سلسلة علو الهمة - المقدم

محمد إسماعيل المقدم

علو الهمة [1]

علو الهمة [1] علو الهمة شرف عظيم، لا يبلغه إلا عظماء الرجال وأساطينهم، وقد بلغ سلف الأمة إلى ذروة العزة والمجد؛ وما ذاك إلا بإيمانهم وعلو همتهم، فيجب على كل مسلم أن يكون عالي الهمة، مترفعاً عن سفاسف الأمور، عزيزاً بدينه لا يقبل فيه المساومة.

أهمية اجتماع القوة العلمية والقوة العملية

أهمية اجتماع القوة العلمية والقوة العملية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نستجلب بها نعمه، ونستدفع بها نقمه، وندخرها عدة لنا: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله نجوم المهتدين، ورجوم المعتدين، ورضي الله عن صحابته الأبرار الذين قاموا بحق صحبته، وحفظ شريعته، وتبليغ دينه إلى سائر أمته، فكانوا خير أمة أخرجت للناس. أما بعد: ففي قرن وبعض قرن وثب المسلمون وثبة ملئوا بها الأرض قوة وبأساً، وحكمة وعلماً، ونوراً وهداية، فحكموا الأمم، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات أفريقيا وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشرعتهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتتقلب بها الألسنة، وتحقق فيهم الأنموذج الفريد والمثال الأعلى للبشرية؛ باعتبارهم خير أمة أخرجت للناس، بعد أن كانوا طرائق قدداً لا نظام ولا قوام، ولا علم ولا شريعة، فقطع المسلمون تلك المرحلة التي سهم لها الدهر، ووجم لروعتها التاريخ، وهم يعرفون معالم طريق المجد، ونهج السعادة في الدارين، وأمعنوا بكل ثقة في هذا السبيل مدفوعين بطاقة صارخة وقوة دافعة. وكانوا يدركون بكل دقة معالم الطريق، وكأن معهم خارطة مفصلة أودعوها قوتهم العلمية، وكان الوقود الذي يتزودون به هو القوة العملية، فهذان هما سر عظمة المسلمين، وخيريتهم وتفوقهم على الأمم: العلم والإرادة، أو القوة العلمية والقوة العملية. أما العلم فحسبنا أنه الحاكم على الممالك والسياسات والأموال والأقلام، فملك لا يتأيد بعلم لا يقوم، وسيف بلا علم مخراق لاعب، وقلب بلا علم حركة عابث، والعلم مسلط حاكم على ذلك كله، ولا يحكم شيء من ذلك على العلم. ولن نعرض في هذه السلسلة التي نشرع فيها -بإذن الله- إلى ذكر فضائل العلم، فما أكثر ما تحدث المتحدثون عن العلم! وكم صنف المتقدم والمتأخر في شرفه والحث عليه! لكن المقصود الآن التنبيه على الشق الثاني من مكامن القوة في هذه الأمة، والذي بدونه لن تنهض من كبوتها، سواء على مستوى الجماعات أو الأفراد، ألا وهو قسيم العلم وشريكه في صناعة المجد وإحياء الأمة، ألا وهو القوة العلمية أو الإرادة أو الهمة، فما هي الهمة التي نعبر بها عن القوة العلمية التي نحن في أمس الحاجة إليها في هذا الزمان في كل أحوالنا، سواء كانت أحوال الدين أو أحوال الدنيا، أحوال الأمة أو أحوال الأفراد.

تعريف الهمة

تعريف الهمة فالهمة مأخوذة من الهم، والهم هو ما هُمَّ به من أمر ليفعل، والهمة هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول، فتكون همة عالية وهمة سافلة، وفي المصباح: الهمة بالكسر هي: أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي، فيقال: له همة عالية. وقيل: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، يعني: أن الهمة العالية هي عبارة عن نشدان الكمال الممكن، فالإنسان لا يرضى إلا بأعلى المراتب في كل شيء، ولا يصبو إلا إلى ما أمكنه أن يصل إليه من الكمالات في كل الأحوال، وينظر إلى كل ما دون هذا الكمال نظرة استصغار. فإذاً: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وقيل: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل. وهذا التعريف الأخير ذكره الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى، وقال في شرح معناه: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة -مثلاً- تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية. يعني: أن صاحب الهمة العالية يصبو إلى كل ما أمكنه من الكمالات، فيأنف ويستنكف أن يكون في حالة من أحوال التقصير مادام هذا التقصير يمكن دفعه عن النفس. والنبوة ليست كسبية، بل النبوة وهبية، يعني: أن الله سبحانه وتعالى يصطفي من رسله من يشاء، لكن يقول: لو فرضنا أن النبوة تنال بالكسب لم يجز لعالي الهمة أن يقنع بالولاية، أي: لم يجز لعالي الهمة أن يرضى بأن يكون ولياً دون أن يرقى إلى مرتبة النبوة، يقول: أو تصور أن يكون -مثلاً- خليفة لم يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملكاً -يعني: من الملائكة- لم يصلح له أن يرضى أن يكون بشراً. والمقصود من علو الهمة: أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل. إذاً: نشدان الكمال الممكن يدخل في باقته الوصول إلى الكمال واستصغار كلما دون ذلك. ويقول الجرجاني في التعريفات: الهم هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر، سواءً كان هذا الهم هماً بخير أم هماً بشر. أما الهمة فهي: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق؛ لحصول الكمال له أو لغيره. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: والهمة: فعلة من الهم، والهم هو: مبدأ الإرادة. أي: أن بداية الإرادة هم، ولكنه خص الهمة بنهاية الإرادة، فالهمة هي: التعبير عن نهاية وقمة وأعلى الإرادة، فأولها الهم، وآخرها وأعلاها الهمة، فالهم مبدؤها والهمة نهايتها. يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في بعض الآثار الإلهية: قول الله تعالى: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته، قال: والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب. فعوام الناس مقاييسهم أن قيمة الإنسان هي ما يحسنه، أما الخواص فإنهم يقولون: قيمة الإنسان ما يصبو إليه، وما يطمح إليه، وما يطلبه، فقيمة المرء همته ومطلبه. وقال صاحب المنازل: الهمة: ما يملك الانبعاث للمقصود صرفاً لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها، يعني: ينبعث قلبه نحو المقصود ونحو الطلب الذي يطلبه، ويستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك؛ بحيث لا يستطيع أن يتخلص من هذا النزوع إلى طلب الكمال. والمراد أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تبارك وتعالى طلباً صادقاً خالصاً محضاًً، فتلك هي الهمة العالية التي لا يقدر صاحبها على المهلة، ولا يستطيع أن يؤجل أو أن يرضى بما هو دون ذلك، ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه، وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود، ولا يلتفت عنها إلى ما سوى أحكامها، وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه، ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق. والله تعالى أعلم. وقال أيضاً: علو الهمة ألا تقف دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الفانية. فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان؛ فإن الآفات قواطع وجواذب، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنما تجتذب من المكان السافل، فعلو همة المرء عنوان فلاحه، وسفول همته عنوان حرمانه. انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.

فائدة الهمة ونتائجها

فائدة الهمة ونتائجها والهمة طليعة الأعمال ومقدمتها، قال أحد الصالحين: همتك تحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال. وعن عبيد الله بن زياد بن ضبيان قال: كان لي خال من كلب كان يقول لي: يا عبيد! هم؛ فإن الهمة نصف المروءة. وقد بين الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أن الهمة مولودة مع الآدمي يقول رحمه الله: وما تقف همة إلا لخساستها، يعني: المفترض في الهمة أنها تظل تطلب طلباً معيناً، فتحققه، ثم تصبو إلى ما هو أعلى، فإذا أنجزته تصبو إلى ما هو أعلى، وهكذا. فالهمة لا تعرف السكون أبداً، بل تتطلع إلى ما هو أعلى وأسمى، فإذا وقفت فهذه علامة خساستها وخبث طبع صاحبها. يقول: وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون، وقد عرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزاً فاسأل المنعم، أو كسلاً فاسأل الموفق؛ فلن تنال خيراً إلا بطاعته، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه ثم مضى بفائدة، أو حظي بغرض من أغراضه؟ وقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، بسبب عجز أو كسل أو ركون إلى وسوسة الشيطان والهوى، وتسويل النفس الأمارة بالسوء، فهنا تحتاج الهمة إلى إيقاظ وتنبيه وتذكير، بأن يذكرها ويسألها: رضا من تطلب؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ كما فعل ذلك البطل الذي لا نعرف اسمه، لكن حسبه أن الله سبحانه وتعالى يعلمه، وهو وحده الذي يثيبه، فعن عبد الله بن قيس أبي أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا، فحضر العدو، فصيح في الناس -يعني: نودي بالجهاد- فوثبوا إلى مصافهم، وكان هناك رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه. وكان هذا الرجل واقفاً، ولا يشعر بأن هذا يقف ويسمعه، وكان يخاطب نفسه ويقول: ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك. فقلت: لأرمقنه اليوم -أي: سأراقب هذا الرجل إلى ما ينتهي أمره- قال: فرمقته، فحمل الناس على عدوهم، فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا -يعني: انهزموا- فكان في حماتهم، أي كان مع الطائفة التي تحميهم وتدافع عنهم، ثم إن الناس حملوا مرة ثانية، فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس، فكان في حماتهم، قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة. رحمه الله تعالى. فلابد لكل من يسلك الطريق إلى الله سبحانه وتعالى من هذين الجناحين؛ ليطير بهما، ولا يستقيم حال المرء إذا اقتصر على واحد منهما. فالمرء لابد له من همة تحمله، وعلم يبصره ويهديه، فالقوة العلمية مع القوة العملية لا بد منهما، فمثلاً: من يريد أن يسافر إلى بلد معين لا شك أنه يحتاج إلى خريطة بالموقع والمكان الذي يريد أن يقصده، وفي نفس الوقت يحتاج إلى دابة أو سيارة، وهذه السيارة لابد لها من وقود، فالخريطة هي القوة العلمية التي تدله لكي يصل إلى هذا المكان، والوقود هذا هو القوة العملية، أو قوة الإرادة التي تمكنه من الحركة والانبعاث؛ لتحصيل هذا المقصود.

أهمية العلم والإرادة للإنسان

أهمية العلم والإرادة للإنسان قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج آدم وذريته من الجنة أعاضهم أفضل منها، وهو ما أعطاهم من عهده الذي جعله سبباً موصلاً لهم إليه، وطريقاً واضحاً بين الدلالة عليه، من تمسك به فاز واهتدى، ومن أعرض عنه شقي وغوى، ولما كان هذا العهد الكريم والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل إليه أبداً إلا من باب العلم والإرادة، فالإرادة باب الوصول إليه، والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحه عليه. هذا تشبيه آخر للعلم والإرادة، فالإرادة هي الباب، ومفتاح الباب هو العلم، يعني: لابد من الاثنين معاً، وكمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين: همة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه، فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين، ولا يخيب إنسان ولا تفوته السعادة إلا بتقصير في جانب من هذين الجانبين، أو من أحدهما؛ إما ألا يكون له علم بها، كأن يجهل مراتب الآخرة والغايات العليا، فإذا كان يجهل هذه الفضائل فكيف سيتحرك إليها؟ وكيف سينبعث قلبه في طلبها؟ فإن كل إنسان إما ألا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالماً بها، لكن لا تنهض همته إليها، فلا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً، قد أسام نفسه مع الأنعام، راعياً مع الهمل، واستطاب لقيعات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله. قال: ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها، وشرف العلم تابعاً لشرف معلومه، وهذه قاعدة معروفة، يعني: أن شرف العلم حسب شرف المعلوم، فليست دراسة علم الحشرات مثل دراسة الطب البشري، لأن صحة البشر أهم من الحشرات؛ وهكذا مراتب العلوم تتفاوت بحسب المعلوم، وشرف العلم بشرف المعلوم، ولذلك كانت أشرف العلوم على الإطلاق هي علوم الدين، فهي أشرف من علوم الدنيا بلا شك، وعلوم الدنيا أشرفها علم الطب؛ لأن الطب هو أشرف مطالب الدنيا، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو صحته وعافيته، لكن علوم الدين أشرف من كل علوم الدنيا، ثم علوم الدين تتفاضل فيما بينها بحسب العلم الذي تؤدي إليه، فهناك علوم هي عبارة عن وسائل فقط، كالنحو والتجويد والمصطلح وأصول الفقه ونحوها، فهذه علوم خادمة لعلوم الدين. ثم هناك علوم أشرف، وهي العلوم المخدومة كالتوحيد، والتفسير، والفقه، ثم أشرف هذه العلوم المخدومة على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأنه هو العلم الذي يعرفنا بالله، ويعلمنا صفات الله سبحانه وتعالى وحق الله علينا، فبالتالي كان أشرف العلوم على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ولا معلوم أشرف من معرفة الله سبحانه وتعالى. يقول: ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها وشرف العلم تابعاً لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها ولا حياة له إلا بها، أن تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت، وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت، ولا سبيل له إلى هذا المطلب الأسمى والحظ الأوفى إلا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعياً، وأقامه على هذا الطريق هادياً، وجعله واسطة بينه وبين الأنام، وداعياً لهم بإذنه إلى دار السلام، وأبى سبحانه أن يفتح لأحد منهم إلا على يديه، أو يقبل من أحد منهم سعياً إلا أن يكون مبتدئاً منه، ومنتهياً إليه صلى الله عليه وسلم. ثم تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على أقسام الناس من حيث القوتين: العلمية والعملية، فالناس يتفاوتون، ولا يخرج أحد من هذا التفصيل، يقول رحمه الله: وكمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، فالمعرفة قوة علمية، والإيثار قوة عملية، ولذلك جاء في الأثر: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه)؛ لأن الإنسان قد يرى الحق حقاً لكن لا يتبعه، كاليهود الذين كانوا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون صفاته، ويجزمون بأنه رسول الله، لكنهم لم يرزقوا ولم يلهموا ولم يوفقوا إلى اتباعه والانقياد لشريعته. فإذاً: الأمر الأول: معرفة الحق. الأمر الثاني: اتباع الحق وإيثاره على ما عداه؛ لأن الإنسان قد يعرف الحق، ولكن يؤثر عليه ما عداه، كما في هذا الأثر، وهو ينسب إلى أبي بكر: (اللهم أرني الحق حقاً، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه)؛ لأنه ممكن أن الإنسان يزين له سوء عمله، فيرى الباطل في صور مزينة، ويحسب أنه على شيء، كعامة ملاحدة هذا الزمان من الإعلاميين والصحفيين الذين اغتروا بكثرتهم وصوتهم العالي، وكيف أنهم يتكلمون وكأنهم أصحاب حق، وكلهم جزماً مبطلون وأهل ضلال ومعاداة لدين الله سبحانه وتعالى، فهذا من تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم. فهؤلاء يرون الباطل حقاً، وتراهم مستعدين أن يقاتلوا في سبيل هذا الباطل، وأن يبذلوا النفس والنفيس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن أراه الله الحق حقاً ثم رزقه اتباعه وإيثاره، وأراه الباطل باطلاً ورزقه اجتنابه، فهؤلاء هم الذين رزقوا علماً، وأعينوا بقوة العزيمة على العمل، وهؤلاء هم الموصوفون في القرآن الكريم بقوله تعالى: (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). فكونهم آمنوا هذا من التصديق، وهذه قوة علمية، وكونهم عملوا الصالحات هذه هي القوة العملية، وقال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، ولا يخرج منها لأنه مقتنع بها، ويرى أنها هي الحق. فحياة القلب تنال بالعزيمة، وبالنور يرزق الفرقان بين الحق والباطل.

أقسام الناس في العلم والإرادة

أقسام الناس في العلم والإرادة يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين، وهما اللذان أثنى الله سبحانه وتعالى على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بهما في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45]. فالأيدي هي القوة في تنفيذ الحق، والأبصار هي البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام. وأشرف الأقسام هو القسم الذي ذكرناه آنفاً، أي: الذين مدحهم الله بقوله: ((أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)). فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله سبحانه وتعالى. القسم الثاني: عكس هؤلاء، فلا بصيرة، ولا همة، ولا علم ولا عمل، فعكس الفريق الأول هم من لا بصيرة لهم في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر الخلق، وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار الشنار. القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف، لكن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من هذا المؤمن الضعيف. القسم الرابع: عكس هذا، له قوة وعزيمة وهمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء ثمرة، وكل بيضاء شحمة، ويحسب الورم شحماً، والدواء النافع سماً؛ لأنه ليس عنده علم وبصيرة في الدين. وليس في هذه الثلاثة الأقسام من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضع لها سوى القسم الأول، فهذا فقط هو الذي يصلح أن يكون إماماً في دين الله سبحانه وتعالى، يقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. فأخبر سبحانه وتعالى أنهم بالصبر واليقين بآيات الله نالوا الإمامة في الدين، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى من جملة الخاسرين. قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]. أي: إن كل إنسان لفي خسر {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]. فوصفوا بالقوة العلمية والقوة العملية، بالعلم والهمة أو الإرادة. فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها، وأعلامها وعوارضها ومعاشرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفاً في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المسالك والمخاوف والمعاقب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، كما يقول الشاعر: فليس يزيح الكفر رأي مسدد إذا هو لم يؤنف برمي مسدد يقول: وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله، ولا قوة إلا بالله. ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد. يعني: أننا نجد عند رجل الهمة في الحركة والعمل، وعنده همة من الناحية العملية، لكن ليس عنده بصيرة، فبالتالي نجده إذا تعرض لبدعة أو شبهة لا يستطيع أن يرد جواباً، ويتبلبل، وربما يهتز إيمانه، ويخر صريعاً لهذه الشبهات بسبب غياب القوة العلمية. فمثلاً: نجد إنساناً يعمل في الربا وفي البنوك، وهو مقتنع، وعنده القوة العلمية، ويفهم جيداً جداً أن الربا محرم، وأن هذا الكسب حرام، وأن الوعيد فيه كذا وكذا إلى آخر هذا الكلام، لكن لا تجد عنده القوة العملية التي تجعله يحاول أن يتخلص ويخرج من هذا الوحل، فعنده قوة علمية، لكن ليس عنده الهمة. وهكذا الذي يتحدث عن مضار التدخين، ويحاضر محاضرات طويلة، وإذا فتحت معه الكلام في التدخين، تجده يقول: المضرة في كذا وكذا وكذا، لكن هل عنده الهمة في أن يقلع عن هذه العادة السيئة؟! فأغلب الناس تجد عنده البصر بالضرر، لكن ليس عنده القوة العملية. فهذه أمثلة لتوضيح الموضوع، فالقسم الثاني هذا يكون عنده همة وحركة وسعي ودأب، لكن ليس عنده بصيرة في الدين، فيكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما أن الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف، السالكين على غير طريق العلم، حيث نلاحظ في الصوفية -إلا من شاء الله- أن هذه الصفة تكاد تكون صفة سائدة، فأحدهم شديد الجهل بالعلم الشرعي، وعنده الهمة العالية في التعبد أو في الحركة والسعي والدأب والأذكار والأوراد وغير ذلك، لكن لا على بصيرة، وبالتالي يسهل أن يقع صريعاً للبدع والشبهات والضلالات. يقول: على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه، لا يدري من يعبد، ولا بماذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه، من لبس معين، وكشف رأس، أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين، وليس لها أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائناً ما كان، وهناك طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد، وكلها ناشئة عن ضعف البصيرة في الدين، مع وجود الهمة العملية. يقول شيخ الإسلام ابن القيم: فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم، وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحد ديناً سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها، فلا معرفة لهم بالرب، ولا عبادة له، ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله سبحانه وتعالى، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد. ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، يعني: أن الطريق إلى النجاة وإلى الله سبحانه وتعالى فيها كثير من القواطع، ولولا القواطع لكان هذا الطريق مزدحماً بالسالكين الذين يقصدونه، لكن فيه كثيراً من القواطع، سواء كانت قواطع من داخل النفس، أو قواطع من قطاع الطريق الذين ينبثون على جنبات الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، ويقطعون الطريق على خلق الله، ويصدونهم عن السير إلى الله سبحانه وتعالى. يقول: ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت -كما قيل- سيف، فإن قطعته وإلا قطعك، فإذا كان السير ضعيفاً، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفاً، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده، ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق.

محل الهمة ومكانها

محل الهمة ومكانها بعد ذلك نتكلم عن الهمة باعتبار محلها، فالهمة عمل قلبي، منبعها ومصدرها ومحلها القلب، فبما أن الهمة محلها القلب، وبما أن القلب لا سلطان لأحد عليه غير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق طليقة من القيود التي تكبل الأجسام. يعني: لو كان إنسان مكبلاً بأشد أنواع القيود، فهل معنى ذلك أنه إذا كبل جسده يمكن أن تكبل همته إذا كان هو في الأصل عالي الهمة؟ A لا؛ فحتى لو كبل جسده فهمته تنصرف إلى أعلى المقامات، فالهمة لا يستطيع أحد تقييدها، حتى ولو كبل الجسد كله عضواً عضواً، فهي تحلق حتى ولو كان صاحبها في هذه القيود، يقول الشاعر: إن يسلب القوم العدا ملكي وتسلمني الجموع فالقلب بين ضلوعه لم تسلم القلب الضلوع ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة يقول: ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علواً، كالشعلة من النار يصوبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. أي: لو أن إنساناً يحمل شعلة من النار، ويحاول أن يجعل هذا اللهب يمضي إلى أسفل، فهل يستطيع ذلك؟ الجواب: لا. فكذلك صاحب الهمة، يمكن أن تقع الضغوط على بدنه وعلى جوارحه، أما قلبه فلا يمكن، بل يسمو إلى أعلى المقامات.

ارتفاع الهمة على العمل

ارتفاع الهمة على العمل وهناك أمر آخر من خواص الهمة، وهو أن همة المؤمن أبلغ من عمله؛ فالإنسان يحصل بالهمة أموراً عظيمة جداً لا يستطيع أن يحصلها بعمله، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة). فهذا ثواب الهمة وقال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)، أي: ينال منازل الشهداء وإن مات على فراشه بصدق الهمة. وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تجهز للجهاد ثم أدركه الموت: (قد أوقع الله أجره على قدر نيته). وقال صلى الله عليه وسلم في حق المتخلفين عن غزوة تبوك من الحريصين على الخروج معه: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر). فهؤلاء همتهم موجودة، لكن وجد عائق أعاقهم عن الخروج؛ وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده ما يحملهم عليه، فبالهمة نالوا الثواب، وشركوهم في الأجر. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه). قوله: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل)، يعني: أن عادته أن يقوم الليل، وقوله: (فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه)، أي: أنه أثيب بهمته وبنيته، فليس الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام على فراشه ثم يصبح وقد سبق الركب بعلو همته وطهارة قلبه وقوة يقينه وشدة إخلاصه، وفي ذلك قيل: من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول وما أحسن قول الشاعر مخاطباً الحجيج وقد انطلقوا للحج: يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر فقد راحا فالمؤمن ما دامت عنده الهمة فهو يطمع في أن ينال نفس الثواب، وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية، كما بين ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله: (سبق درهم ألف درهم). يعني: أن رجلاً تصدق بدرهم، ورجلاً آخر تصدق بألف درهم، فالذي تصدق بدرهم نال ثواباً أعظم من ثواب الذي تصدق بألف درهم، فما الذي أوجد هذا الفرق بينهما؟ إنها الهمة، ولذا: (قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم ألف درهم؟ قال: رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عرضه ألف درهم)، يعني: أن الرجل الأول عنده درهمان، فاستبقى لنفسه درهماً واحداً، وأنفق شطر ما يملك، ولا شك أن هذه همة عالية، وأما الآخر فعنده مال كثير جداً، فأخذ من جانب الثروة الطائلة كمية، فتصدق بها، فالتفاوت الذي حصل بينهما إنما كان بسبب الهمة.

قوة المؤمن في قلبه وهمته

قوة المؤمن في قلبه وهمته أيضاً بما أن الهمة في القلب فقوة المؤمن تكون في قلبة بصفه أساسية، يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب، لا تقوى الجوارح، قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره). فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير، والسفر الشاق؛ فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة، وتطيب السير والتقدم، والسبق إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو بالهمم، وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل، يوافق فيه الإسلام الإحسان، فأكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان موفياً لكل واحد منهما حقه، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقوم حتى تتورم قدماه، ويصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله، ويخالط أصحابه، ولا يحتجب عنهم، ولا يترك شيئاً من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر. والرسول عليه الصلاة والسلام بلا شك هو المثل الأعلى للبشرية كلها، ولم يطأ الحصى ولم يوجد على ظهر الأرض من هو أكمل من رسول الله عليه الصلاة والسلام في أي خصلة من خصاله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو النموذج الأكمل للبشر أجمعين، بما فيهم الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع إلى كمال القوة العلمية كمال القوة العملية، فمع علمه صلى الله عليه وسلم بالله على أكمل الأحوال كان أكمل الناس إرادة، فكان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد، ويخالط الناس، ثم هو متزوج، ومات عن تسع نسوة، فكان يدير هذه البيوت ويقودها، ويدير أمة ويبني رسالة، ويبلغ العالمين، ولم يقصر صلى الله عليه وسلم بترك أي وارد من هذه الواردات، فصلى الله عليه وآله وسلم. إن ضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى، فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين صلاته وإرادته، فضعف الطلب وفتور الهمة لا يأتي إلا من نقصان الشعور والإحساس، أو من وجود الآفة المضعفة للحياة، فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة، وضعفها دليل على ضعفها، وكما أن علو الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة، فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها؛ فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلباً، وحياة البهائم خير من حياتهم، كما قيل: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم الردى: أي الهلاك. وتكدح فيما سوف تذكر غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم غبه: عاقبته. تسر بما يفنى وتفرح بالمنى كما غر باللذات في النوم حالم

ذم دنو الهمة وبيان سببه

ذم دنو الهمة وبيان سببه وهنا نناقش موضوعاً مهماً، وهو أن كثيراً من الناس يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فما السبب في أن كثيراً من الناس يطلبون الأدنى والأخس من الأمور؟ السبب الذي يجعل كثيراً من الناس يطلبون الأدنى من الأمور ويقصدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً: فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمة، فكلما صح العلم وانتفى الجهل وصحت العزيمة وعظمت الهمة، طلب الإنسان معالي الأمور، فبعض الناس همه لقمة يسد بها جوعته، وشربة روية تذهب ظمأه، ولباس يواري سوأته، وهذا هو المذهب الرديء، بل هذا مذهب كان منتقصاً حتى بين أهل الجاهلية؛ فأهل الجاهلية أنفسهم كانوا يذمون من يعيش من أجل هذه المقاصد. وفي مثل هؤلاء يقول حاتم الطائي -وقد أدرك الإسلام ولم يسلم- ومع ذلك يقول في ذم هذا الذي يعيش من أجل هذه المقاصد السفلية-: لحا الله صعلوكاً مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوساً ومطعما يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلة الهم مبهما قوله: (لحا الله صعلوكاً) يعني: قبح الله صعلوكاً، والمقصود به هنا الفقير. وقوله: (مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً)، يعني: لا يعيش إلا من أجل الملابس ومن أجل الطعام. وقوله: (يرى الخمص تعذيباً) يعني: يرى خلو البطن تعذيباً. وقوله: (وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلة الهم مبهماً)، يعني ينام قرير العين؛ لأنه نائم وهو شبعان، وقوله: (مبهماً) يعني: خالياً. ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا، كحال طرفة بن العبد، فقد قيل له: ما أطيب عيش الدنيا؟ فقال: مطعم شهي، وملبس دفيء، ومركب وطيء. يعني: سهل. وقال طرفة أيضاً مبيناً غايته من الحياة: ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي الجد هنا: الحظ والبخت، أي أنه يحلف بالحظ. وقوله: (لم أحفل) يعني: لم أهتم، (متى قام عودي) جمع عائد، من العيادة. فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد العاذلات جمع عاذلة، والعذل هو الملامة، وكميت: اسم من أسماء الخمر، يعني: أنه شرب خمرة فيها حمرة وسواد. والزبد: الرغوة التي تكون فوق الخمر. وكري إذا نادى المضاف محنباً كسيد الغضا نبهته المتورد الكر هو: العطف، وقوله: (إذا نادى المضاف محنباً)، يعني: الذي في يده انحناء. وقوله: (كسيد الغضا)، الكسيد هو: الذئب، والغضا: الشجر. وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء المعمد فهذه الأبيات لهذا الشاعر تبين همته. ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف محنباً كسيد الغضا نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء المعمد وقوله: (تقصير يوم الدجن)، الدجن هو: الغيم حين يملأ آفاق السماء، وتقصيره يعني: جعل هذا اليوم قصيراً، أي: أنه يشعر أن اليوم قصير، كيف يقصره؟ بأن يقضيه مع امرأة حسناء. وقوله: (ببهكنة) هي: المرأة الحسنة الخلق السمينة. وقوله: (تحت الخباء المعمد)، يعني: تحت الخيمة التي رفعت بالأعمدة. فكثير من الناس همه من دنياه هم هذا الشاعر المسكين، فهمته شرب الخمر، والتمتع بامرأة حسناء، وقليل من الناس من تنهض همته إلى الدفاع عن الخائف والمستجير. وبهذا الشاعر اقتدى أبو نواس؛ فـ أبو نواس يتحدث عن غايته من الحياة فيقول: إنما العيش سماع ومدام وندام فإذا فاتك هذا فعلى العيش السلام هذا الذي يعيش من أجله، وهذه هي غايته في الحياة. فقوله: (إنما العيش سماع)، يعني: موسيقى وألحان. وقوله: (ومدام وندام)، المدام هو: شرب الخمر، والندام: جلسات المنادمة، والندامى هم الذين يجلسون ويسهرون في الخمر. وهذا جميل بثينة شاعر قصر همته على ملاحقة النساء، يذكره أحدهم ويأمره بأن يخرج إلى الجهاد في سبيل الله فيجيبه قائلاً: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد فهذه نماذج من همم بعض الناس وغاياتهم في الحياة؛ حيث إن همتهم هي في النساء، والمناصب، والأموال، والغنى، وقد يكون لبعض الناس مسعى ومطلب يعده من علو الهمة، كحال امرئ القيس عندما أفاق من سكره وعبثه على زوال ملك أبيه، فانطلق جاداً طالباً إعادة هذا الملك، وطبعاً نحن لا نقول: إن هذا من علو الهمة، لكن نحن نبين حال هذا الصنف، وهذا بالنسبة لما مضى يعتبر أعلى، لكن ليس هذا هو علو الهمة المراد، فلا يكون الإنسان عالي الهمة إلا إذا رجا الآخرة، وهذا سنفصله إن شاء الله. فـ امرؤ القيس لما أفاق من السكر والعبث فوجد ملك أبيه قد ضاع، أنفق عمره في البحث عن استرداد ملك أبيه الضائع، وجعل يقول: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وطال استطلابه للملك حتى قضى نحبه في طلبه، وهو القائل: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عيناك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا فضيع حياته أولاً في المتع والشهوات، وقضى شطر عمره الثاني في طلب الملك الضائع، وانتهت حياته، ولم يحصل مطلوبه، ومات كما مات المتنبي من بعده طلباً للملك والإمارة، فأعياهما الطلب، وما أكثر الذين طلبوا الملك والرئاسة وألحوا في طلبها، فحامت حول الملك همتهم، وطافت به عزيمتهم. كان الأديوردي -وهو من الشخصيات النادرة في التاريخ الإسلامي، وهو من الأمويين- يدعو عقب كل صلاة: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها. يعني: كانت هذه همته، وله في ذلك الأشعار الفائقة التي تكشف عن شخصية ونفسية شديدة الشبه بشخصية المتنبي. وقيل لـ يزيد بن المهلب: ألا تبني داراً؟ فقال: منزلي دار الإمارة أو الحبس. أي: أنه لم يكن متخذاً منزلاً ولا داراً، فلما قال له رجل: ألا تبني داراً؟ قال: منزلي إما دار الإمارة، وإما الحبس. يعني: أن هذا هو الهدف الذي يعيش من أجله. وقال آخر: وعش ملكاً أو مت كريماً وإن تمت وسيفك مشهور بكفك تعذر

تفاوت الهمم بين الحيوانات

تفاوت الهمم بين الحيوانات ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: أن الهمم لا تتفاوت بين بني البشر فقط، لكنها تتفاوت حتى بين الحيوانات والبهائم، فالهمم تتفاوت في جميع الحيوانات، ويذكر بعض العلماء أمثلة في هذا فيقول: العنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتاً، ولا يقبل منة الأم. والحقيقة أن التعبير بالأنثى هنا يكون من الناحية العلمية أدق، ونحن سعداء بأننا نتناقل كلام العلماء السابقين، وقد نقف على الأخطاء، فلا نتكلم على الميت بعدما يموت. فمثل هذا التعبير قد يستغرب، فأنثى العنكبوت هي التي تنسج؛ وهذا من إعجاز القرآن الكريم؛ حيث يقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، وقد اكتشف حديثاً أن الذي ينسج البيت هو أنثى العنكبوت وليس الذكر، ولذلك قال تعالى: (كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ) بتاء التأنيث؛ لأن الأنثى هي التي تنسج بيت العنكبوت، فهذا من آيات الله سبحانه وتعالى. يقول: فالعنكبوت من حين تولد تنسج لنفسها بيتاً، ولا تقبل منة الأم. وهذا أيضاً من علو الهمة، والحية تطلب ما حفر غيرها؛ إذ طبعها الظلم، والغراب يتبع الجيف، والصقر لا يقع إلا على الحي، والأسد لا يأكل البايت، أي: أن الأسد لعلو همته لا يأكل الطعام البايت، والفيل يتملق حتى يأكل، والخنفساء تطرد فتعود. قال المتلمس: إن الهوان حمار البيت يألفه والحر ينكره والفيل والأسد ولا يقيم بدار الذل يألفها إلا الذليلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فما يرثي له أحد يعني: ما يرق له أحد.

تفاوت الناس في علو الهمة

تفاوت الناس في علو الهمة والناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً؛ حسب حظهم من الهمة، يقول الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، فالهمة هي رزق من الله عز وجل، فـ {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، ومن حكمته سبحانه وتعالى أن فاضل بين خلقه في قواهم العملية، كما فاضل بينهم في قواهم العلمية، يقول المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال مصعب بن الزبير: أتمنى ولاية العراق، وتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله. فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه -أي: أنه سأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الفقه- وأن يحمل عنه الحديث. فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة رضي الله تعالى عنه وعن أبيه. فانظر إلى الهمة كيف تتفاوت، ولعلها كانت -والله أعلم- ساعة إجابة، فكل من تمنى نال ما تمنى، فـ مصعب طلب الإمارة والزوجتين، مع صعوبة تحصيل زواج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، كما هو معروف، لكن مع ذلك نالهما، وعروة طلب الفقه والحديث، فآتاه الله ذلك، وعبد الملك طلب الخلافة فنالها، وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه طلب الجنة، ولعله قد نالها. فهذا يدل على تفاوت الهمم في الناس؛ فمن الناس من ينشط للسهر في سماع سمر، حتى لو كان سمراً حلالاً؛ ليتحدث مع أصدقائه ومجالسيه، وينشط لهذا، وتأتيه همة، وما يشتكي التثاؤب ولا النوم ولا غير ذلك، وبعض الناس عنده قوة وتصميم في الشر، فيسهر إلى الواحدة أو الثالثة صباحاً أمام الأفلام والفيديو والمسرحيات وهذه الأشياء، فانظر كيف واقع الناس يصدق قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]. ومنهم من يحفظ بعض القرآن، ثم يتوقف، ولا يستمر إلى التمام، ومنهم من يعرف الفقه، ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليل، ومنهم من يطلب معالي الأمور دون أن تكون له إرادة وسعي في تحقيقها، ومن كان هذا حاله فهو مغتر بالأماني الكاذبة، قال الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركاباً ولو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل، ونبت عن النقص، فاستخدمت البدن، كما قال الشاعر: ولكل جسم في النحول بلية وبلاء جسمي من تفاوت همتي أي: أنه كان نحيلاً، فيعلل سر هذا النحول فيقول: ولكل جسم في النحول بلية أي: ممكن أن الإنسان يكون هزيلاً بسبب مرض أو بسبب سوء تغذية أو غير ذلك من الأسباب، ويمكن أن يكون بسبب همته العالية التي تستخدم بدنه وترهقه في سبيل تحصيل مطالبه، ولذا قال: وبلاء جسمي من تفاوت همتي يعني: من علو همتي. وقال المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام وآخر يقول: وقائلة لم غيرتك الهموم وأمرك ممتثل في الأمم؟ فقلت ذريني على غصتي فإن الهموم بقدر الهمم ولما ولي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى الخلافة خيَّر امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على شرط أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكت جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره من شدة البكاء، ثم اختارت رحمها الله تعالى مقامها معه على كل حال. وقال رجل لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لما ولي الخلافة: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين! فأجابه قائلاً: قد جاء شغل شاغل وعدلت عن طرق السلامه ذهب الفراغ فلا فرا غ لنا إلى يوم القيامه وهذا الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله يقول: الجسم تذيبه حقوق الخدمة والقلب عذابه علو الهمة والعمر بذاك ينقضي في تعب والراحة ماتت فعليها الرحمة

بعض خصائص عالي الهمة

بعض خصائص عالي الهمة من خصائص كبير الهمة: أنه يعلم تماماً أنه بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى، يعني: أن ثمن الهدف العالي الذي يصبو إليه أن يكون هناك جهد جهيد يبذله؛ كي يصل إلى هذا الهدف، فلا يغرق في أحلام اليقظة والأماني الكاذبة، ولا يغتر بالأماني وهو لا يسعى في تحصيلها؛ فلابد لكل سلعة من ثمن يليق بها، فعالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر عليها إلا على جسر من التعب، كما يقول الشاعر: بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب ويقول آخر: فقل لمريد معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا ويقول آخر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال ويقول آخر: والذي يركب بحراً فيرى قحم الأهوال من بعد قحم أي: قد تروم هذه الغاية. ويقول آخر: الذل في دعة النفوس ولا أرى عز المعيشة دون أن يشقى لها كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يصوم حتى يعود كالخلال، أي: حتى يصبح نحيفاً كالأعواد التي يخلل بها الأسنان، فقيل له: لو أجممت نفسك؟ يعني: أرح نفسك، فقال: (هيهات؛ إنما يسبق من الخيل المضمرة)، فالفرس الذي يسبق لا يكون فرساً سميناً مليئاً بالشحوم، لكن كلما كان هزيلاً ورشيقاً كان أقوى على أن يسبق. وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة. وقيل: فيا وصل الحبيب أما إليه بغير مشقة أبداً طريق يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: تعالى: وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، ومن تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله! يعني: أن كل ما فيه أهل الجنة هو عبارة عن أنهم صبروا في الدنيا ساعات، كما قال عز وجل حاكياً عن المجرمين: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:113]. وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً تبعت في مرادها الأجسام وقال ابن الرومي: قلب يظل على أفكاره وئد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب وقال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة البدن. ولا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب، وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقه، وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، أما في هذه الدار فكلا، ولا يمكن أبداً؛ فمن أراد الراحة والنعيم واللذة فلن ينالها هاهنا في الدنيا؛ لأن الدنيا لابد أن تنغص بالمشاق والكدور والآلام والعناء، ولا يمكن أن تكون دار راحة ونعيم ولذة، وآية ذلك أن الأنبياء الذين هم أكرم الخلق على الله منهم من قتل، ومنهم من عانى المرض كأيوب عليه السلام، ومنهم من عانى الفقر، ومنهم من لقي الأذى، فجميع الأنبياء بلا شك عانوا وبذلوا وتعبوا في هذه الدنيا، وأوذوا فيها؛ لهوانها على الله سبحانه وتعالى، فليست هي دار إكرام عباد الله سبحانه وتعالى. وهنا يذكر الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى كلاماً في غاية الجودة والإفادة في هذه النقطة بالذات، يقول رحمه الله: كبير الهمة دوماً في عناء، وهو أبداً في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ؛ لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها، ولن تقتصر همته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن. ثم يرى أن المراد من العلم العمل، وهو يتكلم هنا عن عذاب عالي الهمة، وبنفس الوقت تجد أن هذا عذاب له لذة، وله هذا الطعم الحسن. يقول: ثم يرى أن المراد العمل؛ فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لابد منه، فهو محتاج أيضاً من المال والنفقة إلى ما لابد منه لقوام عيشه، ويحب الإيثار، أي: أن من أخلاق عالي الهمة الإيثار، فحتى لو كان معه مال فسيؤثر غيره، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرم البذل، فصفة الكرم تدعوه إلى البذل، وتمنعه عزة النفس من الكسب من وجوه التبذل، فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك، ولكن تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثمة فهم.

تعب وعناء صاحب الهمة العالية

تعب وعناء صاحب الهمة العالية يقول رحمه الله: كبير الهمة دوماً في عناء، وهو أبداً في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ؛ لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها، ولم تقتصر همته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن، ثم يرى أن المراد العمل، فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لابد منه، ويحب الإيثار، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرمُ البذلَ، وتمنعه عزة النفس من الكسب من وجوه التبذل، فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك، ولكن تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثمة فهم، ومصداقه في قول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: أرى نفسي تتوق إلى أمور يقصر دون مبلغهن مالي فنفسي لا تطاوعني ببخل ومالي لا يبلغني فعالي وقيل لـ ربيع بن خثيم لاجتهاده في العبادة: لو أرحت نفسك؟ فقال: راحتها أريد. ربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سبباً ما مثله سبب، يعني: أن هذا الشيء المكروه قد يكون هو أعظم سبب يوصله إلى المحبوب. وقال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي: دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبد الله! عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور؛ كأني أسهل عليه الإجابة، فقال لي أحمد بن حنبل: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد! فقد استرحت. لكن هل هذه الراحة ممدوحة؟ A لا، بل الهمل أو السفل من الناس. وتأملوا هذه العبارة من الإمام أحمد؛ حيث يقول: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد! فقد استرحت. يعني: كراحة هؤلاء الذين سفلت همتهم. وقد قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم في الجنة. ويقول الشاعر: أحزان قلبي لا تزول حتى أبشر بالقبول وأرى كتابي باليمين وتسر عيني بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقال الأمير شمس المعالي قابوس: اقتناء المناقب باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل بالسعي في الخطب الجليل. وعالي الهمة لا يعرف التوسط، يعني: إما يصل إلى غايته، وإما أن يموت، كما يقول الشاعر: ونحن أناس لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر وأحدهم لما عوتب لشدة اجتهاده قال لمن عاتبه: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها، ولا أحب أن أغبن أيامي. يقول الشاعر: انفضوا النوم وهبوا للعلا فالعلا وقف على من لم ينم فالصلاة خير من النوم، والتجلد خير من التبلد، والمنية خير من الدنية، ومن عز بز. فثب وثبة فيها المنايا أو المنى فكل محب للحياة ذليل فترى عالي الهمة منطلقاً بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم الأهوال، ويستهين بالصعاب، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة)، يعني: لا تلقي نفسك بنفسك، ولكن عليك بجسام الأمور دون سفاسفها، وعليكم بالمخاطرة والجرأة والإقدام. وقال أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه: (من طلب عظيماً خاطر بعظيمته)، يعني: بروحه. وقال كعب بن زهير: وليس لمن لم يركب الهول بغية وليس لرحل حطه الله حامل وقال آخر: ذريني أنل ما لا ينال من العلى فصعب العلى في الصعب والسهل في السهل تريدين إدراك المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل وقال الشريف الرضي: رمت المعالي فامتنعن ولم يزل أبداً يمانع عاشقاً معشوق وصبرت حتى نلتهن ولم أقل ضجراً دواء الفارك التطليق والفرك هو بغض أحد الزوجين للآخر، وفي الحديث: (لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخر). فهنا يقول: (رمت المعالي فامتنعن)، يعني: امتنعنت علي؛ لأنه عشق المعالي فامتنعت منه فظل يصارعها ويطلبها، كدأب العاشق والمعشوق. وقوله: (ولم أقل ضجراً: دواء الفارك التطليق)، أي: لم أقل: إن الذي يفرك يضرب زوجته ويطلقها، ولم أطلق المعالي، لكنني صبرت حتى نلتها. وعالي الهمة دائم الترحال في طلب مبتغاه حيث لاح له، كما قال الشاعر: همم تقاذفت الخطوب بها فهرعن من بلد إلى بلد ويقول آخر: إذا لم أجد في بلدة ما أريده فعندي لأخرى عزمة وركاب وقال: مالك بن الريب: وفي الأرض عن دار المذلة مذهب وكل بلاد أوطنت كبلادي

قوة عزيمة عالي الهمة وبذله وتضحيته

قوة عزيمة عالي الهمة وبذله وتضحيته وعالي الهمة لا يزال يطير إلى المعالي بجناح الهمة، لا يلوي على شيء، ولا يستفزه لوم اللائمين، ولا تخبيط القاعدين، يعني: أن من خصائص عالي الهمة أنه مع تفرده في الطريق، والوحشة التي هو فيها لا يقوى أحد أبداً على أن ينقص من عزيمته، كما قال الشاعر: سبقت العالمين إلى المعالي بصائب فكرة وعلو همة ولاح بحكمتي نور الهدى في ليالي الضلالة مدلهمة يريد الجاهلون ليطفئوه ويأبى الله إلا أن يتمه وقال الشماخ بن ضرار يمدح عرابة الأوسي: رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لنجد تلقاها عرابة باليمين وقال أبو القاسم السعدي: أعاذلتي على إتعاب نفسي ورعيي في الدجى روض السهاد إذا شام الفتى برق المعالي فأهون فائت طيب الرقاد ومن أراد الجنة سلعة الله الغالية لن يلتفت إلى فلوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل؛ ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة). والسلعة الغالية لابد أن تدفع لها ثمناً غالياً. وقدر السلعة يعرف بقدر مشتريها، فمن الذي يشتري أرواح المؤمنين؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فقدر السلعة يعرف بقدر مشتريها، ويعرف أيضاً بقدر الثمن المبذول فيها، والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيماً والثمن خطيراً والمنادي جليلاً كانت السلعة نفيسة، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. يقول الشاعر: أنت يا مفتون ما تبرح في بحر المنام فدع السهو وبادر مثل فعل المستهام واسكب الدمع على ما أسلفته وابك لا تلو على عذل الملام أيها اللائم دعني لست أفضي للملام إنني أطلب ملكاً نيله صعب المرام في جنان الخلد والفر دوس في دار السلام وعروساً فاقت الشم س مع بدر التمام طرفها يشرق بالخ ط مضياً بالسهام ولها قضو على خ د كنون تحت لام أحسن الأتراب قداً في اعتدال وقوام مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام وقد لا يتسنى له إدراك بغيته مع علو همته وشدة سعيه، لكنه يقول: عليَّ أن أسعى وليس عليّ إدراك النجاح فقد لا يتسنى للمرء إدراك بغيته وتحقيق غايته؛ لأمور خارجة عن إرادته، فلا يفعل ذلك من عزيمته، ولا يحط من همته، بل يعزي نفسه أنه أدى ما عليه، وأعذر إلى نفسه، ومبلغ نفس عذرها مثل منجح. يقول الطائي: وركب كأطراف الأسنة عرسوا على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره وليس عليهم أن تتم عواقبه وقال آخر: سأضرب في طول البلاد وعرضها أنال مرادي أو أموت غريبا فإن تلفت نفسي فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا ويقول آخر: عجبت لهم قالوا تماديت في المنى وفي المثل العليا وفي المرتقى الصعب فأقصر ولا تجهد يراعك إنما ستبذر حباً في ثرى ليس بالخصب فقلت لهم مهلاً فما اليأس شيمتي سأبذر حبي والثمار من الرب إذا أنا أبلغت الرسالة جاهداً ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي يعني: مادمت أنا لم أقصر في إقامة الحجة على الخلق، وهم لم يستجيبوا، فما ذنبي أنا؟ فالداعية عالي الهمة يتمثل دائماً قول الصالحين قبله: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، فإذا لم تتحقق كل غاياتهم فحسبهم أنهم كانوا كما قال سيد قطب رحمه الله تعالى: كانوا أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا، وقبضوا الأجر المعلوم. فأنت أجير تعمل وتقبض الأجر من الله سبحانه وتعالى، وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير؛ فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير. وحسبهم أن النبي قد يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والثلاثة، وقد يأتي نبي وليس معه أحد؛ لأنه لم يستجب له أحد، وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى:48]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]. والله أعلم.

علو الهمة [2]

علو الهمة [2] لعالي الهمة خصائص يعرف بها، كما أن لخسيس الهمة صفات يوصف بها، فعالي الهمة روحه في العلياء وجسده في الأرض، بينما خسيس الهمة روحه في السفل والدنو، لذا ينبغي على المسلم أن يعرف خصائص عالي الهمة حتى يقتدي بها؛ ليكون إنساناً مؤثراً في مجتمعه وبيئته، فإن أصحاب الهمة العالية يغيرون مجرى التاريخ ومسار حياة الناس بإذن الله عز وجل.

عالي الهمة لا ينقض عزمه ولا يتردد

عالي الهمة لا ينقض عزمه ولا يتردد كنا قد شرعنا في مدارسة هذا البحث المتعلق بعلو الهمة، وذكرنا ماهية الهمة، وذكرنا أن الهمة مولودة مع الآدمي، وقلنا: إنه لابد للسالك إلى الله سبحانه وتعالى من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه، وذكرنا أقسام الناس من حيث القوتان: العلمية والعملية، فهناك قوة علمية وقوة عملية، أو علم وإرادة أو علم وهمة، فبعض الناس يجتمع له الأمران: قوة علمية وقوة عملية، وبعض الناس ينعدم فيه الأمران؛ فلا علم ولا إرادة، وبعضهم يوجد عنده الإرادة دون العلم، وبعضهم يوجد عنده العلم دون الإرادة. وذكرنا أن الهمة وظيفة قلبية محلها القلب، ومن ثم لا سلطان لأحد على الهمة حتى ولو كان له سلطان على الجسد؛ لأن الهمة عمل القلب والقلب لا سلطان عليه إلا لله سبحانه وتعالى، وقلنا: إن قوة المؤمن كامنة في قلبه وإن القلب يحيا بالعلم والهمة، وناقشنا لماذا يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتكلمنا عن تفاوت الهمم حتى بين الحيوانات، وكيف يتفاضل الناس بتفاوت هممهم، وذكرنا أن عالي الهمة بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى. ومن خصائص عالي الهمة أنه لا ينقض عزمه، قال عز وجل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، فهو لا يعرف التردد، بل متى ما حدد غايته يمضي إليها ولا يلوي على شيء، ولا يلتفت إلى لوم اللائمين ولا عذل العاذلين، وهذا هو الأدب الذي أدب الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ))، وامتدح الله سبحانه وتعالى الصالحين بقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد:20]، وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. ولما أشار بعض الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة أحد بالخروج إلى المشركين ومقاتلتهم خارج المدينة، نزل صلى الله عليه وسلم على رأيهم، مع أنه كان يرى خلاف ذلك، لكنه نزل على رأيهم وأخذ بمشورتهم، وبعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين دخل إلى منزله فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعيه ثم خرج على قومه بكامل عدته الحربية، وأذن فيهم بالخروج إلى العدو، وكان ذوو الرأي من الأنصار أو هؤلاء الذين أشاروا قد ندموا حين شعروا أنهم قد استكرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتباع خطة معينة لمقاتلة العدو كان هو يفضل غيرها، فندموا على ما أشاروا به وأنهم خالفوا مشورته، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت، وامكث داخل المدينة كما أمرتنا، فلم يرض أن ينقض همته؛ لأنه عزم ومضى وحدد فلا يتردد، وقال لهم مصمماً على الخروج: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين وبين عدوه)، يعني: لا ينبغي لنبي إذا لبس كامل سلاحه الذي يخرج فيه للقتال أن يضعه، بل مادام قد عزم فلا يتردد، ولا ينقض ما هم به وما عزم عليه. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت الأنصار عمر إلى أبي بكر ليحبس الجيش أو ليولي عليهم رجلاً أقدم سناً من أسامة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم قد هيأ أسامة للخروج لمحاربة الروم، وكان أسامة حديث السن جداً في ذلك الوقت، فالأنصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت عمر إلى أبي بكر أنه إما أن يحبس الجيش ولا يرسله وإما أن يغير الأمير ويعين شخصاً أكبر سناً من أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما. فقال أبو بكر: (والله! لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إن الأنصار أمروني أن أبلغك وهم يطلبون إليَّ أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة، فوثب أبو بكر وكان جالساً، فأخذ بلحية عمر فقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟!) يعني: هل أنقض أنا أمراً عزم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: (ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، حسبي ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله). وحين جاءه عمر في حروب الردة يقول له: (تألف الناس وارفق بهم. فقال أبو بكر: رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك! أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوينقص الدين وأنا حي؟! قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق). والشاهد من الواقعتين: أن أبا بكر رضي الله عنه الذي هو أفضل البشر بعد الأنبياء، تعلم هذا الأدب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا مضى وعزم لا يتردد ولا يشتت همته ولا ينقض عزمه. قال جعفر الخلدي البغدادي: ما عقدت لله على نفسي عقداً فنكثته. فإذاً: الشخص الذي تعلو همته وتكبر همته إذا حدد غايته ومنهاجه في الحياة فإنه لا يتردد فيه ولا يتلعثم ولا ينقض العزم الذي عزم عليه، فإذا نوى التوبة يستقيم على التوبة، وإذا نوى الإقلاع عن فعل معين وعاهد الله على ذلك يوفي بعهده ولا ينقض هذا الميثاق. وقال صالح بن أحمد: عزم أبي -أي: الإمام أحمد - على الخروج إلى مكة ورافق يحيى بن معين، فقال أبي: نحج ونمضي إلى صنعاء إلى الإمام عبد الرزاق، يعني: بعدما يحجان يسافران إلى اليمن ليلقيا الإمام عبد الرزاق الصنعاني حتى يحدثهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبد الرزاق في الطواف، يعني: أنهما خرجا على أساس أنهما بعد الحج يذهبان إلى اليمن، ففوجئا بالإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق فسلم عليه يحيى وقال: هذا أخوك أحمد بن حنبل فقال: حياه الله، إنه ليبلغني عنه كل ما أسر به ثبته الله على ذلك، ثم قام لينصرف، فقال يحيى: ألا نأخذ عليه الموعد، يعني: نأخذ عليه موعداً في مكة كي يحدثنا بدلاً من أن نسافر إلى اليمن، فأبى أحمد وقال: لم أغير النية في رحلتي إليه. فأبى الإمام أحمد أن ينقض عزمه أو أن يهدم نيته السابقة في السفر إلى اليمن في طلب العلم، ولذا قال له: لم أغير النية في رحلتي إليه، أو كما قال، ثم سافر إلى اليمن لأجله، وسمع منه الكتب وأكثر عنه. وقال الحافظ أبو إسحاق الحبال: كنت يوماً عند أبي نصر السجزي فدُق الباب فقمت ففتحته، فدخلت امرأة وأخرجت كيساً فيه ألف دينار فوضعته بين يدي الشيخ، وقالت: أنفقها كما ترى. يعني: أنفق هذا المال كما ترى، قال: ما المقصود؟ يعني: ماذا تقصدين بهذا؟ قالت: تتزوجني، ولا حاجة لي في الزواج، ولكن لأخدمك، يعني: أنها كانت امرأة صالحة تريد أن تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بأن تخدمه؛ لتعينه على ما هو فيه من نشر العلم، فأمرها بأخذ الكيس وأن تنصرف، فلما انصرفت قال الإمام: خرجت من سجستان بنية طلب العلم، ومتى تزوجت سقط عني هذا الاسم، وما أوثر على ثواب طلب العلم شيئاً، يعني: أنه لم يخرج بنية الزواج ولا غيره، فهو لا يريد أن ينقض نيته في الخروج إلى طلب العلم بأي أمر آخر. ومن ذلك أيضاً ما يذكره بعض القصاص من أن رجلاً خطب امرأة ذات منصب وجمال فأبت الزواج به لفقره ولقلة حسبه، وقالت له: أنت فقير وما تصلح، ففكر بأي الأمرين ينالها أبالمال أم بالحسب، فاختار الحسب، يعني: أنها أخذت عليه أنه فقير وأنه ليس ذا حسب، فقال: أعالج عندي هاتين الصفتين فإما أن أنال الحسب أو أنال المال، فاختار أن ينال الحسب، فطلب العلم من أجل أن يكون له شهرة وصيت ويكون له حسب وشهرة بالعلم، ومعنى هذا: أنه كان يقصد من طلب العلم التأهل لزواج هذه المرأة، فطلب العلم حتى أصبح ذا مكانة، وحينئذٍ بعثت إليه المرأة تعرض نفسها، فقال: لا أوثر على العلم شيئاً، يعني: أنه لما طلب العلم أرشده إلى تصحيح النية وإلى الأعمال الصالحة فدخل في عداد قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فتورع بترك امرأة كان طلب العلم لأجلها إعلاناً بصدق قصده وسلامة مأربه. فمن كل هذا نخلص إلى أن الإنسان إذا اختار له طريقاً فلا يتردد ولا ينقض عزمه ولا همته ولا نيته.

ندامة عالي الهمة

ندامة عالي الهمة من خصائص الإنسان الكبير الهمة أنه ليس كالناس أو ليس كسائر الناس فيما هم فيه في كل أحواله حتى في ندمه، فننظر الآن علامَ يندم كبير الهمة؟ وما هي الأشياء التي تجعل كبير الهمة يندم؟ فكبير الهمة كائن متميز في كل خصائصه حتى في ندمه، فبينما يندم خسيس الهمة لفوات لذاته، أو يتحسر لفراق شهواته فإن لكبير الهمة شأناً آخر حتى وهو يندم، كما تنبئ عنه المواقف التالية: فهو يتحسر على ساعة مرت به في الدنيا، لا لأنه عصى الله فيها وإنما لأنه لم يعمرها بذكر الله عز وجل. هذا أول شيء من الأشياء التي يتحسر عليها كبير الهمة إذ لا يندم على ذهاب شيء من أعراض الدنيا، وإنما يندم أكثر ما يندم على ساعة مرت به لم يذكر فيها الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها) هذا هو الشيء الوحيد الذي يتندمون عليه، مع أن الجنة لا نصب فيها ولا حسرة ولا ندم ما عدا على هذه فقط، فأهل الجنة فقط يذوقون الحسرة على ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا فيها الله عز وجل. كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن، وفي رواية: حتى يفرغ منها، فله قيراطان من الأجر. قيل: يا رسول الله! وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين، وفي رواية قال: كل قيراط مثل أحد)، وكان ابن عمر قد أخذ قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده وهو جالس فلما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث ضرب بالحصى الذي كان في يده الأرض تعبيراً عن الندم ثم قال: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة)، فندم على ما مضى حيث إنه كان أحياناً إما أنه لا يحضر الجنازة وإما أنه يحضر فقط ولا يبقى حتى تدفن فحرم من هذه القراريط. وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه يتحسر لموته على فراشه، فقد قال لما حضرته الوفاة: (لقد شهدت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، ثم هأناذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء). فتصور كيف يندم على أنه طلب الشهادة في كل مظانها وخاض الحروب والجهاد في سبيل الله رجاء أن ينال الشهادة في سبيل الله ولكن الله سبحانه وتعالى كتب له أن يموت على فراشه، فهو يندم على ذلك ويشبه موته بموت البعير الذي يموت حتف أنفه، ثم يقول: (فلا نامت أعين الجبناء) يعني: أنه يدعو على الجبناء الذين يخافون أن يخرجوا للجهاد خشية الموت، فيقول: إنني خضت كل هذه المعارك ومع هذا لا أموت إلا على فراشي. وكان أبو محجن الثقفي مولعاً بالشراب مشتهراً به، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قد حبسه بسبب شربه الخمر، فلما كان يوم القادسية وبلغه ما يفعل المشركون بالمسلمين وهو عند أم ولد لـ سعد، قال هذا الشعر: كفى حزناً أن تطعن الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا أي: أنه يندم على أنه كان متخلفاً عن الجهاد والمسلمون يلاقون عدوهم في القادسية، ولذا قال: كفى حزناً أن تطعن الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مغاليق من دوني تصم المناديا وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة فقد تركوني واحداً لا أخا ليا أريني سلاحي لا أبا لك إنني أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا فقالت له أم ولد سعد، وكانت تقريباً هي القائمة على حراسته، قالت له: أتجعل لي إن أطلقتك أن ترجع حتى أعيدك في الوثاق؟ أي: تعدني أني إذا أطلقتك الآن وأخرجتك كي تشارك في الجهاد تذهب فإذا فرغت من الجهاد تعود إلى القيد ثانية وإلى الحبس، فقال: نعم. فانظر كيف حرصه على الجهاد، عاهدها على أنه إذا فرغ من الجهاد يعود للمحبس كما كان، فأطلقته، وركب فرساً لـ سعد بلقاء من خيول سعد الخاصة، وحمل على المشركين، فجعل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يراه وهو يقاتل فيقول: لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي، وانكشف المشركون -أي: انهزموا- وجاء أبو محجن بعد أن فرغ من الجهاد فأعادته في الوثاق وأتت سعداً فأخبرته بما كان من أبي محجن، فأرسل سعد إلى أبي محجن فأطلقه وقال: (والله! لا حبستك فيها أبداً) يعني: مكافأة له على جهاده وحسن بلائه، فقال أبو محجن: (وأنا والله! لا أشربها بعد اليوم أبداً). وعن قتادة أن عامر بن قيس لما أتاه الموت جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وعلى قيام ليالي الشتاء، أي: أنه ندم على أنه سيفارق الدنيا ولم يتمكن لا من صيام الأيام الحارة ولا من قيام الليالي الباردة في الشتاء، فهذا هو الذي يندم عليه كبير الهمة. وذكروا لـ شعبة حديثاً لم يسمعه فجعل يقول: واحزناه! واحزناه! ويتحسر على أنه لم يسمع هذا الحديث. وكان شعبة رحمه الله يقول: إني لأذكر الحديث فيفوتني فأمرض. يعني: أنه كان يحاول أن يتذكر الحديث فلا يقوى على استرجاعه، فيصيبه المرض حزناً على أن هذا الحديث قد فاته. يقول الشاعر: كم فرصة ذهبت فعادت غصة تشجي بطول تلهف وتندم وقال القاسم بن سلام: دخلت البصرة لأسمع من حماد بن زيد فإذا هو ميت -يعني: وجده قد مات- فشكوت ذلك إلى ابن مهدي فقال لي: مهما سبقت فلا تسبقن بتقوى الله. قال هذا يواسيه ويعزيه: مهما سبقت وفاتك من العلم أو من الحديث فمازال باب التقوى والعبادة مفتوحاً فلا يسبقك أحد في طاعة الله سبحانه وتعالى. ولما حج أبو بكر السمعاني والسلفي ظفرا بـ أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر فتهاونا في أن يسمعا عليه الأحاديث، فسارع في النفر الأول، يعني: تعجل في يومين وذلك بأن نفر من الحج في ثالث أيام التشريق ورجع إلى موطنه سراة بني شيبان وفاتهما، فحزن تاج الإسلام أبو بكر فأخذ السلفي يسليه على شدة ندمه لما فاتهما ويقول: ما كان معه سوى صحيح البخاري وأنت في إسناده مثله. واقتنى الشيخ جمال الدين بن القفطي نسخة جميلة من كتاب الأنساب للسمعاني حررت بيد المؤلف، إلا أن فيها نقصاً، وبعد العناء الطويل حصل على الأوراق الناقصة من النسخة إلا على أوراق بلغه أن قلانسياً قد استعملها في شغله، يعني: أن رجلاً كان يصنع القلانس جعلها قوالب للقلانس فضاعت، فتأسف غاية الأسف على هذا الضياع، وكيف أن هذه الأوراق ضاعت بهذه الطريقة، وندم ندماً شديداً حتى كاد يمرض وامتنع أياماً عن الخروج إلى الأمير في قصره، وصار عدة من الأفاضل والأعيان يزورونه تعزية له وكأنه قد مات أحد أقاربه المحبوبين من شدة تألمه لفوات هذه الأوراق. فمن صفات عالي الهمة أنه لا يندم على أي شيء ولا يبالي بما فاته من الدنيا، وإنما يحزن مثل هذا الحزن إذا فاته شيء من مقاصد الآخرة.

تحري عالي الهمة للفضائل ومعالي الأمور

تحري عالي الهمة للفضائل ومعالي الأمور كبير الهمة هو الشخص الذي يتحرى الفضائل ومعالي الأمور على الإطلاق لا للذة ولا لثروة ولا لاستشعار نخوة ولا لغرض الاستعلاء على البرية وعلى خلق الله، لكنه يتحرى مصالح العباد شاكراً بذلك نعمة الله وطالباً به مرضاته غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قل المساعد، وطرق العلى قليلة الإيناس، فإذا عظم المطلوب وكان الهدف والغاية عالية وشريفة كلما قل من يساعدك ويستمر معك في المسير إليه، فلذلك طرق العلى قليلة الإيناس، يعني: أنها تكون موحشة لقلة السالكين. يقول الشاعر: أهم بشيء والليالي كأنها تطاردني عن كونها وأطارد فريد عن الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد عن ابن جدعان قال: (سمع عمر رجلاً يقول: اللهم اجعلني من الأقلين. فقال: يا عبد الله! وما الأقلون؟ قال: سمعت الله يقول: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وذكر آيات أخر، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر). وقال سفيان بن عيينة: اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين. وقال سليمان الداراني: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، أي: لو كل من على ظهر الأرض شكوا في الحق ولم يؤمنوا به أو لم يعملوا له ما شككت فيه وحدي، ولبثت أنا وحدي على هذا الحق. وقال بعض الصالحين: انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب. فعالي الهمة يترقى في مدارج الكمال بحيث يصير لا يأبه بقلة السالكين ووحشة الطريق؛ لأنه يحصل مع كل مرتبة يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة، وإلا انقطع به السبيل. والسالك إلى الله سبحانه وتعالى كلما ارتفع درجة يحصل له أمران: الأمر الأول: أنه يشعر بالمزيد من الوحشة؛ لأن رواد الطريق يقلون؛ فكلما كان الهدف أقرب والهمة أعلى والهدف أسمى يقل الناس؛ لأن الناس معظمهم يشتغلون بسفاسف الأمور وبالدنيا، أما هو فكلما ارتقى في مطلبه كلما وجد وحشة، ولكن هذه الوحشة تزول؛ لأنه كلما ترقى في الإيمان كلما يناله من الأنس بالله ما يلاشي هذه الوحشة. ويوضح هذا معرفة مراتب الدين الثلاثة، كما جاء في حديث جبريل حينما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فالإسلام أخص من الإيمان من حيث المعنى، لكنه أعم من حيث الأفراد، والإيمان أخص من الإحسان من حيث المعنى لكنه أعم من حيث المعنى، بمعنى أن كل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم، ولكن ليس كل مسلم مؤمناً ولا كل مؤمن محسناً. فهذه المراتب درجات ودرجات، وكلما ارتفع السالك درجة شعر بقلة في السالكين، فإذا لم يكن قد حصل مع ارتفاع كل درجة من الأنس بالله بقدر شعوره بقلة السالكين في هذه الدرجة فإنه يستولي عليه الشعور بالوحشة، فأحسن أحواله حينئذٍ أن ينقطع عن الرقي أو يمله، وهو بذلك مغبون، وإما أن يعود القهقرى، لكن إذا لم ييأس وعاود السير فإنه يربح فلا يخسر أبداً، فإن أول ثمرات العزة الإيمانية التي يحسها بها المؤمن إدراكه ما في الإسلام من قوة الحقيقة التي يكفي لكي تعلن عن نفسها أن تتمثل في فرد واحد، فإن الحق لا يعرف بكثرة العدد كما قال الشاعر: تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها: إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل فالكثرة هنا في ميزان الحق لا قيمة لها ولا وزن لها، فحقيقة الإسلام حقيقة عظمى في هذا الوجود يكفي كي تعلن عن نفسها بصورة صادقة أن تتمثل ولو في شخص واحد فقط، يقول تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل:120] فيكفي لهذه الحقيقة القوية أن تعلن عن نفسها حتى في شخص وفي فرد واحد، وليست مثل الآراء الجاهلية المخالفة المكونة من زيف الباطل واحتياجها إلى سواد كثير وعدد كبير من الأفراد، فإننا نجد في المناهج الباطلة المعادية للإسلام العدد الكبير والصوت العالي والضجيج وتكاتف عدد كبير جداً من الأفراد والهيئات وغير ذلك، وأي شخص ساذج يأسره هذا المنظر وهذا البهاء وهذا الصدى العالي، تأسره الكثرة وتأسره البهرجة وهذه الأشياء فيغتر وينطلي زيف الباطل عليه دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال، فهذه المظهرية هي مقياس الحق والباطل عندهم، فمن كان معه القوة والعدد الأكثر والصوت العالي فهو المحق عندهم، ومن ثم نجد كثيراً من المنهزمين من أبناء المسلمين الآن ينبهرون تماماً بما عليه الكفار في الغرب أو في الشرق بما يسمونه بحضارة وعمران وتقدم وكذا وكذا، بل قد لا يكتفي بالانبهار بما تفوقوا فيه من الحضارة المادية، وإنما قد ينتكس في إيمانه وفي دينه فينظر إليهم على أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، وأن كل شيء عند هؤلاء القوم ينبغي أن نأخذه وأن نتبعهم فيه دون تمحيص، فهو غره هذا البهرج وهذا الزخرف وهذه المناظر، وانطلى زيف الباطل عليه دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال، لكن الحق لا يحتاج إلى هذا، فممكن أن شخصاً واحداً يتمثل فيه الحق بصورة كاملة وحقيقية، فمن هنا رأينا الأمة الإسلامية تمثلت أكثر من مرة بمؤمن واحد فقط، كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل:120]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أي: كان مؤمناً وحده وكان الناس كفاراً جميعاً. وفي صحيح البخاري أنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لزوجته سارة: (يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك). ثم تمثلت هذه الدعوة دعوة الإسلام أيضاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، حيث كان هو الوحيد على وجه الأرض الذي يتمثل فيه دعوة الحق كاملة في أولى مراحل هذه الدعوة. فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد -يعني: أنه لم يكن ثم مسلم غيره- ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال). فإذا كان المؤمن الحق كبير الهمة فإنه يتحدى العالم كله ويتحدى كل من على ظهر الأرض بإيمانه ولا يتزعزع، كما قال ذلك العالم الجليل: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، فمن ثم تبنى الأمم بهمم هؤلاء الرجال، فممكن أن أمة بكاملها ينقذها شخص واحد، وممكن أن أمة بكاملها مهما أصابها من التدهور والانحطاط يحيي دينها ودعوتها مجدد واحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك إذا امتن الله على هذه الأمة بهؤلاء الأفراد الأفذاذ فإن الطريق يختصر جداً وتصلح بصلاحهم أمم من الناس، فمن ثم ينسد باب شعور المؤمن بالغربة، فالمؤمن الحقيقي لا يعاني من هذه الغربة الإيمانية؛ لأنه يمثل الإيمان والحقيقة، ولذا يشعر بأن الناس جميعاً وهم في ضلالهم هم الغرباء التائهون، ولذلك لما توهم واهم فوصف عبد الوهاب عزام الشاعر الشهير بالغربة كان جوابه سريعاً حيث قال: قال لي صاحب: أراك غريباً بين هذا الأنام دون خليل قلت: كلا بل الأنام غريب أنا في عالمي وهذي سبيلي يعني: لست أنا الغريب بل هم الغرباء حتى ولو كانوا كثرة؛ لأن الغربة الحقيقية هي الغربة عن الحق.

واقع الأمة الإسلامية في هذا العصر

واقع الأمة الإسلامية في هذا العصر وأما غربة الغرباء التي ذكرت في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى للغرباء) فالمقصود بها: الغربة بالنسبة للواقع من حولهم؛ لأن الغريب هو الشخص الذي يعيش في بلد ليس له فيها أهل، أو أهله فيها قليلون، هذه هي الغربة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ غريباً) يعني: ندرة الحق في وسط أمواج الضلال، فهم نادرون وقلة بين غثاء ضال، أما في عالم الضمير والشعور فإن للمؤمن الفرد من إيمانه أنيساً ورفيقاً وخليلاً يبعد هذا الشعور بالاغتراب في الناحية الوجدانية والقلبية ولا يجد الغربة، لكنه من حيث العدد هو غريب، لكن من حيث تمسكه واستيثاقه من الحق الذي بين جنبيه ليس غريباً بل يأنس بالله سبحانه وتعالى. والمسلمون الآن ليسوا آحاداً ولا عشرات ولا مئات حتى ولا آلافاً، بل المسلمون على وجه الأرض عدد كبير، بل كثير ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكنهم كغثاء السيل إلا ما رحم الله، ومع كثرتنا نحن ننهزم أمام الباطل ونتأثر بالحملات الملحدة على دين الله سبحانه وتعالى، ولو أننا حققنا هذا المعنى واستصحبنا هذه المفاهيم لما عانينا هذا العناء الذي نبالغ في الانفعال والتأثر به بصورة لا تليق بنا، فبعض الإخوة ينزعجون من ذلك، وأذكر أن بعض الإخوة كانوا قد جاءوا إلي كل على حدة بمجموعة من الصفحات من جريدة الضرار ولسان حال الملاحدة جريدة روز اليوسف، كلها طعن وشتم في الإسلام صراحة، وطعن مباشر في دين الله وسخرية من الدين، فقلت لهم: ما بالكم تنشغلون بهذا الباطل؟ وهل نحن كلما جاء أحدهم يقول نكتة ويقول: أنا أتيت بلعبة فيها لحية لابني يلعب بها أو يسخر من المنقبات أو يطعن في شريعة الله نقوم ونرد عليه؟ فهذا ليس شغلنا، فلدينا ما هو أهم، والله سبحانه وتعالى قال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن لم يكن هؤلاء هم الجاهلون فمن الجاهلون؟! فليس معقولاً أن كل من يلقي إلينا بصخرة نقف معه ونرد عليه ونناقش باطله، فأقوى ما يرد به على هؤلاء أن يعرض عنهم. وقد سمعت أن هناك تمثيلية جديدة أيضاً كمسلسل العائلة من قبل فيها نفس الشيء من السخرية بالدين؛ وهذه هي أساليب الباطل، ويكفي أن الباطل يعلن عن نفسه بهذه الطريقة، فهذا هو أسلوبه وهذا هو منهجه وهذا هو ضعفه؛ لأن كل هذه تصرفات الضعفاء، فهم يتصرفون تصرفات الشتائم والقدح والقذف والألفاظ البذيئة والماجنة والكذب والتلفيق والدجل، فيكفي أن الباطل يفضح نفسه ويكشف سوآته بهذه الأساليب، فينبغي أن نتسامى عن أن ننزل إلى هذا المستوى، وليس كل واحد يعمل شيئاً نرد عليه؛ لأنهم لا يستحقون ذلك، كما قال رجل طيار مرة -طيار ليس مصرياً-: تعلمت في الطيران أنني إذا خرجت أطلب هدفاً معيناً فمهما حصل من المقاومة الأرضية لا أرد عليها؛ لأنه إذا كان أي واحد يلقي بقذيفة ينشغل بالرد عليه سيتخلف عن هدفه الأسمى الذي يقصده، فإذا حددت لك هدفاً: الدعوة، التربية، التعلم، العبادة، الجهاد، أي هدف من هذه المقاصد، فامض في طريقك ولا تتلفت إلى الصبية الصغار الذين يقذفونك بالحجارة، وإلا لأصبح الأمر كما قال الشاعر: لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار فالشاهد: أنه ينبغي ألا ننشغل بهؤلاء، فهؤلاء هم الذين قال فيهم: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29]، وقال سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، وهؤلاء هم الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ويكفي أن هؤلاء الملاحدة، ملاحدة روز اليوسف، يأكلون على كل الموائد، فهم فيما مضى كانوا مع الاشتراكية ومع الشيوعية ويمشون مع أي مذهب، المهم أن تكون جبهة مضادة للإسلام، هذه هي رسالتهم في الحياة، فهم أحقر وأذل وأصغر من أن نتكلف الرد عليهم ونأتي بكلامهم البذيء ونتعقبه؛ لأن ذلك في الحقيقة إسفاف وهبوط إلى مستوى يليق بالباطل، أما الحق فلا يتنزل إلى هذا الانحطاط وهذا المستوى الدنيء، ولذا لا ينبغي أن نضيع وقتنا معه، ولنعرض عنهم كما قال عز وجل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فهؤلاء هم الجاهلون، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] فرب العزة سبحانه وتعالى لما يصف قوماً بأنهم مجرمين ماذا تريد أنت بعد ذلك؟! وستصبح كل هذه الابتلاءات ذكريات، فالزمن يمضي ويمر والعمر يمضي سريعاً وينقضي كل ما على وجه الأرض، ثم يصبح كل شيء مجرد ذكرى، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:29 - 36]. وقال تبارك وتعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:108 - 111]، وهذا بما صبروا فلابد من الصبر، قال عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كثيراً} [آل عمران:186] فمن عزم الأمور أن نصبر وأن نتقي، ومن الصبر ألا نضيع أوقاتنا في تتبع هذه الأشياء، وأنا أصلاً أسأل: لماذا الأخ يشتري مجلة روز اليوسف؟! هل هذه المجلة الملحدة الماجنة تدخل بيت مسلم؟! ألا تستحضر أنك ستسأل عن المال الذي تشتري به هذه المجلة وعن الصور القبيحة التي فيها؟! فيكفي الباطل أنه لا يحتاج إلى تعرية؛ لأنه عارٍ بادية سوآته، ولا يحتاج إلى من يسقطه أو يفضحه، فينبغي ألا ننشغل به وأن نمضي في طريقنا ولا نبالي بهذه المناهضة لدين الله سبحانه وتعالى.

شأن عالي الهمة

شأن عالي الهمة يقول الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في شأن عالي الهمة: لا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له فإنهم هم الأقلون قدراً وإن كانوا الأكثرين عدداً، كما قال بعض السلف: عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. أي: لأن هؤلاء هم قطاع الطريق إلى الله، كل هدفهم أن يصدوا الناس عن دين الله، يعني: أن الذي يلتحي إذا حلق لحيته يكون قد حقق هدفهم، وإذا ترك الصلاة، وإذا شرب الخمر يقال عليه: إنه استقام حاله واستقام سيره؛ لأنه شرب الخمر، وصاحب البنات، وتخلى عن دينه وعن التزامه ولذا يعامل معاملة جيدة، وأما حينما تتمسك بدينك فإنك تضطهد، فهذه فتنة، وهذا ابتلاء، كما قال عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] فلماذا كل سلعة نقصدها ندفع أغلى ثمن في سبيلها، والجنة التي هي أغلى سلعة لا تشترى؟ فأنت مطالب بأن تدفع ضريبة هذه الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فالصبر على هذا الأذى والثبات على هذا الدين شيء يسير جداً في جانب جنة عرضها السماوات والأرض، يعني: كم ستصبر على هذا البلاء؟ وكم ستعيش؟ مائة سنة؟ فاصبر على أذى الخلق وتصبر على دينك وعلى طاعة ربك، ومهما لقيت من أذى فاصبر صبراً طويلاً ثم بعد ذلك تنال الظفر العظيم بجنة الرضوان. يقول: والملتفت لنعيق الباطل كالظبي، والظبي أشد سعياً من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه. يعني: أن الظبي أسرع من الكلب، ولكن مشكلة الظبي أنه يلتفت إلى الكلب إذا أحس به، ولو مضى في طريقه لنجا منه؛ لأنه أسرع من الكلب ولن يدركه، لكن لأنه يتوقف ويلتفت وينشغل به يدركه الكلب فيأكله. وفي هذا المعنى يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: أخي فامض لا تلتفت للوراء قميصك قد خضبته الدماء ولا تلتفت هاهنا أو هناك ولا تتطلع لغير السماء قوله: (ولا تلتفت للوراء) حقيقة تذكر أيضاً بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين أعطى الراية يوم خيبر لـ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقال له: (امض ولا تلتفت)، فأخذ علي الراية ثم بدا له أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء فانظر كيف فعل؟ حينما أراد أن يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام ثبت وجهه تلقاء الجهة التي قصدها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه، والأسهل إذا أردت أن تخاطب من هو خلفك أن تواجهه بوجهك، لكن احتياطاً لوصية الرسول: (ولا تلتف) رفع رأسه وهو في نفس الجهة وقال: يا رسول الله! علامَ أقاتل الناس؟ فقال: قاتلهم على كذا وكذا إلى آخر الحديث. فالشاهد: قوله: (لا تلتفت للوراء) فما دمت قررت المضي والعمل للجنة ولسعادة الآخرة فلا تلتفت إلى الدنيا ولا تلتفت إلى قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.

أحوال خسيس الهمة

أحوال خسيس الهمة هنا وقفة في هذا المقام مع أحوال خسيس الهمة، فنحن نتكلم عن صفات عالي الهمة، وبالضد تتبين الأشياء، فالإنسان المسمى بالحيوان الناطق هذا الكائن دائماً يكون في موضع تجاذب بين أخلاق وطباع العالم السفلي وبين صفات وصفاء العالم العلوي. فيحن ذاك لأرضه بتسفل ويحن ذا لسمائه بتصعد من كان عالي الهمة يسمو إلى أعلى والآخر يتثاقل إلى الأرض، وتجذبه ثقلة الأرض وجاذبية الأرض. يقول أحمد بن خضرويه: القلوب جوالة، فإما أن تجول حول العرش وإما أن تجول حول الحش، والحش: مكان الغائط والنجاسات. يعني: أن القلوب جوالة، فإما أن تجول حول العرش فتصعد وتسمو إلى المطالب العالية ومطالب الآخرة والجنة ورضا الله سبحانه وتعالى، وإما أن تجول حول الحش، وحول أماكن النجاسات. وقال بعضهم: نزول همة الكساح دلَّاه في جب العذرة. والكساح هو: الذي يتعامل مع المجاري والنجاسات وينظف هذه الأشياء، وهذا معناه: أنه لما كان هذا الشخص كسلاً عن أن يتعلم حرفة أو علماً ينتفع به يكرمه بين الناس لم يكن أمامه إلا النزول إلى الجب لتنظيفه من الغائط، فنزول همته جعله يتعامل مع هذه النجاسات. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، والأشباح هي الأجسام، والأطيار أنواع، وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيئ للسباق، فهذه الطيور التي تلد وتتكاثر وتتعاظم وتسمن ليست مثل التي تعدها وتهيئها للسباق. فشاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل سعي خلقه شتى، فمنهم من همته الأمور العالية ومنهم من همته دون ذلك. يقول الشاعر: خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريد فالقصعة والفتة والثريد غايتهم، فإذا رفض الإنسان الارتقاء إلى عليين وعشق الظلمة ومقت النور وأبى إلا أن يهبط بنفسه إلى وحل الشهوات فتمرغ بها وانحط إلى نزوات الحمر وسفاسف الأمور ونزغات الشياطين، وتثاقل إلى الأرض سقط إلى سجين وما أدراك ما سجين؟ وانحدر دون مرتبة ذوات الحوافر. يقول تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كثيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] والأنعام تأكل لتسمن، كذلك هؤلاء يسمنون وينشغلون بالدنيا كي تأكلهم النار في النهاية، فهم كالأنعام ليس لهم هم إلا تحصيل الشهوات. كالعير ليس له بشيء همة إلا اقتضام القضب حول المذود فالعير وهذه البهائم ليس لها همة أبداً إلا في مأكلها، الجمل أو البقر أو الجاموس كل همتها أن تقتضم وتقتطع القضب وهو ما أكل من النبات المقطوع غضاً طرياً، كالحشائش وهذه الأشياء. والمذود هو معتلف الدابة. وكل هم أعداء الإسلام الآن هو أن يغرقوا شباب المسلمين في هذا اللهو الفارغ وفي هذه التفاهات والسذاجات، أو أن يشغلوهم بالشبهات، ولذلك خر كثير من الشباب صرعى للحياة وما يسمونه التنوير وهذه الحملات الشيطانية على دين الله سبحانه وتعالى التي أغرقوا فيها الأسواق بالشبهات وبالكتب التي تطعن في الدين، وعلى الجانب الآخر يفتح الباب على مصراعيه في الشهوات والانحرافات الخلقية والأغاني والموسيقى وحتى (الماكدونالد) و (الويندي) وحتى السندويتشات الأمريكية، فحتى الطعام صاروا يغزوننا به ويلهوننا بهذه التفاهات، حتى لا يبقى لنا همة عالية ولا يبقى لنا هدف في الحياة سوى تحصيل هذه الشهوات. وطبعاً حينما نرى ونلحظ الشباب المتسكع في الطرقات والفتيات المتبرجات المهتكات، والتفاهة التي تغمر معظم شباب هذا العصر نحس كم نجح أعداء الدين في إلهائنا بهذه التفاهات! وهذا طبعاً نلمسه ولا نضيع الوقت في تفصيله؛ لأنكم جميعاً تلمسون مدى الانحدار الذي وصل إليه الخلق عند هذا الشباب، وعن عاقبة النحر والذبح بعده، فهؤلاء أيضاً ساهون عما ينتظرهم في غدهم، وهم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها وتتبع مالكها، وهذا هو وجه أفضلية الأنعام عليهم، كما قال عز وجل: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، لماذا أضل سبيلاً؟ ولماذا هذا الإضراب؟ لأننا إذا قارنا بين الأنعام وبين هؤلاء الكفار وجدنا الأنعام أفضل، فهم كالأنعام لأنهم يأكلون ويغفلون وهمهم الأكل والشراب والشهوات، مع الغفلة عن عاقبة النحر والذبح بعد ذلك، وأيضاً فالأنعام ساهية عما في غدها، لكنهم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تدرك مضارها ومنافعها، فالحيوان البهيم يدرك المضار والمنافع ويحرص دائماً على أن يجلب المنفعة وأن يدفع الضرر، وأنت لو حاولت أن تقتل نملة أو أي حشرة فإنها ستقاوم وتهرب وتفر وتقفز وغير ذلك وهي ليس عندها عقل، لكنها مع عدم وجود العقل ألهمت الحرص على جلب المنفعة ودفع المضرة، فالنمل أو النحل لو تفكرت فيها تجد أنها تعمل للمستقبل، فالنمل يدخر الطعام في الشقوق لأجل الشتاء، وهذا تخطيط اقتصادي بعيد المدى، وهكذا عجائب النحل، وغير ذلك من عجائب خلق الله، فحتى هذه العجماوات تدرك مصالحها فتحرص على تحصيلها، وتعرف أيضاً المضار وتحرص على اجتنابها، ومع ذلك أيضاً هذه الأنعام تتبع مالكها؛ لأنه سيدها ومالكها فتتبعه، وأما هؤلاء فبخلاف ذلك لا يتبصرون ما ينفعهم وما يضرهم، وفي نفس الوقت يتمردون على خالقهم وبارئهم ومالكهم سبحانه وتعالى. ولذلك قال عطاء: الأنعام تعرف الله والكافر لا يعرفه. يعني: أن الأنعام تعرف الله عز وجل كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، والكافر لا يعرف الله سبحانه وتعالى. ووصف سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه المشركين فقال: (رأيت قوماً ليس لهم فضلاً على أنعامهم، لا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك ويشتهون كشهوتهم!). وإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة). والبطنة: التخمة وكثرة الأكل، فهذا من مضار الوزن الثقيل والبطنة والاشتغال بالشواغل. والناس الآن أصبح همهم الأول استيفاء الشهوات بأقصى ما يمكن، وتحصيل الطعام الكثير، ثم الهم الآخر هذه التفاهات الموجودة في أن أحدهم صار همه إنقاص الوزن والرشاقة والقوام وغيرها من الاشتغال بهذه الأشياء، مع أنه ينبغي أن تمتنع من الأكل ابتداءً أو تقتصد في الأكل، ولا تحتاج إلى الكلام في إنقاص الوزن وغير ذلك والأمراض التي تليها، فهذه أيضاً كأنها عقوبة، فكل همهم أن يأكلوا ثم بعد ذلك يهمون كيف يتخلصون من الأكل الكثير. وقد وصف الشاعر رجلاً أكولاً يستغرق حياته في نهمه وشهواته، فقال في شأنه: عريض البطان جديد الخوان قريب المراث من المرتع فنصف النهار لكرياسه ونصف لمأكله أجمع وقوله: (عريض البطان) أصل البطان هو: حزام القتب الذي يجعل تحت بطن الدابة. والمعنى أن حزامه واسع جداً؛ ولشدة كبر بطنه وامتداد كرشه فإنه يستعمل حزاماً عريضاً طويلاً، وهذا تعبير عن السمنة. وقوله: (قريب المراث من المرتع) المراث هو: مكان الروث، فكما أن البهيمة ترتع في المرعى ومكان الروث يكون قريباً من نفس المرعى، فكذلك نفس هذا الشخص يحرص جداً على أن يكون مكان قضاء الحاجة قريباً من حجرة الطعام. وقوله: (فنصف النهار لكرياسه) الكرياس هو: الكنيف الذي يكون مشرفاً على السطح بقناة إلى الأرض، فهذا هو وصفه. وقوله: (ونصف لمأكله أجمع) يعني: أنه نصف النهار يأكل والنصف الآخر يكون في هذا المكان. وعن محمد بن الحنفية قال: من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا. وقيل لـ محمد بن واسع: إنك لترضى بالدون؟ قال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا. يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلم إن التي تخطب غرارة قريبة العرس من المأتم وسفلة الهمم هؤلاء هم الذين أخبر عنهم الصادق المصدوق بقوله: (وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، فيصف الرسول عليه الصلاة والسلام خمسة من أهل النار، ويذكر من هؤلاء الخمسة: الضعيف الذي لا زبر له، يعني: لا عقل له يمنعه ويزجره عما لا ينبغي. وقيل: هو الصعلوك الذي لا مال له. قوله: (الذين هم فيكم تبعاً) يعني: يرضون أن يكونوا دائماً ذيولاً في المؤخرة، قوله: (لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، فأحدهم يحرص دائماً أن يفر من المسئولية، ولا يريد زوجة ولا يريد أولاداً ولا يريد أن يسعى في مصالحه، لكن يريد دائماً أن يرضى بالدون وأن يكون تابعاً، فهو قانع بكونه ذليلاً ومسبوقاً وتابعاً وفاراً من المسئولية وتبعتها، ففيهم يقول الشاعر: شباب قنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحينا فهؤلاء هم الغثاء الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). وفيهم قال الشاعر: وأفتح عيني حين أفتحها فأرى كثيراً ولكن لا أرى أحدا فهم كسقط المتاع، موتهم وحياتهم سواء. وفيهم يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: لا يدرون لمَ خلقوا، ولا المراد منهم، وغاية همتهم حصول بغيتهم من أغراضهم، ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم. يعني: أنه حتى لو نال شهوته ومراده مع الذم فإنه يقول: ليس مهماً، المهم أن أعيش وأنال ما أريد من مقاصدي، وحتى ل

واقع همة كثير من أبناء الأمة الإسلامية

واقع همة كثير من أبناء الأمة الإسلامية قرأت في مجلة هذه المقالة فأعجبتني ووجدتها مناسبة أن ندرجها في كلامنا هذا، يقول الكاتب: لقيت اليوم صديقنا فلان الزعيم السياسي القدير فإذا هو على غير عادته منشرح الصدر، مفتر الطرف ضاحك الأسارير، فقلت له: أراك اليوم على غير عادتك طلقاً نشيطاً بادي السرور! قال: ومالي لا أكون كذلك وقد أحرزت في هذا اليوم ثلاثة انتصارات. قلت: لك الحق إذاً في تهللك وفرحك، فنحن في زمان لا نكاد نظفر فيه بانتصار واحد بين مئات الهزائم، ولكن قل لي: ما هذه الانتصارات إن لم تكن سراً من الأسرار؟ قال: أما الانتصار الأول فقد دخلت غرفة نومي منذ ثلاثة أيام ذبابة أزعجت نهاري وأرقت ليلي، وقد حاولت جهدي طردها أو قتلها فلم أفلح إلى أن ظفرت بها هذا اليوم فقتلتها شر قتلة وألقيتها حيث لا يمكن أن تعود حتى لو عادت إليها الحياة! قلت: والانتصار الثاني؟ قال: أما الانتصار الثاني فقد شعرت به وأنا أزن نفسي في الحمام، إذ هبط وزني من تسعة وتسعين كيلو جرام إلى ثمانية وتسعين وسبعمائة وخمسين جراماً! قلت: والانتصار الثالث؟ قال: لعبت اليوم بالنرد -الطاولة- مع صديقنا فلان فغلبته مرتين متواليتين، وهو الذي كان يغلبني باستمرار! أفتراني بعد ذلك كله حقيقاً بما أنا عليه من السعادة والطلاقة والمرح؟! قلت: بلى بلى! يقول الكاتب: وتابعت طريقي بأسىً بالغ وألم عميق وحزن غامر عليه وعلى أنفسنا معه، لقد سحقنا وعزلنا عن ميادين الحياة الجادة الطغيان الداخلي والخارجي المحلي والدولي، وفاتتنا الانتصارات الكبرى فشغلنا أنفسنا وعوضنا مطامحنا والتمسنا الراحة والمتعة والرضا بمثل انتصارات هذا السياسي الكبير القدير، أو بما لا يختلف عنها بالجوهر وإن اختلف بالشكل والعنوان، أليس هذا ضرباً من الجنون أو الموت المعنوي الذي يصنعه الطغيان؟! أليس الموت المادي الحقيقي أفضل من مثل هذه الحياة؟! فهل يتصور أن مسلماً يعيش في هذه الانتصارات؟! ودعك من انتصارات الكرة فكأنها حروب، وهكذا الرياضات والفن، صار البطل هو بطل التمثيلية أو المسرحية أو الفلم! وصار الراقصات وهؤلاء الفساق هم النجوم! فهذه هي الانتصارات! وهذه هي ما يشجع باسم الفن والرياضة وغير ذلك من التفاهات التي يريدون إغراق الأمة بها؛ كي لا تنهض إلى هدف أسمى ولا تدرك حقيقة ذاتها، فالمسلم يقول الله فيه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] فالمسلم يفخر بهذا، وهم الآن يريدون أن يصلوا بنا إلى أننا لا نظهر فخرنا بديننا، وإذا سئلت: أنت مسلم؟ أو إذا أظهرت شيئاً من الدين تكون مستخذياً متبرئاً تريد أن تقول للناس: أنا لست متطرفاً أنا لست إرهابياً أنا لست كذا، وكأنك في موقف الدفاع، وكأن الانتساب للإسلام شيء يجلب الخزي والعار وليس العزة والاستعلاء على الباطل وعلى أهله، فهذا هو ما يقصدونه: أنك تفقد هويتك وتفقد اعتزازك بإسلامك ولا تفتخر به، بل تشعر بالخزي والخذلان وأنك مضطهد وأنك مطارد في كل مكان، وأنك حيثما حللت ينظر الناس إليك على أنك إنسان غريب، ويتهمون المتمسكين بالدين بأنكم أنتم الذين تقتلون، وأنتم الذين تفسخون النساء وتتزوجونهم من أزواجهن، وهؤلاء هم الذين يكفرون الناس، وهذا كله المقصود منه: أن تشعر بالاستخذاء وبالدونية وبالنقص، وبالتالي يقتلون فيك الاعتزاز بهذا الدين، فهذا هو هدفهم الذي ينبغي أن نكون واعين به. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية والعلوم النافعة والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع، الذين يكدرون الماء، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد وإن مات مات غير فقيد، فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء ولا تستوحش لهم الغبراء. وقال أيضاً في الذين حرموا العلم والبصيرة والهمة والعزيمة: هم الموصوفون بقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، وبقوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، وبقوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل:80]، وبقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]. قيل: (من في القبور) يعني: أجسادهم قبور لهم. وهذا الصنف شر البرية، ورؤيتهم قذى العيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، وينطقون ولكن عن الهوى ينطقون، ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويجادلون، ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويتفكرون ويبيتون ولكن ما لا يرضى من القول، ويدعون، ولكن مع الله إلهاً آخر يدعون، ويحكمون، ولكن حكم الجاهلية يبغون، ويقولون: إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، فهذا الضرب ناس بالصورة وشياطين بالحقيقة، وجلهم إذا فكرت فهم حمير أو كلاب أو ذئاب، وصدق البحتري في قوله: لم يبق من جل هذا الناس باقية ينالها الوهم إلا هذه الصور ليس فيهم من الإنسان إلا الشبح وإلا هذه الصور، وقال آخر: لا تخدعنك اللحاء والصور تسعة أعشار من ترى بقر في شجر السدر منهم مثل لها رواء وما لها ثمر فشجر السدر ضخم وكبير وذو منظر لكن ليس له ثمر فهو عقيم، وأحسن من هذا كله قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] عالمهم كما قيل: زوامل للأسفار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر إن كان عندهم علم فهم لا يفقهون كمثل الحمار يحمل أسفاراً. يعني: أن البعير قد يحمل كماً كبيراً من كتب العلم على ظهره، لكنه لا يعيها ولا يفقهها، وأحسن من هذا وأبلغ وأوجز وأفصح قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أسفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].

أصدق الأسماء حارث وهمام

أصدق الأسماء حارث وهمام الناس جميعاً مؤمنون وكفار لابد لهم من مراد يقصدونه ويتوجهون إليه، فلا يوجد إنسان إلا ولابد له من هدف، ولابد له من شيء يريده، على ذلك فطرهم الله، فالإنسان دائم الهم والإرادة، دائب العمل والحركة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أصدق الأسماء حارث وهمام) يعني: أصدق الأسماء التي تعبر عن الصفات المغروسة في البشر اسم حارث وهمام؛ لأن كل إنسان حارث، يعني: أنه عامل أو كاتب، وكل إنسان همام، أي: كثير الهم والإرادة، فالإنسان مجبول على أن يقصد شيئاً ويريده ويستعينه ويعتمد عليه في تحصيل مطلبه، فالمؤمن الموفق يكون مفتقراً إلى الله، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15] فهو يريد الله سبحانه وتعالى بفطرته، وقد يريد الإنسان غير الله، فالإنسان لا يمكن إلا أن يكون له مراد يقصده ويتوجه إليه. والسبب في ذلك: أن الإنسان فقير إلى غيره محتاج إليه لكي يسد نقصه ويكمل عجزه ويحصل حاجته، وفقره هذا دائم لا يتوقف ولا ينقطع. فكل إنسان له مراد يريده وينجذب إليه، وهذا المراد إما أن يكون الله سبحانه وتعالى عند المؤمن وإما أن يكون الدنيا أو الشهوات أو المناصب أو الجاه أو محبوباً من المخلوقات وهكذا. ومن عجائب هذا الإنسان أنه إذا أراد وكان هدفه وغايته شيئاً من المخلوقات وحصل عليه فإنه يمله ويطلب غيره أو أكثر منه، فمادام شيئاً دون الله فإنك تجد القلب لا يشبع منه ولا يقنع به، بل دائماً يتحرك إلى ما هو أعلى أو إلى غيره، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثاً) فلو أن واحداً يريد المال والغنى والجاه فآتاه الله سبحانه وتعالى واديين من الذهب فإنه لن يقنع وسيقول: هذا لا يكفي، ثم يتطلع من جديد إلى المزيد. قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) يعني: لا يزال حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره، إلا من وفقه الله وعصمه من الحرص المذموم، فالنفس الإنسانية دائمة التطلاب لما لم تحصل عليه ولم تصل إليه، وليس هناك من شيء يمكن أن يسد فقرها وحاجتها إلا أن تصل إلى ربها ومعبودها، فهذه هي المحطة التي إذا وصل الإنسان إليها يستقر قلبه ويشبع ولا يلتفت إلى غيره، فإن وصل العبد إلى ربه عند ذلك يجد القلب مطلوبه، يعني: أن القلب لا يطمئن ولا يسكن إلا إذا وصل إلى محبة الله سبحانه وتعالى وإرادته، وكل ما دون ذلك مهما ينال من محبوبات فهو يملها ويريد التحول عنها، فيكون الاطمئنان والراحة والهناء عند معرفة الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] أي: تسكن إذا ذكرت الله وعرفت الله سبحانه وتعالى. فليس هناك ما يمكن أن يجلب الطمأنينة إلا الوصول إلى الرب المعبود معرفة وقصداً وتوجهاً. ويعبر الإمام ابن القيم تعبيراً جميلاً عن هذا المعنى فيقول رحمه الله تعالى: لقد كان يسبي القلب في كل ليلة ثمانون بل تسعون نفساً وأرجح يهيم بهذا ثم يألف غيره ويسلوهم من فوره حين يصبح وقد كان قلبي ضائعاً قبل حبكم فكان بحب الخلق يلهو ويمرح فلما دعا قلبي هواك أجابه فلست أراه عن خبائك يبرح وكم مشترٍ في الخلق قد سام قلبه فلم يره إلا لحبك يصلح هوى غيركم نار تلظى ومحبس وحبكم الفردوس أو هو أفسح فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم ويا رحمة مما يجول ويكدح والنفس في طلب مرادها مترقية متسامية تطلب الأكمل والأفضل، والكمال كله والفضل كله حازته الذات الإلهية، فإذا وجه الإنسان قصده وهمته لغير فاطره فإنه يشقى ولابد؛ لأن همومه تتعدد وغاياته تتشتت، فإذا لم يكن هم العبد هماً واحداً تقاسمته هموم الدنيا، فعند ذلك لا يدري إلى أين يسير، ولا كيف يتجه، فمرة يشرق ومرة يغرب ومرة يعبد صنماً وأخرى شمساً وقمراً، ويحاول إرضاء هذا مرة وذاك مرة، والذي رضي عنه قد يغضب عليه، والذي زين له العمل قد يستقبحه منه بعد حين فيئول الأمر به إلى الصراع والقلق الروحي والعقد النفسية وقد ينتهي به إلى الانتحار. أما المسلم فغايته واحدة، ومنهجه الذي يؤدي إلى هذه الغاية واحد، وهو قادر على أن يرضي الله ويسير على هداه، وبذلك تتوحد همته ويتحقق مطلوبه؛ لأن إرضاء الله مأمور ومقدور، فأنت مأمور بإرضاء الله، وأنت تقدر على أن ترضي الله وأن تتبع شرعه في طاقتك كما قال عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن إرضاء غير الله لا مقدور ولا مأمور، بمعنى: أنه لا يمكن أبداً أن تستطيع أن ترضي كل الخلق، فإذا فعلت فعلاً معيناً فإنه يرضى عنك البعض ويغضب عليك الآخرون، وإذا أرضيت هؤلاء يسخط هؤلاء، وإذا فعلت العكس يسخط فريق ويرضى فريق، فإرضاء المخلوق غير مقدور وغير مأمور، فلا تبال بإرضاء الناس واجتهد في إرضاء الله سبحانه وتعالى يتكفل لك بكل أمورك، أما إرضاء الناس فإنه غير مقدور وغير مأمور، فلا الله أمرك أن ترضي الناس ولا أنت مكلف بذلك، ولا هذا يقع لأحد، حتى الأنبياء لم يتفق عليهم البشر، فمنهم من كذبهم ومنهم من آمن بهم، فاجتماع الخلق ورضى الناس كلهم على شيء معين هذا لا يمكن أن يقع حتى للأنبياء عليهم السلام. فإرضاء الخلق غير مقدور وغير مستطاع وغير مأمور به وأنت غير مكلف به، لكن إرضاء الله مقدور ومأمور، فأنت تقدر عليه وأنت مأمور به، بجانب أنك إذا أرضيت الله أرضى عنك الناس كما سيأتي، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت نيته الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له) يعني: أن الرزق لا يأتي به حرص حريص ولا يرده كراهية كاره، فأنت ترزق رغم أنفك حتى لو كنت ترفض هذا الرزق مادام مكتوباً لك، يقول صلى الله عليه وسلم في معنى الحديث: (لو أن رجلاً يفر من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت) لو أنك تهرب من الرزق كما تهرب من الموت لأدركك الرزق كما يدركك الموت لا محالة. فالشاهد: أن الإنسان إذا جعل همه هماً واحداً هو إرضاء الله سبحانه وتعالى فإنه يكافأ هذه المكافئة: (جعل الله غناه في قلبه) ولاشك أن غنى القلب هو أعلى أنواع الغنى. قال عليه الصلاة والسلام: (جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة) أي: وهي ذليلة، لكن من كانت نيته طلب الدنيا، ومع أنه يحرص على الهروب من الفقر بالسعي الحثيث وراء الدنيا، لكنه لما جعل هدفه الدنيا وليس الله كانت عقوبته: (ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له). يقول الشاعر: ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفر ولا إخفاق فهذه هي نتيجة التشتت، لكن إذا وحدت هدفك وجعلت هدفك هو الله وإرضاء الله والالتزام بشرع الله وتحقيق العبودية لله فالله سبحانه وتعالى يكفيك كل ما أهمك، وكل أمورك ييسرها الله سبحانه وتعالى لك ويأتيك رزقك مباركاً وتنجو من آفات طلب الدنيا.

علوية الروح وسفلية البدن

علوية الروح وسفلية البدن يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: خلق بدن ابن آدم من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما، فإذا أجاع بدنه وأفقره وأقامه في الخدمة وجدت روحه خفة وراحة فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه واشتاقت إلى عالمها العلوي، وإذا أشبعه ونعمه ونومه واشتغل بخدمة البدن وراحته أخلد البدن إلى الموضع الذي خلق منه، فانجذبت الروح معه فصارت في السجن، فلولا أنها ألفت السجن وتعودت عليه لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها العلوي الذي خلقت منه كما يستغيث المعذب، وبالجملة فكلما خف البدن لطفت الروح وخفت وطلبت عالمها العلوي. وهذا يحسه الإنسان في الصيام والاشتغال بالذكر فإنك إذا اشتغلت بذلك تجد خفة البدن وكأنك تشعر أحياناً أنك لو سقطت من مكان عالٍ تكون كالريشة من خفة شعورك بالخفة في بدنك. يقول: وكلما ثقل وأخلد إلى الشهوات والراحة ثقلت الروح وهبطت من عالمها وصارت أرضية سفلية، فترى الرجل روحه في الرفيق الأعلى وبدنه عندك، يكون نائماً على فراشه وروحه عند سدرة المنتهى تجول حول العرش، وآخر واقف في الخدمة ببدنه وروحه في السفل تدور حول السفليات، فإذا فارقت الروح البدن التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى حسب الرفيق، فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين وكل نعيم وسرور وبهجة ولذة وحياة طيبة، وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة ومعيشة ضنك، يقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] فذكره: كلامه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، والإعراض عنه: ترك تدبره والعمل به، والمعيشة الضنك: أكثر ما جاء في التفسير أنها عذاب القبر. قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهم وفيه حديث مرفوع، وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة، فإن النفس كلما وسعت عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشة ضنكاً، وكلما ضيقت عليها -يعني: شهواتها- وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسخ، فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة، فآثر أحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومهما وأشق البدن بنعيم الروح، ولا تشق الروح بنعيم البدن، فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم، ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون، والله المستعان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

علو الهمة [3]

علو الهمة [3] إن الإنسان إذا علت همته فإنه لا يقنع بالدون، ولا يرضيه إلا معالي الأمور، ولا يقبل أن يكون فضلة لا قيمة لها، بل يريد أن يترك بصماته في الخير وأعمال البر، وأصحاب الهمم العالية قليلون في المجتمع، ولذلك تعم الرزية، وتعظم المصيبة بموتهم، فموت الواحد منهم موت أمة، ومن صفات أصحاب الهمم العالية الترفع عن الدنيا ورفضها، والتطلع إلى ما هو باقٍ دائم.

من صفات عالي الهمة: عدم الاقتناع بالدون

من صفات عالي الهمة: عدم الاقتناع بالدون إن الإنسان إذا علت همته فإنه لا يقنع بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور، فالهمم العالية لا تعطي الدنية ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور، فصاحب الهمة العالية لا يقبل أن يبقى في هامش الحياة، بل يجتهد أن يصل إلى ما أمكنه من الكمالات؛ ليقينه أنه إذا لم يزد شيئاً على الدنيا ويترك فيها بصماته في الخير وأعمال البر، فإنه سيصبح زائداً على الدنيا، وفضلة من فضلات الدنيا، أو في هامش صفحة الحياة. يقول الشاعر: وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع ويقول الشاعر: قلت للصقر وهو في الجو عال اهبط الأرض فالهواء جديب قال لي الصقر في جناحي وعزمي وعنان السماء مرعى خصيب وهذا المرعى الخصيب الذي لا يكون إلا في الأعالي يجهله الأرضيون، حيث ثقل التراب ومطامع الأرض. إذا ما كنت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم وقال صفي الدين الحلي: لا يظهر العجز منا دون نيل المنى ولو رأينا المنايا في أمانينا يعني: ما دمنا لم نحقق آمالنا، فلا يمكن أن يجد العجز واليأس إلينا سبيلاً، حتى ولو كانت المنية هي التي تدركنا في سبيل الحصول على هذه الأماني. ويقول البارودي: فانهض إلى صهوات المجد معتلياً فالباز لم يأو إلا عالي القلل ودع من الأمر أدناه لأبعده في لجة البحر ما يغني عن الوشل قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته ويقعد العجز بالهيابة الوكل معناه: فانهض إلى صهوات المجد معتلياً، صهوات: جمع صهوة، وهو موضع السرج من ظهر الفرس، والمقصود بها ذرى المجد، فالباز: أي: الصقر، لم يأو إلا عالي القلل، أي: قمم الجبال. ودع من الأمر أدناه لأبعده في لجة البحر ما يغني عن الوشل. يعني: أن البحر الخضم الواسع الذي فيه الماء الوفير فيه ما يغنيك عن أن تقنع بالوشل وهو الماء القليل. ثم يقول: قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته. الفاتك: يعني: الجريء، والألوى أي: الشديد ويقول: ويقعد العجز بالهيابة الوكل الهيابة: هو الذي يخاف الناس وليس عنده جرأة ولا إقدام. أما الوكل: فهو العاجز الذي إذا نابه أمر لا ينهض فيه بنفسه بل يكله إلى غيره. فإذاً: كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته بحول الله عز وجل وقوته ما يراه غيره مستحيلاً، ولذلك نلاحظ أنه لا يمكن أبداً أن يوجد شخص من الشخصيات التي أثرت في تاريخ الأمم وأحدثت التجديد إلا لا بد قطعاً أنه كان عالي الهمة، بجانب العلم تكون هذه الإرادة، فإذا تخيلت أي عظيم من عظماء الإسلام فلا بد أن يكون من صفاته الأساسية التي لا غنى به عنها هي علو الهمة، ولذلك بهمة رجل واحد تحيا أمة بكاملها؛ لأن هذه هي تركيبته النفسية التي وهبه الله سبحانه وتعالى هذه القوى العظيمة، حتى إنه يتحدى ما يكون بالنسبة لغيره مستحيلاً، وينجز بحول الله عز وجل ما ينوء به العصبة أولو القوة، ويقتحم بتوكله على الله الصعاب والأهوال، لا يلوي على شيء، يقول الشاعر في مثله: له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر. يعني: له همم تطمح وتصبو إلى ما لا نهاية، وأصغر همة عنده أجل وأعظم من الدهر!

لا إفراط في علو الهمة

لا إفراط في علو الهمة ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة، كل شيء في الوجود فيه إفراط وفيه تفريط، فيه غلو وفيه جفاء، أما علو الهمة فإنه لا يعرف الإفراط أبداً، فلا يوصف صاحب الهمة بأنه مفرط في آماله وفي طموحاته. عالي الهمة إذا كان يستوفي شروط وحدود وقواعد علو الهمة، فإنه لا يوصف بالإفراط، بل دائماً همته وثابة، لا يقنع أبداً بشيء، ولا تقف همته عند حد، وشرط ذلك أن تكون همته مبنية على معرفته قدر نفسه، مبنية على سعيه حسب إمكانه في تحصيل ما يحب وتجنب ما يكره، وإن لم توجد هذه الشروط فليس هذا رجاء ولا علو همة، إنما هو غرور أو إغراق في أحلام اليقظة، وأحلام اليقظة في حد ذاتها ليست عيباً، لو أن إنساناً يشرد ذهنه في حالة اليقظة ويمني نفسه أو يؤمل في أن ينهض بنفسه في طلب العلم أو في عبادة أو في جهاد أو في دعوة أو في الصعود إلى الجنة، ويقول: سأفعل كذا وأخاطب كذا، وأحفظ القرآن ثم بعد ذلك أدرس كذا أو أرحل إلى كذا؛ فإذا كانت هذه الأحلام تعطيه شحنة وتجعله ينهض إلى هذه الآمال، فهذا بلا شك شيء محمود وليس مذموماً. أما أحلام اليقظة التي لا يترتب عليها عمل، فهي مجرد استغراق للوقت في هذه الأماني والاغترارات، وهي مذمومة، كحال ذلك الرجل الذي جاء وصفه في بعض الكتب، وحكاها ابن قتيبة في عيون الأخبار، حكي أن ناسكاً كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوماً، أو بتعبيرنا الحديث نقول: استغرقته أحلام اليقظة، وكانت الجرة معلقة فوقه وهو جالس فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأصيب بذراً فأزرع، وينمو المال الذي في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ابن فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه وكانت في يده عصا. فحكى -من شدة الاستغراق- حركة الضرب لهذا الابن، فرفعها حاكياً للضرب فأصابت الجرة فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه. فهذه من صور الاستغراق في الأحلام والأماني، وهكذا أغلب وقته يقضيه في هذه الأماني، دون أن يسعى ودون أن يكون عنده الطاقة التي يندفع بها في سبيل تحقيق أمانيه. فإذا كان الإنسان مستوفياً لشروط الثقة بالله سبحانه وتعالى، ثم الثقة في نفسه ومعرفة قدر نفسه، وأوتي ما هو من مؤهلات علو الهمة، فهذا لا يوصف بالإفراط أبداً. إذاً: ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة؛ لأن الهمم العالية طموحة وثابة لا تعرف الحدود، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون. يقول الشاعر: فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا أي كن رجلاً رجله على الأرض، أما همته فهامتها عند النجوم في الثريا، ليس هذا فحسب، بل إن المؤمن العالي الهمة يريد ما هو أعلى من الثريا، ما هو فوق سبع سماوات، إنها الجنة، بل هو يطمح إلى أعلى ما في الجنة وهو الفردوس الأعلى، وهذا هو الذي أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبه منا، فقال: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الذي هو أعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن) وهو أوسط الجنة أيضاً. مثال ذلك ما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لـ دكين لما جاءه، وقد كان عمر بن عبد العزيز قبل أن يلي الخلافة وعده بأن يعطيه صلة، ودكين كان شاعراً، فلما ولي الخلافة جاءه دكين يطلب هذه الصلة، فبين له أنه لا أمل في أن يفعل معه ما كان يفعله من قبل، فقال له: يا دكين! لن أجالسك من أجل أن تمدحني بالشعر وأعطيك المال مقابله قط، ثم قال له: يا دكين! إن لي نفساً تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة.

حث ابن الجوزي على طلب المعالي وعدم الرضا بالدون

حث ابن الجوزي على طلب المعالي وعدم الرضا بالدون يقول الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال. وقد قال أبو الطيب المتنبي: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد لرأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه لا يمكن ذلك؛ لأن النبوة لا تنال بالاكتساب، فينبغي أن يطلب الممكن. والسيرة الجميلة عند الحكماء هي: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل. يعني: أن يحقق الإنسان أقصى قدر من الكمال الذي يدخل في دائرة الإمكان وليس في المستحيلات. ثم يقول ابن الجوزي: وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله، أما في البدن فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي، بل يدخل تحت كسبه تحسينها وتزيينها، فقبيح بالعاقل إهمال نفسه، وقد نبه الشارع على الكل بالبعض. يعني أن الشارع ندبنا أيضاً إلى الكمال الممكن حتى في الصورة الظاهرة، بأن يكون الإنسان نظيفاً، وليس معنى هذا أن قيمة الإنسان في مظهره، لكن أقول: على الإنسان أن يكون كاملاً بقدر المستطاع في كل شيء، وقد كان الأنبياء أكمل الناس في كل شيء، حتى في مظهرهم وفي ملبسهم وفي نظافتهم وفي ملامحهم. ثم يقول: وقد نبه الشارع على الكل بالبعض، فأمر بقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء لأجل الرائحة، وينبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف مجيئه بريح الطيب، فكان الغاية في النظافة والنزاهة. يقول: ولست آمراً بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس، ولكن التوسط هو المحمود. هذا المعنى ينافي التربية العجيبة للصوفية، حيث يحصنون هذه المعاني في نفوس أتباعهم بحجج واهية، حتى إن بعضهم يقول: أسعد لحظات عنده منذ أن من الله عليه بالإسلام كانت ثلاث لحظات: مرة من المرات وجد نفسه في مركب ووجد نفسه أحقر الموجودين. ومرة أخرى كان عليه فروة فلم يستطع أن يميز بين شعر الفرو وبين القمل من كثرته! إلى آخره، فمثل هذا ما دام يحتقر ذاته، فكيف سيصعد بها إلى أعلى! فالتربية الصوفية لها أسوأ الآثار في تحطيم الهمم والتسفل بها. يقول الإمام ابن الجوزي: وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره، ولا يفضل غيره عليه. وهذا المعنى مأخوذ من حديث: (اليد العليا خير من اليد السفلى). فإذاًَ: هو يحث هنا أيضاً على أن يستقل المرء مادياً، بحيث لا يحتاج أن يمد يده إلى غيره، فتكون يده سفلى، بل يكون هو المعطي لا الآخذ. ثم يقول: وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، فينبغي له مع اجتهاده في الكسب أو في التجارة ألا يصل إلى حد يعوقه عن طلب العلم، ثم ينبغي له مادام يطلب العلم أيضاً أن يطلب الغاية في العلم، بأن يجتهد في تحصيل أعلى الدرجات في طلب العلم. فإذاً: من المناسب أن يذكر ابن الجوزي هنا قادحاً في هذا المعنى وهو التقليد، فما دمت تريد الغاية في العلم، فقبيح بك أن تقنع بالتقليد؛ يقول: ومن أقبح النقص التقليد. وذلك لأن التقليد مظهر من مظاهر سفل الهمة، وهو أخذ قول الغير بدون معرفة دليله. ثم يقول: فإن قويت همته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً ولا يتمذهب لأحد؛ فإن المقلد أعمى يقوده مقلده. أرجو عدم التطرف في فهم هذه العبارة؛ لأنه ليس معنى هذا أن كل واحد يتخذ له مذهباً ويفهم النصوص على غير مرادها، لكن هذا لمن يسلك السلم الطبيعي الذي يرتقي به إلى مرتبة الاجتهاد المطلق. يقول: ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها؛ فإن القنوع بالدون حالة الأراذل! ولذلك يقول الشاعر ذاماً هؤلاء: شباب قانع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحين. ويقول الآخر: فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا. ويقول آخر في وصف عالي الهمة: إنه ما يسمع بفضيلة إلا وتثب نفسه إليها. يعني: لا يسمع بأي فضيلة إلا ويحدث نفسه أن يكون هو صاحب هذه الفضيلة، بحيث لو سمع قوله صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب) لقفزت همته إلى أن يكون واحداً من هؤلاء السبعين الألف، وإذا سمع قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) فتحدثه نفسه فوراً أن يجتهد كي يكون هو ذلك المجدد، وهكذا. يقول الشاعر: إذا ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى يعني: اتخذ من المجد إزاراً ورداءً. ثم يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخستها، فاعلم أنك في ميدان سباق، والأوقات تنتهز، ولا تخلد إلى كسل، فما فات من فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان الماء في القدور، وقد قال بعض من سلف: ليس لي مال سوى كري فبه أحيا من العدم قنعت نفسي بما رزقت وتمطت في العلا هممي معناه: أنه فيما يتعلق بالطعام والشراب والرزق عنده قنوع بحيث يرضى بالقليل، لكن في الهمة لا يرضى بالقليل أبداً.

من صفات وخصائص أصحاب الهمم العالية: ندرتهم وقلتهم في الناس

من صفات وخصائص أصحاب الهمم العالية: ندرتهم وقلتهم في الناس إن من خصائص أصحاب الهمم العالية أنهم نادرون في الناس، فكبيرو الهمة يتسابقون إلى المكارم لا يكلون ولا يملون ولا يقنطون، وهل يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. يقول الشاعر مادحاً بهذا الشعر الشيخ الألباني رحمه الله، وبلا شك فإن الشيخ الألباني من أعظم الناس همة في هذا الزمان، فمن يدرس سيرته وترجمته يجد كيف أنه بعلو الهمة أدرك أن يكون محدث العصر، فقد خدم سنة النبي صلى عليه وآله وسلم في عصرنا بما لم يخدمها أحد مثله رحمه الله. يقول الشاعر: وجد القنوط إلى الرجال سبيله وإليك لم يجد القنوط سبيلا ولرب فرد في سمو فعاله وعلوه خلقاً يعادل جيلا فكبيرو الهمة في الناس كالعملة النادرة، أو كالكبريت الأحمر، يصدق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة) وهذا الحديث رواه مسلم وغيره، معنى (راحلة) هي النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره، فهي كاملة الأوصاف، فمثل هذه الناقة النجيبة إذا كانت في الإبل فإنك تجدها متميزة بصفاتها وبهيئتها وبخصالها، والهاء في قوله: (راحلة) للمبالغة، كما يقال رجل نسابة ورجل فهامة ورجل علامة. وسميت راحلة؛ لأنها يجعل عليها الرحل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كقوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] يعني: في عيشة مرضية. إذاً: معنى الحديث أن المرضي الأحوال من الناس الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار قليل جداً كقلة الراحلة في الإبل، قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14]. وقال الشاعر: وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أعز من القليل فالواحد منهم بأمة والفرد منهم بألف. يقول الشاعر: يعد بألف من رجال زمانه لكنه في الألمعية واحد ويقول آخر: ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً إلى المجد حتى عد ألف بواحد ولذا عظمت المصيبة بفقدهم، وعمت الرزية بموتهم، إذا فقدت الأمة واحداً منهم تكون المصيبة عظيمة، فليس هو موت رجل واحد ولكنه موت أمة كاملة. يقول الشاعر: تعلم ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت بموته بشر كثير وقال آخر: فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدم قال بعض السلف: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء. ومما قيل في رثاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: عمت صنائعه فعم هلاكه فالناس فيه كلهم مأجور والناس مأتمهم عليه واحد في كل دار رنة وزفير يثني عليك لسان من لم توله خيراً لأنك بالثناء جدير ردت صنائعه عليه حياته فكأنه من نشرها منشور وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (صوت القعقاع -أي القعقاع بن عمرو التميمي - في الجيش خير من ألف رجل) ولما طلب عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في فتح مصر كتب إليه: أما بعد: (فإني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة من الصامت ومسلمة بن خالد) ولو راجعت ترجمة الأربعة الأبطال لرأيت عجباً. وقد يأتي فيما بعد ذكر شيء من ذلك، إذا تأملنا مثلاً أولهم وهو الزبير بن العوام لوجدنا العجائب في سيرته، كذلك مسلمة بن خالد والمقداد وعبادة. وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يوماً لأصحابه: (تمنوا، فقال واحد من الجالسين: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله عز وجل، فلم يعجب عمر، فقال عمر: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها -أي: هذه الدار- مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله عز وجل وأتصدق به، ثم قال: تمنوا، قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين! قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه، فقال رجل: ما آلوت الإسلام) يعني: ما قصرت في النصيحة للإسلام حين تمنيت أن تكون الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح. وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: لكل قوم نجيبة، وإن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، إنه يبعث أمة وحده. وقال الأصمعي: لما صاف قتيبة بن مسلم الترك -يعني وقفوا صفوفاً في جهاد الأتراك- وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة متكئ على قوسه، يبصبص بأصبعه نحو السماء، قال قتيبة: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير. يعني: أصبع محمد بن واسع أحب إليه من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير، ليس هذا فحسب، بل قد يقرن عالي الهمة بعجائب الزمان والدهر وقد يزيد عليها، فقد قال يحيى بن معين إمام المحدثين: رأيت بمصر ثلاث عجائب: النيل، والأهرام، وسعيد بن كثير بن عفير، وهو الإمام الحافظ العلامة الأخباري الثقة أبو عثمان المصري كان من بحور العلم. حسبنا أن الإمام يحيى بن معين يقرن سعيد بن كثير بن عفير بهذه العجائب، وأن ينبهر به حتى تتعرف على جلالة قدره. وسئل ابن المبارك عن الجماعة التي أمرنا بلزومها، فقال: أبو بكر وعمر، فقيل له: قد مات أبو بكر وعمر، قال: فلان وفلان، قيل: قد مات فلان وفلان، فرد عليه ابن المبارك قال: أبو حمزة السكري جماعة، وكان أبو حمزة من أئمة أهل السنة وأئمة العلماء، وسمي سكرياً لا لأنه كان يبيع السكر، وإنما لأن كلامه كان حلواً.

صفة أكمل الناس إرادة وأعلاهم همة

صفة أكمل الناس إرادة وأعلاهم همة لقد أشرنا من قبل إلى أن عالي الهمة لا يقنع بالدون، وأن همته وثابة تطمح إلى الأعلى، إذا حصل على شيء تاق إلى ما هو أعلى منه. فلما كان كمال الإرادة بكمال المراد، فإن أكمل الناس إرادة هو من أراد الله عز وجل فوحده ولم يشرك به شيئاً؛ لأن الكافر قطعاً سافل الهمة، ولا يمكن أن يوصف الكافر بعلو الهمة؛ لأن أقصى ما عند الكافر أن يحقق مآربه الدنيوية، أو يجتهد في طلب الآخرة لكن يخطئ الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، كالذي يعبد المسيح عليه السلام؛ فهذا سافل الهمة؛ لأنه رضي أن يعبد عبداً من دون الله، أرسله الله سبحانه وتعالى إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إليه، فعبدوه من دون الله فوقعوا في الشرك والعياذ بالله، فبلا شك أن النصراني خسيس الهمة؛ لأنه قنع بعبادة عبد من العباد، كذلك من يعبد الأوثان خسيس الهمة، واليهودي خسيس الهمة وهكذا. إذاً: كل من لم يدن بدين الإسلام فهو خسيس الهمة؛ لأنه رضي بالدون ولم يجتهد في الوصول إلى الحقيقة العليا التي هي دين الإسلام، فأكمل الناس إرادة لا بد أن يكون عنده هذا الأساس وهو التوحيد. يقول: فأكمل الناس إرادة هو من أراد الله عز وجل وحده فوحده ولم يشرك به شيئاً، وسعى إلى مجاورة الرفيق الأعلى في دار كرامته التي رضيها الله لأوليائه، وتجافى عن دار الغرور التي جعلها للمؤمن سجناً وللكافر جنة. قيل للعتابي: فلان بعيد الهمة، قال: إذاً لا يكون له غاية دون الجنة. يعني: إذا كان فعلاً بعيد الهمة لا بد أن يكون هدفه الأسمى وشغله الشاغل هو أن يصل إلى الجنة. قال الشاعر: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل يعني: أنت ما خلقت للدنيا إنما خلقت للآخرة، فالدنيا دار غربة، أما الآخرة فهي وطن، ونحن الآن في حالة نفي عن الوطن؛ لأن الأصل أن أبانا آدم عليه السلام كان في الجنة فهي الوطن الأول، ولذلك يقول الشاعر: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل إذاً: فالوطن هو الجنة، ونحن كنا في الجنة في صلب أبينا آدم عليه السلام، ثم خرجنا من الجنة وأبعدنا من الجنة إلى هذه الدار التي هي دار غربة، فالمفروض أن تجتهد في أن تتحرر من أسر الدنيا التي أنت فيها هنا؛ كي تنطلق وتعود إلى الوطن كما يقول الشاعر: فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم فإذا كانت لذة كل أحد على حسب همته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، يقول تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] فانظر كيف أمرنا بأن نفرح بالإيمان وبالقرآن، في حين نهينا عن الفرح بالدنيا والفرح بالزينة وبهذه الدناءات.

