذن لصلاة العيدين ولا لشيء من النوافل. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 348). (¬3) أخرجه البخاري ص (192) برقم (959).

الصلاة، وتَرْكُه الدَّعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يُؤَمِّنُون على دعائه دائمًا بعد الصُّبْح والعصر أو في جميع الصلوات (¬1). قال ابن النجار: "وإذا نُقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تَرَكَ كذا كان - أيضًا - من السنة الفعلية؛ كما وَرَدَ أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قُدِّمَ إليه الضَّبُّ فأمسك عنه وتَرَكَ أكله: أمسك الصحابة - رضي الله عنهم - وتركوه حتى بين لهم أنه حلال ولَكنَّه يَعَافه" (¬2). ولكن هذا النوع مقيد بتصريح الراوي بأنه تَرك، أو قيام القرائن عند الراوي الذي يروي عنه أنه تَرك (¬3). ¬

(¬1) انظر: إعلام الموقعين (2/ 389 - 391) والبحر المحيط (4/ 190، 191). (¬2) أخرجه البخاري ص (1134) برقم (2391) ومسلم ص (1041) برقم (1946) وقد تقدم. (¬3) شرح الكوكب المنير (2/ 165).

المطلب الرابع علاقة سنة الترك بالسنة التقريرية

المطلب الرابع علاقة سُنَّةِ التَّرْكِ بالسُّنَّةِ التقريرية قبل الشروع في بيان هذه العلاقة يحسن التمهيد لذلك بالكلام عن السُّنَّة التقريرية من حيث معناها وحجيتها. فأقول: المقصود بتقريره - صلى الله عليه وسلم -: أن يفعل أحد الصحابة - رضي الله عنه - بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلًا أو يقول قولا فيمسك - صلى الله عليه وسلم - عن الإنكار ويسكت، أو يُضَمَّ إلى عدم الإنكار تحسينًا له، أو مدحًا عليه، أو ضحكًا منه على جهة السرور به (¬1). ومن المثلة على ذلك: أكل الضَّبِّ على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) وكإقراره - صلى الله عليه وسلم - إنشاد الشعر المباح (¬3). والأصل في حجية إقراره - صلى الله عليه وسلم - (¬4) هو أنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، إذ سكوته يدل على جواز ذلك الفعل أو القول، بخلاف سكوت غيره، لذلك بَوَّبَ ¬

(¬1) انظر شرح مختصر الروضة وقواعد الأصول ص (39) وشرح الكوكب المنير (2/ 166). (¬2) أخرجه لبخاري ص (1134) برقم (5391) ومسلم ص (1041) برقم (1946) وقد تقدم. (¬3) انظر صحيح البخاري ص (99) برقم (453). (¬4) انظر شرح الكوكب المنير (2/ 194 - 196).

الإمام البخاري في صحيحه بقوله: "باب من رأى تَرْكَ النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة لا من غير الرسول" (¬1). وكذلك فإن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن وجوب إنكار المنكر لا يسقط عنه بالخوف على نفسه لقوله - تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] (¬2). وإنما يكون سكوته - صلى الله عليه وسلم - وعدم إنكاره حُجَّة فيدل على الجواز بشرطين (¬3): أ - أن يعلم - صلى الله عليه وسلم - بوقوع الفعل أو القول، فأما أن يقع ذلك بحضرته، أو في غيبته لكن ينقل إليه أو في زمنه وهو عالم به لانتشاره انتشارًا يبعد معه ألا يعلمه - صلى الله عليه وسلم -. ب - ألَّا يكون الفعل الذي سكت عنه - صلى الله عليه وسلم - صادرًا من كافر لأن إنكاره - صلى الله عليه وسلم - لما يفعله الكفار معلوم ضرورة فالعبرة في فعل أحد المسلمين. قال الطوفي: "نعم شرط كون إقراره حجة، بل شرط كون تَرْكِه الإنكار إقرارًا: علمه بالفعل وقدرته على الإنكار؛ لأنه بدون العلم لا يوصف بأنه مُقِرٌ أو مُنْكِرٌ، ومع العجز يدل على أنه مُقِرٌ كحاله مع الكفار في مكة قبل ظهور كلمته". ¬

(¬1) صحيح البخاري (13/ 323). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (2/ 81). (¬3) انظر المسودة ص (298) وقواعد الأصول ص (39) وشرح الكوكب المنير (2/ 194).

وأما العلاقة بين السُّنَّة التَّرْكِيَّة والسُّنَّة التقريرية فيمكن بيانه في أمرين: الأمر الأول: وجه الاتفاق بينهما: تشترك السنة التركية والسنة التقريرية في وجهين: 1 - أن كُلًّا منهما يدخل تحت السُّنَّة النبوية المُطهرة، ومن هنا فإن كُلًّا منهما طريق يحصل به معرفة الحكم الشرعي. 2 - أن كُلًّا منهما يستند إلى التَّرْكِ؛ فسُنَّة التَّرْكِ من قبيل تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - للفعل، وسُنَّة التقرير من قبيل تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - للقول. الأمر الثاني: وجه الافتراق بينهما: تفترق السُّنَّة التَّرْكِيَّة عن السُّنَّة التقريرية من وجهين: 1 - أن سُنَّة التَّرك تَعُود إلى السُّنَّة الفعلية، بخلاف السُّنَّة التقريرية فإنها قِسْمٌ مستقل. 2 - أن السُّنَّة التقريرية لا بد أن يقترن بها ويحصل معها فعل أو قول من بعض الصحابة - رضي الله عنهم - بخلاف سُنَّة التَّرْكِ فإنها لا يقترن بها فعل ولا قول من الصحابة - رضي الله عنهم - بل الغالب أن يقترن بها تَرْكٌ منهم. 3 - أن السُّنَّة التقريرية تَرْكٌ للقول, إذ هي من قبيل الاستدلال بسكوته - صلى الله عليه وسلم - بخلاف سُنَّة التَّرك فإنها من قبيل تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - للفعل.

المطلب الخامس علاقة سنة الترك بالمصلحة المرسلة

المطلب الخامس علاقة سُنَّة التَّرْك بالمصلحة المُرْسَلة (¬1) قبل الشروع في بيان هذه العَلاقة يحسن الكلام على المصلحة المرسلة من حيث معناها وحُجيتها فأقول: المصلحة لغة: ضد المفسدة، وهي الخير والصواب (¬2). والمصلحة المرسلة عند الأصوليين هي: منفعة لم يشهد الشرع لاعتبارها ولا لإلغائها بدليل خاص (¬3). وتنقسم المصلحة المرسلة بالنظر إلى قُوَّتها إلى ثلاثة أقسام (¬4): فأقواها المصلحة الضرورية ثم الحاجية، ثم التحسينية. والمراد بالمصلحة المرسلة الضرورية، ما كانت المصلحة فيه في محل الضرورة، بحيث يترتب على تفويت ¬

(¬1) انظر الاعتصام (2/ 129 - 135) والإبداع للشيخ علي محفوظ ص (83 - 92). (¬2) انظر مجمل اللغة (1/ 539) والمصباح المنير ص (345). (¬3) انظر روضة الناظر (1/ 413) ومذكرة الشنقيطي ص (168، 169) والمصالح المرسلة للشنقيطي ص (15). (¬4) انظر: المستصفى ص (251) وروضة الناظر (1/ 412 - 414) وقواعد الأحكام (2/ 60) والموافقات (2/ 17) وشرح الكوكب المنير (4/ 159 - 166) والمصالح المرسلة للشنقيطي ص (6).

هذه المصلحة تفويت شيء من الضروريات أو كلها. ومن الأمثلة على ذلك: تولية أبي بكر - رضي الله عنه - الخلافة من بعده لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجمع القرآن الكريم (¬1). وأما شروط العمل بالمصلحة المرسلة فهي (¬2): الأول: ألا تكون المصلحة مصادمة لِنَصٍّ أو إجماع. الثاني: أن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة. الثالث: ألا تكون المصلحة في الأحكام التي لا تتغير، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات والحدود والمقدرات الشرعية، ويدخل في ذلك الأحكام المنصوص عليها والمجمع عليها، وما لا يجوز فيه الاجتهاد. الرابع: ألَّا تُعارضها مصلحة أرجح منها أو مساوية لها وألَّا يستلزم من العمل بها مفسدة أرجح منها أو مساوية لها. وأما العلاقة بين السُّنَّة التَّرْكِيَّة والمصلحة المُرسلة فيمكن بيانه في أمرين: أولاً: وجه الاتفاق بين سُنَّة التَّرْكِ والمصلحة المرسلة: تتفق سُنَّةِ التَّرْك مع المصلحة المرسلة في أن كُلًّا منهما ¬

(¬1) انظر المصالح المرسلة للشنقيطي ص (11، 12) ورحلة الحج إلى بيت الله الحرام ص (175، 176). (¬2) انظر مجموع الفتاوى (11/ 343) وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 330، 331) والمصالح المرسلة للشنقيطي ص (21).

