سلسلة جهاد شعب الجزائر

بسام العسلي

1 - خير الدين بربروس

خير الدين بربروس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1400 هـ - 1980 م دار النفائس

جهاد شعب الجزائر خير الدين بربروس (والجهاد في البحر) 1470 - 1547 م تأليف بسام العسلي دار النفائس

بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء إلى أرواح قوافل المجاهدين الشهداء، الذين تركوا للدنيا تراثا مجيدا لا يمحوه الزمان، وصنعوا لأجيال العرب المسلمين مجدا خالدا على مر الأيام. بسام

مقدمة الناشر

مقدمة الناشر كنا فتيانا .. وكانت الأخبار شحيحة في المشرق العربي، ومع ذلك فقد كنا نلاحق أخبار الجزائر (بلد المليون شهيد) بلهفة وشوق. . كنا نعيش مع شعب الجزائر آلامه وأحلامه وكلما سمعنا خبرا جديدا عن تضحياته كلما ازداد حبنا له، وتقديرنا لمواقفه، وتلهفنا لمعرفة المزيد عن الشعب الشقيق المجاهد، والبلد العربي المسلم الأصيل. لهذا كانت سلسلة كتب (جهاد شعب الجزائر) هي الأولى في مجموعة الكتب التي نأمل بأن نصدرها تباعا في السنوات الأولى من القرن الخامس عشر للهجرة، وبأسماء تلك الشعوب حسب التسميات السائدة في العصر الحاضر ورسوم الحدود السياسية المصطنعة، التي نراها على الخرائط المتداولة في هذه الأيام. والحوافز لنشر هذه الكتب كثيرة، منها قلة الكتب التي تتناول جهاد الشعوب العربية والمسلمة في العصور المتأخرة، وانصباب التركيز كله على عهد الفتوحات الإسلامية الأولى. ربما لكثرة الأيام المشرقة في عهد صدر الإسلام وكثرة الأيام الحالكة في العصور التي تلته.

ومع أن هذا الكلام حق، فإن في تاريخنا كله صفحات مشرقة لا تقل نصوعا وبياضا عن الصفحات التي كتبها صحابة رسول الله (ص) بدمائهم الطاهرة. ويحب أن لا تضيع هذه الصفحات بين ركام مشين من التفرقة والتناحر السياسي والمذهبي .. إن دراسة تاريخ أمتنا يظهر لنا بوضوح شراسة الأعداء وتصميمهم على استئصالنا من الوجود، وتنوع أساليبهم للوصول إلى غاياتهم الدنيئة. كذلك يبين لنا بوضح أيضا أنه لا يصلح آخر أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فما ارتفعت راية الجهاد مرة، وتوحد المسلمون تحت لوائها، منذ عهد محمد (ص) إلا وكان النصر حليفهم, وما استكانوا وعطلوا الجهاد، وشغلوا بأنفسهم عن أعدائهم إلا تسرب الوهن إلى صفوفهم وظهر عليهم أعداؤهم فأذاقوهم مرارة الذل والاحتلال والاستعباد ... ليس لي أن أطيل في الموضوع، فذلك ما سيتولاه مؤلف هذه السلسلة الكاتب العسكري الكبير والمؤرخ المسلم (بسام العسلي) الذي عرفناه في سلسلة (مشاهير قادة الإسلام) و (الأيام الحاسمة في الحروب الصليبية) وغيرها من الكتب والمقالات .. نسأل الله أن يوفقنا في عملنا ويجعله خالصا لوجهه الكريم فهو نعم المولى ونعم النصير. أحمد راتب عرموش

المقدمة

المقدمة ويبدأ القرن الخامس عشر للهجرة. . ويقف العرب المسلمون مع بداية هذا القرن وهم في حالة من الذهول لما نزل بهم، لقد باتوا أغرابا في ديارهم، مضطهدين في أوطانهم ممزقين في عالمهم. ويقف المسلمون في كافة أرجاء الدنيا يشاطرون العالم العربي الإسلامي نوائبه وأحزانه، ويفتقدون فيه دوره الريادي، ويأسفون لضياع دوره القيادي. لقد ضاع العرب وأضاعوا معهم العالم الإسلامي عندما تخلوا عن أصالتهم وهجروا قواعدهم الصلبة التي بقيت باستمرار حصنهم الحصين ودرعهم المتين ضد كل ما نزل بهم من نوائب، وضد كل ما جابههم من محن وكوارث، فأصبحوا تابعين بعد أن كانوا متبوعين، وباتوا مقلدين بعد أن كانوا سادة مبدعين، ليس ذلك فحسب، بل باتت أمجادهم ذاتها وراء ستار من التزوير والتلفيق. فسرقت منهم جهودهم وتضحياتهم، وضاعت هدرا دماؤهم وأرواح شهدائهم، وتحولت إلى غنائم لحساب أعدائهم، ووصل الأمر إلى تنكر العالم العربي حتى لأصالته الاسمية. فأصبحت أنظمته تحمل أسماء غريبة لا علاقة لها بأصالة العرب المسلمين ولا حتى بمستقبلهم. فهل انتهى العالم العربي -

الإسلامي ولم يبق له صلة بماضيه ولا علاقة له بمستقبله وأصبح مجرد مزق في مهب الريح؟ يقينا لا؛ والشواهد كلها تؤكد أن الأمة العربية الإسلامية على عتبة عهد جديد يحمل كل التطلعات نحو مستقبل أفضل. وليست عملية القمع الشاملة للإنسان العربي أكثر من تعبير عن الخوف من انطلاقة هذا الإنسان نحو أفق المستقبل. غريب أمر هذه الأمة التي لم يتعبها الجهاد، ولم تستنزف الحروب طاقتها وقدراتها على الرغم من كل ما نزل بها وما أصابها من المحن والخطوب. لقد بدأ القرن الخامس عشر للهجرة. وأمة العرب المسلمين في حرب دائمة لعل التاريخ لم يشهد لها مثيلا ولم يعرف لها شبيها أو نظيرا. ولقد كانت هذه الحرب متنوعة في ظواهرها مختلفة في أشكالها، متباينة في أساليبها ذات. هدف واحد في مجموعها (وهو القضاء على أمة العرب المسلمين). وما يعني البحث هنا نوع واحد من الحروب (ألا وهو الحروب الثوروية الإسلامية). فهل هناك (حروب) و (ثوروية) و (إسلامية)؟ ... القضية هي قضية تعاريف قبل كل شيء. فمفهوم (الحرب) يشمل على ما هو معروف كل أشكال (الصراع المسلح) ويقابله مفهوم (السلام) الذي يعني استخدام كل وسائط الصراع الأخرى - ما عدا أو باستثناء وسائل الإكراه القسري بقوة السلاح - ويلتقي المفهومان في العقيدة الإسلامية (الجهاد الأصغر) ويعني الحرب، و (الجهاد الأكبر) ويعني جهاد النفس، بالمضمون الضيق واستخدام كل أنواع الصراع السلمي بالمضمون الواسع. ويلتقي المفهومان (الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر) عند نقطة (هدف الجهاد) في

السلم والحرب وهو رفع راية العرب المسلمين، كل المسلمين في كل بقاع الدنيا (والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين). وضمن الإطار الشامل لمفهوم الحرب، يمكن التمييز في الواقع بين أنواع مختلفة من الحروب سواء بحسب طبيعتها: كالحروب المحدودة والحروب الشاملة، والحروب الأهلية الداخلية والحروب الخارجية، والحروب النظامية والحروب الثوروية الخ ... أو بحسب طبيعة الأسلحة المستخدمه فيها: مثل الحروب بالأسلحة التقليدية والحروب بأسلحة التدمير الشامل (الغازات، والبكتريولرجية، والذرية) وكذلك من حيث علاقاتها بالقوى (كالحروب الاستعمارية والحروب الثوروية - التحريرية). وقد تحمل الحروب أسماء للصفة الغالبة على طرائقها أو الأسلحة المستخدمة فيها بصورة أساسية: مثل حرب الخنادق وحرب الأنفاق والحرب البحرية وحرب الغواصات والحرب الإلكترونية وحرب الأصوات، الخ ... غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن عملية الفرز غير دقيقة تماما. فكل حرب قد تشمل أنواعا مختلفة من الطرائق وأشكالا متباينة من الأسالب التي يطلق عليها تجاوزا اسم الحروب وهي ليست أكثر من صفة من صفاتها وظاهرة في جملة ظواهرها - وأفضل نموذج لذلك الحرب العالمية الثانية التي شملت معظم أنواع الحروب. ويتضح مما سبق أن استخدام اصطلاح (الحروب الثوروية) هو أمر ممكن بدون لبس أو غموض. ويبقى بعد ذلك السؤال: هل بالإمكان إعطاء هذه الحروب الصفة الإسلامية؟. وهل هناك (حروب ثوروية إسلامية)؟

تتطلب الإجابة على هذا السؤال العودة قليلا إلى الوراء، عندما انطلقت جحافل المجاهدين في سبيل الله من الجزيرة العربية لنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بها. فخاضت حروبها ومعاركها وأيامها بأساليب وطرائق تلاحمت فيها العقيدة القتالية الإسلامية بالعقيدة الدينية لبناء المجتمع الإسلامي، مجتمع السلم والحرب، على أسس مغايرة لكل ما عرفه العالم. وقد أذهلت هذه الظاهرة قادة جيوش العالم في عصر ظهرر الإسلام. وكان من أكثر ما يثير في تلك الظاهرة اندماج طرائق الحرب التقليدية بطرائق الحرب الثوروية - وفق المفهوم الحديث -. ولقد كان التكامل في العقيدة القتالية الإسلامية في طرائقها وأساليبها أمرا غريبا لم يتمكن من فهم أبعاده ومضامينه أعداء العرب المسلمعين. وكان في ذلك بعض عدة المسلمين في حروبهم ضد أعدائهم لنشر رسالتهم فوق أرجاء الدنيا خلال فترة لا تحسب من عمر الزمن بسبب قصرها وبالقياس مع ما تم تحقيقه خلالها من فتوحات ومنجزات أحنى التاريخ هامته إجلالا وإكبارا لها. وتبغ المد العظيم تحول بطيء وتدريحي. يمكن التعبير عنه بالهجوم المضاد الشامل الذي بدأ بالأندلس الإسلامية، وانتهى بحملات الافرنج الصليبيين على الشرق الإسلامي أيام الحروب الصليبية في بلاد الشام. ورافق هذا التحول ظهور عوامل جديدة ألقت بكل ثقلها على طرائق الصراع وأساليبه في كل أنحاء العالم العربي. الإسلامي، في مشرقه ومغربه. وكان من أبرز هذه العوامل الجديدة انتزاع السيادة البحرية من قبضة المسلمين , ولم يعد البحر الأبيض المتوسط (بحرا شاميا) أو (بحرا إسلاميا) على نحو ما كان عليه طوال أكثر من سبعة قرون. وكان من أبرز هذه العوامل

الجديدة أيضا، انتقال الإفرنج (الصليبيين) من مواقع الدفاع إلى مواقع الهجوم. ورافق هذا التحول تمزق رهيب في العالم الإسلامي، فباتت كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي مشغولة بأمور نفسها عن كل ما سواها. وضعف تنسيق التعاون فيما بين هذه البقاع (الأقاليم والأقطار). فكان في ذلك الانهيار المرعب الذي لا زالت جذوره تضرب في أعماق وجود العالم العربي الإسلامي. ونجح الإفرنج الصليبيون في إخراج العرب المسلمين من الأندلس. وانطلقت جحافل الأفرخ الصليبيين لضرب قواعد المسلمين ذاتها والاستيلاء عليها في الغرب الإسلامي. وتبع ذلك تحول على جبهات الصراع بسقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك العثمانيين وظهور الإمبراطورية العثمانية واضطلاعها بواجب (الجهاد في سبيل الله) في البر والبحر. واضطلعت جماهير الشعب العربي - الإسلامي بدورها في هذا الجهاد. وتبع ذلك نوع من الركود على جبهات الصراع بفضل انصراف شعوب الغرب في معظم الأحيان إلى الحروب فيما بينها حتى جاءت الهجمة التالية في إطار (الاستعمار). وخلال هذه المرحلة وجد المسلمون أنفسهم أمام مواقف مغايرة، فخاضوا غمار الحرب الشاملة على شكل حرب دفاعية غير متكاملة، في البر والبحر، ضمن ظروف غير متكافئة لا في حجم القوى والوسائط ولا في طبيعة الصراع وطرائقه. فكانت هذه الحروب الدفاعية هي (الحروب الثورية الإسلامية).

ويمكن في الواقع تمييز هذه الحروب بمجموعة من الخصائص التي تمايز بينها وبين ما يطلق عليه اسم (الحروب التحريرية). ولعل من أبرز هذه الخصائص: 1 - أنها تنطلق من فكرة الجهاد في سبيل الله. 2 - أنها تنطلق من المسجد ومن المدرسة الإسلامية (الفكرية والعقائدية). 3 - أنها تخوض الحروب لا في حالة يائسة وإنما في إطار من التصميم العتيد لانتزاع النصر في النهاية، مع كل تجاوز لظروف الحاضر وعقباته. 4 - أنها تحمل طرائق الحروب الثوروية الإسلامية وشعاراتها وأهدافها. 5 - أنها تعمل من أجل الإنسان العربي المسلم وعزته وكرامته، ومن هنا فهي لا تقبل في معظم الأحيان إحلال استعمار محل استعمار، أو التعاون مع عدو ضد عدو، بقدر اعتمادها في البدايه والنهاية على القدرة الذاتية للشعب العربي المسلم. وتلتقي (الحروب الثوررية الإسلامية) مع (الحروب التحريرية) في بعض أهداف التحرير، وتختلف عنها في عدم استعدادها للتبعية بعد التحرير. وهذا هو بدقة سبب ما تتعرض له جماهير الشعب العربي المسلم من ضغوط مستمرة ومحاولات متواصلة لترويضها وإخضاعها. إن هدف (الحروب الثوروية الإسلامية) هو المحافظة على الوجود الإسلامي وحمايته باعتباره المصدر الحقيقي للأصالة الثوروية. وضمن هذا الإطار يمكن فهم الحروب الثوروية في البحر

(والتي يمثل نموذجها الأعلى خير الدين بربروس). وضمن هذا الإطار يمكن فهم (الحروب الثوروية في البر) والتي تمثلها مجموعة من الثورات، أبرزها ثورة (عبد القادر الجزائري) وثورة (المقراني والحداد) في الجزائر ومرورا بثورة (المهدي) في السودان، و (الثورة الوهابية) في العربية السعودية. والثورات المتتالية في بلاد الشام ومصر وأبرزها ثورة (عز الدين القسام) و (الثورة السورية الكبرى) ونهاية (بالثورة الإسلامية الإيرانية) التي لن تكون يقيتا آخر الثورات الإسلامية. المثر في الأمر هو ملاحظة تلك الثورات الفكرية الإسلامية التي ارتبطت باستمرار مع الحروب الثوروية، وانطلقت من (المسجد ومن المدرسة الإسلامية) والتي يمثلها أفضل تمثيل (عبد الحميد بن باديس) في الجزائر. فهل من الغرابة أن يصبح المسجد وتصبح المدرسة الإسلامية الهدف الأول للهجوم الشامل والمضاد للعالم العربي. الإسلامي؟ .. لا غرابة في ذلك! ولقد ظهرت في العصر الحديث محاولات كثيرة لطمس معالم الوجه المشرق للحروب الثوروية الإسلامية سواء عن طريق تشويه صفحة قادتها بالدس اللئيم، أو عن طريق اسدال الستار على المضمون الاجتماعي لهذه الثورات بما يتنافى مع قواعد الشرف - شرف أصالة الأمة العربية - وصرفها عن طريقها السوي بإعطائها مضامين تحمل زي العصر (نموذجه وبدعته - المودة). ومن هنا تظهر الحاجة لإبراز الوجه المشرق (للحروب الثوروية الإسلامية) بهدف تأكيد الطابع المميز لها، وبهدف المحافظة على أصالة هذا الطابع من أجل اعتماده قاعدة ثابتة لبناء المستقبل.

كلمة لا بد منها هنا، وهي الإشارة إلى الدعم الذي قدمته وزارة الدفاع في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية وذلك للحصول على الوثائق والبيانات والمعلومات التي أغنت هذا (البحث) والبحوث التي ستصدر تباعا في مجموعة (الحروب الثوروية الإسلامية)، وكلمة شكر للعامين في (المحافظة السياسية) في الجزائر، وكذلك العاملين في وزارة الإعلام الجزائرية ووزارة قدماء المجاهدين لما قدموه من دعم ومساعدة تعجز كلمات الشكر عن وفائها حقها. والله أسأله التوفيق. بسام العسلي

ـ[صورة]ـ خير الدين باشا في شيخوخته (متحف البحرية العثمانية باستامبول)

ـ[صورة]ـ التمثال الذي أقامه الأتراك لخير الدين باشا أمام ضريحه في استامبول

الوجيز في حياة (خير الدين بربروس) 877 - 957 هـ = 1470 - 1047 م السنة الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث 877 ... 1470 ... ولادة خير الدين في جزيرة (مدلي) في الأرخبيل. 918 ... 1512 ... عروج وأخوه خير الدين يهاجمان الإسبانيين في بجاية (الجزائر). 920 ... 1514 ... الإخوة (بربروس) يهاجمان بجاية للمرة الثانية. 921 ... 1515 ... الإخوة (بربروس) يهاجمان بجاية للمرة الثالثة. 922 ... 1516 ... الإخوة (بربروس) يهاجمان الإسبان في مدينة (الجزائر). 923 ... 1017 خير الدين يحرر مدينة (تنس) من الإسبانيين. 924 ... 1518 ... استشهاد (عروج بربروس) عن عمر يناهز الخمسين واحتلال الإسبانيين مدينة تلمسان. 925 ... 1519 ... خير الدين ينتقم لأخيه فيدمر الأسطول الإسباني أماما لجبزائر.

السنة الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث 935 ... 1529 ... خير الدين يدمر معقل الصخرة الجزائري وحاميته الإسبانية. 936 ... 1530 ... انتصار خير الدين على الإسبانيين في جزر الباليئار. 937 ... 1531 ... انتصار خير الدين على الإسبانيين في (شرشال). 939 ... 1533 ... السلطان سليمان القانوني يعين خير الدين (أميرا للبحر). 941 ... 1535 ... الإسبانيون يهاجمون مدينة تونس ويدمرونها. 947 ... 1541 ... شارلكان يقود حملة صليبية ضد المغرب الإسلامي وفشل هذه الحملة. 949 ... 1544 ... خير الدين يهاجم المدن الإسبانية ويرفع الحصار عن (نيس). 951 ... 1546 ... خير الدين يعود إلى القسطنطينية للاضطلاع بأعباء عمله كوزير للبحرية. 952 ... 1547 ... وفاة خير الدين وتعيين ابنه حسان (أميرا للبحر).

أبرز أحداث العالم الإسلامي في فترة حياة (خير الدين بربروس) السنة الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث 855 - 886 ... 1451 - 1481 ... حكم السلطان العثماني محمد الثاني الفاتح. 857 ... 1453 ... المسلمون العثمانيون يفتحون القسطنطينية. 861 ... 1453 ... المسلمون يحاصرون (بلغراد). 866 ... 1461 ... المسلمون يخضعون المورة. 873 ... 1468 ... إخضاع الألبانيين. 886 - 918 ... 1481 - 1512 ... حكم السلطان العثماني بايزيد الثاني. 898 ... 1492 ... سقوط غرناطة، وخروج المسلمين من الأندلس. 905 - 909 ... 1499 - 1503 ... الحرب ضد البندقية. 918 - 927 ... 1512 - 1520 ... حكم السلطان العثماني سليم الأول.

السنة الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث 924 ... 1516 ... انتصار السلطان السليم على (قانصوه الغرري) عند (مرج دابق). 925 ... 1517 ... العثمانيون يفتحون مصر. 927 - 974 ... 1520 - 1566 ... حكم السلطان العثماني سليمان القانوني. 929 ... 1522 ... البحرية الإسلامية تفتح رودس. 933 ... 1526 ... موت (ملك المجر لويس). في معركة مهاج (موهاكس). 940 - 952 ... 1533 - 1547 ... ذروة نشاط (خير الدين بربروس).

الفصل الأول مقدمات الحرب وظروفها

{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (الكهف - الآيه 22). الفصل الأول مقدمات الحرب وظروفها 1 - ذوي اللحى الشقراء. 2 - الموقف على جبهة المسلمين في الشرق. 3 - الموقف على جبهة الأندلس. 4 - الموقف على جبهة المغرب الإسلامي. 5 - الجهاد في البحر والقرصنة.

ذوي اللحى الشقراء

1 - ذوي اللحى الشقراء. اجتاحت العالم العربي والإسلامي موجة من الحزن والأسى في يوم من أيام شهر أيار (مايو) سنة (952 هـ = 1547 م) لفقد علم من أعلام الجهاد، ولغياب سيف من سيوف الإسلام. وقوبلت هذه الموجة في الغراب بموجة مضادة، حيث عمت الفرحة وسارت البشائر في كل الأقاليم الأوروبية بزوال الكابوس المرعب الذي طالما أرق ملوكها وأمراءها، وطالما هدد تجارتها واسطولها، وطالما أغار على ثغورها ومدنها الساحلية وقراها. لقد توفي أشهر أصحاب (اللحى الحمراء) أو (الشقراء) وهو الذي أمضى حياته في البحر، مجاهدا في سبيل الله، صابرا محتسبا , لم يطلب في حياته مجدا ولا مالا، ولم يعمل من أجل الجاه أو المنصب، ولو أنه حصل على المنصب دونما إرادة منه، وسعى إليه الجاه بدون أن يعمل هو من أجله. ومضى شيخ المجاهدين عن عمر يناهز الثمانين. لم يتبعه الجهاد، ولم تنل من عزيمته المحن والنوائب، ولم تصرفه عن مبتغاه الخطوب الجسام. لقد ابتلع البحر أعز أهله وأصدقائه، وقضى في الجهاد أحب إخوته إليه وأغلى ما في الدنيا لديه، فما في الحياة بعد ذلك ما يشده إليها غير الأمل في المضي قدما لرفع راية الجهاد التي سقط تحتها الأبرار الأطهار، ففي ذلك وفاء

لأرواحهم. لقد قضى هؤلاء دفاعا عن حرمة الدين التي انتهكت، فما في الدنيا أعز ولا أغلى من طلب إحدى الحسنيين الشهادة أو النصر. وعلى هذا الطريق سار (ذوي اللحى الشقراء) مدافعين عن ثغور المسلمين خلال فترة تاريخية، تألبت فيها قوى الصليبية ضد المسلمين في الأندلس الإسلامية، فأخرجوهم من ديارهم، وشددوا عليهم الخناق، وعملوا فيهم تقتيلا وتشريدا وسبيا ونهبا حتى ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت. وظهر البطل المنقذ كما يبزغ الشهاب في السماء المظلمة. فمد يد العون لمن امتنع عليهم كل عون، وقدم المساعدة عندما عزت المساعدة على أحوج الناس إليها. وخلال تلك الفترة التاريخية، انتقلت القوات الإسبانية للهجوم على المغرب العربي الإسلامي - تحت راية الصليبية - وتم لهذه القوى احتلال المدن الساحلية، وأعملوا فيها تدميرا للمساجد وانتهاكا للحرمات ونهبا للثروات والأموال. فمضى (أصحاب اللحى الشقراء) لتقديم ما يستطيعون من أجل دعم إخوانهم في الدين. فسطروا بذلك أروع الملاحم وأعظم الانتصارات، وعرفت ميادين الجهاد في البر والبحر فضائلهم ومآثرهم، فكان في ذلك خلودهم الذي وقر في قلوب العرب والمسلمين، لا في المغرب الإسلامي فحسب، وإنما في كل دنيا العرب وسائر ديار المسلمين. وذوي اللحى الفقراء، صفة أطلقها الإفرنج - الإفرنسيون - على تلك العائلة التي تزعم أفرادها عملية الجهاد في البحر (باربروس - برباروسا) ثم نقلت إلى العربية بحرفيتها، وبقيت سائرة حتى كادت تطغى على الأسماء الأصلية لمجموعة الإخوة المجاهدين. (¬1) ¬

_ (¬1) باربروس، BARBEROUSSE، اسم اطلق على الأخوين عروج وخير الدين.

نشأ هؤلاء الأخوة في جزيرة (مدلي) من بحر الأرخبيل، لأب تركي اسمه (يعقوب بن يوسف) كان متزوجا من سيدة أندلسية ولدت له أربعة أبناء هم (اسحاق وعروج وخسرف ومحمد الياس). وقد حرص الأب عل تنشئة أبنائه نشأة إسلامية صلبة، وقد اختار الابن الأكبر طريق العلم والمعرفة فمضى في دراساته الإسلامية. في حين انصرف بقية الأخوة للجهاد، واختاروا البحر ميدانا لهم. فكان عروج (بضم العين والواو) هو الذي افتتح المجال أمام إخوته إذ أنه ركب البحر ولما يتجاوز العاشرة من عمره إلا قليلا. وأمكن له بعد فترة قصيرة أن يجهز مركبا خاصا به، تولى قيادته بنفسه غير أنه لم يبتعد كثيرا حتى أسره الأعداء في بحار الشرق، فعمل في المجاذيف والقيد في رجله مدة سنتين. لكنه تمكن من الفرار، إذ ألقى بنفسه في البحر وهو على مقربة من سواحل مصر، ومنها ركب البحر عائدا إلى جزيرته (مدلي) حيث أبوه وإخوته. غير أنه كاد يسقط أسيرا من جديد، وكان على مقربة من سواحل قرمان التركية، فأكرمه كوركود ابن السلطان (بيازيد) الذي كان يتولى إمارة (قرمان) ورأى فيه جنديا بارزا ومقاتلا شجاعا، فجهز له سفينة قرصنة، وبعث به غازيا في بحار إيطاليا، حيث كانت الحرب ضد الإسلام والمسلمين على أشدها، فاقتنص سفينتين محملتين بالبضائع الثمينة كانتا تابعتين لدولة البابا. وأقتنص سفنا إيطالية أخرى، رجع بها إلى ميناء الإسكندرية بعد أن دفع الخمس من الغنائم لبيت مال المسلمين. ثم ركب البحر من جديد على رأس أسيطيله الصغير (عمارة) بعد أن ضم إليه السفن التي غنمها , وانضوى تحت لوائه جماعة من المجاهدين الأشداء. وعزم أن يلقي بثقله في غربي البحر الأبيض

المتوسط، وبجهة الأندلس موطن أمه بصفة خاصة. واختار جزيرة جربة قاعدة لنشاطه، وهناك انضم إليه أخوه خسرف، وقد أصبح مثله على رأس سفينة قرصنة حربية، وانطلقا من هناك إلى ناحية الأندلس، ينصران الإسلام، ونتقذان اللاجئين الأندلسيين إلى العدوة المغربية. ويمعنان في أساطيل النصارى تدميرا وأسرا. هنالك أطلق النصارى لقب (بربروس) على كل من الأخوين (عروج وخسرف). وهنالك أيضا اقترح بعض الأندلسيين والمغاربة على (خسرف) أن يغير اسمه، وأطلقوا عليه منذ تلك الساعة اسم - خير الدين -. كان (بنو حفص) يحكمون تونس وطرابلس والشرق الجزائري، وفي سنة (1510 م) تقريبا رأى السلطان الحفصي أبو عبد الله محمد أن يستعين بهذين البطلين لحماية الدين والدولة من إغارات النصارى وهجماتهم البحرية، وأن يجعل مما يدفعانه من خمس الغنائم موردا يدعم خزانة الدولة التي لم تكن مزدهرة، فاقطعهما مرفأ (حلق الوادي) يتخذان منه قاعدة لمحاربة من يحارب الإسلام. خرج الأخوان (عروج وخير الدين) من قاعدتهما الجديدة ومعهما قوة ثلاث سفن صغيرة، وعندما أوغلا في البحر اصطدما بسفينة حربية كبيرة كانت تنقل من نابولي إلى برشلونة ثلاثمائة جندي إسباني. وكانت سفينة نابولي أقوى بحجمها وبنيران مدفعيتها من قوة مجموعة السفن الثلاث. وعلى الرغم من ذلك فقد قرر الأخوان (عروج وخير الدين) مهاجمتها انتقاما لما كان يرتكبه الإسبان من جرائم ضد المسلمين. واندفعت السفن الثلاث الصغيرة في محاولة لأسر السفينة غير

أن هذه استطاعت الإفادة من قدرتها النارية الضخمة، فأحبطت محاولات السفن الإسلامية سبع مرات متتالية. وفي الهجوم الثامن، وبعد أن أصيب (عروج) بجرح بليغ، نجح خير الدين بالوصول إلى السفينة العادية وقذف بنفسه فوقها، ولحق به المجاهدون بسرعة، وأمكن لهم الاستيلاء على السفينة بعد معركة عنيفة وقاسية، وأسروا كل من فيها واقتادوها إلى مرسى (حلق الوادي) وهي تحمل رايتها. واعترافا بجميل السلطان أبي عبد الله محمد، فقد ساق الأخوان (عروج وخير الدين) إليه في أبهة تفوق الوصف الهدايا الفاخرة مما غنماه، زيادة على الخمس الشرعي، وقد شملت الهدايا عددا من كبار وكبيرات الأسرى، واشتد إعجاب السلطان بهما وتقديره لهما. ومضى خير الدين يمارس نشاطه، حتى إذا ما شفي أخوه (عروج) من جراحه، انضم إليه وانطلقا للعمل معا (في سنة 1512 م). تلك كانت البداية ..