أسس الهمة العالية ومظانها ومآل أصحابها

أسس الهمة العالية ومظانها ومآل أصحابها يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: الهمة العالية لا تزال تحوم حول ثلاثة أشياء: تعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وإرادة، وملاحظة لمنة تزداد بملاحظتها شكراً وطاعة، وتذكر لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية، فإذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاث جالت في أودية الوساوس والخطرات. وقال بعضهم أيضاً: القلوب: إما قلب يحوم حول العرش، وإما قلب يحوم حول الحش. ويقول الغزالي رحمه الله تعالى في منهاج العابدين: الملك والكرامة بالحقيقة في الدنيا لأولياء الله عز وجل وأصفيائه الراضين بقضائه، فالبر والبحر والأرض والحجر والمدر لهم ذهب وفضة، والجن والإنس والبهائم والطير لهم مسخرون، لا يشاءون إلا ما شاء الله وما شاء الله كان، ولا يهابون أحداً من الخلق ويهابهم كل الخلق، ولا يخدمون أحداً إلا الله عز وجل ويخدمهم كل من دون الله. وأين لملوك الدنيا بعشر هذه المرتبة، بل هم أقل وأذل، أما ملك الآخرة فيقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإنسان:20] أي: هناك، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20] وأَعْظِمْ بما يقول فيه رب العزة إنه ملك كبير، وأنت تعلم أن الدنيا بأسرها قليلة، وأن بقاءها من أولها إلى آخرها لقليل، ونصيب أحدنا من هذا القليل قليل، ثم الواحد منا قد يبذل ماله وروحه حتى ربما يظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، وإن حصل له ذلك فيعظم بل يغبط، ولا يستكثر ما بذل فيه من المال والنفس، نحو ما ذكر عن امرئ القيس حيث يقول: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا ثم يقول: فكيف حال من يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المقيم. يعني: إذا كان الجاهلي يبحث ويكدح في سبيل طلب ملك دنيوي، يقول: أنا عملت ما استطعت فإن نلت الملك فهذا ما أريده، وإلا فأكون قد أعذرت نفسي. فيقول: فيكف حال من يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المقيم، أيستكثر مع ذلك أن يصلي ركعتين لله تعالى أو ينفق درهمين أو يسهر ليلتين؟ كلا! بل لو كان له ألف ألف نفس وألف ألف روح وألف ألف عمر، كل عمر مثل الدنيا وأكبر وأكثر، فبذل ذلك كله في المطلوب العزيز لكان ذلك قليلاً، ولئن ظفر بعده بما طلب لكان ذلك غنماً عظيماً وفضلاً من الذي أعطاه كثيراً. انتهى كلام الغزالي. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في طاعة الله عز وجل لحقره يوم القيامة)، يعني: لو أن رجلاً اجتهد في عبادة الله من يوم أن ولد، إلى أن يموت شيخاً كبيراً، ثم لقي الله سبحانه وتعالى في الآخرة ورأى أهوال يوم القيامة، ورأى النار وما فيها والجنة وما فيها، لاحتقر هذا العمل يوم القيامة، ولقال: ما عبدت الله حق عبادته، وما عبدته عبادة تؤهلني أن أنال هذا الملك الكبير في الجنة، هذا لما ينكشف له عياناً من عظيم نواله وباهر عطائه، فأَخْلِقْ بمثل هذا الشخص الذي فقه هذا الفقه الحقيقي وأحرى به إذا عاين جنة الرضوان أن يتمثل قول القائل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب فإذا كان هذا حال من عشق امرأة قبل أن يصل إليها وقبل أن يراها، فأولى بالمؤمن إذا عاين الجنة أن يقول هذا. إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء، ولا يرضى بحياة مستعارة، ولا بقنية مستردة، بل همه قنية مؤبدة -والقنية هي ما يكتسب- وحياة مخلدة، فهو لا يزال يحلق في سماء المعالي، ولا ينتهي تحليقه دون عليين، فهي غايته العظمى وهمه الأسمى، حيث لا نقص ولا كدر ولا تعب ولا نصب ولا همَّ ولا غمَّ ولا حزن، إنما هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدي، في حبرة ونضرة، في دور عالية بهية، وهناك تقر عينه وتهدأ نفسه ويستريح قلبه، قال تعالى في أهل الجنة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108] فالإنسان مهما نال من الدنيا أو عاش في قصر مشيد أو في غير ذلك من متاع الدنيا، فإنه بعد فترة يمله ويريد أن ينتقل إلى غيره، أما الجنة فلا يوجد فيها ملل، بل هي قرة عين، وحينئذ يطمئن المؤمن ولا يطلب إلا ما هو أعلى؛ لأنه كما قال تعالى: (أعدت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فلذلك قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:108]، وأخلق بمثل هذه الدار أن يبيع الإنسان نفسه وماله وكل الدنيا في سبيل أن يخطى بها. الجنة هي الوطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان، أما الدنيا فهي دار غربة منذ أهبط إليها الأبوان.

ترفع أصحاب الهمة العالية عن الدنيا

ترفع أصحاب الهمة العالية عن الدنيا إن الدنيا جيفة، والأسد لا يقع على الجيف، ولقد بعثت بلقيس إلى سليمان عليه السلام بهدية، أرادت أن تختبر وتمتحن همة سليمان عليه السلام، فإذا كانت همته الدنيا فسيرضى ويفرح بهذه الهدية، حينئذ تعلم أنه لا يصلح للمعاشرة، وإن كانت همته عالية تطلب ما هو أعلى تيقنت أنه يصلح للمعاشرة، يقول تعالى حاكياً عن بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35] يعني: فناظرة أهو طالب دنيا أم أنه رسول الله حقاً؟ {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]، إلى آخر الآيات. فالدنيا عند سليمان هي هدية بلقيس، فرفضها وتشوق إلى ما هو أعلى منها، كما فعل ذو القرنين: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} [الكهف:94] أي: نعطيك مالاً، {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94] ماذا كان جوابه؟ {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95] يعني: هذه الأموال اجعلوها لكم، فأنا في غنى عنها. {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95]. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (من أراد الآخرة أضر بالدنيا) وذلك لأن الدنيا والآخرة ضرتان إذا أرضيت واحدة أسخطت الأخرى، قال: (ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، يا قوم! فأضروا بالفاني للباقي). من سفل الهمة في طلب الدنيا طلب الجاه والرياء والشهرة والسمعة وغير ذلك، فنحن نعلم أن أول ثلاثة تسعر بهم جهنم: رجل قاتل في سبيل الله حتى قتل، فيؤتى به ويسأله الله سبحانه وتعالى ويعرفه نعمه كلها عليه، فيقول: ما فعلت فيها؟ فيقول: قاتلت فيك حتى قتلت، قال: كذبت! بل قاتلت ليقال: جريء فقد قيل، هذا كانت همته تقف عند طلب الثناء من الناس، قوله: (فقد قيل) يعني: فقد نلت ما كنت تصبو إليه وحققت هدفك وهو الرياء والسمعة، وأن يتحدث الناس بأنك شجاع وجريء وأنك أبليت بلاء حسناً، فقد أخذت ثوابك، لكن بما أنه أشرك مع الله غيره، فإنه يعاقب بأن يؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار. وكذلك يقال للذي أنفق رياءً: كذبت، ولكن أنفقت ليقال هو جواد، فقد قيل، فيؤمر به فيسحب إلى النار، وكذلك في الذي طلب العلم يقال له: ولكنك قرأت أو تعلمت ليقال: عالم، فقد قيل، فيؤمر به فيسحب إلى النار. فإذاً: الدنيا جيفة منتنة، والأسد لا يقع على الجيف. يقو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى مبيناً خطته في التعامل مع الدنيا: ومن يذق طعم الحياة فإني خبرتها وسيق إلي عذبها وعذابها فلم أرها إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها عشت سلماً لأهلها وإن تجتذبها ناهشتك كلابها.

حكم وصف الكافر بعلو الهمة والآثار المترتبة على ذلك

حكم وصف الكافر بعلو الهمة والآثار المترتبة على ذلك يرد الآن سؤال سبق أن أشرنا إلى إجابته على سبيل الإجمال، وهو: لماذا لا يوصف الكافر بعلو الهمة؟ نقول: لا يمكن أن يوصف كافر بعلو الهمة، فبعض الناس يرتكبون هذا الخطأ، إذا أرادوا أن يتكلموا على علو الهمة فتراهم ينقلون كلاماً عن أناس من الكفار، بدعوى أن هؤلاء كانوا كبيري الهمة، فهذا من الفهم المتواضع جداً لهذا الموضوع، ونجد أعداء الإسلام وأعداء الدين يجتهدون في حشد مناهج التعليم ومنابع التثقيف عند المسلمين بهذه النماذج، وهم بذلك يظهرون أمام المسلمين أن الكفار خاصة الغربيين منهم هم العباقرة وهم الأذكياء وهم الذين علت همتهم، ويحفظ الناس أسماءهم، بينما إلمامهم بأبطالنا من السلف الصالح رحمهم الله تعالى أجمعين ضعيف جداً. فكثير من الناس يرتكبون هذا الخطأ، خاصة إذا تكلموا على خصائص بعض الشعوب، فمثلاً يقولون: إن الشعب الألماني شعب عالي الهمة، أو إن الشعب الياباني شعب عالي الهمة، نحن لا ننكر أن للقوم إمعاناً في تحصيل علوم الدنيا والتقدم الدنيوي، لكن نحن نتكلم الآن عن الهمة العالية التي لا يمكن أن تكون عالية إلا إذا أراد صاحبها الله سبحانه وتعالى وأراد صاحبها الدار الآخرة، أما ما دون ذلك فهو لم يخرج عن حد الدنيا، فلذلك لا يجوز أن يوصف كافر بعلو الهمة. فيخطئ بعض الناس حين يصفون بعض شعوب الكفار كالألمان أو اليابانيين أو أفراداً من المخترعين والباحثين بالهمة العالية؛ لأن الهمة العالية حكر على طلاب الآخرة، بل نسمع بعض الناس يترحم على مخترع كذا أو مكتشف كذا مع أن كان كفاراً، وهذا من الجهل الفاحش، فإن الكافر لا يجوز الترحم عليه. فالهمة العالية كما ذكرنا حكر على طلاب الآخرة، وهي من شرفها وعزتها تأنف أن تسكن قلباً قد تنجس بالشرك والكفران، وتلطخ بأقبح معصية في الوجود، وهي معصية الشرك، قال عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] فأي إنسان منذ بعث الله النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، بلغته هذه الدعوة وسمع عن هذا الدين ولم يجتهد في الوصول إليه والإيمان به وانشغل بالدنيا، أو انشغل بالدين الفاسد كنصراني أو يهودي أو غير ذلك، أو أعرض عن الدين، فهذا كافر، ومجرد الإعراض عن التوحيد كفر ومعاندة لله سبحانه وتعالى. يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]. وقد بينا من قبل أن كمال الإرادة بكمال المراد، فمن نظر إلى الإرادة وقطع النظر عن المراد وقع في هذا الخطأ البين؛ لأنك حينما تصف مخترعاً أو عالماً من علماء الدنيا بعلو الهمة، فأنت نظرت إلى إرادته فقط، لكن قطعت النظر عن المراد، فهو عنده قوة إرادة، لكن قوة إرادته في طلب الدنيا، والدنيا حقيرة كما هو متواتر ومقطوع به. فهو لن يرضى بالله سبحانه وتعالى مراداً، فكمال الإرادة بكمال المراد، فمن فصل بين الاثنين ونظر فقط إلى قوة الإرادة أو الهمة وقطع النظر عن المراد، فإنه يقع في هذا الخطأ ويصف الكفار بأنهم كبيرو الهمة.

التحذير من تعظيم الدنيا وإهمال الآخرة

التحذير من تعظيم الدنيا وإهمال الآخرة لقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية على ذم الدنيا وتحقيرها، ومدح الآخرة وتعظيمها، وهذا الكافر ليس له مراد إلا تعمير الدنيا، فلها يكدح وعليها يقاتل، مع إعراضه عن الآخرة وزهده فيها، أو مع تكذيبه بالبعث والنشور، يقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:7] أي: قنعوا بالحياة الدنيا {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]، وقال سبحانه: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26]، وقال أيضاً: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) [النساء:77]، وقال عز وجل: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:32]، وقال أيضاً: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:212]. وقال عز وجل: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200].

التحذير من علمنة الإسلام وتغيير مناهجه

التحذير من علمنة الإسلام وتغيير مناهجه هناك خدعة يتعرض أبناء المسلمين لها وهي تعظيم أمر الدنيا على حساب تعظيم الآخرة وهمّ الدين، فتجد أن أعداء الدين يحاولون علمنة الإسلام! شق عليهم أن يواجهوا الإسلام صراحة في العصور السابقة، أما الآن فإنهم يواجهونه بصراحة، لكن من قبل مدة قريبة كانوا يموهون ويتحايلون، فيكثرون من الكلام عن الحضارة والتقدم والمدنية. تجدهم عندما يتكلمون عن مجد المسلمين يتكلمون عن الزخارف في الفن العربي، ومع ذلك لا يسمونه إسلامياً؟ لأن العلمانيين ليس عندهم شيء اسمه فن إسلامي، وإنما يسمونه عربياً، كذلك عندما يقولون: إن أول مكتشف للدورة الدموية هو فلان من العرب، وربما ذكروا ملاحدة الفلاسفة لمجرد أنهم عرب، فأصبحت قضية الإسلام تقدم في ثوب دنيوي لعلمنة الإسلام نفسه، وتسخيره خادماً لأفكار العلمانية التي تقتل في الناس هم الآخرة، وتجعل همهم هو الدنيا. والحضارة التي يقصدونها هي الدنيا، ولذلك تجد أغلب هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام يفتنون بالغرب وبالكفار، ما الذي يفتنهم؟ هل يفتنون بأخلاقهم الحسنة، قيامهم الليل، حفظهم القرآن، زهدهم في الدنيا، طلبهم الآخرة؟ لا، بل لا توجد في الغربيين أي فضيلة أخروية، وكل ما عندهم هو أمور الدنيا، وهذا الذي يتعاظمون به هو ناطحات السحاب، الغناء، الثروة، الجاه وغير ذلك من أعراض الدنيا، هذا فقط الذي يوجد عند القوم، لكن من ناحية الدين لاشك أنهم خراب ووبال. فلذلك ينبغي أن نتفطن، فهم دائماًَ يحاولون إبراز الإسلام على أنه دين الحضارة ودين العلم، ويقتصرون على ذكر إنجازات علماء المسلمين، وهذا بلا شك كان كائناً وواقعاً وكل الحضارة الغربية إنما أسست على العلوم الإسلامية التي كانت في الأندلس، لكن هذا انحراف عن القضية الأصلية، فالإسلام دين هداية وإرشاد إلى تعمير الآخرة، والنجاة من عذاب الله سبحانه وتعالى. فعملية علمنة الأهداف الإسلامية ينبغي أن نحذر منها، فنحن نقول: المولد النبوي بدعة، وليست من الدين في شيء، لكن انظر كيف يتكلمون في مناهج التطوير عن المولد النبوي، يقول بهاء الدين أو الذي سماه أبوه حسين كامل بهاء الدين، يقول: إن المولد النبوي فرصة عظيمة لأكل الحلوى وإقامة الزينات والأفراح. المولد النبوي عنده هو أن يأخذ الناس فيها إجازات ويأكلون فيه الحلوى ويقيمون الزينات، وهذا استخفاف بالعقول، إذا أردت أن تتكلم عن عظمة الرسول عليه الصلاة والسلام فعظمته عندهم هي أكل الحلوى! هذا هو رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين. لكن الناس ليس في قلوبهم حرارة المحبة والاحترام والغيرة على الإسلام، فالله حسيبهم.

نصوص من الكتاب والسنة تحذر من التطلع للدنيا وإيثارها على الآخرة

نصوص من الكتاب والسنة تحذر من التطلع للدنيا وإيثارها على الآخرة يقول تبارك وتعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]. وبين تبارك وتعالى أن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقة، فقال عز وجل: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] قوله: (الحيوان) المقصود به الحياة. ولذلك شنع سبحانه وتعالى على الذين يفضلون الدنيا على الآخرة ويشتغلون بها عنها، فقال سبحانه وتعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17]. وقال أيضاً: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20 - 21]. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]. وقال أيضاً: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39]. وقال سبحانه: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70]. وحذر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى زهرة الدنيا، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]. وقال سبحانه للمؤمنين: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]. وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، أفكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني) وهذا رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن خزيمة. وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها) يعني أن الذي يخاف من النار لا يمكن أن يهنأ بالنوم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً) رواه ابن ماجة وهو حديث حسن كسابقه. وقوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131]. قال النسفي في تفسيره: ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعُدَد الفسقة في ملابسهم ومراكبهم. يعني: عندما نتكلم عن غض البصر فأغلبنا يفهم أن المقصود غض البصر عن المحرمات وعن النساء وعن العورات، لكن أيضاً هنا أمر بغض البصر، لكن بطريق النهي عن عكسه، وهو النهي عن مد العين إلى زهرة الحياة الدنيا، فهذا أمر بغض البصر عن زينة أصحاب الدنيا، لأنك إذا أطلقت بصرك إليها قد تؤثر في قلبك، وليس هذا فحسب، بل العلماء يوصون المسلم ألا يملأ عينيه من الظلمة والجبابرة والطواغيت وأعداء الدين والفنانين وهؤلاء الناس الذين يصدون عن سبيل الله؛ لأن هذا سيطبع أثراً في قلبك، كلما بعدت عينك عن النظر لهؤلاء الفسقة والمجرمين والفنانين والطواغيت كان أسلم لقلبك على الأقل؛ لأنك تخرج قلبك بذلك عن دائرة تأثيرهم. فهذه نصيحة عابرة حتى لا يحاول الإنسان أن يطلق بصره إلى الظالمين، سواء في مناظرهم المصطنعة التي فيها إظهار لتعظيمهم وتبجيلهم، وما عندهم من مضخمات الصوت في القاعات والأضواء والفلاشات وكل هذه الأشياء، بل التفت عن هذا: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:131 - 132]. ولذلك كان الواحد من السلف إذا قام أحد من الظلمة ليستعرض بالعساكر وبالحرس يغض بصره ويفزع إلى بيته، وأول ما يدخل البيت يقول: يا أهلاه صلوا صلوا؛ امتثالاً للآية: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه:131] ثم قال بعدها مباشرة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه:132]. فكان يفعل ذلك. فالنصيحة أن يحفظ كل منا بصره عن النظر إلى صور الظالمين، سواء في الجرائد أو في التلفاز أو في غير ذلك. هذا أحد الإخوة حدثني قريباً أنه في أحد الأحياء هنا قريباً خرج واحد من هؤلاء الممثلين أو الفنانين وظهر بطلعته البهية، فتزاحم عليه النساء من الشرفات والرجال والباعة، وكل الناس أصبحوا يتهافتون حتى أحدثوا زحاماً شديداً في الشارع؛ كي يحظوا بإلقاء نظرة على هذا الشخص، فينبغي ألا تستخفنا هذه المظاهر الكاذبة؛ لأن إطلاق النظر في وجوه الظالمين والفسقة يؤثر في القلب، ألا ترى أم جريج العابد، لما أرادت أن تدعو على ابنها جريج دعت عليه بألا يموت حتى يرى وجوه الزانيات، فالنظر إلى وجوه المجرمات الفاسقات عقوبة. يقول الحسن: لا تنظروا إلى هملجة الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب. أي: لا تغرنكم المناظر والهيلمان، لكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه) يعني: وما أحبه الله مما يجري في الدنيا. (وعالماً أو متعلماً). حسبنا أن هذه الدنيا وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها باطل، وذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل).

حال المؤمنين مع الدنيا

حال المؤمنين مع الدنيا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على سرير مرمل -أي: منسوج من السعف- وتحت رأسه وسادة من أدم -من جلد- حشوها ليف، فدخل عليه نفر من أصحابه ودخل عمر، فانحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم انحرافة -أي: تحرك- فلم ير عمر بين جنبه وبين الشريط ثوباً، وقد أثر الشريط بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر! قال: والله إلا أن أكون أعلم أنك أكرم على الله عز وجل من كسرى وقيصر، وهما يعبثان في الدنيا فيما يعبثان فيه وأنت يا رسول الله بالمكان الذي أرى). يعني: أقبلت عليهما الدنيا حتى صارا يلعبان بأموالها ومتاعها لعباً، وأنت رسول الله وأكرم الخلق على الله لا تجد فراشاً يقي جسمك من أثر الحصير، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال: بلى، قال: فإنه كذلك) والحديث متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟)، يعني: الصبغة الواحدة تنسيه كل ما كان فيه من نعيم، مع أنه كان أنعم رجل من أهل الدنيا، (فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط)، رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.

عالي الهمة لا يكون معرضا عن الهدى

عالي الهمة لا يكون معرضاً عن الهدى فكيف يكون عالي الهمة من أمكنه أن يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتقوم الملائكة في خدمته، وتدخل عليه من كل باب فتقول له: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] فإذا به يتنكب طريق الإيمان، ويتمرغ في وحل الكفر والفسوق والعصيان، ويأبى إلا أن يكون حطباً للنيران، هل يمكن بعد ذلك أن نصف الكافر بأنه عالي الهمة، وهو يبذل نفسه وماله وولده في سبيل صد الناس عن سبيل الله؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:167]، وقال أيضاً: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]. وكيف يكون عالي الهمة من فطره الله على التوحيد، فأفسد فطرته، وآتاه نعمة العقل فعطلها، وبث له آيات توحيده ودلائل صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في الآفاق وفي نفسه، وأنزل الله كتابه المعجز، فأعرض عن ذلك كله ولم يرفع به رأساً، وجعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه؟ يقول تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل:83 - 85]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة) رواه ابن حبان في صحيحه. قوله: (إن الله يبغض)، أي: يكره. قوله: (كل جعظري) هو الفظ الغليظ المتكبر، وقيل: هو الذي يتشبع بما ليس عنده. قوله: (جواظ) هو الجموع المنوع، وقيل: الكثير اللحم والمختال في مشيته. قوله: (صخاب) السخب بالسين أو الصاد بمعنى واحد وهو الصياح، فالسخاب هو كثير الضجيج والخصام، وفي صفة المنافقين: (خشب بالليل سخب بالنهار)، يعني: إذا جن عليهم الليل سقطوا نياماً كأنهم خشب، وإذا أصبحوا تساخبوا وتصايحوا على الدنيا شحاً وحرصاً. قوله: (جيفة بالليل) يعني: هو كالجيفة؛ لأنه يعمل طول النهار كالحمار من أجل دنياه، وينام طول الليل كالجيفة التي لا تتحرك ولا يذكر الله. هذه كلها صفات السافل الهمة، سواء من فسقة المسلمين أو من الكفار أجمعين بلا استثناء. فما أشد انطباق هذا الحديث على هؤلاء الكفار الذين لا يهتمون بآخرتهم، مع علمهم بأمور دنياهم وفرحهم بما عندهم منها، كما قال تعالى فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، وهذه الآية في الحقيقة تحتاج كلاماً كثيراً جداً؛ لأننا نقع الآن في مشكلة ونعاني عناءً شديداً بسبب هذا الأمر، وهو أننا لا نتعامل إلا مع ظاهر هذه العلوم الحديثة فقط كحال الكفار، ولا نحاول أن ننفذ إلى الأعماق وإلى المعاني التي وراءها؛ لأن هذه العلوم وهذه الاكتشافات ما هي إلا أمارات على التوحيد، كما يقول الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل من الذي سن هذه السنن وأودعها في الكائنات؟ من الذي يحفظ علينا هذا البحر القريب من أن يغرقنا؟ من الذي ينزل لنا الماء من السماء كي نحيا؟ من الذي يأتينا بالسمع؟ ومن الذي يعطينا كذا وكذا من النعم؟ من الذي قام بحوله وقوته على توجيه أجسامنا وإجراء العمليات الوظيفية أو الحيوية التي تجري فيها ليل نهار ونحن ليس عندنا بها خبر؟ وما خفي من علم الله كان أعظم، ومع ذلك يرفض العلم الملحد الذي يتقاتل الناس عليه تعظيماً له أن نذكر اسم الله. لو أنك في بحث علمي استدللت بنص ديني لقالوا: هذه خرافات أو هذه شعوذة، أو إنك بهذا قد خرجت عن نطاق البحث العلمي، حتى إن الخبيث طه حسين انخدع بكلام هؤلاء الكفار، وقال في بعض المناسبات: فليحدثنا القرآن ما شاء عن إبراهيم وإسماعيل، ولتحدثنا التوراة ما شاءت عن إبراهيم وإسماعيل، لكن ورود هذين الاسمين في هذين الكتابين لا يكفي لإثبات حقيقتهما التاريخية! هذا كما علمه أسياده الفرنسيون. أيضاً في مناهج فصول التعليم حذفوا كل عبارة فيها ذكر الله، وهذا يعرفه الطلبة والمدرسون جيداً، فإذا قارنت النسخ القديمة والحديثة لاحظت ذلك، كان في النسخ القديمة: أن الله الخالق سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما فيه ذكر الله، أما الآن حذفت هذه العبارات بالمنقاش، ونزعوا كل ما فيه ذكر الله، حتى يخرجوا من أصلابنا أجيالاً ملحدة تكره الله وتكره الرسول وتنبذ دين الإسلام، فحتى مثل هذه العبارات نزعوها من المناهج، واستبدلوا ذكر الله بقولهم: الطبيعة أعطت الكائنات كذا وكذا، الطبيعة فعلت كذا وكذا، فالطبيعة ما هي الطبيعة؟ أهي خالقة أم مخلوقة؟ الطبيعة فعيلة بمعنى مفعول، من الذي طبعها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، إذا كانت الطبيعة صماء بكماء خرساء عمياء، فكيف تكون الطبيعة الجامدة هي التي أعطت هذه الحياة؟! فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا في الحقيقة جحود ونكران لله سبحانه وتعالى الذي هو خالق الوجود كله. فتجد هذا العلم يسمى علماً وهو في الحقيقة جهل، كما قال بعض الدعاة: كنا فيما مضى نعاني من جاهلية الجهل، والآن نحن نعيش تحت ظل جاهلية العلم، فتجد كل العلوم تفصل عن صانعها سبحانه وتعالى، وتحصل الإشادة والتفخيم والتعظيم والتكريم للذين اكتشفوها، ما مقدار فضل من اكتشف بالنسبة إلى فضل من صنع. ولله المثل الأعلى لو أن مخترعاً اخترع آلة في غاية التعقيد ووضعها في صندوق وأقفل عليه بقفل مثلاً، ثم بعد ذلك استطاع رجل أن يفتح هذا القفل ويرى هذه الآلة، فإذا به يقول: إنها كذا ومركبة من كذا وتعمل بالطريقة الفلانية، ونستطيع أن نستفيد منها في كذا، هل يكون له الفضل وينسى ويجحد فضل الذي صنعها؟ نحن البشر الآن بهذه الصحة التي أعطانا الله سبحانه وتعالى، كم من آلاف العمليات المعقدة تجري في جسمك وأنت لاه ساه غافل عنها، من الذي يجري هذه العمليات في جسمك سواء كنت في حالة النوم أو اليقظة أو الحركة أو السكون؟ من الذي يدق قلبك؟ من الذي يحفظ عليك بصرك؟ فكل حرف من حروف علوم الطب يشهد أن لا إله إلا الله، وكل شيء في علوم الفيزياء وعلوم البحار تسبح بحمد الله سبحانه وتعالى، وهي في الحقيقة ما أودعها الله إلا كي تكون ترجمة لما أخبرنا به: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] كل هذه علامات توحيد تماماً كالقرآن الكريم {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]. فالذي أودع هذه السنن والقوانين هو الذي خلق هذا الإنسان، فالإنسان الجاحد الجاهل يستر جهله تحت اسم العلم، وأصبح العلم أن تقطع صلة هذه الحقائق العظمى بالله سبحانه وتعالى، وإذا جاء واحد وتكلم في موضوع الوسوسة مثلاً وقال: إن هذه الوسوسة تكون من الشيطان، قالوا له: هذه خزعبلات، وإذا أتى بنص ديني في بحث علمي قالوا: قد خرجت عن المنهج العلمي، فصار المنهج العلمي عندهم أن يتبرأ من الدين، ولا يذكر فيه الدين، الموضوع في الحقيقة موضوع مؤلم جداً، وهو ذو شجون، وموضوع حيوي في غاية الحيوية، إنه موضوع علمنة هذه العلوم التي هي أصلاً خادمة لقضية التوحيد، ومع ذلك تفصل تماماً عن التوحيد، ويستنكفون ويستكبرون عن أن يذكروا اسم الله سبحانه وتعالى في هذه العلوم. فهؤلاء الكفار وصفهم تعالى بهذا الوصف الذي نحن الآن نحرص على أن نتسابق عليه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، وقال سبحانه وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم:29 - 30] هذا هو حجمهم، فهم يجتهدون في العلم لأمور دنياهم، وهم كالبهائم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، فالحمار أو البقرة أو الجاموس إذا وقفت أمامه وتلوت عليه السبع المعلقات يسمعك لكن لا يفقه منها شيئاً، وهكذا الكفار، فآيات الله سبحانه وتعالى التي تنكشف في هذا العصر على أيديهم أضعاف أضعاف ما ينكشف للمسلمين؛ لتقدمهم في هذه العلوم، فيطلعون على آيات الله التي فيها ما يبهر العقول وينطقها بالتوحيد؛ ولكن لوجود الأقفال على قلوبهم لا يعون ما يرون من آيات الله سبحانه وتعالى. إذاً: قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم:29 - 30]، أي: أنهم لو فقهوا أن هذه الدنيا تدل على الآخرة ولا تستحق أن يجردوا غرضهم لأجلها، لما اقتصروا على تعظيم علم الدنيا، لكنهم يجتهدون في العلم بأمور دنياهم، ويمعنون في تحصيلها، مع جهلهم التام بأشرف العلوم وهي علوم الآخرة، التي هي شرف لازم لا يزول دائم لا يمل، فجدير بمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير أن يبغضه الله ويمقته لشقاوته. فالله سبحانه وتعالى كرمهم بنعمة العقل، وميزهم بها على العجماوات، فسخروها أعظم تسخير في كل شيء من أغراض الدنيا الخسيسة، كالتألق في الشهوات والمأكل والملبس والترفه، إلا الشيء الذي خلقوا من أجله وهو عبادة الله وحده لا شريك له، واتباع رسله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. ولهذا

علو الهمة [4]

علو الهمة [4] كبير الهمة لا يرضى بالهمم الحيوانية، فهو يبني مجده بنفسه، فلا يفخر بآبائه، ولا يتكل على أسلافه، بل يعمل مثل ما عملوا، ويحرص على أن ينافسهم في الخيرات، ويعلو عليهم في الدرجات، ولقد ضرب لنا سلفنا الصالح أروع الأمثلة في هذا الباب، فقد وقفت رسلهم على بسط كسرى وقيصر تخاطبهم بعزة المؤمنين حتى أخضعوهم للإسلام.

كبير الهمة لا يرضى بالهمم الحيوانية

كبير الهمة لا يرضى بالهمم الحيوانية كبار الهمم فئة نادرة في الناس، وهم الذين تصلح بهم أمم وتحيا همم، فعالي الهمة لا يرضى بالدون، ولا يرضى بما دون الجنة؛ إذ إن الهمة لا تزال تترقى به حتى يطمح إلى أعلى مراتب الجنة، وهو الفردوس الأعلى من الجنة، وما ذلك إلا لأن الدنيا جيفة، وعالي الهمة لا يرضى بالجيف، كما أن الأسد لا يرضى بالجيفة. وقد ذكرنا أنه ليس في علو الهمة إفراط. ثم أجبنا عن Q لماذا لا يوصف الكافر بعلو الهمة؟! وقلنا: لأن الكافر يريد الدنيا، أو يريد الآخرة من غير طريق محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث يئول به الأمر في النهاية إلى الخسار والبوار والخلود في النيران، فمن ثم لا يستحق كافر أبداً أن يشرف بوصف كبر الهمة. وحديثنا هنا -إن شاء الله تعالى- سيكون في بيان همة السلف الصالح الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس، فقد استخفوا بأعراض الدنيا لأنهم فقهوا الحقائق، فكبير الهمة على الإطلاق لا يرضى بالهمم الحيوانية، ولا يكون عبداً لبطنه وفرجه، بل يجتهد في أن يتمسك بمكارم الشريعة، فيصير من أولياء الله وخلفائه في الدنيا ومن مجاوريه في الآخرة. وكبير الهمة صغرت الدنيا في عينيه، فيكون خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، ويكون خارجاً عن سلطان فرجه، فلا يتعدى حدود الله. ولما فقه سلفنا عن الله عز وجل أمره، وتدبروا حقيقة الدنيا ومصيرهم إلى الآخرة؛ استوحشوا من زخرفها، وتدبروا حقيقتها، فمالت قلوبهم عن زينتها، وارتفعت هممهم فوق سفاسفها، وجعلوا الهموم هماً واحداً، هو إرضاء الله عز وجل ومجاورته في دار كرامته. إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا. وحرصوا على إزاحة كل ما قد يعوقهم عن المضي قدماً نحو غايتهم، فلم يستووا مع سائر الناس؛ لأنهم انشغلوا بمعالي الأمور وتنزهوا عن سفاسفها، فكان لهم معايير يختلفون فيها عن سائر الناس، مثال ذلك ما قاله الحافظ أبو الحسن علي بن أحمد الزيدي مخاطباً كبيري الهمة في أنهم ليسوا كالناس، وأن اشتغالهم بمعالي الأمور يجعل لهم معايير تخالف ما لسائر الناس من المعايير، فيقول رحمه الله: اجعلوا النوافل كالفرائض، والمعاصي كالكفر، والشهوات كالسم، ومخالطة الناس كالنار، والغذاء كالدواء. وقال عبد القادر الجيلاني لغلامه: يا غلام! لا يكن همك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كل هذا هم النفس والطبع، فأين هم القلب؟! همك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده. ولما هم الإمام الجليل الليث بن سعد رحمه الله تعالى بفعل مفضول مباح لكنه ينافي العزيمة قال له إمام المدينة يحيى بن سعيد الأنصاري رحمه الله تعالى: لا تفعل؛ فإنك إمام ينظر إليك. وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: وقال لي يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة. أو نحو هذا من الكلام. ورحل يحيى بن يحيى إلى الإمام مالك وهو صغير، وسمع منه وتفقه مع صغر سنه، وكان مالك يعجبه سمته وعقله. وروي عنه أنه كان يوماً عند مالك في جملة من أصحابه، إذ أتى رجل وصرخ فيهم فقال: حضر الفيل. فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه؛ فإنهم لم يروه من قبل، فانصرفوا عن الدرس ما عدا هذا الصغير يحيى بن يحيى، فقال له مالك: لم لم تخرج فترى الفيل وهو لا يكون بالأندلس؟ يعني أنت من الأندلس، وليس فيها فيل، فلماذا لم تخرج مع أصحابك لتنظر إلى شكل الفيل؟! فقال له يحيى: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك، وسماه عاقل أهل الأندلس! فلا شك في أن مشاهدة حيوان غريب كالفيل لم يره الإنسان من قبل من المباح، لكن أمثال هؤلاء الناس الذين حلقت هممهم في طلب معالي الأمور يجدون وقتهم أضيق من أن يشتغلوا بشيء من المباح، خاصة إذا كان لا يجني المرء من ورائه شيئاً لقضيته التي تشغله ليل نهار. ولما فر عبد الرحمن الداخل من العباسيين وتوجه تلقاء الأندلس أهديت إليه جارية جميلة، فرمى إليها بصره وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها. يعني: همتي مشغولة في طلب معالي الأمور، فإن اشتغلت عنها بسبب همتي العالية فسوف أظلمها وأضيع حقها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردها على صاحبها! فكبيرو الهمة ليسوا كسائر الناس في انشغالهم بفضول المباحات من الأكل أو الشراب أو المنكح أو الملبس أو غير ذلك؛ لأنهم يرون في ذلك نوعاً من الغفلة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: الراحة للرجال غفلة. وقال أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج رحمه الله تعالى: لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم. وسأل رجل ابن الجوزي: أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها.

أهمية علو الهمة في الطاعات في هذا الزمان

أهمية علو الهمة في الطاعات في هذا الزمان ومما يؤسف له أننا في هذا الزمان ما زلنا نجد كثيراً من الناس حينما يجلس بعضهم إلى بعض فيرون علائم الجد على رجل من الرجال يقولون له: ساعة وساعة، فأعط نفسك حظها، وإن لبدنك عليك حقاً. فيستدلون بشطر من الحديث ويدعون حقوقاً أخرى. والحقيقة أن الناس في هذا الزمان لا يحتاجون إلى تذكيرهم بحقوق الدنيا؛ لأنه لا يوجد أحد منهم يقصر في أمر الدنيا، وكل الناس مشتغلون بعلم الدنيا وبمال الدنيا وبزخارف الدنيا، وقل من يشتغل بأمر الآخرة، فعند الناس من الغفلة ما يكفيهم، والناس الآن في حاجة إلى من يزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الآخرة، وهذا الكلام للإمام ابن الجوزي، وكان في عصر كانت فتنة الدنيا فيه أخف بكثير مما نقاسيه الآن. فإن اعترض معترض على هذا المعنى فنأتيه بكلام الإمام الجليل ابن القيم رحمه الله تعالى، حيث يقول: لا بد من سمة الغفلة ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم، ولا تتماد في الغفلة. فالمراد تقليل الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم، كل حسب صحته وطاقته، خاصة أن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية؛ لأن المسلمين فيما مضى كانوا يجدون على الخير أعواناً، وكانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، وكانت الرذائل والمعاصي تجهد نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء وسيوف الأمراء. أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعاً مبصراً، فجميع أنواع الكفر الآن تجوس خلال ديارنا، وتغزونا في عقر دارنا، وكل أنواع الملاهي والفساد والفسق والفجور تغزونا في عقر دارنا، ولا يكاد يخلو منها شبر من الأرض، فسهلت هذه المدنية الحديثة وصول هذه الضلالات كلها عبر الإذاعات والتلفزة والصحف، وجعلت إلقاءات جميع أجناس الشياطين قريبة من القلوب، وصار سهلاً جداً أن يتبع الإنسان كل أنواع الضلال وكل أنواع التمويه والإفساد، فقلبه يسمم ما بين وقت وآخر، ويكفي ما يحصل بصورة أو بأخرى من الطعن في شرائع الإسلام، كأن توصف قوانين الشرائع الإسلامية بأنها قوانين قاسية، أو صارمة، أو وحشية، والعياذ بالله، وما أكثر الملاحدة أصحاب دعوى حقوق الإنسان الذين يتكلمون بين وقت وآخر في الطعن في الإسلام من خلال استغلال الأحداث! كما حصل قبل فترة في إعدام أربعة من الأتراك هربوا المخدرات إلى السعودية، وإذا بنا نسمع أصحاب حقوق الإنسان يتصارخون، ويرون أن هذه قسوة، ومن خلال ذلك يطعنون في إقامة حدود الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أنها تنافي ما يزعمونه من مبادئ حقوق الإنسان التي ضيعت! في هذا الزمان إذا هلك داعية من الدعاة الواقفين على أبواب النار يدعون الناس إليها يمتدحونه بأنه ثبت على مبدئه إلى النهاية، مثل تلك المرأة التي وقفت حياتها على حرب الدعوة، وشتم الحجاب ووصفه بأنه كفن ككفن الموتى، وهي الآن -ولله الحمد- قد كفنت وتنقبت -رغم أنفها- بنقاب لا تخلعه إلى أن يأذن الله، فالعجب أنهم يمتدحون الذين وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بأنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها! فيمتدحون هؤلاء وينفخون فيهم كأنهم الأبطال، وكأنهم المجددون الذين يريدون الخير لهذه الأمة، فكل المعايير وكل القيم انقلبت بسبب الغزو الفكري وسهولة تسربه إلى قلوب المؤمنين، فلا شك في أنه ينبغي علينا أن نكون أعيناً منتبهة ومبصرة لما يأتينا من سهام الفتن التي تكاثرت علينا، وصدق القائل: تكاثرت الظباء على خراش فلا يدري خراش ما يصيد فهذه الوسائل كلها جعلت إلقاءات جميع إخوان الشياطين بكل أنواعهم قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع أو المنظور، فضلاً عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها، فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لقلبه أكثر مما كان يجب على السلف الصالح؛ لأن البيئة حول السلف الصالح كانت كلها تؤزهم على الخير أزاً، والباطل منقمع ومهزوم ومنكسر، أما الآن فالحال لا يخفى علينا. وما أصدق تصوير إمام تركيا بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله تعالى حين بسط هذه الحقيقة وجلاها قائلاً: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كقرية واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباحاً ومساءً غلظ بسببها وتكاثف بملاذها حجاب الغفلة، بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة. فالإنسان لا يستطيع أن يخرج من أسر هذا التأثير الإعلامي وتأثير السموم من كل مكان إلا بهمة عظيمة كالقوة التي يحتاج إليها الصاروخ كي يتحرر من جاذبية الأرض، فلا بد من قوة دافعة له أقوى من الجاذبية حتى يتحرر منها، ونحن كلما زاد الثقل علينا نحتاج إلى قوة دافعة أقوى كي نتحرر من هذه الضغوط، وليس ذلك إلا بقوة الإرادة أو الهمة كما بينا من قبل، يقول الشاعر: وانتبه من رقدة الـ ـغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل

عزة المسلمين بإسلامهم

عزة المسلمين بإسلامهم إذا قارنا أحوالنا بأحوال السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم نجد الفرق شاسعاً والبون شاسعاً، فالإمام أحمد رحمه الله تعالى بذل كل ما في وسعه من أجل الدفاع عن الدين، ولم يرض بدون بذل الجهد الأقصى في سبيل نصرة الدين، لاسيما في زمن المحنة، يقول لابنه: يا بني! لقد أعطيت المجهود من نفسي. يعني: أتيت بأقصى ما أقدر عليه في سبيل التصدي للباطل والضلال. ومن قبله قال الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معبراً عن هذا المعنى أيضاً: والله ما نمت فحلمت، ولا توهمت فسهوت، وإني لعلى السبيل ما زلت. فانظر كيف يصور خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصديق الأكبر حروب الردة والفتوح الإسلامية أنها شغلته حتى أنه ما كان يستغرق في نومه، فما كان يتمتع بنوم عميق حتى يحلم؛ لأن كل نومه كان نوماً من الدرجة اليسيرة دون أن يستغرق في نوم عميق؛ لأنه ما كان يتاح له أن ينعم بشيء من النوم حتى يحلم! فكبيرو الهمة التعب في حقهم لهو، فهو لهوهم الذي يحبونه ويشغفون به، فمتعتهم أن يضحوا وأن يبذلوا وأن يجاهدوا، يقول الشاعر: قلب يطل على أفكاره ويد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب فالتعب والكدح والسهر والجهاد هو اللهو عند هؤلاء القوم! وفي تراثنا الإسلامي مواقف رائعة تخبر عن علو همة سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، وتعلن عن نظرتهم العميقة إلى حقائق الأشياء وتساميهم على المظهرية الجوفاء وتَرَفُّعِهم عن سفاسف التطور الكاذب، واعتزازهم بانتمائهم إلى الدين الحنيف دين العزة والكرامة، فمن ذلك ما صح عن ابن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح، فأتى على مخاضة من الماء وعمر على الناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أأنت تفعل هذا! تخلع نعليك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟! لا يسرني أن أهل البلد استشرفوك. فخشي أن يراه البطارقة من سور بيت المقدس على هذه الهيئة، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أوه -وهي: اسم فعل مضارع بمعنى: أتوجع- لو قال ذا غيرك -يا أبا عبيدة - لجلعته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغيره أذلنا الله. فما أعظم هذه القاعدة التي هي سنة من سنن الله سبحانه وتعالى. وهذه المنطقة التي حصلت فيها تلك المقولة العمرية تسمى اليوم ظلماً وعدوناً منطقة الشرق الأوسط، فالغربيون قسموا بلاد غيرهم إلى شرق أوسط وأقصى وأدنى بالنسبة للإمبراطورية الإنجليزية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، فهذه التسمية تسمية استعمارية تنسب إلى بريطانيا، فجعلوا بريطانيا هي الأساس، ونحن شرق أوسط وأبعد وأدنى بالنسبة إليهم، هذه المنطقة التي تمثل العالم الإسلامي كانت قبل الإسلام كما يقول عمر: إنا كنا أذل قوم. فما كان لهم أي شأن، وكانوا أحقر الأمم، وهذا يعكس تأثير البيئة، فإن البيئة في هذه المنطقة تدفع إلى الدعة والراحة والخمول والكسل والتأخر والتخلف، ومعلوم أن أعظم ما يؤثر على الإنسان هو البيئة، ولا يلغي تأثير البيئة ولا يصححه إلا العقيدة الدينية، فهذا هو الأصل في هذه المنطقة، كانوا أذل الأمم وأحقر الأمم، كانوا أميين جهلة، كانوا متخلفين محتقرين من كل الأمم، فآتاهم الله سبحانه وتعالى الإسلام وفيه شرفهم، كما قال الله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، فأعزهم الله سبحانه وتعالى بالإسلام، وكانت آية من آيات الله سبحانه وتعالى التي تدل على صدق هذا الدين، وأنه دين الله حقاً، حيث أخرج هذه الأمة الجائعة الحافية العارية الجاهلة من الظلمات إلى النور، فصارت أرقى أمة وخير أمة أخرجت للناس، وأفضل أولياء الله على الإطلاق خرجوا من هذه الأمة العظيمة، وذلك بالإسلام فقط. فالإسلام هو الذي استطاع أن يلغي تأثير البيئة في هؤلاء العرب، وبه اعتزوا، والله سبحانه وتعالى يعاقب من كفر بنعمته، فإذا كان الإسلام هو سبب عزكم فهناك قانون وسنة من سنن الله لا تتبدل ولا تتحول، وهي أنكم متى ما كفرتم بنعمة الله التي هي نعمة الإسلام التي هي عزكم ومجدكم فستعودون لتأثير البيئة من جديد، وستكونون أحقر الأمم وأذل الأمم. فكل ما نعاينه اليوم من البلاء ومن العناء ومن التخلف ومن الذل ومن الهوان هو بسبب أننا طلبنا العزة من غير دين الله، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]. فما نحن عليه الآن هو الوضع الطبيعي؛ لأننا بدون الإسلام نرجع إلى تأثير هذه البيئة، وبالإسلام فقط نعتز ونرقى، ولذلك قال عمر: إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما -ومهما أداة شرط، فكلما وجد الشرط وجد المشروط، وإذا فقد الشرط فقد المشروط-، قال: فمهما نطلب العز بغيره أذلنا الله. فهذه هي الحقيقة التي يحاول أعداء الدين أن يخفوها، ويحاولون أن يربطوا تخلفنا وتأخرنا بالإسلام، وكذبوا والله، فما أصابنا ما أصابنا إلا بسبب بعدنا عن الإسلام، فهذه هي الحقيقة التي يعرفها أعداء الإسلام جيداً، ولذلك هم حريصون أشد الحرص على أن يفصلوا بيننا وبين الإسلام، وأن يشوهوا صورة الإسلام، وأن ينفرونا من الإسلام، وأن يقضوا على اعتزازنا بالإسلام، وأن يفصلونا عن تاريخنا المجيد الذي به صرنا خير أمة أخرجت للناس. وفي الرواية الأخرى: قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه! فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نتبع العزة بغيره.

كسوة الأجساد وأثرها على بواطن النفوس

كسوة الأجساد وأثرها على بواطن النفوس دخل أعرابي رث الهيئة بالي العباءة على أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه، فاقتحمته عينه، فعرف الأعرابي ذلك في وجه معاوية رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! إن العباءة لا تكلمك، ولكن يكلمك من فيها. فأدناه فإذا به مدره فصاحة في القول وبلاغة، فجعله من خاصته، والمدره: هو السيد الشريف المقدم عند الخصومة والقتال. والإمام شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى كان إذا رآه الرائي ظنه شيخاً من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إليه أن هذا الشخص الذي يلبس هذه الملابس والذي يظهر بهذه الهيئة له أي قدر يذكر! فإذا سمعه يدرس أو يقرر أو يحدث فغر فاه وحملق بعينيه عجباً من هذه الأسمال أن تنكشف عن جوهر نفيس وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى! ولا عجب، فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة وجمال الهندام، فإذا رأوا من هذه صفته وقروه وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضان وفكر بائس وقلب حائر. يقول الشاعر: ترون بلوغ المجد أن ثيابكم يلوح عليها فصلها وبصيصها وليس العلى دراعة ورداءها ولا جبة موشية وقميصها. ويقول المتنبي: لا يعجبن مضيماً حسن بزته وهل يروق دفيناً جودة الكفن فإذا كان حياً وهو في الحقيقة ميت فهل الثياب التي يتباهى بها تنفعه مهما لمعت؟! فما هي إلا كفن؛ لأن هذا إنسان ميت لا يعيش لله ولا للإسلام ولا لطاعة الله، إنما يعيش للدنيا، فهو والميت سواء. فإذا أعجب بما عليه من الملابس، وظن أن هذه هي قيمته فهو كالميت الذي يعجب الناس بالكفن الذي يغطيه وهو ميت! ويقول آخر: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن ومناقب أورثن حمدا ورأينا العجب من صبر السلف على شظف العيش ومعاناة الفقر، إذ كانوا قد أحصروا في سبيل حفظ الدين، ووقفوا حياتهم على حراسة السنة، فهذا الإمام العلم إبراهيم بن إسحاق الحربي رحمه الله تعالى يقول: أفنيت عمري ثلاثين سنة برغيفين كل يوم، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيت جائعاً عطشاناً إلى الليلة الثانية! وكان أسهل شيء عليه أن يخرج لطلب الدنيا ويتجر ليغنى ويثرى، لكنه أراد أن يعز الدين، وأراد أن يتعلم الدين، وأحصر نفسه في سبيل إعزاز الدين وحماية السنة الشريفة، فمن أجل ذلك لم يتفرغ لطلب هذه الدنيا، يقول: وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف واحد في اليوم والليلة، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلته، وإلا بقيت جائعاً عطشاناً إلى الليلة الأخرى! ثم يقول الإمام الحربي رحمه الله تعالى: والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة، إن كان برنياً، أو نيفاً وعشرين إن كان دقلاً، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقامت عندها شهراً، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف، ودخلت الحمام واشتريت صابوناً بدانقين، فقامت نفقة شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانق ونصف. وقال أبو القاسم بن بكير: سمعت إبراهيم الحربي يقول: ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئاً، كنت أجيء من عشي إلى عشي وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية أو لعقة بن -وهو شحم- أو باقة فجل. وقال أبو علي الخياط المعروف بالميت: كنت يوماً جالساً مع إبراهيم الحربي على باب داره، فلما أن أصبحنا قال لي: يا أبا علي! قم إلى شغلك، فإن عندي فجلة قد أكلت البارحة خضرها أقوم أتغدى بجزرتها! أكل الورق الأخضر في عشائه، وفي اليوم التالي يتغدى على الحذرة من الفجلة!

سبب انتصار المسلمين على الفرس والروم في زمن قصير

سبب انتصار المسلمين على الفرس والروم في زمن قصير لقد دهش المؤرخون للسرعة التي أقام بها المسلمون دولتهم، وانهارت بها أمامهم الإمبراطوريتان العظيمتان في ذلك الوقت، ولم يدرك الكثير منهم سر عظمة هذه الأمة الناشئة الذي يكمن في المدد الرباني لهؤلاء المجاهدين، والمدد الرباني لا يقتصر على المدد الإلهي بالملائكة {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، لكن أتاهم إمداد الله سبحانه وتعالى بمفاهيم وقيم ومقومات أهلتهم لقيادة البشرية، فالمسلمون الأوائل لما قادوا البشرية ما تم هذا الأمر بخبط عشواء أو فلتة، وإنما كان بمؤهلات وبمسوغات استحقوا بها إمامة البشرية، فهذه المقومات والمفاهيم والقيم والمؤهلات انتزعوا القيادة من قيم هابطة ومفاهيم متخلفة وعقائد فاسدة ومثل مهترئة، فقد كانت المواجهة صراعاً بين حضارتين مختلفتين كل الاختلاف في القيم والمفاهيم والمنطلقات، وكان من الطبيعي أن تسري سنة الله عز وجل في خلقه ويمضي قانونه المحكم في أن البقاء للأصلح {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]. فلنطالع الآن صوراً من هذه المواجهة بين الحضارتين، والتي حسمت نتيجة الصراع قبل المواجهة المسلحة لصالح حزب الله المصلحين، فمن يقارن بين الحضارة الإسلامية والقيم الإسلامية والدعوة الإسلامية وبين ما كان عليه الفرس أو الروم في ذلك الوقت يجد أن النتيجة محسومة مسبقاً، وأنها قطعاً في صالح المسلمين قبل أن يتم التصادم الحربي. وهذه النماذج نحن نحتاج إليها جداً في هذا الزمان في مواجهة الغرب الذي يمثل العدو الأول للإسلام، والغرب يدرك هذه الحقائق جيداً، ولكن للأسف أن المسلمين لا يقرءون ولا يلتفتون إلى هذه الأشياء، وهم يعرفون جيداً أن هذه الأمة لو مكنت أو تمكنت من إعادة تحكيم الإسلام من جديد، ولو نفخ فيها روح الإسلام من جديد لما وقفت أمامها قنابل نووية ولا هيدروجينية ولا صواريخ ولا شيء، إنهم يعرفون ذلك جيداً، ولذلك لما حددوا أن عدوهم الأول هو الإسلام لم يكن ذلك اعتباطاً، بل هو عن دراسة، وهم يدرسون تاريخنا بمنتهى العمق، ويعرفون طبيعة هذا الدين، ويعرفون أنه الدين الوحيد القادر على أن يحيي هذا الموات وأن ينفخ الروح من جديد في هذه الأمة، وهذا مجرب من قبل وحتى الآن. فمثلاً: المجاهدون الأفغان انتصروا على الروس بأشياء يسيرة جداً، وحالهم معروف لا يخفى على أحد، ومع ذلك استطاعوا أن يكونوا مسماراً قوياً في نعش الدب الأحمق، ولا نقول الآن الدب الأحمر، فقد ذهبت الحمرة وبقي الحمق، فهذا الدب الأحمق ذل واستصغر وهان وانهار وتحطم وصار أضحوكة للعالم وعبرة من العبر، ومزقهم الله سبحانه وتعالى شر ممزق على يد هؤلاء المجاهدين الضعاف، وما زالوا حتى اليوم -أيضاً- يمزقون على يد المسلمين في الشيشان رغم ضعفهم بالنسبة لهذا الدب الأحمق. وهكذا أيضاً بالنسبة للغرب، فهو يعرف جيداً أن الإسلام هو عدوه الأول؛ لأنه هو الوحيد القادر على أن يتحداه حضارياً، فأنت إذا قارنت بين أحكام الإسلام وأهداف الإسلام وغايات الإسلام ووسائل الإسلام ورسالة الإسلام وبين ما عليه الغرب فالمعادلة محسومة قطعاً، فالغرب يقيم حضارته على القيم الكاذبة التي يسمونها زوراً حقوق الإنسان، ومن خلالها يستعبدون الأمم، فأمريكا الآن تعيث في الأرض فساداً بهذه الشعارات الكاذبة، وهي -في الحقيقة- عدو الإنسان الأول، فالقيم التي عندهم هي تهديم الأسرة، وشيوع الفواحش، وتحلل الروابط الاجتماعية، والظلم والقهر والاستعباد الموجود في العالم الغربي، وهذا يعرفه جيداً من يعيش بينهم ومن يخبر عن أحوالهم، فالبديل الوحيد الذي يمكن أن يحل محل الغرب في قيادة البشرية بجدارة وتأهل وبمقومات حقيقية لا وهمية هو الإسلام، وهم يعرفون ذلك جيداً، وهذا هو سر محاولتهم الآن تطبيق مبدأ: (الوقاية خير من العلاج)، فيحاولون تجفيف منابع الإسلام، ويحاولون غسل مخ المسلمين، ويلهونهم حتى لا تبقى لهم قضية، وحتى لا يصلحوا لا للجهاد ولا للدفاع ولا أن يعيشوا لمبدأ، بل الذي يكون عندهم هو الأفلام والفنانون والرياضة والدش والتلفزيون واللهو والغناء، وغير ذلك من السفاهات حتى لا يبقى هناك قضية، فالذي ينظر إلى أحوال المسلمين اليوم هل سيعتبرهم الذين نزل فيهم القرآن؟! هل هؤلاء هم الذين بعث فيهم رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! ما هذه الأحوال التي نرى عليها الشباب والبنات من الفسوق والعصيان؟! هل هؤلاء هم خير أمة أخرجت للناس؟! هل هؤلاء أحفاد أبي بكر وعمر وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم من المجاهدين والأبطال؟! إنهم يريدون أن يقطعوا صلتنا بهذا المدد، كي لا ندرك ذاتنا، وكي لا نعود لنهددهم بالخطر من جديد. وبالرغم مما نحن فيه من ضعف إلا أنك إذا قارنت بين الحضارتين فأي إنسان منصف سيحسم النتيجة قطعاً لصالح الإسلام قبل أن تحسم بأي وسيلة أخرى.

من أخبار فتح مصر

من أخبار فتح مصر في العصر الأول حسمت النتيجة للمسلمين لما قورن بين الحضارة الإسلامية وحضارة الفرس والروم، فلما غزا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه بجيشه مصر وعليها المقوقس بعث إليه عمرو عشرة رجال منهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، وكان عبادة شديد السواد، وكانت الحادثة على حدود الإسكندرية. وقد تشرفت الإسكندرية بهؤلاء الصحابة الذين أخرجوا مصر من الظلمات إلى النور، فكم يفخر الإنسان ويفرح ويتهلل وجهه إذا استحضر أن عمرو بن العاص أتى إلى هذه المدينة التي هي الإسكندرية، وقد كانت العاصمة، وفيها سور عمرو بن العاص الذي في الشلالات، فهو السور الذي كان يحيط بمدينة الإسكندرية، فشرفت هذه البقعة من بلاد الله سبحانه وتعالى بهؤلاء الأطهار الأبرار الذين جاءوا ليخرجوا أهل مصر من الظلمات إلى النور، وكم نتحسر حينما نرى من يحملون أسماء المسلمين وكل همهم أن يمحوا تماماً أثر ما فعله عمرو بن العاص وصحبه الأبرار، وأن يعيدونا إلى ما كنا عليه قبل تشرف مصر بالفتح الإسلامي العظيم الذي يسمونه كذباً وزوراً وتزويراً وتضليلاً بالفتح العربي، وما كان فتحاً عربياً، وإنما كان فتحاً إسلامياً خالصاً لنشر دين الله سبحانه وتعالى في الآفاق. لما أتى هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلى المقوقس، وكان عبادة شديد السواد، وقد أمره عمرو بأن يكون متكلم القوم، ولا يجيب الروم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى الخصال الثلاث، فلما دخلت رسل المسلمين إلى المقوقس وعلى رأسهم عبادة هابه المقوقس، وخاف من منظره؛ لأن عبادة كان طويلاً قوياً شديد البأس، وكان شديد السواد، فصرخ المقوقس قائلاً: نحو عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني. فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا. انظر من البداية إلى الصراع بين الحضارتين، بين قيم وقيم، بين مثل ومثل، فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنا نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا لما أمره، وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله. فاستعجب واستغرب المقوقس مما قالوا، ثم قالوا له: إن الأسود والأبيض سواء عندنا، لا يفضل أحد أحداً إلا بفضله وعقله، وليس بلونه. ولا شك في أن المقوقس كان قد ساءه وجود عبادة بن الصامت رضي الله عنه للونه الأسود، وظن أن اختيار عمرو له ليكون متكلم القوم إنما كان تصغيراً لمقام المقوقس وتحقيراً لشأنه، لكن لا يمكن أن يخطر هذا ببال عمرو بن العاص ولا بأحد من المسلمين رضي الله تعالى عنهم. فلما أجمع رسل المسلمين على أن المتحدث باسمهم جميعاً عبادة لم ير المقوقس بداً من محادثة عبادة ومفاوضته، فأومأ إليه أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة لما رآه يخاف من منظره ومن شكله بهذه الصورة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي. فانظر إلى الحرب النفسية! وهذا كلام صدق وعن جدارة، وليست هذه الحرب كالحرب النفسية الكاذبة في هذا الزمان، فهو أراد أن يقذف في قلبه الرعب عندما رآه مرتعباً، فقال له هذه العبارات العظيمة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلباً للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعه بليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في طلب رضوانه وجهاد عدوه. فوقع هذا القول في نفس المقوقس وقعاً شديداً، وقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل؟! إن هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخراب الأرض. ثم أقبل على عبادة وأراد أن يسلك معه طريقاً للإرهاب الملبس بقالب من النصح، فقال له: أيها الرجل الصالح! قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشجاعة، لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإننا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به. فنظر إليه عبادة بن الصامت رضي الله عنه شامخاً، وخاطبه بصوت كله ثقة وإيمان قائلاً: يا هذا! لا يغرن نفسك ولا أصحابك ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنَّا لا نقوى عليهم، فلعمري ما كان هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإن الله عز وجل قال في كتابه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، وما من رجل منا إلا وهو يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبه أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا. وقد أراد المقوقس أن يجعله يقبل شيئاً مما عرض عليه فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء، ووقف عبادة يرد عليه بعد أن نفذ صبره بقامته الشامخة، وأخذ يرفع يديه إلى السماء ويقول له: لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم. عند ذلك اجتمع المقوقس بأصحابه فقالوا: أما الأمر الأول -وهو الدخول في الإسلام- فلا نجيب إليه أبداً، فلا نترك دين المسيح إلى دين لا نعرفه. وبذلك رفضوا الإسلام، فلم يبق أمامهم إلا الجزية أو الحرب، فقالوا: إنا إذا أذعنا للمسلمين ودفعنا الجزية لم نعد أن نكون عبيداً، وللموت خير من هذا. قالو هذا مع أنهم سيكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، مسلطين في بلادهم على ما في أيديهم وما يتوارثونه فيما بينهم، وتحفظ لهم كنائسهم، ولا يتعرض لهم أحد في أمور دينهم، فقال المقوقس لمن حوله: أجيبوني وأطيعوا القوم إلى خصلة من هذه الخصال الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة، وإن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين. وهكذا سار هؤلاء الربانيون بمفتاح الجنة (لا إله إلا الله) يفتحون مشارق الأرض ومغاربها، ولا يستعصي عليهم منها قطر، فالحصون تفتح، والقلوب تفتح، والقيم الصحيحة تَسُودُ، والموازين تصحح.

من أخبار فتح فارس

من أخبار فتح فارس وهناك صورة أخرى تجلت فيها أصالة التربية المحمدية لخير أمة أخرجت للناس عندما كانت تشغل الدنيا في اهتمامهم القدر الضئيل الذي تستحقه، أما الآخرة التي هي الهم الأكبر عندهم فهي الغاية العظمى والحياة الحقيقية الخالدة. جاء سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه حتى نزل القادسية، والمسلمون الذين معه نحو سبعة آلاف، والفرس يبلغون ثلاثين ألفاً أو نحواً من ذلك، وكانت نبال المسلمين وعدتهم موضع سخرية أهل فارس، وجعلوا يشبهونها بالمغازل فيقولون: دوك دوك. وهي كلمة بالفارسية تعني المغزل، فكانوا يسخرون من الأقواس ويشبهونها بالمغزل الذي يغزل به القطن، وقالوا هذا تعبيراً عن ازدرائهم للمسلمين واحتقارهم إياهم، وكأنهم يقولون لهم: لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح، فما جاء بكم؟! ارجعوا. فلما أدخل رسل المسلمين على كسرى يزدجرد جعل أهل فارس يسوءهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس، وكان سيء الأدب، فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان أن يسألهم عما يسمون تلك الأغطية التي يلبسونها، وهذا من سوء أدبه، حيث لم يبدأ في الحوار مع هؤلاء المرسلين في القضية التي أرسلوا من أجلها، ولكن أراد أن يسخر من رداءة ثيابهم، فهذه هي القيم الفارسية والموازين التي يزنون بها الناس، فكان الصحابة رضي الله عنهم كلما سأل واحداً منهم يجيبه جواباً يجعله يتطير من الجواب، وهذا من الحرب النفسية، فلما عرض النعمان بن مقرن دعوة الإسلام على كسرى قال كسرى: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل عليكم القرى فيكفوننا إياكم، لا تغزون فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم زاد وكثر فلا تغتروا، وإن كان الجهد -أي: الفقر- دعاكم صرفنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم. فأسكت القوم، فقام المغيرة بن زرارة الأسيدي فقال: أيها الملك! إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا في الجاهلية أن يقتل بعضنا بعضاً، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليقتل ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلاً -صلى الله عليه وسلم- نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وكان خيرنا في الحال التي كنا فيها، وأصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له. والإشارة هنا إلى الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، والترب قرينك في السن، قال: فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له، وكان الخليفة بعده، فآمن وكفرنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئاً إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار بيننا وبين رب العالمين، فما قال فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا: إن ربكم يقول: إنني أنا الله وحدي لا شريك له، كنت ولم يكن شيء، فإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قُتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك. فقال: أتستقبلني بمثل هذا؟! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم. وقال: ائتوني بوقر من التراب، واحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، وارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم حتى يدفنكم في خندق القادسية وينكل بكم، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور. فتقدم عاصم بن عمرو واحتمل وقر التراب واعتبره فألاً حسناً على الظفر بأرضهم، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يظفرهم بأرضهم، وقد تطير من ذلك رستم، وجعله علامة على أن الله سلبهم أرضهم وأبناءهم للمسلمين، ثم إن كسرى بعث أهل فارس بعددهم وعُدَدِهم وعلى رأسهم رستم، حتى إذا نزل رستم بالعقيق على منقطع معسكر المسلمين راسل رستم زهرة فخرج إليه حتى وافقه، فأراد أن يصالحه ويجعل له جعلاً على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول: أنتم جيراننا، وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا. فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة، كنا كما ذكرت يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم ويطلب ما في أيديكم، ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولاً فدعانا إلى ربه فأجبناه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا يقرون به، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز. فقال له رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، فقال: ما أحسن هذا! وأي شيء أيضاً؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى. قال: حسن، وأي شيء أيضاً؟ قال: والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم. قال: ما أحسن هذا! ثم قال رستم: أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وعاهدتكم عليه ومعي قومي كيف يكون أمركم؟ أترجعون؟ يعني: لو دخلنا في الإسلام هل تتركوننا وتعودون؟ فقال: إي والله، ثم لا نقرب بلادكم أبداً إلا في تجارة أو حاجة. قال: صدقتني والله، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحداً يخرج من عمله من السفلة وهم الأسافل، كانوا يقولون: إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادَوا أشرافهم. يعني أن الطبقة السفلى من المجتمع لا يمكن أن يتساووا مع النبلاء والملوك والأمراء؛ لأنهم إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادَوا أشرافهم، فكأنه يريد ميزة يمتاز بها على هؤلاء الضعفاء، فأجابه زهرة فقال: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون، فنحن نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصا الله فينا. فانصرف عنه، وطلب رستم مندوباً آخر، ثم إن سعداً أرسل ربعي بن عامر رضي الله عنه، فدخل على رستم وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي من الحرير، وأظهر اللآلئ الثمينة العظيمة، وأراد أن يهزمه بهذه المظاهر، وكان عليه تاج، وأظهر غير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعي بثياب مشققة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، فـ ربعي يريد أن يعلمه أن كل هذه المظاهر لا تساوي عندهم شيئاً، بل حقرها بالفعل، وذلك أنه نزل عن فرسه وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فمزق عامتها بالرمح، فقال له: ما جاء بكم؟ فانظر إلى جواب رجل من جنود المسلمين، وانظر إلى فقهه لغايته من الحياة، وفهمه للرسالة التي يعيش من أجلها، وقارن بين شباب المسلمين اليوم لترى لأي شيء يعيشون، وما هدفهم وغايتهم. فقال له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى ذلك قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. فقال رستم لرؤساء أهل فارس: ما ترون؟! هل رأيتم كلاماً قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟! فقالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكل، أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة. وأقبلوا يسخرون من سلاحه ومن ملابسه ومن هيئته، فأبى الفرس دعوة الحق، واختاروا المنازلة، فنصر الله المسلمين وهزموا فارس وسبوهم. وكان يزدجرد ملك الفرس قد أرسل يستنجد بملك الصين، ووصف له المسلمين ودعوتهم وما هم عليه، فأجابه ملك الصين: إنه يمكنني أن أبعث لك جيشاً أوله في منابت الزيتون -يعني: في الشام- وآخره في الصين، ولكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم وتعيش في ظلهم وظل عدلهم. فهذه نماذج تدل على موقع الدنيا في قلوب الرعيل الأول، ولو استطردنا لوجدنا عشرات الصور في التاريخ الإسلامي تعكس هذا المعنى.

كبير الهمة عصامي لا عظامي

كبير الهمة عصامي لا عظامي من خصائص عالي الهمة كونه عصامياً لا عظامياً. والعصامي: هو من ساد بشرف نفسه، وهو الذي يبني مجده بنفسه، وفي مقابله العظامي، وهو من ساد بشرف آبائه، فهو يفخر بآبائه الذين صاروا عظاماً، فلذلك ينسب إليهم ويقال له: عظامي. أما العصامي فهو الذي يسود بنفسه، نسبة إلى عصام بن شهبر حاجب النعمان بن المنذر الذي قال له النابغة الذبياني حين حرمه من عيادة النعمان في قصيدة له: فإني لا ألومك في دخولي ولكن ما وراءك يا عصام وعصام هذا هو الذي قال فيه النابغة: نفس عصام سودت عصاماً وعلمته الكر والإقداما فصيرته ملكاً هماماً أي: بعد ما كان عبداً صار ملكاً بجهده وكفاحه وجده. ولذلك صار الشخص الذي يسود بشرفه وبجهده يسمي عصامياً، نسبة إلى عصام. فقوله: (نفس عصام سودت عصاماً) أي: صارت نفسه مثلاً يضرب في نباهة الرجل من غير إرث قديم، والعصامي تسميه العرب اسماً آخر، حيث تسميه الخارجي، وهو الذي خرج بنفسه من غير أولية كانت له، أي: لم يسبقه أحد من آبائه وأجداده ومن سبقوه من قبيلته إلى هذه النباهة وهذا الذكر وهذا المجد، فخرج من قومه فذاً منفرداً لم يسبق وليس له أولية، فيسمى خارجياً، ولذلك يقول كثير: أبا مروان لست بخارجي وليس قديم مجدك بانتحال فكبير الهمة عصامي يبني مجده بشرف نفسه، لا اتكالاً على حسبه ونسبه، ولا يضيره أن لا يكون ذا نسب، فحسبه همته شرفاً ونسباً. قال عامر بن طفيل العامري: وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بجد ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي أذاها وأرمي من رماها بمنكبي فهو يعتز بأنه شرف بنفسه مع أن آباءه وأجداده عظام، لكنه لم يتكل على نسبه، وإنما شرف بنفسه وبذاته، فله قيمته وتأثيره. وقال الأبيوردي مبيناً أنه لم يقنع بنسب آبائه وأجداده، وإنما جمع إلى مجدهم الموروث مجداً اكتسبه بعلو همته: فشيدت مجداً رسا أصله أمت إليه بأم وأب فجمع إلى المجد السابق مجداً أثبته بنفسه. ويقول المتنبي: ولست أبالي بعد إدراك العلى أكان تراثاً ما تناولت أم كسبا ويقول معن بن أوس: ورثنا المجد عن آباء صدق أسأنا في ديارهم الصنيعا إذا المجد القديم توارثته بناة السوء أوشك أن يضيعا ولا يعني ذلك أن الإنسان إذا كان ذا نسب شريف أنه لا قيمة له، بل الأمر بالعكس، فإذا جمع الإنسان إلى النسب الشريف العمل الصالح فنعما هو، وآية ذلك أن من أعظم مناقب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كونه قرشياً، ومن وجوه تفضيل المذهب الشافعي على غيره أنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بأس إذا اجتمع الدين مع الحسب، وهذه أكمل الحالات، كما افتخر الأبيوردي في قوله: فشيدت مجداً رسا أصله أمت إليه بأم وأب فأكمل ما يكون أن ينضم المجد المكتسب إلى المجد الموروث، وأن تنظم العصامية إلى العظامية. وقد وقف عند الحجاج رجل كانت له إليه حاجة، فقال في نفسه: لأختبرنه؛ فإن الناس يصفونه بأنه جاهل. فقال له أول ما دخل عليه: أعصامي أنت أم عظامي؟ ويقصد الحجاج: أشرفت بنفسك أم تفتخر بآبائك الذين صاروا عظاماً؟ فقال الرجل: أنا عصامي وعظامي. فقال الحجاج: هذا أفضل الناس. وقضى حاجته وزاده، ومكث عنده، وبعد أن عرفه عن قرب وجده أجهل الناس، فقال له: تصدقني وإلا قتلتك. قال له: قل ما بدا لك وأصدقك. قال: كيف أجبتني بما أجبت لما سألتك: أعصامي أنت أم عظامي؟ فإنه أتى بجواب في غاية البلاغة والفصاحة حيث قال: أنا عصامي وعظامي. فقال له الرجل: والله لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما فأخطئ، فقلت: أقول كليهما، فإن ضرني أحدهما نفعني الآخر. والحجاج ظن أنه يقول: أنا أفتخر بفضلي وبآبائي لشرفهم، فقال الحجاج عند ذلك عبارة صارت مثلاً يضرب: المقادير تجعل العيي خطيباً. وقال عبد الله بن معاوية في هذا المعنى: لسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا فكبير الهمة لا يضيره أن لا يكون ذا نسب، بل لا يضيره أن يكون ذا نسب وضيع، وهذه من أعظم محاسن الإسلام، وإذا فتشت في أكابر علماء المسلمين تجدهم من العبيد والموالي والأعاجم، فأغلب الأئمة والمحدثين والمشاهير هم من الأعاجم الذين لم يكونوا عرباً. فلا يضير كبير الهمة أن لا يمت بآصرة اللحم والدم إلى قوم كرام، فإنه بعلو همته سوف ينتسب إلى الكرام، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كل كرم دونه لؤم فاللؤم به أولى، وكل لؤم دونه كرم فالكرم به أولى. ومعنى هذا أن أولى الأمور بالإنسان خصال نفسه، فإن كان كريماً وآباؤه لئاماً لم يضره ذلك، وإن كان لئيماً وآباؤه كراماً لم ينفعه ذلك. يقول الشاعر: واه لحر واسع قدره وهمه ما سر أهل الصلاح سوده إصلاحه سره وردعه أهواءه والطماح ويقصد بالطماح الارتفاع والتطلع للمعالي. وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كل مذهب، فأعجب عبد الملك ما سمع من كلامه، فقال له: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي بها توصلت إليك. قال: صدقت. فأخذ الشاعر بهذا المعنى فقال: مالي عقلي وهمتي حسبي ما أنا مولى ولا أنا عربي إذا انتمى منتم إلى أحد فإنني منتم إلى أدبي وكبير الهمة ليس عظامياً يفتخر بالآباء والأجداد الذين صاروا عظاماً ورفاتاً، وإنما يفخر بنفسه. يقول آخر: كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي ويقول المتنبي: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي. ويقول آخر: كم سيد بطل آباؤه نجب كانوا رءوساً فأمسى بعدهم ذنبا ومقرف خامل الآباء ذي أدب نال المعالي والآداب والرتبا والمتنبي من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي همة، وهو القائل: وآنف من أخي لأبي وأمي إذا ما لم أجده من الكرام ولست بقانع من كل فضل بأن أعزى إلى جد همام يعني: لا يكفيني أن أنتمي في باب المكارم إلى جد همام، ولكن أبني هذا المجد بنفسي.

حرمة التفاخر بالأحساب على وجه الاستكبار

حرمة التفاخر بالأحساب على وجه الاستكبار تواردت نصوص الشريعة المطهرة على التنفير من التفاخر بالأحساب إذا كان على وجه الاستكبار والاستحقار، وبذلك نطقت الأخبار، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب، حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب، فشرف النسب لا يدخل في كسب الإنسان، يقول تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فالنسب ليس مكتسباً، ولا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13]، وآدم خلق من تراب، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم. فلا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه، ولا من جهة الفاعل؛ لأن الفاعل الخالق هو الله تعالى وحده، فليس للنسب شرف يعول عليه، فالمدار عند الله عز وجل على التقوى، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى، قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وبالتقوى تكمل النفس، وتتفاضل الأعمال، وقد رتب تعالى الجزاء على الأعمال لا على الأنساب، كما قال عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، ومعناه أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم، فيمر الناس على قدر أعمالهم زمراً زمراً -ولم يقل: على قدر أنسابهم. وإنما قال: على قدر أعمالهم- أوائلهم كلمح البصر، ثم كمر الريح، ثم كمر السيل، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعياً، وحتى يمر الرجل مشياً، حتى يمر آخرهم يتلبط على بطنه، فيقول: يا رب! لم بطأت بي؟! فيقول: إني لم أبطأ بك، إنما بطأ بك عملك. وها هو صلى الله عليه وآله وسلم يحرض أهل بيته وعشيرته الأقربين على لزوم التقوى، ويحذرهم من الاتكال على نسبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف أنساب العالمين، فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين كي يجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً) متفق عليه. وفي حديث في غير الصحيحين: (إن أوليائي منكم المتقون، لا يأتي الناس بأعمال وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون: يا محمد! فأقول: قد بلغت). وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين) يشير إلى أن ولايته لا تنال بالنسب وإن قرب، فإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيماناً وعملاً فهو أعظم ولاية له، سواء أكان له منه نسب قريب أم لم يكن، ولذلك فإن الصحيح في تعريف آل محمد عليه الصلاة والسلام أنهم أتباعه على الراجح. فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل، ويكفي في هذا قوله تعالى لنوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- في شأن ابنه: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وقد كان من صلبه قطعاً، ومعنى قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] أي: ليس من المؤمنين. وكان إيمان سلمان الفارسي له نسباً، حتى روي في حقه حديث: (سلمان منا أهل البيت)، ونوح لم يكن بينه وبين ابنه الذي من صلبه رحم، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]؛ لأنه ليس من المتقين، قال بعضهم: عليك بتقوى الله في كل حالة ولا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر النسيب أبا لهب قيل لـ شريح: من أنت؟ قال: ممن أنعم الله عليه بالإسلام، وعدادي في كندة. وقال ثابت البناني: قال أبو عبيدة: يا أيها الناس! إني امرؤ من قريش، وما منكم من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه. يعني: أن أكون داخل جلده ما دام تقياً. وروي أنه قيل لـ سلمان الفارسي: انتسب يا سلمان. فقال رضي الله عنه: ما أعرف لي أباً في الإسلام، ولكني سلمان ابن الإسلام، ولله در القائل: بعيد القوم ينصر مدعيه ليلحقه بذي الحسب الصميم أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم وبينما يقول خسيس الهمة المفتون بعشق امرأة: فلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي رأينا كبير الهمة يتشرف بنسبته إلى الله عز وجل فيقول: فلا تدعني إلا بيا عبده فإنه أشرف أسمائي. وما أحسن من قال شعراً: ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً ويقول آخر: كفى بك عزاً أنك له عبد وكفى بك فخراً أنه لك رب ويقول آخر: إذا عز لغير الله يوماً معشر هانوا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية -أي: تفاخرها بالآباء- الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم) مثلما يُفتَخَر الآن بأخبث خلق الله من الفراعنة لعنهم الله، يفتخر بهم في عبادة الأحجار والملوك والأصنام والشرك والسحر ونحو هذه الضلالات! فبئس النسب، فالله عز وجل شرفنا بالإسلام، فكيف نفتخر بانتمائنا إلى أخس خلق الله وأذل خلق الله، الذين عبدوا ملوكهم وأشركوا بربهم سبحانه وتعالى؟! كيف نكفر بنعمة الله علينا بالإسلام ونفخر بالانتساب إلى الفراعنة؟! وبعضهم يقول: الجيل الجديد ما عنده انتماء! فأي انتماء يقصده؟! إنه انتماء لـ خوفو وخفرع ومنقرع! انتماء إلى عبدة الملوك والمشركين والوثنيين! فالله المستعان! يقول عليه الصلاة والسلام: (لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) والجعلان: جمع جعل، وهي دويبة أرضية مثل الخنافس تدفع النتن -وفي لفظ آخر: الخرأة- بأنفها، فالذين يفخرون بأي رابطة غير رابطة الإسلام ينطبق عليهم هذا الوعيد، وهو أن الله يجعلهم أحقر وأذل وأهون من الجعلان التي تدفع النتن والنجس بأنفها. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وقد التفت نحو المدينة: (إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وإن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا). فالحزم اللائق بالنسيب أن يتقي الله تعالى، ويتخذ من الخصال الحميدة ما لو كان في غير نسيب لكفته؛ ليكون قد زاد على الزبد شهداً، وعلق على جيد الحسناء عقداً، ولا يكتفي بمجرد الانتساب إلى جدود سلكوا ليقال له: نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا. وقد ابتلي كثير من الناس بذلك، فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عار كالإبرة من كل كمال، ويقول: كان أبي كذا وكذا. وافتخاره بأبيه نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه، والكوسج هو الذي لا يوجد له شعر على عارضيه، فهل يصح أن يفتخر بأن أخاه لحيته طويلة وكثة. يقول شوقي: فدعوا التفاخر بالتراب وإن علا فالمجد كسب والزمان عصام. وقال الشاعر أيضاً: وأعجب شيء إلى عاقل أناس عن الفضل مستأخرة إذا سئلوا من علا أشاروا إلى عظام ناخرة وقال بعضهم: أقول لمن غدا في كل وقت يباهينا بأسلاف عظام أتقنع بالعظام وأنت تدري بأن الكلب يقنع بالعظام وما ألطف قول الشاعر: لم يجزك الحسب العالي بغير تقى ما أولاك شيئاً فحاذر واتق الله وابغ الكرامة في نيل الفخار به فأكرم الناس عند الله أتقاها وما أكثر هذا الافتخار البارد بين خفيفي الهمة الذين ارتكبوا كل رذيلة، وتعروا عن كل فضيلة، ومع ذلك افتخروا بآبائهم على فضلاء البرية، واحتقروا أناساً فاقوهم حسباً ونسباً، وشرفوهم أماً وأباً، وهذا هو الضلال البعيد، والحمق الذي ليس له مثيل.

شرف الانتساب إلى النبي عليه الصلاة والسلام

شرف الانتساب إلى النبي عليه الصلاة والسلام الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم شرف عظيم، لكن ينبغي ممن رزقه أن لا يجعله عائقاً عن التقوى، ويدنسه بمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة وهي لبيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحيي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما ينكر نسبه، قيل لشريف سيئ الأفعال: قال النبي مقال صدق يحلو لدى الأسماع والأفواه إن فاتكم أصل امرئ ففعاله تنبيكمو عن أصله المتناهي وأراك تسفر عن فعال لم تزل بين الأنام عديمة الأشباه وتقول إني من سلالة أحمد أفأنت تصدق أم رسول الله ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره، وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل، كما يحكى أن بعض الشرفاء من آل البيت في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه كان فاسقاً ظاهر الفسق، وكان هناك مولى أسود تقدم في العلم والعمل، فأكب الناس على تعظيمه، فاتفق أن خرج يوماً من بيته يقصد المسجد فاتبعه خلق كثير يتبركون بمصاحبته وبعلمه، فلقيه الشريف وهو سكران، فكان الناس يطردونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال: يا أسود الحوافر والمشافر! يا كافر ابن كافر! أنا ابن رسول الله أذل وأنت تجل! وأهان وأنت تعان! فهم الناس بضربه، فقال الشيخ: لا تفعلوا، هذا محتمل منه لجده رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومعفو عنه وإن خرج عن حده، ولكن أيها الشريف! بيضت باطني وسودت باطنك، فغلب بياض قلبي سواد وجهي فحسنت، وغلب سواد قلبك بياض وجهك فقبحت، وأخذتُ سيرة أبيك، وأخذتَ سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي، فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك. ولهذا قيل: ولا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة أي: لا ينفع الاتكال على ذوي الخصال الرفيعة إذا كانت النفس في حد ذاتها باهلية رديئة ومن الكمالات عرية، كما يقول البحتري: ولست أعتد للفتى حسباً حتى يرى في فعاله حسبه. والباهلي نسبة إلى باهلة، وباهلة اسم امرأة من همدان، نسب ولدها إليها فقيل لهم باهلة، وكان أهل قبيلة باهلة مشهورين بالخساسة، قيل: كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية. أي: فضلات الطعام يعيدون أكلها مرة ثانية، وكانوا يأخذون عظام الميتة فيطبخونها ويأخذون دسوماتها، ويأخذون شحم الميتة ويطبخون به، فاستنقصتهم العرب جداً، حتى قيل لأعرابي: أيسرك أن تكون من أهل الجنة وأنت باهلي؟ قال: بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني من باهلة! وليس كل باهلي كذلك، بل فيهم الأجواد، فكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري ذلك في حق الكل.

علو الهمة [5]

علو الهمة [5] من صفات عالي الهمة أنه شريف النفس، يعرف قدر نفسه، ويعزها عن مواطن الذلة والهوان، ولقد ضرب لنا السلف الصالح الأمثلة الحية في الحرص على شرف النفس، والبعد بها عن مواطن الذلة والهوان في غير كبر ولا استعلاء، وتبعهم على ذلك ذوو الهمم العالية إلى عصرنا الحاضر.

شرف نفس عالي الهمة وذكر نماذج من ذلك

شرف نفس عالي الهمة وذكر نماذج من ذلك فهناك خصائص لعالي الهمة، وأهمها: أن عالي الهمة شريف النفس، يعرف قدر نفسه، ومعرفة قدر النفس وشرفها من المفاهيم التي تختلط على الناس، ويكون الخيط دقيقاً بينها وبين خصال أخرى مذمومة، كالتكبر على خلق الله سبحانه وتعالى، أو الاغترار، كما أن الخيط -أيضاً- دقيق بين التواضع والذلة والهوان، وبين الحسد والمنافسة، وبين صيانة النفس والتكبر، وهكذا، فمن ثم نحتاج إلى التمييز بين هذه الخصال كي لا يكون الموضع موضع اشتباه فيسيء بعض الناس فهم الكلام وبعذ ذلك تطبيقه.

شرف أبي سفيان رضي الله عنه

شرف أبي سفيان رضي الله عنه أثر عن العرب أخبار كثيرة فيها إعظامهم شرف النفس، فمن ذلك أنه حكى العتبي عن أبيه قال: أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة -والجزائر جمع جزور، وهو ما يصلح لأن يذبح من الإبل- وأمر أن ينحرها أعز قرشي، فقدمت وأبو سفيان عروس بـ هند بنت عتبة، وحينئذ لم يكن يخرج من بيته، فقالت له زوجته: أيها الرجل! لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك! لأن ملك اليمن اشترط أن لا ينحرها إلا أعز رجل في قريش، فـ هند بنت عتبة كانت من النساء العاليات الهمة، فقالت له: أيها الرجل! لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك. فبماذا أجابها أبو سفيان؟ قال لها: يا هذه! دعي زوجك وما يختاره لنفسه، والله ما نحرها غيري إلا نحرته. فقد كان أهل قريش يعرفون جيداً من هو أعز رجل فيهم، فبقيت الجزائر في عقلها -والعقل: جمع العقال، وهو الحبل الذي يعقل به البعير- حتى خرج أبو سفيان في السابع فنحرها.

شرف هند بنت عتبة رضي الله عنها

شرف هند بنت عتبة رضي الله عنها ومن شرف النفس وعلو الهمة ما قالته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية رضي الله تعالى عنهم أجمعين، حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان وقال لها بعض المعزين: إنا نرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد يواسونها ويعزونها، فقالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟! والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيهم لخرج من أي أعراضها شاء. وقيل لها -أيضاً- ومعاوية وليد بين يديها: إن عاش معاوية ساد قومه. فقالت: ثكلته إن لم يسد إلا قومه! وهذه العبارة لها معان عظيمة جداً بعيدة المرمى؛ لأن معنى ذلك أن وليدها بضعة لحم لا يظهر عليه أي أمر مما يقطع بأن هذا سيكون إنساناً له شأن، ولكن هذا معناه أنها تنوي أن تربي هذا الولد وتوجهه، حتى إنها لتأنف من أن يسود قومه فقط، بل غضبت حينما قالوا لها: إن عاش معاوية ساد قومه. فقالت: ثكلته -أي: الأفضل أن يموت- إن لم يسد إلا قومه. ومعروف أن معاوية من أكثر العرب سيادة وسياسة وحكمة، كما عرف أثناء إمارته في الشام أو أثناء خلافته، يقول معاوية رضي الله عنه: إني لآنف من أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي.

أفخر بيت في الشرف

أفخر بيت في الشرف قال الأحوص في الفخر: ما من مصيبة نكبة أرمى بها إلا تشرفني وترفع شاني وإذا سألت عن الكرام وجدتني كالشمس لا تخفى بكل مكان وقد زعم صاحب العقد الفريد ذلك الكتاب السيئ أن هذين البيتين أفخر ما قالته العرب في الفخر، وتصحيحاً لكلام صاحب العقد الفريد فإن أفخر بيت قالته العرب هو قول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: وبيوم بدر إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد فهل يستطيع أحد أن يفخر بأكثر من هذا؟ إنه يستحيل أن إنساناً يفخر بما فخر به حسان بن ثابت والأنصار رضي الله تعالى عنهم.

شرف عقيل بن علفة المري

شرف عقيل بن علفة المري ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري، كان أعرابياً يسكن البادية، وكان الخلفاء يريدون مصاهرته، وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده، فقال له: جنبني هجناء ولدك. والهجناء من أمهم غير عربية، فمع أنه هو الخليفة أمير المؤمنين لكن كان يأنف من أن يزوجه، وقال له: جنبني هجناء ولدك. يعني الذين أمهم غير عربية. فعالي الهمة يعرف قدر نفسه من غير كبر ولا عجب ولا غرور، وقد أشرنا إلى أن هناك خطاً دقيقاً بين صيانة النفس وشرف النفس وبين الاغترار والتكبر على خلق الله تبارك وتعالى، فإذا عرف المرء قدر نفسه صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور وسفاسفها في السر والعلن، وجنبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق، فمعرفة قدر النفس ليس فقط في جانب النفس الشريفة العالية الهمة التي تستطيع أن تفعل أشياء عظيمة، بل حتى يعرف الإنسان قدر نفسه فلا يضعها في مواضع تذل فيها، بمعنى أن يكلف نفسه ما لا تطيق فيذل ويهان، أو يضعها فيما لا يليق بقدرها، فتبقى نفسه في حصن حصين، وعز منيع، لا تعطي الدنية، ولا ترضى بالنقص، ولا تقنع بالدون.

شرف نفس نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام

شرف نفس نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام ألم تر إلى شرف نفس الكريم ابن الكريم ابن الكريم نبي الله يوسف بن نبي الله يعقوب بن نبي الله إسحاق بن خليل الرحمن إبراهيم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام؟! انظر إلى شرف يوسف عليه السلام حينما دعا ربه عز وجل فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]. ولما أتاه رسول الملك بأن يطلق ويخرج من السجن أبى أن يخرج حتى تظهر براءته، فهذا من شرف النفس حينما دعاه رسول الملك للخروج {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]. ولا عجب! فإن من يصبر فيما له أن لا يصبر فيه -وهو الخروج من السجن مع توافر الدواعي على الخروج منه- فأولى به أن يصبر فيما يجب عليه أن يصبر فيه من الهم بامرأة العزيز؛ لأن صبره على الخروج من السجن ليس بواجب عليه، والإنسان إذا لبث في السجن بضع سنين لا شك في أن رغبة نفسه وهواها أن ينطلق من هذا الحبس، ومع ذلك صبر يوسف عليه السلام على هذا الشيء الذي لم يجب عليه أن يصبر فيه، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت مكان يوسف لأجبت الداعي). وهذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام يحمل على هضم النفس والتواضع منه صلى الله عليه وسلم.

شرف نفس من سئل حاجة صغيرة

شرف نفس من سُئل حاجة صغيرة ومن نماذج وأمثلة شرف النفس ومعرفة الإنسان قدر نفسه أنه قال رجل لرجل: لي إليك حويجة -تصغير حاجة- فقال له: اطلب لها رجيلاً. يعني: ما دامت حويجة فاطلب لها رجيلاً صغيراً حقيراً. وهذا يعد من سوء الأدب، كما يحصل كثيراً من الناس حينما يسأل أحدهم الشيخ فيقول له: عندي سؤال صغير. فهذا ليس من الأدب، فإن كان صغيراً فاطلب له رجلاً صغيراً على قدره. وقيل لآخر: جئناك في حاجة لا ترزؤك -أي: لا تنقص مالك، يقال: رزأ ماله: إذا أصاب منه شيئاً فأنقص منه- فقال: هلا طلبتم لها سفاسف الناس؟! وقال أحدهم لبعض العلماء: لي سؤال صغير. فقال: اطلب له رجلاً صغيراً.

شرف نفس عبد الله بن جعفر والحسن بن علي رضي الله عنهما

شرف نفس عبد الله بن جعفر والحسن بن علي رضي الله عنهما ومن علو الهمة وشرف النفس ما روي عن قطب السخاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فقد سألته امرأة فأعطاها مالاً عظيماً، فقيل له: إنها لا تعرفك وكان يرضيها اليسير. فقال: إن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي وهذا من معرفة قدر النفس في الخير. وسأله سائل بينا كان يهم بركوب ناقته، فنزل له عنها وعما فوقها، وكان عليها أربعة آلاف درهم وسيف من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن سعيد بن عبد العزيز أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سمع رجلاً إلى جنبه في السجود يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف فبعث بها إليه.

شرف نفس ابن المبارك

شرف نفس ابن المبارك وعن أبي سعيد عن شيخ له قال: رأيت ابن المبارك يعض يد خادم له، فقلت له: تعض يد خادمك! فقال الإمام المبارك: كم آمره أن لا يعد الدراهم على السؤال، أقول له: احث لهم حثواً! فقد كان يعاقبه لأنه يأمره دائماً بأن لا يعد الدراهم التي يعطيها للسؤال الذين يسألون الصدقة، وإنما يقول له: احث لهم بكلتا يديك حثواً، وأعطهم عطاءً جزيلاً.

شرف نفس الأبيوردي

شرف نفس الأبيوردي ومن شرف النفس ومعرفة قدرها قول الأبيوردي -وهو من بني أمية من الشخصيات الفذة في التاريخ الإسلامي، ومن أكابر الناس في علو الهمة-: رأت أميمة أطماري وناظرها يعوم في الدمع منهلاً بوادره وما درت أن في أثنائها رجلاً ترخى على الأسد الضاري غدائره أغر في ملتقى أوداجه صيد حمر مناصله بيض عشائره إن رث بردي فليس السيف محتفلاً بالغمد وهو وميض الغرب باتره وهمتي في ضمير الدهر كاملة وسوف يظهر ما تخفي ضمائره والأطمار: جمع طمر، وهو الثوب الخلق البالي، يعني: نظرت إليه أميمة وهي تبكي لرثاثة ثيابه وبذاذة هيئته، يقول: (رأت أميمة أطماري وناظرها -يعني عينها- يعوم في الدمع) من كثرة الدموع (منهلاً بوادره) أي: تتسابق قطرات الدموع وراء بعضها. (وما درت أن في أثنائها رجلاً) يعني: ما كان ينبغي لها أن ترثي لحالي بسبب ما علي من الثياب الرثة؛ لأنها لا تدرك أن في داخل هذه الثياب رجلاً (ترخى على الأسد الضاري غدائره) جمع غديرة، وهي: الذؤابة المظفورة من الشعب، ثم قال عن نفسه: (حمر مناصله) جمع منصل، والمنصل هو السيف، يعني: دائماً سيفه ملون باللون الأحمر -لون الدماء- من شدة بأسه في القتال، وقوله: (بيض عشائره). العشائر جمع عشيرة، وعشيرة الرجل بنو أبيه الأقربون وقبيلته، ويقال: فلان أبيض: أي: نقي العرض. فهو يمدح نفسه هنا بقوله: (حمر مناصله بيض عشائره) يعني: أنقياء الأعراض. وقوله: (إن رث بردي) يعني: بلي. والبرد هو الكساء المخطط الذي يلتحف به إن كان عليه ثياب رثة، يقول: (إن رث بردي فليس السيف محتفلاً بالغمد) يعني: السيف لا يهتم ولا يأبه بالغمد فلنفرض أن سيفاً حاداً باتراً قاطعاً صارماً لكنه موجود في جراب أو غمد بالي من الجلد القديم، فهل هذا يضر السيف؟! لا، هذا هو ما يعنيه الشاعر بقوله: إن رث بردي فليس السيف محتفلاً بالغمد وهو وميض الغرب باتره والغرب هو أول كل شيء وحده، يقال: غرب السيف: أي: حد السيف. وغرب السكين وغرب الفأس: الجانب الحاد منهما، ويقال: سيف غرب أي: قاطع حاد. والوميض اللمعان، والباتر القاطع. ثم يقول: وهمتي في ضمير الدهر كاملة وسوف يظهر ما تخفي ضمائره

شرف نفس الإمام الشافعي

شرف نفس الإمام الشافعي يقول الإمام الجليل المطلبي القرشي الشافعي رحمه الله تعالى: علي ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس ببعضها نفوس الورى كانت أعز وأكبرا وما ضر نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضباً حيث وجهته برى فهل هذا من الغرور؟! هذا ليس من الغرور، بل هذا من معرفة الإنسان قدر نفسه، وهذا من شرف النفس وصيانتها، ومعنى قوله: (وما ضر نصل السيف إخلاف غمده) أي: لا يضر حد السيف الباتر أن يكون الغمد أو الجراب خلقاً وبالياً ورثاً، وقوله: (عضباً) أي: حاداً قاطعاً، (حيث وجهته برى) يعني شق وقطع. والإمام الشافعي رحمه الله تعالى بخبرته العظيمة في النفوس البشرية وطبائعها هو القائل: ما رفعت أحداً فوق منزلته إلا حط مني بمقدار ما رفعت منه. يعني أنه يجب أن يعامل الناس بأقدارهم. ويقول أيضاً رحمه الله تعالى: إذا المشكلات تصدين لي كشفت حقائقها بالنظر لسان كشقشقة الأرحبي أو كالحسام اليماني الذكر ولست بإمعة في الرجال أسائل هذا وذا ما الخبر لكنني مزرة الأصغرين جلاب خير وفراج شر يريد أنه يعرف قدر نفسه، ويعرف أنه إنسان مؤثر محرك، وليس متحركاً أو منفعلاً لفعل غيره به، أو إمعة يتابع الناس على أقوالهم ولا يدري ما حوله حتى يحتاج إلى أن يسائل هذا وذا: ما الخبر. فهو يعتز بنفسه، أو -بعبارة أصح- يثق بنفسه، فيقول: (إذا المشكلات تصدين لي كشفت حقائقها بالنظر) أي: بالتدبر، (لسان كشقشقة الأرحبي)، والشقشقة شيء يخرج من فم البعير كالرئة إذا هاج، وتستعمل هذه الكلمة في التعبير عن القدرة على الخطابة والبيان، فيصف لسانه بأنه كشقشقة الأرحبي، والأرحبي نسبة إلى قبيلة أرحب، وهي بطن من همدان، وإليها تنسب الإبل الأرحبية، وقوله: (ولست بإمعة في الرجال) الإمعة أو الإمع هو الرجل الذي يتابع كل أحد على رأيه، ولا يثبت هو على شيء، لكنه يتجول ويتردد بين آراء الرجال، يقول: (ولكنني مزرة الأصغرين) والمزره هو السيد الشريف والمقدم عند الخصومة والقتال، وقوله: (الأصغرين) يقصد بهما القلب واللسان، (جلاب خير وفراج شر) يعني: يجلب الخير للناس كثيراً، وكذا يدفع عنهم الشرور. ويقول الحريري: وفضيلة الدينار يظهر سرها مع حكه لا من ملاحة نقشه فإذا أراد الإنسان أن يختبر الدينار من الذهب ليعرف هل هو صحيح أو مزيف فإنه يعرف ذلك بأن يلمسه بأصابعه كي يختبر قوة نقشه، فإن كان مزيفاً فإنها تزول، وإن كان جيداً فإنها تثبت، فيقول الحريري: وفضيلة الدينار يظهر سرها من حكه لا من ملاحة نقشه ومن الغباوة أن تعظم جاهلاً لصقال ملبسه ورونق رقشه أو أن تهين مهذباً في نفسه لدروس بزته ورثة فرشه ورقشة هو نقشه، وبزته ملابسه.

شرف نفس سفيان الثوري

شرف نفس سفيان الثوري لقد كره بعض العلماء أن يتحول عن بلده مع إيثاره الخمول والانقباض عن الناس خشية أن يعامله من لا يعرف قدره بما لا يليق به، أي: لم يغترب بعض العلماء خوفاً من أن يعاملوا في الغربة بما لا يليق بهم، أو يهانوا أو يذلوا، مع حرص بعض هؤلاء العلماء على الخمول وعدم الاختلاط الكثير بالناس، ولكنهم أبوا أن يتحولوا عن الأماكن التي يعرفون فيها؛ لأنهم ربما إذا تحولوا إلى غيرها فربما يعاملون بما فيه مذلة، وهذا من معرفة قدر النفس وصيانتها عما لا يليق بها. وأوضح مثال على ذلك الإمام الجليل سفيان الثوري رحمه الله تعالى، فالإمام سفيان الثوري كان شديد التواضع، لكن في غير ذل ولا استصغار، ومن كلامه رحمه الله تعالى: أحب أن أكون في موضع لا أعرف ولا أستذل. وذلك لئلا لا يعظمه الناس، لكن في نفس الوقت لا يستذل؛ لأنه إذا كان غير معروف فيمن هو بينهم ومن يعيش حولهم ومن يعيشون حوله فربما تعرض له بعض الغوغاء أو الرعاع بتصرفات فيها إهانة تذله، فخوفاً من ذلك يقول رحمه الله: أحب أن أكون في موضع لا أعرف ولا أستذل. وقال ابن مهدي: سمعت سفيان الثوري يقول: وددت أني أخذت نعلي هذه ثم جلست حيث شئت لا يعرفني أحد. ثم رفع رأسه وقال: بعد أن لا أستذل. فاشترط لنفسه أن لا يستذل. ولشدة حذره من الذلة كان يسكن بين معارفه من الناس الذين يعرفون قدره، قال رحمه الله: لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفونني. فهل هذا من الكبر؟ ليس هذا من الكبر، بل هذا مما نحن بصدد بيانه، وهو معرفة قدر النفس وشرفها، والدليل على ذلك أنه اشتهر جداً بالتواضع الشديد، وقد رؤي مرة في مكة وقد كثر الناس من حوله فقال: ضاعت الأمة حين احتيج إلي. وكان يقول: لو لم يأتني أصحاب الحديث لأتيتهم في بيوتهم. وكان يقول: لو أني أعلم أن أحداً يطلب الحديث بنية -يعني: بإخلاص- لأتيته في بيته حتى أحدثه. وكان لا يتصدر مجلساً، ولكنه يجلس بين عامة الناس، حتى قال في ذلك علي بن ثابت: ما رأيت سفيان في صدر مجلس قط، كان يقعد إلى جنب الحائط، ويجمع بين ركبتيه رحمه الله تعالى. ولا يرد على قول الإمام الجليل سفيان الثوري: (لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفونني)، ما حكاه الحسن قال: كنت مع ابن المبارك يوماً، فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا يعني: حيث لم نعرف ولم نوقر. فهل هذا يتعارض مع كلام سفيان؟! و A كلا، لا يتعارض معه؛ لأن غاية ما في خبر الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى أنه لم يعرف فعومل كسواد الناس، لا أنه ذل، والذي خشي منه الإمام سفيان الثوري هو أن يستذل أو أن يهان، أما هذا فقد عومل بسواسية مع الناس الذين كانوا حوله. وهذا هو ما حرص عليه أويس القرني رحمه الله تعالى حين قال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي. رواه مسلم، والغبراء هم الضعفاء والصعاليك والأخلاط الذين لا يؤبه لهم.

شرف نفس الإمام مالك

شرف نفس الإمام مالك من أمثلة معرفة قدر النفس وشرفها وصيانتها أنه لما قدم المدينة الخليفة المهدي أقبل الناس عليه مسلمين، فلما أخذوا مجالسهم امتلأت كل الأماكن القريبة من الخليفة، فلما جاء مالك تهامس بعض الحاضرين وقالوا: اليوم يجلس مالك آخر الناس؛ لأنه لا يوجد مكان للإمام مالك بقرب الخليفة. فلما دنا الإمام مالك ونظر ازدحام الناس وقف وقال: يا أمير المؤمنين! أين يجلس شيخك مالك؟! فناداه المهدي: عندي يا أبا عبد الله. فتخطى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى ليوسع المكان وأجلسه بجنبه. فانظر إلى تصرفه؛ لأنه رمز للدين وللشريعة وللحديث وللفقه وللعلم الشريف، فينبغي أن يصون نفسه. وبهذه العزة أجاب العالم الضرير المحدث أبو معاوية محمد بن خازم هارون الرشيد، فإن محمد بن خازم لما أراد أن يتوضأ أتى هارون الرشيد وصب عليه الماء، ولم يعرف أنه الخليفة، فبعدما فرغ من الوضوء قال له: أنا هارون الرشيد. فقال له: إنما أكرمت العلم يا أمير المؤمنين!

شرف نفس ابن دقيق العيد

شرف نفس ابن دقيق العيد من المواقف التي تنم عن معرفة العلماء والأفاضل بشرف أنفسهم أنه لما عزل الإمام ابن دقيق العيد نفسه عن القضاء في بعض المرات -وما أكثر ما عزل نفسه غضباً من بعض الأشياء- طُلِب في إحدى المرات ليولى القضاء من جديد، أي: صالحوه، ولما أقبل قادماً وقف له السلطان الملك المنصور تعظيماً، فصار يمشي قليلاً قليلاً، والناس يقولون له: السلطان واقف! أي: أسرع؛ فالسلطان واقف لك. فكان يرد عليهم بأنه يمشي، وظل يمشي بتؤدة وعلى مهل حتى وصل إلى السلطان، وكان السلطان قد أعد له مكاناً كي يجلس فيه، فصعد إلى مجلس السلطان وجلس بجواره، فأخذ السلطان يده وقبلها، فقال له ابن دقيق العيد: تنتفع بهذا.

شرف نفس سلمان بن غالب السياني

شرف نفس سلمان بن غالب السياني قال ابن حزم رحمه الله تعالى: ومن أعظم ما يحكى من المكارم التي لم نسمع لها أختاً أن أبا غالب سلمان بن غالب السياني المتوفى سنة 436هـ ألف كتاباً في اللغة، وهو كتاب (تلقيح العين)، فوجه إليه أبو الجيش مجاهد العامري صاحب الجزائري ألف دينار أندلسياً ومركوباً وأكسية في مقابل أن يزيد في ترجمة الكتاب أنه مما ألفه أبو غالب لـ أبي الجيش مجاهد، فيريد أن ينال شرف كونه الذي طلب من هذا العالم أن يؤلف الكتاب، فيثبت اسمه على غلاف الكتاب، فرد الدنانير وغيرها وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس، وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري وأصرف الفخر له؟! والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت، ولا استجزت الكذب؛ لأنني لم أجمعه له خاصة بل لكل طالب. يقول ابن حزم: فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها.

شرف نفس الإمام البخاري

شرف نفس الإمام البخاري عن أبي سعيد بكر بن منير قال: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى الإمام البخاري رحمه الله تعالى أن: احمل إلي كتاب الجامع الصحيح والتاريخ وغيرهما لأسمع منك. فقال الإمام البخاري لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة فاحضرني في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من الجلوس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة؛ لأني لا أكتم العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار) قال: فكان هذا سبب الوحشة بينهما. وقال أبو بكر بن أبي عمرو: كان سبب مفارقة أبي عبد الله البخاري البلد أن خالد بن أحمد خليفة ابن طاهر سأله أن يحضر منزله فيقرأ التاريخ والجامع على أولاده فامتنع من ذلك، وقال لا يسعني أن أخص بالسماع قوماً دون قوم آخرين، فاستعان خالد بـ حريب بن أبي الورقاء وغيره من أهل بخارى حتى تكلموا في مذهبه، فنفاه عن البلد، فدعا الإمام البخاري رحمه الله تعالى عليهم.

شرف نفس الخطيب البغدادي

شرف نفس الخطيب البغدادي جاء في ترجمة الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- أنه دخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير، فقال للخطيب: فلان يسلم عليك، ويقول لك: اصرف هذه الدنانير في بعض مهماتك. فقال الخطيب: لا حاجة لي فيها. فقطب وجهه وقال: كأنك تستقله -أي: كأنك ترى أن المبلغ قليلاً- ونفض كمه على سجادة الخطيب، وطرح الدنانير عليها، فقال: هذه ثلاثمائة دينار! يعني أنها مبلغ كبير، فقام الخطيب محمراً وجهه، وأخذ السجادة، وصب الدنانير على الأرض وخرج من المسجد. قال أحد تلامذة الخطيب: ما رأيت مثل عز خروج الخطيب، وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقوق الحصير ويجمعها!

شرف نفس الجرجاني

شرف نفس الجرجاني قال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني رحمه الله تعالى مبيناً عزة العالم وشرف نفسه: يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما وما زلت منحازاً بعرضي جانباً من الذل أعتد الصيانة مغنما وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل من في الأرض أرضاه منعما إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أذلوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما

شرف نفس علي بن أبي الطيب

شرف نفس علي بن أبي الطيب قال الذهبي في ترجمته للإمام علي بن أبي الطيب: إنه حمل إلى السلطان محمود بن سبكتكين ليسمع وعظه، فلما دخل جلس بلا إذن، وأخذ في رواية الحديث بلا أمر، فتنمر له السلطان؛ إذ لم يقم بالتقاليد التي تتبع عند الدخول على السلطان، حيث جلس مباشرة، وأخذ يتلو الأحاديث! فتنمر له السلطان وأمر غلاماً فلكمه لكمة أطرشته، فعرفه بعض الحاضرين منزلته في الدين والعلم، فاعتذر الملك إليه، وأمر له بمال فامتنع، فقال: يا شيخ! إن للملك طولة، وهو محتاج إلى السياسة، رأيت أنك تعديت الواجب، فاجعلني في حل. يريد أن يستسمحه، فقال: الله بيننا بالمرصاد، وإنما أحضرتني للوعظ وسماع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وللخشوع لا لإقامة قوانين الرياسة. فخجل الملك واعتنقه.

شرف نفس عطاء بن أبي رباح

شرف نفس عطاء بن أبي رباح قال إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة، فكان أنفه كأنه باقلا -نوع من البقول-، وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه ليستفتي عطاء رحمه الله، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما انفتل من صلاته سألوه عن مناسك الحج، وكان يجيب الخليفة وابنيه وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان الخليفة لابنيه: قوما. فقاما، فقال: يا بني! لا تنيا في طلب العلم -أي: لا تكسلا ولا تقصرا في طلب العلم-؛ فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.

شرف نفس الشيخ عز الدين

شرف نفس الشيخ عز الدين من لطائف شرف النفس والمبالغة في تنزيهها عن الدنية أن الشيخ عز الدين كان إذا قرأ القارئ عليه من كتاب وانتهى إلى آخر باب من أبوابه لا يقف عليه، بل يأمره أن يقرأ من الباب الذي بعده ولو سطراً، ويقول: ما أشتهي أن أكون ممن يقف على الأبواب. فالإمام عز الدين من شدة الأنفة كره أن يقف عند كلمة الباب؛ لأنها تذكره بالوقوف على الأبواب لأجل سؤال الناس، فكان يكره ذلك، ويجعل القارئ لا يقف على كلمة باب بل يقرأ شيئاً من الباب الجديد ولو سطراً واحداً، ويقول: ما أشتهي أن أكون ممن يقف على الأبواب.

شرف نفس عالم فقير

شرف نفس عالم فقير عالم فقير نهى عن السؤال حتى ولو كان فيه نيل العلياء، فمد اليد من العالم ذلة وانكسار نفس، والعالم داعية الحق، فكيف يهين نفسه بالسؤال؟! فالسؤال إضعاف للحق الذي يدعو إليه، فيقول ذلك الفقير الشامخ الأبي: لا تمدن للعلياء منك يدا حتى تقول لك العلياء هات يدك أي: العلياء هي التي تطلب منك أن تمد يدك، لكن لا تمد أنت يدك إليها! وقيل: أرسل الخليفة بمائة دينار إلى عالم، وقال لغلامه: إن قبل ذلك فأنت حر. فحملها إليه فلم يقبلها العالم، فقال له العبد: اقبلها ففي قبولك لها عتقي. فقال: إن كان فيه عتقك ففيه رقي!

شرف نفس سعيد الحلبي

شرف نفس سعيد الحلبي كان الشيخ سعيد الحلبي رحمه الله تعالى عالم الشام في عصره في درسه ماداً رجليه، فدخل عليه جبار الشام إبراهيم باشا بن محمد علي باشا صاحب مصر، فلم يتحرك له، ولم يقبض رجليه، ولم يبدل قعدته، فتألم الباشا ولكنه كتم ألمه، فلما خرج بعث إليه بصرة فيها ألف ليرة ذهبية، فردها الشيخ وقال للرسول الذي جاءه بها: قل للباشا: إن الذي يمد رجليه لا يمد يده.

شرف نفس زياد بن ظبيان

شرف نفس زياد بن ظبيان من شرف النفس عند السلف أنهم كانوا يربون الصغار على معرفة قدر النفس، وأن لا ينزلها المرء منازل الذل والهوان، ومن هذه الأمثلة ما قاله زياد بن ظبيان وهو يجود بنفسه لابنه عبيد الله: ألا أوصي بك الأمير زياداً؟ فقال: يا أبتي! إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت فالحي هو الميت. يعني بذلك أن في ذلك انتقاصاً من قدره هو. قال الشاعر: إذا ما الحي عاش بعظم ميت فذاك العظم حي وهو ميت وقال معاوية لـ عمرو بن سعيد وهو صبي: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي. أي: أوصاني بأشياء وكلفني بها ولم يوص بي. قال: وبم أوصى إليك؟! قال: أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه. يعني: أن يتفقد إخوان أبيه وأصدقاء أبيه بأن يحسن إليهم ويصلهم كما كان يفعل أبيه، فلا يغيب عنهم من أبيه إلا جسده فقط، وأما إحسانه فيبقى.

شرف نفس الشيخين عبد الوهاب الفارسي ومحمد الجراح

شرف نفس الشيخين عبد الوهاب الفارسي ومحمد الجراح كان الشيخ عبد الوهاب الفارسي رحمه الله تعالى يسير يوماً برفقة صديقه الشيخ محمد الجراح فصدمتهما سيارة، فسقطا في حفرة وجرحا، ولما علما أن السائق كان سكران صفحا عنه، وامتنعا من مقاضاة هذا السائق أنفة من أن يقفا في موقف واحد مع سكران.

شرف نفس الأستاذ سيد قطب

شرف نفس الأستاذ سيد قطب التاريخ الإسلامي حافل بمثل هذه النماذج وهذه الأمثلة التي تبرز لنا هذا المعنى العظيم الجليل، ونحن لا نقصد الاستيعاب، وإنما نقصد ضرب الأمثلة، ونختم الكلام في هذا الفصل بمثال فذ من عصرنا الحديث، لرجل بذل حياته لإعلاء كلمة الله، وهو الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى وأعلى درجته في الشهداء، فإن ذلك الرجل -وما أقل الرجال في هذا العصر- ارتضع منذ طفولته معاني العزة والكرامة والأنفة وشرف النفس حتى عاش حياته سيداً، وغادر الدنيا سيداً رافعاً رأسه، وعاش حياته قطباً، وغادرها أيضاً قطباً في الدعوة والجهاد، وحياته الطويلة حافلة بمواقف العزة والكرامة، لكن نتوقف عند ساعاته الأخيرة وهو يغادر هذه الدنيا الفانية، فقد طلب منه أن يعتذر للطاغية مقابل إطلاق سراحه، فقال: لن أعتذر عن العمل مع الله! وعندما طلب منه كتابة كلمات يسترحم بها عبد الناصر قال: إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة يرفض أن يكتب حرفاً يقر به حكم طاغية. وقال أيضاً: لماذا أسترحم؟! إن سجنت بحق فأنا أقبل حكم الحق، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل. وفي إحدى الجلسات اقترب منه أحد الضباط وسأله عن معنى كلمة (شهيد)، إشارة له إلى أن مصيرك أن تقتل، فرد عليه رحمه الله تعالى قائلاً: كلمة (شهيد) تعني أنه شهد على أن شريعة الله أغلى عليه من حياته. يقول الشاعر: لعمرك إني أرى مصرعي ولكن أغذ إليه الخطى لعمرك هذا ممات الرجال فمن رام موتاً شريفاً فذا هذا هو عالي الهمة، يعرف قدر نفسه، ويعرف شرف نفسه. وعلى الجانب المقابل خفيف الهمة دائماً يكون دنيء النفس، يشعر بأنه حقير، وأن حجمه ضئيل، لا قدر له، ولا وزن له، وهذا ينعكس في تصرفاته في انعدام ثقته بنفسه، فمعلوم أن الإنسان يستحي ممن يكبر في نفسه، فمن يراه عظيم القدر يستحي منه أكثر من غيره، فيستحي من العالم أو من الرجل الصالح أكثر مما يستحي من الفاسق أو من الطفل الصغير، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استح من الله كما تستحي رجلاً من صالحي قومك) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالإنسان من العالم لأن العالم أكبر في نفسه من الجاهل، ويستحي من الصالح أكثر من الفاجر، في حين أنه لا يستحيي من الحيوانات ولا من الأطفال، ومن كانت نفسه عنده كبيرة، ويشعر بشرف نفسه وأن لها قدراً ووزناً فإنه يحترم نفسه، فإذا خلا بنفسه فإنه لا يقبل على دنيء الأمور وخسائسها؛ لأنه يستحي من نفسه؛ لأن نفسه عنده كبيرة، كما أنه لا يفعل الدنايا أمام العالم الصالح أو أمام الشيخ المسن استحياء منهما؛ لأنهما يكبران في نفسه، فكذلك لما كبرت نفسه عنده فإنه يعرف قدرها، فلا يهينها حتى في خلوته. فمن كانت نفسه عنده كبيرة كان استحياؤه منها أشد من استحيائه من غيرها، أما خسيس الهمة فإنه يستحيي من الناس ولا يستحي من نفسه إذا انفرد عن الناس؛ لأن نفسه أخس عنده من غيره، فهو يستحي من الآخرين لأن لهم قدراً عنده، ولا يستحي من نفسه لأنه ليس لنفسه قدر عنده، وهو يراها أحقر من أن يستحي منها، فمن ثم قال بعض السلف: من عمل في السر عملاً يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر. وقيل لبعض العباد: من شر الناس؟ قال: من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً.

شرف نفس مجاهد عند إعدامه

شرف نفس مجاهد عند إعدامه كان هناك مجاهد إسلامي أرادوا إعدامه بالباطل، فانقطع به الحبل لحظة إعدامه، فقال: كل جاهليتكم رديئة حتى حبالكم. فانظر إلى الاستعلاء على الباطل حتى في مثل هذه اللحظات.

الفروق الدقيقة بين شرف النفس وكبر النفس

الفروق الدقيقة بين شرف النفس وكبر النفس شرف النفس ومعرفة قدرها من خصائص كبير الهمة، ونحتاج إلى بيان بعض الفروق الدقيقة بين بعض المتضادات من هذه المعاني، فقد تلبس النفس الأمارة بالسوء على العبد أموراً يحبها الله سبحانه وتعالى ويرضاها بأمور يبغضها الله عز وجل، فلدقة الخيط أو الحد الفاصل بين هذين الأمرين لا ينجو من هذا التلبيس إلا أرباب البصائر ذوو النفوس المطمئنة، وقد عقد الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى فصولاً نافعة بين فيها هذه الدقائق النفيسة في كتابه (الروح) نجتزئ منها بما نحتاج في هذا المقام، فقد بين رحمه الله تعالى الفرق بين شرف النفس والتيه، فشرف النفس هو صيانتها عن الدنايا والرذائل والمطامع التي تقطع أعناق الرجال، فيرفع المرء نفسه عن أن يلقيها في ذلك، بخلاف التيه، فإنه خلق متولداً بين أمرين: إعجابه بنفسه وازدرائه بغيره، فالشخص الذي يتيه على الناس ويتكبر عليهم هذا الخلق منه ثمرة أمرين اثنين: أولاً: أنه يعجب بنفسه، ثم يزدري ويحتقر الآخرين، فيعجب بنفسه ويزدري غيره، فيتولد بينهما المولود الجنين الذي ينشأ من التزاوج بين الإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين وازدرائهم، وهو التيه على خلق الله سبحانه وتعالى. أما شرف النفس فإنه يتولد من خلقين كريمين: الخلق الأول: إعزاز النفس وإكرامها، فهو يعز نفسه ويكرمها. الخلق الثاني: تعظيم مالكها وسيدها، فمن تعظيم مالكها وربها أن يكون عبده ذليلاً، فيتولد من بين هذين الخلقين شرف النفس وصيانتها، وأصل هذا كله استعداد النفس وتهيؤها، وإمداد وليها ومولاها لها، فإذا فقد الاستعداد والإمداد فقد الخير كله. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: والفرق بين الصيانة والتكبر أن الصائن لنفسه بمنزلة رجل قد لبس ثوباً جديداً نقي البياض ذا ثمن، فهو يدخل به -بهذا الثوب الغالي النفيس النقي الأبيض- على الملوك فمن دونهم، فهو يصونه عن الوسخ والغبار والطبوع وأنواع الآثار إبقاءً على بياضه ونقائه، فتراه صاحب تعزز وهروب من المواضع التي يخشى منها عليه التلوث، فلا يسمح بأثر ولا طبع ولا لوث يعلو ثيابه، وإن أصابه شيء من ذلك على غرة بادر إلى قلعه وإزالته ومحو أثره، وهكذا الصائن لقلبه ودينه، تراه يجتنب طبوع الذنوب وآثارها، فإن لها في القلب طبوعاً وآثاراً أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي البياض، ولكن على العيون غشاوة أن تدرك تلك الطبوع، فتراه يهرب من مضان التلوث، ويختلي من الخلق، ويتباعد من مخالطتهم مخافة أن يحصل لقلبه ما يحصل للثوب الذي يخالط الدباغين والذباحين والطباخين ونحوهم، بخلاف صاحب العلو المتكبر، فإنه وإن شابه هذا في تحرزه وتجنبه فهو يقصد بالتحرز أن يعلو رقابهم، ويجعلهم تحت قدمه، فهذا لون وذاك لون، أما الكبر فإنه أثر من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، فرحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار لا معاملة الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهاً، لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ عليه في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، لا يزداد من الله إلا بعداً، ومن الناس إلى صغاراً أو بغضاً. والفرق بين التواضع والمهانة أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه وتعالى ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه. وأما المهانة فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفل في نيل شهواتهم، وتواضع المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كل حض لمن يرجو نيل حظه منه، فهذا كله ضعة لا تواضع، والله سبحانه وتعالى يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (وأوحى الله إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد). سبحانك -اللهم- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.

علو الهمة [6]

علو الهمة [6] علو الهمة مطلوب في كل شيء من أمور الدنيا والدين، فعلو الهمة في الدين يكون بالتمسك به بقوة، والعض عليه بالنواجذ، سواء كان ذلك في العبادات أو المعاملات. وقد ضرب لنا السلف الصالح في ذلك أروع الأمثلة، وأحسن الصور، فكانوا مسارعين وسباقين إلى كل خير تلوح دلائله، وتتضح معالمه، ولا يبغون عنه حولاً. وأما علو الهمة في الدنيا فذلك بضبط النفس، وأن يأخذ المرء منها ما يكفيه ولا يطغيه، ولا يضيع ما هو أهم منها من الباقيات الصالحات.

الفرق بين شرف النفس والتيه

الفرق بين شرف النفس والتيه انتهينا في بحث علو الهمة إلى الكلام على أن من خصائص عالي الهمة وكبيرها: صيانة النفس، وشرف النفس، ومعرفته بقدر نفسه، وذكرنا أنّ هناك بعض الفروق التي يلزم إيضاحها؛ لأنها قد تلتبس في هذا المقام على بعض الناس، فذكرنا الفرق بين شرف النفس والتيه، وقلنا: إن شرف النفس هو صيانتها عن الدنايا والرذائل والمطامع التي تقطع أعناق الرجال، فعالي الهمة يربى بنفسه عن أن يلقيها في ذلك، بخلاف التيه فإنه خلق يتولد من أمرين: إعجاب المرء بنفسه، وازدرائه بغيره، فيتولد من بين هذين الأمرين التيه، وأما شرف النفس فإنه يتولد من أمرين كريمين شريفين هما: إعزاز النفس وإكرامها، وتعظيم مالكها وسيدها، فهو عبد من عباد الله يرى أنه ينبغي أن ينزه نفسه عن اكتساب الذنب، فانتسابه إلى سيده يجعله يصون نفسه عن الوضاعة والخسة والدناءة، فيتولد بين هذين الخلقين شرف النفس وصيانتها. والفرق بين صيانة النفس وبين التكبر دقيق، ويخفى على كثير من الناس، فالمتكبر شغله الشاغل في نظرته إلى الناس، ومحور حياته يدور حول نفسه فتراه يقول: فلان لم يحترمني، وفلان لم يعظمني، وفلان لم يلقبني، فكل حياته وكل علاقاته وكل مشاكله تنشأ بسبب أنه يحوم حول نفسه، ويدور حول نفسه، ونفسه هي الرحى في حياته، فهذا قد يلتبس على بعض الناس، ويظن أن هذا من صيانة النفس، وليس الأمر كذلك فهناك فرق كبير بين صيانة النفس وبين التكبر على خلق الله تبارك وتعالى، فالذي يصون نفسه مثله كمثل رجل لبس ثوباً جديداً نقي البياض نفيساً، فهو يدخل به على الملوك ونحوهم، فيصونه عن الوسخ والغبار وأنواع الآثار؛ حتى يبقي على بياضه ونقائه وصفائه، فلذلك تجده يتقزز ويهرب من المواضع والأماكن التي قد تلوث ثوبه، فلا يسمح بأي أثر أو لوث أن يعلو ثوبه، وإذا أصابه شيء من ذلك فإنه يبادر إلى قلعه وإزالته ومحوه وتطهير نفسه، وهكذا حال الشخص الذي يصون دينه وقلبه، فهو يجتنب الذنوب وآثارها، فإن لها في القلب طبوعاً وأثاراً أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي البياض، ولكن على العيون غشاوة فلا تدرك تلك الطبوع، فالذي يصون نفسه يهرب من مظان التلوث، ويحترس من الخلق، ويتباعد من مخالطة الذين يلوثون قلبه، أو يعكرون إيمانه، أو يجذبونه إلى الأرض، فإنّ مخالطة من في دينه ضعف، وليس عنده ورع، ولا خوف، ولا حياء من الله سبحانه وتعالى؛ يخشى منها كما يخشى من مخالطة من يكون في ثيابه الدماء، أو الشحوم، أو غير ذلك من الأوساخ حتى لا يصيبه منها شيء، بخلاف صاحب الكبر، فإنه وإن شابه صاحب الهمة العالية في التحرز والتجنب، إلا أنه يقصد بذلك أن يعلو رقابهم، وأن يفتخر عليهم، وأن يجعلهم تحت قدمه، وأما هذا الذي يصون نفسه فإنه يتحرى الأشياء التي قد تلوث قلبه، فيتكرم ويتعزز عن أن يواقعها؛ كي لا تلوث قلبه وإيمانه. إنّ الكبر أثر من آثار العجب والبغي، وينشأ في قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، وترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فالمتكبر نظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار والأنانية لا معاملة الإيثار والإنصاف، ذهب بنفسه تيهاً، فلا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ عليه في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، فلا يزداد من الله إلا بعداً، ولا يزداد من الناس إلا صغاراًً وبغضاً.

الفرق بين التواضع والمهانة

الفرق بين التواضع والمهانة وهناك فرق بين التواضع والمهانة وهذه الفروق مذكورة في كتاب (الروح) للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: فالتواضع يتولد من أمرين: من العلم بالله سبحانه وتعالى، ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفصيلها وعلوم عملها وآفاتها، فيتولد من ذلك خلق التواضع، وهو: انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة لعباده، فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل في الناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه. وأما المهانة: فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفل في نيل شهواتهم، وقد ضرب العلماء مثلاًَ لهذا الشخص الذي يقبل المذلة والمهانة في سبيل حظوظ نفسه وشهوته، فقالوا: إن مثَل هذا كمثل الكلب ذهب إلى الأسد واشتكى له أنه سماه باسم قبيح، فقال: إن كلمة (كلب) كلمة قبيحة، فأنا أريد منك أن تغير اسمي، فأيأسه الأسد من ذلك، فلما رأى إصراره قال: إذن أعطيك هذه القطعة من اللحم، وتبقى تحرسها فترة من الزمن، فطال عليه الوقت حتى جاع، ولما جاع قال: وأي شيء في اسم كلب؟! ما (كلب) إلا اسم حسن جميل، فأكلها! فالشاهد: أن الإنسانَ الخسيسَ الهمةِ، والدنيءَ الطبع، يهين نفسه، ويقبل الدناءة والخسة في سبيل حظوظه وشهواته، ومثلَ هؤلاء السفل الذين يتواضعون من أجل نيل شهواتهم مثل تواضع المفعول به للفاعل، فهذا النوع من المهانة والخسة والدناءة لا يمكن أن يجتمع مع شرف النفس وصيانتها، وكذلك تواطؤ طالب كل حظ لمن يرجو نيل الحظ منه، فالمرءوسون يتواضعون في مهانة ومذلة لرئيسهم من أجل أن ينالوا منصباً، أو ينالوا مكافأة، أو ينالوا شيئاً من مطالب وحظوظ النفس، فهذا كله يدخل في صفة الضعة لا في صفة التواضع، والله سبحانه وتعالى يحب التواضع، ويبغض الضعة والمهانة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أوحى الله إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد).