من الأمور التي لم يُنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعلها. ثانيًا: وجه الافتراق بين سُنَّة التَّرْكِ والمَصلحة المُرسلة: تفترق سُنَّة التَّرْك عن المَصلحة المُرسلة من وجوه ثلاثة: 1 - أَنَّ سُنَّة التَّرْك تنفرد بأن عدم وقوعها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّما كان مع قيام المُقتضي لفعلها، وتوفر الداعي، مع انتفاء المانع، بخلاف المَصلحة المُرسلة فإِنَّ عدم وقوعها منه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لأَجْلِ انتفاء المقتضي لفعلها، أو لِأَنَّ المقتضي لفعلها قائم لكن وجد مانع يمنع منه. 2 - أَنَّ سُنَّة التَّرك إنما تعتبر في الأمور التَّعَبُّدية وما يلتحق بها بخلاف المَصلحة المُرسلة؛ فإنَّ عامة النَّظر فيها إنما هو فيما عقل معناه، وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عُرِضَت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل للمَصالح المُرسلة في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية. 3 - أنَّ مُخَالفة سُنَّة التَّرك يدخل تحت معنى الابتداع في الدين، وذلك أنَّ مَنْ تَعَبَّدَ الله بعبادة لم يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مشمول بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (554) برقم (2697) ومسلم ص (914) برقم (1718) واللفظ له.

ومن هنا يتبين أَصْلٌ مُهم: وهو أنَّ سُنَّة التَّرك تتميز بها البدع وتُعرف، وذلك أنَّ مُخالفة سُنَّة التَّرْك بِدْعَة في الدين. بخلاف المَصلحة المُرسلة, فإن مخالفتها لا تندرج تحت معنى الابْتِداع في الدين، وإنَّمَا تندرج تحت باب تعارض المَصالح والمَفاسد، وذلك أن المَصالح المُرسلة قد تقع في رتبة الضروريات، وقد تقع في رتبة الحاجيات أو التحسينات؛ فمن تَرَكَ المَصْلحة المُرسلة وأهدرها فإنه قد وقع في المَفسدة، وهذه المَفسدة تتفاوت بِحَسْبِ هذه الرُّتَب (¬1). ¬

(¬1) انظر: المستصفى ص (251).

الفصل الثاني حجية السنة التركية

الفصل الثاني حُجِّيَّة السُّنَّة التَّرْكِيَّة وفي هذا الفصل ثلاثة مَطالب: المطلب الأول: دلالة السُّنَّة التَّرْكِيَّة. المطلب الثاني: شروط الاحتجاج بالسُّنَّة التَّرْكِيَّة. المطلب الثالث: الأدِلَّة على حُجِّيَّة السُّنَّة التَّرْكِيَّة.

المطلب الأول دلالة السنة التركية

المطلب الأول دلالة السُّنَّة التَّرْكِيَّة سُنَّة التَّرْك قِسْمٌ من أقسام السُّنَّة المُطهَّرة، وهي حُجَّة شرعية مُعتبرة، وذلك أنَّ تَرْكَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشيء دليل على تحريمه؛ فيجب حينئذ تَرْك ما تَرَكَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إلا أن هذا ليس على إطلاقه؛ إذ مجرد تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - للشيء لا يدل على تحريم هذا الشيء المتروك، وإنَّما يُستفاد التحريم من تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - متى انضم إلى هذا التَّرك القرائن المفيدة للتحريم، ولذا فإنَّ الاحتجاج بتَرْكه - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن تتوافر فيه شروط , هذا ما يمكن ذكره إجمالاً، وإليك فيما يأتي تفصيل ذلك في أصول خمسة: الأصل الأول: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا تَرَكَ أمرًا من الأمور فإن هذا التَّرك مَحَلٌ للاقتداء والتَّأَسِّي به - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - جُزْء من سُنَّته - صلى الله عليه وسلم - إذ سُنَّته تَعُمُّ جميع أفعاله وتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم -. وقد دَلَّ على ذلك عُموم قوله - تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

ويدخل تحت معنى التَّأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تَرْكِه أمور ثلاثة: الأول: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تَرْكِ ما تَرَكَه: قال السمعاني: "إذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من الأشياء وجب علينا متابعته فيه (¬1). ووجوب مُتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تَرْكِه ليس على إطلاقه، وإنما يشترط فيه أن يقع هذا التَّرْك منه - صلى الله عليه وسلم - مع وجود المُقتضي لفعله في زمنه - صلى الله عليه وسلم - مع انتفاء المانع، كما سيأتي. الثاني: مُوافقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قصده في هذا التَّرْكِ: إذ لا يكفي في التَّأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مجرد تَرْك ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل لا بد أن يضم إلى هذا التَّرْك موافقته - صلى الله عليه وسلم - في قَصْدِه - صلى الله عليه وسلم - من هذا التَّرْك. أمَّا إذا تَرَكَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرًا من الأمور بحكم الاتفاق دون قصد للتَّرْكِ، أو وَقَعَ التَّرك منه - صلى الله عليه وسلم - دون أن يقصد العبادة بهذا التَّرك؛ فمتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا التَّرْكِ بقصد العبادة لا يكون من التَّأسي به - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد العبادة (¬2). قال ابن النَّجَّار: وأمَّا التَّأسي في التَّرْك: فهو أنّه تترك ما تركه لأجل أن تَرَكَه (¬3). ¬

(¬1) قواطع الأدلة (2/ 190). (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (1/ 280) (10/ 409). (¬3) شرح الكوكب المنير (2/ 196).

الثالث: الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تحصيل معاني تَرْكِه وتحقيق حِكَمِه: ومن الأمثلة على ذلك: أنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - قد يترك فعل أمر من الأمور من أجل علة معينة؛ كَتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - قيام رمضان جماعة (¬1) , رحمةً بأُمَّتِه وشفقة عليهم فالمتعين على المُفْتِي وهو قائم مقام النبي في الأمة، أن يسلك في فتواه مَسلك الرَّحمة بالخلق والشَّفَقة عليهم، وأن يقتدي بمنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيانه للشَّرِيعة. قال الشاطبي: "لا ينبغي لمن اِلْتَزم عبادة من العبادات البَدَنِيَّة النُّدْبِيَّة أن يُواظب عليها مُوَاظبة يَفهم الجاهل منها الوجوب إذا كان منظورًا إليه مرموقًا، أو مَظَّنَّة لذلك؛ بل الذين ينبغي له أن يدعها بعض الأوقات حتى يُعلم أنها غير واجبة؛ لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه في أوقاته، بحيث لا يتخلف عنه". كما أن خاصية المَنْدُوب عدم الالتزام، فإذا التزمه فَهِمَ النَّاظر منه نفس الخاصية التي للواجب؛ فحمله على الوجوب، ثم استمر على ذلك فَضَلَّ .. ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المِنْبَر ثم سجد وسجد معه الناس قرأها في كرة أخرى فلما قرب من ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (1480) برقم (7290) وقد تقدم.

موضعها تهيأ الناس للسجود فلم يسجدها، وقال: "إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء" (¬1). ومن الأمثلة على ذلك: تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - نقض الكعبة ثم بنائها على قواعد إبراهيم (¬2) تأليفًا للقلوب فيجدر بالمفتي أن يقتدي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في فتواه بمراعاة المآل والنظر إلى ثاني الحال. ومن هنا فإن عبد الله بن الزبير لمَّا وُلِّيَ الحجاز قام بمد الكعبة على الأركان الأربعة، ثم إن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان رَدَّ الكعبة على ما كانت عليه. ثم لما جاء بعض خلفاء بني العباس استشار الإمام مالك في ذلك فقال: "أُنْشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت مَلْعَبَةً للملوك, لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلَّا غيره؛ فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه" (¬3). الأصل الثاني: أن تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - لأمر من الأمور يدل على مشروعية تَرْكِه وعلى عدم وجوبه في أدنى الدَّرجات. قال التلمساني: "ويلحق بالفعل في الدلالة: الترك؛ فإنه كما يستدل بفعله - صلى الله عليه وسلم - على عدم التحريم يستدل بتركه على عدم ¬

(¬1) الموافقات (3/ 332 - 333) وأثر عمر - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في صحيحه ص (217) برقم (1077). (¬2) أخرجه البخاري ص (704) برقم (3368) وقد تقدم. (¬3) انظر السيرة الحلبية (1/ 295).

الوجوب" (¬1). وبهذا يتبين أنَّ تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على تحريم هذا الشيء المتروك. وهذا كله إنما يستقيم إذا خلا تَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - من القرائن. وهذه قضية في غاية الأهمية؛ فإنَّ تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - من حيث هو يحتمل - وهذا هو الأصل - جواز الترك, وهو الإباحة ويحتمل - أيضًا - وجوب الترك، وهو التحريم. ومن هنا فلا يسوغ لأحد أن يجعل من مجرد تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - لأمر من الأمور دليلًا على تحريم هذا الأمر المتروك، كما لا يسوغ لأحد أن يجعل من مجرد تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - لأمر من الأمور دليلًا على إباحة هذا الأمر المتروك. إلا أن تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - قد تقترن به قرائن تمنع من الاحتجاج به فيكون هذا التَّرك دليلًا على الإباحة. وقد تقترن بتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - قرائن تجعل من هذا التَّرك حُجَّة، فيكون هذا التَّرك دليلًا على التحريم، ويتعين إذ ذاك متابعته - صلى الله عليه وسلم - في هذا التَّرك. وسيأتي بيان هذه القرائن في الأصل الرابع والخامس. ثُمَّ إنَّ تَرْكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يكون حُجَّة يجب متابعته فيه لا بد أن يتوافر فيه شرطان: ¬

(¬1) مفتاح الوصول ص (580).