الموقف على جبهة المسلمين في المشرق

2 - الموقف على جبهة المسلمين في المشرق حرر المسلمون مدينة عكا من بلاد الشام في السنة (694 هـ - 1294 م) وطردوا بقايا الإفرنج الصليبيين من كل قلاعهم وحصونهم. واعتنق دين الإسلام من رغب البقاء في الشرق الإسلامي. وأصيب الغرب بخيبة أمل مريرة وهو يرى البناء الضخم الذي أقامه طوال مائتي عام وهو ينهار دفعة واحدة وتبتلعه رمال الشرق الدافئة. فانطلقت الدعوات التي تزعمها البابا نقولا الرابع في محاولة لتنظيم حملة صليبية جديدة، غير أنه بات واضحا أنه من المحال إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، فانهارت كل الجهود لإرسال حملة للمشرق الإسلامي , ولم تثمر إلا عن توجيه قوة مختلطة أغارت على الإسكندرية ونهبتها ودمرتها (سنة 1265 م). بالإضافة إلى تلك الحملة المشؤومة التي قادها لويس التاسع سنة (1270 م) فوصلت تونس وانتهت هناك بموت لويس التاسع (أو القديس لويس) على أبواب تونس، بدون أن تحقق نتيجة أكثر من النهب والتدمير. وعاشت مصر والشام بعد ذلك تحت حكم المماليك البرجية الذين بدأ عهدهم بالمظفر قطز بطل (عين جالوت) وانتهى بقانصوه

الغوري سنة (1517 م). وقد انصرف المسلمون في المشرق خلال هذه الفترة إلى تضميد جراحهم، ومتابعة الصراع ضد المغول (التتار) أحيانا وضد الروم (البيزنطيين) في الشمال أحيانا أخرى. وتميزت هذه الفترة بصورة عامة بالهدوء والاستقرار، فانصرف الناس للصناعة والتجارة، وعرف المشرق الإسلامي حالة من الرخاء لم يعهدها منذ زمن طويل. غير أن توقف الحروب الصليبية في المشرق لم يضع حدا نهائيا للحروب. فقد تحول الصراع إلى جبهتين أولاهما (أوروبا) والثانية (الأندلس) بالإضافة إلى جبهة وسيطة بين الجبهتين هي جبهة البحر. وقد ظهرت خلال هذه المرحلة قوة جديدة أخذت على عاتقها قيادة (الجهاد في سبيل الله) وكانت هذه القوة هي قوة (الأتراك العثمانيين). وكان العرب المسلمون قد نظموا الدفاع عن الثغور منذ الأيام الأولى للفتح. فأقاموا الحاميات في المواقع الحصينة على امتداد حدودهم مع بلاد الروم البيزنطيين، وكانت هذه الثغور مواقع دفاعية هجومية في آن واحد، واجبها رد الغزوات المباغتة للأعداء، والإنطلاق منها لغزو بلاد هؤلاء الأعداء. واستمر هذا التنظيم القتالي طوال العهدين الأموي والعباسي. وعندما أقام عبد الرحمن الداخل الحكم الأموي في الأندلس، أعاد تطبيق التجارب القتالية. وكانت طبيعة الحدود الجبلية مع الروم البيزنطيين (حيث جبال الأمانوس) تتشابه مع الحدود الجبلية الشمالية للأندلس (حيث جبال البيرينه - أو جبال البرتات كما يسميها المؤرخون العرب). فكانت تجرية الثغور هي التجربة الرائدة التي حفظت للعرب المسلمين حدودهم وثغورهم.

وكانت هذه الثغور هي الميادين المثلى للجهاد في سبيل الله، وهي في الوقت ذاته مجال التجاربة لتطوير الكفاءة القتالية وإغناء التجارب الحربية. غير أن ظروف الحروبة الصليبية قضت على (استراتيجية حروب الثغور) إذ انتقل الصراع إلى قلب العالم العربي الإسلامي. ولكن ما أن طردت جحافل الغزاة الافرنج، حتى بعثت قيم الجهاد في سبيل الله من جديد، ونزل في بلاد الأناضول عدد كبير من المجاهدين ورجال الدين - من العرب والترك والفرس - أخذوا على عاتقهم إثارة الحماسة ضد الروم (البيزنطيين). وبتأثير تلك الحماسة الدافقة، اجتاح الأتراك غربي آسيا الصغرى، وأقام أمراء الغزاة دويلاتهم المستقلة في مختلف المقاطعات، فنزل القرمانيون في ليقاؤنية القديمة وايسوريا، ونزل الكرمانيون في كوتاهية، واستقر الحميديون في ميسية، والصاروخان في مغنيسية. ولم يقض على هذه الإمارات نهائيا إلا عند ظهور العثمانيين. وبينما كان هؤلاء الغزاة يتقدمون برا كانت قبيلة (المنتشا) التي نشأت نشأة بحرية فشكلت أقوى الإمارات وأعظمها شأنا، كانت هذه القبيلة تنطلق من سواحل ليقية وبمفيلية إلى قاريا، لتجتاح منها شواطىء بحر ايحه. ثم تفتح رودس، مهددة بذلك روما وامبراطوريتها. وكان العثمانيون من بين أولئك الأتراك الذين حملوا راية الجهاد في سبيل الله ضد (البيزنطيين) وحالفهم الحظ أكثر من سواهم، ولا يعني البحث هنا التعرض لأصول هذه القبيلة ومراحل تطورها، وما عانته من صداماتها مع المغول (التتار). الهم في الأمر هو أن المؤسس الحقيقي لهذه الأسرة وهو (أرطغرل) قد لجأ ومعه مائة أسرة إلى آسيا

الصغرى ليلتحق وإياهم بخدمة علاء الدين الثاني السلجوقي، سلطان قونية. فأقطعه علاء الدين منطقة المستنقعات الواقعة على الحدود المواجهة للبيزنطيين عند (سكود) في وادي (قره صو) حيث الفرات الغربي وجبلي طومانيج وأرمي طاغ، وترك له حرية توسيع ممتلكاته على حساب جيرانه النصارى. وتولى (عثمان) بن (أرطغرل) على عاتقه هذا الواجب، فكان أول عمل له هو فتح (ملانجنون) وتسميتها باسم (قره جه حصار) والانتقال إليها وجعلها بمثابة عاصمة للدولة الجديدة في سنة (1288 م). واستأنف الحرب ضد البيزنطيين. فتقاطر إليه المجاهدون من أرجاء آسيا الصغرى جميعا، وانضم إليه المقاتلون من القبائل التركية المختلفة، ولحق به (الأخيان - أو الأخوان) وهم جماعات الصناع والتجار. ومن (قره جه حصار) قاد عثمان شعبه القوي، الذي كانت ترفده القبائل التركية كلها على الدوام بعناصر جديدة تزيد في قوته وحيويته إلى بحر مرمرة والبحر الأسود، وفي اتجاه الغرب إلى يني شهر (يكي شهر) التي تسيطر على مخاضة نهر سقارية. وفي سنة (1300 م) أقطع عثمان ابنه أورخان مدينة (قره جه حصار). فأخذ هذا في متابعة الجهاد. وفي سنة (1326م) وبينما كان عثمان على فراش الموت، في سكود، كان ابنه أورخان يتوج أعماله الكبيرة باحتلال (بروسة) الواقعة على سفح جبل الأولمبوس (كشيش طاغ). فكان أول عمل له أن دفن أباه في كنيسة القصر التي حولت للتو والساعة إلى

مسجد (¬1) ومن ذلك الحين أضحت (بروسة) مدينة العثمانيين المقدسة. وقد عرف عن (أورخان) اهتمامه بالتنظيم الشامل للدولة، وعنايته الخاصة بإعادة تنظيم الجيش، وخاصة قوات (يني جري - القوة الجديدة - ومنها الإنكشارية). وفي سنة 1362 م، توفي أورخان؛ فخلفه على العرش ابنه الثاني مراد الذي اتجه في الحال نحو شبه جزيرة البلقان، وأمكن له احتلال (ادرنة) وجعلها عاصمة له حتى سقوط القسطنطينية. وحاول البابا (أوربانوس الخامس) أن يدعو النصارى إلى حملة صليبية تستنقذ أدرنة من أيدي المسلمين، ولكن عبثا. وعلى الرغم من أن جيشا من فرسان النصارى يقوده كونت سافوا (أماديوس) استطاع أن يوطد أقدامه في غاليبولي لفترة قصيرة، غير أنه أخفق في التفاهم مع البيزنطيين على خطة مشتركة، فاضطر إلى الانسحاب في وقت قريب. ثم تجمعت قوات الصرب بقيادة (ووقاجين) لقتال العثمانيين الذين انتصروا عليهم (على ضفاف نهر مريج). واحتل العثمانيون على أثر ذلك مقدونيا بكاملها (في سنة 1371) ثم احتلوا صوفيا ونيتش (سنة 1385 - 1386 م). وتزعم ملك بلغاريا (ششمان الثالث) حلفا مع الصرب والبشناق، وألحق الهزيمة بالجيش العثماني (سنة 1387 م) غير أن قوات العثمانيين انتصرت في السنة التالية على ¬

_ (¬1) صمت نقوش جامع بروسه الذي بناه (أورخاى بن عثمان) سنة 1334 م ما يلي: (شيد هذا المسجد السلطان بن سلطان الغزاة، الغازي بن الغازي مرزبان الآفاق بطل العالم) تاريخ الشعوب الإسلامية - كارل بروكلمان ص 408.

(ششمان) وأسرته في مدينة (نيقوبوليس). وفي سنة 1389، تجمعت قوات ضخمة من الصرب والبشناق والمجر والبلغار والألبانيين - الأرناؤوط - والتقت بالقوات العثمانية عند (قانصوه - ميدان الطيور السود) وقاد مراد الهجوم بنفسه، غير أنه سقط قتيلا وهو في ذروة انتصاره. فتولى ابنه (بايزيد) إكمال النصر وذلك بأسر بلك الصرب - لازار - وقتله. وتابع (بايزيد) سيرة الجهاد، فلم تمض أكثر من ثلاث سنوات حتى تم إخضاع الصرب بكاملها وبلاد البلغار، مع الاستيلاء على (آلاشهر) آخر ممتلكات البيزنطيين في آسيا الصغرى. وعاد البابا (بونيفاسيوس التاسع) ليرفع راية الحرب الصليبية وهو يشهد انتصارات العثمانيين ويسير الدعاة بدعوته للحرب ضد المسلمين في فرنسا والبلدان المجاورة لجبال الألب وجنوبي ألمانيا. وما أن أطل ربيع سنة (1394 م) حتى كان (سيجسموند) ملك المجر قد جمع حوله في (بودا) جيشا ضخما من الفرسان تقاطروا إليه من بلدان أوروبا الغربية. واصطدم هذا الجيش بجيش المسلمين الذي كان يقوده (بايزيد) يوم (27 - أيلول - سبتمبر) عند نيقربوليس، وانتهمت المعركة بانتصار المسلمين انتصارا حاسما. وتوغلت الجيوش العثمانية اللاحقة بفلولهم حتى (ستيريا). ثم إن بايزيد اقتص من حكام شبه جزيرة المورة اللاتين الذين حالفوا الصليبيين فدمر أراضيهم. أما الخطر المغولي فقد عاد من جديد بظهور (تيمور) الذي اجتاح بلاد الشام، ثم انكفأ للهجوم على العثمانيين. وحدثت المعركة بين جيش المسلمين بقيادة بايزيد وبين المغول عند جبق آباد (جبوق

آباد) يوم 20 تموز (يوليو سنة 1402 م. وانتصر (تيمور) فحمل معه (بايزيد) في قفص من حديد الذي لم يلبث حتى توفي في 8 آذار - مارس - سنة 1403، فأكرمه (تيمور) بأن سمح بدفنه في جامع بروسة. وتعرضت الدولة العثمانية على أثر هذه النكسة إلى حالة من العطالة والتمزق الداخلي لم ينقذها منها إلا ظهور مراد الثاني الذي تولى الحكم بعد وفاة أبيه السلطان محمد في أدرنة سنة 1421 م. أمضى (مراد الثاني) فترة من الوقت لإعادة تنظيم الدولة والقضاء على مناوئيه. حتى إذا ما جاء يوم 29 آذار (مارس) 1430 م اقتحمت قوات المسلمين مدينة سالونيك ودمرتها تدميرا تاما. ثم إن مرادا حاول أن يبسط سلطانه على البلقان، فتصدت له القوات المجرية، واستطاع (يوحنا هونيادي) الترانسلفاني تكبيد قوات العثمانيين خسائر فادحة أوقفت تقدمهم. وشكل ذلك حافزا للقيام بدعوة صليبية جديدة تشنها النصرانية على أعدائها. ورحب النصارى بإعلان (البابا أوجانيوس الرابع) لهذه الحرب ترحيبا حماسيا في المجر وبولندة - بولونيا - وألمانيا وفرنسا. وغادر الجيش الصليبي مدينة (بودا) في تموز - يوليو سنة (1443 م) ليحرز في 24 كانون الأول - ديسمبر - انتصارا كبيرا عند (جالوواز) بين صوفيا وفيليبوبوليس , وتوقفت هذه الحملة لتستأنف تقدمها في صيف السنة التالية حيث اصطدمت عند وارنا (فارنا) بجيش العثمانيين الذي كان يقوده (مراد الثاني) وحدثت المعركة يوم 9 تشرين الثاني - نوفمبر - 1444. وكان انتصار العثمانيين رائعا تم به إزالة آثار هزيمة السنة السابقة.

وحدثت معركة أخرى في 17 تشرين الأول - أكتوبر - 1448 بين حاكم المجر (هونيادي) وبين مراد الثاني، في سهل قوصوه. وبعد معركة استمرمت يومين انتصر مراد الثاني انتصارا حاسما. وتوفي (مراد الثاني) في 5 شباط (فبراير) سنة (1451 م) وتولى ابنه (محمد) الملك فمضى لتوطيد دعائم حكمه، ثم انطلق لمتابعة سياسة أسلافه، فقام بتشييد قلعة (روم إيلي حصار) المنيعة على بعد لا يتجاوز سبعة كيلومترات من أبواب القسطنطينية، عند أضيق نقطة من البوسفور، وذلك في آواخر سنة (1401 م). وعندما أرسل الإمبراطور البيزنطي احتجاجا للسلطان محمد أمر هذا بقطع رؤوس أفراد الوفد الذي حمل الاحتجاج عليه، وكان ذلك بداية المرحلة الأخيرة للصراع الذي قضى على ما تبقى من إمبراطورية الروم (البيزنطيين). فقد حاصرت جيوش الأتراك العثمانيين القسطنطينية، وعزلتها عن العالم، وحاولت أوروبا دعمها غير أنها فشلت في مساعيها. وفي 29 أيار (مايو) اقتحمت قوات المسلمين عاصمة الروم التي أعجزت المسلمين من قبل. ودخل السلطان محمد المدينة، فتوجه إلى كنيسة آيا صوفيا. واستولى عليها رسميا باسم الإسلام، وحولها إلى مسجد. وانتهى عصر، وبدأ عصر جديد. انصرف السلطان محمد الفاتح لإعادة تنظيم الدولة وتحويل (استانبول) إلى عاصمة جديرة بالدولة الإسلامية الواسعة الأرجاء، وذلك قبل انتقاله لتحقيق أول هدف له، وهو دعم الوجود الإسلامي في شمال شبه جزيرة البلقان، حيث كان المجر الأشداء في الحرب لا يزالون يتهددونها باستمرار. وكان لا بد للسلطان محمد من دعم

الوجود الإسلامي في الصرب بقوة حتى يمكن له الانطلاق لحرب المجر. وحدثت معارك كثيرة، انتهت بجعل نهر الدانوب (نهر الطونة) هو الحاجز بين قوات العثمانين المسلمين وأعدائهم. وفي سنة (1456 م) قاد السلطان محمد الجيش بنفسه إلى بلغراد وحاصرها، غير أنه لم يتمكن من فتحها، فعاد في سنة (1458 م) لمهاجتها من جديد واستطاع فتحها. وفي الوقت ذاته القضاء على التمرد في شبه جزيرة المورة. وانتقل بعد ذلك لإخضاع اليونان، وتم له ذلك في الفترة من سنة 1462 م حتى سنة 1466م. وبذلك لم يعد (للبنادقة) دور يذكر في التحريض ضد المسلمين. وأمكن بعد ذلك تدمير مقاومة الألبانيين - الأرناؤوط من البوسة إلى حدود البندقية. وتدفقت جموع الأتراك العثمانيين على أوروبا. واضطرت البندقية إلى عقد صلح شريف مع العثمانيين في 26 كانون الثاني - يناير - سنة (1479م) حيث تنازلت فيه عن جميع ممتلكاتها في ألبانيا لمصلحة العثمانيين. وفي جملتها دراج (دوراجو) وانتيغاري وأوبة ولمنوس وتايجت في المورة. توفي السلطان (محمد الفاتح) في 3 أيار (مايو) سنة 1481. فعرفت الدولة فترة من الجمود الخارجي في عهد ولديه (جم وبايزيد) واستمر ذلك في عهد (سليم وأحمد) ابني بايزيد. وعندما استتب الأمر للسلطان (سليم) انصرف لحرب الشيعة في فارس. ثم انتقل لتصفية حكم المماليك البرجية في الشام ومصر، وتم له ذلك بعد معركة (مرج دابق شمالي حلب بتاريخ 24 آب اغسطس سنة 1516)، حيث سار السلطان سليم بعدها إلى مصر، فانتصر على (طومان باي) وقتله في 21 كانون الثاني - يناير (سنة 1517 م).

وأحدثت فتح سليم ذعرا صارخا في أوروبا، حتى لقد خشي البابا (ليو العاشر) من اتحاد كلمة المسلمين مرة أخرى فشرع يعد العدة للحرب، ولتوجيه حملة صليبية جديدة بحجة حماية المسيحين من أذى المسلمين. ولعل سليما كان يفكر في استئناف خطته لتفح الغرب يوم رجع إلى (أدرنة) سنة 1518م غير أنه لم يلبث أن توفي وهو في طريق عودته إلى (استانبول) في 2 - أيلول - سبتمبر - سنة 1520 م. ورقي ابنه (سليمان - الذي اشتهر بالقانوني) عرش المملكة بدون معارضة. وانصرف أول ما انصرف إلى تحقيق أخطر ما تركه له أسلافه من مهام، وذلك بالاستيلاء على الحدود الشمالية. وتمكن العثمانيون بقيادة السلطان، من احتلال بلغراد (سنة 1021 م) , ثم إن سليمان اختصر بعد هذا النصر الحملة الشمالية ابتغاء إنفاذ خطة أبيه الأخيرة الهادفة إلى فتح (رودس)، حيث كان فرسان القديس يوحنا لا يزالون يمدون حملات القراصنة النصارى العائثين فسادا، بالمساعدة. وفي نهاية تموز (يوليو) سنة 1522، ضرب العثمانيون الحصار على القلعة. ولكن قائد المنظمة الأكبر لم يستسلم إلا في 21 كانون الأول - ديسمبر - بعد أن تكبد الجانبان المتصارعان خسائر مريعة. وبعد أن منح حرية الإنسحاب لجميع الفرسان، وتعهدت الدولة العثمانية بالمحافظة على سلامة أشخاصهم وممتلكاتهم، وبإسقاط الجزية عن أهل الجزيرة الأصليين - وهم نصارى - خمس سنوات كاملة. كانت السياسة الإفرنسية تقوم على مناهضة أسرة (هابسبورغ) (¬1) الملكية، وبذلك خطا (السلطان سليمان) خطوات ¬

_ (¬1) أسرة هابسبورغ: (MAISON DE HABSBOURG) عائلة ألمانية تكونت في =

بعيدة في تحالفه مع (آل بوربون) (¬1) من أجل تنفيذ مخططاته ضد جارته الشمالية (المجر). وما لبثت العلاقات الودية أن تطورت منذ ذلك الحين بين باريس واستانبول، فضمنت فرنسا لنفسها طوال القرون التالية مركزا ممتازا بين الدول الكبرى في كل ما يتصل بالسياسة الشرقية، غير أن ذلك لم يمنع فرنسا في بعض الفترات من الإسهام بدعم الحملات الصليبية ضد الأقطار الإسلامية، وأحيانا ضد الدولة العثمانية ذاتها 0 استأنف سليمان الحرب ضد المجر في سنة 1526. ووقعت معركة (موهاج أو موهاكس) (¬2) في 28 آب - أغسطس - ¬

_ = البداية ونشأت في إقليم السواب (SOUABE) أو بالألمانية (SCHWABEN) الذي كان دوقية وأصبح اليوم بشكل القسم الجنوبي - الغربي من بافاريا وعاصمته أوغسبورغ AUGSBOURG. وقد عرفت هذه الأسرة بثرائها الفاحش. وقد اشتقت الأسرة اسمها من قصر حصين كانت تمتلكه في سويسرا (إقليم أوكانتون أرغوفي: ARGOVIE) وقد وسعت هذه الأسرة حدودها فضمت إليها سويسرا والالزاس منذ سنة (1153 م) وشكلت بعد ذلك مملكة (إمبراطورية) في عهد رودولف هابسبورغ ضمت بالإضافة إلى أملاكها السابقة أقاليم بوهيميا وهنغاريا وإسبانيا وسيطرت على النمسا والبلاد المنخفضة وقسما من إيطاليا والعالم الجديد - أمريكا - وفي عهد الإمبراطورة ماريا تيريزا - إمبراطورة النمسا التي شنت الحروب السيليزيه ضد فريدريك الثاني (حرب السبع سنوات) توطدت عرى الصداقة مع (آل لورين) ثم جاءت عملية زواج ابنة ماريا تيريزا (من لويس السادس عشر) لتغير من علاقات هذه الأسرة، وتشكل لها فروعا جديدة. (¬1) آل بوربون: (MAISON DE BOURBON) يعود تاريخ هذه الأسرة إلى القرن العاشر الميلادي. وقد انتقلت سيادة البوربونيين عن طريق المصاهرة إلى (الدامبير: DAMPIERRE) ثم إلى الكابيسيين CAPETIENNE وبدأ فرع من هذه الأسرة بحكم فرنسا منذ حكم هنري الرابع (1089) وابنه لويس الثالث عشر. ومنهم الفرع الذي يحكم إسبانيا حاليا (خوان كارلوس). (¬2) مواهاج: (MOHACS) مدينة هنغارية تقع على الدانوب قريبا من الحدود اليوغوسلافية. وفيها انتصر السلطان سليمان على (لويس الثاني) سنة 1526. وفيها أيضا قتل الأتراك العثمانيون شارل أمير اللورين سنة (1687 م).

وانتهت هذه المعركة بمقتل ملك المجر (لويس) ومعه عدد كبير من رجال دولته. ولم تلبث (بودا) (¬1) أن سقطت في قبضة القوات العثمانية (في 11 أيلول - سبتمبر) ثم إن الحرب نشبت بين ملك النمسا (فرديناند) وأمير ترانسلفانيا (جان زابوليا) بسبب النزاع على تاج المجر، فلم يكن من سليمان إلا أن ناصر (زابوليا) على خصمه، واحتل (بودا) مرة أخرى في سنة (1529 م) ليحتفل فيها بتتويج حليفه ملكا على المجر. ومن ثم تقدم سليمان إلى (فيينا) فحاصرها، ولكن قلة المؤن اضطرته إلى رفع الحصار عنها في (15 - تشرين الأول - أكتوبر) ولم تكن حملة سنة (1532 م) أوفر حظا من سابقتها. فقد صمدت قلعة (كوسك) - المجرية الصغيرة في وجه القوات العثمانية طوال شهر آب - أغسطس - فعمل على عزل القلعة، وقطع الإمدادات عنها حتى سقوطها في قبضة العثمانيين يوم (28) من الشهر نفسه. ولكن أسطول الإمبراطور شارل الذي كان يقوده أمير البحر الجنوي (اندربا دوريا) والذي كان يعمل في نجاح على شواطىء المورة، لم يلبث أن أضاع على السلطان سليمان ثمرة انتصاره. فتم عقد معاهدة للصلح بين المجر والسلطان سليمان. غير أن الصراع لم يتوقف، وأحرز سليمان نصرا حاسما على (آل هابسبورغ) وضم إليه مساحة واسعة من بلاد المجر وفي (2 - أيلول - سبتمبر - 1543) احتلت القوات العثمانية مدينة بودا، وحولت كنيستها إلى مسجد، وأقامت إدارة عثمانية تتولى إدارة بلاد المجر. ذلك هو الموقف على الجبهة الشرقية يوم ظهر الأخوان (ذوي اللحى الشقراء). ¬

_ (¬1) بودا: (BUDA) كانت عاصمة المجر، تقع على الدانوب، ودمجت مع مدينة بست (PEST) سنة (1873) لتشكل مدينة واحدة حملت اسم (بودا - بست).

الموقف على جبهة الأندلس

3 - الموقف على جبهة الأندلس انطلقمت شرارة الحروب الصليبية من الأندلس، وصحيح أن الصراع لم يتوقف بين المسلمين وأعدائهم، إلا أن قوة الحكم الأموي في الأندلس، وتماسك المسلمين في المغرب الإسلامي، حرم الإفرنج من حرية العمل العسكري في الغرب بقدر ما حرمت قوة العباسيين الدولة البيزنطية من هذه الحرية في المشرق. وما نشب من القتال ضد المسلمين في الأندلس، اتخذ صفة الحرب المقدسة، ولم يلبث البابوات أن صار لهم يد في توجيهها. ففي سنة (1063 م) لقي (راميرو الأول - روذقير) ملك أراغون مصرعه في (غرادوس) على يد أحد المسلمين عندما قام بهجوم على المسلمين، فأثار موته خيال أوروبا. فبادر البابا الإسكندر الثاني إلى أن يعد ببذل الغفران لكل من قاتل من أجل الصليب في إسبانيا. وشرع البابا في تأليف جيش لمواصلة عمل (راميرو). وبدأت حشود المقاتلين تتدفق من كل أنحاء أوروبا لقتال المسلمين في الأندلس. واستنزف هذا الصراع المستمر من قوة العرب المسلمين حتى جاء القشتاليون فاستولوا على طليطلة سنة (1058 م). واعتبر الإفرخ بأن

استعادة (القوط) عاصمتهم القديمة هي نقطة التحول في الصراع، وذلك للانتقال من الدفاع الشامل إلى الهجوم الشامل. أعقب ذلك حركة إفاقة إسلامية عمل لها المعتمد بن عباد - حاكم إشبيليا وأقوى أمراء الطوائف - وأبرزها أمير المرابطين (يوسف ابن تاشفين). وتجلى ذلك في معركة الزلاقة سنة (1086 م). واشتدت دعوة الفرسان المسيحيين للقدوم إلى إسبانيا لمحاربة المرايطين. وبذل البابا (إيربان الثاني) المساعدة وأخطر الحجاج بأنه من الخير لهم إنفاق أموالهم لمحاربة المسلمين بدلا من إنفاق هذه الأموال في الحج إلى فلسطين. واستمرت الحملات الموجهة إلى الأندلس وتحولت إلى حملات منتظمة بعد انتزاع (وشقة) من المسلمين سنة (1096م) وباربسترو - أو بربشتر - سنة 1101. ولم ينته القرن الحادي عشر، حتى تحولت فكرة الحرب المقدسة إلى اتجاه عملي، إذ أن الفرسان والمحاربين المسيحيين لقوا التشجيع من السلطات الكنسية بأن يتخلوا عن منازعاتهم الصغيرة، وأن يتوجهوا إلى أطراف العالم المسيحي لقتال الكفرة (المسلمين). ولم يحد البابا صعوبة في توطيد سلطته على ما قام من الكنائس بالأندلس مع كل انحسار للمسلمين وتراجع فوق الأرض الأندلسية. مضت عشر سنوات على سقوط طليطلة، وعقد مجمع بياكنزا بزعامة البابا (إيربان الثاني) في سنة 1095، وأعقب ذلك انعقاد مجمع (كليرمونت) وهو المجمع الذي ضم ثلاثمائة من رجال الدين. وأعلنت الحرب الصليبية بنداء البابا (فلينطلق المسيحيون بالغرب لنجدة الشرق). وانتظمت الحملات المتتالية التي استمرت مائتي سنة. (1099 - 1291م) والتي عانى المشرق الإسلامي منها ما هو معروف من النكبات والكوارث.

خلال هذه الفترة لم يتوقف الصراع على جبهة الأندلس، وقد كان من المحال على المسلمين الأندلسيين الاضطلاع بأعباء الجهاد في سبيل الله وحدهم، فكان لهم في إخوانهم في المغرب الإسلامي ما يجتاجونه من الدعم. وتعاقب على الأندلس المرابطون فالموحدون، ثم استمر الجسر القائم بين الأندلس والمغرب في تأمين متطلبات الجهاد المستمر. حتى إذا ما انتهت الحرب الصليبية في المشرق، أصبحت الأندلس الإسلامية محاصرة في حدود مملكة (غرناطة) التي لقيت كل دعم من (بني مرين). وبذلك أمكن (لبني نصر) الاحتفاظ براية الجهاد مرفوعة فوق جنوب الأندلس لمدة مائتي سنة أخرى. وليس من متطلبات البحث هنا التعرض بالتفصيل إلى ذلك الصراع المرير، وتلك المعارك الدامية التي خاضها المسلمون في الأندلس، غير أنه من الضروري التوقف قليلا عند المرحلة الأخيرة من مراحل هذا الصراع نظرا لعلاقته بما تعرض له المغرب الإسلامي خلال تلك الحقبة التاريخية. لقد قاد الصراع ضد المسلمين خلال تلك الفترة - على ما هو معروف - (ملك أراغون فرديناند) (¬1) الذي تزوج بملكة قشتالة (إيزابيللا) (¬2) فوجد قيادة الإقليمين ضد مملكة غرناطة، ودعمهما في ¬

_ (¬1) فرديناند الخامس الكاثوليكي (FERDINAND V LE CATHOLIQUE) من مواليد سوز (1452 - 1516 م) تولى الملك في سنة (1474 م) اشتهر بأنه سياسي عنيد وجريء، تزوج بإيزابيللا ملكة قشتالة، ووحد تقريبا كل شبه الجزيرة الإيبيرية، مما ساعده على تدمير قدرة المغرب الإسلامي والقضاء على مملكة غرناطة سنة 1492. (¬2) إيزابيللا الأولى الكاثوليكية: (ISABELLE 1er LA CATHOLIQUE) ملكة قشتالة، من مواليد مدريد (1451 - 1504 م) تزوجت من فرديناند ملك أراغون ARAGON . ووحدت مملكتها قشتالة بمملكة أرا غون مما ساعد على إكمال وحدة إسبانيا، وهي الوحدة التي هدفت إلى القضاء على المملكة المغربية في (غرناطة). عملت على إقامة =

مخططاتها وزيرهما (خمينيس) (¬1). لقد خاض المسلمون في الأندلس صراعا مريرا ضد قوات متفوقة، واستصرخ المسلمون إخوانهم في المشرق (المماليك البرجية). كما استنجدوا بالدولة العثمانية، غير أن كل قوة من القوى الإسلامية كانت مشغولة بأكثر من أعبائها، فهناك كان المغول والدول الأوروبية على حدود (بيزنطة). وفي مصر والشام كان المماليك قد ضعفوا إلى درجة بات من الصعب عليهم تقديم جهد إضافي، ولا يعفيهم ذلك بدهيا من مسؤوليتهم التاريخية، ليس في ضياع الأندلس الإسلامية فحسب وإنما أيضا فيما نزل بالمغرب الإسلامي. المهم في الأمر، هو أن هذا الصراع على جبهة الأندلس دمج فيما بين الأندلس الإسلامي والمغرب الإسلامي. الأمر الذي دفع بأعداء المسلمين إلى التطلع إلى المغرب الإسلامي، واعتباره القاعدة الأساسية لقوة المسلمين التي انطلقت منها الفتوح لبلاد الأندلس، والتي استمرت طوال عهود حكم المسلمين فيها، على الرغم من كل التناقضات التي هيمنت في بعض الفترات على العلاقات الأندلسية - المغربية. لم يفقد المسلمون ثقتهم بأنفسهم على الرغم من ثقل الهجمة ¬

_ = محاكم التفتيش وشجعتها لإبادة المسلمين ودعمت وزيرها (خمينيس) لإداراتها. (¬1) خمينيس: (XIMéNéS) أو (CISNEROS) واسمه. FRANCOIS .) (JIMENESDE كاردينال: ولد في قشتالة (1436 - 1517) تم تعيينه أمينا لسر المملكة (1492) ثم كاهنا لطليطلة (1495) ثم حاكما لقشتالة حتى وفاة الملكة (1504) ثم رئيسا لمحاكم التفتيش (1506 - 1516) وفتح وهران (1509) اشتهر بقسوته الوحشية في إبادة المسلمين. وكان المحرض الأساسي لاحتلال مدن المغرب في محاولة لتنصير مسلمي المغرب.