الفرق بين المنافسة والحسد

الفرق بين المنافسة والحسد ونذكر الفرق بين المنافسة والحسد، فالمنافسة: هي المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده عند غيرك، فترى غيرك فيه من الصفات الكاملة، فأنت تحث نفسك إلى منافسته، وتبادر إلى أن تتحلى بهذا الكمال، فتنافسه حتى تلحق به أو تجاوزه إذا كنت أعلى همة منه، فثمرة المنافسة بلوغ المطالب العالية، وهي ثمرة من ثمار شرف النفس، وعلو الهمة، وكبر القدر، يقول الله تبارك وتعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فهذا أمر بالتنافس، وقوله: (وَفِي ذَلِكَ) يعني: في الجنة ونعيمها يحق لكم أن تتنافسوا فيها، والمنافسة: مأخوذة من النفاسه، والشيء النفيس: هو الذي تتعلق به النفوس طلباً ورغبة، فهذه النفس تنافس النفس الأخرى في الحصول على هذا الشيء النفيس، وسمة هذا التنافس في أمور الآخرة أن الإنسان يفرح إذا شاركه غيره فيه، وهذا أمر مهم جداً، وخصوصاً بين طلبة العلم، وبين طالبي المقاصد الأخروية، الذين كبرت هممهم، وكما ذكرنا من قبل أنّ كبير الهمة لا يرضى ولا يقنع بما دون الجنة، فهو يريد الآخرة، فإذا كان الناس الذين يتسابقون في مجالات الخير، كالدعوة، والتعليم، وطلب العلم، وغير ذلك من الأمور الخيرية يريدون الآخرة فإن الأمور ستستقيم لهم؛ لأنهم محضوا نيتهم للآخرة، فإذا دخلت الدنيا ولو تحت ستار الدين فإنه يقع التحاسد المذموم، والتنافر المشئوم؛ لأنه في هذه الحالة سيكون التنافس على الجاه أو الشهرة، حتى يتحدث الناس بأن فلاناً عالم أو عابد أو كريم أو سخي أو قارئ للقرآن إلى غير ذلك من هذه المقاصد، وإذا انحرفت النية عن الآخرة إلى الدنيا فهنا سيقع التحاسد، فالذي يشعر بصفة الحسد إذا وجد أخاه يبادره التسابق في طلب العلم، أو في عبادة، أو غير ذلك، فهذا دليل على مرض في قلبه، وأنه يريد الدنيا لا الآخرة؛ لأن الآخرة واسعة وفسيحة تتسع للجميع، وأما الدنيا فضيقة، ولا يتحمل الناس بعضهم بعضاً إذا طلبوها؛ ولذلك فإن الدنيا من شأنها أن تفرق الناس، فنجد الناس بينهم من الود والمحبة والروابط القوية شيء عظيم جداً، فإذا اشتركوا في تجارة، أو اشتركوا في مشروع تجاري ففي الغالب أن الدنيا تئول بهم إلى الخصام والتنافس المحرم والتحاسد وفساد ذات البين، وقد تكون هناك استثناءات، وهذا شيء نادر. وأما إذا أرادوا الآخرة فإنها توحد بينهم، فالنفس السليمة، والقلب السليم يفرح إذا تنافس مع غيره في أمور الآخرة، ولا يشعر بحزن ولا بحسد، ولا يتمنى زوال النعمة عن الآخرين، فالداعية الذي يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، أو يعلم الناس، أو يربيهم مقصده أن يهديهم إلى ربهم الله عز وجل، وأن يسلكوا طريق الطاعة، فإن كان مخلصاً لله سبحانه وتعالى فإنه يحب أن يشاركه هؤلاء في الخير الذي هو فيه، فإذا كان كل همه أن يسوقهم إلى الهداية وإلى الجنة، فكيف يحسدهم إذا منّ الله عليهم بالهداية؟! فالداعية يحب أن كل الناس يسلكون هذا الطريق إلى الآخرة، وحتى لو سبقوه لا يجد في نفسه، بل يحركه ذلك إلى المنافسة المشروعة التي أمرنا بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين)، أما أن يقع التنافس المذموم على الجاه، أو على الشهرة، أو نحوها فهذا معناه أننا خرجنا من طلب الآخرة إلى طلب الدنيا، ومن ثَمّ يأتي شؤم طلب الدنيا من الخصام والفساد وغير ذلك، فالنفس الشريفة تفرح إذا شاركها غيرها في التنافس في أعمال الآخرة، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض؛ لاشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضاً على تنافسهم فيه، فهم يتنافسون ومع ذلك يحض بعضهم بعضاً عليه، وهذا من المسابقة، وقد قال الله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال أيضاً: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يسابق أبا بكر رضي الله تعالى عنه وينافسه، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أفضل البشر على الإطلاق بعد الأنبياء عليهم السلام، فكان عمر يطمع في أن يغلب أبا بكر مرة، وأنّ يسبقه في أي باب من أبواب الخير، فلم يظفر بسبقه أبداً مع شدة حرصه على أفعال الخير، فكلما شرع في شيء يفاجأ بأن أبا بكر قد سبقه إليه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه رضي الله عنهم يوماً سؤالاً مفاجئاً فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً -فهنا يتعين عليهم الجواب؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يسألهم- فقال أبو بكر: أنا، فقال: من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا، قال: من شيع منكم اليوم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا، قال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده! ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم إلا أدخله الله الجنة) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فـ الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه لم ينل هذه المرتبة والمنزلة -وهي كونه أفضل أولياء الله على الإطلاق- بالأماني، ولا بالكسل، ولا بالعجز، وإنما نالها بالمجاهدة والمنافسة في الخيرات، بحيث لم يسبقه أحد رضي الله تعالى عنه، فـ عمر مع حرصه على مسابقته لم يستطع أن يسبقه، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم لو سأل أسئلة مزيدة ربما أيضاً لم يجب إلا أبو بكر رضي الله عنه، فلو سأل من قام الليل؟ من فعل كذا وكذا من أفعال الخيرات؟ فالغالب -والله تعالى أعلم- أنه كان سيقول: أنا، دون غيره أو يشارك غيره فيه، فلما علم عمر رضي الله عنه أنّ أبا بكر قد استولى على الإمامة -أي: تمكنت منه خصال الإمامة في الدين- قال لـ أبي بكر: (والله! لا أسابقك إلى شيء أبداً!) وقال أيضاً: (والله! ما سبقته إلى خير إلا وجدته قد سبقني إليه!). فالمتنافسان كعبدين يتباريان بين يدي سيدهما، فيتنافسان في مرضاته، ويتسابقان إلى محابه، فسيدهما يعجبه ذلك منهما، ويحثهما عليه، وكل منهما يحب الآخر، ويحرضه على مرضاة سيده، ولله المثل الأعلى. أما الحسد: فخلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة، ليس فيها حرص على الخير، وهذه النفس قد تمكن منها العجز والمهانة، حتى أنها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم. إن الحاسد عدو نعم الله سبحانه وتعالى، وعدو قدر الله عز وجل واختياره، فليس همه أن يكون مثل ذلك الشخص المحسود كما هو الحال في الغبطة، بل كل همه، ومنى قلبه أن تزول النعمة عن المحسود، فهو عدو نعم الله كما قال العلماء، فهو يتمنى أن تزول من عند غيره، وربما يتمنى أن تحل فيه، فالمهم أنه يحب أن يرى في الآخرين غُصَص العدم والفقر، كما قال تعالى عن هذا الصنف: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، ولذلك فالحسد لا يمكن أن يكون من أخلاق المؤمن، بل هو صفة من صفات الكفار كما قال تبارك وتعالى أيضاً: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، فالحسود عدو النعمة، ويتمنى زوالها عن المحسود كما زالت عنه, والمنافس مسابق النعمة، ويتمنى تمامها عليه وعلى من ينافسه، فهو ينافس غيره حتى يسبقه، ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسات، فمن جعل نصب عينيه شخصاً من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيراً، فإنه يتشبه به، ويطلب اللحاق به، والتقدم عليه، وهذا لا نذمه؛ لأننا أُمرنا بالمنافسة في أمور الآخرة، وأمرنا أيضاً بالنظر إلى من هو فوقنا في الدين، والنظر إلى من هو أسفل منا في الدنيا، فعليك أن تنظر إلى من هو فوقك في الدين؛ حتى تقتدي به، وهذا هو الميزان الصحيح، أما الآن فتجد بعض الناس ينظر إلى من هو أسفل منه في الدين، فضاع بسبب ذلك كثير من الناس خاصة العوام، لذلك إذا كلمت أحدهم -مثلاً- وقلت له: لماذا تجلس أمام التلفاز وترى الأشياء المحرمة؟ ولماذا تشتغل بالشطرنج والنرد والطاولة والدومينو وغير ذلك من هذه الأشياء؟ فيقول: نحن الآن أحسن من غيرنا ممن يجلس يغتاب الناس، ويأكل لحومهم وأعراضهم، فهو ينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه ممن يقوم الليل، ويحفظ القرآن، ويحضر مجالس العلم، فهذه من علامات خسة الهمة، أعني: أن ينظر في الدين إلى من هو أسفل منه، وربما تحرق قلبه حسداً على من هو أعلى منه في الدنيا، مع أنّ العاقل لا يحسد على الدنيا. قال بعض السلف: من أحسد؟ هل أحسد مؤمناًَ آتاه الله شيئاً من الدنيا، وقد أعد الله له الجنة؟! فما تساوي هذه الدنيا بالنسبة إلى الجنة التي تنتظره؟! أو هل أحسد كافراً فمهما بلغت الدنيا التي بين يديه فمآله إلى خلود في النار؟ فهل أحسد المؤمن أم الكافر؟ فلا أحسد الكافر الذي مهما تمتع في الدنيا فمصيره إلى النار في الآخرة، ولا أحسد المؤمن الذي مهما أوتي من الدنيا فإن الآخرة التي هي أعظم خيراً من الدنيا تنتظره. إنّ ساقط الهمة ينظر دائماًَ إلى من هو أسفل منه في الدين فيقول: أنا خير من فلان، ونحن لا نقعد نأكل أعراض الناس، ونغتاب، ونفعل كذا، وإنما نجلس نتسلى بالطاولة، أو الشطرنج، أو التلفزيون، فهو يظن أن هذه ليست مصيبة في الدين! وهذا خذلان من الله سبحانه وتعالى، فالتنافس في الدين لا يذم، بل يجب عليك أن تتطلع إلى من هو أعلى منك لتقتدي به، وهذا هو معنى الائتمام بالأفاضل في الدين، فالائتمام بهم هو المسارعة إلى اللحاق بهم. وقد يطلق اسم الحسد على المنافسة المحمودة المشروعة، كما في الصحي

الفرق بين حب الرئاسة وحب الإمامة في الدين

الفرق بين حب الرئاسة وحب الإمامة في الدين من الفروق المهمة أيضاً في هذا الباب: الفرق بين حب الإمامة في الدين وبين حب الرئاسة والزعامة والتسلط على رقاب الناس. يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، قال بعض المفسرين: إنّ هذه الآية بمعزل عن إرادة السلطنة والملك، فإبراهيم عليه السلام لم يطلب الملك والرئاسة والسلطنة، ولا علاقة لهذه الإمامة بالإمامة السياسية والملك والرئاسة وغير ذلك، وإنما تثبت هذه الآية الكريمة أن الإمامة في الدين يحرمها الظالمون من ذريته، فقوله تعالى: ((قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)) أي: اجعل أيضاً من ذريتي أئمة يهدون إلى الدين، ((قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)). فالآية تدل على أن إمامة الدين لا ينالها الظالمون، ولو كان المقصود من الآية إمامة الدنيا لكان قوله: ((لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) يتصادم مع الواقع؛ لأننا نرى أن الذين ينالون الإمامة السياسية من أزمان بعيدة هم الظالمون، وأن الإمامة آلت في كثير من الأحوال إلى أيدي الظالمين، وأما الإمامة الدينية فلا يمكن أن تقع أبداً في يدي ظالم، وإنما هي لأئمة الهدى. وكان من دعاء الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أيضاً: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء:83] وهذا ليس كما يتصور بعض الجهال من الناس من أن الحكم هنا بمعنى السياسة والملك، كما حصل من بعض الحراس في بعض الأوقات حيث صادروا كتاب ((جامع العلوم والحكم)) فقد قرأه المسكين الذي صادره: (جامع العلوم والحُكْم) فصادروا الكتاب، ومنعوا دخوله إلى السجن، كما صادروا كتاب: (الأربعين النووية)، وقالوا: هذا متعلق بالأسلحة النووية! فقوله: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) أي: حكمة، أو حُكْمًا بين الناس بالحق أو نبوة؛ لأن النبي ذو حكم، وذو حكمة، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] أي: وفقني للانتظام في سلكهم؛ لأكون من الذين جعلتهم سبباً لصلاح العالم، وكمال الخلق، ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] أي: ذكراً جميلاً بعدي أُذكر به، ويقتدى بي في الخير، فهذا طلب للإمامة في الدين لمصلحة الدين، أي: يطلب أن يكون إماماً حتى يهدي الله الناس على يديه، ويقودهم إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الجنة، ولا يقصد الرئاسة، ولا الزعامة، ولا التنافس على مناصب الدنيا. فقوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) يعني: أُذكر به؛ كي يقتدى بي في الخير، وقد كان ذلك لإبراهيم عليه السلام، كما قال عز وجل: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:108 - 110]. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: روى أشهب عن مالك أنه قال في قول الله عز وجل: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ): لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحاً، ويرى أنه عمل عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى، وقد قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] فموسى عليه السلام كان لا يراه أحد إلا أحبه. وقال تعالى أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] أي: حباً في قلوب عباده، وثناءً حسناً، فنبه تعالى بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل. وجوز بعض المفسرين أن يكون معنى: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ) أي: اجعل لي صادقاً من ذريتي، وأخرج من ذريتي المتأخرة فيما بعد صادقاً يجدد أصل ديني، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد، وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء في بعض الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم) وهذه الدعوة مذكورة بأصرح من هذا في سورة البقرة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]. وصح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين) أي: هداة للآخرين، مهتدين في أنفسنا. وأخبر عز وجل أن من دعاء عباد الرحمن الذين أحبهم وأثنى عليهم، أنهم يقولون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، قال البخاري رحمه الله تعالى في تفسيرها: (إِمَامًا) أي: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا، فلا يصلح أن يكون الإنسان قدوة يقتدي به من كان في زمنه ومن يأتي بعده إلا إذا كان سائراً على نهج من سبقه من السلف الصالح؛ فهذا التفسير دقيق جداً. وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أي: قدوة يقتدى بنا في الخير، فكلما اقتدى بهم في الخير كثير من الناس كان ذلك أكثر ثواباً، وأحسن مآباً، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقياً قدوة، وهذا هو قصد الداعي. وفي الموطأ: إنكم أيها الرهط! أئمة يقتدى بكم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول في دعائه: (اللهم اجعلنا من أئمة المتقين). وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى، يقتدي بنا المتقون. وقال القفال وغيره من المفسرين: في الآية دليل على أن طلب الرئاسة في الدين واجب. أي: أنّ الرئاسة هنا ليست الرئاسة الدنيوية، بل هي الإمامة في الدين، وذلك أن يصل إلى مرتبة الإمامة كي يهتدي به الناس، ويقوم بهذا الفرض الكفائي. وكان القشيري يقول: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني: بأن تدعو الله سبحانه وتعالى، وتجتهد في الدعاء، وتسلك أسباب ذلك، وقوله: بالدعاء لأن لازم الدعاء -إذا كان مشتملاً على شروطه- أن يستجيب الله سبحانه وتعالى له، فالمقصود بكلمة (الإمامة بالدعاء) يعني: بتوفيق الله وتيسيره ومنته، لا بما يدعيه كل واحد لنفسه. وقال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرئاسة، بل طلبوا أن يكونوا قدوة في الدين. وقال ابن عباس في قوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أي: اجعلنا أئمة هدى، كما قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24]. وعن الحسن قال: من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله -أي: قدوة-، إماماً لحيه، إماماً لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله). وقد فصل الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى الفرق بين حب الرئاسة، وبين حب الإمامة في الدين في كتاب (الروح)، فقال رحمه الله تعالى: والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله، هو الفرق بين تعظيم أمر الله والنصح له، وتعظيم النفس والسعي في حظها، فإن الناصح لله، المعظم له، المحب له، يحب أن يطاع ربه فلا يعصى، وأن تكون كلمته هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وأن يكون العباد ممتثلين أوامره، مجتنبين نواهيه، فهذا ناصح لله في عبوديته، وأخلص العبودية لله، وناصح خلقه في الدعوة إلى الله، فهو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماماً، يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين، فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم دليلاً، وفي قلوبهم مهيباً، وإليهم حبيباً، وأن يكون فيهم مطاعاً كي يأتموا به، ويقتفوا أثر الرسول على يده؛ لم يضره ذلك، بل يحمد عليه؛ لأنه داعٍ إلى الله، ويحب أن يطاع الله عز وجل ويعبد ويوحد، فهو يحب ما يكون عوناً على ذلك موصلاً إليه؛ ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه، وأثنى عليهم في تنزيله، وأحسن جزاءهم يوم لقائه، فذكرهم بأحسن أعمالهم وأوصافهم، ثم قال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه، وأن يسر قلوبهم باتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته، فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة، فإنما سألوه ما يعينون به المتقين على مرضاته وطاعته، وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين التي أساسها الصبر واليقين قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ). وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين هو سؤال أن يهديهم ويوفقهم، ويمن عليهم بالعلوم النافعة، والأعمال الصالحة التي لا تتم الإمامة إلا بها ظاهراً وباطناً. أي: لن يكونوا أئمة إلا إذا اجتهدوا في الأعمال الصالحة، وفي العلوم النافعة في الظاهر والباطن. وتأمل كيف نسبهم في هذه الآيات إلى اسمه الرحمن جل جلاله فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان:63] فاختصهم بالإضافة الشريفة إلى اسمه الرحمن، ليعلم خلقه أن هذا إنما نالوه بفضل رحمته، ومحض جوده ومنته، وتأمل كيف جعل جزاءهم في هذه السورة الغرف، وهي المنازل العالية في الجنة؛ لأن العمل الذي اس

الحث على علو الهمة في الكتاب والسنة

الحث على علو الهمة في الكتاب والسنة إن الفصل المتبقي من مقدمات البحث هو الحث على علو الهمة كما ورد في الكتاب وفي السنة، فقد تواردت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور، والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وقد تنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك، فمنها: ذم ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صوره، كما قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] فهذا من سفالة الهمة، وسقوطها، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف:175 - 176] أي: سفلت همته، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]، وقال أيضاً واصفاً حال اليهود، ومبيناً سقوط همتهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة:5]، وقال في وصف أشباههم: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الأنعام:91] يعني: علمتم فلم تعملوا، فهذا ليس بعلم، في حين أنه سبحانه مدح يعقوب عليه السلام بقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] يعني: ذو عمل بما علمناه. وذم سبحانه المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم، وقناعتهم بالدون، فقال عز وجل: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:87] يعني: قنعوا بذلك، وفرحوا به، فهذا أثر من آثار سقوط همتهم، وبين أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن الجهاد فقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]، وشنع الله عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وهذا بلا شك أجلى مظاهر سفالة الهمة، فهم يجعلون الدنيا أكبر همهم، وغاية علمهم، فيعتبر هذا الإيثار أسوء مظاهر خسة الهمة، وبين الله تعالى أن الركون إلى الدنيا تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38] فهل يرضى أحد بالدنيا بدلاً من الآخرة؟! {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] , وقال أيضاً: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29] فهذا سافل الهمة، فما يريد إلا الدنيا، ولا يعيش إلا للدنيا، وقال أيضاً: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النساء:134] أي: من كان يريد ثواب الدنيا كالذي يجاهد -مثلاً- لطلب الغنيمة، فما له يطلب أخس الأمرين، وأمامه فرصه أن ينال ثواب الدنيا الذي يريده وثواب الآخرة بالإخلاص لله عز وجل؟! وهذه إشارة إلى أن يرتفع الإنسان بهمته، فالذي سيعطيك الدنيا قادر على أن يعطيك الآخرة، فاطلب الأمرين جميعاً، كما قال عز وجل: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] أي: من نصيب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. إذاً: أمامك الخيار: إما أن تطلب الدنيا فقط، وهي أخس المطالب، وإما أن تطلب أشرف المطلبين، وهو الآخرة فقط، وإما أن تطلب الأمرين معاً: الدنيا والآخرة, فما بالك تقنع بأن تطلب الدنيا فقط وهي أخس هذه الخيارات؟! فهذا هو المقصود من قوله عز وجل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يعني: فما له يطلب أخسهما؟ هلّا طلب أشرفهما أو طلبهما معاً؟! وذم الله عز وجل حرص اليهود على الحياة، ولو كانت ذليلة مهينة فقال عز وجل: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، وشنع القرآن الكريم على المشركين الذين يعبدون مع الله آلهة أخرى باعتبار أن الشرك أجلى وأوضح مظاهر خسة الهمة، فالإنسان الذي كرمه الله عز وجل، وآتاه العقل والفطرة، وأرسل له الأنبياء، وأنزل إليه الكتب، وأراه الآيات في الآفاق وفي نفسه، ومع ذلك يعمد إلى صنم نحته بيده فيعبده، ويسجد له ويركع له، ويسأله ويتوسل إليه يدل على خسة همته، أو تجد أنّ الله سبحانه وتعالى أرسل له عبداً ليهديه، ويأخذ بيده إلى الجنة، فبدلاً من أن يعبد الله المرسِل يعبد المرسَل كما فعل النصارى مع المسيح عليه السلام، فعبدوا النبي الرسول وأعرضوا عن عبادة الخالق سبحانه وتعالى الذي خلقهم وخلق ذلك الرسول؛ فهذا بلا شك من أجل مظاهر خسة الهمة، والذي يثلث الآلهة ويقول: إن الله ثلاثة خسيس الهمة دنيئُها. وكذلك يقول تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. وقال عز وجل في عابدي المسيح مبيناً خسة همتهم: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75]، فقوله: (كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) يعني: كانا محتاجين إلى الطعام، فهل الإله يحتاج إلى الطعام؟ وماذا يلزم من الطعام؟ يلزم من الطعام الإخراج، فهل الإله يخرج والعياذ بالله؟! فكيف يعبدونه إذن؟! فلو كانت نفوسهم شريفة، ولو كانت عندهم همة لارتقوا عن هذه العقيدة الخسيسة الدنيئة.

علو همة الأنبياء والمرسلين

علو همة الأنبياء والمرسلين أثنى القرآن على أصحاب الهمم العالية، وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون، لا سيما أولوا العزم من الرسل، وعلى رأسهم سيدهم وأشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال سبحانه وتعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهدهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما أوضحه الله سبحانه وتعالى في قصص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

علو همة أتباع الأنبياء والمرسلين

علو همة أتباع الأنبياء والمرسلين ومن أساليب القرآن: أنه قص مواقف أصحاب الهمة العالية من المؤمنين أتباع الأنبياء والمرسلين، كما في قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، وكما في قصة مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، ولما سنحت الفرصة لم يكتم إيمانه، بل تحداهم أجمعين، وصدع بالحق. وكما في قصة حبيب النجار في سورة يس، وكما في قصة داود وجالوت: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} [البقرة:249] أي: يوقنون، {أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] إلى قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251].

علو همة أولياء الله الصالحين

علو همة أولياء الله الصالحين من أساليب القرآن أيضاً في مدح علو الهمة: أنه عبر عن أولياء الله عز وجل الذين كبرت همتهم بوصف الرجال، وذلك في مواطن البأس والجد والعزيمة والثبات على الطاعة، والقوة في دين الله، وتأتي كلمة الرجال كثيراً في مقام التفخيم والتعظيم، فهناك فرق بين الرجولة وبين الذكورة، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، والذكورة هذه صفة تشريحية توجد في اليهودي والنصراني والمجوسي وعابد النار وعابد الوثن كما توجد في المسلم، فهي صفة تشريحية، وأما الرجولة فليست لكل الناس، فقد يكون ذكراً ولا يكون رجلاً، ولا يستحق أن يتشرف بوصف الرجولة، يقول تبارك وتعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، فانظروا كيف وصفهم أنهم رجال. وقال سبحانه وتعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37] وهذا من علو همتهم، وقال أيضاً: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

أمر المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات

أمر المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات أمر الله المؤمنين في القرآن الكريم بالهمة العالية، والتنافس في الخيرات فقال عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، فهذا أمر بالمسابقة، وقال أيضاً: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وقال سبحانه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة:148]، وقال أيضاً: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فهذا التنافس محمود كما ذكرنا، وأما التنافس في الدنيا فهو مذموم ومنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تنافسوا) وامتدح الله أولياءه بأنهم: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] وبأنهم: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95]، فمن المعلوم والبدهي أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، ولكن الله سبحانه وتعالى نبه بنفي الاستواء فقال: (لا يَسْتَوِي)؛ ليذكر المؤمنين بما بينهما من التفاوت العظيم، فيأنف القاعد، ويترفع بنفسه عن الانحطاط من منزلته، فكيف يرضى بالدون؟! وكيف يرضى بالمنزلة السفلى؟! فيهتز للجهاد، ويرغب فيه، ويسعى في ارتفاع منزلته، وهذا شبيه بقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ومعلوم أن العالم لا يستوي مع الجاهل، ولكن المقصود من الآية أن تتحرك همة الذي لا يعلم حينما يسمع هذه الآية، ويسمع أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، فهذا تحفيز للهمم كي تصعد إلى الدرجات العليا.

حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على علو الهمة

حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على علو الهمة في السنة الشريفة نصوص كثيرة عن علو همة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن تسابقهم إلى المعالي، كيف لا وقد أوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)؟! وتجد كثيراً من الناس من أعراض هبوط الثقة بالنفس، وهبوط الهمة عندهم، أنك بمجرد أن تبدأ تناقشه، أو تكلفه بشيء يقول لك: لا أستطيع، ولا أقدر، فيعتذر ويهرب دائماً من أن يتحمل أي شيء من المسئولية حتى ولو كانت صغيرة، وهذه علامة سيئة، وملمح قبيح من ملامح الشخصية، فهو ضعف في الثقة بالنفس، وقلة في التقدير لها، وضعف في الهمة، بينما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم هنا يقول: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) فهذا حث للإنسان على الحرص حتى تصعد همته إلى تحقيق ما يصبو إليه، أو يكلَّف به. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة -النخلة الصغيرة-فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها) مع أنه لا يوجد وقت للإنسان حتى يغرسها، فالدنيا ستخرب بعد حين، ومع ذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الفرصة إلى أقصى مدى، ولا نتفكر في المستقبل، بل عش لحظاتك الحاضرة، ولا تقل: متى أغرسها؟! ومتى تثمر والقيامة على وشك القيام؟! لا، وإنما افعل ما تستطيعه فإنك ستثاب عليه، وسينفعك هذا الغرس. وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان من دعائه: (وأسألك العزيمة على الرشد)، يعني: أن تتحرك همته دوماً نحو الرشاد والأعمال الصالحة، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ بالله من العجز والكسل، وقال لأصحابه: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)، ومعالي الأمور هي الأخلاق الشرعية، والخصال الدينية، وليست الأمور الدنيوية؛ لأن العلو فيها نزول. وقد طمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الهمة العالية بأن الله عز وجل يمدهم بالمعونة على قدر سمو هممهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المئونة) أي: على قدر ما يكلفك الله سبحانه وتعالى تأتيك المعونة، فنحن نلاحظ الطالب -مثلاً- طوال السنة قد يعجز عن أن يذاكر كتاباً معيناً بينما نجده في أيام الاختبارات حينما يركز همته ويعليها، وتكون القضية قضية مصير، فإنه في ليلة واحدة يمكن أن يقرأ مجلداً كاملاً، وينتهي منه، ويحفظه، ويستطيع أن يدخل الامتحان ويتفوق فيه؛ لأنه استحث همته، وعلى قدر الهمة تأتيك المعونة من الله سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن تنجز عملاً في يوم أو يومين، وشرعت في ذلك وحرصت عليه، فإن الله يمدك بالعون على قدر نيتك وهمتك، وهذا مجرب. وقد بيَّن صلى الله عليه آله وسلم أن أكمل حالات المؤمن ألّا يكون له هم إلا الاستعداد للآخرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)، وامتدح صلى الله عليه وسلم قوماً بعلو همتهم فقال: (لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس)، فانظر إلى هذا التعبير عن علو الهمة. إن عامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين فيها تحريك للهمة؛ لأن الهمة هي قوة الإرادة، فهذه النصوص ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها واستحثاثها للتنافس في الخيرات، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر. فمثلاً: يقول عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه -أي: يقترعوا عليه- لاستهموا، -يعني: لشدة التنافس- ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً). ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)، وهذا الحديث كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وهذا ليس خبراً فحسب، بل المقصود منه الحث على الارتقاء، حتى تقارن بين هؤلاء وهؤلاء، وهو مثل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء:95] إلى آخر الآيات، كذلك هنا: (يقال لصاحب القرآن) فالمفروض على المؤمن الذي عنده همة أنه إذا سمع هذا الحديث أن تعلو همته إلى الترقي في الآخرة، فيحفظ القرآن الكريم، ويجتهد في ذلك؛ حتى يتمه، ففي استطاعتك أن تحدد منزلتك من الجنة بهذا الحديث، فكلما اجتهدت في حفظ القرآن كلما ارتقيت منزلة أعلى عند الله سبحانه وتعالى، فهذا لحديث يبشر حفظة القرآن وحملته القائمين بحقه بأعلى المنازل في الآخرة، فسوف ترتفع درجتك في الآخرة بعدد آيات القرآن التي تحفظها.

التحذير من التباطؤ عن الخيرات

التحذير من التباطؤ عن الخيرات حذر النبي عليه الصلاة والسلام من تعمد التباطؤ عن المسابقة إلى الطاعات فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) فهذا أمر للإنسان أن يقترب من الإمام في الصلوات، فيحرص دائماً على أن يكون في الصفوف الأول، وإذا تعمد التأخر فالجزاء من جنس العمل، وحتى لو دخل الجنة فإنه يؤخر في مقابل هذا التأخر الذي كان يتأخره عن إقامة الصلاة.

علو الهمة في الدعاء والتحذير من ضد ذلك

علو الهمة في الدعاء والتحذير من ضد ذلك وعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم علو الهمة في الدعاء، فأمرنا أن نسأل الله تعالى من فضله، ولا نستعظم شيئاً في قدرة الله وجوده وكرمه، ومن الأشياء المؤلمة أن الإنسان كلما طالع حث الرسول عليه الصلاة والسلام للأمة على علو الهمة يتذكر كثيراً من مواقف الصوفية، وكيف أنهم يخربون نفوس أتباعهم بتسفيل همتهم، وتظهر منهم أحياناً عبارات بشعة جداً فيها أشياء تصادم الدين، فهذا أحدهم يقول: أنا أستحيي أن أسأل الله الجنة، فأنا قدري أهون من أن أسأل الله الجنة! إلى آخر هذه المقولات المعروفة! فالرسول عليه الصلاة والسلام يحثك على أن تطمع في رحمة الله، وهل الجنة بعملك أم بفضل الله ورحمته؟ إن دخول الجنة إنما يكون بتوفيق الله سبحانه وتعالى وبرحمته، وحتى الطاعات التي تفعلها، فإنك لا تفعلها إلا بقوة الله؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فاستمد القوة من الله، واطلب المدد من الله عز وجل. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه) يعني: اطمع فيما شئت من رحمة الله وفضله، فالله سبحانه وتعالى من كرمه وجوده يغضب من العبد إذا لم يسأله، وهذا شيء عجيب! جاء في الحديث الصحيح: (من لم يسأل الله يغضب عليه). وبعض الشعراء يمدح رجلاً من البشر -والله عز وجل أولى بهذا الوصف بلا شك- فيقول: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا يعني: أنك لم تعلمني أن أطلبك إلا إذا أنت تريد أن تعطيني، فما دام أنك علمتني السؤال فأنت تريد أن تعطيني، فالله سبحانه وتعالى يعلمك أن تسأله، وأن تتوسل إليه، وأن تكثر من ذلك، وأن تطمع فيما شئت من رحمته وفضله عز وجل، فلا تقل: إن ذنوبي تحول دون أن أسأل الله العفو والمغفرة، ولا تقل: اللهم! ما كنت معذبي به في الآخرة فاجعله لي في الدنيا! فنفس اللسان الذي دعا بهذا البلاء يمكنه أن يدعو بالعافية، والله يحب العافية، ولعله يمنّ عليك بالعافية، فاحذر مظاهر تسفل الهمة في الدعاء. إن الدعاء أسهل شيء يحصل به الإنسان ما شاء من مطالب الدنيا والآخرة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)؛ لأن الدعاء شيء تنال به أعلى المراتب في الدنيا والآخرة، والدعاء كلام، والله عز وجل عطاؤه كلام، ومنعه كلام كما قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فكيف تقصر في الدعاء الذي هو سبب حصولك على كل المطالب التي قد تصبو إليها؟! فلا شك أن أعجز الناس من كان جالساً، مستريحاً، ومع ذلك لا يستوعب شروط الدعاء من الإخلاص والإخبات والتذلل لله، ولو استوعبها فإن الله يعطيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً). يقول الشاعر: لا تسألنّ بُنيَّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنَيّ آدم حين يسأل يغضب فابن آدم إذا سألته يغضب منك، ويتغير، ويتنمر، ويضجر منك، وأما الله سبحانه وتعالى فيغضب منك إذا لم تسأله، فهذا سبب من الأسباب العظيمة جداً في كسب الخيرات، وهو: علو الهمة في الدعاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا تمنى أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه عز وجل). وعن العرباض رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه سر الجنة) أي: لبابها وخلاصتها، وأفضل موضع فيها. فهذا لا شك أنه درس وإرشاد؛ لكي تعلو الهمة ولا تتخاذل، ولا تقول كما يقول بعض الصوفية: أنا صاحب ذنوب، ولا أستحق الجنة، فإنّا نقول له: كونك لا تستحقها هذا أمر لا خلاف فيه، فكلنا لا يستحقها، لكن إذا كنت تسأل كريماً فاطمع في رحمته، وتذلل له، وقد وعد بأن يعطي. وفي الحديث: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة). وأنكر صلى الله عليه وسلم على من خالف هذا الهدي، وتضاءلت همته، وتواضعت طموحاته، فعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار قد خفت فصار مثل الفرخ) (خفت) أي: سكن وسكت من الضعف، يعني: كما نقول الآن: صار جلداً على عظم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء تسأل الله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم! آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له فشفاه). وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله) فانظر إلى همة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، حافظ السنة، وراوية الإسلام، فلم يكن عنده رغبة ولا هَمَّ في أمر الغنائم، ولا الطعام، ولا الدنيا، ولا كان عنده وقت أصلاً حتى يسعى لكسب الرزق، فقد كان من أهل الصفة، وأهل الصفة ليسوا -كما يتصور بعض الناس- أناساً عاطلين عن العمل، بل كانوا مجندين تحت أمر الرسول عليه الصلاة والسلام في الصُّفَّة التي كانت في المسجد النبوي، ومكانها معروف إلى الآن، فهم كانوا جنوداً محبوسين في سبيل الله، حتى إذا أتت مهمة كلفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالقيام بها، فكان يرسل بعضهم كي يعلم الناس القرآن أو يعلمهم أمور الدين، ويرسل مجموعة في سرية للجهاد، أو للغزو وغير ذلك، فهم كانوا جنود رسول الله عليه السلام، قال الله: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:273] أي: حبسوا في سبيل الله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة:273] فلم يكن عندهم وقت لذلك، بل هم متفرغون لخدمة الدين، فيقول له عليه الصلاة والسلام: (ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟! فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، قال: فنزعت نمرة على ظهري، فبسطتها بيني وبينه حتى أني أنظر إلى القمل -ولعلها النمل ولكن تصحفت- يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه قال: اجمعها فصَّرها إليك -يعني: ضم هذه الكساء أو الثوب إلى صدرك- فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني). ويروى أنه جاء رجل إلى زيد بن ثابت فرضي الله عنه فسأله عن شيء، فقال له زيد: (عليك بـ أبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله تعالى ونذكره إذ خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا، فسكتنا فقال: عودوا للذي كنتم فيه، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم! إني أسألك ما سألك صاحبي هذان، وأسألك علماً لا ينسى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: آمين، فقلنا: يا رسول الله! ونحن نسأل الله تعالى علماً لا ينسى، فقال: سبقكم به الغلام الدوسي) رضي الله تعالى عنه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فقال: عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد -يعني: لم يستجب له أحد من قومه- فرأيت سواداً عظيماً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيت سواداً عظيماً سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً عظيماً سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: اللهم اجعله منهم! ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة). فهكذا كانوا رضي الله تعالى عنهم لا تلوح منقبة أخروية، ولا فضيلة دينية إلا صعدوا إليها، واستشرفوا لها، وتنافسوا فيها، فقد ذكرنا أن عالي الهمة لا يسمع بفضيلة إلا حثّ نفسه إلى أن ينالها مهما كانت، وأما فاتر الهمة فليس عنده تقدير لنفسه، ولا نقول: سافل الهمة؛ فقد يكون ضعيف الهمة إلى حد ما، فلا ترقى همته لهذا، فمثلاً: إذا سمع قول الرسول عليه السلام: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، فعالي الهمة تتحرك همته إلى أن يكون هو هذا المجدد، أما الآخر الذي تتواضع همته فيقول: لا، أنا مسكين، وأنا جاهل، وأنا عاجز، لذلك بالهمة يُفرَّق بين شخص وآخر. ثبت في الصحاح وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها) يعني: يخوضون فيمن يدفعها إليه، يقال: وقع الناس في دوكة، إذا وقعوا في خوض واختلاط، قال: (فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها، حتى قال عمر: ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ) وهو لا يريد الرئاسة، لكنه يريد كلمة: (ويحبه الله ورسوله)، (فلما أصبح أعطاها علياً، ففتح الله على يديه). وعن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: (كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبت عنده، فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله، سبحا

علو همة السلف في التسابق في الطاعات

علو همة السلف في التسابق في الطاعات ومن تسابقهم في الطاعات الذي يعكس علو هممهم رضي الله تعالى عنهم ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلونا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعط). ومن ذلك أيضاً ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد ذهب أهل الدثور -جمع دثر، وهو: المال الكثير- بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء). ويروى عن سليمان بن بلال رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعاً الخروج معه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يخرج أحدهما، فاستهما، فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد رضي الله عنهما: إنه لا بد لأحدنا أن يقيم فأقم مع نسائك، فقال سعد: لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا، فاستهما فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فقتله عمرو بن عبد ود). فهذا تسابق في أمور الآخرة وتنافس فيها؛ ولذلك لا إيثار في أمور الآخرة كما ترون هنا، وهذا على أحد أقوال العلماء، فمن قلة الفقه أن تكون لك فرصة في أن تصلي في الصف المقدم -مثلاً- وتقول لأخيك: تقدّم أنت، فهذا قلة فقه، فالمفروض أنك أنت تسابقه، وتحتل المكان قبله، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا أقيمت الصلاة يتبادرون ويتسابقون إلى الصف الأول، وأيضاً إذا كانت النوبة لطالب أن يسمع على شيخ القرآن مثلاً، فلا يقول لأخيه: تقدم أنت قبلي، بل يتنافس ويتسابق ويكون المقدم في أعمال الآخرة، كما كان الصحابة يتنافسون في أمور الآخرة، وأما في الدنيا فيلقيها في نحر من يطلبها.

أهمية التحلي بكبر الهمة

أهمية التحلي بكبر الهمة إنّ من سجايا الإسلام ومحاسنه التحلي بكبر الهمة، وهذه العبارة ذكرها فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في حلية طالب العلم فقال: من سجايا الإسلام التحلي بكبر الهمة، فكبر الهمة يجلب لك -بإذن الله- خيراً غير مجذوذ، ويجري في عروقك دم الشهادة، والركض في ميدان العلم والعمل، فلا تُرى واقفاً إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطاً يديك إلا لمهمات الأمور، فإن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها، إن التحلي بكبر الهمة يطرد منك سفاسف الآمال والأعمال، ويجتث منك شجرة الذل والهوان والتملق والمداهنة، فارسم لنفسك كبر الهمة، ولا تنفلت منها، وقد أومأ الشرع إليها في فقهيات تلابس حياتك؛ لتكون دائماً على يقظة من اغتنامها، منها: إباحة التيمم للمكلف عند فقد الماء، وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء؛ لما في ذلك من المنة التي تنال من الهمة منالاً. يعني: لو أن رجلاً افتقد الماء، فيجوز له التيمم في هذه الحال، ولو كان معه مال وجب عليه أن يشتري به ماءً ليتوضأ به، أما إذا كان هذا الشخص لا ماء له ولا مال، وجاءه رجل آخر عنده ماء فقال له: أنا أعطيك ماءً تتوضأ به هبة مني، ولا آخذ منك مالاً، فهل يلزمه شرعاً أن يقبل هذا الماء كي يتوضأ به أم أن له أن يتيمم؟ الشريعة تقول: لا يجب عليه أن يقبل الماء؛ لما في ذلك من المنة، وله أن يتيمم حفاظاً على تحرره من منة الغير. قال: يقول بعض العلماء في مثل هذه المنن: تفقأ عين الحكيم. ومن هذه الأمثلة أيضاً: أن الرجل لا يلزمه الحج ببذل غيره له. يعني: لو أن رجلاً قال لك: أنا أعطيك مالاً لتحج به فلو قبل ذلك فلا حرج عليه شرعاً وإن كان على حساب غيره، لكن هل يجب عليه قبول ذلك؟ بمعنى: هل يصير بذلك مستطيعاً بحيث تلزمه فريضة الحج؟ A لا، لا يلزمه ذلك، فالرجل لا يلزمه الحج ببذل غيره له، ولا يصير مستطيعاً بذلك، سواء كان الباذل قريباً أو أجنبياً، لما في ذلك من المنة التي تلزمه. يقول منصور بن المعتمر: إن الرجل ليسقيني شربة من ماء فكأنه دق ضلعاً من أضلاعي. يعني: أنه يتنزه عن ذلك. وقد بايع الرسول عليه الصلاة والسلام بعض الصحابة على ألا يسألوا الناس شيئاً، ولقد كان السوط يقع من أحدهم وهو راكب فينزل ويأخذه، ولا يطلب من أحد أن يعطيه إياه، وقد قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام: (واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس). ويقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم إن الغنى العالي عن الشيء لابث ويقول الشنفرى وهو شاعر جاهلي من الصعاليك: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متحوَّلُ أُديم مطال الجوع حتى أميته وأصرف عنه الذكر صفحاً فأذهلُ وأستفّ ترب الأرض كي لا يرى له عليّ من الطول امرؤ متطوِّلُ ولكن نفساً حرّة لا تقيم بي على الضيم إلا ريثما أتحوَّلُ فإذا كان هذا قول هذا الشاعر الجاهلي فماذا يقول المسلم؟! نختم الكلام في هذه المجموعة من المقدمات الضرورية -قبل أن نخوض في مجالات علو الهمة- بالتنبيه على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين هم أعلى الأمم همماً، فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أنهم رأس الأولياء، وصفوة الأتقياء، وقدوة المؤمنين، وأسوة المسلمين، وخير عباد الله بعد الأنبياء والمرسلين رضي الله تعالى عنهم أجمعين، جمعوا بين العلم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الجهاد بين يديه، شرفهم الله بمشاهدة خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم، وصحبته في السراء والضراء، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى صاروا خيرة الخيرة، وأفضل القرون بشهادة المعصوم صلى الله عليه وسلم.

علو الهمة [7]

علو الهمة [7] من أعظم ما ينبغي أن تصرف الهمم إليه تربية الأطفال تربية إسلامية، لاسيما في زماننا هذا الذي تتناوش فيه أبناؤَنا الفتنُ من كل حدب وصوب، يذكي لهيبها دعاة على أبواب جهنم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، فإن لم يتدارك الآباء أبناءهم بالتربية الإسلامية السليمة اجترفتهم الأهواء الضالة، وصاروا وبالاً على الإسلام والمسلمين.

أطفال المسلمين وعلو الهمة

أطفال المسلمين وعلو الهمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فندخل إلى فصل من أهم فصول هذا البحث الذي نحن بصدده، وهو المتعلق بأطفال المسلمين وعلو الهمم عندهم، فإننا حينما نقول: إن الأطفال هم المستقبل، فإن هذا الشعار حقيقة لا مجاز، وواقع لا خيال، ومن ثمَّ ينبغي أن يصرف الهم الأكبر إلى تهيئتهم؛ ليكونوا مؤتمنين على مستقبل أمة الإسلام، ولن يحصل هذا إلا إذا تخلينا عن نظرتنا إلى هؤلاء البراعم على أنهم لعبة ملهية نتسلى بها، وبالتالي ننسى ونغفل عن أن الاهتمام بالأطفال وتربيتهم يبدأ مبكراً جداً أكثر مما نتصور. يقول أستاذنا الدكتور محمد صباغ حفظه الله تعالى: سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: أن رجلاً جاء يسترشده لتربية بنت له ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار، وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته حق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه. ونحتاج إلى تفصيل في هذا الأمر حتى لا يساء فهمه، ولكن سنرجئ الكلام في موضوع تربية الأطفال منذ الصغر -إن شاء الله- إلى مناسبة أخرى بعد أن نفرغ من هذا البحث.

أهمية تربية الأولاد على علو الهمة

أهمية تربية الأولاد على علو الهمة ينبغي علينا أن نصرف قدراً عظيماً من الجهد إلى توجيه الآباء إلى الأساليب العلمية الصحيحة لتربية أولادهم في شتى مراحل نموهم، فالمؤلم والمؤسف أن أغلب الآباء لا يدركون أن تربية الأولاد علم وفن، وكثير من الناس لم يخطر بباله قط أن هذا علم وفن له أصوله وله قواعده، وأي خطأ فيه يكون ثمنه باهضاً. فعلى الموجهين وعلى الآباء والمدرسين أن ينتبهوا إلى خطورة هذا الأمر؛ كي يشب الأولاد أصحاء نفسياً، وإلا فما أفدح الخسائر التي تتكبدها الأمة إذا أهملت تربية أبنائها! ونحن اليوم في أتون الحرب العميقة العلمية المدروسة، فنرى الأساليب الحديثة تسخر كلها في طعن الأمة في أبنائها، وفي مستقبلها، لإخراج أجيال ملحدة، لا تعرف الله، ولا تحب الله، ولا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تذوب حباً للأجانب، وتعظيماً للكفار، وبغضاً للإسلام وجهلاً بأحكامه، وتاريخه، وتعاليمه، فالكفار قد بدءوا بتخريب القلاع الإسلامية منذ الوقت الباكر جداً؛ كي يختصروا الطريق، ولا شك أن أول قلعة يتحصن بها الطفل باتفاق المربين هي الأسرة، فالأسرة هي أقوى مؤسسة تربوية على الإطلاق، وهي أكبر مؤسسة تربوية، وفي مقدمة الأسرة يتصدر الوالدان، وبالذات الأب. يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عود الشر، وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وصيانته بأن يؤدبه، ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق. وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء. فجهل الآباء يخرج أولاداً فاسدين، ومنحرفين، ويحرم الأمة من خيرهم. ونحن المسلمين صلتنا بموضوع تربية الأولاد عريقة وعميقة، وليس علماً حديثاً أو ناشئاً، وإنما بدأ مع بداية الدعوة الإسلامية، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى أنزل في كتابه آية تتلى في المحاريب إلى آخر الزمن، وهي متعلقة بالمحافظة على الأولاد، وهي قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يقول أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه في تفسيرها: (علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم). وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه حفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) يعني: مما سيسأل عنه الإنسان يوم القيامة أهل بيته، ولده وزوجته وأهل بيته، ولا ترقى أي نظرية تربوية في العالم إلى هذا المستوى الراقي من أن الإعداد للجواب عن هذا السؤال بين يدي الله سبحانه وتعالى داخل من صلب عقيدتنا، ومن صلب الحقائق الغيبية التي نؤمن بها. وعن معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة). وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته). وما أحسن ما قال بعضهم: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى بحجىً ولكن يعلمه التدين أقربوه يعني: لا بد من توجيه ولا بد من تعويد وتربية على التدين، ورحم الله من قال: قد ينفع الأدب الأولاد في صغرٍ وليس ينفعهم من بعده أدب إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولن تلين إذا قومتها الخشب قال ابن خلدون: التعليم في الصغر أشد رسوخاً، وهو أصل لما بعده. إذاً: الاهتمام بتربية الأولاد يبدأ مبكراً جداً، وهو أشد رسوخاً، ويعتبر الأساس لما بعده؛ لأنه يشكل شخصيته الباكرة التي ينتهي نموها في مرحلة معينة كما ينتهي نموه الجسدي، وعند دخول سن العشرين يكون قد اكتملت شخصيته، وفرغ من نموه النفسي. ويتأكد الاهتمام بهذه التربية في زماننا هذا الذي تتناوش فيه أطفالنا وأبناءنا الفتن من كل صوب، يذكي لهيبها دعاة على أبواب جهنم، دعاه من جلدتنا، ويتكلمون بألستنا، وكل همهم أن يخرجوا من أصلابنا أجيالاً من الملاحدة الذين يرضون بالعلمانية رباً وديناً ومنهاج حياة، فإن لم يتدارك الآباء أبناءهم بالتربية الإسلامية القوية اجترفتهم العلمانية الملحدة، وضمتهم إلى صفوفها ليحاربوا الله ورسوله والمؤمنين، فإن أكثر من يحارب الإسلام الآن ويطعن في قلبه هم هؤلاء المنافقون الذين يحملون أسماء المسلمين، ينادون أحمد ومحمد وعبد الله وما لهم من الإسلام إلا الأسماء، أما الحقيقة فهم ذئاب تحت هذه الأسماء التي يتسترون تحتها، ويطعنون الإسلام ويحاربون المسلمين، ويريدون استئصال دين الله أشد مما يفعل اليهود والنصارى وسائر الكفرة الصريحون، ولا شك أن هذا واقع قد لمسناه في البلاد التي سبقت إلى اعتناق هذا المذهب اللاديني المخرب الذي هو العلمانية، يقول الشاعر: ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد فالأبناء يتعرضون للفتن من كل حدب، ومن كل صوب من مناهج التعليم من الإعلام من رفقة السوء مما يرون في الشوارع من الفساد الذي ذاع وشاع وطم وملأ السهل والوادي والجبل وما ترك شبراً من الأرض إلا عمه واخترقه، فإذا كنت صاحب غنم، وعلمت أن هذه الأرض كثيرة السباع، ثم نمت عنها، فسوف ينوب عنك في رعاية هذه الغنم الأُسد، وإذا كانت الأسد أو السباع أو الذئاب ترعى الغنم فماذا نتوقع؟ هل تبقي منها على شيء؟! فإذا لم يكن الأب متيقظاً حذراً حارساً لأبنائه من هذه الفتن، دارساً القواعد العلمية والأساليب العلمية التربوية الصحيحة في التعامل مع هذه الفتن لانجاء وإنقاذ أبنائه؛ ضاع منه أولاده.

اهتمام الإسلام بتربية الأولاد على علو الهمة

اهتمام الإسلام بتربية الأولاد على علو الهمة اشتد حرص الإسلام على هذه المهمة الجسيمة، ونحن حينما نتكلم عن تعظيم الإسلام لهذا الموضوع لن نأتي بكلام من خارجٍ، إنما من صلب القرآن والسنة، ومن صلب سيرة السلف، فنحن في الحقيقة لسنا متخلفين عن الغرب بحضارته المادية، بل نحن في الحقيقة متخلفون عن الإسلام، فتخلفنا ليس عن الكفار في أمور الدنيا وزينتها، بل نحن متخلفون عن الإسلام، ونريد أن نرتقي إلى مستوى هذا الإسلام في كل أحوالنا حتى في الآداب الشرعية، فما أكثر السلوكيات الخاطئة التي تصدر من بعض الناس، وبعضهم يكون ملتزماً بدينه لكنه لم يتفقه فيه، سواء في آداب الاستئذان أو في حفظ الأمانات أو غير ذلك. وهذا الخلل ليس مصدره الالتزام بالدين قطعاً، إنما مصدره التخلف عن الإسلام، والتخلي عن آدابه، فهذه المعاني التي يطرب لها الغرب الآن فيما يزعمونه من الحقوق والدعوة إلى التربية ومنهاج التربية الصحيحة في زعمهم، كانت هي بالنسبة للمسلمين حديثاً مكرراً مر عليه قرون وقرون وقرون والأمة تتنادى بهذا الأمر، وتؤديه على أكمل وجه، إلى أن تخلينا عن الإسلام، فخرجت هذه الأجيال التي يخشى منها على الإسلام أكثر مما يخشى من اليهود والنصارى، فهذا دكتور في الأزهر يؤلف طاعناً في القرآن، ويؤلف طاعناً في الأنبياء، وشاتماً للأنبياء، وطاعناً في شريعة الله سبحانه وتعالى! ويجد من إخوانه الملاحدة من يدافع عنه ويحميه، ويجعله أستاذاً ومفكراً، هذا المفكر يحمل اسماً من أسماء المسلمين، ونحن ما تعرفنا عليه إلا في صفحة الحوادث، وصفحة المجرمين، وفي القضايا والنيابة وعند القبض عليه وغير ذلك، ومع ذلك يجعل من الأدباء الذين يصنعهم أعداء الدين من أجل استئصال الدين!! لقد اشتد حرص السلف على مباشرة هذه المهمة الجسيمة، حتى إن الخليفة أبو جعفر المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية يقول لهم: ما أشد ما مر بكم في هذا الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا. أي: الحيلولة بيننا وبين تربية أولادنا أكبر مصيبة وقعت علينا ونحن في هذا الحبس. واشتد نكير السلف على من يصرف همه إلى الكبار فقط، ويهمل الصغار، وما ذاك إلا لأن الأمة محتاجة إليهم، وهم الأعمدة التي تبنى لتحمل ثقل البناء فيما بعد. رأى عمرو بن العاص حلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة، فلما قضى طوافه جلس إليهم، فنحو الفتيان عن مجلسهم، وأبقوا الكهول والكبار في السن، فقال لهم عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: (لا تفعلوا، أوسعوا لهم، وأدنوهم، وألهموهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين، قد كنا صغار قوم فأصبحنا كبار آخرين). وقد علق الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى على هذه العبارة لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه قائلاً: وهذا صحيح لا شك فيه، والعلم في الصغر أثبت، فالذي ينبغي أن يعتنى بصغار الطلبة لاسيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم، فلا ينبغي أن يجعل صغرهم أو فقرهم وضعفهم مانعاً من مراعاتهم والاعتناء بهم. وكان الإمام محمد بن الحسين الشاشي الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى ينشد: تعلم يا فتى! والعود رطب وطينك لين والطبع قابل

الاهتمام الخاص بالأطفال الذين تظهر عليهم علامات علو الهمة

الاهتمام الخاص بالأطفال الذين تظهر عليهم علامات علو الهمة وننتقل إلى نقطة أخرى هي في الحقيقة مهمة جداً، وذات صلة وثيقة بهذا الموضوع، ينبغي أن يصرف اهتمام خاص إلى طبقة خاصة من الأطفال؛ لأن بعض الأطفال تظهر عليهم علامات تبشر بأن هذا الطفل ما هو إلا شخصية فذة تعد بمستقبل مشرق، وتعد بأنه سوف يترك بصمة على صفحة الحياة. فهذا فن من الفنون التي أتقنها علماء المسلمين، وأولوها اهتماماً كثيراً؛ لأن الطفل الصغير ذا الهمة العالية لا يخفى منذ زمن الصبا، وربما أحياناً وهو في المهد تظهر عليه علامات النجابة والتفوق والنبوغ، وعلو الهمة حتى من الطفولة، فتظهر منه علامات النجابة ومخايل العبقرية في الصغر، ولا يكاد يشك ذو فراسة إيمانية صادقة في صيرورة صاحبها إلى تسلم ذرى العلى والتربع على قمة المجد، والارتقاء إلى منصب الإمامة، وقد اهتم المسلمون بالاجتهاد في الاكتشاف المبكر للنابغين، ووضعوا لذلك معايير دقيقة، وأولوا الصغار الذين توسموا فيهم النجابة رعاية خاصة ترصداً لما تفرسوه فيهم من الصدارة، فهذا الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى يتحدث عن هذه المعايير فيقول: الأمر الذي يمكن الوصول إليه بالاستقراء أن الذين يصطفيهم الله سبحانه وتعالى لمرتبة الولاية، لا يكونون أشخاصاً عاديين، وإنما ينتقي الله سبحانه وتعالى لولايته وفضله أشخاصاً بصفات معينة، ويقول: تأملت الذين يختارهم الحق عز وجل لولايته والقرب منه، وقد سمعنا أوصافهم، ومن نظنه منهم مما رأيناه، فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصاً كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته، فتراه حسن الوجه، معتدل القامة، سليماً من آفة في بدنه، ثم يكون كاملاً في باطنه، سخياً جواداً عاقلاً، غير خب ولا خادع، ولا حقود ولا حسود، ولا فيه عيب من عيوب الباطن، فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان، كأنه في الصبا شيخ، ينبو عن الرذائل، ويفزع من النقائص، ثم لا تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدلاً على أغصان الشباب، فهو حريص على العلم، منكمش على العمل، حافظ للزمان، مراعٍ للأوقات، ساعٍ في طلب الفضائل، خائف من النقائص، ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر، ويمنعه من الخطأ إن هم، ويستخدمه في الفضائل، ويستر عمله عنه حتى لا يراه منه. انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله تعالى. وعن محمد بن الضحاك أن عبد الملك بن مروان قال لـ ابن رأس جالوت: ما عندكم من الفراسة في الصبيان؟ أي: ماهي المعايير التي تقيسون بها أو تتوقعون بها المستقبل الباهر لبعض هؤلاء الصبيان؟ فقال: ما عندنا فيهم شيء؛ لأنهم يخلقون خلقاً بعد خلق، غير أنا نرمقهم، فإن سمعنا منهم من يقول في لعبه: من يكون معي؟ أي: من يلعب معي؟ رأيناه ذا همة وحنو سبق فيه، وإن سمعناه يقول: مع من أكون؟ كرهناها منه. أي: أنهم إذا سمعوا الولد الصغير يقول: من يكون معي؟ يعرفون أن هذا الولد عالي الهمة، وأنه بطبيعته شخصية قيادية، يصلح للإمامة؛ لأنه يقول: من يكون معي؟ فيرى أن الآخرين يكونون تبعاً له بدون تكلف، وهذا دليل على أنه أوتي خصلة الشخصية القيادية، لكن إذا رأوا الولد يقول: مع من أكون؟ فمعناه أنه ذيل، وأنه يتبع غيره، فهذه أحد المعايير التي وضعت منذ المئات من السنين.

قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأفعال

قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأفعال كان أول ما علم من ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر رجل عليهم وهم يلعبون، فصاح الرجل عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقرى، يعني: أبى أن يوليه دبره، لكن تراجع إلى الخلف، كما يفعل المجاهد والمقاتل الشجاع الذي لا يعطي عدوه دبره أبداً، في حين أن زملاءه كلهم فروا، ثم قال: يا صبيان! اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه! يعني: عينوني أميراً عليكم، وهيا بنا نهاجم هذا الرجل، ونطرده عن طريقنا. ومر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صبي يلعب مع الصبيان، ففر الصبيان ووقف هو، فقال له عمر: (ما لك لم تفر مع أصحابك؟! قال: يا أمير المؤمنين! لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك). فمثل هذه الشخصية تستحق أن نصفها بأنها شخصية واعدة، تعد بخير كبير في المستقبل، وهي أحق بقول القائل: رُفعت إليك وما ثُغرْ تَ عيون مستمع وناظر ورأوا عليك ومنك في المـ ـهد النهى ذات البصائر وقوله: (ما ثُغرْتَ): يقال: ثغر الغلام إذا سقطت أسنانه الروابع اللبنية، وكأنه يقول: رفعت إليك العيون وتطلعت إليك وأنت صغير. ونظر الحطيئة إلى ابن عباس وهو يتكلم في مجلس عمر فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم في قوله؟! فقال ابن مسعود: (لو بلغ أسناننا ما عشره منا رجل). يعني: أن هذا الرجل دهش لما رأى ابن عباس يتكلم في مجلس أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ببلاغة وفصاحة وعلم، فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم -أي: ارتفع عنهم- في قوله؟! فقال ابن مسعود: لو بلغ أسناننا ما عشره منا رجل. يعني: لو كان في السن مثلنا ما بلغ أحد منا عشر علمه. ورأى بكير بن الأخنس المهلب -وهو الأمير البطل قائد الكتائب- وهو غلام فقال: خذوني به إن لم يسود سوراتهم ويبرع حتى لا يكون له مثلُ أنه يتنبأ أن هذا سوف يسود أشراف قومه وهو طفل صغير. وقال حمزة بن بيض لـ مخلد بن يزيد بن المهلب: بلغت لعشر مضت من سنيـ ك ما يبلغ السيد الأشيب فهمّك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا لِدَاتك: جمع لِدى، يعني: مَن وُلد معك، ويوافقك في السن. ونظر رجل إلى أبي درة في مجلس المأمون فقال: إن همته ترمي به وراء سنه. وقال يحيى بن أيوب العباد: حدثنا أبو المثنى قال: سمعتهم بمرو يقولون: قد جاء الثوري، قد جاء الثوري. فخرجت أنظر من هذا الثوري الذي يعظمونه هذا التعظيم، فإذا هو غلام قد نقل وجهه، أي: بدأ ينبت شعر وجهه. قال الذهبي في الإمام الثوري رحمه الله تعالى: كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب رحمه الله تعالى. وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلاً فقال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]. وكان الإمام البخاري رحمه الله تعالى ذكياً سريع الحفظ، فقد حفظ سبعين ألف حديث وهو صغير، وكان ينظر إلى الكتاب فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة. وقال محمد بن حاتم: كنت أختلف أنا والبخاري وهو غلام إلى الكتاب، فيسمع ولا يكتب، وبقي على ذلك أياماً، فكنا نقول له: ما لك لا تكتب مثلنا؟! فلما بلغ ما كبتناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها له، فقرأها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نصلح كتبنا من حفظه! فالله سبحانه وتعالى لا يعطي منصب الإمامة في الدين لأي إنسان، بل لا بد أن يكون متأهلاً ذا جدارة واستحقاق. وروى الذهبي عن محمد بن أبي حاتم، قال: سمعت الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى يحكي عن طفولته يقول: كنت أختلف إلى الفقهاء بمروٍ وأنا صبي، فإذا جئت أستحيي أن أسلم عليهم. أي: لأنه صبي صغير يجلس مجالس العلماء الكبار والمحدثين، فكان يستحي أن يسلم عليهم، فدخل مرة فقال له مؤدب من أهل مرو: كم كتبت اليوم؟ قال: فقلت: اثنين، وأردت بذلك حديثين، وليس رقم اثنين، فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: لا تضحكوا فلعله يضحك منكم يوماً. فهذا الشيخ تفرس في الإمام البخاري النجابة منذ صغره. وقال بكير بن منيف: سمعت البخاري يقول: كنت عند أبي حفص أحمد بن حفص أسمع كتاب الجامع لـ سفيان الثوري من كتاب والدي، فمر أبو حفص على حرف ولم يكن عندي ما ذكر فراجعته، يعني: أنه رد على الشيخ خطأً من نسخته المكتوبة التي يقرأ منها من حفظه وهو طفل صغير، فصحح له الأولى والثانية والثالثة، فسكت ثم قال: من هذا؟ قالوا: ابن إسماعيل، فقال: هو كما قال، واحفظوا أن هذا يصير يوماً رجلاً. وهناك فرق بين الرجولة وبين الذكورة، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، الرجولة منصب شريف، ولذلك لا تقال إلا في عظائم الأمور، كقوله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]. وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كنت يتيماً في حجر أمي، فدفعتني إلى الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام -يعني: يسكتهم ونحو ذلك- فلما جمعت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث والمسألة فأحفظها، فلم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى عظم فآخذه، فأكتب في العظام، فإذا امتلأ طرحته في جرة، فاجتمع عندي حُبان. والحب هو: وعاء الماء، وهو مثل الزير أو الجرة، أي: امتلأت الجرة من العظام التي كان يكتب عليها. وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: كنت وأنا في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية، فأحفظها أنا، ولقد كان الصبيان يكتبون إملاءهم، فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: لا يحل لي أن آخذ منك شيئاً. وقد كان طفلاً يتيماً بجانب هذه النجابة التي ظهرت عليه منذ صغره. قال الشافعي: ثم لما خرجت من الكتاب كنت ألتقط الخزف والدفوف -جمع رق وهو: جلد رقيق يكتب فيه- وكرب النخل -وهو السعف العريض- وأكتاف الجمال، وأكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين وأستوهب منها الظهور -أي: ظهور الأوراق المكتوبة؛ لأن ظهرها يكون فارغاً- فأكتب فيها، حتى كان لأمي حُبان مملأتها أكتافاً. وحفظ الإمام أحمد بن حنبل القرآن في صباه، وتعلم القراءة والكتابة ثم اتجه إلى الديوان، يمرن على التحرير. يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن نفسه: كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة. وكانت نشأة الإمام أحمد فيها آثار النبوغ والرشد، حتى قال بعض الآباء: أنا أنفق على ولدي، وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته. وكان عم الإمام أحمد يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم بها الخليفة، وفي مرة أرسلها مع ابن أخيه أحمد بن حنبل فتورع عن ذلك، ورمى بها في الماء، تأثماً من الوشاية، والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر لمسلم. أي: ولفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثير من أهل العلم والفراسات، حتى قال الهيثم بن جميل: إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه. وقال الحافظ ابن قدامة رحمه الله: بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت أن في هذه البلاد صبياً يقال له: أحمد بن تيمية، سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً لعلي أراه، فقال له خياط: هذه طريق كُتّابه -يعني: أنه يمر إلى الكُتّاب من هذه الطريق- وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهباً إلى الكُتّاب، فلما مر قيل: ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ، وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الأحاديث ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأها، فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه، ثم قال: أسمعه علي، فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتقاها، فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله. فكان كما قال رحمه الله تعالى.

قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأقوال

قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأقوال تقدمت قصص عن النجباء من الأطفال وأن سيماهم تظهر في وجوههم، وأيضاً تظهر سيماهم في كلامهم، فقد ينطق الله سبحانه وتعالى الغلام الحدث بما يعجز عنه فطاحل الأدباء، فيصير ذلك علامة كاشفة لما وضع الله بين جنبيه من الحكمة، وما متعه به من الذكاء. روي عن معمر في تفسير قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] أن الصبيان قالوا ليحيى عليه السلام: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقت. قال الشيخ: يتيم بن يوسف المراكشي يحكي عن أحوال شيخ الإسلام الإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى - وهي المدينة التي ولد فيها، ولذلك ينسب إليها فيقال: النواوي أو النووي - والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا ينشغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن أوصيه به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام. وترجمة الإمام النووي من أروع التراجم، وفيها من العبر شيء عظيم. كان الإمام النووي رحمه الله تعالى غلاماً صغيراً فاستيقظ في الليلة السابعة والعشرين من رمضان في وسط الليل، وجعل ينادي من في البيت ويقول: ما هذا النور الذي أراه قد ملأ الدار، ففطن أبوه لمقام ولده، فأولاه اهتماماً وعناية خاصة، حتى صار هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى. وإياس بن معاوية قاضي البصرة كان يضرب به المثل في الذكاء والدهاء والسؤدد والعقل، تقدم إياس وهو صبي إلى قاضي دمشق، ومعه شيخ في خصومة بينه وبين الشيخ، فقال: أصلح الله القاضي! هذا الشيخ ظلمني واعتدى علي وأخذ مالي، فقال القاضي: ارفق به، ولا تستقبل الشيخ بهذا الكلام، فقال إياس: أصلح الله القاضي! إن الحق أكبر مني ومنه ومنك. وهو لم يخالف الأدب؛ لأنه بدأ الكلام بالتلطف وقال: أصلح الله القاضي! هذا الشيخ ظلمني واعتدى علي وأخذ مالي، وهذه ظلامة، فقال القاضي: ارفق به، ولا تستقبل الشيخ بهذا الكلام، فقال إياس: أصلح الله القاضي! إن الحق أكبر مني ومنه ومنك، فقال: اسكت، فقال: إن سكتُّ فمن يقوم بحجتي؟! فقال: تكلم فوالله ما تتكلم بخير، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فنطق بخير الكلام وأفضل الكلام، أراد أن يغلب القاضي لما قال له: تكلم فوالله ما تتكلم بخير، فبين له أنه قادر أن يتكلم بالخير، فرفع صاحب الخبر هذا الخبر إلى الخليفة، فعزل القاضي وولى إياس بن معاوية مكانه. وأدخل على الرشيد صبي له أربع سنين، فقال له: تمن. يعني: ما تحب أن أهب لك، فأجاب الصبي الصغير فقال: حسن رأيك. والآن لو تقول لولد: ما تحب أن أهب لك؟ فسيقول: الشوكولاته، واللعب، والكرة. وحكى ابن الجوزي أن المعتصم ركب إلى خاقان يعوده، والفتح صبي يومئذٍ، فقال له الخليفة المعتصم: أيما أحسن دار أمير المؤمنين أو دار أبيك؟ فماذا أجاب الصبي الصغير الفتح بن خاقان؟ قال: إذا كان أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن، فأراه فصاً في يده فقال له: هل رأيت يا فتح! أحسن من هذا الفص؟ قال: نعم، اليد التي هو فيها! فانظر إلى اللباقة وحسن الجواب. وأنا أعلم صبياً صغيراً جداً كانت تقول له أمه: قل لي خبراً يسرني، فقالت له مرة: قل لي خبراً يحزنني؟ فقال لها: لن تستطيعي أن تصبري، فقالت: قل؟ قال: سأقول لك خبراً يحزنك جداً، وبعد إلحاح شديد، وهو يشفق عليها، قال لها: مات النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا صبي صغير وينتقي هذا الجواب، حيث عرف أن أحب شخص ينبغي أن يكون إلى كل مسلم هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وأكبر مصيبة وقعت بالأمة المحمدية هي موت النبي عليه السلام؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (ليعز المسلمين في مصائبهم المصيبة بي). فأكبر عزاء لمن يفقد أي شخص أن يتذكر موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومرّ الحارث المحاسبي وهو صغير بصبيان يلعبون على باب رجل تمار، -يعني: يبيع التمر- فوقف الحارث ينظر إلى لعبهم، وخرج صاحب الدار ومعه تمرات، فقال للحارث: كل هذه التمرات، فقال الحارث: ما خبرك فيها؟ -يعني: من أين أتيت بها؟ - قال: إني بعت الساعة تمراً من رجل، فسقطت منه هذه التمرات، فكل أنت هذه التمرات التي سقطت من هذا الرجل، فقال الحارث المحاسبي وهو طفل صغير للتاجر التمار: أتعرفه؟ قال: نعم، فالتفت الحارث إلى الصبيان الذين يلعبون وقال: أهذا الشيخ مسلم؟! قالوا: نعم، فمر وتركه. يعني: مضى الحارث وتركه، فتبعه التمار حتى قبض عليه وقال له: قل لي ما في نفسك؟ فقال: يا شيخ! إن كنت مسلماً فاطلب صاحب التمرات حتى تتخلص من تبعته كما تطلب الماء إذا كنت عطشاناً شديد العطش، يا شيخ! تطعم أولاد المسلمين من سحت وأنت مسلم؟ فقال الشيخ: والله لا اتجرت للدنيا أبداً. وقال عبد الرحمن بن محمد صاحب كتاب صفات الأولياء: حدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري بإسناده أن فتحاً الموصلي رحمه الله تعالى قال: خرجت أريد الحج، فلما توسطت البادية إذا غلام صغير لم تجر عليه الأحكام، فقلت له: إلى أين؟ فقال: إلى بيت ربي، قلت: إنك صغير لم تجر عليك الأحكام، فقال: لقد رأيت أصغر مني مات -يعني: فهو يبادر إلى الحج حتى لو لم يكن مكلفاً؛ لأنه يخشى أن يموت- فقلت: إن خطوك قصير، قال: علي الخطو وعليه التبليغ إن شاء، ألم تسمع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]؟! قلت: لم أر معك زاداً؟ قال: زادي في قلبي اليقين، حيثما كنت أيقنت أن الله يرزقني، قلت: إنما أردت أنك تتزود الخبز والماء، قال: ما اسمك؟ قال: قلت: فتح، قال: يا فتح! أسألك؟ قلت: سل؟ قال: أرأيت لو أن أخاً لك من أهل الدنيا دعاك إلى منزله، أما كنت تستحي أن تحمل معك طعاماً لتأكله في منزله؟ قلت: بلى، قال: فإن مولاي دعاني إلى بيته، فهو يطعمني ويسقيني، قال فتح: فجعلت أعجب من أمره وبيانه، وزهده مع صغر سنه. وروى أيضاً صاحب قصص الأولياء ومراتب الأصفياء بإسناده قال: ذكر سهل التستري الله وهو ابن ثلاث سنين -أي: كان يذكر الله سبحانه وتعالى وعمره ثلاث سنوات- وصام وهو ابن خمس سنين حتى مات، وساح في طلب العلم وهو ابن تسع سنين، وكانت تلقى مشكلات المسائل على العلماء ثم لا يوجد جوابها إلا عنده وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وحينئذٍ ظهرت عليه الكرامات، وكان يفتي في مسائل الزهد والورع، ومقامات الإرادات وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولما بلغ ثلاث عشرة سنة عرضت له مسألة، فلم يجد في تستر من يجبيه عنها، فقال لأهله: جهزوني إلى البصرة، فلم يجد بالبصرة من يستفتيه، فذكر له حمزة بن عبد الله بعبدان فقصدها، فوجد عنده ما يريد وصحبه. وقال أيضاً: بلغني أن أبا الحسين أحمد بن محمد النوري المدعو بـ النوري لما قرأ القرآن الكريم ألزمه أبوه أن يدخل معه في حانوته، فكان إذا أصبح أخذ أورقاً ودواة -أي: حبراً وقلماً- وذهب يسأل عما جهل من كتاب الله تعالى، ويكتب ما يقال له، ثم يأتي أباه، وإذا بعثه في حاجة أخذ ألواحه ودواته، فيسأل من مر به من أهل العلم، فإذا غاب يزجره أبوه لغيبته، ويتهدده، وربما ضربه على ذلك أحياناً، وذكر الغزالي فقال له أبوه: ليت شعري -يعني: ليتني أعلم- يا بني! ما تريد بعلمك هذا؟ قال: أريد أن أعرف الله تعالى وأتعرف إليه، قال: كيف تعرفه؟ قال: أعرفه بتفهم أمره ونهيه، قال: وكيف تتعرف إليه؟ قال: أتعرف إليه بالعمل بما علمني، قال أبوه: يا بني! لا أعرض لك في أمرك هذا ما بقيت. وقال علي بن الجعد: أخبرني أبو يوسف القاضي قال: توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة، فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعتني بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي، قالت لـ أبي حنيفة: ما لهذا الصبي مفسد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة: مري يا رعناء! هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت، وذهب عقلك. قال أبو يوسف: ثم لزمت أبا حنيفة، وكان يتعاهدني بماله، فما ترك لي خلة -يعني: حاجة- فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس هارون الرشيد، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون الرشيد فالوذج، فقال لي هارون: يا يعقوب! كل منه، فليس يعمل لنا مثله كل يوم، فقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين! فقال: هذا فالوذج بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مما ضحكت؟ قلت: خيراً أبقى الله أمير المؤمنين! قال: لتخبرني، وألح علي، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك! وقال: لعمري إن العلم ليرفع وينفع ديناً ودنيا، وترحم على أب

أهمية التشجيع لرفع همة الأطفال

أهمية التشجيع لرفع همة الأطفال من الأمور المهمة جداً في هذا المضمار أمر تشجيع الأطفال على الخير، وعلى علو الهمة، والتشجيع في الإسلام ليس أمراً قليل القدر، فقد رفع الإسلام التشجيع إلى حد أن جعله فريضة على غير القادر على إقامة فروض الكفايات، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وطلب الولاية والإمامة، فالفقهاء يقولون في مثل هذه الفروض الكفائية: إنها واجبة على الكفاية، فإن قام بها البعض سقط الوجوب عن الآخرين، وإن لم يقم بها أحد أثموا جميعاً، يعني: القادر وغير القادر، يأثم القادر لأنه قصر في فعل ما هو قادر عليه، وغير القادر يأثم لأنه لم يشجع القادر، فواجب غير القادر أن يحمل القادر على ذلك العمل ويشجعه، ويحثه ويؤزه أزاً، فإن لم يقم به أحد أثموا جميعاً، فغير القادر يأثم لأنه قصر فيما يستطيعه، وهو التفتيش عن القادر، وحمله على العمل، وحثه وتشجعيه وإعانته على القيام به، بل وإجباره على ذلك. وقد تسابق المسلمون في شتى العصور على تشجيع الموهوبين وكبيري الهمة بكافة صور التشجيع، فكانوا ينفقون الأموال الجزيلة لنفقة النابغين من طلاب العلم الذين حبسوا أنفسهم على طلبه؛ ليغنوهم عن سؤال الناس أو الاشتغال عن العلم بطلب المعاش، فهذا الإمام أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي، قال فيه الصفدي: لم أره قط إلا يسمع أو يكتب أو ينظر في كتاب، ولم أره على غير ذلك، وكان له إقبال على أذكياء الطلبة يعظمهم وينوه بقدرهم. وكان المعلمون في الكتاتيب وفي المساجد وفي الأزهر إذا لمسوا في طفل النجابة وسرعة التعلم، احتضنوه، وساعدوه على طلب العلم، وزودوه بالمال من مالهم الخاص أو من الأوقاف، وكان في طليعة المشجعين لطلبة العلم الخلفاء والأمراء. روى البخاري في صحيحه: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخل ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام حدث مع أشياخ بدر، قال ابن عباس: فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لمَ تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر: إنه من حيث علمتم -يعني: أن هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آل البيت- فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، وانظر إلى ذكاء ابن عباس كيف كان يراقب ويحلل ويختزن المواقف في ذهنه، فدعاه يوماً ففهم وتفرس أنه دعاه حتى يختبره أمامهم، ويظهر فضله في العلم عليهم، يقول ابن عباس في الرواية: فما رأيت أنه دعاني يومئذٍ إلا ليريهم علمي، قال عمر: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟! فقلت: لا، قال: ما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له -يعني: أن هذه الآية فيها نعي رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى نفسه- قال: (إذا جاء نصر الله والفتح) وذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] يعني: تهيأ للقاء ربك، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. هكذا كان أمير المؤمنين يقوي ثقة ابن عباس بنفسه.

من الأخطاء في تربية الأبناء

من الأخطاء في تربية الأبناء وأخطاؤنا التربوية كثيرة جداً؛ لأننا للأسف لا نعرف أن هذا علم له قواعد، وقليل من يهتم بهذه الأمور، فنقع في بعض الأخطاء التي لها تأثير خطير على نفسية الطفل وقدراته فيما بعد، مثل تحطيم الثقة في نفسه، فالطفل في الرابعة أو في الخامسة أو قبل ذلك يبدأ يحاول أن يستقل، وكما ينمو في بدنه فإن شخصيته تنمو، وتمر بمراحل، فيبدأ يحاول أن يستقل، ويثبت في نفسه أنه قادر على أن يفعل أشياء بنفسه، فيحاول -مثلاً- أن يأكل بالملعقة، فالأم تضربه وتمنعه أن يأكل بالملعقة؛ لأنه يلطخ ثيابه وكذا وكذا، وهذا خطأ كبير، أو يريد أن يلبس النعل وفيه الرباط فيتأخر كثيراً، فالأم تقول: نحن مستعجلون تعال فيربطه له هي، وهذا خطأ، بل عليها أن تتركه يمارس هذه الوظائف، ولأنه الآن يمر بمرحلة جديدة، لأنه يثبت ذاته، ويريد أن يمارس الأشياء بنفسه، فيترك ليعمل حتى ولو كان في عمله خطأ. ولو أن الطفل كتب أو رسم شيئاً لا ينبغي فللوالد أن ينهره أو يمزق عليه الورقة أو يخذله ولا يشجعه، وهذا بلا شك له أثر سيء جداً في نفسية الطفل فيفقد الثقة بنفسه، والمفروض أن تشجعه وتكلفه أولاً بمهام بسيطة جداً يستطيع أن يقومها، ثم تترقى به إلى أعظم منها وهكذا. لا نريد أن نفصل في هذا، لكن باختصار شديد أمر التشجيع وأمر المكافئة أمر مهم، وتكون فوراً عقب العمل الحسن، لا تؤجل إلى يوم غد ولا يقال للولد: انتظر حتى يأتي والدك يعطيك كذا، بل عقب الفعل الحسن الذي فعله الولد يكافأ في الحال؛ لأن هذا مما يشجعه ويدفعه إلى الترقي، كما كان أمير المؤمنين يقوي ثقة ابن عباس في نفسه، ويغذي همته، والسلف كانوا يحرصون جداً على هذه المعاني، كانوا أساتذة في هذه الأمور التي يتغنى بها الكفار الآن، ويدّعون أنهم سابقون فيها، والمعلم الأول في ذلك هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما ندري أي كرامة تكون عند هذا الصبي أو هذا الشاب الذي يضربه أبوه أو أمه بالنعل، فإذا كانت تهدر كرامته بهذه الطريقة أينتظر من مثل هذا عندما يكبر أن يكون له كرامة أو يثأر لها أو يغار عليها؟! بل هذا تحطيم لنفسيته، وتربيته على الهوان والتذلل، وأنه إنسان حقير، فبعض الآباء حينما يعاقب الولد أو يشتد عليه بالإنكار يستعمل عبارات كلها تحقير للذات، وهذا يطفئ همته، ويجعل نفسه منحطة وسافلة. نعم له أن يشتد عليه، لكن بعبارات مهذبة، أما أن يقول له: أنت حقير، أنت كذا، من العبارات التي فيها تحقير للذات، فلا شك أن هذا يؤثر في نفسيته تأثيراً سيئاً جداً، فيحتقر ذاته، وكلما يكلف بشيء يقول: لا أستطيع، لا أقدر، لا أقوى على هذا؛ لأنه ليس عنده ثقة بنفسه، وينتابه الشعور بالدونية وبالنقص، بل بعضهم يقول لولده: أنت غير نافع، أنت غير صالح، أنت لا أمل فيك، وكل هذه العبارات تشوه نفسيته تماماً، وكما أنك لو قطعت يده أو قطعت أنفه تشوه جسمه فهذه تشوه نفسيته، ويكون الطفل مشوهاً نفسياً، ويشعر بالنقص، ويعاني في المستقبل عناءً شديداً.

من أخبار السلف في التشجيع

من أخبار السلف في التشجيع روى البخاري في صحيحه أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل بعض الصحابة عن آية في القرآن، فلم يعرفوا الإجابة، وكان بينهم عبد الله بن عباس وهو صغير السن، فانظر إلى ابن عباس الذي ربي على الثقة بالنفس، فإنه لما وجد الكبار كلهم لا يستطيعون أن يتكلموا قال: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! انظر إلى التلطف والأدب والذكاء الشديد في العبارة، لم يقل: أنا أعلم ما لا تعلمون، فقال عمر: يا ابن أخي! قل ولا تحقر نفسك. فأجابه ابن عباس بما كان يعلمه، وهذه هي التربية الصحيحة: أن يربيه على الاعتزاز بالذات، وعلى قوة الشخصية، والثقة بالنفس. وعلى هذه الثقة سار ابن عباس منذ طفولته، غير مبالٍ بتثبيط من هو أقصر منه همة، انظر إلى ابن عباس، وانظر إلى خطورة الصحبة، فإن الإنسان إذا صاحب من هو أقل منه همة لا بد أن يتضرر به ويحطمه إلا أن يفارقه، يقول ابن عباس: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار -ومن أدبه أنه لم يسمه-: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، يعني: ربما يموتون، وربما يرتحلون ويخرجون إلى الجهاد، فتعال نتزاحم على الصحابة، ونتردد على الصحابة لنأخذ من علمهم، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟! يعني: هل الأمة تنتظرك يا ابن عباس حتى تتعلم العلم، والصحابة موجودون. قال: فتركته، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائل - يعني: نائم وقت القيلولة قبل صلاة الظهر- فأتوسد ردائي على بابه. انظر إلى الأدب مع شيخه، عرف أن هذا وقت قيلولة، فلا يزعجه ويطرق الباب، بل يفرش الرداء وينام على باب البيت إلى أن يخرج إلى الصلاة، قال: فأتوسد ردائي على بابه، وتسف الريح علي من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما جاء بك؟! هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فيسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فكان يقول: هذا الفتى كان أعقل مني. يقول الشاعر: فحيهّلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن العزم يكفيك حاملا كان ابن شهاب رحمه الله تعالى يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة سنكم، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم. وكان هارون الرشيد رحمه الله يغدق العطايا والصلات على طلبة العلم والعلماء، حتى قال ابن المبارك: فما رأيت عالماً ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للحرمات في أيامٍ بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم، ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة. بلغ حب بعض الأمراء للعلم والعلماء إلى الحد الذي جعله يعتبر العلماء في رعايته الخاصة، ومن هؤلاء الأمراء المعز بن باديس أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، فقد كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره إلى حضرته، وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعول على آرائه، ومنحه أعظم الرواتب. وكذلك فعل الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، الذي أنشأ بيت الطلبة، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه أن بعض حاشيته أنكروا عليه أنه يعظم هؤلاء الطلبة النابغين، وينشغل بهم عنهم، خاطب هؤلاء الحاشية فقال لهم: يا معشر الموحدين! أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجؤهم، إلي فزعهم، وإلي ينسبون. وبلغت عناية المنصور بالطبيب أبي بكر بن زهر حداً عجيباً، فقد كان أبو بكر يقيم عند الخليفة مدداً طويلة، ولا يرخص له بالسفر إلى أهله، حتى قال شعراً في شوقه إلى ولده الصغير، فلما سمع المنصور هذا الشعر أرسل المهندسين إلى أشبيليا، وأمرهم بدراسة بيت أبي بكر وحارته، وتشييد مثله في مراكش، ففعلوا ما أمرهم، ونقلوا عيال أبي بكر إليه، فلما رآه ابن زهر اندهش، وحصل عنده من السرور ما لا مزيد عليه، فقد صمم له بيتاً بنفس تصميم البيت والحارة التي يسكن فيها، وأحضر له أولاده وفاجأه بهذه الكرامة. وفي القرن السادس عشر الميلادي قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتجميع النابغين من جميع القرى والأمصار، وتوفير الرعاية لهم التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فن وعلم، مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضارياً وعسكرياً حتى صارت تهدد بغزو أوروبا.

التشجيع عند الغربيين

التشجيع عند الغربيين والتشجيع موجود الآن في الغرب، ويوجد الآن بصورة محدودة في بلادنا، لكن مما ينبغي أن نعرفه أن الغرب والشرق تقدموا تقدماً كبيراً جداً في العلوم التجريبية، ومع ذلك فإن معرفتهم بأهمية الاهتمام بالنابغين وكبار الهمة من الصغار أمر حديث جداً بالنسبة إليهم، بينما هو معروف من بداية الإسلام، أعني: الاهتمام بالنوابغ وبكبار الهمة، وإعدادهم ليحملوا الراية في المستقبل، فرعاية النابغين أهملت في أوروبا وأمريكا حتى بداية القرن العشرين، وقبل ذلك ما كانوا يعرفون شيئاً عن هذا؛ لأن هؤلاء الكفرة الغربيين حتى بداية القرن العشرين كانوا يعتبرون أن العباقرة والنابغين والمتفوقين عندهم نوع من الجنون، وكان هناك رجل يدعى لانبروزو مؤلف كتاب ( MAN OF GENIVS) ومعناه: (الرجل العبقري)، وهناك كتاب آخر لرجل اسمه نوبست يعني: جنون العبقرية، يعتبر أن العباقرة مجانين، فكانوا ينظرون إلى العباقرة والأذكياء والمتفوقين أنهم مرضى ومجانين، وقد نشر الكتابان في لندن ونيويورك في أواخر القرن التاسع عشر، وأثبت فيهما العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون، وقدم البراهين على أن النابغين مجانين. ثم بدأت فكرة الغربيين عن النابغين تتحسن بعد أن نشر (ترمان) كتابه: (الطفل النابغة يرشد)، سنة 1949م فصاروا يتراجعون عن فكرة أن المتفوقين أو العباقرة مجانين، حيث قدم في هذا الكتاب البراهين على أن الأطفال الأذكياء أصحاء نفسياً وجسمياً واجتماعياً، فبدأ يتكون رأي عام يتعاطف مع النابغين، وحتى منتصف القرن العشرين كان الأمريكيون يعتبرون رعاية النابغين ترفاً تربوياً، ولم يبذلوا جهوداً جادة في الكشف عنهم إلا بعد أن أطلق الروس أول مركبة فضاء سنة 1957م، فحينئذٍ أفاق الأمريكان، وشعروا بالخطر من تفوق الروس عليهم، فاتجهوا إلى رعاية النابغين، واعتبروها مسألة حياة أو موت، وجندوا علماء التربية وعلم النفس والاجتماع، وعقدوا المؤتمرات والندوات لتخصيص وتنظيم ورعاية فئات النابغين، وتشجيعهم على إظهار نبوغهم في جميع المجالات؛ حتى نهضوا بأمتهم، وأنشئت في كل ولاية العديد من المعاهد والفصول المتوسطة في رعاية النابغين في جميع المجالات حتى بلغ عددها سبعمائة معهد، تشرف عليها حوالى ثلاثمائة جامعة في أمريكا، كما أسهمت المؤسسات التجارية والصناعية والعلمية في تمويل برامج الكشف عن النابغين ورعايتهم. الشاهد من هذا: أننا متخلفون عن الإسلام، فانظروا كيف اهتم الإسلام بهذا الأمر من عهد الصحابة إلى عصور الازدهار الأخيرة، وكيف كانوا يجلون النابغين والعباقرة وكبيري الهمة، ويعطونهم عناية ورعاية خاصة.

قصص تبين أثر التشجيع في شحذ الهمم

قصص تبين أثر التشجيع في شحذ الهمم فيما يتعلق بالتشجيع وأهميته في دفع النابغين إلى الأمام يحكي الأستاذ علي الطنطاوي حفظه الله قائلاً: قرأت مرة أن مجلة إنجليزية سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الأداء، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع، وقالت: إنها في تلك السن وبعد تلك الشهرة والمكانة تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير. والتثبيط وكسر الهمم واحتقار النفس له أثر سيء جداً في تحطيم المواهب، وحرمان الأمة من عبقرية أصحابها، وإبداعهم. وضرب الطنطاوي مثالاً لذلك بالشيخ محمد أمين بن عابدين العلامة الحنفي الجليل صاحب أشهر وأعظم كتاب في الفقه الحنفي المعروف بحاشية ابن عابدين، قال الشيخ الطنطاوي: كان في الشام هؤلاء المثبطون من أبناء عائلات معينة احتكرت الوظائف العلمية، وكانت كلما أحست برجل خارج هذه العائلات عليه آثار النباهة والحرص على التعلم يذهبون إلى هذا الشخص ويحاولون تثبيطه حتى لا ينافسهم في هذه الوظائف التي احتكروها سنين طويلة، فرأى المثبطون من محمد أمين بن عابدين الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقد والعقل الراجح، فخافوا منه فذهبوا يكلمون أباه -وكان أبوه تاجراً- ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكب به عن طريق العلم، وجعلوا يكلمونه ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فسكت الوالد فكان منه هذا الولد المبارك ابن عابدين صاحب الحاشية وهي أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي. وهكذا أرادوا أن يصرفوا أستاذنا العلامة السلفي الكبير محمد كرد علي عن العلم، فبعثوا إلى والده بشقيقين من آل كذا، وهما قد ماتا فلست أسميهما على رغم أنهما قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالباً، فما زالا بأبيه ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع، ولا منه فائدة، ويلحان عليه ويلازمانه حتى ضجر فتركهما، فكان منه ولده الأستاذ كرد علي أبو النهضة الفكرية في الشام وقائدها، ومدير معارف سوريا الأسبق، ومن مصنفاته خطط الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإمارة الإسلامية، والإسلام والحضارة الغربية، والمقتبس، ومن مصنفاته أيضاً: المجمع العلمي العربي بدمشق، والشعراء والكتاب من الشباب.

خطورة التثبيط

خطورة التثبيط وذكر الشيخ علي الطنطاوي حفظه الله مثالاً على خطورة التثبيط في إطفاء شعلة الهمة في قلب طالب العلم النابه فقال: إن الأمة حرمت كثيراً من الناس العباقرة بسبب التثبيط، وتثبيطهم يكون بسبب والد جاهل أو أم جاهلة، أو بأسباب كثيرة، وكان ينبغي لهم عدم الالتفات إلى المثبطين، ورعايتهم رعاية خاصة، يقول: ها هو ذا العلامة الشيخ سليم البخاري رحمه الله مات وما له مصنف رسالة فما فوقها، على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه، وسبب ذلك أنه صنف أول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه، فسخر منه وأنبه، وقال له شيخه: أيها المغرور! أبلغ من قدرك أن تصنف؟! وأنت وأنت، وظل يثبطه، ثم أخذ الشيخ الرسالة فسجر بها المدفأة، فكانت هي أول مصنفات العلامة سليم البخاري وآخرها بسبب التثبيط. قال: وأول من سن سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله تعالى، الفيلسوف المؤرخ الجبلي، الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية. وهو من نوادر الشخصيات في الزمن المتأخر، ومن أشهر تلامذته: الأستاذ محمد كرد علي بك، وخالي الأستاذ محب الدين الخطيب. والشيخ محب الدين الخطيب هو خال الشيخ علي الطنطاوي، والشيخ علي الطنطاوي هو سوري لكن أباه من طنطا في مصر. ومما كتب الشيخ طاهر الجزائري في ذم التثبيط: وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم في هذا الوقت الذي يتنبه فيه الغافل، وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم، ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولن يرى أحد من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فالذي ينبغي للجرائد الكبيرة أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة، والتحذير منها؛ ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها، ليخلصوا من ضررهم. وكان الشيخ في حياته يشجع كل عامل، ولا يثني أحداً عن غاية صالحة، حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له: إن هذا غير ممكن، فتفل عزيمته، وتكسر همته، لكن أقرئه، وحبب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته.

عالي الهمة يجعل التثبيط له تحديا

عالي الهمة يجعل التثبيط له تحدياً قال الطنطاوي: إن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة، حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها، ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالماً من أكابر العلماء، أو أديباً من أعاظم الأدباء، وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والشجيع من حرفة الحياكة إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس حتى القبة، نشأ الشيخ محمد إسماعيل الحائك خياطاً عامياً، ولكنه كان محباً للعلم، محباً للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس، ولا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه، ويلطف به لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشد ذلك من عزمه، فاشترى الكتب، وصار يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها، وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحول العلماء، وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي، وانصرفوا عن المفتي الرسمي العمادي إلى هذا الحائك الذي كان أعلم أهل بلده، فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشر، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في القيمرية، وهو على أتان له بيضاء، فيسلم فيردون عليه السلام، فمر يوماً كما كان يمر، فوجد على الباب أخاً للمفتي، فرد عليه السلام فقال له ساخراً: إلى أين يا شيخ؟ أذاهبٌ أنت إلى إستانبول لتأتي بولاية الإفتاء؟! -يعني: أنه أراد أن يعيره بأنه ليس هو المفتي، وأن المفتي هو أخوه، وإنما هو متطفل على مقام الإفتاء-وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال: إن شاء الله. وهنا وقفة، ربما كانت السخرية أحياناً سبباً عظيماً من أسباب التحدي، فأنا أعرف مدرساً للغة الفرنسية كان يثبط طالباً دائماً، ويقول له: أنت غير نافع، وغير فالح إلى آخر هذه العبارات المشهورة من المدرسين المقصرين في هذا الجانب، فإنهم يفعلون هذه الأفاعيل، ولا يفطنون إلى خطر عواقبها، فهذا الطالب عزم على أن يتقن اللغة الفرنسية أشد الإتقان، وبالفعل تفوق وأتى بدرجات عالية، ودخل كلية الآداب، وتخصص في اللغة الفرنسية، وصار مدرساً للغة الفرنسية بعد أن كان ضعيفاً جداً فيها. الشاهد: أن السخرية والتثبيط إذا أخذ بنوع من التحدي قد تصعد به الهمة، وممكن أن هذا الكلام يثبط، وذلك حسب نفسية الطفل، وحسب البيئة التي حوله، وحسب التشجيع، فيمكن أن يتحول الأمر من سخرية إلى تحدي، حتى يثبت لنفسه ولهذا الشخص الذي يحتقره أنه جدير بالاحترام، وجدير بألا يكون كما يصفه. ونعود إلى القصة الأولى: لما سخر منه العماديون، وقال له أخو المفتي: إلى أين يا شيخ! أذاهب أنت لتأتي بوالية الإفتاء؟! وضحك وضحك من حوله، الشيخ لم يزد على أن قال: إن شاء الله، فماذا فعل؟ استمر في طريقه وهو راكب الأتان، حتى إذا ابتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله وأعطاهم نفقته وسافر متجهاً إلى إستانبول، وما زال يفارق بلداً ويستقبل بلداً حتى دخل القسطنطينية، فنزل في خان قريب من دار المشيخة العثمانية، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب أو يكتب في صحيفة، فيعرف من زيه أنه عربي، ويحترمونه ويجلونه، ولم يكن الترك قد جنوا الجناية الكبرى بالحركة الكمالية، فكانوا يعظمون العربي؛ لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناساً، واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم، فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يوماً رجل منهم: إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماءها، ولم يجدوا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون ما عندهم جواب على السؤال، فهل لك أن تراها؛ لعل الله يفتح عليك بالجواب؟ قال: نعم، قال: سر معي إلى المشيخة، قال: باسم الله، ودخلوا على ناموس المشيخة -يعني: السكرتير- فسأله الشيخ محمد إسماعيل عن المسألة، فالسكرتير أو الناموس رفع رأسه فقلب بصره فيه بازدراء؛ لأن هيئة الشيخ وملابسه لم تكن على هيئة مرضية، فقد كان رجلاً لا يهتم بالمظهر، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضي، فألقاها إليه -يعني: رمى له بالمسألة وانصرف إلى عمله- فأخرج الشيخ نظارته، فوضعها على عينه فقرأ المسألة، ثم أخرج من منطقته -أي: الحزام- دواة، وهذه الدواة النحاسية الطويلة هي التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة، والدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل، حتى سود عشر صفحات، وما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب، فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام العثماني وقرأها كاد يقضي دهشة وسروراً من هذا العلم الذي وجده في هذه الأوراق، فقال للناموس: ويحك! من كتب هذا الجواب؟! قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت، قال: علي به، فجاء، فجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يقوم بين يديه، إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ ولم يحفط منها شيئاً. ودخل على شيخ الإسلام فقال له: السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه، وعجب الحاضرون من عمله، ولكن شيخ الإسلام سُرَّ بهذه التحية الإسلامية، وأقبل عليه يسأله حتى قال له: سلني حاجتك. فقال: إفتاء الشام وتدريس القبة. قال: هما لك، فاغد عليّ غداً. فلما كان من الغد ذهب إليه، فأعطاه فرمان التولية، وكيساً فيه ألف دينار. وعاد الشيخ إلى دمشق فركب أتانه، ودار حتى مر بدار العماديين، فإذا صاحبنا على الباب، فسخر منه وقال: من أين يا شيخ؟! فقال الشيخ: من هنا من إستانبول؛ أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني. ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، وسلّم الشيخ عمله في حفلة حافلة. همم الرجال إذا مضت لم يثنها خدع الثناي ولا عوادي الذأم

علو الهمة [8]

علو الهمة [8] فضّل الله عز وجل بعض البشر على بعض في القدرات والطاقات والنباهة وعلو الهمة، ومن ثَم فإنه ينبغي على كل المربين الاهتمام بأصحاب هذه القدرات، وتوفير المناخ المناسب لهم؛ لأنهم يوفرون على الأمة الكثير من الجهد، ويتقدمون بها مراحل طويلة، فالمسئولية ملقاة على عاتق الجميع، وأهم من يُعنى بذلك هما الوالدان، ومثلهما سائر المربين.

خصائص كبيري الهمة

خصائص كبيري الهمة اجتهد علماء المسلمين منذ فجر الإسلام في الكشف عن النابغين وكبيري الهمة، خاصة من الناشئين، وذلك لأنهم كانوا يدركون أنهم سبقوا كل المناهج العصرية أو الحديثة بمئات السنين، وما نشأ اهتمام السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم من الخلف بهذه القضية إلا لأن كبار الهمة أو النابغين يختصرون الطريق على الأمة؛ لأن هؤلاء بما لهم من خصائص وميزات يختصهم الله سبحانه وتعالى بها إذا صلح واحد منهم فإنه يَصلحُ به خلق كثير، فلذلك ركز العلماء على اختصار الطريق إلى المجد وإلى عزة المسلمين عن طريق البحث عن هؤلاء الفائقين أو النابغين من كبيري الهمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يميز هؤلاء بمواهب واستعدادات فطرية، وخصائص ذاتية متميزة، فهم ليسوا مجرد أشخاص ماهرين في أداء اختبارات معينة أو مهارات من نوع خاص، لكن هؤلاء يخلقهم الله سبحانه وتعالى ويرزقهم خصائص شخصية واجتماعية وبدنية تفوق ما عند أقرانهم العاديين، ومن أهم هذه الخصائص -وإن كان هذا ليس من صلب بحثنا، وإنما هو إشارة عابرة- سلامة البدن من العاهات أو الآفات، وقوة الذاكرة، وسرعة التعلم، والتفوق في التحصيل الدراسي، وحب الاستطلاع، والدافعية للإنجاز، فالواحد منهم عنده قوة وهمة لأن ينجز ما يظنه غيره مستحيلاً، فيكون عنده عزيمة وتصميم وهمة، بحيث يكون -في الغالب- مستعداً لأن يتحدى العالم أجمع في سبيل أن يفرض عليه ما يعتنقه من أفكار. وكذلك من خصائصهم الثقة بالنفس، فلا يكون مصلحاً من هو عاجز أو متواكل أو هياب يخاف من تحمل المسئولية ويهابها. ومن خصائصهم الاستقلالية، وذلك لأنه يكون عندهم النزعة الاستقلالية، فلا ينقادون بسهولة، ولا يقلدون، ولا يكون إمعات. ومن خصائصهم المثابرة والتفوق في القيم النظرية، وفي الميول العلمية، والنضوج الاجتماعي، والنشأة في ظروف اجتماعية كبيرة، وبهذا الاختصار أشرنا إلى بعض الخصائص التي يتميز بها كبيرو الهمة.

أهمية النضوج الاجتماعي في تنشئة علو الهمة

أهمية النضوج الاجتماعي في تنشئة علو الهمة والأمر المهم الذي يهمنا ضمن هذه الخصائص هو عامل النضوج الاجتماعي، والنشأة في ظروف اجتماعية طيبة؛ لأننا إذا تصفحنا صفحات التاريخ سنجد أن كثيراً من الناس رزقوا الكثير من هذه المواهب، ولكن البيئة من حولهم إما أنها لم تكتشفهم، وإما أنها وجهتهم توجيهاً بعيداً عن مواهبهم، وإما أنها حطمتهم، فكانت هذه البيئة أباً أو أماً جاهلة، أو أن الواحد من هؤلاء نشأ في ظروف اجتماعية كالفقر، أو ظروف ضاغطة، أو مع صديق هابط الهمة، أو غير ذلك، ففي نفس الوقت حينما نريد أن نسلط الضوء على هذا الموضوع لا يمكن أن نجد واحداً من أعلام التاريخ الإسلامي إلا وهو عالي الهمة، فأعلام التاريخ من العلماء والمصلحين لو لم يكونوا كبيري الهمة ما كانوا أبداً ليجدوا مكاناً في صفوف عظماء الإسلام. فعلو الهمة هو قاسم مشترك بين كل من يترك بصمة في تاريخ هذه الأمة فيما يتعلق بتأثير البيئة المحيطة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، فالإنسان لا يولد عالماً، وإنما الإنسان بجانب المواهب التي يهبه الله سبحانه وتعالى إياها لابد من أن تربيه وتوجهه البيئة المحيطة به، والجماعة التي تتولى رعايته وتتعهده، حتى يمتلك ناصية العلم الذي يطلبه، فلا شك أن الأمة التي تهتم بالنابغين تصنع بهم مستقبلها المشرق؛ لأنهم هم الذين يقدرون على إصلاح أمرها، ويسهمون في ازدهارها، والأمة التي تهمل رعاية نابغيها أو توجههم بعيداً عن الدين وبعيداً عن الإسلام سوف تشقى، وذلك حين يتولى أمورها جهلة قاصرون يوردونها المهالك، أو مرضى نفسيون معقدون يسومونها سوء العذاب، أو فشلة أصحاب نفوس دنيئة وهمم خسيسة يبيعونها لأعدائها بثمن بخس، فكل هذا حصاد إهمال أن يلي الأمر أو أن يوكل الأمر إلى غير أهله، فيوفر لأمثال هؤلاء، ثم يسومون الناس سوء العذاب. ومع كون المواهب استعدادات فطرية يولد هذا النابغة أو هذا المتفوق أو كبير الهمة، فهو في الأصل عنده استعدادات، لكن لابد مع الاستعداد من البيئة، وهناك نماذج كثيرة في الحقيقة في هذا، من ذلك طفل كان يدعى سيد جلال الأفغاني، التحق بجامعة البترول في الظهران وعمره عشر سنوات في العام الجامعي 1980 - 1981م، حيث دخل الجامعة وعمره عشر سنوات، وكان قد حصل على الثانوية العامة وعمره ثماني سنوات، وتعلم الأردية والإنجليزية والروسية وعمره تسع سنوات، فهذا واضح جداً أن فيه مواهب ميزه الله سبحانه وتعالى بها. فأقول: هذه مسئولية المدرسين والمربيين والموجهين، فعليهم أن يبحثوا عن هذه الشخصيات ويتولوها بالرعاية، فمن كان موسراً فلينفق على مثل هذا ويساعده، وإن كان عالماً لا يملك إلا النصيحة فلينصحه، وكل يبذل أي وسيلة من وسائل التشجيع، فإن العلماء كانوا ينقبون عن هؤلاء النابغين من كبيري الهمة؛ حتى يوفر الوقت ويختصر الطريق لإصلاح الأمة، فمع كون هؤلاء أصحاب استعدادات فطرية، لكنها لا تؤدي إلى النبوغ إلا إذا توافرت لأصحابها الظروف البيئية المناسبة والتربة الصالحة اللازمة لتنميتها وصقلها. وتعد الأسرة -خاصة الوالدين- أو من يقوم مقامهما أهم عناصر البيئة تأثيراً في إظهار النبوغ، فأخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق هي الأسرة، والوالدان خاصة. فالبيئة إذا اهتمت بالكشف المبكر عن النبوغ، وإذا اكتشفت أن فيها ولداً نابغاً فلا شك في أن أبناءها إذا كانوا على وعي سيهتمون جداً بزراعة أو بذر بذور الهمة العالية في قلوب هؤلاء الأطفال منذ نعومة أظفارهم، وهذا هو السر الذي يفسر لنا سر اتصال سلسلة النابغين من كبيري الهمة من أبناء أسر معينة في التاريخ الإسلامي، حيث نجد أسراً معينة وجد أن فيها علماء كثيرين؛ لأن البيئة تكون بيئة على قدر كبير من العلم والوعي والحماس لرسالة الدين وخدمة الإسلام، فمن أجل ذلك كان أحدهم منذ صغر الولد -وربما قبل أن يولد الولد- كان يدعو الله أن يرزقه أو يخرج من صلبه من يجدد الدين، أو من يكون إماماً من أئمة الهدى، فكان الاهتمام موجوداً قبل أن يولد الطفل، بل إن الاهتمام بالأطفال يبدأ قبل الزواج، بأن يتحرى المرأة الصالحة ذات الدين، وقد وجدنا هذا في عدة أسر، كآل تيمية، وآل السيوطي، وآل الألوسي، وغير ذلك من الأسر التي ظهر منها كثير من العلماء؛ لأنها جمعت عدة استعدادات فطرية، ولا شك أن هذه يدخل فيه عنصر الوراثة، فيدخل عنصر الاستعدادات الفطرية الموروثة، وكذلك تدخل القدرات الإبداعية مع البيئة المساعدة، والبيئة أهميتها أنها تكتشف مبكراً هذه المواهب، ثم إنها تنميها، ثم توجهها إلى الطريق الأمثل. وللأسف الشديد -وهذا مما يبكى عليه بدم العين، وليس بالدموع- أنَّه الآن يكاد يكون معظم المسلمين -حتى في البيئات المتدينة- إذا وجد فيهم الولد النابه كان جل اهتمامهم وتركيزهم على أن يخرج طبيباً، أو يخرج وزيراً، أو نحو ذلك من مناصب أو أغراض الدنيا، ولا نكاد نسمع عن أحد -إلا ما ندر- أن يوجه ابنه من أجل التخصص في علوم الدين، والتوجه إلى مقام الاجتهاد في الدين حتى يسد هذه الثغرة. فالناس الآن كلهم انصرفت همتهم إلى طلب الدنيا، وإلى المناصب البراقة، وإلى المال، وإلى غير ذلك من المظاهر، لكننا لا نكاد نجد أحداً يكون هدفه أن يكون ابنه إماماً من أئمة المسلمين، أو أن يوجهه إلى طلب العلم الشريف، إلا ما ندر، والله تعالى أعلم.

دور البيئة في إخراج كثير من أصحاب علو الهمة

دور البيئة في إخراج كثير من أصحاب علو الهمة كانت العادة عند السلف أن العلماء يفتشون، فإذا وجدوا من أمثال هؤلاء يولونهم اهتماماً خاصاً، وقد فعل هذا الشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله تعالى مع تلميذه النابغة العبقري الشيخ حافظ أحمد حكمي رحمه الله تعالى، الشيخ المشهور صاحب كتاب (معارج القبول) وغيره من الكتب النافعة التي ألفها مع صغر سنه، فإنه مات وعمره قرابة خمس وثلاثين سنة، لكنه ترك من الآثار العلمية ما يبهر ويدهش من يطالعها، وقد كان والد الشيخ حكمي رحمه الله مصراً على أن يعينه ابنه في رعي الأغنام ونحو ذلك، وكان قد اكتشفت موهبته مبكراً، فأطاع أباه، ورفض أن يذهب إلى الشيخ ليطيع ويبر أباه، فمما سمعته يوم كنت في منطقة عسير أن الشيخ نفسه كان هو الذي يذهب إليه ويتتبعه حيث ما حل بغنمه ليلقنه العلم وهو يرعى الغنم، وذلك من شدة عظم الأمل الذي توقعه من هذا الطفل النابغة، ولما توفي والده رحمه الله تعالى تجرد لطلب العلم وتفرغ للشيخ، فكان منه هذا الإمام الفذ النابغ، مع حداثة سنه رحمه الله تعالى، ومع أنه توفي في ريعان شبابه رحمه الله تعالى.

دور الوالدين في تنشئة الولد عالي الهمة

دور الوالدين في تنشئة الولد عالي الهمة ورب أم ذكية محبة للعلم أو أب عالم مشهور بعلمه كان سبباً في تيسير السبيل إلى العلم ومجالسة العلماء، ولا شك في أن هذا يكون له أثر بليغ في تنمية نبوغ الأبناء. فهذا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمر يعدل به ألفاً من الرجال، ولما أرسله لنجدة عمرو بن العاص قال: (أرسلت إليك أربعة آلاف جندي، ومعهم أربعة كل منهم بألف) وذكر منهم: الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه. وإذا تأملنا البيئة التي نشأ فيها الزبير بن العوام نجد أن أمه هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أخت أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وهؤلاء الكملة العظماء عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير كلهم ثمرات أمهم ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما. وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه تربى على يد أمه فاطمة بنت أسد وخديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنهما. وهذا عبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب تعاهدته أمه أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها. وهذا أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما أريب عربي وألمعي، ورث عن أمه هند بنت عتبة همة تجاوزت الثريا، فإن أمة هنداً لما ولد معاوية وكان وليداً بين يديها قال لها بعض الحاضرين: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه. فأجابت غاضبة: ثكلته إذاً إن لم يسد إلا قومه. أي أن الطفل كان وليداً في المهد حديث الولادة، وبدت عليه علامات النجابة، فقال هذا الشخص: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت: ثكلته إذاً. أي: موته أحسن إذا كان لا يسود إلا قومه، فإذا كان كذلك فأنا لا أريده ولداً لي. فتخيل لو كانت أم تعيش بهذا الأمل وتعيش بهذه الطريقة من التفكير كيف سيكون سلوكها مع ولدها؟! لا شك في أنها سترضعه مع اللبن هذه القيم حتى تكبر همته، وتصعد به إلى أرقى ما يمكن الوصول إليه من الهمم، وهذا لا شك فيه. وإذا نظرنا إلى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما نجد أن معاوية كان من أسود العرب، ومن أعظم الناس قدرة على سياسة الأمم، وإمارته في الشام خير شاهد على ذلك. وهذه الأم نفسها لما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين: إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه. قالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟! والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيها لخرج من أيها شاء. وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع بالفخر وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمه، وكان يفاخر الناس إذا احتاج أن يفتخر فيصدع أسماع خصومه بقوله: (أنا ابن هند) فخراً بأمه رضي الله تعالى عنها. وهذا سفيان الثوري الإمام الجليل والعلم الشامخ كان ثمرة أم صالحة غذته بلبانها، وحاطته بكنفها، حتى صار إمام المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث، وسفيان الثوري هو الذي قالت له أمه وهو طفل صغير: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. مع أنه كان يتيماً، فكانت تشتغل بالغزل وتنفق عليه حتى يتفرغ لطلب العلم. وهذا الإمام الثقة الثبت أبو عمرو الأوزاعي نشأ يتيماً في حجر أمه، فتنقلت أمه به من بلد إلى بلد، وربته تربية عجزت الملوك وأبناؤها عنها، حتى استفتي في الفقه وله ثلاث عشرة سنة. وكذلك فعلت أم الإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن الشهير بـ ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكان ربيعة ثمرة تربية أم فاضلة، حيث أنفقت عليه أمه ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها وهي حامل به؛ لأن أمه لما كانت حاملاً به ترك أبوه معها ثلاثين ألف دينار، وخرج للغزو، فغاب في الغزو مدة كبيرة، فلما رجع كان ابنه قد أنفقت أمه عليه كل هذا المال في سبيل أن يطلب العلم الشريف، فلما رجع أبوه من الغزو بعد سنوات طويلة كان ابنه قد استكمل الرجولة، واستكمل -أيضاً- المشيخة، فأتى إلى بيته، فدفع الباب ودخل، فواجهه ابنه وكان قد صار شيخاً عالماً جليلاً وشاباً يافعاً، فقال له: أتدخل على حرمي يا عدو الله؟! لأنه لما رآه ظنه رجلاً أجنبياً دخل الباب واقتحمه، فتشاجر الابن مع أبيه دون أن يعرف أحدهما الآخر، إلى أن اجتمع الناس وازدحموا عليهما، ثم جاء الإمام مالك رحمه الله تعالى وقال له: أيها الشيخ! لك سعة في غير هذه الدار. أي: إذا كنت محتاجاً لدار فابحث عن دار أخرى، فلك سعة في غير هذه الدار، فقال: هذه داري. فسمعت أم ربيعة من وراء الحجاب هذا الصوت فقالت: إن هذا هو فروخ زوجي أبو عبد الرحمن. فتعانق الولد مع أبيه، ثم بعد ذلك لما أتى وقت الصلاة خرج أبوه إلى المسجد، فوجد حلقة كبيرة جداً في المسجد قد تصدرها ابنه الذي رآه آنفاً، فتعجب جداً، واستحيا منه ابنه فأطرق برأسه وأظهر أنه لم يره، فلما رجع إلى البيت قال لها: لقد رفع الله ابني. فلما سألها عن الدنانير قالت: أيهما أفضل عندك: ثلاثون ألف دينار أم ما صار إليه ولدك من الإمامة والمشيخة في الدين؟ فقال: بل ما صار إليه. فقالت: فقد أنفقتها كلها عليه. فالشاهد من هذه القصة أن الذي تولى تربيته هي أمه، حيث انفردت بتربيته، ووجهته إلى طلب العلم. وكذلك الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى كانت أم تأخذه وهو صبي صغير، وتلبسه العمامة الصغيرة على رأسه، وتلبسه ملابس طلبة العلم، وتحرضه على الذهاب إلى العلماء، وتقول له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه. ومات والد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرفت عليه بحكمتها، وتنقلت به من غزة إلى مكة مستقر أخواله، فربته بينهم هنالك، ونشأ الإمام الشافعي يتيماً فقيراً، ولم تستطع أمه دفع أجر معلمه، إلا أن المعلم قبل أن يعلمه بدون أجر، فتعهده بالرعاية، وجعل له منزلة خاصة بين التلاميذ؛ لما لمسه فيه من نباهة وسرعة في الحفظ. يقول الشافعي رحمه الله تعالى: كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي أن يعلمني بدون أجر، وأن أخلفه في الدرس إذا غاب. وهذا إمام المحدثين على الإطلاق الإمام الجليل محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى مات أبوه إسماعيل وهو صغير، فنشأ يتيماً في حجر أمه، وكانت امرأة عابدة صاحبة كرامات. والحقيقة أننا لو أردنا التفصيل لوجدنا أن النماذج كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي، وهذه النماذج -بلا شك- تبرز لنا دور البيئة في صناعة هؤلاء الأماجد.

علو همة عمر بن عبد العزيز رحمه الله وأثر البيئة في ذلك

علو همة عمر بن عبد العزيز رحمه الله وأثر البيئة في ذلك هناك خطأ -في الحقيقة- نقع فيه كثيراً، وهو أننا دائماً نسلط الضوء على الشخصية التي هي عبارة عن ثمرة، ونغفل النظر إلى البيئة التي أثمرت هذه الثمرة، أو الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة، فهل يمكن أن نغفل أثر البيئة ونركز فقط على ثمرة هذه البيئة في رجل مثل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى؟! ولماذا نركز على عمر بن عبد العزيز دون أن نلفت النظر إلى البيئة؟ فـ عمر بن عبد العزيز أو غيره أو أي واحد من المجددين أو من أئمة الدين يرزق استعدادات فطرية ومواهب وقدرات إبداعية، لكن لابد من وجود البيئة، فالبيئة إما أنها تحطم وتعوق، وإما أنها تنهض بهذه الثمرة وتسقيها، فهل كان يمكن لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن يمارس دوره في تجديد الدين ويتهيأ له هذا الأمر لولا البيئة الصالحة التي وجهته إلى المعالي، وبذرت بذور الهمة العالية في قلبه منذ طفولته؟! فنحن كثيراً ما نتكلم عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى على أنه هو مجدد القرن الأول، ولا شك في أننا نسلم بأن عمر بن عبد العزيز مجدد القرن الأول، لكننا نقول: إن عمر بن عبد العزيز ما كان له أن يقوم بهذه الحركة التجديدية الواسعة الجوانب لولا وجود عدد كبير من أجلاء التابعين وساداتهم الذين كانوا بالفعل ساعده الأيمن في تنفيذ مشاريعه التجديدية العظيمة، وعلى رأسهم رجاء بن حيوة الذي كان له فضل على الأمة الإسلامية في موقف غير مجرى التاريخ كله؛ لأن رجاء بن حيوة هو الذي أشار على سليمان بن عبد الملك وعند وفاته باستخلاف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وكان لهذه الشورى ولهذه النصيحة الأثر العظيم الذي نشأ عنه تمكين عمر بن عبد العزيز من القيام بدوره التجديدي الفذ. وحين نتأمل بعض المواقف من طفولة عمر بن عبد العزيز نجد أنه لم ينشأ إلا ببيئة، وأننا مسئولون عن توفير هذه البيئة لأبنائنا، فعن سعيد بن عفير قال: حدثنا يعقوب عن أبيه أن عبد العزيز بن مروان -وهو والد عمر بن عبد العزيز - بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، فكان صالح بن كيسان يلزمه الصلوات، ويراقبه في الصلوات، ويحثه على حضور الصلوات، ويشرف عليه في ذلك، فأبطأ يوماً عن الصلاة -أي: في يوم من الأيام أتى متأخراً عن الصلاة- فقال له صالح بن كيسان رحمه الله: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي - أي: الخادمة المتخصصة في تصفيف شعره- تسكن شعري. وبعض الناس أحياناً يرون أن عمر بن عبد العزيز نشأ في بيئة مترفة، فنقول: نعم هي مترفة، لكنها بيئة دينة، وعمر بن عبد العزيز طلب العلم، وعمر بن عبد العزيز لم يصل إلى الإمامة بانقلاب سياسي أو بمجرد القفز إلى مقعد السلطة، وإنما عمر بن عبد العزيز إمام من أئمة الاجتهاد، وصل إلى أعلى مراتب العلم، فمع أنه كان يعيش هذه المعيشة المترفة لكن أمر الدين ما كان عنده فيه مساومة، وقوله: (كانت مرجلتي تسكن شعري) قاله وهو صبي صغير، فقال له صالح بن كيسان: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة! أي: أنت مهتم بتسكين شعرك إلى حد أنه أخرك عن حضور الصلاة! وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه، فما كلمه حتى حلق شعره، أي أن أباه أرسل رسولاً وقال له: لا تكلمه كلمة واحدة حتى تحلق شعره كله، عقوبة له على أنه آثر تسكين شعره على حضور الصلاة في أولها. فـ عبد العزيز ألقى ولده إلى المدينة لا لكي يتعلم فقط، ولكن لكي يتأدب، ثم كلف واحداً من العلماء الأتقياء أن يشرف عليه وعلى تربيته ويتعهده، ويراقب حضوره في الصلوات، فإذا تخلف مرة ضبطه، وقال: ما حبسك؟ ويرسل إلى أبيه شكوى أنه تأخر عن صلاة بسبب هذا الأمر التافه، فيرسل أبوه هذا الرسول، فما كلمه حتى حلق شعره. وعن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بكى وهو غلام صغير، فأرسلت إليه أمه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، وكان يومئذٍ قد جمع القرآن، فبكت أمه حين بلغها ذلك. ونقل الزبير بن بكار عن العتبي قال: إن أول ما استبين من عمر بن عبد العزيز أن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه. يعني أن أول العلامات التي أظهرت أن هذا الشخص غير عادي، وأن عمر بن عبد العزيز شخص ينتظره مستقبل عظيم أنه لما ولي أبوه كان حديث السن يشك في كونه قد بلغ، قال: فأراد إخراجه، فقال: يا أبت! أو غير ذلك لعله أن يكون أنفع لي ولك؟! ترحلني إلى المدينة، فأقعد إلى فقهاء أهلها، وأتأدب بآدابهم. فوجهه إلى المدينة، فاشتهر بها بالعلم والعقل مع حداثة سنه.

أهمية النضوج الاجتماعي المبكر في تنمية الهمة

أهمية النضوج الاجتماعي المبكر في تنمية الهمة ونقفز قفزة أخرى لنتكلم على خصيصة أخرى من الخصائص التي أشرنا إليها في مقدمة الكلام، والتي يتميز بها النابغون أو الفائقون أو كبار الهمة، وقد أشرنا إليها ضمناً، وهي قضية النضوج الاجتماعي المبكر بجانب النشأة في بيئة اجتماعية طيبة تساعد على الازدهار، فكما أن الطفل ينمو فإنه ينمو في عدة اتجاهات، فكما أن جسمه ينمو باستمرار وله ملامح معينة وعلامات في نموه في كل مراحله العمرية فكذلك نفسه تنمو، وروحه تنمو، وشخصيته تنمو، وهناك نوع من النمو الاجتماعي في تعامله مع المجتمع من حوله، والنضج الاجتماعي المبكر الذي يؤهله إلى أن يتحمل المسؤوليات منذ حداثة سنه، ونحن إذا تأملنا أعمار كثير من العلماء الذين رحلوا في طلب العلم في آفاق الأرض نجد أن بعضهم كان عمره ثلاث عشرة سنة، أو عشر سنوات، أو ما بين العشر والعشرين، فكان الشاب الذي عمره ثلاث عشرة سنة -كالإمام ابن جرير الطبري وغيره من الأئمة- يرحل إلى أقطار الأرض في طلب العلم، وما كانت وسائل العلم المرفهة موجودة في ذاك الزمان، فكون أبيه أو أمه أو وليه أو شيخه يتركه يرحل في الأرض لطلب العلم فيه إشارة عظيمة جداً إلى النضوج الاجتماعي الذي كان يبلغه هؤلاء العلماء، بمعنى أنه يستطيع أن يواجه الناس وحده، ويسافر وحده، ويتحمل مسئولية نفسه، ويغترب، ويصارع الفقر، ويصارع المرض، ويصارع الوحدة، ويستطيع أن يتعامل مع الناس، وكل هذا من أمارات النضوج الاجتماعي المبكر، ولكن بعض الآباء أحياناً يرتكب خطيئة الحماية الزائدة للولد، حتى إن كان قد وصل إلى الثانوية يريده أن لا يقطع الشارع إلا إذا أمسك بيده، فيطيل فترة الطفولة في عمر هذا الشاب، وكثير من الآباء من خوفه على ابنه والحماية الزائدة له لا يحمله أي مسئولية.

نموذج في النضج الاجتماعي المبكر في الشيخ محمد بن عبد الوهاب

نموذج في النضج الاجتماعي المبكر في الشيخ محمد بن عبد الوهاب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى هو صاحب أعظم حركة تجديدية منذ القرن الثاني عشر إلى الآن؛ فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى لا ينكر دوره التجديدي العظيم إلا جاحد، فاكتشف والده فيه النضج الاجتماعي المبكر، فذهب أبوه ينمي ثقته بنفسه، ويصقل مواهبه، ويعده لتحمل المسئوليات. كتب أبوه يوماً إلى صاحب له فقال له وهو يتكلم عن ولده محمد بن عبد الوهاب: تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكمال سن اثنتي عشرة سنة على التمام، ورأيته أهلاً للصلاة بالجماعة والائتمام. أي أنه بلغ في هذه السن، ورأى أن عنده الأهلية في أن يصلي الجماعة ويصلي إماماً بالناس، قال: فقدمته إماماً لمعرفته بالأحكام. لأنه كان ربي على الفقه، وربي رحمه الله تعالى على العلم، فقدمه أبوه ليكون إماماً تنمية للثقة بالنفس، وتنمية لهذه الشخصية والنضوج الاجتماعي المبكر، يقول أبوه: وزوجته بعد البلوغ مباشرة. وفي ذاك الزمان كثيراً ما نجد أن الشاب يتزوج في مثل هذا السن، وقد يكون وصل إلى مرحلة البلوغ، لكن النضج الجسدي لا يتوافق مع النضج الاجتماعي، وهذه لا تكون قاعدة، أي أن واحداً يتزوج وله اثنتا عشرة سنة مثلاً؛ لأننا نتكلم عن حالة استثنائية، ونشير إلى خاصية النضج الاجتماعي المبكر، حيث يكون صاحبه قادراً على تحمل المسئولية، وإلا فلو أن فتىً من فتيان هذا الزمان عمره اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة أو سبع عشرة حُمِّل مسئولية فكم من المشاكل ستنجم نتيجة التخلف في النضوج الاجتماعي، فنحن نتكلم الآن على حالة شاذة تميزت بظهور النضج الاجتماعي مبكراً. يقول أبوه: وزوجته بعد البلوغ مباشرة، ثم طلب مني الحج إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالإسعاف إلى ذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلام. فهذا كلام والده عنه، وهذا هو النضوج الاجتماعي المبكر، وهذه هي التربية الواعية؛ لأنها تنمي الملكات، وتغرس الثقة في النفس، لا كالآباء الذين يحطمون في أولادهم كل موهبة، كأن يقول له: أنت غير فالح، وأنت غير نافع، وأنت وأنت. ويحقره في ذاته دون أن يدري. فهذه التربية هي التي تنمي الملكات، وتغرس الثقة بالنفس، وتحررها من التواكل والتبعية والطفولية لغير هذا النضج المبكر، وبهذا نستطيع أن نفسر ظاهرة ارتحال العلماء في سن الصبا والشباب المبكر في أقطار الدنيا طلباً للعلم، وقد فارقوا الأهل والأوطان، وكابدوا المخاطر والمشاق دون كلل ولا ملل ولا تبرم. وعلى الجهة الأخرى إن كنا نقول: إن البيئة قد تكون سبباً في النضج فإن البيئة المعدمة -كأن يكون الأب فقيراً جداً أو غير ذلك من الأسباب- قد تكون سبباً في الإعاقة عن نمو هذا الملكات.