الشرط الأول: أن يترك - صلى الله عليه وسلم - فعل أمر من الأمور مع وجود السبب المقتضي لهذا الفعل في عهده - صلى الله عليه وسلم -. والشرط الثاني: أن يترك - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا الأمر مع انتفاء الموانع وعدم العوارض. وسيأتي تفصيل هذه الشروط إن شاء الله في المطلب الآتي. الأصل الثالث: أن تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - ليس قِسما واحدًا بل تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - كأفعاله - صلى الله عليه وسلم - فإنها على أقسام فمنها التَّرك الجبلي والعادي والتَّرك الخاص به - صلى الله عليه وسلم - والتَّرك المصلحي، والتَّرك البياني، وقد تقدم بيان هذه الأقسام في الفصل السابق. الأصل الرابع: أن تَرْك النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تقترن به قرائن تمنع من الاحتجاج به، وتفيد عدم مشروعية الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في هذا التَّرك. ومن الأمثلة على هذه القرائن: 1 - أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الفعل لمانع يرجع إلى الجِبِّلة أو العادة؛ كتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - أكل الضَّبِّ لكونه لم يكن بأرض قومه (¬1). 2 - أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الفعل لأمر يختص به - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه يناجي الملائكة وذلك كتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - أكل الثَّوم (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (1134) برقم (5391) ومسلم ص (1041) برقم (1946) وقد تقدم. (¬2) أخرجه البخاري ص (1492) برقم (7359) ومسلم ص (269) برقم (564) وقد تقدم.

3 - أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الفعل تحقيقًا لمصلحة شرعية؛ كتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - تأليفًا لقلوب أهل مكة (¬1). 4 - أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الفعل لعدم القدرة عليه، بسبب حدوث مسائل مستجدة وقعت بعد عصره - صلى الله عليه وسلم - كتعدد الطوابق في الطواف والسعي ورمي الجمرات. والضابط لهذه القرائن: أن يحصل هذا الترك منه - صلى الله عليه وسلم - لأجل وجود مانع يمنعه من الفعل، أو من أجل انتفاء سبب هذا الفعل المقتضي له. الأصل الخامس: أنَّ تَرْك النبي قد تقترن به قرائن تجعل من هذا التَّرك حجة قاطعة؛ فيتعين إذ ذاك متابعته - صلى الله عليه وسلم - في هذا الترك. وأقرب هذه القرائن أن يقترن بتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - تَرْكِ السلف الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وتابعيهم. والأصل في ذلك أن كل عبادة اتفق على تَرْكِها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة من بعده فهي بلا شك بدعة ضلالة، ليست من الدين في صدر ولا ورد. فإذا تواطأ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة من بعده على تَرْكِ عبادة فهذا دليل قاطع على أنها بدعة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (704) برقم (3368) وقد تقدم.

ذلك أن المانع من فعل عبادة من العبادات إن وُجِدَ في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يمكن أن يوجد في حق السلف من بعده؛ إذ لا يمنعهم عن فعل العبادات مانع، ولا يشغلهم عن بيان الدين شاغل. وذلك أن السكوت عن حكم الفعل أو التَّرْك - إذا وُجِدَ المعنى المقتضى له وانتفى المانع منه - إجماع من كل ساكت على أنْ لا زائد على ما كان؛ إذ لو كان ذلك لائقًا شرعًا أو سائغًا لفعلوه، فهم كانوا أحق بإدراكه والسبق إلى العمل به. ومن هنا يتبين أن كل عبادة من العبادات, ترك فعلها السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم أو نقلها أو تدوينها في كتبهم أو التعرض لها في مجالسهم فإنها تكون بدعة بشرط أن يكون المقتضي لفعل هذه العبادة قائماً والمانع منه منتفيًا (¬1). ومِنْ هنا يظهر وجه التقارب والتلازم بين قاعدة السُّنَّة التَّرْكِية وقاعدة تَرْك السلف. ويعتبر في العمل بقاعدة تَرْك السلف جميع ما يُذْكر من شُروطٍ في حُجِّيِّة تَرْك النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء بسواء. ومن الأمثلة على التلازم بين تَرْك النبي - صلى الله عليه وسلم - وتَرْك السلف: ¬

(¬1) انظر: الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة ص (9) والباعث ص (47).

1 - صلاة الرَّغَائب المُبْتَدعة (¬1) وقد اعتمد العِزَّ بن عبد السلام في إنكار هذه الصلاة وبيان بدعيتها على قاعدة تَرْك السلف. قال_ رحمه الله: "ومما يدل على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم ممن دَوَّن الكُتُب في الشريعة مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسُّنَّن لم يُنقل عن أحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة، ولا دونها في كتابه، ولا تَعَرَّضَ لها في مجالسه. والعادة تحيل أن تكون مثل هذه سُنَّة وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين وقدوة المؤمنين، وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسُّنَن والحلال والحرام" (¬2). ¬

(¬1) وهي اثنتا عشرة ركعة، تصلي بين العشائين ليلة أول جمعة في شهر رجب بكيفية مخصوصة يفصل بين كل ركعتين بتسليمه، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، وسورة القدر ثلاث مرات، وسورة الإخلاص اثنتي عشرة مرة. وكذا صلاة ليلة النصف من شعبان، فإنها تسمى بصلاة الرغائب، وهي مائة ركعة كل ركعتين بتسليمة يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة. انظر تنزيه الشريعة المرفوعة (2/ 89 - 94) والإبداع للشيخ علي محفوظ ص (58). (¬2) الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة ص (9) وانظر: الباعث ص (47).

2 - الاحتفال بأيام الإسلام ووقائعه المشهودة واتخاذها أعيادًا (¬1). فمن ذلك: الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم ينقل عن أحد من السلف فضلا عن فعله. قال ابن تيمية: "وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتُّبِع وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه" (¬2). وقال أيضًا: "فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف - رضي الله عنه - أحق به منا، فإنهم كانوا أشدَّ محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سُنَّته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بُعِثَ به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان" (¬3). ¬

(¬1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 614). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 614، 615). (¬3) انظر المصدر السابق (2/ 615).

المطلب الثاني شروط الاحتجاج بالسنة التركية

المطلب الثاني شروط الاحتجاج بالسُّنَّة التَّرْكِية (¬1) الشرط الأول: أن يقع هذا التَّرْكُ منه - صلى الله عليه وسلم - مع وجود السبب المتقضي لهذا الفعل في عهده - صلى الله عليه وسلم - وذلك بأن تقوم الحاجة إلى فعله ويتركه - صلى الله عليه وسلم - , فَتَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - حينئذ لهذا الفعل يُعُّد سُنَّة يجب الأخذ بها وتجب متابعته - صلى الله عليه وسلم - في تَرْكِ هذا الفعل ولكن ذلك بشرط انتفاء الموانع كما سيأتي في الشرط الثاني. أمَّا إن انتفى السبب المقتضي ولم يوجد هذا السبب الموجب لهذا الفعل، فإنَّ تَرْكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ لا يكون سُنَّة؛ لأنَّ تَرْكَه كان بسبب عدم وجود المقتضي إذ لو وُجِدَ المقتضي لفعله - صلى الله عليه وسلم -. ومن الأمثلة على ذلك: تَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - قتال مانعي الزكاة فقط؛ إذ إن هذا الترك كان لعدم وجود السبب المقتضي، فلمَّا فعل أبو بكر - رضي الله عنه - ذلك وقاتل مانعي الزكاة فقط (¬2) لم يكن مخالفًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى (26/ 172) واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 591 - 597). (¬2) انظر صحيح البخاري ص (1406) برقم (6924، 6925).

تنبيه: احتج بعضُهم بذلك في تحسين بعض البدع - كالاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - وبيوم هجرته، وتخصيص ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بالمزيد من الذِّكر والقيام - حيث قال: إنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل بعض العبادات، وذلك لأن المقتضي في حقه - صلى الله عليه وسلم - منتف؛ لكونه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومعلوم أنَّ تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - كمَّا تقرر لا يكون حُجَّة إلا بشرط قيام المقتضي، فهو - صلى الله عليه وسلم - بخلاف أمته - ولا سيما المتأخرين - فإن المقتضي في حقهم قائم ثابت، وذلك لعظم تقصيرهم وكثرة ذنوبهم. والجواب على ذلك: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بَيَّنَ بُطْلَان هذه الدعوى وذلك في قصة الرَّهْط الثلاثة الذين سألوا عن عبادته - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا أُخبروا بها كأنهم تَقَالُّوها, فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له» (¬1). وبذلك يُعلم أن الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ الغاية القصوى في تقوى الله والحرص على التقرب إليه بأنواع التعبدات والطاعات. وبهذا يتقرر أصل مهم في هذا الباب، وهو: أن ¬

(¬1) أخرجه البخاري ص (1070) برقم (5063) وقد تقدم.