الشاملة التي أحاطت بالمسلمين الأندلسيين في جنوب شبه الجزيرة، وهي الهجمة التي دعمها البابا عندما فرض على المسيحيين ضريبة أطلق عليها اسم (ضريبة الصليبية). ولم تعد القضية هي قضية بطولة أو تضحية في مواجهة الهجوم الشامل، ولو أن هذه البطولة وتلك التضحية التي التحمت بعقيدة الإنسان المسلم لم تعدم وجودها في يوم من الأيام ونسجتها خلال تلك الحقبة نماذج غير محدودة، لعل من أشهرها قصة (موسى بن أبي الغسان) الذي وقف في أحلك أيام (غرناطة) وأكثرها قسوة، فجابه دعاة الاستسلام للصليبيين بمقولته الرائعة: (وأي باعث لنا على اليأس. إن دم الأبطال من عرب الأندلس فاتحي هذه الديار يجري في عروقنا. وعندنا قوة وافرة، وجيوش معودة مجربة في الوقائع، لا نرتاب في إقدامها. ولدينا عشرون ألف شاب يمكنهم أن يدفعوا عن دورهم وأسوارهم أعظم قوة وأكثف جيش). وفي ذلك أيضا يقول مؤرخ إنكليزي: (إن هذه الحرب - حرب تحطيم مملكة غرناطة - هي حقبة عظيمة الشأن في تاريخ الدهر، بما تخللها من باهر الثبات والإصرار، فإن النكبات توالت فيها على المغاربة - أهل الأندلس - مدة عشر سنوات بلا انقطاع، فأخذت مدائنهم الواحدة بعد الأخرى وفنيت رجالاتهم قتلا وأسرا، وقاتلوا عن كل مدينة وبلدة وحصن وبرج، بل عن كل صخرة 0 كأنما هم ينتظرون الفتح. ولم يجدوا مكانا تثبت فيه أقدامهم، ولا جدارا يمكنهم رمي السهام من ورائه إلا واعتصموا به ينازعون عنها كل معتد، غير طامعين في أدنى غوث، تنزل على أسوارها أمة بقضها وقضيضها، لم يزالوا يدافعون عنها، كأنما هم يترقبون معجزة يرسلها

الله في حقهم) (¬1). لم تكن القضية على كل حال قضية انتظار حدوث معجزة، كما يصورها من لا يستطيعون فهم عامل الدفاع عن الدين والقدرة على الصمود في العقيدة القتالية الإسلامية. وليست أيضا الدفاع بانتظار وصول الدعم، القضية ببساطة هي قضية طلب إحدى الحسنيين (النصر أو الشهادة). فكان طلب الشهادة هو الدافع لإبراز مثل هذه الظاهرة الطبيعية في مضمون (الجهاد في سبيل الله). وذلك بصرف النظر عما تحرزه هذه الشهادة من نصر أو هزيمة. ولو أن النصر هو النتيجة الحتمية والمتوقعة لمثل هذا الصمود. غير أن صراع (القوى) على الساحة المحدودة، كان فوق كل تقويم فكانت الهزيمة وسقطت غرناطة. وعادت المغرب، بسهلها وجبلها، بمدنها وقراها تستقبل آلاف وملايين المسلمين الذين ضاقت عليهم الدنيا فرجعوا إلى قاعدتهم القوية والصلبة في (المغرب الإسلامي). أصبحت قصة محاكم التفتيش معروفة، ولا حاجة هنا للتعرض إلى ما رافقها من إحراق للمسلمين وتدمير للمساجد وتحويلها إلى كنائس وانتهاك للحرمات واستعباد للنساء والأطفال. غير أن من المفيد الإشارة إلى أن غرناطة وحدها كانت تضم نصف مليون مسلم. وقد أدت عمليات الإرهاب الوحشية إلى نزوح أهلها عنها والفرار إما إلى جبل البشرات، وإما الفرار إلى المغرب الإسلامي. واستمرت المحنة طوال أكثر من مائة سنة (1493 - 1610م) حيث استمرت هجرة الأندلس إلى المغرب والمشرق الإسلاميين. وقدر عدد الذين ¬

_ (¬1) حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا - أحمد توفيق المدني - الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائز 1976 ص 43 - 44.

غادروا الأندلس خلال هذه الفترة بنحو ثلاثة ملايين - وكان عدد أفراد الهجرة الأخيرة وحدها نصف مليون مسلم. هاجر معظمهم إلى المغرب الإسلامي، وانتشروا في مدنه وقراه، ومنهم من تابع هجرته إلى المشرق. وكان تحت حكم المسلمين في الأندلس نحو المليونين من اليهود، هاجر منهم نحو من مليون ثمانمائة ألف تفرقوا بين بلدان أفريقيا الشمالية وأقاليم الإمبراطورية العثمانية. واستقر قسم كبير منهم في عاصمة الإمبراطورية العثمانية وفي المدن القريبة منها. وما أن شعرت حكومة إسبانيا بقوتها حتى حدث لها ما يحدث لكل الدول التي تنتقل من عهد إلى عهد على أساس القوة العسكرية. فتوجهت إلى إيطاليا. وكانت قد فرضت من قبل سيطرتها على صقليا وجنوب إيطاليا ومدينة نابولي. وأرادت توسيع ممتلكاتها هناك مما أدى إلى اصطدامها بفرنسا، ووقع الحرب المعروفة باسم (حرب الستين عاما). كانت فرنسا خلال تلك الفترة تحت حكم (الملك شارل الثامن) (¬1) الذي ادعى بأن من حقه وراثة عرش (نابولي). ليس ذلك فحسب، بل إنه طالب بضم (ميلانو) إلى ممتلكاته. وحدثت معارك انتصرت فيها الجيش الإسبانية على الجيش الإفرنسية. ¬

_ (¬1) شارل الثامن (البشوش) CHARLES. VIII. L'AFFABLE ابن لويس الحادي عشر وشارلوت أميرة سافوا (1470 - 1498) ملك فرنسا اعتبارا من سنة (1483) بوصاية أخته آن. وبدأ عهده بإقامة الإتحاد العام للأقاليم، والقضاء على الثورات، واستولى على نابولي (1495) وقامت في إيطاليا ثورة عامة أرغمته على الانسحاب.

وكان يحكم ألمانيا الإمبراطور (مكسيميليان دوهابسبورع) (¬1) الذي كان من سياسته مناهضة التوسع الإسباني - الإفرنسي في إيطاليا، لا سيما وأنه كان يعتبر بأن دوقية (ميلانو) تابعة له. وتفجر هذا الموقف عن حرب أوروبية شاملة وقفت فيها فرنسا وحدها في مجابهة إسبانيا وألمانيا، وانضمت لهما إنكلترا وسويسرا وجمهورية البندقية. وعقد البابا الذي كان يشرف على محاربة الإفرنسيين (يوليوس الثاني) بين كل هؤلاء ما أسموه (العصبة المقدسة) التي أمكن لها إلحاق الهزيمة بفرنسا، مما زاد من قدرة إسبانيا وقوتها. عندما توفي الإمبراطور (مكسيميليان) عين الملوك والأمراء (شارل الخامس) أو (شارلكان) (¬2) خلفا له. وبذلك أمكن لهذا الإمبراطور جمع بلاد واسعة تحت حكمه ضمت (إسيانيا والنمسا وبلجيكا وهولندا وصقليا وسردينيا ونابولي وقسما من بلاد الجرمان) - ألمانيا - وأغلب البلاد الأمريكية التي تم اكتشافها حديثا). وأصبح باسم إمبراطوريته العظمى يقف وجها لوجه أمام فرنسا ¬

_ (¬1) مكسيميليان: (MAXIMILIEN 1) (1459 - 1519) أصبح إمبراطورا للإمبراطورية الجرمانية المقدسة سنة 1493. قاد الحرب ضد الملك الإفرنسي لويس الحادي عشر. (¬2) شارل الخامس:) (DIT 7 - CHARLES) - (CHARLES QUINT) ابن فيليب الجميل وجان المجنونة. (1500 - 1558) ملك إسبانيا (1516) ملك جرمانيا (1519) بلغ من طموحه أنه رغب في إقامة إمبراطورية عالمية. ومن أجل ذلك خاض حربا ضد فرانسوا الأول لمدة تزيد على الثلاثين عاما، وانتصر في معركة بيكوك (1522) و (بافيس 1525) حيث أخذ الملك فرانسوا أسيرا وأرغمه على توقيع معاهدة مدريد (1526) واستولى على روما ودمرها سنة (1527) وحاول الاستيلاء على تونس (1535) والجزائر (1541) غير أن محاولاته باءت بالفشل.

والإمبراطورية العثمانية. واستطاع ملك فرنسا (فرانسوا الأول) (¬1) أن يجد في تحالفه مع العثمانيين قوة كافية تضمن له النصر على أعدائه. كانت النتيجة الثانية لتعاظم القدرة الإسبانية الانتقال للعدوان على المغرب الإسلامي، وفي الواقع فقد بدأ هذا العدوان من قبل أن تسقط مملكة غرناطة، وكان ذلك بهدف عزل الأندلس الإسلامي عن قاعدة دعمها في المغرب الإسلامي. ثم تطور ذلك بعد إخراج المسلمين من الأندلس وفقا لما يبرزه جدول توقيت أبرز الأحداث التالي: السنة الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث 803 ... 1400 ... الإسبانيون يهاجمون تطوان. 818 ... 1415 ... البرتغاليون يحتلون مدينة سبتة. 818 - 841 ... 1415 - 1437 ... البرتغاليون يحتلون المرسى الكبير ويقيمون فيه ثم يطردون منه. 876 - 882 ... 1471 - 1477 ... البرتغاليون يعودون لاحتلال المرسى الكبير ثم يطردون منه. 898 ... 1492 ... سقوط غرناطة في قبضة الإسبان. 907 ... 1501 ... البرتغاليون يهاجمون المرسى الكبير ويفشل هجومهم. ¬

_ (¬1) فرانسوا الأول: (FRANCOIS I) ملك فرسا (1994 - 1547) تولى سنة (1515) بعد وفاة ابن عمه لويس الثاني عشر.

السنة الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث 911 ... 1505 ... الإسبانيون يحتلون المرسى الكبير - الجزائر -. 913 ... 1507 ... محاولة الإسبانيين احتلال وهران التي تبعد (8) كلم عن الجزائر وتدمير جيشهم في موقعة (مسرغين). 915 ... 1909 ... الإسبانيون يعيدون محاولتهم ويفتحون وهران. 916 ... 1910 ... الإسبانيون يحتلون بجاية (على مجرى وادي الصومام) ويحتلون عنابة وطرابلس ويفشلون في الاستيلاء على جربة والسلطان الحفصي يستنجد بالأخوين برباروس. 1917 ... 1911 ... الإسبانيون يستولون على (مستغانم). ويستلمون من الجزائريين جزيرة (اسطفله) المقابلة للجزائر. وكانت النتيجة الثالثة لتعاظم القدرة الإسبانية، ظهور عملية التوسع البحري التي أسهم فيها البحارة المسلمون بقسط وافر ولكن تحت راية البرتغاليين والإسبانيين. ومن المكتشفات البحرية التي رافقت هذه الفترة:

1 - إكتشاف أمريكا الجنوبية والهجرة الإسبانية إليها: (899 - 910 هـ = 1493 - 1504م). 2 - إكتشاف البرتغال لطريق الهند (فاسكو دي غاما): (904 هـ = 1498م). 3 - رحلات ماجلان البرتغالي: (925 - 929 هـ = 1519 - 1522 م).

الموقف على جبهة المغرب الإسلامي

4 - الموقف على جبهة المغرب الإسلامي تعرض المغرب الإسلامي لمجموعة من المتحولات، منذ الأيام الأولى للفتح. وإذا كانت الموجة الأولى للفتح قد وحدت بين مراكز القرى المختلفة، إلا أن انهيار الحكم الأموي، وقيام الحكم العباسي، ثم قيام الحكم الأموي في الأندلس، قد أدى إلى نوع من التمزق المؤقت الذي لم يلبث أن تمخض عن حركات إصلاحية دينية كرد على الدعوات التي أفرزتها حركة الفاطميين التي ترعرعت في المغرب الإسلامي قبل أن تنتقل إلى مصر. ولعل أفضل تعبير لتلك الحركات الإصلاحية هي ظهور المرابطين ثم الموحدين (أبناء عبد المؤمن). ولم يكن ظهور هذه الحركات وتطورها سلميا، وإنما رافقها عنف دموي لم يلبث أن ترك رواسب عميقة كان لا بد لها من أن تتفاعل لتأخذ أبعادها في التأثير على مستقبل المغرب الإسلامي. إذ ما كادت دولة الموحدين تضعف حتى ظهر نوع من استقلال مراكز القوى الناجم عن ضعف المركزية. فكان من أبرز مراكز القوى:

1 - دولة بني حفص (الحفصيون) والذين جعلوا من تونس قاعدة لهم، فكانت حدود دولتهم تمتد من طرابلس حتى شرقي الجزائر - في المفهوم الحالي للحدود. 2 - دولة بني زيان (الزيانيون) وقد جعلوا من وسط الجزائر وغربها مقرا لهم وقاعدة لكيانهم. 3 - دولة بني مرين (المرينيون) وقد جعلوا من المغرب الأقصى قاعدة لهم ومستقرا. وقد بقيت هذه الكيانات قوية، صلبة، حتى إذا ما استنزفت قدراتها في الحروب الداخلية والحروب الخارجية، وصلت إلى مرحلة من الانهيار المريع الذي فتح المجال أمام مزيد من التمزق، حتى أصبحت كل مدينة وكل منطقة مستقلة بأمورها. وانعكس ذلك على زعماء هذه الكيانات والدول فلم يبق لهم من السلطة إلا اسمها. وأمام هذا الموقف - وكما يحدث عادة في كل التجارب التاريخية - أصبحت الأقلية الحاكمة - الأوليغاركية - على استعداد للتعاون مع أي سلطة أو قوة داخلية أو خارجية للمحافظة على وجودها، فكان في ذلك القضاء النهائي على هذا الوجود. لقد تمت هذه التحولات بصورة بطيئة وتدريجية، على الرغم من ظهورها المباغت كتحولات عنيفة في بعض الأحيان. ويتطلب ذلك التوقف قليلا عند بعض ظواهر هذه التحولات. عندما انهار حكم الموحدين حاول بنو مرين (في المغراب) السيطرة على المغرب الإسلامي بكامله، فاصطدموا بقوة الحفصين (في تونس) والذين كانوا يعتبرون أنفسهم الورثة الشرعيين للموحدين وأدى ذلك إلى صدامات دامية لم تحقق الهدف المنشود في توحيد المغرب

الإسلامي , وإنما أدت إلى نتيجة مضادة تماما هي استنزاف قدرة الدولتين وإضعافهما معا. وخلال هذا الصراع المرير كان على الزيانيين (في الجزائر) دفع ثمن هذا التمزق عن طريق التناوب في الخضوع لهؤلاء وأولئك تبعا لارتفاع موازين القوى وانخفاضها. وانعكس ذلك بصورة خاصة على بني مرين (1196 - 1428م) الذين كانوا أفضل سند للأندلس الإسلامية. فانهار بذلك أقوى دعم للأندلسيين، وانتهى الأمر ببني مرين إلى زوال سلطتهم وظهور فرع منهم اقتصرت سلطتهم على (مدينة سلا) ومنطقتها (هم بني وطاس). وكان ذلك هو الموقف يوم هاجت القوات الإسبانية مدينة تطوان (سنة 1400 م) فأخذتها ودمرتها، وأبادت نصف سكانها وساقت الباقين من رجالها ونسائها سبايا وأسرى إلى إسبانيا. في حين كان ملك المغرب (أبو سعيد عثمان المريني) يحارب مملكة بني زيان بتلمسان من أجل إخضاعها. فاحتل تلمسان وطرد ملكها (أبا زيان) ونصب مكانه (أبا محمد عبد الله). وتكرر هذا الموقف ذاته (سنة 1410) عندما قاد ملك البرتغال جيشه بنفسه فاحتل مدينة (سبتة) عندما كان (أبو سعيد عثمان أيضا) يحارب (أبا حسون) من أجل تلمسان ذاتها من جديد. وأدى ذلك إلى الوضع الذي وصفه مؤرخ فرنسي بقوله: (وإن العائلات المالكة الحفصية والزيانية والمرينية، والتي كانت قبل ذلك تلمع لمعانا منيرا، قد انغمست في حروب طويلة مزمنة، وروت أرض هذه البلاد - المغرب العربي الإسلامي. بالدماء، ثم سقطت في مهاوي الانحطاط. فطوال قرن كامل لم يبق لأمراء هذه العائلات

المالكة من السلطة إلا اسمها. وكان الملوك لا يفكرون إلا في إحباط المؤامرات والفتن التي يثيرها ضدهم أفراد من عائلاتهم من أجل الاستيلاء على العرش، أو في إخماد الثورات التي تقوم بها قبائل سئمت حكم العجز والطغيان. ولقد ضربت الفوضى أطنابها في كل مكان. فكان الولايات القسنطينية، وسكان مدينة الجزائر، وأهل الشرق الوهراني، لم يبقوا معترفين بسلطة أحد عليهم. أما بالمغرب الأقصى، فإن أمراء عائلة بني مرين، قد اقتطع كل واحد منهم لنفسه إمارة صغيرة لم يكن في وسعه الدفاع عنا ضد مطامع جيرانه. فهذه الفوضى قد سهلت بصفة غريبة مهمة البرتغاليين والإسبانيين سواء في احتلال البلاد، أو في توسع منطقة نفوذهم فيها) (¬1). ويذكر مؤرخ آخر: (أن جاسوسا من الجواسيس الذين أرسل بهم - فرديناند - إلى بلاد المغرب العربي، قد أرسل إلى ملكه تقريرا مفصلا جاء فيه: إن كامل بلاد شمال افريقيا تجتاز فترة من الانهيار النفسي، ويظهر معها أن الله قد أراد أن يجعل هذه البلاد ملكا لصاحبي الجلالة المسيحية). ثم يقول: (في نهاية القرن الخامس عشر كانت الفوضى السياسية والاضطرابات، وتداخل الممالك بعضها ببعض، قد بلغت في الشمال الافريقي مبلغا لا يمكن تلخيصه في صفحات. ويصاب الإنسان بنوع من الذهول وهو يتلو قائمة الممالك والإمارات التي اقتسمت رقعة هذا الشمال الأفريقي. وكانت - وهران - تبدو وهي تحت السلطة الإسمية لبني زيان في صورة جمهورية تجارية حقيقية ¬

_ (¬1) حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا - أحمد توفيق المدني - ص 67 - 71.

مستقلة، أما مدينة بجاية فقد كانت في الفترة ذاتها تكتسب ثروة طائلة وبصفة مستقلة، من التجارة الواسعة التي كانت تتعاطاها مع البلاد الإيطالية ومن القرصنة. وكانت مملكة تلمسان تشمل بصفة غير محددة الغرب الجزائري، الحالي. وكان رجال الدولة قد تحرروا من السلطة المركزية، فكان أدعياء الملك لا يجدون صعوبة في جمع الأنصار لمحاربة السلطان القائم. وكان الأبناء يثورون ويخلعون آباءهم. كما كان الأبناء يحاربون بعضهم بعضا لاقتسام ملك أبيهم. وكانت هذه الفوضى ذاتها موجودة بالبلاد التونسية حيث آل أمر بني حفص إلى العجز التام، فكان الملك لا يملك حق التصرف، ولا في نفس العاصمة تونس، حيث كان يحتمي بحرس من المرتزقة المسيحيين. وكان جبل الرصاص على مقربة من مدينة تونس خارجا عن طاعة السلطة المركزية، بينما كانت أكثر القبائل التونسية مستقلة فعلا. على الرغم من ذلك، فقد خشي - فرديناند - أن يؤدي طرد ملك غرناطة - أبي عبد الله - إلى المغرب إلى رد فعل عنيف من جانب دول المغرب الإسلامي، غير أن الراهب (خمينيس) تمكن من إقناعه بأن لا خطر البتة من وراء إرسال ملك غرناطة إلى المغرب لأن حالة الخلاف والشقاق المستحكمة هناك لن تسمح لأهلها بالإقدام على مثل هذا العمل. واتقاء لخطر اتحاد إسلامي موسع في أفريقيا ضد الصليبية الإسبانية فقد أرسل الملك - فرديناندو - في العام 1501، وبعد سقوط غرناطة بسنوات، وفدا إلى مدينة القاهرة عاصمة دولة المماليك - يرأسه بطرس ماريتر دانغريرا - من أجل عقد معاهدة صداقة وحسن تعامل بين الإسبان ودولة المماليك التي كان يترأسها يومئذ قانصوه الغوري. وتم له ذلك.

وأثارت مشكلة السباق بين البرتغال وإسبانيا لاحتلال المغرب الإسلامي صراعا بين الدولتين كاد يؤدي إلى الحرب فيما بينهما. غير أن البابا تدخل في الأمر من أجل اقتسام النفوذ في العالم (وفقا لمعاهدة تورد - سيلاس - سنة 1495). وأعقب ذلك الاتفاق على اقتسام المغرب العربي - الإسلامي (وفقا لمعاهدة فيلافرنكا - 1509) والتي نصت على منح المغرب الأقصى للبرتغال مقابل حصول إسبانيا على المغرب الأوسط (الجزائر). وهكذا ومع بداية القرن السادس عشر، كانت دولة البرتغال تملك في المغرب الأقصى مدن (سبتة وطنجة وأصيلا وأزمور والصويرة وأسفي مع كامل مقاطعة دكالة الممتدة بين مصب نهري أم الربيعة وتنسيفت على المحيط الأطلسي). أما الإسبان فقد ملكوا بالبلاد المغربية (صخرة باديس - فاليس - ومدينة مليلة)، وانطلق الإسبانيون لتطوير الحرب الصليبية ضد الجزائر. ولقد تطلب الإعداد لهذه الحملة الصليبية الجديدة إعدادا طويلا، وإمكانات كبيرة، بدأها البابا في روما الذي عمل على وضع كل الإمكانات البشرية والمادية تحت تصرف الملوك الإسبان من أجل إبعاد المسلمين عن بلاد الأندلس أولا، ومن أجل إخضاع بلاد الشمال الأفريقي للحكم المسيحي وللدين المسيحي ثانيا. ومن أجل ذلك، أصدر البابا أمره السامي لكل المسيحيين بأن يستمروا في دفع الضريبة الصليبية (كروزادا) لملوك إسبانيا من أجل الحرب الافريقية. وجمع القساوسة والرهبان أموالا ضخمة من أجل ذلك. بل إنهم باعوا ذخائر الكنائس وكنوزها الثمينة لكي يزودوا الجيوش المسيحية بالمال والعتاد.

وعندما توفيت الملكة (إيزابيللا) تركت وصية (طلبت فيها لمن يتولون الملك بعدها بأن يحققوا الأمنية الغالية على قلبها، والتي كانت تود ولو أنها قد حققتها بنفسها لو طال بها الأجل، ألا وهي فتح افريقيا وعدم الكف عن القتال في سبيل الدين ضد الكفار - الذين هم المسلمون؟). وعندما جهزت إسبانيا تحت ضغط الكنيسة واستفزازات الراهب (خمينيس) جيشها وأسطولها لغزو المغرب العربي - الإسلامي، بادر البابا بنشر قرار يعطي به الولاية لملكي إسبانيا على كامل الأرض التي يفتحانها بهذا المغرب. وكان نفس البابا (اسكندر السادس - بورجيا الشهير) (¬1) قد أصدر سنة 1494، عهدا يبارك به الصليبية الإسبانية بأفريقية. لم تحدث عمليات الاحتلال، رغم كل التمزق والتشتت، ورغم الإطار العام الذي أحاط عملية الغزو، لم تحدث بدون مقاومة باسلة من قبل الشعب المسلم في المغرب وقد يكون من الأفضل استقراء بعض ملامح الصراع خلال هذه المرحلة لأنها توضح أسباب التطورات في المرحلة التالية. عندما أتم فرديناند ملك إسبانيا تجهيز الحملة، وهي الحملة التي مول أسطولها الكاردينال الوزير - خمينيس - بأمواله الخاصة وبما قدمته له الكنيسة من الأموال، توجه الأسطول للغزو، فغادر مالقة يوم ¬

_ (¬1) اسكندر الرابع - بورجيا: (ALEXANDRE VI BORGIA) من مواليد جاتيفا JATIVA في إسبانيا في سنة 1431، أصبح (بابا) من سنة 1492 حتى سنة 1503 م وقد مارس دورا سياسيا كبيرا حتى أطلق عليه أنه أمير أكثر منه بابا أو رجل دين - اشتهر بقسوته في تنظيم الحرب ضد المسلمين.

29 آب - أغسطس - 1505، تحت قيادة (دون رايموند دي قرطبة) وكان الأسطول ينقل معه قوة من (5) آلاف رجل (بقيادة دون ديتوفر فرنانديز دي قرطبة). ووصل هذا الأسطول إلى المرسى الكبير يوم 11 - أيلول - سبتمبر - وأحكم الحصار على المدينة لمدة خمسين يوما، وكانت الاشتباكات خلال هذه الفترة مستمرة. وكانت السفن الإسبانية تضع على مقدماتها أكياس الصوف حتى لا تصيبها قذائف المسلمين. وقد تبادلت منذ اقترابها من الساحل طلقات المدفعية النارية. غير أن دوي تلك الطلقات كان أكبر من مفعولها. وعندما بدأ الإسبانيون عملية الإنزال، قاومهم المسلمون مقاومة يائسة عنيفة، وأظهروا شجاعة كبيرة وحماسة ضارية، غير أن المدفعية الإسبانية أرغمتهم على ترك مواقعهم والانسحاب إلى الداخل. ورافقت عملية الإنزال عاصفة قوية وأمطار غزيرة، لكن ذلك لم يضعف المقاومة التي استمرت تجاهد صابرة حتى منتصف الليل، ثم استؤنفت المعركة من الغد، وكان يوم جمعة، واستمرت عنيفة قاسية طوال النهار. ثم ازدادت شدة وعنفا عندما جاء المجاهدون من الداخل، بعدما بلغهم نبأ نزول الإسبان في حمية جنونية، بينما كانت مدفعية الحصون الإسلامية ترمي الأسطول الإسبانى بقذائف من الحجارة تزن أربعين رطلا. واستمرت المعركة إلى الليل رغم استشهاد قائد الموقع الذي أصابته قذيفة مدفع إسباني. وأثناء الليل تشاور المسلمون فيما بينهم - في اجتماع عقدوه في دار المزوار - وكانت الأغلبية تميل إلى متابعة الجهاد في حين كانت الأقلية ترغب في الاستسلام وحجتها، أنه من المحال على الحامية التي لا تزيد في الأصل عن خمسمائة مجاهد التغلب على قوة خمسة آلاف مقاتل إسباني. وبالإضافة إلى ذلك فإن انتصار الإسبان يعني استباحة المدينة وأهلها. وفي النهاية انتصر المعتدلون

وتقرر مفاوضة القائد الإسباني على شروط التسليم. ولم تفلح حماسة الشاب المجاهد (موسى بن علي) بإثارة مشاعر الناس وحضهم على متابعة القتال. وافق القائد الإسباني على انسحاب المسلمين من المدينة، وحدد لهم فترة ثلاث ساعات من أجل الجلاء عن المدينة وبقية الحصون، واشترط عليهم أن لا يأخذوا معهم أي شيء من الزاد والمؤن، ولا من حيوانات الجر، ولا من الأسلحة. وأخلى المسلمون أول الأمر النساء، ثم تبعهم الرجال، وعندما تم انسحاب المسلمين في الفترة المحددة من التاسعة صباحا إلى الظهر، اقتحم الإبان المدينة، ورفعوا فوقها أعلامهم. وتوجه المركيز القائد الأعلى إلى مسجد المدينة الأعظم، فأمر بتحويله إلى كنيسة للنصارى فورا. وكرسه وباركه وأطلق عليه اسم (كنيسة القديس ميكائيل). وأقيم به القداس صبيحة الأربعاء 15 تموز - يوليو. وانصرف الإسبان على الفور لتحصين المدينة. وعندما وصل المجاهدرن وجيش تلمسان في صباح يوم السبت، وكان عددهم (22) ألفا من المشاة وألفين من الفرسان، كانت الحامية الإسبانية قد تمركزت بقوة في المدينة، وحاولت قوة من الفرسان اقتحام المدينة غير أن الحامية الإسبانية أحبطت هذه المحاولة التي وصفها أحد شهود المعركة بقوله: (لم أر في حياتي إطلاقا أبدع من هذه الفرقة المؤلفة من ثلاثمائة من الفرسان العرب التي كان يقودها - القائد ابن دالي - ولا أرهف سلاحا، سواء من حيث خيولها المطهمة البالغة منتهى الجمال، أو من حيث ذلك الجهاز الفاخر المطرز الذي كان يكسوها). وما كاد خبر الاستيلاء على المرسى الكبير يصل إسبانيا، حتى

اجتاحتها موجة من الفرح والابتهاج، وأعلن فيها العيد لمدة أسبوع، وعملت الحامية الإسبانية (بالمرسى الكبير) على فتح سوق تجاري إلى جانب المدينة بهدف تأمين متطلبات الحامية من جهة، ولإقامة علاقات مع السكان من جهة أخرى. وأغدقت الحامية الذهب والفضة على المتعاونين معها من التجار. غير أن جماعة المسلمين اعتبرت أولئك المتعاونين خونة مارقين، وعاملتهم معاملة الأعداء. وأخذت توالي إغاراتها عليهم. ثم أخذت القيادة الإسبانية في الإعداد للمرحلة الثانية من التوسع. ونظم قائد حامية المرسى الكبير (فرنانديز دي قرطبة) حملة بهدف الهجوم على (مسرغين) بإغارة مباغتة. وكانت هذه المدينة تبعد عن المرسى الكبير مسافة ثلاث مراحل. ويصل بينها طريق سهلي يمر من تحت حصون مدينة (وهران الإسلامية). وكان اتباع هذا الطريق خطرا لأن حامية وهران سترد الجيش الإسباني وستتصدى لمقاومته، ولهذا قرر اتباع الطرق الجبلية والأودية، وجند لقيادة الحملة أدلاء استأجرهم بالمال - من رجال قبيلة جيزة - التي كانت تنتشر حول المرسى الكبير ووهران، فاتخذ من بينهم أدلاء وحرسا من المرتزقين. وغادرت هذه الحملة (المرسى الكبير) في يوم 6 حزيران (يونيو) وبدأت تحركها في الساعة (21) ليلا. وقد ضمت هذه الحملة القوة الإسبانية بكاملها تقريبا بحيث لم يترك في المرسى الكبير إلا العدد الضروري لحماية المدينة وأسوارها. ودخلت الحملة في الشعاب الجبلية خلف الأدلة وهي تسير بالرتل الأحادي - على الطريقة المعروفة بالسلك الهندي - وكانت المسيرة شاقة، زاد من متاعبها حرص أفراد الحملة على تجنب إثارة أي صخب أو ضجيج. ووصلت الحملة إلى هدفها مع