علو همة أبي محمد بن حزم وترف البيئة التي نشأ فيها

علو همة أبي محمد بن حزم وترف البيئة التي نشأ فيها وفي الجهة الأخرى نجد الترف قد يكون دليل الإعاقة عن ذلك، ومع ذلك يترفع صاحب الهمة العالية على الحياة المترفة ورغد العيش، بل يسخر هذه الحياة لإنجاز المطالب الجسيمة، كحال الإمام أبي محمد علي بن حزم رحمه الله تعالى الذي نشأ نشأة مترفة، فالإمام ابن حزم الأندلسي الفارسي الأصل نشأ في الأندلس نشأة في غاية الترف، ولكنه انصرف عن مطامح الدنيا ومطامعها في سبيل طلب العلم. ومما أذكر أن الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى لما وقعت المناظرة بينه وبين الإمام الجليل أبي الوليد الباجي المالكي شارح الموطأ ففي نهاية المناظرة قال له الإمام الباجي رحمه الله تعالى يعتذر له: إن كان حصل خلل أو تقصير مني في المناظرة فاعذرني؛ فإني كنت أطلب العلم على سرج الحراس. أي: لم يكن هناك كهرباء، فكان الحارس -مثل الشرطي- يحرس الطرقات أو المدينة أو القرية بمشاعل من نيران، ويقف في نوبة الحراسة، وهذا رأيناه في كثير من العلماء الذين كانوا في شدة الفقر لا يجدون ما يسرجون به، فكان هو لا يستطيع أن ينام من شدة شوقه إلى طلب العلم، وما عنده شيء يستضيء به، فيخرج إلى الشارع أو إلى الطريق عند الحرس، ويسهر في طلب العلم على ضوء مشاعله، فقال له الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالى: اعذرني؛ فإني كنت أطلب العلم على سرج الحراس. فقال له الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: واعذرني أيضاً؛ فإني كنت أطلب العلم على منائر الذهب والفضة. يعني أن الإمام أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى كان يرى أن الفقر الذي كان فيه معيق عن طلب العلم، وأنه طلب العلم بالمكابدة وبالسهر على مشاعل الحراس، فالإمام ابن حزم رد عليه وقال له: بل الترف هو الذي يعيق عن طلب العلم؛ لأن الإنسان المترف يكون متيسر الوسائل والمادة والمال وغير ذلك، وحينئذٍ يسهل عليه سبيل اللهو والخوض في زينة الدنيا، فيعيقه الترف عن العلم، وكأنه يرى أن الترف أشد في إعاقة طلب العلم من الفقر؛ ولذلك قال له: واعذرني؛ فإني كنت أطلب العلم على منائر الذهب والفضة. يعني المنائر المصنوعة من الذهب والفضة. وربما نشأ كبير الهمة في بيئة معدمة قاسية تكون كفيلة بإطفاء همته والقضاء على نبوغه، لكن الله سبحانه وتعالى ييسر له من الأسباب ما يأخذ بيده، أو يقيض له من ينمي مواهبه ويتكفل بأمره.

علو همة أبي الطيب المتنبي

علو همة أبي الطيب المتنبي نشأ المتنبي شاعر العرب الفحل في أسرة فقيرة غير متعلمة، والمتنبي شخصية عليها بعض الملحوظات، لكن لا شك في أن المتنبي من أعظم الناس في علو همتهم، وهذا بين لمن يعرف ترجمته، فقد نشأ في بيئة غير معينة له على ذلك، لكن الله قيض له فرصة التعليم المجاني في الكتّاب الخاص بأبناء الأشراف في الكوفة، وشجعه أصحاب المكتبات، فكان أصحاب المكتبات يشجعونه على أن يقرأ الكتب بدون مقابل. ومما يروى أن وراقاً كان يلازمه المتنبي حكى هذا الوراق عن المتنبي فقال: كان يوماً عندي وقد أحضر رجل كتاباً في نحو ثلاثين ورقة لبيعه، فأخذه أبو الطيب المتنبي ونظر فيه طويلاً، فقلت له: ما هذا؟ أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك! أي: لأنك ممسك بالكتاب تتأمل فيه قطعتني عن بيعه، فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون في شهر إن شاء الله. فقال المتنبي: إن كنت حفظته في هذه المدة؟! قال: أهب لك الكتاب. قال: اسمعه مني. فأخذت الدفتر من يده، وأقبل يتلوه حتى انتهى إلى آخره! ولذلك كان أصحاب المكتبات يسمحون له بالقراءة دون أجرة.

حرص الإمام أبي حنيفة على التفتيش عن النابغين

حرص الإمام أبي حنيفة على التفتيش عن النابغين إن هذا الكلام لا نقوله للتسلية، وإنما نقوله لنطبقه، وأخص بذلك الإخوة المدرسين، فلا شك في أن مسئوليتهم عظيمة وجسيمة في هذا الباب، فمهم جداً التفتيش عن هؤلاء الناس وإعانتهم. والنابغون هم ندرة، وكبيرو الهمة ليسوا هم القاعدة في الناس، لكن إذا سلطنا الضوء على واحد فقط فممكن أن هذا الواحد يكون سبباً في إصلاح الأمة بسائرها، وذلك إذا أُحسن توجيهه وتنميته وتربيته نحو الهدف الأسمى. ومن أشهر من كان يعنى بالتفتيش عن النابغين ويستنقذهم من ظروفهم القاسية ويأخذ بأيديهم إلى طلب العلم الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، فقد حرص الإمام أبو حنيفة عندما تولى حلقة الدرس بعد شيخه حماد على رعاية تلاميذه النابغين، فقد كان يواسيهم من ماله الخاص، ويعينهم على نوائب الدهر، حتى إنه كان يزوج من تلاميذه من كان في حاجة إلى الزواج وليست عنده مئونته، ويرسل لكل تلميذ حاجته. قال شريك أحد تلامذته: كان يغني من يعلمه أي: كان ينفق على من يعلمه، وعلى عياله، فإذا تعلم قال له: لقد وصلت إلى الغنى الأكبر بمعرفة الحلال من الحرام. أي: الآن صرت أغنى الناس، وعندك ثروة لا تضاهى ولا تقدر بثمن، وهي العلم والفقه الذي تميز به بين الحلال والحرام. وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى ينظر إلى نفوس تلاميذه، ويتعهدها بالرعاية والنصيحة، فإذا وجد من أحدهم إحساساً بالعلم يمازجه الغرور أزال عنه درن الغرور ببعض الاختبارات التي تثبت له أنه ما زال في حاجة إلى مزيد من العلم. وذكر الكردري في مناقبه بسنده إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى قال: قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة الإمام الجليل المشهور: كنت أطلب الحديث وأنا مقل المال، فجاء إلي أبي وأنا عند الإمام -يعني: عند الإمام أبي حنيفة - فقال لي: يا بني! لا تمدن رجلك معه؛ فإن خبزه مشوي وأنت محتاج. فالإمام أبو حنيفة كان تاجراً، فوالد أبي يوسف رحمه الله قال: يا بني! نحن ليست حالنا كحال هذا الإمام، فلا تمدن رجلك معه، فنحن نحتاج إلى أكل العيش وإلى الكسب، أما هو فإن خبزه مشوي، وأما نحن فإننا محتاجون. قال: فقعدت عن كثير من الطلب. أي: كانت كلمة أبيه سبباً في أنه قعد عن كثير من طلب العلم. قال: واخترت طاعة والدي، فسأل عني الإمام وتفقدني، قال حين رآني: ما خلفك عنا؟ قلت: طلب المعاش. فلما رجع الناس وأردت الانصراف دفع إلي صرة فيها مائة درهم، فقال: أنفق هذا، فإذا تم أعلمني، والزم الحلقة. فلما مضت مدة دفع إلي مائة أخرى، وكلما تنفد كان يعطيني بلا إعلام - يعني: بدون أن يخبره - كأنه كان يخبر بنفادها، حتى بلغت حاجتي من العلم، أحسن الله مكافأته، وغفر له. وكان أبوه يقول له: لنا بنات وليس لنا ابن غيرك، فاشتغل بهن. فلما بلغ الخبر الإمام أجرى عليه رزقاً، وقال: الزم الفقه؛ فإني ما رأيت فقيهاً معسراً قط. وربما لمح شخصاً عالي الهمة تلوح من محياه أمارات النبوغ فضن بموهبته أن تنفق في طلب الدنيا، وشجعه على طلب العلم. قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: مررت يوماً على الشعبي وهو جالس، فدعاني وقال: إلى من تختلف؟ فقلت: اختلف إلى فلان. قال: لم أعن إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء. فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم. فقال الشعبي لـ أبي حنيفة: لا تفعل، وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة. قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف - يعني: إلى السوق - وأخذت في العلم، فنفعني الله تعالى بقوله. فنرجو أن يكون في هذه المواقف التي نحكيها تجسيد لأحد المعاني التي نظن أنها تندرج تحت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه). فقد تكون كلمة يسيرة خرجت من إنسان بصدق مع وجازتها لكنها كانت عميقة الأثر؛ إذ إنها غيرت حياة واحد من هؤلاء كبيري الهمة، ومن ثم تركت أثراً عظيماً جداً في إصلاح الأمة المحمدية، فلا شك في أن النصيحة لأمثال هؤلاء إذا صادفت محلاً قابلاً -بإذن الله- تحدث هذا التغيير، وتكون نقطة تحول، فهذا الشخص الذي نصح هذه النصيحة لا شك في أنه يكون ساعياً في الخير، وأنه داخل في قوله عليه الصلاة والسلام: (الدال على الخير كفاعله)، ونرجو أن يدخل في قوله: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت) أي: لا يظن أن هذه الكلمة كبيرة إلى هذا الحد، وأن ثوابها جزيل إلى هذا الحد، ولكن: (يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. وعن مكي بن إبراهيم -وهو أحد شيوخ البخاري - قال: كنت أتجر، فقدمت على أبي حنيفة قدماً، فقال لي: يا مكي! أراك تتجر، فالتجارة إذا كانت بغير علم دخل فيها فساد كثير، فلمَ لا تتعلم العلم؟! ولِمَ لا تكتب؟! فانظر إليه حين وجد نابغة يوجهه إلى طلب العلم الشرعي؛ فمع أنه منشغل بالدنيا لم يقل له: إن المسلمين محتاجون لرأس المال وللمشاريع الاقتصادية. ونحن لا نحقر هذا، لكن الملاحظ الآن أن كل الناس يتجهون إلى العلوم الدنيوية، ويندر من يرحل من أجل الدين أو يقول: ولدي هذا سأتعهده حتى يخرج إماماً للمسلمين، وحتى يؤدى به فرض الكفاية من تعليم الناس والوصول إلى مقام الاجتهاد. وإنما نجد أغلب الناس أنهم يدفعون أبناءهم دفعاً للانهماك والفناء في طلب علوم الدنيا، ولذلك فالأمل كبير في المسلمين أن يفطنوا لهذه الحقيقة، وأن يحققوا ولاءهم للإسلام في تجريد أبنائهم من أجل نصرة الإسلام، لعل الجيل القادم يكون أسعد حظاً منا، وينجز ما نقصر نحن في عمله. يقول الإمام مكي بن إبراهيم: فلم يزل بي -يعني: إلحاحاً وإقناعاً ومحاروة- حتى نبغت في العلم وكتابته وتعلمه، فرزقني الله منه شيئاً كثيراً، فلا أزال أدعو لـ أبي حنيفة في دبر كل صلاة وكلما ذكرته؛ لأن الله ببركته فتح لي باب العلم. وربما كانت لتجربة الإمام أبي حنيفة مع شيخه الإمام حماد أثر عظيم في مسلكه هذا، فقد كان أبو حنيفة بمسلكه مع هؤلاء النوابغ يتمثل بتربية إمامه حماد رحمه الله تعالى له، فقد اكتشف حماد نبوغ أبي حنيفة وعلو همته، فخصه برعايته وقربه من مجلسه، مؤملاً أن يكون حسنة من حسناته يهديها إلى الأمة، فقد انخرط أبو حنيفة النعمان في التعليم على يد شيخه حماد بالمسجد الجامع بالكوفة، وعندما لمس فيه النجابة وسرعة الحفظ وسلامة التفكير أجلسه بإزائه، واحترم رأيه، وشجعه على الاجتهاد والاستقلال بالرأي، ولم يتبرم من كثرة أسئلته واستفساراته؛ لما فيها من عمق ودقة. ومما يروى أن أبا حنيفة انصرف من مجلس حماد بعد أن سأله عدة أسئلة، وألح في الجدل حتى احمر وجه شيخه حماد من النقاش ومن الأسئلة، وبعد أن خرج أبو حنيفة قال حماد لجاره واصفاً صلاح تلميذه: هذا على ما ترى منه يقوم الليل كله ويحييه. فهذا تلميذ يكثر الأسئلة إلى درجة أنه يحرج الشيخ، ويلح في الأسئلة، ويجادله حتى يحمر وجه الشيخ، ومع ذلك فمن إنصاف شيخه أنه قال: هذا على ما ترى منه -يعني انهماكه في المناقشات وفي الرأي وفي الأخذ والمجادلة إلى هذا الحد- يقوم الليل كله ويحييه. واستمر أبو حنيفة ملازماً أستاذه ثماني عشرة سنة، ولم يستقل بالدرس والتمحيص إلا بعد وفاة شيخه حماد، وربما كانت نصيحة عابرة من عامل مخلص بداية نقطة تحول في حياة أحد النابغين إلى انتفاع عموم الأمة به. وأحد العلماء لقي نابغة كبير الهمة قد ترك الدعوة والتعليم والتعلم في بلده، وجاور في الحرم المكي الشريف، وخلى مكانه في بلاده الذي كان يشغله في الدعوة والتعليم، فأرشده إلى تصحيح مساره وقال له: ليس هذا مكانك.

سبب طلب الإمام الشافعي للعلم

سبب طلب الإمام الشافعي للعلم كان سبب أخذ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى العلم ما حكاه مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كان الشافعي رحمه الله في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، ثم رشد في الفقه بعد. والإمام الشافعي حجة في اللغة بلا شك، والإمام الشافعي يقول في بيت من الأبيات: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد فالإمام الشافعي لو ترك نفسه على سجيته في الشعر لقال الناس: إنه أشعر من لبيد الشاعر المعروف. وكذلك العلامة الجليل الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى، كان على مقدرة عجيبة جداً في الشعر، وترك -أيضاً- طلب الشعر؛ لأنه رأى أن التوغل في الشعر ينافي المروءة، ولذلك فإنك إذا قرأت شعر الشنقيطي فكأنك تقرأ شيئاً من المعلقات، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله. والمهم أن الإمام الشافعي بدأ في طلب الشعر وأيام العرب والأدب، وأخذ في الفقه بعد ذلك، وكان سبب أخذه في العلم أنه كان يوماً يسير على دابة له وخلفه كاتب لـ أبي عبد الله الزبيري، فتمثل الشافعي ببيت شعر، فقرعه كاتب أبي عبد الله الزبيري من خلفه بالسوط، ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت من الفقه؟! فهزت هذه الكلمة الإمام الشافعي، فقصد مجلس مسلم بن خالد الزنجي، وكان مفتي مكة، ثم قدم المدينة فلزم مالك بن أنس رحمه الله تعالى. وعن الشافعي رحمه الله تعالى قال: كنت أنظر في الشعر، فارتقيت عقبة بمنى فإذا صوت من خلفي: عليك بالفقه. فانظر كيف كانت البيئة من حوله؟! كان يجد كلمة التشجيع والنصيحة المخلصة التي توجهه إلى هذا المسار الصحيح الذي يفيد به الأمة، فهل كانت الأمة ستستفيد من الشافعي إذا خرج شاعراً فحلاً كما استفادت منه بعد أن صار إماماً جليلاً من أئمة الإسلام؟! فانظر كيف كانت النصيحة تأتي من كل جهة، وكيف كان يأتي التوجيه. يقول الحميدي: قال الشافعي: خرجت أطلب النحو والأدب، فلقيني مسلم بن خالد الزنجي، فقال: يا فتى! من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة. قال: أين منزلك؟ قلت: شعب. قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من عبد مناف. قال: بخ بخ -وهي هنا اسم فعل مضارع بمعنى: أستحسن -لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك في هذا الفقه فكان أحسن بك؟! ثم رحل الشافعي من مكة إلى المدينة قاصداً الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وفي رحلته مصنف مشهور مسموع، فلما قدم عليه قرأ عليه الموطأ حفظاً، فأعجبته قراءته ولازمه، وقال له مالك: اتق الله، واجتنب المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأن. وهذه نصيحة قريبة من نصيحة وكيع بن الجراح لما شكى إليه سوء حفظه، حيث قال: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي فانظر -أيضاً- كيف أنه في كل مرحلة توجد النصيحة والتوجيه ممن حوله، فالبيئة كلها بيئة واعية بأهمية الالتقاط والتفتيش والتنقيب عن هؤلاء النابغين. وفي رواية أخرى أن الإمام مالكاً قال له: إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بالمعاصي. وكان للشافعي رحمه الله تعالى حين أتى مالكاً ثلاث عشرة سنة، وقد أمره بالإفتاء شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي إمام أهل مكة ومفتيها، ولما بلغ الشافعي خمس عشرة سنة قال له شيخه الإمام الجليل مسلم بن خالد الزنجي: أفت يا أبا عبد الله، فقد -والله- آن لك أن تفتي. وأقاويل أهل عصره فيه كثيرة مشهورة، وأخذ عن الشافعي العلم في سن الحداثة، مع توافر العلماء في ذلك العصر، وهذا من الدلائل الصريحة على عظم جلالته وعلو مرتبته. وسيرة الشافعي معروفة في الكتب التي ألفت في مناقبه رحمه الله تعالى.

علو همة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

علو همة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي نقفز هنا إلى العصر الحديث، ونذكر هذا المثال عن العلامة القرآني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى. فقد حكى ابنه أن أمارات النبوغ وعلو الهمة لما لاحت على والده في طفولته قال له شيخه: يا بني! إن العلماء يقولون: إن من وجد من نفسه استعداداً وموهبة تؤهله للإمامة تعين عليه طلبها، وإن طلب الإمامة في الدين متعين عليك، فلا تضيع نفسك. فانظر كيف نصحه بهذه النصيحة، وحمله المسئولية، قائلاً له: إن هذا متعين عليك؛ لأنك شخص موهوب، ويرجى أن يأتي منك خير كثير للأمة، فيتعين عليك طلب الإمامة والاجتهاد في طلب العلم.

علو همة السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله

علو همة السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله ومن عجيب النماذج الناجحة في زراعة الهمة العالية في الأطفال ما يقال من أن الشيخ مصطفى آغا شمس الدين كان أحد مشايخ السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله، وقد كان شيخه هذا يأخذ بيده، ويمر به على الساحل، ويشير إلى أسوار القسطنطينية التي تلوح من بعد شاهقة حصينة، وأسوار القسطنطينية أسوار عظيمة، بل إن الإنسان حين يتخيلها لا يكاد يتصورها؛ لأن أول طبقة من طبقات السور ارتفاعها أربعون متراً. فكان يقول له: يا بني! أترى هذه المدينة التي تلوح في الأفق؟! إنها مدينة القسطنطينية، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أمته سيفتحها بجيشه، ويضمها إلى أمة التوحيد، فقال فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم: (لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)، وإن كان العلماء يضعفون هذا الحديث، لكن الشيخ حينما كان يقول له ذلك يبدو أنه كان يعتقد صحته. وما زال الشيخ يكرر هذه الإشارة على مسمع الأمير الصبي إلى أن نمت شجرة الهمة في نفسه العبقرية، وترعرعت في قلبه، فعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بشر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقد كان، فقد كان والده السلطان مراد الثاني يستصحب ابنه منذ الصغر بين حين وآخر إلى بعض المعارك؛ ليعتاد مشاهدة الحرب والطعان ومناظر الجنود في تحركاتهم ونزالهم، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عملياً، حتى إذا ما ولي السلطنة وخاض غمار المعارك خاضها عن دراية وخبرة. والسلطان محمد الفاتح العثماني كان له بعد الله سبحانه وتعالى الفضل في إسلام كثير من شعوب أوروبا، خاصة أهل البوسنة والهرسك؛ لأنَّه في ذلك الوقت الذي فتح فيه البوسنة والهرسك كان قد بدأ يظهر في بلاد البوشناق أو البوسنة مذهب شباب متمرد على النصرانية، مذهب يحن إلى أصول النصرانية، وأحدثوا مذهباً نصرانياً جديداً، فيه التبرؤ من كثير من مظاهر الوثنية والشرك والتثليث وعبادة المسيح عليه السلام، فكانوا يُحاربون من الكاثوليك ومن الأرثوذكس، والأرثوذكس هم الصرب لعنهم الله، وكذلك الكروات الكاثوليك لعنهم الله، فكان الصراع على أشده في هذا الوقت بين هذه الطوائف، فلما دخل محمد الفاتح العثماني رحمه الله تعالى وأشرق عليهم نور الإسلام انقادوا للإسلام، ودخلت الأمة البوسنية تقريباً بكاملها في دين الإسلام. فالشاهد أن شيخه لما ربى وزرع الهمة العالية في نفسه منذ طفولته تحقق الوعد المرجو، ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة قال رحمه الله: حسناً! عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر! إنه التصميم على إحدى الحسنيين. وحاصر السلطان محمد الفاتح -وأنعم به من فاتح- القسطنطينية واحداً وخمسين يوماً، تعددت خلالها المعارك العنيفة، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله، سقطت على يد بطل شاب له من العمر يومئذٍ ثلاث وعشرون سنة، فقد كان عمر محمد الفاتح يوم فتح القسطنطينية ثلاث وعشرون سنة. وننتقل الآن إلى تربية أبنائنا وتربية الشباب الآن، فتخيل واحداً منهم في سن ثلاث وعشرين سنة، فهل يمكن أن يقود الجيوش، ويفتح البلاد والأمصار، ويدير أمة بكاملها؟! والفاتح كان قد ولي السلطنة قبل ذلك بسنوات، وفي سن ثلاث وعشرين سنة فتح القسطنطينية، فرحمه الله تعالى.

أهمية اغتنام فرصة الشباب

أهمية اغتنام فرصة الشباب وبقي مسألة أخرى وثيقة الصلة بموضوعنا، وإن كنا نتكلم على مرحلة الطفولة والتنقيب عن النابغين ورعايتهم والاهتمام المبكر بهم، وزراعة الهمة العالية في قلوبهم، ولكن لا ننس حظ الشباب، ولذا نذكر أنفسنا جميعاً بأهمية اغتنام فرصة الشباب؛ لأن الشباب ضيف عابر، وصيف زائر، سرعان ما سيولي، فلا ينخدع الإنسان بشبابه، لكن ينبغي أن يغتنمه؛ لأن الكثير من الناس الآن يسوغون لأنفسهم الانهماك في الطرب وفي اللعب وفي اللهو وفي الشهوات وغير ذلك من قتل الفراغ -كما يقولون- فيما لا طائل من ورائه، بل فيما هو ضار محض بحجة أن الواحد منهم ما زال شاباً، وكأن الإنسان لا يتمتع بشبابه إلا إذا عاث في الأرض فساداً! وحين تتحجب المرأة وهي شابة يقال لها: ما زلت شابة، وحين تكبرين تذهبين لتحجي أو لتعتمري، وبعد هذا تتحجبين! مع أن الشرع نظر بعكس هذا، فالشابة هي التي تتحجب، والعجوز القاعد التي لا فتنة من ورائها لا بأس بأن تكشف الوجه والكفين، كما في قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60]، فإذا كان الإنسان لا يقبل على الله وهو شاب فمتى سيقبل على الله سبحانه وتعالى؟! لأن العمل الحقيقي هو في الشباب؛ لأن فترة الشباب فترة متميزة في حياة كل منا بسبب يسير جداً، وهو أن الشباب فترة قوة بين ضعفين، والذي يقدر على الإنجاز هو الشاب، وليس الطفل أو العجوز، فلا شك في أن فترة العمل والإنجاز وخدمة الإسلام هي فترة الشباب، فالشباب هو زمن العمل، وهو فترة قوة بين ضعف الشيوخه وضعف الطفولة، فمن ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم)، وتأمل جيداً كلمة (اغتنم) أي أن الفرصة سانحة، وسرعان ما تفر منك، قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك). وتأمل -أيضاً- هذه الكلمة للإمام أحمد، يقول الإمام أحمد: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط. والكم هو الذي نسميه جيباً، فيبدو إنه يمثل الشباب بوضع شيء في جيب مثقوب، فحين وضعه في كمه سقط فوراً من أسفل الكم، فكذلك الشباب يمكث معك مثل هذه الفترة الوجيزة. فالشباب هو وقت القدرة على الطاعة، وهو ضيف سريع الرحيل، فإن لم يغتنمه العاقل تقطعت نفسه بعد حسرات، كما يقول الشاعر: أماني كانت في الشباب لأهلها عِذاب فصارت في المشيب عذابا أي أنها كانت عذبة في أيام الشباب، فإذا أتى المشيب فإنه يذوق مرارتها. ويقول آخر: ألم أقل للشباب في كنف الله وفي ستره غداة استقلا ضيف زارنا أقام إلى أن سود الصحف بالذنوب وولى يعني أنه يتحسر على الشباب ويقول: حينما غادرني شبابي وبدأ الشيب يزحف إلى رأسي ولحيتي مقت هذا الشباب، فلما ودعني الشباب لم أسلك معه المسلك الذي أسلكه مع الضيف الكريم أو الضيف الحبيب حينما يغادرني، فإنه لما غادرني لم أقل له: في كنف الله، ولا: في رعاية الله، ولا: في حفظ الله، كما تقول للضيف الحبيب إليك، لم أقل له ذلك نقمة عليه. فمن ثمّ يسأل الله عز وجل كل عبد من عباده عن نعمة الشباب، فإن هناك أربعة أسئلة إجبارية يوم القيامة، ولا يمكن أن تزول قدما عبد من أمام ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة حتى يمتحن هذا الامتحان الصعب العسير، ولابد من أن يسأل هذه الأسئلة الأربعة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه). ومع أن العمر يشمل الشباب، لكن خص الشباب بالذكر لأن له هذه الخصيصة التي ذكرناها، قال عليه الصلاة والسلام: (عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيما علم). وعد صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الشاب العابد، فقال عليه الصلاة والسلام: (وشاب نشأ في عبادة الله). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما آتى الله عز وجل علماً إلا شاباً، والخير كله في الشباب، ثم تلا قوله عز وجل: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]). وقال تعالى في أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]. وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]. قالت حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا؛ فإنما العمل في الشباب. وقال الأحنف بن قيس: السؤدد مع السواد. وكلمة السواد هنا يحتمل بها عدة معانٍ، لكن المعنى المناسب لموضوعنا أنها تحمل على سواد الشعر، والسؤدد: السيادة، يعني أن السؤدد مع الشباب قبل أن يبيض الشعر، وكأنه يقول: من لم يسد مع الحداثة لم يسد مع الشيخوخة. وهذه قاعدة، ولها استثناءات، لكن القاعدة أن من لم يسد وهو شاب يفوته القطار، ولا تكون هناك فرصة في الشيخوخة؛ لأن الإنسان تتغير نفسيته، وتتغير قدراته البدنية، حتى النواحي العاطفية والوجدانية تتغير فيه، وتبدأ تميل كما تميل الشمس للغروب، فحين يتجاوز الإنسان مرحلة الشباب لم يبق له إلا أن ينتظر الموت، كما قال بعض السلف لصاحب له: كنا نطفة في أرحام أمهاتنا، فسقط منا من سقط، وبقينا فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك أطفالاً، فمات منا من مات، وبقينا فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك صبية، فمات منا من مات، وبقينا نحن فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك شباباً، فمات منا من مات، وبقينا نحن فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك كهولاً، فمات منا من مات، وبقينا فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك شيوخاً، فأي شيء بقى بعد ذلك حتى ننتظره؟! أو كما قال رحمه الله. أي: إذا كان الواحد قد وصل إلى هذه السن وما تاب وما أناب إلى الله سبحانه وتعالى فماذا ينتظر؟! فمن المقطوع به أنه سيأتيه الموت، كما أتى من عداه. وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وعزروه ونصوره واتبعوا النور الذي أنزل معه شباباً.

نماذج من علو همة الشباب

نماذج من علو همة الشباب وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وعزروه ونصوره واتبعوا النور الذي أنزل معه شباباً. هذا أسامه بن زيد رضي الله تعالى عنهما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش وكان عمره ثماني عشرة سنة. وهذا عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة لما صار إلى حنين وعمره نيف وعشرون سنة. وهناك نماذج أخرى لشباب الصحابة الذين أبلوا أحسن البلاء في حمل رسالة الإسلام ونشر نوره في العالمين. فالشباب -كما ذكرنا- هو القوة الروحية والقوة البدنية، وهو فترة القدرة على إنجاز جسام المهام، فينبغي للإنسان أن يغتنمها كما نصحنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذه القدرات تضمحل بعد ذلك بمرور الوقت. والصحابة رضي الله عنهم حينما تطالع سيرتهم في الجهاد تشعر بمدى القوة التي كانوا عليها رضي الله تعالى عنهم. وبعض الناس يتصورون أن الصحابة كانوا ناساً عباداً يذكرون الله سبحانه وتعالى ويخلون في الخلوات ويصلون ويصومون ويتصدقون فقط، وأنهم كانوا ينصرون فقط بالمدد الرباني، ولا شك في أن هذا من أهم أسباب النصر، لكن الصحابة كانوا يأخذون بأسباب القوة، فالصحابة رضي الله عنهم ما كانوا بالصورة التي تريد الصوفية أن تزرعها في قلوبنا لنتصور بها السلف الصالح. وقد حصلت مناقشة في موضوع الفتور البدني الموجود عند بعض الشباب، إذ أن بعض الشباب لا يهتم أبداً بقضية تنمية بدنه، فأنت -أيها الشاب- إذا لم تغتنم فرصة النمو الكبير في صحتك وفي عضلاتك في فترة الشباب فسيفوتك القطار، وبعد ذلك تعجز عن أن تنجز نفس هذه الأشياء، فينبغي الاهتمام بالصحة، والاهتمام بالرياضة البدنية، والاهتمام بقوة البدن، فنحن الآن في عصر كله يعين على الكسل والتراخي والترهل، فنحتاج إلى أن يكون في جدول كل منا نوع من الإنجاز بالجهد العضلي، حتى يستطيع الواحد منا أن يحافظ على صحته، ويكون قوياً يدافع عن نفسه على الأقل، وينهى عن المنكر إذا احتاج، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير). فبعض الأخوة كنت في مناقشة معهم حول هذا، فقال لي أحدهم: هل الصحابة كانوا يجرون أو يمارسون شيئاً من هذه الرياضات؟ فقلت له: هل أنت غافل عن أن حياة الصحابة كلها عبارة عن حركة وركض وجهاد؟! فالصحابة رضي الله تعالى عنهم والأجيال التي فتحت الدنيا فتحتها بالأخذ بالأسباب التي منها الاهتمام بهذا الجانب، إن الصحابة ما عرفوا جلسة المكاتب، وما عرفوا قيادة السيارات، وما كانوا يجلسون على المكاتب حتى تنتفخ منهم الكروش، إن الصحابة ما عرفوا هذا، والسلف ما عرفوا هذا، وإنما عرفوا الجوع، وعرفوا السهر، وعرفوا الجد، وقد قال لي بعض الأخوة الأفاضل ممن كان يجيد ركوب الخيول في معرض هذا الكلام: إن ركوب الفرس يحتاج إلى قوة عضلية غير عادية. ولعل من عنده خبرة بذلك يعرف ذلك؛ لأنه يكون غير جالس على ظهر الفرس، وإنما يكون واقفاً على قدميه، فيحتاج إلى قوة عضلية شديدة جداً. فالصحابة لما خرجوا وجاهدوا في أقطار الأرض على الخيول كانوا أقوياء، ومنهم محمد بن مسلمة وعلي بن أبي طالب، بل إن بعض الناس حكى أنه رأى سيف خالد بن الوليد في بعض المتاحف في تركيا، وأن هذا السيف يحتاج إلى ستة أفراد أو عشرة أفراد حتى يستطيعوا أن يحملوا هذا السيف للضرب به والطعن. فـ خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب كانا من فرسان الإسلام، وما كانوا على التصور الصوفي الآن الموجود عن السلف رضي الله عنهم، بل السلف كانوا يأخذون بالقوة في كل جانب، سواء القوة البدنية أو القوة الإيمانية، وما كانوا يسلكون هذه المسالك التي نعاني منها نحن الآن من الجلوس على المكاتب والترفيه، وغير ذلك من هذه الصور. قال يحيى بن معين رحمه الله تعالى للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي: يا أبا عبد الله! تركت حديث سفيان بعلوه وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه؟! فقال له الإمام أحمد: لو عرفت لكنت تمشي من الجانب الآخر؛ إن علم سفيان إن فاتني بعلو أدركته بنزول، وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لن أدركه بعلو ولا نزول. وقدم وفد على عمر بن عبد العزيز من العراق، فنظر إلى شاب منهم يريد الكلام، فقال عمر: كبر كبر. فقال الفتى: يا أمير المؤمنين! إن الأمر ليس بالسن، ولو كان كذلك كان في المسلمين من هو أسن منك. قال: صدقت، فتكلم. ويقول الشاعر في خلاف هذا المعنى: إنما الظلم أن يساسوا بغر لم تعره الأيام رأياً وثيقا وحكى المسعودي في شرح المقامات أن المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية وهو صبي وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة، أي: لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية مع أنه كان صبياً، لكن كان خلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة وإياس أمامهم، فقال المهدي: أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث؟! أي: ألم يجدوا غير هذا الشاب الحدث السن ليتقدم المشايخ وهؤلاء الناس الكبار؟! ثم إن المهدي التفت إليه وقال -أي: لـ إياس بن معاوية بن قرة بن شريك القاضي المعروف-: كم سنك يا فتى؟! فقال: سني -أطال الله بقاء الأمير- سن أسامة بن زيد بن حارثة لما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم أبو بكر وعمر. فقال له: تقدم بارك الله فيك. وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة أو نحوها، فاستصغروه -أي أن الحاضرين استصغروه لصغر سنه حين ولي قضاء البصرة- فقالوا -ازدراء له-: كم سن القاضي؟ فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل مكة يوم الفتح -وكان سن عتاب خمساً وعشرين سنة-، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب قاضياً على البصرة. فجعل جوابه احتجاجاً له. وقال أبو اليقظان: ولى الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم الثقفي قتال الأكراد بفارس، فأباد منهم، ثم ولاه السند فافتتح السند والهند، وكان عمره سبع عشرة سنة. فيا حسرتاه على شباب المسلمين الآن الذين نراهم في الشوارع يعزفون ويسمعون الموسيقى الأمريكية، ويعلقون الأعلام الأمريكية على أعناقهم وفي سياراتهم! إنه خزي وعار لم يسبق له مثيل، وهو كذلك نوع من خفة الهمة إلى أسوأ الصور، ومعناه الضياع، والله المستعان. فعلم أمريكا يعلقه أولاد المسلمين في سياراتهم الآن، وما بقي إلا علم إسرائيل! فـ محمد بن القاسم رحمه الله تعالى قاد الجيوش، وفتح السند والهند، وهو ابن سبع عشرة سنة، والسند والهند يراد بهما باكستان وبنجلاديش والهند وكشمير، كل هذه المنطقة يقال لها: الهند والسند، فقال فيه الشاعر: إن السماحة والمروءة والندى لمحمد بن قاسم بن محمد قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد يعني أن السيادة والعلو والشرف ناله وهو قريب العهد بسن ميلاده. ويروى: يا قرب ذا سورة من مولد. والسورة هي المنزلة الرفيعة. وكان حطيط الزيات مشهوراً جداً بموقفه العظيم مع الحجاج، فلما قبض عليه وذهبوا به إلى الحجاج بن يوسف الثقفي قال له الحجاج: أنت حطيط؟ قال: نعم، سل ما بدا لك؛ فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن. فقال الحجاج: فما تقول فيِّ؟ قال حطيط: أقول: إنك من أعداء الله في الأرض؛ تنتهك المحارم، وتقتل بالظنة. قال الحجاج: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: أقول: إنه أعظم جرماً منك، وإنما أنت خطيئة من خطاياه. فأمر الحجاج بتعذيبه، حتى انتهى به العذاب إلى أن يشقق له القصب، ثم جعلوه على لحمه، وشدوه بالحبال، ثم جعلوا يستلون قصبة قصبة، حتى انتزعوا لحمه - أي أن القصب نزع اللحم من جسده - فما سمعوه يقول شيئاً، ولا بدا عليه جزع أو ضعف، فأخبر الحجاج بأمره وأنه في الرمق الأخير، فقال: أخرجوه فاقتلوه في السوق. ووقف عليه رجل وهو بين الحياة والموت يسأله: ألك حاجة؟ فما كان من حطيط إلا أن قال: مالي من حاجة في دنياكم إلا شربة ماء، فأتوه بشربة شربها، ثم مات، وكان رحمه الله تعالى ابن ثماني عشرة سنة. وولي عبيد الله بن زياد خراسان وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وليها لـ معاوية رضي الله تعالى عنه، وولي معاذ بن جبل اليمن وهو ابن أقل من ثلاثين سنة، وحمل أبو مسلم أمر الدعوة والدولة وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وحمل الناس عن إبراهيم النخعي وهو ابن ثماني عشرة سنة، ومات سيبويه إمام النحو وحجة العرب وله من العمر اثنتان وثلاثون سنة. قال البحتري في هذا المعنى وهو يمدح شخصاً اسمه العباس؛ لأنه أدرك المجد مع أنه صغير: لا تنظرن إلى العباس من صغر في السن وانظر إلى المجد الذي شادا إن النجوم نجوم الأفق أصغرها في العين أذهبها في الجو إصعادا فقوله: (لا تنظرن إلى العباس من صغر في السن) يعني: لا تحتقره لصغر س

علو الهمة [9]

علو الهمة [9] الدعوة إلى الله عز وجل هي أشرف وظيفة في هذا الوجود على الإطلاق؛ لأنها ميراث النبوة، فالداعية إلى الله عز وجل عالي الهمة، يحمل همَّ الأمة كلها ولا ينغلق على نفسه، فيشارك المسلمين آلامهم، ويواسي إخوانه المحتاجين، ويقضي حوائجهم، ويشفع لهم، ويسعى في مصالحهم، ويبذل كل ما في وسعه من أجل خدمتهم ودعوتهم إلى الله عز وجل.

حمل الداعية عالي الهمة لهم الأمة

حمل الداعية عالي الهمة لهم الأمة فحديثنا -بإذن الله تعالى- سيكون عن أبرز المجالات التي طبق بها السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان ذلك الوصف العظيم، أعني علو الهمة، ونبدأ بعلو همتهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. فأبرز ما يتميز به كبير الهمة من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أنه يحمل هم الأمة، ولا يتمركز ولا يتمحور حول نفسه، ولا حول ذاته، وإنما كل همه هو أن يصلح حال الأمة من حوله، فأعظم ما يهتم به الداعية الكبير الهمة هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، وإذا أردنا أن نفصل ذلك فلا شك في أنه سيطول فيه الكلام، وحينما نراجع سير الأنبياء -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- نرى ذلك جلياً، فلو رجعنا -مثلاً- إلى سورة نوح لرأينا دأب نوح عليه السلام، وكبر همته، وعظم الجهد الذي بذله في سبيل هداية قومه إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه وتعالى عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:5 - 6] إلى آخر الآيات في سورة نوح كما هو معلوم، وكلها تعكس إصرار نوح عليه السلام على الدعوة إلى الله عز وجل، ولا شك في أن نوحاً من أولي العزم من الرسل، ولذا كان منه الإصرار على دعوة قومه، واستخدام كل ما أمكن من الأساليب لأجل هدايتهم، وهذا أمر مطرد في قصص سائر الأنبياء والمرسلين، حتى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وكذلك لو رجعنا إلى سير أتباع الرسل لرأينا أنهم كانوا قدوة في ذلك، فمثلاً: نرى كيف كان مؤمن آل فرعون، وكيف أنه اجتهد في اللحظة المناسبة وجهر بإيمانه، وجاء لينصر موسى عليه السلام، ومن ذلك قوله -كما حكى الله عنه-: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]. ومن أتباع الرسل أيضاً الذين كانوا كبيري الهمة: حبيب النجار الذي حمل هم دعوة قومه، وليس فقط في حال حياته، بل حتى بعدما انتقل إلى الآخرة، حيث أبلغ لهم في النصح بعد الاستشهاد، حتى إنه بعد استشهاده وبعدما قتلوه يقول وهو في الجنة: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، فحينما قتلوه وأفضى إلى الجنة وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى تمنى لو أنهم اطلعوا على عاقبته، ولا شك في أن حسن العاقبة دليل على استقامة المنهج الذي كان يدعوهم إليه، وأنه كان على الحق، فحينما انتقل إلى دار اليقين ورأى وعاين ما كان يؤمن به غيباً حينئذٍ تمنى، وامتدت أمنيته إلى هداية قومه حتى بعد استشهاده، فقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] أي: لو يعلمون الآن بما أنا فيه لعرفوا أني كنت على الحق، ولاتبعوني. وإذا تأملت قوائم عظماء رجالات الإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم لرأيت أن علو الهمة هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام واعتز بهم الإسلام، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواءٌ أكانوا علماء، أم دعاة، أم مجددين، أم مجاهدين، أم مربيين، أم عباداً صالحين؛ لأنهم لو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم أي موضع في قوائم العظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم، ولا تزينت بذكرهم صحائف التاريخ، ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين، وأسوتهم في حمل هم الأمة، بل أسوتهم في كل باب من أبواب الخير هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي شارك المسلمين آلامهم، وكان في حاجتهم، حتى حطمه صلى الله عليه وآله وسلم الناس. فأسوتنا -بلا شك- في كل خير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] أي: في كل ميادين الخير، وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، فكان صلى الله عليه وسلم يحمل هم من حوله، وليس في الدعوة فحسب، بل في قضاء حاجاتهم والاستجابة لمطالبهم كذلك. فعن عبد الله بن شقيق قال: (قلت لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً؟ قالت: بعدما حطمه الناس) أي: كان يصلي جالساً بعدما حطمه الناس. والحقيقة أن هذه الكلمة في قمة التعبير مع وجازتها! يقال: حطم فلاناً أهله. إذا كبر فيهم، وكأنهم بما حملوه من أثقالهم صيروه شيخاً محطوماً، وكأنه من كثرة مسئوليات أهله وأولاده وذريته قد حطم لكثرة تحمله أعباءهم وأثقالهم، حيث أفنى كل قوته وكل شبابه في خدمتهم وأداء واجبهم حتى صار شيخاً محطوماً، فقولها: (بعدما حطمه الناس) يعني: صلى جالساً من شدة الإعياء والجهد؛ لأنه بذل كل صحته وكل عافيته وكل قوته في قضاء حاجات الناس والصبر على مشقتهم. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.

عموم نفع الداعية من ذوي الهمم العالية

عموم نفع الداعية من ذوي الهمم العالية ومن خصائص حمل هم الأمة أن لا يكون الإنسان أنانياً أو متمركزاً ومتمحوراً حول نفسه فقط، بل يمتد نفعه وبركته إلى من حوله حيث كان، وهذا معنى قوله تعالى في وصف المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] أي: حيثما كان ينتفع الناس به، وينتفع المحيطون به. ومن ذلك قول حذيفة رضي الله تعالى عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه سلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) إلى آخر الحديث، رواه البخاري. فلو أنك راجعت سياق حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه لرأيت أن سياق الحديث يشير إلى حرص حذيفة رضي الله تعالى عنه على تعميم الانتفاع بالإرشاد النبوي في زمن الفتنة إلى جميع المسلمين من بعده؛ لأن الظاهر من سياق الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام يخبره عن أشياء ستحصل في المستقبل، حتى إنه لا يبقى للمسلمين لا جماعة ولا إمام، وهذا الأمر لم يحصل حتى الآن؛ لأننا لم نصل إلى مرحلة لا جماعة فيها ولا إمام، وإنما توجد الجماعة، وهي جماعة أهل السنة والجماعة الذين يلتزمون المنهج الصحيح والعقيدة الصحيحة، وهم متفرقون في شتى بقاع الأرض، لكن لا توجد الإمامة، فالكيان السياسي أو الخلافة الإسلامية غير قائمة الآن، لكن توجد الجماعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحدثه عن عصر أسوأ مما نحن عليه الآن؛ لأنه لا جماعة فيه ولا إمام، وتتحقق فيه الغربة بكل معانيها. فالشاهد أن حذيفة في سؤاله الرسول عليه الصلاة والسلام تجد أنه يحمل همنا نحن وهم كل من يأتي بعده، ولهذا جعل يسأل ويستفصل ويحاور الرسول عليه الصلاة والسلام من أجل أن ينفعنا نحن، فهذا من علو همته في نفع الأمة ودعوتها؛ لأنه قال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت: وما دخنه -وانظر إلى الاستفصال؟ - قال: قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جنهم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: صفهم لنا. فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني أن أفعل إن أدركني ذلك -يعني: ذلك الزمان-؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك). والشاهد من الحوار أن حذيفة كان يحمل هم المسلمين من بعده، وإن كان الظاهر أنه يسأل لنفسه، لكن هذا الاستفصال والمراجعة إنما هو من أجل أن يهدي من بعده إلى كيفية المخرج من الفتن التي تأتي.

حال الداعية كبير الهمة مع قومه ومن يدعوهم

حال الداعية كبير الهمة مع قومه ومن يدعوهم تأمل كيف تعامل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع ذلك الرجل الأعرابي الذي أتى وبال في المسجد، فأراد الصحابة أن يقعوا به ويفتكوا به، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه -يعني: لا تقطعوا عليه بوله-. فتركه حتى فرغ، ثم أمر بذنوب من ماء -أو سجل من ماء- فأريق على بول الأعرابي، ثم قال للصحابة رضي الله تعالى عنهم: إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)، فأعجب ذلك الأعرابي بمسلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معه، وعبر عن ذلك الإعجاب بأن دعا الله سبحانه وتعالى، فقال: اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (لقد حجرت واسعاً)، ولا شك في أن هذا من الاهتمام بأمر الأمة. ومن مظاهر هذا الاهتمام الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قوله: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)، وهذا في الحقيقة من المطالب العالية التي لا يفطن لها كثير من الناس، فأحدهم يظن أنه يدعو لنفسه ولمن هم من خاصته، كإخوانه أو أحبابه، ويغفل عن الاهتمام بالدعاء لعموم المسلمين، فهذا من التقصير، وهذا من ضعف الهمة؛ لأنك إذا دعوت لعموم المسلمين تنال هذا الثواب العظيم الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)، فلا يزهد في هذا الثواب العظيم إلا من لم تصعد همته إلى نيل حسنات بعدد ملايين المسلمين المأسورين في أقطار الأرض. وقد ذكر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعض صفات أهل الجنة، كما في الحديث الذي رواه مسلم، وكان مما قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، فمن صفات أهل الجنة أن الواحد منهم رحيم رقيق القلب، فقلبه رقيق، وممتلئ بالرحمة لمن يحبهم ويحبونه، وليس لإخوانه والمقربين إليه فحسب، وإنما يرحم الناس كافة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يضع الله رحمته إلا على رحيم. قالوا: كلنا يرحم يا رسول الله! قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكن يرحم الناس كافة)، فقلبه كبير يتسع لكل إخوانه في الإيمان. فكل هذه المعاني -بلا شك- تغنينا عن الحديث الضعيف الذي يلهج به كثير من الناس، وهو ما ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) والمعنى صحيح، وترشد إليه هذه النصوص التي نذكرها، لكن من حيث السند لم يصح هذا الحديث، وتأمل هذا المعنى الذي عبر عنه الشاعر أيضاً بقوله: فلا هطلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد فيدعو الله سبحانه وتعالى بأنه إذا كانت السحابة تنزل الماء فقط على أرضه، ويحرم منها سائر إخوانه المسلمين أن لا تأتي هذه السحابة، فيسأل الله أن ينزل المطر على أرضه، ويعم إخوانه المسلمين، وإن كان سينزل عليه هو وحده فهو لا يريده. فالداعية إلى الله سبحانه وتعالى الكبير الهمة يقدر تبعات هذا المقام الرفيع، فهو يظمأ حيث يروى الناس، ويسهر حيث ينامون، ويجوع حيث يشبعون، ويتعب حيث يستريحون، ويقدم حيث يحجمون. عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم -يعني: في القتال- اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: حينما يشتد القتال ويشتد الصدام مع الكفار إلى أصعب ما يكون وأشد ما يكون كان الصحابة رضي الله عنهم من أراد منهم أن يتقي يحتمي برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لشدة بأسه على الكفار، وشدة شجاعته في الجهاد، وإقدامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذا قال: (فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه)، أي: لا يكون أحد من الصحابة أقرب إلى الأعداء يبارزهم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وعن البراء رضي الله تعالى عنه قال: (كنا -والله! - إذا احمر البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به صلى الله عليه وسلم). وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة -يعني: سمعوا صوتاً في الليل فخافوا أن يكون العدو سيهجم عليهم في المدينة- فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني أنهم ما إن سمعوا الصوت حتى تجمعوا، وأرادوا أن يتجهوا قبل الصوت، ففوجئوا بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أسرع الناس خروجاً ليبحث عن سر هذا الفزع وهذا الصوت الذي صدر، فإلى أن تحركوا هم وجدوه قد ذهب بسرعة ورجع قبلهم، وذلك قبل أن يتحركوا هم، فطمأنهم أنه لم يجد شيئاً ولم يجد بأساً، ولذا يقول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: لن تراعوا. -وهذه كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيساً، وإظهاراً للرفق بالمخاطب-، وهو على فرس لـ أبي طلحة عري ما عليه سرج - أي أنه قاد فرس أبي طلحة ولم يكن عليه سرج ولا شيء- في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحراً. أو: إنه لبحر) يعني: أن هذا الفرس أسعفني حينما خرجت. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ولأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته -وأشار بأصبعيه- أفضل من أن يعتكف في مسجدي -أي: مسجد المدينة- هذا شهرين)، فلأن تمشي مع أخيك في قضاء حاجة له أفضل من أن تعتكف في مسجد المدينة شهرين، وهذا -بلا شك- تعظيم لقضاء حاجات المسلم. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) فهذه الأحاديث كلها بجملتها تنبهنا إلى أن يحمل الإنسان هم إخوانه المسلمين من حوله دون تمييز.

حمل السلف الصالح لهم الأمة وبذلهم في ذلك

حمل السلف الصالح لهم الأمة وبذلهم في ذلك وقد طبق السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم هذه المعاني التي تعلموها منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعن عبد الكريم بن أبي أمية قال: لأن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إليّ من اعتكاف شهر. فقوله: (لأن أرد رجلاً عن رأي سيئ) يعني: بأن أجلس معه، وأناقشه، وأبين له الحق، وأدفع عنه الشبهات. فهذه عبادة في نظره أعظم من أن يعتكف شهراً كاملاً ويتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالاعتكاف، وهذا هو الفقه الدقيق بعينه؛ لأن هذا نفع متعدٍ إلى الآخرين. وهذه فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تصف زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فتقول: كان قد فرغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومه بليلته. أي أنه كان إذا دخل عليه الليل ولم يكف النهار لقضاء حاجات الناس يصل الليل بالنهار سهراً في قضاء حاجات المسلمين. وقال أبو عثمان شيخ البخاري رحمه الله تعالى: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي. فانظر كيف طبق المسلمون هذه القيم وهذه المفاهيم، ومما يؤسف له الآن أن أغلب الناس الذين يكون لهم نوع من الوجاهة في المرافق والمصالح والهيئات ونحو هذه الأشياء إذا جاء إليهم شخص يريد أن يقضي حاجة، يسأله الذي سيقضيها: عمّا سيدفع من الرشوة أو الهدايا أو المال السحت! فيأخذه ظلماً وعدواناً؛ لأن واجبه أن يفرج كربة المسلم ابتغاء ثواب الله، وابتغاء ما عند الله حتى يفرج الله كربته يوم القيامة، لكن لا تكاد تجد إنساناً في محنة ويبحث عن صاحب وجاهة أو صاحب سلطة كي يفرج كربته إلا ويكون السؤال أولاً عن المبلغ الذي سيدفعه أو الرشوة التي سيدفعها ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد عمت الرشا بشكل لا يتصور الإنسان معه أن هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام يؤمنون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) واللعن: الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك صارت كأنها حق مقنن. والذي يأتي بالواسطة أو يأتي بالرشوة أو بالهدية هو الذي تقضى حاجته، أما من لا يبذل فإنه يحرم من قضاء حاجته، وقد يكون أشد حاجة من غيره، ولذلك يقول بعض الشعراء في مثل هذا المعنى في معترك رجل رفض أن يدفع الرشا فعزلوه: عزلوك لما قلت ما أعطي وولوا من بذل أو ما علمت بأن (ما) حرف يكف عن العمل فـ (ما) إذا التحقت بإن وأخواتها فإنها تكفها عن العمل، هذا كلام أصحاب النحو والإعراب، فهو يلغز بهذا المعنى في هذا الموطن، ويقول: إن كلمة (ما) هي السبب في تعطيلك، كما تعطل (ما) إن وأخواتها. وبالمناسبة لا أنصح أحداً أبداً حينما يقال له: من واسطتك؟ أن يقول: الله سبحانه وتعالى. لأن الله سبحانه وتعالى يتوسل إليه ولا يتوسل به كواسطة، فهؤلاء الذين يسألون هذه الأسئلة أو يأخذون الرشا ولا يتقون الله إذا قلت لأحدهم: (الله) فإنه ينطق أحياناً بكلمة يكفر بها، فأنت مطالب إذا كنت ستذكر إنساناً بالله وغلب على ظنك أنك إذا ذكرته بالله يسب أو يصدر منه ما يكفر به فحينئذٍ لا تذكره بالله، وإذا كان هو في حالة من الغضب وهو معروف بالسفاهة وضعف الدين ورقة العقل فلا تقل له: اتق الله. وإذا كنت تعلم أن من خلقه أنه يسب الله أو يسب الدين فلا تذكره بالله في هذه الحالة؛ لأن هذا من باب سد الذرائع إلى هذا الكفر العظيم، فلذلك إذا كنت تعلم أو يغلب على ظنك أن هذا الرجل لا يتقي الله فإذا قال لك: من واسطتك؟ فلا تقل: الله. لأنك تعرف الجواب الذي يصدر عن كثير من الناس -والعياذ بالله- ويخرجون به من الإسلام، فلا لا تفتح له ذريعة إلى الكفر. كي لا ينطق بالكلام الخطير الذي ينطق به هؤلاء السفهاء. فالشاهد أن هذه هي أخلاق الإسلام، وهذا هو روح الإسلام الذي يربط جميع المسلمين، فالإنسان أحياناً إذا كان له وجاهة أو يستطيع أن يعين أخاه -سواءٌ أكان مديراً أم صاحب هيئة، أم صاحب مال، أم نحو ذلك- فعليه أن يزكي عن هذه الوجاهة وعن هذا المال وعن هذه النعمة التي خوله الله إياها بأن يقضي حاجات الناس ما دامت ليست في معصية، ولا في ظلم لأحد، ولا في تضييع فرص يستحقها من هو أولى منه، فيجب عليه أن يقضي حاجات الناس، فمثلاً: إذا جاء رجل يبحث عن عمل، فمعناه أنه يتحرى الحلال، ويريد فرصة عمل لكي يكسب من حلال، فإذا أتاك كي تعينه على البحث عن فرصة عمل فواجبك وحق أخيك المسلم عليك أن تبذل كل ما تستطيع من إمكانياتك حتى تقضي حاجته. فالشاهد أننا مطالبون بأن نذكر كل من ينتسب للإسلام بهذا الكلام؛ كي تخف هذه المحنة التي شاعت وعمت وطمت، حتى صار أولئك المرتشون مثل مكينة البيبسي التي إن أعطيت لها المال عملت وأخرجت لك ما تريده وإذا لم تعطها لا تخرج شيئاً والله المستعان. فعلى أي الأحوال يجب أن يتواصى الناس بقضاء حاجات بعضهم بدون مقابل؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام حذرنا من قبول أمثال هذه الهدايا، فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)، فإذا كنت قد شفعت لرجل وأراد بعد ذلك أن يعطيك هدية فإذا قبلتها فقد أتيت باباً عظيماً من أبواب الربا، مع أنك لم تطلب منه، لكن إذا كان بينكما أخوة سابقة، والعادة جرت بينكما بالتهادي فلا حرج في قبول الهدية؛ لأنها عادة جارية، لكن إذا لم تحصل على الهدية إلا بعدما سعيت له في هذا الأمر، ولم تكن تجري العادة بالتهادي بينكما فهذا سحت وربا لا يجوز لك أن تأخذه. يقول شيخ البخاري أبو عثمان رحمه الله تعالى: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنا له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت بالسلطان.

سماح نفس الإنسان بالبذل والعطاء دليل على الخير

سماح نفس الإنسان بالبذل والعطاء دليل على الخير ومن علامات السعادة وعلامات إرادة الله سبحانه وتعالى الخير بالإنسان وتيسيره اليسر أن يجد نفسه تسمح بالبذل، فإذا وجد نفسه تسمح بالبذل ليطمئن لهذه العلامة، وليعلم أن الله سوف يفتح له أبواب الخير؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، وقال أيضاً: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. فالإنسان إذا بذل إما أن نفسه تشح بالبذل وبالمساعدة، وإما أن يسلط عليه الشيطان جنوده ونوابه من زاوية أو صديق أو إنسان بخيل، ووقتها يقول له: أولادك! وكيف تنفق؟! فأنت أولى، وأنت أحوج إلى هذا المال. فإذا وسوس لك أحد بمثل هذا الكلام إذا أرادت يدك أن تبذل في سبيل الله وسبيل قضاء حاجات الناس، فتذكر قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، فهؤلاء الذين يعظونك هذه الموعظة المشئومة لم ينعم الله عليهم بوقايتهم شح أنفسهم، فإذا أكرمك الله بهذه الخصلة فلتطاوعك يدك في الإنفاق، وتذكر أنك إذا وقيت شح نفسك فأنت من المفلحين.

نماذج من الذين سعوا في قضاء حوائج المحتاجين

نماذج من الذين سعوا في قضاء حوائج المحتاجين كان الليث بن سعد رحمه الله تعالى يجلس للمسائل، فيغشاه الناس ويسألونه، ويجلس لحوائج الناس، ولا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت. واعتادت أم الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى أن تراه مهتماً لأحوال المسلمين إذا ألمت بهم أو بأحدهم نائبة، فرأته ذات يوم على هذه الحال مغموماً مهموماً، فقالت له: ما لك؟! هل مات مسلم في الصين؟ لأنها تعودت على أنها لا تراه حزيناً إلا لأنه يحمل هم المسلمين. وهذا شاعر الدعوة الإسلامية المعاصرة عمر بهاء الدين الأميري كان في جناح طب القلب، وكان صدره موصولاً إلى جهاز المراقبة الإلكتروني بأسلاك تشل من حركته، وكان يحقن في البطن كل يوم مرات بإبر لمناعة الدم، وقد جاء الطبيب يسأل القائم على التمريض عن استراحة شاعرنا، ويسأله: كيف حاله الآن؟ هل استراح؟ فرد عليه باستغراب وبفهم يختلف عن فهمه قائلاً: كلا رويدك يا طبيب وقد سألت أما استراح هل يستريح الحر يوقد صدره العبء الرزاح فهل العبد الحر أو الإنسان الحر إذا كان يشعل ويوقد صدره العبء الثقيل من حمل هموم المسلمين، هل هذا يمكن أن يستريح؟

الحركة في حياة الداعية إلى الله عز وجل

الحركة في حياة الداعية إلى الله عز وجل إن الداعية من أخص ما يختص به أنه يمكن أن يكون داعية ولا يكون على درجة عالية من العلم، فالداعية إنسان يغار على الدين، خاصة في مثل هذا الزمان الذي أصبحت الأمور الأساسية التي هي معلومة من الدين بالضرورة يجهلها الناس، والمعاصي التي ترتكب هي في الغالب مخالفات صريحة للدين، وليست أموراً خفية، ولا يجهلها أحد، وحينئذٍ من علم هذه الحدود من حدود الله فواجب عليه أن ينصح ويعظ الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فالداعية من أخص خصائصه أنه متحرك الحركة المنافية للخمول والسكون، فالحركة ولود، والسكون عقيم، والحركة هي الحياة، والسكون هو الموت. يقول الجيلاني: الحركة بداية، والسكون نهاية. فالأشياء لا تسكن إلا إذا وصلت إلى نهايتها وخمدت وماتت، لكن الحركة تكون بداية لما بعدها، فهي تلد ما بعدها، والحركة هي الحد الفاصل بين عهد الرقابة وبين عهد حمل الأمانة بعزم وحزم ووفاء، فبالحركة انتشر المسلمون الأوائل مثل شعاع الشمس في أقطار الأرض يفتحون البلاد، ويفتحون قلوب العباد، ويدعون إلى التوحيد، ويحطمون الطواغيت، ويقودون الناس إلى الجنة، وبالحركة صاروا في ظلمات الحياة سراجاً وهاجاً، فإذا بالباطل قد صار رماداً بعد التهاب وخامداً بعد حركة. يقول الشاعر معبراً عن أن الحركة هي الشيء الأصل فيمن يحقق معنى كلمة التوحيد؛ إذ التوحيد عبارة عن نفي وإثبات، وإيجاب وسلب، فـ (لا إله) نفي وسلب و (إلا الله) إيجاب وإثبات، أي أنه لا يستحق أن يفرد بالعبادة إلا الله سبحانه وتعالى، فهو يريد أن يعبر عن أنه لا يمكن أن أحداً يقول: (لا إله إلا الله)، ويفهمها حق فهمها إلا فعلت فيه هذه الكلمة فعل الكهرباء في الآلة حين تحركها وترفعها وتعطيها الطاقة، يقول هذا الشاعر: إنما التوحيد إيجاب وسلب يعني: لا إله إلا الله. لا وإلا قوة قاهرة ولها في النفس فعل الكهرباء يعني: كما أن الكهرباء تأتي من الموجب والسالب، فالموجب والسالب هما اللذان يولدان الطاقة الكهربائية، فتحرك الآلة، فكذلك كلمة التوحيد عبارة عن موجب وسالب، وهما (لا)، و (إلا)، فـ (لا) السالب، و (إلا) هي الإثبات الموجب، فهما اللذان يحركان القلب حينما يجتمعان فيه، ويخرجان هذه الطاقة. وهذا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يصور عشقه الحركة وبعده عن الجمود والكسل، فيمثل السكون بالماء الذي يتوقف عن الجريان فيفسد؛ لأن الماء إذا توقف عن الجري فسد، ولذلك نهى الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد، أما الذي يجري فإنه يتجدد. ويجزم الإمام الشافعي بأن الأسد قد تتعرض للهلاك لولم تتحرك باحثة عن فريستها، وكذلك السهام لولا تحركها من الكنانة إلى القسي ومن القسي إلى الهدف لما أصابت. يقول الشافعي رحمه الله تعالى: إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يُصب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عرب وهذا الشاعر الإسلامي وليد الأعظمي يهيب بالداعية أن يتحرك ويحرك الآخرين مبتدأً بعشيرته الأقربين فيقول: كن مشعلاً في جنح ليل حالك يهدي الأنام إلى الهدى ويبيِّنُ وانشط لدينك لا تكن متكاسلاً واعمل على تحريك ما هو ساكنُ وابدأ بأهلك إن دعوت فإنهم أولى الورى بالنصح منك وأقمنُ والله يأمر بالعشيرة أولاً والأمر من بعد العشيرة هينُ وهذا القرضاوي يجادل الخاملين ويحاج الخامدين، ويوبخ الهامدين فيقول: قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي الخمود في العيش بين الأهل لا عيش المهاجر والطريد في المشي خلف الركب في دعة وفي خطو وئيد في أن تكون كما يقال فلا اعتراض ولا ردود في أن تسير مع القطيع وأن تقاد ولا تقود في أن تصيح لكل وال عاش عهدكم المجيد قلت الحياة هي التحرك لا السكون ولا الهمود وهي الجهاد وهل يجا هد من تعلق بالقعود وهي التلذذ بالمتاعب لا التلذذ بالرقود هي أن تذود عن الحيا ض وأي حر لا يذود هي أن تحس بأن كأ س الذل من ماء صديد هي أن تعيش خليفة في الـ أرض شأنك أن تسود وتقول لا ونعم إذا ما شئت في بصر حديد هذه الحركة التي نتكلم عنها هي في الحقيقة عبارة عن عملية قيامة وبعث لروح الإنسان ولنفس الإنسان، فكما أن القيامة والبعث والنشور فيها إحياء للموات وبعث للحياة والحركة من جديد فكذلك حركة الداعية هي عبارة عن قيامة وبعث في الروح. وهذا المصطلح ليس من كيسنا، وإنما هو من القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة، ونبأه بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]، وأرسله بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فهذه الآية هي التي انتقل بها النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة إلى الرسالة، وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، وتأمل كلمة ((قُمْ)) فإنها تفيد القيام والحركة. ونفس هذا المعنى موجود في مثل قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]، ففي هذه الآية إشارة -أيضاً- إلى هذا القيامة، ونفس المعنى ذكره الله عز وجل في شأن أصحاب الكهف، فقال سبحانه: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] فهي حركة. هذه القيامة الروحية واليقظة القلبية من أول منازل الطريق تستدعي الحركة في سبيل الدعوة، فليست هي أول منازل طريق التوبة؛ لأن الإنسان لا يتوب إلا بعدما يفيق ويستيقظ قلبه أولاً، فهو يستيقظ من النوم، ثم بعد ذلك يفكر في التوبة. فالقيامة دائماً هي التي تسبق التوبة، يقول تبارك وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يعني: ومن اتبعني أيضاً يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، قال الكلبي: حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه الخاصية من خصائص الدعوة الإسلامية هي التي حيرت أعداء الإسلام في القديم وفي الحديث؛ لأن كل مسلم مهتم بالإسلام، كما قالها من قبل آرنولد تويمبي وغيره من المستشرقين وأعداء الإسلام، أبدوا الذهول من أن كل مسلم يعتبر نفسه مسئولاً عن الإسلام، وأينما ذهب يعتبر نفسه سفيراً للإسلام، وهو متحدث باسم الإسلام، وحريص على أن يبادر الناس بدعوتهم إلى الإسلام في كل مكان، فكان هذا التفسير تفسيراً مقبولاً لدخول أمم بكاملها في الإسلام بدون سيف، فكثير من بلاد العالم الإسلامي -بل أكبر بلاد العالم الإسلامي، وهي إندونيسيا وكل المنطقة التي في شرق آسيا من بعد الهند والفلبين، وكل هذه المناطق التي فيها ملايين المسلمين- ما أريقت فيها قطرة واحدة في الجهاد في سبيل الله، وما فتحت بسيوف أبداً، وإنما فتحت بالتجار المسلمين الذين كانوا يذهبون إلى تلك البلاد، كما قال بعضهم: كان الداعية يذهب في زي تاجر، أي أنه داعية متقمص ثياب التجار، فكان بمجرد وجود التاجر المسلم بأخلاقه وآدابه وسمته وتعظيمه للصلاة وصدقه وقيامه بسائر الأخلاق في وسط هذه المجتمعات، كان الناس ينقادون إليه انقياداً كاملاً، ويتبعون دينه، فيدعوهم بلحظه قبل لفظه، وبسلوكه وخلقه قبل أن يتكلم. فالشاهد أن هذه الخطوة هي التي ما زالت تحير أعداء الإسلام إلى اليوم، فمهما اجتهدوا في حربه فهذه الخاصية هي السبب الحقيقي في صمود الإسلام؛ لأنه لا توجد هيئة رسمية في أي دولة إسلامية يمكن أن نقول عنها: هي التي تحرك الدعوة الإسلامية في العالم. بل العكس، فأغلب الهيئات الرسمية إما أن تريد أن تسخر الإسلام لمصالحها السياسية، وتجعله قابلاً لها، وإما أنها منحرفة بدعوتها إلى الإسلام، وهي جادة فعلاً في الدعوة، مثل الشيعة في إيران، فهم من أشد الناس حركة في الدعوة إلى باطلهم في كل العالم، ويضحون بالنفس والنفيس، ومع ذلك هم على باطل وعلى دين مخالف لدين الإسلام كما نعلم. فهذه الهيئات إما أن أصحابها مبتدعون ضالون، وإما أنها تعادي الإسلام صراحة وتريد أن تجفف منابعه، وأما أنها هيئات رسمية تتظاهر بخدمة الإسلام لكي تسخره خادماً لمآربها ولمقاصدها، فما الذي يقوم بالدور الفعلي للدعوة إلى الإسلام في كل أرجاء الأرض؟! هي جهود هؤلاء الدعاة الذين لا أقول عنهم: هم أسماء مشهورة وشخصيات معينة. بل كل مسلم يتحرك، حتى إننا نجد أحياناً الشخص قد يكون فاسقاً ومقصراً في دينه، ومع ذلك تجده يفرح جداً إذا رأى كافراً يدخل في الإسلام، ويضحي من أجل ذلك بما يستطيع، فمثلاً: لو أن رجلاً نصرانياً أسلم فإن أشد الناس حماساً في مساعدته هم عوام الناس، وهذا فيه تعبير عن هذه الإيجابية والرغبة في انتشار الإسلام وهدي قلوب الخلق والابتهاج بنشر هذا الدين.

نماذج من المتحركين في الدعوة إلى الله عز وجل

نماذج من المتحركين في الدعوة إلى الله عز وجل تلا الحسن البصري رحمه الله قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ثم قال: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله. وقال الوزير بن هبيرة في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20]، وقوله عز وجل: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20]: تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بعد في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق. وهذا من علو الهمة، فقوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] هو في قصة حبيب النجار، والآية الأخرى في قصة ناصح موسى عليه السلام، وهي: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20]. وانظر إلى كلمة ((مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ))، أي: من آخر طرف في المدينة، جاء يسعى ويجري لكي ينصح ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

نفاسة معدن المتحرك في الدعوة إلى الله عز وجل

نفاسة معدن المتحرك في الدعوة إلى الله عز وجل والشخص الذي يتحرك للدعوة ويقبل أن يضحي في سبيل الدين، خاصة إذا كانت الدعوة تتعرض لمحن تحركه -في الغالب- يدل على نفاسة معدنه وأصالة جوهره، فمثلاً: المرأة التي تتنقب في وسط الظروف التي نعيشها الآن لا شك في أنها صاحبة همة غير عادية؛ لأنها ترى المنقبات كيف يحاربن، وكيف يشنع بهن، وهكذا لو أن الإنسان أعفي لحيته أو تاب في مثل هذا الجو الصعب الذي نعيش فيه في مثل هذا الزمان، فلا شك في أن هذه النوعية تكون موفقة من عند الله سبحانه وتعالى، وإلا فالغالب أن الناس تصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى بشتى الحيل. أما هذا الذي يتباطأ عن الاستجابة لدعوة الله، أو الاستجابة لداعي الإيمان، ويتباطأ مؤجلاً إلى أن تظهر بوادر النجاح، فحينما يكون المسلمون أصحاب اليد العليا، وحينما تكون الدعوة لها ثقل أكثر فما يتمناه هو وعد الضعاف، فوعد الضعاف أن يقول أحدهم: اشتغل في الدعوة حتى ترجع الموجة مرة أخرى، وحتى تنحسر هذه الشدة التي نحن فيها. إن المؤمن الذي يعمر قلبه بالإيمان لا يتصور أن يكون إلا متحركاً ومحركاً، أما المتباطئ الذي يعد بالالتحاق بعدما تظهر بوادر النجاح فإنما يعد وعد الضعاف، كما يقول الشاعر: صاح ما الحر من يثور على الـ ظلم وقد ثارت لحقها الأقوام إنما الحر من يسير إلى الـ ظلم فيصميه والأنام نيام فلا ينبغي أن يؤجل الإنسان الانضواء تحت لواء الحق، وإلا فإنه يعض إصبع الندم، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الجوشن الضبابي إلى الإسلام بعد بدر، فقال له: (هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر -أي: أقبل وكن من السابقين إلى الإسلام-؟ قال: لا. قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك. فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). فينبغي أن يحرص الإنسان دائماً على عنصر الريادة، وأن يكون في أوائل الناس، خاصة في وقت المحنة ووقت الشدة، ويجيب داعي الله سبحانه وتعالى بلا تلكؤ ولا تلعثم ولا تردد، فهذا هو شأن المؤمنين، لكن الإنسان الذي يتردد في قبول الدعوة يكشف عن ضعف في همته، والشخص عالي الهمة لا يبالي أن ينضوي إلى لواء الحق، حتى ولو كان أهله مبتلين، ومطاردين ومستضعفين، ولكن بعض الناس لا يكاد يتحرك قلبه تعاطفاً مع أهل الدين ومع أهل ولاية الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف نزهد في مثل هذا العمل الذي هو تبليغ الدين ودعوة الناس إلى الحق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)؟ ّ! فمن يفعل ذلك يدخل تحت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله أمراً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع). وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم! زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)، يعني: مهتدين في أنفسنا هداة لغيرنا، أي: اجعل نفعنا متعدياً.

وجوب الدعوة إلى الله عز وجل وبيان فضلها

وجوب الدعوة إلى الله عز وجل وبيان فضلها وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على عباد الرحمن الذين كان من دعائهم إياه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] أي: نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا. ولذلك لما سئل وهب بن منبه عن صفة المسلم قال رحمه الله: يقتدي بمن قبله، وهو إمام لمن بعده. يعني: يهدي من بعده. يقول الشاعر: نحن في ذي الحياة ركب صفاء يصل اللاحقين بالماضينا قد هدانا السبيل من سبقونا وعلينا هداية الآتينا يقول الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر. يعني أن الذي يقعد في بيته ولا يخرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يسلم من العقوبة، ولن يسلم من الإثم. يقول: من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم، وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي؟! يعني أن الذين في المدن هم أهل الحواضر، ومع هذا تجد عندهم الجهل بالصلاة، فكيف بأهل البوادي والصحراء والقرى؟! ومنهم الأعراب والأكراد والترك وسائر أصناف الخلق. يقول الغزالي رحمه الله: وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه فرغ من فرض عينه، وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل الوادي ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يفسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فيقول رحمه الله: فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر. يعني: أن هذا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام ولأمته من بعده؛ لأن الأمة تقوم مقامه في إنذار الناس، كما قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، والجن بمجرد أن سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين. وهذا تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى يقول: وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. وأما الآن في هذا الزمان فلا يوجد تبليغ السهام إلى نحور العدو، ولا تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله المستعان. فعالي الهمة دائماً يطلب ويبذل أقصى وسعه لنيل الكمال الممكن، أي: أقصى ما تصل إليه طاقته من الكمال، فمن أراد المنزلة العليا من الجنة فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة الدنيا، واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن. قال الشاعر: إذا ما علا المرء رام العلاء ويطمع بالدون من كان دونا يعني: ما دمت تريد منزلة عليا في الآخرة فلابد من أن تتبوأ منزلة عليا في الدنيا، والمنزلة التي في الدنيا ليس أن تكون وزيراً، ولا أن تكون تاجراً، ولا أن تكون مليونيراً، بل أعلى منزلة وأشرف وظيفة على الإطلاق يمكن أن يرثها إنسان في هذه الدنيا هي وظيفة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه وظيفة الأنبياء، فلا شك في أنها أشرف وظيفة يقوم بها الإنسان على وجه الأرض؛ لأنها وراثة وظائف النبوة التي لا أشرف منها إلا منزلة النبوة نفسها. وهذا الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى ينادي كل مسلم من بعده فيقول رحمه الله تعالى: ألست تبغي القرب منه -أي: من الله سبحانه وتعالى-؟! فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد؛ لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم سبحانه وتعالى؟! ثم قال: وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر؟! ثم يقارن الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى بين الشجعان الذين يخالطون الناس ويدعونهم إلى الخير ويصبرون على أذيتهم، وبين المتخاذلين المعتذرين القاعدين عن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فيقول الإمام ابن الجوزي: الزهاد -يعني المعتزلين- في مقام الخفافيش -أي: اعتزلوا في المكان المظلم كالخفافيش-، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة، واتباع جنازة، وعيادة مريض، إلا أنها حالة الجبناء، فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعملون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام. وكم يتفطر قلب المرء إذا رأى الإخوة ينزوون، خاصة من كان منهم من حفاظ القرآن الذين فتح الله عليهم، فحين نريد أن نحفظ القرآن نجد الانزواء والسلبية والهروب من المسئولية في خدمة القرآن الذي هو أشرف العبادات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فإذا كان كل واحد عنده طاقة في خدمة كتاب الله سبحانه وتعالى فعليه أن يبذلها، فهل كانت تنتشر الأمية بالقرآن الكريم والتقصير في حقه على هذا النحو الموجود؟! A لا، لهذا نحن نحتاج إلى مراجعة أنفسنا، فنحن محتاجون إلى التزام من جديد، والساحة محتاجة الآن إلى صحوة، والتزامنا يحتاج إلى التزام، وتوبتنا تحتاج إلى توبة؛ لأن أوضاعنا لا ترضي الله سبحانه وتعالى في كثير منها، فالله المستعان. يقول: الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة، بشرط أنها لا تمنع من الخير، وذلك بأن يحضر الجماعة، ويتبع الجنائز، ويعود المرضى، لكن حالة العزلة -حتى مع هذه العبادات- حياة الجبناء، أما الشجعان فهم يتعلمون ويعملون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام. وهذا الشيخ الداعية القدوة عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى كان رجلاً قد تكلم كثيراً، وصاح بأهل العراق صيحات بليغة رفيعة المعنى والمبنى، ويلتقط لنا أحد تلامذته من تلك الصيحات كلمات ندونها سريعاً، وكان الإمام الكيلاني يخطب خطبه الأسبوعية سنة (545هـ)، فأودع هذه النصائح في كتابه (الفتح الرباني والفيض الرحماني). يقول الشيخ عبد القادر رحمه الله: المتزهد المبتدئ في زهده يهرب من الخلق، والزاهد الكامل في زهده لا يبالي بهم، ولا يهرب منهم، بل يطلبهم. أي أن الشخص الذي كمل في زهده وحقق معنى الزهد الصحيح لا يهرب من الخلق، بل هو الذي يطارد الخلق ويجري وراءهم كي ينتشلهم، وكي ينقذهم، وكي يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى. يقول: بل يطلبهم؛ لأنه يصير إذا حقق الزهد عارفاً بالله عز وجل، ومن عرف الله لا يهرب من شيء، ولا يخاف من شيء سواه. فالمبتدئ يهرب من الفساق والعصاة؛ لأنه ضعيف يخشى أن يتأثر بهم، والمنتهي يطلبهم؛ لأن الفاسق ضالة الداعية؛ لأن الداعية إذا ظل يدعو بين جماعات الصالحين فهذا تحصيل الحاصل، لكن الداعية إلى الحق تكون ضالته هي الفاسق غير المستقيم؛ لأنه يريد أن يضمه إلى عباد الله سبحانه وتعالى، وكيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟! ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليه: لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف. يعني: لا يضحك في وجه الفاسق تألفاً وتأليفاً له في أثناء دعوته إلى الله إلا العارف الذي كمل في عرفانه. فمن كملت معرفته بالله عز وجل صار دالاً عليه، أي أن هذا الشخص الذي كملت معرفته يصبح مثل الشبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا، ويعطى القوة حتى يهزم إبليس وجنده ويأخذ الخلق من أيدهم. يقول: يا من اعتزل بزهده مع جهله! تقدم واسمع ما أقول، يا زهاد الأرض! تقدموا، خربوا صوامعكم، واقربوا مني، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل، ما وقعتم بشيء، تقدموا. هذه صيحة من صيحات الشيخ: عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى، وكان يقول هذا الكلام وهو في سن الشيخوخة رحمه الله. وبعض المعاصرين من الدعاة -وهو الأستاذ: محمد أحمد الراشد حفظه الله- يقول: لا ينبغي للداعية أن يبتئس إذا لم يجد فضل وقت لقيام الليل يومياً. يعني: إن كان بسبب اشتغاله بالدعوة لا يستطيع المواظبة يومياً على قيام الليل، أو أنه بسبب اشتغاله بالدعوة يقل عدد ختماته للقرآن الكريم فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خير وأجزل أجراً، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها، ويبادئون الناس بالكلام، ويحتكون بهم احتكاكاً هادفاً، ولا ينتظرون مجيء الناس إليهم ليسألوهم. وانظر إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه لما أمَّ الناس يوماً، فانتقى في الصلاة من مواضع متفرقة من القرآن الكريم، ثم اعتذر بعدما صلى بهم وقال: لقد شغلني الجهاد عن كثير من قراءة القرآن. لأنه اشتغل بفتح البلاد وتمصير الأمصار والدعوة إلى الإسلام، فأبواب الخير متعددة. وكانت رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام، وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، أي: لم يكونوا ينتظرون أن يأتوا إلى المدينة، وإنما كانوا يخرجون إليهم، وذلك الأعرابي الذي سأل الرسول صلى الله عليه وآله سلم عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها قال: (لا أزيد عليهن ولا أنقص) هذا الأعرابي بدأ حواره مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن قال له: (يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا: أنك تزعم أن الله أرسلك…) فإذاً: هناك حائط، وهناك إيجابية، فمن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية؛ فإن الناس يؤتون وينتقل إليهم، ولو فصلت كلمة هذا الأعرابي لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقوم هذا الرجل، فارق أهله وبيته وأولاده، واجتاز المفاوز والصحراء، وتعرض للمخاطر والحر والبرد ليصل إلى قوم هذا الرجل ويبلغهم دعوة الإسلام، فلا بد من أن نكو

نماذج من بذل السلف في الدعوة إلى الله عز وجل

نماذج من بذل السلف في الدعوة إلى الله عز وجل يروي لنا التابعي الكوفي الفقيه النبيل عامر الشعبي رحمه الله تعالى أن رجالاً خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريباً يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: (ما حملكم على ما صنعتم؟) قالوا: أحببنا أن نخرج من جوار الناس نتعبد. مع أن تلك المرحلة كان المجتمع فيها مجتمعاً إسلامياً صرفاً، ومع ذلك آثروا الخروج إلى الخلوة للتعبد، فقالوا: أحببنا أن نخرج من جوار الناس نتعبد. فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟! وما أنا ببارح حتى ترجعوا) أي: حتى يرجعوا معه رضي الله عنه. وكان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله، والإمام أحمد لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس. فالداعية يفتش عن الناس، ويبحث عنهم، ويسأل عن أخبارهم، ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجيء الناس إليه في مسجده أو بيته فإن الأيام تبقيه وحيداً، ويتعلم فن التثاؤب. وقد قيل في التعريف بشيخ من شيوخ البخاري والترمذي وهو موسى بن حزام رحمه الله: إنه كان ثقة صالحاً، لكنه كان في أول أمره ينتحل الإرجاء -أي: بدعة الإرجاء- ثم أعانه الله تعالى بـ أحمد بن حنبل فانتحل السنة، وذب عنها، وقمع من خالفها، مع لزوم الدين حتى مات. ولو مرت هذه العبارة دون أن نحللها فلن نستفيد منها الفائدة المرجوة، لكن إذا تأملنا في هذه العبارة فسنجد أن هذا الانتقال لا يكون وليد عشية وضحاها؛ لأن مثل هذا الرجل كان متعمقاً في بدعة الإرجاء منتحلاً إياها ذاباً عنها، ولا شك في أنه حصلت له جلسات متعددة من الإمام أحمد ليحاوره ويهديه، ويبين له، ويزيل عنه الشبه، ويناقشه إلحاحاً في دعوته، فكان أن خرج هذا الرجل الإمام الذي لم يكتف بانتحال السنة وتصحيح عقيدته، ولكن أصبح يدافع عن السنة، وكان سيفاً يقمع البدع وأهلها.

نماذج من حرص السلف على هداية الخلق وعلو همتهم في ذلك

نماذج من حرص السلف على هداية الخلق وعلو همتهم في ذلك أما صور ونماذج حركة السلف وحرصهم على هداية الخلق إلى الله سبحانه وتعالى فهي كثيرة نكتفي منها بهذه النماذج: فعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: لو استطعت أن لا أنام لم أنم، مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعواناً لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها: يا أيها الناس! النار النار: أي: لو وجدت أعواناً يطيعونني لنشرتهم في كل أقطار الأرض وكل شارع وكل مدينة وكل حي يصرفون في الناس يقولون: النار النار. أي: احذروا النار، واتقوا النار، واعملوا للنجاة من النار. وعن إبراهيم بن أشعث قال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهباً إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس فكأنه بين الموتى من الحزن والبكاء حتى يقوم، ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها. وعن الشجاع بن الوليد قال: كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً. وهذا الإمام الزهري -والزهري لا نقول في تعريفه أكثر من أنه الإمام الزهري رحمه الله تعالى- لم يكتف بتربية أجيال وتخريج أئمة في فن الحديث، بل كان بجانب روايته في الحديث وفي العلم ينزل بنفسه إلى الأعراب يعلمهم، وكان يذهب إلى البوادي ليعلم الأعراب أمر دينهم. وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي شقيق أبي حامد الغزالي رحمهما الله يدخل القرى والضياع، ويعظ لأهل البوادي تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى. فالإنسان يمكن أن يستحضر مثل هذه النية ويخرج في سبيل الله، كما جاء الحديث في فضل من يغدو من بيته في الصباح لأجل الله سبحانه وتعالى، فما يمنعك من أن تخرج من بيتك -مثلاً- بنية أنك تذهب لا لشراء الخبز والفاكهة والخضروات، ولا للذهاب إلى العمل أو الطبيب أو غير ذلك من مصالحك أو حاجاتك، وإنما بنية أن تهدي ضالاً إلى الله سبحانه وتعالى؟! ما الذي يمنعك من هذا؟! فهل لا يوجد ضالون في بلادنا أو في مدينتنا؟! A بلى، بل هم كثيرون، فالشباب التائه الضائع الضال الآن يملأ المرافق والطرقات، فما الذي يمنعك من أن تخرج من البيت بهذه النية؟ افعل هذا، وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا، فهذا أعظم بكثير جداً من قيام الليل وصيام النهار، فإذا أخذت بناصية أحد إلى الله سبحانه وتعالى فإن كل ما سيعمله من الأعمال الصالحة بسبب دعوتك إياه سيكون في ميزانك أنت، وأي واحد منا لو رجع بذاكرته إلى الوراء لوجد أن الله سبحانه وتعالى إنما منّ عليه بنعمة الهداية على يد واحد من هؤلاء الذين كان عندهم هذه الهمة، حيث تحرك ليدعوك أنت إلى الحق، فكان منه هذا الخير الذي تعيش فيه الآن، فلماذا لا ترد الجميل إلى غيرك وتنال -أيضاً- ثوابه؟! وما الذي يمنع كل واحد منا الآن؟! فليحاول أحدنا أن لا يمر الأسبوع القادم -مثلاً- دون أن ينزل من البيت بنية أنه خارج ليبحث عن شاب ينصحه، سواء رآه واقفاً في الطريق أو في أي مكان، فيستوقفه وينصحه برفق، أو يهديه شريطاً أو كتاباً، أو يهديه نصيحة. فإذا فعلنا هذا فإننا -بلا شك- نذوق طعم هذه العبادات إذا كان هذا خروجاً في سبيل الله بمعنى صحيح، أي: أن تخرج من بيتك بنية دعوة ضال، أو هداية فاسق، فالمقاهي عامرة بهؤلاء الفارغين، والنوادي مكتظة بالشباب التافه الضال الضائع، وقد يكون فيهم كثير من الشباب الذين فيهم خير، لكن لم تطرق أسماعهم بعد كلمة أو موعظة، فلماذا لا تكون أنت الذي يجري على يدك هذا الخير؟! وهذا الإمام أبو إسحاق الفزاري رحمه الله تعالى كان رجل عامة، وهو الذي أدب أهل الثغور الإسلامية الذين في أعالي بلاد الشام والجزيرة تجاه الروم، وعلمهم سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، أي أن المدينة التي كان يمكث فيها إذا دخلها رجل مبتدع طرده من البلد، ولا يسمح لمبتدع أن يعيش معه ببلدة واحدة. وأما الشيخ الزاهد الفقيه محمد بن أحمد الدباهي فقد لازم العبادة والعمل الدائب والجد، واستغرق أوقاته في الخير صلباً في الدين، ينصح الإخوان، وإذا رآه إنسان عرف الجد في وجهه. وعلى الفتى لطباعه سمة تلوح على جبينه أما الإمام الجليل الخرقي صاحب كتاب المختصر في مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فقد قال الإمام ابن قدامة في أثناء ترجمته في مقدمة المغني: وسمعت من يذكر أن سبب موته -أي: سبب موت هذا الإمام الفقيه الجليل الإمام أبي القاسم الخرقي رحمه الله تعالى- أنه أنكر منكراً بدمشق، فضرب، فكان موته بذلك. وكان من ضمن سيرته أنه لما ظهر سب الصحابة في مدينة بغداد تركها، وقال: لا أعيش في بلد يسب فيها الصحابة. ومن مناهج حرصهم -أيضاً- على تعليم الناس العلم الشريف ما رواه جعفر بن بطال قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز وقال في كتابه: ومر أهل الفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله في مساجدهم ومجالسهم، والسلام. وهذا أحد أسرار الحركة التجديدية التي قادها عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: إن أوسط عملي في نفسي نشري العلم. أي أن أفضل عمل أرجو أو أطمع أن يثيبني الله سبحانه وتعالى عليه هو أن أنشر العلم. وعطاء بن أبي رباح مفتي مكة هو القائل: لأن أرى في بيتي شيطاناً خير من أن أرى فيه وسادة. أي: لأنها تدعو إلى النوم. فيا حسرتاه على أحوالنا وأوضاعنا! ونحن لا نقول: لنصل إلى هذا المستوى، أي: كون الإنسان يفضل أن يرى في بيته شيطاناً على أن يرى فيه وسادة، وإنما نقول: ساعة لربك وساعة لنفسك. مع أن جل همنا متجه إلى تعمير الدنيا والانشغال للفناء في حب الدنيا، فليس لنا هم إلا الدنيا، فانظر إلى عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى يقول: لأن أرى في بيتي شيطاناً خير من أن أرى فيه وسادة. أي: لأنها تدعو إلى النوم. وقال الإمام ربيعة الرأي رحمه الله تعالى: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه. وقد اختلف العلماء في معنى هذه العبارة، فبعضهم قال: يعني: لا ينبغي أن يعرض نفسه لموضع لا يليق به، كموضع فيه إهانة أو احتقار لقدره. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ومراده أن من كان فيه فهم وتربية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال بطلب العلم. أي أن الذي يحس من نفسه إمكان أن يتفوق في طلب العلم وأن يصير إماماً ففي هذه الحالة لا ينبغي له أن يضيع نفسه ويشتغل ويوجه الهمة وهذه الطاقة إلى الدنيا، فلا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه، فيترك الاشتغال بطلب العلم، وإنما يركز على طلب العلم؛ لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم. أو مراده: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم -يعني: حصل قدراً من العلم- أن يضيع نفسه. أي أن المراد الحث على نشر العلم في أهله؛ لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم، فينشر العلم في الناس أو فيمن حوله في أهله؛ لأنه إذا مات قبل أن ينشره فقد ضيع نفسه، ويرفع العلم بذلك. أو مراده: أن يضيع نفسه بأن يكون خاملاً غير ظاهر للناس؛ لأنه إذا لم يشهر نفسه ويتصدى لتعليم الناس فإن علمه سيضيع، فيضيع ما عنده من العلم، ولا ينتفع به أحد. ووصى ابن القاسم عيسى بن دينار فقال له: عليك بأعظم مدائن الأندلس فانزلها، ولا تنزل منزلاً يضيع ما حملت من العلم. أي: اجعل المدينة أو المكان الذي تعيش فيه مكاناً واسعاً تنشر فيه دعوتك وعلمك، وكن بؤرة نور وهداية للناس، ولا تأوي إلى مكان يضيع فيه ما عندك من العلم.

مخاطرة السلف رحمهم الله بأنفسهم في نصرة الدين

مخاطرة السلف رحمهم الله بأنفسهم في نصرة الدين الخصلة الأخيرة من الخصال التي تميز بها السلف الصالح رحمهم الله تعالى هي مخاطرتهم بأنفسهم في نصرة الدين، فكان السلف رحمهم الله تعالى يفاصلون الباطل مفاصلة حاسمة، ويرفضون الالتقاء به في منتصف الطريق، ولسان حال كل واحد منهم كأنه يقول: كان العيش المتصالح والمهادنة مع الباطل ممكناً لي ولكنهم ركبوا مسلكاً يحيد عن الجدد المشرق وقد ملك الأمر منهم رجال يخالف منطقهم منطقي نأوا عن هدى الله في نهجهم وساروا وسرت فلم نلتق فعالي الهمة على بصيرة من دينه، واثق من منهجه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57] يعني: أنا واثق، وأعرف عقيدتي، وأعرف دليل كل عقيدة أعتقدها، وأعرف كيف أدفع كل شبهة ترد عليَّ ومن كان كذلك فهو واثق من المنهج، وواثق من الحق، فهو موقن برسالته وعقيدته ولو خالفه أهل الأرض قاطبة. يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي. فكأنه يفترض أنه خلق وحده، وكلف بالحق وحده، وسيحاسب على الحق وحده، فمثل هذا لم يتعلل ولم يعتذر بأن كل الناس يفعلون الباطل، وأن كل الناس سيذهبون إلى النار، كما يقول من لا يفقه، فحينما تنصحه يجيبك بقوله: كل الناس يفعلون ما أفعل. وهل كل الناس سيذهبون إلى النار؟! وعن حزم بن أبي حزم رحمه الله تعالى قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله -في كلام له-: (فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً) يعني: لو كان مقابل كل بدعة أميتها وكل سنة أحييها أن تقطع قطعة من جسمي لكان ذلك في الله يسيراً. وهذا المتكلم هو عمر بن عبد العزيز، وهو لا يتكلم كلام الشعراء الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:226]، بل يتكلم كلام إمام من أئمة الهدى، فهو خليفة راشد مهدي رحمه الله تعالى، فكلامه يعكس ما يجده في قلبه من اليقين الجازم بكل كلمة وكل حرف ينطق به. يقول رحمه الله: (فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً) أي: كان في الله شيئاً يسيراً ورخيصاً في سبيل إعزاز هذا الدين. فهو يعلم أن طريق الدعوة طويل وشاق، مملوء بالأشواك والصعاب، لا تتحمله إلا نفوس الرجال، ولا تقوم به إلا همم الصادقين الأبطال، ولا تقدر على مواصلة السير فيه النفوس المريضة المترهلة التي أصابها وهن العزيمة، ونضب وقود الإيمان فيها، هذا الطريق هو طريق الأنبياء، فيه تعب آدم، وناح لأجله نوح، ورمي الخليل في النار، وقدم للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، وقاسى المرض أيوب، وكذا كانت سيرة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. فالداعية الكبير الهمة لا يستسلم أمام قوة أهل الفجور وهواهم؛ لأنا نرى أن الترخص شأن العامة، وشأن المستضعفين، أما الدعاة والقادة والعلماء فيتمسكون بالعزيمة، ويصدعون بالحق، وإن لحقهم الأذى والعذاب والموت.

صبر الإمام أحمد في فتنة خلق القرآن وعلو همته في ذلك

صبر الإمام أحمد في فتنة خلق القرآن وعلو همته في ذلك وقد تجسد ذلك الموقف جلياً في موقف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله تعالى، وذلك في محنة القول بخلق القرآن، كما يحكي ابنه صالح هذه المواقف التي تجسد هذه المعاني، يقول صالح: قال أبي: لما جيء بالسياط نظر إليّ المعتصم وقال: ائتوني بغيرها. ثم قال للجلادين: تقدموا. أي أنه أتي بفريق من الجلادين ليجلدوا الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنه لو كان الجلاد واحداً فقط فمع كثرة الضرب يصيبه الكلل والتعب، فكان الواحد منهم يضرب ويتأخر، ويأتي بديله، وهكذا كان فريق من الجلادين يتناوبون على تعذيب الإمام كي يجدد الواحد منهم نشاطه وهمته حينما يضربه في النوبة الجديدة. يقول: ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له: شدّ قطع الله يدك -يعني: أضرب بأقصى قوة-. ثم يتنحى، ويقوم الآخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شد قطع الله يدك. فلما ضربت تسعة عشر صوتاً قام إليّ -يعني المعتصم - وقال: يا أحمد! علامَ تقتل نفسك؟ إني -والله- عليك لشفيق! قال: فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه -أي: يضربه بقائمة السيف- ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟! أي: هل تريد أن تغلب المعتصم، وتغلب الجلادين، وتغلب كل من يخالفونك من هؤلاء الذين أمامك؟! وجعل بعضهم يقول: ويلك؛ الخليفة على رأسك قائم! أي: الخليفة واقف يحثك على أن ترجع عن مذهبك. وقال بعض هؤلاء المنافقين الدجالين: يا أمير المؤمنين! دمه في عنقي، اقتله. والواحد منا إذا أهين بسبب التزامه الآن في هذه الغربة التي نعيشها يرى ذلك عظيماً، وقد يوجد في بعض البلاد احترام شديد جداً للمتدين، فالمتدين في بعض البلاد ما زال -خارج مصر المحروسة- يحترم؛ لأنه متدين، وإذا كان طالب علم يعامل بمنتهى الاحترام، أما في كثير من الأماكن فإن التدين هو سبب محنة في الغالب لمن يلتزم بطاعة الله سبحانه وتعالى، فلا تنتظر أن تفرش لك الأرض بالورود، ولا تنتظر أن تعطى حقك؛ لأنك مستقيم على طاعة الله سبحانه وتعالى، بل انتظر العكس، وإذا وقعت في شيء من ذلك وسخر منك الأطفال في الطرقات، ولقبوك بأسماء الذين يأتون في المسلسلات التي تحارب الدين فقالوا: فلان الإرهابي، وفلان القاتل، وفلان الذي يفعل كذا فاثبت، وهكذا إذا كانت الأخت محجبة، فإنها تنال نفس هذا الأذى، فإذا وجدت ذلك فقارن نفسك بالإمام أحمد رحمه الله، وانظر كيف أهين، وكيف أوذي، لكن كانت العاقبة -كما وعد الله- للتقوى، حيث قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. فالإمام أحمد -وهو الإمام أحمد - انظر كيف اجتمع عليه هؤلاء المبتدعون والمنافقون! فبعضهم يقول: ويلك؛ الخليفة على رأسك قائم! والآخر يقول: يا أمير المؤمنين! دمه في عنقي اقتله! وبعضهم يقول: يا أمير المؤمنين! أنت صائم، وأنت في الشمس قائم. قال الإمام أحمد: فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول به! فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدم، وأوجع قطع الله يدك. ثم قام الثانية، فجعل يقول: ويحك يا أحمد، أجبني. فجعلوا يقبلون عليّ ويقولون: يا أحمد! إمامك على رأسك قائم! وجعل عبد الرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟! وجعل المعتصم يقول: ويحك! أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج، حتى أطلق عنك بيدي. يعني: اذكر كلاماً تعريضاً حتى أفرج عنك بيدي. فقلت: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله. فيرجع ويقول للجلادين: تقدموا. فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك. وأذكر أنه حصل في أحد المعتقلات مثل هذا، حيث كان في هذا المعتقل رجل إما لبناني أو سوري، فكان أحد الجلادين يعذب أحد الشباب تعذيباً شديداً، وكان هذا الرجل من نفس هذه الزمرة، فجعل يقول للجلاد وهو يضرب الأخ بأشد ما يمكن: الله يعطيك العافية. يعني: حتى تضرب أكثر! فهم يتكررون في كل زمان. يقول الإمام أحمد: فجعل المعتصم يقول: ويحك! أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي. فقلت: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله. فيرجع ويقول للجلادين: تقدموا. فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك. قال صالح: قال أبي: فذهب عقلي -أي: أغمي عليَّ- فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهك لما أغمي عليك، وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك. أي أنهم ظلوا يدوسون بأرجلهم على جسد الإمام أحمد وهو ملقى على وجهه رحمه الله. قال صالح: قال أبي: فما شعرت بذلك، وأتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيأ. أي: من شدة الإعياء والجهد الذي حصل بالإمام رحمه الله تعالى أتوه بهذا السويق، وهو نوع من الحساء، وقالوا له: اشرب وتقيأ. فقلت: لا أفطر. أي أنه كان كل هذا العذاب والإمام رحمه الله صائم. قال: فقلت: لا أفطر. ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك؟! فقلت: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً، قال صالح: ثم خلي عنه، فصار إلى منزله، وكان مكثه في السجن منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخلي عنه ثمانية وعشرين شهراً، ولقد أخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه. فقال: يا ابن أخي! رحمة الله على أبي عبد الله، والله ما رأيت أحداً يشبهه، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام: يا أبا عبد الله! أنت صائم، وأنت في موضع تقية. أي أن هذا الرجل كان يحث الإمام أحمد على أن يأخذ بالتقية وأن له رخصة، قال رحمه الله: ولقد عطش فقال لصاحب الشراب: ناولني. فناوله قدحاً فيه ماء وثلج، فأخذه ونظر إليه هنية، ثم رده ولم يشرب، عزّ عليه أن يقطع صومه، ويفوت عليه ثواب الصيام، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وهو فيما هو فيه من الهول. وعلق الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى على موقف الإمام أحمد رحمه الله قائلاً: هذا رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى، فبذلها، كما هانت على بلال نفسه. وقد روينا عن سعيد بن المسيب أنه كانت نفسه عليه في الله تعالى أهون من نفس ذباب. وهل الذباب حياته لها قيمة؟! ليس لها قيمة، فالذبابة هينة، فكذلك سعيد بن المسيب كان ينظر إلى روحه إذا بذلها في سبيل الله أنها أهون عليه من الذباب، وإنما تهون أنفسهم عليهم لتلمحهم العواقب؛ لأنهم يعرفون الثمرة التي سيجنونها بعدما يضحون بأنفسهم في سبيل الله، فعيون البصائر ناظرة إلى المآل لا إلى الحال، وشدة ابتلاء أحمد دليل على قوة دينه؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يبتلى المرء على حسب دينه) فسبحان من أيده وبصره وقواه ونصره! وهنا تعليق رائع للإمام المعاصر العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى يعلق على عدم ترخص الإمام أحمد رحمه الله في الأخذ بالتقية، فيقول: التقية إنما تجوز للمستضعفين الذين يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس -أي: هؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة-، وأما أولوا العزم من الأئمة الهداة فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى، ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون، ولو أنهم أخذوا بالتقية واستساغوا الرخصة لضل الناس من ورائهم -لأنهم يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذه تقية- وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق. أي: لأنهم لا يصدعون بما يؤمرون، وإنما يجاملون في دينهم وفي الحق، ولا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعاً أو خافوا منه ضراً في الحقير والجليل من أمر الدنيا، وكل أمر الدنيا حقير. يقول: فكان من ضعف المسلمين بضعف علمائهم ما نرى، ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين فيما كتب إلى أبي رحمه الله -وهو العلامة الكبير الشيخ محمد شاكر رحمه الله الذي كان وكيل الأزهر- كتب له في جماد الأولى سنة (1337هـ) قال: كأن المسلمين لم يبلغهم من بداية كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]، ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك، ولست أدري -وقد فهموا منها ما فهموا- كيف يقولون بوجوب الجهاد، وهو إتلاف للنفس والمال، وكيف يفهمون تعرضه صلى الله عليه وسلم لصنوف البلاء والإيذاء، ولماذا يؤمنون بكرامة الشهداء والصابرين في البأساء والضراء على الله. يعني أن الله سبحانه وتعالى وصف المتقين بأنهم: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة:177] أي: لابد من أن تمر بهم الضراء ويعانوا -أيضاً- البلاء.

ابتلاء الإمام أبي إسماعيل الهروي في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل

ابتلاء الإمام أبي إسماعيل الهروي في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل قال الإمام ابن طاهر المقدسي الحافظ: سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراء يقول: عرضت على السيف خمس مرات -أي: هدد بالقتل خمس مرات بالسيف- لا يقال لي: ارجع عن مذهب، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك. فأقول: لا أسكت.

مقتل أبي بكر النابلسي في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل

مقتل أبي بكر النابلسي في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمته لـ أبي بكر النابلسي: قال أبو ذر الحافظ: سجنوا هذا الإمام -يعني أبا بكر النابلسي - وصلبوه على السنة، سمعت الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]. يعني: عذبوه بأن سلخوا جلده، وبعض الروايات تقول: إنه سلط عليه رجل يهودي، وأمر بأن يسلخ جلده، فأخذ يسلخ الجلد من بدنه، وبدأ من رأسه إلى أن وصل إلى قلبه، فمن شدة الجزع والشفقة من هذا اليهودي الذي كان يسلخه طعنه في قلبه حتى يستعجل موته، من شدة ألمه، وكان وهو يسلخه عند سقوط كل قطعة من جسده يتلو قوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]، يعزي نفسه بأن هذا قضاء وقدر سبق من الله سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ. فكان يذكره الإمام الدارقطني ويبكي، ويقول: كان يقول وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]. قال أبو الفرج ابن الجوزي: أقام جوهر القائد أي: جوهر الصقلي، وهو شيعي، وكان من القواد في أيام الفاطميين- لـ أبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ، فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهماً وفينا تسعة. فكان حال هذا الإمام كما قال الشاعر: ليس يدنو الخوف منه أبدا ليس غير الله يخشى أحداً لحنه في القلب ناراً أشعلا من قيود الزوج والولد خلا معرض عما سوى الله الأحد يضع السكين في حلق الولد والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

علو الهمة [10]

علو الهمة [10] إن أهل الباطل يجتهدون في الدعوة إلى باطلهم، فهم في جهد متواصل، وبذل مستمر من أجل نشر باطلهم، فحري بأهل الحق أن يكونوا أعظم وأكثر جهداً وبذلاً وعطاءً في نشر الحق.

البركة في السعي والحركة

البركة في السعي والحركة انتهينا في الكلام على علو الهمة إلى علو الهمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وذكرنا أن كبير الهمة من خصائصه أنه يحمل هم الأمة، ولا ينغلق على نفسه، وإنما يشارك المسلمين آلامهم، ويواسي إخوانه، ويقضي حوائجهم، ويشفع لهم. وتكلمنا عن حركة الداعية، وكيف أن الحركة ولود وأن السكون عقيم، وبينا أن الحركة هي عبارة عن قيامة وبعث للروح، وذكرنا -أيضاً- أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى هي أشرف وظيفة على الإطلاق في هذا الوجود؛ لأنها وراثة النبوة، وذكرنا نماذج من هدي السلف وحركتهم وحرصهم على هداية الخلق وتعليمهم ودعوتهم إلى الحق. وذكرنا أيضاً نماذج تبين مخاطرتهم بأنفسهم وأرواحهم في سبيل نصرة الدين، وذكرنا أن الفاسق ضالة الداعية، وأن الداعية القوي الإيمان والقوي اليقين لا يهرب من الفاسق؛ لأن الذي يهرب هو الذي يخشى أن يتأثر به، وهذه حيلة الضعيف، أما الداعية الكبير الهمة فلقوة يقينه وإيمانه لا يزحزحه شيء عن منهجه، فلذلك يبحث ويتحرى ويلهث وراء الفاسق؛ لأنه يريد أن يهديه، وأن يغزو قلبه بنور الله تبارك وتعالى. والموضوع الذي نبينه الآن -بإذن الله وتوفيقه- هو أن كل البركة تكون في السعي والحركة، والنماذج -في الحقيقة- كثيرة، فقد اقتصرنا فيما مضى على تبيان نماذج من أحوال السلف في الحركة في سبيل الدين، وفي سبيل هداية الناس إلى الحق، ولا نريد أن نفعل كما يفعل الترجمان الذي يقف أمام الآثار، ويحدث الناس عن الماضي، ويظل يحدثهم عن الماضي والتاريخ وكأنه لا صلة له إطلاقاً بهذا الحاضر.

نماذج تبين بقاء الخيرية في هذه الأمة

نماذج تبين بقاء الخيرية في هذه الأمة وحتى لا يتصور أننا مثاليون نعيش على ذكر الماضي، وأن هذا الأمر كان قد قوي عليه السلف لما كان لديهم من علم وإرادة وقوة فاستطاعوا أن يفعلوا هذه النماذج فإننا سنصل ذلك بالحديث عن نماذج حاضرة، حتى يتبين لنا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -وهو الصادق المصدوق-: (مثل أمتي مثل الغيث؛ لا يدرى أوله خير أم آخره) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فهناك نماذج عظيمة جداً تبين أن الخير قائم في هذه الأمة مهما اشتدت الظلمات.

جهود جماعة التبليغ في الدعوة إلى الله عز وجل

جهود جماعة التبليغ في الدعوة إلى الله عز وجل ونبدأ بذكر جماعة من الجماعات في ساحة الدعوة، وهي جماعة التبليغ والدعوة، ولا شك في أن هناك مآخذ كثيرة على فكرها، وعلى منهاجها، وأن في هذه الجماعة بدعاً غليظة، سواء في المنهاج أو في مستوى العقيدة أو في النواحي التطبيقية، كبعض الرسوم والصور والهيئات والقوانين التي وضعوها وقدسوها فلا يخرجون عنها وكأنها دين منزل! وليس هذا الآن موضوعنا، لكننا نصدر الكلام بهذه الجماعة باعتبار تعلقها بما نحن بصدده الآن؛ فإنها -بلا شك- أوفر الجماعات الإسلامية حظاً من علو الهمة في الحركة الواسعة الدءوبة. وحينما نريد أن ننصف هذه الجماعة ونتحدث عن آثارها فإنه يكفيها الثمار الكبيرة التي لم تضارعها فيها جماعة أخرى، خاصة إسلام كثير من المشركين، وهداية كثير من الفاسقين، وتبليغ دين الله عز وجل في آفاق المعمورة. وفيما يتعلق بفكر جماعة التبليغ نذكر هنا كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث يقول: لو أن جماعة مسلمة وهي على شيء كبير من البدع، ومع ذلك تتسبب في دعوة كافر إلى الإسلام، وتدعوه إلى الإسلام وتدخله في الإسلام فهذا أفضل من أن يبقى على كفره، فدخوله في دائرة الإسلام مع البدعة أهون من بقائه في ظلمات الكفر؛ لأنه إذا دخل في الإسلام وفي التوحيد يرجى له النجاة بإذن الله بفضل هذا التوحيد، ويكون قد اقترب أكثر من المنهج الحق. فجماعة التبليغ لهم مواقف كثيرة، والحقيقة هي أن المآخذ على جماعة التبليغ نسبية، مع وجود قواسم مشتركة بين الجماعة في كل بقاع الأرض، لكن تتفاوت ما بين الأعاجم والعرب؛ ولا شك في أن البدع أغلظ وأظلم وأشد سواداً في الأعاجم منها في العرب؛ لأن العرب قربهم من اللغة العربية وقربهم من العلماء ومن مصادر العلم الشريف جعل البدع فيهم أقل وأخف؛ لأنه يسهل تنظيف مفاهيمهم ومناهجهم، أما الأعاجم فالأمر مؤلم إلى حد بعيد. ولقد حكى رجل شهد مجلساً من مجالسهم فقال: جلسنا يوماً في المسجد للتعارف، فقام شيخ وقور قد اشتعل رأسه ولحيته شيباً، فوقف في هذه المجموعة يعرف نفسه وقد جاوز السبعين من عمره فقال: اسمي الحاج وحيد الدين، وأعمل في التجارة، وعمري الآن تسع سنوات. قال: فاستغربنا، وقلنا له في دهشة: تسع سنوات؟! قال: نعم؛ لأني أحفظ عمري من تاريخ دخولي في هذه الدعوة، أما قبل ذلك فإني أعتبر عمري ضائعاً. وكان هذا الرجل إذا وقف ليلقي موعظته يقول: لا تضيعوا أعماركم مثلي، واشتغلوا بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى. يقول الحاكي: حدث أن سألنا أميرهم: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟! ولا شك في أن هذه من أبرز السمات الإيجابية في جماعة التبليغ، وأي إنسان يجحد هذه الخصيصة يعتبر مكابراً للواقع الملموس، فلا شك في أنهم أكثر الناس إيجابية في التعامل مع الباطل، فهم يتحركون إليه، ولا يكتفون بأن يأتيهم الناس إلى المساجد. فسئل أميرهم مرة: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟! فقال: أرأيت إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له؟ قلنا: إن كان مرضه ثقيلاً نحضر له الطبيب في المنزل، وإما إذا كان مرضه خفيفاً فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب. قال: فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد مرضهم الإيماني ثقيل، فنحن نذهب إليهم. يعني: كما يذهب الطبيب إلى المريض الشديد المرض الذي لا يقوى على الحركة إلى منزله. وحكى بعض مشايخهم نماذج من حركتهم في الدعوة وقال: إنه خرج مرة للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبية، واستهدف رجلاً مسلماً كان يجالس امرأة وهو يشرب الخمر، فوعظه ونصحه وذكره بالله حتى لان قلبه ودمعت عيناه، فأخذ بذراعه ليقوده -مع أنه كان في حالة سكر- إلى المسجد، وأخذت المرأة بذارعه الآخر تنازعه فيه، فهو يجذب من جهة بأحد الذارعين والمرأة تجذبه من جهة أخرى، وكانت الغلبة له بعد تجاذب شديد بين الطرفين، وأتى به إلى المسجد، وعلمه كيف يتطهر ويصلي، ثم تاب وحسنت توبته. ويلاحظ -أيضاً- أنهم يجتهدون في ابتكار الحيل الخيرية التي تجذب الناس إلى الدين، مثل ذلك التبليغي الذي أراد أن يبلغ الدعوة إلى طبيب مشهور في البلد، فذهب ودفع قيمة الفحص الطبي، ثم انتظر الدور إلى أن جاءت نوبته، فدخل على الطبيب، فتهيأ الطبيب لفحصه فإذا به يخبره أنه ليس بمريض، وإنما رغب أن يذكره بالله سبحانه وتعالى وينصحه في الدين، وأخذ ينصحه ويذكره بالله عز وجل إلى أن رق قلب هذا الطبيب وتأثر بموعظته، وأراد أن يرد إليه ثمن الكشف، فأبى قائلاً: هذه قيمة ما استغرقته من وقتك. وكأنهم يقتدون في ذلك بمؤسس الجماعة، وبداية دعوة التبليغ كانت في الهند، وإن كان الشيخ إلياس مؤسس جماعة التبليغ عليه مآخذ، لكن كأنهم يقتدون به في هذا؛ لأنه كان في بداية الدعوة يفعل هذا، وبداية دعوته كانت على أساس رؤيا رآها في المنام أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: افعل كما فعلت أنا، واخرج إلى الناس. فالمهم أنهم يقولون: إنه بدأ ببعض عمال البناء فجمعهم كي يستمعوا إليه، فقالوا: لا نستطيع؛ لأننا نعمل ونتكسب، وهذا مصدر رزقنا. فأتى بهم، وكان يبذل لهم من المال مقابل الأجر الذي يفوتهم حينما يجلسون إليه، فكان يفعل ذلك معهم باستمرار، فيعطيهم تعويضاً عن الأجر الذي يفوتهم بالجلوس عنده، إلى أن دخلت الدعوة وتمكنت في قلوبهم، فحينئذٍ تنزهوا عن أخذ هذا المال، وبدأت على أكتافهم هذه الحركة وهذه الدعوة. ولما صعد الإنسان إلى القمر في أوائل الستينات وكثر الكلام والافتراضات في ذلك الوقت أن الناس يمكنهم أن يقيموا في القمر وأن يسكنوا هناك قالوا: لو صعدوا إلى القمر واتخذوا مساكن هناك لنرسلن وراءهم قافلة تخرج في سبيل الله وتصعد إلى القمر لتدعوهم. وأحد الدعاة الأفاضل يخالف جماعة التبليغ في منهجهم، لكنه مع ذلك لم يعدمهم إنصافاً، وهو الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله، حيث يقول عن هذه الجماعة: أجادت غرس الثقة في دعاتها، وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع. وهذا من التأثيرات الملاحظة، حيث إن الواحد أول ما ينتمي إلى الجماعة يكسر الحاجز النفسي الذي يمنع الإنسان من مواجهة الناس والخطابة فيهم بحماس، كما يفعل الذي يعلم الشخص السباحة، حيث يلقيه في البحر ويقول له: تصرف. فيخرج كل طاقته، ومن ثم يتعلم رغم أنفه؛ لأنه يبذل طاقته وإلا غرق، فكذلك هؤلاء، فمن أول ما يتعرفون على الشخص يبرزونه، فينكسر الحاجز النفسي في مواجهة الناس، ويعلمونه كيف يخاطبهم. يقول: وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع، وآخرون -يعني: من جماعات أخرى- يأمرون إخوانهم بضم الرءوس، ويقولون لفتى الصحوة: أنت في خندق، احترس وأتقن الاختباء. وكأنهم ينظرون إلى قوله تبارك وتعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] فحسب فيظل الواحد منهم مجتهداً في تطبيق {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71]، وينسى ما بعد، وهو قوله تعالى: {فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71]، أما الذي ينظر إلى قوله تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] فحسب ويظل يعيش في أوهام وهذيانات ووساوس فإنه ينسى أن كل نفس يحصى عليه، وأن كل سكنة وحركة تكتب عليه، وأنه مرصود بها، فلا يتحرك مثل هذا في سبيل الدين.

نماذج من علو همة بعض الدعاة

نماذج من علو همة بعض الدعاة ومن نماذج الحرص على الدعوة وعلو الهمة أن أخاً مؤذناً أصابه حزن شديد حين أذيع أو أشيع في بعض الأوقات أن برج الساعة المشهور في لندن والملحق بمبنى البرلمان بدأ يميل وأنه مهدد بالانهيار، فهذا الأخ المؤذن لما سمع بذلك حزن حزناً شديداً، وعلته الكآبة، فسأله إخوانه: ما سبب حزنك وكآبتك؟ فقال: ما زلت أؤمل أن يعز الله المسلمين ويفتحوا بريطانيا، وأصعد على هذا البرج كي أؤذن فوقه. فبدأ يقلق لما بدأ الكلام يكثر في أن البرج قد ينهار، فخشي أن هذا الأمل الذي يراوده قد ينهار مع انهيار هذا المبنى. وأنا أعرف أخاً أمريكياً من أصل أسباني أسلم لله سبحانه وتعالى وحسن إسلامه، ويعيش في مدينة نيويورك، وزوجته أمريكية أسلمت أيضاً، وهي منقبة، فانتدب هذا الشخص نفسه للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان يخرج للدعوة أسبوعياً، وكان كل أسبوع يخرج هو وزوجته يوم الأحد، ويقفان أمام الكنيسة في البرد وفي الثلج، فهو يلتقط ويصطاد الرجال ويدعوهم إلى التوحيد، سواء من الخارجين أو من الداخلين إلى الكنيسة، وهي تلتقط النساء وتخاطبهن أيضاً وتدعوهن إلى التوحيد. وهناك أخ آخر يعيش في ألمانيا ممن يجتهدون في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ما يكاد يذوق طعماً للراحة؛ لأن الدعوة استحوذت على كل كيانه، حتى أرهق نفسه وشغل عن بيته وأهله وولده، فأشفق عليه إخوانه، ورأوا أن يجبروه على قبول عطلة أو إجازة كي يستريح فيها قليلاً من العناء الذي يعيش فيه، فأخذوه في صحبة أسرته إلى منتجع بعيد لا يعرفه فيه أحد، ولا يعرف هو فيه أحد كي يهنأ ببعض الراحة، ووعدوه أنهم بعد عدة أيام سيعودون لإرجاعه من هذا المكان، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسس جمعية إسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلته بالدين. وكان يبحث في المقاهي التي عمالها من المغاربة الذين انقطعت صلتهم بالدين وذابوا في المجتمع الكافر، ففتش عنهم في مظان وجودهم، ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وألف بينهم، فأقاموا هذه الجمعية، وأقاموا مسجداً انطلقت منه فيما بعد الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في تلك البلدة.

الحركة سر دعوة الإسلام المباركة

الحركة سر دعوة الإسلام المباركة إن الحركة هي سر دعوة الإسلام المباركة في أرجاء الدنيا، ينطلق بها جنود لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فليست هيئات رسمية، ولا وزارات في حكومات، ولا هيئات تنفق عليها الأموال، بل إن النشاط الذي يبذل في سبيل الدعوة الإسلامية في كل أرجاء الدنيا لا يبلغ عشر معشار ما ينفق على الأنشطة التبشيرية التي تبشر الناس بالنار، ومع ذلك نجد هذه البركة. والإسلام قطعاً هو أعلى الأديان من حيث معدل الانتشار وغزو القلوب في كل أرجاء الدنيا، حتى إن الغرب الآن يجتهد في أن يواجه الإسلام؛ لأن الغربيين يعانون من الجفاف الروحي، فيبحثون عن تعويض لهذا الجفاف، فأصبح هناك تركيز كبير على أن يتجه الغربيون إلى الديانات المنتشرة في شرق آسيا، وهناك توجيه للقائمين على الثقافة الغربية أن يحاولوا أن يجتهدوا في إبعادهم عن الإسلام، فالذين يعانون من الجفاف الروحي يبحثون عن الأديان، فيوجهونهم دائماً إلى شرق آسيا، حيث البوذية والبرهمية والمجوسية ونحو هذه الأديان التي فيها إغراق في الجانب الروحي القائم على الضلال والشرك والوثنية وعبادة الأنداد من دون الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يخافون أن يتوجهوا إلى الإسلام فيتأثروا به، لذلك جعلوا كل تركيزهم على ترويج التوجه ناحية الديانات الشرقية، خوفاً من المد الإسلامي الذي لا يجدون تفسيراً لانتشاره حتى في عقر دارهم. فالإسلام ينتشر بنفسه؛ لأنه دين كثير الحركة، ويحمل في طياته جاذبية كاملة تجذب كل من اطلع عليه وكان في قلبه خير حتى يستحوذ على كل كيانه. ويلفتنا الأستاذ محمد أحمد الراشد -حفظه الله تعالى- إلى ميزان غريب من الموازين التي اعتبرها معياراً أو مقياساً يقيس به هذه الحركة الحياتية المتفجرة في الداعية، فيحكي في كتابه (صناعة الحياة) ويقول: وقد كنت في الأيام الخوالي -يعني أيام الشباب- ألاطف إخواني، فأعمل تفتيشاً على أحذيتهم. وإذا سمعنا كلمة التفتيش على الأحذية -كما هو في المدارس- نفهم منه أن التفتيش على الأحذية هو التفتيش عن اللمعان والنظافة والبريق. فكان يعمل من وقت إلى آخر التفتيش على أحذية إخوانه، يقول: ليس على نظافتها وصبغها ورونقها كالتفتيش العسكري، بل على استهلاكها وتقطعها والغبار الذي عليها! فكان يجعل إخوانه يخلعون النعال، فيقلب النعل، يقول: فأرى النعل، فمن كان أسفل حذائه مهترئاً تالفاً فهو الناجح، وأقول له: شاهدك معك، حذاؤك يشهد لك أنك تعمل وتغدو في مصالح الدعوة، وتطبق قاعدة: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]، ولكثرة حركتك تلف حذاؤك، فأنت المجتاز المرضي عندي. يقول أحدهم: قد -والله- مكثت عشرين سنة يأخذني تأنيب الضمير كلما رأيت حذائي لا غبار عليه، وأتذكر ذلك التفتيش.

الفاسق ضالة الداعية كبير الهمة

الفاسق ضالة الداعية كبير الهمة والفاسق هو ضالة الداعية، فالداعية الكبير الهمة لا يخاف من الفاسق؛ لأن الذي يخاف هو الضعيف الذي يخشى أن يتأثر به، وأن تسري عدوى فسقه إليه، أما الكبير الهمة فإنه يتميز بأن عنده عنصر المبادرة وعنصر المبادأة وعنصر الحركة إلى مواقع يندر من يتأهل لاقتحامها بحثاً عن الضالة المنشودة التي هي الفاسق. فالفاسق هدف للداعية كبير الهمة، فهدفه متركز في الفاسق غير المهتدي، كي يهديه ويأخذ بزمامه إلى طريق الله سبحانه وتعالى.

قصة شيخ وعظ في مرقص

قصة شيخ وعظ في مرقص يحكي الشيخ علي الطنطاوي قصة توبة حدثت في مكان غريب جداً، وهو مكان للرقص والعياذ بالله! يقول الشيخ علي الطنطاوي وفقه الله: دخلت أحد مساجد مدينة حلب فوجدت شاباً يصلي، فقلت: سبحان الله! إن هذا الشاب من أكثر الناس فساداً؛ يشرب الخمر، ويفعل الزنا، ويأكل الربا، وهو عاق لوالديه، وقد طرداه من البيت، فما الذي جاء به إلى المسجد؟! فاقتربت منه وسألته: أنت فلان؟! قال: نعم. قلت: الحمد لله على هدايتك، أخبرني: كيف هداك الله؟! قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص. قلت مستغرباً: في مرقص؟! قال: نعم، في مرقص. قلت: كيف ذلك؟! قال: هذه هي القصة. فأخذ يرويها فقال: كان في حارتنا مسجد صغير يؤم الناس فيه شيخ كبير السن، وذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم: أين الناس؟! ما بال أكثر الناس -خاصة الشباب- لا يقربون المسجد ولا يعرفونه؟! فأجابه المصلون: إنهم في المراقص والملاهي. قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟! فرد عليه أحد المصلين: المرقص صالة كبيرة، فيها خشبة مرتفعة، تصعد عليها الفتيات كاسيات عاريات أو شبه ذلك، يرقصن والناس حولهن ينظرون إليهن. فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟! قالوا: نعم. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس. قالوا له: يا شيخ! أين أنت؟! تعظ الناس وتنصحهم في المرقص! قال: نعم. فحاولوا أن يثنوه عن عزمه، وأخبروه أنهم سيواجهون بالسخرية والاستهزاء، وسينالهم الأذى، فقال لهم الشيخ: وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأمسك الشيخ بأحد المصلين ليدله على المرقص، ولما وصلوا إليه سألهم صاحب المرقص: ماذا تريدون؟! قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص. فتعجب صاحب المرقص، وأخذ يمعن النظر فيهم، ورفض السماح لهم، فأخذوا يساومونه ليأذن لهم، حتى دفعوا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي مقابل أن يأذن لهم بالجلوس للموعظة، فوافق صاحب المرقص، وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي. قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجوداً في المرقص، فبدأ الرقص من إحدى الفتيات، ولما انتهت أسدل الستار، ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة. والحقيقة أن صاحب المرقص أفضل بكثير من مخلوقات غريبة موجودة في بلادنا الآن، ففي إحدى الكليات العربية اجتمع الشباب -مدرسو المستقبل ومدرسات المستقبل- في حلقة في فناء الكلية، فكان الشبان يعزفون على المعازف والطبول، والفتيات يرقصن أمامهم، فأتى أحد الإخوة كي يعظهم ويزجرهم، فصاحوا به وشوشوا عليه حتى لا يسمع كلامه، فأخذ الأخ يتلو آيات من القرآن الكريم، فسكتوا جميعاً كأن على رءوسهم الطير، ثم بعدما فرغ من قراءة القرآن عاد ليعظهم، فثاروا من جديد وشوشوا عليه، حتى تكرر ذلك، كلما يقرأ القرآن يسكتون، فإذا ما وعظهم ونصحهم بغير القرآن الكريم صاحوا وعادوا للرقص والغناء. فالشاهد في القصة أن أحدهم هرع إلى العميد، فأتى العميد مسرعاً، فالشاب المتدين حينما رآه فر هارباً من العميد؛ لأنه أتى ليحمي هؤلاء الشباب في هذا الفعل، فلما رأوا العميد ظلوا يرقصون ويغنون ويفعلون هذه الأشياء. فلا شك في أن صاحب المرقص أفضل من مثل هذا الشخص الذي نزل من مكتبه متخصصاً ليحمي الفساد. يقول: فطلب منهم صاحب المرقص أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي، فلما انتهى الرقص أسدل الستار، ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة، وحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة، وتملكهم العجب، وظنوا أنما يرونه جزء من فقرة فكاهية، لكن بدأت هذه البداية الجادة، فلما عرفوا أن أمامهم شيخاً يعظهم أخذوا يسخرون منه ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء، وهو لا يبالي بهم، واستمر في نصحه ووعظه، حتى قام أحد الحضور وأمرهم بالسكوت والإنصات حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ. قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص، حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل، تلا علينا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، وقصصاً لتوبة بعض الصالحين، وكان مما قاله: أيها الناس! إنكم عشتم طويلاً، وعصيتم الله كثيراً، فأين ذهبت لذة المعصية؟! لقد ذهبت اللذة، وبقيت الصحائف سوداء، ستسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى. أيها الناس! هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم؟! إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، فكيف بنار جهنم؟! بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان. فبكى الناس جميعاً، وخرج الشيخ من المرقص، وخرج الجميع وراءه، وكانت توبتهم على يده، حتى صاحب المرقص تاب وندم على ما كان منه.