المقتضي لفعل عمل ما في باب العبادات متى ثبت في حق الأمة فثبوته في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى وأَتَم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أتقى هذه الأمة لله على الإطلاق. ومثل هذا يُقَال - أيضًا - في حق السلف الصالح، فإن المعنى المقتضي للإحداث - وهو الرغبة في الخير والاستكثار من الطاعة - كان أَتَمُّ في السلف الصالح؛ لأنهم كانوا أحقُّ بالسبق إلى الفضل وأرغب في الخير ممن أتى بعدهم. وهذا بخلاف غير العبادات من الأعمال، فإن المقتضي لفعلها قد يوجد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حق السلف، وقد لا يوجد (¬1). الشرط الثاني: أن يقع هذا التَّرْك منه - صلى الله عليه وسلم - مع تمكنه - صلى الله عليه وسلم - من الفعل، ويحصل ذلك بانتفاء الموانع وعدم العوارض؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد يَتْرُك فعلا من الأفعال - مع وجود المقتضي له - بسبب وجود مانع يمنع من فعله. ومن الأمثلة على ذلك: تركه - صلى الله عليه وسلم - جمع القرآن (¬2) فإن المانع من جمعه كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الوحي لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو جُمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت فلما استقر ¬

(¬1) انظر: الاعتصام (1/ 368). (¬2) انظر صحيح البخاري ص (1056) برقم (4986).

القرآن بموته أَمِنَ الناس من زيادة القرآن ونقصه فكان جمعه داخلا تحت معنى سنته - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا تَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - قيام رمضان مع أصحابه - رضي الله عنه - في جماعة بعد ليالٍ وعلل ذلك بخشيته أن يُفرض عليهم (¬1) فلما كان في عهد عمر - رضي الله عنه - جمعهم على قارئ واحد (¬2) ولم يكن هذا الاجتماع بهذه الهيئة مخالفًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل هو راجع إلى العمل بالسُّنَّة. تنبيه: احتج بعضهم بذلك في تحسين بعض البدع - كالاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - وبيوم هجرته، وتخصيص ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بالمزيد من الذكر والقيام - حيث قال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربما لم يفعل بعض العبادات وآثر تَرْكها مع قيام المقتضي لفعلها؛ رحمة منه - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقة عليهم؛ كما تَرَكَ - صلى الله عليه وسلم - الاجتماع في صلاة التراويح خشية أن يُكْتب على أمته، فهذا هو المانع الذي لأجله تَرَكَ - صلى الله عليه وسلم - فعل بعض العبادات، ومعلوم أنَّ تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - مع وجود المانع - كما تقرر - لا يكون حجة. والجواب: أن هذا يفتح باب الإحداث في الدين على ¬

(¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه ص (1480) برقم (7290) وقد تقدم. (¬2) انظر صحيح البخاري ص (400) برقم (2010).

الإطلاق، فمن زاد في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات أو صيام شهر رمضان أو الحج أمكنه أن يقول: هذه زيادة مشروعة، وهي عمل صالح والرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما تَرَكَها رحمةً بأمته. بل الصواب أن ينظر فيما تَرَكَه - صلى الله عليه وسلم - من العبادات: هل تَرَكَه كذلك صحابته من بعده - رضي الله عنهم - والتابعون لهم؟ فإن كانت هذه العبادة قد تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - , ثم لما توفي فعلها الصحابة - رضي الله عنهم - من بعده عُلم أنَّ تَرْكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لأجل مانع من الموانع؛ كَتَرْكِه - صلى الله عليه وسلم - صلاة التراويح جماعة. أمَّا إذا تواطأ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم - من بعده على تَرْكِ عبادةٍ فهذا دليل قاطع على أنها بدعة.

المطلب الثالث الأدلة على حجية السنة التركية

المطلب الثالث الأدلة على حُجِّيَّة السُّنَّة التَّركية تتنوع الأدلة الدالة على حُجَّيَّة سُنَّة التُّرْكِ إلى أنواع ثلاثة. أولاً: الأدلة الدَّالة على حُجَّيَّة أفعاله - صلى الله عليه وسلم -: من المقرر أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - قِسْمٌ من أقسام السُّنَّة النبوية، وهذه الأفعال تشمل ما قصد - صلى الله عليه وسلم - إلى فعله وما قصد إلى تَرْكِه. والأدلة كثيرة على وجوب الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - ومتابعته في أفعاله وتروكه (¬1) فمن ذلك: أ - قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} [الأحزاب: 21]. قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله" (¬2). ب - وقوله تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ¬

(¬1) انظر شرح الكوكب المنير (2/ 190). (¬2) تفسر ابن كثير (3/ 483).

ثانيا

الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. قال ابن تيمية: "وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل؛ فإذا فعل فعلًا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصَّصناه بذلك (¬1). ثانيًا: ما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - وعن أئمة العلم والدين من الاحتجاج بسُنَّة التَّرْكِ والعمل بها في غير موضع فمن ذلك: قال حذيفة - رضي الله عنه: «كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تتعبدوا بها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالا فاتقوا الله يا معشر القُرَّاء، خذوا طريق من كان قبلكم» (¬2). وقال الإمام مالك: «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها» (¬3). وقال الإمام الشافعي: «كل من تكلم بكلام في الدين أو في شيء من هذه الأهواء ليس له فيه إمام متقدم من النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (1/ 280). (¬2) انظر الأمر بالاتباع ص (62) وأخرج البخاري نحوه (13/ 250) برقم (7282). (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 718).

وأصحابه فقد أحدث في الإسلام حدثًا» (¬1). وقال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد يسأله: "خبِّرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه: أشيء دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "لا" قال: "ليس يخلو أن تقول: علموه أو جهلوه؛ فإن قلت علموه وسكتوا عنه وسعنا وإياك من السكوت ما وسع القوم، وإن قلت جهلوه وعلمته أنت فيا لكع بن لكع يجهل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - شيئًا وتعلمه أنت وأصحابك" (¬2). وبوَّب الإمام ابن خزيمة في صحيحه فقال: "باب ترك الصلاة في المصلي قبل العيدين وبعدها اقتداء بالنبي واستنانًا به" (¬3). وقال السمعاني: "إذا ترك الرسول شيئًا وجب علينا متابعته فيه" (¬4). وقال الطرطوشي في إبطاله لبعض البدع: "ولو كان هذا لشاع وانتشر وكان يضبطه طلبة العلم والخلف عن السلف فيصل ذلك إلى عصرنا، فلما لم ينقل هذا عن أحد ممن يعتقد علمه ولا ممن هو في عداد العلماء؛ عُلم أن هذه حكاية العوام والغوغاء" (¬5). ¬

(¬1) صون المنطق والكلام ص (150). (¬2) انظر الشريعة ص (63). (¬3) (2/ 345). (¬4) قواطع الأدلة (2/ 190). (¬5) الحوادث والبدع ص (74).

وقال ابن تيمية في إنكاره لبعض البدع: "ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعًا مستحبًا يثيب الله عليه لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بذلك، ولكان يعلم أصحابه ذلك وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم. فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله (¬1). وسئل تقي الدين السبكي عن بعض المحدثات فقال: "الحمد لله هذه بدعة لا يَشُكُ فيها أحد، ولا يرتاب في ذلك ويكفي أنها لم تُعرف في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن أصحابه ولا عن أحد من علماء السلف" (¬2). وقال ابن القيم: "فإن تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - سُنَّة كما أن فعله سُنَّة، فإذا استحببنا فعل ما تَرَكه كان نظير استحبابنا تَرك ما فعله، ولا فرق" (¬3). وقال الشاطبي: "لأن تَرْك العمل به من النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع عمره، وتَرْك السَّلف الصالح له على توالي أزمنتهم قد تقدم أنه نص في التَّرك، وإجماع مِنْ كل مَنْ ترك؛ لأن عمل ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 798). (¬2) فتاوى السبكي (2/ 549). (¬3) إعلام الموقعين (2/ 390).

ثالثا

الإجماع كنصه (¬1). وقال الزركشي: "لأن المتابعة كما تكون في الأفعال تكون في التُّروك (¬2). وقال ابن النجار: "وإذا نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تَرَك كذا كان - أيضًا - من السُّنَّة الفعلية" (¬3). وقال الشوكاني: "تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - للشيء كفعله له في التأسي به فيه" (¬4). ثالثًا: أن عدم الاحتجاج بسُنَّة التَّرك وإهدار العمل بها والغفلة عنها يلزم منه الوقوع في مفاسد شرعية ومحاذير دينية فمن ذلك: المفسدة الأولى: القول بعدم قيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بواجب التبليغ وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يُعْلِّم أمته بعض الدين. مثال ذلك: أن اعتقاد الأذان للتراويح عبادة مشروعة والعمل بها يلزم منه القول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يُبَيِّنْ ذلك لأحد من أمته. المفسدة الثانية: القول بضياع بعض الدين، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل هذه العبادة وبلغها للأمة، لكن الصحابة رضي الله عنه كتموا نقل ذلك. ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 365). (¬2) البحر المحيط (4/ 191). (¬3) شرح الكوكب المنير (2/ 165). (¬4) إرشاد الفحول ص (42).