الفجر، وأحاطت بدوار العرب المسلمين. وباغتته بالهجوم من كل جهاته. وذهل العرب لأول وهلة، غير أنهم استعادوا بسرعة ثباتهم، وقابلوا الهجوم بمقاومة عنيفة، وقاتلوا بعناد وشراسة، غير أن القوات الإسبانية أفادت من عاملي المباغتة والمبادأة فدمرت المقاومة بسرعة، فاستشهد المجاهدون المسلمون وهم يحملون سلاحهم، وسيق بقية الرجال والنساء والأطفال إلى الأسر، واستخدم الإسبان كل ما وجدوه من الخيول وعربات الجر لحمل الغنائم، ونظموا سيرهم، وأخذوا يعبرون المسالك الجبلية على طريق العودة. وأثناء ذلك كان بعض الرجال قد أفلتوا من المعركة وذهبوا لاستنفار القرى المجاورة. وأسرع المجاهدون (من الدواوير القريبة) لنجدة إخوانهم - الغرابة - وهم لا يبغون من الدنيا إلا إنقاذهم من الأسر والهوان، وليصونوا شرف النساء الحرائر من العربيات خوفا من أن يلحق بهن العار. ولم تمض إلا ساعة من نهار، حتى أحدق المجاهدون. بالقافلة الإسبانية التي كانت تدفع أمامها غنائمها وأسلابها وأسراها. والتحمت بين الجانبين معركة قاسية عنيفة، وكان الضباب يغطي ميدان المعركة، فلم يتمكن الإسبان من استعمال أسلحتهم، ولم يتمكنوا من رؤية أعدائهم. وقد أدخلت صيحات العرب الوحشية الفزع والهلع إلى قلوبهم، فاختل نظامهم وفقدوا الأمل في النجاه. وأثناء ذلك، كانت أنباء الإغارة الوحشية قد وصلت إلى مدينة (وهران). فبادر حاكم المدينة إلى دفع قواته لنجدة المجاهدين. ووصل الجيش إلى ميدان المعركة المتسع عبر الفجاج العميقة والشعاب الجبلية. فارتفعت أصوات التهليل والتكبير من كل جانب. واستبشر

أ - أعداء الداخل (في تنس)

المجاهدون بهذه النجدة القوية، فتزايدت حماستهم، وانقضوا على المقدمة التي تضم الغنائم والأسرى - والتي يقودها خونة جيزة - فقضت عليهم قضاء مبرما، وفكت قيود الأسرى من رجال ونساء؛ واسترجعت كل الغنائم والأسلاب. فازداد بذلك رعب الإسبان وانهيارهم. وانهال عليهم المجاهدون في سبيل الله من كل جانب، يعملون في رقابهم السيف، فكادوا يقتلون عن آخرهم، لولا أن مناديا من أهل الأندلس - المدجنين - الذين خضعوا لإسبانيا وتنصروا، نادى المسلمين باللغة العربية: (أن إأسروهم ولا تقتلوهم، فإنكم ستكسبون مالا كثيرا عندما يبعث لكم أهلهم بفديتهم). وهكذا مال بعض المسلمين عن قتل الإسبان إلى أسرهم، فأسروا بعض المئات. وسقط من القوة الإسبانية ثلاثة آلاف قتيل. وقد استطاع قائد الحملة الإسبانية النجاة بنفسه مع قوة صغيرة، بعد أن بذل جهدا كبيرا حتى وصل إلى المرسى الكبير، وأمضى بضعة أيام، توجه بعدها إلى إسبانيا لتقديم تقريره. وأرسلت الحكومة الإسبانية على أثر ذلك دعما عاجلا لحامية المرسى الكبير يضم خمسمائة محارب , وبذلك انتهت معركة (مسرغين) التي بدأت يوم 6 حزيران (يونيو) 1507 م. أ - أعداء الداخل (في تنس). عرفت الإدارة الإسبانية أنه لا قبل لها بفرض سيطرتها عن طريق القوة الغاشمة وحدها، فأخذت في العمل لاستخدام الوسيلة (التكميلية) عن طريق استثمار التناقضات الداخلية، والاستعانة بأعداء الداخل من الخونة. وتم للإدارة الإسبانية ذلك عندما أمكن لها توطيد علاقاتها مع الأعراب المحيطين (بالمرسى الكبير) والذي أطلق

ب - وهران بعد المرسى الكبير

عليهم المسلمون اسم (المغطسين) (¬1). وزاد الأمر سوءا عندما وصلت الخيانة إلى مستوى الحكم. فقد تولى عرش بني زيان (في سنة 909 هـ = 1503 م) السلطان (أبو زيان الثالث) الملقب (بالمسعود). لكن عمه (أبا حمو) ثار عليه، وأخذ منه العرش وسجنه، وهنا تدخلت الإدارة الإسبانية لاستثمار هذا الموقف. فدعمت (يحيى الثابتي) شقيق الملك المخلوع السجين (أبي زيان السعيد) ودفعته للثورة على عمه. وأمكن له احتلال (تنيس) بحراب الإسبانيين ودعمهم. وجهز (أبو حمو الثالث) جيشه لقتال ابن أخيه (بتنيس)؛ ودارت بين الطرفين معارك طاحنة، لم تحقق لأحدهما الظفر على الآخر، وبقي (أبو حمو) بتلمسان، و (يحيى الثابتي في تنيس). ب - وهران بعد المرسى الكبير: كان الكاردينال الإسباني (خمينيس) يتابع هذه الفترة تجهيز حملته الكبرى للقضاء على المسلمين في المغرب، وما أن أكمل استعداداته حتى أبحر من مرسى قرطاجنة الإسباني في يوم (16 أيار - مايو - 1509) وهو يدفع قوة من (15) ألف مقاتل بقيادة (بطرس النافاري) ووصلت هذه الحملة إلى المرسى الكبير في اليوم التالي. ونزلت إلى البر دون أدنى عائق. وكان (حاكم المرسى الكبير) قد اتخذ كل الاستعدادات لمساعدة هذه الحملة، لا من أجل النزول في المرسى فحسب، وإنما أيضا من أجل بلوغ هدفها في (وهران) وذلك عندما تمكن من شراء ذمة قابض المكوس العام لمدينة وهران (اليهودي ¬

_ (¬1) المغطسين: (MOGATEZES) وهي مقابلة للكلمة التي أطلقها المسلمون في الجزائر على الخونة المتعاونين مع الاستعمار الإفرنسي فيما بعد والتي عرفت (بالبيا عين).

اشطورا) (¬1) من أجل مساعدة قوات الحملة الإسبانية على احتلال مدينة (وهران). واستعد المجاهدون في وهران للقاء قوات العدو، واصطدموا بهذه القوات في ظاهر المدينة غير أن تفوق الإسبانيين بالقوى أرغمهم على العودة إلى المدينة للإفادة من تحصيناتها. وبينما كان المسلمون على الأسوار، كانت القوات الإسبانية تتجمع أمام أحد الأبواب الذي لم يلبث الخونة أن فتحوه فتدفقت جموع المقاتلين كالسيل الجارف تجتاح كل من يعترضها. وانسحب المجاهدون من الأسوار والأبراج للدفاع عن منازلهم، فيما كانت بقية القوة الإسبانية تتدفق من كل أبواب المدينة. ودارت مذبحة رهيبة سقط فيها أكثر من أربعة آلاف مسلم ومسلمة. وعلى الرغم من ذلك استمرت فلول المجاهدين في مقاومتها لمدة خمسة أيام (حول المسجد الأعظم في حي الفقيه). ولم تتوقف المقاومة حتى قضي على المجاهدين، وانطلقت القوات الإسبانية تقتل وتأسر وتستبيح وتنتهب وتنتهك المحرمات - على مشهد من الكاردينال خمينيس - وبمباركته. وزاد عدد الأسرى الذين استعبدهم الإسبان عن ¬

_ (¬1) كان هذا اليهودي - اشطورا - من مهاجري الأندلس، ومن الذين أنقذتهم عدالة الإسلام - والمسلمون في وهران بالذات - من المحارق الإسبانية. واستخدمه حاكم وهران قابضا عاما للمكوس في وهران. فخان المسلمين لقاء ما قدمه له حاكم (المرسى الكبير) من الأموال الضخمة والتي ساعدته على شراء ضمير القائد الخائن عيسى العريبي والقائد الخائن ابن قانص، اللذين ساعداه على فتح أبواب وهران أمام حجافل الغزاة الإسبان، والدين كافؤوه بعد ذلك بتعيينه لجباية الخراجات البرية والبحرية وتوارثها عنه بنوه (من سنة 915 - إلى سنة 980) حتى ثار عليه النصارى لجوره وظلمه وفسوقه فطردوه من البلاد , (حرب الثلاثمائة سنة ص 111 - 116).

ج - احتلال بجاية

ثمانية آلاف، ونهب رجال الحملة ما قدرت قيمته بـ (48) مليون دينار جزائري اقتسمها الجنود. وكان نصيب الكاردينال الموقر من الغنيمة وفيرا، وقد اتجه على الفور لأداء واجبه المقدس، وذلك بتحويل مساجد وهران إلى كنائس، وجعل المسجد الأعظم كاتدرائية (وكتب لمدينة وهران بعد ذلك، أن تبقى تحت ربقة الاستعمار الإسباني حتى سنة 1792). وقد نتج عن انتصار الإسبانيين في وهران مجموعة من التحولات أبرزها: 1 - خضوع بني زيان للإسبانيين، واعتراف (أبو حمو الثالث) بتبعيته وخضوعه للحكم الإسباني وتقديم جزية سنوية مقدارها إثنا عشر ألف دوقة ذهبية (ما يعادل 288 ألف دينار جزائري). 2 - خضوع رجال قبائل (بني عامر) وغيرهم من الأعراب الواقعين ضمن دائرة وهران الإسبانية للحكم الإسباني، وأصبحوا له أعوانا وجنودا وعيونا. ج - احتلال بجاية: تقع بجاية على مجرى وادي الصومام الذي يجترق الجبائل القبائلية عند مدينة (أقبو) ونظرا لأهمية موقعها، وللمكانة الدينية التي كانت تحتلها فقد كانت الهدف التالي للكاردينال (خمينيس) الذي أمضى وقتا بالاستعداد لنقل ثقل الهجوم من اتجاه المغرب إلى اتجاه المشرق. وبدأت عملية احتلال بجاية بمناورة خداعية، إذ ركب الجيش الإسباني السفن وغادر المرسى الكبير يوم 30 تشرين الثاني (نوفمبر)

1509. حتى إذا ما وصل إلى جزر (الباليئار) وصلته قوة دعم إضافية. ثم أقلع الأسطول الإسباني من جزر الباليئار بقوة (20) سفينة كبيرة تحمل (10) آلاف مقاتل، مدعمة بالمدفعية الضخمة وآلات الحصار. ووصلت قوات هذه الحملة إلى مدينة بجاية يوم 5 كانون الثاني (يناير) 1510. وبدأت المعركة على الفور بتبادل نيران المدفعية بين حامية بجاية والأسطول الإسباني. وتسلق المجاهدون مرتفعات جبال (التورايا). بهدف منع الإسبانيين من النزول إلى البر. غير أن مدفعية السفن البحرية المتفوهة ساعدت على إنزال القوات. وأسرع أهل بجاية بإخلاء المدينة من النساء والأطفال، وتم إرسالهم إلى (جيجل) فيما احتلت بقية القوات مواقعها في المدينة للدفاع عنها. قسم قائد الحملة (بدرو نافرو) قواته إلى فرقتين: واجب الفرقة الأولى مجابهة قوة المجاهدين في جبال (التورايا)، وواجب الفرقة الثانية الانقضاض على (بجاية) واقتحامها. ودارت معارك دامية أسفرت عن انتصار الإسبانيين وإبادتهم لأكثر من أربعة آلاف مسلم. وتدميرهم للمدينة دمارا تاما تقريبا، والقضاء على كل المعالم العمرانية والدينية والأثرية في المدينة. وأدى الانتصار المباشر للإسبانيين على حامية بجاية إلى تحقيق مجموعة من الانتصارات غير المباشرة والتي حصلت فيها إسبانيا على (غنائم) تزيد في حجمها وأهميتها على نتائج الانتصار المباشر، لا سيما وأن هذه الانتصارات غير المباشرة قد حدثت بدون صدام، وبدون إهراق قطرة دم واحدة، وكان من بين هذه الانتصارات - غير المباشرة -: 1 - خضوع السلطان الحفصي بتونس (أبو عبد الله عم المتوكل) للسلطات الإسبانية، وقبوله بدفع الجزية.

د - أعداء الداخل للمرة الثانية

2 - خضوع الجزائر التي أصبحت مطوقة من الشرق ومن الغرب (بجاية ووهران)، وتعهد حاكمها (الشيخ سالم بن التومي) بدفع الجزية، وموافقة أهلها على تسليم جزيرة (اسطفلة) المقابلة للجزائر من أجل إقامة قاعدة بحرية إسبانية. د - أعداء الداخل للمرة الثانية: أفاد (الملك عبد الله) ملك بجاية الشرعي المخلوع، والذي أصاب السجن بصره، من الفوضى والاضطراب اللذان رافقا اجتياح القوات الإسبانية لمدينة (بجاية) فهرب من سجنه بمساعدة بعض أنصاره الذين رافقوه إلى حيث تجمعت فئة من مؤيديه. ولم يلبث أن توجه بوفد من الأعراب لمقابلة القائد الإسباني (بيدرو النافاري). وقد عمل هذا على تقديم المساعدة الطبية (شق الأهداب) فعاد الملك عبد الله وقد أصبح قادرا على الرؤية. وأعلن الولاء لإسبانيا والخضوع لها والعمل تحت رايتها. وقرر (بيدرو) الإفادة من هذا الملك، فجهز له حملة انضم إليها بعض أنصار (الملك عبد الله). وسار بهم (بيدرو) يوم 13 نيسان (أبريل) مغادرا بجاية إلى حيث مقر (عبد الرحمن) ودارت معركة رهيبة قتل فيها عدد كبير من أنصار عبد الرحمن بمن فيهم زوجته وابنته، وغنم (بيدرو) غنائم كبيرة. وتمكن (عبد الرحمن) النجاة من المعركة ومعه عدد قليل من أنصاره. وكان (بيدرو) قد كتب إلى الملك (فرديناند) يستشيره في تعيين (الملك عبد الله) ملكا على بجاية. غير أن نجاة (عبد الرحمن) واستمراره في المقاومة حمل (بيدرو) على تعديل مخططه للإفادة من (الملكين معا) فتم الاتفاق بين (فرناندو) و (عبد الرحمن) ملك جبال البربر و (عبد الله) ملك بجاية على تقسيم مناطق النفوذ، وممارسة الحكم تحت الإشراف الإسباني. مع تقديم كل ما

تطلبه الإدارة الإسبانية من المساعدات (¬1). وأصبح الملك الإسباني (فرديناندو) بعد هذا النصر، أكثر ثقة بالقدرة على تنفيذ مخططاته، فانطلق يعلن بوضوح عن أهدافه بضرورة تطوير الحرب الصليبية. ويؤكد عزمه على مطاردة الكفار (المسلمين) إلى أن ينتزع من بين أيديهم بيت المقدس. ثم أعلن بحماسة أنه سيتولى بنفسه قيادة جيش لفتح أفريقيا. وأن يضع يده في يد فرسان جزيرة رودس من أجل الإسيلاء على مصر. غير أن الأمور لم تتوافق في مسيرتها مع ما طمع به (فرناندو). فقد انطلق الشعب في المغرب الإسلامي إلى تنظيم المقاومة. واستخدم الإسبان أبشع أنواع الإبادة. غير أن هذه الوحشية لم تقابل من المجاهدين في سبيل الله إلا بالمزيد من التصميم والعناد. وعلى سبيل المثال، فقد رفض (سكان زواوة) من رجال القبائل الأشداء الخضوع لسلطة الملك عبد الرحمن. وتنادوا بوجوب الجهاد ضد المحتل الغاصب، واعترفوا بإمارة الأمير أبي بكر الذي كان يجكم قسنطينة باسم الحفصيين. وأخذوا يوحدون صفوفهم. والتف حولهم المجاهدون من أهل التل ومن سكان الهضاب العليا , واتخذ الأمير أبو بكر مقرا لقيادته بلدة زيانية. وأخذ ينظم الإغارات باستمرار لإزعاج الإسبانيين الذين عملوا بالمقابل على توسيع (بقعة الزيت) باستيلائهم على (عنابة) سنة 1510. غير أن عملية التوسع اصطدمت بمقاومة طرابلس الضارية (والتي كانت تحت حكم الحفصيين). ولم تتم عملية احتلال (طرابلس) إلا بعد جهد كبير، والقضاء على المجاهدين. ¬

_ (¬1) انظر الملحق رقم 1 - في نهاية الكتاب والمتعلق بنص المعاهدة.

وعندما حاول (بدرو نفارو) الاستيلاء على (جزيرة جربة) حدثت معارك ضارية أعجزت القوات الإسبانية، وتكررت هذه الظاهرة عند (قرفنة)، وبذلك وصل المد الإسباني نهايته. ووجد أهل (مستغانم وتمزغران) أنه لم يعد باستطاعتهم البقاء في حالة عزلة بعد أن سيطرت القوات الإسبانية على الساحل بكامله، فقام قائد ومرابطي وشويخ مستغانم وتمزغران - مازغران - بعقد معاهدة صلح مع (فرنانديز دي قرطبة). وفي خلال هذه الفترة حدث تطور في أقصى المغرب، فقد استطاع الأشراف السعديون إعادة تنظيم أمورهم (في سنة 916 هـ = 1509 م) وتولى قيادتهم الشريف أبي عبد الله القائم وولديه أبي العباس أحمد الأعرج ومحمد المهدي. وأمكن لهم بذلك تحويل الموقف في أقصى المغرب الإسلامي، مما ترك أثره على مسيرة الأحداث التالية لذلك.

الجهاد في البحر والقرصنة

5 - الجهاد في البحر والقرصنة. عرف (ذي اللحى الشقراء) بأنهم قراصنة - ويتطلب ذلك في الواقع التوقف قليلا عند كلمة (القرصنة والقراصنة). فمن المعروف أن الصراع في البحر والإغارة على المدن الساحلية هو أمر قديم جدا، قدم ظهور البحرية ذاتها. فكانت الدول البحرية تمارس عملها بهدف النهب والسلب بالدرجة الأولى، نظرا لعدم الحاجة الكبرى للقدرة البشرية. وبقي البحر الأبيض المتوسط هو المسرح الأول للصراع بين الحضارات المختلفة بداية من المكدونيين والفينيقيين ونهاية بالرومانيين. وعندما اقتحم العرب المسلمون هذا المجال، لم تكن بهم حاجة لممارسة القرصنة، إذ أنهم استطاعوا فرض سيطرتهم على البحر، لا ينازعهم فيه منازع. وكانت الهجمات البحرية على سواحل القسم الشمالي من البحر الأبيض المتوسط تهدف إلى تأمين الفتوحات الإسلامية، فكانت ملتحمة بمفهوم الجهاد في سبيل الله. غير أن شعوبا أخرى اضطلعت بأعمال القرصنة، وأبرزها شعب النورمان - الفايكنج - (¬1) الذي أغارت قوة منه في عهد الأمير ¬

_ (¬1) الفايكنخ: (VIKINGS) شعب إسكندينافي مارس أعمال القرصنة والسلب =

الأموي عبد الرحمن بن الحكم على الأندلس بما وصفته المصادر الأندلسية كالتالي: (وفي أيامه ظهر المجوس الأرومانيين - النورمان - ودخلوا إشبيليا. فأرسل إليهم عبد الرحمن العساكر مع القواد من قرطبة، فنزل المجوس من مراكبهم، وقاتلهم المسلمون فهزموهم بعد مقام صعب. ثم جاءت العساكر مددا من قرطبة، فقاتلهم المجوس. فهزمهم المسلمون وغنموا بعض مراكبهم وأحرقوها. ورحل المجوس إلى شذونة، فأقاموا عليها يومين، وغنموا بعض الشيء. ووصلت مراكب عبد الرحمن إلى إشبيلية، فأقلع المجوس إلى لبلة، وأغاروا وسبوا، ثم إلى باجة ثم إلى أشبونة، ثم انقطع خبرهم حين أقلعوا من أشبونة وسكنت البلاد وذلك سنة 230 هـ = 844 م (¬1). تكررت العملية ذاتها في عهد الحكم المستنصر: (حيث ظهرت في سنة 254 هـ = 868 م مراكب المجوس في البحر الكبير - المحيط الأطلسي - وأفسدوا بسائط أشبونة، وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم. وأخرج الحكم القواد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بتعجيل حركة الأسطول. ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم في كل جهة من السواحل). وتطور مفهوم القرصنة عبر العصور إلى نوعين متمايزين، أولهما القرصنة القائمة على السلب والنهب (¬2) والقرصنة التي تعتبر نوعا من ¬

_ = طوال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وروع المدن الأوروبية كلها. وأغار مرات على المدن الأندلسية الإسلامية. (¬1) فتح الطيب - المقري التلمساني - دار صادر بيروت 1/ 345 - 346. (¬2) ويطلق الإفرنسيون على هؤلاء اسم PIRATERIE .

الحروب البحرية - الدفاعية - وهدفها ضرب اقتصاديات العدو (¬1) وقد شهدت الحروب الصليبية في المشرق النوعين معا. وكثيرا ما دعمت الدول (وبصورة خاصة إنكلترا) النوعين معا، حيث مضى البحارة الإنكليز - في عهد (الملكة إليزابيت) (¬2) لممارسة كافة أنواع القرصنة. ويذكر أن السبب في ذلك يعود إلى ركود التجارة الإنكليزية، وإصابة الأسطول بحالة من العطالة، بالإضافة إلى وجود آلاف البحارة بدون عمل. في حين كانت السفن الإسبانية تسير مثقلة بالثروات والكنوز وهي تمخر عباب البحر. وسرعان ما راجت أعمال القراصنة الإنكليز لا في البحر وحده، وإنما بالهجوم على المدن الساحلية الإسبانية - وبصورة خاصة على سواحل أمريكا الإسبانية، واشتهر بصورة خاصة القرصان (فرنسيس دريك) الذي قام بجولة حول العالم. وعندما عاد إلى إنكلترا محملا بالغنائم، طالب السفير الإسباني بمعاقبته، وكان رد الملكة إليزابيت أن قامت بزيارة دريك على سطح سفينته (الكلب الذهبي) ومنحته لقب فارس. وارتبطت بعد ذلك أعمال القرصنة بتجارة الرقيق نتيجة تعاظم الحاجة للقدرة البشرية (بسبب اكتشا ف أمريكا). وهيمنت إسبانيا على القرصنة وتجارة الرقيق فلم تسمح لإنكلترا بإرسال أكثر من سفينة واحدة في العام إلى أمريكا، وعندما اندلعت حرب الوراثة الإسبانية ¬

_ (¬1) ويتميز هؤلاء بما يطلق عليهم اسم COURSE . (¬2) الملكة إليزابيت: (1 ELISABETH) ملكة إنكلترا ومن مواليد غرينويتش. (1533 - 1603 م) وهي ابنة هنري الثامن. اشتهرت بحزمها ودعمها للبروتستانتية. وبدعمها للأدباء والفنانين والتجارة والاستعمار. لم تتزوج، وبها انتهى فرع تيودور TUDORS.

(1712 - 1714) انصرف هم إنكلترا إلى السيطرة على ما وراء البحار، وجردت فرنسا من ممتلكاتها، ودمرت ونهبت الأسطول الإسباني في مرات متتالية. وعندما انتهى الصراع بمعاهدة (أوتريخت - و - راستات) تضمنت المعاهدة فقرة خاصة (بمنح إنكلترا امتيازا لمدة ثلاثين سنة باحتكار تجارة الرقيق بين إسبانيا وأمريكا). قد يكون من التجني على الملكة الإنكليزية (إليزابيت) اتهامها بأنها أول من شجع تجارة الرقيق ذلك أن هذه التجارة قديمة قدم التاريخ. غير أن مجالها كان محصورا في أفق الحروب، فللمنتصر المجد وأكاليل الغار وللمهزوم الذل والعبودية والرق. ومن هنا نشأت أسواق النخاسة. وجاء الإسلام فلم يحرم الرق، وإنما أفسح المجال لإعتاق الأرقاء، ومنحهم حرياتهم ومساواتهم بالمعاملة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول من سن القدوة فأعتق عبيده. وكان المسلمون في فتوحاتهم يتجنبون الحصول على الأرقاء، ويفادونهم، غير أن الحروب الصليبية، وما لقيه المسلمون فيها على كل الجبهات، دفعتهم إلى المعاملة بالمثل؛ (فكان عدد الأسرى الأرقاء من الفرنج في القاهرة - أيام الملك العادل - يزيد على عدد جيش الإفرنح في الشام). وعندما انتهت الحروب الصليبية في الشرق، شهدت تجارة الرقيق نوعا من الجمود حتى بعثها من جديد ملوك الغرب الذين شجعوا استرقاق المسلمين، كوسيلة من جملة وسائل الحرب الصليبية الشاملة. ويذكر هنا ما أقدم عليه الملك (شارل الخامس) أو (شارلكان) الذي أقام جماعة أوروبية في جزيرة مالطا جلهم من الإفرنسيين المتعصبين للديانة المسيحية (وهم فرسان سان جاك الذين

عرفوا فيما بعد باسم فرسان مالطا. وكانوا من قبل في جزيرة رودس قبل أن يحتلها الأتراك سنة 1522)؛ وكلفهم بمطاردة المسلمين أينما وجدوا في البر والبحر وبيعهم إلى الأوروبيين. وفي الوقت ذاته، انطلقت البرتغال في تشجيع تجارة الرقيق. وبدأت منذ سنة 1013 م بشراء العبيد واقتناص الزنوج من افريقية المسلمة ونقلهم إلى المستعمرات الأوروبية في العالم الجديد، وإلى المستعمرات الإسبانية. وتقدم عدد من تجار الرقيق إلى الكاهن (خمينيس) للحصول على رخصة تحلل تجارة الرقيق، بحجة تعمير جزر الأنتيل التي أباد الاستعمار الإسباني سكانها الأصليين. غير أن الكنيسة عارضت اقتناص الأحرار ثم بيعهم عبيدا. ولكن تأثير الكنيسة بقي معدوما فيما يتعارض مع أمور الدنيا، فمضى المغامرون الأوروبيون في استثمار هذه التجارة الرابحة. وفي سنة 1517، منح ملك الغرب (شارلكان) رخصة احتكار تجارة الرقيق إلى (بريزا) الذي نقل خلال فترة وجيزة أكثر من (4) آلاف عبد افريقي إلى العالم الجديد, ودرت هذه التجارة ربحا خياليا سمع به عدد من التجار الأوروبيين الذين طلبوا من حكوماتهم رخصا مماثلة لمباشرة هذه الحرفة. وأدنت فرنسا في عهد لويس الثالث عشر (1601 - 1643 م) بممارسة هذه التجارة. وتبعتها بقية الدول الأوروبية، فنشطت بذلك تجارة الرقيق التي أصبحت شرعية وشائعة لدى الدول الأوروبية، وهي منظمة بمراسيم حكومية وقوانين معروفة. ونظرا لما كانت القرصنة تدره من أرباح، فقد حول التجار الأوروبيون كل من وقع في قبضتهم من سكان افريقية الزنجية أو

افريقية البيضاء إلى عبيد. وأدت هذه الحرفة إلى نقل ما يقرب من ثلاثين مليون افريقي إلى العالم الجديد، وتسخيرهم في الأعمال الشاقة. إذ على أكتاف الأفارقة قام التطور الإقتصادي لأمريكا الشمالية، وعمرت أمريكا الوسطى والجنوبية. وبالأسارى المسلمين، كانت تشق بعض السفن المسيحية عباب البحر. ويعترف الأب دان في مفاوضاته مع الباشا بأن عددا كبيرا من الأسارى الجزائريين مسجونين في فرنسا منهم (68) تركيا في مرسيليا وحدها. ولم يكن المسلمون في المغرب الإسلامي بمعزل عما كانت تدره النخاسة على تجارة الأوروبيين. لذلك وجهوا اقتصاد مدينة الجزائر نحو تجارة الرقيق - والعبيد المسيحيين بصورة خاصة - إلا أن الجزائر لم تكن لها مستعمرات تصرف فيها هؤلاء العبيد، فاحتفظت بهم رهائن في البلاد حتى تبادلهم بالنقود مع حكوماتهم، أو حتى تبادلهم مع الأسرى الجزائريين الذين هم في قبضة المسيحين، كما حدث بين الجزائر وفرنسا سنة (1692 م) حيث حررت الجزائر ثلاثين عبدا فرنسيا مقابل تحرير فرنسا ثمانية أتراك، وكما حدث بين الجزائر وإسبانيا سنة (1770 م) وبين دول أوروبية أخرى. ثم أخذت تنتشر في أوروبا مع نهاية القرن الثامن عشر، فكرة تحرير العبيد وتحريم النخاسة، وذلك لأن الزراعة والصناعة في أوروبا ومستعمراتها بلغت في حينها مرحلة من التقدم التي لم تعد هناك معها حاجة للقدرة البشرية. وبالإضافة إلى ذلك فقد نشبت مخاوف من أن يؤدي تكاثر العبيد الأفارقة في العالم الجديد إلى تغلب العرق الأفريقي على العرق الأوروبي، مما قد يؤدي بالتالي إلى استيلاء الأفارقة على العالم الجديد وطرد الأوروبيين منه وضياع المستعمرات؛ وهي المناطق

الغنية التي وجدت فيها الدول الأوروبية مناخا ملائما لتفريغ شحناتها من (التفجر السكاني). وجمع الأموال الطائلة لبناء اقتصادها. وهكذا، ومنذ سنة (1780 م) بدأ الصراع بين أنصار مبدأ جواز استغلال الإنسان للإنسان، وعلى رأسهم تجار الرقيق والإقطاعيين، وبين أصحاب فكرة حرية الإنسان، ومن هذا الصراع تغذت الثورة الإفرنسية التي رفعت شعار (حقوق الإنسان)، ثم أصدرت بريطانيا في سنة 1784 (قانون حماية العبيد) (¬1) الذي حددت فيه مستقبل العبيد في العالم. فاشتد بذلك تخوف الشركات البريطانية ومن أهمها شركة (ليفربول) وشركة (بريستول) اللتان كانتا تجنيان أرباحا خيالية من النخاسة، إذ كان دخلهما السنوي لا يقل عن مليون وأربعمائة ألف جنيه إسترليني. وكان دخل الخزينة البريطانية السنوي من الرسوم على النخاسة يقرب من (256) ألف جنيه إسترليني. وهكذا أخذت مصلحة الشركات والخزينة تتصارع مع فكرة تحريم تجارة الرقيق. وفي النهاية وافق مجلسي العموم واللوردات (في سنة 1794) على مشروع يتضمن تحريم بيع العبيد من طرف البريطانيين وأتباعهم للأجانب. ثم استمرت المحاولات للوصول إلى تحريم عام، إلى أن جاءت سنة 1808 حيث قرر البرلمان البريطاني في أول كانون الثاني (يناير) من السنة المذكورة، بداية التحريم النهائي والشامل للنخاسة. وشرعت قوانين العقوبات لمن يتعاطى هذه الحرفة ابتداء من سنة 1811.كما طلب البرلمان الإنكليزي من ملك بريطانيا أن يشرع في إجراء اتصالات ومفاوضات بين بريطانيا ¬

_ (¬1) قانون حماية العبيد: LA LOI DE LA CONSOLIDATION DES ESCLAVES

والدول العظمى لتعميم تحريم بيع الرقيق. وفي شهر أيار - مايو - من سنة 1814 بدأت هذه الاتصالات والمشاورات لتحريم تجارة الرقيق واحترام حقوق الإنسان المقدسة وقمع القرصنة وفرض عقوبات على الدول التي تتعاطاها. وفي 16 كانون الثاني - يناير - من سنة 1815، عقدت ثمانية دول عظمى هي بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا والنمسا والسويد وبروسيا والدانمرك مؤتمرا بباريس للنظر في هذه المشكلة. وانبثقت عن المؤتمر لجنة خاصة للعمل على إيقاف - النخاسة - إما عاجلا أو آجلا. وفرض عقوبات اقتصادية على الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان. وبذلك بادرت كل من هولندا وإسبانيا والبرتغال إلى تحريم تجارة العبيد سنة 1810 م. ثم حرمت فرنسا النخاسة سنة 1819 م. أما الدانمرك فكانت سباقة إلى ذلك حيث قررت منذ سنة 4 179 م تحريم تجارة العبيد. وأمهلته سكانها من المزارعين في المستعمرات عشر سنوات لتهيئة أنفسهم إلى تطبيق القانون الذي بدأ العمل به في أول كانون الثاني - يناير - سنة 1804. ثم تلتها السويد سنة 1813 م. وبعد مؤتمر تحريم النخاسة بعثت أوروبا قائدا من فرنسا وآخر من بريطانيا لإطلاع داي الجزائر على رغبة أوروبا في أن تتوقف الجزائر عن حرفة القرصنة، وأن توافق على قوانين تحرير العبيد وتحريم النخاسة. واستقبل داي الجزائر - وديوانه - هذين المبعوثين بسخرية، لأن القرصنة كانت المورد الرئيسي للإقتصاد الجزائري، ولأن الجزائر لم تدع إلى المشاركة في تلك المؤثمرات. وكانت مصالحها تتناقض تماما والمصالح الأوروبية، لذلك رفضت المعاهدة الأوروبية، وظلت

تمارس أعمال القرصنة إلى أن احتلت فرنسا الجزائر (¬1). يظهر من خلال ذلك. وكما كتب مؤرخ أجنبي: (بأن القرصنة لم تكن في غرب البحر المتوسط بالشيء الجديد، فمنذ قرون عديدة، كان المسلمون، وكان المسيحيون يقومون بأعمال القرصنة في البحر، ولا يحق لنا أن نغالط التاريخ. فإن القراصنة المسيحيين كان عددهم كبيرا جدا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر بهذا البحر المتوسط، ثم خفت وطأة القرصنة المسيحية بعد ذلك - بسبب نقل أفق عملها إلى المحيط الأطلسي بعد اكتشاف أمريكا - لكن القرصنة الإسلامية ازدادت ضراوة في الشمال الافريقي بعد إبعاد مسلمي إسبانيا واضطرارهم الالتجاء إلى هذا الشمال (¬2)). الأمر الجدير بالملاحظة هو ذلك الإجماع - لدى المسلمين وأعدائهم - على أن القرصنة كانت بالنسبة للمسلمين نوعا من الجهاد في سبيل الله، مسرحه البحر. وقد شهد هذا الجهاد تطورا مع نهاية القرن الخامس عشر. ذلك أنه لما سقطت القسطنطينية في قبضة الأتراك العثمانيين (سنة 1403) واشتد ساعد البحرية التركية في البحر الأبيض المتوسط، زاد نشاط المغامرين المسلمين في البحر، وكان سقوط غرناطة آخر القواعد الأندلسية في يد الإسبان (في سنة 1492 م). مع ما تبع ذلك من اضطهاد الإسبان لبقايا الأمة الأندلسية المغلوبة إيذانا بتطور المغامرات البحرية، ونزول الأندلسيين والمغاربة ¬

_ (¬1) مدينة الجزائر - نشأتها وتطورها - علي عبد القادر حليمي. الطبعة الاولى - 1972 ص 290 - 294. (¬2) الأستاذ. ف. أبروديل - المجلة الافريقية 1928 وعنها أخذ الأستاذ أحمد توفيق المدني - حرب الثلاثمائة سنة. ص 75 .