حركة أهل الباطل

حركة أهل الباطل إن النماذج -بلا شك- كثيرة، وإذا حاولنا أن نستوفيها فهذا مما يحتاج إلى وقت طويل، ونحن نذكر نماذج فقط، فإذا كنا قد اطلعنا على هذه النماذج -سواءٌ أكانت من سيرة السلف الصالح رحمهم الله تعالى أم من مواقف الخلف والمتأخرين- وإذا كان سعي الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وحركتهم في نصرة الدين هي ثمرة أو أثر من آثار علو همتهم، ولئن كان نشر مناقبهم وإذاعة أخبارهم من أسباب إيقاظ الغافلين، فإنه قد ينضم إلى هذه الأسباب تقريع النائمين والسادرين في الغفلة، وذلك بأن نذكر لهم شيئاً من التوبيخ كي تتحرك الهمم، ليس بأن نذكر نماذج أهل الحق من السلف والخلف فحسب، وإنما ربما يثير هممهم وينشطها ويوقظها من رقدتها أن نذكر نماذج لا من علو همة أهل الباطل، لكن من حركة أهل الباطل في الانتصار لباطلهم، وكيف أنهم يبذلون ويصبرون ويضحون في سبيل إطفاء نور الإسلام، وهيهات هيهات! قال عز وجل: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]. فالكافر لا يصح أن يوصف بعلو همة، ولا يمكن أن يوصف بعلو الهمة، وإنما نذكر أنفسنا كي نستحيي من الله سبحانه وتعالى. ألم تسمع قوله تعالى في وصف حركة أهل الباطل: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]؟! وقص الله عز وجل عن قوم إبراهيم عليه السلام أنهم قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68]. وقال في شأن الكافر: ((وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى)) أي: تحرك {فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]. وقال أيضاً: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ} [المائدة:62]. وقال أيضاً: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران:176]. فهي حركة، لكنها حركة مذمومة مشئومة، تعود عليهم بالوبال والنكال وحبوط الأعمال. ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. وقال أيضاً: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2 - 3] يعني: كانت في الدنيا عاملة ناصبة، تتعب وتدأب في سبيل التقرب إلى الشركاء من دون الله تبارك وتعالى. وقال عز وجل أيضاً: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:103 - 105]. وقال عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. إن حبوط أعمال الكافرين راجع إلى فقدانهم الإيمان، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19]. فكما أن حركتهم كانت وبالاً عليهم فحركة الكافر -أيضاً- تصير وبالاً عليه في الآخرة؛ لأن هذه الحركة إما أنها تكون في طلب الدنيا، وإما في سبيل دين باطل لا يؤدي الإيمان به إلا إلى جهنم والعياذ بالله، يقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. وإما أن هذه الحركة كانت في سبيل الصد عن سبيل الله عز وجل، قال عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] أي: الذين كفروا في أنفسهم وفي ذواتهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله أضل أعمالهم. وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] فكما أن الدال على الخير كفاعله، وكما أن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، فكذلك في الجانب الآخر يحمل المبطل الداعي إلى الباطل وزره ووزر من يضلهم بغير علم. ومع هذا كله فإن الله سبحانه وتعالى واسى أهل الإيمان وعزاهم فيما يلقون من الألم فقال عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، وهذا أعظم عزاء ومواساة لما يلقاه المؤمن في زمن غربة الدين حين يكون القبض عليه أشد من قبضه على الجمر. فلا شك في هذا أعظم عزاء؛ لأن كل إنسان في دار الدنيا مبتلى، وكل إنسان يبتلى، ولا أحد أبداً يخرج من ابتلاء الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]. إذاً: الابتلاء عام في كل الخلق، لكن كلما اقترب الإنسان من منهج الأنبياء عليهم السلام كلما زاد حظه من البلاء بسبب قوة دينه وقوة إيمانه، كما بين ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم. فلا يظنن أي واحد من المسلمين الموحدين المستقيمين على طاعة الله حينما يحترق دمه وتحترق أعصابه من الظلم والقهر ومحاربة الدين صباح مساء من السخرية ومن الحملات والاضطهاد بكل أنواع الاضطهاد في مثل هذا الزمان، لا يظن أن هذا التعب ضائع سدى، بل هذا الانفعال في حد ذاته هو عبادة يثاب عليها، فانفعالك وغضبك لله وتمعر وجهك بسبب انتهاك الفجار لحرمات الله عبادة تثاب عليها، والله سبحانه وتعالى مطلع عليك، ويعرف من قلبك أنك تكره هذا، وأنك تألم له، وأنت تثاب على مجرد هذا الشعور. ومع ذلك ليس هذا فحسب، فلست فقط الذي تتعب، بل أهل الباطل يتعبون، ويسهرون الليالي، لكن ليس في قيام الليل، ولا في تلاوة القرآن، وإنما في الكيد لهذا الدين وأهله، ويبذلون الأموال، ويوظفون الموظفين، وكثير من الجهود يُبذل في سبيل إطفاء نور الإسلام وهدم ما بناه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، واقتلاع الإسلام من جذوره، ومع ذلك يكون مصيرهم هو ما قال عنه عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء:104]، أي: لا تضعفوا {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104]، لكن مع فارق، وهو أنكم ترجون بصبركم من الله ما لا يرجون، فأنت إذا صبرت على الأذى ترجو الثواب من الله سبحانه وتعالى، وأما الظالم الذي يحارب الإسلام فليس معه أحد، قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]، فلا يمكن أبداً أن يكون لهم ناصر، بل كلهم أعداء لبعضهم في الدنيا وفي الآخرة، كما قال عز وجل: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25]. فليس المؤمنون وحدهم الذين يحتملون الألم والقرح، بل إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء، ولكن شتان بين المؤمنين الذين يتوجهون إلى الله سبحانه وتعالى بجهادهم ويرتقبون عنده جزاءهم، وبين الكافرين الذين هم حيارى تائهون ضائعون مضيعون لا يتجهون إلى الله، فأنت في الشدة وفي العناء تتجه إلى الله سبحانه وتعالى، وتستنصره، وتقول: رب! إني مغلوب فانتصر. أما الكافر فإلى من يتجه؟! هل يستطيع أن يتجه إلى الله سبحانه وتعالى ويدعوه أن ينصره ويعينه على إطفاء نوره والقضاء على دينه؟! فالكافر لا ناصر له ولا ولي له، قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. ولذلك كان الصحابة يرفعون هذا الشعار في مواجهة المشركين حينما يلتقون، وقد أخذ أبو سفيان قبل إسلامه يقول لهم في أحد يوم كانت لهم الجولة: اعل هبل، اعل هبل. ينادي بالعلو لهبل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يردوا عليه ويقولوا: الله أعلى وأجل. فرد الصحابة: الله أعلى وأجل. وحينما قال الكفار لهم: لنا العزى ولا عزى لكم. أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يردوا عليهم قائلين: الله مولانا ولا مولى لكم. فهؤلاء الكافرون ضائعون مضيعون، لا يتجهون إلى الله ولا يرتقبون عنده شيئاً في الحياة ولا بعد الحياة، فإذا كانوا مع ذلك يصرون ويدأبون في محاربة الحق فمن الأولى بالإصرار والمثابرة والصبر؟! فما أجدر المؤمنين بأن لا يكفوا عن ابتغاء القوم وتطلبهم وتعقب آثارهم حتى لا تبقى للباطل قوة، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وهذا المعنى هو عين ما نقصده مما سنذكره -إن شاء الله تعالى- من سعي الكافرين ودأبهم في تحصيل الدنيا أو في الصد عن سبيل الله تعالى. وبجانب هذا معنىً ثان أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه من قوله: (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نا

قصة هوستن وولاية تكساس

قصة هوستن وولاية تكساس هذا أنموذج حصل في حدود سنة (1830م)، أي: في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. رجل يدعى هيوستن وقف أمام الكونجرس الأمريكي وخطب خطبة بليغة لم يستعمل فيها كلمة مرتين، فسحر ألباب الرجال الذين أمامه، وكان قد نجح لتوه في تسكين ثائرة الهنود الحمر، وجلبهم إلى توقيع اتفاقات مع الحكومة الأمريكية، استدعاه الرئيس الأمريكي آنذاك وقال له: إن تكساس تتبع المكسيك، ومستقبل أمريكا متعلق بها، ولابد من ضمها، وأريد منك ضمها. فقال هوستن: أنا لها! زودني بمال ورجال. فقال الرئيس الأمريكي: لو كان عندي مال ورجال ما دعوتك، بل تذهب منفرداً، وبلا دولار واحد، وأبعث معك حارساً حتى تعبر نهر المسيسبي ويعود. يعني أن الحارس سيوصلك إلى حد نهر المسيسبي ويرجع هو، وتدخل أنت وحدك كي تحقق لي هذا الهدف. ومع ذلك قبل المهمة، وودعه الحارس على ضفة النهر، واندفع نحو تكساس، فلما دخل أول مدينة بها فتح له مكتب محاماة، فكان المدعي في المحكمة يخرج متهماً، والمتهم يخرج بريئاً بسبب بلاغة وقوة لسانه، حتى انبهر به الناس، فوثقوا به، واجتمعوا حوله، فتلاعب بمفاهيمهم وأخيلتهم، وغرس فيهم معنى ضرورة الاستقلال عن المكسيك. وكان قد أخذهم على مراحل، فهو لما أراد أن يضم تكساس إلى أمريكا دعاهم أولاً إلى الاستقلال عن المكسيك، وبين لهم أنه لابد من أن نقيم دولة مستقلة بنا عن المكسيك هي تكساس، فأنشأ حركة قوية أتمت الاستقلال، فاستقلت تكساس عن المكسيك. ثم غرس معنىً جديداً، وهو وجوب الانضمام إلى الولايات المتحدة، فانضمت تكساس طواعية بإقناع هوستن. وجاء بعد سنوات قليلة إلى الرئيس الأمريكي، وسلمه مفتاح تكساس، ولم تطلق طلقة أمريكية، ولم يصرف دولار واحد، فشكره الرئيس الأمريكي، وخلدوا عمله بإطلاق اسمه على مدينة هوستن التي هي الآن من أهم مدن أمريكا وعاصمة النفط فيها. ونحن لا نذكر هذا للإعجاب بهؤلاء الكفرة، فإن هذا إذا كان مات على الكفر فهو إلى جهنم والعياذ بالله، لكن المقصود من ذكر هذه النماذج هو النظر إلى حال أهل الباطل؛ حيث إن أحدهم إذا أصر على أن يحقق هدفاً يجند كل طاقاته من أجل إنجاز ذلك.

الحرب بين العرب والأتراك العثمانيين

الحرب بين العرب والأتراك العثمانيين إننا لنذكر في العهد القريب لورنت براون الجاسوس البريطاني المعروف، فقد أقام حرباً ضارية بين المسلمين والمسلمين، بين العرب والأتراك، وظل يغذي نزعة القومية العربية في الجيوش العربية، خاصة التي كان يقودها الشريف حسين الخائن المعروف، أقام حرباً ضارية بين المسلمين والمسلمين، بين العرب والأتراك، على أساس القومية والانفصال عن الخلافة العثمانية، وأريقت فيها دماء الآلاف من المسلمين بأيدي المسلمين في سبيل التاج البريطاني! ولم ترق قطرة دم واحدة من جسم رجل إنجليزي في سبيل بريطانيا، بل تقاتل المسلمون فيما بينهم.

حركة أبناء اليابان في النهوض ببلادهم

حركة أبناء اليابان في النهوض ببلادهم وهذا مثال آخر من الأمثلة على إصرار أهل الباطل في سبيل تحقيق مآربهم حتى لو كان في سبيل الدنيا، وهو أنموذج من اليابان: فقد أرسلت الدولة اليابانية في بدء حضارتها بعوثاً دراسية إلى ألمانيا كما بعثت الأمة العربية بعوثاً، فرجعت بعوث اليابان لتحضر أمتها، ورجعت بعوثنا خاوية الوفاق، فما هو السر؟! السر نحكيه في هذه القصة التي يحكيها الذي قام بهذا الأمر، وهو الطالب الياباني أوساهير: بعثته حكومته للدراسة في ألمانيا، يقول: لو أنني اتبعت نصائح أساتذتي الألمان الذين ذهبت لأدرس عليهم في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء، وكانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركاً صغيراً؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية، أو ما يسمى بالموديل الذي هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تصنع فقد وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها. وبدلاً من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل أو مركز تدريب عملي أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك -أياً كانت قوته- وكأني أقف أمام لغز لا يحل، وفي ذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، وكان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي، ووجدت في المعرض محركاً بقوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلاً جداً، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه كأنني أنظر إلى تاج من الجوهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت تاريخ اليابان. وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال شتى، مغناطيس كحذوة الحصان، وأسلاك، وأذرع ذات سعة، وعجلات وتروس، وما إلى ذلك. فلو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها ثم شغلته فاشتغل أكون قد خطوت خطوة نحو سر موديل الصناعة الأوروبية. وبحثت في رفوف الكتب التي عندي حتى عثرت على الرسوم الخاصة للمحركات، وأخذت ورقاً كثيراً، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل: رسمت المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه، ثم جعلت أفككه قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة، وأعطيتها رقماً، وشيئاً فشيئاً فككته كله، ثم أعدت تركيبه وشغلته فاشتغل، فكاد قلبي أن يقف من الفرح! استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أنال من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل. وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسناً ما فعلت! الآن لابد من أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل وعليك أن تفككه وتكشف موضع الخطأ وتصححه وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل. كلفتني هذه العملية عشرة أيام، عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد. بعد ذلك قال رئيس البعثة الذي كان يتولى قيادتي روحياً: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركاً، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس والألمنيوم، وبدلاً من أن أعد رسالة الدكتوراة -كما أراد مني أساتذتي الألمان- تحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء، وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة سامرائي -ويظهر أنها أسرة من النبلاء في اليابان-، ولكنني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء. قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة. وعلم الميكادو بأمري -وهو الحاكم الياباني، ومعلوم أنهم كانوا يعبدون إمبراطورهم- فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي من الذهب، فاشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فبذلت راتبي وكل ما ادخرت، وعندما وصلت إلى ناجازاكي قيل لي: إن الميكادو يريد أن يراك. فقلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملاً، واستغرق ذلك تسع سنوات، وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات صنعت في اليابان قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ودخل الميكادو، وانحنينا نحييه، وابتسم، فقال: هذه أعذب موسيقا سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة. هكذا ملكنا الموديل، وهو سر قوة الغرب، ونقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب. فهذا أنموذج من الدأب والحركة والإصرار في سبيل الهدف الذي يصر عليه الإنسان. نحن ننزه كلمة الهمة من أن نصف بها مثل هذا المشرك، لكن نقول للاعتبارات التي صدرنا بها الكلام: إن المسلمين أولى بأن يكونوا كذلك.

حب اليابانيين للعمل والكد والتعلم

حب اليابانيين للعمل والكد والتعلم حدث من عايش الطلاب اليابانيين الذين يبتعثون إلى أمريكا عن أحوالهم فقال: ربما يلبثون في مكتبة الجامعة إلى نصف الليل، وربما نام أحدهم وهو جالس على كرسيه، ويواصل الدراسة في اليوم الثاني من غير ذهاب إلى البيت. وكل من خالط اليابانيين يعرف هذه الطبيعة الغريبة فيهم. حدثني أحد الإخوة منذ سنوات أنه كان هناك رجل ياباني يأتي في الإجازة الأسبوعية يوم الخميس إلى الإسكندرية، والإجازة تمتد إلى الجمعة، ويمكن إلى أيام تالية، فكان الرجل بالليل لا يطيق أن ينام، فيأمر السائق بأن يحمله من الإسكندرية إلى القاهرة، فيلقي نظرة على العمل، ثم يعود في نفس الليلة إلى الإسكندرية! وهذا سبب ولوعهم بالعمل والكدح في سبيل الدنيا، فكل هذا في سبيل الدنيا، فانظر كيف صارت حركة القوم، حتى إنهم كانوا يثورون على الحكومة إذا أعطتهم إجازات، قيريدون أن يعملوا ويكدحوا، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب في الأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار) أي: حمار بالنهار في سبيل الدنيا. فأولى بنا أن نطلب الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن نكون أشد إصراراً في سبيل هذا المطلب العظيم. ويحكي الأستاذ الراشد حفظه الله فيقول: شفعت مرة لداعية أن يقبله الأستاذ فؤاد سزكين طالباً بمعهده في فرانكفورت معهد تاريخ العلوم الإسلامية، فاشترط الأستاذ سزكين أن يشتغل الطالب ست عشرة ساعة يومياً، فرفض، ثم أراني الأستاذ سزكين من بعد عدداً من الطلاب اليابانيين في معهده وقد انكبوا على المخطوطات العربية يدرسونها ويبعثونها إلى الحياة، وقد رضوا بهذا الشرط، فتأمل!

حركة دعاة التنصير

حركة دعاة التنصير يحكي الدكتور عبد الودود شلبي في كتابه (في محكمة التاريخ) فيقول: أذكر أنني ترددت كثيراً جداً على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: هذا مركز لتدريب المبشرين -أي: المنصرين-، أيها المبشر الشاب! نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض في سبيل المسيح -عليه السلام-. أي: في سبيل الباطل، ومع ذلك يقابلونهم بهذه الصراحة! وأذكر أن في أحدى البلاد العربية أو الخليجية عمل أحد الشباب خطة لتحفيظ القرآن للشباب في المساجد، وجعل لها جدولاً بأسماء المدرسين المقترحين. فالمسئول عنهم الذي هو من المواطنين في هذه البلدة عرض عليه هذا الموضوع ففرح جداً بخطة تحفيظ القرآن وهذا النشاط الجيد، وقال لهذا الشاب: احضر الإخوة هؤلاء ليعملوا في التحفيظ بعد الظهر. يعني: في وقت الفراغ بالنسبة إليه. فمن الناس من تجهم حينما علم أنه ليس هناك مرتب، ومنهم من فرح؛ لأنه يريد أن يتعبد بتحفيظ الشباب والأطفال القرآن الكريم، فانقسموا فريقين، وحصل كلام وقيل وقال يعبر عن التذمر والتضجر من هذا الأمر. فما كان من هذا الرجل المسئول هناك إلا أن جمعهم وتكلم فيهم، وقال: لقد اخترناكم لأنكم حملة كتاب الله. وقال نحو ذلك من الكلام الطيب، وأردف: إنه كان يمكننا أن نحضر أضعافكم أربع مرات من بلاد أخرى بنفس الراتب الذي يأخذه الواحد منكم، لكننا آثرناكم لأنكم عرب وأهل علم. ثم ضرب لهم هذا المثل، فقال لهم: لا تكونوا مثل آلة البيبسي؛ إن أعطيتها ريالات أخرجت لك البيبسي، وإن لم تبذل فإنها لا تعطيك شيئاً، فالإنسان إذا عمل في الدعوة لا ينبغي أن تكون الفلوس هي التي تحركه؛ فإن طالب الآخرة همة الآخرة هي التي تحركه، وثواب الله سبحانه وتعالى هو الأبقى والأعظم والأوفر. فهؤلاء المنصرون في مركز إعداد المبشرين في مدريد -وهي مدينة من مدن الفردوس المفقود- يعلقون هذه اللوحة أمام وجوه الداخلين: أيها المبشر الشاب! نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض، وكل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ صغير، أجرك كله ستجده عند الله، إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء. هذه الكلمات حركت كثيراً من جند الشيطان المبشرين بالنيران، حركت حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة وغيرها من التخصصات للذهاب إلى الصحاري القاحلة التي لا توجد فيها إلا الخيام والمستنقعات المليئة بالنتن والميكروبات، والمكوث هناك السنين الطوال دون راتب ودون منصب، ولو أراد أحدهم العمل بمؤهله لربح مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه ضحى بكل هذا من أجل الباطل الذي يعتقد صحته. حكى بعض الشباب المسلمين في ألمانيا فقالوا: منذ السادسة صباحاً ينتشر دعاة فرقة (شهود يهوه) الذين هم فرقة من اليهود ضحكوا على النصارى، وعملوا لهم تغييراً في العقيدة النصرانية، وهذه الفرقة من أشد الفرق تعصباً للنصرانية المحرفة هذه، فالنصرانية محرفة، وهؤلاء حرفوها -أيضاً- تحريفاً جديداً. فينتشر هؤلاء الدعاة من السادسة صباحاً في الشوارع، وينطلقون إلى البيوت، ويطرقون الأبواب للدعوة إلى عقيدتهم. وحكى أحد الشباب المسلمين أن فتاة ألمانية منهم طرقت بابه في السادسة صباحاً، فلما علم أن غرضها دعوته إلى عقيدتها بين لها أنه مسلم، وأنه ليس في حاجة إلى أن يستمع منها، فظلت تجادله وتلح عليه أن يمنحها ولو دقائق من أجل المسيح، فلما رأى إصرارها أوصد الباب في وجهها، ولكنها أصرت على تبليغ عقيدتها ووقفت تخطب أمام الباب المغلق قرابة نصف ساعة تشرح له عقيدتها وتغريه باعتناق دينها! فما بالنا -معشر المسلمين- يجلس الواحد منا شبعان متكئاً على أريكته إذا طلب منه نصرة دين الحق، أو كلف بأيسر المهام، أو عوتب لاستغراقه في اللهو والترفيه انطلق كالصاروخ مردداً قوله صلى الله عليه وسلم: (يا حنظلة! ساعة وساعة) وكأنه لا يحفظ من القرآن ولا من السنة غير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ساعة وساعة)؟!

واقع المسلمين وتقصيرهم المؤلم في الدعوة إلى الله تعالى

واقع المسلمين وتقصيرهم المؤلم في الدعوة إلى الله تعالى يقول الأستاذ الراشد حفظه الله تعالى: يقف الداعية يؤذن في الناس، ولكن أكثر الناس نيام، ويرى جلد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لإمرار خطتهم، فإذا التفت رأى الأمين المسلم سادراً غافلاً إلا الذين رحمهم ربهم، وقليل ما هم، ويعود ليفرغ حزنه في خطاب مع نفسه: تبلد في الناس حس الكفاح ومالوا لكسب وعيش رتيب يكاد يزعزع من همتي سدور الأمين وعزم المريب ويتهم نفسه أنه لم يكن بليغاً في ندائه، ويقول: لعلي كنت مقصراً في كلامي، ما حزت نواصي البلاغة، وكنت عيياً لا أفصح عن الأفكار، فيتهم نفسه أنه لم يكن بليغاً في ندائه، ولكن سرعان ما يحس أنه قد حاز البلاغة من أقطارها، فيعود يسلي نفسه ويجمل عزاءه: ومن حر شدوي يرى في الخريف طروباً بصحبتي العندليب ولكن خلقت بأرض بها نفوس العبيد برق تطيب يعني: أنا أتقن البلاغة جداً، وأنا آخذ بناصيتها، وإن شدوي وصوتي في النداء والدعوة صوت حر عذب يرى في الخريف، ومن شدة تمكني من عذوبة الصوت والبلاغة والفصاحة أجد حينما أشدو أنه يصحبني العندليب كي يستمع إلى صوتي. فهذا معنى قوله: ومن حر شدوي يرى في الخريف طروباً بصحبتي العندليب وقوله: ولكن خلقت بأرض بها نفوس العبيد برق تطيب يعني أنه يعود فيلوم الناس، ولا يلوم نفسه، ولا شك في أن نفسية الأمم وتركيبها النفسي يؤثر في مواقفهم من الدعوة؛ لأن الأمر كما قال الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله تعالى: ليست المشكلة في الاستعمار، لكن المشكلة في القابلية للاستعمار. أي: القابلية للذل والرضا والقناعة بالذل والهوان. فبعض الشباب يكون عنده استعداد أصلاً، وحينئذٍ فلا ينبغي أن يلقي باللائمة على الأعداء الذين يتربصون بالدين ويحاربونه ويشنون حملات عليه؛ إذ لا شك في أن الجماهير والشعوب هي نفسها شريكة في محاولة إطفاء نور الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، فلو لم يكن عندهم نفس القابلية للباطل بهذه الصورة لما استجابوا هذه الاستجابة المذهلة، وكأنهم لم يصيروا مسلمين ولم يبقوا بعد مسلمين من شدة الاستجابة للباطل الذي يصب في رءوسهم صباح مساء. فلا شك في أن الناس مسئولون، ولا ينبغي أبداً أن يلقى باللائمة فقط على الكبراء، وإنما الناس لديهم الاستعداد والرضا بالتشنيع على الدين، حتى على المظاهر الدينية الصرفة التي لا تعلق لها بما يذكرون! فتبدلت الآن موازين البلاغة، وافتقد الجيل الأعمال الكبيرة التي يتمجد بها، فصار كما يقول الرافعي: تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها، ورغم الفساد فإن الداعية المسلم لم يتخل عن محاولة انتشال العباد، وإن كل وساوس اليأس من الإصلاح لن تلبث أن تتبدد أمام لحظة انتباه إيماني تريه مكانته المتوسطة لموكب الإيمان السائر، أخذاً عن السلف، وما دمت آخذاً عن السلف فلابد أن يسوق لك قدر الله خلفاً يستلم الأمانة منك، ذلك وعد الله، وإنه لموكب لن ينقطع أبداً. فلابد من أن تكون واثقاً، فكما أخذت عمن سلف لابد من أن يقيض الله لك الخلف الذي يحمل الراية منك ويحملها بعدك، والدليل على ذلك أن هذا وعد بأن الموكب لن ينقطع أبداً، مهما تكالبت قوى الشر والكفر. وقد مضى بهذا الوعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، وأمر الله هو الريح التي تقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان. فهذا فيما يتعلق بالنماذج وبعض التنبيهات المتعلقة بعلو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن تبعهم من الخلف في الدعوة إلى الله عز وجل.

علو الهمة في العبادة والاستقامة عند السلف الصالح رحمهم الله تعالى

علو الهمة في العبادة والاستقامة عند السلف الصالح رحمهم الله تعالى وندلف الآن إلى مجال آخر من مجالات علو الهمة، وهو علو الهمة في العبادة والاستقامة، وخاصة علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى. فقد فقه سلفنا الصالحون عن الله سبحانه وتعالى أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا ومصيرهم إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم عن السفاسف، فلا تراهم إلا صوامين قوامين باكين والهين. وقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفاً من عباراتهم وعباداتهم. قال الحسن رحمه الله تعالى: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره. أي: من نافسك في دينك فنافسه؛ لأن هذا النوع من التنافس أمر الله به فقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فأمرنا عز وجل بالتنافس في أعمال الخير. أما في الدنيا فقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن التنافس في الدنيا فقال: (ولا تنافسوا). وهناك مشكلة، هي أن الدنيا أحياناً تلتبس بالدين، بمعنى أن بعض أغراض الدنيا تأخذ صورة الدين، وهي في الحقيقة دنيا، فينبغي للإنسان أن يتفطن لذلك. مثلاً: حب الزعامة والرياسة والشهرة والجاه، فهذا في الحقيقة من أغراض الدنيا ومن مقاصد الدنيا، فمن نافسك فيها فألقها في نحره، ولا تحرص على الظهور والرياسة والزعامة، وإنما ينبغي أن يميز الإنسان غضبه وحركته وسكنته هل ذلك لله ولدينه أم لنفسه. لأن بعض الناس قد يدعو إلى الله عز وجل، ثم يطرأ عليه هذا النوع من التلبيس، فتتحول الدعوة إلى الله إلى دعوة إلى النفس وليس إلى الله سبحانه وتعالى. فهذه خطورتها أنها تحبط العمل، والشرك يستوجب العقوبة، كما في حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار. وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل. وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني -وهذه عبارة عجيبة جداً منه-: ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه. فانظر كيف يطبق التنافس في الآخرة! وانظر إلى علو همته! وقال أحد العباد: لو أن رجلاً سمع برجل هو أطوع لله منه فمات ذلك الرجل غماً ما كان ذلك بكثير. أي: لأن الآخر يطيع الله أكثر منه، فيحس بالحسرة على تقصيره بالنسبة إليه، ولهذا يحق له أن يموت من الحسرة والغم! وأما الآن فنحن نتحاسد على الدنيا، وعلى المال، وعلى أعراض الدنيا وزينتها، وهذا هو الذي يثير حفيظة المسلمين إزاء إخوانهم اليوم، ولا يكاد يوجد فينا شعور بأن إنساناً يكاد يموت من الغم لأنه بلغه أن هناك رجلاً أطوع لله منه. وقيل لـ نافع: ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما. وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يوماً، وأحيا ليله، وأعتق رقبة. واجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته اجتهاداً شديداً، فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ فقال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك. فلم يزل على ذلك حتى مات رضي الله تعالى عنه. وعن قتادة قال: قال مورق العجلي: ما وجدت للمؤمن في الدنيا مثلاً إلا مثل رجل على خشبة في البحر، وهو يقول: يا رب يا رب لعل الله أن ينجيه. فهذا هو شأن المؤمن في بحر الفتن الذي يغرق فيه الناس. فالشخص الذي وجد خشبة فتعلق بها ولجأ إلى الله سبحانه وتعالى أن ينجيه ليصل إلى الشاطئ، أو يبعث إليه من ينقذه كيف تكون حالته وخوفه من الهلكة؟! وهكذا تكون حال المؤمن في مثل هذه الفتن. وعن أسامة قال: كان من يرى سفيان الثوري يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق، أكثر ما تسمعه يقول: يا رب! سلم سلم. وعن جعفر قال: دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: والله إنه لينبغي للرجل المسلم أن يزيده ما يرى في الناس من التهاون بأمر الله أن يزيده ذلك جداً واجتهاداً. ثم بكى! وعن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمها الله ورحمه- قالت: ما رأيت أحداً أكثر صلاة ولا صياماً منه، ولا أحداً أشد فرقاً من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاء. وعن المغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: يا مغيرة! قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاةً وصياماً من عمر بن عبد العزيز، ولكني لم أر من الناس أحداً قط كان أشد خوفاً من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ، ويفعل مثل ذلك ليلته أجمع! وعن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال: ألا تخبريني عن عمر؟! قالت: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استخلف. وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، ويصوم في الحر حتى يخضر جسده ويصفر، فكان علقمة بن قيس يقول له: لمَ تعذب نفسك؟ فيقول: كرامتها أريد. وكان يصوم حتى يخضر جسده، ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا: إن الله عز وجل لم يأمرك بكل هذا! فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئت به. وقيل لـ عامر بن عبد الله: كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر؟! فقال: هل هو إلا أني تركت طعام النهار إلى الليل ونوم الليل إلى النهار، وليس في ذلك خطير أمر. وكان إذا جاء الليل يقول: أذهب حر النار النوم، أذهب حر النار النوم. فما ينام حتى يصبح. وعن الحسن قال: قال عامر بن قيس لقوم ذكروا الدنيا: أئنكم لتهتمون؟! أما والله لئن استطعت لأجعلنهما هماً واحداً. قال: ففعل -والله- ذلك حتى لحق بالله. وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطاً في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي، فوالله لأزحفن بك زحفاً حتى يكون الكلل منك لا مني. فإذا دخلت الفترة -الكسل أو التعب- تناول سوطه وضرب به ساقه، وقال: أنت أولى بالضرب من دابتي. وكان يقول: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟! كلا، والله لنزاحمنهم عليه زحاماً؛ حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً! وكان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت: رجل أصيب بمصيبة -أي: من خشيته لله- منكسر الطرف، منخفض الصوت، رطب العين، إن حركته جاءت عيناه بأربع -أي: بأربع قطرات من دموع-، ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك؟! تبكي الليل عامته لا تسكت! لعلك -يا بني- قتلت نفساً! لعلك قتلت قتيلاً! فيقول: يا أماه! أنا أعلم بما صنعت نفسي. وقال هشيم -وهو تلميذ منصور بن زاذان -: كان منصور لو قيل له: إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في العمل. أي: لأنه أتى بأقصى ما يستطيع في العبادة. وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له: القيامة غداً ما وجد مزيداً، وكان يقول: اللهم! إني أحب لقاءك فأحب لقائي. وقال أنس بن عياض: رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له: غداً القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً. وعن موسى بن إسماعيل قال: لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً قط لصدقتكم! أي: كان مشغولاً بنفسه، إما أن يحدث، وإما أن يقرأ، وإما أن يسبح، وإما أن يصلي، فكان قد قسم النهار على هذه الأعمال. وكانت ابنة الربيع بن خثيم تقول له: يا أبت! ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! فيقول: يا ابنتاه! إن أباك يخاف البيات. وعن إبراهيم قال: قال فلان: ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد. يعني أن الذين عاشوا معه لم يروه تكلم بكلمة مدة عشرين سنة عاشروه فيها إلا بكلمة تصعد إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنها من الكلم الطيب. وعن بعضهم قال: صحبت الربيع عشرين عاماً ما سمعت منه كلمة تعاب. وقال مالك: رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين، فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم، فكان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه. أي: كان كلما أتى ذكر النبي عليه الصلاة والسلام يبكي من شدة حبه وشوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه. وقال سلمة بن علقمة: جالست يونس بن عبيد فما استطعت أن آخذ عليه كلمة. يعني: يخطئ فيها. وعن أبي هارون موسى قال: كان عون يحدثنا ولحيته ترتعش بالدموع. وقال أبو علي بن شهاب: سمعت أبا عبد الله بن بطة -الإمام الشهير المعروف- يقول: أستعمل عند منامي أربعين حديثاً رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: أوظف عند المنام أربعين حديثاً ما بين أدب وذكر. وعن القاسم بن راشد الشيباني قال: كان زمعة نازلاً عندنا بالمحصب، وكان له أهل و

نموذج في علو الهمة في الإيثار والإنفاق في سبيل الله

نموذج في علو الهمة في الإيثار والإنفاق في سبيل الله وهذا أنموذج من نماذج علو الهمة في النفقة في سبيل الله وفي الإيثار: فقد جاء إلى عبد الله بن طالب رجل يشكو إليه أنه لا يجد لابنته جهازاً يجهزها به لزواجها، وكان لـ ابن طالب ابنة تخرج إليه من وقت إلى آخر تزوره، فقال لأمها: أحب أن تزيني ابنتي وتلبسيها ثيابها وحليها. ففعلت، وأخرجتها إليه، فرحب بها واستبشر، ثم قال لها ولأمها: إن فلاناً شكا إلي كذا -يعني: شكا إلي أنه لا يجد جهازاً لابنته التي ستتزوج- وأنا أحب أن أدفع له جميع ما على ابنتي من حلي وثياب يجهز به ابنته، وعلي أن أعوض ابنتي منه بما هو أكثر. يعني: أدفع لهذا الرجل الآن كل ما تحمله ابنتي من الحلي والذهب، وألتزم بأن أعوضها بما هو أكثر من ذلك فيما بعد، فدفعها له. واحسرتاه! تقضى العمر وانصرمت ساعاته بين ذل العجز والكسل والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل وقال الآخر: هم الرجال وعيب أن يقال لمن لم يتصف بمعاني وصفهم رجل أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

علو الهمة [11]

علو الهمة [11] لا ينال العلم براحة الجسد، فمن أراد العلم فليبذل له وقته وجهده وهمته حتى ينال بعضه، وفي أخبار السلف من علو همتهم في طلب العلم، وصبرهم على شدائد تحصيله ما يحث كل طالب علم على الاقتداء بهم، والسير على طريقهم.

علو الهمة في طلب العلم

علو الهمة في طلب العلم

العلم أشرف من المال

العلم أشرف من المال فحديثنا -بإذن الله تعالى- سيكون عن علو همة السلف الصالح في طلب العلم. فالعلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأنفع ما كتبه واقتناه الكاتب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لـ كميل بن زياد: احفظ ما أقول لك، الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل -يعني أن العمل يزيده وينميه، والمال تنقصه النفقة- ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وفنائه. وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. اهـ. والحديث عن فضل العلم وما يناله طالبه من مزية وكرامة من الله سبحانه وتعالى هو حديث لا يكشف عن غامض، ولا يطرق السمع بجديد، وليس مقصودنا هنا أن نتكلم في فضائل العلم أو في الحث على العلم، فذاك حديث كثر فيه الكلام والتصوير، إنما مقصودنا لفت الأنظار إلى القوة العملية، وهي الوسيلة التي صعدت بعلمائنا فخدموا الدين ونشروا العلم.

كلام ابن الجوزي في الحث على طلب العلم

كلام ابن الجوزي في الحث على طلب العلم يقول الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله. يعني أن الراحة لا تنال بالراحة، وإنما الراحة تنال على جسر من التعب، فكلما ازداد خطر الشيء وقيمته ووزنه كلما صعب الحصول عليه وتناوله. يقول: فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة. ولا شك في أن العلم أشرف ما يحصل عليه الإنسان، وأشرف مأرب يتطلع إلى تحصيله، ومن ثم فلا يمكن أن ينال إلا بأشد التعب والجهد والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر؛ لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس. والهريسة في اصطلاح السلف كانت عبارة عن أكل فيه توابل كثيرة جداً، هذا معنى الهريسة عندهم، فهي بخلاف معنى الهريسة اليوم. فما استطاع هذا الطالب أبداً خلال سنوات طويلة أن يضحي بلحظة أو ساعة أو وقت من الدرس في سبيل أن يحصل هذه الشهوة! وقد حدث مرة أنني رأيت الشوارع خاوية، وكأنه فرض حظر التجول في المدينة، ثم دخلت المسجد لإلقاء درس تفسير القرآن فوجدت المسجد يكاد يكون خاوياً إلا من عدد قليل جداً من الأخوة، فظننت أنه حصل أمر خطير حتى تغيب طلبة العلم عن مجلس القرآن ومجلس الذكر، ثم علمت أن سبب ذلك مباراة كرة قدم دولية! فحينما نقارن أحوالنا بأحوال السلف نعرف خطورة الوضع الذي نحن فيه، وبعدنا عن منهج السلف الذي ندعيه ونزعم الانتساب إليه.

كلام ابن القيم في الحث على طلب العلم

كلام ابن القيم في الحث على طلب العلم قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما سعادته فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، وقد أحسن القائل في ذلك: فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا فما دام طلبك نفيساً فلابد من أن تبذل ثمناً نفيساً. ومن أحب أن يخطب الحسناء فلابد من أن يدفع لها المهر الذي تستحقه، فالحور لا تخطب بالنوم ولا بالكسل ولا بالتراخي، وإنما تخطب بمهر هو الكد والجد والتعب والسهر. يقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال ومن طمحت همته إلى الأمور العالية فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية وهي السعادة، وإن كان في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وأنها متى أكرهت النفس عليها، وسيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها أفضت منها إلى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم، تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها -يعني: الإنسان الذي يكد ويتعب في الدنيا في سبيل تحصيل مراتب ومنازل الآخرة كما قيل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها فأيقنت أني إنما كنت ألعب فحينما يرى الثمن العظيم والجزاء الوفير الذي يلقاه في الآخرة ينظر إلى عبادته وجهاده في الدنيا على أنه كان لعباً، على حد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة). فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر عليها إلا على جسر من المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد. قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسم. وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة. فيا واصل الحبيب ألا إليه بغير مشقة أبداً تروح ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف. أي: لولا أن أغلب الناس في جهل بلذة العلم ولذة السعادة التي ينالها الإنسان في الحياة الدنيا لتقاتلوا عليها. فمالنا يشقى أحدنا ويكدح ويتعب في سبيل تحصيل هذه البواطل العالية ولا نفعل ذلك للجنة؟! السبب أنها حفت وأحيطت بحجاب من المكاره، فغفل عنها أغلب الناس، وحرموا منها بحجاب من الجهل، ليخص الله بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.

كلام الشافعي وابن هشام في الحث على طلب العلم

كلام الشافعي وابن هشام في الحث على طلب العلم يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه. لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا وقد كان أهل العلم رحمهم الله تعالى يلاقون المصاعب والشدائد في تحصيلهم للعلم. والإمام ابن هشام النحوي صاحب كتاب (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) و (قطر الندى وبل الصدى) نصح طلبة العلم بالصبر على مشاق العلم والتحصيل؛ إذ هو شرط في نيل المراد العزيز الغالي، فيقول رحمه الله: ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل ومن لم يذل النفس في طلب العلا يسيراً يعش دهراً طويلاً أخا ذل فعلى المسافر أن يقطع السفر ويصل إلى البلد الذي يسافر إليه بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام الليل كله فمتى يصل إلى مقصده؟! الجد بالجد والحرمان في الكسل فانصب تصب عن قريب غاية الأمل فعليك -يا طالب العلم- أن تجد في التحصيل؛ فإن الأمر كما قال ابن الجنيد: ما طلب أحد شيئاً بجد وصدق إلا ناله، فإن لم ينله كله نال بعضه. فعلى طالب العلم أن يحرص على علو الهمة في طلب العلم.

الغيرة على الوقت أن ينفق في غير فائدة

الغيرة على الوقت أن ينفق في غير فائدة من خصائص طالب العلم العالي الهمة الغيرة على الوقت، فإنه يغار على الوقت، ويمكن أن يضحي بالمال لكن لا يضحي بوقته، ولا يجلس إلا إلى من يستفيد منه، أما جلسات الأنس والسمر والمزاح واللعب واللهو فلا يعرفها طالب العلم الكبير الهمة. فأبرز خصائص طالب العلم الجاد في طلبه أن يغار على وقته من أن يضيع في غير ما يقربه إلى الله ويحصل فيه العلم، وعنده بجانب الغيرة على الوقت عزم يبلى الجديدان وهو صارم صقيل، أي: تمر الأيام ومع ذلك عزمه لا تنال منه الأيام ضعفاً أو فتوراً إنما يظل كالصارم القاطع الصقيل. وعنده حرص لا يشفي غليله إلا أن يغترف من موارد العلوم بأكواب طائحة، فطالب العلم شره ونهم، وشهيته منتبهة جداً وحريصة على أن يغترف من العلم، يشرب من بحور العلم ولا يروى؛ لأنه يشتاق إلى المزيد، فلا يقنع بحد محدود، وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورة المسلك، ولا طول مسافة الطريق، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ولا مهاترة، كيف لا وقد شغلت نفسه بالحق فأشغلها عن الباطل؟! فأعظم ما يعصم الإنسان من آفات اللسان واللغو والباطل أن يشتغل بالأمور الجادة؛ لأن الإنسان لا يقع في الغيبة والنميمة والجدل والمراء والرياء وغير ذلك إلا من الفراغ؛ فإن هذه أعراض مرض الفراغ والبطالة، أما إذا بادر بشغل نفسه بالحق فإنها بذلك تنشغل عن الباطل. وقد كان حال سلف الأمة في طلب العلم ونشره والتصنيف فيه حالاً عجيباً، استثمروا فيه أوقاتهم، وأفنوا شبابهم، فحصلوا ما يدهش العقول ويبهر الألباب ويستنهض الهمم، فهيا نطالع أحوالهم لنقتدي بهديهم ونسير على سننهم. يقول الشاعر: وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني جنوناً فزدني من حديثك يا سعد ويقول الآخر في نفس هذا المعنى -وهو التشوق إلى مطالعة أحوال وسير السلف الصالح حتى تستنهض الهمم الراقدة-: كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي

حرص السلف على طلب العلم

حرص السلف على طلب العلم العلم الشريف هو صناعة القلب، وهو شغل القلب، فالعلم وظيفة تؤدى أساساً بالقلب، والقلب إذا حمل هم رفع رذيلة الجهل والتحلي بالعلم الشريف فإن القلب ينشغل بذلك، ويكون هذا جل همه. فما لم تتفرغ لصناعته وشغله لم تنلها، فلابد من أن يتفرغ طالب العلم، ويوحد همه، ويجعل له وجهة واحدة، فالقلب لا ينشغل إلا بشيء واحد فقط، كما قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]. فالقلب لا يمكن أن يصرف همه إلى أكثر من وجهة، فإذا وجهت همة القلب إلى اللذات والشهوات انصرفت عن العلم، فلم تجد فيه همة تقوده إلى طلب العلم، ومن لم يغلب لذة إدراكه العلم وشهوة العلم على لذة جسمه وشهوة نفسه لن ينال درجة العلم أبداً. فإذا صارت شهوته في العلم ولذته في إدراكه رجي له أن يكون من جملة أهله، وقد كان علماؤنا رحمهم الله تعالى يحرصون على العلم وطلب العلم حرصاً ليس له نظير، ونذكر أمثلة على ذلك:

حرص عمر بن الخطاب على طلب العلم

حرص عمر بن الخطاب على طلب العلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين يقول: كنت أنا وجار لي من الأنصار -وهو أوس بن خولي الأنصاري - في بني أمية بن زيد -وهي من عوالي المدينة- وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك. يعني: اتفقا على نوبات بالتبادل، يذهب هذا يوماً ليحصل العلم ثم يعود فيعلم أخاه، ثم يذهب الآخر وهكذا، وهذا من أجل أن يفوتهما شيء من العلم.

حرص ابن عباس على طلب العلم

حرص ابن عباس على طلب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العلم؛ فإنهم اليوم كثير. فقال: واعجباً لك يـ ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟! قال: فتركت ذاك. يعني: لم يفت في عزمه ولم يبال بتثبيطه، فانصرف عنه ابن عباس مع صغر سنه رضي الله تعالى عنه، يقول: فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل -يعني: في وقت القيلولة قبل صلاة الظهر، فيكره أن يوقظه من القيلولة- فأتوسد ردائي على بابه، فتسف الريح علي من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما جاء بك؟! هلا أرسلت إلي فآتيك؟! فأقول: لا؛ أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث. فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني. ولما فتحت البلاد آثر ابن عباس من أجل العلم ظمأ الهواجر في دروب المدينة ومسالكها على الظلال الوارفة في بساتين الشام وسواد العراق وشطآن النيل ودجلة والفرات. قال رضي الله عنه: لما فتحت المدائن أقبل الناس على الدنيا، وأقبلت على عمر رضي الله عنه. يعني: كي يتعلم منه ويستفيد من صحبته. يقول الشاعر: لكل بني الدنيا مراد ومقصد وإن مرادي صحة وفراغ لأبلغ في علم الشريعة مبلغا يكون به لي للجنان بلاغ وفي مثل هذا فلينافس أولو النهى وحسبي من الدنيا الغرور بلاغ فما الفوز إلا في نعيم مؤبد به العيش رغد والشراب يساغ ويقول -أيضاً- ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن دأبه في طلب العلم: كنت آتي باب أبي بن كعب رضي الله عنه وهو نائم، فأقبل على بابه، ولو علم بمكاني لأحب أن يوقظ لي لمكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكني أكره أن أمله. وقال -أيضاً- ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل في القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحداً إلا سر بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أبي بن كعب يوماً -وكان من الراسخين في العلم- عما نزل من القرآن في المدينة فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة، وسائرها بمكة.

حرص الشافعي على طلب العلم

حرص الشافعي على طلب العلم قال الشافعي رحمه الله تعالى: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين. وقال أيضاً: لما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع المسألة فأحفظها، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به قراطيس -يعني الأوراق-، فكنت إذا رأيت عظماً يلوح آخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحته في جرة كانت لنا قديماً. فكان يجمع فيها هذه العظام التي كتب فيها العلم. والإمام الشافعي نشأ يتيماً فقيراً رحمه الله، يقول عن نفسه: لم يكن لي مال، وكنت أطلب العلم في الحداثة -يعني: في مستهل العمر، وكانت سن الإمام أقل من ثلاث عشرة سنة-، وكنت أذهب إلى الديوان استوهب الظهور -يعني: أسألهم أن يهبوني ظهور الأوراق المكتوب عليه؛ لأن ظهورها تكون خالية- فأكتب فيها! وقال ابن أبي حاتم: سمعت المزني يقول: قيل للشافعي: كيف شهوتك في العلم؟ قال: أسمع بالحرف -يعني الكلمة- مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعاً تتنعم بما تنعمت به الأذنان. وقيل له: كيف حرصك على العلم؟! قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال. والجموع الممنوع هو الذي يجتهد في جمع المال من كل حدب وصوب ثم يبخل به، فتكون شدة حب هذا الرجل للمال وشدة حرصه عليه كبيرة جداً، فلما سئل عن حرصه على العلم قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال. فقيل له: فكيف طلبك له؟! قال الشافعي: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره. فتخيل امرأة ليس لها سوى ولد واحد، فضل ولدها، فكيف ستجتهد في البحث عنه ونشدان هذه الضالة؟! يقول: هذا هو طلبي للعلم.

حرص محمد بن سلام على طلب العلم

حرص محمد بن سلام على طلب العلم محمد بن سلام شيخ من شيوخ الإمام البخاري رحمه الله تعالى، كان في حال الطلب جالساً في مجلس الإملاء، فانكسر قلمه، فأمر أن ينادى: قلم بدينار. فتطايرت إليه الأقلام. فهو لا يريد أن يضحي بلحظة واحدة، حتى لا يفوته فيها سماع حرف من الحديث أو كلمة أو جملة، ويعتبر هذه مصيبة لا يعوضها مال الدنيا، فأراد أن يغري الذين يسمعونه فرفع سعر القلم إلى ثمن كبير جداً، فقال: قلم بدينار. فتطايرت إليه الأقلام من كل صوب، وذلك كي لا يفوته شيء من مما يمليه الشيخ.

حرص أحمد بن حنبل على طلب العلم

حرص أحمد بن حنبل على طلب العلم قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف. تلقى الإمام أحمد الحديث ببغداد من سنة تسع وسبعين ومائة إلى ست وثمانين ومائة، ولزم عالماً كبيراً من علماء الحديث والآثار ببغداد لمدة أربع سنوات، وهو هشيم بن بشير بن أبي حازم الواسطي المتوفى سنة ثلاث وثمانين ومائة. وسمع الإمام أحمد -أيضاً- من عبد الرحمن بن مهدي وأبي بكر بن عياش، وكان في طلبه للعلم مثال الجد والحرص والنشاط. يحكي الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن طلبه العلم وهو طفل صغير جداً فيقول: ربما أردت البكور في الحديث. أي: كان أحياناً يريد التبكير في الخروج في طلب العلم؛ لأن المعلوم أن البركة في البكور، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم! بارك لأمتي في بكورها)، وهو الوقت الذي بعد صلاة الفجر، فكان يخرج قبل أذان الفجر حتى يلتمس الحديث، يقول: ربما أردت البكور في الحديث، فتأخذ أمي بثيابي حتى يصبح الناس. وقال: لو كان عندي خمسون درهماً لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد.

حرص الثوري على طلب العلم

حرص الثوري على طلب العلم قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: لما أردت أن أطلب العلم قلت: يا رب! إنه لابد لي من معيشة. ورأيت العلم يدرس -أي: ينسى ويهجر-، فكنت أفرغ نفسي لطلبه، وسألت ربي الكفاية. وعزم على طلب العلم فتكفلت والدته بالإنفاق عليه، وقالت: اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. فأخذ يتلقى العلم عن شيوخه المتعددين، وعن كل من يحمل علماً أو خبراً، وكان سفيان الثوري كثير الاهتمام بطلب العلم، وذكر أبو نعيم أن سفيان الثوري كان إذا لقي شيخاً كبير السن سأله: هل سمعت من العلم شيئاً؟ فإن قال: لا رد عليه وقال: لا جزاك الله عن الإسلام خيراً. ومن مظاهر اهتمامه بالعلم أنه كان يقول: ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث؛ فإنه مسئول عن تعليم ولده. ولم يكن اهتمام سفيان بالعلم مقصوراً على طلبه، بل كان يعمل به، ويحرص على إشاعته بين الناس، والدعوة إليه، روى ابن معين عنه أنه كان يقول: ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان يقول: لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا من يعلمنا. وقال ثعلب: ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو خمسين سنة!

حرص ابن أبي حاتم على طلب العلم

حرص ابن أبي حاتم على طلب العلم ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حاتم الرازي محمد بن إدريس المتوفى سنة سبع وسبعين ومائتين أن أبا حاتم قال: قال لي أبو زرعة الرازي: ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك. فقلت له: إن ابني عبد الرحمن لحريص، فقال: من أشبه أباه فما ظلم. قال الرقام -وهو أحمد بن علي أحد رجال إسناد الخبر-: فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالاته لأبيه، فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه -كان يغتنم اقترابه من أبيه في البيت، فكان يأكل أبوه ويقرأ عليه-، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه. يعني كان يغتنم الفرصة إلى أقصى حد ممكن، فكانت ثمرة تلك المحافظ على الزمن والحرص على طلب العلم نتاجاً علمياً كبيراً، هو كتاب الجرح والتعديل في تسعة مجلدات، وهو من الكتب النفيسة الحافلة الرائدة في هذا العلم، ومنها أيضاً كتاب التفسير في عدة مجلدات، وكتاب المسند في ألف جزء. وقال الذهبي رحمه الله تعالى: قال علي بن أحمد الخوارزمي: قال ابن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة -يعني: ما ذاقوا طبيخاً-، نهارنا ندور على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل، فذهبت أنا ورفيق لي إلى شيخ فقالوا: هو عليل. فرجعنا فرأينا سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تنتن، فأكلناها نيئة ولم نتفرغ لشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد. يقول الشاعر: لولا ثلاث قد شغفت بحبها ما عفت في حوض المنية موردي وهي الرواية للحديث وكتبه والفقه فيه وذاك حسب المهتدي

حرص سليم بن أيوب على طلب العلم

حرص سليم بن أيوب على طلب العلم الإمام سليم بن أيوب الرازي أحد كبار أئمة المذهب الشافعي المتوفى سنة سبع وأربعين وأربعمائة، كان يحاسب نفسه على الأنفاس أن تضيع دون إفادة أو استفادة، قال أبو الفرج غيث بن علي التنوخي الصوري: وحدثت عنه أنه كان يحاسب نفسه على الأنفاس. أي: يحاسب نفسه على اللحظة التي يستهلكها النفس، فقد كان يضن بها ويبخل ويحاسب نفسه على هذه الأنفاس، قال: ولا يدع وقتاً يمضي عليه بغير فائدة، إما ينسخ، أو يدرس، أو يقرأ وينسخ شيئاً كثيراً. ولقد حدثني عنه شيخنا أبو الفرج الإسفراييني -وهو من تلامذته- أنه نزل يوماً إلى داره ورجع، فقال: قد قرأت جزءاً في طريقي. يعني: فرغ من كتاب أو جزء منه أثناء ذهابه إلى البيت ورجوعه. قال: وحدثني المؤمل بن الحسن أنه رأى سليماً حفي عليه القلم -يعني: رق ولم يعد صالحاً للكتابة- فإلى أن قطه جعل يحرك شفتيه. أي: يذكر الله في هذه اللحظات، فحركة اليد حركة ميكانيكية يمكن أن يجتمع معها النشاط الذهني، فكان يقرأ وقت إصلاح القلم لئلا يمضي عليه وقت بلا فائدة.

حرص أبي الطاهر السلفي والخليل بن أحمد والباقلاني على طلب العلم

حرص أبي الطاهر السلفي والخليل بن أحمد والباقلاني على طلب العلم وصف ابن ناصر الحافظ أبا طاهر السلفي رحمه الله تعالى في طلب العلم وفي تحصيل العلم بكلمة واحدة فقط، فقال في وصفه: كأنه شعلة نار في التحصيل. وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله تعالى يقول: أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها. وذلك لأنه يضطر إلى هجر العلم. وكان عثمان الباقلاوي دائم الذكر لله تبارك وتعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر، فكان يجلس يكتب الحديث وتأتي أخته تلقمه إلى فمه؛ لأنه ليس عنده وقت ليتناول الطعام بيديه. فهل كان عندهم وقت مثلنا للجلوس أمام التلفزيون حتى لو كان ما يشاهد مباحاً بغض النظر عن الفساد الذي فيه والتبرج والموسيقى وغير ذلك؟!

حرص عبيد بن يعيش وداود الطائي على طلب العلم

حرص عبيد بن يعيش وداود الطائي على طلب العلم يقول عبيد بن يعيش: أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث. وكان داود الطائي يستف الفتيت -وهو بقايا الخبز وفتاته-، فما كان يأكل لقمة الخبز الكبيرة، وإنما كان يستف الفتيت، فيضعه في يده ويتناوله بلسانه، فيقول: بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية. يقارن بين الوقت الذي يستغرقه إذا تناول الفتيت، والوقت الذي يستغرقه إذا أكل خبزاً وأراد أن يقطعه ويمضغه جيداً، فوجد أن بينهما قدر قراءة خمسين آية، فيقول: أكسب الخمسين آية وأوفر هذا الوقت. فكان يستف الفتيت.

حرص ابن عقيل على طلب العلم

حرص ابن عقيل على طلب العلم قال الإمام الجليل ابن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى: وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي. وابن عقيل له كتاب مشهور جداً اسمه الفنون، يقول عنه بعضهم: هو في سبعمائة مجلد. يقول ابن عقيل: وأنا أقصر بغاية جهدي وقت أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ. يعني إذا استف الكعك فإن وقت بلعه سريع، بينما الخبز إذا مضغه فإنه يأخذ وقتاً أطول، فيتحسى الكعك ويشرب الماء بعده مباشرة توفيراً للوقت على مطالعة أو تسطير فائدة.

حرص شعبة والشعبي على طلب العلم

حرص شعبة والشعبي على طلب العلم ذكروا لـ شعبة حديثاً روي عن شيخ، وهذا الشيخ توفي فلم يسمعه منه مباشرة، فلما ذكر له هذا الحديث وهو لم يسمعه من هذا الشيخ جعل شعبة رحمه الله تعالى يتحسر ويقول: واحزناه، واحزناه، واحزناه! يقول شعبة: إني لأذكر الحديث يفوتني فأمرض. أي: يحاول أن يستذكر الحديث، فإذا لم يتذكره يصيبه المرض من شدة الحزن على ذلك. قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟! قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب. وكان من حرصهم على العلم ومجالسه أنك تجدهم يعدون في الطرقات كأنهم مجانين، يقول شعبة رحمه الله تعالى: ما رأيت أحداً قط يعدو إلا قلت: مجنون أو صاحب حديث. يعني: إما مجنون لا يبالي بأن يعدو في الطريق، أو صاحب حديث تأكله الغيرة على الوقت، فيجري بسرعة حتى يوفر الوقت. يقول الحافظ أبو إسماعيل الهروي الأنصاري رحمه الله تعالى: المحدث يجب أن يكون سريع المشي، سريع الكتابة، سريع القراءة. وبعض العلماء قال: يمكن أن يزاد: سريع الأكل. قال سحنون: لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع. وقال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى: حدثنا شيخنا الكناني عن أبه صاحب الخطابه أسرع أخا العلم في ثلاث الأكل والمشي والكتابه وعن عبد الرحمن ابن تيمية قال عن أبيه: كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك حتى أسمعك.

حرص محمود شكري الألوسي على طلب العلم

حرص محمود شكري الألوسي على طلب العلم العلامة الكبير أبو المعالي محمود شكري الألوسي البغدادي الحكيم رحمه الله تعالى عالم كبير من علماء المنهج السلفي الذين نافحوا عنه أشد المنافحة، وانتصر له أعظم انتصار في كتاب مشهور اسمه: (غاية الأماني في الرد على النبهاني). كان يمتاز بالجد الشديد، والحرص على الوقت، فكان لا يثنيه عن دروسه حمارة القر، ولا يؤخره قرس برد الشتاء، وكثيراً ما تعرض تلاميذه بسبب تأخرهم عن موعد الدرس إلى النقد والتعنيف، يقول عنه تلميذه العلامة الجليل السلفي الشيخ بهجت الأثري رحمه الله تعالى: أذكر أنني انقطعت عن حضور درسه في يوم مزعج شديد الريح غزير المطر كثير الوحل، ظناً مني أن الشيخ لن يحضر إلى الدرس، فلما حضرت في اليوم الثاني إلى الدرس صار ينشد بلهجة غضبان يعاتبه: ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد. يعاتبه بذلك.

حرص الأمين الشنقيطي على طلب العلم

حرص الأمين الشنقيطي على طلب العلم العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى من نوادر النابغين والعباقرة في هذا الزمان، قال عنه بعض الإخوة: هذا الرجل قذيفة قذفت من القرون الأولى واستقرت في القرن الرابع عشر الهجري، فقد كان يشبه علماء السلف في أحواله، وفي علمه، وفي ملكته. ذكر العلامة القرآني رحمه الله تعالى عن نفسه أنه قدم على بعض المشايخ ليدرس عليه، وقد كان الشيخ الشنقيطي صبياً صغيراً، ونظام طلب العلم في شنقيط -وهي موريتانيا- أن الشيخ ينزل في مكان في الصحراء ويتخذ خيمة هناك، ثم يأتي الطلبة إليه ويضربون الخيام حول خيمته، ويتفرغون تماماً للعلم الذي سيتلقونه من هذا الشيخ، فإذا فرغوا منه انتقلوا إلى غيره في الصحراء. فذهب وهو طفل صغير إلى الشيخ ليدرس عليه كتاب لامية الأفعال، وأولها: الحمد لله لا أبغي به بدلاً. فلما قدم الشنقيطي وهو طفل صغير على الشيخ ونزل عليه لم يكن الشيخ يعرفه من قبل، فأمام ملأ من التلامذة سأله: من أنت؟ فقال مرتجلاً: هذا فتى من بني جاكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا رمت به همة علياء نحوكم إذ شام برق علو نوره اشتعلا فجاء يرجو ركاماً من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا إذ ضاق ذرعاًَ بجهل النحو ثم أبى أن لا يميز شكل العين من فعلا وقد أتى اليوم صباً مولعاً كلفًا للحمد لله لا أبغي به بدلا فارتجل هذه الأبيات بمجرد أن سأله الشيخ: من أنت؟! مضى رحمه الله تعالى في طلب العلم قدماً، وقد ألزمه بعض مشايخه بالقران، أي: أن يقرن بين فنين؛ لأنهم كانوا يهتمون جداً بتخصص الطالب وتركيزه على علم واحد حتى يتقنه ثم يتحول إلى علم آخر، لكن الشنقيطي خاصة نصحه بعض مشايخه -لما رأى فيه النجابة والذكاء والعبقرية- أن يقرن بين علمين؛ لأن طاقته وقدرته تؤهله لذلك، كي يسرع في تحصيل العلم، فقد تفرس فيه القدرة على ذلك، فانصرف بهمة عالية في الدرس والتحصيل رحمه الله تعالى. حتى إن بعض مشايخه لما رأى عليه أمارة النجابة والعبقرية قال له: يا بني! إن العلماء يذهبون إلى أن من أنس من نفسه أمارات الذكاء والنباهة والنبوغ فإنه يتعين عليه طلب الإمامة في الدين. يعني: يجب عليه أن يجتهد في طلب العلم حتى يصير إماماً. قال رحمه الله تعالى في كتابه (رحلة الحج): ومما قلت في شأن طلب العلم، وقد كنت في زمن الاشتغال بطلب العلم دائم الاشتغال به عن التزويج؛ لأنه ربما عاق عنه، فلما طال اشتغالي بطلب العلم قال لي بعض الأصدقاء: إما أن تتزوج الآن من تصلح لك، وإلا تزوجت عنك ذوات الحسب والجمال، ولن تجد من تصلح لمثلك. يريد أن يثنيني عن طلب العلم، فقلت في ذلك هذه الأبيات: دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجت بيض الملاح فقالوا لي تزوج ذات دل خلوب اللحط جائلة الوشاح ضحوكاً عن مبصرة رقاق تمج الراح بالماء القراح كأن لحاظها رشقات نبل تذيق القلب آلام الجراح ولا عجب إذا كانت لحاظ لبيضاء المحاجر كالرماح فكم قتلت كمياً ذابلات ضعيفات الجفون بلا سلاح فقلت لهم دعوني إن قلبي من الغي الصراح اليوم صاح ولي شغل بأبكار عذارى كأن وجوهها غرر الصباح يقصد الكتب والمسائل العلمية. أراها في المهارق لابسات براقع من معانيها الصحاح أبيت مفكراً فيها فتضحى لفهم الفدم خافضة الجناح أبحت حريمها جبراً عليها وما كان الحريم بمستباح فهذه إشارة عابرة إلى مظاهر علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى في طلب العلم وشدة حرصهم على طلب العلم.

علو همة السلف في قراءة كتب الحديث في أيام قليلة

علو همة السلف في قراءة كتب الحديث في أيام قليلة من علو همة السلف: قراءة كتب الحديث في أيام قليلة. جاء في ترجمة المجد الفيروز أبادي صاحب القاموس أنه قرأ صحيح مسلم في ثلاثة أيام بدمشق، وأنشد: قرأت بحمد الله جامع مسلم بجوف دمشق الشام جوف الإسلام عن ناصر الدين الإمام ابن جهبل بحضرة حفاظ مشاهير أعلام وتم بتوفيق الإله وفضله قراءة ضبط في ثلاثة أيام وقرأ الحافظ أبو الفضل العراقي صحيح مسلم على محمد بن إسماعيل الخباز بدمشق في ستة مجالس متوالية، قرأ في آخر مجلس منها أكثر من ثلث الكتاب، وذلك بحضور الحافظ زين الدين بن رجب وهو يعرض بنسخته. وفي تاريخ الذهبي في ترجمة إسماعيل بن أحمد النيسابوري الضرير ما نصه: وقد سمع عليه الخطيب البغدادي بمكة صحيح البخاري بسماعه من الكشميهني في ثلاثة مجالس، اثنان منها في ليلتين، كان يبتدئ بالقراءة وقت المغرب ويختم عند صلاة الفجر، والثالث من ضحوة النهار إلى طلوع الفجر. قال الذهبي: وهذا شيء لا أعلم أحداً في زماننا يستطيعه. وقال الحافظ السخاوي: وقع لشيخنا الحافظ ابن حجر أجل مما وقع لشيخه المجد اللغوي؛ فإنه قرأ صحيح البخاري في أربعين ساعة رملية. وقرأ ابن حجر صحيح مسلم في أربعة مجالس في يومين، وقرأ سنن ابن ماجة في أربعة مجالس، وقرأ كتاب النسائي الكبير في عشرة مجالس، كل مجلس منها نحو أربع ساعات، وقرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس كل مجلس منها أربع ساعات. ثم قال السخاوي: وأسرع شيء وقع له -أي: لـ ابن حجر - أنه قرأ في رحلته الشامية معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر، وهو يحتوي على ألف وخمسمائة حديث.

علو همة السلف في الرحلة في طلب العلم

علو همة السلف في الرحلة في طلب العلم ومن مظاهر علو همة السلف في طلب العلم علو همتهم في الرحلة لطلب العلم. فقد ذكر لإمام البخاري رحمه الله تعالى أن جابر بن عبد الله رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد. ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى عقبة بن عامر في مصر ليروي عنه حديثاً، وذلك ليتلقاه منه مباشرة بسند عالٍ، فقدم مصر، ونزل عن راحلته، ولم يحل رحلها، فسمع منه الحديث، وركب راحلته وقفل إلى المدينة راجعاً. ونحن في هذا الزمان نرى الذي يسافر للحج عن طريق البر يقول: لقد صبرت وعانيت! فتخيل أن أبا أيوب يسافر بجمل حتى يأتي عقبة بن عامر ويأخذ منه الحديث، ولا يحل الرحل والأشياء التي تكون على الراحلة، وإنما يسمع الحديث ثم يرجع إلى المدينة. وقال مالك: عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد. وقال أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري: كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في البصرة، فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم. وقال الحافظ ابن كثير في ترجمة الإمام البخاري رحمه الله تعالى: رحل -أي البخاري - إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ، قال الفربري: سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفاً، لم يبق منهم أحد غيري. وروي عن الرازي ما يدهش اللب من علو الهمة في الرحلة لتحصيل العلم، إذ قال: أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ -والفرسخ ثلاثة أميال-، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشياً، ثم إلى الرملة في فلسطين ماشياً، ثم إلى طرسوس ولي عشرون سنة. يقول الشاعر: سأضرب في طول البلاد وعرضها أنال مرادي أو أموت غريبا فإن تلفت نفسي فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا ولم ينتشر العلم في بلاد المغرب والأندلس إلا برجال رحلوا إلى الشرق، ولاقوا في رحلاتهم عناءً ونصباً، مثل أسد بن الفرات، وأبي الوليد الباجي، وأبي بكر بن العربي رحمهم الله تعالى أجمعين.

علو همة السلف في صبرهم على الفقر في سبيل طلب العلم

علو همة السلف في صبرهم على الفقر في سبيل طلب العلم من مظاهر علو همة السلف في طلب العلم صبرهم على الفقر ومعاناة الفقر في سبيل طلب العلم، وقد زخرت كتب الأدب والتراجم والتاريخ والأخلاق بأقوال العلماء في فقرهم وغربتهم وصبرهم على شدائدهم الخانقة، واستهانتهم بها، وعدم اكتراثهم لها، تمسكاً منهم بمثوبة الصبر المحتسب فيه الأجر، والذي كانوا فيه من الفائزين. فهذا قائل منهم يقول سائلاً عن مسكن الفقر ومنزله: قلت للفقر أين أنت مقيم قال لي في عمائم الفقهاء إن بيني وبينهم لإخاء وعزيز علي ترك الإخاء وآخر يجعل الفقه هو الفقر بعينه، إنما استدارت راء الفقر فصارت هاءً، وصار الناس ينطقونها (الفقه)، وأصلها (الفقر)، فيقول مشيراً إلى التلازم بين الفقه والفقر: إن الفقيه هو الفقير وإنما راء الفقير تجمعت أطرافها وهذا الإمام الشافعي رحمه الله يستهين بسطوة الفاقة، ويكسر جبروتها بصبره الذي غلبها، فيقول فيما نسب إليه رحمه الله تعالى يخاطب جبال سرنديب -وسرنديب جزيرة كبيرة في أقصى الهند في المشرق- ويخاطب تكرور -وهي مدينة في أقصى المغرب-: أمطري لؤلؤاً جبال سرنديب وفيضي آبار تكرور تبراً أنا إن عشت لست أعدم قوتاً ولئن مت لست أعدم قبراً همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا والتبر هو الذهب. وقال عمر بن حفص الأشقر: فقدنا البخاري أياماً من كتابة الحديث في البصرة، فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان، وقد نفد ما عنده، ولم يبق معه شيء، فجمعنا له دراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث رحمه الله تعالى. وقال مالك رحمه الله: لا ينال هذا الأمر حتى يذاق فيه طعم الفقر. وقال ابن القاسم: أفضى بـ مالك طلب الحديث إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه. باع الإمام مالك كل شيء في سبيل طلب الحديث الشريف. ويحيى بن معين رحمه الله تعالى خلف له أبوه ألف ألف درهم -أي: مليون درهم-، فأنفقها كلها في تحصيل الحديث، حتى لم يبق له نعل يلبسه. وروي عن أبي حاتم أنه قال: ضاقت بنا الحال أيام طلب العلم، فعجزت عن شراء البزر -والبزر نوع من الحب-، فكنت أخرج الليل إلى الدرب الذي أنزله فأرتفق بسراج الحارس، وكان ربما ينام الحارس فكنت أنوب عنه. لأنه ليس عنده ما يشتري به زيتاً يستضيء به، فكان يذهب في الليل ليكتب على مشاعل الحارس.

علو همة السلف في معاناتهم الجوع والشدائد في طلب العلم

علو همة السلف في معاناتهم الجوع والشدائد في طلب العلم ومن علو همة السلف معاناتهم الجوع والمرض والشدائد والمخاطرة بالنفس في طلب العلم. قص الإمام أبو حاتم رحمه الله تعالى شيئاً مما لقيه في أثناء رحلته في طلب العلم فقال رحمه الله: لما خرجنا من المدينة من عند داود الجعفري صرنا إلى الجار، وركبنا البحر، وكنا ثلاثة أنفس: أبو زهير المروروذي شيخ، وآخر نيسابوري، فركبنا البحر، وكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر، وضاقت صدورنا، وفني ما كان معنا من الزاد، وبقيت بقية، فخرجنا إلى البر، فجعلنا نمشي أياماً على البر حتى فني ما كان معنا من الزاد والماء، فمشينا يوماً وليلة لم يأكل أحد منا شيئاً، ولا شربنا، واليوم الثاني كذلك، واليوم الثالث كذلك، كل يوم نمشي إلى الليل، فإذا جاء المساء صلينا وألقينا بأنفسنا حيث كنا، وقد ضعفت أبداننا من الجوع والعطش والعياء، فلما أصبحنا اليوم الثالث جعلنا نمشي على قدر طاقتنا، فسقط الشيخ مغشياً عليه، فجئنا نحركه وهو لا يعقل، فتركناه ومشينا أنا وصاحبي النيسابوري قدر فرسخ أو فرسخين فضعفت وسقطت مغشياً علي، ومضى صاحبي وتركني، فلم يزل يمشي حتى أبصر من بعيد قوماً قد قربوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى عليه السلام، فلما عاينهم لوح بثوبه إليهم، فجاءوه ومعهم الماء في إداوة، فسقوه وأخذوا بيده، فقال لهم: رفيقين لي قد ألقيا بنفسيهما مغشياً عليهما، فما شعرت إلا برجل يصب الماء على وجهي، ففتحت عيني فقلت: اسقني. فصب من الماء في ركوة أو مشربة شيئاً يسيراً. وأخذ بيدي، فقلت: ورائي شيخ ملقى. قال: قد ذهب إلى ذاك جماعة، فأخذ بيدي وأنا أمشي أجر رجلي ويسقيني شيئاً بعد شيء. وكان من عادة العرب أن الإنسان عندما يكون في حالة عطش شديد، أو كان في مجاعة ومكث مدة كبيرة جداً حتى كاد يموت من العطش أنهم يأتون بالماء ويضيفون إليه التبن، حتى لا يتمكن من شرب الماء بشكل متواصل؛ لأنه يحتاج إلى إزالة التبن من الماء أثناء شربه، وهذا الأمر كان يفعل منذ القدم. يقول: فأخذ بيدي وأنا أمشي أجر رجلي ويسقيني شيئاً بعد شيء، حتى إذا بلغت إلى عند سفينتهم، وأتوا برفيقي الثالث الشيخ، وأحسنوا إلينا، فبقينا أياماً حتى رجعت إلينا أنفسنا، ثم كتبوا لنا كتاباً إلى مدينة يقال لها: (راية) إلى واليهم، وزودونا من الكعك والسويق والماء، فلم نزل نمشي حتى نفد ما كان معنا من الماء والسويق والكعك، فجعلنا نمشي جياعاً عطاشاً على شط البحر، حتى وقعنا على سلحفاة قد رمى به البحر مثل الترس، فعمدنا إلى حجر كبير فضربنا على ظهر السلحفاة فانفلق ظهره، وإذا فيها مثل صفرة البيض، فأخذنا بعض الأصداف الملقاة على شط البحر فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر فنتحساه حتى سكن عنا الجوع والعطش. ثم مررنا وتحملنا حتى دخلنا مدينة الراية، وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم، فأنزلنا في داره وأحسن إلينا، وكان يقدم إلينا كل يوم القرع، وكان يتكلم الفارسية، فكان كل يوم يقول للخادم: هات لهم اليقطين المبارك -أي: كان عنده شيء من البخل، فما كان يعطيهم إلا اليقطين الذي هو القرع-، قال: فقدم إلينا ذلك اليقطين مع الخبز أياماً، فقال واحد منا بالفارسية: ألا تدعو باللحم المشئوم؟! فسمع صاحب الدار، فسأله فقال: أنا أحسن الفارسية؛ فإن جدتي كانت هروية. فأتانا بعد ذلك باللحم، ثم خرجنا من هناك وزودنا إلى أن بلغنا مصر. وكل هذه الرحلة كانت في سبيل طلب العلم. وقال بكر بن حمدان المروزي: سمعت ابن خراش يقول: شربت بولي في طلب هذا الشأن -يعني طلب الحديث- خمس مرات. يعني: وصل به الحال من المجاعة إلى أنه كان ينقذ حياته بأن يشرب بول نفسه خمس مرات في طلب الحديث، وذلك أنه كان يمشي في الفلوات والقفار لتحصيل الحديث وتلقيه عن أهله، فيناله العطش الشديد في طريقه. يقول الشاعر: تلوم علي أن رحت للعلم طالبا أحصّل من عند الرواة فنونه فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي فقيمة كل الناس ما يحسنونه وقال الوخشي أبو علي الحسن: كنت بعسقلان أسمع من ابن مصحح وغيره، فضاقت علي النفقة، وبقيت أياماً بلا أكل، فأخذت لأكتب فعجزت، فذهبت إلى دكان خباز وقعدت بقربه لأشم رائحة الخبز وأتقوى بها، ثم فتح الله تعالى علي. فانظر إلى شدة الجوع الذي كانوا يلاقونه في سبيل طلب العلم، يرحلون ويبيعون كل ما لديهم في سبيل طلب العلم؛ لأنهم أحصروا في طلب الحديث، ولم يتفرغوا لطلب الرزق. ويقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: لقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أطلب وأرجوا كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه وأحوال أصحابه والتابعين. يقول البارودي: ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محبب

علو همة السلف في معاناتهم السهر في طلب العلم

علو همة السلف في معاناتهم السهر في طلب العلم من ملامح علو همة السلف في طلب العلم معاناتهم السهر في طلب العلم. قيل لبعض السلف: بم أدركت العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح. وقيل ذلك لآخر فقال: بالسفر، والسهر، والبكور في السحر. قال الخطيب البغدادي: وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل. وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك، وكان جماعة منهم يبدءون من العشاء، فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح. وبادر الليل بما تشتهي فإنما الليل نهار الأريب وكان الشيخ أبو علي يكشف عن ظهره في الليلة الباردة يطرد به النوم. وكان محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى لا ينام الليل، كان عنده الماء يزيل نومه به، وكان يقول: إن النوم من الحرارة، فلابد من دفعه بالماء البارد. وذكر ابن اللباد أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة ثلاثين سنة، خمس عشرة سنة من دراسة، وخمس عشرة سنة من عبادة. يقول الشاعر: يهوى الدياجي إذا المغرور أغفلها كأن شهب الدياجي أعين نجل أي: أعين واسعة. وحكى الربيع عن فاطمة بنت الشافعي قالت: أسرجت لأبي في ليلة سبعين مرة. وأبوها هو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ففي ليلة من الليالي أيقظ ابنته ليكتب شيئاً ثم نام ثم استيقظ ثانية، وهذا نوع من الأرق المحمود، فلا يستطيع النوم لشدة شغفه بالعلم. قال الحافظ ابن كثير: كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج فيكتب الفائدة تمر بخاطره ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى، حتى كان يتعدد منه ذلك قريباً من عشرين مرة. وأسد بن الفرات هو قاضي القيروان، وتلميذ الإمام مالك، ومدون مذهبه، وهو أحد القادة الفاتحين، فتح صقلية واستشهد بها سنة (213) من الهجرة رحمه الله، كان قد خرج من القيروان إلى الشرق سنة (172) من الهجرة، فسمع الموطأ على مالك بالمدينة، ثم رحل إلى العراق فسمع من أصحاب أبي حنيفة وتفقه عليهم، وكان أكثر اختلافه إلى محمد بن الحسن الشيباني، ولما حضر عنده قال له: إني غريب قليل النفقة، فما حيلتي؟! فقال له محمد بن الحسن: اسمع من العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، تبيت عندي وأسمعك. قال أسد: فكنت أبيت عنده وينزل إلي، ويجعل بين يديه قدحاً فيه الماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعست ملأ يده ونفح وجهي بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه ودأبي، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه. وكان محمد بن الحسن يتعهده بالنفقة كلما علم أن نفقته نفذت، وأعطاه مرة ثمانين ديناراً حين رآه يشرب من ماء السبيل، وأمده بالنفقة حين أراد الانصراف من العراق. وقال عبد الرحمن بن قاسم العتقي المصري أحد أصحاب مالك والليث وغيرهما: كنت آتي مالكاً غلساً -يعني: في آخر الليل- فأسأله عن مسألتين أو ثلاث أو أربع، وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراح صدر، فكنت آتيه كل سحر، فتوسدت مرة عتبته، فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد ولم أشعر به، فركضتني جارية سوداء له برجلها، وقالت لي: إن مولاك قد خرج، ليس يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة. فظنت السوداء أنه مولاه من كثرة اختلافه إليه. قال ابن القاسم: أنخت بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعت فيها ولا اشتريت شيئاً. قال: فبينما أنا عنده إذ أقبل حاج مصر، فإذا شاب متلثم دخل علينا فسلم على مالك فقال: أفيكم ابن القاسم؟! فأشير إلي، فأقبل يقبل عيني، ووجدت منه ريحاً طيبة، فإذا هي رائحة الولد وإذا هو ابني. وكان ابن القاسم ترك أمه حاملاً به، وكانت ابنة عمه، وقد أخبرها عند سفره بطول إقامته وخيرها، فاختارت البقاء. قال أبو يعلى الموصلي: اصبر على مضض الإدلاج بالسحر وبالرواح على الحاجات والبكر لا تعجزن ولا يضجرك مطلبها فالنجح يتلف العجز والضجر أي أن النجاح يتبخر ويضيع بين العجز والضجر. إني رأيت وفي الأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثر فقل من جد في أمر يطالبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر وحكى شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى عن شيخه الإمام الجليل أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي قال: سمعت الشيخ عبد العظيم رحمه الله يقول: كتبت بيدي تسعين مجلداً، وكتبت سبعمائة جزء. كل ذلك من علوم الحديث. قال النووي: قال شيخنا: ولم أر ولم أسمع أحداً أكثر اجتهاداً منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار. قال: وجاورته في المدرسة -يعني: في القاهرة- بيتي فوق بيته اثنتي عشرة سنة، فلم أستيقظ في ليلة من الليالي في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء السراج في بيته وهو مشتغل بالعلم. حتى في حال الأكل تكون الكتب عنده يشتغل فيها، فالنور الذي يعلو أهل العلم إنما هو من أثر الجد والسهر في طلب العلم، يقول بعض العلماء في وصف أبي محمد المقدسي: كأن النور يخرج من وجهه، وضعف بصره من كثرة الكتابة والبكاء. وقال الزمخشري واصفاً تلذذ العلماء بإيقاظ ليلهمن وطول سهرهم: سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق وتمايلي طرباً لحل عويصة أشهى وأحلى من مدامة ساق وصرير أقلامي على أوراقها أحلى من الدوكاء والعشاق وألذ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرمل عن أوراقي أأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي والدوكاء: الحجر الذي يسحق به الطيب. قال النووي رحمه الله تعالى وهو يحكي عن أوائل طلبه للعلم: وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض. بقي سنتين لم يضع جنبه على الإطلاق على الأرض، وإنما كان ينام وهو جالس، ثم لا يلبث أن يستيقظ للاستمرار في طلب العلم. وحكى البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله تعالى عن نومه فقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه. وقال البدر: وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكاناً أجلس فيه. فما كان الزائر يجد مكاناً يجلس فيه من كثرة الكتب التي يطالعها. وهذا الإمام الشيخ مؤرخ الإسلام وحافظ الشام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى أخذ كتاب الإمام أحمد مرتباً عن المحب الصامت، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي وأجهد نفسه كثيراً، وتعب فيه تعباً عظيماً، فجاء مصنفاً ليس له نظير في العالم، وأكمله إلا من بعض مسند أبي هريرة فإنه مات قبل أن يكمله؛ لأنه عوجل بكف بصره، أي أن الإمام ابن كثير قل بصره من كثرة سهره في طلب العلم. يقول الذهبي عن ابن كثير: إنه قال له: ما زلت أكتب فيه في الليل والسراج ينونص -يعني: يخفت الضوء ثم يعود مرة ثانية- حتى ذهب بصري معه، ولعل الله يقيض من يكمله. وممن اشتهر بالسهر في طلب العلم الإمام الجليل تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى، وقد رحل إلى الفسطاط والقاهرة والإسكندرية ودمشق والحجاز، وأخذ العلم عن كبار أساتذة عصره، وتعمق في مذهبي مالك والشافعي، كما تعمق في علوم الحديث والتفسير وعلم الكلام والنحو والأدب، وأتقن وهو شاب المذهبين إتقاناً عظيماً، وبلغ إلى درجة الإفتاء بهما. يقول الإسنوي: حقق المذهبين معاً، يعني مذهب مالك والشافعي، ولذلك مدحه الشيخ ركن الدين بن القوبع المالكي بقصيدة من جملتها: صبا للعلم صباً في صباه يعني: مال وأحب وعشق العلم في فترة الصبا. يقول: صبا للعلم صباً في صباه فأعل بهمة الصب الصبي وأتقن والشباب له لباس أدلة مالك والشافعي كان رحمه الله تعالى منقطعاً للعلم والعبادة، فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً، وكانت أوقاته معمورة بالدرس والمطالعة والتحصيل أو الإملاء والتأليف ورواية الحديث، وإذا أراح نفسه من بعض ذلك العناء فلا يرى إلا قائماً يصلي في المحراب، أو جالساً يتلو كلام الله، أو ماشياً يتفكر في خلق الله متدبراً صنعه، مستدلاً بذلك على قدرة الله ووحدانيته، فهو منصرف بجسمه وفكره سواد ليله وبياض نهاره إلى البحث والتحقيق والاستنباط والتدقيق، أو الصلاة والقيام وتقديس الله الملك العلام. وأصدق مرآة لحياته قوله: الجسم يذيبه حقوق الخدمة والقلب عذابه علو الهمة والعمر بذاك ينقضي في تعب والراحة ماتت فعليها الرحمة يقول السبكي في حاله: أما دأبه في الليل علماً وعبادة فأمر عجاب، فربما استوعب الليل فطالع فيه المجلد أو المجلدين، وربما تلا آية واحدة فكررها إلى مطلع الفجر. وقال الأدفوي: حكى لي الشيخ زين الدين عمر الدمشقي المعروف بـ ابن الكتابي رحمه الله تعالى قال: دخلت عليه بكرة يوم فناولني مجلداً وقال: هذا طالعته في هذه الليلة التي مضت. وقال الأدفوي أيضاً: له قدرة على المطالعة، رأيت خزانة المدرسة النجيبية بقوص فيها كتب من جملتها عيون الأدلة لـ ابن القصار في نحو ثلاثين مجلداً، وعليها علامات له. وكذلك رأيت كتب المدرسة السابقية، رأيت على السنن الكبرى للبيهقي له فيها في كل مجلد علامة، وفي تاريخ الخطيب كذلك، وفي معجم الطبراني الكبير والأوسط. وقال: أخبرني شيخ

علو الهمة [12]

علو الهمة [12] إن رأس مال الإنسان هو عمره، وإن أولى ما يصرف فيه المرء رأس ماله هو طلب العلم وتحصيله، فينبغي لمن وجد في نفسه الهمة للطلب ألا يضيع عمره في غير ذلك، وأن يستغله أحسن استغلال، وأن يكون ذا همة عالية في ذلك، والصبر عليه، مقتدياً في ذلك بجهابذة العلماء الذين بلغوا الذروة في علو الهمة في تحصيل العلم.

حرص السلف الصالح على مجالس العلم والعلماء

حرص السلف الصالح على مجالس العلم والعلماء فحديثنا -بإذن الله تعالى- عن حرص السلف -رحمهم الله- على الحضور في مجالس العلم والمثابرة على ذلك، فإن من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة أن ألقى في قلوب سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى الشغف بالعلم، والحرص على مجالسه، ليحفظوا به دينهم، وليكونوا أسوة لمن بعدهم، فمن ثمّ تبوءوا مناصب الإمامة في الدين. وقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يزدحمون على مجالس العلم، حتى قال جعفر بن درستويه: كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد. يعني أن من أراد أن يحجز مكاناً أو موضعاً في مكان الدرس ليوم الجمعة -مثلاً- فإنه يبقى في المسجد من عصر الخميس، ويظل مرابطاً في مكانه إلى اليوم التالي؛ لأن الدرس سيكون في اليوم الثاني بعد العصر؛ لأنه قبل ذلك لا يجد مكاناً، وهذا من شدة حرصهم وتزاحمهم على الحضور في مجالس العلم. يقول: كنا ندخل المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل مخافة أن لا نلحق من الغد موضعاً نسمع فيه. يقول جعفر بن درستويه: ورأيت شيخاً في المجلس يبول في طيلسانه ويدرج الطيلاسان حتى فرغ، مخافة أن يؤخذ مكانه إن قام للبول. وقال يحيى بن حسان: كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محل شيخ ضعيف فانتهبوه. أي: من شدة حرصهم على طلب العلم، وهم شباب أقوياء وهو رجل ضعيف ظلوا يزيحونه حتى انتهبوا منه مكانه الذي يجلس فيه، ودقوا يد الشيخ، فجعل الشيخ يصيح. وكان طبعاً الإمام سفيان بن عيينة يحدث، والمكان فسيح جداً، والزحام شديد للغاية، فجعل هذا الشيخ يصيح، ويقول لـ سفيان: لا جعلتك مما عملوا بي في حل. يعني: أنا لا أسامحك -يا سفيان - مما عملوا بي؛ لأنه حصل بسبب حرصهم على هذا الدرس، فأنت المسئول عن أن تنصفني من الظلم الذي وقع عليَّ. فجعل هذا الشيخ -ليلفت نظر سفيان بن عيينه إليه- يقول لـ سفيان: لا جعلتك مما عملوا بي في حل. وذلك ليلفت نظر سفيان بن عيينة إليه وتبلغه ظلامته، وكان سفيان لا يسمع، حتى نظر سفيان بن عيينة إلى رجل من أولئك الذين صنعوا بالشيخ ما صنعوا، فقال له: ما يقول الشيخ؟ فقال: يقول: زدنا في السماع. وأظن أنه حصل في الرواية نوع من التأليف؛ لأنه ليس من اللائق بطالب العلم أن يكذب، ولا يمكن لطالب علم -وخاصة طالب علم الحديث- أن يكذب، فالله تعالى أعلم، وكأنه عرَّض على الإمام سفيان، أي: لما قال له: ما يقول الشيخ؟ قال له: زدنا في السماع. ففهم ابن عيينة أن هذه مقولة الشيخ الضعيف؛ ولم يكذب هذا الذي رد عليه، وإنما قال له: زدنا في السماع. ففهم ابن عيينة أنه يبلغه مقولة الشيخ، وهو في الحقيقة لا يبلغه مقولة الشيخ، وإنما يعرَّض بجوابه بأن قال له: زدنا في السماع. والله تعالى أعلم. وكان سبب موت الإمام هشيم رحمه الله تعالى ازدحام طلبة العلم عليه، كما قال الخطابي: ازدحم أصحاب الحديث على هشيم فطرحوه عن حماره، فكان هذا سبب موته. وكان أبو بكر بن الخياط النحوي رحمه الله تعالى يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة؛ لأنه كان وهو يمشي في الطريق يستذكر الكتب.

أهمية إيقاظ الهمم في الاقتداء بالسلف في الحرص على طلب العلم

أهمية إيقاظ الهمم في الاقتداء بالسلف في الحرص على طلب العلم إننا حين نحكي بعض النماذج منهمم السلف لا نقصد بذلك الاقتداء بهم حذو القذة بالقذة، ولكن لإيقاظ الهمم الراقدة في هذا الزمان، فالمقصود تحريك هذه الهمم، فلا نقول: اسهروا الليل كله، وامشوا في الطريق وإن صدمتكم السيارات. وإنما نقول: احضروا مجالس العلم، وفي المساجد، حتى في البيوت، فلابد من أن يكون للإنسان حظ من الاجتهاد في تحصيل هذه المقاصد، وإن لم يصل إلى هذه المرتبة. وحكي عن ثعلب أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة - أي: دعوة طعام- شرط عليه أن يوسع له مقدار مسورة، والمسورة هي المتكأ من الجلد، يعني: مثل الوسادة من جلد تتسع لشخص. فكان يشترط على بعضهم إذا دعاه إلى طعام أو وليمة أن يوسع له في الوليمة مقدار مسورة يضع فيه كتاباً ويقرأ. أي: في أثناء حضورة في الوليمة يضع في هذا المكان الذي يحجزه له كتاباً ويقرأ فيه، وقد يحتمل أن تكون هذه القراءة أثناء الأكل، ويحتمل أنها قبل الأكل أو بعده. وإننا لنرى اليوم أن الولائم تضيع فيها ساعات طوال، وأهل بعض البلاد نجد أن كرم الضيافة عندهم يقتضي إهدار الوقت بصورة تدمي القلب، فأول شيء أنهم يجلسون ويتجمعون، وقد يستغرق ذلك -مثلاًً- نصف ساعة، والمواعيد ليس فيها دقة، ثم بعد ذلك يبدأ تبخير الحاضرين بالبخور، ثم بعد ذلك يؤتى بنوع معين من القهوة فاتح للشهية، ثم بعد ذلك يقدمون التمر مع هذه القهوة، ثم بعد ذلك يقدم الطعام، ثم بعد ذلك تقدم الفواكه، وهكذا الشاي، وإنه لشيء مؤلم جداً أن يضيع هذا الوقت، ويكون -أيضاً- طلبة علم يجودون بأوقاتهم بهذه الصورة، فهذا شيء لا يكاد يصدق! فالشاهد أن الإمام ثعلب رحمه الله تعالى كان إذا حضر دعوة اشترط خوفاً من ضياع الوقت بهذه الصورة أن يُحجز بجانبه مكان بقدر متكأ من الجلد، حتى يضع عليه كتاباً ويظل يقرأ في أثناء هذه الوليمة، فهل سمعنا حرصاً على العلم أشد من هذا الحرص؟! وكان سبب وفاة ثعلب أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم، فلا يسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرس فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فحمل إلى منزله على تلك الحال، وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم رحمه الله تعالى.

علو همة بقي بن مخلد في الرحلة في طلب العلم

علو همة بقي بن مخلد في الرحلة في طلب العلم أنه يلزمنا بدلاً من أن نحشو أدمغة أبنائنا وشبابنا بقصص مفكري الشرق والغرب والملاحدة والكفرة من اليهود والنصارى أن نلقنهم مثل هذا القصص الرائع، فعندنا ما يغنينا عن زبالة أذهان هؤلاء الناس. فهذا الإمام بقي بن مخلد الأندلسي رحمه الله تعالى رحل إلى بغداد ماشياً على قدميه. فهل تتصور أن رجلاً يرحل من الأندلس إلى بغداد ماشياً على قدميه في طلب العلم؟! لقد رحل هذا الإمام من الأندلس إلى بغداد ماشياً على قدميه، وكان جل بغيته أن يلقى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ليأخذ عنه العلم، حكي عنه أنه قال: لما قربت من بغداد اتصل بي خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل. أي: علم أن الإمام أحمد كان في أثناء امتحانه المحنة المعروفة عنه، وكان الإمام أحمد في المرحلة التي هي تحديد الإقامة، والتي كان فيها ممنوعاً من الخروج لمقابلة الناس، ولا يقابله أحد. قال: اتصل بي خبر المحنة التي دارت على الإمام أحمد، وأنه ممنوع من الاستماع إليه والسماع منه، فاغتممت بذلك غماً شديداً، فاحتللت الموضع، فلم أعرج على شيء بعد إنزالي متاعي في بيت اكتريته في بعض الفنادق أن أتيت المسجد الجامع الكبير، وأنا أريد أن أجلس إلى الخلق وأسمع ما يتذاكرونه. فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال، فيضعف ويقوي، فقلت لمن كان قربي: من هذا؟ قال: هذا يحيى بن معين رحمه الله، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه، فقمت إليه، فقلت له: أبا زكريا! رحمك الله، رجل غريب نائي الدار -يعني: بعيد الدار- أردت السؤال، فلا تستخفني. فقال لي: قل. فسألته عن بعض من لقيت من أهل الحديث، فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار، وكنت قد أكثرت من الأخذ منه، فقال - الإمام يحيى بن معين رحمه الله تعالى-: أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة، دمشقي ثقة، وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر وتقلد كبراً ما ضره شيئاً لخيره وفضلة. فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمة الله عليك، غيرك له سؤال! فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد. يعني: أعطني فرصة أسألك عن رجل واحد فقط. قال: أكشفك عن رجل واحد أحمد بن حنبل! فنظر إلي يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل؟! إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم. ثم خرجت استدل على منزل أحمد بن حنبل فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي وفتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه، فقلت: يا أبا عبد الله! رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث، ومقيد سنة -يعني: جامع سنة-، ولم تكن رحلتي إلا إليك. فقال لي: ادخل الأسطوان، ولا تقع عليك عين. يعني: راقب الطريق جيداً، فالمهم أن لا يراك أحداً وأنت تدخل. فقال لي: وأين موضعك -يعني: أين بلدك- فقلت: المغرب الأقصى، فقال لي: إفريقية؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى أفريقية. أي: من الأندلس، فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على طلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك. فقلت له: بلى، قد بلغني وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك، فقلت له: أبا عبد الله! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم -يعني: أنا لست من أهل البلد، فإذا جئت أزورك فلن يلفت هذا النظر أحد؛ لأني لست معروفاً هنا في هؤلاء الناس. قال: أبا عبد الله! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السؤال فأكون عند باب الدار وأقول ما يقولون، فتخرج إلى هذا الموضع. والسؤال هم المتسولون، يعني أنه يلبس ملابس المتسولين، ويأتي الإمام أحمد فيقول عند باب الدار ما يقولون، أي: من طلب الصدقة. قال: فتخرج إليَّ إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه كفاية. فقال لي: نعم، على شرط أن لا تظهر في الخلق، ولا عند أصحاب الحديث. أي: لأنه لو تردد على مجالس العلم فسيشتهر، فيعرف أنه طالب علم وطالب حديث، وحينئذ لا يصلح أن يزوره، لكن إذا كان في صورة السؤال فلن يعرفه أحد إذا أتقن أداء هذا الدور. قال: فقلت: شرطك. فكنت آخذ عوداً بيدي، وألف رأسي بخرقة، وأجعل كاغدي- يعني الورق- ودواتي في كمي، ثم آتي بابه فأصيح: الأجر رحمكم الله. والسؤال هنالك كذلك. أي أن هذا هو اصطلاح المتسولين، فإنهم كانوا إذا سألوا يقولون: الأجر رحمكم الله. قال: فيخرج إلي، ويغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له، وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد بن حنبل، وسما ذكره، وعظم في عيون الناس، وعلت إمامته. والإمام أحمد يلقب بإمام أهل السنة، مع أنه آخر الأئمة الأربعة، ولم يقل ذلك في حق الإمام الشافعي أو الإمام مالك أو أبي حنيفة؛ لأنهم لم يدركوا المحنة، فالأئمة الثلاثة ما أدركوا هذه المحنة، وإنما أدركها الإمام أحمد بن حنبل، وثبت فيها، فمن ثمَّ أطبقت الأمة على اعتباره إماماً لأهل السنة؛ لصبره الشديد في هذه المحنة، ومنافحته عن الدين وعن الحق في هذه المحنة الطويلة المعروفة. قال: فظهر أحمد بن حنبل، وسما ذكره -يعني: رفع الله سبحانه وتعالى شأنه في الناس- وعظم في عيون الناس، وعلت إمامته، وكان تضرب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري -يعني صبره على طلب العلم-، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي، وأدناني من نفسه، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب علم -أي: هذا يستحق أن يوصف بأنه طالب علم-. ثم يقص عليهم قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة، ويقرأه علي وأقرأه عليه، فاعتللتُ علة أشفيت منها -يعني: كدت أن أهلك منها- ففقدني من مجلسه، فسأل عني فأُعلم بعلتي، فقام من فوره مقبلاً إلي عائداً لي بمن معه، وأنا مضطجع في البيت الذي كنت اكتريت، ولدي تحتي، وكسائي عليَّ، وكتبي عند رأسي، فسمعت الفندق قد ارتج بأهله، وأنا أسمعهم يقولون: هو ذاك، أبصروه، هذا إمام المسلمين مقبلاً. أي أن الإمام أحمد أخذ تلامذته وأقبل نحو الفندق حتى يزوره لما علم بعلته، فالإمام بقي بن مخلد لما كان في الحجرة على هذه الهيئة التي وصف من المرض سمع ضجة شديدة في الخارج، ويظهر أن الذين كانوا أمام الفندق كانوا يصيحون ويقولون: هو ذاك. يشيرون إلى أن الإمام أحمد قادم من بعيد، قال: فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: أبا عبد الرحمن! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك. فدخل فجلس عند رأسي، وقد احتشى البيت من أصحابه فلم يسعهم، حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً، وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعلاك الله إلى العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية. فرأيت الأقلام تكتب لفظه، ثم خرج عني، فأتاني أهل الفندق يلطفون بي. أي أن الناس الذين كانوا في الفندق معه عرفوا مقام هذا الرجل الذي أتى إمام المسلمين وإمام أهل السنة يزوره، فصار الناس يعظمونه؛ لأجل زيارة الإمام أحمد له. يقول: فأتاني أهل الفندق يلطفون بي، ويخدمونني ديانة وحسبة، فواحد يأتي بفراش، وآخر بلحاف وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم؛ لعيادة الرجل الصالح. يعني الإمام أحمد رحمه الله. وقد توفي بقي بن مخلد سنة (276هـ) بالأندلس، فرحمه الله تعالى. فالشاهد من هذه القصة هذه الرحلة العجيبة، أن يرحل بقي بن مخلد من الأندلس، فيعبر البحر، ثم يمشي على قدميه إلى بغداد، ويصبر هذا الصبر على طلب العلم، فلاشك في أن هذه من النماذج الفذة من علو همة التي لا نظير لها.

حرص الحفاظ والعلماء على لقيا المشايخ

حرص الحفاظ والعلماء على لقيا المشايخ وقد اجتهد كثير من الحفاظ في لقيا المشايخ والتلقي عنهم، حتى بلغ عدد شيوخ الإمام أبي سعد عبد الكريم السمعاني المروزي رحمه الله تعالى سبعة آلاف شيخ وأستاذ، ولكثرة البلدان التي رحل إليها في طلب العلم ألف معجم البلدان، ويقصد بها البلدان التي سمع فيها العلم، وصنف معجم شيوخه في عشرة مجلدات، أي أن قاموس أسماء شيوخه استغرق عشرة مجلدات. وقال القاسم بن داود البغدادي: كتبت عن ستة آلاف شيخ. وبلغ عدة شيوخ الإمام الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى ألفاً وثلاثمائة شيخ، ومن النساء بضعاً وثمانين امرأة. ولما مات زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما: يا هؤلاء! من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم. يعني: أن ذهاب العلم لا يكون بأن يقبض الله سبحانه وتعالى العلم من صدور الرجال، وإنما بموت العلماء، كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فلما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال ابن عباس للناس: يا هؤلاء! من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، وايم الله لقد ذهب اليوم علم كثير، يموت الرجل الذي يعلم الشيء لا يعلمه غيره، فيذهب ما كان معه، ويشير إلى قبر زيد ويقول: لقد دفن اليوم علم كثير.

حرص العلماء على أوقاتهم

حرص العلماء على أوقاتهم وقال يحيى بن القاسم: كان ابن سكينة عالماً عاملاً لا يضيع شيئاً من وقته، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على (سلام عليكم، مسألة) أي: لكثرة حرصه على المباحثة وتقرير الأحكام كان يقول لتلامذته ولإخوانه ومن أراد أن يأتي يستفيته: لا تزيدوا على هذه الكلمات: (سلام عليكم، مسألة) أي: ويدخل في الموضوع. أما الآن فنعجب مما يحصل من بعض الإخوة، حيث نسمع أحياناً في أشرطة مسجلة حوارات مع العلماء ومع الشيوخ: كيف الحال؟! وكيف الأولاد؟! وكيف الصحة؟! وسمعنا كذا. ويظل السائل يقدم مقدمات طويلة، وفي الآخر يجود بأن يسأل سؤاله، فأمثال هؤلاء العلماء وقتهم ليس ملكاً لنا، ولا ملكاً لأنفسهم، إنما هو ملك الدعوة وملك العلم والوظائف الشريفة، فأحب شيء إلى مثل هؤلاء -بلا شك- أنك تختصر مثل هذا الاختصار، ويمكن أن تزيد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وإن كان هذا الإمام يطلب أن يقال: (السلام عليكم) فقط لأجل حرصه على الاختصار في الكلام بقدر المستطاع. والمجتمع الذي يصل إلى هذا المستوى في استيعاب قيمة الوقت وعدم إهدار الوقت هو الأقرب للكتاب والسنة، ولهدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى، أما هذه الزيارات العشوائية التي يعملها الناس فلا، والمشكلة أننا نتصور أن الذي ينبغي هو إطالة الزيارة، وهذا غير صحيح، فكما يحدد موعدٌ في بدء الزيارة لابد من أن يحدد موعد لانتهائها. أما أن يزور امرؤ أخاه في الساعة التاسعة مساء -مثلاً- ويفارقه في الساعة الثانية عشرة أو الواحدة فهذا لا ينبغي، فإن كان الكلام يقضى في أربع جمل فلا تقل خمساً، ولا تزد. فالمفروض هو أن يحصل نوع من التعاون؛ لأن هذا يكشف قيمة الوقت عندنا، فالوقت هو رأس مالك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) فالفراغ هو الزمن والوقت، وأكثر الناس يضيعون أوقاتهم، فلابد من التعاون حتى نرقى إلى ذلك المستوى الراقي الذي بلغه السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

إهدار أوقات الآخرين ومضاره

إهدار أوقات الآخرين ومضاره بلغني منذ مدة عن أحد الإخوة أنه كان يحدث أخاً له فيقول له: إن السنة أنك إذا أتيت فاستأذن ثلاث مرات، فإن لم يؤذن لك فارجع. فقال: والله لو عملتها معي فلن أدخل بيتك أبداً! فأين الالتزام؟! وأين التحاكم إلى ما أنزل الله؟! وأين الذي ندعو الناس إليه؟! وأين الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى والرضا بحكم الله القائل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]؟! فإذا كان الوقت ليس له عندك قيمة فراع أحوال الناس، فإذا كنت متأكداً من أنك ما ذهبت إلى فلان إلا لأن الوقت مناسب لك فهل أنت متأكد من أنه مناسب له هو؟! خاصة في هذا الزمان، فأنت ترى كيف أن الناس الآن مشغولون، خاصة الذي يريد أن يلتزم بدينه ويؤدي واجباته في توازن ووسطية، فالإنسان يعيش في صراع في محاولة كسب الحلال، وفي طلب العلم، وفي تربية أولاده، وفي العبادة، وفي تلاوة القرآن، وفي الحفظ، وفي قضاء حاجات الناس، وفي كل هذه الأشياء، فهذا الوقت هو رأس المال الذي يتعامل به، وليس الأموال، بل عنده ما هو أكمل، وهو الوقت، فلابد للإنسان من أن يستوثق من أن وقت الشخص الذي يزوره مناسب لهذه الزيارة، ثم يحدد موعد لابتداء الزيارة وموعد لانتهائها؛ بحيث لا يأتي قبل الموعد ولا بعده، وإذا أتى يلتزم بهذا الموعد، أما هذه الأوضاع التي توجد بيننا فهي من أشد مظاهر عدم الفقه بقيمة الوقت، ونحن نسمع عن الكفار في بلاد الكفار الحرص على الوقت، وللأسف الشديد أنهم مشغولون بالدنيا وبتوافه الأمور، ومع ذلك عندهم تقديس الوقت وتعظيم الوقت شيء مهم، وهذا أقرب -بلا شك- إلى روح الإسلام مما عليه كثير من المسلمين المفرطين في هذا الأمر. فهذا الأمر لولا أن الله سبحانه وتعالى يعلم أهميته لما أنزل سورة صدرها بقوله تبارك وتعالى: ((سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا))، وكل القرآن أنزل، لكن خص هذه السورة ليلفت أنظارنا إلى خطورة الأحكام التي نزلت في هذه السورة الكريمة، سورة النور، قال عز وجل: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، فنزلت في هذه السورة آيات الاستئذان وآداب الاستئذان لخطورة هذه الطريق، أليس في القرآن الكريم قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] إلى آخر الآيات المذكورة في ذلك؟! ففيها تفاصيل في منتهى الدقة والانضباط في المحافظة على الوقت، ومنها قوله عز وجل: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، والذي يقول هذا ليس هو فلان ولا علان، وإنما هو الله سبحانه وتعالى. وإنه لمؤلم جداً، وفي غاية الأسف مخالفة هذه الآداب، والحقيقة أن الإنسان يتحسر لهذا الأمر، فأين السلفية؟! وأين احترام الكتاب والسنة؟! وأين الحكم بما أنزل الله في خاصة أنفسنا؟! إن بعض الناس ما زال حتى الآن يجهل أن الاستئذان إنما جعل عبارة عن كون الوقت مناسباً أم غير مناسب. ولكن كثيراً من الإخوة -مع الأسف- يفهمون أن معنى الاستئذان هو كون الشخص الذي يريد أن يزوره موجوداً أو غير موجود، وهذا ليس من الإسلام في شيء، فالإسلام حكم الله سبحانه وتعالى، والاستئذان معناه كون الوقت مناسباً أم لا، وليس معناه أن المرء موجود أو غير موجود. وكنت في مرة من المرات مشغولاً ببعض الأشياء، فأتى إلى أحد الإخوة في وقت غير مناسب على الإطلاق؛ لأنه كان قبل الدرس بساعة أو ساعتين، وكنت مشغولاً بإعداد الدرس، فما فتحت الباب؛ لأن هذا حق شرعاً، فوجدت أن الأخ وجد في نفسه موجدة شديدة، وكتب ورقة كلها حسرة وألم، يقول: لقد سمعت صوتك في الداخل وأنت تقرأ القرآن، ومع ذلك لم تفتح لي! وهذا عدم فقه بهذا الحكم الذي لا يوجد أحد مستغنٍ عن أن يبقى هذا الحكم وينفذه ويحترمه، فكل واحد منا له بيت، والله سبحانه وتعالى امتن علينا فقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل:80]، فالإنسان بعد انتهاء عمله سيذهب إلى بيته، فربنا سبحانه وتعالى جعل حرمة للبيوت، خاصة في حق طالب العلم الذي وقته عنده غالٍ كنفسه وكروحه، فليس المقصود بالاستئذان أن الإنسان يسأل عن كونك موجوداً أم لا، لأنه ممكن أن أكون موجوداً وبصوتي أقول لك: ارجعوا هو أزكى لكم. كما أمرنا الله سبحانه وتعالى؛ لأن البيوت أسرار، فما يدريك كيف أحوال أهل البيت؟! فقد تكون في البيت عورات، وقد يكون عند صاحب البيت مشكلة شخصية لا يحب أن يحضر أحد ويسمعها، ويمكن أن يكون الإنسان مشغولاً بمصلحة في دينه أو في تربية أولاده؛ لأنه إذا انشغل فقط بمشاكل الناس أو مشاغل الناس وترك حصنه من الداخل مخرباً فسوف يسأله الله عن ذلك، فمن الذي يعي المسئولية حتى يوجد هذا التوازن في الواجبات الكثيرة؟! A هو صاحب البيت، فهو أدرى بحاله، وبأي شيء يضحى وبأي شيء لا يضحى، فهو الوحيد الذي يسأل أمام الله عن الموازنة بين واجباته، وأنا لا أقصد شخصاً معيناً، فإن هذا الغيرة موجودة عندنا، وأغلب الناس الآن ليس عندهم الفقه بهذه الحقيقة، فالاستئذان هو عن كون الوقت مناسباً أم لا، فإن قال لك صاحب البيت: ارجع -ولو بصوته- فلا تقل له شيئاً. والحقيقة مريرة جداً في هذا الأمر، ولا أريد أن أخرج عن الموضوع، ولكن لكون المشكلة موجودة، وكثرت شكاوي الإخوة والأخوات في هذا الباب تعرضنا لها. وقد حدث بعض إخواننا في الدعوة أنه هجم بعض الإخوة على بيته بالطرق الشديد على الباب في منتصف الليل أو بعد منتصف الليل، وكان طرقاً شديداً، مع أن الناس العاديين غير الملتزمين قد لا يقعون في مثل هذا، فالطرق الشديد على الباب يفزع أهل البيت، ويظنون الظنوناً، وهذا -بلا شك- أذى، وهذا تفزيع وترويع للمؤمن وللمسلم، فأين هذا من السلف الذين كانوا يطرقون أبواب الشيوخ بالأظافر؟! أين هذا من ذاك؟! وقد تجد إنساناً امتحان في الصباح، فيقول لضيوفه الذين أتوا إلى البيت في الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة: عندي امتحان في الصباح. ومع ذلك لا يبالون بالساعة، ويوقعون الضرر بالأخ حتى يعيد سنة كاملة بسبب هذه الزيارة التي آذته وأثقلته وأرهقته وعطلته عن مصالحه! فهذه أمثلة من الإضرار، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا ضرر ولا ضرار). وبعض الإخوة يكونون فتنة لآبائهم، فبعضهم يقول: أبي يقول لي: لا تصل في مساجد الإخوة. أو: لا تخرج إلى المساجد. فما هو السبب؟! إنك تشتكي من أبيك أنه يمنعك عن الصلاة في الجماعة وأنت الذي فتنته، فلو أنك عودته أنك إذا أذن المؤذن خرجت إلى الصلاة، ثم رجعت فوراً بعد الصلاة لأداء واجبك أو استذكار واجبك، أو لعمل أي شيء من واجباتك لما حصل هذا الوضع؛ لأنه يحصل للإخوة مؤتمرات بعد الصلاة، وهذا يوصل هذا، وهذا يذهب مع هذا بطريقة عشوائية، وكأن الوقت لا قيمة له، فلو أن أباك أو صاحب العمل الذي يتخذ معك هذا الموقف رأى منك أنك تخرج إلى الصلاة وتعود فوراً لما ضغط عليك هذا الضغط، ولما حاول أن يفتنك عن صلاة الجماعة، فنحن الذين نتسبب في فتنة الناس، فالذي يعمل عند رجل لو أنه صلى الفرض وعاد إلى المكان ثم صلى هناك النافلة -مثلاً- لما حصل عليه ضغط بترك صلاة الجماعة، ولولا الصلاة لما ترك المرء بيته وذهب إلى المسجد، فلو أنه كلما خرج إلى الصلاة يمكث -مثلاً- نصف ساعة بعد الصلاة بسبب تعطيل أحد الأخوة له، حيث يكون عنده عمل معين، كذهاب إلى طبيب أو لشغل، أو كان عنده موعد من المواعيد المهمة التي يشق تأجيلها، فكل من صرفه عطله، فأي إضرار يكون أشد من هذا الإضرار؟! فلابد من أن تكون متأكداً في البداية من أن الوقت مناسب أم لا، أما أن الإنسان يخرج للصلاة، ثم يُعطل في كل صلاة، أو يعطل الإخوة المصلون بعضهم بعضاً فهذا نوع من الإضرار الذي ينبغي أن نتركه. وصحيح أن كثيراً من النصائح تكون مؤلمة، ولكن لابد من المصارحة بكثير من هذه الأخطاء التي تظهر منا. والذي دفعنا إلى هذا الاستطراد هو قول هذا الإمام الجليل ابن سكينة الذي كان لا يضيع شيئاً من وقته، يقول يحيى بن القاسم: كنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على: (سلام عليكم، مسألة) لحرصه على الوقت. أما أن تخاطب الشيخ الذي تسأله في التلفون قائلاً: كيف الحال؟! وكيف الأولاد؟! وتأتي بمقدمات طويلة ثم بعد ذلك تأتي بالسؤال فلا. وبعض الإخوة يتصلون بي من وراء البحار، والأخ المتصل حينها الظاهر أنه يدفع مبالغ كبيرة في المكالمة، ومع هذا يضيع الوقت فيما لا فائدة فيه. فكأن هذا الشيخ يقول: وقتي أغلى عندي من هذه الدولارات التي يدفعونها في المكالمات. فلا تضيع الوقت في الأسئلة التي لا طائل من ورائها، وركز في سؤالك مكتفياً بقولك: ما حكم كذا. أما كثرة الثرثرة بلا طائل فهي من إنفاق الوقت بما لا يعود على العبد بفائدة.

علو همة السلف في طلب العلم بمبادرتهم الزمن وحرصهم على استغلاله

علو همة السلف في طلب العلم بمبادرتهم الزمن وحرصهم على استغلاله من مظاهر علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى في طلب العلم مبادرتهم الأزمان حرصاً على العلم، والحقيقة أن الإنسان قد يستحيي في مثل هذه المواضع من الناس، وهذا لا يسمى حياءً، بل هذا عجز مذموم؛ لأن هناك فرقاً بين العجز والحياء، فالحياء الذي يحبه الله هو الحياء الذي يأتي بخير، أما إذا أتى بشر فليس هو الذي يحبه الله، بل هو عجز ومهانة، فعلى الإنسان أن يكون جريئاً في المحافظة على وقته؛ لأنه لن ينجز علماً إذا لم يفرغ نفسه ووقته، فلو أن العلماء ينصحون طلبة العلم بنصائح في هذا لكان هذا أمراً جيداً، ومن ذلك النصيحة بقطع العلائق إلى أن يفرغ -مثلاً- من حفظ القرآن، فيقطع العلائق بينه وبين الناس، فالإنسان يزرع في قلبه كيفية علو الهمة، وأسباب الارتفاع والارتقاء بالهمة، ومن ذلك الاحتياط والغيرة الشديدة على الوقت أن يهدر، فما المانع من أن الإخوة إذا تزاوروا أتوا بخلاصة الموضوع الذي يريدون أن يتحدثوا فيه، ثم بعد ذلك يسمع بعضهم لبعض القرآن، أو يأتون بشيء من الذكر والعلم، كما قال بعض السلف: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب. وطوله زيادته عما أنت محتاج إليه، فادخل في الموضوع، واتق الله في وقتك ووقت أخيك، فإذا فرغت من الموضوع وما زال لديكما وقت فاقرأ قرآناً، أو ابحث مسألة علمية. أما أن الإخوة يتحدثون عن مباريات كرة القدم، ويخوضون في أخبار السياسة، ويشرعون في ذكر أحوال الناس فعندئذٍ ما الفرق بيننا وبين الآخرين؟! وما الذي يتميز به الملتزم الآن؟! فهذا شعبة بن الحجاج جاء إلى خالد الحذاء فقال: يا أبا منازل! عندك حديث حدثني به. وكان خالد عليلاً، فقال له: أنا وجع -أي: مريض-. فقال: إنما هو واحد -أي: أنا أريد حديثاً واحداً- فحدثه به، فلما فرغ قال: مت إذا شئت. وكان يحيى بن معين شديد الحرص على لقاء الشيوخ والسماع منهم خشية أن يفوتوه. أي أنه يمكن أن يسافر الشيخ، أو يموت، أو يحصل له أي شيء يحول بينه وبينه. قال عبد بن حميد: سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث أول ما جلس إلي فقلت: حدثنا حماد بن سلمة. فقال: لو كان من كتابك. يعني: حتى تكون مدققاً ضابطاً أحضر الورق التي كتبت فيها الحديث أو الكتاب واقرأ منها الحديث، يقول الإمام عبد بن حميد: فقمت لأخرج كتابي فقبض على ثوبي، ثم قال لي: أمله علي؛ فإني أخاف أن لا ألقاك. خشي أنه إذا خرج لإحضار الكتاب قد يموت في الطريق، فيفوته الحديث، فقال: أمله علي من حفظك، ثم بعد ذلك أخرج هذا الكتاب وأقرأه علي مرة ثانية من الكتاب. قال: فأمليته عليه، ثم أخرجت كتابي فقرأته عليه. وعن ابن إسحاق قال: سمحت مكحولاً يقول: طفت الأرض في طلب العلم. وروى أبو وهب عن مكحول قال: أُعتقت بمصر -أي أن مكحولاً كان عبداً- فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق، ثم أتيت المدينة، فلم أدع بهما علماً إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها. أي: بعدما جمع كل هذه العلوم وهذه الأحاديث أتى الشام وغربل هذه الأحاديث، وبدأ يميز الصحيح من الضعيف، وهذا هو عين الفطنة، وهذا هو الذي حدا بكثير من علمائنا إلى التفريق بين مرحلة التقميش ومرحلة التفتيش فمرحلة التقميش أن يدون كل ما يستطيعه، فما دام الحديث بإسناد فإنه يدون؛ لأن الشيخ يمكن أن يسافر، أو يمرض، أو تختل ذاكراته، أو يختل حفظه، فتؤثر هذه في الرواية، فلذلك يبادر الفرصة بأن يدون ما يستطيع تدوينه عن المشايخ، ثم بعد ذلك إذا كان معه الحديث والإسناد فالأداة والوسيلة التي يمكن من خلال دراستها التحقق من صحة الحديث موجودة معه، وحينئذٍ يتفرغ بعد ذلك إلى التفتيش، وهذا هو سر وجود الأحاديث الضعيفة في المراجع، فلا نظن -نحن طلبة العلم المساكين- أن هؤلاء العلماء كانوا مقصرين، وأنهم لم يكونوا يعرفون الحديث الضعيف من الصحيح، وأنه توجد في كتب كثيرة من كتب الحديث المسندة، حتى في الترمذي وفي النسائي، فضلاً عن ابن ماجه أو غير ذلك من الكتب والمسانيد التي توجد فيها أحاديث تحتاج إلى تحقيق، فهل العلماء ما كانوا يعرفون تحقيق هذه الأحاديث في تلك الأعصار الذهبية لعلم الحديث؟! A لا، بل كانوا يعرفون، ولكن كانوا يدونون؛ لأن هذا السند حتى لو كان ضعيفاً فإنه يمكن أن توجد له طرق أخرى مع كثرة التفتيش تقوي هذا السند، وهذا هو عين الفقه؛ لأن الواحد منهم يقيد العلم أولاً، ثم بعد ذلك يفتش وراء الأسانيد، ويجمع الطرق، فيرتقي الضعيف إلى الحسن لغيره، أو الصحيح لغيره، وهكذا، ثم إنه بهذا يكون قد اغتنم الفرصة ولم يفوتها، فالشيخ قد يسافر، وقد يرحل، وقد يموت، وقد يختل حفظه، أو هو نفسه قد يحصل له شيء، فلذلك كانوا أولاً يجمعون، ثم وظيفة التحقيق بعد ذلك تكون أسهل، لوجود الوسيلة إليها، وقد برئت عهدتهم من الأحاديث الضعيفة؛ لأنهم لم يكونوا في وقت في ليل ولا نهار إلا وهم في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى إن الإمام النووي كان يقرأ في ذهابه في الطريق، وقال: إنه بقي على التحصيل على هذا الوجه ست سنين متصلة، وكان النووي -أيضاً- أول طلبه يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً، درسين في الوسيط، وثالثاً في المهذب، ودرساً في الجمع بين الصحيحين، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في اللمع لـ ابن جني في النحو، ودرساً في اصلاح المنطق لـ ابن السكيت في اللغة، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه، تارة في اللمع لـ أبي إسحاق وتارة في المنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين. أي: التوحيد. قال النووي: وكنت أعلق -أي: أكتب- جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي واشتغالي وأعانني عليه. وطالع الشيخ عبد الله بن محمد بن أبي بكر الحنبلي (المغني) للموفق ابن قدامة رحمه الله ثلاثاً وعشرين مرة، حتى كاد يستحضره.

علو همة السلف في حفظ العلم الشريف

علو همة السلف في حفظ العلم الشريف ومن ذلك -أيضاً- علو همتهم في حفظ العلم الشريف، فقد قال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث -يعني مليون حديث، والمراد بذلك الأسانيد والمتون- فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرته، وأخذت عليه الأبواب. وقال سليمان بن شعبة: كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث وليس معه كتاب. يعني: أملى على تلامذته أربعين ألف حديث بالإسناد والمتن، وليس معه كتاب ينظر فيه. وقال أبو زرعة الرازي: أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث. وقال هشام الكلبي: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت مالم ينسه أحد، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتاً وحلفت أن لا أخرج حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام، ونظرت في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوقها. ولما قدم البخاري بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا أسانيدها ومتونها، فجعلوا متن هذا الإسناد لهذا، وإسناد هذا المتن لهذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقيها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم فسأله عن حديث فقال: لا أعرفه. وسأله عن حديث آخر فقال: لا أعرفه. حتى فرغ من عشرته، وكل حديث يتلوه على البخاري يقول له البخاري فيه: لا أعرفه. والذين كانوا واقفين يقولون: من هذا البخاري الذي انخدع به الناس، فكل الأحاديث لا يعرفها ولا واحداً منها! فكأن كلما قال: لا أعرفه يقل في نظر العوام ويرتفع في نفس الوقت في عيون العلماء، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم. ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر ففعل كما فعل الأول، والبخاري يقول: لا أعرفه. ثم الثالث، إلى تمام عشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على (لا أعرفه)، فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا، إلى عشرة أحاديث، بنفس الترتيب وبنفس الأخطاء، أي: تلا العشرة الأحاديث كما رواها، وقد خلطت الأسانيد وقلبت المتون، وبعدما فرغ من سردها أعادها مصححة، وأعاد الإسناد إلى متنه والمتن إلى إسناده، وهكذا، فرد كل متن إلى إسناده، وفعل بالتسعة الآخرين مثل ذلك، فأقر له الناس بالحفظ، فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: ذلك الكبش النطاح. أي: يمدح الإمام البخاري بالكبش النطاح، يعني: الذي يغلب في المصاولة والمحاورة. وقال ابن النجار: سمعت شيخنا عبد الوهاب بن الأمين يقول: كنت يوماً مع الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وأبي سعد ابن السمعاني نمشي في طلب الحديث ولقاء الشيوخ، فلقينا شيخاً، فاستوقفه ابن السمعاني ليقرأ عليه شيئاً، وطاف على الجزء الذي هو سماعه في خريطته. أي أنه لما وجد الشيخ قال: أتلو عليك هذه الأحاديث التي عندي عنك. فقرأها عليه من حفظه كأنه يقرؤها من كتاب!

علو همة ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى

علو همة ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى ويروي الخطيب البغدادي أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. يعني: أن عنده من العلم في التفسير ما يملأ ثلاثين ألف ورقة، فلما وجد هؤلاء الطلبة أو هؤلاء الأصحاب غير نشطين اختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، فكم الفرق بين ثلاثة آلاف وثلاثين ألف ورقة؟! إنه عشرة أضعاف، وهو الآن يقع في ثلاثين مجلداً، ولو كان هؤلاء الطلاب أو الأصحاب أكثر همة لكان الثلاثون مجلداً ثلاثمائة مجلد! ثم حاول معهم مرة ثانية، فقال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟! أي: هل عندكم همة أملي عليكم تاريخ العالم منذ إهباط آدم الأرض إلى يومنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ما ذكره في التفسير وقال: ثلاثون ألف ورقة. فردوا مثل ذلك، فقال: إنا لله! ماتت الهمم. ثم إنه جعله على نحو قدر التفسير، وهو تاريخ الطبري المعروف. وألف الإمام البيهقي ألف جزء كلها محررة نادرة المثال، كثيرة الفوائد، وأقام يصوم ثلاثين سنة.

علو همة الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي رحمه الله

علو همة الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي رحمه الله الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي المتوفى سنة (513هـ) هو الذي يقول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه من أذكياء العالم. بلغ في محافظته على الزمن مبلغاً أثمر أكبر كتاب عرف في الدنيا لعالم، وهو كتاب (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وفيه اختلاف في عدد المجلدات، وبعضهم يجزم بأنه ثمانمائة مجلد، فتخيل عالماً يؤلف كتاباً في ثمانمائة مجلد! وهذا الكتاب جمع فيه التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه وأصول التوحيد والنحو واللغة والشعر والتاريخ والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره. يقول ابن الجوزي: وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغوامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى بالفنون مناطاً لخواطره، وواقعاً فيه، ومن تأمل فيه عرف غور الرجل. وقال سبط ابن الجوزي: واختصر منه جدي -أي: ابن الجوزي - عشرة مجلدات، فرقها في تصانيفه، وقد طالعت منه في بغداد في وقت المأمونية نحواً من سبعين، وفيه حكايات ومناظرات وغرائب وعجائب وأشعار. وقال الشيخ أبو حكيم النهرواني: وقفت على السفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون. وقال الحافظ الذهبي: وعلق كتاب الفنون، وهو أزيد من أربعمائة مجلد، حشد فيه كل ما كان يجري له مع الفضلاء والتلامذة، وما يسنح له من الدقائق والغوامض، وما يسمعه من العجائب والحوادث. وقال الذهبي أيضاً: لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب، حدثني من رأى منهم المجلد الفلاني بعد الأربعمائة. وقال الحافظ ابن رجب: إن بعض مشايخه قال: هو ثمانمائة مجلد. وصنف الحافظ ابن عساكر تاريخ دمشق في ثمانين مجلدة كبيرة. وصنف الإمام أبو حاتم الرازي كتابه المسند في ألف جزء.