المفسدة الثالثة: فتح باب الابتداع والإحداث في الدين عامة، وفي باب العبادات خاصة دون قيد ولا شرط. فمن زاد في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات أو صيام شهر رمضان أو الحج أمكنة أن يقول: هذه زيادة مشروعة وهي عمل صالح. قال ابن القيم: "فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ فهذا سؤال بعيد جدًا عن معرفة هديه وسُنَّته وما كان عليه. ولو صَحَّ هذا السؤال وقُبِلَ لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح وقال: من أين لكم أنه لم يُنْقَل؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم يُنْقَل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته، وقال: من أين لكم أنه لم يُنْقَل؟ واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقاك: من أين لكم أن إحياءهما لم يُنَقَل؟ وانفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى بدعة: من أين لكم أنَّ هذا لم يُنْقَل؟ "

ومن هنا يظهر لكل ذي بصيرة أن العمل بالسُّنَّة التَّركية أمر متعين شرعًا، وهو ضرورة دينية لا بد من المصير إليها. وذلك أن الاحتجاج بسُنَّة التَّرك مَبْنِي على مقدمات ثابتة راسخة (¬1). المقدمة الأولى: كمال هذه الشريعة واستغناؤها التام عن زيادات المبتدعين واستدراكات المستدركين فقد أتَمَّ الله هذا الدين فلا ينقصه أبدًا ورضيه فلا يسخطه أبدًا (¬2). ومن الأدلة على هذه المقدمة: قوله - تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأَيْمُ الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء» (¬3). المقدمة الثانية: بيانه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الدين وقيامه بواجب التبليغ خير قيام، فلم يُتْرَك أمرًا من أمور هذا الدين صغيرًا كان أو كبيرًا إلا وبلغه لأمته. ومن الأدلة على ذلك: قوله - تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا ¬

(¬1) انظر في هذه المقدمات: إعلام الموقعين (4/ 375 - 377) ومعارج القبول (2/ 346 - 357). (¬2) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 14). (¬3) أخرجه ابن ماجه في سننه (1/ 4) برقم (5) وصححه الألباني انظر السلسلة الصحيحة (2/ 308) ص (688).

أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وقد امتثل - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأمر، وقام به أَتَمّ القيام. وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل، في خطبته يوم حُجْة الوداع فقال - صلى الله عليه وسلم - «ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم، قال: «اللهم فاشهد» (¬1). المقدمة الثالثة: حفظ الله لهذا الدين وصيانته من الضياع، فهَيَّأ الله له من الأسباب والعوامل التي يسرت نقله وبقاءه حتى يومنا هذا وإلى الأبد إن شاء الله - تعالى. ومن الأدلة على ذلك قوله - تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. والواقع المشاهد يصدِّق ذلك؛ فإن الله قد حفظ كتابه وسُنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ووفق علماء المسلمين إلى قواعد مصطلح الحديث، وأصول الفقه، وقواعد اللغة العربية. ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 80) وانظر خطبة الوداع في صحيح البخاري ص (348) برقم (1741).

الفصل الثالث أثر الاحتجاج بالسنة التركية

الفصل الثالث أثر الاحتجاج بالسُّنَّة التَّرْكِية وفي هذا الفصل أربعة فروع: الفرع الأول: أثر سُنَّة التَّرك في تخصيص العموم. الفرع الثاني: أثر سُنَّة التَّرك في معرفة مقاصد الشريعة. الفرع الثالث: أثر سُنَّة التَّرك في إبطال البدع والرد على المبتدعة. الفرع الرابع: أثر سُنَّة التَّرك في المسائل المعاصرة.

الفرع الأول أثر سنة الترك في تخصيص العموم

الفرع الأول أثر سُنَّة التَّرك في تخصيص العموم الأصل في ذلك: أن سُنَّة التَّرك دليل خاص يقدم على كل عموم. وإليك توضيح ذلك بالأمثلة: المثال الأول: تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - للأذان في العيدين (¬1)؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَه مع وجود المقتضي لفعله في عهده وهو إقامة ذكر الله ودعاء الناس إلى الصلاة. فهذا التَّرْك دليل خاص يقدم على العمومات الدَّالة على فضل ذكر الله، كقوله _تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] والأذان من الذِّكر الذي يدخل تحت هذا العموم. قال ابن تيمية تعليقًا على هذا المثال: "فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزوال المانع لو كان خيرًا. فإنَّ كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/ 298) برقم (1147) وصححه النووي، وقد تقدم.

فهذا التَّرْك سُنَة خاصة، مقدمة على كل عموم وكل قياس (¬1). المثال الثاني: إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا العشر، وما سُقِي بالنضح نصف العشر» (¬2) لأن عدم نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الزكاة منها يُنَزَّل كالسُنَّة القائمة في أن لا زكاة فيها. المثال الثالث: تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - استلام الرُّكنين الشاميين، وغيرهما من جوانب البيت. وقد ورد في ذلك أن ابن عباس ومعاوية - رضي الله عنهما - طافا بالبيت فاستلم معاوية - رضي الله عنه - الأركان الأربعة, فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين, فقال معاوية - رضي الله عنه: ليس من البيت شيء متروك, فقال ابن عباس - رضي الله عنهما: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فرجع إليه معاوية - رضي الله عنه (¬3). ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 597). (¬2) أخرجه البخاري ص (301) برقم (1483). (¬3) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 798 - 799).

الفرع الثاني أثر سنة الترك في معرفة مقاصد الشريعة

الفرع الثاني أثر سُنَّة التَّرك في معرفة مقاصد الشريعة عَدَّ الإمام الشاطبي سُنَّة التَّرْك من الطرق التي تُعْرَف بها مقاصد الشريعة, فقال - رحمه الله تعالى: "والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع التسبب أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له" (¬1). وقد بين الشاطبي في هذا المقام أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين: (¬2). الضرب الأول: أن يسكت الشارع عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يُقَدَّر لأجله. ومن الأمثلة على ذلك: تلك النوازل التي حدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك, فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها وما أحدثه السلف الصالح؛ كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر ذكره، في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ¬

(¬1) الموافقات (2/ 409). (¬2) انظر: الموافقات (2/ 409 - 410).

تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها. فهذا الضرب يندرج تحت مقاصد الشريعة، وهذا ما يُعْرف باسم المصالح المرسلة. الضرب الثاني: أن يسكت الشارع عنه وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان. فهذا الضرب يعتبر فيه سكوت الشارع كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص؛ لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودًا ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحًا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه. وقد مَثَّل الشاطبي لهذا الضرب بقوله: "وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل، وأنها بدعة منكرة؛ من حيث وجد في زمانه - عليه الصلاة والسلام - المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليراجعا كما كان أول مرة، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دَلَّ على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها. وهو أصل صحيح إذا اعْتُبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها، ودَلَّ على أن وجود المعنى المقتضي

مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودًا قبل، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل" (¬1). ¬

(¬1) الموافقات (2/ 414).

الفرع الثالث أثر سنة الترك في إبطال البدع والرد على المبتدعة

الفرع الثالث أثر سُنَّة التَّرْك في إبطال البدع والرَّد على المُبتدعة وهذا يشمل البدع العملية والعلمية. فمن البدع العملية (¬1): التلفظ بالنِّيَّة عند الدخول في الصلاة. والأذان لغير الصلوات الخمس. والصلاة عقب السعي بين الصفا والمروة. قال ابن تيمية: "فأمَّا ما تَرَكَه أي النبي - صلى الله عليه وسلم - من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعاً لفعله أو أَذِنَ فيه، ولفعله الخلفاء بعده والصحابة؛ فيجب القطع بأن فعله بدعة، وضلالة ويمتنع القياس في مثله (¬2). ومن البدع العلمية: كل ما لم يرد في الكتاب والسنة ولم يؤثر عن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين من الاعتقادات (¬3). ¬

(¬1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 591 - 597) ومجموع الفتاوى (6/ 172) والاعتصام (1/ 361) والإبداع للشيخ علي محفوظ ص (34/ 45). (¬2) مجموع الفتاوى (26/ 172). (¬3) انظر أحكام الجنائز ص (242).