(الموريسكيين) المنفيين إلى ميدانها، واتخاذها صورة الجهاد والانتقام القومي والديني لما نزل بالأمة الأندلسية الشهيدة من ضروب العسف والإرهاق. وبدأت هذه الغارات البحرية على الشواطىء الإسبانية منذ أوائل القرن السادس عشر - عقب استيلاء الإسبان على غرناطة، وإكراههم المسلمين على التنصر؛ ففي ذلك الحين غادر الأندلس آلاف من المسلمين المجاهدين الذين آنفوا الذلة والاضطهاد. وعبروا البحر إلى عدوة المغرب، واستقروا في بعض القواعد الساحلية، مثل (وهران والجزائر وبجاية) ووهب الكثيرون منهم حياتهم للجهاد في سبيل الله والانتقام من أولئك الذين قضوا على وطنهم وظلموا أمتهم. وكان البحر يهييء لهم هذه القرصنة التي لم تهيئها الحرب البرية. وكانت شواطىء المغرب بطبيعتها الوعرة، وثغورها ومراسيها، وخلجانها الكثيرة التي تحميها الصخور العالية أصلح ملاذ لمشاريع أولئك البحارة المجاهدين والقراصنة المغيرين، وكانت مياه الجزائر وبجاية وتونس أفضل قواعدهم للرسو والإقلاع. وكانت غاراتهم على الشواطىء الإسبانية ولا سيما في المياه الجنوبية تتجدد بلا انقطاع، وتنجح في معظم الأحيان في تحقيق غاياتها، وكان حكام الثغور الغربية من تونس إلى وهران يشجعون هذه الإغارات، ويسمحون للمجاهدين بالرسو والتموين في ثغورهم. ولقد ظهر في هذا الوقت بالذات عنصر جديد أذكى موجة الغارات البحرية في هذه المياه: ذلك أن البحارة الأتراك أخذوا يندفعون نحو غرب البحر الأبيض المتوسط، وبرز منهم على الأخص الأخوان الشهيدان (عروج وخير الدين) المعروفان في الرواية الأوروبية (بارباروسا - أصحاب اللحى الشقراء).

إن الإسبان الذين قضوا على آخر معقل من معاقل المسلمين في الأندلس، سولت لهم أنفسهم أنهم باستيلائهم على المغرب الإسلامي سيتمكنون من إعادته إلى النصرانية كسابق عهده على ما يزعمون. في تلك الفترة، أنجز الأتراك العثمانيون أعظم انتصاراتهم على مسرح أوروبا ووصلت قواتهم إلى مصر. وكان من الصعب عليهم وهم يرفعون راية الإسلام، ويجاهدون لإعلائها، تجاهل تلك الأنات والزفرات التي أطلقها شهداء العدوان بالأندلس وفي المغرب الإسلامي. ومن هنا فقد جاء الدعم الإسلامي من قبل الأتراك العثمانيين بهدف دعم أبناء الغرب الإسلامي للتصدي لهذه الموجة الصليبية الجديدة. وكان الفضل في ذلك يعود للأخوين عروج وخير الدين. وقد لا يكون هناك ثمة مبالغة إذا قيل بأن المسلمين خاضوا ضد الصليبيين حربا لا هوادة فيها اشتملت هذه الحرب على معركتين حاسمتين: المعركة الأولى: كانت في المشرق العربي - الإسلامي - من مصر إلى العراق بقيادة صلاح الدين الأيوبي. المعركة الثانية: وكانت في المغرب العربي - الإسلامي - من تونس إلى أقصى المغرب بقيادة الأخوين عروج وخير الدين (أصحاب اللحى الشقراء) (¬1). ¬

_ (¬1) المرجع الرئيسي هنا هو: تاريخ الجزائر - الأستاذ مجاهد مسعود - الجزء الأول ص 70 - 77 - فصل (دور الأساطيل الإسلامية في البحر الأبيض المتوسط).

الفصل الثاني خير الدين (بربروسا)

{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [سوره النساء - الآية 75]. الفصل الثاني خير الدين (بربروسا) 1 - سنوات الصراع المرير (918 - 924 هـ = 1512 - 1018 م). أ - من جيجل إلى الجزائر. ب - الصراع في تلمسان واستشهاد عروج. 2 - خير الدين - على طريق الجهاد. أ - بناء الجزائر والجهاد في البحر. ب - خير الدين أميرا عاما للأسطول العثماني. ج - أعداء الداخل في غياب (خير الدين). د - شارلكان وغزو الجزائر. هـ - الصفحة الأخيرة في حياة (خير الدين). و- (خير الدين) وموقعه في فن الحرب.

ـ[صورة]ـ

سنوات الصراع المرير

1 - سنوات الصراع المرير (918 - 924 هـ = 1512 - 1518م) لم يكن عروج وأخوه خير الدين، وهما في قاعدتهما في (حلق الوادي) بعيدين عن مسيرة الأحداث وتطوراتها وفي الوقت ذاته كانت أخبار غزوات الأخوين تتردد بقوة في وسط المجاهدين الذين قهرتهم القوة الاستعمارية الغاشمة، وتألب عليهم حكامهم من المتعاونين مع أعداء الدين. وقام المجاهدون في صياصي جبالهم بالاتصال مع الأخوين (ذوي اللحى الشقراء) طالبين إليهما التدخل والتعاون لنصرة الدين. وجاءت نكبة (بجاية) لتزيد من خطورة الموقف. فشكل العلماء والأعيان من أهل بجاية وفدا قابل عروج وناشده إنقاذ بجاية من قبضة العدو. وكذلك فعل ملك (قسنطينة) أبو بكر الحفصي، وجمع عروج وخير الدين رجالهما، وتشاوروا في الأمر، وقرروا المبادرة بتلبية النداء، واتفقا مع جماعات المجاهدين القريبين من بجاية وفي بلاد القبائل أنهما قادمان توا، وتم الاتفاق على موعد للإلتقاء عند أسوار (بجاية). وأخذت وفود المجاهدين في الوصول إلى قرب المدينة، ونزلت جماعات من القبائل المستوطنة في جبال زواوة، فتجمع حوالي ثلاثة

ـ[خريطة]ـ أهم المدن ببلاد الجزائر في مطلع القرن 16 (حسب ما جاء من ليون الافريقي)

آلاف مجاهد تولى قيادتهم (المجاهد الموفق). وفي الوقت ذاته غادر عروج وأخوه قاعدتهما في (حلق الوادي) ومعهما خمس سفن حربية تحمل السلاح والرجال والمدافع، فتم الوصول في الوقت المحدد, غير أن أسطولا إسبانيا (عمارة بحرية) مكونا من (15) سفينة كان قد وصل إلى بجاية حاملا معه الدعم لحاميتها. وظهر أنه من المحال على القوة الإسلامية الصغيرة مجابهة الأسطول المتفوق. فقام الأخوان (عروج وخير الدين) بتنفيذ مناورة خداعية، متظاهرين بالابتعاد بقوتهما عن بجاية، وانطلق الأسطول الإسباني للمطاردة، وعندما وجد (الأخوان) أن بعض قطع الأسطول قد أصبحت ضمن مجال مدفعيتهما، قاما بانقضاض مباغت، وجرت معركة قاسية نجح فيها عروج بالاستيلاء على سفينة إسبانية وأغرق أخرى فيما لاذت بقية قطع الأسطول بالفرار. وكان من رأي خير الدين محاصرة (بجاية) بحرا وترك المجاهدين لمحاصرتها برا حتى يضعف أمرها وتحين فرصة مناسبة للانقضاض. غير أن (عروج) صمم على النزول بقسم من قواته للقيام بهجوم فوري. وتم تنفيذ ذلك. فقاد (عروج) قوة من خمسين مجاهدا. ونزل بهم إلى البر، وتقدم مستطلعا أسوار المدينة وحصونها. فيما كان أفراد الحامية يتابعون من وراء الأسوار تحركهم من فوق الشرفات، وعند اقتراب (عروج) ووصوله إلى مدى الأسلحة الفردية (البنادق) انهالت عليه وعلى قوته النيران، وأصابت رصاصة ذراعه فكسرتها. وظهر أنه من المحال متابعة الهجوم، فاضطر (عروج) للرجوع إلى تونس فورا لمعالجة ذراعه، ولم يجد الأطباء يومئذ لها من علاج إلا بترها. لكن عروج لم يواصل طريقه إلى تونس مسالما، أو مستسلما للألم من كسر ذراعه، وإنما استمر في أداء واجبه، إذ أنه اصطدم وهو في طريقه الساحلي

بسفينة معادية تابعة لمدينة جنوه الإيطالية، فهاجمها وأسرها وغنم ما فيها، ثم رجع بها إلى تونس وضمها إلى قوة اسيطيله. ولم تكن هذه المعركة - أو هذا الاشتباك الأولي - معدوم القيمة أو الفائدة، فقد ظهر لرجال القبائل الجبليين شدة مراس هؤلاء المقاتلين البحارة من المسلمين، وما يتميزون به من الشجاعة والإقدام , فكان الاشتباك هو اختبار للثقة، وبداية للتعارف وتنسيق التعاون بين القوى المختلفة، وجاء فقد ذراع عروج) عربونا لهذه الثقة. وفي الوقت ذاته، كانت هذه العملية إنذارا للإسبانيين، الذين عرفوا أن تلاحم القوى في البر والبحر سيؤدي إلى تعاظم قوة المسلمين، فعملوا فورا على طلب المزيد من الدعم من إسبانيا، وغيروا بالمقابل سياستهم للفصل بين القوى البحرية (عروج وأخيه خير الدين) والقوى البرية (الوطنية والقومية في المغرب الإسلامي) وذلك باستمالة هذه الأخيرة وإغداق الأموال عليها وذلك أمكن لهم العثور على من يتعاقد معهم لتأمين الإمداد والتموين للحامية الإسبانية. وقد أفاد (عروج) من تجربته الاستطلاعية لمدينة (بجاية)، فعرف أنه من المحال محاصرتها وخوض حرب طويلة ضدها وهو في قاعدته البعيدة في (تونس). فقرر فتح (جيجل) التي تبعد مسافة (120) كيلومترا غربي بجاية، وتحريرها من قبضة الأعداء، واتخاذها قاعدة للعمليات المقبلة يتم فيها تجميع الوسائط وحشد القوى. وكانت مدينة جيجل خاضعة لحامية إيطالية (من جنوه) منذ سنة (1260 م) وعندما قام (عروج) بهجومه الفاشل على (بجاية) أسرعت حامية (جيجل) فطلبت الدعم الذي تولى أمره المغامر

(أندريا - دوريا) والذي كان يعمل في حينها في خدمة فرنسا، فأسرع بقيادة أسطوله، ودخل (جيجل) واشتبك مع أهلها المسلمين في معركة وحشية، وأخرجهم منها , ودعم حاميتها الجنوية لتمارس دورها التجاري الذي كان لها من قبل. وعاد أهل (جيجل) المشردون فاستنجدوا (بعروج) وأعلنوا له استعدادهم لدعمه بكل ما يستطيعونه، وتم الاتفاق على موعد الهجوم، ومضى المجاهدون في استعداداتهم. وقاد (عروج) قوته البحرية ومعه إخوته، حتى إذا ما وصل (جيجل) بدأ هجومه على الفور، وتم إنزال القوات البحرية، وتأمين الاتصال مع مجموعات المجاهدين، من أهالي جيجل بصورة خاصة - وبعد معركة عنيفة وقاسية استطاع المسلمون اقتحام المدينة وإبادة حاميتها إبادة تامة. ورجع أهل البلدة إلى ديارهم، وشاركوا بقية المجاهدين في قسمة الغنائم الوفيرة التي كانت في المركز التجاري وذلك في سنة (1514 م). وتمكن عروج من تحقيق هدف مزدوج، فقد استطاع طرد أعداء الدين من بلدة إسلامية، وهي أول بلدة ينقذها على ساحل البلاد - التي أصبحت فيما بعد تدعى البلاد الجزائرية وحصل أيضا على قاعدة صلبة ومأمونة - برية بحرية - يمكن له الانطلاق منها لتطوير أعماله القتالية. وهكذا استقر عروج في جيجل تحيط به حماية أهلها الذين بادلوه إخلاصا بإخلاص ووفاء بوفاء. وكان لا يزال في حاجة لفترة من الراحة حتى تشفى جراح ذراعه المبتورة، وقد أفاد من فترة الهدوء هذه، فعمل على تطوير اتصالاته بمختلف الوفود الإسلامية التي أخذت في التوجه من كل المغرب الأوسط لتلقي عليه مسؤولية طرد أعداء الدين من بلاد المسلمين، ولتعاهده على تقديم ما تستطيعه من الدعم والمساعدة , وفي تلك الفترة، ارتفعت الاستغاثات من

الأندلس وهي تطلب الإنقاذ، نظرا لما كان يتعرض له أهلها المسلمون من العسف والجور - فتوجه (خير الدين) على رأس قوة البحرية، وما أمكن له جمعه من السفن ملبيا بالاتفاق مع أخيه أصوات الاستغاثة اليائسة حيث المستضعفون من الرجال والنساء والأطفال الذين نكث الإسبان بوعودهم تجاههم، وتنكروا للمواثيق المعقودة معهم، فأصبحوا يرغمونهم على اعتناق المسيحية تحت تهديد الإبادة. وكانت الاستغاثة تتردد بالآية الكريمة: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (¬1). وأنقذ خير الدين ما أمكن إنقاذه، نظرا لما كان يتعرض له من مضايقات الأسطول الإسباني، وانقض على جزائر الباليئار التي أصبحت تحت سيطرة الإسبانيين، واحتل (مينورقة) وأخذ أسرى من أهلها، ثم رجع إلى قاعدته في مدينة (جيجل). وفي أثناء فترة غيابه، كان أخوه (عروج) قد وطد مكانته في جهة جيجل والجبال المحيطة بها، حيث التفت حوله قبائل (كتامة) التي رأت فيه مثال الإنسان المسلم المؤمن، وأحبت صدقه وأخلاقه، فبايعته أميرا عليها، وعاهدته على دعمه والسير من ورائه إلى ميادين القتال والجهاد لإنقاذ المدن الإسلامية. وتمكن (عروج) بذلك من تكوين جيش منظم، أحسن تشكيله في مجموعة من الكتائب، ودربه على استخدام الأسلحة الحديثة والرمي بها. كما وعده الشيخ (أحمد بن القاضي -شيخ بلاد زواوة الغربية، أوكوكو) بالدعم والتأييد، وانطلق رجال الدين والعلماء وهم يحضون على الجهاد في سبيل الله، ولم تلبث الدعوة للجهاد حتى أصبحت عامة وشاملة. ¬

_ (¬1) سورة النساء - الجزء الخامس - الآية 75.

وأكمل (عروج) استعداداته، وغادر قاعدته متوجها إلى (بجاية) في شهر آب (أغسطس) من سنة 1514 وهو يقود جيشا من المجاهدين يضم عشرين ألف مجاهد. ووصل (بجاية) فأحكم الحصار حولها. واشتبك مع حاميتها في معارك قاسية. وكان يتابع في الوقت ذاته دراسة التنظيم الدفاعي للمدينة في محاولة لتحديد نقاط الضعف التي تساعد على اختراق التحصينات والأسوار. واستمرت عملية الحصار طوال ثلاثة أشهر وأدرك (عروج) بعدها صعوبة اقتحام المدينة في هذه الجولة، فقرر الانسحاب ورفع الحصار. وعاد إلى (جيجل) لقضاء فصل الشتاء فيها وكمال الاستعدادات. تحرك (عروج) في ربيع سنة 1515 لتنفيذ محاولته الثالثة من أجل تحرير بجاية، وقد اعتمد في محاولته هذه على إجراء حصار بري -بحري، فقاد قواته في البر، ووجه اسيطيله بحرا للمشاركة في العملية، حيث اقتحمت السفن مصب نهر الصومام الذي كانت مياهه غزيرة خلال ذلك الفصل من السنة مما ساعد بإحكام الحصار على المدينة. وركز (عروج) نيران مدفعيته على معقل (الحصن الصغير). واستمر في قصفه بقوة وعنف حتى تم له تدميره، والقضاء على معظم حاميته. وحاولت قوات المجاهدين اقتحام المدينة عبر انقاض القصر الصغير، غير أنها اصطدمت بالمواقع المحصنة ومراكز الدفاع القوية التي وقفت خلفها الحامية الإسبانية وهي تدافع بعناد وضراوة، وفشلت المحاولة للهجوم من ناحية البحر. وعندها وجه (عروج نيران مدفعيته إلى القصر الكبير، وأخذ يقصفه بتركيز كبير. وتقدمت قوات المجاهدين نحو القصر الكبير، واستخدمت المتفجرات والألغام

من أجل تدمير الخندق المحيط به وتدمير أسواره. وأمر (عروج) ببناء برج مرتفع فوق التل الذي يهيمن على (بجاية) حتى يراقب سير المعركة. وعمل على رفع المدافع إلى التل من أجل ضرب الأسوار بالرمي المباشر. وقرر مهاجمة المدينة هجوما عاما من كل الجهات. ووقعت معارك دموية استشهد فيها عدد كبير من المجاهدين، وقتل عدد من الإسبانيين أيضا. وقد تركز الهجوم الإسلامي على خمس نقاط حتى لا يترك للإسبانين فرصة التجمع في مكان واحد. وكانت أعمال القصف والتدمير قد استنزفت كمية البارود التي أعدها (عروج) للمعركة. فأرسل في طلب البارود من (السلطان الحفصي بتونس محمد بن الحسن) غير أن هذا السلطان امتنع عن تقديم ما طلبه (عروج) وتجاهله، فوجد هذا نفسه مضطرا لإيقاف الاشتباكات بعد أن نفذت الذخائر. وكانت مياه وادي الصومام قد تناقصت حتى لم يعد باستطاعة السفن الملاحة فيه، كما لم يعد باستطاعة هذه السفن العودة للبحر نظرا لأن الإسبانين كانوا قد حشدوا أسطولا قويا وقف يتربص خروج السفن من النهر إلى البحر. فأمر (عروج) بإحراق السفن، بعد أن استخدم قسما منها لعبور القوات. وخسرت قوات عروج ثلاثة أرباع قوتها، كما قتل في المعركة (محمد الياس) الأخ الأكبر لعروج وخير الدين، والذي كان قد نذر نفسه للعلم وحفظ القرآن والتفقه في أمور الدين إلى جانب مشاركته في الجهاد. واصطحب عروج أثناء انسحابه ستمائة أمير من المقاتلين الإسبان. وكان (عروج) قد أرسل للسلطان (سليم) عند استيلائه على (جيجل) هدية رمزية مما حصل عليه من الغنائم، وأرفق الهدية برسالة شرحت للسلطان العثماني ما يتعرض له - وأخوه خير الدين - من

أ - من جيجل إلى الجزائر

الصعوبات في جهادهما المرير لإنقاذ المسلمين من براثن الصليبية الإسبانية. وما يقدمه أبناء المغرب الإسلامي من الجهد والتضحيات ضد أعداء الدين، وما يحتاجونه من الدعم والمساعدة. فتقبل السلطان (سليم) الهدية، ورد عليها بإرسال (14) سفينة محملة بالرجال الأشداء المقاتلين مع كميات جيدة من الأسلحة والذخائر والتجهيزات، ووصل هذا الدعم عند عودة (عروج) إلى قاعدته في (جيجل) فسا عدت على رفع الروح المعنوية للمجاهدين. وزادتهم تصميما على إجراء محاولة جديدة ضد (بجاية). فتم حشد السفن والمدافع الضخمة والمواد التموينية والأسلحة والذخائر التي تكفي لحملة طويلة الأمد. وعندما كان (عروج) في سبيله للتحرك نحو (بجاية) للمرة الرابعة وصل إلى (جيجل) وفد من مدينة (جزائر بني مزغنة) وقابل (عروج) وشرح له ما يلقاه المجاهدون بمدينة (بولكين بن زيري) من عنت وإرهاق. وأكدوا إخلاص شيخها (سالم التومي) واستعداده للتعاون مع (الأتراك العثمانيين). أ - من جيجل إلى الجزائر. طلب (أهل الجزائر) إلى (عروج) إنقاذ مدينتهم من الخطر الإسباني الذي كان يتهددهم باستمرار من الحامية الإسبانية التي نزلت بحصن الصخرة - البنيون - وهو الحصن الذي حصل عليه الإسبان في سنة (1510 م) بالاتفاق مع ممثلي الجزائر. وعكف الأخوان (عروج وخير الدين) على دراسة الموقف فتبين لهم أن باستطاعة الحامية الإسبانية توجيه مدفعيتها من جزيرتها - البنيون - لتدمير الجزائر في كل وقت، ونتيجة لذلك فإن باستطاعتهم احتلال الجزائر متى شاؤوا , وأن احتلال الإسبان لهذه المدينة التاريخية الهامة،

إلى جالب احتلالهم لمدينة (بجاية) وتحويلها إلى قاعدة صلبة، سيضمن للإسبان تفوقا كبيرا، لا سيما وأن قواعدهم في وهران والمرسى الكبير ستتعزز إذا ما أمكن لهم احتلال مدينة الجزائر ذاتها وتحويلها إلى قاعدة حصينة, هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن سيطرة القوات التركية العثمانية على الجزائر سيساعد القوات الإسلامية على دعم مقاومة البلاد المجاورة في بجاية ووهران، ويضمن للأسطول الإسلامي حرية العمل من قاعدة إضافية. وهكذا قرر (عروج) الاستجابة لطلب أهل الجزائر (بني مزغنة) وصمم على السير إليها برا بما يتوافر له من القوات وتوجيه الأسطول في الوقت ذاته بقيادة أخيه (خير الدين). وغادر (عروج) قاعدته (جيجل) على رأس قوة تضم ثمانمائة من الأتراك، وثلاثة آلاف من مجاهدي الجبال القبائلية، بيىنما أبحر (خير الدين) ومعه (18) سفينة كبيرة، و (3) سفن مسلحة، (تحمل (2500) من مجاهدي المشرق الإسلامي). ووصلت القوات إلى (الجزائر) فاستقبلها أهل الجزائر استقبال الفاتحين. وسار (عروج) فورا إلى مدينة (شرشال) وطرد الإسانيين منها، ورجع إلى مدينة الجزائر. حيث اجتمع زعماؤها وأصحاب الرأي فيها وقرروا أن يسندوا إليه واجب (أمير الجهاد). وكان ذلك من أبرز أحداث الجزائر في سنة (922 هـ = 1516 م). شعر (الأمير سالم التومي - حاكم البلدة السابق) أن الأمر قد أفلت من يده، وأن عشيرته من (بني سالم) لم تعد هي القوة الأساسية، وأخذ في البحث عن الوسيلة التي تضمن له ولعشيرته استعادة ما كان لهما من نفوذ، وشعر (عروج) بأن اتصالات (سالم التومي) تثير الشكوك، وقد تؤثر على عملياته في الوقت الذي وضع فيه مدافعه في مواجهة (صخرة البنيون) وأخذ في قصف الحامية الإسبانية فيها.

فأصدر أمره بقتل (سالم التومي) (¬1). وعزز مكانته باتخاذ مجموعة من الإجراءات مثل نشر سلطانه بعد أمد وجيز على كامل السهول المحيطة بمدينة الجزائر، ورفع راياته فوق أسوار المدينة والقلاع المحيطة بها، (وكانت ألوان العلم الأخضر والأصفر والأحمر). كما بادر بسك النقود التي تحمل شعاره والتي كتب عليها (ضرب في الجزائر). أما (يحيى بن سالم التومي) فقد مضى إلى وهران بعد مقتل أبيه، يستنجد بالإسبان، ويبين لهم خطر استقرار الأتراك بمدينة الجزائر، ويستعديهم عليهم بكل سرعة حتى يعيدون إليه مشيخة أبيه على مدينة الجزائر. ولم يكن الإسبان في حاجة لمثل هذه الاستثارة، فقد أدركوا للوهلة الأولى أن استقرار عروج بمدينة الجزائر وبيعة أهلها له (أميرا على الجهاد) سيهدد كل مشاريعهم بالانهيار، وسيقضي على المخططات الصليبية في التوسع عبر أقاليم المغرب الإسلامي. ¬

_ (¬1) تذكر بعض المصادر أن عروج قتل (سالم التومي) بيده لقاء خيانته التي تؤكدها الرسالة التالية والتي وجهها أحد عملاء الإسبانيين من شيوخ العشائر إلى (الكاردينال خمينيس) وفيها: (الحمد لله، إلى مدبر الملكة القشتالية وكبيرها وخليفة سلطانها الكاردينال: بعد سلامنا عليكم نعرفكم أن ابن سلطان تنس هو ابنكم ومتعلق بكم، ومحسوب عليكم، وكذا ابن التومي صاحبكم في الجزائر، انذبح عليكم وعلى خدمتكم، وغفلتم عليه وعلى السلطان في تنس وعلى جميع من عاملكم. حاشاكم من هذا، فإن كنتم تعملون على همتكم أعزموا للجزائر قبل ما تجيء عمارة (اسيطيل) التركي، فيستولي على هذا البركة، ونحن عرفناك ولو يكون هذا الخبر عندكم , وأيضا ابن سلطان تنس كان عنده خاله الشيخ المنتصر ينفر عليه (أي يدافع عنه) واليوم مات. ما بقا لو أحد إلا الله وأنتم إذا ما عزمتم إليه، ينفسد ويفسد عليكم الحال كثيرا في هذا البر. والقائد مرتين ادرغوت عارف بكل شيء. وهو يكون عرفك بكل مقصد. وكتب لكم من مدينة مستغانم. يصل إلى يد الفاضل الشهير قرض نال (الكاردينال). عن (حرب الثلاثمائة سنة - المدني - ص 175 - 176).

وبالإضافة إلى ذلك، فإن تعاظم قوة (عروج وأخيه خير الدين) ستدمر تلك العلاقات التي جهدت إسبانيا في إقامتها مع الفئات المتعاونة معها، وهو أخطر ما كان يتهددها فقررت تنسيق الجهد مع عملائها للقيام بهجوم مباغت على الجزائر، تشترك فيه فيالق عسكرية جديدة بالإضافة إلى حامية (حصن الصخرة - البنيون) وقوات سلطان تنس، وقوات الحاقدين على (عروج وأخيه) من أمثال (يحيى بن سالم التومي) وأنصاره، وبالإضافة أيضا إلى جموع الأعراب من (بني سالم) والذين كانوا ينتشرون حول الجزائر والذين كانوا ينتظرون الفرصة المناسبة - وفقا لتقدير السلطات الإسبانية - من أجل الانقضاض على المدينة لتدمير النظام الجديد الذي أقامه (الأخوان ذوي اللحى الشقراء) والفوز بشيء من غنائمه وأسلابه. أعد الكاردينال (خمينيس) حملة جديدة ضد الجزائر، وأشرف على تجهيزها. وعين لقيادتها قائدا من أبرز القادة الأكفاء هو (دياقودي فيرا) , وأبحرت هذه الحملة في أواخر شهر أيلول - سبتمبر - (1516 م) من الموانىء الأندلسية وهي تضم (35) سفينة تحمل قوة من ثمانية آلاف مقاتل مع متطلباتها من المدفعية والذخائر، واختارت لنزولها السهل الذي يقع عليه اليوم (ربض - باب الواد) حيث كان يصب وادي المغاسل في البحر. وكان (عروج) وقادة المجاهدين معه من أبناء الجزائر يتابعون الموقف، فوضعوا مخطط عملياتهم كالتالي: أولا: السماح للقوات الإسبانية بالإنزال مع عدم تقديم مقاومة كبيرة. ثانيا: ترك معظم القوى الإسلامية في حصون المدينة ووراء أسوارها، وعدم زجها إلا في الوقت المناسب.