علو همة الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى

علو همة الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى والإمام ابن الجوزي هو تلميذ ابن عقيل، يقول سبطه أبو المظفر عنه: سمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بأصبعي هاتين ألفي مجلد، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني- وهذا من التحدث بالنعم-، ولو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب، فاستفدت من نظري فيها من ملاحظتي سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت استزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد! يعني أنه قرأ وهو يطلب العلم في مرحلة الطلب فقط عشرين ألف مجلد، ولو قلنا: إن المجلد ثلاثمائة صفحة لكان ما قرأه هو ستة ملايين صفحة، قرأها وهو في مرحلة طلب العلم رحمه الله تعالى. فما مقدار ما كتب وما صنف الإمام ابن الجوزي؟! يقول الإمام ابن تيمية: كان الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي مفتياً كثير التصنيف والتأليف، وله مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف، ورأيت بعد ذلك له ما لم أر. ويقول الحافظ الذهبي: وما علمت أحداً من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل، ولم يدع ابن الجوزي فناً من الفنون إلا وصنف فيه، منها ما هو عشرون مجلداً، ومنها ما هو في رسالة صغيرة. فكيف اجتمع له هذا كله؟ A لا يمكن أن يجتمع له هذا إلا إذا كان بجانب علو الهمة عنده محافظة على الوقت، ومحافظة على رأس المال الذي هو الوقت. يقول الموفق عبد اللطيف: إنه كان لا يضيع من زمانه شيئاً. ويقول ابن الجوزي وهو يحدث عن سياسته في عدم تضييع الوقت، وحماية الوقت ممن يعتدون عليه: لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة -أي أنه خدمة ومحبة لهذا العالم- ويطلبون الجلوس، وينزلون فيه أحاديث الناس وما لا يعنيهم، ويتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض. فـ ابن الجوزي يحكي عن موضوع الزيارات في الأعياد، وينظر إلى أن هذه الزيارات تضييع للوقت، فالشخص له أن يهنئ إخوانه في العيد، أما كثرة الزيارة مع كثرة الإخوان والأحباب وكذا فلا تنبغي، ونحن الآن ضاعفنا أيام العيد، فعيد الفطر هو يوم واحد، وأما الآن فصار ثلاثة أيام، فمن أين صار عيد الفطر ثلاثة أيام؟! إنه لا بأس بأن يكون عيد الأضحى خمسة أيام: يوم عرفة ويوم الأضحى وأيام التشريق، لكن من أين أتينا لعيد الفطر بهذه الثلاثة أيام؟! وأين الدليل عليها؟! ليس إلا حب البطالة، وتضييع الوقت، والتهريج، والإجازات، فبين كل عيد وعيد إجازة، والناس مع ذلك تتأذى، فلماذا تضييع الوقت؟! وكأن الوقت ليس له قيمة، وللأسف الشديد أن الشعب الياباني في وقت من الأوقات عمل تظاهرات ضد الحكومة لأنها أعطتهم إجازات زائدة، فبسبب أنهم أعطوا إجازات عملوا تظاهرات، فانظر إلى عباد الدنيا من هؤلاء الوثنين الذين يعبدون الدنيا كيف يتظاهرون لأجل إلغاء الإجازات؛ لأنهم يستمتعون بالعمل وبالكدح في طلب الدنيا، فكيف تكون غيرة طالب العلم على وقته ممن لا يقدر هذا الوقت حق قدره؟! يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. يقول: فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لمواضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي أي: يهرب بقدر المستطاع من اللقاء، كما حكى بعض العلماء عن السلف فقال: إن العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا، فمن ثمَّ يقول الإمام ابن الجوزي: فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة. أي: ترك وظائف معينة لم يعملها في بيته، فإذا حصلت زيارة من هذه الزيارات التي تضيع الوقت في الكلام الذي لا يفيد فقد خصص هذا الوقت للأفعال التي تحتاج وقتاً ولا تحتاج إلى تركيز ذهني، فلذلك يقول: ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يضيع الزمان فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد -أي: تقطيع الأوراق- وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي.

علو همة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

علو همة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وصنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ما يربو على أربعمائة مصنف من كنوز العلم ودقائقه، قال ابن القيم: وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر. وقد كنت قرأت منذ مدة للشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى يحكي عن العناء الذي لقيه في نسخ مخطوطة كتبها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بخطه، فيقول: إن ابن تيمية ما كان يرفع قلمه عن الورق. يعني أن الكلام كله متصل ببعضه، ولا ينقطع إلا في نهاية السطر؛ لحرصه على الوقت، أي أنه عندما يكتب لم يكن يترك مسافات بين الكلمات، أو يرفع يديه حتى يكتب الكلمة الجديدة، بل كان القلم يظل منحدراً كالسيل، والكلام وراء بعضه، ولا يتوقف إلا في نهاية السطر حتى يبدأ سطراً جديداً، فهذا ما رآه محب الدين الخطيب بعينيه من خط شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

علو همة الطبيب ابن النفيس رحمه الله

علو همة الطبيب ابن النفيس رحمه الله وعلى سنن من سبق مضى شيخ الطب في زمانه ابن النفيس رحمه الله، يقول عنه الإمام التاج السبكي: وأما الطب فلم يكن على وجه الأرض مثله، قيل: ولا جاء بعد ابن سيناء مثله. قال: وكان في العلاج أعظم من ابن سيناء. هذا الطبيب الرائد ابن النفيس صنف كتاباً في الطب سماه: (الشامل)، يقول فيه التاج السبكي: لو تم لكان ثلاثمائة مجلد، تم منه ثمانون مجلداً، وكان -فيما يذكر- يملي تصانيفه من ذهنه. فكيف تم له ذلك؟ ومن أين له هذه المنزلة؟! لقد كان -رحمه الله تعالى- إذا أراد التصنيف توضع له الأقلام مبرية، ويدير وجهه إلى الحائط، ويأخذ في التصنيف إملاءً من خاطره، ويكتب مثل السيل إذا انحدر، فإذا كل القلم وحفي فليس عنده وقت يبري القلم، وإنما يرمي القلم ويتناول غيره؛ لئلا يضيع زمانه في بري القلم.

علو همة الإمام السيوطي رحمه الله

علو همة الإمام السيوطي رحمه الله وكان السيوطي رحمه الله تعالى يلقب بابن الكتب، طلب أبوه إلى أمه أن تأتيه بكتاب من المكتبة، فذهبت أم الإمام السيوطي إلى المكتبة حتى تحضر الكتاب لأبيه، فأجاءها المخاض في المكتب، فولدته بين الكتب، فلذلك لقب بابن الكتب، ولقد طبق عليه ذلك اللقب حتى صار رحمه الله أبا الكتب، ووصلت مصنفات الإمام السيوطي نحو ستمائة، غير ما رجع عنه ومحاه من الكتب.

عالي الهمة لا تعوقه العوائق

عالي الهمة لا تعوقه العوائق إن عالي الهمة لا يعوقه عائق عن مقصده وعن مأربه، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم. وعنه عن ابن حماد قال: قيل لـ ابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟! قال: حتى الممات إن شاء الله. وعن ابن معاذ قال: سألت أبا عمرو بن العلاء: حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟! قال: مادام تحسن به الحياة. ويحدث الإمام ابن عقيل عن همته وهو في عشر الثمانين من عمره فيقول رحمه الله: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين -أي: في العقد الثامن من عمره- أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين. يقول الشاعر في هذا: ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي وإنما اعتاض رأسي غير صبغته والشيب في الرأس غير الشيب في الهمم يعني: كل القضية أنها تحولت صبغة رأسه من الأسود إلى الأبيض، لكن هل همته -أيضاً شابت- واعتراها هذا الشيب؟! A كلا، ولذا يقول: إذا كان شاب شعر رأسي ولحيتي فما شابت همتي. وقال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي الفرج بن الجوزي ما نصه: وقد قرأ وهو ابن ثمانين سنة بالعشر. أي: كان الإمام ابن الجوزي له ثمانون سنة، ومع ذلك قرأ القراءات العشر، فقرأ القرآن الكريم بالقراءات العشر كلها على ابن الباقلاني، فتلا معه ولده يوسف، نقل ذلك ابن نقطة عن القاضي محمد بن أحمد بن الحسن. وهذا الإمام ابن الجوزي هو الذي يقول في بعض الأشعار معبراً عن هذه الهمة العالية، وأنه كان يستزيد من الطلب ويدعو أن يزيد الله سبحانه وتعالى في عمره حتى يغتنم أقصى ما يستطيع في طلب العلم، يقول: الله أسأل أن يطول مدتي وأنال بالإنعام ما في نيتي لي همة في العلم ما من مثلها وهي التي جنت النحول هي التي كم كان لي من مجلس لو شبهت حالاته لتشبهت بالجنة وذهب الإمام القفال -وقيل له: القفال لأنه كان ماهراً في صناعة الأقفال- يطلب العلم وعمره أربعون سنة -أي: بدأ في طلب العلم وعمره أربعون سنة-، فقال لنفسه: كيف أطلب العلم؟! ومتى أحفظ؟! ومتى أفهم؟! ومتى أعلم الناس؟! فرجع، فمر بصاحب ساقية يسوق على البقر، وكان رشاء هذا الحبل يقطع الصخر من كثرة ما مر، أي أن الحبل الذي يدور به البقر على الساقية يحتك في أثناء دورانه بصخرة، فلطول الوقت أثر الحبل في الصخرة، حتى قطعها، فالحبل اللين أثر في الصخرة بالمثابرة والاستمرار والمداومة، فاتخذ من هذا عبرة ودرساً، فلما رأى الغشاء يقطع الصخر من كثرة ما مر قال: اطلب ولا تضجرن من مطلب فآفة الطالب أن يضجرا أما ترى الحبل بطول المدى في الصخرة الصماء قد أثرا أي: أليس الحبل مع المداومة قد أثر على الصخر الصلب؟ وليس هذا فحسب، بل الماء ألين من الحبل بلا شك، ومع ذلك فإن تساقط الماء قطرة قطرة على صخرة يحدث فيها أثراً بسبب المداومة والمثابرة. واستمر الإمام القفال يطلب العلم، وصار إماماً من كبار الأئمة ومن جهابذة الدنيا. ويروى أن الإمام أبا محمد ابن حزم رحمه الله تعالى طلب العلم وهو في السادسة والعشرين من عمره، قال أبو محمد بن العربي: وأقام أبو محمد في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه ستاً وعشرين سنة، وقال: إنني بلغت إلى هذا السن ولا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات! وقال في رواية أخرى: أخبرني الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر والخلق فيه، فجلس ولم يركع، فقال له أستاذه المربي بإشارة: قم فصل تحية المسجد. فلم يفهم، فقال له بعض المجاورين له: أبلغت هذا السن، ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟! وهي واجبة في الحقيقة عند أهل الظاهر، أما جمهور العلماء فيقولون: هي سنة. وكان قد بلغ حينئذٍ ستة وعشرين عاماً، قال: فقمت وركعت، وفهمت إشارة الأستاذ لي بذلك، قال: فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحباء من أقرباء الميت دخلت المسجد -أي: بعدما انتهوا من الجنازة رجعوا إلى المسجد-، وكان الوقت بعد العصر، وحتى لا يتكرر الموقف المحرج مرة أخرى قال: وانصرفنا إلى المسجد مشاركة للأحباء من أقرباء الميت، ودخلت المسجد، فبادرت في الركوع، فقيل لي: اجلس اجلس؛ ليس هذا وقت وصلاة! فانصرفت عن الميت وقد خزيت، ولحقني ما هانت علي به نفسي، فقلت للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله بن دحون فدلني، فقصدته من ذلك المشهد، وأعلمته بما جرى، وسألته الابتداء بقراءة العلم، واسترشدته، فدلني على كتاب الموطأ لـ مالك بن أنس، فبدأت به عليه قراءة من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام، وبدأت المناظرة. وكان يحيى النحوي في أول أمره ملاحاً يعبر الناس في سفينته، وكان يحب العلم كثيراً، فلما قويت رويته في العلم فكر في أمره، وقال: لقد بلغت نيفاً وأربعين سنة من العمر، وما ارتضيت بشيء، وما عرفت غير صناعة الملاحة، فكيف يمكنني أن أتعرض لشيء من العلوم؟ وفيما هو يفكر إذ رأى نملة قد حملت نواة تمرة، وهي دائبة تصعد بها. وأظن أن النمل هو المخلوق الوحيد الذي يحمل أضعاف وزنه، ولكن لا أدري هل ذلك حقيقة علمية أم لا؟ فهو لما نشطت همته لطلب العلم وجد عمره قد جاوز الأربعين بعدة سنوات، وأثناء ما كان يفكر رأى نملة قد حملت نواة تمرة، وهي دائبة تصعد بها، فوقعت منها، فعادت وأخذتها، ولم تزل تجاهد مراراً حتى بلغت بالمجاهدة غرضها، فقال: إذا كان هذا الحيوان الضعيف قد بلغ غرضه بالمجاهدة والمراقبة فأولى بي أن أبلغ غرضي بالمجاهدة. فخرج من وقته، وباع سفينته، ولزم دار العلم، وبدأ يتعلم النحو واللغة والمنطق، فبرع في هذه الأمور؛ لأنه أول ما ابتدأ بها، فنسب إليها، واشتهر بها فقيل: يحيى النحوي. ووضع كتباً كثيرة، ويحيى هذا لقي عمرو بن العاص، وأعجب عمرو رضي الله تعالى عنه به. وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء الذي ملأ الأرض علماً وعظمة نفس في أول أمره فقيراً ولم يشتغل بطلب العلم إلا على كبر. واشتغل الشيخ أحمد بن إبراهيم بن الحسن القنائي في العلم وهو ابن ثلاثين سنة، وتفقه، وقرأ النحو وغيره، حتى مهر، وأم الناس ببلده، وكان يحفظ أربعمائة سطر في يوم واحد، ثم أقبل على الطاعة، ولازم الطاعة حتى توفي سنة (728هـ)، وهذه السنة هي التي مات فيها شيخ الإسلام ابن تيمية. وعُمِّر الشيخ يوسف بن رزق الله طويلاً حتى قارب التسعين، وثقل سمعه، لكن بقيت حواسه كلها سليمة، وهمته همة ابن ثلاثين، ومات وهو يباشر التوقيع، في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة من الهجرة. وطلب الشيخ أحمد بن عبد القادر القيسي الحنفي النحوي العلوم الكثيرة، وبرع فيها، فأقبل على طلب الحديث في آخر عمره، فتكلم بعض الناس عليه، أي أن بعض الناس سخروا منه، وقالوا: إن هذا الرجل الكبير يوشك على الموت، وبينه وبين القبر خطوات قليلة، فكيف يطلب العلم الآن؟! فأنكر عليهم بأبيات جميلة قال فيها: وعاب سماعي للأحاديث بعدما كبرت أناس هم إلى العيب أقرب وقالوا إمام في علوم كثيرة يروح ويغدو سامعاً يتطلب فقلت مجيباً عن مقالتهم وقد غدوت لجهل منهم أتعجب إذا استدرك الإنسان ما فات من علا بالحزم يعزى لا إلى الجهل ينسب وروى المعافى بن زكريا عن بعض الثقات أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري رحمه الله تعالى قبل موته، وتوفي بعد ساعة أو أقل منها، فذكر له دعاء من الأدعية عن جعفر بن محمد، فالإمام ابن جرير وهو يجود بروحه في آخر لحظات حياته رحمه الله تعالى استدعى محبرة وصحيفة، فكتب هذا الدعاء الذي سمعه من أحد العواد، فقيل له: أفي هذه الحال؟! أي: أنت الآن تموت، وتأتي بالورق وتكتب هذا الدعاء؟! فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى الممات، فكانت همته في طلب العلم قوية إلى آخر رمق في الحياة. وعن فرقد إمام مسجد البصرة أنهم دخلوا على سفيان في مرض موته، فحدثه رجل بحديث فأعجبه، فضرب سفيان يده إلى تحت فراشه، فأخرج ألواحاً، فكتب هذا الحديث، فقالوا له: على هذه الحال منك؟! فقال: إنه حسن، إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً. وعن الفقيه أبي الحسن علي بن عيسى الولوالجي قال: دخلت على أبي الريحان البيروني وهو يجود بنفسه، قد حشرج نفسه، وضاق به صدره، وروحه بلغت إلى الحلقوم، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدات؟! يعني: كيف ترث الجدة الفاسدة؟ وهي الجدة التي من قبل الأم؛ فإنها تسمى في اصطلاح علماء الفرائض بالجدة الفاسدة، فقال له: كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدات؟ قال: فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة وأنت تموت؟! فقال لي: يا هذا! أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة. ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها؟! فأعدت ذلك عليه -أي: أعدت عليه المسألة- وحفظه، وعلمني ما وعدني أن يعلمني، وخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت الصراخ. يعني: البكاء؛ لأن روحه كانت قد خرجت، فرحمه الله تعالى. وقال القاضي إبراهيم ابن الجراح الكوفي تلميذ الإمام أبي يوسف القاضي

علو الهمة [13]

علو الهمة [13] الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الدين، وهو أعظم ما ينبغي لعالي الهمة أن يحرص عليه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ((وجاهدوا في الله حق جهاده))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم)). وفي أخبار السلف ومن تبعهم ما يشحذ الهمم للجهاد في سبيل الله.

علو همة السلف في الجهاد في سبيل الله

علو همة السلف في الجهاد في سبيل الله حديثنا -بإذن الله تعالى- سيكون عن أمرين هما من ميادين علو الهمة: الأول: علو همة السلف ومن اتبعهم من الخلف في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. الثاني: علو الهمة في البحث عن الحق. ثم بعد ذلك يأتي الكلام عن حال الأمة عند سقوط الهمة، ثم الكلام على أسباب الارتقاء بالهمة وأسباب انحطاط الهمة. أما ما يتعلق بعلو الهمة في الجهاد سبيل الله تبارك وتعالى فنحن نعلم أن الرعيل الأول من صفوة المسلمين قد علموا حينما رباهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن في الجهاد فضلاً لا يضاهى، وخيراً لا يتناهى، فأيقنوا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الري العظيم في شرب كئوس الحتوف، فشمروا للجهاد عن ساق الاجتهاد، ونفروا إلى ذوي الكفر والعناد من شتى أصناف العباد، وجهزوا الجيوش والسرايا، وبذلوا في سبيل الله العطايا، وأقرضوا الأموال لمن يضاعفها ويزكيها، ودفعوا سلع النفوس من غير مماطلة لمشتريها، وضربوا الكافرين فوق الأعناق، واستعذبوا من المنية مر المذاق، وباعوا الحياة الفانية بالعيش الباق، ونشروا أعلام الإسلام في الآفاق. فمن ثم كان في الإشارة إلى بعض مناقبهم وخبر بلائهم ما عساه يوقظ الهمم الرقد، وينهض العزم المقعد، ومن لم تروه الإشارة فكتب التراجم -خاصة تراجم الصحابة رضي الله تعالى عنهم والفاتحين- مبسوطة فيها أخبار هؤلاء العظماء.

علو همة النبي عليه الصلاة والسلام في الجهاد

علو همة النبي عليه الصلاة والسلام في الجهاد كان إمامهم الأوحد ورائدهم الأول في باب الجهاد -كما هو رائدهم في كل باب من أبواب الخير- خير من وطئ الحصى، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أعلى البشر همة على الإطلاق؛ لأنه حاز من الكمال البشري أعلى قمة في كل وصف من صفات الكمال البشري. كان أشجع الناس، وأقواهم قلباً، وأثبتهم جناناً، وقد حضر المواقف الصعبة المشهورة، وفر الكماة والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، صلى الله عليه وسلم. وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة أو فترة، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يفر قط، وحاشاه من ذلك ثم حاشاه صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لـ أبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا) يعني: يطمئنهم أنه بمجرد سماع هذا الصوت كان أسبقهم إلى الخروج ليراه، ثم رجع وهم بعد لم يشرعوا في الخروج ليستكشفوا ويستطلعوا هذا الصوت. وعلي رضي الله عنه من أشجع فرسان العرب على الإطلاق، يحكي شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب فيقول: (كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً) صلى الله عليه وسلم. وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب منه صلى الله عليه وسلم إذا دنا العدو لقربه منه. وقال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب الأعداء.

علو همة الخلفاء الراشدين في الجهاد

علو همة الخلفاء الراشدين في الجهاد الشجعان في أمته صلى الله عليه وسلم والأبطال لا يحصون عدة، ولا يحاط بهم كثرة، لاسيما أصحابه المؤيدين، الممدوحين في التنزيل بقول الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم شجعان، فالشجاعة من الكمالات التي تحلى بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم. فأشجع الصحابة -وكلهم رضي الله عنهم شجعان- أفضل البشر جميعاً بعد الأنبياء، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، هكذا شهد له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أشجع الناس، وصدق رضي الله عنه، فقد كان أثبتهم قلباً وأقواهم جناناً، وحسبك من ذلك ثبات قلبه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، ويوم حنين، بل ثبات قلبه وتثبيته المسلمين عند الخطب الأعظم والأمر الأفخم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يرتاب عاقل على الإطلاق في أن أشد مصيبة وقعت بالمسلمين على الإطلاق هي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه أشد قاصمة تعرض لها الإسلام، فإذا ما استحضرت أحداث هذا اليوم العصيب الذي هو أفظع مصيبة عاناها المسلمون -ولن يبتلوا أبداً بأشد منها- كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليعزي المسلمين في مصائبهم المصيبة بي) يعني: إذا مات لأي مسلم بعد رسول الله عليه السلام أي إنسان مهما كان عزيزاً عليه فليتذكر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعزي نفسه- فإذا راجعنا أحداث هذا اليوم عرفنا كيف ثبت أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثباتاً لا نظير له، حتى عمر الفاروق لم يثبت، بل حصل له ما حصل من الاهتزاز والزلزلة حينما بلغه نبأ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك في أن هذا من قوة إيمانه وثبات جنانه رضي الله تعالى عنه. وكذلك عزمه في قتال من ارتد حينئذ، فتلك الشريعة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمة التي تنازلت لها أعالي الهمم. ومنهم الفاروق ناصر الدين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، الذي بلغ من الشجاعة والهمة الكبرى أقصى الغايات وأعلى النهايات، والأخبار في قوته في الدين وشدته على المشركين كثيرة مشهورة، ولو أفضنا في الكلام على مواقف عمر رضي الله تعالى عنه وشجاعته لاستوعب ذلك وقتاً كثيراً جداً. وهذا الليث الحفصاص، والغيث المدرار، ومفرق كتائب المشركين، والآتي من أنواع الشجاعة بما أوجب تحير المتحيرين، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، كان درعه صدراً لا ظهر له، فقيل له: ألا تخاف أن تؤتى من قبل ظهرك؟! ينصحونه بأن يتخذ درعاً على ظهره، حتى إذا ما جاءه أحد الأعداء من قبل ظهره لا يتمكن أن يطعنه أو يصيبه، فقال علي رضي الله عنه: إن أمكنت عدوي من ظهري فلا أبقى الله عليه إن أبقى علي. يعني أنه لا يمكن عدواً من أن يناله أبداً من ظهره، وفيه إشارة إلى أنه لا يفر أبداً ولا يولي الدبر؛ لأن العدو لن يقابل ظهره إلا إذا ولى الدبر. وذكر ابن عبد البر في صفة علي رضي الله عنه أنه من شدة بأسه وشجاعته كان إذا أمسك بذراع رجل لم يستطع أن يتنفس. أي: يتوقف الرجل عن التنفس من شدة الخوف والبأس وقوة قبضة علي رضي الله تعلى عنه. وأخبار شجاعته وعلو همته رضي الله عنه كثيرة مشهورة.

علو همة الصحابة في الجهاد في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام

علو همة الصحابة في الجهاد في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم في القتال في غزوة بدر الكبرى قال له المقداد بن الأسود رضي الله عنه: (يا رسول الله! امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معك مقاتلون). وقال سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه في نفس الموقف: (فامض لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غداً، إننا صبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله). وعن أنس رضي الله عنه قال: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، فجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه. فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. قال عمير بن الحمام: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: نعم. قال: بخ بخ -وهي كلمة تقال عند الرضا وعند الإعجاب والاستحسان للشيء-! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ؟! قال: لا -والله- إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طولية -أي: كيف ينتظر في الدنيا حتى يفرغ من أكل تمرة أو تمرتين أو ثلاث؟! - فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل) رضي الله تعالى عنه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون -أي: انهزموا - قال: اللهم! أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه-، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-. ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها دون أحد - يحلف أنه يشم رائحة الجنة من جهة جبل أحد - قال سعد: فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه - أي: مثلوا بجثته ومزقوها، حتى تلاشت جميع ملامح بدنه، فلم يستطع أحد أن يميزه إلا أخته بطرف أصبعه، وعرفت أن هذه هي جثة أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه-، قال أنس: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه رضي الله تعالى عنه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]). أما في سرية مؤته فقد روي أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أخذ اللواء بيمينه فقطعت يمينه، فأخذها بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه بعدما قطعت الذراعان، حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربه فقطعه نصفين، فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، فتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد. أي: حصل عنده شيء من التردد في منازلة الأعداء، ثم جزم بعد ذلك وهتف بهذه الأبيات: أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلنه أو لتكرهنه إن أجلد الناس وشدو الرنة مالي أراك تكرهين الجنة إلى أن قال: يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيتي فقد أعطيتي إن تفعلي فعلهما هديت وإن تأخرت فقد شقيتي وقوله: (إن تفعلي فعلهما) يعني فعل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما. ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق لحم فقال: شد بهذا صلبك؛ فإنك قد لقيت يومك هذا ما لقيت. فأخذه من يده فانتهش منه نهشة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس -أي: سمع صوت القتال في ناحية الناس- فقال: وأنت في الدنيا؟! -يعني: الناس يجاهدون وأنت تأكل هذا اللحم؟! - فألقاه من يديه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه. وعن شداد بن الهاد رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك. فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غداة غنم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقسم فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم -أي: هذا نصيبك وحظك من الغنيمة- فأخذه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟! قال: قسمته لك. قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة. فقال: إن تصدق الله يصدقك. فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار - أي: في حلقه - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟! فقالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه. ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته - يعني: من الدعاء- اللهم! هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك)، وهذا الحديث صحيح، رواه النسائي.

علو همة الصحابة في جهاد المرتدين بعد وفاة رسول الله

علو همة الصحابة في جهاد المرتدين بعد وفاة رسول الله عن جعفر بن عبد الله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جرح أبو عقيل، رمي بسهم فوقع بين من منكبيه وفؤاده في غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن له شقه الأيسر في أول النهار، وجر إلى الرحل، فلما حمي القتال يوم اليمامة وانهزم المسلمون وولوا رحالهم سمع معد بن عدي يصيح: يا للأنصار! الله الله، والكرة على عدوكم. فقال: عبد الله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد؟! ما فيك قتال -يعني: أنت لا تستطيع القتال! - قال: قد نوه المنادي باسمي-! إذ هو من الأنصار، فلما سمع كلمة: (يا للأنصار) قال: المنادي يناديني باسمي -. فقال ابن عمر: فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار. ولا يعني الجرحى! قال أبو عقيل: أنا من الأنصار وأنا أجيبه ولو حبواً. قال ابن عمر: فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار! كرة كيوم حنين، فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً، تقدموا فالمسلمون دريئة دون عدوهم. حتى أقحموا عدوهم الحديقة فاختلطوا واختلطت السيوف بيننا وبينهم، قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب، فوقعت إلى الأرض، وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة، قال ابن عمر: فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل. فقال: (لبيك) بلسان ملتاث -يعني: بلسان منكسر، فقد كان ضعيف الكلام لأنه تفيض روحه-، ثم قال: لمن الدبرة؟! يعني: لمن النصر أو على من الهزيمة؟ يريد أن يطمئن على نتيجة القتال، قال: قلت: أبشر قد قتل عدو الله. فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله. ومنهم البراء بن مالك أخو أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فعن ابن سيرين رحمه الله أن المسلمين انتهوا إلى حائط فيه رجال من المشركين، فقعد البراء على ترس وقال: ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم. فألقوه وراء الحائط، قال: فأدركوه وقد قتل منهم عشرة -يعني: دخل على جيش الأعداء داخل الحديقة وقتل منهم عشرة- وجرح البراء يومئذ بضعاً وثمانين جراحة ما بين رمية وضربة، فأقام عليه خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه شهراً حتى برئ من جراحته رضي الله تعالى عنه. وعن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري قال: لما انكشف المسلمون يوم اليمامة قال سالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي: ما أعجبه قتال أصحابه في ذلك اليوم، فماذا فعل؟! فحفر لنفسه حفرة ودخل فيها، ومعه راية المهاجرين يومئذ، فقاتل حتى قتل يوم اليمامة شهيداً سنة اثنتي عشرة. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مررت يوم اليمامة بـ ثابت بن قيس بن شماس وهو يتحنط. يعني: يضع الحنوط الذي هو نوع من الطيب مخصوص للموتى، وكان السلف يفعلون ذلك إذا خرجوا للجهاد من باب حث النفوس على الموت وتصميم العزم على نيل الشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى. قال أنس: فقلت: يا عم! ألا ترى ما يلقى المسلمون وأنت هاهنا؟! يعني: المسلمون في الجهاد والقتال شديد وأنت هنا تتحنط بهذا الطيب؟! قال: فتبسم، ثم قال: الآن يا ابن أخي. فلبس سلاحه وركب فرسه حتى أتى الصف، فقال: أف لهؤلاء وما يصنعون. وقال للعدو: أف لهؤلاء وما يعبدون، خلوا عن سبيله -يعني: افسحوا الطريق عن الفرس- حتى أصلى بحرها. فحمل فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه. وعن عبد الله بن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى! أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟! قال: نعم. قال: فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام. ثم كسر جفن سيفه -أي: الغمد- ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

علو همة خالد بن الوليد في الجهاد

علو همة خالد بن الوليد في الجهاد وهذا سيف الله تعالى وفارس الإسلام وليث المشاهد قائد المجاهدين أبو سليمان خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وهأنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. يعني: وما قتلت مع ذلك. فيدعو على الجبناء الذين يجبنون عن الجهاد خوفاً من الموت بأن لا يناموا، وأن يزيد الله من فزعهم من الموت. وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل قال: لما حضرت خالداً الوفاة قال: لقد طلبت القتل مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس، والسماء تهلني، ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار. ثم قال: إذا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله. فلما توفي خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل الوليد أن يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعاً أو لقلقة. فهذه الأمة حينما بنيت هذا البناء المتين الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها، والذي يستعصي على الاقتلاع حتى اليوم إنما هو أثر من آثار وبركة من بركات جهاد الصحابة الأوائل رضي الله تعالى عنهم، فكل ما نحن فيه من نعمة الإسلام في آفاق الأرض إنما هو بسبب جهاد الصحابة، فالصحابة لو قطنوا في جزيرة العرب، ولو اعتزلوا وناموا لما انتشر الإسلام، ولما وصلتنا هذه النعمة العظيمة التي هي أجل النعم على الإطلاق في هذا الوجود، أي: نعمة الإسلام. فتباً لهؤلاء الذين يريدون أن يطفئوا النور الذي أضاء الصحابة به ربوع الأرض كلها، من أعداء الله من العلمانيين الملحدين، وأعداء الدين الذين كل جهدهم الآن أن يطفئوا نور الله، وأن يمحوا ويقتلعوا ويجففوا منابع الإسلام، جفف الله الدم في عروقهم أجمعين. فانظر إلى هذه الشجاعة، إنها شيء لا يكاد يتصور ولا يتخيل من قائد عسكري هو أعظم قواد الإسلام على الإطلاق، فماذا فعل خالد في إحدى المعارك؟ لقد بلغ من شجاعة خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أن جيش الأعداء كان واقفاً يصطف في الصفوف، ويقف قائد الفرس لينظم صفوفهم، وإذا بـ خالد ينطلق كالبرق ليحتضن القائد ويخطفه، ويعود به من وسط جيوشه إلى جيش المسلمين أسيراً! شيء لا يكاد يتخيله إنسان، فهل هناك قلب يكون عنده مثل هذه الشجاعة وهذه السرعة وهذا الإنجاز؟! انطلق إليه بدون حراسة معه، وبدون قوات معه، ولا شك في أن هذا أثار ذهول الأعداء، وما استطاعوا أن يفعلوا شيئاً أمام هذه الشجاعة النادرة، فرضي الله تعالى عن خالد وعن سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

علو همة الصحابة في جهاد الروم

علو همة الصحابة في جهاد الروم روي عن عبد الله بن حذافة رضي الله تعالى عنه أنه أسرته الروم، فحبسه طاغية في بيت، ووضع له في هذا البيت ماءاً ممزوجاً بخمر ولحم خنزير مشوي؛ ليأكل الخنزير ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيام، فلا هو شرب الماء؛ لأن فيه خمراً، ولا أكل لحم الخنزير المشوي مع جوعه، ثم أخرجوه حين خافوا من موته من الجوع، فقال: والله لقد كان أحله الله لي؛ لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الإسلام. وعبد الله بن حذافة السهمي صحابي توفي بمصر ودفن بمقبرتها في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وله قصة مشهورة حكاها أبو رافع قال: وجه عمر جيشاً إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟! وفي بعض الروايات أنه عرض عليه أن يزوجه ابنته أيضاً. فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب ما رجعت عن دين محمد طرفة عين. قال: إذن أقتلك. قال: أنت وذاك، فأمر به فصلب، وقال للرماة: ارموه قريباً من بدنه. وأراد إرهابه فقط، وهو يعرض عليه أثناء ذلك النصرانية ويأبى، فأنزله ودعا بقدر فصب فيه ماء يغلي، ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما فألقي في القدر وهو يعرض عليه النصرانية يأبى، ثم بكى، فقيل للملك: إنه بكى لما رأى الأسير الذي أدخلوه في ذاك الإناء الذي يغلي فخرج وهو عظام تلوح قد ذاب لحمه وشحمه في هذا الماء المغلي. فظن أنه قد جزع وخاف، فقال: ردوه. ثم سأله: ما أبكاك؟ قال: قلت: هي نفس واحدة، تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله. فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ فقال له عبد الله: عن جميع الأسارى؟ قال: نعم. فقبل رأسه. وعدو الله أراد أن يقبل رأسه ليرضي غروره، فحينما وازن الأمرين وجد أن إنقاذ إخوانه المسلمين أهم، وما قبل أن يفرج عنه وحده، وأقبل بالأسارى على عمر رضي الله عنه فأخبره خبره، فقال عمر رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ، فقبل المسلمون رأسه رضي الله تعالى عنهم أجمعين. يقول الشاعر: أجدر الناس بالكرامة عبد تلفت نفسه ليسلم دينه ولقد استوصى عابدٌ من العباد صاحباً له عمَّا يفعل من العبادات والطاعات فقال: هو بذل الروح، وإلا فلا تشتغل بالترهات. يعني: أعظم ما تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى بذل روحك، وما عدا ذلك فترهات، يقول الشاعر: الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود وعن العلاء بن سفيان الحضرمي قال: غزا بسر بن أبي أرطأة الروم، فجعلت ساقه لا تزال تصاب -والمراد ساقة الجيش- فيكمن لهم الكمين فيصاب الكمين فلما رأى ذلك تخلف في مائة من جيشه، فانفرد يوماً في بعض أودية الروم، فإذا براذين مربوطة -جمع برذون، والبرذون يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، وهو عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء، قوي الأرجل، عظيم الحافر- فإذا براذين مربوطة نحو ثلاثين، والكنيسة إلى جانبهم -يعني: هؤلاء الفرسان هم الذين كانوا دائماً يصيبون ساقته في الكمائن- فنزل عن فرسه فربطه، وقد انفرد عن إخوانه المائة الذين كانوا معه، فلما رأى ثلاثين برذوناً عرف أن في الكنيسة ثلاثين فارساً، فدخل الكنيسة فأغلق عليه وعليهم بابها، فجعلت الروم تعجب من إغلاقه -أي: كيف تصل به الشجاعة إلى أن يغلق الباب عليهم أجمعين، مع أنه واحد- فما استقلوا إلى رماحهم حتى صرع منهم ثلاثة، وفقده أصحابه في ذلك الوقت، فطلبوه، فوجدوا الفرس الخاص به مربوطاً إلى جوار تلك البراذين، فعرفوه، وسمعوا الجلبة والأصوات من داخل الكنيسة، فأتوها فإذا بابها مغلق، فقلعوا بعض الخشب من السقف ونزلوا عليهم، وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده قد أصابه هؤلاء الفرسان، وقد قتل منهم ثلاثة وبقي سبعة وعشرون، وظل يقاتل سبعة وعشرين وهو وحده، فجرحوا منه بطنه فانزلقت أمعاؤه، فأخذ يقاتلهم وهو ممسك الأمعاء بيده حتى لا تسقط، ونزلوا عليهم وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده، والسيف بيده اليمنى، فلما تمكن أصحابه في الكنيسة سقط بسر مغشياً عليه، فأقبلوا على أولئك فأسروا وقتلوا، فأقبلت الأسارى فقالوا: ننشدكم الله، من هذا؟ قالوا: بسر بن أبي أرطأة. فقالوا: والله ما ولدت النساء مثله. فعمدوا إلى أمعائه فردوها إلى جوفه، ولم ينخرط منها شيء، ثم ربطوه بعمائمهم وحملوه، ثم خاطوه فسلم وعوفي رحمه الله تعالى.

علو همة الصحابة في جهاد الفرس

علو همة الصحابة في جهاد الفرس إن كبيري الهمم من المجاهدين يهوون رفع الثقيل من الأمور، وخوض المخاطر، واقتحام العقبات، فأولئك النخعيون الذين تسابقوا على الاستشهاد في معركة القادسية قال واحد منهم: أتينا القادسية، فقتل منا كثير من النخعيين ومن سائر الناس قليل، فسئل عمر رضي الله عنه عن ذلك فقالوا: إن النخع ولو أعظم الأمر وحدهم. يعني: هم الذين تجردوا للجهاد في هذه الوقعة. ورفع الله سبحانه وتعالى الحرج عن المعذورين، فقال عز من قائل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61]، فعذر الحق سبحانه وتعالى أصحاب الأعذار، لكن ما صبرت القلوب، فالأبدان معذورة لكن القلوب لا تصبر ولا تتعاطى الرخصة، فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد، وطلب أن يعطى اللواء، مع أنه أعمى، فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه بيده الأخرى، فضرب اليد الأخرى، فأمسكه بصدره وقرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] فهذه عزائم القوم، والحق يقول: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61]، وهو من هؤلاء المعذورين. وعمرو بن الجموح من كبار الأنصار كان أعرج، وكان في أول الجيش، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد عذرك) فقال: والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. وكر الفرس كرة على غرة، فرجع المسلمون متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة؛ لأنه يجوز الفرار إذا كان لأجل الكر والفر أثناء القتال، فيفر المجاهد من أمام العدو حتى يأتيهم من جهة أخرى، أو يعود إلى كتيبة المسلمين يتزود منها ثم يعود، فالمسلمون لما بوغتوا وفوجئوا بهذه الحملة من الكفار رجعوا حتى يرتبوا أنفسهم ويعودوا للقتال، فطاردهم هؤلاء المشركون الفرس، فلم يستطيعوا أن يأسروا منهم أحداً إلا أضعف الناس سيراً وقت الانسحاب أو التقهقر، فاختطفوه أسيراً وعادوا به. فتصور الآن أضعف واحد في الجيش الإسلامي كيف كان مفهوم الجهاد في سبيل الله في حسه، هذا هو الأضعف الذي لم يستطع الجري ومن ثم أسر، فانظر إلى مستوى الوعي والفهم لحقيقة رسالته في هذه الحياة. قال له رستم قائد جيش الفرس: ما جاء بكم، وما تطلبون؟! فقال له هذا المسلم: جئنا نطلب موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: أرضكم ودياركم وأبناؤكم إن أبيتم أن تسلموا، ومن قتل منا أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا وعده، فنحن على يقين. قال: قد وضعنا إذاً في أيديكم! فقال له المسلم: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى من حولك؛ فإنك لست تحارب الإنس، وإنما تحارب قضاء الله وقدره، ونحن قضاء الله وقدره. فهذا الرجل هو أضعف مجاهد في جيش المسلمين، فانظر إلى فهمه لغايته في الجهاد. ولقد أوجز خالد بن الوليد وأبلغ حين وصف جنود الإسلام وهو يخاطب الفرس بقوله: قد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة. فهذا وصف صادق باختصار شديد، وهذا ما يعرفه كل أعداء الإسلام في شتى الأعصار والأزمان.

علو همة التابعين في الجهاد

علو همة التابعين في الجهاد لقد كان التابعي الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأزدي -رحمه الله- من نتاج تربية الأربعة الخلفاء الراشدين وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. عاف التجارات والبيوت لانشغاله بالجهاد، لم يكن له بيت يدخل فيه، ولم يكن يشتغل في تجارة، وما كان يعرف أي شيء عن هذه الأشياء، بنى له في الكوفة خصاً صغيراً يسعه هو وفرسه وسلاحه فقط، فمساحة الخص الذي اتخذه تسع جسده والفرس والسلاح فقط. وبقي طول عمره متحفزاً للجهاد، يخرج للجهاد ويعود إلى هذا الحصن، حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس؛ لأنه لم يمارس هذه الأشياء أبداً، وإنما عاش كل حياته من الجهاد وإلى الجهاد. وكان إذا خلا ينشج -أي: يبكي بصوت وتوجع- من خشية الله سبحانه وتعالى، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل، وكان له خص يكون فيه هو وفرسه، فإذا غزا نقضه، وإذا رجع بناه. هكذا كانوا يمضون نحو غايتهم الكبرى لا يلتفتون إلى الوراء، ويقول أحدهم غير وجل ولا آسف: وأراني أسمو بسعيي ووعيي عن جزاء من معدن الأرض بخس حسب نفسي من الجزاء شعوري أنني في الإله أبذل نفسي يعني: يسمو ويتعالى عن أن يكون هدفه من الجهاد في سبيل الله عن جزاء من معدن الأرض بخس من ذهب أو فضة أو مال. وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى وهو الإمام المجاهد الكبير: بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفس بما ليست له ثمناً إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا وعن موسى بن أبي إسحاق الأنصاري أن علي بن أسد كان قد قتل وصنع أموراً عظاماً -أي: من الظلم والخطايا- فمر ليلة بالكوفة، فإذا برجل يقرأ من جوف الليل: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فلما سمع الآية قال علي: أعد. فأعاد، ثم قال: أعد. فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، فعمد فاغتسل، ثم غسل ثيابه فتعبد حتى عمشت عيناه من البكاء، وصارت ركبتاه كركبتي بعير، فغزا في البحر فلقي الروم، واقتربت مراكبهم من مراكب العدو، قال علي: لا أطلب الجنة بعد اليوم أبداً -يعني: هذه الفرصة لن أضيعها؛ لأني لا أعيش بعد اليوم، بل أطلب الشهادة الآن وهي توصلني إلى الجنة-. فاقتحم بنفسه في سفائنهم، فمازال يضربهم وينحازون -أي: ينحازون كلهم إلى جانب واحد- حتى مالوا في شق واحد فانكفأت بهم السفينة فغرق وعليه درع حديد رحمه الله تعالى. ويروى أن عقبة بن نافع وقف على شاطئ المحيط الأطلسي وخاض في مياهه بفرسه قائلاً: والله -أيها البحر- لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضتك وفتحتها بإذن الله. فانظر إلى الهمة في بلوغ غاية الإمكان؛ لأن هذا أقصى ما استطاع أن يصل إليه، فلكي يمعن في التعبير عن هذا الإصرار خاض في البحر خطوات، وكان لا يعرف أن هناك أرضاً وراء هذا البحر.

علو همة السلاجقة في الجهاد

علو همة السلاجقة في الجهاد في عام (463) من الهجرة سار ملك الروم أرمنوس إلى بلاد المسلمين بمائتي ألف مقاتل على أقل تقدير للمؤرخين، كان هذا الجيش كثيفاً يضم أخلاطاً من الروم والفرنجة والروس والصرب والأرمن والبوشناق، واتخذ طريقه إلى العراق، وقبل أن ينطلق من أوروبا أقطع بطارقته الأرض حتى بغداد، فالأرض من المكان الذي هو فيه إلى بغداد قسمها كلها على البطارقة، فكان يقول لكل منهم: أنت ستملك كذا، وأنت ستحكم كذا. ونحو ذلك، فجعلها إقطاعات لهم كأنه ضامن أنه سيستولي على هذه الأرض كلها. فأقطع بطارقته الأرض حتى بغداد، وعين له نائباً على بغداد قبل أن يسير، واستوصى نائبه بالخليفة خيراً. وقد عزم أرمنوس أن يبيد الإسلام وأهله، وإذا انتهى من العراق وخراسان مال على الشام ميلة واحدة فأباد المسلمين فيها أيضاً. خرج أرمنوس من القسطنطينية متجهاً نحو الشرق، فوصل إلى ملاذكرت في شرقي تركيا اليوم على مقربة من بحيرة (وان)، وأتى الخبر إلى ألب أرسلان السلطان السلجوقي وهو في أذربيجان وقد عاد من حلب، فلم يتمكن من جمع الجند لبعده عن مقر حكمه، ولقرب العدو منه، فسار بمن معه وهم خمسة عشر ألفاً. أي أن خمسة عشر ألفاً يواجهون مائتي ألف. وسار متوكلاً على الله سبحانه وتعالى للقاء هذا العدو، وقال: إنني أقاتل محتسباً صابراً، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملك شاه ولي عهدي. وجد في السير وأرسل مقدمته أمامه، فالتقت عند مدينة خلاط بمقدمة الروم، وكان عددهم عشرة آلاف، فهزم الروم بإذن الله وأسر قائدهم. واقترب الجمعان بعضهما من بعض، وأرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه الهدنة، فقد خافه لكثرة من معه؛ إذ يفوق جند ملك الروم جند المسلمين بخمسة عشر ضعفاً، غير أن ملك الروم قد أخذته العزة بالإثم فقال: لا هدنة إلا في الري. ومدينة الري هي طهران، ولم يدر أنه يقدم قومه إلى الهاوية، فتأثر السلطان من هذا الرد المتغطرس، فاستشار إمام جنده أبا نصر محمد بن عبد الملك البخاري، فأجابه: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر؛ فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة. وكان يومها يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وجاء يوم الجمعة، وحان وقت الزوال، فصلى أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بالناس، فبكى السلطان وبكى الناس لبكائه ودعوا معه بعد الصلاة، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وإنما الجهاد والرغبة في لقاء الله. ثم ألقى القوس وأخذ السيف، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني. وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما اقترب منهم ترجل -أي: نزل عن الفرس- ومرغ وجهه في التراب وبكى، وأكثر من الدعاء وطلب النصر من الله سبحانه وتعالى. ثم ركب وحمل على الروم، وحمل المسلمون حتى وصلوا إلى وسط الروم، وحجز الغبار بينهم، وما هي إلا جولة حتى أنزل الله نصره، وهزمت الروم، ومنحوا المسلمين أجسادهم، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً حتى امتلأت الأرض بالجثث، وقدر عدد القتلى بمائة وخمسين ألفاً، أي أن كل مسلم قد قتل عشرة من الروم، ووقع ملك الروم أرمنوس وبطارقته جميعاً أسرى بأيدي المسلمين، وحمل أرمنوس إلى السلطان ألب أرسلان، فلما وقف بين يديه ضربه على رأسه بالعصا ثلاث مرات، وقال: لو كنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل؟ قال: كل قبيح قال: فما ظنك بي؟! قال: إما أن تقتل بعد أن تشهر بي في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني. قال: ما عزمت على غير العفو والفداء، فافتدى نفسه بمليون ونصف من الدنانير، فقام بين يدي السلطان، وسقاه شربة من ماء، وقبل الأرض بين يديه، وقد ترك له السلطان عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة الأسرى.

علو همة يعقوب المراكشي في الجهاد

علو همة يعقوب المراكشي في الجهاد من علو همة السلطان المنصور أبي يوسف يعقوب بن السلطان يوسف بن السلطان عبد المؤمن بن علي المغربي المراكشي الظاهري أنه كتب إليه الأذفونش يهدده، -والأذفونش هو القائد من الكفار في الأندلس- فكتب إليه الأذفونش يهدده ويعنفه، ويطلب منه بعض البلاد، ويقول: ما لك تتباطأ، أنا أتخذ حداً للقتال وأنت تتباطأ، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطأ بك أو التكذيب بما وعد نبيك؟! يعني: لو كنت تعتقد أن هناك جنة ثواباً، وأنك إذا قتلت ستدخل الجنة فما الذي يمنعك من أن تأتي حتى تقاتلني؟! فلما قرأ الكتاب تنمر وغضب ومزقه، وكتب على رقعة منه بعدما مزقه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37] الجواب ما ترى لا ما تسمع: ولا كُتْب إلا المشرفية عندنا ولا رسُل إلا الخميس العرمرم. أي: الجيش. ثم استنفر سائر الناس، وحشد وجمع، حتى احتوى ديوان جيشه على مائة ألف، ومن المطوعة مثلهم، وذهب إلى الأندلس، فتمت الملحمة الكبرى، ونزل النصر والظفر، فقيل: غنموا ستين ألف درع. وقال ابن الأثير: قُتِل من العدو مائة ألف وستة ألفاً، ومن المسلمين عشرون ألفاً.

علو همة صلاح الدين الأيوبي

علو همة صلاح الدين الأيوبي إننا إذا أردنا أن نتكلم عن حال الأمة عند صدق الهمم لا نحتاج إلى الكلام؛ لأنه واقع نعيشه بكل مرارته، فيكفي أن القدس تضيع رسمياً بهذه الصورة، والناس ليس على بالهم على الإطلاق موضوع القدس التي ضاعت أو كادت بصورة مذلة ومهينة، حتى كأنه لم تعد تتحرك شعرة في بلاد المسلمين لهذه المصيبة ولهذه المذلة ولهذا الهوان. فانظر إلى صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، يقول القاضي ابن شداد: كان رحمه الله عنده من أمر القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، فهو كالوالدة الثكلى -أي: الأم التي مات ابنها- من الحزن على بيت المقدس، يجول بنفسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، وينادي: يا للإسلام! وعيناه تذرفان الدموع. ونظر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله إلى أمواج البحر الهادرة، ثم التفت إلى القاضي ابن شداد وقال: ألا أخبرك شيئاً في نفسي: إنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد ووطيت ووسعت، وركبت هذا البحر إلى جزائله، وأتبعتهم - يعني: الصليبيين - فيها - يعني: في ديارهم في أوروبا - حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت. فهذه هي همة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى. وبعد وقعة حطين التي هزم فيها صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- هؤلاء الصليبيين هزيمة منكرة باع بعض الفقراء من المسلمين أسيراً بنعل، فقيل له في ذلك فقال: أردت هوانهم. يعني أن الأسير الكافر يساوي عندي نعلاً. ويمكن أن يأخذ فيه مالاً أكثر من ذلك إذا بيع عبداً، لكن قال: أردت هوانهم. فتأمل ذلك المشهد المرير الذي حصل أثناء حرب الخليج، حيث وقف الجندي العراقي يقبل حذاء الجندي الأمريكي، والله أعلم بحقيقة هذا الأمر، في كونه تمثيلاً أو غير تمثيل، لكن يكفي هذا الأمر الأليم، حيث يقبل قدم الجندي الأمريكي، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وحكى بعضهم بعد حطين أنه لقي بحوران رجلاً واحداً ومعه صلب خيمة -أي: عمود خيمة- قد ربط فيه نيفاً وثلاثين أسيراً يجرهم وحده، فهو وحده أسر ثلاثين من الصليبيين يجرهم في هذه الخشبة وقد ربطهم بها للخذلان الذي وقع عليهم. وقال عماد الكاتب في حصاد موقعة حطين: فمن شاهد القتلى يومئذ قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل. يعني من كثرة أعداد الأسرى والقتلى.

علو همة السرماري في الجهاد

علو همة السرماري في الجهاد من منازل علو الهمة في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى علو همة فارس الإسلام السرماري وهو الذي قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في وصفه: الإمام الزاهد العابد المجاهد فارس الإسلام أبو إسحاق، يقول الذهبي: وكان أحد الثقاة، وبشجاعته يضرب المثل. وقال أيضاً في موطن آخر: أخبار هذا الغازي تسر قلب المسلم. وقال: قال إبراهيم بن عفان البزاز: كنت عند أبي عبد الله البخاري، فجرى ذكر أبي إسحاق السرماري فقال: ما نعلم في الإسلام مثله. فخرجت فإذا أحمد رئيس المطوعة، فأخبرته بما قاله أبو عبد الله البخاري في السرماري، فلما سمع أحمد بذلك غضب، ودخل على البخاري وسأله، فقال: ما كذا قلت! بل ما بلغنا أنه كان في الإسلام ولا في الجاهلية مثله. يعني: في الشجاعة. وعن أحمد بن إسحاق السرماري قال: ينبغي لقائد الغزاة أن يكون فيه عشر خصال: أن يكون في قلب الأسد لا يجبن، وفي كبر النمر لا يتواضع للأعداء، وفي شجاعة الدب يقتل بجوارحه كلها، وفي حنة الخنزير لا يولي دبره، وفي غارة الذئب إذا أيس من وجه أغار من وجه، وفي حمل السلاح كالنملة تحمل أكثر من وزنها، وفي الثبات كالصخر، وفي الصبر كالحمار، وفي الوقاحة كالكلب لو دخل صيده النار لدخل خلفه، وفي اقتناص الفرصة كالديك. قال إبراهيم بن شماس: كنت أكاتب أحمد بن إسحاق السرماري فكتب إلي: إذا أردت الخروج إلى بلاد الغزية في شراء الأسرى فاكتب إلي. فكتبت إليه، فقدم سمرقند، فخرجنا، فلما علم جعبويه استقبلنا في عدة من جلوسه -وهو قائد جيش الكفار- فأقمنا عنده، فعرض يوماً جيشه -وهو الاستعراض العسكري- فمر رجل، فعظمه وخلع عليه -أي: أن هذا جندي في جيش الكفار أخذ جعبويه يمدحه ويعظمه، وخلع عليه من الهدايا والهبات- فسألني عن السرماري فقلت: هذا رجل مبارز يعد بألف فارس. قال: أنا أبارزه. فسكت، فقال: جعبويه: ما يقول هذا؟ قلت: يقول كذا وكذا. قال: لعله سكران لا يشعر، ولكن غداً نركب. فلما كان الغد ركبوا، فركب السرماري ومعه عمود خبأه في كمه، فقام بإزاء المبارز الذي هو مقدم عندهم، فقصده فهرب أحمد حتى باعده من الجيش، فظل يتراجع ويظهر التراجع أمامه حتى يبعده عن باقي الجيش، ثم كر عليه وضربه بالعمود فقتله، فتبعه إبراهيم بن شماس -لأنه كان سبقه- فلحقه، وعلم زيغويه فجهز في طلبه خمسين فارساً نقاوة فأدركوه، فثبت تحت تل من الرمال مختفياً، حتى مروا كلهم واحداً بعد واحد، وجعل يضربهم بعموده من ورائهم، إلى أن قتل تسعة وأربعين من الوراء، وأمسك واحداً، فقطع أنفه وأذنيه وأطلقه حتى يرجع ويخبر بما حدث؛ لأنه شاهد عيان. ثم بعد عامين توفي أحمد، وذهب ابن شماس في الفداء فقال له جعبويه: من ذاك الذي قتل فرساننا؟! قال: ذلك أحمد السرماري. قال: فلم لم تحمله معك؟ قلت: توفي. فصك في وجهي -أي: ضربه في وجهه- وقال: لو أعلمتني أنه هو لكنت أعطيته خمسمائة برذون وعشرة آلاف شاة. وعن عبيد الله بن واصل قال: سمعت أحمد السرماري يقول وأخرج سيفه: أعلم يقيناً أني قتلت به ألف تركي، وإن عشت قتلت به ألفاً آخر، ولولا خوفي أن يكون بدعة لأمرت أن يدفن معي. فانظر إلى غاية اتباعه وورعه في أدق الأشياء، يعني: لولا خوفه أن يكون بدعة لأوصى أن يدفن سيفه معه في قبره، مع أن هذا السيف استعمله في الجهاد، فيا عجباً ممن يوصي أن يدفن معه العود -آلة الموسيقى- في قبره! وعن محمود بن سهل الكاتب قال: كانوا في بعض الحروب يحاصرون مكاناً، ورئيس العدو قاعد على صفة -يعني: على ظلة وعلى بهو واسع وسقفه عال-، فرمى السرناري سهماً فغرزه في الصفة، فأومأ الرئيس إلى أحد الجند لينزعه، فرماه بسهم آخر فأصاب يده فثبتها في الخشبة، فتطاول الكافر لينزعه من يده فرماه بسهم ثالث في نحره، فانهزم العدو وكان الفتح. وعن عمران بن محمد المطوعي قال: سمعت أبي يقول: كان عمود السرناري ثمانية عشر مناً، والمن رطلان، فلما شاخ جعله اثني عشر مناً، وكان يقاتل بالعمود رحمه الله تعالى.

علو همة اللؤلؤ العادلي في الجهاد

علو همة اللؤلؤ العادلي في الجهاد من هؤلاء الأبطال اللؤلؤ العادلي، كان يلقب بالحاجب، يقول الذهبي: من أبطال الإسلام، وهو كان المندوب لحرب فرنج الكرك الذين ساروا لأخذ طيبة، وساروا في البحر المالح. فسمع اللؤلؤ العادلي الحاجب رحمه الله تعالى بسرية من الكفار من فرنج الكرك أو عدد منهم يقولون: نحن ذاهبون إلى طيبة -المدينة النبوية- لاستخراج جسد الرسول. فسمع بخبرهم، فلم يسر لؤلؤ إلا ومعه قيود بعدد هؤلاء الذين خرجوا في هذه الحملة، فأدركهم عند الفحلتين، فأحاط بهم، فسلموه نفوسهم وهو لوحده، فقيدهم، وكانوا أكثر من ثلاثمائة مقاتل، وأقبل بهم إلى القاهرة، فكان يوماً مشهوداً.

من علو الهمة في الجهاد

من علو الهمة في الجهاد هذا مجاهد آخر ينتدب نفسه للمهمة الجسيمة، ويمضي نحو همته، ويلح سائلاً مولاه يقول: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ولكن قبري بطن نسر مقيله بجو السماء في نسور عواسف وأمسي شهيداً خاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف فوارس من بغداد ألف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف فقوله: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف يعني أنه يدعو الله سبحانه وتعالى بأن لا يموت موتاً عادياً كما يموت سائر الناس، فلا يحب أن يحمل على نعش، فانظر إلى الهمة العالية بدرجة غريبة جداً، فيدعو الله بأن لا تكون وفاته بحيث يحمل على نعش. فقوله: (يعلى بخضر المطارف) هي أطراف الأيدي، يريد أن علو النعش بجسد وجثته بعد موته يرتفع على أيدي الناس، يقول: هذا دنو همة، فلا أقبل أن أموت على فراشي حتى يرفعني الناس بأيديهم. يقول: ولكن قبري بطن نسر مقيله بجو السماء في نسور عواسف أي: اجعل قبري بطن النسور، حتى تحلق بي إلى أعلى آفاق السماء، ولا أدفن في الأرض. يعني أن يكون شهيداً فتأكله النسور وتتخطفه، فترتفع جثته بأيدي النسور إذا أكلتها لا بأيدي الرجال إذا حملوه في النعش، فهو لا يحلق بروحه السامية في فلك الشموخ فحسب، بل بجسده أيضاً، بحيث إن الكفار لا يستطيعون أن يصلوا إلى جثته؛ لأنه استقر في بطون النسور، فيراغم الكفار ويغيظهم ميتاً كما راغمهم حياً. وهذا بلا شك حري بقول الشاعر: علو في الحياة وفي الممات لحق تلك إحدى المكرمات فهو يبحث عن علو في الحياة وهو حي، وأيضاً إذا مات يبحث عن العلو حتى لا يتمكن الكفار من أن ينالوا جثتة، بل ترتفع إلى آفاق السماء في داخل بطون النسور. ثم يقول: وأمسي شهيداً خاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف يعني: مطمئن منخفض. فوارس من بغداد ألف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحف أي: شجعان في مقاتلة الأعداء. إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف وهي الجنة التي بشر بها الشهداء. وعن أحمد بن إبراهيم قال: نظر يونس إلى قدميه عند موته فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟! قال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله عز وجل. وهذا الإمام الجليل عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى- يعقد مقارنة بين من تخلى للعبادة ومن آثر الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى في قصيدة أرسلها إلى عابد الحرمين الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى يقول له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يجري خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب والسنابك: جمع سنبك، وهو طرف السيوف. ولقد أتانا عن مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب والإمام ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى يعبر عن علو همته في الحياة فيقول: مناي من الدنيا علوم أبثها وأنشرها في كل باد وحاضر دعاء إلى القرآن والسنن التي تناسى رجال ذكرها في المحاضر وألزم أطراف الثغور مجاهداً إذا هيعة سارت فأول نافري لألقى حمامي مقبلاً غير مدبر بسمر العوالي والرقاق البواسل كفاح مع الكفار في حومة الوغى وأكرم موت للفتى قتل كافر فيا رب لا تجعل حبالي بغيرها ولا تجعلني من قتيل المقابر يعني: من سكان المقابر. وهذا الإمام الجليل أبو القاسم محمد بن أحمد المالكي رحمه الله تعالى المتوفي سنة (741) من الهجرة يقول قبل أن يستشهد مباشرة: قصدي المؤمل في جهري وإسراري ومطلبي من إلهي الواحد الباري شهادة في سبيل الله خالصة تمحو ذنوبي وتنجيني من النار إن المعاصي رجس لا يطهرها إلا الصوارم في أيمان كفار فبعد أن أنشد الأبيات قال: أرجو الله أن يعطيني ما سألته في هذه الأبيات. فأعطاه الله ما تمنى، وقتل في نفس اليوم وهو يقاتل النصارى، بعد أن أبلى في قتالهم بلاء حسناً، رحمه الله وأعلى درجته في الشهداء. فهذا ما تيسر من النماذج من جهاد السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم في إعزاز هذا الدين وعلو همتهم في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. ولولا هذه الهمة العالية لما ذاع الإسلام وشاع في أقطار الأرض بهذه الطريقة، ولما وصلتنا هذه النعمة، ولما تشرفنا بهذا الشرف العظيم الذي هو شرف الانتماء إلى دين الحق وإلى أمة التوحيد.

علو الهمة في البحث عن الحق

علو الهمة في البحث عن الحق بقي الكلام في ميدان آخر من ميادين علو الهمة، وهو علو الهمة في البحث عن الحق، وفيه شيء من الطول، ونقتصر في هذه الكلمات على قصة واحدة من قصص علو الهمة في البحث عن الحق، ونكمل بقية ذلك فيما سيأتي بإذن الله. حفل التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه بنماذج رائعة من المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وبذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، فصاروا مضرب الأمثال، وحجة لله على خلقه أن من انطلق باحثاً عن الحق مخلصاً لله تعالى فإن الله يهديه إليه، ويمن عليه بأعظم نعمة في الوجود، وهي نعمة الإسلام. ومن هذه النماذج -بل أشهرها- قصة سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، فقد جلس يوماً تحت داره المتواضعة في المدائن، وأحاط به جلساؤه ينصتون لحديثه ولقصته في البحث عن الحقيقة، وروى لهم كيف ترك دين قومه -الفرس- إلى النصرانية ثم إلى الإسلام، وكيف ضحى في سبيل البحث عن الحقيقة الكبرى بثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة بحثاً عن خلاص عقله وروحه. كيف بيع في سوق الرقيق في طريق بحثه عن الحقيقة، كيف التقى برسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف آمن به، إنه سلمان الفارسي أو سلمان الخير صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول وهو يحكي قصته: كنت رجلاً من أهل أصفهان من قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان أرضها -أي: رئيس القرية-، وكنت من أحب عباد الله إليه، وقد اجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها ولا يتركها تخمد. والمجوس الذين يعبدون النار يتركونها مشتعلة باستمرار في مكان العبادة، بحيث لا تنطفئ أبداً، فكان سلمان الفارسي قاطن النار، أي: كان هو القيم على النار، وكان هو موقدها. يقول: وكان لأبي ضيعة أرسلني إليها يوماً، فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعتهم يصلون، فدخلت عليهم لأنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه. فما برحتهم حتى غربت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري. وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام. وقلت لأبي حين عدت إليه: إني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا، فحاورني وحاورته، ثم جعل في رجلي حديداً وحبسني. وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم، ففعلوا، فحطمت الحديد، وخرجت وانطلقت معهم إلى الشام، وهناك سألت عن عالمهم، فقيل لي: هو الأسقف صاحب الكنيسة. فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدمه وأصلي وأتعلم، وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه، ثم مات. وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينه خير منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة وزهداً في الدنيا، ودأباً على العبادة، وأحببته حباً ما علمت أني أحببت أحداً مثله قبله، فلما حضره قدره -يعني أجله- قلت له: إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، فبم تأمرني؟ وإلى من توصي بي؟ قال: أي بني! ما أعرف أحداً من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجل من الموصل، فلما توفي أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة فسألته، فدلني على عابد في نصيبين، فأتيته فأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرة وغنيمة، ثم حضرته الوفاة. فانظر إلى الدأب، فكلما يموت واحد يسأله عن غيره ممن يعرفون الحق، كما جاء في الحديث: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم كلهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب). قال: ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني! ما أعرف أحداً على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفاً عليه الصلاة والسلام، مهاجره إلى أرض ذات نخل بين حرتين - والحرة: الجبال ذات الحجارة السوداء - فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل، وإن له آيات - علامات - لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته. ومر بي ركب ذات يوم فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم. واصطحبوني معهم، حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني وباعوني إلى رجل من اليهود، وظفرت بنخل كثير بوادي القرى، فطمعت أن تكون هي البلدة التي وصفت لي، والتي ستكون مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تكنها، وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم عليه يوماً رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي. وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة، حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف، وإني لفي رأس نخلة يوماً وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود من بني عمه فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة -يقصد الأنصار-! إنهم ليتخاطفون. يعني: يتتابعون ويجتمعون ويتزاحمون استعداداً لحدث خطير جداً وهو استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: قاتل الله بني قيلة! إنهم ليتخاطفون على رجل بقباء قادم من مكة يزعمون أنه نبي. فوالله ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العرواء -رعشة الحمى- فرجفت النخلة -أي: من الارتعاش الذي أصابه- حتى كدت أسقط فوق صاحبي. ثم نزلت سريعاً وقلت: ما الخبر؟! فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال لي: مالك ولهذا، أقبل على عملك. فأقبلت على عملي، ولما انتهيت جمعت ما كان عندي من التمر، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به، فجئتكم به. ثم وضعته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا باسم الله، وأمسك هو فلم يبسط إليه يده. فقلت في نفسي: هذه -والله واحدة-، إنه لا يأكل الصدقة. ثم رجعت وعدت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي أحمل طعاماً، فقلت للرسول صلى الله عليه وسلم: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله. وأكل معهم، فقلت لنفسي: هذه -والله- الثانية، إنه يأكل الهدية. ثم رجعت، فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة وحوله أصحابه، وعليه شملتان مؤتزراً بواحدة، ومرتدياً الأخرى -كان يلبس إزاراً ورداء على كتفه كلبس الحجاج في الإحرام- فسلمت عليه، ثم استدرت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك -أي: عرف الرسول عليه السلام أن سلمان يبحث عن خاتم النبوة بين كتفيه- فألقى بردائه عن كاهله، وكشف له ظهره صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإذا العلامة بين كتفيه خاتم النبوة كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي. ثم دعاني صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن. فمن أين عرف ذلك الأسقف؟! عرف ذلك من كتبهم، ومازالت علامة خاتم النبوة مذكورة في التوراة وفي الإنجيل إلى اليوم رغم التحريف الذي وقع، والنص موجود في كتاب النصارى المقدس فيه إخبار عن شخص يأتي بالنبوة علامته بين كتفيه، فربما تكون هذه النسخ حذفت فيها العلامات المفصلة؛ لأن فيه تفصيلات أخرى، مثل كونه كبيض الحجلة وعليه شعيرات قليلة. ثم يقول سلمان: ثم أسلمت، وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد، وفي ذات يوم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كاتب سيدك حتى يعتقك، فكاتبته)، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يعاونوني، وحرر الله رقبتي، وعشت حراً مسلماً، وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزة الخندق والمشاهد كلها. فبهذه الكلمات تحدث سلمان الفارسي عن رحلته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة العظمى التي تصله بالله وترسم له دوره في الحياة، فأي إنسان شامخ كان هذا الإنسان! أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطيبة، وفرضته إرادته الغلابة على المصاعب، فقهرت المستحيل فجعلته ذلولاً! أي تمثل للحقيقة وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعاً مختاراً من متاع أبيه وثرائه ونعمائه إلى المجهول بكل أعبائه ومشاقه، ينتقل من أرض إلى أرض، ومن بلد إلى بلد، ناصباً كادحاً عابداًَ! تفحص بصيرته الناقدة الناسَ والمذاهبَ والحياةَ، ويظل في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقاً، ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى فيجمعه بالحق، ويلاقيه برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمين يملئون أركانها وأنحاءها هدى ورحمة وعدلاً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول: (واسطتي الله تعالى)

حكم قول: (واسطتي الله تعالى) Q بعض الناس يقول عند تقديم معاملة: أنا واسطتي الله تعالى فما حكم هذا؟ A هذا التعبير لا يجوز؛ لأن الله يتوسل إليه ولا يتوسل به، والله سبحانه وتعالى ليس وكيلاً إلى غيره، فالله تعالى لا يكون واسطة، ولا يستشفع بالله على أحد، لكن يستشفع إلى الله عز وجل، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له بعض الصحابة: يا رسول الله! إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. فغضب من ذلك وقال: إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه). فالشاهد أن هذا التعبير غير صحيح، ولا يجوز إذا قيل لك: (من واسطتك)، أن تقول: الله؛ لأن الله ليس واسطة، وليس وسيلة، إنما الله سبحانه وتعالى يتوسط إليه ويتوسل إليه، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57].

علو الهمة [14]

علو الهمة [14] لقد جعل الله سبحانه وتعالى هداية الدلالة بيد الأنبياء والعلماء والدعاة، وأما هداية الإلهام والتوفيق فهي بيده سبحانه، فيضل الله من يشاء بعدله، ويهدي من يشاء بفضله، وهناك نماذج من أولئك الرجال الذين هداهم الله حين قطعوا حياتهم في البحث عن الحق والنور، فمن أراد شيئاً واجتهد وأخلص في طلبه بلغه الله إياه، ومن أولئك الرجال بعض القساوسة النصارى الذين كانوا يوماً ما رءوساً في أقوامهم، فتركوا هذه الحياة الدنيا، وأقبلوا على الله وآثروا ما عنده.

علو همة الشيخ أبي محمد الترجمان في البحث عن الحق

علو همة الشيخ أبي محمد الترجمان في البحث عن الحق القصص في علو الهمة في عصر الصحابة أو من بعدهم كثيرة جداً، ونحن لا نقصد الاستقصاء، وإنما نريد ذكر نماذج من كل عصر من العصور، وسننقل في حديثنا إلى أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل القرن التاسع، ونذكر علو همة الشيخ: أبي محمد الترجمان الذي توفي سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة من الهجرة. فهذا الرجل كان يدعى القسيس إنسلم ترميدا، وكان من أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري. وفي الوقت الذي كان الصليبيون يكرسون جهودهم -بعد طرد المسلمين من ربوع الأندلس- في نشر النصرانية المحرفة في ربوع بلاد الأندلس، بعدما نفي المسلمون من هذا الفردوس المفقود وفي نفس ذلك الوقت شرح الله سبحانه وتعالى صدر رجل من أكبر علماء النصرانية في ذلك الزمان إلى الإسلام، فأسلم وجهه لله، واستقام على طاعة الله عز وجل، وجاهد بيده ولسانه وقلمه في سبيل الله عز وجل، أنه الشيخ: أبو محمد عبد الله بن عبد الله الترجمان، كان قسيساً -كما ذكرنا- يدعى إنسلم ترميدا، اشتهر بـ: الترجمان؛ لأنه لما مضت خمسة أشهر على إسلامه قدمه السلطان في الديوان لقيادة البحر، وكان يقصد من ذلك أن يتعلم اللغة العربية بالتردد على علم الترجمة هناك، أي: في البحر والمناوشات العسكرية الحربية أو التجارية، حتى العلاقات التجارية بين الأسبان وبين العرب كانت تحتاج إلى الترجمة من إحدى اللغتين إلى الأخرى، وكانت تكثر الاحتكاكات بين النصارى والمسلمين. فأرسله السلطان ليكون مسئولاً في قيادة البحر لأجل أن يتعلم اللغة العربية هناك من خلال هذه الترجمة، فأتقن اللغة العربية في سنة واحدة، وعينه السلطان رئيساً لشئون الترجمة، وكان من ألقابه عند عوام الناس في بلاد المغرب: (سيدي تحفة)، وذلك نسبة إلى كتابه الشهير الذي ألفه بعد إسلامه، وهو الآن مطبوع وموجود، ويسمى (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) فالعوام اختصروا هذا الموضوع ونسبوا المؤلف إلى هذا الكتاب، فقالوا: سيدي تحفة. نسبة إلى كتابه (تحفة الأريب)، وأعتقد أن هذه التسمية عند العوام فيها إصابة، فقد أصابوا فيها الحق، بخلاف ما يحصل أحياناً من العوام من انفعالات غريبة جداً، أو أنها تعكس أكثر الألقاب التي يلقونها، ففي أثناء الحرب العالمية كان هتلر يعد أهل مصر خيراً لو تعاونوا معه ضد الإنجليز، فبمجرد أن بدأ هتلر يغازل الشعب المصري ببعض العبارات اللطيفة صار له لقب عند العوام في مصر، حيث سموه (الحاج محمد هتلر) تعبيراً عن أنهم تفاعلوا مع هذه العاطفة التي أبداها تجاههم، فالناس يتحولون بين يوم وليلة! فالسفاح الذي كان بالأمس يقتل ويده ملوثة بالدماء، وتاريخه أسود، وإلى آخر لحظات من عمره وهو في محاربة لله ورسوله وللمؤمنين أصبح يدعى (الحاج محمد هتلر)، ومع ذلك نجد بعض من انحطت هممهم وسفلت نفسيتهم ينقادون ويقادون إلى مثل هذه المهازل التاريخية في الحقيقة، والله المستعان! فالشاهد أن العوام في بلاد المغرب الإسلامي قد أصابوا حينما سموه سيدي تحفة؛ لأنه كان أعظم ما أنجزه هذا الرجل الجليل هو هذا الكتاب الرائع: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب)، وكان ذلك الكتاب يمثل ضربة قوية لبنيان النصرانية، كتبه عالم من أكبر علماء النصرانية في عصره باعتراف أهلها وشهادتهم، وافتتح هذا الكتاب بذكر قصة إسلامه، وسوف أتلو عليكم هذه القصة كما حكاها هو بنفسه رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه.

أبو محمد الترجمان في بداية طلبه لعلم النصرانية

أبو محمد الترجمان في بداية طلبه لعلم النصرانية قال رحمه الله تعالى: اعلموا -رحمكم الله- أن أصلي من مدينة ميورقا وهي جزيرة في البحر الأبيض المتوسط جنوب شرق أسبانيا اليوم، فتحها المسلمون سنة تسعين ومائتين للهجرة، إلى أن تغلب عليها العدو البرشلوني وخربها سنة (508) للهجرة. يقول: اعلموا -رحمكم الله- أن أصلي من مدينة ميورقا أعادها الله للإسلام، وهي مدينة كبيرة تقع على البحر بين جبلين، يشقها واد صغير، وهي مدينة لها مرساتان عجيبتان ترسو بهما السفن الكبيرة للمتاجر الجليلة، والمدينة في جزيرة تسمى باسم المدينة ميورقا، وأكثر غاباتها زيتون وتين، وكان والدي محسوباً من أهل حاضرة (ميورقا)، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين قرأت عليه الإنجيل حتى حفظت أكثر من شطره في مدة سنتين، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل وعلم المنطق في ست سنين، ثم ارتحلت من بلدي (ميورقا) إلى مدينة لاردا من أرض القصطلان. وهذه المدينة تسمى الآن كستلون، و (قصطلة) مدينة بالأندلس، فهذه المدينة -مدينة القصطلان- مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر، وفي هذه المدينة يجتمع طلبة العلم من النصارى، وينتهون إلى ألف وخمسمائة، ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرءون عليه، فقرأت فيها علم الطبيعيات والفلك مدة تسع سنين، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازماً لذلك مدة أربع سنين، ثم ارتحلت إلى مدينة جلونيا من أرض الأندلس، وهي مدينة كبيرة جداً، وهي مدينة علم عند جميع أهل ذلك القطر، ويجتمع بها كل عام من الآفاق أكثر من ألفي رجل يطلبون العلوم ولا يلبسون إلا الملف، وهو لحاف يلتحف به، ويسمي هذا الملف -كما يقول- صباغ الله. ولعلهم يقصدون بذلك أنهم يلبسون لباساً معيناً يصبغ بصبغة -في زعمهم- مقدسة، كما يفعلون في التعميد، ولو كان طالب العلم منهم سلطاناً أو ابن سلطان فلا يلبس إلا ذلك؛ ليمتاز الطلبة عن غيرهم، ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرءون عليه.

أبو محمد الترجمان في بداية بحثه عن الدين الحق

أبو محمد الترجمان في بداية بحثه عن الدين الحق قال: فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم، وكبير القدر اسمه نقلاو مرتيل، وكانت منزلته فيهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جداً، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم ترد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، ويصحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية -يعني النهاية- في بابه، ويرغبون في التبرك به وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك، فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه. ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني من أخص خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلي مفاتيح مسكنه وخزائن ملكه ومأكله ومشربه، وصير جميع ذلك كله على يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدى إليه، والله أعلم. فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه، والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوماً من الدهر، فتخلف عن حضور مجلس طلابه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعده نبي اسمه (الفارقليط). وهو -أعني أبا محمد الترجمان - هنا ليس مخطئاً عندما قال: (قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى في الإنجيل)؛ لأن هذا قد علمنا قطعاً ما يؤيد صحته، وأنه مما لم تتناوله أيدي التحريف، فكلمة (الفارقليط) الترجمة الحرفية لها بالضبط هي (أحمد) صيغة أفعل التفضيل من (حمد)، ونحن نعلم أن المسيح عليه السلام بشر بالرسول عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فلذلك ما جاوز الصواب في قوله: (قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعده نبي اسمه: (الفارقليط)). وهذه الكلمة -في الحقيقة- تستحق بحثاً مفرداً، لكن باختصار شديد نقول: إن هذه الكلمة أزعجت النصارى جداً، حتى إنهم انتهى الأمر بهم في التراجم المتأخرة في العصور الأخيرة إلى أن يحرفوها تماماً إلى معانٍ أخرى مثل (المعزي) أو (المخلص) أو غير ذلك من هذه العبارات المعروفة عندهم الآن؛ لأنهم يعرفون تماماً أن كلمة الفارقليط يستدل بها المسلمون على أن معناها في اللغة اليونانية القديمة (أحمد) بنفس الحرف الذي في اسمه، فأرهقتهم الكلمة كثيراً، وكما هي عادتهم في التحريف في الطبعات الجديدة نزعوا كلمة (الفارقليط) ووضعوا مكانها لفظاً آخر يزعمون أن معناه (المعزي) أو (المخلص) إلى غير ذلك، ومعروف أن كلمة (الفارقليط) قالها المسيح عليه السلام في اللحظات الأخيرة قبل أن يرفع إلى السماء؛ لأنه قال: (لابد أن أمضي؛ لأني إذا لم أمض لم يأتكم الفارقليط) ووصف الرسول الذي سيأتي بعده بصفات دقيقة لا تنطبق إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحرفت هذه الكلمة إلى لفظ (فيركليتوس)، وقد حصل نقاش بين الأستاذ عبد الوهاب النجار والدكتور: كلرون بينو حول هذه الكلمة، فيحكي الدكتور: عبد الوهاب النجار في كتابه (قصص الأنبياء) فيقول: ثم قلت له وأنا أعلم أنه حاصل على شهادة الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة ما معنى (فير كليتوس)؟! فأجابني بقوله: إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها (المعزي). فقلت: إني أسأل الدكتور: كلرون بينو الحاصل على الدكتوراة في الآداب اليونانية القديمة ولست أسأل قسيساً. يعني: أنا أسألك بصفتك خبيراً باللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل عن رأي القساوسة في ترجمة هذه الكلمة. فقال: إن معناها: الذي له حمد كثير. فقلت: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟! فقال: نعم. فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه أحمد! فقال: يا أخي! أنت تحفظ كثيراً. يعني أنه اكتسب هذا التعليم.

أبو محمد الترجمان يسأل سيده عن معنى الفارقليط فكانت هدايته للحق

أبو محمد الترجمان يسأل سيده عن معنى الفارقليط فكانت هدايته للحق فلما تخلف القسيس بسبب مرضه في ذلك اليوم عن حضور مجلس أقرانه وانتظره الناس، ولم يحضر أقرانه من القساوسة اضطروا إلى أن يتناقشوا في مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام في مناقشة قول الله عز وجل حكاية عن المسيح عليه السلام: (إنه يأتي من بعدي نبي اسمه الفارقليط)، وقد ترجموا هذه الكلمة، ومن المعلوم أن الأعلام لا تترجم، فلو أن شخصاً اسمه سعيد ففي أي لغة يبقى اسمه كما هو، سواءٌ أكانت الكتابة بالعربي، أم بالإنجليزي، أم بالفرنسي، فهم ترجموا كلمة (الفارقليط) إلى معنى آخر غير ما دلت عليه، وفي بداية الأمر ترجموا معناها إلى اللغة اليونانية وجعلوها كلمة (فارقليط) التي تساوي (أحمد)، فهي أفعل تفضيل من صيغة (حمد). فناقشوا هذه المسألة فيما ناقشوه لما تخلف كبيرهم القسيس، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم، وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة ومن غير الاتفاق على معنى معين لهذه الكلمة، ثم لما رجع إلى القسيس الكبير الذي كان مريضاً قال له: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم، فأخبرته باختلاف القوم في اسم (الفارقليط) وأن فلاناً قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا، وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟! فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره للإنجيل. فقال: قصرت وقربت! وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل. فبادرت إلى قدميه أقبلهما، وقلت له: يا سيدي! قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنو علي بمعرفة هذا الاسم، فبكى الشيخ وقال لي: يا ولدي! والله لأنت تعز علي كثيراً من أجل خدمتك لي وانقطاعك إلي، وفي معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين -فوراً سوف يقتلونك- فقلت له: يا سيدي! والله العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك، فقال لي: يا ولدي! إني سألتك في أول قدومك علي عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين، وهل يغزونكم أو تغزونهم، لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام، يعني: حتى أكتشف حساسيتك وعداءك ونفورك من دين الإسلام. فاعلم يا ولدي أن (الفارقليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل، فطبعاً واضح جداً من هذا الكلام أن هذا القسيس يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف أوصافه الموجودة في التوراة والإنجيل. وهذه من الحقائق المعروفة أن علماء أهل الكتاب يعرفون جيداً الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولذلك قال تبارك وتعالى: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، وأشار الإمام الجويني رحمه الله تعالى حينما تكلم على هذه الآية الكريمة إلى قول صاحب الكشاف الذي قال: والمعنى أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قراء الكتاب، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم؛ لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم إلى آخر القول. فالغرض: وصف الأحباب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المهم قال هذا الرجل: اعلم يا ولدي أن (الفار قليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه نزل الكتاب الرابع، المذكور على لسان دانيال عليه السلام. ورؤية دانيال هذه من الرؤى المشهورة جداً، ولها شأن عظيم، الكلام فيها يطول لكن باختصار شديد فيها أوصاف تنطبق في منتهى الدقة على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل، قلت له: يا سيدي! وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟! فقال لي: يا ولدي! لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله عز وجل، ولكنهم بدلوا وكفروا، فقلت له: يا سيدي! وكيف الخلاص من هذا الأمر؟! فقال: يا ولدي! بالدخول في دين الإسلام، فقلت له: وهل ينجو الداخل فيه؟ قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة، فقلت: يا سيدي! إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم، فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟! فقال لي: يا ولدي! إن الله تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي أهل الإسلام إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز، والترف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين فأقول لهم: إني جئتكم مسلماً فيقولون: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي، فأموت بينهم جوعاً، انظر كيف ثقلت همته بسبب هذا التلبيس من الشيطان الرجيم؟! لاشك أن ما قاله وما فكر فيه هو خيال فاسد وسوء ظن بخير أمة أخرجت للناس، وجهل أيضاً بسماحة الإسلام ونظامه الاجتماعي الرائع المبني على التكافل والرحمة والإحسان إلى الخلق. ولو كان كان هؤلاء الخلق باقون على دينهم فيكونون أهل ذمة فلهم من الحقوق ما هو معلوم، فكيف إذا تحول الكافر عن دينه إلى دين الإسلام، هل يظن أن المسلمين يظلمونه أو يحقرونه أو لا يوفونه حقه؟! تأمل ما حكاه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى حينما كتب إلى عدي بن أرطأة بالبصرة قال له: وانظر من عندك من أهل الذمة من قد كبر سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب -يعني: لا يستطيع التكسب- فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوده حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس يتسول فقال: ما أنصفناك إن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك ثم ضيعناك يعني: وهو شاب ثم ضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه. وأقوى رد على هذا الظن الفاسد الذين ظنه هذا القسيس هو ما لقيه الترجمان نفسه حينما أسلم من حفاوة ومن تقدير، ومن تكريم من المسلمين، فهذا من تلبيس إبليس على هذا الرجل حينما قال: إذا خلصت من النصارى من محاولتهم قتلي واستطعت أن أصل إلى المسلمين سيقول لي المسلمون: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة، لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعاً، وأنا والحمد لله على دين عيسى، وعلى ما جاء به يعلم الله ذلك مني. يعني: أن عيسى رسول وليس هو الله. فقلت له: يا سيدي! أفتدلني على أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ فقال لي: إن كنت عاقلاً طالباً للنجاة فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك إذا قتلوك أو حاولوا أن يؤذوك، أنا لا أستطيع أن أدفع عنك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني. يعني: إذا قلت لهم حينئذ إن الذي دلني على هذا هو القسيس فلان فإنك لن ينفعك أن تنقل ذلك عني، فإني أجحده إذا ذكرت ذلك عني وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، طبعاً سيقبل الناس قولي أنا ويرفضون قولك، وأنا بريء من ذلك إن فهت بشيء من هذا.

بداية رحلة محمد الترجمان إلى بلاد المسلمين

بداية رحلة محمد الترجمان إلى بلاد المسلمين فقلت: يا سيدي! أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا. وعاهدته بما يرضيه. ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته، فدعا لي عند الوداع بخير، وزودني خمسين ديناراً ذهباً، وركبت البحر منصرفاً إلى بلدي مدينة ميورقا، فأقمت بها مع والدي ستة أشهر، ثم سافرت منها إلى جزيرة صقلية، وأقمت بها خمسة أشهر وأنا أنتظر مركباً يتوجه لأرض المسلمين، فحضر مركب يسافر إلى تونس، فسافرت فيه من صقلية، وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق، فوردنا مرسى تونس قرب الزوال، فلما نزلت بجوار تونس، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى في تونس -يعني: سمعوا بمقدمه، وأنه حاضر عندهم، وقد كان هو أكبر علماء النصارى في ذلك الوقت- أتوا بمركب وحملوني عليه معهم إلى ديارهم، وصحبت بعض التجار الساكنين -أيضاً- بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش مدة أربعة أشهر.

إعلان أبي محمد الترجمان إسلامه أمام سلطان تونس

إعلان أبي محمد الترجمان إسلامه أمام سلطان تونس ثم بعد ذلك سألتهم: هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى؟ وكان السلطان آنذاك مولانا أبو العباس أحمد رحمه الله، فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلاً فاضلاً من أكبر خدامه اسمه يوسف، وكان طبيبه ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب، فدخلت عليه واجتمعت به، وذكرت له شرح حالي وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فسر الرجل بذلك سروراً عظيماً بأن يكون تمام هذا الخير على يديه. ثم ركب فرسه وحملني معه إلى دار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي واستأذنه لي، فأذن له، فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمري، فقلت له: خمسة وثلاثون عاماً. ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته، فقال لي: قدمت قدوم خير، فأسلم على بركة الله. فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور-: قل لمولانا السلطان: إنه لا يخرج أحد من دينه إلا ويكثر أهله القول فيه، يعني: أهل الدين الذي كان عليه سيطعنون فيه ويشنعون عليه. يقول: فقلت للترجمان: قل لمولانا السلطان: إنه لا يخرج أحد من دينه إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم وتسألوهم عني، وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسلم إن شاء الله تعالى. فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب عبد الله بن سلام رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم. فقصة إسلام الترجمان تتشابه مع إسلام الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، فكون يهودي يسلم شيء نادر؛ إذ قليل من اليهود الذين أسلموا في عصور كثيرة، فاليهود من أقسى خلق الله قلوباً، والعياذ بالله! فكون يهودي يسلم علامة اصطفاء من الله سبحانه وتعالى، فـ عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه من بني إسرائيل، ومن ولد يوسف بن يعقوب نبي الله عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولما جاء قالوا: جاء نبي الله، فاستشرفوا ينظرون إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يختلس منها بعض البلح، فعجل أن يضع التي يختلس لهم فيها. يعني: حين سمع أن الرسول عليه السلام أقبل إلى المدينة وهو يجمع البلح لأهله في طبق ليأكلوا منه ما شعر بنفسه، وانصرف إلى الرسول عليه السلام فوراً وهو يحمل هذا الطبق من شدة اهتمامه برؤية الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يجد وقتاً لأن يوصل الطبق إلى أهله أو يضعه في مكان معين، لكن انصرف بسرعة وهو يحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله. قال: فلما خلا نبي الله جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك جئت بحق، ولقد علمت اليهود أني سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فأسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت؛ فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر اليهود! ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً، وأني جئتكم بحق، أسلموا. قالوا: ما نعلمه) أي: هذا الكلام الذي تقوله ما نعلمه (فأعادها عليهم ثلاثاً وهم يجيبونه كذلك، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا! قال: أفرأيتم إن أسلم؟! قالوا: حاشا لله، ما كان ليسلم! فقال: يا ابن سلام! اخرج عليهم. فخرج إليهم فقال: يا معشر اليهود! ويلكم! اتقوا الله، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقاً، وأنه جاء بالحق. فقالوا: كذبت! فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم). فلأجل هذا قال له السلطان: أنت طلبت ما طلب عبد الله بن سلام من النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم. ثم قال: أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم، وأدخلني في بيت قريب من مجلسه، فلما دخل النصارى عليه، قال لهم: ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ قالوا له: يا مولانا! هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا: إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا. فقال لهم: وما تقولون فيه إذا أسلم؟! قالوا: نعوذ بالله من ذلك! ما يفعل ذلك أبداً. فلما سمع ما عند النصارى بعث إلي فحضرت بين يديه وشهدت شهادة الحق بمحضر النصارى، فصلبوا على وجوههم. وهذا معروف -والعياذ بالله- عند النصارى، فإنهم إذا أرادوا التعوذ من شيء رفعوا أصابعهم مضمومة على جباههم ثم أشاروا بعلامة في الصليب مروراً بالكتف الأيمن فالأيسر فالوسط. وقد تتعدى هذه الإشارة من التعوذ إلى التبرك؛ حيث إن من يسمى (البابا) يطلب ذلك، ويطنون أنه بذلك يلقي عليهم البركات بإشارة التصليب والعياذ بالله! فالمهم أنهم لما سمعوا ذلك صلبوا على وجوههم، وقالوا: ما حمله على هذا إلا حب التزويج؛ فإن القسيس عندنا لا يتزوج. وخرجوا مكروبين محزونين. وتحريم الزواج هو في الكنيسة الكاثوليكية؛ لأن الكاثوليكية حرمت على القسس والرهبان والراهبات الزواج، وهذا أدى إلى الفساد الشديد في أوساط هؤلاء القوم، حتى إنهم كانوا يأتون الفواحش ويقولون: هذا نوع من المساكنة الروحية. وكان هذا أحد أسباب قيام مرتن لوثر بثورته على الكنيسة في القرن السادس عشر، وكان ضمن آرائه فيما يسمى بالإصلاح الكنسي أن جزءاً من فساد الدين يرجع إلى عدم الزواج، ورأى أن المنع منه لم يكن في النصرانية في عصورها الأولى، فقرر حقهم في الزواج، وتزوج هو فعلاً من راهبة مع أنه من رجال الدين. المهم أنهم قالوا: ما حمله على أن يدخل في الإسلام إلا أنه يريد أن يتزوج، والقسس عندنا لا يتزوجون. وخرجوا مكروبين محزونين. قال: فرتب لي السلطان -رحمه الله- ربع دينار في كل يوم في دار مختص، وزوجني ابنة الحاج محمد الصفار، فلما عزمت على البناء بها أعطاني مائة دينار ذهباً، وكسوة جيدة كاملة، فبنيت بها وولد لي منها ولد سميته محمداً على وجه التبرك باسم نبينا صلى الله عليه وسلم.

خدمة أبي محمد الترجمان للإسلام في بيان بطلان دين النصرانية

خدمة أبي محمد الترجمان للإسلام في بيان بطلان دين النصرانية ثم شرع الشيخ الترجمان في ذكر طرف من أخبار الدولة الحفصية التي خدم في ديوانها، ثم أردفها بأبواب تسعة في الكتاب تكلم فيها عن كتب الأناجيل الأربعة متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا، وأكد فيها أنهم ليسوا من حواري المسيح عليه السلام بأدلة علمية دقيقة، ثم ناقش قضايا التعميد الذي هو التغطيس، والأقانيم، والخطيئة الأولى، والعشاء الرباني، وصك الغفران، وقانون الإيمان، وفندها كلها بنصوص الأناجيل وبأدلة العقل والمنطق. ثم أثبت بشرية المسيح عليه السلام، ونفى إلاهيته المزعومة، ثم عرض التناقضات في نصوص الأناجيل المحرفة، ثم تعرض لما يعيبه النصارى على المسلمين، كزواج العلماء والصالحين، والختان، والنعيم الحسي في الجنة، ثم ختم كتابه بإثبات نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان فضله ومنزلته بنصوص من التوراة والإنجيل. فهذا باختصار مرور عابر على سيرة هذا الشيخ، وجهاده بقلمه ولسانه في سبيل الله عز وجل، أما جهاده بيده فقد اشترك رحمه الله تعالى في جهاد بني جلدته من الكافرين في حملة الصور الحفصي على جزيرة صقلية سنة ست وتسعين من الهجرة، فقد كان يتولى منصب القائد البحري، حتى إنه روي أنه استشهد أثناء الغارة الصليبية على تونس، فإن صحت هذه الرواية فهذا شرف عظيم يضاف إلى سجله الناصع في خدمة دين الحق والجهاد في سبيله، ولا شك في أن سيرة الشيخ الترجمان منار ينير الدرب للتائهين في لجج الظلام ودياجير الجهل، ويحرر عقولهم من أسر التقليد الأعمى لمن لا يملكون لهم رزقاً ولا أجلاً. فرحم الله الشيخ الترجمان وأعلى درجته في المهديين.

علو همة القسيس رحمة برلومو في البحث عن الحق

علو همة القسيس رحمة برلومو في البحث عن الحق وننطلق الآن إلى العصور المتأخرة من هذا الزمان لنتعرض لنموذج من نماذج علو الهمة في البحث عن الدين الحق، وصاحب هذه القصة هو الأخ: رحمة برلومو، وهو رجل ينتسب إلى أب هولندي وأم أندونيسية من مدينة أنبول الواقعة في جزيرة صغيرة في أقصى الشرق من جزر إندونيسيا، والنصرانية هي الدين الموروث لأسرته أباً عن جد، كان جده قسيساً ينتمي إلى مذهب البروتستانت، وكان أبوه أيضاً قسيساً، وكانت والدته معلمة الإنجيل للنساء، أما هو نفسه فقد كان قساً ورئيساً للتبشير في كنيسة بيجن إنجلتلوا.

شدة عداوة النصارى لمحمد ودينه

شدة عداوة النصارى لمحمد ودينه قال وهو يحكي سبب إسلامه: لم يخطر ببالي ولو للحظة واحدة أن أكون من المسلمين؛ إذ إنني منذ نعومة أظفاري تلقيت التعليم من والدي الذي كان يقول لي دائماً: إن محمداً رجل بدوي صحراوي، ليس له علم ولا دراية، ولا يقرأ، وإنه أمي. وهذا من جهلهم الفاحش وعدوانهم؛ لأن الكتابة لا تتعين سبيلاً لتحصيل العلم، فهناك سبل أخرى خاصة، كالوحي من الله سبحانه وتعالى، فهذا أعظم منبع يستقى منه العلم. يقول: هكذا علمني أبي، بل أكثر من ذلك، فقد قرأت للبروفيسور الدكتور: ريكونجي النصراني الفرنسي قوله في كتاب له -وهي عبارة شنيعة جداً -والعياذ بالله- من كذب وافتراء هؤلاء المجرمين وعدوانهم على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- يزعم فيه أن محمداً رجل كذاب والعياذ بالله! يعني: ينسبونه إلى الكذب حاشاه عليه الصلاة والسلام، ويزعم هذا الكافر أنه يسكن في الدرك السابع من النار، فلعنة الله على قائل ذلك. هكذا كانت تساق المفتريات الكثيرة لتشويه شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك في أن التضليل الإعلامي اليهودي خاصة على مستوى العالم يعتبر سبباً كبيراً جداً في صد الناس عن دين الإسلام، وإلا فهناك ملايين من البشر -والله تعالى أعلم- لو أزيلت عنهم الحجب والحواجز والتشويه والتشنيع على الإسلام ووصلت إليهم الصورة الحقيقية لأسلم منهم عدد هائل، لكن الحقائق مغيبة ومزيفة في نظرهم بفعل اليهود -لعنهم الله- وإخوانهم من النصارى، وهذا ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عن الميت: (إذا وضع في قبره أنه يسأل عن ثلاثة أمور: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟). أما المؤمن فيشهد شهادة الحق، وأما الكافر فعندما يقال له: وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فلا يهتدي لاسمه، ولا يدري من هو هذا الرجل، فيقال له: محمد. يذكر باسم محمد عليه الصلاة والسلام، فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. فهذا غاية ما عند هؤلاء الكفار، أي: أنهم يرددون ما يقوله الآخرون دون تمحيص ودون تحرٍ أو تحقق وتثبت من صدق هذا الكلام، وهو متعلق بأخطر قضية في الوجود، وهي علاقة المرء بربه سبحانه وتعالى ودينه الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فنحن -بلا شك- نقطع ونجزم بأن كل إنسان بلغته دعوة الإسلام، وسمع عن الإسلام أو عن القرآن أو عن محمد عليه الصلاة والسلام ثم لم يسلم فلن يدخل الجنة، فمن بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام سدت كل الطرق المؤدية إلى الجنة، وبقي طريق واحد فقط يدخل الناس منه الجنة هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يتصور أبداً أن أي كافر من أي دين سمع عن الإسلام أو عن الرسول والقرآن ثم لم يسلم أن تكون له نجاة، والعجب كل العجب مما يفعله السفهاء والزنادقة من قولهم: إسحاق رابين رحمه الله! وإسحاق رابين صانع السلام. فماذا حصل في عقول الناس؟! بل إنه لما قتل كان الملك حسين يتمنى موتة مثل موتته، فقد قال: أتمنى أن أموت بنفس الميتة، وربنا كريم! والله إن الإنسان ليعجب من هذه الرقة والعذوبة واللين والحب والبكاء، إن زوجة الملك حسين بقيت قرابة أربع ساعات تبكي بكاء متصلاً، وقيل: بل شهرين أو ثلاثة! فهل العلاقات الودية وصلت إلى هذا الحد! وهذا الخبيث الهالك لما عقد معاهدة السلام مع الأردن قال الملك حسين: أما آن اليوم لعلاقاتنا أن تصبح علانية؟! فالشاهد أن هؤلاء رضوا بأن ينحازوا إلى معسكر أعداء الله وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نجزم ونقطع قطعاً كما أننا نقطع بأن الشمس -إن شاء الله- ستشرق من المشرق غداً أن هذا الرجل مات على الكفر، فهو هالك، ونسأل الله إن كان كذلك أن يملأ قبره عليه ناراً، وأن يلحق به كل من يحبونه ويعتبرونه صانعاً للسلام، فهذه في الحقيقة كانت جنازاتهم وليست جنازته هو، فالإنسان يعجب مما يحصل في هذه العقول من الافتتان بهذه الصورة! والرجل هو الذي كان يقول: إن إسرائيل عليها أن تستعد لحرب ضد مصر أو ضد العرب. وأيام ذلك حصلت أزمة كبيرة معروفة. فما زالوا حتى الآن يسنون لنا السكين، ونحن نقول عن إسحاق رابين: إنه صانع السلام. ويده هي التي تلوثت بقتل فتحي الشقاقي في جزيرة مالطا، فأخذه الله سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر، وبيد خبيث من خبثائهم أيضاً، والشخص الذي قتله تجد الكلام عليه في منتهى الاحترام، فإنه لم يوصف هذا اليهودي القاتل -على زعمهم- بأنه إرهابي متطرف، فما هو السر؟ إن السر هو أنه متدين، وقد قال: أنا فعلت ذلك عن عقيدة، فهذا رجل خان إسرائيل، وفرط في أرض إسرائيل. ومع ذلك ما جرؤ أحد أبداً أن يقول عنه: إنه إرهابي. لم يشتم بالشتائم، ولو أن مسلماً فل أهون من ذلك بكثير لرموه بالإرهاب والتطرف، أن كل يهودي متطرف، وكل نصراني متطرف، وكل من حاد عن الإسلام وعن منهج أهل السنة هو المتطرف في الحقيقة، لكن المسألة عبارة عن أدوار تتوزع بينهم، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه يسلط بعض الظالمين على بعض، ويخرج المؤمنين الموحدين من بينهم سالمين، فلاشك في أن هذه من آيات الله سبحانه وتعالى. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يلحق بـ إسحاق رابين كل من يترحم عليه، وكل من يحبه، والمرء يحشر مع من أحب. وكلنتون يمدحه بالزهد في الدنيا، وأنه كان رجلاً زاهداً مكث طول عمره لا يعرف ربطة العنق (الكرفته). ومن الغرائب العجيبة أن هذا الخبيث الهالك قبل موته بفترة قليلة أصدر أمراً بمنع ياسر عرفات من دخول القدس، فلذلك منع من حضور الجنازة، وإلا فقد كان أول الناس الذين سيقومون بما يرونه واجباً بالنسبة لهم، لكن هذا الخبيث الهالك كان قد أصدر أمراً بمنع عرفات من دخول مدينة القدس، فقد كان في بيئة شديدة التعصب لهذه الملة المحرفة. فالمهم: أن رحمة برلومو كان قسيساً، بل رئيساً للتبشير في كنيسة بيجن إنجلتلوا، قال وهو يحكي سبب إسلامه: لم يخطر ببالي ولو للحظة واحدة أن أكون من المسلمين. ويقول: وهكذا كانت تساق المفتريات الكثيرة لتشويه شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنذ ذلك الحين تولدت لدي فكرة مغلوطة راسخة تدفعني إلى رفض الإسلام وعدم اتخاذه ديناً لي. ثم يقول: والواقع أنه لم يكن من أهدافي بحال من الأحوال أن أبحث عن دين الإسلام، ولكني قررت بأن أهتدي إلى الحق، ولكن لما كنت أبحث عن الحق المجهول كنت أتساءل: لماذا كنت أبحث عن الحق المجهول؟! ولماذا تركت ديني رغم أنني كنت أتمتع فيه بمكانة مرموقة بين قومي؟! حيث كنت رئيس التبشير المسيحي في الكنيسة، وكنت أحيا حياة كلها رفاهية ويسر، إذاً: لماذا اخترت الإسلام؟!

مدرس تحفيظ يشكك القسيس رحمة برلومو في عقيدته

مدرس تحفيظ يشكك القسيس رحمة برلومو في عقيدته يقول: في يوم من الأيام أرسلتني قيادة الكنيسة للقيام بأعمال تبشيرية لمدة ثلاثة أيام ولياليها في منطقة دايدي التي تبعد عن العاصمة الواقعة في شمال جزيرة سومطرة بضع مئات من الكيلومترات، يقول: ولما انتهيت من أعمال التبشير والدعوة، وآويت إلى دار مسئول الكنسية في تلك المنطقة، وكنت في انتظار وصول سيارة تقلني إلى موقع عملي، وإذا برجل يطلع علينا فجأة، لقد كان معلماً للقرآن، وهو ما يسمى في إندونيسيا مطوِّع في الكُتّاب، وهو بهذه الهيئة المتواضعة، لقد كان الرجل ملفتاً للأنظار، كان نحيف الجسم، دقيق العود، يرتدي كوفية بيضاء بالية خَلِقة، ولباساً قد تبدل لونه من كثرة الاستعمال، حتى إن نعله كان مربوطاً بأسلاك ليصد قدمه، اقترب الرجل مني، وبعد أن بدأني بالتحية بادرني بالسؤال التالي، وكان سؤالاً غريباً من نوعه، قال: لقد ذكرت في حديثك أن عيسى المسيح إله، فأين دليلك على إلاهيته؟! فقلت له: سواء أكان هناك دليل أم لا فالأمر لا يهمك، إن شئت فلتؤمن وإن شئت فلتكفر. وهنا أدار الرجل ظهره لي وانصرف. يقول: ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد أخذت أفكر في قرارة نفسي وأقول: هيهات هيهات أن يدخل هذا الرجل الجنة؛ لأنها مخصصة فقط لمن يؤمن بإلاهية المسيح فحسب، هكذا كنت أعتقد جازماً آنذاك! ولكن عندما عدت إلى بيتي وجدت أن سؤال الرجل يزلزل فروعي، ويدق بقوة في أسماعي، مما دفعني إلى الرجوع إلى كتب الإنجيل بحثاً عن الجواب الصحيح على سؤاله، ومعلوم أن هناك أربعة أناجيل مختلفة: أحدها: متى، والثاني: مرقس، والثالث: لوقا، والرابع: إنجيل يوحنا، وهذه أسماء من ألف كل إنجيل منها، أي أن الأناجيل الأربعة المشهورة هي من صنع البشر، وهذا غريب جداً! ثم سألت نفسي: هل هناك قرآن بنسخ مختلفة من صنع البشر؟! وجاءني الجواب الذي لا مفر منه: لا يوجد. فهذه الكتب وبعض الرسائل الأخرى هي فقط مصدر تعليم الديانة المسيحية المعتمدة. وأخذت أدرس الأناجيل الأربعة، فماذا وجدت؟! هذا إنجيل متى نقرأ فيه ما يلي: إن عيسى المسيح ينتسب إلى إبراهيم وإلى داود إلى آخره. إذاً: من هو عيسى؟! أليس من بني البشر؟ نعم. إذاً: فهو إنسان. وهذا إنجيل لوقا يقول: ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية. وهذا إنجيل مرقس يقول: هذه سلسلة من نسب عيسى المسيح إلى آخر الكلام البشع الذي يزعمون فيه أنه ابن الله. وأخيراً: ماذا يقول إنجيل يوحنا عن عيسى المسيح عليه السلام؟! إنه يقول: في البدء كان الكلمة عند الله، وكانت كلمة الله. ومعنى هذا النص أنه في البدء كان المسيح عند الله، والمسيح هو الله. فقلت لنفسي: إذاً: هناك خلاف بين هذه الكتب الأربعة حول ذات المسيح عليه السلام، أهو إنسان، أم ابن الله، أم ملك، أم هو الله؟ لقد أشكل علي ذلك، ولم أعثر له على جواب، وهنا أحب أن أسأل إخواني النصارى: هل يوجد في القرآن الكريم تناقض بين آية وأخرى؟! لا، لماذا؟! لأن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، أما هذه الأناجيل فهي من تأليف البشر، إنكم تعرفون -ولاشك- أن عيسى عليه السلام كان طيلة حياته يقوم بأعمال الدعوة إلى الله هنا وهناك، ولنا أن نتساءل: ترى ما هو المبدأ الأساسي الذي كان يدعو إليه المسيح عليه السلام؟ هذا إنجيل مرقس يقول: فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه -يعني المسيح- أجابهم حسناً سأله: أية وصية هي الأولى؟ أي أن هذا الرجل سأل المسيح: ما هي أهم وصية؟ فأجابه اليسوع قائلاً: إن أولى الوصايا هي: (اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، فهذا اعتراف صريح من عيسى عليه السلام. إذاً: لو كان عيسى قد اعترف أن الله هو الإله الواحد الأحد فمن هو عيسى إذاً؟ ولو كان عيسى هو الله أيضاً فلن تكون هناك وحدانية لله، أليس كذلك؟! ثم واصلت البحث فوجدت في إنجيل يوحنا نصوصاً تشير إلى دعاء المسيح عليه السلام وتضرعه إلى الله سبحانه وتعالى، فقلت لنفسي: لو كان عيسى هو الله فهل يحتاج إلى هذا التضرع والدعاء؟! إذاً: عيسى ليس إلهاً، بل هو مخلوق، استمع معي إلى الدعاء الذي ورد في إنجيل يوحنا، وهذا هو نص الدعاء، يقول المسيح في نهايته: (أيها الرب البار! إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم ليكون فيه الحب الذي أحببتني به). هذا الدعاء يمثل اعترافاً من عيسى عليه السلام بأن الله هو الواحد الأحد، وأن عيسى هو رسول الله المبعوث إلى قوم معينين، وليس إلى جميع الناس، وأن هذه الحقيقة ظاهرة مثل الشمس أن المسيح نفسه لم يدع غير بني إسرائيل، حتى منع الحواريين من أن يبلغوا غير بني إسرائيل رسالته، فمن زعم بأن النصرانية دين عالمي تكذبه التوراة، ويكذبه الإنجيل نفسه؛ لأن عيسى نفسه قال: (لم أبعث إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة). وكما قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل} [آل عمران:49]، فالمسيح ما دعا إلى عالمية دعوته؛ لأنه لا توجد رسالة عالمية إلا الإسلام، فهذه من خصائص رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة. فموضوع التبشير أصله الخروج عن حقيقة النصرانية؛ لأنها دين لقوم معينين، وهم بنو إسرائيل. يقول: إن عيسى هو رسول الله المبعوث إلى قوم معينين، وليس إلى جميع الناس، فأي قوم هم هؤلاء يا ترى؟! نقرأ جواب ذلك في إنجيل متى حيث يقول: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) إذاً: لو ضممنا هذه الاعترافات إلى بعضها لأمكننا أن نقول: إن الله هو الواحد الأحد، وأن عيسى عليه السلام هو رسول الله إلى بني إسرائيل. يقول: ثم واصلت البحث. وانظر إلى كل هذا الحوار بينه وبين نفسه نتيجة سؤال واحد سأله رجل احتقره وازدراه، وقال: هذا لا يمكن أن يدخل الجنة بسبب هيئته ومنظره، ولكونه مسلماً. لكن لما عاد إلى البيت وتفكر في الكلمة أحس أن الإنسان حينما يدعو الناس إلى الهداية لا يملك شيئاً، فاستحضر أنك أنت لا تملك شيئاً، فالقلب لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، عليك أن تضع البذرة في التربة بكلمة، أو بنصيحة، أو بموقف، أو بمجرد أن تصلي أمام الكافر. فلا تجهل أبداً في أن تضع البذرة في أماكن النماء، قال تعالى {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64]، الله هو الذي يزرع شجرة الإيمان في القلب، لكن في البداية لابد من أن يكون هناك بذرة توضع في القلب، ثم إذا كانت أرض هذا القلب تربة صالحة وطويلة فإنها تثمر وتنمو وتترعرع إلى أن تنبت فيها شجرة الإيمان. أما إذا كانت أرضاً غير صالحة فقد قامت حجة الله على هذا الكافر، وقلبه حينئذ كأرض لا تنبت ولا تمسك الماء ولا تنبت فيها هذه البذرة، فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى. يقول: ثم واصلت البحث فتذكرت أنني حين أكون في صلاتي أقرأ دائماً العبارات الآتية التالية: الله الأب! الله الابن! الله روح القدس! ثلاثة في شخص واحد، قلت لنفسي: أمر غريب حقاً، فلو سألنا طالباً في الصف الأول الابتدائي: هل واحد مع واحد مع واحد يساوي ثلاثة لقال: نعم. ثم إذا قلنا له: ولكن هل الثلاثة تساوي الواحد لما وافق على ذلك، إذ إن هناك تناقضاً صريحاً فيما نقول؛ لأن عيسى عليه السلام يقول في الإنجيل: إن الله واحد لا شريك له. ولذلك فالنصارى دائماً يحاولون أن يلبسوا على الناس، ويتكلمون باعتبار أنهم من أهل الديانات التوحيدية، ويقولون: نحن وسائر الديانات التوحيدية. فهم يعرفون أن هذه عورة، بل أقبح عورة في ديانتهم تدل على أنهم -في الحقيقة- مدلسون مشركون، ثم يتظاهر أحدهم بأنه موحد، وإذا حاولت أن تناقش أحدهم وتسأله: كيف يتم الجمع بين هذا التناقض فإنه يهرب من هذه الحقيقة دائماً، كما حصل مع هذا الرجل أيضاً، وهذا فيه إشارة إلى أن الديانات الإبراهيمية بريئة من هؤلاء وهؤلاء، وإبراهيم كان حنيفاً مسلماً ولم يك من المشركين، وكذلك المسيح بريء منهم، وكذلك موسى بريء منهم، فلا اليهودية ديانة توحيدية، ولا النصرانية ديانة توحيدية، صحيح أن اليهود يدعون إلى عبادة رب واحد، لكنهم يصفون هذا الإله بأوصاف تجعلهم كافرين به وغير موحدين، ثم أنهم كفروا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وكفروا بعيسى، فهم لذلك -أيضاً- كفار، وكذلك الأمر بالنسبة للنصارى. يقول: لقد حدث تناقض صريح بين العقيدة التي كانت راسخة في نفسي منذ أن كنت طفلاً صغيراً -وهي: ثلاثة في واحد- وبين ما يعترف به المسيح عيسى بنفسه في كتب الإنجيل الموجودة أن الله واحد أحد لا شريك له، فأيهم هو الحق؟! لم يكن بوسعي أن أقرر آنذاك، والحق يقال بأن الله واحد أحد، فأخذت أبحث في الإنجيل مرة أخرى لعلي أقع على ما أريد، فوجدت فيه النص التالي: (اذكروا الأوليات منذ القديم؛ لأني أنا الله الإله، وليس آخر، وليس مثلي). ولقد كانت دهشتي عظيمة حين اعتنقت الإسلام فوجدت في سورة الإخلاص قول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. نعم، ما دام أن الكلام كلام الله فهو لا يختلف حيثما وجد، فهذا هو التعليم الأول أو البدهية الأولى في ديانة المسيحية السابقة، فعقيدة أن الثلاثة في واحد لم يعد لها وجود في نفسي.

القضية الهامة التي حولت القسيس من النصرانية إلى الإسلام

القضية الهامة التي حولت القسيس من النصرانية إلى الإسلام ثم ينتقل الأخ رحمة برلومو الأندونيسي إلى نقطة جوهرية أخرى جعلته يختار الإسلام ديناً، فهو يقول: أما البدهية الثانية في الديانة المسيحية فتقول بأن هناك ما يسمى بالخطيئة الأولى التي هي الخطيئة الأصلية، وهذه من أعمدة الديانة النصرانية، ويقصد بهذا أن الذنب الذي اقترفه آدم عليه السلام عندما أكل الثمرة المحرمة عليه من الشجرة في الجنة، فهذا الذنب سوف يرثه جميع بني البشر حتى الجنين في رحم أمه، فيتحمل هذا الإثم ويولد آثماً، فهذه هي الخطيئة الأصلية، وهي من أساسيات العقيدة النصرانية. فالخطيئة الأصلية هي التي ارتكبها آدم حينما عصى الله سبحانه وتعالى في الجنة، يقولون: إن الله سبحانه وتعالى طرده من الجنة، وإن هذه الشجرة كانت شجرة المعرفة. فيقولون: إن الله كان يخشى أن آدم لو أكل منها ستصبح عنده بصيرة، فلما أكل منها وأصبحت عنده بصيرة غضب الله عليه. لأن هذا المفهوم الذي عندهم من التناقض بين العلم والدين انعكس في هذا الافتراء الذي افتروه فقالوا: إن الله كان حريصاً على أن لا يكون عند آدم علم أو معرفة، ولذلك حرم عليه هذه الشجرة، والعياذ بالله، فهذا كله من كذبهم! ومن ثم حصلت المعاداة بينهم وبين العلم والدين، أما نحن فعندنا أن أول كلمة نزلت في القرآن الكريم قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ورفع شأن العلم والدليل والحجة والبرهان في الإسلام أمر غني عن التعريف. فهم يعتقدون أن كل بني آدم صاروا ملوثين بهذه الخطيئة، فكل من يولد يولد ملوثاً بالخطيئة الأصلية! أما نحن فنؤمن قطعاً بأن الله سبحانه وتعالى قد تاب على آدم عليه السلام لما تاب وأناب إلى الله، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] ثم تم اهباطه إلى الأرض، وهذه المصيبة كتبت على بني البشر، فهي قدر قدره الله سبحانه وتعالى، أي: قدر أن يهبط إلى الأرض لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، فأما آدم فحينما أهبط إلى الأرض كان قد تاب الله عليه. فهكذا كانت كل الأجيال السابقة للمسيح -بزعمهم- ملوثة بخطيئة آدم، فيجعلون الحقد والأيام السوداء يوم خروج الجنين من بطن أمه؛ لأنه خرج ملوثاً، ونحن -ولله الحمد- في الإسلام حينما نريد ضرب المثل بالنقاء والطهارة من الآثام نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فكلمة (كيوم ولدته أمه) تعني: أنه صفحة بيضاء لا خطيئة عليها ولا ذنب، بل على الفطرة التي هي فطرة الإسلام. وعندهم أن من أشد الأيام سواداً أول حياة المولود؛ لأنه ولد من أول يوم وهو ملوث بخطيئة لم يرتكبها ولا عنده خبر بها. فالشاهد أنهم يزعمون أنه لا توجد طريقة أبداً لمحو هذا الأمر عن البشرية إلا بأن ينزل ابن الله في زعمهم ويتجسد ويصلب كي يفدي البشرية! وقبل هذا الأمر أين كانت البشرية؟! كان يوجد أنبياء، كآدم عليه السلام، ونوح، وصالح، وهود، وكل هؤلاء الأنبياء -حتى موسى عليه السلام وأنبياء بني إسرائيل قبل المسيح عليه السلام- وكل المؤمنين وعامة البشر قبل المسيح -والعياذ بالله- كانوا محبوسين في سجن جهنم بسبب خطيئة آدم، وما خرجوا إلا بعملية الفداء هذه! أما بالنسبة لموضوع التعميد والتغطيس فهذا -أيضاً- من أصول دينهم، وهذا هو التناقض، فإذا كانوا يزعمون أن المسيح -والعياذ بالله- بصلبه المزعوم طهر البشرية من الخطيئة الأصلية فلماذا يقولون: إن كل مولود يولد ملوثاً بالخطيئة الأصلية، فلذلك يحتاج إلى التعميد والتغطيس من أجل أن يزول عنه أثر هذه الخطيئة؟! ما فالمفروض أن تكون البشرية كلها قد تطهرت، وهذا من التناقض أيضاً، فإذا كان كل طفل محتاجاً إلى أن يغسل من الخطيئة بهذا التعميد وهذا التغطيس، وهذا الذنب سوف يرثه جميع بني البشر حتى الجنين في رحم أمه يتحمل هذا الإثم ويولد آثماً، فهل هذا صحيح أم لا؟! لقد أخذت أبحث عن حقيقة ذلك، فلجأت إلى العهد القديم الذي هو التوراة. والعهد القديم لا توجد فيه أدنى إشارة إلى التثليث، فكيف بحقيقة الإله -في زعمكم- يخلو منها كتابكم المقدس أو الجزء الأول من الكتاب المقدس الذي هو العهد القديم أو التوراة؟! كيف تكون هذه الأمور مخفية؟! فالرسل بهذا كانت تأتي لتضل الناس وتكتم عنهم الحقائق! فهذا يدل على أن هذه عقيدة مخترعة وعقيدة طارئة من تحريفاتهم كما هو معلوم. يقول: فلجأت إلى العهد القديم فوجدت في حزقيل ما يلي: (الابن لا يحمل من اسم الأب، والأب لا يحمل من اسم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون، فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحصل كل فرائضي، وفعل حقاً وعدلاً فحياة يحيا لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه). وهذا موجود في القرآن بصورة واضحة، قال تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:38 - 41]. ولعل من المناسب هنا أن نذكر ما يقوله القرآن الكريم في هذا المقام: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يولد ابن آدم على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فهذه هي القاعدة في الإسلام، ويوافقها ما جاء في الإنجيل، فكيف يقال: إن خطيئة آدم تنتقل من جيل إلى جيل وأن الإنسان يولد آثماً؟! يقول الأخ رحمة برلومو الأندونيسي: إذاً: هذه التعاليم المسيحية قد اتضح بطلانها وافتراؤها بنص صحيح من الكتاب الموصوف بالمقدس نفسه. وهناك البدهية الثالثة في التعاليم النصرانية التي تقول: إن ذنوب بني البشر لا تغفر حتى يصلب عيسى عليه السلام، ولقد أخذت أفكر في هذه البدهية وأتساءل: هل هذا صحيح؟! وكان الجواب الذي لا مفر منه: لا؛ لأن النص الآنف الذكر من العهد القديم ينفي مثل هذا الاعتقاد بقوله: (فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحصل كل فرائضه، وفعل حقاً وعدلاً فحياة يحيا لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه). أي أن الله يغفر ذنوبه دون حاجة إلى أية وساطة من أحد، ويمضي الأخ الأندونيسي الذي كان قساً في يوم من الأيام ضمن رحلته الطويلة من الكفر إلى الإسلام فيقول: لقد واصلت البحث في عدد من القضايا الاعتقادية الأخرى، لقد وضعت يوماً من الأيام كلاً من الإنجيل والقرآن أمامي على المنضدة، ووجهت السؤال التالي إلى الإنجيل، قلت له: يا إنجيل! ماذا تعرف عن محمد عليه الصلاة والسلام؟! فقال: لا شيء؛ لأن اسم محمد غير مذكور في الإنجيل. ثم وجهت السؤال التالي إلى عيسى كما تحدث عنه القرآن، فقلت: يا عيسى بن مريم! ماذا تعرف عن محمد عليه الصلاة والسلام؟ فقال: لقد ذكر القرآن بما لا يدع مجالاً للشك أن رسولاً لا بد من أن يأتي من بعدي اسمه أحمد، يقول تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6] فأي ذلك حق يا ترى؟! ثم يقول: هناك إنجيل واحد هو إنجيل برنابا، وهو غير الأناجيل الأربعة التي ذكرناها من قبل، وهذا الإنجيل -للأسف- حرم رجال الدين النصارى على أتباعهم الاطلاع عليه، أتدري لماذا؟! الأرجح هو أن هذا الإنجيل هو الوحيد الذي يتضمن البشرى بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتحل فيه الإضافات والتحريفات حداً أدنى، كما أن فيه حقائق تطابق ما جاء في القرآن الكريم، فقد جاء إنجيل برنابا: (وقتئذٍ يسأل فيه التلاميذ المسيح: يا معلم! من يأتي بعدك؟ فقال المسيح بكل سرور وفرح: محمد رسول الله، سوف يأتي من بعدي كالسحاب يظل المؤمنين جميعاً). يقول الأخ رحمة برلومو: ثم قرأت جملة أخرى في إنجيل برنابا، وهي قوله: (وقتئذٍ يسأل التلميذ المسيح: يا معلم! حين يأتي محمد ما هي علامته حتى نعرفه؟ فقال المسيح: محمد لا يأتي في عقدنا هذا، وإنما يأتي بعد مئات السنين حين يحرف الإنجيل، والمؤمنون حينئذ لا يبلغ عددهم ثلاثين نفراً، فحينئذٍ يرسل الله سبحانه وتعالى خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم). لقد تردد ذكر ذلك في إنجيل برنابا عدة مرات، أحصيتها فوجدت أن فيه خمسة وأربعين جملة تذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد اكتفيت بالجملتين السابقتين على سبيل الاستشهاد. ثم قال الأخ رحمة برلومو: ومن التعاليم البدهية في الديانة المسيحية أن عيسى عليه السلام هو المنقذ المخلص للعالم، أي أنك إذا آمنت بإلهية عيسى سوف تنجو، وهذا يعني أنه يمكنك أن تفعل ما تشاء غير العمل بالذنوب والمعاصي، ما دمت تؤمن بعيسى كمنقذ لك، شريطة أن تكون على يقين بأنك من التابعين، فقلت لنفسي: لا بد من أن أبحث في الإنجيل وأعرف الحق من الباطل في ذلك، في أعمال الرسل رسالة بولس الأولى إلى أهل بولنتس يقول: (الله قد أقام الرب، وسيقيمنا نحن أيضاً بقوته). ثم يقول: إنه جاء في القصة أيضاً في كتبهم أنهم لما قبضوا على المسيح عرضوه أمام العدالة، فحكم عليه بالصلب، ثم دفن، فهنا تأتي الآية المناسبة لتلك القصة، فيقول: لقد تأملت هذا طويلاً ثم قلت: إذا لم يتدخل الله في إقامة المسيح من القبر لبقي مدفوناً تحت التراب إلى يوم القيامة، إذاً: ما دام المسيح لم يستطع إنقاذ نفسه فكيف يكون بوسعه إنقاذ الآخرين؟ هل يليق بإله -كما يزعمون- أن ي

تنقل القسيس رحمة برلومو بين الكنائس النصرانية

تنقل القسيس رحمة برلومو بين الكنائس النصرانية ثم يقول عند ذلك عزمت على الخروج من الكنيسة وعدم الذهاب إليها، وكان ذلك سنة ألف وتسعمائة وتسعة وستين، حيث خرجت فعلاً ولم أعد أتردد على الكنيسة، وليس معنى ذلك أنني خرجت ذلك الحين من الديانة النصرانية نفسها؛ لأنه -كما هو معلوم- هناك كنائس ومذاهب شتى في الديانة النصرانية، فهناك الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكس، وغيرها كثير، حتى إنني أستطيع أن أقول: هناك أكثر من ستين وثلاثمائة مذهب في الديانة النصرانية، فصدق الله العظيم حيث يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. ثم قال: وقد يقول قائل: إن في الإسلام أيضاً توجد مذاهب وطوائف عدة، فهناك المذاهب الأربعة المعروفة: الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية وغيرها؟! و A إن أتباع هذه المذاهب لا يختلفون في أصول الدين، بل يتفقون جميعاً على أن الله واحد لا شريك له، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يتفقون في أركان الإسلام الخمسة، وجوانب الخلاف بينهم في الفروع فقط لا في الأصول، وخلافهم رحمة، كما ورد في الأثر. أما في الديانة المسيحية فالأمر مختلف تماماً، فالخلاف في صلب العقيدة، وهذا هو الفارق بين الإسلام والنصرانية، ومهما اختلفت المذاهب في الإسلام فإنك لن تجد مسجداً يخص مذهباً معيناً دون سائر المساجد، بل على العكس من ذلك، فإذا نادى المنادي للصلاة تجد كل مسلم يدخل أقرب مسجد ليصلي فيه، ولكن الأمر مختلف تماماً في الديانة النصرانية، فكل كنيسة تتبع مذهباً معيناً، ولا يدخلها إلا أتباع ذلك المذهب فحسب. فالكاثوليكي لا يصلي في كنيسة الأرثوذكس، والبروتستانتي لا يصلي هو الآخر في كنيسة كاثوليكية، وهكذا. ثم قال: وذات يوم لقيت صديقاً لي، فدعاني إلى الكاثوليكية، وأخذ يعدد مميزات هذا المذهب، ولم أجد مثلها في المذهب الفلاني، فقال صديقي: عندنا في الكاثوليكية توجد حجرة الغفران، وهي عبارة عن غرفة في الكنيسة يجلس فيها قس ذو لحية كثيفة يرتدي لباساً أسود، ويقعد على كرسي عالٍ، ومن طلب العفو والغفران ذهب إليه وردد بعض الألفاظ غير المفهومة، وما إن يكاد يفرغ من قراءتها حتى يقال له بأنه بريء من ذنوبه ويرجع كيوم ولدته أمه، وهكذا قال لي صديقي: ويرجع كيوم ولدته أمه. وأضاف قائلاً: كل ما تقترف يداك من الذنوب خلال أيام الأسبوع كفيلة بأن يغفر لك عند ذهابك إلى الكنيسة يوم الأحد، وحصولك على الغفران. فأنت لا تحتاج إلى الصلاة ولا إلى العبادة، ولكن إذا تركت ذلك كله وذهبت إلى القس واعترفت أمامه غفرت ذنوبك. يقول الأخ رحمة برلومو: لقد تذكرت ما يفترضه الإسلام في ذلك، وهو أن البشر مهما علت رتبة أحدهم لا يمكن أن يوكل إليه غفران ذنوب العباد، كما أن التوبة والمغفرة لا تسقط التكاليف والفرائض، بل لا بد للتائب من أن يؤدي الصلوات الخمس اليومية في أوقاتها، فإذا تركها فلا قيمة لتوبته، وعليه إثم كبير، ولا يمكن أن يتحمله عنه غيره من الناس، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18]. ثم يقول: لقد رأيت الداخلين إلى حجرة الغفران في الكنيسة عليهم أمارات الحزن والكآبة لثقل الذنوب، بينما رأيت من يخرج منها وقد علت وجهه ابتسامة الفرح؛ لاعتقاده بأن ذنوبه قد غفرت له، أما أنا فحين جربت تلك الغرفة دخلتها حزيناً وخرجت منها حزيناً؛ لأنني كنت أفكر وأتساءل: هذه ذنوبنا يتحملها القس، ولكن من يتحمل ذنوبه هو؟! وهكذا لم أقتنع بالكاثوليكية فتركتها، وبحثت عن دين آخر. يقول: بعد ذلك تعرفت على طائفة نصرانية أخرى تسمى (شهود ياهوه) وهي مذهب آخر من مذاهب النصرانية، رأيت أحد رجالها، وسألته عن تعاليم مذهبه فقلت له: من تعبدون؟ قال: الله. قلت: ومن هو المسيح؟ فقال: عيسى هو رسول الله. فصادف ذلك موافقة لما كنت أؤمن به وأميل إليه، ودخلت كنيستهم فلم أجد فيها صليباً واحداً، فسألته عن سر ذلك فقال: الصليب علامة الكفر، لذلك لا نعلقه في كنائسنا. فاقتنع بأن يبحث عن المزيد في ملة هؤلاء المسمين (شهود ياهوه). يقول: لقد أمضيت ثلاثة أشهر كاملة أتلقى تعاليم ذلك المذهب، وفي نهايتها كان لي الحوار التالي مع رئيس الكنيسة، وكان هولندياً: قلت له: يا سيدي! إذا توفيت على هذا المذهب فإلى أين مصيري؟! قال: كالدخان الذي يزول في الهواء. فقلت متعجباً: ولكني لست سيجارة، بل أنا إنسان ذو عقل وضمير. ثم سألته: وأين أتجه بعد الممات؟! فقال: توضع في ميدان واسع. قلت: وأين ذلك الميدان؟! قال: لا أعلم. قلت: سيدي! إذا كنت عبداً مطيعاً ملتزماً بهذا المذهب فهل أدخل الجنة؟! قال: لا. قلت: فإلى أين إذاً؟! قال: الذين يدخلون الجنة عددهم مائة وأربعة وأربعون ألف شخص فقط، أما أنت فسوف تدخل الأرض مرة أخرى. وهنا قاطعته قائلاً: ولكن -يا سيدي- قد وقعت الواقعة، فالدنيا خربت. يعني أن القيامة قامت والدنيا خربت. قال: أنت لا تفهم حقيقة القيامة، لو كان لديك كرسي وفوقه حشرات مؤذية هل ستحرق الكرسي لتتخلص من الحشرات؟! قلت: لا. قال: بل تقتل الحشرات ويبقى الكرسي سليماً، وهكذا تبقى الأرض سليمة بعد تطهيرها من الدنس والخطايا، وعندها ينتقل إليها الناس من ذلك الميدان، فليس هناك ما يسمى بالنار. وهنا أعملت فكري جيداً، ودرست الأمر وقلبته، حتى اتخذت القرار الأخير لترك النصرانية بجميع مذاهبها رسمياً، وكان ذلك في عام ألف وتسعمائة وسبعين.