ومن الأمثلة على ذلك: - علم الكلام (¬1): قال الإمام مالك: "لو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل" (¬2). وقال ابن أبي العز: "وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع، ويُعرضون عن الأمر المشروع" (¬3). أ - فمن المسائل المبتدعة: القول بأن أول واجب على المكلف هو النظر أو القصد إلى النظر (¬4). ب - ومن الدلائل المبتدعة: الاستدلال بطريقة الأعراض وحدوثها على إثبات الصانع (¬5). قال الخَطَّابي: "واعلم أن الأئمة الماضين وأولي العلم ¬

(¬1) المراد بالكلام الذي ذمَّه أئمة السلف ونهوا عن الخوض فيه: الكلام في الدين على غير طريقة المرسلين. ومن هنا أمكن تعريف علم الكلام بأنه إثبات أمور العقائد بالأدلة العقلية والطرق الجدلية مع الإعراض عما في القرآن والسنة من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين. انظر: مجموع الفتاوى (11/ 335، 336) (12/ 460، 461) (19/ 163). (¬2) صون المنطق والكلام ص (57) والأمر بالاتباع ص (70). (¬3) شرح العقيدة الطحاوية ص (593). (¬4) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص (74، 75). (¬5) انظر: درء التعارض ص (308 - 310) ومجموع الفتاوى (5/ 542 - 544).

من المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر عجزًا عنه، ولا انقطاعًا دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة، وقد كانت هذه الفتن قد وقعت في زمانهم وظهرت, وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لمَّا تخوفوه من فتنتها وعلموه من سوء عاقبتها وسيء مغبتها. وقد كانوا على بينة من أمورهم، وعلى بصيرة من دينهم؛ لما هداهم الله بنوره وشرح صدورهم بضياء معرفته فرأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنَّة وبيانها غناء ومندوحة مما سواها، وأن الحجة قد وقعت وتمت بهما وأن العلة والشبهة قد أزيحت بمكانهما. فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم والطاعنون في الدين بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ودلائل العقل؛ لم يقووا عليهم ولم يظهروا في الحجاج عليهم. فكان ذلك ضِلَّة من الرأي وخدعة من الشيطان. فلو سلكوا سبيل القصد ووقفا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا بردِّ اليقين ورَوْح القلوب, ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور وأضاءت فيها مصابيح النور" (¬1). ¬

(¬1) انظر: درء التعارض (7/ 282 - 283، 286 - 287) وصون المنطق والكلام ص (93، 94).

ومن الأمور المبتدعة: التعرض للألفاظ المجملة بالإثبات أو النفي بإطلاق؛ كلفظ الجهة والجسم والعرض. قال ابن تيمية: "فلم ينطق أحد منهم - أي السلف - في حق الله بالجسم لا نفيًا ولا إثباتًا ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقًا ولا تبطل باطلاً, بل هذا هو من الكلام المُبْتَدع الذي أنكره السَّلف والأئمة" (¬1). أما طريق السلف: في التعامل مع الألفاظ المجملة فقد بينها ابن أبي العز بقوله: "والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي: فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني. وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كان معنى صحيحًا قُبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد. والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يُخاطَب بها ونحو ذلك" (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 81). (¬2) شرح العقيدة الطحاوية ص (239) وانظر منه ص (109، 110).

وبهذا يعلم أن من" السُّنَّة اللازمة: السكوت عما لم يرد فيه نص عن الله ورسوله أو يتفق عليه المسلمون على إطلاقه، وترْك التعرض لها بنفي أو إثبات، فكما لا يثبت إلا بنص شرعي فكذلك لا ينفى إلا بدليل سمعي" (¬1). وتظهر لقاعدة السُّنَّة التَّركية أهمية بالغة في إبطال البدع والرد على أهلها؛ حيث اعتمد أئمة السلف - كثيرًا - على هذه القاعدة في مُنَاظراتهم للمبتدعة والرد عليهم. فمن ذلك: أن الإمام الشافعي قال لبشر المريسي: "أخبرني عما تدعو إليه؟ أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنَّة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال" فقال بشر: "لا إنه لا يسعنا خلافه" فقال الشافعي: "أقررت بنفسك على الخطأ ... " (¬2). وقال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد يسأله: "خبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه: أشيء دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: «لا ...» , قال: "ليس يخلو أن تقول: علموه أو جهوله؛ فإن قلت علموه وسكتوا عنه وسعنا وإياك من السكوت ما وسع القوم، وإن قلت: جهلوه وعلمته أنت فيا لكع بن لكع يجهل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - شيئًا وتعلمه أنت وأصحابك" (¬3). ¬

(¬1) عقيدة الحافظ عبد الغني ص (113). (¬2) انظر صون المنطق والكلام ص (30). (¬3) انظر الشريعة ص (63).

الفرع الرابع أثر سنة الترك في المسائل المعاصرة

الفرع الرابع أثر سُنَّة التَّرك في المسائل المعاصرة وتحت هذا الفرع أمثلة ثلاثة: المثال الأول: وضْع أعلام لحدود حرم المدينة النبوية: المتأمل لما دونه المؤرخون للمدينة رُبَّمَا يتوقف حيرة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم الخلفاء من بعده تركوا نصب أعلام لحدود حرم المدينة؛ إذ لم يُنْقَل شيء من ذلك عنهم، اللهم إلا ما رواه الطبراني وغيره - وهو خاص بالحِمَى دون الحرم - عن كعب بن مالك - رضي الله عنه: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم على حدود الحِمَى" (¬1). وهذا بخلاف الحرم المكي؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده قد تتابعوا على تجديد أعلامه، ولا تزال أعلامه شامخة شاخصة إلى يومنا هذا (¬2). فهل يسوغ اعتبار تركه - صلى الله عليه وسلم - نصب أعلام لحدود الحرم المدني سُنَّة نبوية يقتدي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه؛ فيجب أن نترك ما تركه؟ ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/ 98) برقم (194). (¬2) انظر أخبار مكة للفاكهي (2/ 273 - 276) وأخبار مكة للأزرقي (2/ 128 - 130) وللاستزادة راجع كتاب: الحرم المكي والأعلام المحيطة به للدكتور عبد الملك بن دهيش.

الجواب: أن السبب المقتضي لوضع أعلام تميز حدود حرم المدينة ويعرف بها ما يدخل في حد الحرم وما لا يدخل قد كان منتفيًا في عصره - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت حدود حرم المدينة معلومة العين، بارزة لا تخفى على ذي عين، بل إن دور المدينة كلها واقعة بين اللابتين، وكانت اللابتان تحيط بأطراف المدينة. قال المحب الطبري: "معنى لابتي المدينة: أي طرفاها" (¬1). ومن هنا يعلم أن اللابتين كانتا في عصره - صلى الله عليه وسلم - واضحتي المعالم ظاهرتين للمُعاين، لا يرد في حدهما إشكال ولا يتأتى بشأنهما نزاع؛ بسبب قلة السكان، وضيق مساحة العمران, فانتفى لأجل ذلك المقتضي الموجب نصب أعلام على حدود الحرم. وقد يكون السبب في ترك وضع أعلام لحدود حرم المدينة في العهود السالفة: أن المدينة النبوية ظلت مدة طويلة خاضعة لحكم الدولة العثمانية التي كانت تعتمد المذهب الحنفي الذي يرى أصحابه أن المدينة ليست كمكة في التحريم (¬2). أما في وقتنا هذا فقد وجد هذا المقتضي وقام السبب الداعي إلى وضع أعلام تُبَيِّن حدود هاتين الحرَّتين وما بينهما ¬

(¬1) القرى لقاصد أم القرى ص (673). (¬2) انظر المبسوط (4/ 105).

المثال الثاني

ونصب علامات تظهر بها حدود الحرم من كل جهة؛ إذ عفت معالم الحرَّتين في الجملة، وانطمست آثارهما، بسبب امتداد البنيان وارتفاعه، وازدياد العمران واتساعه وأصبح السائر فوق تلك الأرض لا يمكنه التعرف على أصلها أو التنبؤ بأساسها؛ أهو واد مركوم أم جبل مقضوم أو هو سهول بيضاء أم حرة سوداء؟ وبهذا يظهر جليًا أن السبب المقتضي لوضع أعلام تميز حدود حرم المدينة إنما وجد في هذا العصر، ولم يكن هذا لمقتضي موجودًا في عصره - صلى الله عليه وسلم - وبذلك يعلم أن نصب أعلام على حدود حرم المدينة أمر مشروع، بل هو داخل تحت عموم سُنَّته التي ثبت بها تحريم ما بين لابتي المدينة وما بين جبليها، حيث أصبحت في هذا العصر معرفة حدود هذا الحرم متوقفة على وضع هذه الأعلام؛ إذ يمكن بها معرفة ما يدخل في حدِّ الحرم وما لا يدخل وبدون وضع هذه الأعلام يصعب تمييز حدود الحرم أو يتعذر. المثال الثاني: وضع المفارش ذوات الخطوط في المساجد للاستعانة بها في إقامة صفوف المصلين وتسويتها: من الواضح أن استعمال المفارش ذوات الخطوط ليس مقصودًا لذاته، وإنما قُصد من أجل كون هذه المفارش وسيلة معينة على استقامة الصفوف واعتدالها؛ حيث إن

المثال الثالث

الشارع حث على استقامة صفوف المصلين وأمر بتسويتها. ومعلوم أن هذا النوع من المفارش إنما سهل تصنيعه في هذا العصر بسبب وجود الآلات الكهربائية المتطورة وهذه الآلات لم تكن موجودة في عصر النبوة مع قيام المقتضي لها، وهو الحرص على استقامة الصفوف، فوضع هذه لمفارش كان أمرًا غير مقدور عليه من قبل. وهذا بخلاف وضع خيط أو حبل أو رسم خط على أرض المسجد؛ لتستقيم عليه أقدام المصلين؛ فإنه كان من الأمور الميسورة والمقدور عليها في عهد النبوة. ومن هنا فإن وضع خيط أو حبل أو رسم خط في صفوف لمصلين يمكن أن يحكم عليه بأنه إحداث وابتداع في الدين، وأما وضع مفارش ذوات خطوط مصنوعة لهذا الغرض فهذا لم يكن مقدورًا عليه، فكان عدم القدرة عليه هو المانع الذي منع من فعله في عهد النبوة. المثال الثالث: استعمال مكبرات الصوت في المساجد الكبيرة؛ للاستعانة بها في نقل تكبيرات الإمام وسائر ألفاظه. من الواضح أن استعمال أجهزة نقل الصوت وتكبيره ليس مقصودًا لذاته، وإنما قصد من أجل كونها وسيلة يحصل بها نقل صوت الإمام؛ حيث إن المأمومين يلزمهم الاقتداء بالإمام ومتابعته في كافة أفعال الصلاة.