ثالثا: استنزاف القوة الإسبانية بعمليات خاصة - إغارات وكمائن - وذلك عند انتشار هذه القوة حول المدينة، ثم زج كتلة القوات الرئيسية بعد إضعاف القوة الإسبانية وتدمير روحها المعنوية. ومقابل ذلك وضع قائد القوة الإسبانية مخططه كالتالي: أولا: إنزال القوات والأسلحة إلى المنطقة الساحلية، وإقامة معسكر لها في المرحلة الأولى. ثانيا: تسلق المرتفعات المحيطة بالجزائر، فيما يلي الأسوار، واحتلال موقع القصبة، والإشراف منه على المدينة، وقصفها بالمدافع. ثالثا: إنتظار الجيش الذي سيقود. (سلطان تنس) ومهاجمة المدينة بقوة. في الوقت الذي يكون فيه عملاء الإسبان قد اضطلعوا بتنفيذ المؤامرة لضرب الجيش الإسلامي من الداخل. أخذ كل من الجانبين في تنفيذ مخططه بدقة وعناية. فدارت المعركة بسرعة مذهلة، ولم تستمر أكثر من أيام قليلة، وتم التنفيذ على النحو التالي: نزل الجيش الإسباني إلى السهل بدقة ونظام محكمين في يوم 30 أيلول - سبتمبر - 1516. وأخذ في تسلق المرتفعات المؤدية إلى حي القصبة خلف المدينة طوال يومي 1 و2 من تشرين (الأول - أكتوبر. وانطلقت زمر المجاهدين التي تركها (عروج) حول تلك المرتفعات خارج الأسرار، فأخذت في الاشتباك مع الإسبانيين، وتوجيه الضربات إليهم بصورة مباغتة وسريعة من كل الاتجاهات، والانسحاب قبل أن يتخذ هؤلاء إجراءات مضادة، ووقفت القوات الإسبانية أمام مأزق حرج وهي تتحرك بين الأسوار الحصينة من جهة

وبين زمر المجاهدين المنتشرين في كل مكان من جهة أخرى. وأصيبت القوات الإسبانية بأول خيبة أمل عندما طال انتظارها لوصول (جيش تنس) بدون أن تظهر ولو بادرة واحدة تشير إلى احتمال ظهور هذا الجيش وأصيبت القوات الإسبانية بخيبة أمل ثانية عندما لم يقم عملاؤها بحركة تمرد داخل الجزائر تفتح لهم أبواب المدينة فيقتحمونها بحد أدنى من الجهد. وزاد حجم الضربات الموجعة التي كان يوجهها المجاهدون، ولم يبق أمام قائد القوات الإسبانية إلا الانسحاب في اتجاه الساحل للتوقف في السهل تحت حماية مدفعية الأسطول القوية. وكان هذا التحرك هو ما ينتظره (عروج) إذ ما كادت القوات الإسبانية تقوم بتراجعها حتى فتحت الجزائر أبوابها، وأطلقت مجاهديها دفعة واحدة حتى لم يبق فيها رجل يستطيع حمل السلاح إلا وانطلق إلى ميدان المعركة وكانت قوات المجاهدين المسلمين تتكون من: 1 - الأتراك أصحاب عروج، وهم فئة قليلة، انحصر واجب أفرادها بقيادة القوات والتقدم أمامها. 2 - رجال الأندلس المهاجرين، والذين قال عنهم الملك الإسباني (فيليب الثاني) (¬1) لسفر فرنسا في بلاطه (فوكفولس)، , (يوجد في مدينة الجزائر خمسة عشر ألفا ممن يحسنون استخدام الأسلحة النارية من بينهم عشرة آلاف من العرب المسلمين الذين أخرجوا من ¬

_ (¬1) فيليب الثاني: (PHILIPPE II) ابن شارل الخامس (شارلكان) وإيزابيلللا البرتغالية، وهو من مواليد مدينة ابن الوليد (VALLADOLID) (1527 - 1598) . اشتهر بتعصبه الشديد للكاثوليكية، واعتماده المطلق على القوة المسلحة لفرض هيمنة إسبانيا الكاثوليكية وبناء عظمتها، بهدف السيطرة على فرنسا، غير أن محاولاته العسكرية ومغامراته باءت بالفشل وكذلك فشل أسطول (الأرمادا) الذي بعث به إلى إنكلترا في =

إسبانيا في السنوات الأخيرة، وهم من خيرة الجنود). 3 - المقاتلون من سكان المدينة ذاتها، والذين كان الإسبان يعتقدون بأنهم سيكونون عونا لهم في هذه المعركة. تدفقت قوات المسلمين وهي تندفع كالسيل لتجتاح في طريقها قوات العدوان الصليبي وهي تردد صيحة الحرب (الله أكبر) ورددت جبال الجزائر أصداء المعركة. فأقبلت جموع المجاهدين لترفد المعركة بالمزيد من القدرة والشدة. وعم الرعب والفزع في صفوف القوات الإسبانية التي فقدت قيادتها السيطرة عليها. فهيمن الاضطراب على كل تحركاتها. ولم يبق هناك من مجال أمامها إلا العودة للسفن، في حين كانت قوات المجاهدين تسد على هذه القوات كل المنافذ وتعمل فيها قتلا وأسرا. وزاد من محنة القوات الإسبانية هبوب عاصفة هوجاء حطمت على صخور (باب الواد) نصف قوة الأسطول الإسباني، وبات من الصعب على فلول القوات الوصول في وسط هذا الهياج إلى السفن التي كان يضرب بعضها بعضا، وقد ازدحمت لإنقاذ ما يمكن لها إنقاذه. وتركت فلول القوات الإسبانية، كامل متاعها وجميع تجهيزاتها ووسائطها بالإضافة إلى ثلاثة آلاف قتيل وثمانماثة أسير. دعم هذا النصر العظيم من ثقة المجاهدين بقدراتهم وإمكاناتهم، ورفعت من روحهم المعنوية التي أحبطتها الانتصارات الإسبانية السابقة، فأقبل سكان سهل متيجة (متوجة) وهم يعلنون ولاءهم المطلق وتأييدهم للنظام الذي شرع (عروج) بإقامته على أرض الجزائر وانضمت لإمارة الجزائر مدن: (البليدة ومليانة

_ = الوصول إلى هدفه، حيث مزقته العواصف العاتية، وعندما توفي ترك إسبانيا في حالة من الاستنزاف المطلق والانهيار الاقتصادي التام.

والمدية) وما يحيط بها من القرى (الدوارات) كما اعترفت به وأقرت بسيادته بلاد الجبال (القبائلية). وأصبحت إمارة الجزائر تمتلك الهيبة والقدرة. كان (خير الدين) وأسطوله في قاعدة (جيجل) عندما حدثت المعركة الظافرة، وعندما بلغه انتصار المجاهدين قاد أسطوله المكون من عشر سفن، وأرسى به في مدينة الجزائر على الرغم من وجود الحامية الإسبانية في قلعة الصخرة. وكان عروج وخير الدين يعرفان أن الإسبان لن يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه ما نزل بهم من هزيمة، وأنهم لن يتخلوا عن احتلالهم للجزائر بسهولة، فبادر عروج وخير الدين لتحصين مدينة الجزائر وتنظيم الدفاع عنها. وأسرع أبناء الجزائر لبناء الأسوار الضخمة والقلاع الحصينة بسواعدهم القوية تدفعهم حماسة لا حدود لها وإيمان لا يوصف. قرر عروج استثمار النصر للقضاء على النظام العميل الذي أقامه الإسبان في (تنس) وعينوا لإدارته (يحيى بن سالم التومي -الزياني) ووعدوه بتوسيع إمارته لتشمل (تلمسان) بعد انتصارهم على سلطنتها التي آلت إلى (حميد العبيد - من بني مهل). وقد اتخذ (عروج) قراره هذا بعد أن ولغ (يحيى بن سالم التومي) في دماء المسلمين. وبعد أن شجع الإسبان على غزو الجزائر وواعدهم على تقديم الدعم - ولو أنه لم يفعل - وعلى هذا، قاد (عروج) قواته برا حيث غادر الجزائر في شهر حزيران (يونيو) سنة 1517 ومعه ألف تركي وكتائب من المجاهدين الأندلسيين. وفي الوقت ذاته تولى (خير الدين) قيادة القوة البحرية. كان سلطان (تنس) يحيى بن سالم التومي. قد تلقى دعما إسبانيا يتكون من خمسمائة مقاتل بالإضافة إلى اسيطيل يضم أربعة سفن،

وعندما علم بتحرك عروج وأخيه خير الدين قاد ما لديه من القوة إلى (واد الجر) على بعد خمسة مراحل من (البليدة). وكان من المقدر له أن يخسر المعركة مسبقا إذ تخلى عنه معظم المسلمين في (تنس). وهكذا فما أن وصل (عروج) وقواته حتى دارت على الفور معركة قصيرة وحاسمة انتهت بهزيمة قوات (السلطان التومي) وتمزقها شر ممزق، ودخل جيش الجزائر الظافر مدينة (تنس) وركب الإسبان سفنهم وغادروا المدينة على عجل، وقتل السلطان التومي. وانصرف بعد ذلك (عروج) لإعادة تنظيم الإقليم، فقسمه إلى قسمين إداريين: مقاطعة شرقية يتولى إدارتها خير الدين ومركزها الإداري مدينة (دلس). ومقاطعة غربية يتولى إدارتها عروج بنفسه ومركزها الإداري مدينة (الجزائر العاصمة) وغادر خير الدين مدينة تنس بعد الفتح، وذهب إلى دلس فافتتحها بدون مقاومة تذكر، وانصرف لإدارة أمورها. ولم يكد (عروج) ينهي تنظيم أمور البلاد تنظيما أوليا حتى وفد عليه أهل (تلمسان) يستنجدون به لإنقاذهم مما نزل بهم على أيدي سلطانهم الزياني (أبو حمو الثالث) الذي زاد عسفه باعتماده على الإسبانيين الذين أعادوا تنصيبه على (عرش تلمسان) وأعانوه ضد الملك الشرعي (أبي زيان) الذي تم إيداعه السجن بعد انتصار (أبو حمو الثالث). وتبع ذلك صراعات مريرة واغتيالات كثيرة مزقت شعب المدينة الواحد، وأسلمته إلى حالة رهيبة من الفوضى والاضطراب. وضع الأخوان ذوي اللحى الشقراء (عروج وخير الدين) هدفا لهما وهو تحرير المغرب الأوسط (الجزائر) من الإسبانيين الصليبيين. وكان هذا الهدف يتطلب بالضرورة طرد القوات الإسبانية من

ب - الصراع في تلمسان واستشهاد عروج

القاعدتين الأساسيتين وهما بجاية (شرقي مدينة الجزائر) ووهران والمرسى الكبير، غربيها. ولقد أبرزت مسيرة الأحداث أن المنطقة الغربية هي الأكثر خطورة، إذ أن مصدر التهديد هنا لم يعد ممثلا بالقوات الإسبانية وحدها. وإنما أضيف إليه خطر (الزيانيين) الذين ربطوا سلطتهم وقوتهم بالاحتلال الإسباني، هذا بالإضافة أيضا إلى الخطر المتعاظم للبرتغاليين والذي لم تنجح مملكة (بني وطاس المرينية) من وضع حد له أو إيقافه. وهكذا جاءت استغاثة أهل (تلمسان) متوافقة مع ما كان يطمح الأخوان (ذوي اللحى الشقراء) لتحقيقه , فمضى (عروج) في إعداد العدة لنجدة (أبي زيان) المقيم سجينا في تلمسان، ولدعم شيعته وأنصاره في صراعهم ضد القوات الإسبانية. ب - الصراع في تلمسان واستشهاد عروج. ما إن أتم (عروج) استعداداته حتى اندفع بجرأة في اتجاه (تلمسان) وهو يقود قواته عبر الهضاب الداخلية بهدف تجنب الاصطدام بالحاميات الإسبانية المنتشرة على محيط (وهران). وعندما وصل إلى (هوارة) قلعة (بني راشد) اتخذ منها قاعدة لحماية خطوط مواصلاته، نظرا لما كان يتوافر لها من الميزات الدفاعية، ونظرا لموقعها المناسب حيث كانت تبعد مسافة (25) كيلو مترا عن (معسكر) وتبعد عن (مستغانم) نحوا من (55) كيلو مترا. ووضع في القلعة حامية تضم ستمائة مقاتل. وكلفهم بتنفيذ عمليات صغرى لإزعاج الإسبانيين في (وهران) وحرمانهم من حرية العمل أو التحرك. ثم مضى بالجيش الجزائري حتى وصل (سهل أربال) حيث كان (أبوحمو الثالث) قد أقام معسكره هناك ونظم قواته التي ضمت ثلاثة آلاف راجل - من المشاة -

وستة آلاف فارس. غير أن هذه القوة على ضخامة حجمها لم تصمد لصدمة جيش الجزائر الذي يقوده (عروج) فتمزق بسرعة، ومضى (عروج) لمتابعة تقدمه بسرعة مذهلة حتى وصل (تلمسان)، التي استقبلت قوات الجزائر بالفرحة العارمة. وخرج (أبو زيان الثالث المسعود) وتولى سلطانه، غير أن الفتن ما لبثت أن عادت للظهور بين أطراف الزيانين ذاتهم، هؤلاء المؤيدين لأبي زيان وأولئك أنصار (أبو حمو) وبينهما أنصار الإسبانيين وعملاءهم. وتعاظمت الفتنة إلى درجة حملت (أبو زيان) على إعلان تمرده على (عروج) الأمر الذي أرغم هذا على العودة إلى تلمسان وقتل سلطانها وجماعة من قرابته وأنصاره بالإضافة إلى قادة الفتنة وزعماء المشاغبين. وفي تلك الفترة، كان (أبو حمو) قد جمع بعضا من فلول قواته الممزقة، ومضى بها إلى مدينة (فاس) غير أنه لم يستقر بها طويلا، فمضى إلى مدينة (وهران) حيث وضع نفسه تحت حماية حاكمها العام الإسباني، مستمدا منه العون والدعم حتى يستعيد ملكه وسلطانه. كان ملك إسبانيا الجديد (شارل الخامس - أو شارلكان) يتابع تطورات الموقف في المغرب الإسلامي. فأرسل إلى الحاكم العام في (وهران) يأمره باستخدام كل إمكاناته لانتزاع تلمسان من قبضة المسلمين الجزائريين وإعادة (أبو حمو - أو أبو قلمون كما كانوا يسمونه) إلى حكم إمارته (تلمسان) ودعمه بالاعتدة وبقوة مقاتلة بلغ عدد أفرادها عشرة آلاف مقاتل. خرج (أبو حمو) من (وهران) في أواخر شهر كانون الثاني - يناير - 1518، ومعه جموع من الأعراب بالإضافة إلى فرقة من الجيش الإسباني، وتمكنت هذه القوة من مباغتة قلعة (بني راشد) بهجوم

قوي لم تصمد له حامية القلعة، على الرغم مما أظهرته من المقاومة الضارية، فاضطرت إلى الانسحاب بعد أن تم الاتفاق مع (أبي حمو) على السماح لبقية القوات بالخروج سالمة للتوجه نحو تلمسان. غير أن قوات (أبي حمو) غدرت بالوعد ونصبت كمينا دمرت بواسطته بقية أفراد الحامية التي كانت تدافع عن القلعة. تابع (أبو حمو) تقدمه نحو تلمسان، وفي هذا الوقت تم إنزال قوة إسبانية أخرى زج بها حاكم وهران، وأنزلها في بلدة (رشقرن) الساحلية لدعم الهجوم البري. وسارت هذه القوق بسرعة نحو تلمسان على الطريق الساحلي حيث التقت مع قوات (أبي حمو) على أبواب تلمسان، وضرب حصار قوي ومحكم على المدينة. تولى الدفاع عن (تلمسان) (القائد عروج) ومعه حاميته الجزائرية - التركية. ووقعت معارك قاسية في ظروف غير متكافئة، وعلى الرغم من التفوق الساحق للإسبانيين وعميلهم (أبو حمو) فقد نجح عروج وحاميته في قيادة وخوض حرب دفاعية يائسة استمرت لمدة ستة أشهر كاملة نجح الإسبانيون بعدها في تدمير أسوار المدينة بالقصف المدفعي المستمر، وأمكن لهم بالتالي اقتحام المدينة، ولم تستسلم الحامية، فانتقلت لخوض الصراع في الأسواق والمنازل، وانسحب بعدها عروج وبقية قواته إلى (قلعة المشور) وأعادوا تحصينها وتنظيم الدفاع عنها والتمركز فيها بانتظار وصول دعم من قبل ملك فاس الوطاسي المريني الذي كان قد اتفق مع عروج على دعمه , وقد أرسل الملك المريني جيشا لدعم عروج ومساعدته على تطوير الدفاع عن تلمسان ضد الإسبانيين وأنصارهم. لكن ذلك الجيش اتبع طريق (مليلة) في تحركه، وهو طريق طويل، فلم يتمكن من الوصول إلى

ميدان المعركة في الوقت المناسب، واضطر إلى العودة بدون أن يشترك فعليا بالقتال. وشددت القوات الإسبانية قبضة الحصار على (قلعة المشور) وتكبدت الحامية خسائر فادحة حتى لم يبق مع (عروج) أكثر من خمسمائة تركي. غير أن إرادة القتال لم تضعف لدى هؤلاء المجاهدين الذين صمموا على متابعة المعركة حتى نهايتها. وجاءت هذه النهاية سريعا، فقد تقدمت جماعة من المسلمين إلى (عروج) في صبيحة يوم عيد الفطر تستأذنه في السماح لها بممارسة عادتها في إقامة صلاة العيد بمسجد (المشور)، ووافق (عروج) على ذلك، وما إن دخلت هذه الجماعة إلى الحصن، حتى انتضت سيوفها وأخرجت أسلحتها التي كانت تخفيها في طيات الثياب. وانقضت على الحامية التركية التي بوغتت بهذه الهجمة. فسقط عدد من أفراد الحامية، وتمكن البقية من استعادة سيطرتهم على أنفسهم بسرعة، فأعادوا تنظيم دفاعهم، وانقضوا على هؤلاء الغادرين، ونجحوا في القذف بهم إلى خارج الأسوار، وأعادوا تنظيم أمورهم، غير أن الخسائر الفادحة التي تكبدتها الحامية أقنعت عروج بضرورة الخروج من هذا المأزق. فقرر شق طريقه عبر القوات القائمة على الحصار، والوصول إلى الساحل حيث تتوافر له فرصة أفضل لجمع الأنصار وتنظيمهم، ريثما يتمكن أخوه (خير الدين) من إرسال قوة دعم بحرية تحمل دعما جديدا لقواته. ونظم (عروج) قوته وانطلق بها من (قلعة المشور) حيث اتجه نحو الغرب عبر الممرات الضيقة المؤدية إلى الساحل، وعندما وصل إلى (جبال بني سناسن) أحاطت به قوة إسبانية تضم خمسين فارسا

بقيادة (غارسيادي لابلازا) ودارت مذبحة ضارية في ظروف غير متكافئة. ودافع (عروج) عن نفسه بثبات وعناد لا يمكن وصفهما -مستخدما في ذلك يده الوحيدة - حتى لم يبق معه أكثر من عشرة رجال سلكوا مسلكه، وأظهروا مثل ثباته وعناده بعد أن تحصنوا بجدران (زاوية سيدي موسى). وعندما أبيد هؤلاء الرجال العشرة، وقف (عروج) وجها لوجه أمام خصمه (غارسيا) واستمرت المبارزة بينهما حتى سقط الاثنان بضربتين قاتلتين متبادلتين. استشهد (عروج) كأفضل ما يكون عليه الاستشهاد، ومضى إلى حيث سبقه أخواه من قبله، وأدى واجبه في الدفاع عن الإسلام والمسلمين حتى آخر نقطة من دمه (¬1) غير أن حجم الكارثة كان أكبر من كل تصور، فمضى الإسبان في فرحتهم، وخيم الحزن والأسى على مدينة الجزائر. وكانت الصدمة قوية بصورة خاصة بالنسبة (لخير الدين الذي عرف حياة الجهاد من خلال أخيه، غير أن شعور أهل الجزائر بالصدمة لم يكن أقل من شعور خير الدين، ذلك أنهم وضعوا آمال مستقبلهم على عاتق (عروج) كما شعروا معه بحلاوة النصر على أعداء الدين. وعرفوا قبل ذلك وبعده أهمية الدور الذي يمكن للمغرب الأوسط (الجزائر) الاضطلاع به في قيادة الجهاد في سبيل الله .. ¬

_ (¬1) انظر قراءات (3) في آخر الكتاب.

خير الدين على طريق الجهاد

2 - خير الدين على طريق الجهاد ترددت أصداء كارثة (تلمسان) بقوة في ضمائر أبناء الجزائر الأحرار، واجتمع المسؤولون فيها من الشيوخ والزعماء - أهل الحل والعقد - لمناقشة الموقف بعد استشهاد (عروج) وقرروا أن يسندوا إلى (خير الدين) واجب (إمارة الجهاد) بعد أخيه، وألحوا عليه في ذلك، لكنه اعتذر عن قبول الإمارة، وأعرض عنها، وأبلغ المسؤولين في الجزائر أنه يعتزم السفر إلى عاصمة الخلافة (استانبول) على أمل الحصول على أسطول جديد يساعده على متابعة الجهاد في سبيل الله في البحر, وأجابه علماء الجزائر: بأن الله يوجب عليه الجهاد في هذه المدينة - الجزائر - لحماية المسلمين، وأن الدين لا يسمح له بتركها نهبا للمفترسين، فأجابهم عندئذ بقوله: (لقد بقيت منفردا دون أخوتي - الذين استشهدوا جميعا فوق أرض الجزائر - وقد رأيتم ما فعله بنا صاحب تلمسان من بني زيان، واستعانته علينا بغير ملتنا حتى كفانا الله أمره. وصاحب تونس الحفصي الذي لا يرى ضرورة نصرتنا وإعانتنا والذي أسلمنا للعدو بمنع البارود عنا - أثناء حملة بجاية - لولا لطف الله. فالرأي هو أن نصل

أيدينا بالقوة الإسلامية - وهو السلطان سليم خان - ونعتمد عليه في حماية هذه المدينة، ولا يكون ذلك إلا ببيعته والدخول في طاعته، والدعاء له في الخطب على المنابر، وضرب السكة - النقود - باسمه، لنتفيأ ظل حمايته. فاستكانوا لذلك ورضوا به، وأعلنوا بالدعاء له على المنابر. وكتبوا بذلك للحضرة السلطانية، وبعثوا له من السكة باسمه في الجزائر). قرر الجزائريون بذلك أن تكون دولتهم الفتية جزءا من الإمبراطورية العثمانية الضخمة، ووافق خير الدين على البقاء مؤقتا رئيسا لهذه الدولة، حتى يتخذ السلطان العثماني قراره فيما عرضه عليه أهل الجزائر. ويمدهم بما طلبوه من دعم عن طريق الوفد الجزائري الذي ارتحل إلى القاهرة، حيث كان السلطان سليم مقيما لتنظيم البلاد. وقابل الوفد الذي كان يرأسه الحاج حسين السلطان سليم. وأجابهم على سؤلهم، وأعلمهم بموافقته على أن يشمل دولة الجزائر برعايته. وأن تكون مشتركة مع الدولة العثمانية في الجهاد ضد المسيحية. وأضفى على خير الدين لقب (باي لرباي) أي (باي البايات) باعتباره الرئيس الأعلى لكل البايات الذين يتولون، أو سوف يتولون الحكم في بلاد الشمال الأفريقي. وخول السلطان دولة (باي لرباي) حق سك النقود باسمها، وذلك دلالة الاستقلال ضمن الإمبراطورية العثمانية. عمل السلطان سليم بعد ذلك مباشرة على إرسال دعم ال الجزائر يتكون من قوة بحرية محملة بأربعة آلاف مقاتل من المتطوعين الأتراك وكميات ضخمة من الأسلحة والذخائر والتجهيزات الحربية. ووصلت هذه الإمدادات إلى مدينة الجزائر حيث تم إنزالها على ساحل

(باب الواد). وبدأت القوات الجزائرية استعدادها لمجابهة الأعمال العدوانية المتوقعة. كان حكم إسبانيا قد انتهى (منذ سنة 1516) إلى الملك شارل الخامس (شارلكان) الذي وضع هدفه الأول بالقضاء على الدولة الجزائرية الفتية، وإزالة ما تمثله من تهديد، وتوطيد الحكم الإسباني في المغرب العربي - الإسلامي. وقد توافرت المعلومات عن قرب احتمال إرسال قوة إسبانية جديدة للجزائر، فزادت أهلها حماسة للقتال واستعدادا للحرب. وانصرف (خير الدين) لتنظيم أمور الدولة الجديدة في المغرب الأوسط (الجزائر) وحشد القدرات والإمكانات كلها من أجل تأمين متطلبات الحرب التي باتت وشيكة بعد أن استثارت عملية انضمام الجزائر للإمبراطورية العثمانية حماسة أوروبا كلها وحماسة إسبانيا المتعصبة منها بصورة خاصة لتطوير الحرب الصليبية. اغتنم شارلكان فرصة استشهاد (عروج) وما أحدثه ذلك من هزة عميقة في النفوس - بعد انتصار الإسبانيين في (تلمسان) فاتفق مع (أبي حمو - ملك تلمسان) على أن يشترك الطرفان في توجيه الضربة الحاسمة للجزائر، وذلك بأن تقوم القوات الإسبانية بإنزال بحري في الوقت الذي تتقدم فيه قوات ملك تلمسان برا. وضمت الحملة الإسبانية في هذه المرة قوة ضخمة تتكون من أربعين سفينة تحمل على متنها. خمسة آلاف من المقاتلين الإسبانيين والأوروبيين، ووضعت الحملة تحت قيادة نائب ملك الصقليين (هوغو دي منكاد) يعاونه في قيادة الحملة (غونزالفو - مارينو - دي ريبيرا). وأبحر الأسطول من جزيرة صقليا في أواخر تموز - يوليو - سنة 1519، وتوجه إلى (المرسى

الكبير) وأخذ منها جندا وعتادا. ثم سار في اتجاه بجاية، حيث انضمت إليه قوة ضخمة حملت معها المزيد من الأسلحة والأعتدة، وفي النهاية وصلت الحملة إلى مياه الجزائر يوم 17 آب - أغطس -. وبدأت عملية الإنزال على امتداد الساحل الواقع إلى اليسار من وادي الحراش. وقد وضع (خير الدين) مخططه للمعركة على أساس التجربة السابقة التي حالفها النجاح، فقرر إفساح الفرصة أمام القوات الإسبانية لإنزال قواتها وتجهيزاتها إلى أرض الشاطىء ثم العمل على استنزاف قدرتها القتالية وروحها المعنوية بمجموعة من العمليات الخاصة (الإغارات والكمائن) والانقضاض بعد ذلك على القوات الإسبانية في معركة حاسمة في الوقت المناسب والمكان المناسب. وهكذا تمكن الإسبانيون من إنزال أسلحتهم ووسائطهم وقواتهم دونما عناء كبير، وأقاموا قاعدتهم خلف (وادي الحراش) وبدأت الاشتباكات بين الطرفين المتصارعين، ثم ما لبث الجيش الإسباني أن أبدأ التحرك بكتلته الرئيسية في اتجاه المرتفعات المحيطة بمدينة الجزائر حتى وصل إلى (كدية الصابون) المشرفة على المدينة - من ورائها - وأخذت القوات الإسبانية على الفور ببناء قلعة حصينة فوق تلك الكدية أطلقوا عليها اسم (قلعة الإمبراطور) - وهي التي هدمت ورممت مرارا. وكان لها شأن عظيم في تاريخ الجزائر، ولا تزال موجودة حتى اليوم - وجهزوها بالمدافع الثقيلة، ووضعوا الجزائر فعلا تحت تهديد مدافعهم. وكانت القوات الإسبانية وهي تشيد معقلها، تنتظر قدوم جيش تلمسان الذي كان من المفروض أن يتولى قيادته (الملك عبد الله

الثاني). وانتظرت القوات الإسبانية طوال ستنة أيام بدون أن يظهر ما يشير إلى احتمال تقدم هذا الجيش، وتمت عملية بناء المعقل، فيما كانت الاشتباكات المستمرة تستنزف قدرة القوات الإسبانية وتضعف من روحهم المعنوية، وإذ ذاك قرر القائد الإسباني القيام بهجوم عام على مدينة الجزائر. وقرر (خير الدين) تكوين قوة من خمسائة مجاهد واجبها الإغارة على المعسكر الإسباني (المجاور لوادي الحراش) والذي لم يترك الإسبانيون لحراسته إلا قوات قليلة. ومن ثم الإغارة على السفن وتدمير ما يمكن تدميره منها. وتوجهت هذه القوة - المنتقاة من خيرة المجاهدين - فأبادت حرس المعسكر وأشعلت النار في القوارب التي تصل الأسطول بالبر، وأخذت هذه القوة بتهديد السفن الواقفة في عرض البحر. كان القائد الإسباني يتابع من موقعه في (كدية الصابون) تطور هذه العملية التي تبددت خط المواصلات البحري للقوات الإسبانية. ونجحت العملية الخداعية التي خطط لها خير الدين، إذ توجهت قوة كبيرة من الإسبانيين نحو البحر في محاولة لإنقاذ القوارب والسفن. وانقسمت القوة الإسبانية بذلك إلى قسمين. ففتح المجاهدون أبواب الجزائر بصورة مباغتة، وانطلقت حشودهم كالسيل الجارف وهم يدمرون القوات الإسبانية ويحتاجونها من كل اتجاه. وهيمن الاضطراب على القوات العادية، وفقدت قيادتها السيطرة وباتت معزولة وعاجزة عن إدارة المعركة. فيما كان المجاهدون يدمرون بسيوفهم ونيران بنادقهم كل من يصادفهم، وأصبحت القوات الإسبانية ممزقة على شكل جزر مقارمة في وسط محيط المجاهدين