قصة إسلام القسيس رحمة برلومو

قصة إسلام القسيس رحمة برلومو وفي أحد الأيام بينما كنت أسير في طريقي بحثاً عن الحق رأيت معبداً بوذياً جميلاً ضخماً، فاقتربت منه فوجدت فيه عدة تماثيل وصور في السقف تمثل التنين، وعلى الجدران مثل ذلك، كما شاهدت أمام البوابة تمثالين على شكل أسد صامت، وما إن دخلت من البوابة حتى جاءني رجل فأوقفني وسأل: إلى أين؟ قلت: أريد أن أدخل. قال: اخلع نعليك قبل أن تدخل، هذا معبد لنا، فاحترم مكان عبادتنا. قلت في نفسي: حتى البوذية تعرف النظافة، أما الديانات السابقة فلا نظافة فيها، فأذكر أنني عندما كنت أدخل الكنيسة لم أكن أخلع نعلي عند الدخول. وهذا الكلام خطأ، فإذا كان يقصد بالقذارة النجاسة فإن الإنسان لا يجوز أن يصلي بنعل فيه نجاسة، لكن إن كان طاهراً فإنه يجوز أن يصلي في النعل ويدخل المسجد، بشرط أن لا يكون المسجد مفروشاً، وإنما إذا كان من رمل أو حصى، فهو قرأ المعلومات المحدودة فلذلك قال هذه العبارة. ثم يقول: لقد جربت الديانة البوذية فترة من الزمن، ولكن سرعان ما تركتها؛ لإحساسي بأني لم أجد الحق الذي أنشده، ثم اتصلت بالديانة الهندوسية التي بدأت ونشأت في الهند، والتي انتشرت تعاليمها حتى وصلت إلى بعض الجزر الأندونيسية، فأخذت أتنقل بين تلك الجزر التي يوجد فيها نشاط لاتباع هذا الدين، ومكثت فترة من الزمن تعلمت فيها الكثير، وقد نجحت في المرحلة الأولى إلى درجة أنني أخذت الخوارق كالعبور في النار، والمشي على المسامير الحادة، فهو دين معهم فيه الجن والشياطين تساعدهم على هذه الأشياء، والخوارق ليست دليلاً على أن هذا دين حق. فوصل إلى مرحلة من المهارة في هذه الديانة الهندوسية إلى حد العبور في النار، والمشي على المسامير الحادة، وإدخال المسامير إلى أعضاء الجسم، إلى غير ذلك. يقول: ولكن ليس هذا هو ما كنت أبحث عنه. ثم يضيف الأخ رحمة برلومو: وذات يوم سألت رئيس المعهد الهندوسي: ماذا تعبدون؟ قال: نعبد برهما، ويسلو، وشيوا، برهما إله الخلق، ويسلو إله الخير، وشيوا إله الشر، ثلاثة آلهة تجلت في جسد إنسان واحد اسمه كرسنان الذي هو المنقذ للعالم عند الهندوس. قلت لنفسي: إذاً: فلا فرق في أمر الألوهية بين الهندوسية والنصرانية، ولو اختلفت الأسماء، فهما يناديان ثلاثة في واحد، فقلت للكاهن الهندوسي: اشرح لي نشأة هذا الدين. فقال: كان في الهند سنة ألفين قبل الميلاد ملك جبار ظالم لا يرحم حتى أبناءه، فيقتل مولوده الذكر خوفاً من أن يحتل عرشه غصباً، وفي إحدى الليالي الظلماء كان الملك جالساً أمام قصره، وإذا بكوكب مضيء يطلع في السماء فوق رأسه، وكان يطير بسرعة مذهلة، ثم توقف في الفضاء وأرسل نوره الباهر على حظيرة الأبقار، فلما سأل الملك رجال العلم والدين راجعوا كتبه المقدسة فقالوا: إن ذلك دليل على تجلي الآلهة في جسم إنسان اسمه كرسنان. فقلت في نفسي: والذي يعرف قصة النصرانية يجد نفس القصة موجودة يزعمونها في قصة ميلاد المسيح، فهذه القصة مع تغيير الأشخاص موجودة في الديانة النصرانية، وكنت أحدث الناس بها وأناقش، والفرق أن القرية المشار إليها هي بيت لحم والإنسان عندنا هو المسيح، فلا فرق إذاً بين القصتين، ولا بين العقيدتين في قضية أساسية هي قضية الإلهية، وقضية هوية المنقذ للعالم. لقد واصلت حواري مع الكاهن الهندوسي فقلت له: يا سيدي! إذا توفيت وأنا على دينكم فإلى أين مصيري؟! قال: لا أعلم، لا أعلم، لكن عليك أن تمتنع عن قتل الحشرات من أمثال النمل والبعوض وغيرهما، فقد تكون هذه الحشرات آباءك وأجدادك الموتى، وبعض المسلمين يعتقدون هذا، فبعض الناس عندما تدخل إليهم فراشة ذهبية يقول لك أحدهم: (احذر من أن تقتلها) فهذه روح أبيك أتت البيت أو نحو ذلك. وهذا هو نفس الاعتقاد، فالروح هي التي يقول الله تعالى عنها: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42]، وما يمسك الله فلا منقذ له، فإذا كان الله يمسكها فكيف تهرب وتأتي إلى الدنيا في صورة فراشة؟! فهذه عقائد لا تليق بأي إنسان مسلم، ولا ينبغي أن يصدقها، فهذه خرافات ما لها من أصل في دين الإسلام. فالشاهد أن هذا الكاهن الهندوسي قال له: لا أعلم. يعني: لا أعرف مصيرك إذا مت إلى أين تذهب، لكن احذر من أن تقتل الحشرات كالنمل والبعوض وغيرهما. وقال: قد تكون هذه الحشرات أباءك وأجدادك الموتى. ثم يقول في النهاية: قررت أن أترك كل تلك الديانات، ولم يكن أمامي إلا الإسلام الذي لم أكن أريد اعتناقه لما أعرف في نفسي منذ طفولتي من نفور وكراهية لهذا الدين الذي لم أكن أعرف عنه إلا الشبهات، كنت أريد البحث عن الحق المجهول، وهذا البحث يلزم الجهد والصبر، وذات يوم قلت لزوجتي: ابتداءً من هذه الليلة لا أريد أن يزعجني أحد، أريد أن أصلي وأتضرع إلى الله. وهكذا أقفلت باب حجرتي ورفعت يدي إلى الله خاشعاً متضرعاً قائلاً: يا رب! إذا كنت موجوداً حقاً فخذ بناصيتي إلى الهدى والنور، واهدني إلى دينك الحق الذي ارتضيته للناس. ثم يقول: والدعاء إلى الله ليس كأي طلب من الطلبات، كما أن دعائي إلى الله سبحانه وتعالى لم يكن خلال فترة وجيزة فحسب، بل استمر ذلك زمناً طويلاً قرابة ثمانية أشهر. لقد كان يخلو بنفسه ولا يختلط بأحد، ولا يكلم أحداً، بل يسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديه إلى الحق. يقول: وفي ليلة الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر عام واحد وسبعين في اليوم العاشر من رمضان من نفس العام، وبعد أن فرغت من دعائي المعتاد ذهبت في نوم عميق، وعندها جاءني نور الهدى من الله عز وجل، وإذا بجسم شخص يظهر أمامي، فأمعنت النظر فيه فإذا أنا بنور حديث يشع منه يبدد الظلمة من حولي، لقد تقدم الرجل المبارك نحوي فرأيته يلبس ثوباً أبيض وعمامة بيضاء، له لحية جعدة الشعر، ووجه باك، لم أر قط مثله من قبل جمالاً وإشراقاً، لقد خاطبني الرجل بصوت مفهوم قائلاً: ردد الشهادتين، ردد الشهادتين. وما كنت حينئذ أعلم شيئاً اسمه الشهادتان، فقلت مستفسراً: وما الشهادتان؟ فقال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فكررتهما وراءه ثلاث مرات، ثم ذهب الرجل عني، ولما استيقظت من نومي وجدت جسمي مبللاً بالعرق، وسألت أول مسلم قابلته: ما هي الشهادتان؟! وما قيمتهما في الإسلام؟! فقال: الشهادتان هما الركن الأول في الإسلام، ما إن ينطقهما الرجل حتى يصبح مسلماً، فاستفسرت منه عن معناهما، فشرح لي المعنى، وفكرت ملياً وتساءلت: من يكون الرجل الذي رأيته في منامي؟! وكانت ملامحه واضحة المعالم بالنسبة لي، فلما وصفته لصديقي المسلم هتف على الفور قائلاً: لقد رأيت الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم! ثم يختم قصته بقوله: وبعد عشرين يوماً من ذلك الحادث -وكانت ليلة عيد الفطر- سمعت صيحات التكبير يرددها المسلمون من المساجد القريبة من دارنا، فاقشعر بدني، واهتز قلبي، ودمعت عيناي، لا حزناً على شيء، بل شكراً لله على هذه النعمة، الحمد لله الذي هداني أخيراً إلى ما كنت أبحث عنه منذ سنين، لقد تم ذلك في عام واحد وسبعين وتسعمائة وألف. وقد خيرت زوجتي بين الإسلام والمسيحية فاختارت الإسلام، وكانت في طفولتها مسلمة ومن عائلة مسلمة، تنصرت بسبب إغراءات المبشرين، ولجهلها بأمور دينها الحنيف، كما تبعنا أبناؤنا فاعتنقوا الإسلام، ومنذ الثاني من فبراير سنة اثنين وسبعين ونحن مسلمون والحمد لله. فهذا أنموذج من نماذج البحث عن الحقيقة، وها أنت ترى أن الإنسان إذا أخلص في البحث عن الحق فإن الله سبحانه وتعالى يهديه ويأخذ بناصيته. فكون الإسلام هو دين الحق الوحيد أمر لا يرتاب فيه أي إنسان عاقل، ومن ثم لا يعذر الشخص إذا قال: بحثت عن الحق فوجدته في غير الإسلام. بل يقال له: لقد قصرت في الجهد؛ لأن الأدلة والبراهين قاطعة على أحقية دين الإسلام بما لا يمكن أن يرتاب فيه أي إنسان عاقل، ولهذا لم يعذر الله سبحانه وتعالى من سمع عن دين الإسلام، أو سمع بالرسول، أو سمع عن القرآن ثم لم يبذل كل وسعه في التحري عن هذا الدين. ونرى -أيضاً- أنه يمكن أن تكون بذرة توضع في قلب إنسان، ثم إن هذه البذرة تنمو وتترعرع إلى أن تصبح هي شجرة الإيمان القوية الراسخة في قلبه. وهناك نماذج كثيرة أيضاً تأتي فيها الهداية منة واصطفاء واختياراً من الله سبحانه وتعالى، وقد سمعت عن رجل أندونيسي أتى إلى الإخوة الباكستانيين في المسجد فقال لهم: أريد أن أكون مسلماً. فلما سألوه عن السبب في ذلك قال: لقد جاءني المسيح عليه السلام في المنام وقال لي: كن مسلماً. فما كان من الرجل إلا أن شهد الشهادتين وعلمه الناس الصلاة، ثم بعد حوالى ثلاثة أيام قبض ومات ودفن مع إخوانه المسلمين، وقد زرت قبره في المقابر هناك في لندن. وهناك قصص كثيرة لا نستطيع استيعابها، وقد ألفت فيها كتب كثيرة تتكلم عن قصص الهداية، وبداية التحاق كثير من الناس بها، والمقصود الإشارة إلى أن الإنسان إذا بحث عن الحق بإخلاص وبصدق فإن الله يأخذ بناصيته إليه، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وبذلك نكون قد مررنا على كل الأبواب المتعلقة بمجالات علو الهمة، حيث تكلمنا عن علو الهمة في طلب العلم عموماً، وعلو الهمة في العبادة، وعلو الهمة في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وعلو الهمة في الدعوة إلى الله عز وجل، ثم علو الهمة في البحث عن الحق وعن دين الحق، وتبقى خواتيم هذا البحث وخلاصة الكلام في هذا الموضوع، كأسباب انحطاط الهمة، وأسباب الارتقاء بالهمة، وعلاج ضعف الهمة، والمنهج الصحيح إلى ذلك، وأثر ذلك في إصلاح حال الأفراد وحال الأمة أجمعين. سبحانك -اللهم! - ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

علو الهمة [15]

علو الهمة [15] ما أحوج المسلم -وخاصة في هذا الزمن- إلى أن تكون همته عالية! حتى يستطيع أن يرفع ما حل به وبأمته من الذل والهوان، ولذا فإن على المسلم أن يبذل وسعه في فعل الأسباب التي تعلو بهمته، وتقوي عزيمته، كما أن عليه أيضاً أن يبتعد عن الأسباب التي تحط من همته وتدمرها وما أكثرها! لذا فيجب عليه معرفتها، والبعد عنها، والتحذير منها.

مرض سقوط الهمة أعراضه وصوره

مرض سقوط الهمة أعراضه وصوره حديثنا هو عن حال الأمة عند سقوط الهمة، وعن أسباب الارتقاء بالهمة، وأسباب انخفاضها. لا شك أن سقوط الهمة مرض، وكل مرض له أعراض تشير إلى حدوثه وتمكنه من هذا الإنسان، فأصل الأمراض التي تفشت في أمتنا هو سقوط الهمة، وضعف الإرادة؛ فدائماً ما يتحالف سقوط الهمة مع الهوان والذل والصغار، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري) سواء كانت مخالفة الأمر من المسلم العاصي أو من الكافر الذي لا يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكل من حاد عن منهج الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم فلابد له من الذل، كما قال تبارك وتعالى أيضاً: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139]. وقال تبارك وتعالى أيضاً: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا). إذاً: الذل ثمرة طبيعية وعرض من أعراض مرض سقوط الهمة؛ فسقوط الهمة وضعف الإرادة هو أصل الأمراض التي تفشت في أمتنا، فنحن نجد كثيراً من الناس يريد أن يتوب -سواء على المستوى الفردي أو الجماعي- ويريد أن يستقم، ومع ذلك لا يحصل تغير في حاله؛ لضعف الهمة عنده. ونرى رجلاً يسقط صريعاً بالتدخين أو بالإدمان أو الخمر أو غيرها من المعاصي فنفسه تؤنبه وتلومه، ويريد أن يخرج من هذا الوحل، فما الذي يمنعه من أن يخرج وهو يعرف أضرار التدخين، ويرى ضحاياه، ويرى السرطان الذي يحصل بسبب التدخين، ومع ذلك لا يتحرر من هذا الأسر، وليس هذا بسبب ضعف العلم؛ فعنده علم كاف بضرر هذه الأشياء، وعنده علم بحكمها الشرعي، ولكن ليست هناك همة، وليس هناك يقين وإرادة كافية ينهض بها من هذه الوحلة أو من هذه الحفرة. فهذا المرض هو الذي أورث أمتنا في هذا الزمان قحطاً في الرجال، وجفافاً في القرائح، وتقليداً أعمى، وتواكلاً وكسلاً واستسلاماً لما يسمى بالأمر الواقع، فالمسلم لا يعترف بشيء اسمه الأمر الواقع، فالأمر الواقع هو شرع الله سبحانه وتعالى، أما ما يسمى بالأمر الواقع فكما أن الباطل جعله واقعاً فالحق قادر على أن يصلح هذا الأمر ويعالجه ويجعل الحق هو الأمر الواقع.

صور من سقوط الهمة في التاريخ الماضي

صور من سقوط الهمة في التاريخ الماضي لقد رأينا في التاريخ الماضي حلقاً كثيرة جداً تثبت وتجسد لنا أعراض هذا المرض الخطير، فمثلاً: كان الجندي التتري يأمر المسلم الذي سقطت همته أن يبقى في مكانه؛ حتى يعود فيقتله! فسقوط الهمة أعظم وأخطر ما يظهر في حالات الحروب والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. كما رأينا نماذج في علو الهمة في جهاد الصحابة والسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، وكيف أناروا الدنيا مشارقها ومغاربها بجهادهم في سبيل الله، لكن لما ترك المسلمون الجهاد ذلوا، حتى حكي في كتب التاريخ أن الجندي التتري كان يأمر المسلم الذي سقطت همته أن يقعد في مكانه، ثم يغيب التتري، ويظل المسلم جالساً مكانه لا يتحرك ولا يفكر حتى في مجرد الهروب من شدة ضعف الهمة؛ حتى يذهب هذا التتري ليحضر حجراً، ثم يعود فيشدخ به رأس المسلم، ويقتله بهذا الحجر، وهو جالس منتظراً الموت! فإن كنت ميتاً ومقتولاً فإذاً قاوم، أو حتى حاول أن تفر أو تهرب، لكن وصل الحد إلى أن يجلس منتظراً التتري إلى أن يذهب ويحضر الحجر -لأنه ليس معه سلاح- ويعود ليشدخ به رأس المسلم ويقتله بذلك، وهو لا يحرك ساكناً. إلى أن ينجز التتري ما أوعده! وحين نقفز إلى عصرنا الحاضر ونبحث أين سقوط الهمة فسنرى سقوط الهمة في هذا الزمان، والجراح كثيرة جداً سواء في حرب (1948م) مع اليهود في فلسطين، والخيانات التي حصلت فيها، أو في حرب (1967م) لما حصلت مسابقة في اختراق الضاحية في أرض سيناء، والجنود هربوا وولوا بالصورة المخزية التي عرفناها. وهكذا في حرب الخليج الثانية رأينا ذلك المشهد التمثيلي المخزي حينما ركع الجندي العراقي أمام نعلي الجندي الأمريكي، وجعل يقبلهما ويتمسح بهما، ويطلب من الجندي الأمريكي العفو والصفح، لكن الجندي الأمريكي وحتى يعطي العالم درساً في التسامح ظل يمسح على كتفه وعلى رأسه، ويقول له: لا بأس! أنت بخير، فلا تقلق، ولا تجزع! ونشروها في كل العالم على أنه هذا نموذج من نماذج التسامح والأخلاق الأمريكية، ولا شك أن هذا أيضاً من أعراض مرض سقوط الهمة.

حكاية ابن خلدون لانحطاط الهمم في زمنه

حكاية ابن خلدون لانحطاط الهمم في زمنه شكا ابن خلدون رحمه الله تعالى تشبه المسلمين في عصره بأعدائهم الكفار، واعتبر أسباب التشبه بالكفار مظهراً من مظاهر سقوط الهمة، وأمارة من أمارات ضياع الأندلس من أيدي المسلمين قبل أن تضيع؛ حيث قال رحمه الله تعالى في مقدمته المشهورة: ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب. أي: أن المغلوب دائماً يميل إلى التشبه بمن يغلبه ومن يقهره، وهذا هو نفس الظاهرة الموجودة الآن من الوقوع في هوى تقليد الغرب، والتبعية لهم على جميع المستويات، ولا نستثني مستوىً واحداً منها؛ ففي اللغة نتكلم بلغة الغرب، وفي العادات والتقاليد نستخدم أساليب وعادات ومناهج الغرب؛ حتى في مناهج التفكير صرنا نمشي بلا أي هوية. وأصبح الحال كما قيل: ويل للمغلوب من الغالب. يقول ابن خلدون: ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه؛ في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع أبنائهم كيف تجد المتشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إلا اعتقادهم الكمال فيهم. فدائماً الابن يحاكي أباه؛ لأنه يرى أن أباه أفضل أنموذج أمامه في الدنيا، فمهما يفعل الأب فإنك تجد الولد يتشبه به؛ لأنه يعتقد الكمال في أبيه، فكذلك إذا كانت أمة تجاور أمة أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، ونحن رأينا كيف كان في زمن نهضة المسلمين في الأندلس يفد إلى الأندلس من جميع أوروبا الشباب الأوروبي، من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكل هذه البلاد كانوا يأتون إلى الأندلس؛ ليتلقوا العلم على أيدي العلماء المسلمين، ولا نقول: العرب، بل على أيدي العلماء المسلمين، وكانت لغة العلم هي اللغة العربية، فكان لزاماً على كل طالب يريد أن يتلقى العلم الحديث وأحدث ما وصل إليه العلم أن يتعلم أولاً اللغة العربية، فكان الشاب الغربي إذا رجع إلى بلاده يفتخر أمام أقرانه بأنه درس في بلاد المسلمين، ويعتبر هذا من مظاهر المفاخرة العظيمة، فكان يخلط كلامه أحياناً بألفاظ عربية، ثم يعود يتكلم بلغته القومية، الأمر الذي حدا بالكنيسة إلى أن أصدرت قراراً بالتهديد وبالحرمان من الجنة لهؤلاء! وقالت لهم: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يذهبون إلى بلاد المسلمين ثم يعودون إلى بلادهم فيبدءون كلامهم باللغة العربية، ثم يتكلمون بلغتهم القومية -يعني: أنهم يفعلون ذلك كي يعرف الناس أنهم تعلموا في بلاد المسلمين- هؤلاء الشبان الرقعاء إن لم يكفوا عن ذلك فسوف تصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان من الجنة! وهذا لا شك أنه مظهر من مظاهر علو همة المسلمين، وكيف أنهم لما كانت لهم الغلبة كان الجميع يتشبهون بهم. ومن البلاد التي انتشرت فيها اللغة العربية بسرعة غير متوقعة ولله الحمد هي مصر، وربما يكون هناك سبب ثانوي هو: أن المصريين -كما يقال- عندهم موهبة في تعلم اللغات، ولكن هناك سبب أساسي، وهو أن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح مصراً كان ذكياً إلى درجة عالية جداً. قال عمرو بن العاص: إن أي موظف يعين في الهيئات أو الوظائف الحكومية التابعة لولايته لابد أن يعرف اللغة العربية. فتنافس أهل مصر في تعلم اللغة العربية كي يحوزوا المناصب والوظائف؛ حيث كان تعلمها شرطاً في تقلد الوظائف، ولذلك انتشرت اللغة العربية انتشاراً سريعاً جداً في مصر ولله الحمد. يقول ابن خلدون: إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلبة عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة -أي: الأسبان- فإنك تجد أنه لما بدأ يضعف نفوذ المسلمين أمام الجلالقة الأسبان تجد أن بعض المسلمين يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم؛ حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت. والإنسان إذا رأى صور القصور في الندلس مثل قصر الحمراء وغرناطة وقرطبة يجد أن في ساحات هذه القصور كساحة السباع، وهي عبارة عن تماثيل للأسود تخرج من فمها النوافير، مع أن هذا في قصر كان يملكه حكام مسلمون! فإذا كان هذا شأن الحكام في تخليد التماثيل وقد عرف تحريمها الأكيد في الشريعة الإسلامية فإن هذا يعكس مدى ما حصل بسبب الاقتداء بالكفار في هذا الأمر. يقول الإمام ابن خلدون: حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله. وكلامه هذا معناه: أن هذه الأمة ستنهار أمام أعدائها، ولا يبقى لها قوة، وحدث ما توقعه ابن خلدون رحمه الله تعالى، واستولى الفرنج على الأندلس الإسلامية، وأخرج المسلمون منها بعد مائتي سنة من كتابته لهذه السطور.

صور من انحطاط الهمم في الزمن الحاضر

صور من انحطاط الهمم في الزمن الحاضر عن عصرنا حدث ولا حرج من مظاهر تسفل الهمم وانحطاطها؛ فانظروا إلى حال الشباب فقط، فلا أقول أكثر من هذا، انظروا إلى حال الشباب الذين ينتسبون إلى الإسلام كيف تصاغرت همهم، فلم تنشغل إلا بسفاسف الأمور ومحقراتها، فهم شباب الكرة والغناء إلا من رحمه الله، بل حتى في مذاكرتهم؛ فغالبهم يريد أن ينجح بدون جهد يذكر، بخلاف أجيال سابقة كانت أكثر جدية، فنحن نجد هؤلاء الشباب كل ما يشغلهم هي الأمور التافهة والساذجة، كما قال أحد الكتاب المسلمين: لقيت اليوم صديقنا فلاناً، وكان زعيماً سياسياً قديماً، فإذا هو على غير عادته؛ منشرح الصدر، ضاحك الأسارير، فقلت له: أراك اليوم على غير عادتك طلقاً نشيطاً بادي السرور، قال: وما لي لا أكون كذلك وقد أحرزت في هذا اليوم ثلاثة انتصارات؟ قلت: لك الحق إذاً في تهللك وفرحك؛ فنحن في زمان لا نكاد نظفر فيه بانتصار واحد بين مئات الهزائم، فما هي الانتصارات إن لم تكن سراً من الأسرار؟ قال: أما الانتصار الأول فقد دخلت غرفة نومي منذ ثلاثة أيام ذبابة أزعجت نهاري، وأرقت ليلي، وقد حاولت جهدي طردها أو قتلها فلم أفلح، إلى أن ظفرت بها اليوم، فقتلتها شر قتلة، وألقيتها حيث لا يمكن أن تعود حتى لو عادت إليها الحياة! قلت: والانتصار الثاني؟ قال: والانتصار الثاني شعرت به وأنا أزن نفسي في الحمام؛ إذ هبط وزني من تسعة وتسعين كيلو إلى ثمانية وتسعين وسبعمائة وخمسين جراماً! قلت: والانتصار الثالث؟ قال: لعبت اليوم بالنرد مع صديقنا فلان، فغلبته مرتين متواليتين، وهو الذي كان يغلبني باستمرار! أفتراني بعد ذلك كله حقيقاً بما أنا عليه من السعادة والطلاقة والمرح؟! قلت: بلى! بلى! بلى! وتابعت طريقي بأسىً بالغ وألم عميق وحزن غامر عليه وعلى أنفسنا معه؛ لقد تحقق عزلنا عن ميادين الحياة الجادة من قبل الطغيان الداخلي والخارجي، المحلي والدولي، وفاتتنا الانتصارات الحقيقية الكبرى. وهكذا الآن أصبح الذي يطلق عليه البطل هو إما الممثل في الفيلم، أو المسرحية، أو لاعب كرة القدم، هذا هو البطل، وصار يقال: الأبطال، وهذه البطولة، والانتصار، والنجوم، إلى آخر نحو هذه الألفاظ الفخمة؛ كي يتلهى بها الناس، وتطلق على أخس خلق الله سبحانه وتعالى وأخبثهم. يقول: تشاغلنا بأنفسنا ومطامعنا، والتمسنا الراحة والمتعة والرضا، ومثل انتصارات هذا السياسي الكبير القديم أظن أنه لا يختلف عنها بالجوهر، وإن اختلف بالشكل والعنوان؛ أليس هذا ضرباً من ضروب الجنون أو الموت المعنوي الذي يصنعه الطغيان؟! أليس الموت المادي الحقيقي أفضل من مثل هذه الحياة؟! إن الشباب يمعنون في التشبه بالكفار، بل يعلقون صور الممثلين على صدورهم! فأخس الصور وأحط الصور الآن أصبحت تعلق على صدور أولاد المسلمين من أجل الدعاية للفواحش! وحينما أرى شاباً من هؤلاء الرقعاء الذين يعلقون صور الممثلين هذه على ملابسهم أقول: أليس هذا يعود إلى بيته؟! أكيد أنه سوق يعود، وأكيد أن والدته تغسل له هذه الثياب، وأكيد أن أباه يراه، وإخوته يرون هذه الصور القبيحة، فأين هؤلاء جميعاً مما يصنع هذا؟! إن معنى ذلك أن هناك نوعاً من التخدير أو موت الغيرة في قلوب الناس، إلى حد أن يمشي إنسان بهذه الصور القبيحة، ويظهر بها متحدياً حتى الأخلاق العامة، ومع ذلك لا يخدش ولا يمس بأي سوء؛ فهو عبارة عن رقيق، وهو عبد فخور جداً بهذا الرق! هذا هو باختصار إيضاح الصورة التي نحن عليها. فهو عبد ذليل فخور بالذل وبهذا الرق؛ حتى أن السيارات الآن تعلق عليها الأعلام الأمريكية، وتزين بالأعلام الأمريكية، ويعلقون عليها الآن شتى الصور، ونجد سيارات أخرى عليها أعلام بريطانيا الذي فيه صليب قائم وصليب نائم؛ فإن علم بريطانيا فيه صليبان، وهكذا غيرها من الأعلام!! وهذا يقول: أنا أحب ألمانيا! والآخر يقول: أنا أحب أمريكا! إلى آخر هذه التفاهات المعروفة؛ فهاهم يعلقون على صدورهم وسياراتهم أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم وعزهم، وطأطأت أعناقهم، وأهدرت كرامتهم، واستعبدت أمتهم! وعلى صعيد آخر رأينا من يسوغ تعبيد الأمة وإذلالها وتبعيتها لأعدائنا؛ بحجة أننا لم نفكر برأسنا ما دمنا لا نأكل بفأسنا، وجعلوا نظرية الفأس والرأس تسويغاً وتبريراً للتبعية والذل الذي نحن فيه، ويرددون: لا نفكر برأسنا إلا إذا أكلنا بفأسنا، ومن هذا القمح الذي يأتينا من الميناء إلى الأفواه مباشرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ونحن هنا نتكلم على أعراض هذا المرض، فمثل هذه التصريحات هي من مظاهر وأعراض هذا المرض. وهكذا يقول بعض الناس: إن ما نحن فيه من الانحدار تسبب فيه من قبلنا، وسيصلحه من بعدنا، وكل جيل يأتي يردد هذه العبارة، بل عشنا حتى أدركنا زمناً لم تعد الخيانة فيه عاراً يذكر، لكنها شرف يظهر، ويتباهى به، ووظيفة مرموقة، ومفخرة يتهافت عليها!

بعض ملامح محنة المسلمين في عصر انحطاط الهمم

بعض ملامح محنة المسلمين في عصر انحطاط الهمم يبين الشيخ محمد أحمد الراشد حفظه الله ملمحاً خطيراً من ملامح محنة المسلمين في عصر انحطاط الهمم، فيقول حفظه الله: إن محنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلالة فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية وكراسي الجامعات والصحف والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم، حتى غدا صيد المخططات في سرور -والمقصود: المصيد الذي وقع في الفخ- يحسب نفسه في انعتاق من أسر القديم أي قديم كان، فهو تحرر من التقلد أو التمسك بالقديم، أو صار الآن رجلاً حراً متحرراً. لقد وقع المسلمون اليوم ضحية لتربية أخلدتهم إلى الأرض، فأرادت لهم الفسوق ابتداءً؛ لتستخف بهم الطواغيت انتهاءً، وإنها خطة قديمة يأخذها الطاغوت اللاحق عن الطاغوت السابق، حتى وصلت وصولها إلى فرعون، وذلك كما يقول الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]. هذا هو التفسير الصحيح للتاريخ، وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله؛ فالمؤمن بالله لا يستجيب للطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمراً. فبلا شك أن الناس أنفسهم ليسوا معفيين عن المسئولية عن الأمر الواضح الذي وصلت إليه الأمة والدين، بل هم السبب في ذلك، وهم سبب أقوى من الحكام في تضييع الإسلام بسبب سفل الهمم، ولولا أنهم كانوا قوماً فاسقين لما سمحوا أن يسب دينهم على الملأ، وأن تكتب المقالات في أن القرآن فيه أخطاء نحوية! وأنه ليس بالضبط كلام الله سبحانه وتعالى! وغير ذلك من الفظائع التي حصلت والناس لا يبالون، وهؤلاء الناس أنفسهم لو أن السجائر ارتفعت أسعارها أو حصلت هزيمة في مباراة كرة قدم أو مات مطرب أو مغنٍ فإنهم يثورون! فلا شك أن هؤلاء الناس ممن انطبقت عليهم هذه الأوصاف من الفسق والخروج عن طاعة الله هم أيضاً ضلع كبير في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، وضلع في هذا الاستخفاف. فهؤلاء أدركوا المقتل الذي عرفه فرعون، فتواصوا به، وأخذوا يحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش، ولا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد؛ كيلا يفيق بعد اللقمة وبعد الشهوات ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين، وصارت تلك سياستهم: سياسة محاربة المساجد بالمراقص، ومحاربة الزوجات بالنساء ذوات الفواحش، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة، وهكذا تحول بهذه التربية ذلك الصقر الإسلامي إلى مثل طائر الحجل. والحجل: نوع من الطيور، واحده حجلة، وهو طائر أكبر من الحمام يصاد. فالصقر تحول إلى طائر الحجل مشهور بالوداعة، كما يقول إقبال: إنه الأدب والترويض الذي استعمله أدب الضلال، كما يفعل بالضبط مع الوحش الكاسر المروض في السيرك؛ فإنه يروضه بحيث يصبح في الآخر مقلم الأظفار هادئاً وديعاً لا يزمجر ولا ينفعل، ولا يحرك أي شيء من هذا. يقول إقبال وهو يصف هذا الأدب: يسلب السرو جميل الميل ويرد الصقر مثل الحجل يسخر الركبان باللحن المبين ولقاع البحر يهوي بالسفين نومة ألحانه يقظتنا أطفأت أنفاسه وقدتنا فهو يصف هذا الأدب بأنه يسلب السرو -والسرو: شجر معروف، وواحدته سروة- جميل الميل، ويرد الصقر مثل الحجل، ويسخر الركبان باللحن، يعني: حتى أجهزة تلفزيونه وأفلامه ونحوها تروض الرجل فعلاً، فالرجل أصبح مثل الجمل الذي استنوق، كما نسمع ونرى الرجل في الفيلم أو المسرحية أو التمثيلية تصفعه المرأة! فيضع يديه على الصفعة، ويضع وجهه في التراب؛ لأنه رجل مروض، قد قلمت أظفاره حتى صار كالجمل الذي استنوق، فهي عملية ترويض، فالمرأة تريه هذه الإهانة، وهو يقبلها صاغراً ذليلاً مهيناً! ولقاع البحر يهوي بالسفين، والسفين جمع: سفينة. نومت ألحانه يقظتنا وهذا كما قال الخميني -وصدق وهو كذوب-: الموسيقى أفيون الشباب. أي: تستعمل الموسيقى والأغاني في التخدير كالأفيون. وقدتنا والوقدة هي: أشد الحر. ثم قال: وأشرب الناس الذل بهذا الأذى فطرة وفي نفور من الذل ينفر من الذل، فيأبى على الحيف، ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيراضون على الخضوع حيناً بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالاً بعد حال؛ حتى يدربوا عليه، كما يستأنس السبع ويؤلف الوحش، ولكن يبقى في الناس ثمرات من الكرامة، ويبقى في الدماء شذرات من الجمر، فإذا دعى الداعي إلى العزة، وأذن بالحرية، وأيقظ الوجدان النائم، وحرك الشعور الهاجد، نبضت الكرامة في النفس، وبصت الجمرة في الرماد -يعني: لمعت- وأعادت للإنسان إنسانيته، فأبى وجاهد، ورأى كل ما يلقى أهون من العبودية، وأحسن من هذه البهيمية. ذل من يربط الذليل بعيش رب عيش أخس منه الحمام وكل ذل يصيب الإنسان من غيره ويناله من ظاهره قريب شفاؤه ويسير إزالته. وهذا أمر في غاية الأهمية، فإذا كان الذل والاستهزاء ناشئ عن عامل خارجي كقهر وكبت أو أي عوامل خارجية فهذا خفيف، وإنما المشكلة هي الأمر الذي يعبر عنه مالك بن نبي رحمه الله حيث قال: ليست المشكلة في الاستعمار، فكون أمة تقهر أمة وتستعمرها ليست هي المشكلة، المشكلة هي قابلية الشعب أن يستعمر، وأن يستذل، فهو في داخل نفسه قابل له، وهو راضٍ به وسعيد جداً أنه يذل، حتى كان الناس في بعض الأوقات يقارنون: أيهما أفضل: الاستعمار الروسي أم الاستعمار الأمريكي؟! وأيهما أفضل: اليهود أم كذا؟! وهذا يعكس هذه النفسية التي سقطت فيها الهمة، وسفلت إلى هذا المنحدر، حيث الرضا والخنوع، وأصبح الذل ينبع من الداخل، وليس فقط شيء يفرض على الإنسان من خارجه، فكل ذل يصيب الإنسان من غيره ويناله من ظاهره قريب شفاؤه، ويسير إزالته، فإذا نبع الذل من النفس وانبثق من القلب فهو الداء الدوي، والموت الخفي، ولذلك عمد الطغاة المستعبدون إلى أن يشربوا الناس الذل بالتعليم الذليل، وبالتأديب المهين، وتنشئة الناشئة عليه بوسائل شتى؛ ليميتوا الهمة، ويخمدوا الحمية؛ لأن بيدهم العصا والزمام. ومن تمام لوازم عملية الترويض أن يضيقوا على دعاة الإسلام؛ ليستبد بالتوجيه التربوي والإذاعي والصحفي أدعياء العلم والشعر والحكمة الذين مضى أمرهم بأسماء منظمات تبدو في ظاهرها مختلفة تزين للجيل الجديد نسل المجاهدين وشبل الأسود أن يكون رقيقاً للشهوات والفواحش والعيش البغيض. وبدءوا يمحون تراث الأمة التي نهضت به، ويطمسون قصص العلماء؛ حذراً من أن تكون نبراساً للجيل يستدل بها على طريق العمل. فذلك قول شاعر الإسلام إقبال رحمه الله: ليس يخلو زمان شعب ذليل من عليم وشائع وحكيم فرقتهم مذاهب القول لكن جميع الرأي مقصد في الصميم علموا الليث جفلة الضبي وامحوا قصص الأسد في الحديث القديم همهم لقطة الرقيق برق كل تأوليهم خزاع عليم أي: أن كل همهم من هذه السياسات أن الرقيق يسخر، ويفرح بالذل الذي هو فيه، ويفتخر بأنه رقيق، وبأنه عبد مستذل ومهين، وقد كان لهم ما أرادوا، فهذا هو عنوان خطة الكيد اليهودي والصليبي: تعليم الليث الإسلامي جفلة الضبي، يعني: أنه يكون وديعاً هادئاً مستسلماً لما يملى عليه! وأيضاً: محو قصص أسود الإسلام من العلماء والزهاد والمجاهدين من تاريخ القرون الفاضلة الأولى لهذه الأمة المجاهدة، وأنتجت خطط التربية ذلك الضبي الجفول الذي لم يعد يقتحم، واستبدل العزم بالهوان والمسارعة بالهرب؛ إنهم هذا الجيل من أبناء المسلمين، شبل أسد تحول إلى ضبي وديع، وحر استرقوه ففرح بهذا الرق. هذه إشارة عابرة لمظاهر هذا المرض الخطير: انحطاط الهمم وتسفلها.

علو الهمة [16]

علو الهمة [16] بالهمم العالية يرتفع الذكر بين الناس، وبانحطاطها يذوق الإنسان الويلات، وغالباً ما تكون أسباب انحطاط الهمم أسباب يسهل التغلب عليها، خصوصاً إذا أمعن المرء النظر في سير من سلف من أصحاب الهمم العالية.

أسباب انحطاط الهمم

أسباب انحطاط الهمم ما كان لنا أن نذكر أسباب انحطاط الهمم، إلا لأنه من الطبيعي قبل أن نذكر أسباب الارتقاء بالهمة أن نتكلم على أسباب انحطاط الهمم؛ لما بينهما من التقابل، وبضدها تتبين الأشياء، وبجانب أن الإنسان يعلم الشر كي يتقيه ويجتنبه.

الوهن وحب الدنيا من أسباب انحطاط الهمم

الوهن وحب الدنيا من أسباب انحطاط الهمم إن أعظم أسباب هذا المرض الخطير: الوهن، والوهن كما فسره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. أي: أن الأمم تجعل أمة الإسلام وليمة يأكلونها، ويأخذون ثرواتها، ويذبحون أبناءها، فهذه الوليمة صار يتداعى إليها أعداء الإسلام، سواء كان في حرب الخليج الأولى أو الثانية، أو في البوسنة والهرسك، أو فلسطين، أو غيرها من المواقع، ففي حرب الخليج قال وزير خارجية بريطانيا: نريد نصيبنا من الكيكة أو من الترتة! بلا استحياء! وهذا تجسيد لما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم. وقد بين عليه الصلاة والسلام أن الأمر ليس بسبب قلة العدد؛ فأنتم يومئذ كثير، لكنكم كالغثاء، وهو: الزبد الذي يكون فوق السيل، ويدفعه السيل أمامه في مجراه من الغثاء والرغاوة والكناسة وهذه الأشياء. قال عليه الصلاة والسلام: (وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، هذا هو السبب في الحقيقة، أما حب الدنيا فأنت إذا تأملت أي خطيئة ترتكب في الوجود فستجد أن سببها هو حب الدنيا بكل ما تحتمله كلمة دنيا من معانٍ؛ لأن الإنسان إذا أحب الدنيا فإن ذلك يؤدي به إلى أن يتثاقل إلى الأرض، ولا يستطيع أن يرتقي إلى السماء؛ فيكون ثقيلاً منجذباً إلى الأرض، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:38]، أي: خفوا إلى الجهاد {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38]. إذاً: حب الدنيا هو سبب التثاقل إلى الأرض، وكذلك ما من عبد تأسره الشهوات إلا والسبب في هذه الشهوات هي الدنيا أيضاً، وكذلك الانغماس في الترف، فإذا الإنسان عمر في الدنيا، وأغرق في الترف بهذه الصورة فهل سيفكر بعد ذلك في الموت؟! وهل سيفكر في الآخرة؟! فهو يعمر الدنيا، ويخرب الآخرة، فمن الطبيعي أن يكره الانتقال من العمار إلى الخراب؛ لأنه خرب الآخرة، فبذلك يميل إلى حب الدنيا، ويتشبث بها. وكذلك حب الدنيا هو الذي يؤدي بالناس إلى التنافس في دار الغرور، فهم يتنافسون على أمور الدنيا بما يوجد الحسد والحقد والبغضاء والحروب والصراعات. يقول الشاعر مبيناً أن الرجال يقتل بعضهم بعضاً في سبيل حب الدنيا: تفانى الرجال على حبها وما يحصلون على طائل قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: واعلم أن زمن الابتلاء ضيف ِقراه الصبر. يعني: أن البلاء الذي تعيشه في الدنيا مهما طال فهو فترة مؤقتة، فزمن البلاء هذا ضيف طارئ سيمكث عندك فترة قليلة جداً؛ لأن العمر مهما طال فسيمضي، وسينتهي، وستصبح أنت في خبر كان، وسوف تفضي إلى ما قدمت بين يديك، فلو فرضنا أن إنساناً عمره مائة سنة -وقل من يعيش مائة سنة الآن- فإن مصيره الموت، كما قال موسى لملك الموت عليهما السلام: (ثم ماذا؟ قال: الموت، قال: فالآن). فالإنسان حينما يكون موجوداً في عمق الصورة لا يحسن التفكير المتجرد، لكن إذا تدبر نفسه وتصور أنه منفصل عن تأثير هذه الصورة فإنه يعطي الحكم بدقة، نحن الآن يعرف بعضنا بعضاً، ويعرف الإنسان جيرانه وأصدقاءه وإخوانه وكذا وكذا، فنحن منشغلون ومنهمكون في هذا المحيط الذي يحيط بنا، وما هي إلا سنوات أو عقود قليلة من الزمان وإذا بك أنت وكل هؤلاء الذين تعرفهم ستكونون تحت التراب، وهكذا كل من على وجه الأرض؛ ليأتي جيل جديد، إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بخراب الدنيا كلها، فكما نحن نجلس الآن في هذا المصر من الأرض فسيأتي غيرنا بعدنا، وهذه الأرض نفسها التي نعيش عليها كم من الناس قد عاشوا عليها منذ آلاف السنين! لقد عاش عليها أمم فأين هم الآن؟ قال عز وجل: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98]. وكما مضى من قبلنا، فنحن أيضاً سيأتي من بعدنا في نفس هذه الأراضي وهذه البلاد فيعيشون، قال عز وجل: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:45]. فقوم يجيئون، وقوم يذهبون، ولا ينفع الإنسان ولا يبقى معه إلا عمله الصالح. يقول ابن الجوزي: زمان البلاء والتكليف والمشقة والصبر على الأذى والصبر على فتن الدنيا هو ضيف سريع الزوال، قراه الصبر. أي: إذا أتاك ضيف البلاء في سبيل الدين فأقره الصبر، والقرى هو: ما يقدم للضيف من الكرم، فأكرم هذا البلاء بأن تصبر عليه إلى أن يرحل؛ فإنه لن يبقى معك طويلاً. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعوذوا بالله من شر جار المقام؛ فإن جار الضعن إذا شاء أن يزايل زايل). يقول: واعلم أن زمان الابتلاء ضيف قراه الصبر، كما كان الإمام أحمد بن حنبل يعزي على زهده في الدنيا بأن يقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدراً بضيق العيش، وعلل الناقة بالحدو تسر: طاول بها الليل مال النجم أن جنح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى وهذه هي سياسة المؤمن الحاذق الفطن في تعامله مع الدنيا، فإذا كان هناك عمل من أعمال الدنيا فسوِّف ما شئت، وليس هناك مشكلة، كما يقول الحسن: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً. فحين يتعارض عملان: عمل ستحاسب عليه ربما غداً أو بعد ساعة، وعمل أنت تعمله كأنك تعيش للأبد، فانظر أيهما يقدم على الآخر. وهذا عكس ما يستعمل الناس هذه العبارة فإنهم يقولون: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، ويفهمونها على أنك تخدم الدنيا تماماً، وكأنك تعيش أبداً، والأمر بالعكس؛ لأن الذي يعيش أبداً إذا فاته شيء من الدنيا الآن يعوضه غداً أو السنة القادمة أو التي بعدها؛ لأن الدنيا تعوض، أما الدين فلا يعوض، فكل شيء إذا ضيعته منه عوض، وليس في الله إن ضيعت من عوض، فإذا كسبت الله كسبت كل شيء، وإذا خسرت الله فاتك كل شيء. فالإمام أحمد يبين لنا في هذه الكلمة الطيبة السياسة التي ينبغي أن يتعامل بها الإنسان مع الدنيا. يقول الشاعر: طاول بها الليل مال النجم أن جنح يعني: استغرق الليل في طاعة الله وفي ذكر الله وفي العبادة، ولا تمل من ذلك، وكلما تقول لك نفسك: أريد أن أنام، فقل لها: بعد قليل، وهذا هو التسويف في العمل الصالح، وهذا بخلاف التسويف في شهوات النفوس، وبعكس ما يفعل أكثر الناس، فكن كلما اشتكت لك نفسك أنها تريد أن تنام وتريد أن تستريح، فقل لها: سأريحك بعد هاتين الركعتين، وإذا أتيت بركعتين فقل لها: سأريحك بعد أن أقرأ هذا الجزء من القرآن، فإذا انتهيت فقل لها: استريحي بعد هذا الورد من الدعاء، وهكذا سوفها في فعل الخير، كالإنسان المسوف الذي يماطل شريكه، ويتهرب منه بالوعود في المستقبل. يقول: طاول بها الليل مال النجم أن جنح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى فكلما تأتي بعبادة فقل لنفسك إن تشكت في الليل: حينما تطلع مجرة الصباح سأريحك، ثم إذا طلع وقت الصبح عللها بوقت الضحى، وقل لها: سأريحك في الضحى. هذا هو المقصود من الكلام. وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى هدية من الخليفة المنصور، فردها للمنصور، ثم قال لأولاده بعد ما مرت سنة -أي: في الذكرى السنوية الأولى لهذه الهدية-: لو كنا قبلناها كنا قد استهلكناها وذهبت، أما الآن فقد استرحنا من هديته. ومر بشر على بئر فقال له صاحبه: أنا عطشان، فقال: البئر الأخرى. أي: انتظر حتى نصل إلى البئر التي بعدها، فمر عليها فقال له: الأخرى، أراد بذلك أن يعلمه درساً، فقال له: كذا تقطع الدنيا. فكلما لاحت لك شهوة أو حاجة من حاجات الدنيا فلا تبادر بإنجازها وتحصيلها، ولكن سوف لنفسك في الدنيا، أما في الدين فلا تسوف؛ إنما في الدنيا قل لها: سوف أفعل كذا فيما يأتي. ودخلوا على بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له: ألا بذا تؤذى؟ فقال: هذا أمر ينقضي.

دور كراهية الموت في انحطاط الهمم

دور كراهية الموت في انحطاط الهمم هذا فيما يتعلق بالجزء الأول من الوهن الذي سبب انحطاط الهمم، وهو حب الدنيا، أما القسم الثاني فهو كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (وكراهية الموت)، فإذا أحب عبد الدنيا فلابد أن يكره الموت؛ لأنه إذا أحب الدنيا عمرها، وإذا عمرها خرب الآخرة، لأنهما ضرتان؛ إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فإذا أحب الدنيا واثاقل إليها ورضي بها دون الآخرة فسيخرب الآخرة، وبالتالي يكره الموت الذي سينقله إلى الدار الآخرة. فثمرة حب الدنيا كراهية الموت، وكراهية الموت أيضاً ثمرة الحرص على متاع الدنيا مع تخريب الآخرة، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب. قال الطبراني مبيناً أثر حب السلامة في الانحطاط بالهمة: حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي، ويغري المرء بالكسل، إن حب الدنيا وكراهية الموت صنوان لا يفترقان، وإن الهمة العالية لا تسكن القلب الجبان، وتأمل حال خفيف الهمة الذي أورثته التربية الفاسدة حرصاً على حياة، كما قال تعالى في شأن اليهود لعنهم الله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]. ولذلك تحداهم القرآن الكريم، وهذه من آيات إعجاز القرآن الكريم؛ لأنهم ما قبلوا التحدي حينما تحداهم أن: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94]؛ لأن الإنسان إذا كان صادقاً ومع الحق فكيف يخاف من الموت؟ قال عز وجل: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]، فالكفار وسائر اليهود لا يمكن أن يتمنوا الموت أبداً؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]. ونحن لا ننسى خط برليف، وكيف أنهم صنعوا هذا الخط ليجسد معنى هذه الآية: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ))، فنحن نجد دائماً أن المسلم إذا هجم بنفسه على يهودي لا يثبت أمامه اليهودي حتى لو كانت معه أسلحة أقوى منه، فالمسلم مستعد أن يلتهمه حتى بأسنانه وأظافره، ولذلك لا يقوون أبداً على المواجهة بدون هذه الأسلحة وهذه الجدر. فخفيف الهمة هو الذي أورثته التربية الفاسدة حرصاً على أي حياة ولو كانت ذليلة، قال عز وجل عن هذا وعن أمثاله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، ونكر سبحانه وتعالى كلمة ((حَيَاةٍ)) إشارة إلى أنهم يرضون بالحياة ولو كانت أي حياة، فيريد أن يعيش ولو ذليلاً، المهم أن يكون حياً؛ لأنه قد غرست فيه تربية حب السلامة في مواطن الجرأة والإقدام والمخاطرة. انظر إلى هذا الرجل من خسيسي الهمة كيف يخبر أن زوجته هنداً تشجعه على الخروج إلى الجهاد أو للقتال أو للدفاع عن العرض والقبيلة والعشيرة أو الدين أو غير ذلك؛ حيث كانت زوجته أشجع منه؛ لأنها هي التي تشجعه وتحرضه على الخروج، وهو يرد عليها فيقول: أضحت تشجعني هند فقلت لها إن الشجاعة مقرون بها العطب أي: أن الشجاعة هذه تؤدي إلى المهلكة؛ فإن الشجاعة معناها: أنني قد أموت، قال: أضحت تشجعني هند فقلت لها إن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي حجت الأنصار كعبته ما يشتهي الموت عندي من له أرب للحرب قوم أضل الله سعيهم إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا ولست منهم ولا أهوى فعالهم لا القتل يعجبني منهم ولا السلب ويقول آخر: يقول لي الأمير بغير جرم تقدم حين حل بنا المراس فما لي إن أطعتك في حياة ولا لي غير هذا الرأس راس أي: ليس عندي رأس ثانية، فإذا طارت هذه في الحرب فبماذا أعيش؟! فأين هذان الجبانان من قول الشاعر: إذا أراد الغزو لم تثن عزمه حصان عليها نظم در يزينها نهته فلما لم تر النهي عاقه بكت فبكى مما شجاها قطينها يصور موقف آخر بالعكس من رجل خرج خارج للجهاد فزوجته ظلت تثنيه عن الخروج وتقول له: إلى من تتركنا؟ فإذا أراد الغزو لم تثن عزمه حصان عليها نظم در يزينها أي: متزينة بالدر. نهته فلما لم ترى النهي عاقه أي: ما أثر فيه النهي. بكت فبكى مما شجاها قطينها أي: من حولها من الحشم والخدم والأتباع بكوا لبكائها. بل أين هذا الجبان من قول زهير بن أبي سلمى -وهو شاعر جاهلي-: وليس لمن لم يركب الهول بغية وليس لرحل حطه الله حامل بل نقول: أين هذا الذي يقول هذا الكلام من ذلك العبد الصالح الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه كلما سمع هيعة استوى على متنه، يطلب الموت والقتل مظانة)، إلى آخر الحديث، رواه أحمد ومسلم وابن ماجة. هذا فيما يتعلق بالسبب الأول من أسباب انحطاط الهمة وهو الوهن، والوهن لا يفسر بغير ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (حب الدنيا وكراهية الموت).

دور الفتور في انحطاط الهمم

دور الفتور في انحطاط الهمم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك). وقوله: (إن لكل عمل شرة)، يعني: نشاط وقوة، وقوله: (ولكل شرة فترة)، أي: ضعف وفتور، يعني: أن هذه هي طبيعة النفس البشرية، فهي تبدأ بهمة وبحمية، ثم بعد وقت يصيبها نوع من الفتور والملل. ومن الطبيعي أن الإنسان لا يستطيع أن يلزم نفسه الجد بصورة مستمرة، والفترة والفتور أمر لابد منه، لكن على أن يكون إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: يقف الإنسان بالسيارة في محطة البنزين لبضع دقائق، وهذا نوع من الفتور والضعف أو الراحة أو التوقف من أجل أن يزودها بوقود، ومثل هذه الاستراحة تزود الإنسان بطاقة؛ حتى يستطيع أن يستمر بعد ذلك، فمعنى ذلك: أنه لا يتخذ محطة البنزين مستقراً، ولا يذهب ليأتي بالعفش والسرير والمطبخ والأكل والأواني ويضعها في محطة البنزين ليتخذها مقراً ومسكناً له؛ لأن هذا الشيء لا يعقل، لكن هذا ما نفعله نحن بالفعل، فمحطة الراحة لأجل التزود -كمحطة البنزين بالضبط- نتخذها وطناً، وما يكون في حياتنا إلا اللهو واللعب والكرة، ولا يكاد يوجد مظهر من مظاهر الجد في حياتنا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة)، يعني: فترة قليلة، وبعد ذلك يعاود الجهد، (فمن كانت فترته إلى سنتي)، أي: تبعني في الفترة كما تبعني في الشرة فقد اهتدى، (ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك). وليس هذا مثل من يقول: ساعة لربك، وساعة لقلبك، ويقصد: القلب المريض، يقولها لك إذا نهيته عن المعاصي والمحرمات، وإطلاق البصر، والأغاني، أو أي شيء من المنكرات، حيث يقول: ساعة لربك، وساعة لقلبك! يعني: ساعة لقلبك المريض أو ساعة لشيطانك، وهذه قسمة كما قال عز وجل: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22]. فالمسلم مطالب بطاعة الله سبحانه وتعالى في كل أحواله، ومطالب باحترام شرع الله في جميع عاداته، ومطالب باحترام الشرع في حالة الهزل والجد. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل) متفق عليه، ويقول الشاعر: لكل إلى شأو العلى حركات ولكن عزيز في الرجال ثبات ومعنى هذا: أن الواحد ممكن أن يفهم ويسمع مثل هذا الكلام على ذوي الهمة في عبادة الله تعالى، ويسمع الأسباب في النهوض بالهمة فتتحرك همته إلى أنه يفعل مثل هؤلاء الخيرين الأخيار، وتقريباً أن كل من يسمع عن هذا تتحرك همته إلى الاقتداء بهم، لكن ليس كل الناس يثبتون، بل ترتفع الهمة عند هذا ثم لا تلبث أن تعود من جديد، وتأملوا ذلك في مناسبات كثيرة، فمثلاً: شهر رمضان، تجد في أول يوم من رمضان المساجد مكتظة في الصلوات الخمس؛ لأن رمضان أتى، وكل إنسان يريد أن يتوب ويستقيم ويصلح حاله مع الله سبحانه وتعالى، فالهمة موجودة، حتى في عوام الناس، فيقبلون إقبالاً شديداً جداً، ثم انظر إلى الانحدار الذي يحصل في أيامه البواقي، فمع مضي أيام الشهر يبدأ الناس يتقلصون رويداً رويداً، حتى يعود أهل المسجد العاديون هم الذين يعمرون المسجد من قبل كما كانوا عليه، وقس على ذلك أحوالاً كثيرة جداً. وهكذا في طلب العلم وحفظ القرآن؛ حيث إن الطالب يبدأ في حفظ القرآن بنشاط، ثم لا يلبث أن يتراخى، فمن رأى أن الله سبحانه وتعالى وفقه إلى الثبات في طاعة بدأها واستمر فيها فهذا من فضل الله عليه الذي حرم منه الكثيرون، فلذلك عبر الشاعر عن هذا المعنى أدق تعبير، فالعبرة بأن تثبت، وإلا فأغلب الناس يفترون ويملون، ولا يواصلون، ومن ثمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: (لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل فترك قيام الليل)، يعني: أنه فتر عن قيام الليل، فانظر إلى طاقتك الجسمية وظروف العمل والوقت وغير ذلك، وانظر ما هو الذي يدخل في طاقتك من الأوراد ومن قراءة القرآن ومن التعبد واجعله على قدر طاقتك بلا مبالغة، واستمر عليه، فمثلاً: لا تقم كل الليل ثم بعد ذلك تترك قيام الليل تماماً؛ لأن مثل هذا لن يؤثر في القلب ولن يعالج قسوة القلب، بل الذي يعالج القلب هو العمل المداوم عليه حتى ولو كان قليلاً، فمثلاً: لو أن معك برميلاً من الماء، وصببته مرة واحدة على صخرة، فإنه لن يؤثر فيها على الإطلاق، لكن لو أن نفس الكمية من الماء سقطت على هذه الصخرة الصماء قطرة قطرة فإنها ستحدث فيها حفيرة، وهكذا نفس الشيء المقصود من العبادة: علاج القلب وترقيقه وإحياؤه، وهذا لا يحصل إلا بالمداومة، حتى لو كانت جرعات قليلة في علاج أي مرض فإنها تؤثر. فالإنسان لو أراد أن يتعاطى -مثلاً- مضاداً حيوياً فإنه لا يأخذ الشريط كله، ولا يقول: حتى أستعجل الشفاء فسأبلع الشريط كله؛ لأن هذا يسبب تسمماً، فسنة الله سبحانه وتعالى في العلاج أنه يكون رويداً رويداً، فعلى العبد أن يراعي سنن الله سبحانه وتعالى بالمداومة في كل الأمور، حتى في أذكار النوم، فلا يأت من يقول: أنا سأقول كل أذكار النوم كل ليلة، ثم إذا به لا يواظب عليها، وينام بعد ذلك ويهجرها. لكن لو أنه قسم أذكار النوم إذا كانت خمسة عشر أو ثمانية عشر ذكراً وقال: اليوم الأول أقول ثلاثة أو أربعة، واليوم الثاني أقول أربعة، والذي يليه أربعة، وهكذا بطريقة دورية، فإنه مع الوقت يأتي بها كلها، وفي نفس الوقت لا يهجرها كلها، وإنما يهجر بعضها إلى حين، ثم يعود، والثواب الأكثر يكون للأكثر، لكن الأوسط أبسط وأجدر أن يداوم عليه صاحبه ويستمر، وقد كان أحب العمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه، وكان إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه صلى الله عليه وسلم. وتجد في بعض الأحاديث إشارة إلى هذا، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من صلى في يومه وليلته اثنتي عشرة ركعة دخل الجنة)، يعني: من واظب ولم ينقطع، ولم يصبه الفتور والملل.

إهدار الوقت سبب من أسباب انحطاط الهمة

إهدار الوقت سبب من أسباب انحطاط الهمة من أسباب انحطاط الهمم: إهدار الوقت الثمين في الزيارات والسمر وفضول المباحات، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ). فالإنسان قد يعطى الصحة لكن لا يعطى الفراغ بسبب شغله في الدنيا، وهذا كحال أغلب الناس الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة). والشاهد منه قوله: (جيفة بالليل، حمار بالنهار)، وكلمة (حمار) المقصود منها: بيان أنه يكدح كما يكدح الحمار، ويتحمل المشقة والتعب، وأصبح يضرب به المثل فيقال: فلان يعمل مثل الحمار. يعني: أنه يعمل عملاً شاقاً جداً، ويداوم ويصبر عليه، فإذا أتى الليل لا يذكر الله سبحانه وتعالى، فهو جثة ملقاة بالليل، حمار بالنهار في طلب الدنيا؛ لأن عنده نعمة الصحة، فبعض الناس يؤتى الصحة التي يقتحم بها أسوار الدنيا، لكن ليس عنده وقت للآخرة؛ فهو مشغول دائماً في الدنيا. وهناك أناس آخرين حرموا نعمة الصحة وعندهم وقت، مثل: إنسان مريض؛ فالمريض مرضاً مزمناً أو شديداً لا يمكنه من فعل أي شيء مفيد عنده الوقت؛ إذ لا شيء يشغله، لأنه مريض ملازم للفراش، لكنه فقد الصحة. فأتم وأكمل ما يكون الأمر للإنسان إذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليه بهذين الأمرين: صحة مع فراغ، فإذا استثمرهما في طاعة الله سبحانه وتعالى، وسخر الصحة والفراغ في طاعة الله وفي المقاصد الخيرية فهذا أعظم نعمة على العبد. لكن المؤلم أن أكثر الناس في غفلة عن نعمة الله العظيمة، بل بعضهم حينما يجمع الله له هاتين النعمتين -الصحة والفراغ- يدمر الصحة بالمخدرات وبالسجائر والتدخين وبغير ذلك، ويقتل الوقت أو يقتل نفسه على الأحرى بالجلوس في المقاهي. وتقريباً ظاهرة المقاهي غير موجودة إلا في بعض البلاد، كما في بلادنا حيث ترى الناس في المقاهي، وكأنه ما بقي أحد جالس في بيته، فالمقاهي عامرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والمساجد حالها كما تعلمون شيء مؤلم، وإذا قلت له: ماذا تفعل؟ يقول لك: أقتل الوقت! أنت تقتل نفسك، وتنتحر، فالنعمة هذه وكل لحظة محسوبة عليك؛ فالله سبحانه وتعالى أبلغ في الإعذار، وأعطاك كل فرصة ممكنة، وأنت الذي كفرت بها وضيعتها، فمعك العقل، ومعك الوحي الإلهي من القرآن والسنة يرشدك إلى كيفية استثمار الوقت، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة - النخلة الصغيرة - فإذا استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها). فهذا الحديث يعلمنا كيف نغتنم ونستثمر الوقت، فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بنعمة الصحة مع نعمة الفراغ فلا تكن من أكثر الناس الذين هم محرومون من استثمار هذه النعمة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والغبن: يحدث عندما تملك سلعة وتريد أن تبيعها، فتبيعها بأقل من سعرها، أو إذا كنت ستشتري تشتري بأكثر من سعرها، هذا هو الغبن؛ فأنت تغبن نفسك عندما تأتي الفرصة وتضيعها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من النوم حمد الله على هذه النعمة، أي: نعمة أن الروح ترد إلى صاحبها عند الاستيقاظ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالنشور فقال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)، فهذه النعمة العظيمة هي أن الله سبحانه وتعالى مد في عمرك، وأعطاك فرصة جديدة اليوم؛ لعلك تتوب لعلك تستقيم على طاعته لعلك تنوي المزيد من أفعال الخير، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره)، أي: أعطاني فرصة أن أذكر الله. ولذلك جاء أن ثلاثة شبان من بني عذرة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستضافهم أبو طلحة، فدعا داعي الجهاد، فخرج واحد منهم إلى الجهاد، فقتل في سبيل الله، ثم بعد فترة دعا داعي الجهاد، فخرج الثاني وقتل في سبيل الله، إلا الثالث مات على فراشه ولم يخرج إلى الجهاد كصاحبيه، ثم رآهم أبو طلحة في المنام، فرأى ترتيبهم فرأى أن آخر واحد مات على فراشه هو أعلاهم درجة، يليه الثاني، ويليه الأول الذي مات أولاً في الجهاد، فتعجب من ذلك، وحكا الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (وما يعجبك من ذلك؟ إنه ليس أحد أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام بالتسبيح والتهليل والتكبير)، أي: كيف تستغرب هذا؟ فهذا شيء طبيعي؛ إنه ليس أحد أفضل من مسلم يعمر في الإسلام؛ لأن عمره يزيد والطاعات تزيد، أما من كان عمره يزيد ويزيد شقاه ومعاصيه فمعناه: أن طول عمره مصيبة عليه، لكن العبرة حين يطول العمر وتكثر الأعمال الصالحة؛ لأن هذا يستكمل هذه النعمة؛ فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن أو مسلم يعمر في الإسلام بالتسبيح والتكبير والتهليل). فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرح له الموقف، وقال له: إن الشهيد الثاني عاش وبقى فترة بعد الأول عمرها بالصلاة والذكر والتسبيح وقراءة القرآن وكذا، وبعد ذلك عاش الثالث؛ رغم أنه مات على فراشه، لكنه استطاع بالذكر وبقراءة القرآن وبالصلاة وبالعبادة أن يسبق الشهيدين مع أنه مات على فراشه، فهذه نعمة عظيمة جداً. والظاهر أن هذا هو مضمون رسالة إبراهيم عليه السلام من السماء؛ فإن إبراهيم عليه السلام أرسل لنا لكنا وكل مسلم على وجه الأرض منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، فكل واحد منا يتذكر ذلك، وكأنما جاءته رسالة باسمه من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذلك حينما قال للرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج: (يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والحديث صحيح. فهذه الرسالة من إبراهيم عليه السلام يبين فيها أن الجنة قيعان، وأنه كلما قال العبد: سبحان الله وبحمده، تغرس له نخلة في الجنة، وإذا قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات يبنى له قصر في الجنة، فأي حسرة يتحسرها الإنسان بعد الموت على هذه الفرص التي ضيعها وجعلها هباءً منثوراً؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)، يعني: أن الجنة دار منزهة عن النصب والتحسر والألم إلا من شيء واحد فقط يتحسر عليه أهل الجنة، وهو أنهم حينما يرون النعيم الذي هم فيه يتحسرون على لحظة من الزمن مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها. فلاشك أنه لا يضيع هذه النعمة إلا مغبون، والإنسان إذا كان عنده رأس مال ويتجر به فإذا ربح فهذا هو الفوز، وإذا استرد رأس المال فهذه فائدة أيضاً، وإذا رأس المال نفسه هلك وضاع، فلا ربح ولا رأس مال وإنما خسران مبين، فعلى هذه الخسارة يتحسر هذا الإنسان. وبعض العلماء قال: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج. وسورة العصر فيها قسم بالعصر والوقت والدهر والزمن، قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، يعني: أن كل الناس في خسر، ثم استثنى قلة قليلة فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، فهؤلاء فقط هم الذين ينزهون من الخسران، ولماذا الإنسان في خسر؟ A لأنه إذا لم يستثمر نعمة الوقت والصحة في هذه الأشياء الأربعة: ((آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))، فإنه يخسر رأس ماله. وهي خسارة ما بعدها خسارة. قال: رأيت هذا الرجل بائع الثلج -وقبل لم تكن هناك ثلاجات ولا مجمدات بحيث يحفظ فيها الثلج- فالسوق انفض، وصلى الناس صلاة العصر، فبقيت عنده بعض ألواح من الثلج التي هي رأس ماله لم يبعها، وقارب العصر على الخروج، فالرجل كان يسير في الطرقات كالمجنون، يحمل الثلج ويقول للناس: ارحموا من يذوب رأس ماله! ارحموا من يذوب رأس ماله! لأن رأس ماله ماء متجمد، فإذا ذاب لم يبق معه رأس مال، فكذلك نفس الشيء؛ رأس مالك أنت هو الوقت، فإذا ضيعت الوقت فأنت تخسر رأس المال، فمن ثمَّ وصف الله الإنسان المضيع وقته بالخسران فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]. بين تبارك وتعالى في هذه الإشارة العظيمة في الحلف والقسم بالعصر أن العصر -الذي هو الزمن والوقت- نعمة عظيمة فلا تضيعوها؛ فهي نعمة شريفة، ولذلك أنا أقسم بها وأقول: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، أقسم بها أنها نعمة شريفة، والسيئ ليس الزمان، إنما السيئ أفعالكم أنتم، كما قال الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا فليس هناك حاجة اسمها زمن أسود، وإنما أعمالنا نحن هي التي تسيئ إلينا. الشاهد من الكلام: أن هذا الحديث يشير إلى هاتين النعمتين: الصحة والفراغ، فإذا أعطيت قدراً من الصحة والفراغ فاستثمر هاتين النعمتين بأقصى ما تستطيع. يقول الشاعر: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع

حفاظ السلف على أوقاتهم

حفاظ السلف على أوقاتهم تعالوا نتحسر على أنفسنا حينما نرى أحوال السلف الصالح رحمهم الله تعالى، يقول الفضيل بن عياض: أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة. يعني: يقدر يعد كم كلمة تكلمها من الجمعة إلى الجمعة التي تليها! أي: أنه حارس على لسانه حتى على عدد الكلمات التي يتكلمها. ودخلوا على رجل من السلف فقالوا له: لعلنا شغلناك؟ قال: أصدقكم؛ كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم. يعني: أنتم عطلتموني عن الخير. وجاء عابد إلى السري السقطي فرأى عنده جماعة فقال: صرت مناخ البطالين؟! ثم مضى ولم يجلس. أي: صرت المستظل الذي يجلس عنده أهل اللهو والغفلة، فرفض أن يجلس معه. وقعد جماعة عند معروف الكرخي فأطالوا القعود، فقال لهم: إن ملك الشمس لا يفتر عن سوقها، فمتى تريدون القيام؟ وقال بعض السلف: من فاتته ركعات الفجر فليلعن الثقلاء. يعني: الذين يزورون الإنسان بعد العشاء، ويسهرون معه حتى يعطلوه عن ركعتي الفجر. وقال بعض السلف: إذا طال المجلس صار للشيطان فيه نصيب. يعني: أن المجلس يكون بقدر الحاجة، فإذا كنت في صلة رحم أو عيادة مريض أو غير ذلك من الأسباب فعليك أن تقضي حاجتك وتنصرف، أو تجتمع معه على طاعة كقراءة كتاب أو مسألة علمية أو حفظ قرآن أو تسميع قرآن أو ذكر لله عز وجل، أما ما سوى ذلك وقد قضيت حاجتك فالجلوس إذا طال صار للشيطان فيه نصيب؛ لأنه سوف ينشغل الإنسان بعد ذلك بالغيبة وبالنميمة وبالكلام فيما لا ينفع ولا يجدي. ولذلك قال الحسن أيضاً: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. وكان عثمان الباقلوي دائم الذكر لله تعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج؛ لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر. وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم. فهذه نصيحة ذهبية للإخوة نرجو أن يلتزموا بها، فإذا كنت أيها الأخ! في المسجد فصليت وقضيت حاجتك أو حضرت درس العلم فامش وحدك؛ لأنك إن كنت وحدك فممكن أن تسمع القرآن وأنت تمشي، وأن تذكر الله سبحانه وتعالى. أما إذا مشى معك أحد فإنه يعطل بعضكم بعضاً، فإن كنتم تمشون جماعة لكن كل واحد ينشغل بذكر فلا بأس، أما أن جماعة يمشون ويتكلمون في كلام لا يفيد فالوحدة أفضل من هذه الجماعة. وجليس الخير خير من قعود المرء وحده، ووحدة الإنسان خير من جليس السوء.

العجز والكسل من عوامل انحطاط الهمة

العجز والكسل من عوامل انحطاط الهمة من أسباب انحطاط الهمة: العجز والكسل، فالعجز والكسل هما العائقان اللذان أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعوذ بالله منهما، فمما كان يقول: (وأعوذ بك من العجز والكسل)، فالعجز بأن يكون يريد أن يفعل لكنه غير قادر، والكسل: أن تكون قادراً لكن ليس هناك همة، وعندك فتور. وقد يعذر العاجز لعدم قدرته بخلاف الكسول، فالعاجز قد يعذر؛ لأنه يحاول ولا يستطيع، فتخلف العمل نتيجة عجز، لكن الكسول عنده القدرة، لكنه همته ضعيفة، فلذلك لا يعذر الكسول، وقد يعذر العاجز؛ فالكسول يتثاقل ويتراخى مع القدرة على أداء ما ينبغي. قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. فالإنسان مطالب بين وقت وآخر أن يجدد التوبة مع كل نفس جديد أو ثانية تمر بعمرك، فهذه فرصة جديدة، فكيف تسوف وتقول: سأتوب الأسبوع القادم أو الشهر القادم، فلا تقل: بعدما أعتمر أو بعدما أحج سوف أتوب، كما يضحك الشيطان على كثير من الناس. والمرأة يقال لها: متى تتحجبين؟ فتقول: بعدما أحج وأرجع! فهل تضمنين عمرك؟ وهل تظنين أنك غير مسئولة عن الحجاب في هذه الفترة؟ بل أنت آثمة، وتحملين هذا الوزر، وكذلك في كل طاعة تؤجل بلا مبرر أو بلا مسوغ. فاتقوا الله، وتوبوا إليه، واستقيموا؛ فإن الصادق يأخذ بالأسباب، كما قال تعالى: ((وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً))، فإذا أردت أن تنهض من وحل التدخين وحل المخدرات وحل الغفلة وحل اللهو فلابد أن تعد عدة، وابذل من الأسباب ما يثبت جديتك في هذا الأمر، قال عز وجل: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. روي أن رجلاً قال لـ خالد بن صفوان: ما لي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار، وتدارسون الآثار، وتناشدون الأشعار وقع علي النوم؟ قال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان. وقد ترى الرجل موهوباً ونابغة فيأتي الكسل فيخذل همته، ويمحق موهبته، ويطفئ نور بصيرته، ويشل طاقته؛ ولذلك قلنا: الكسول لا يعذر؛ لأن الكسول قادر على أن يفعل، بخلاف العاجز، فممكن أن الإنسان يكون موهوباً فعلاً وذكياً وقادراً على العمل، لكن تنحط همته، فتشل طاقته. قال الفراء رحمه الله تعالى: لا أرحم أحداً كرحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه؛ وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم. قال المتنبي: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام فأنت قادر لكن الكسل هو الذي يعجزك؛ لذلك لا تعذر بالكسل.

الغفلة سبب من أسباب انحطاط الهمم

الغفلة سبب من أسباب انحطاط الهمم من أسباب ضعف الهمة: الغفلة، وشجرة الغفلة تسقى بماء الجهل، وكلما زاد الجهل كلما زادت الغفلة في الإنسان، فالجهل عدو الفضائل كلها، فهل علمتم أمة في جهلها ظهرت في المجد حسناء الرداء؟! قال عمر رضي الله عنه: الراحة للرجال غفلة. وقال شعبة بن الحجاج: لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم. أي: لا تقعد فارغاً من العمل الصالح؛ لأنه ليس هناك شيء اسمه فراغ؛ فإن الموت يطلبك، ويجري وراءك، وكل لحظة تمر أنت تقترب بها خطوة إلى السطح، وهو موعد أنت لا تعرف متى يحل، فقد يكون بعد ساعة، أو بعد لحظة أو بعد دقيقة أو بعد سنة، فلا تدري متى يحضر، فكن متأهباً لملاقاة الموت، ولذلك يقول: لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم. يقول أبو الدرداء: (عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه)، أي: هو يجري وراء الدنيا، والموت يجري وراءه، قال: (عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه، ولغافل وليس بمغفول عنه)، أي: هو غافل، لكن هل الله غافل عنه؟ A لا، ليس بغافل عنه، قال عز وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]. قال: (وضاحك ملء فيه ولا يدري أرضي الله عنه أم سخط عليه؟)، فلاحظ قوله: (ملء فيه)، كما نرى الذين يضحكون من المسرحيات الكوميدية، ويضحكون على الذين في التمثيليات، والمتطرفين والإرهابيين، وكل هذا مما توحيه الشياطين إلى هؤلاء الناس، فيضحك أحدهم ويفرح ويمرح وهو لا يدري هل الله سبحانه وتعالى فوق السماء راضٍ عنه أم ساخط عليه! قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:29 - 31]، فهم ينكتون على هؤلاء الملتزمين، والله المستعان. وسئل ابن الجوزي: أيجوز أن أفتح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها. يقول الأستاذ محمد أحمد الراشد: وكلامه طيب جداً في هذه المسألة-: فإن اعترض معترض أتيناه بمثل كلام ابن القيم رحمه الله؛ حيث يقول: لابد من سنة الغفلة ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم لا يدمن شيئاً من الغفلة. وكما قدمنا في الكلام على الفترة، وذكرنا أن الإنسان لا يجعل الفترة هذه هي المستقر والوطن، بل هي فترة مؤقتة يستريح فيها، ثم يعود من جديد للعمل والاجتهاد. فلذلك يقول ابن القيم: كل إنسان لابد له من سنة الغفلة ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم، لا تجعل نومك ثقيلاً، وتستمر في الغفلة، وتبقى هي الأصل في حياتك. يقول الشيخ الراشد: والمراد: تقليل الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم كل حسب صحته وظروفه، خاصة وأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية؛ لأننا في زمان حتى الهواء الذي نتنفسه مسموم، لا أعني: العوادم وتلوث البيئة الذي يتحدثون عنه، نعم هي تلوث، لكن أعني تلوث البيئة الأخلاقية تلوث البيئة الثقافية تلوث البيئة الفكرية تلوث البيئة الاجتماعية تلوث في كل مكان. وقد ضرب بعض الناس لهذا مثالاً فقال: لو أن أناساً كانوا يعيشون في الريف، فأغلقوا الحجرات، وأتوا بالفحم وأحرقوه، وأقفلوا الشبابيك؛ لأجل أن الجو بارد، فيريدون أن يدفعوا هذا البرد، فماذا سيحصل؟ سيحصل الاختناق بسبب وجود غاز ثاني أكسيد الكربون بسبب الاحتراق، فيخنقهم الغاز ويقتلهم، مع أنهم يتلذذون بهذا الهواء الذي يستنشقون، فهؤلاء يختنقون دون أن يشعروا، يختنقون رويداً رويداً دون أن يحسوا بهذا السم. فلو أتى رجل وفتح عليهم النافذة فحينئذٍ فقط يفرقون بين الهواء النقي وهذا الذي يتنفسونه. وهكذا الوضع بالنسبة إلينا، فلا توجد نافذة نلقي منها الهواء المسموم الذي نحن فيه، ونصحح ما نتعاطاه من الهواء الفاسد إلا السير على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فحينما نرى أحوال السلف نحس بالسم الذي نعيش فيه، وقد حصل منا نوع من التكيف مع هذا الباطل، بل التأثر به، شئنا أم أبينا، فلا يمكن أن تنطلق قوتنا إلا بالمقارنة باستمرار مع أحوال السلف الصالح رحمهم الله تعالى، لأنهم هم الذين عاشوا في بيئة نقية مائة في المائة، وكانت الغلبة للإسلام، فما كان عندهم أي سموم في المعرفة التي يغص بها المسلمون الآن، فكل الأعراض مسممة إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى من البقايا الذين يدعون إلى منهج السلف الصالح يرحمهم الله تعالى، ويذكرون الناس بأحوالهم، فهذا هو المنبع الوحيد الذي نستطيع أن نقوم به اعوجاجنا، وأن نطلع بين وقت وآخر على أحوال السلف؛ حتى نراجع أنفسنا، وإلا فسوق نسقط صرعى للتضليل وللآبار المسمومة، ولهذا الغاز المسموم. يقول الشيخ الراشد حفظه الله: وإن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعاجلة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية؛ ذلك أنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، والرذائل تجهد نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء وسيوط الأمراء، أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعاً مبصراً بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف -طبعاً والدش والفيديو- وجعلت إلقاءات جميع أجناس الشياطين قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع والمنظور، فضلاً عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها، فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لوقته أكثر مما كان يجب على السلف. وما أصدق تصوير إمام تركيا بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله لهذه الحقيقة حيث يقول: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كبلدة واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم. يعنى: بالجرائد صباح ومساء، والنورسي في زمانه كانت وسيلة الاتصال بين أقطار العالم هي الجرائد، أما الآن فليست الجرائد فحسب، ولكن بالريموت كنترول، فبضغطة زر وهو جالس على الفراش ممكن أن يطوف كل أنحاء العالم، ويطلع ويعرض على قلبه لكل أنواع الكفر وكل أنواع المعاصي والفواحش بكل ما تعنيه من معنى، حيث تغزوه وتغزوا أهله، وأولاده في كل مكان، فضلاً عن مناهج التعليم، فضلاً عن رفقاء الشوارع. فأقول: إن التناجي بالإثم الآن أصبح أعظم بكثير مما كان يتكلم عنه النورسي رحمه الله. يقول: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كبلدة واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يليق في الجرائد صباحاً ومساءً، غلظ بسببها وتكاتف بملاهيها حجاب الغفلة؛ بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة. يعني: لا يستطيع الإنسان أن ينجو من هذه الفتن كلها إلا بهمة قوية جداً؛ لأن الهوى يدفعه إلى هذه الأشياء، والشيطان يسول له، وصحبة السوء تحرضه، والنفس الأمارة بالسوء تأمره، فبالتالي لا يستطيع المقاومة إلا إذا كانت له همة يستعلي بها ويصعد ويرتقي أعلى من هذه المغريات كلها. هذا فيما يتعلق بكون الغفلة سبباً من أسباب انحطاط الهمة.

دور التسويف والتمني في انحطاط الهمة

دور التسويف والتمني في انحطاط الهمة التسويف والتمني هما صفة بليد الحس عديم المبالاة، الذي كلما همت نفسه بخير إما أنه يعيقها بكلمة (سوف) حتى يفجأه الموت، وأكثر ما يصيح أهل النار من كلمة (سوف)، يقولون: واحزناه من سوف! فإذا أكثر الإنسان من قوله: سوف أصوم، وسوف أصلي، وسوف أتوب، وسوف أفعل كذا فلن ينجز شيئاً. فإذا همت نفسه بخير يقول: سوف أفعل فيما بعد، ويؤجل، فإذا حضره الموت قال: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:10 - 11]. ألم تعط الفرصة؟ كما قال عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] يعني: ألم نمد في أعماركم فترة كافية، فمن أراد أن يتوب فقد كانت عنده فرصة يتوب فيها. وقوله: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قيل في تفسيرها أشياء كثيرة، لكن من ضمنها: أن النذير هو الشيب في الرأس، يعني: أن هذا الشيب إنذار بقرب الموت، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أعذر الله إلى رجل أخره حتى بلغ ستين سنة)، يعني: إذا وصل ستين سنة ومع ذلك ما تاب ولا أناب بل تمادى في المعاصي والمخالفات فبعد ستين سنة ماذا ينتظر؟! هذا فيما يتعلق بمن يقول: سوف، وهناك من لا يقول: سوف، ولكنه يركب بحر التمني، وأحلام اليقظة، والإنسان إذا كان يعيش في حلم فإن هذا الحلم يكون حلماً لذيذاً، ويود ألا يستيقظ عند وقت الصلاة أو عند أي شيء؛ حتى لا يفسد عليه أحد هذه اللعبة وهذا الحلم الزائف، وهي وهمية عبارة عن أحلام في أحلام، كما قال الشاعر: أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع لكن هذا يريد أن يستمر دائماً في الأحلام؛ حتى يتمتع بها، فيحلم أنه يطير، وأنه يأكل أو يشرب أو كذا أو كذا مما يعوقه ويسره من هذه الأحلام. فالإنسان إما أن يسوف ويقول: سوف أصوم سوف أتوب سوف أصلي سوف أفعل، والعمر يمضي ويجري، وإما أن يركب بحر التمني، والتمني يطلق على ما لا يكون وما لا يقع، وهو بحر لا ساحل له، فيبقى الحالم في هذا البحر إلى ما لا نهاية، ويدمن ركوبه مفاليس العالم، كما قيل: إذا تمنيت بت الليل مغتبطاً إن المنى رأس أموال المفاليس فالمفلس رأس ماله التمني؛ ويظل يحلم بأنه سيفعل كذا ولو أنه كذا! كما سنبين في المسائل القريبة إن شاء الله. أما بضاعة ركاب السفينة التي تخوض في بحر التمني الذي لا ساحل له فهي: مواعيد الشيطان، وخيالات المحال والبهتان، فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة والخيالات الباطلة تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الدنية، فيتمثل المتمني صورة مطلوبه في نفسه وقد فاز بوصلها، والتذ بالظفر بها، فبينما هو على هذه الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير في التراب! يعني: لم يحصل شيئاً؛ لأنه لا يحصل على شيء في عالم الحقيقة، بل كل إنجازاته في عالم الخيال. وأحلام اليقظة بحد ذاتها ليست ضارة إذا كان يترتب عليها عملاً، فإذا كان الإنسان وهو مستيقظ يفكر أن يفعل كذا وكذا من أعمال الخير أو يخطط لشيء نافع له، ومادام هذا التخطيط ينقلب بعد ذلك إلى واقع فلا حرج في ذلك، لكن المشكلة في أن تكون كل حياته أحلام يقظة، ولا يفعل شيئاً على الإطلاق، فأنى ترتفع همة مثل هذا الشخص؟! يقول ابن القيم في مدارج السالكين: وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الدنية، فيتمثل المتمني صورة مطلوبه في نفسه، وقد فاز بوصلها، والتذ بالظفر بها، فبينما هو على هذه الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير. وقد جاء في بعض الكتب قصة فيها: أن ناسكاً كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوماً على طريقة الأماني الكاذبة فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري بالعشرة دراهم خمسة أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، وحتى يبلغ النتاج مبلغاً، وأشتري بكل أربع -أي: أعنز- بقرة، وأشتري البذور، فأزرع، وينمو المال في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ولد، فأسميه كذا، وآخذه بالأدب -وكان معه العصا- فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه، ورفع العصا التي كانت في يده حاكياً للضرب فأصابت الجرة، فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه! فانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل وقال رجل لـ ابن سيرين: إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح، فما تفسير هذه الرؤيا؟ فقال له: أنت رجل كثير الأماني والأحلام. وما أحسن ما قال أبو تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولاً يعني: أنه يشبه العزيمة والهمة بالمرعى، وأن الأرض التي ترعى فيها العزيمة أرض قاحلة، فيها أمانٍ كاذبة فقط، فستبقى عزيمته دائماً هزيلة لا تسمن؛ لأنها لا تأكل شيئاً. وعن الحسن قال: المؤمن من يعلم أن ما قال الله عز وجل كما قال، والمؤمن أحسن الناس عملاً، وأشد الناس خوفاً، لو أنفق جبلاً من ماله في سبيل الله لا يأمن عذاب الله سبحانه وتعالى ولا سوء الخاتمة إلا بعد أن ينجيه الله، ويرى الجنة بعينيه. أي: وأما قبل ذلك فلا يأمن. ولا يزداد الإنسان صلاحاً وبراً وعبادةً إلا ازداد خوفاً من الله. فكلما ازداد في العبادة كلما ازداد خوفه من الله. وأما المنافق فيقول: سواد الناس كثير، وعدد الناس كثير، وسيغفر لي، ولا بأس علي، ويسيئ العمل، ويتمنى على الله تعالى. وأما السلف الصالح فكانوا يحسنون ويخافون، أما نحن فنسيئ ونرجو ونطمع ونؤمل. قال المتنبي منزهاً ممدوحه عن الاستغراق في أحلام اليقظة، ومبيناً كيف أجفى الحقائق واعتاد ركوب المخاطر: وما كنت ممن أدرك الملك بالمنى ولكن بأيام أشبن النواصيا لبست لها كدر العجاج كأنما ترى غير صافٍ أن ترى الجو صافيا يعني: هذه حالة استثنائية؛ فإذا كان الجو صافياً فإنه يبقى غير صافٍ؛ لأنك تعودت على المحن، وتعودت على الشدائد وخوض الأهوال.

دور جليس السوء في انحطاط الهمة

دور جليس السوء في انحطاط الهمة من أسباب انحطاط الهمة: مجالسة سافل الهمة من أبناء الدنيا؛ فإن سافل الهمة من طلاب الدنيا كلما هممت بالنهوض جذبك إليها، وغرك قائلاً: أمامك ليل طويل فارقد! وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك -يعني: يعطيك- وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)، متفق عليه واللفظ لـ مسلم. فهذا حال الجليس الصالح وجليس السوء، فلابد أن تتأثر بالجليس شئت أم أبيت، فحذار من مجالسة المثبطين من أهل التبطل والتعطل في اللهو والعبث؛ فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري، وليس إعداء الجليس لجليسه بمقاله وفعاله فقط بل بالنظر إليه، وكما أن الأطباء يقولون: إن الأمراض تعدي وتنتقل، فكذلك الأخلاق أيضاً تنتقل بالتأثير وبالعدوى؛ لأن الطبع يسرق، فإذا أردت أن تجد لنفسك صفة معينة فصاحب واحداً فيه هذه الصورة، فإذا صاحبت إنساناً غافلاً لاهياً عابثاً فإن هذا يدل على أنك تريد أن تنتقي نفس هذه الصورة، وهذا أمر مشاهد ومعروف. وطرق العدوى ليست فقط الكلام أو الأفعال وإنما أيضاً تنتقل هذه العدوى بالنظر إلى أهل السوء وأهل البطالة، أو بالنظر أيضاً إلى أهل الهمة، فتنتقل هذه العدوى وهذا التأثير، وما سمعنا في الطب بعدوى تنتقل بالنظر، فهذا يعني أن هذا الداء أخطر من الأمراض الجسدية، وهذا الشيء محسوس، فإذا كان هناك مجمع من الناس فتثاءب منهم أحد فإن البقية كلهم يتثاءبون مثله، وهذا مما هو معروف فتنتقل العدى حتى بالنظر، والروح يكون لها تأثير على الروح التي تجالسها. فالنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه، ومن الإنسان نستعرض هذا المعنى، فالنظر في صور الظالمين أو الفاسقين لابد أن يطبع تأثيراً في القلب، ولذلك من رحمة لله بالإنسان أن يعافيه من النظر إلى التلفزيون وإلى صور الملوك والرؤساء والممثلين والفنانين ونحوهم، فهؤلاء لا تنظر إليهم، ومن سلامة لقلبك ألا تنظر، وإذا نظرت فلابد أن سيحصل عندك نوع من أنواع التأثير، ولذلك كن في عافية، وسد هذا الباب حتى لا تتأثر بأخلاق هؤلاء القوم. فهذه أم جريج العابد دعت عليه ألا يموت حتى ينظر إلى وجوه الزانيات، كما في القصة المعروفة في صحيح مسلم، ونظر بالفعل، وأمه كانت ترى أن هذه عقوبة، ولذا دعت عليه بها، فدعت عليه بأنه لا يموت حتى يبصر هذه الفتنة والعياذ بالله! لأن هذا يضر بالإيمان والقلب، فلا تفعل كما يفعل الأسير الذي يفرح بالرق ويفخر به، ويفخر أن عنده دشاً، ويفخر أنه ينظر إلى التلفزيون والأفلام وكذا! فأنت تقتل نفسك، وتسمم قلبك، ولا تضر إلا نفسك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً)، فأنت المتضرر في الحقيقة. فالنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه، ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظن بالنفوس البشرية؟! قال الشاعر: ولا تجلس إلى أهل الدنايا فإن خلائق السفهاء تعدي

العشق سبب من أسباب انحطاط الهمم

العشق سبب من أسباب انحطاط الهمم من أسباب انحطاط الهمم: العشق، ووقوع الإنسان في أسر العشق، ولا شك أن هذا الموضوع يطول فيه الكلام جداً، وهو من البلاء الذي تجند من أجله الآن هيئات وأموال، ولأن كل شاب يتمنى أن تكون في حياته فتاة يتخيلها ويتغنى بها، وينشد لها الأشعار والأغاني، ويزعم أن هذا هو الوضع الطبيعي؛ محاكاة لأحوال الكفار. وفي الحقيقة أن هذا الموضوع موضوع كبير؛ لكن لأنه ليس عاملاً أساسياً فسوف نشير إشارة عابرة؛ فالعشق يسفل الهمة؛ لأن هذا العاشق تستنفذ كل طاقاته في تحصيل محبوبته، وكل همته أنه يراها، أو يقابلها، أو يحصل منها على كذا أو كذا، فكل همته تتجه إلى هذا الشيء، وكل حياته تطوف حول محور معين ألا وهو المعشوق. فالشاهد: أن همة العاشق تنحصر في أن يحصل ما يحبه، فيلهيه ذلك عن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. فعالي الهمة يأنف ويستنكف أن يستأسره العشق الذي يمنع القرار، ويسلب المنام، ويولع العقل، ويحدث الجنون، وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه! وأتلف دينه ودنياه! والعشق يترك الملك مملوكاً، والسلطان عبداً، وترى الداخل فيه يتمنى منه الخلاص ولات حين مناص، وكم أكبت فتنة العشق رءوساً على مناخرها في الجحيم! وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم من بين أصناف النار كئوس الحميم. فالحقيقة أن العشق أخطر من ذلك، ويحتاج إلى أكثر من عبارة حتى نعطيه حقه، لكن هذه إشارة عابرة المقصود بها الإشارة إلى تأثير العشق في الهمة، وأنه في الغالب يثبط الهمة، إلا إذا صادف عشقاً مباحاً، وهو عشق الزوجة، فلم ير للمتحابين مثل النكاح؛ لأنه حصلها في هذه الحالة، وصارت تحت سلطانه، أما خلاف ذلك فالأحوال كما تعرفون.

دور الانحراف في العقيدة في انحطاط الهمم

دور الانحراف في العقيدة في انحطاط الهمم من أسباب سفل الهمة: الانحراف في العقيدة، فالانحراف في العقيدة ينعكس أيضاً على همة الإنسان، ونخص بالذكر هنا قضيتين من قضايا العقيدة: قضية سوء فهم القضاء والقدر، وقضية الإرجاء، فالمسألة مسألة عقيدة، فإذا أساء الإنسان فهمها فإنها تجعل همته سافلة، فسوء فهم قضية القضاء والقدر بلا شك ينعكس انعكاساً واضحاً جداً على همم بعض الناس، خاصة الذين يذهبون إلى مذهب الجبرية. وقد سبق الكلام في هذا بالتفصيل، والمقصود: مجرد الإشارة، فسوء فهم القضاء والقدر يؤدي بالإنسان إلى التواكل وعدم تحصيل التوكل على الله سبحانه وتعالى حق توكله. كذلك أيضاً بدعة الإرجاء، وأن الإيمان كلام فقط، ومعرفة بلا عمل، وأن المعاصي لا تؤثر في الإيمان، وأن الناس لا يتفاضلون في إيمانهم. وتعتبر بدعة الإرجاء من أخطر البدع وأشرها تأثيراً في الهمة.

الغناء ودوره في انحطاط الهمم

الغناء ودوره في انحطاط الهمم من أسباب انحطاط الهمم: الفناء، وهو اصطلاح صوفي، لكن نحن مضطرون إلى استعماله هنا؛ لأن هذا واقع من كثير من الناس، فهناك الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد، وحقوق الأهل والأولاد من الواجبات على الرجل، لكن نحن لا نتكلم عن شخص يؤدي الواجب الذي عليه، بل نتكلم عن واحد يستغرقه الأهل والأولاد بصورة تفتنه تماماً عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبصورة يتحقق فيها ما حذرنا منه الله سبحانه وتعالى حينما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، وقوله: (عَدُوًّا لَكُمْ)، يعني: عداوة غير مباشرة، فالعدو إما عدو صريح، وإما عدو متلون، فإيثار رضا الأهل والأولاد على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، والافتتان بهم بحيث أن الإنسان يرتكب مخالفات في سبيل أن يأتي لهم بالمال أو غير ذلك فإن هذا يعتبر عداوة حقيقية؛ لأنها تؤثر في الدين سلباً، فمن ثمَّ أطلق الله على هؤلاء الأحباب الذين يحبهم الإنسان قوله: ((عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) [التغابن:14]، أي: كما تحذرون الأعداء. فمن أسباب انحطاط الهمة الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد، واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم؛ فالأب ليست له وظيفة غير أنه يحقق كل رغبات الأطفال، فهم يأمرون وهو ينفذ، ويقول: سمعنا وأطعنا، وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة، هذا هو الذي نعنيه. ومثل هذا ينظر إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن لأهلك عليك حقاً)، لكنه يترك قوله: (وإن لربك عليك حقاً)، فالمسلم مطالب أن يكون متوازناً، فيكون عنده نوع من التوازن بين الحقوق والواجبات، وأيضاً يترك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فأعط كل ذي حق حقه). فكل ذي حق يأخذ حقه، وقد عد الله سبحانه وتعالى الأهل والأولاد أعداء للمؤمن إذا حالوا بينه وبين طاعة الله عز وجل روى ابن جرير عن عطاء بن يسار في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، قال: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي؛ كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق ويقيم، ويترك الجهاد، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14].

دور المناهج التربوية الهدامة في انحطاط الهمم

دور المناهج التربوية الهدامة في انحطاط الهمم من هذه الأسباب أيضاً: المناهج التربوية والتعليمية الهدامة، فالمناهج التعليمية الهدامة هي التي تحطم اعتزاز الشباب بإسلامهم وإيمانهم، مع أنه لا خلاص لهذه الأمة إلا بالإسلام، فهذه مناهج تسفل الهمم، وتخرق المواهب، وتضعف الطاقات، وتخرب العقول، وتنشئ الخنوع، وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيها احتقار الذات، والشعور بالدونية. وأنا لا أقصد المناهج التعليمية في المدارس والجامعات وحدها، وإنما أقصد ما هو أوسع من ذلك، وبالذات مناهج الصوفية في التربية والتعليم؛ فإنها أيضاً تشارك في المناهج التعليمية وفي تدمير الهمم وتثبيطها. فيوجد احتقار الذات في المناهج التعليمية بالصورة التي يضخمون بها صورة الغرب وصورة أمريكا، وأنهم وصلوا إلى أشياء راقية، وأن هؤلاء الناس بلغوا القمة، وأنهم دول النموذج والقدوة، ويسترون عورات الغرب، مع أن العالم الغربي يعج بالعورات القبيحة التي إذا كشفت تأفف الناس من هؤلاء الكفار؛ فعندهم من من كل أنواع العورات ما يليق بأمثالهم من الكفرة بالله سبحانه وتعالى. فهناك عملية تجميل متعمدة، خاصة من خلال الأفلام والمسلسلات الأمريكية، كما حكى لي أخ فقال: إنهم دائماً يتعمدون في الأفلام أن الممثل يفتح الثلاجة وفيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب وكذا وكذا، ويظهرون البيوت مزينة بصورة معينة، وهذا نوع من الدعاية غير المباشرة بأن هؤلاء ناس يعيشون في جنة، وفيه تزيين للدنيا؛ حتى نقتدي بهم، ونجري وراءهم. والإنسان يلاحظ أيضاً -وللأسف الشديد- أن كثيراً من أساتذة الجامعات يزرعون فينا -بقصد أو بدون قصد- موضوع احتقار الذات، والدونية، سواء في استعمال اللغة أو غير ذلك؛ فيرون أنه لابد أن تستعمل اللغة الأجنبية، وأنها لغة العصر! وفي تعظيم هذه الصورة احتقار للذات، واعتراف منا بالدونية أمام هؤلاء الكفار. الموضوع طويل، لكن في هذا إشارة إلى أن المناهج التربوية والتعليمية زرعت فينا أننا دون هؤلاء الكفار، وأن دول الكفار دول أقوى من دولنا، وأنهم أعظم وأعلم منا، وأنهم في كل شيء هم أفضل منا، وأننا ينبغي أن نفزع إلى مناهجهم، ولا نرضى بها بديلاً؛ حتى الإسلام لا نقبله بديلاً عن هذه الجنة الموعودة في جحيم أمريكا والغرب!!

دور مناهج الصوفية في الانحطاط بالهمم

دور مناهج الصوفية في الانحطاط بالهمم من المناهج التي تزرع احتقار النفس وازدراءها والشعور بالدونية: مناهج الصوفية؛ وأذكر لكم بعض العبارات التي تدل على ذلك: قال بعض الصوفية: الفقير هو الذي يأكله القمل، ولا يكون له ظفر يحك به نفسه! يعني: أن القمل يكثر في جسده حتى يأكله، هذا هو الفقير الصوفي. وكل هذا اقتبسوه من الرهابنة، فالرهابنة يدخلون الدير، ويعتكفون فيه؛ حتى يصير وجه الواحد منهم أسود من كثرة الطين؛ لأنه لا يستحم، ولا يقرب الماء أبداً، وهذا موجود حتى الآن، لكنهم يسترونهم داخل الجدران؛ حتى لا يظهروا في الخارج، فتجد الطين والقذارة في خد أحدهم وفي جبهته متراكمان، ويبدوا أنه منذ سنوات ما اغتسل وما اقترب من الماء، كحال أسلافهم من قبل؛ حيث كان الواحد منهم يفخر أنه مكث خمسين سنة وما مس الماء!! وهذه عندهم طريقة للتعبد! ومن هذا الذل الذي يقع في غير موقعه: ما يريد الصوفية أن يكون عليه الناس من التمسح بالأعتاب، والسجود للقبور، والتذلل للموتى من دون الله سبحانه وتعالى، وهذا شرك صريح، وخروج من ملة الإسلام؛ فكونك تستنصر بالميت وتدعوه؛ لأجل أن يرزقك ولداً، أو يشفي لك مريضاً، أو ينجح ولدك، أو غير ذلك مما لا يسأل إلا من الله سبحانه وتعالى هذا بلا شك هبوط بالهمة إلى أحط مستوى، قال عز وجل: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. ويقول صوفي آخر: الصوفي هو من يرى دمه هدراً وملكه مباحاً! أي: أن هذا هو الصوفي؛ فهل هناك احتقار للذات أكثر من هذا؟! أين أنت من تربية رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد)، فهذا يرفعه إلى درجة الشهادة، وأنت أيها الصوفي! تأتي تقتبس من الرهبان وتقول: من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه قميصك. إلى آخر هذا الكلام الذي يربي في النفس هذه المعاني. فهذا الشخص يقول: الصوفي هو من يرى دمه هدراً وملكه مباحاً! وفي الحقيقة لا يمكن أن تحس بنعمة الله سبحانه وتعالى عليك إلا إذا مَنَّ عليك بالاعتزاز بالمنهج السلفي، بأن تفهم القرآن والسنة كما فهم السلف الصالح، إلا إذا نظرت إلى منهج وانحرافات وضلالات الصوفية التي هي أم المخرفين، والتي هي معاندة لدين الله سبحانه وتعالى، فحينئذٍ تستحضر نعمة الله سبحانه وتعالى عليك أن عصمك من هذه الضلالات. وهذا صوفي ثالث يحكي ويقول: إنه ما سر في إسلامه إلا ثلاث مرات، أي: أنه من ساعة ما أسلم ما دخل السرور على قلبه إلا ثلاث مرات في ثلاث مناسبات: الأولى: كنت في سفينة فلم أجد أحقر مني فيها! والثانية: كنت مريضاً في المسجد فجرني المؤذن إلى خارجه! والثالثة: كان علي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل من كثرته!! هل هذا هو الإسلام؟! وهل هذه هي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! فهو يفتخر بأنه حين يكون قذراً يتأفف الناس منه حتى يلقوه في الشارع، وأن ينظر إلى الفرو فلا يستطيع أن يفرق بين الشعر وبين القمل من كثرة القمل! فانظر كيف تنحط الهمم! فهل مثل هذا يصلح أن يخرج ليجاهد في سبيل الله، أو يتعبد العبادة التي يزعمونها، أو يطلب علماً ويسهر الليالي في طلب المعالي؟! هل هذا يحصل من مثل هذا الذي يفتخر بأن القمل فيه لا يتميز من شعر الفرو؟! فبلا شك أن التربية الصوفية تغرس احتقار النفس والإحساس بالدونية، وتثبط وتقتل الهمم، وتدمرها. ومن مظاهر المناهج التربوية الصوفية التي تنحط بالهمم: الإعراض عن علوم القرآن والسنة، وترهيب المريدين من طلب العلم الشرعي، ويخوفون الناس من العلم الشرعي، ويقولون: نحن لنا الحقيقة، والناس لهم الشريعة، فالعبادة والعمل وطلب العمل هذه سلالم، ونحن وصلنا، فكيف نصعد على السلم؟! فيسخرون من طلبة العلم، ويهونون ويحقرون من شأن العلم، ولقد سقط من كم أحدهم يوماً القلم، وكان يخفي القلم؛ خشية أن يفتضح بين الصوفيين بأنه يكتب، فسقط منه القلم رغم أنفه من جيبه، فقال له شيخه: استر عورتك!! وروى ابن الجوزي عن جعفر الخالدي قال: لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا. أي: أنهم السبب في أنه أعرض عن طلب العلم والحديث. قال: كتبت مجلساً عن أبي العباس الدروي وخرجت من عنده، فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية فقال: ما هذا معك؟ قال: فأريته إياه، فقال: ويحك! تدع علم الخرق وتأخذ علم الورق! ثم مزق الأوراق، فدخل كلامه في قلبي، فلم أعد إلى أبي العباس. أي: حالوا بينه وبين طلب العلم الشرعي.

دور مناهج المقلدين في انحطاط الهمم

دور مناهج المقلدين في انحطاط الهمم من هذه المناهج التي تهبط بالهمم: المناهج التي تحرض الناس على التقليد المنهجي، والتقليد هو مثل الميتة تأكلها إن اضطررت إليها، لكن الأصل هو اتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، أي: اتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام لعلكم تهتدون. وقال تبارك وتعالى أيضاً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. ونحن لا نقول: إننا لا نرجع إلى العلماء في فهم الكتاب والسنة، لكن نقول: إن العالم غير معصوم، فقد يخالف القرآن أو السنة؛ لأنه اجتهد، وباجتهاده أخطأ، ويثاب على ذلك، لكن نقول: نحن ندور مع الحق حيث دار، فمتى ما صح قول رسول الله عليه الصلاة والسلام فيجب المصير إلى قوله، وألا يقدم على قوله عليه الصلاة والسلام قول أحد كائناً من كان. وللأسف فإن التربية السفلية أيضاً فيها التقليد المذهبي، والتربية الدينية في بعض الأوقات أيضاً تغرس موضوع حب التقليد والاعتزاز بالتقليد! والتقليد صفة مذمومة وليس صفة ممدوحة، فلا تلجأ إليه إلا في ظروف معينة وبشروط معينة، فينبغي أن يحرض الناس ويربوا على التطلع إلى فهم الأدلة ومعرفة الأحكام الشرعية بأدلتها، لا أن نحرض الناس على دنو الهمة ونقلد ونأخذ بقول غيرنا دون معرفة دليله. حدثني أحد المشائخ الأفاضل وهو الشيخ رشاد الشافعي رحمه الله: أنه حضر وهو شاب مجلساً لأحد الشيوخ المالكيين، وكان هذا الشيخ يربي تلامذته ويعلمهم، وإذا أراد أن يعلمهم الوضوء علمهم كيف كان يتوضأ الإمام مالك، وإذا صلى علمهم كيف كان يصلي مالك، وكيف كان يعمل مالك أو حج أو اعتمر أو زوج أو طلق أو خطب، فربطهم دائماً بالإمام مالك رحمه الله تعالى! فانظر إلى خطورة الأمر على العوام، فقد وصل الأمر في أحد هذه المجالس التي كان الشيخ يتكلم فيها بهذه الطريقة أن بعض العوام قطع الدرس وقال له: يا سيدنا الشيخ! هل سيدنا النبي كان قبل مالك أو الإمام مالك قبل؟!! فمن الذي بعث قبل الآخر؟!! فوصل الأمر بهذه الهيئة إلى أن الواحد منهم يتصور أن مالكاً نبي مثل محمد عليه الصلاة والسلام. هذه هي نتيجة التربية التي تربطنا بأن القدوة هو الإمام مالك أو الشافعي أو غيرهما. محبة الأئمة واحترامهم دين نتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، ولا نخرج عن أقوالهم، لكن نحن نتكلم على أن القدوة يجب أن يكون هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. ولذلك أحد مشائخنا من أنصار السنة حفظهم الله قال: إنه لما جاء المأذون يعقد له قال: على مذهب أبي حنيفة، فقال: أنا أريد أن أتزوج على المذهب الذي تزوج عليه أبو حنيفة، وأبو حنيفة على أي مذهب تزوج؟ تزوج على المذهب المتبع للرسول عليه الصلاة والسلام. فينبغي لطالب العلم أن يستفز همته لكي ينتقل من وحل التقليد إلى اتباع الأدلة. ونحن نرفض هذا الذي يحصل من بعض طلاب العلم من سب الأئمة أو التطاول عليهم أو التقليل من شأنهم، فهذا كله من القدح، لكننا ندعو إلى ما دعا إليه أئمة السلف من عدم التقليد، كما قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى: إن المقلد بإجماع العلماء ليس معدوداً من أهل العلم.

خطر المناهج العلمانية وأثرها في انحطاط الهمم

خطر المناهج العلمانية وأثرها في انحطاط الهمم تعتبر العلمانية أخطر من مناهج المدارس والجامعات أو مناهج الصوفية أو غيرها من المدارس التي تثبط الهمة؛ بل وأضر من ذلك تلك المناهج التربوية والتعليمية التي تريد أن تجعل العلمانية ديناً بديلاً لدين الإسلام، فراحت تسمم آبار المعرفة التي يستقي منها شباب المسلمين؛ لتخرج أجيالاً مقطوعة الصلة بالله، وتبتغي العزة في التمسح على أعتاب الغرب، وتأنف من الانتساب إلى الإسلام، وتفتخر بالانتساب إلى الفراعنة، ويعاد ويزاد ويكرر تاريخ الفراعنة في مادة التاريخ تقريباً في ثلاث مراحل من مراحل التعليم، من الابتدائي إلى الثانوي، ويكرر الاعتزاز بالفراعنة بطريقة مبالغ فيها جداً جداً، كل هذا على حساب التاريخ الإسلامي! فقاتل الله أعداء الدين الذين يتآمرون على شباب المسلمين.

دور اضطهاد العاملين للإسلام في انحطاط الهمم

دور اضطهاد العاملين للإسلام في انحطاط الهمم من هذه الأسباب: توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام، فبعض الناس حينما تتوالى الضربات والاضطهاد للمسلمين خاصة إذا طالت الموجة تضعف همته، كما حصل في الموجة التي ظلت مرتفعة مدة طويلة، وكان الاضطهاد يزداد للعاملين لله سبحانه وتعالى ولدين الله، فبعض الناس -للأسف الشديد- حصل عندهم شعور بالإحباط وباليأس، وهؤلاء هم الذين لا يفقهون حقيقة البلاء، ولا يعلمون أن الله سبحانه وتعالى مطلع على كل هذا، ولو شاء الله سبحانه وتعالى بكلمة: (كن) لأهلك كل من على وجه الأرض، ولو شاء الله سبحانه وتعالى بكلمة: (كن فيكون) لأمر العباد الذين على وجه الأرض كلهم فيكونوا مثل الملائكة في العبادة والإخبات والخشوع لله سبحانه وتعالى؛ فإن الله قادر على ذلك، ولكن: {َتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، أي: في هذه الدنيا؛ فإذا كان الأنبياء أنفسهم أوذوا في الدنيا فغيرهم من باب أولى؛ فالدنيا هينة على الله سبحانه وتعالى، وليست دار الجزاء، إنما هي دار الابتلاء والامتحان، والنتيجة تظهر يوم القيامة أما الدنيا فهي كلها امتحان، واختبار، وابتلاء، فسنة البلاء من السنن الماضية، ولابد أن يقع هذا الصراع بين الحق والباطل، والله سبحانه قادر على أن تنزل الملائكة عياناً والناس يرونها، وتتخطف أعداء الدين عضواً عضواً، وتمزقهم إرباً؛ فالله قادر على ذلك، لكن لو أن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك فستنتفي حكمة الابتلاء، وسننتقل إلى الآخرة؛ لأن هذا يحصل في الآخرة، قال عز وجل: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، فهذا الغطاء ما زال موجوداً الآن، فإذا كشف الغطاء وأصبح الناس يرون العذاب الذي يحصل في القبر، وأصبحوا يرون الملائكة وهي تعذب الكفار أو الفاسقين من المحتضرين، وإذا شتم واحد الإسلام تنزل ملائكة من السماء وتمزقه أمام الناس، لو حصل هذا فهل تبقى الدنيا دنيا؟ فمن حكمة الله أن يكون هناك إيمان ويقين بالغيب ويقين بوعد الله سبحانه وتعالى، ويبقى الحجاب قائماً حتى يميز بين المؤمن الذي يؤمن بالغيب وبين الفاجر الذي لا يؤمن إلا إذا عاين؛ فإن الكفار إذا عاينوا قالوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، فهل هذا اليقين ينفع؟ لا ينفع اليقين؛ الذي ينفع هو ما كان قبل أن تكشف الحجب، فلا بد من إيمانك بأن الله يسمع ويرى، وأن الله قادر على أن يذل أعناق كل هؤلاء المعادين لدين الله ودين رسوله عليه الصلاة والسلام، والذين يفرحون بموالاة الكفار، ويتحصنون بهم ضد المسلمين، ويكونون هم اليد التي يضرب بها الإسلام في عقر داره، وقبلوا لأنفسهم هذا المنصب، فهل معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى خذل دينه، وخذل دعوته؟ كلا! فمهما طال الصراع فلابد أن تكون العاقبة للتقوى، كما قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وقال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فلابد من الفتنة، ولابد من البلاء، وهذا الذي نعيشه هو ابتلاء، وليس أكثر، فكثرة الاضطهاد للإسلام هي من البلاء؛ لأن الاضطهاد عالمي، ونحن الآن نعيش في عصر كأنه لم يسبق له نظير، فكل العالم بلا استثناء -حتى حكام العالم الإسلامي- كله متواطئ على خنق الإسلام وإذلال وإضعاف المسلمين؛ تمهيداً لإقامة إسرائيل الكبرى. هذه هي الحقيقة المرة التي نعترف بها علناً، كما قال كلينتون في معاهدة السلام في الأردن للملك حسين قال له: لقد حققت يا جلالة الملك! حلم جدك الملك عبد الله في إقامة وطن القومية لليهود في فلسطين! وهذه أمور جديدة ما سمعنا بها في آبائنا الأولين، والله المستعان! حتى إن عمرو موسى صرح -وما أجمل التصريحات التي يأتي بها عمرو موسى أحياناً- فقال لرؤساء البلاد العربية: اهدوا قليلاً، فليس من المعقول أن تركضوا نحو إسرائيل بالصورة هذه، ففزع جلالة الملك وغضب، وقام يرد عليه في غضب ويقول: نحن لا نركض نحو إسرائيل؛ نحن نهرول نحو إسرائيل!! فانظر إليه حينما يفتخر أنه يهرول نحو إسرائيل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحبط كيد هؤلاء الأعداء أجمعين.

اقتران البلاء بالمتمسكين بالدين

اقتران البلاء بالمتمسكين بالدين فالإنسان قد يستطيل الطريق؛ لأن كله ابتلاء، وامتحان، وبين وقت وآخر يحصل تكثيف، فانتظروا فرج الله سبحانه وتعالى. فإذا استطال الإنسان الطريق يحصل له ضعف في السير إلى الله سبحانه وتعالى، فعلينا أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نتبع سنته في كل أحواله، فمن أحوال النبي عليه الصلاة والسلام أحوال تشبه ما نحن فيه الآن، حيث حصل اضطهاد للمسلمين ومحاربة للدين، فكيف كان يعزي ويسلي أصحابه المضطهدين؟ كان دائماً يزرع فيهم الأمل بالتبشير بأن المستقبل حتماً سيكون للإسلام؛ فقد صح عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله! ليتمن الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). فتأمل كلمة (تستعجلون)، يعني: أن العاقبة للمتقين لكنكم تستعجلون، فاتركوا سنة الله تمشي في طريقها، ولا تتعجلوا، ولا تقفزوا فوق السنن، كما يحصل من بعض إخواننا -للأسف الشديد- من بعض الحركات أو بعض الجماعات؛ حيث يحاول أن يسبق السنن، ويتعجل، كما قال بعض الكتاب واصفاً المتعجلين من الشباب والمتعجلين من الشيوخ: أما متعجلة الشباب فمعروف الحركات التي تحصل منهم من إراقة للدماء، وغير ذلك من تعجل الشباب، أما تعجل الشيوخ فيقال: إن بعض الشيوخ كانوا حريصين جداً على القفز فوق سنن الله، فأرادوا القفز إلى التمكين عن طريق البرلمانات والانتخابات، لأنهم يظنون أن هذه قد توصلهم إلى هذا الهدف، وهذا القفز فيه نوع من الاستعجال؛ لأنه ليس بالسهولة هذه أبداً يحصل التمكين لدين الله، وليست هذه هي سنة الله عز وجل. فتأمل في هذا الحديث! الصحابة رضي الله عنهم ذهبوا يطلبون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدعو لهم، ويستنزل نصر الله عليهم، فهل دعا لهم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لم يدع لهم؛ لأنه لابد أن تمضي سنة البلاء، فهي سنة ماضية لابد أن تقع. ولما سئل الإمام الشافعي: أيهما أفضل للرجل: أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا تمكن حتى تبتلى. فيبدأ أولاً البلاء ثم التمكين. ولما بلغ خبر ميلاد هذه الدعوة إلى ورقة بن نوفل قال: (ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي). فهذه سنة، وهو كان يعلم سنن الأنبياء من قبل، فقد كان ورقة بن نوفل على علم، ولذا بين أنه لابد من التفكير، فقال: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي). كذلك في قصة أصحاب الأخدود، وقصة الغلام مع الراهب، فإن الراهب قال له: (أي بني! إنك أفضل مني، وإنك ستبتلى)؛ فلابد أن يقترن البلاء بالإنسان، وهذه سنة ماضية أن يفتن الناس، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. وكلمة الفتنة مأخوذة من فتن الذهب، يقال: دينار فتين إذا أخرج من الفرن، وتقول: فتنت الذهب إذا جئت بالذهب الخام وأدخلته في الفرن؛ حتى ينصهر، فينفصل الغثاء والزبد والشوائب، ويستقل المعدن الخالص الصافي وهو الذهب النقي، فلا يمكن أن ينفصل إلا عن طريق الصهر، فالفتنة مأخوذة من هذا المعنى، كما قيل: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر. فكلمة الفتة معناها: أن توضع في البلاء حتى تصفو، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى. فعدل عن الدعاء لهم إلى تذكيرهم بأن هذا قانون وسنة ماضية لابد منها، فلابد من البلاء، فقد حصلت هذه السنة في من قبلكم، وستحصل لكم، لكن تذكروا أن العاقبة للمتقين، فقال عليه الصلاة والسلام: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد فأطلق لروحك إشراقها ترى الفجر يرمقنا من بعيد أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. والحمد لله رب العالمين.

علو الهمة [17]

علو الهمة [17] صاحب الهمة العالية رجل فريد في مجتمعه، فهو العنصر الفعال والمنتج؛ لذا ينبغي على كل مسلم أن يكون صاحب همة عالية، وأن يحاول أن يرتقي بهمته نحو الأفضل والأحسن، وللارتقاء بالهمم أسباب لابد من معرفتها، والسعي الجاد في العمل بها.

أسباب الارتقاء بالهمة

أسباب الارتقاء بالهمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد تحدثنا قبل حول عن الأمة عند سقوط الهمة، وناقشنا أسباب انحطاط الهمم، وحديثنا الآن -بإذن الله تعالى- على أسباب الارتقاء بالهمة، فما هي أسباب الارتقاء بالهمة؟ كل هدف له وسائل توصل إليه وعوامل مساعدة تعين عليه، كما قال الشاعر: إذا ما أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منه ما يعجبك فليس على المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك يعني: أن أبواب المكارم مفتوحة، وكل من أراد أن يتسلق إلى هذه القمم فإنه يستطيع، لكن عليه أن يسلك الطرق الصحيحة لتلك القمم.

العلم والبصيرة سبب من أسباب علو الهمة

العلم والبصيرة سبب من أسباب علو الهمة أول أسباب الارتقاء بالهمة: العلم والبصيرة، فالعلم يصعد بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، والعلم هو الذي يساعد على تصفية النية، حتى أثر عن بعض العلماء أنه قال: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على طلب الدين. يعني: أنه شرع في البداية في طلب العلم لأجل الرياء أو لطلب الدنيا، ثم لم يلبث العلم أن أخذ بناصيته إلى الإخلاص، وعالج أمر الرياء في قلبه. وذكر القصاص: أن رجلاً خطب امرأة ذات منصب وجمال، فرفضت أن تتزوجه؛ لفقره وقلة حسبه، يعني: أخذت عليه أنه فقير وأنه قليل الحسب، ففكر بأي الأمرين ينالها، أبالمال أم بالحسب؟ فاختار الحسب، وطلب العلم للحسب، حتى أصبح ذا مكانة، ولما اشتهر بطلب العلم، وأصبح له مكانة كبيرة بعثت إليه تلك المرأة نفسها تعرض عليه أن يتزوجها، فقال: لا أؤثر على العلم شيئاً؛ لأنه كان قد ذاق حلاوة العلم، ولذا قال: لا أؤثر ولا أفضل أبداً شيئاً على العلم، وأبى أن يتزوجها، فارتفع العلم بهمته عن أن يحصر همه في نيل مثل هذا المطلب الدني. وهذا يذكرني بشاب إنجليزي يدعى (نيجل) بريطاني الأصل له قصة طريفة: رحل من بريطانيا إلى مصر على الدراجة، حيث رحل أولاً بدراجة من بريطانيا إلى اليونان، ثم ركب مركباً إلى لبنان، وكان في الطريق يشتغل قليلاً ليجمع بعض المال، ثم يتم رحلته، حتى مر على فلسطين، ثم مر على سيناء حتى وصل إلى مصر، ثم تجول في داخل مصر إلى أن وصل إلى الإسكندرية فقابله شاب يقود التاكسي، فتعرف عليه ودعاه إلى بيته، المهم أنه صار بينهما نوع من الصداقة، ثم رأى بنت الجيران في حي منزل صديقه، فأراد هذا الشاب الإنجليزي أن يتزوجها، فقال أهلها: لابد أن تكون مسلماً؛ لأنها مسلمة ولا تتزوج من غير مسلم، فقال: كيف أسلم؟ فقالوا: تذهب إلى بعض الجهات، حتى تأخذ تصريحاً بذلك، فذهب ليسلم بورقة ويحقق مأربه، فبعض الإخوة أعطاه كتباً وكلمه عن الإسلام، فغاب تقريباً لمدة شهر، ثم عاد بعد ذلك ليبحث بجدية وبدأب شديد عمن يعلمه قراءة الفاتحة؛ لأنه لما قرأ معاني القرآن الكريم، وتعلم شيئاً عن الإسلام، أقبل بكليته نحو الإسلام، فدخل في الإسلام ولله الحمد، ولما ذكروه بموضوع هذه الفتاة قال: أنا كنت أطلب الإسلام من أجل المرأة، أما الآن فلا أتحول عن الإسلام إلى مقصد آخر، ولم يفكر بعد في الزواج بهذه المرأة، وهذا الأخ أتقن اللغة العربية جيداً، فقد درس في الأزهر في القاهرة، وحفظ القرآن الكريم كله، ولله الحمد. الشاهد: أن العلم بالوحيين بالقرآن والسنة والمعاني العظيمة يرتفع بهمة الإنسان. وأيضاً من فضائل العلم: أنه يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فإذا عرف مراتب الأعمال يقدم الأهم على المهم، ويتقي فضول المباحات التي تشغله عن عبادة الله سبحانه وتعالى، سواء كان فضول الأكل، أو النوم، أو الكلام. ثم العلم يدفعه إلى أن يراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والواجبات؛ امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأعط كل ذي حق حقه). وأيضاً العلم هو الذي يبصره بحيل إبليس وتلبيسه عليه؛ لأن إبليس قد يأتيه ويحاول أن يحول بينه وبين فعل ما هو أكثر ثواباً مما يفعله، ويشغله بالمفضول عن الفاضل، قال أبو سليمان: يجيئك -أي: إبليس- وأنت في شيء من الخير، فيشير إلى شيء من الخير دونه، ليربح عليك شعيرة.

إرادة الآخرة سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

إرادة الآخرة سبب من أسباب الارتقاء بالهمة من أسباب الارتقاء بالهمة: إرادة الآخرة، وجعل الهموم هماً واحداً، ومعنى إرادة الآخرة: تمحيص الإرادة والنية والقصد إلى طلب الآخرة بلا منازع، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، ولا تجدون في القرآن الكريم آية فيها الكلام على أن من يسعى للدنيا بنفس المثابة، وإنما {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فالرزق لا يأتي به حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، بل الرزق مضمون، أما الجنة فليست مضمونة إلا بالعمل الصالح.