ومعلوم أن هذه الأجهزة إنما وُجدت في هذا العصر بسبب وجود الآلات الكهربائية المتطورة، وهذه الآلات لم تكن موجودة أصلا في عصر النبوة مع قيام المقتضي لها، وهو ضرورة لسماع صوت الإمام بالنسبة للمأمومين، فاستعمال أجهزة الصوت لم يكن أمرًا مقدورًا عليه من قبل. ومن هنا أمكن القول أن استعمال أجهزة الصوت محقق لمصلحة شرعية ظاهرة، بل إن استعمالها يندرج تحت قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لكونها وسيلة لا بد منها في متابعة المأموم للإمام. وقد كان من المعمول به قديمًا: مسألة التبليغ خلف الإمام، وأمَّا بعد أن وُجدت هذه المكبرات فلا حاجة إلى التبليغ.

الخاتمة

الخاتمة يطيب لي في نهاية المطاف أن أذكر خلاصة لهذا البحث، وذلك في تسع نقاط: أولا: الترك في اللغة يطلق على عدم فعل المقدور عليه، وأما عدم ما لا قدرة عليه فلا يسمى تركًا. والترك عند الأصوليين معدود من الأفعال المكلف بها؛ خلافًا لمن زعم أن التَّرك أمر عدمي لا وجود له، والعدم عبارة عن لا شيء. ثانيًا: تَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - ينقسم إلى أربعة أقسام: 1 - الترك الجِبِلِّي أو العادي؛ كتركه - صلى الله عليه وسلم - أكل الضَّبِّ. 2 - الترك الخاص به - صلى الله عليه وسلم - كتركه - صلى الله عليه وسلم - أكل الثُّوم. 3 - الترك المصلحي، وهو أنواع؛ كتركه - صلى الله عليه وسلم - صلاة القيام جماعة بأصحابه؛ رحمة بأمه، وتركه - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - تأليفًا لقلوب أهل مكة، وتركه - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين؛ سَدًا لذريعة التنفير من الدخول في الإسلام, وتركه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على صاحب الدَّيْنِ وعلى الغال، من باب العقوبة لهما والترهيب من صنيعهما.

ثالثا

4 - الترك البياني، أو الترك التشريعي، وهو ما تركه - صلى الله عليه وسلم - بيانًا للشرع؛ كتركه - صلى الله عليه وسلم - الأذان للعيدين، وتركه الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القسم من تركه - صلى الله عليه وسلم - هو المراد من السُّنَّة التَّركية. ثالثًا: يمكن تعريف سُنَّة التَّرك بأنها: تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - فعل الشيء مع وجود مقتضيه بيانًا لأمته. وقد تضمن هذا التعريف قيودًا أربعة: أن يكون هذا الأمر المتروك مقدورًا عليه من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون فعلا لا قولا، وأن يكون من الأمور التي قام سببها ووجدت الحاجة إلى فعلها، وأن يقع هذا التَّرك من النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه التشريع والبيان؛ وبهذا القيد خرج ما تركه - صلى الله عليه وسلم - من أجل قيام مانع من الموانع. رابعًا: تتطرق السُّنَّة التَّركية إلى المجالات التالية: باب الاعتقادات وباب العبادات، وهذا يشمل وسائل العبادة ووسائل العلم وتبليغ الدِّين، وباب الأعياد، وباب النكاح وما يتعلق به، وباب الجنايات والحدود. خامسًا: تنقسم السُّنَّة التَّركية بالنسبة إلى نقلها إلى طريقين: الأول: أن يَرِدَ نَصٌّ صريح من الصحابي، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك كذا وكذا ولم يفعله.

سادسا

والثاني: اجتماع القرائن الدالة على مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ترك هذا الفعل. وذلك بأن تتوافر هِمَم الصحابة_ رضي الله عنهم - ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعله؛ فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ولا حدَّث به في مجمع أبدًا عُلم أنه لم يكن. سادسًا: سُنَّة التَّرك قِسم من أقسام السنة المطهرة، وهي حجة شرعية معتبرة؛ إذ ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشيء دليل على تحريمه؛ فيجب حينئذ ترك ما تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ليس على إطلاقه؛ فإن مجرد تركه - صلى الله عليه وسلم - للشيء لا يدل على تحريم هذا الشيء المتروك، وإنما يستفاد التحريم من تَرْكه - صلى الله عليه وسلم - متى انضم إلى هذا التَّرك القرائن المفيدة للتحريم. ثم إن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تقترن به قرائن تمنع من الاحتجاج به، فمن هذه القرائن: أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الفعل لمانع يرجع إلى الجِبِلَّة أو العادة؛ كتركه - صلى الله عليه وسلم - أكل الضَّبِّ لكونه لم يكن بأرض قومه، وأن يترك - صلى الله عليه وسلم - الفعل لأمر يختص به - صلى الله عليه وسلم - كتركه - صلى الله عليه وسلم - أكل الثوم. كما قد تقترن بترك النبي قرائن تجعل من هذا الترك حجة قاطعة وأقرب هذه القرائن أن يقترن بتركه - صلى الله عليه وسلم - ترك السلف الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وتابعيهم فإذا

سابعا

تواطأ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة من بعده على ترك عبادة فهذا دليل قاطع على أنها بدعة. سابعًا: يشترك في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يكون حُجَّة شرطان: أولهما: أن يترك - صلى الله عليه وسلم - فعل أمر من الأمور مع وجود السبب المقتضي لهذا الفعل في عهده - صلى الله عليه وسلم - وثانيهما: أن يترك - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا الأمر مع انتفاء الموانع. ثامنًا: تتنوع الأدلة الدالة على حُجِّية سُنَّة التَّرك إلى أنواع ثلاثة: الأدلة الدالة على حُجَّية أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. ما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - وعن أئمة العلم والدين من الاحتجاج بسُنَّة التَّرك والعمل بها في غير موضع. أن عدم الاحتجاج بسُنَّة التَّرك يلزم منه الوقوع في مفاسد شرعية، فمن ذلك، القول بعدم قيام الرسول بواجب التبليغ، أو القول بضياع بعض الدين، إضافة إلى فتح باب الابتداع والإحداث في الدين عامة، وفي باب العبادات خاصة دون قيد ولا شرط. تاسعًا: من الآثار التطبيقية للاحتجاج بالسُّنَّة التَّركية: 1 - أنَّ سُنَّة التَّرك دليل خاص يُقدم على كل عموم. 2 - أن سُنَّة التَّرك من الطرق التي تعرف بها مقاصد الشريعة.

3 - تعد سُنَّة التَّرك قاعدة بليغة الأثر في إبطال البدع والرَّد على المبتدعة. 4 - لسُنَّة التَّرك أثر واضح في استنباط أحكام كثير من المسائل المعاصرة.

ثبت المصادر والمراجع

ثبت المصادر والمراجع 1 - الإبداع في مضار الابتداع: للشيخ علي محفوظ, دار المعرفة, بيروت. 2 - الإحكام في أصول الأحكام: لسيف الدين الآمدي (631 هـ) تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي بيروت ط 2، (1402 هـ). 3 - أخبار مكة: للإمام أبي عبد الله الفاكهي، تحقيق د. عبد الملك بن دهيش دار خضر، بيروت ط 2، 1414 هـ. 4 - أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار: للإمام أبي الوليد الأزرقي تحقيق رشيد ملحس، مطابع دار الثقافة بمكة المكرمة ط 4، (1403 هـ). 5 - الأربعون النووية: للنووي (676 هـ) المطبوع مع شرحه جامع العلوم والحكم (انظر: جامع العلوم والحكم من هذا الثبت). 6 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: للشوكاني (ت 1255 هـ) دار المعرفة, بيروت (1399 هـ). 7 - الأشباه والنظائر: لتاج الدين السبكي، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي عوض، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1، (1411 هـ). 8 - أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن: للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ) طبع وتوزيع دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية (1403 هـ). 9 - الاعتصام: للشاطبي، دار المعرفة، بيروت (1405 هـ).