الواسع، بحيث لم تتمكن إلا فلول ممزقة من الوصول إلى القوارب والسفن. واستمرت المعركة بكل قسوتها طوال يوم 20 آب (أغطس) سنة 1519 م (925 هـ) وأمكن لبقية القوات الإسبانية - وفلولها الممزقة ركوب البحر والوصول إلى السفن. وهنا جاءت الطبيعة من جديد لتتدخل في مصلحة المجاهدين الجزائريين. إذ هبت عاصفة عاتية يوم 21 (آب) أغسطس ووصلت ذروتها في اليوم التالي عندما تحولت إلى إعصار مدمر أرغم (24) سفينة إسبانية من سفن الأسطول على اللجوء إلى الجزائر حيث وقعت هذه السفن غنيمة في أيدي المجاهدين - بكل من فيها وما فيها من مقاتلين وأعتدة. وانتهت هذه المعركة يوم 24 آب - أغسطس - بانتصار المسلمين انتصارا كاملا. وأغرقت مياه البحر أربعة آلاف من المقاتلين الإسبانيين، ووقع في قبضة الأسر ثلاثة آلاف مقاتل وقد حاول هؤلاء تنظيم صفوفهم والانقضاض على المسلمين فتمت إبادتهم إبادة كاملة وبذلك دمرت الحملة التي أرسلها شارلكان تدميرا كاملا. وخابت آمال الإسبانيين والأوروبيين بهذه الحملة الصليبية. خلال ذلك حدثت تحولات على مسرح المغرب العربي - الإسلامي، فقد كان الملك الزياني (أبو حمو الثالث) قد توفي في سنة 964 هـ = 1518 م - أي في ذات السنة التي استشهد فيها عروج وخلفه على حكم مملكة تلمسان أخوه (عبد الله الثاني) الذي اتبع سياسة جديدة قائمة على الحياد تجاه الصراع الجزائري - الإسباني، والاعتماد على خير الدين - لا على الإسبانيين - إذا كان لا بد من الاعتماد على أحد الطرفين. ولم تكن هذه السياسة إلا استجابة

لتطلعات المواطنين في تلمسان الذين كانوا يرفضون نصرة أعداء الدين ضد أبناء دينهم وإخوانهم من الجزائريين والأتراك العثمانيين. وانتهج (مسعود) شقيق (عبد الله الثاني) هذه السياسة ذاتها عندما طرد أخاه من تلمسان. وكان ذلك هو سبب إحجام ملك تلمسان عن إرسال جيشه لدعم الإسبانيين عندما قاموا بتنفيذ حملتهم ضد الجزائر. غير أن انتصار خير الدين وقوات المسلمين ذلك الانتصار الحاسم، أثار قلق سلطان بني حفص بتونس، خوفا من القوة المتعاظمة في المغرب الأوسط (الجزائر) وندم على ما فاته من نصرة الإسبانيين، فكتب إلى (صاحب تلمسان) يحذره من القوة المتعاظمة لخير الدين وبذلك عاد (محمد بن الحسن - الحفصي) للتآمر ضد المسلمين خوفا على نفوذه ومملكته في تونس من أن تطالها قوة المسلمين المتحالفين في الجزائر مع الإمبراطورية العثمانية. وأعاد (خير الدين) تنظيم مملكة الجزائر، فقسمها إلى قسمين: قسم شرقي يمتد من شرقي العاصمة الجزائرية حتى حدود المملكة الحفصية بتونس وتشمل بلاد القبائل الجبلية، ووضع على رأس هذا القسم أخوه في الجهاد وصديقه (أحمد بن القاضي الغبريني - سلطان كوكو ببلاد زواوة، حيث كانت بلدة كوكو تقع على بعد (18) كيلو مترا في الجنوب الشرقي من مدينة أربعاء بني براثن). أما القسم الغربي، فكان يمتد من الجزائر إلى حدود دولة بني زيان - غير المحددة بدقة - ووضع لإدارته (محمد بن علي). وظن (خير الدين) أن باستطاعته الاعتماد في إدارة القسمين على الزعيمين المحليين لحكم البلاد. وترك لمدينة الجزائر السلطة العليا، ومباشرة أمور الحرب والسياسة. غير أن هذا التنظيم أثار نقمة

(عبد العزيز) ملك قلعة بني عباس، والعدو اللدود (لأحمد بن القاضي)، إذ أن هذا التنظيم وضع عدوه أميرا عليه وحاكما في جهته، فحمل لواء العصيان، وأعلن تبعيته للملك الحفصي بتونس. غير أن التهديد الخطير لم يظهر من (عبد العزيز - ملك قلعة بني عباس) بقدر ما ظهر من (أحمد بن القاضي الغبريني ذاته) والذي ما إن شعر بقوته حتى انقاد لتيار المؤامرات. فأعلن تمرده على (خير الدين) وانضم إلى الحفصيين ملوك تونس معتمدا على ما يقدمونه له من الدعم والتأييد. وأسرع (خير الدين) فقاد قواته لقتال (ابن القاضي) وخاض ضده معارك ضارية في جبال زواوة المنيعة الشامخة، واضطر (خير الدين) للتراجع حتى (عنابة) ثم تلقى (ابن القاضي) دعما من السلطان الحفصي بتونس، فطور أعماله القتالية، وأثار سكان الجبال ضد (خير الدين) وتدهور الموقف إلى درجة خطيرة بحيث وجد خير الدين نفسه مرغما على الخروج بنفسه لقتال صديقه القديم. ولم يكن يمتلك من القوى ما يساعده على مجابهة قوات الحفصيين المتحالفة مع ابن القاضي وهكذا فعندما وقعت المعركة في (فليسة أم الليل) وقف خير الدين وليس معه إلا الجنود الأتراك الذين أبيدوا إبادة تامة، ولم ينج خير الدين وبعض رجاله إلا بصعوبة كبيرة، فانسحب بهم إلى قاعدته القديمة (جيجل) ليجد فيها ملاذه الوحيد. وأرسل إلى الجزائر فطلب أسطوله وأسلحته وكنوزه. في حين تابع (ابن القاضي) تقدمه في سهل متيجة (متوجة). وأعمل في القرى تدميرا ونهبا. حتى وصل الجزائر. فجعلها قاعدة له. واستمر في حكم الجزائر مدة ستة أعوام (1521 - 1527). وخلال هذه الفترة، كادت تتفتت تلك الرابطة التي أحكم

(خير الدين) صنعها وشكل منها دولة الجزائر. غير أن حكم (ابن القاضي) تميز بالرعونة والقسوة، مما أثار الفوضى والاضطراب في كل مكان، وكان في ذلك مصرعه. انصرف (خير الدين) لإعادة تنظيم أموره في قاعدته (جيجل) متنقلا ما بينها وبين (جزيرة جربة) وقد أمكن له بما عرف عنه من كفاءة قيادية عالية، وهمة لا تعرف الفتور أو ينال منها التعب. أن يشكل قوة جديدة، وأن يتابع نشاطه البحري بصورة ناجحة. وتعاظمت قدرة جيشه الجديدة. وهنا حددث تحول جديد، إذ وجد عدوه القديم (عبد العزيز ملك قلعة بني عباس) أن من مصلحته التحالف مع (خير الدين) ضد العدو المشترك (ابن القاضي) والذي كان في الأصل هو سبب العداء فيما بينهما. فبرز إلى الميدان من جديد، واسترجع مدينة (القل) وانضمت إليه مدينة (قسنطينة) وجاءته جموع الشعب المجاهد مؤيدة ومناصرة، فسار بها نحو الجزائر. وقاد (الشيخ أحمد بن القاضي) قواته بسرعة، فغادر الجزائر لملاقاة خصمه بين مرتفعات جبال القبائل. والتقت القوتان المتصارعتان عند (ثنية بني عائشة) فدارت الدائرة على (ابن القاضي) وتمزقت قواته حتى لم يبق معه إلا قلة من أنصاره الذين أدركوا ما خسروه من خلال التمزق الذي صنعه قائدهم (ابن القاضي) فقرروا التخلص منه. وجاءت فئة منهم خيمته عند غروب الشمس فقتلوه، وانتهت في سنة (1527) تلك الفتنة التي أضعفت الجزائر إلى حد كبير. لم يكن (خير الدين) بعيدا عن مسرح الأحداث، فأسرع بقيادة قواته، متوجها بها إلى الجزائر، حيث استقبلته جماهير الشعب المسلم استقبال الفاتحين. بعد أن عملت بإرادتها على تدمير (أعداء

أ - بناء الجزائر والجهاد في البحر

الداخل). وأقيمت الاحتفالات الضخمة بمناسة هذا النصر. ولم يستمر الصراع طويلا بين الجانبين، إذ عملت القبائل على إعادة توحيد إرادتها من جديد. وجاء (الحسين بن القاضي - شقيق الشيخ أحمد) والذي تولى الإمارة بعد مقتل أخيه، فوضع نفسه تحت تصرف (خير الدين). واستسلم في سنة (1529) استسلاما غير مهين تقبله (خير الدين) بالتقدير والاحترام. وانصرف (خير الدين) لتضميد الجراح التي خلفتها الفتنة الهوجاء، وعمل على إعادة تنظيم الدولة، وشكل الجيش وسلحه بطريقة أفضل مما كان عليه في السابق، وحشد أسطوله الضخم في الجزائر بعد أن ضم إليه ما كان قد غنمه في جهاده البحري خلال الفترة السابقة، وما لبثت الجزائر طويلا حتى استردت قوتها، وظهرت من جديد وهي تمتلك كل القدرات الضرورية لمتابعة الجهاد في سبيل الله، حيث توافرت لها إرادة جماهيرية - شعبية - صلبة، وجيش قوي منظم في البر والبحر، وإرادة قيادية صلبة تعرف هدفها وتضطلع بواجبها على أفضل صورة ممكنة. أ - بناء الجزائر والجهاد في البحر كان وجود الحامية الإسبانية في (جزيرة الصخرة - صخرة الجزائر) أمر يتناقض مع ما تتطلبه مدينة الجزائر من (الأمن). فقرر (خير الدين) بعد أن تم له تنظيم الأمور العمل على تحريرها. وهكذا أخذت المدفعية الجزائرية بقذف قنابلها الحديدية من مرابضها التي تم تشييدها على مسافة مائتي متر فقط من جدران المعقل الإسباني، وذلك في شهر رمضان 936 هـ (6 أيار - مايو - 1529). وأمر (خير الدين) بتجهيز كل السفن الحربية وشحنها بالرجال والعتاد، وأذاع في

كل مكان أنه سيبحر إلى السواحل الإسبانية من أجل الغزو والجهاد. وخرجت السفن فعلا من وراء صخور الجزائر، وأخذت طريقها نحو الشمال، لكن تلك السفن عادت أدراجها تحت جنح الظلام، واختبأت في مرفأ (نتغوس) المقابل للجزائر على الطرف الآخر من الخليج. وكان معقل الصخرة حصينا جدا، وقد بذل الإسبانيون جهدا كبيرا لتحصينه وزيادة قوته، وأقاموا فيه مستودعات ضخمة من الأسلحة والأعتدة والمواد التموينية حتى تتمكن حاميته من الدفاع عنه لمدة طويلة. لم تتمكن الرمايات الأولى من الأثر كثيرا على تحصينات العقل وأسراره، وفي يوم الخميس 22 أيار (مايو) فتحت بطاريات المدفعية الجزائرية المتمركزة في المدينة نيرانها بكثافة عالية. واستمر القصف طوال يوم الخميس وليل الجمعة بكاملها حتى الفجر، ثم صمتت المدفعية. وظن أفراد الحامية الإسبانية أن العملية قد انتهت، وأنه باستطاعتهم أخد قسط من الراحة، وفي تلك الفترة بالذات كان الأسطول الجزائري يخترق الخليج من ناحية. (تاما - نتغوس) تتقدمها تلك السفينة الضخمة التي كان خير الدين قد غنمها من (البنادقة - دولة البندقية) وشحنها بالسلاح والرجال. وأحاطت السفن بالجزيرة من الشرق والغرب. وعندما تنبه الحرس والمراقبون في القلعة لحركة القوات الإسلامية، وأطلقوا النفير لاستنفار القوات، كان الوقت متأخرا جدا. إذ ما لبث المجاهدون حتى غادروا سفنهم وقاموا بالإنزال فوق أرض المعقل، وهاجموا الحصن يإغارة مباغتة وتمكنوا من اقتحامه. دارت بعد ذلك معركة قصيرة وحاسمة، سقط فيها (65)

مقاتلا من الإسبانيين، وأنصارهم وخسرت قوات المسلمين (11) تركيا و (35) عربيا. وأسر المسلمون من الإسبانيين (90) جنديا و (20) من النساء والأطفال. وكان قائد معقل الصخرة (مارتينودي فاركاس) بين الأسرى. وقد حاول التستر على المخبأ الذي أودع فيه مقدارا من المال، فتعرض للتعذيب حتى استخرج الأموال التي بلغت ألفي دوقة (48) ألف دينار جزائري. ثم جعلوه بعد ذلك على بقية الأسرى، الذين كلفوا ببناء منارة مسجد خير الدين، الذي كان قد بدىء ببنائه في العاصمة الجزائر. وقسم (خير الدين) الأسرى إلى قسمين تم تكليف القسم الأول بتدمير التحصينات التي أقامها الإسبانيون في جزيرة الصخرة (أبنيون) فيما تم تكليف القسم الثاني ببناء المسجد ورفع مئذنته. وما كادت هذه العملية تتم حتى ظهرت في الأفق سفينة إسبانية ضخمة تحمل على ظهرها قوة تتكون من سبعمائة محارب علاوة على الأسلحة والإمدادات المختلفة. وكانت أبراج الحراسة الجزائرية تتابع - بالمناظير المقربة - تحرك هذه السفينة وهي تقترب من معقل الصخرة. ولم تلبث سفن المجاهدين أن انقضت عليها وأسرتها، واقتادتها إلى ميناء الجزائر. وقرر (خير الدين) تحصين الجزائر، فأمر جماعة الأسرى بنقل الصخور والحجارة التي تراكمت من أنقاض معقل الصخرة، وذلك لوصل البر بجزيرة اصطفلة تحت اشراف معلمي البناء الجزائريين. كما أرسل السفن إلى الجهة القابلة نحو الخليج عند مرفأ (تامانتغوس) فجاءته بصخور رومانية قديمة لإكمال العمل. وبذلك أمكن بناء

الأسطول الجزائري يعود بالغنائم

الجسر العريض الذي لا يزال يحمل حتى اليوم اسم (جسر خير الدين) والذي وصل بين الجزر العشرين بعضها ببعض ببناء دائري متين، ليست فيه إلا فتحة واحدة (¬1) وهكذا تم إنشاء مرسى مدينة الجزائر العتيق (الذي يعرف اليوم باسم - الجفنة) والذي أصبح مقرا للأسطول الجزائري يحميه من العواصف التي تحملها رياح الغرب. وما إن حقق خير الدين انتصاره العظيم بتحرير جزيرة (أبنيون) حتى أعلن: (أن من كان يؤمن بالله ورسوله، ويريد الجنة في الدار الآخرة، فعليه أن ينضم إلى جيشه بكل سرعة، وذلك لمهاجمة وهران والمرسى الكبير). وانصرف الأسطول الإسلامي أثناء ذلك للجهاد في البحر، وكان الأسطول الجزائري يشمل (15) سفينة من نوع (القالير) وقد ألقى الرعب والهلع في قلوب سكان السواحل ¬

_ (¬1) جاء في كتاب (الجزائر) سلسلة الفن والثقافة (8) الصادر عن وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - ص 22 و 25 - 28 ما يلي: (وبذلك كان مولد ميناء الجزائر الذي رغم أبعاده المحدودة، أرعب البلدان العدوة خلال ثلاثة قرون، ففيما يعرف الآن بمرفأ الإمارة البحرية، كان يستقر أسطول الجزائر الذي كان يضم إذ ذاك حوالي سبعين باخرة، وكانت هذه البواخر تحمل أسماء مختلفة عليها مسحة رومنسية مثل (المرعب) و (الوردة الذهبية) و (مفتاح العالم) و (صقر البحار). وقد تم تحسين الجهاز الدفاعي ببناء سور يمتد على مسافة ثلاثة كيلومترات، به عدة أبراج للحراسة، واستمر بناء السور المحيط بالمدينة حوالي (85) سنة. كما تم بناء المنازل العديدة لإسكان المواطنين المتزايد عددهم أكثر فأكثر وكان الدخول إلى المدينة يتم عن طريق خمسة أبواب رئيسية. باب الواد شمالا، وهو يربط المدينة بالخارج وبالمقبرة. وباب عزون جنوبا، وهو يحظى بتردد أكثر لأنه يطل على متيجة (متوجة) ويسهل النشاطات التجارية , وباب البحرية أو باب الجزيرة الذي يشرف على الميناء، أما باب الترسانة أو باب الصيادين، فإنه يؤدي إلى دار الصناعة حيث تبنى السفن الشراعية الصغيرة، وأخيرا باب جديد الذي ينفتح على قلعة القصبة، وهي القلعة الضخمة الواقعة في قمة المدينة، وكانت هناك أبراج أخرى تكمل الجهاز الدفاعي على البحر مثل (برج الفنار - أو برج المنارة) الذي شيده خير الدين).

الإسبانية، إذ أمعن فيهم حربا وتدميرا وسبيا إلى درجة أن السكان تركوا قراهم وهجروها والتجأوا إلى داخل البلاد. ومقابل ذلك، كانت بقايا المسلمين الأندلسيين تشعر بالبهجة لهذه الانتصارات التي بعثت الأمل في نفوسهم، وعرضت عليهم بعض ما يلقونه من قهر واضطهاد. وتلقى قائد الأسطول الإسباني وفي سنة (1530 م) أمرا إمبراطوريا بأن يتقدم لمهاجمة الأسطول الإسلامي وتدميره. فاستعد الأميرال (أفريدريكو بور - توندو) للحملة الصليبية الجديدة. وانطلق بقوة (12) سفينة حربية ضخمة لمطاردة أسطول (خير الدين) إلى أن وجده بين جزيرتين من جزر الباليئار. وظن الأميرال الإسباني أن الموقف لمصلحته، فهاجم الأسطول الجزائري بقوة وعنف، وقذفه بنيران مدافعه. غير أن الأسطول الإسلامي تلقى الصدمة بثبات، ووجه (خير الدين) على الفور هجوما مضادا ركزه على سفينة القيادة الإسبانية. وقاد (خير الدين) سفينته بنفسه، وانطلق بها كالسهم حتى وقف بمحاذاة الهدف، وقفز المجاهدون على ظهر السفينة الضخمة وسيوفهم تلتمع في أيديهم. ودارت معركة عنيفة قتل خلالها قائد الأسطول الإسباني وقسم كبير من أفراد سفينته، ووجه (خير الدين) هذه السفينة نحو بقية سفن الأسطول الإسباني، واستمرت الهجمات السريعة، فتم أسر بعض السفن الإسبانية وحرق بعضها الآخر وإغراق عدد منها. وانتهت معركة اليوم بتدمير الأسطول الإسباني تدميرا كاملا بحيث لم تنج منه إلا سفينة واحدة استطاعت الفرار لإعلام قيادتها عن المجزرة الرهيبة التي قضت على الأسطول. وانسحب الأسطول الجزائري بعد أن ضم إليه الغنائم والأسلاب التي كسبها من المعركة.

أثارت معركة جزر الباليئار مناخا من الفزع الذي تجاوز حدود إسبانيا. فبادر (شارلكان) إلى معالجة الموقف بحزم. وعمل على إعادة تنظيم أسطوله وأسند قيادته إلى ضابط مغامر كان قد اكتسب شهرة واسعة في قيادته للأساطيل البحرية وممارسة أعمال القرصنة. وكان هذا الضابط هو (الأميرال اندريا دوريا) (¬1) الذي كان يعتبر باستمرار أن (خير الدين) هو عدوه اللدود. انصرف (أندريا دوريا) إلى مدينة جنوة من أجل تنظيم أسطوله، وأمضى سنة (1530) في الاستعداد لحملته الضخمة القادمة. ثم غادر المرسى الإيطالي الكبير في تموز (يوليو) سنة (1531) على رأس أسطول يضم عشرين سفينة تحمل ألفا وخمسمائة من المقاتلين الأشداء، وسار بهم نحو الساحل الجزائري وقد حدد هدفه بتدمير الأسطول الإسلامي كمرحلة أولى، ثم الانطلاق من مركز بجاية في الشرق ومركز وهران والمرسى الكبير في الغرب لخنق الدولة الجزائرية، ووضع المغرب العربي الإسلامي بكامله تحت الحكم الكاثوليكي - الإسباني. ¬

_ (¬1) ورد في كتاب - حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدنى ص 220 - 221 تعريفا بهذا الأميرال كما يلي: (أندريا دوريا هو سليل بيت من أكبر بيوتات مدينة جنوة الإيطالية وأمجدها. وقد ورث عن أبيه وعن جده حب المغامرة البحرية وعشق الأمواج واقتحام الأخطار بين الشراعات المنشورة والزوابع الثائرة، وهدير المدافع ولمعان السيوف. ولم يكن يهمه هوية الشخص الذي يعمل تحت رايته، على شرط أن يكون مسيحيا مقاتلا، فعمل أولا تحت لواء مدينة جنوة ثم خدم ملك فرسا - فرانسوا الأول - الذي سلمه قيادة أساطيله، التي أن صدرت عن الملك الإفرنسي بادرة أساءته، فأعاد إليه سنة 1529 القلادة التي سلمها له رمزا للقيادة، ودخل في خدمة الإمبراطور (شارلكان) الذي كان يحكم يومئذ أضخم دولة مسيحية في أوروبا وأقواها.

كان (خير الدين) يتابع جهود عدوه (أندريا دوريا) باستمرار، وعندما علم باقتراب ركوبه البحر جمع أسطوله الذي كان يضم أربعين سفينة، وحشد قواته، واستنفر الحاميات، وأخذ في الاستعداد للمعركة. غير أنه كان يجهل محور تحرك الأسطول المسيحي بقدر جهله لما كان يعتزم خصمه تنفيذه. ولم يبق أمامه إلا الانتظار ريثما يحدد لمكان الذي يختاره عدوه مسرحا لعملياته. حدد (أندريا دوريا) مدينة شرشال هدفا مباشرا لهجومه، وكان يعرف أن حامية هذه المدينة مكونة من أبنائها مع عدد محدود من الأتراك العثمانيين. وكانت هذه الحامية ضعيفة بالمقارنة مع قوة أسطوله حتى لو انضم لدعمها المجاهدون من القرى والمراكز المجاورة وإنها والحالة هذه لا تستطيع الصمود لفترة طويلة. بحيث أنه يستطيع إذا ما تم له احتلالها، الاستقرار فيها وتنظيم حامية قوية فيها للدفاع عن قلعتها، وبذلك يصبح (خير الدين) عاجزا عن مهاجته أو إخراجه من هذه القاعدة. وكانت مدينة شرشال يومئذ مركزا من أكبر مراكز الدولة الجزائرية الحديثة وقد عرف (عروج) أهمية موقعها الممتاز فعمل على تحصينها، وشيد فيها قلعة قوية، وأقيم فيها مصنع لتأمين متطلبات الجيش الإسلامي وإمداده بالأعتدة والمواد التموينية، كما أقيم فيها مصنع للأخشابب يعتمد على غابات (الونشريس) والغابات الكثيفة التي كانت قريبة منها , وكانت شرشال بحكم موقعها الطبيعي - وهي لا تبعد عن مدينة الجزائر الواقعة إلى شرقها مسافة إلا 120 كيلومترا، ووهران الواقعة إلى غربيها - تشكل تهديدا مباشرا للجزائر إذا ما أمكن للأسطول الإسباني احتلالها تمهيدا لعملياته التالية.

استيقظت الحامية الإسلامية المدافعة عن (شرشال) فإذا بالأسطول الإسباني يتقدم من الأفق ويقترب بسرعة نحو مدينتهم، فاجتمع القادة على عجل، وتقرر إخلاء البلدة من سكانها على الفور، وحشد كل القوى في القلعة للدفاع عنها، واستنزاف قدرة العدو لأطول مدة ممكنة ريثما يصل الدعم من الجزائر ومن داخل البلاد. أنزل (اندريا دوريا) قواته على أرض شرشال بدون مقاومة تذكر، وركزت الحامية الإسلامية ومن معها من المجاهدين في معقل القصبة، وأخذوا في متابعة تحركات العدو بيقظة وحذر. وبادر الإسبانيون بالبحث عمن بشرشال من أسرى النصارى، وكانوا نحوا من ثمانمائة، فوجدوا مخابئهم وأخرجوهم، وضموهم إلى الجيش، وعمل هؤلاء الأسرى كأدلاء نظرا لمعرفتهم بديار كبار القوم وبالأماكن التي تضم مخابىء الأموال ونفائس الذخائر، وانتشر الجيش الإسباني وراء الأسرى، وتحول إلى عصابات للنهب والسلب. وأخذت زمر منه في التوغل إلى داخل الديار حتى وصل بعضهم إلى الحدائق والمزارع المحيطة بالبلدة. وأيقنت القيادة الإسلامية ساعتئذ أنه بات بالإمكان الانتصار على هذه الفرق الممزقة بعزل بعضها عن بعض وتدمير كل قوة منها على حدة. ففتحوا أبواب القلعة، واندفعوا وهم يرددون صيحة حرب المسلمين (الله أكبر) وأحاطوا بالعدو من كل جانب، وحالوا بين تجمع هذه الفرق والتقاء بعضها مع بعض، كما حالوا بينها وبين البحر، في حين كانت مدفعية القلعة تقذف قطع الأسطول الإسباني بنيرانها وقذائفها. فاختل نظام العدو، وسادت الفوضى والاضطرابات في صفوفه، فيما كانت نيران الجزائريين وسيوفهم تدمر قوة الغزاة، بحيث لم تغرب شمس ذلك اليوم حتى

انتشرت فوق أرض شرشال جثث ألف وأربعمائة من الإسبانيين، بالإضافة إلى ستمائة أسير وقعوا في قبضة المجاهدين. ولم يتمكن من الوصول إلى السفن أكثر من ثلاثمائة رجل من بقايا القوة الإسبانية ومن الأسرى الذين تمكنوا من النجاة. ووقف (أندريا دوريا) ذاهلا أمام قوة هذه الصدمة، وتلكأ في الرحيل عن شرشال وهو لا يدري إلى أين يتجه ولا ماذا يعمل. وعندها وصله إنذار باقتراب أسطول الجزائر مسرعا تحت قيادة (خير الدين)، وعرف (دوريا) أنه لا قبل له بمنازله خصمه في مثل هذه الظروف فقرر مغادرة أرض المعركة بسرعة لحماية ما بقي لديه من القوة. وعندما وصل خير الدين إلى شرشال وعرف نتيجة المعركة، انطلق بأسطوله لمطاردة خصمه، الذي كان أسرع منه في التحرك فلم يتمكن من اللحاق به. غير أن هذه المطاردة لم تكن محرومة من الثمار. إذ عثر خير الدين على سفينتين إسبانيتين كانتا محملتين بالأعتدة والمواد التموينية، فاستولى عليهما واقتادهما. ترددت أصداء هذا الانتصار بقوه وانعكست على مختلف دوائر الصراع بأشكال مختلفة. فقد أصبح الشعب في الجزائر أكثر ثقة بقدراته وإمكاناته، وباتت الجماهير الخاضعة لحكم (بني زيان) في تلمسان تنتظر لحظة تحررها للانضمام إلى مسيرة المجاهدين في سبيل الله. وأصبحت الإمبراطورية العثمانية أكثر استعدادا لدعم (خير الدين) من أجل طرد أعداء الدين من المغرب العربي الإسلامي. وأصبحت الملكة الإسبانية وإمبراطورها شارلكان أكثر تصميما على تجهيز حملة قوية يتم بواسطتها التعويض عن الهزائم

السابقة. والتي نالت من هيبة الإمبراطورية التي فرضت ذاتها على زعامة الغرب لقيادة الحرب ضد المسلمين. ونتج عن ذلك تعرض المسلمين في الأندلس لمزيد من القهر والاضطهاد بعد أن تجمعوا فوق بقعة محدودة ما بين ساحل البحر وجبال البشرات. فارتفعت أصوات الاستغاثة التي لم يعد باستطاعة خير - الدين تجاهلها أو التنكر لها، لا سيما وأنه تولى إنقاذ المسلمين في الأندلس وساعدتم يوم لم يكن يمتلك إلا إمكانات محدودة، فكيف به وهو يمتلك اليوم إمكانات أرهبت أكبر دولة أوروبية. وهكذا مضى (خير الدين) ومعه (36) سفينة حتى بلغ السواحل الإسبانية التي التجأ إليها المسلمون، ولم يجرأ الأسطول الإسباني التعرض لأسطول (خير الدين) فأخذ هذا على سفنه أكبر عدد من الراغبين في الحفاظ على دينهم وكرامتهم. وكان يترك أكبر عدد من بحارته الجزائريين فوق الأرض الأندلسيين حتى يحمل مقابلهم عددا من النازحين. حتى إذا ما أوصلهم إلى الجزائر، عاد إلى إسبانيا ليأتي بغيرهم، وكرر غدوه ورواحه بين الساحلين سبع مرات متوالية حتى تمكن من إنقاذ سبعين ألفا من رجال الأندلس ونسائهم وأطفالهم، واشتد بهؤلاء ساعد المسلمين الذين نزلوا بمدينة الجزائر وسهل متيجة (متوجة) وعمروا مدنا مثل البليدة ودلس وأدخلوا إلى البلاد بقايا حضارتهم العريقة وصناعتهم وفنونهم وخبراتهم المختلفة. عمل (خير الدين) بعد ذلك على تطوير صراعه، فاتخذ من جزائر (هيار) (¬1) الأندلسية قاعدة لعملياته في غرب المتوسط والمحيط ¬

_ (¬1) جزائر هيار: (ILES D'HYERES) مجموعة جزر تشكل أرخبيلا في البحر =

ب - خير الدين - أميرا عاما للأسطول العثماني

الأطلسي، حيث كانت السفن الإسبانية والبرتغالية تحمل وهي عائدة من أمريكا الجنوبية، ذهب الهنود الحمر وثرواتهم. فركز خير الدين وقادته جهودهم لحرمان إسبانيا من هذه الثروة ووضعها في خدمة المسلمين ليتقووا بها على أعدائهم. وجمع (خير الدين) حوله نخبة من الرجال جعلهم هيئة قيادته، ومنهم ابنه (حسان خير الدين) و (طورغود رايس) و (صالح رايس - موحد الأرض الجزائرية فيما بعد) و (سنان منقذ تونس فيما بعد أيضا) و (محمد حسن آغا) (¬1) الذي جعله ناشبا عنه أثناء غيابه عن الجزائر. واشتدت الحرب الصليبية ضراوة بين الإمبراطورية العثمانية وأوروبا التي تتزعمها الإمبراطورية الإسبانية. وتبع ذلك تصعيد في الصراع البحري الذي تولى قيادته (أندريا دوريا). ورد السلطان سليمان على ذلك بتعيين (خير الدين) أميرا عاما على البحر (قبودان باشا) مع بقائه على رأس دولة الجزائر. ب - خير الدين - أميرا عاما للأسطول العثماني كان لا بد للأمير (خير الدين) من التوجه إلى عاصمة ¬

_ = الأبيض المتوسط، وهي حاليا تابعة لفرنسا وتشمل جريرة (بوركورول: PORQUEROLLE) و (بورت كروس: PORT - CROS) وجزيرة الشرق ILF DE LEVANT وجزيرتين صغيرتين. (¬1) محمد حسن آغا: يقال إن أصله كان عبدا خصيا من جزيرة سردينيا، تولى خير الدين تربيته تربية إسلامية متينة، وأشرف على تعليمه وتثقيفه، ولم تلبث مؤهلاته أن تفجرت عن كفاءة قيادية عالية فكان يتولى إدارة الجزائر أثناء غياب (خير الدين). وقد بذل جهده لتحصين الجزائر تحصينا حولها إلى قلعة شامخة، كما أنجز بناء مرسى الجزائر. وأفاد من موجات النازحين الأندلسيين لبناء عاصمة الدولة الجديدة (الجزائر) فأقام فيها القصور الشامخة على الطراز الأندلسي ونظم الحدائق وأكثر من بناء المساجد.