ذكر الموت سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

ذكر الموت سبب من أسباب الارتقاء بالهمة من أسباب الارتقاء بالهمة: كثرة ذكر الموت؛ لأن كثرة ذكر الموت يدفع إلى العمل للآخرة والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة، وإيقاظ العزم على الاستقامة، فكل هذه المقاصد الشريفة إنما تحصل بكثرة ذكر الموت، فعن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة، فقال: علامَ اجتمع عليه هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلَّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه ولا يدري أأرضى الله أم أسخطه؟ وأبكاني فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية ثم لا يدري إلى الجنة أو إلى النار). وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى الأموات. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأوزاعي: أما بعد: فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير. وعن عطاء قال: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون. فانظر إلى فعل هذا الإمام العلم المجدد، كيف كان يجمع الفقهاء، وما الموضوع الذي كانوا يجتمعون عليه؟ هل هو مناقشة انتخابات مجلس الشعب، أو مباريات الكرة، أو كذا وكذا؟! كلا، بل كانوا يجتمعون من أجل ذكر الموت والقيامة والآخرة ويبكون، ولا شك أن هذا النوع من الاجتماعات الآن نادر جداً، فأغلب الاجتماعات إما أن يخوض الإنسان فيها فيما لا جدوى من ورائه، وقد يحصل بين طلبة العلم مجالس يجري فيها مباحثات حول قضايا علمية ومناقشات مثلاً، لكن قل أن نسمع أن مجموعة من الإخوة تواعدوا على أن يلتقوا ويذكر بعضهم بعضاً بالموت وبالآخرة وبالقيامة. وقال الدقاق: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوجل بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة. كما أن مشاهدة المحتضرين وملاحظة سكرات الموت ونزعاته، وتأمل صورة الميت بعد مماته مما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويزيل عن الأجفان النوم، وعن الأبدان الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب. ذكر عن الحسن البصري أنه دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم، فو الله! لقد رأيت مصرعاً لا أزل أعمل له حتى ألقاه. وقال اللبيدي: وجدت بعد موت أبي إسحاق الجبنياني رحمه الله رقعة تحت حصيرة مكتوبة بخطه، يعني: أنه كان يذكر نفسه بما كتب على هذه الرقعة، وهذا شيء معهود عن السلف، حيث كان الواحد منهم يكتب موعظة مختصرة تؤثر في قلبه جداً، فيضعها في جيبه أو كمه، فإذا خشي الغفلة أو شيئاً من هذا نظر فيها، ثم أعادها، وكان بعضهم يختم مثل هذه العبارات على الخاتم؛ كي تذكره باستمرار بما ينبغي ألا ينساه، فهذا الإمام أبو إسحاق الجبنياني وجدوا بعد موته رقعة مكتوباً فيها: رجل وقف له هاتف، فقال له: أحسن عملك، فقد دنا أجلك، فقال لي ولده عبد الرحمن: إنه كان إذا قصر في العمل، أخرج الرقعة فنظر فيها ورجع إلى جده. ما زال يلهج بالرحيل وذكره حتى أناخ ببابه الجمال فأصابه مستيقظاً متشمراً ذا أهبة لم تلهه الآمال فبلا شك أن الإنسان الذي يتذكر الموت ويكثر من ذكره يتأهب للقاء الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا سيثير فيه الاستيقاظ والانتباه باستمرار؛ لأن موعد خروج روحه لا يأتي نذير بين يديه وإنما يأتي فجأة، ويأتي بغتة دون نذير سابق، فروحك في يد غيرك، لا تدري متى يقبضها.

الدعاء سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

الدعاء سبب من أسباب الارتقاء بالهمة من أسباب الصعود بالهمة: الدعاء؛ لأنه سنة الأنبياء، وجالب لكل خير، ودافع لكل شر، قال صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) فالدعاء سهل جداً، والدعاء لا يكلف شيئاً سوى أن تجمع قبلك وتحرك لسانك بكليمات تطلب فيها ما شئت، ابتداءً من شسع النعل إلى الفردوس الأعلى من الجنات والخلود فيها، تدعو بآلة هي اللسان بشرط أن تواطئ القلب، وتكون مخلصاً في ذلك الدعاء، فالذي يعلم مثل هذه الفضيلة للدعاء يعلم أنه عن طريق الدعاء يمكن أن يحصل كل مقاصد الدنيا والآخرة، فكيف به إذا عجز عن ذلك؟! فإذا عجز عن مجرد تحريك لسانه مع مواطأة القلب بطلب ما يريده من الله سبحانه وتعالى، فهذا بلا شك هو أعجز الناس، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه) سبحانه وتعالى، يعني: عليه أن يطمع في رحمة الله، ويطلب ما شاء من المطالب، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما دل على ذكائه دعا له؛ لأنه كان إذا دخل الخلاء وخرج يجد ابن عباس قد أحضر الماء ووضعه قريباً منه، فحينئذٍ قال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فأثمرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس فصار ترجمان القرآن والحبر البحر العلم، وحاز هذه المرتبة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فبهذا الدعاء يستعين العبد على إنجاز هذه المطالب العالية. إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده فبدون توفيق الله سبحانه وتعالى للإنسان أول ما يجني عليه هو اجتهاده وعقله الذي حرم من التوفيق وابتلي بالخذلان.

الاجتهاد في حصر الذهن وتركيز الفكر في معالي الأمور

الاجتهاد في حصر الذهن وتركيز الفكر في معالي الأمور من أسباب الارتقاء بالهمة: الاجتهاد في حصر الذهن وتركيز الفكر في معالي الأمور، فالإنسان عليه أن يركز، وهذا السبب هو صدى للسبب الآنف الذكر وهو توحيد الإرادة، يعني: إرادة هم الآخرة بلا منافس؛ لأن الدنيا والآخرة ضرتان، إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. فمن أسباب الارتقاء بالهمة خاصة في المقاصد العلمية: نظرية حصر الذهن والتركيز تماماً فيما تريد أن تنجزه من الأمور، فالإنسان إذا لم يبادر بأن يشغل نفسه بالحق فإنها تشغله بالباطل، كما قال الحسن: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. فلا بد أن تكون النفس مشغولة، وإن لم تبادر أنت بشغلها بالحق فإنها تتفرق بك في أودية الدنيا. سئل كثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط، مع أنه أمَّ الناس في حمص حوالى ستين سنة كاملة في الصلوات الخمس، ولم يسه في صلاته قط، فسئل عن سبب هذا فقال: ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله. وهذه هي ثمرة من ثمرات حصر الذهن في مطلب واحد، وإرادة واحدة وهي إرادة الآخرة وإرادة الله سبحانه وتعالى، فالتركيز بلا شك يثمر هذه النتائج العظيمة. وقد رأينا مظاهر عجيبة للسلف الصالح رحمهم الله تعالى في موضوع التركيز في طلب الآخرة، فلم يشتتوا همتهم في الدنيا، فهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب العربية ومنشئ علم العروض، كان إماماً مفرط الذكاء، والإمام الخليل بن أحمد بقدر ما هو صاحب الشهرة المعروفة في اللغة العربية والعروض، وقد يتصور أن هذه العلوم يكون عند أصحابها جفاء مثلاً، لكنه كان من العباد ومن الزاهدين ومن الخيرين، وقد دعا الله سبحانه وتعالى أن يرزقه علماً لم يسبق إليه، ففتح الله عليه باب العروض، وهو علم أوزان الشعر والقوافي، وقيل: كان يعرف علم الإيقاع والنغم، ففتح له ذلك علم العروض، وقيل: مر بالصفارين -جمع صفار، وهو الذي يقطع النحاس الجيد- فأخذ علم العروض من وقع مطرقة على طست، يعني: كان رجلاً يضرب بالمطرقة على طست من النحاس بطريقة منتظمة، فرأى أن نفس هذه الإيقاعات المنتظمة موجودة في أبيات الشعر عند العرب، وبالتالي استطاع أن يستخرج العروض عن طريق الالتفات لهذا الإيقاع المنتظم الذي سمعه، وقد كان متقشفاً متعبداً قال النضر بن شميل: أقام الخليل في خص له بالبصرة، يعني: في بيت من خشب أو بيت من شجر أو من قصب، قال: أقام الخليل في خص له بالبصرة ولا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال، وكان كثيراً ما ينشد: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمال فهو معدود من زهاد العالم القلائل، فرحمه الله تعالى، وكان يقول: إني أغلق علي بابي فما يجاوزه همي، فكان الخليل بن أحمد يخرج من منزله واهتمامه بشيء محدد، هو طلب الآخرة، فكان ينشغل جداً وتجد شدة تركيز ذهنه في مقصد واحد وهو طلب الآخرة، فكان يخرج من المنزل ولا يشعر بنفسه إلا وهو في الصحراء، ولم يرد الصحراء وإنما شغله الفكر الذي هو فيه والاستغراق، حتى خرج إلى ما لا يقصده من الأماكن؛ لشدة استغراقه في أمر محدد، فيذهل عما عداه. وكان يدخل الداخل إلى أبي تمام الشاعر وهو يعمل الشعر، فلا يشعر به. وقد حكى ابن العلامة القرآني العلامة الجليل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى أنه كانت تحصل مواقف محرجة لوالده العلامة الشنقيطي رحمه الله حيث إنه كان إذا شرع في مدارسة العلم فإنه يذهل تماماًًً عن كل ما حوله، حتى كان يدخل عليه الضيوف من الكبراء أو الأمراء فلا يلتفت إليهم؛ لشدة انشغاله وحصر ذهنه تماماً فيما هو مقبل عليه من طلب العلم، ويضطر ابنه أو أحد الحاضرين أن ينبهه إلى وجود هذا القادم كيلا يظن أنه أهمل الترحيب بهذا القادم، وما هذا إلا ثمرة من ثمرات حصر الذهن، والتركيز الشديد في هدف ومطلب واحد. وحصر الذهن مما يكتسب بالمران، يعني: أنه يحتاج إلى نوع من التمرين حتى ينتقل الإنسان من الشرود وتشتت الذهن إلى حصر الذهن حصراً بيناً محكماً، فلا بد من جهد ملح، والتدريب عليه يكون بأن تحدد موضوعاً محدداً فتدرسه أو تفكر فيه، وترد عقلك إليه مرة بعد مرة بعد مرة، وتتعمد أن تعود بعقلك وذهنك وتحصره في هذا الموضوع حتى ولو خمسين أو مائة مرة من أجل هذا الموضوع الذي التزمت معالجته، فهذه الخواطر التي تتنازعك لا تلبث أن تخلي مكانها للموضوع، يعني: أن الخواطر الأخرى تشرد بذهنك بعيداً؛ لكن حين تتدرب على ذلك باستمرار فإنها تذهب بعيداً وتتلاشى، وتضطر أن تنسحب هي لتترك الموضوع الذي يلح عليك له اليد العليا والسيادة والسيطرة على ذهنك، ليس فقط في اليقظة، بل من الناس من إذا انشغل بحفظ القرآن الكريم في يقظته فإنه إذا نام يشتغل أيضاً بمراجعته في الليل وكأنه ما زال في اليقظة من شدة حصر الذهن في هذا الأمر.

أمثلة لأصحاب الهمم العالية

أمثلة لأصحاب الهمم العالية وكانت لـ ابن سحنون سرية فطلب منها ذات يوم أن تعد له طعاماً، وشغل بالتأليف والرد على المخالفين، وأحضرت الطعام، وبعد طول انتظار أخذت تطعمه؛ لأنها انتظرت مدة كبيرة والطعام أعدته وهو لا يريد أن يأكل؛ لأنه انشغل بالعلم الذي يدرسه، فأخذت تلقمه حتى أتى على الطعام دون أن يشعر، يعني: أنه كان يشتغل بالعلم ويأكل لأنها تضع اللقمة في فمه، وتمادى في عمله حتى الفجر، ثم سألها أن تحضر الطعام، فأخبرته بأنه أتى عليه دون أن يشعر. وذكر السبكي في طبقات الشافعية عن أبيه الإمام تقي الدين أنه كان من الاشتغال بطلب العلم على جانب عظيم، بحيث يستغرق غالب ليله وجميع نهاره، وكان يخرج من البيت لصلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فروجاً فيأكله، ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب، فيأكل شيئاً حلواً لطيفاً، ثم يشتغل بالليل وهكذا لا يعرف غير ذلك، حتى ذكر لي أن والده قال لأمه: هذا الشاب ما يطلب قط درهماً ولا شيئاً، ما أحفظ له مرة طلب فيها مالاً أو طعاماً أو شيئاً من هذا، فقال أبو الإمام تقي الدين السبكي لأمه: هذا الشاب لا يطلب قط درهماً ولا شيئاً، فلعله يريد شيئاً، يعني: أن يأكله، فضعي في منديله درهماً أو درهمين، لعله إذا مر في الطريق اشتهى شيئاً فوجد في جيبه ما يشتري به هذا الشيء، فوضعت نصف درهم، قالت الجدة: فاستمر نحو جمعتين وهو يعود والمنديل معه والنصف فيه، إلى أن رمى به وقال: إيش أعمل بهذا؟! خذوه عني، فبقي نصف الدرهم في منديله أسبوعين كاملين؛ لأنه لا يلتفت إليه ولا أنفقه، ثم بعد ذلك قال هذه الكلمة: إيش أعمل بهذا؟ خذوه عني وألقاه. وكان الإمام ابن مالك النحوي صاحب الألفية وغيرها كثير المطالعة، سريع المراجعة، لا يكتب شيئاً من محفوظه حتى يراجعه في محله، ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرأ. حكي أن الإمام ابن مالك توجه يوماً مع أصحابه للفرجة بدمشق، ودمشق فيها البساتين والغوطة، فلما بلغوا الموضع الذي أرادوا تنقلوا هم وتفرقوا في المكان، فغفلوا عنه فطلبوه فلم يجدوه، ثم فحصوا عنه فوجدوه منكباً على أوراقه، وفي هذا يصدق قول الشاعر: قلب يطل على أفكاره ويد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب والشيخ أحمد بن علي نجم الدين بن الرفعة كان كثير الصدقة، مكباً على الاشتغال حتى عرض له وجع المفاصل، بحيث كان الثوب إذا لمس جسمه آلمه، ومع ذلك كان لا يرى إلا ومعه كتاب ينظر إليه، وربما انكب على وجهه وهو يطالع، يعني: أنه يأتيه النوم فينام على الورق، فيكون وجهه على الورق من شدة النوم، قال: وهذا الشيخ هو الذي قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد مناظرة جرت بينهما: رأيت شيخاً تتقاطر فروع الشافعية من لحيته، يعني: كأن كل جسمه مشبع بفقه تفاصيل فروع الشافعية، فكأنها تسقط من غزارتها، كالشخص الذي يبلل لحيته بالماء فإن الماء يتساقط منها، فيقول الإمام ابن تيمية فيه: رأيت شيخاً تتقاطر فروع الشافعية من لحيته. وقال الأسنوي عنه: ما أخرجت مصر بعد ابن الحداد أفقه منه. ومما يروى أن أميراً في الشام أدر على الحسن بن الهيثم مالاً كثيراً، والحسن بن الهيثم هو صاحب علم البصريات المعروف، فهذا الأمير أعطاه مالاً كثيراًَ فقال له: يكفيني قوت يومي، وتكفيني جارية وخادم، فما زاد على قوت يومي، إن أمسكته كنت خازنك، وإن أنفقته كنت قهرمانك ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي؟

الاهتمام بالصحة سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

الاهتمام بالصحة سبب من أسباب الارتقاء بالهمة بعض طلبة العلم يتأثرون بالمنهج الصوفي -وما أخطر المنهج الصوفي على الهمة العالية- يتمثلون قول بعض شعراء الصوفية، ويعظمون كلام الصوفية بصورة مرضية، دون أن يتفطنوا إلى الأخطاء في مثل هذه العبارات، مثل قول شاعرهم: يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان فتراه يهمل صحته، إلى أن يصبح الشاب في ريعان شبابه مثل الشيخ العجوز الذي احدودب منه الظهر وصار هرماً. فمن أسباب علو الهمة: الاهتمام بالصحة، سواء كانت الصحة البدنية أو النفسية، فالإنسان يهتم بصحته وبعافيته ويتوقى كل ما من شأنه أن يؤثر في صحته، وقد تكلمنا قبل عن أسباب انحطاط الهمة، وأن منها العجز والكسل، والإنسان قد يعذر في العجز لكنه لا يعذر في الكسل؛ لأن العاجز عن شيء طاقته محدودة، فهو يحاول لكنه لا يستطيع فيعجز، أما الكسول فهو يقدر لكنه لا يقوى على المقاومة، فالإنسان إذا أهمل صحته أو تمادى في الأسباب التي تهدر هذه النعمة العظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى فهو مخطئ؛ لأن رأس مال الإنسان في الدنيا هو الصحة، فإذا أهمل صحته أو تعاطى الأسباب التي تحطم هذه الصحة سواء كان التدخين والإدمان أو غير ذلك من الأمور التي تهدر صحة الإنسان وعافيته فبلا شك أن هذه قد تئول إلى كثير من الأمراض، والأمراض تؤدي إلى العجز والكسل، فمن ثم تهبط همته، فننحي مفاهيم الصوفية هذه جانباً؛ فالمسلمون كانوا يجاهدون بالبدن والروح معاً، والمرء هو بالنفس وبالجسم إنسان؛ ونحن لسنا أطيافاً أو عبيراً أو شيئاً معنوياً، بل نحن أبدان وأرواح في نفس الوقت، فالإنسان يهتم بصحته وبتغذيته ولا يفرط في صحته ما دام ذلك في استطاعته؛ لأنه إذا قوي إذا أراد شيئاً يستطيع أن ينفذه، أما إذا ضعف وأهدر صحته فإنه حتى في الصيام لن يستطيع الصيام أو حتى الصلاة. فلابد للإنسان أن يحافظ على قاعدة التوازن بين واجبات الجسم وواجبات الروح معاً، خاصة في زمان الشباب، أو بالضبط في زمن المراهقة الذي هو فترة نمو الجسم، فالإنسان إذا اهتم بصحته في هذه الفترة فإن الجسم يتفاعل مع هذه الرغبة ويعطيه أيضاً، فمن الخطأ إهمال الرياضات البدنية النافعة بالشروط الشرعية، وإهمال التغذية والإعراض عن ذلك بحجة أن الصوفية قالوا: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته. ونحن نقول أيضاً: يا مهمل الجسم كم تشقى بإهماله، فتبيت على الفراش وتصيبك الأمراض، وتعجز عن أداء وظائفك، سواء كانت الدينية أو الدنيوية.

التحول عن البيئة المثبطة سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

التحول عن البيئة المثبطة سبب من أسباب الارتقاء بالهمة من أسباب الارتقاء بالهمة: التحول عن البيئة المثبطة، فلا شك أن البيئة المحيطة بالإنسان لها أثر جسيم لا يخفى، فإذا كان الإنسان يعيش في بيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون، فإن الشخص لا يستطيع أن يرقى بهمته إلا إذا هجر هذه البيئة وتحول عنها وأبدلها ببيئة عالية الهمة، لذا لابد أن يهجرها؛ لكي يتحرر من سلطان تأثيرها، وينعم بفرصة الترقي إلى المطالب العالية. يقول الشاعر: تقول ابنة السعدي وهي تلومني أما لك عن دار الهوان رحيل فإن عناء المستنيم إلى الأذى بحيث يذل الأكرمون طويل وعندك محبوك السراة مطهم وفي الكف مطرور الشباة صقيل يعني: أنها تلومه على أن يبقى في دار الهوان والمذلة، وتحثه أن يتحول ما دام يقدر على ذلك، وتخبره أنه يعيش عناءً طويلاً ما دام يعيش الشذاة في هذه البيئة المثبطة. وقوله: (وعندك محبوك السراة مطهم) المحبوك هو الفرس القوي الشديد، وسراة الفرس هي: أعلى ظهره، ومطهم هو: التام المتناهي في الحسن. وقوله: (وفي الكف مطرور الشذاة صقيل) المطرور: ذو المنظر والرواء والهيئة الحسنة، والشذاة: هي حد طرف السيف، والصقيل: المشحوذ يعني: ما دام عندك فرسك ومعك سيفك، فلماذا تبقى في دار الهوان؟ ارحل إلى حيث تعز. وأفضل من هذا أن نستدل بالأدلة الشرعية التي جعلت التحول عن مثل هذه البيئة التي تفسد الدين وتفسد الهمة فرضاً على المسلم، أليس قد فرض الله سبحانه وتعالى على المسلم أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام؟ أليس قد قال العلماء: إن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة إلى دار السنة، ومن دار المعصية إلى دار الطاعة باقية؟ إذاً: هي سنة ماضية، وهذا المبدأ الذي نناقشه هو حتمية التحول من البيئة المثبطة، فالإنسان بلا شك إذا وجد في مثل هذه البيئات فإن ذلك ينال من همته منالاً، وآية ذلك ما نراه في أغلب الذين يعيشون في بلاد الكفار ويرتضونها بديلاً عن بلاد المسلمين، حيث نجد منهم الرضا بالدنيا، وأن أحدهم لا يستطيع بعد ذلك أن يتحمل أن يأتي ويعيش مع المسلمين، وهذا إذا لم ينظر إلى المسلمين في بلاده بنظرة التعالي والاحتقار والازدراء، فالإنسان بلا شك يتأثر شاء أما أبى بمثل هذه البيئات المنحرفة. وأشد الناس حاجة إلى تجديد البيئة المحيطة وتنشيط الهمة هو حديث عهد بالتوبة، فالإنسان في بداية توبته أحوج الناس إلى هذا التحول عن البيئة المثبطة؛ لأنه إذا تحول عن بيئة المعصية والفسق إلى بيئة الطاعة والاستقامة فإن هذا من شأنه أن ينسيه ما يجذبه إلى صحبة السوء وأماكن السوء، وأما إذا بقي وفيه الضعف البشري، وعنده الذكريات، ويبقى في الأماكن التي أتى فيها المعاصي، وفيها صحبة السوء، والأصدقاء الذين يراهم ويرونه، فإنه يصعب عليه أن يستقيم؛ لأن هذه العوامل المثبطة تجعله ينجذب باستمرار إلى هذا الفسق، فالأمر كما يقولون: الإنسان إذا أبعد شيئاً عن عينيه فإنه يذهب أيضاً عن قلبه، فالتحول عن البيئة المثبطة والبيئة الفاسقة مما يعين الإنسان على أن ينسى معاصيه وصحبة وأماكن السوء، فيجتمع قلبه ويلتئم شمله، وتتوحد همته، وتتوجه بصدق وعزم إلى أسلوب من الحياة جديد، وهذا هو عين ما أشار به العالم الواعي على قاتل المائة -كما في الحديث- حيث قال له: (ومن يحول بينك وبين التوبة، ثم قال له فوراً: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء)، ولما جاءه الموت، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب كان قربه إلى القرية الصالحة بالنسبة إلى بلد السوء سبباً في قبض ملائكة الرحمة إياه، وفي بعض الروايات: (فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها) وفي رواية: (فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقاربي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له) وفي بعض الروايات: (فنأى بصدره نحوها) يعني: أنه عند لحظة الاحتضار زحف بصدره كي يكون أقرب خطوة أو شبراً إلى البلدة الصالحة، فما بالك بمن بينه وبين بلاد المسلمين هذه المسافات الشاسعة التي تبلغ آلاف الأميال وهو يرضى باختياره أن يبقى في منطقة الكفار ليتمتع معهم بدنياهم، حتى ولو كان على حساب دينه؟! وكيف يكون حاله إذا قبض في مثل تلك البلاد المشئومة؟! ونفس هذا المعنى -تغيير البيئة- لعله هو العلة في تشريع نفي الزاني غير المحصن، وتغريبه سنة بعيداً عن وطنه، فالبكر الزاني عليه جلد مائة وتغريب سنة لتجتمع عليه نوعان من العقوبة: عقوبة بدنية بالجلد، وعقوبة قلبية بالنفي والاغتراب، فهذه عقوبة قلبية ونفسية، كما أن هذا الذي ارتكب هذه الفاحشة إذا نفي بعيداً عن هذه البلد التي ارتكب فيها هذه المعصية فيه مصالح جمة له؛ لأنه بهذا يبعد عن مسرح الجريمة التي مارسها، وبالتالي يعينه هذا على نسيان ذكراها، وفي نفس الوقت الإنسان إذا جلد وأقيم عليه الحد على الملأ لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، إذا وجد في مثل هذا المجتمع واشتهر بأنه فعل فعلاً من هذه الأفعال الشنيعة، لا شك أن الناس سينظرون إليه بازدراء وباحتقار وبامتهان؛ لأن هذا قد ظهر منه هذا الفسق، وبالتالي يتعرض لمضايقات، أما إذا جدد البيئة، وانتقل إلى مكان آخر حيث لا يعرف ولا يؤذى، وحيث لا يذكره أحد بهذه المعاصي، فإنه يستطيع أن يفتح صفحة جديدة، وأن يجدد العهد، وأن يستأنف التوبة الصادقة والحياة الكريمة دون أن يمتهن، ودون أن ينظر الناس إليه بامتهان واحتقار. والحقيقة أن هذه الحكمة التربوية التي نناقشها الآن هي مسألة نسبية، يعني: ليس شرطاً أن كل إنسان يتحول من بلد إلى بلد، بل ممكن أنه يتحول من قرية إلى قرية، وممكن أن يتحول من حي إلى حي، فإذا لم يمكن هذا ولا ذاك، فإنه يستطيع أن يتحول من صحبة إلى صحبة، فإن عجز عن هذه كله فيتحول بقلبه، وذلك أضعف الإيمان، فهذه الحكمة التربوية لعلها مستقاة من تلك الأدلة الشرعية كما ذكرنا، ونحن نجد تطبيقاً عملياً لها بصورة ناجحة إلى حد كبير جداً في جماعة التبليغ والدعوة، فإن جماعة التبليغ والدعوة أحد ركائز أسلوبها التعليمي والتربوي هو ضرورة نزع المدعو من بيئته وغمسه لفترة كافية في بيئة أخرى، وبغض النظر عن أحوال جماعة التبليغ، فإننا لسنا في مجال الكلام وتفصيل المؤاخذات على جماعة التبليغ، فقد سبق أن تكلمنا عليها بالتفصيل منذ زمن بعيد، لكن نحن الآن نتكلم على أن هذا واقع عملي نلمسه ونراه، ونحس بأثره، ونرى كيف يتغير سلوك الذي يأوي إليهم، بحيث تجده بعدما كان سكيراً عربيداً قاطعاً للطريق عاقاً لوالديه لصاً تجده بمجرد أن يمتزج مع هذه الجماعة يخرج من الباب الآخر رجلاً عابداً خاشعاً قانتاً صالحاً، صحيح أنهم لا يعلمونه الكثير، لكن الشاهد هو هذه الإيجابية النسبية، فأسلوبهم الأساسي في هذا هو هذا القضية التي نتكلم فيها، يعني: أن ينزع هذا الشخص من البيئة التي هو فيها، ويغمس في بيئة أخرى، فيسهل تطبيع هذا التائب بغرس قيم ومفاهيم جديدة مع التكرار باستمرار، ومع تطهيره من القيم المراد نزعها من قلبه، وبصورة سلسة وتلقائية، وفعالة، وتفسر جماعة التبليغ ذلك بمثال، وهم يتقنون جداً ضرب الأمثال، بل أحياناً تطغى عندهم على الاستدلالات الشرعية، فيقولون: إذا سقطت الجوهرة في النجاسة، فلو أردنا أن ننظف الجوهرة وهي باقية في وسط النجاسة، وبقينا نصب عليها الماء، ونصب الماء، ونصب الماء؛ فإنها لن تطهر، لكنها تطهر إذا نزعتها من وسط النجاسة بعيداً عنها ثم غسلتها، فحينئذٍ تطهر، فيقولون: إذا سقطت الجوهرة في مكان نجس فيحتاج ذلك إلى كثير من الماء حتى تنظف إذا صببناه عليها وهي في مكانها، ولكن إذا أخرجناها من مكانها؛ سهل تنظيفها بالقليل من الماء.

صحبة أولي الهمم العالية سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

صحبة أولي الهمم العالية سبب من أسباب الارتقاء بالهمة من أسباب الارتقاء بالهمة: صحبة أولي الهمم العالية ومطالعة أخبارهم، فهذا سبب آخر مرتبط بالسبب الماضي، وإن كان السبب الماضي عاماً، فمن انتقل إلى بيئة أخرى فعليه بعد ذلك أن يبحث عن أناس أولي همة عالية ويصحبهم؛ كي يتأثر بهم، فالطيور على أشكالها تقع، فالغراب يطير مع الغربان، والحمام مع الحمام، والنسور مع النسور، وكل شكل من أشكال الطيور مع شكله، وكذلك الأسماك وكذلك غيرها من الكائنات، وكذلك بنو آدم، فالطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي. والعبد يستمد من لحظ الصالحين قبل لفظهم، فإذا عشت مع الصالحين فإنك تستفيد باللحظ وبالنظر أكثر ما تستفيد بالكلام؛ لأن رؤيتهم تذكر بالله عز وجل، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر) فمجرد رؤيتهم تفتح أبواب الخير، وتغلق أبواب الشر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] قال: (هم الذين يُذكر الله لرؤيتهم) هذه هي علامة أولياء الله، فإنهم مباركون حيثما كانوا، وإذا رآهم الناس تذكروا الله سبحانه وتعالى، والإنسان فعلاً يشعر بهذا، فأحياناً يمضي مثلاً في الطريق، ويكون غافلاً عن ذكر الله، فإذا رأى رجلاً تتحرك شفتاه بذكر الله، سرعان ما ينتبه الإنسان إليه ويقتدي به في هذا، ومثلاً: تركب أحياناً في مواصلات فتجد رجلاً منزوياً في جانب ويمسك المصحف الشريف ويقرأ من القرآن، المصلحون في كل مكان يذكرون الناس بلحظهم قبل أن يذكروهم بلفظهم. وروي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان الربيع بن خيثمة إذا دخل على ابن مسعود لم يكن له إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه، فقال له ابن مسعود: (يا أبا يزيد! لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين)، فانظر إلى رجل ينبهر به عبد الله بن مسعود ويقول له: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين، ولذلك كان ابن مسعود يعامله معامله خاصة، فكان إذا دخل الربيع بن خيثمة على عبد الله بن مسعود تنقطع المقابلات، ولا يمكن أن يقابل أحداً أبداً إلى أن يفرغ من حاجته مع ابن خيثمة ثم بعد ذلك يقابل الآخرين. وقالت العرب: لولا الوئام لهلك الأنام، والوئام هنا بالذات في هذه العبارة معناه: التشبه بالكرام. قال الماوردي في معنى هذه الكلمة: لولا الناس يرى بعضهم بعضاً فيقتدى بهم في الخير وينتهى بهم عن الشر لهلكوا؛ لأن الانغماس في البيئة الصالحة والبيئة الطيبة يوجد الوئام الذي هو ثمرة هذا الاختلاط، فالناس حينما يحتك بعضهم ببعض يتعلمون من بعض، فيُرى الصالحون ويقتدى بهم، وأيضاً يجتنب الشر عن طريق هذا الوئام، فلولا الوئام لهلك الأنام. وقال زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه. تحر ألا تجلس إلا إلى من ينفعك في دينك. أنت في الناس تقاس بالذي اخترت خليلا فاصحب الأخيار تعلو وتنل ذكراً جميلا وعن جعفر قال: كنت إذا وجدت بالقلب قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى، يعني: من شدة حزنه وخوفه من الآخرة. وقال ابن المبارك: إذا نظرت إلى فضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي. هذا والذي يقول هذا هو عبد الله بن المبارك رحمه الله الإمام الجليل المبارك الذي هو من سادات المسلمين رحمه الله تعالى، ومع ذلك يقول في الفضيل بن عياض: إذا نظرت إلى فضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي. فيمقت نفسه ويكره نفسه، لتقصيرها في طاعة الله عن التشبه بهذا العبد الصالح. وكان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاحاً أو زهداً أو قياماً بحق أو اتباعاً للأمر سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله. فكان من خصائص منهج الإمام أحمد في علاقته بالناس أنه إذا سمع عن رجل يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أو مجتهد في العبادة أو العلم أو الزهد أو الصلاح أو غير ذلك من هذه الأمور العالية يسأل ويبحث عنه، ويحرص على أن تجري بينه وبينه معرفة وأخوة، ويتابع أحواله باستمرار، الإمام أحمد كان يطبق قاعدة مهمة جداً وهي قاعدة: التجريب قبل التقريب، يعني: قبل أن تقرب واحداً منك ينبغي أن تجربه أولاً وتجرب أخلاقه وتبحث عن صفاته وطباعه؛ لأن الصورة التي تريدها لنفسك هي الصورة التي عليها من تخالله وتتخذه صديقاً قريباً، فكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يطبق قاعدة التجريب قبل التقريب، فكان يدقق في اختيار من يقربه منه ويدنيه، وعرف عنه ذلك، حتى قال الشاعر في مدح الإمام أحمد رحمه الله: ويحسن في ذات الإله إذا رأى مضيماً لأهل الحق لا يسأم البلا فإخوانه الأدنون كل موفق بصير بأمر الله يسمو إلى العلا هؤلاء هم إخوانه في الله، فكان الإمام أحمد يحرص على ألا يصادق ولا يؤاخي إلا من تحقق فيه هذا المعنى. وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى بعض ما استفاده من ملاحظة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وابن القيم يتكلم وكأنه يتكلم عن أبناء أو أطفال يفزعون إلى أبيهم في شدة الفزع كي يلوذوا به ويطمئنوا، فـ ابن القيم هو شعاع من نور شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يتحدث بلسان إخوانه من تلامذة شيخ الإسلام فيقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة. وإذا أردت أن تلمس أثر الصحبة العالية الهمة في التسابق إلى الخيرات فتأمل ما قاله محمد بن علي السلمي رحمه الله -تأملوا وابكوا على أحوالكم- حيث يقول: قمت ليلة سحراً لآخذ النوبة على ابن الأخرم. يعني: من أجل أن يذهب يحجز مكاناً في المسجد الذي فيه حلقة ابن الأخرم، وكأنه يقول: أنا سأكون أول واحد يحضر، وبالتالي أكون في المقدمة، وأبادر للأخذ على الشيخ، فاستيقظ في السحر، وخرج من بيته وذهب ليحجز مكاناً في الحلقة، قال: فوجدت أنه قد سبقني ثلاثون قارئاً، أي: ثلاثون من إخوانه، وهذا معناه: أنهم استيقظوا وأتوا قبل ذلك بفترة، قال: فوجدت أنه قد سبقني ثلاثون قارئاً، ولم تدركني النوبة إلى العصر. وقال علي بن الحسين بن شقيق: قمت لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد، فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح. أي: لم يشعروا بالوقت، فظلوا يتذاكرون طوال الليل وهم قيام، وفي ليلة باردة إلى أن جاء المؤذن يؤذن لصلاة الصبح. وهذا الشاعر محمد إقبال يدعو الله أن يمن عليه بصاحب عالي الهمة فيقول: هب نجياً يا ولي النعمة محرماً يدرك ما في فطرتي هب نجياًً لقناً ذا جنة ليس في الدنيا له من صلة وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه: (ما أعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به). وقال الحسن البصري: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا؛ لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة. ويقول الدكتور خلدون الأحدب حفظه الله: وإذا ما نظرنا إلى أولئك الذين استفادوا من لحظات أعمارهم، وكان من نتاجهم وأثرهم ما يعجب أو يدهش نجدهم لا يصاحبون إلا المجدين العاملين، والنابغين الأذكياء الذين يحرصون على أوقاتهم حرصهم على حياتهم؛ لأن الزمن هو الحياة. ونحن المسلمون نقول: الذهب هو الحياة، ولا نقول: الوقت من ذهب؛ لأن هذه الكلمة هي كلمة الغربيين؛ لأن الذهب عندهم هو أعظم حاجة يضرب بها المثل في النفاسة، فالوقت عندهم من ذهب، أما المسلمون فيقولون: الذهب هو الحياة نفسها التي هي أغلى بكثير من الذهب. يقول: وصحبة هؤلاء الأمجاد المجدين المتيقظين للدقائق والثواني كان له عظيم الأثر في همة مثل الإمام: ابن جرير الطبري وابن عقيل الحنبلي وابن عساكر الدمشقي وابن تيمية وابن القيم وابن النفيس والمزي والذهبي وابن حجر وأضرابهم في غزارة إنتاجهم وجدته. يقول الإمام ابن عقيل الحنبلي صاحب كتاب (الفنون): وعصمني الله من عنفوان الشبيبة بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله فما خالطت لعاباً قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم. يعني: أن أحد أسباب توفيقه هو أنه قصر صحبته على كبيري الهمة. فالحريص الموفق الذي يروم المعالي لا تراه إلا مع أهل العلم العاملين، وأولي الفضل والمجاهدة والحكمة والبصيرة، ليرشح عليه ما هم فيه أو بعضه، فيكون مثلهم أو قريباً منهم، إن صحبة هؤلاء تعلم منافسة الزمان، وصحبة البطالين تعلم تضييع الزمان. وصحبة البطالين الآن ليس فقط عن طريق اتخاذ أصدقاء بطالين لاهين غافلين، إنما هناك نوع

نصيحة المخلصين سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

نصيحة المخلصين سبب من أسباب الارتقاء بالهمة من أسباب الارتقاء والارتفاع بالهمة: نصيحة المخلصين النصيحة المخلصة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قالوا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم) وهذا الناصح قد يكون أباً شفيقاً أو أماً رحيمة، أو زوجة تحضه على الخير، وقد يكون هذا الناصح رجلاً من عوام المسلمين، وقد يكون من علماء المسلمين كما سنفصل إن شاء الله تعالى. فقد يكون هذا الناصح الأمين الذي ينصحك ويوجهك وينفعك في الارتقاء بهمتك أباً شفيقاً، كما قال سفيان بن عيينة: قال لي أبي وقد بلغت خمس عشرة سنة: إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا- أي: انتهى موضوع الطفولة والصبا- فاتبع الخير تكن من أهله؛ فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها، ولا أميل عنها. وقد يكون الناصح أماً رحيمة، فهذه أسماء ذات النطاقين رضي الله تعالى عنها توصي ابنها عبد الله بن الزبير لما استنصحها فقالت له: (الله! يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو عليه فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير! والله! لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ظلم، فقال: يا أماه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت: يا بني! إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك واستعن بالله)، وهو في الحقيقة ما كان يخاف، فهو أكبر من ذلك، لكنه كان يريد أن يطمئن على ما عندها، فهذه بلا شك نصيحة أم، فانظر كيف تحثه حثاً على علو الهمة حتى لو كان في ذلك نحبه؟! وقد يكون الناصح الأمين زوجة تحضه على الخير، والزوجة بلا شك تكون من أكثر عناصر التثبيط أو التشجيع، ومن ثم حرضنا الشرع الشريف على البحث عن الزوجة الصالحة؛ لأنها تكون عوناً للإنسان على دينه، فتحضه على الخير وعلى طاعة الله سبحانه وتعالى، فالزوجة الصالحة تحضه على الخير وترقي همته، مثل امرأة حبيب أبي محمد انتبهت ليلة وهو نائم، فأنبهته في السحر، وقالت: قم يا رجل! فقد ذهب الليل وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا. أو كالزوجة الصالحة العاقلة الذكية الدينة موضي بنت أبي وهطان زوجة الأمير محمد بن سعود رحمه الله، والتي كان لنصيحتها أكبر الأثر في نصرة أعظم حركة تجديدية شهدتها الأمة منذ أوائل القرن الثاني عشر الهجري إلى يومنا هذا، فإنها هي التي حثت زوجها على مناصرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وشد أزره، وإشهار سيفه من غمده نصرة لدعوة التوحيد، فهذه المرأة كانت عنصراً أساسياً خلف تأييد ومناصرة دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. وقد يكون الناصح الأمين الذي يرتفع بهمتك رجلاً من عوام المسلمين. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهو يصف محنته: صرنا إلى الرحبة -بلدة معينة- ورحلنا منها في جوف الليل فعرض لنا رجل، فقال الرجل: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا، فقال للجمال: على رسلك، ثم قال: يا هذا-يخاطب الإمام أحمد - ما عليك أن تقتل ههنا وتدخل الجنة؟ ثم قال: أستودعك الله، ومضى، فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له: جابر بن عامر يذكر بخير. وقال الإمام أحمد رحمه الله: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر-الفتنة- أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق -وهي بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات- قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً، فقوي قلبي. فانظر كيف أثرت نصيحة رجل من عوام المسلمين، والإمام أحمد يقول: رجل أعرابي، يعني: ليس بعالم ولا مشهور ولا يشار إليه بالبنان، لكن أثرت كلمته في قلب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وحكى الحافظ ابن كثير رحمه الله: أن أعرابياً نصح الإمام أحمد في المحنة، فقال: يا هذا! إنك وافد الناس، فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم إلى يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل. قال الإمام أحمد: وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه. وما أحسن ما كتبه رجل أسره الصليبيون في بيت المقدس من أبيات لها أهميتها في موضوع التشجيع في الارتفاع بالهمة، فإن التشجيع يكون له أثر عظيم جداً في الارتفاع والارتقاء بالهمة، ويكفي أن التشجيع قد جعله الله سبحانه وتعالى فرضاً على المسلمين في بعض الأحوال، والعلماء حينما يتكلمون عن فروض الكفايات يقولون: إن الأمة لو لم تقم بفرض الكفاية يأثم الجميع: القادرون وغير القادرين، يأثم القادرون؛ لأنهم لم يفعلوا، ويأثم غير القادرين؛ لأنهم لم يحرضوا ولم يشجعوا ولم يستحثوا القادرين، فحتى غير القادر يجب أن يحث القادر، ولذلك الإنسان لا يحتقر أبداً أي نصيحة أو أي كلمة تشجع إخوانه القائمين بأمر الدعوة أو بأمر الله سبحانه وتعالى. هذا رجل من المسلمين أسره الصليبيون في بيت المقدس، فكتب هذه الأبيات على لسان المسجد الأقصى يخاطب صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، ولم يقل له: أريد أن أتحرر من الأسر، أو أريد أن أعود إلى أولادي ومالي وكذا، وإنما انظر إلى ما كتبه على لسان المسجد الأقصى وهو يخاطب صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى حيث قال له: يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس كل المساجد طهرت وأنا على شرفي منجس فكان لها أعظم الأثر في قلب صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، والظلامة هي ما يكتبه المظلوم، يعني: فكأن المسجد الأقصى يخاطب صلاح الدين بهذه الأبيات. أما نصائح العلماء فلا تسل عن حسنها وعميق أثرها في انبعاث الهمة: سيق الإمام أحمد إلى المأمون مقيداً بالأغلال، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه، حتى إن الخادم قال للإمام أحمد رحمه الله تعالى: يعز علي يا أبا عبد الله! أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، فانبرى أبو جعفر الأنباري يشد أزر الإمام، فقال رحمه الله: ولما حمل أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر! تعنيت. يعني: أتعبت نفسك، فقال: يا هذا! أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فأنت تموت، فاتق الله ولا تجب، فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر! أعد، فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله. وقال الإمام أحمد رحمه الله واصفاً حال رفيقه في المحنة محمد بن نوح: ما رأيت أحداً على حداثة سنه، وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير، قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله! الله الله! إنك لست مثلي، أنت رجل يقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك؛ لما يكون منك، فاتق الله واثبت لأمر الله، فمات وصليت عليه ودفنته. بل إن من لم يتصل مباشرة بالإمام أحمد في محنته كان معه بوجدانه، يتحسر لعدم مشاركته إياه العذاب والآلام. قيل لـ بشر بن الحارث الحافي يوم عذب الإمام أحمد: قد ضرب أحمد بن حنبل إلى الساعة سبعة عشر سوطاً، فمد بشر رجله وجعل ينظر إلى ساقه، ويقول: ما أقبح هذا الساق ألا يكون القيد فيها نصرة لهذا الرجل! ومن نصائح العلماء المؤثرة جداً، والتي ممكن أن تغير سير حياة كاملة لإنسان ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: إن الحافظ القاسم بن محمد البرزالي رحمه الله هو الذي حبب إلي طلب الحديث، فإنه رأى خطي، فقال: خطك يشبه خط المحدثين، فأثر قوله فيَّ وسمعت منه وتخرجت به في أشياء. فالإمام الذهبي الذي هو الإمام الذهبي ولا نستطيع أن نقول أكثر من هذا، كان سر عظمته في علم الحديث وتوغله في هذا العلم هو هذه الكلمة العابرة التي قالها له الحافظ البرزالي حينما نظر إلى خطه فقال له: خطك يشبه خط المحدثين، يقول الذهبي: فأثر قوله فيَّ، وسمعت منه وتخرجت به في أشياء.

المداومة والمثابرة في كل الظروف سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

المداومة والمثابرة في كل الظروف سبب من أسباب الارتقاء بالهمة إن أسباب الارتقاء بالهمة ليست محصورة، لكن نقف عند هذا السبب الأخير، وهو: المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، وقال أيضاً: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فكبير الهمة لا يستسلم للأمر الواقع، بل يبادر ويبادر في أقصى الظروف؛ لأنه يرى أن شرع الله هو الأمر الواقع، أما الباطل الذي صار أمراً واقعاً في زعم الناس فما أسهل أن يتحول ويتنحى جانباً ليترك السبيل للأمر الواقع الحق الذي هو شرع الله سبحانه وتعالى، فعالي الهمة لا يعترف بشيء اسمه الأمر الواقع، ولو أن علماء السلف قالوا: الأمر الواقع لما حصل تجديد للدين، ولا تشغيل لشبابه وبعث للأمة أبداً، فالأمر الواقع إنما يميل إليه سفلة الناس الذين انحطت هممهم وسفلت نفوسهم، فعالي الهمة لا يلتفت إلى الأمر الواقع، بل يبادر ويبادئ في أقصى الظروف حماية لهمته أن تهمد، ووقاية لها من أن تضمر، واستثماراً لأول فرصة متاحة. ليس في كل حال وأوان تتهيأ صنائع الإحسان فإذا أمكنت فبادر إليها حذراً من تعذر الإمكان سبق أن ذكرنا من قبل مثالاً لعالي الهمة: أن عالي الهمة مثل الذي يحمل شعلة من النار، فحتى لو دفع بها إلى أسفل فإنها تأبى إلا صعوداً وارتفاعاً، فعالي الهمة حتى لو قيد أو كبل فهذا لا يؤثر في همته، بل إنه تحت أقسى الظروف يثابر ويداوم. قال الشاعر: ومن أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها وقال آخر: إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الأسوة، فإنه لما خرج مهاجراً إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لقي في طريق الهجرة بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، فلم تشغله مطاردة قريش عن واجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا يوسف الصديق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يبادر إلى استثمار الفرصة فيغتنم سؤال السجينين عن رؤياهما ليبث إليهما دعوة التوحيد من وراء الأسوار، كما قال عز وجل حاكياً عنه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] إلى آخر الآيات. وقد أملى شمس الأئمة الإمام السرخسي رحمه الله تعالى الإمام الحنفي الشهير كتابه المبسوط الذي يقع في نحو خمسة عشر مجلداً وهو في السجن في (أوزجم)، وكان محبوساً في الجب بسبب كلمة ناصح بها الخاقان فحبسه في الجب، وهذه طريقة غريبة في الحبس، فكان محبوساً في قاع الجب، وكان يأتيه تلامذته يجلسون على قصف البئر -السور الذي يكون أعلى البئر- وهو يملي عليهم من ذاكرته من قاع ذلك البئر. يعني: كان يملي من خاطره من غير مطالعة كتاب وهو في الجب وأصحابه في أعلى الجب، وقال عند فراغه من شرح العبادات -ومن يراجع كتاب المبسوط سيجد هذه العبارات مكتوبة في آخر جزء العبادات-: هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجمع والجماعات، وقال في آخر شرح الإقرار: انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني على ما هو من الأسرار، إملاء المحبوس في محبس الأشرار. وله كتاب في أصول الفقه، وشرح السير الكبير أملاه وهو في الجب، ولما وصل إلى باب الشروط حصل له الفرج فأطلق، فخرج في آخر عمره إلى (فرغانة)، فأنزله الأمير حسن بمنزله فوصل إليه الطلبة فأكمل الإملاء. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لما تآمر عليه أعداؤه حتى حالوا بينه وبين الأوراق والكتابة حتى لا تخرج فتاواه وعلمه من خارج السجن كما حصل، وشوا به إلى السلطان حتى منعه من الأوراق والأقلام، وأخرج كل ما عنده من الكتب والأقلام والأوراق، فظل يكتب فتاواه ورسائله بالفحم على جدار السجن، فرحمه الله تعالى.

أثر علو الهمة في إصلاح الفرد والأمة

أثر علو الهمة في إصلاح الفرد والأمة إن ما مضى من الكلام يبين لنا كيف أن الهمة العالية هي سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب البر، لاسيما العلم والجهاد اللذين هما سبب ارتفاع الدرجات؛ فمن تحلى بها لان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معالي الإيمان، إذ إن همم الرجال تزيل الجبال، يقول الشاعر: همم الأحرار تحيي الرمم نفخة الأبرار تحيي الأمم فأصحاب الهمة العالية فحسب هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وأصحاب الهمة العالية هم فقط الذين يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم. وهذا بخلاف نوع آخر من الهمم قال فيه الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى: ومن دواعي الأسف أن الذين عندهم نصيب من القوى الفكرية والقلبية من النوع الأعلى من أفراد أمتنا- يعني: الأذكياء والنوابغ- هم مولعون بإحراز الترقيات الدنيوية، يجاهدون في سبيلها ليل نهار، ولا يصبرون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتفعة، وما بلغوا من تعلقهم بالدعوة إلى الاستعداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم، بل ولا بمجرد إمكانات منافعهم، فإذا كنتم -يخاطب أصحابه- ترجون معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من الجنيهات كل يوم في سبيل راياتهم الباطلة، فما ذلك إلا حماقة! وهذه نصيحة شديدة وقاسية لكن لابد منها، وسبق أن ذكرت لكم مثالاً مؤسفاً أيضاً كهذا المثال، بعض الشباب في إحدى البلاد حينما طلب من بعضهم التبرع بتحفيظ الطلاب القرآن الكريم لوجه الله تذمر بعضهم لأجل أنه لن يعود عليهم ذلك براتب؛ وإن كان هذا في وقت فراغهم لكنه لن يعود عليهم بمال. فجمعهم المسئول وقال لهم: لا تكونوا مثل ماكينة البيبسي -وفي الخارج توجد ماكينات تضع فيها العملة سواء ورقية أو معدنية فتخرج لك البيبسي، وإذا ما أعطيتها النقود لا تخرج لك- تعطيها العملة تعطيك الببسي، فأنتم إذا لم تأخذوا مالاً لا تبذلوا في سبيل الدعوة! فهذا مثال مشابه. يقول المودودي: فإذا كنتم ترجون معتمدين على هذه العاطفة الباردة التي لا تكلف وليس فيها دفع الثمن أن تتغلبوا على أناس يضحون بالأموال والأنفس وكل شيء في سبيل باطلهم فهذا ليس من العدل وليس من الإنصاف. إذاً: أصحاب الهمة العالية هم وحدهم فقط الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وهم الذين يبدلون أفكار العالم ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم، ومن ثم فهم القلة التي تنقذ الموقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة الانتشال السريع من وحل الوهن ووهدة الإحباط. يقول الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى مبيناً أثر علو الهمة: يسمو هذا الخلق بصاحبه فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يضطهد أو يزدرى فإذا هو عزيز كريم، وهو الذي يرفع القوم من سقوط ويبدلهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية. هذا الخلق هو الذي يحمل جماعة من أن تتملق خصمها، فإذا كان الإنسان عنده علو همة فلا يجود لسانه بمدح خصمه، فلا يقول: إنه شريف وإنه كذا وكذا من النفخ في أعداء الدين وأعداء الإسلام؛ لأن هذا من علامات سقوط الهمة، وقائل هذا ذليل أمام الخصم فيضطر أن يمدحه بهذه الطريقة. يقول الشيخ محمد الخضر حسين: هذا الخلق هو الذي يحمل جماعة من أن تتملق خصمها، أما صغير الهمة فإنه يبصر خصومه في قوة وسطوة، فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة، ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم. وفي جنح هذا الظلام الحالك والليل الأليل تكاد تفتقد أمتنا البدر المنير، وتترقب مجيء رجل الساعة، والمصلح المنتظر ويحدوها الأمل في طلوع فجر قريب يؤذن ببعث المجدد المرتقب الذي بشر به الصادق المصدوق في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على كل رأس مائة سنة من يجدد لها دينها). وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم فأحر بهم أن يغرقوا حيث لججوا نظار لكم أن يرجع الحق راجع إلى أهله يوماً فتشجوا كما شجوا على حين لا عذر لمعتذريكم ولا لكم من حجة الله مخرج لعل لهم في منطوى الغيب ثائراً سيسمو لكم والصبح في الليل مولج بجيش تضيق الأرض عن زفراته له زجل ينغي الوحوش وهزمج فيدرك ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه تماماً وما كل الحوامل تخدج وإني على الإسلام منكم لخائف بوائق شتى بابها الآن مرتج لعل قلوباً قد أطلتم غليلها ستظفر منكم بالشفاء فتثلج فيا شباب الإسلام! قد فتح باب الترشيح؛ فهيا تسابقوا إلى العلى، وتنافسوا في جنة عرضها السموات والأرض، واختطوا لأنفسكم طريق المجد؛ فتالله ما ارتفع صوت الحادي يوماً لرفقة أولي صمم، ولا ارتفع الفلك الأعلى لغير أهل الشموخ والشمم. ستعلم أمتنا أننا ركبنا الخطوب هياماً بها فإن نحن فزنا فيا طالما تذل الصعاب لطلابها وإن نلق حتفاً فقد قدمت كئوس المنايا لشرابها هذه المهمة الجسيمة التي تبحث عن عالي الهمة وكبير الهمة هي التي قال فيها المجدد العلم والجبل الأشم أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره. فممن يعرف قدر نفسه بلا وكس ولا شطط يراها أهلاً لهذه الوظيفة المقدسة؟ من منكم يصف هذه الأحلام ويضرب صدره في عزة وشموخ قائلاً: أنا لها، أنا لها؟! فإن كنت عن جدارة واستحقاق حزت مسوغات هذا الترشيح فامض على بصيرة ولا تلتفت إلى الوراء حتى يفتح الله عليك، وحذار أن تغفل ولو لحظة. لحظة يا صاحبي إن تغفلِ ألف ميل زاد بعد المنزلِ رام نقش الشوك حيناً رجلُ فاختفى عن ناظريه المحملُ وزاحم بكتفيك وساعديك قوافل العظماء والمجددين من السلف والخلف، ولا تؤجل فليس من تأجيل فإن مرور الزمن ليس من صالحك، وإن الطغيان كلما طال أمده كلما تأصلت في نفوس المتميعين معاني الاستحذاء، ولابد من مبادرة تنتشل ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق ينبض وبذرة فطرة كامنة. قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل ولا يظنن ظان أن حديثنا عن علو همة أسلافنا العظام يعني الانطواء في الماضي، وقطع النظر عن الحاضر والمستقبل، وإلا صرنا كالترجمان الذي يتوقف أمام الآثار ويشيد بالماضي فحسب، دون أن يقدم شيئاً للحاضر أو المستقبل. ولا يظنن ظان أننا بهذا الحديث عن علو همة السلف الصالح نرجع إلى الوراء في زمن تتسابق فيه الأمم نحو المستقبل، فإن اقتداءنا بخير أمة أخرجت للناس هو تألق وصعود وارتفاع إلى مستوى ذلك الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له نظيراً، وإن إبراز هذه النماذج الحية هو أقرب طريق إلى إيقاظ الهمم نحو إصلاح هذه الأمة التي لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، وباب المجد والمكرمات لم يزل مفتوحاً يرحب بكل راغب. إذا أعجبتك خصال امرء فكنه يكن منه ما يعجبك فليس لدى المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك فيا من يروم ولوج هذا الباب واجه الحقائق، وتبصر موقع قدمك، ولا تفزع إلى انتظار خراب العالم على أمل أن ينهض المسلمون على أنقاضه، ولا تهرب إلى افتراض حصول خوارق للسنن التي لا تحادي من لا يحترمها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. وتذكر يوم بدر حين خرج الثلاثة من كفار قريش يطلبون المبارزة، فأخرج لهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الأنصار، فقالوا: والله! لا نطعن في أحسابهم ولا أنسابهم، ولكن أخرج لنا أكفاءنا من قريش، فأخرج لهم علياً وحمزة وأبا سفيان بن الحارث فقتلوهم، وكذلك الناس دوماً تحب المكافأة حتى حين يقتلون. والقرشية اليوم تتمثل في الصروح العلمية، والمجامع الأدبية، والمؤسسات الصحفية، والمعاهد السياسية، والدور الوثائقية، وغير ذلك من مجالات هذه الأنشطة، وعلى دعاة الإسلام اليوم أن ينطلقوا منها للمبارزة. هذا زمان لا توسط عنده يبقي المغامر عالياً وجليلا كن سابقاً أو ابق فيه بمعزل ليس التوسط للنبوغ سبيلا والنداء الأخير إلى هذا الشخص الذي وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفرج يكون على يديه بإصلاح هذه الأمة وتجديد هذا الدين، هذا المصلح المرتقب والمجدد المنتظر الذي سيخرج إلى الحياة بإذن الله مهما حاول فرعون أن يتقيه، ومهما وأد من الصبية كي يبدل وعد الله الذي لا يخلف. وقد يكون الآن كامناً في ظهر الغيب، أو حقيقة في عالم الشهادة، وقد يكون رضيعاً في المهد، أو ناشئاً يقرأ أو يسمع معنى هذه الأبيات: أنت نشء وكلامي شعلُ عل شدوي مبرم فيك حريقا ليس في قلبي إلا أن أرى قطرة فيك غدت بحراً عميقاً فالأمة المسلمة تنتظر من هذا المجدد جذبة عمرية توقظ في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر صيحة أيوبية تغرس بذرة الأمل في بيداء اليأس، وعلى قدر المئونة تأتي من الله المعونة. قد نهضنا للمعالي ومضى عنا الجمود ورسمناها خطاً للعز والنصر تقود فتقدم يا أخا الإسلام قد سار الجنود ومضوا للمجد إن المجد بالعزم يعود قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى آخره خير أم أوله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشا

علو الهمة [18]

علو الهمة [18] لقد شرف الله عز وجل الأمة الإسلامية على جميع الأمم، وإن أعظم ما شرفها الله عز وجل به هو القرآن الكريم، لذا كان الاعتناء بالقرآن الكريم حفظاً وتلاوة وفهماً وتفسيراً وتعليماً من أعظم الأعمال، ومن أحب أن يكلمه الله عز وجل فليقرأ كلامه سبحانه وتعالى.

تشريف الله عز وجل للأمة الإسلامية بالقرآن الكريم

تشريف الله عز وجل للأمة الإسلامية بالقرآن الكريم لقد شرفنا الله تبارك وتعالى بأن بعث إلينا أشرف رسول، وجعلنا أشرف أمة في أشرف بقاع الأرض بسفارة أشرف الملائكة، وأنزل عليه صلى الله عليه وسلم أشرف الكتب بأشرف لغة في أشرف شهر في السنة، في أشرف ليلة من هذا الشهر، ألا وهو القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1 - 2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم. صح عن أمير المؤمنين ذي النورين أمير البررة وقتيل الفجرة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، رواه البخاري والترمذي. والخطاب هنا موجه إلى خير أمة أخرجت للناس، فهؤلاء المذكورون في الحديث هم خيار الأخيار في خير أمة أخرجت للناس. فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الشريف أن خير المتعلمين وخير المعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن لا في غيره؛ إذ خير الكلام كلام الله، فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل به، ولابد من تقييد التعلم والتعليم بشرط أن يكون خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى. فلابد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص، وإرادة وجه الله تبارك وتعالى، فإن من أخلص التعلم والتعليم وتخلق بالإخلاص دخل في زمرة ورثة الأنبياء.

التنبيه على بعض العوائق والأخطاء في طلب العلم

التنبيه على بعض العوائق والأخطاء في طلب العلم وبعد أن فرغنا من الكلام على علو الهمة لا شك أن هذا الكلام لم يكن المقصود به أن نستمتع بالكلام في سيرة السلف ونتفرج عليهم، وأن نكون كحال الترجمان الذي يقف أمام الآثار يصف عظمة الماضي في زعمه، ثم لا يقدم شيئاً إلى الحاضر أو المستقبل، خاصة وأن بنا من الآفات ومظاهر التقصير في طاعة الله سبحانه وتعالى ما يوجب علينا أن نجدد إيماننا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، نسأل الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبنا أجمعين. ولا نقتصر أيضاً على مجرد الدعاء؛ فإن الدعاء وإن كان داخلاً في الكلم الطيب لكن الكلم الطيب يحتاج إلى ما يحمله ويرفعه إلى السماء، وهو العمل، قال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]. ولا شك أن مفتاح الهداية إلى الطريق القويم هو العلم والتشبع بالعلم؛ لأن العلم هو المخرج من الفتن التي يموج بها هذا الزمان لكننا حينما نتوجه إلى طلب العلم نقع في كثير من الأخطاء التي تجعل السنوات تمر دون جدوى أو دون الحصيلة التي كان من المفترض أن نحصلها، فيوجد في بعض إخواننا -خاصة ممن ينتسبون إلى السلفية- ما يمكن أن نسميه: بعض النتوءات الفكرية، نتوءات شاذة غير سوية؛ لأنها مخالفة للمنهج السلفي. ومظاهر هذه النتوءات الشاذة كثيرة، وسبق أن تكلمنا عنها في عدة مناسبات، لكننا محتاجون أن نعيد الكلام عليها من جديد، وقد تكلمنا فيما قبل على المنهج العلمي تحت عنوان: لمن تقرأ وماذا تقرأ؟ وفصلنا الكلام في هذا، ونحن بلا شك محتاجون إلى أن نجدد عهدنا بما قلناه قبل. لكن أبدأ أولاً ببيان بعض العوائق التي تعيق طالب العلم عن المضي في الطريق الصحيح في طلب العلم، وهذه العوائق كثيرة، لكن أقتصر الآن على ما يمس موضوعنا: فمنها: عدم التدرج في العلم طلب العلم مثل السلم، ولا بد للإنسان أن يتدرج في الصعود عليه، ولذلك لا نرى أحداً من العلماء ينازع في أهمية مراعاة مبدأ التدرج في طلب العلم؛ لأن التدرج هو الوسيلة الناجحة لأخذ العلم وفهمه، والتدرج والتمهل ليس بدعاً من القول، وإنما هو مأخوذ من كتاب الله تبارك وتعالى؛ فقد قال الله عز وجل: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106] فقوله: (على مكث) يعني: على تمهل، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32]. قال الزبيدي نقلاً عن كتاب الذريعة في وظائف المتعلم: يجب ألا يخوض في فن حتى يتناول من الفن الذي قبله على الترتيب بلغته، ويقضي منه حاجته؛ فازدحام العلم في السمع مضلة الفهم، وعلى هذا قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121]، يعني: لا يتجاوزون فناً حتى يحكموه علماً وعملاً، فيجب أن يقدم الأهم فالأهم من غير إخلال في الترتيب، فكثير من الأمراض الموجودة فينا معشر طلبة العلم هي نتيجة عدم مراعاة هذا الترتيب، فكثيرون يقفزون إلى بعض الدرجات العلا دون أن يراعوا التدرج والترتيب، فتوجد هذه النتوءات الشاذة التي تنتسب زوراً إلى السلفيين. قال العلماء: من ترك الأصول حرم الوصول. يعني: أن الأصول هي الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه البنيان، فمن تركها يحرم من الوصول إلى الغاية والهدف الذي يرومه، فحق على طالب العلم أن يكون قصده من كل علم يتحراه هو أن يتبلغ به إلى ما فوقه، ويتهيأ به إلى الدرجة التي تليها إلى أن يبلغ النهاية. والتدرج يكون في أمرين: الأول: أن يتدرج بين الفنون نفسها. والثاني: أن يتدرج في الفن الواحد نفسه، وكلا الأمرين يخضع لاجتهاد المعلم الذي يوجه الطالب، وطبيعة المكان والظروف والملابسات، ولذا فإن إشارات العلماء في التدرج تختلف باختلاف مذاهبهم وأماكنهم. لكن يكاد العلماء والناصحون والمصنفون في هذا الباب من أهل العلم يتفقون على أن أولى الخطوات هي: الاهتمام والحفظ لكتاب الله تبارك وتعالى. ورحم الله الإمام الحافظ ابن عبد البر إذ نعى طلب العلم في زمنه، فقال: واعلم -رحمك الله- أن طلب العلم في زماننا هذا وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم، وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم، وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم. فإذاً: يقبح بنا ألا نقتدي بآثار من سبقنا من أهل العلم في طلب العلم والتدرج فيه.

جدول في طلب العلم من بدايته إلى منتهاه

جدول في طلب العلم من بدايته إلى منتهاه رتب الإمام ابن الجوزي جدولاً للطالب يبلغ به منتهاه، فقال رحمه الله: وأول ما ينبغي أن يكلف -يعني: طالب العلم- في صباه: حفظ القرآن متقناً؛ فإنه يثبت، ويختلط باللحم والدم، فمن اشتغل وبدأ البداية الصحيحة بحفظ القرآن الكريم منذ الصغر فإن القرآن الكريم سيختلط بلحمه ودمه، يصبح جزءاً من كيانه، وكما أن الدم يجري في عروقه وعضلاته وكل خلايا جسمه فكذلك القرآن الكريم يمتزج بروحه امتزاجاً كاملاً؛ حتى يكون جزءاً من كيانه وتكوينه. ولا شك أن من حفظ القرآن في الصغر أمكنه أن يتعبد به في الكبر، أما من تأخر في حفظ القرآن فلا شك أن كثرة التمتع والاستمتاع والتعبد بالقرآن الكريم ستكون أقصر، فينبغي الاهتمام بأن نجتهد في إنقاذ الأجيال القادمة -إن شاء الله- مما وقع فيه الجيل الماضي من التقصير في حق القرآن الكريم والاشتغال عنه بغيره. فكل ما يشغل عن القرآن فهو في الغالب شؤم على صاحبه؛ لأنه سيحرمه من أن يضيء قلبه ويعمر جوارحه بكلام الله عز وجل، فكلام الملك ملك الكلام، فليس هناك كلام أفضل من كلام الله؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم دائماً يكرر على أصحابه هذه العبارة المهمة: (خير الكلام أو أحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم). وسيأتي بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الاهتمام بالقرآن. يقول ابن الجوزي: وأول ما ينبغي أن يكلف في صغره حفظ القرآن متقناً؛ فإنه يثبت فيختلط باللحم والدم، ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن في لسانه، ثم الفقه مذهباً وخلافاً، وما أمكن بعد هذا من العلوم فحفظه حسن. إذاً: طلب العلم سلم ذو درجات ومراتب لا ينبغي تعديها، فمن تعداها فقد تعدى سيرة السلف الصالح، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداها مجتهداً زل، فلابد من المنهجية، ولابد من المرحلية. فالمنهجية هي: أن يكون هناك منهج محدد في كل علم من العلوم تدرسه على شيخ، ولا تنشغل بغيره، وتواصل فيه الليل بالنهار مجتهداً. والمرحلية هي: الجدول الزمني، يعني: أن المهمة التي تريد أن تنجزها لا تعد ناجحاً إلا إذا أنجزتها في وقت مناسب، لا أن تمر سنوات دون أن يحصل تقدم يذكر فإن هذا من الأخطار.

وظائف ينبغي على طالب العلم مراعاتها مع القرآن الكريم

وظائف ينبغي على طالب العلم مراعاتها مع القرآن الكريم اتفق الناصحون في هذا الباب على أن أول العلم: حفظ كتاب الله تبارك وتعالى. وسبق أن تكلمنا في محاضرة (لمن تقرأ وماذا تقرأ) وقلنا: إنه لابد لطالب العلم من وظائف مع القرآن الكريم. الوظيفة الأولى: ختم القرآن الكريم، فعلى طالب العلم أن يختم القرآن بطريقة دورية ثابتة، وأن يكون له ورد يومي وحزب دائم من القرآن الكريم، ويتفاوت مقدار هذا الحفظ حسب ظروف كل إنسان، فالناس ليسوا كلهم على درجة واحدة من الاستعداد والظروف، فهناك التاجر، والطالب، والمدرس، والمتفرغ لطلب العلم، فبلا شك أن حظوظهم تتفاوت بحسب ظروفهم. ولا تتحرجوا من كلمة (ورد) فهي ليست حكراً على الصوفية، ولا كلمة (حزب) بل هذه ألفاظ شرعية مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه عليه الصلاة والسلام حينما تأخر على قوم كانوا ينتظرونه قال: (كان حبسني ورد أو حزب من القرآن، فكرهت أن أخرج حتى أتمه)، وجاء أيضاً عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (من فاته ورده من الليل فليقضه إذا أصبح بالنهار). الشاهد: أن الورد أو الحزب أو القدر المعين الذي تحدده لنفسك كل يوم ينبغي أن تحافظ عليه، وينبغي أن يكون لكل واحد ورد ثابت من القرآن الكريم؛ بحيث يختم القرآن، وسنتكلم على المدد المقترحة بذلك إن شاء الله تعالى، فهناك ورد الختم، وهناك ورد المراجعة، وهناك حفظ ما لم يحفظه من كلام الله تبارك وتعالى. وأما الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكانوا يحزبون القرآن على سبعة أيام، حسب ترتيب السور، فكانوا يبدءون بالثلاث السور الأولى من القرآن الكريم بعد الفاتحة: البقرة وآل عمران والنساء، ثم في اليوم الثاني يقرءون قدرها، ثم اليوم الثالث كذلك، وهكذا، ثم حزب المفصل يجعلونه في اليوم السابع وحده، وهو الحزب الذي يبدأ بسورة (ق) وينتهي بسورة (الناس). وأيضاً: مراجعة المحفوظ، فلابد أن يكون للإنسان نظام معين في المراجعة؛ حتى لا يتفلت منه القرآن، وهذا ما سنشير إليه بإذن الله فيما بعد. أما فيما يتعلق بالوظيفة الثالثة: فهي حفظ ما لم يحفظه من القرآن الكريم، ولا شك أن الحفظ يحتاج إلى همة عالية، وأفضل شيء في فترة الحفظ أن يتفرغ تماماً لحفظ القرآن الكريم، ولا يشتت همته، فلا يقرأ في الحديث أو الفقه أو غيره من العلوم في آنٍ واحد؛ فأمامك هدف محدد، وهذا الهدف مطلوب أن تسابق به الزمن؛ والصغير كلما اشتغل بحفظ القرآن مبكراً كان أسهل عليه؛ لأنه لا هموم ولا مشاغل ولا مسئوليات عليه، فيكون ذهنه صافياً؛ فيستطيع أن يحفظ بسرعة. فأعظم هدية يقدمها الأب إلى ولده أن يؤدبه بأن يحفظه القرآن الكريم، ويشغله بالقرآن بقدر استطاعته، ولا يشتت عليه نفسه إذا كان قد انتدب نفسه لهذه المهمة العظيمة.

شرف حفظ القرآن الكريم

شرف حفظ القرآن الكريم حفظ القرآن شرف ليس بعده شرف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين)، يعني: بإيمانهم. فمن أعظم الشرف أن يجعل الله سبحانه وتعالى صدرك مستودعاً لكلامه، وإذا نلت حفظ القرآن الكريم فهذا أعظم من مليون شهادة دكتوراه؛ لأن هذا هو الشرف الحقيقي، وهذا هو الذي ينفعك في الدنيا، وينفعك في قبرك، وينفعك في الآخرة، يكفي أن تتخيل أن الملائكة يوم القيامة تضعك أمام اختبار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارتق، ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا نلت حفظ القرآن الكريم فهذا أعظم من ملايين شهادات الدكتوراه، وهذا أعظم من ملايين الدولارات والجنيهات والذهب، وأنت ستكون أغنى خلق الله سبحانه وتعالى بالقرآن الكريم؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)؛ لأن القرآن فيه الغنى كل الغنى، ولذلك نجد الشريعة الشريفة قد وضعت أحكاماً خاصة لحفظة القرآن تميزهم بها عمن عداهم، فمثلاً: الإمارة تكون لمن هو أحفظ، ولما استعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من الشباب كان فيهم رجل يحفظ سورة البقرة، وكان الآخرون يحفظون مما عداها، فجعله أميراً عليهم. أي: أنه قدمه عليهم لحفظه سورة البقرة. وهكذا أحق الناس بأشرف الأماكن في الصف الأول حملة كتاب الله؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)، فيقدم في الإمامة ويقدم في الصف الأول وراء الإمام من هم أكثر حملاً لكتاب الله عز وجل. حتى عند الدفن يقدم حافظ القرآن الكريم، فإذا وجد أكثر من ميت أو شهيد يدفنون جميعاً فيقدم الأكثر حفظاً للقرآن، ثم الذي يليه. فالنصيحة المهمة جداً هي: أن يغتنم المسلمون سني الحفظ الذهبية، وهي من خمس سنوات إلى ثلاث وعشرين سنة، ولا ييأس من تجاوز هذا السن، فمن بعد ثلاث وعشرين هناك الفضية والنحاسية وهكذا. فالفترة الذهبية هي هذه الفترة العظيمة، وكلما كان الحفظ مبكراً كان أعظم وأسهل؛ لأن من يحفظ في الصغر يختلط القرآن بلحمه ودمه، ويثبت في قلبه ثبوتاً عظيماً جداً. فالطفل قد لا يدرك مصلحته، لكن الأب مهمته أن يقيه النار، وأن يسهل له طاعة الله سبحانه وتعالى، وأن يحسن تربيته، وينبغي أن يجعل هذا الهدف هو الهدف الأساس والرئيس في خططه في تربية أولاده، فإذا وجد الطفل النابغة الذي عنده القدرة على الحفظ فينبغي الاهتمام به، وهذه القدرة موجودة عموماً في الأطفال، لكن هناك أطفالاً يتميزون، فخسارة كبيرة جداً أن نشغلهم بالأناشيد، فضلاً عن الإعلانات والقصص الكاذبة والأغاني وغير ذلك، وإنما ينبغي أن يصرف الاجتهاد كله إلى تحفيظهم كلام الله تبارك وتعالى.

منهجية العلماء في طلب العلم

منهجية العلماء في طلب العلم من النتوءات التي أشرنا إليها: محاولة القفز فوق السلم في طلب العلم، ونجد كثيراً من الإخوة يشتغلون بعلم الحديث، وبأشياء هي من فروض الكفايات في علم الحديث، مثل العلل والرجال والأسانيد وكذا وكذا، وينفقون أوقاتاً طويلة جداً في ذلك، وهم قد يلحنون في كلام الله، أو قد يهملون حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، ولذلك كانت سنة العلماء إذا أتاهم طالب العلم يطلب الحديث أن يسألوه: هل حفظت القرآن؟ فإن قال: لا، رفضوا أن يحدثوه، ويطرد من المجلس، إلى أن يتم حفظ القرآن ويختبر، ثم بعد ذلك يشرع في تلقي ما عداه من العلوم الشرعية. فمن المؤلم أن يصير هذا شعار بعض الناس في بعض البلاد ممن ينتسبون للسلفية، فهل هذه هي السلفية؟! فإهمال كلام الله عز وجل، وإشغال الشباب بما عدا كلام الله عز وجل ليس من السلفية في شيء، ونحن لا نقول: إنك تهجر العلوم الأخرى، لكن ممكن أن الإنسان يترفق إذا أراد أن ينجز هذا الهدف، فينبغي أن يفرغ ذهنه وقلبه لهذه المهمة، وإذا تشتت فلن ينجز الهدف بالصورة المطلوبة، لكن عليه أن يركز في هذا الهدف ليل نهار إلى أن يوفقه الله سبحانه وتعالى، فإذا فتح له حفظ القرآن فسوف يفتح له كل باب من أبواب الخير بإذن الله تبارك وتعالى. فالاشتغال بعلوم الحديث والأسانيد من فروض الكفايات، ويوجد الآن من العلماء -ولله الحمد- من هم أعظم باعاً من إخواننا طلبة العلم وقد أنجزوا كثيراً من الإنجازات في هذا المجال، فلا مانع من الاهتمام بهذه العلوم، لكن بشرط ألا تشغل عن القرآن، فإذا كان ما زال هناك نقص في القرآن فاشتغل أولاً بالقرآن الكريم، ثم إذا فرغت بعد ذلك فلك أن تتحول إلى غيره.

التحذير من هجر القرآن الكريم

التحذير من هجر القرآن الكريم ولقد حذر الله سبحانه وتعالى من هجر القرآن، فقال عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فقد هجر الكثير كلام الله سبحانه وتعالى، حتى إن المصحف لتتراكم عليه أكوام الأتربة، أو ربما ينفضها لكن لمجرد الزينة في البيت أو السيارة، وكل حياتنا أصبحت مضادة لكتاب الله سبحانه وتعالى. فهذا هو هجر القرآن، وهؤلاء هم الذين يشكوهم رسول الله إلى ربه عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، يعني: متروكاً معرضاً عنه. وهذه الآية وإن كانت أصالة في المشركين -وإعراض المشركين هو عدم إيمانهم بكلام الله- إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل بالقرآن والأخذ بآدابه، الذي هو حقيقة الهجر؛ لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك، ولا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها، ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها.

أنواع هجر القرآن الكريم

أنواع هجر القرآن الكريم وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (الفوائد) حينما كان يتكلم عن هذه الآية في سورة الفرقان أنواع الهجر فقال: هجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. الثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به. الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته ظنية لا يحصل بها العلم. الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. الخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به. وهذه بلا شك من أعم المصائب الآن، فنحن لا ننتبه إلى أن كل ما فينا من أمراض -خاصة الأمراض القلبية- إنما دواؤها في القرآن الكريم، كما قال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، فكأننا لا نوقن بهذا الكلام، فنحن نتلوه لكن لا نتدبره، ونطلب الشفاء في غير كلام الله سبحانه وتعالى. ونجد كثيراً من الناس يدعون الشباب -مثلاً- إلى قراءة (إحياء علوم الدين) أو كتب الصوفية أو كذا وكذا، ويشغلونهم بهذا، مع أن الدواء الناجع لقلوب المؤمنين هو الاشتغال بكلام الله عز وجل، وأصبح حالنا كحال الشاعر الذي قال: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول بل حالنا أسوأ من حال العيس؛ لأن العيس -وهي: الجمال أو النوق- التي تحمل الماء فوق ظهورها ويكاد يقتلها الظمأ قد لا تعرف أن الذي فوق ظهرها ماء، وإذا عرفت فقد لا تستطيع أن تصل إليه، لكننا نحن نعرف أن دواءنا في القرآن الكريم، وأن شفاء قلوبنا في كلام الله عز وجل، فبالتالي نكون أسوأ حالاً من العيس التي يقتلها الظمأ في البيداء والماء فوق ظهورها محمول. فكل من أراد أن يداوي قلبه فعليه أن يقبل على القرآن؛ فإن القرآن الكريم هو الذي يعالج ما في قلبه من الأمراض والشهوات والأدواء. فيقول ابن القيم: النوع الخامس من هجر القرآن الكريم: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به. قال ابن القيم: وكل هذا داخل في الآية، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. وفي الإكليل يقول السيوطي: إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه. وقال أبو السعود في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]: فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن؛ كي لا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. ثم قال: وفيه من التحذير ما لا يخفى، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا.

وجوب إعطاء القرآن الكريم الأولوية المطلقة في طلب العلم

وجوب إعطاء القرآن الكريم الأولوية المطلقة في طلب العلم نعيد التنبيه على وجوب إعطاء القرآن الأولوية المطلقة في طلب العلم، حتى لو كان الإنسان قد كبر في السن؛ لأن كل حرف من القرآن تقرؤه فأنت تتعبد بتلاوته، فحفظ القرآن ليس كحفظ غيره من العلوم، فهل الثواب الذي تناله من حفظ القرآن مثل الثواب الذي تناله من حفظ متن في الفقه أو الأصول أو منظومة في النحو أو غيرها من العلوم؟ فلا شك أن حفظ القرآن له المزايا العظيمة؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وكل هذه الفضائل لا يمكن تحصيلها من غير كلام الله عز وجل، فلا ينبغي أبداً أن ينشغل الإنسان بالمفضول عن هذا الفاضل. وقد روى ابن المديني عن عبد الوهاب بن همام عن ابن جريج قال: أتيت عطاء وأنا أريد هذا الشأن - أي: الحديث والعلم- وعنده عبد الله بن عبيد بن عمير، فقال لي ابن عمير: قرأت القرآن -يعني: حفظت القرآن-؟ قلت: لا، قال: اذهب فاقرأه، ثم اطلب العلم، فذهبت زماناً حتى قرأت القرآن، ثم جئت عطاء وعنده عبد الله، فقال: قرأت الفريضة؟ قلت: لا، قال: فتعلم الفريضة ثم اطلب العلم. والفريضة هي المواريث؛ لأن هذه من العلوم الأساسية التي تكاد تنقرض الآن. قال: فطلبت الفريضة، ثم جئت، فقال: الآن تطلب العلم. وقال أبو العيناء: أتيت عبد الله بن داود فقال: ما جاء بك؟ قلت: الحديث -أي: أريد طلب الحديث- قال: اذهب فتحفظ القرآن؟ قلت: قد حفظت القرآن، قال: اقرأ {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس:71]، فقرأت العشر حتى أنفذته، فقال لي: اذهب الآن فتعلم الفرائض -المواريث- قلت: قد تعلمت الصلب والجدة والكبر -أي: مسائل الفرائض الكبرى- قال: فأيما أقرب إليك ابن أخيك أو عمك؟ قال هذا ليمتحنه. قال: قلت: ابن أخي، قال: ولمَ؟ قلت: لأن أخي من أبي وعمي من جدي، قال: اذهب الآن فتعلم العربية، قال: قد علمتها قبل هذين، قال: فلمَ قال: عمر حين طعن (يا لَله ولِلمسلمين)؟ يعني: فتح اللام الأولى (لله) وكسر اللام الثانية (للمسلمين) قال: لمَ فتح تلك وكسر هذه؟ قلت: فتح تلك اللام -يا لله- على الدعاء، وكسر هذه -للمسلمين- على الاستغاثة؛ لأن المكسورة للاستغاثة والانتصار، فبعد كل ذلك قال: لو حدثت لحدثتك. يعني: أنه حتى الآن يراه غير أهل للتحديث، لكن يقول: لو كان لي أن أحدث أحداً لاخترتك أنت كي أحدثك، وأبى أن يحدثه أيضاً. قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً زل. إذاً: أول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه. ولا نقول إن حفظه كله فرض على كل الناس، ولكن نقول: إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً. فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب، كان ذلك له عوناً كبيراً على مراده منه ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

حكم نسيان القرآن الكريم

حكم نسيان القرآن الكريم تكلم العلماء في حكم نسيان القرآن الكريم: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة؛ إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)، متفق عليه. فهذه إشارة إلى أهمية تعاهد القرآن بالمراجعة باستمرار، وقوله: (الإبل المعقلة)، أي: المربوطة بالعقال. قال ابن عبد البر في التمهيد: وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعيد شديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه، كل ذلك حض منه على حفظه والقيام به. وعن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة وهو أجذم)، قال في التمهيد: معناه عندي: منقطع الحجة، والله تعالى أعلم. وهذا الحديث أحسبه ضعيفاً. وقال ابن عيينة في معنى حديث سعد بن عبادة هذا وما كان مثله: إن ذلك في ترك القرآن وترك العمل بما فيه، وإن النسيان أريد به ههنا الترك، نحو قوله: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:34]، قال: وليس من اشتهى حفظه وتفلت منه بناسٍ له، إذا كان يحل حلاله ويحرم حرامه، قال: ولو كان كذلك ما نسي النبي صلى الله عليه وسلم منه شيئاً، وقد نسي، قال الله عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7]. والصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهم الذين خوطبوا بهذا الخطاب- لم يكن منهم من يحفظ القرآن كله ويكمله على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا قليل منهم، منهم: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد الأنصاري، وعبد الله بن مسعود، وكلهم كان يقف على معانيه ومعاني ما حفظ منه، ويعرف تأويله، ويحفظ أحكامه، وربما عرف العارف منهم أحكاماً من القرآن كثيرة وهو لم يحفظ سورها. قال حذيفة بن اليمان: (تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، وسيأتي قوم في آخر الزمان يتعلمون القرآن قبل الإيمان). فهنا إشارة إلى أن النسيان ليس المقصود به النسيان من حيث الذاكرة، ولكن المقصود به أساساً هجر تطبيق القرآن والعمل به. ولا خلاف بين العلماء أن تأويل قول الله عز وجل: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121]، أي: يعملون به حق عمله، ويتبعونه حق اتباعه، قال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2]، يعني: تبعها، فتلا بمعنى تبع. فنفهم قوله عز وجل: ((يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)) بقوله في هذه الآية: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2]، يعني: اتبعها أو تبعها، فكذلك قوله: ((يَتْلُونَهُ))، يعني: يتبعونه ويطبقونه.

حكم تجويد القرآن الكريم

حكم تجويد القرآن الكريم أما تجويد القرآن فحكم العمل بالتجويد أنه واجب وجوباً عينياً على كل مكلف يحفظ أو يقرأ القرآن أو بعضه. فكل من يقرأ كلام الله سبحانه وتعالى أو بعضاً منه يجب عليه أن يجود القرآن؛ لأن كلمة القرآن مصدر معناه: القراءة. فالقرآن الذي يطلق على كلام الله سبحانه وتعالى المعهود هو ما يقرأ بالكيفية التي تلاها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل في حد القرآن الطريقة التي يتلى بها القرآن الكريم، وبناء على هذا يأثم تارك التجويد؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن بلحون العرب). يقول ابن الجزري: والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم لأنه به الإله أنزلا وهكذا منه إلينا وصلا وهو أيضاً حلية التلاوة وزينة الأداء والقراءة

حكم تعليم القرآن الكريم

حكم تعليم القرآن الكريم وأما حكم تعليمه: فهو فرض كفاية بالنسبة إلى عامة المسلمين، وفرض عين بالنسبة للعلماء والقراء، ومهما يكن من شيء فإنه يأثم تاركه، ويتعرض لعقاب الله عز وجل. لذلك كان إقراء القرآن الكريم هو أول ما اهتم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إبلاغ دعوته الكبرى، حيث كان أول ما عمد إليه هو الاهتمام بإقراء القرآن الكريم، وقد كان مبعوثوه ورسله صلى الله عليه وسلم إلى مختلف الجهات يقومون أول ما يقومون بإقراء الناس القرآن. فقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم حين وجهه إلى اليمن كتاباً أمره فيه بأشياء، منها: أن يعلم الناس القرآن، ويفقههم فيه. وروى البخاري عن أبي إسحاق عن البراء قال: (أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرآننا القرآن حتى كان مصعب يسمى المقرئ). فـ مصعب وابن أم مكتوم كان كل شغلهم واهتمامهم هو أن يقرئوا أهل المدينة كتاب الله عز وجل. وكان الرجل من المسلمين إذا هاجر إلى المدينة دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الحفظة ليعلمه القرآن، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة خلف عليها معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يقرئهم القرآن ويفقههم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء).

مظاهر احتفاء الإمة الإسلامية بالقرآن الكريم

مظاهر احتفاء الإمة الإسلامية بالقرآن الكريم لا نستغرب احتفاء هذه الأمة المحمدية بالقرآن الكريم، حيث نقطع بالقول بأنه لا يوجد كتاب على وجه الأرض منذ أن أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لا يمكن أبداً أن يتصور وجود كتاب خدم مثلما خدم القرآن الكريم، أو نال من الاهتمام والاحتفاء والتكريم ما ناله القرآن الكريم. فليس في الدنيا كتاب وضعت في خدمته مثل هذه الكثرة من المواهب التي وضعت في خدمة القرآن الكريم، ولا مثل هذه الوفرة من العمل والوقت والمال، فقد عني المسلمون بالقرآن عناية لم يظفر بها على مدى التاريخ كله أي كتاب سماوي أو غير سماوي، ولعل من مظاهر هذه العناية هذه الأعداد الضخمة من الكتب الجليلة التي خدمت علوم القرآن منذ أقدم القرون الإسلامية، وهذه البحوث والفنون التي كان القرآن دائماً موضوعها. فقد عني القراء بضبط لغات القرآن، وتحليل كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعدد كلماته وآياته، وسوره وأحزابه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، وحصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة. واشتغل النحاة بالمعرب منه من الأسماء والأفعال، وبيان الحروف العاملة وغيرها، وتكلموا في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال، واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وتوسعوا في شواهده، حتى لقد أحصوا منها فيما قيل: ثلاثمائة ألف بيت من الشعر. يقول مصطفى صادق الرافعي تعقيباً على هذا: ولعمر أبيك إنها لمعجزة في فنها. وبلغ من عناية بعضهم بالقرآن أن أعربه كلمة كلمة. والتفت المفسرون إلى ألفاظه ومعانيه فأوضحوا الخفي منها، وخاضوا في ترجيح المعاني التي يختارونها للألفاظ. وقد ذكر حاجي خليفة من تفاسير القرآن وكتب معانيه ومشكله ومجازه وغريبه ولغاته وقراءاته، ذكر من هذا بعض ما عرف في زمانه، فبلغ ما ذكره مئات كثيرة، فما بالك بما يبلغ في زماننا الآن من الدراسات التي خدمت كتاب الله عز وجل؟! واتجه الأصوليون إلى القرآن يستنبطون مما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية وعلم أصول الدين، كما يستنبطون منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، والتخصيص والإخبار، والنص والظاهر، والمحتمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي، والنسخ إلى غير ذلك من الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء. وتخصص علماء الفروع في إحكام النظر والفكر فيما في القرآن من الحلال والحرام وسائر الأحكام. وأخذ أهل التاريخ والقصص من معين القرآن تاريخ الأمم الخالية، وقصص القرون السالفة. واعتمد الخطباء والوعاظ في وعظهم على ما في القرآن الكريم من الوعد والوعيد، والتحذير والتبشير، وذكر الموت، والميعاد والحشر، والحساب والعقاب، والجنة والنار. كما استخرج أصحاب علم المواقيت قواعد علمهم من آيات القرآن الكريم. كذلك استنبط البلاغيون علوم المعاني والبديع والبيان من نظرهم إلى ما في القرآن من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع، والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك. ومن معاني القرآن ودقائقه أخذ المتكلمون في الجوانب الروحانية مصطلحات فنهم، وقبسوا أنوار تاريخهم. وخلاصة الكلام: أن القرآن الكريم حظي من الاهتمام ما يقطع بأنه لم ينله على الإطلاق أي كتاب في هذا الوجود، والحمد لله رب العالمين.

فضل تعلم القرآن الكريم وتعليمه

فضل تعلم القرآن الكريم وتعليمه لقد جاءت عدة نصوص في السنة الشريفة في فضل تعليم القرآن الكريم وتعلمه، فقد ثبت عن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى)، رواه مسلم، وقوله: (أقرؤهم) يعني: أحفظهم لكتاب الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان القراء -الحفاظ- أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً) رواه البخاري في صحيحه. فكان عمر يجعل مجلس شوراه وأصحاب شوراه هم القراء بغض النظر عن سنهم، فما دام أنهم قد حفظوا القرآن فقد استحقوا أن يكونوا في مجلس شورى عمر رضي الله تعالى عنه. يقول الإمام النووي: واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء: أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار. أي: لأن القرآن كلام الله، وأحسن الكلام هو كلام الله. وأيضاً ذكرنا في صدر الكلام حديث عثمان رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، والذي روى هذا الحديث عن عثمان هو أبو عبد الرحمن السلمي، فكان يروي هذا الحديث ثم يقول: فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا. وكان يعلم من خلافة عثمان إلى إمرة الحجاج. أي: كان طوال هذه الفترة يجلس ليحفظ الناس القرآن الكريم، فمن أجل هذا الحديث قعد أبو عبد الرحمن السلمي أربعين سنة يقرئ الناس بجامع الكوفة، مع جلالة قدره وسعة علمه. وقد سئل سفيان الثوري عن الجهاد وتعليم القرآن أيهما أفضل؟ فرجح الثاني؛ مستدلاً بهذا الحديث: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وعن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلم) يقول: وأخذ بيدي، وأقعدني في مجلس أقرئ، يعني: أحفظ الناس؛ حيث إن هذه الوظيفة هي أشرف الوظائف. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد فقال: أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان والعقيق فيأتي كل يوم بناقتين كوماوين زهراوين فيأخذهما بغير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا: كلنا يا رسول الله يحب ذلك، قال: لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله تعالى خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)، يعني: أن تعلم آية والاشتغال بحفظها أفضل من ناقة بهذه الصفة المذكورة. وقال عليه الصلاة والسلام: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان؟)، خلفات: جمع خلفة، وهي: الحامل من النوق، وخص الحامل من النوق لأنها ستأتي بذرية أيضاً، وليست فقط ناقة بمفردها لكن بذريتها، قال عليه الصلاة والسلام: (أيكم يحب إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان؟ فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، والنفي والاستثناء يدل على الحصر والتوكيد لهذه الفضيلة؛ فمن كان يؤمن أن محمداً عليه الصلاة والسلام هو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى فليوقن بهذا الثواب العظيم؛ إذ لا يمكن أن يقول هذا إلا ويقع هذا الشيء حتى لو لم نحس به، لأن الذي أخبرنا به هو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. فالإنسان عليه ألا يذهب إلى مجالس تعلم وحفظ القرآن إلا ويستحضر هذا الأمر الذي يحدوه ويعينه على الجلوس والتعلم، فالإنسان إذا استحضر هذا الثواب وهذه الفضيلة فإنه بلا شك يكون عنده طاقة تعينه على الثبات والاستمرار. قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، فهل الإنسان العاقل بعدما يسمع مثل هذا الحديث الشريف يعرض عن الجلوس في بيت الله سبحانه وتعالى ليتدارس القرآن الكريم، وينال هذا الثواب العظيم، وهذه الفضائل التي لا تكاد تحصى، ويجلس أمام التلفزيون أو الفيديو أو غير ذلك من أجهزة الفساد؟! هل الإنسان الذي عنده عقل وإيمان ويقين بوعد الله سبحانه وتعالى ووعيده يعرض عن مجالس الذكر وفيها كل هذا الخير العظيم، ويجلس حيث شياطين الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، ويقطعون الطريق إلى الله على خلق الله؟! وعن هارون بن عنترة عن أبيه قال: قلت لـ ابن عباس: أي العمل أفضل؟ قال: (ذكر الله أكبر) يعني: أن أفضل شيء هو الذكر، قال ابن عباس: (ذكر الله أكبر، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله عز وجل يتدارسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها، وكانوا أضياف الله ما داموا فيه، حتى يخوضوا في حديث غيره) أي: إذا خرجوا عن القرآن إلى غيره لا تبقى لهم هذه الفضيلة الموعودة في هذا الأثر. وذكر الخطيب البغدادي: أن أحد العلماء توفي، فرئي في المنام، فقالوا: ما فعل الله بك؟ فقال: ذهبت تلك الشطحات وذهبت تلك العلوم -يعني: علوم الدنيا- وبقيت لنا سورة الفاتحة كنا نعلمها عجائز في قريتنا نفع الله بها. فإذا كان هذا بتحفيظ الفاتحة فحسب، فكيف بمن يكون سبباً في تحفيظ الناس كلام الله سبحانه وتعالى؟!

أهمية الاعتناء بكتاب الله عز وجل وتقديمه على غيره

أهمية الاعتناء بكتاب الله عز وجل وتقديمه على غيره هناك لفتة مهمة جداً يلحظها من أمعن النظر في سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وشيخ الإسلام هو من هو! ومع ذلك لما حبس في سجنه الأخير وخلا بربه سبحانه وتعالى، وبدأ يشتغل بالقرآن الكريم ويستخلص فوائد وعبر وكنوز القرآن الكريم، أبدى شيخ الإسلام في بعض تصريحاته ندماً على ما أنفق من عمره السابق في غير التأمل في كتاب الله، وقال: إنه لو كان فعل ذلك واشتغل بالقرآن عما عداه لأخرج إلى الأمة كنوزاً من العلم، ومن فوائد القرآن العظيم، أو كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. فالشاهد أن شيخ الإسلام في أيامه الأخيرة بدا منه بعض التأسف على عدم الاشتغال بالقرآن الكريم. وشيخ الإسلام كانت له أوراد، وكان يكتب في علوم القرآن كثيراً بلا شك، وشيخ الإسلام أصلاً كان في موقع المجاهد والمدافع أمام أهل البدع والضلال، ومع ذلك لما خلا بالقرآن وأمعن النظر فيه، وتوثقت صلته أكثر وأكثر بالقرآن الكريم في سجنه صرح بهذا التصريح. فبلا شك أن في هذا عبرة لمن ما زال لديهم فرصة والعمر فيه متسع ألا يقدموا على القرآن غيره، فأي شيء يشغلك عن القرآن فهو شؤم ما لم يتعين عليك، فما دام أن الأمر خارج حدود الفروض العينية فحذار أن تشتغل بغير القرآن الكريم.

وجوب تعظيم القرآن الكريم وتنزيهه

وجوب تعظيم القرآن الكريم وتنزيهه يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى وهو يذكر بعض مظاهر تعظيم القرآن الكريم وتنزيهه: أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته، وأن من جحد منه حرفاً مما أجمع عليه أو زاد حرفاً لم يقرأ به أحد وهو عالم بذلك فهو كافر. قال الإمام الحافظ أبو الفضل القاضي عياض رحمه الله: اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحد حرفاً منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته وهو عالم بذلك، أو يشك في شيء من ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين. وقال النووي أيضاً: أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه، قال أصحابنا وغيرهم: ولو ألقاه مسلم في القاذورات -والعياذ بالله تعالى- صار الملقي كافراً. قال: ويحرم توسده -أي: يحرم أنه يستعمل القرآن كوسادة- بل توسد آحاد كتب العلم حرام. فلا يجوز أن يستعمله كوسادة، ولا نقبل أبداً من أحد من المتنطعين أو المتفيهقين الذي يقول لك: ما الدليل؟ فالدليل هو إجماع المسلمين على وجوب تعظيم القرآن، وهل من تعظيم القرآن أنك تتخذه وسادة أو متكأً تتكئ عليه والعياذ بالله؟! فالتنطع بأن يقال: ما الدليل في مثل هذا؟ وهذا أيضاً من النتوءات الشاذة، فلا يجوز أن يستعمل القرآن كمخدة أو وسادة أو يتكئ عليه، فهذا بلا شك من سوء الأدب مع كتاب الله تبارك وتعالى. ويقول النووي: وروينا في مسند الدارمي بإسناد صحيح عن ابن أبي مليكة: أن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه كان يضع المصحف على وجهه ويقول: (كتاب ربي، كتاب ربي).

حكم السفر بالقرآن إلى أرض العدو

حكم السفر بالقرآن إلى أرض العدو وأيضاً من مظاهر احترام القرآن الكريم وحماية القرآن الكريم: أنه يحرم أن يسافر به إلى أرض العدو إذا خيف وقوعه في أيديهم، كما في الحديث المشهور في الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو)، فلا يذهب بالقرآن إلى بلاد الحرب حيث الكفار؛ إذ لا يؤمن أن يهينوا القرآن الكريم.

حكم مس المجنون والصبي للمصحف

حكم مس المجنون والصبي للمصحف يمنع المجنون والصبي الذي لا يميز من مس المصحف مخافة من انتهاك حرمته، فالصبي الذي لا يميز لا يستطيع أن يعرف ما معنى احترام المصحف وتقديسه، فالصبي الصغير الذي عمره سنتان أو ثلاث أو أربع لا يستطيع أن يميز، فلا يمكن من مس المصحف؛ خشية أن يهين المصحف أو لا يصونه. وكذلك لو كان كبيراً لكنه مجنون؛ فإنه أيضاً لا يمكن من إمساك المصحف؛ كي لا يهين القرآن أو ينتهك حرمته، وهذا المنع واجب على الولي وغيره ممن رآه يتعرض لحمله.

من آداب قراءة القرآن

من آداب قراءة القرآن مما يعتنى ويتأكد الأمر به: احترام القرآن من أمور قد يتساهل بعض الغافلين القارئين المجتمعين بها، فمن ذلك: اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القراءة إلا كلاماً يضطر إليه، وليمتثل قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]. وليقتدي بما رواه ابن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ منه)، ذكره في كتاب التفسير عند قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223]. ومن ذلك: العبث باليد، فالإنسان لا يعبث ولا يتحرك كثيراً وهو يتلو كلام الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يناجي ربه سبحانه وتعالى، فلا يعبث بين يديه. ومن ذلك: النظر إلى ما يلهي ويبدد الذهن، وأقبح من هذا كله: النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه، كالأمرد وغيره.

حكم كتابة القرآن في الثياب والحيطان والحروز

حكم كتابة القرآن في الثياب والحيطان والحروز ويقول الإمام النووي رحمه الله: مذهبنا أنه يكره نقش الحيطان والثياب بالقرآن وبأسماء الله تعالى، قال عطاء: لا بأس بكتب القرآن في قبلة المسجد. وأما كتابة الحروز من القرآن فقال مالك: لا بأس به إذا كان في شمع أو جلد وخرز عليه. وهذه طبعاً قضايا فيها خلاف، لكن الأولى ترك هذه الأشياء؛ لأنه قد يكون محدثاً، أو تكون المرأة حائضاً وغير ذلك. ولا تجوز كتابة القرآن بشيء نجس، وتكره كتابته على الجدران عندنا. أي: عند الشافعية.

تحريم الجدل في القرآن الكريم

تحريم الجدل في القرآن الكريم ويحرم المراء في القرآن والجدال فيه بغير حق، فيحرم على الإنسان أن يماري ويجادل في كلام الله سبحانه وتعالى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (المراء في القرآن كفر)، والمراء هو: الجدل، كضرب الآيات بعضها ببعض. ونحو ذلك. وينبغي لمن أراد السؤال عن تقديم آية على آية في المصحف أو مناسبة هذه الآية في هذا الموضع أو نحو ذلك، أن يقول: ما الحكمة في كذا؟ لا يقول: لماذا؟ لكن يقول: ما الحكمة؟ تأدباً مع القرآن الكريم.

فضل الماهر بالقرآن الكريم

فضل الماهر بالقرآن الكريم أما فضيلة الماهر بالقرآن الكريم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن -أي: الذي يحفظ القرآن جيداً -مع السفرة الكرام البررة -الملائكة- والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، رواه مسلم. فلا ينبغي لك أن تعرض عن قراءة القرآن حتى لو كنت تجد مشقة في التلاوة وتتعتع فيه، فاقرأ فإن لك أيضاً أجرين. يقول الشاطبي رحمه الله: فيا أيها القاري له متمسكاً مجلاً له في كل حال مبجلا هنيئاً مريئاً والداك عليهما ملابس أنوار من التاج والحلا فما ظنكم بالنجل عند جزائه أولئك أهل الله والصفوة الملا أولو البر والإحسان والصبر والتقى حلاهم بها جاء القران مفصلا عليك بها ما عشت فيها منافساً وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلا فهو يحث هنا على حفظ القرآن الكريم، والحقيقة هو يبني كلامه هنا على حديث رواه أبو داود والحاكم وفيه: (من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل هذا؟) فهو بنى هذه الفقرة على هذا الحديث، وهو حديث ضعيف، ومعناه: أن أباه وأمه يثابان إذا حفظ الابن القرآن: (ألبس والداه تاجاً يوم القيامة ضوء هذا التاج أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل هذا؟)، أي: إن كان هذا هو ثواب أبويه لفعل عمله ابنهما، فكيف بثواب الابن الذي حفظ وعمل بنفسه؟ فمن ثمَّ يقول الشاطبي: فيا أيها القاري له متمسكاً مجلاً له في كل حال مبجلا هنيئاً مريئاً والداك عليهما ملابس أنوار من التاج والحلا فما ظنكم بالنجل عند جزائه أولئك أهل الله والصفوة الملا فالنجل هو ابنهما، وهؤلاء هم الملأ، وهؤلاء هم الناس، وهؤلاء هم الصفوة، بل هؤلاء هم أهل الله، كما صح في الحديث: (إن أهل القرآن هم أهل الله تعالى وخاصته).

أهمية تعهد القرآن الكريم والتحذير من نسيانه

أهمية تعهد القرآن الكريم والتحذير من نسيانه نعيد التذكير أيضاً بقضية تعاهد القرآن؛ كي لا ينساه الإنسان، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا هذا القرآن؛ فوالذي نفس محمد بيده! لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها)، متفق عليه. ولا تعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (تعاهدوا هذا القرآن؛ فوالذي نفس محمد بيده! له أشد تفلتاً من الإبل في عقلها)، وبين قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]؛ فإن من يسر عليه الوصول إلى جوهرة غالية فإنه لا يضمن بقاءها معه وسلامتها من قطاع الطريق إلا أن يتخذ لذلك أسباباً، فلا يوجد تعارض؛ لأن وصوله إلى حفظ القرآن من الأمور السهلة، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. وآية ذلك: أنك ترى الطفل الصغير الحدث الذي عمره سبع أو خمس سنوات قد حفظ القرآن كله، فهذه آية من آيات الله، فإن قلب الطفل الصغير يطيق حمل كلام الله عز وجل الذي لا تطيق حمله الجبال التي قال عز وجل عنها: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]. فييسر الله سبحانه وتعالى للطفل الصغير حفظ كلامه بين جنبيه، فهذه آية من آيات الله، وهي مصداق قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، فالذي يصل إلى إنجاز هذا الأمر -وهو حفظ القرآن الكريم- هو كمن سهل الله عليه أن يحصل على جوهرة نفيسة، وسهل الله له السبيل إلى الحصول على الجوهرة، فسلك هذا السبيل السهل، وحصل بالفعل على الجوهرة، فهل إذا حصل على الجوهرة يضمن بقاءها معه، ويضمن سلامتها معه، حتى ولو قصر في أخذ أسباب حفظها وصيانتها؟ فقوله تعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ))، هو تيسير السبيل لحصول حفظ القرآن؛ فإن حفظه سهل، لكن إذا حصلت عليه، واستنار به صدرك فيبقى عليك أن تحافظ على هذه الجوهرة وتحتاط لها، لا أن تتركها معرضة للضياع، ومعرضة لقطاع الطريق يسرقونها منك. فلابد من الأخذ بالأسباب التي بها تحافظ على هذا الكنز الذي يسر الله لك الحصول عليه، فما هو السبيل للمحافظة على القرآن؟ هو تعهد القرآن، وكثرة المراجعة والتلاوة. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قام صاحب القرآن فقرأ بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه)، فهذا هو الداء، وهذا هو الدواء، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا قام صاحب القرآن فقرأ بالليل والنهار ذكره) أي: إذا واظب عليه بالليل والنهار فإنه يذكره: (وإن لم يقم به نسيه). وهناك حديث مشهور عند عوام الناس بدعاء حفظ القرآن، وأنه إذا كان قد تفلت منك القرآن فقل هذا الدعاء، ولن يتفلت منك القرآن، وطبعاً نحن لا ننكر أن الدعاء سبب من أسباب الحصول على هذه المقاصد العالية، لكن السبب لابد معه من عمل، والعمل ينبغي أن يقترن بالدعاء، والدواء الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام هو التعاهد، أما أنك تقول: أنا سوف أقول دعاء حفظ القرآن -مع أنه حديث ضعيف وباطل- أو دعاءً معيناً وسوف يثبت القرآن في صدري، فلا، بل لابد من الأخذ بأسباب حفظه وتعهده وحمايته من أن ينسى. وقال السيوطي: يكره أن يقول: نسيت آية كذا، بل أنسيت. وهذا فيه حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: نسيت آية كذا، بل هو نسي). وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة؛ إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)، فإذا كان إنسان عنده مجموعة كبيرة من الجمال في الصحراء فإن هو تركها بدون خطام ولا زمام ولا إمساك ستضل في الصحراء وتتوه منه وتضيع، وإن هو حرسها وحفظها واحتاط لها فإنها تبقى معه، وهكذا نفس الشيء بالنسبة للقرآن. فهذا هو داء النسيان وهذا هو دواءه الذي يصفه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا يأت واحد ويقول: إن علاج نسيان القرآن هو أن تقول دعاء حفظ القرآن؛ فإنه حديث باطل لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن نقول: عليك أن تستعين بالدعاء؛ لأن الدعاء هو الوسيلة التي بها تنال كل مقاصد الدنيا والآخرة، (وأعجز الناس من عجز عن الدعاء)، لكن لا تدعو وتقصر في الأسباب، فالدعاء سبب، وهناك أيضاً سبب آخر ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وهو: تعاهد القرآن بالمراجعة، وبالختم وبالحفظ المستمر، ففي هذا الحديث الإخبار بأن القرآن يذهب عن صاحبه وينساه إلا من يتعاهد عليه ويقرأه ويدمن تلاوته. وذكر ابن عبد البر حديثاً رواه سعد بن عبادة وهو الحديث السابق الذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة وهو أجذم)، رواه الدارمي، وقال الإمام ابن عبد البر: معنى أجذم عندي: منقطع الحجة. أي: يلقى الله سبحانه وتعالى ولا حجة له. وإن كان بعض العلماء قالوا: إن المقصود بالنسيان هو ترك التطبيق، وترك العمل بكلام الله سبحانه وتعالى.

من عوامل حفظ القرآن الكريم تطهير الباطن

من عوامل حفظ القرآن الكريم تطهير الباطن وهنا تنبيه مهم جداً وهو: أن تطهير الباطن يعين على حفظ القرآن الكريم، فأحد أسباب تفسير حفظ القرآن أن يطهر الإنسان باطنه، ويطهر قلبه، ويصفي نيته؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، يعني: الملائكة، وقيل: إن قوله سبحانه: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، يعني: من المؤمنين، فلا يجوز مسه لمن كان به حدث مثلاً، بدليل قوله: ((تَنزِيلٌ))، فهو وصف بأنه تنزيل من رب العالمين، فاستأنسوا بكلمة (تنزيل) أن المقصود به: القرآن الذي أنزل. يقول ابن القيم: ودلت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلب المتلوث بنجاسة البدعة والمخالفات أن ينال معانيه، وأن يفهمه كما ينبغي. قال البخاري في الصحيح في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به. وهذا أيضاً من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنه لا يلتزم به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من شهد أنه كلام الله تكلم به حقاً، فأنزله على رسوله وحياً، ولا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه، فمن لم يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى تكلم به وحياً وليس مخلوقاً من جملة مخلوقاته ففي قلبه منه حرج. ومن قال: إن له باطن يخالف ظاهره، وتأويل يخالف ما يفهم منه، ففي قلبه منه حرج. ومن قال: إن له تأويل لا نفهمه ولا نعلمه وإنما نتلوه متعبدين بألفاظه ففي قلبه منه حرج. ومن سلط عليه آراء الآرائيين وهذيان المتكلمين، وسفسطة المسفسطين، وخيالات المتصوفين ففي قلبه منه حرج. ومن جعله تابعاً لنحلته ومذهبه وقول من قلده دينه؛ ينزله على أقواله ويتكلف حمله عليها ففي قلبه منه حرج. ومن لم يحكمه ظاهراً وباطناً في أصول الدين وفروعه، وينقاد لحكمه أين كان ففي قلبه منه حرج. ومن لم يأتمر بأوامره، وينزجر عن زواجره، ويصدق جميع أخباره، ويحكم أمره ونهيه وخبره، ويرد له كل أمر ونهي وخبر خالفه ففي قلبه منه حرج. وكل هؤلاء لم تمس قلوبهم معانيه، ولا يفهمونه كما ينبغي أن يفهم، ولا يجدون من لذة حلاوته وطعمه ما وجده الصحابة ومن تبعهم.

فضل حملة القرآن الكريم

فضل حملة القرآن الكريم ثبت في النصوص الكثيرة ما يبين فضيلة حملة القرآن الكريم، فمن ذلك: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوصى بإكرام أهل القرآن، وسماهم اسماً ينبض بأعظم المعاني، ولقبهم بلقب في الحقيقة لا يمكن أن يناله أشرف ملوك ورؤساء وحكام الدنيا كلها منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ إذ سماهم صلى الله عليه وسلم: أهل الله وخاصته، فهؤلاء حملة القرآن هم خاصة الله عز وجل، وجعل صلى الله عليه وسلم من إكرام الله إكرام حملة كتابه عز وجل. فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين، قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)، أي: الذين يختصهم من بين سائر عباده. وروي عن أم الدرداء أنها قالت: سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن ما فضله على من لم يقرأه؟ يعني: إذا افترضنا أن رجلين من المؤمنين كلاهما يدخل الجنة، لكن منهم من لم يحفظ القرآن وآخر حفظ القرآن الكريم، فما فضل من قرأ على من لم يقرأه إذا دخلا جميعاً الجنة؟ فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن عدد درج الجنة بعدد آي القرآن، فمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن فليس فوقه أحد)، أي أنه وصل إلى الرتبة العليا من الجنة. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: (من جمع القرآن فقد حمل أمراً عظيماً).

الأسئلة

الأسئلة

ذكر بعض فضائل الصيام وحكم صيام شهر رجب

ذكر بعض فضائل الصيام وحكم صيام شهر رجب Q اذكر لنا بعض فضائل الصيام، وما حكم صيام شهر رجب؟ A عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض) الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، ووافقه الألباني. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) متفق عليه. وقد ثبتت أدلة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على استحباب التطوع بالصيام، وعلى فضيلة الصيام، فقد قال الله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، وقال تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. قال مجاهد وغيره: نزلت في الصوام. يعني: كما أظمأتم وجوعتم أنفسكم في الدنيا بكثرة الصيام، فكذلك يوم القيامة تجازون بجنس أعمالكم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. ومن هذه الأحاديث أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة وحصن حصين من النار). ومنها قول حذيفة رضي الله تعالى عنه: (أسندت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري، فقال: يا حذيفة! من ختم له بصيام يوم دخل الجنة). وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: مرني بأمر ينفعني الله به، قال: عليك بالصوم، فإنه لا مثل له) فكان أبو أمامة وأهله يصومون، فإذا رئي في بيتهم دخان بالنهار، علم أنه قد نزل بهم الضيف، وأنه ما كان هذا الدخان ليصدر من طعام يعد لأهل البيت أنفسهم، وإنما طعام يعد لضيف طرأ عليهم، أما هم فكانوا يسردون الصيام فرضي الله تعالى عنهم أجمعين. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن للجنة باباً يقال له: الريان، يقال يوم القيامة: أين الصائمون؟ فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب). وثبت أيضاً في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين). وقال بعض السلف: إنما هو غداء وعشاء -يعني: أن الموضوع موضوع غداء وعشاء- فإذا أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين. يعني: أنه بمجرد أن تؤخر الغداء إلى وقت العشاء تمسي وقد كتبت في ديوان الصائمين، وحزت هذه الفضائل العظيمة، فما أسهل ذلك على من علت همته في التسابق في الخيرات، وقد قال تبارك وتعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) إلى آخر الحديث، ويقول بعض العلماء: من يرد ملك الجنان فليذر عنه التواني وليقم في ظلمة الليل إلى نور القران وليصل صوماً بصوم إن هذا العيش فاني إنما العيش جوار الله في دار الأمان فإذا كان قد ورد عن بعض السلف أن الشتاء هو الغنيمة الباردة، فهذه فعلاً حقيقة نحن نلمسها في أيام الشتاء، فلا يكاد إنسان يحس بالساعات وهي تجري وتطوى بسرعة، بحيث إن الإنسان يفاجأ بالغروب، وأنه قريب جداً من الصباح، فمن ثم قالوا: إن الشتاء هو الغنيمة الباردة، أي: الغنيمة التي يحوزها المؤمن دون كثير عناء ولا مشقة، فقد قصر نهاره ليمكننا الصيام، وطال ليله ليمكننا القيام. فإذاً: لا ينبغي أن تفوت مثل هذه الفرص العظيمة، التي تسهل فيها الطاعة على العبد دون أن يغتنمها. وأما شهر رجب فسمي بهذا الاسم لأنه كان يرجب، يعني: يعظم، ولم يصح في فضل صوم رجب شيء بخصوصه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله تعالى عنهم، لكن مع ذلك نستطيع أن نستدل على فضيلة صيام شهر رجب بهذه العمومات التي وردت في فضيلة الصيام المطلق، فمن صام صياماً مطلقاً في شهر رجب -لا لاعتقاد خصوصية فيه- فإنه بلا شك يحوز بإذن الله هذه الفضيلة، لكن لا على أن يسرد الصوم فيه، ويصومه كله فيشبهه برمضان. هذا بجانب أن شهر رجب هو من الأشهر الحرم التي قال الله تعالى فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، فإذا كنا نهينا عن ارتكاب المعاصي وظلم الأنفس في الأشهر الحرم فبلا شك أننا مأمورون بالطاعات، يعني: كما أن هذا في جانب المعاصي، كذلك في جانب الطاعات، فهذا مما يفيدنا أن للأشهر الحرم مزيد حرمة، وأنها مختصة بحرمة زائدة، فنحن نهينا عن ظلم أنفسنا في كل وقت، لكن خص ذلك في الأشهر الحرم لما لها عند الله سبحانه وتعالى من الحرمة المضاعفة. فإذا كان يفترض بنا أن نتهيأ منذ زمن لاستقبال شهر رمضان، فغيرنا يستعد لرمضان من العام إلى العام، فالفنانون والممثلون وهؤلاء الناس يستعدون لرمضان المقبل بمجرد انتهاء رمضان الماضي؛ يستعدون له حتى يقطعوا الطريق إلى سبحانه وتعالى على عباد الله، ويدأبون سنة كاملة حتى يأتي الشهر القادم، فنحن أولى أن نستعد لاستقبال هذا الشهر العظيم، بمدارسة القرآن الكريم وبمراجعته وحفظه وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، فتعظيم شهر رجب عن طريق الصيام، والتدرب على الصيام والقيام فيه ما أمكن لا شك أنه يعتبر نوعاً من التهيؤ والاستعداد حتى إذا ما أتى شعبان ثم رمضان يكون الإنسان قد أمكنه أن يستغل هذه الفرصة إلى أقصى ما يستطيع، فإن شهر رجب هو مفتاح وبداية أشهر الخير والبركة. قال أبو بكر البلخي رحمه الله تعالى: شهر رجب شهر الزرع- يعني: الذي توضع فيه البذور- وشهر شعبان شهر السقي للزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع. وعنه قال: مثل شهر رجب مثل الريح، ومثل شعبان مثل الغيث، ومثل رمضان مثل المطر، فشهر رجب هو شهر تأتي فيه الريح، وتنقل السحاب وتحركه إلى البلاد التي ستسقى، ثم شهر شعبان هو شهر الغيث، يعني: تكون السحاب، ثم شهر رمضان هو شهر نزول الخيرات والغيث للعباد، يقول بعض العلماء: بيض صحيفتك السوداء في رجب لصالح العمل المنجي من اللهب شهر حرام أتى من أشهر حرم إذا دعا الله داعٍ فيه لم يخب طوبى لعبد زكا فيه له عمل فكف فيه عن الفحشاء والريب

حكم القول بأن الزلزال ظاهرة طبيعية

حكم القول بأن الزلزال ظاهرة طبيعية Q ما تعليقكم على من يقول: إن الزلزال ظاهرة طبيعية؟ A لا شك أننا نمر بين وقت وآخر بظروف ليس من العقل ولا من الحكمة أن تمر دون أن نعتبر ونتبصر، خاصة إذا كانت هذه الأشياء هي عبارة عن نذر ورسائل من الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن الزلزال الذي حدث أخيراً تحذير من الله سبحانه وتعالى الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، فهو تحذير وتذكير وإنذار للعباد كي يفيقوا، ويتوبوا إلى ربهم عز وجل، وهذه المرة لما لطف الله بنا ولم يحصل مضاعفات كالزلزال الماضي لم نجد كثيراً من الاهتمام بهذا الأمر، بل توافرت الصحف والإعلام على الكلام بأن هذه ظاهرة طبيعية، فهل نعود من جديد لنقول أيضاً: الزلزال ظاهرة طبيعية كما يقول الملاحدة؟ فإذا كانت ظاهرة طبيعية فمن الذي خلقها؟ فطلوع الشمس والقمر ظاهرة طبيعية، لكن أليس وراء هذه الظواهر الطبيعية من يخلقها، ومن يسيرها، ومن يوجهها؟ فينبغي ألا نغرق مع أهل الغفلة في غفلتهم ونطاوعهم في ضلالهم ونردد أمثال هذه المصطلحات، فالطبيعية من الذي طبعها؟ فكل شيء بأمر الله سبحانه وتعالى، وبحوله وقوته، فحتى نستفيد من هذه العبر ينبغي ألا ننصت لكلام هؤلاء الشياطين الذي يلهجون بمثل هذه التعبيرات، ويركز الكلام كله على كم درجة كان الزلزال، وبفضل سياستنا الراشدة كان كذا، وأننا لما فعلنا كذا وكذا لم تحصل خسائر، وما بقي إلا أن ينشد فينا كما أنشد ذلك الشاعر الفاطمي للخليفة الفاطمي، حينما وقع زلزال في مصر فقال له: ما زلزلت مصر لظلم ألم بها ولكن رقصت من عدلكم طرباً. فنعوذ بالله من هذا الرقص! فلا بد أن نستحضر أن هذا تحذير من الله سبحانه وتعالى، وعلينا أن نتدبر ونكثر من الاستغفار، فربما وجود طائفة قليلة من الصالحين الذين يستغفرون الله سبحانه وتعالى يكون سبباً في تحول عذاب الله تبارك وتعالى عنهم. الأمر الثاني: الحادث الشديد الذي حصل في إسلام أباد لا شك أنه أيضاً من معالم هذا الزمان الذين نعيشه، والفتن التي نحياها؛ إذ كيف يتجرأ إنسان أياً كان هذا الإنسان فضلاً عن مسلم أن يريق الدماء بهذه الطريقة الموغلة في الفوضى، وانتهاك حرمات الله سبحانه وتعالى؟! ولذلك لا نكاد نتصور أبداً أو نصدق أن رجلاً مسلماً يفعل مثل هذا الفعل، وحتى الآن ما وقفنا على أي دليل قطعي، وما تكلم أحد بأن هناك دليل على وقوع مثل هذه الحوادث على أيدي من ينتسبون إلى الجماعات الإسلامية، فيصعب جداً أن يصدق أن جماعة كذا تفعل مثل هذا الفعل البشع، ويستبعد أن تقوم هذه الجماعة بإلقاء قنابل بهذه القوة وهذه الضخامة وتنفجر لتصيب من تصيب، وتقتل من تقتل بهذه الطريقة، فلا شك أن هذا لا يجوز بحال من الأحوال، وأن هذا من تسويل الشيطان، وأن هذا لا يمكن أن يصدر من إنسان صاحب دين وخوف من الله سبحانه وتعالى، وأن من فعلوا هذا بلا شك سيلقون الله سبحانه وتعالى بدماء هؤلاء الناس المسلمين الذين قتلوا في هذا الحادث، فتباً لشيطان التأويل، فهل يمكن أن جماعة إسلامية تستحل مثل هذا الفعل بتأويلات شيطانية وبحجج تحصيل بعض المكاسب السياسية؟! فأي مكاسب هذه؟! فإنه يشك شكاً شديداً أن يكون هذا مثل حوادث كثيرة، كحادثة تفجير سيارة الدكتور عمر بن عبد العزيز القرشي في القاهرة الذي أشارت الأصابع بقوة إلى الموساد أنه وراء مثل هذا الفعل، وكذلك ما حصل في حوادث كثيرة قبل ذلك كحادثة سينما أمير أو في أيام إسحاق نافون لما كان رئيساً لإسرائيل فهو الذي أرسل هؤلاء الناس ليفعلوا هذا الفعل؛ حتى ترتفع موجة الهجوم على التيار الإسلامي، واصطنعوا مثل هذه الحوادث من قبل في إحدى دور الخيالة في الإسكندرية، وهي حادثه مشهورة كانت في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات. فالشاهد: أن مثل هذه الأشياء قد عهدناها من هؤلاء الناس لتحقيق مقاصدهم، أما أن يتصور أن المسلمين يقومون بهذا فهذا إن وقع فإلى الله سبحانه وتعالى المشتكى أن تصل الجرأة على اقتحام حرمات الله بمن ينتسبون للإسلام إلى هذه الصورة البشعة.

حكم تزويج البنت نفسها بدون موافقة وليها

حكم تزويج البنت نفسها بدون موافقة وليها Q هذا سؤال وصلني لكن لا أجد طريقة للوصول إلى الشخص الذي أرسل هذا السؤال، فلشدة خطورته ننبه عليه، وهو أن شاباً من الشبان تعرف على فتاة ويبدو أنه تدين منذ قريب، فصار متديناً أو ملتزماً ثم لما تقدم إلى أبيها رفضه أبوها، ويبدو أن أباها رفضه بسبب الدين، وبسبب التزامه، فالسؤال: هل يمكن أن تتزوجه بدون موافقة وليها؟ A بلغني أن بعض الناس الذين تجرءوا على الفتوى بدون علم فتحوا هذا الباب من الشر، وقالوا للأخ: مادام أن أباها رفض بسبب دينك فلك أن تتزوجها، ومثل هذه القضايا هي في غاية الحساسية وغاية الخطورة؛ لأن الأصل الأصيل والمقطوع به في الشريعة والمطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد كلام الله عز وجل في القرآن الكريم هو: لا نكاح إلا بولي، والأدلة على ذلك كثيرة، فلا يجوز أبداً بحال من الأحوال الزواج بدون ولي، صحيح أن الشريعة احترمت إرادة المرأة، واعتبرت حقها الأدبي في الموافقة على الزوج إذا كانت بالغة، لكن مع احترام إرادتها ليس لها أن تزوج نفسها، بل لا بد أن الذي يلي تزويجها هو وليها الشرعي. وليس هذا فحسب، بل بجانب سلطة الولي الشرعي في أن يزوجها أو لا يزوجها فإن هذا الولي مطالب بأن ينظر في أن يحترم أيضاً ضوابط ومقاييس الشريعة، لا أن يبحث في هواه هو بعيداً عن مصلحة ابنته وعن أولويات الدين، فإذا حصل منه ذلك، ووجد قضاء شرعي؛ فإن هذه البنت تفزع إلى القاضي فيمكنها من التزويج؛ لأن هذا يعتبر نوعاً من العضل. أما أننا في مثل هذه القضايا الخطيرة نسمع الكلام من طرف واحد، ولا ننصت إلى كلام الولي نفسه فهذا بلا شك قد يوقعنا في جور وتعدٍ لحدود الله سبحانه وتعالى، فلا بد من التثبت من أشياء كثيرة، ولا ننصح بحال من الأحوال أن تفزع أخت أبداً مهما زين لها هذا الفعل أن تتزوج بدون إذن وليها. ومثل هذه الفتوى أعتقد أن فيها جرأة على الله سبحانه وتعالى، وجرأة على دين الله، أعني: أن يفتح باب أن البنت تزوج نفسها بهذه الصورة بحجة أن أباها رفض هذا الخاطب؛ لأن الغالب أن الأب يبحث عن مصلحة ابنته، وهي نتيجة أنها تحكم العاطفة فقط، وليس عندها خبرة في الحياة، ولا معرفة بالناس؛ لأنها لا تجالس الرجال، ولا تعرف طبائع الناس، فهي محصورة عن معرفة ما آل إليه حال الناس وخداعهم. ثم إن البنت التي تلي تزويج نفسها تشعر بوقاحتها، وأنها قليلة الحياء، فشرع الله سبحانه وتعالى أن يتولى ذلك أبوها، رعاية لحقها؛ لأن الأب كل همه أن يضمن لها الاستقرار بقدر المستطاع، لا أن يكبلها، هذا هو الأصل في الآباء، صحيح أن هناك شواذ لكن القاعدة: أن الأب أدرى الناس بمصلحة ابنته، وأنه ينظر في مصالحها، وأنه أقدر على حسم هذه الأمور منها هي، وأنه لا يريد بها إلا خيراً، هذا هو الأصل وهذه هي القاعدة، فنرجو ألا يسمع ولا ينصت على الإطلاق لأي أحد يفتى بالجرأة في هذا الباب، ثم بعدما يتبعون أهواءهم يفزعون إلى أبي حنيفة ويقولون: إن أبا حنيفة أجاز ذلك، وغير ذلك من الكلام، وليس في هذا إلا مجرد أنه يتشهى بانتقاء الأقوال التي توافق مآربه، فنرجو ألا يفتح هذا الباب هنا في بلادنا أو في أي مدينة أخرى بأي حال من الأحوال حتى لا يصبح الأمر فوضى بحجة أن الأب لا يريد زوجاً متديناً، فهذا صعب أن نحكم عليه أو نصدقه ويحتاج إلى كثير من التحري قبل الكلام في مثل هذه الأمور.

حكم استعمال كلمة (الفكر السلفي)

حكم استعمال كلمة (الفكر السلفي) Q بعض الإخوة يقول: إنه لاحظ في بعض المحاضرات أو في كلام بعض إخواننا من الإخوة الأفاضل استعمال كلمة: (الفكر السلفي) فما حكم هذا الاستعمال؟ A السلفية ليست فكراً، بمعنى: أنها ليست منهجاً بشرياً أو نتاج إعمال الفكر البشري؛ لأن السلفية هي منهاج اتباع القرآن والسنة طبق فهم السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، فكلمة الفكر هذه نطلقها على مجالات أخرى، أما عند التعبير على منهج أهل السنة والجماعة، أو المنهج السلفي، أو منهج الفرقة الناجية؛ فلا ينبغي استعمال كلمة الفكر؛ لأنها بذلك تستوي مع الفكر البشري، وكأنه نوع من النتاج البشري، وهذا فيه الخطأ وفيه الصواب بخلاف أسس وأصول المنهج السلفية. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

§1/1