10 - إعلام الموقعين: لابن القيم، تعليق طه سعد، دار الجيل، بيروت (1973م). 11 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: لابن تيمية, تحقيق د. ناصر العقل ط 1، (1404 هـ). 12 - الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع: للسيوطي, تحقيق مشهور حسن سلمان دار ابن القيم الدمام ط 1، (1410 هـ). 13 - الباعث على إنكار البدع والحوادث: لأبي شامة المقدسي, تعليق عثمان عنبر دار الهدي، القاهرة ط 1، (1398 هـ). 14 - البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي, دار الصفا، القاهرة ط 1، (1411 هـ). 15 - البحر المحيط في أصول الفقه: للزركشي (ت 794 هـ) , تحرير ومراجعة عبد القادر العاني وعمر الأشقر، وزارة الأوقاف بالكويت ط 2، (1413 هـ). 16 - تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: لابن كثير (ت 774 هـ) تقديم د. يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت ط 1، (1407 هـ). 17 - الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة، مطبوع ضمن مساجلة علمية بين الإمامين الجليلين العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب المبتدعة: تحقيق الألباني ومحمد زهير الشاويش المكتب الإسلامي ط 2، (1405 هـ). 18 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر (851 هـ) بعناية عبد الله يماني, دار المعرفة, بيروت (1384 هـ). 19 - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة: للكناني, تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله الصديق، دار الكتب العلمية, بيروت ط 2، (1401 هـ).

20 - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم: لابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) تحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة بيروت ط 2، (1412 هـ). 21 - جماع العلم: للإمام الشافعي (ت 204 هـ) تحقيق أحمد شاكر، مكتبة ابن تيمية. 22 - حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع: دار الكتب العلمية, بيروت. 23 - حُجِّية السُّنَّة: د. عبد الغني عبد الخالق، المعهد العالي للفكر الإسلامي, ط 1، (1407 هـ). 24 - الحوادث والبدع: للطرطوشي, ضبط علي حسن، دار ابن الجوزي، الدمام ط 1، 1411 هـ. 25 - رحلة الحج إلى بيت الله الحرام: للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1393 هـ) دار الشروق جدة، ط 1، (1403 هـ). 26 - الرسالة: للإمام الشافعي (ت 204 هـ) تحقيق أحمد شاكر, المكتبة العلمية، بيروت. 27 - روضة الناظر وجنة المناظر، لابن قدامة (620 هـ) المطبوع مع نزهة الخاطر، دار الكتب العلمية. 28 - زاد المعاد في هدي خير العباد: لابن القيم (751 هـ) تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط, مؤسسة الرسالة, مكتبة المنار الإسلامية ط 3، (1402 هـ). 29 - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها, للألباني (1420 هـ مكتبة المعارف بالرياض ط 2، (1407 هـ). 30 - سنن الترمذي: تحقيق الشيخ أحمد شاكر, ومن معه دار إحياء التراث العربي).

31 - سنن الدارقطني، وبذيله التعليق المغني: للآبادي, عُني به: عبد الله هاشم يماني, دار المحاسن للطباعة بالقاهرة (1386 هـ). 32 - سنن أبي داود: تعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية. 33 - سنن ابن ماجه: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 34 - السنن الكبرى: للبيهقي، وفي ذيله الجوهر النقي، ط 1، مصورة عن طبعة حيدر آباد بالهند (1347 هـ). 35 - السنة حجيتها ومكانتها في الإسلام والرد على منكريها, د. محمد لقمان السلفي، مكتبة الإيمان بالمدينة المنورة ط 1، (1409 هـ). 36 - السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون: علي بن برهان الدين لحلبي (1044 هـ) دار المعرفة, بيروت (1400 هـ). 37 - شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز الحنفي (792 هـ) حققه جماعة من العلماء وخرج أحاديثه الألباني، المكتب الإسلامي بيروت ط 5، (1399 هـ). 38 - شرح الكوكب المنير: للفتوحي تحقيق د. محمد الزحيلي ونزيه حماد مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. 39 - شرح مختصر الروضة: للطوفي (ت 716 هـ) تحقيق د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة, بيروت ط 1، (1409 هـ). 40 - صحيح ابن خزيمة: لمحمد بن إسحاق بن خزيمة السلمين، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت (1970م). 41 - صحيح البخاري: دار ابن رجب، دار ابن الجوزي بالسعودية ط 1، (1425 هـ).

42 - صحيح الجامع الصغير وزيادته "الفتح الكبير" للألباني, أشرف على طبعه: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي ط 2، (1406 هـ). 43 - صحيح مسلم: دار ابن الجوزي, بالسعودية, ط 1، (1422 هـ). 44 - صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام: للسيوطي (ت 911 هـ) تعليق علي سامي النشار، طبع معه مختصر السيوطي لكتاب: نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، لابن تيمية, دار الكتب العلمية, بيروت. 45 - عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي: تحقيق عبد الله البصيري، نشر إدارة الإفتاء بالرياض ط 1، (1411 هـ). 46 - فتاوى السبكي: دار المعرفة، بيروت، توزيع دار الباز، مكة المكرمة. 47 - القرى لقاصد أم القرى: للمحب الطبري، تعليق مصطفى السقا, دار الفكر, سنة ط 3، 1403 هـ. 48 - قواعد الأصول ومعاقد الفصول: لصفي الدي الحنبلي (739) هـ , تحقيق د. علي الحكمي من مطبوعات جامعة أم القرى بمكة المكرمة ط 1، (1409 هـ). 49 - القواعد والفوائد الأصولية, وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية: لابن اللحام (803 هـ) تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت , ط 1، (1403 هـ). 50 - قواطع الأدلة: لابن السمعاني (ت 489 هـ) تحقيق د. عبد الله الحكمي، ود. علي عباس الحكمي ط 1، 1419 هـ. 51 - لسان العرب: لابن منظور (711 هـ) دار صادر, بيروت. 52 - المبسوط: للسرخسي، دار المعرفة، بيروت ط 3 (1398 هـ).

53 - مجمل اللغة: لابن فارس (395 هـ) ت. زهير سلطان ط 1، مؤسسة الرسالة 1404 هـ. 54 - المجموع شرح المهذب: للنووي (676 هـ) معه فتح العزيز والتلخيص الحبير، دار الفكر. 55 - مجموع الفتاوي: لابن تيمية جمع ابن قاسم مكتبة النهضة بمكة المكرمة 1404 هـ. 56 - مختار الصحاح: للرازي, ت: محمود خاطر وحمزة فتح الله, دار البصائر, مؤسسة الرسالة, بيروت (1405 هـ). 57 - مختصر ابن اللحام (803 هـ) المسمى: المختصر في أصول الفقه, ت: د. محمد بقا، مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز، كلية الشريعة (1400 هـ). 58 - مذكرة أصول الفقه: للشنقيطي (1393 هـ) المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 59 - مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله: تحقيق ودراسة د/علي المهنا، مكتبة الدار بالمدينة المنورة ط 1، (1406 هـ). 60 - المستدرك على الصحيحين: للحاكم (ت 405 هـ) وفي ذيله تلخيص المستدرك للذهبي، دار الفكر, بيروت. 61 - المستصفى: للغزالي (505 هـ) مكتبة الجندي, مصر. 62 - المسند: للإمام أحمد دار صادر بيروت. 63 - المسودة في أصول الفقه: لآل تيمية, جمع أحمد بن محمد الحراني (ت 745 هـ) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد, مطبعة المدني القاهرة. 64 - المصالح المرسلة: للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1393 هـ) من مطبوعات الجامعة الإسلامية, بالمدينة المنورة, ط 1، (1410 هـ).

65 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: للفيومي، المكتبة العلمية, بيروت. 66 - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول: للشيخ حافظ الحكمي (ت 1377 هـ) قدم له أحمد بن حافظ الحكمي، المطبعة السلفية, بالقاهرة, ط 3، 1404 هـ. 67 - المعجم الكبير: للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، الدار العربية, ومطبعة الأمة بغداد (1978 - 1983م). 68 - المعجم الوسيط: إخراج د. إبراهيم وجماعة مصطفى المكتبة الإسلامية باستانبول. 69 - مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنَّة: لجلال الدين السيوطي, الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة, ط 3، (1399 هـ). 70 - مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول: للشريف أبي عبد الله التلمساني, ت: محمد علي فركوس، المكتبة المكية بمكة المكرمة، مؤسسة الريان، بيروت, ط 2، (1424 هـ). 71 - الموافقات: للشاطبي, تعليق عبد الله دراز، المكتبة التجارية الكبرى, مصر ط 2، (1395 هـ). 72 - المواقف في علم الكلام: للإيجي (ت 756 هـ) عالم الكتب بيروت، دار الباز، مكة المكرمة. 73 - النهاية في غريبة الحديث والأثر: لابن الأثير، تحقيق محمود الطناحي وطاهر الزواوي، أنصار السنة المحمدية، باكستان.

§1/1