الإمبراطورية العثمانية، فخلف نائبه (محمد حسن آغا) على ولاية الجزائر. وسار توا نحو (إستانبول) على رأس جزء من الأسطول يتكون من عشرين سفينة وهناك، في دار الخلافة والسلطنة، استقبل السلطان سليمان القانوني أمير بحره (خير الدين) استقبالا يليق بأفضل المجاهدين وأكبر قادة المسلمين. ولم يغادر (خير الدين) عاصمة الإمبراطورية، إلا وقد تولى لأول مرة قيادة أسطول ضخم يتكون من ثمانين سفينة، علاوة على سفن الأسطول الجزائري وبات بإمكان (خير الدين) مجابهة التحديات المتعاظمة للأسطول الصليبي - الإسباني. ومن جهة أخرى أخذت الأمور في التدهور بسبب سوء إدارة الحفصيين (بتونس) , وكان الملك قد انتهى فيها إلى (السلطان محمد) الذي خلف أباه (محمد بن الحسن) على العرش الحفصي، والذي وصفته المصادر التاريخية بما يلي: (كان محمد بن الحسن مشتغلا باللهو والخمر، مهملا لأمور الملك، وترك خمسة وأربعين ذكرا. خلفه منهم الحسن، فقتل إخوته، ولم ينج منهم إلا (الرشيد وعبد المؤمن) لغيبتهما، واشتغل - مثل أبيه - بالخمور والفجور، وجمع حوله أكثر من أربعمائة غلام أمرد. فمالت عنه الأمة إلى الرشيد. ولجأ الرشيد إلى خير الدين صاحب الجزائر، واستعان به على حرب أخيه , وما كاد السلطان يطلع على حقيقة الحالة (بتونس) ويدرك أن هذه المدينة التي انحصر فيها ملك بني حفص، هي نقطة الضعف في التنظيم الإسلامي الجديد، وأن العدو يوشك أن ينقض عليها ليستخدمها مع طرابلس، لضرب هذا الجهاز ومحاولة تقويضه، حتى أمر خير الدين بالسير توا نحو تونس، وإبعاد هذه الأدران عنها). وصل الأسطول

العثماني الذي تولى قيادته خير الدين إلى عنابة في شهر آب - أغسطس - (1533م) وأخذ منها دعما جاءه به نائبه (حسن آغا) ثم تقدم نحو (بنزرت) برا، ونحو (حلق الوادي) بحرا، فتمكن منهما بدون عناء، ووقف على أسوار مدينة (تونس) ففتحت له أبوابها، واستقبله أهلها اسقبالا رائعا عبر فيه الأهالي عن تطلعاتهم وآمالهم. وجمع (خير الدين) حوله الأعراب الذين انساقوا في تيار الفوضى وإثارة الفتن ووحدهم في تيار الجهاد. كما كتب إلى الأعراب وحذرهم سوء عاقبة الفتنة في الإسلام. وأجابوه إلى ذلك، غير أنهم اشترطوا عليه الإبقاء في أيديهم على ما أعطاه لهم بنو حفص من الإقطاعات، فالتزم لهم بذلك، واشترط عليهم، أن يكون مشتاهم بالصحراء. وأن يكفوا اليد العادية ثم بعث إلى نائبه بالجزائر في إرسال عسكر وأربعمائة فارس، ولما وصلوا وزعهم بالجهات، لما رأى من حال أمر المملكة. أثناء ذلك، كان سلطان تونس السابق (الحسن بن محمد) قد وجد طريق النجاة، فهرب متنقلا من بلد إلى آخر حتى انتهى به المطاف إلى إسبانيا، وقابل الإمبراطور شارلكان، واستثاره لحرب قومه، ولم تكن هناك حاجة لمثل هذه الاستثارة، إذ كان (شارلكان) قد أعد عدته لقيادة حملة قوية ضد المغرب الإسلامي، غير أنه وجد في شخص (الحسن بن محمد) أداة جيدة يمكن استخدامها لتنفيذ مخططه. قاد (شارلكان) قواته، وأبحر من مدينة برشلونة يوم 31 أيار - مايو - سنة 1535م. وقد تولى قيادة حملة صليبية حقيقية تضم (30) ألفا من المقاتلين الأشداء حملتهم (500) سفينة شراعية. ووصل هذا الأسطول إلى مواجهة (قرطاجنة) وسواحل مدينة (تونس) في يوم 16 حزيران (يونيو).

ولم تكن القوة التي يقودها (خير الدين) كافية لإيقاف هذه الحملة الضخمة، إذ لم يكن الجيش الإسلامي يضم أكثر من سبعة آلاف من الأتراك وخمسة آلاف من التونسيين، وتخلف الأعراب عن الجهاد، فكانت النتيجة الحتمية هي استيلاء (شارلكان) على معقل (حلق الوادي) وهو مرسى مدينة تونس. واستعد لمهاجمة العاصمة الحفصية، يتقدم صفوفه بصفة رمزية (الحسن بن محمد) الذي كان قد أبرم مع صاحبه (شارلكان) معاهدة رهيبة خان فيها قومه ودينه. وتقدم الجيش الإسباني نحو مدينة تونس. وفي نفس تلك الساعة، وقع بتونس الحدث الذي عجل بالانهيار، والذي كان السبب المباشر للكارثة العظمى، ذلك هو انتفاض عشرة آلاف أسير نصراني كانوا محبوسين في العاصمة الحفصية. فعندما خلت المدينة من الجيش الذي تقدم لقتال العدو، وجد هؤلاء الأسرى فرصتهم السانحة، فخرجوا من معتقلهم، ونظموا صفوفهم. ثم هاجموا معقل القصبة الذي لم يكن به من الحرس إلا القليل. فتمكنوا منه، ووجهوا مدافعه في اتجاه جيش المسلمين، الذي وقع بين نارين، وأوصدوا أبواب المدينة وأقاموا عليه الحراسة، ليمنعوا خير الدين وجيشه من الرجوع إليها والتحصن لمقاومة شارلكان ريثما تصل قوات الدعم. وشعر (خير الدين) بالخطر من قبل أن يغادر مدينة تونس، وكان قد اتخذ قراره بإبادة هؤلاء الأسرى غير أن سرعة تقدم (شارلكان) أعاقته عن تنفيذ ما قرره. وهكذا خرج خير الدين للقاء الحملة الصليبية فاستولى على (برج العيون) ثم رجع بمن معه إلى المدينة، فاضطرب عليه أهلها، بعضهم تمسك بطاعته، وبعضهم انحرف عنه وانضم إلى السلطان أبي حفص، فجمع أعيان الناس، وتحدث إليهم، فاختلفوا عليه، فتركهم وخرج بمن معه إلى الحرب. وأبلى خير الدين

في ذلك اليوم البلاء الحسن. غير أنه لم يتمكن من الصمود طويلا، واضطر إلى الانسحاب إلى (القصبة) , ودخل السلطان الحفصي - الحسن - إلى تونس في مقدمة الجيش الصليبي. ولقيهم الأعراب بالمقاومة، فقاتلهم قائد الجيش الصليبي - الصبنيول - ودخل السلطان القصبة، ووعد أهلها بالأمان، وهو لا يملك حق إعطاء الأمان بعد أن تعهد للصبنيول بالموافقة على شرطه وهو استباحة البلاد لمدة ثلاثة أيام. وما إن أمن الناس، وخرجوا من معاقلهم، وتخلوا عن أسلحتهم وانصرفوا إلى أعمالهم ومتاجرهم، حتى باغتتهم القوات الإسبانية، وأعملت فيهم قتلا وبمتاجرهم نهبا وببيوتم سبيا. وفر إلى (زغوان) من استطاع أن يجد الفرصة للفرار بنفسه وبأهله. وانتهت هذه المذبحة الرهيبة بإبادة ثلث أهل تونس ونجاة الثلث ووقوع الثلث في قبضة الأسر والمأسور يفتدي نفسه إن كان له مال. وبلغت الفدية ألف دينار، وتغيرت البلاد وطمست أعلامها وكانت هذه النكبة التي تعرضت لها تونس في سنة 941 هـ (1535 م) هي أقسى ما عرفته في حياتها من نكبات وكوارث، إذ أن عدد القتل من سكان تونس خلال الأيام الرهيبة الثلاثة قد بلغ سبعين ألفا. ونهبت خلال ذلك ثروات المدينة وكنوزها ونفائسها وأموالها وما تراكم فيها عبر مئات السنين بفضل ما عرف عن أهلها من الجهد والنشاط. وأضيفت إلى قائمة الكوارث التي تعرضت لها المدن الإسلامية (مثل بغداد على أيدي التتار والقدس على أيدي الفرنج الصليبيين) كارثة جديدة عرفت (بكارثة تونس). لقد استمرت معركة تونس 36 يوما، مما يؤكد قسوة الصراع وعنفه، فقد نزل الإسبان فوق أرض تونس يوم 16 حزيران - يونيو -

واحتلوا حلق الوادي يوم 14 تمرز - يوليو - أي بعد شهر تقريبا. واحتلوا تونس ونكبوها يوم 21 تموز - يوليو - وقد حاول (شارلكان) التخفيف من وقع المذبحة، وإلقاء تبعاتها على أهل تونس، فكتب إلى عميله حاكم مدينة (بجاية) رسالة يوم 23 تموز (يوليو 1535 يقول فيها: (ولكن، ربما أن سكان مدينة تونس لم يقابلوا ملكهم قبولا حسنا، كما يستحق، وكما هو واجبهم، فقد رأينا أن نأمر بنهب المدينة، انتقاما منهم على سوء سلوكهم). استقر السلطان (الحسن بن محمد) على عرش تونس، فوق أشلاء أمته الممزقه وعلى جثث الضحايا من رجال قومه ونسائهم وأطفالهم. وعقد مع الإسبانيين معاهدة نصت على ما يلي: 1 - اعتراف الدولة الحفصية بتبعيتها للدولة الإسبانية. 2 - ملكية الإسبانيين ملكية مطلقة لمرسى (حلق الوادي) و (قرطاجنة) و (مدينة عنابة) و (مدينة المهدية). 3 - إلتزام السلطان بألا يدخل بلاده أحدا من مهاجري الأندلس، يهوديا كان أو مسلما. وانسحب (شارلكان) بأسطوله ومعظم جيشه إلى قاعدقه في صقلية. وعاد (خير الدين) إلى قاعدته الأساسية (في الجزائر) بعد أن عانى وقواته من الجوع والظمأ والحر. واستقر حينا بمدينة (قسنطينة). واستقبل أهل الجزائر رجوعه بالبهجة. وانصرف (خير الدين) لإعادة تنظيم قواته من أجل استئناف الجهاد ضد الإسبانيين، لا سيما وقد ظهر بوضوح أن (شارلكان) قد صمم على تدمير دولة الجزائر مهما بلغ الثمن وقد تبين أن مخطط (شارلكان) يعتمد على انتقاص حدود

الجزائر بصورة تدريجية قبل الانقضاض على قلبها (عاصمتها). ومن أجل ذلك، فقد قام بالاستيلاء على (مرسى هنين) ومدينتها. كانت مدينة (هنين) هي المرسى الطبيعي لعاصمة تلمسان، نظرا لقرب المسافة بينهما، إذ تقع داخل جون حسن، في منتصف الطريق بين (بني صاف) و (جامع الغزوات) وبينهما وبين تلمسان - على خط مستقيم - مسافة (45) كيلومترا , وكان ملك (تلمسان) قد أرسل مددا لمرسى هنين عندما قام الإسبانيون باحتلال مدينة (وهران) في سنة 1509.وقام بتحصينها وتنظيم الدفاع عنها نظرا لما لها من أهمية اقتصادية باعتبارها مركز المبادلات التجارية مع أوروبا بصورة عامة ومع بلاد البندقية بصورة خاصة. ووجه الإمبراطور (شارلكان) أمرا إلى قائده (دون الفارو دوبازان) في شهر آب (أغسطس) سنة 1531، باحتلال مدينة (هنين) ومهاجتها بقوة. ولم يتأخر (دوبازان) عن تنفيذ الأمر، فركب وجيشه البحر على متن 11 سفينة حربية بالإضافة إلى سفينتين ناقلتين للجنود، وأخذ معه أعتدة وموادا تموينية تكفيه لمدة شهرين. وخرج - من مالقة في شهر آب (أغسطس). ثم حل بمدينة وهران حيث انضمت لقوته مجموعة من المقاتلين تتكون من (250) جنديا، وغادرها يوم (عيد سان برتلمي - في 24 آب - أغسطس) ووصل إلى مدينة هنين يوم 8 أيلول - سبتمبر - سنة 1531. ودخل الأسطول الإسباني المرسى واحتل المدينة والقصبة. لم تكن المدينة تتوقع هذا الهجوم المباغت، ولم تكن قوة الحامية متمركزة في مواقعها عندما وقع العدوان وعلى الرغم من ذلك فقد قاوم المواطنون عملية الغزو وقتلوا (40) إسبانيا، بالإضافة إلى مائة

جريح. وكتب راهب - أسقف - طليطلة إلى الإمبراطور - مبشرا بالفتح، وكان في رسالته ما يلي: (أكد لنا الدين يعرفون البلاد، أن لمدينة هنين ومرساها أهمية بالغة، فهنين بلدة محصنة ذات أسوار منيعة، ولها قلعة عظيمة، ولا تبعد عن تلمسان أكثر من (12) مرحلة، وهذا أمر له أهميته العظمى بالنسبة للحركة التجارية التي يمكن أن نتداولها مع العرب، كما أن امتلاكنا لمدينة هنين يساعدنا بصورة خاصة على إبقاء ملك تلمسان تحت قبضة أيدينا، فهو لن يفكر في مهاجمتنا عندما يرانا قد تمكنا من البلاد داخل حدودنا الجديدة وتحصنا بها). اما الدكتور لبربخا ممثل الإمبراطور بوهران فقد كتب لسيده يوم 2 أيلول - سبتمبر - 1531 ما يلي: (أعتقد أن احتلالنا لمرسى هنين إنما هو حدث عظيم جدا، ذلك أننا باستقرارنا وبتمكننا من هذه البلدة، نستطيع أن نعاقب ملك تلمسان، ونجبره على القيام بتعهداته، ذلك أن الطريق من هنين إلى تلمسان، أقرب وأضمن من طريق وهران والمرسى الكبير، ونستطيع من هذه البلدة، دون كبير عناء، أن ندخل مدينة تلمسان، وأن نأخذ من مولاي عبد الله أحسن ممتلكاته (¬1)). ¬

_ (¬1) تجدر الإشارة إلى تلك المقاومة البطولية التي نظمها الشعب المجاهد في (هنين) حيث حرم الإسبانيين من متعة انتصارهم، وأحكم الحصار حولهم، ولم يترك لهم الفرصة للتوغل إلى داخل البلاد، وحرمهم من الحصول على متطلباتهم من المواد التموينية. وشن عليهم الغارات باستمرار، وأرغمهم بعد ثلاث سنوات من الصراع المرير على الجلاء عن (هنين) حيث انسحبت القوات الإسبانية في كانون الثاني - ديسمبر - 1534. وقد كان انتقام الإسبانيين رهيبا، إذ أمعنوا في تخريب المدينة وتدميرها حتى جعلوا عاليها سافلها، وقوضوا معالمها، وأفسدوا مساجدها، وضربوا مرساها، ومحوا آثارها من الوجود، بعد أن كانت طوال خمسامائة عام منارا من منارات الإسلام الشهيرة.

أراد (شارلكان) استثمار الظفر الذي أحرزه في تونس، وتنفيذ شروط معاهدته مع عميله (الملك الحسن بن محمد) والإفادة من حالة العطالة التي تعرض لها خير الدين بعد معركة تونس، فأصدر أمره إلى قائد حملته (المركيز دي مونديخار) بالاستيلاء على مدينة (عنابة) بونة، والتي كانت تابعة بصورة اسمية للسلطان الحفصي في تونس. وهكذا تحرك الأسطول الإسباني في شهر آب أغسطس - نحو عنابة. ووصلها، وقام باحتلالها، وأرسل قائد الحملة إلى الإمبراطور تقريره عن نجاحه في تنفيذ مهمته وذلك في يوم 29 آب - أغسطس - 1535. وتضمن التقرير ما يلي: (كان البحر هادئا، إنما كانت الرياح معارضة، فلم يصل الأسطول إلا بعد خمسة أيام إلى عنابة، وكان - دون الفارو دي بازان - قد سبقنا إليها مع الناقلات، وما كاد يصل حتى تلقى بعض ضربات المدفعية مما يدل على أن السكان قد صمموا على الدفاع. وأنزلنا الجند، ثم شكلنا كتيبتين وأرسلناهما لمهاجمة القصر , ولم يكن العرب ينتظرون هجومنا عليه، فبادروا بالتخلي عنه. ولم نفعل ذلك اليوم شيئا آخر. فاكتفينا باحتلال القصبة والمدينة. أما الناقلات التي منعتها مدافع العدو من الاقتراب، فإنها قد دخلت المرسى، وانصرفنا خلال الأيام الثلاثة التالية إلى إنزال المدفعية والذخائر والمؤن إلى البر، وبعد دراسة وضع المدينة والقلعة، تأكدنا أنه يجب احتلالها معا وفي وقت واحد. لأن الجند الذي يحتل القلعة لا يتمكن بسهولة من نجدة العرب الذين يحتلون المدينة ويدافعون عنها، ويجب علينا أن لا تترك العرب يدخلون المدينة إلا بعد التصريح لهم بذلك. فإذا دخلوها فيجب ألا يجدوها خالية من قواتنا لأنهم في هذه الحالة قد يفكرون

بالعودة إليها، أو أن يدخلها عرب آخرون مكانهمم ويتصرفون فيها بصفة تجعلها غير صالحة للسكنى - ولقد تركت (200) جندي بالقصر، و (600) جندي بالمدينة، وإذا ما رأينا السماح للعرب بسكنى المدينة من جديد، فعلينا أن نقيم حصنا قوق المرتفع الذي يعلو المرسى، حتى نستطيع نجدة جند القصر). لم يكن باستطاعة (خير الدين) وهو يتابع شراسة الهجمة الصليبية، الوقوف في حالة من العطالة أو الجمود، فقرر توجيه ضربة للإسبانيين في قواعدهم، ووقع اختياره على مدينة (ماهون) عاصمة جزائر الباليئار، والمدينة الأولى في جزيرة (مينورقة). قاد (خير الدين) أسطوله بكفاءة، حتى إذا ما وصل إلى (ماهون) قام باحتلالها، غير أنه تجنب سفك الدماء، ولم يفعل ما فعله الإسبانيون في تونس. واكتفى باستحواذ كل ما ضمته المدينة من الثروات. وعاد بها إلى الجزائر، حيث تم توزيعها على المجاهدين بعد تخصيص الخمس (لبيت مال المسلمين) أما الأسرى الذين اقتادهم (خير الدين) من جزيرة (مينورقة) وعددهم ستة آلاف نسمة فقد احتفظ بهم في الجزائر. كان من أثر هذه الإغارة الانتقامية أن تناقصت أهمية انتصارات الإسبانيين في المغرب الإسلامي وأخذت الشكوك في التعاظم حول أهمية ما تبذله القوات الصليبية طالما أن التهديد الذي تمثله الجزائر لا زال قائما، وطالما أن الخطر الذي يمثله (خير الدين) لا زال مستمرا. وترددت أصداء انتصار (خير الدين) - كالعادة - وبصورة متضادة في العاصمتين المتصارعتين (استانبول - و - مدريد) حيث كان الصراع قد وصل ذروته على كافة الجبهات، الأمر الذي دفع السلطان سليمان القانوني إلى استدعاء (خير الدين) إلى القسطنطينية لتولي قيادة

ج - أعداء الداخل في غياب (خير الدين)

الأسطول العثماني. وعندها كلف (خير الدين) نائبه (محمد حسن آغا) بإدارة أمور المملكة الجزائرية وتوجه إلى عاصمة الإمبراطورية العثمانية فوصلها في شهر كانون الأول - ديسمبر 1535م. أصبح باستطاعة (خير الدين) وهو في مركزه الجديد، أكثر قدرة وأشد عزيمة لمتابعة الجهاد ضد الإسبانيين وأنصارهم، وقد عمل على إقناع السلطان سليمان بضرورة شن الحرب على البنادقة، وتم له ذلك في سنة 1537، وعندها انصرف (خير الدين) إلى إدارة الحرب بكفاءة عاليه بحيث لم تمض أكثر من ثلاث سنوات حتى استطاع تجريد البنادقة من كل ممتلكاتهم في بحر إيجه حتى سواحل كريت (أقريطش) وتينوس وميقونرس. ولكن اهتمامه الأكبر بقي مركزا على (الجزائر) التي أحبته وأحبها، وأخلص لها بقدر ما أخلصت له. ومن أجل ذلك أيد بحماسة بالغة مبدأ التحالف مع ملك فرنسا (فرنسيس الأول) ضد إمبراطور الغرب (شارلكان). غير أن تصعيد الصراع على حدود أوروبا البرية وفي شرق البحر الأبيض المتوسط قوبل بتحولات خطيرة على مسرح المغرب العربي الإسلامي واعتمد (شارلكان) هنا على (أعداء الداخل) أكثر من اعتماده على (القدرة العسكرية) للوصول إلى أهداف (الحرب الصليبية الشاملة). ج - أعداء الداخل في غياب (خير الدين) عرف الإفرنج الصليبيون عامة والإسبانيون الكاثوليكيون منهم بصورة خاصة، أن ضعف المسلمين عامة إنما يكمن داخلهم أكثر مما يكمن في قدراتهم وإمكاناتهم. وقد أثبتت تجاراب الصراع في الحروب طويلة الأمد على جبهتي الشرق والغرب، في الشام والأندلس، أن الانتصارات التي أحرزها الصليبيون لم تكن إلا بسبب تمزق العرب

المسلمين وتشتتهم. ولهذا فقد اعتمد قادة الإفرنج باستمرار على الخداع والتفرقة أكثر من اعتمادهم على قوة السلاح، وإذا ما تم استخدام قوة السلاح، فهو من أجل دعم السلاح الأول وزيادة فاعليته. وهكذا جاء (شارلكان) ليسير على سياسة أسلافه وليعمل على تطويرها، فبث جواسيسه وعملاءه في كل مكان، وأخذ في استثمار التناقضاتة المتوافرة من أجل اقتطاف ثمارها. وقد يكون من الصعب استعراض الأساليب المختلفة والطرائق المتنوعة التي تم استخدامها في هذا المضمار، ولعل الإشارة إلى بعضها كافية لإبراز الملامح العامة لما كان عليه الموقف في تلك الحقبة التاريخية من الصراع على جبهة المغرب العربي الإسلامي. كان محمد السابع (1524) بن عبد الله الثاني حاكم تلمسان قد وصل إلى الحكم بدعم الحراب الإسبانية، وثار عليه أخوه عبد الله الذي ناصره جده لأمه عبد الرحمن بن رضوان أحد شيوخ قبيلة بني عامر. ووقف الإسبان خلف الأخوين، يحرضانهما، ويستثيرانهما. وها هو تقرير كتبه الحاكم العام لوهران (بيدرو دي لودي) ورفعه للأسقف بتارخ 20 آب أغسطس - 1531 وفيه ما يلي: 1 - (يخوض الملك عبد الله حربا ضد أخيه عبد الله، وقد أرسل مولاي عبد الله جيشه لقتال أخيه محمد، ووقعت معركة يقال أن النصر فيها كان لجماعة عبد الله، لكن قائد بني راشد جاء على رأس خمسمائة من الرجال، فاضطر أخو الملك إلى الانسحاب، وجميع عرب المملكة قائمون اليوم: بعضهم مع الملك وبعضهم مع الأمير عبد الله. وأنا أظن أن كل العرب في هذه الناحية الشرقية من المملكة سينضمون إلى الأمير عبد الله إذا ما حل بهذه الساحة. ونرجو أن يقع الأمر على هذا

المنوال، لأن أخا الملك أصبح حليفنا، وبذلك سنمسك بجميع خيوط اللعب ويستطيع صاحب الجلالة - إمبراطور إسبانيا - أن يفيد من الموقف حسب إرادته - وأنا أعتقد أن ذلك ممكنا، إذا ما أخذنا بهذه الطريقة: جلالة الإمبراطور يؤيد عبد الله ويعترف به ملكا، ويسلم إليه قسما مهما من الأراضي التي سننتزعها من قبضة الأتراك. لكننا مع ذلك لا نقوض سلطان ملك تلمسان، ونترك له ما بيده من الأرض. وبهذه الطريقة سيعلن الإثنان سرورهما ورضاهما، وسيكونان معا عونا لنا على محاربة - خير الدين بربروس - إن ملك تلمسان، (مولاي محمد) قد دعا إليه أحد اليهود من هنا - وهران - ولا ريب أنه سيتخذه واسطة للدخول في مفاوضات معنا. أما العرب الذين أرسلهم لنا الأمير محمد، فقد اعتبروا دعوة هذا اليهودي لتلمسان فضيحة، وبذلت جهدي لتهدئة خواطرهم. وهذا ما يحدث غالبا لمن يتعامل مع الطرفين المتصارعين في وقت واحد). 2 - وجاء في رسالة الدكتور (لبريخا كوريجبدور) من وهران إلى الإمبراطور بتاريخ 2 أيلول (سبتمبر) 1531 ما يلي: (أبذل قصارى جهدي لإقناع عرب المملكة - تلمسان - بأن ينضموا إلينا، وأعتقد أن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من معاقبة ملك تلمسان على عدم وفائه بعهوده، وعلى عدم سماحه للعرب بأن يبيعونا المؤن كما كانوا يفعلون من قبل. ولقد دخلت في مفاوضات مع الأمير عبد الله، مع حرصي على أن يعرف الملك - مولاي محمد - ذلك بصفة رسمية، حتى يعلم مدى الخسارة التي تلحق به من جراء امتناعه عن خدمة جلالتكم. وقد طلب إلي الملك أن أرسل له شخصا للتفاوض معه منذ خمسة عشر يوما، فبعثت إليه باثنين

من اليهود الحذرين الأذكياء، وهما أفضل من وجدت هنا. وسارت الأمور سيرا حسنا في بداية الأمر، لكن الأحوال ساءت عندما حل بتلمسان مندوب من قبل التركي العظيم (سليمان القانوني) إذ أظهر مولاي محمد عندها الاعتزاز بالرسول التركي، مما جعله لا يقف عند حدود عدم استقبال المندوبين اليهوديين، بل إنه أسلمهما للقتل. وفي هذه الأثناء، أعلمني الأمير عبد الله بأنه سيحل قريبا بوهران، بصحبة نسائه وأولاده والشيوخ المنضمين تحت لوائه، وأعلمني كذلك أنه سيسلم إلي الرهائن التي طلبناها منه. وأشعر في الواقع بالحيرة، لأنني كنت أخبرت الأمر بأنه إذا ما وضع عائلته عندنا في مدينة وهران، وحذا الشيخ المنثمون إليه حذوه، فإن جلالتكم سوف تسلمون له العون من مال ورجال حتى يحتل مدينة تلمسان، على شرط أن يكون أكثر وفاء من أخيه في تنفيذ شروط الاتفاقية التي ستعقد معه). 3 - وكتب حاكم (هنين) رسالة للإمبراطور (شارلكان) في يوم 26 نيسان - أبريل - 1534 يصف بها حالة (الموقف) في تلمسان؛ وجاء في الرسالة ما يلي: (كتبت منذ أيام لجلالتكم أعلمكم أنني اتصلت من جواسيسنا بأخبار عن مولاي محمد ملك تلمسان، أنه قد استعرض يوم 20 من هذا الشهر جيشا أعده لقتالنا، وهذا الجيش مستعد للسفر حيثما يريد. وأخبرني أحد هؤلاء الجواسيس أن الملك قد اتصل برسول من الجزائر يحمل إليه رسالة تخبره بموت - خير الدين - بربروس. فحزن الملك حزنا شديدا، وألقى بنفسه فوق الأرض نائحا منتحبا، ثم نهض وقال للشيوخ الذين كانوا حوله، بما أن والدي بربروس قد مات، فلم يبق لنا من عمل نعمله، وطلب إليهم أن يعودوا إلى بلادهم ريثها

يحصل من الأتراك على العون والتأييد من جديد. فلما سمع الشيوخ حديثه، خرجوا من عنده وكلهم يقول فيه سوءا. ويقول بعض الجواسيس الآخرين أنه جاءت بعد ذلك رسالة من الجزائر تؤكد أن بربروس لم يمت، إنما هو في مكان مجهول. ويقول البعض أن الملك مولاي محمد لا يريد أن يحارب النصارى، لأنه رجل ليس له إرادة على القتال وأنه منصرف إلى ملذاته، وغارق فيها، وأنه لا يفكر إلا في ابتزاز المال من أية جهة كانت. ويقولون إنه جاء من مدينة الجزائر بزوجتين دخل بهما في هذه المدينة، وجاء كذلك بزوجتين أخذهما بمدينة (فاس) عندما كان محاربا لأبيه. وبعدما تولى الملك بتلمسان، تزوج ست عشرة مرة، ولا يفعل شيئا إلا إقامة الحفلات والأفراح، ويلح في طلب المال من أهل المدينة ومن العرب واليهود). 4 - وعندما اندلعت الحرب بين الأخوين ملك تلمسان (محمد) وأخيه (عبد الله) الذي كان الإسبانيون يناصرونه ويناصرون جده (ابن رضوان) انتصر ملك تلمسان، وكتب حاكم وهران (الكونت دي الكوديت) تقريرا بتاريخ 12 تموز - يوليو - 1535 رفعه للإمبراطور شارلكان، وجاء فيه: (إن - ابن رضوان - لا يفكر إلا في أمر واحد ألا وهو الانتقام وأخذ الثأر من مولاي محمد. ولقد طلب مني الإذن بالقدوم إلى وهران، وكذلك طلب بقية الشيوخ الذين بقوا على ولائهم له. وقد منحتهم الإذن. وبما أنه من المهم جدا بالنسبة إلينا أن يبقى العرب دوما مختلفين، فقد حرضت ابن رضوان والشيوخ الذين معه على مواصلة القتال ... وعلى كل فإنني مواصل الجهود لكي يتفاقم أمر الخلاف بين الطرفين).

لقد نجحت هذه السياسة في تحقيق أهدافها، وكان من بعض نتائجها تثبيت أقدام الإستعماريين الإسبانيين فوق بعض مواقع المغرب العربي - الإسلامي. وكان من بعض نتائجها إخضاع الحكام وإشاعة روح التخاذل وهي الروح التي وجدت تعبيرا لها في التحالفات التي أقامها الحكام الإسبان مع بعض الحكام (مثل المعاهدة الإسبانية مع ملك تلمسان) (¬1). لقد كانت عملية (التفتيت المادي والمعنوي) لقوى العرب المسلمين هي المرحلة التمهيدية لتطوير الأعمال العدوانية، والتي سبقتها عملية جمع معلومات دقيقة عن موازين القوى وتوزيعها وإمكاناتها (أعمال الجاسوسية) وقد يكون من الصعب استقراء كافة البيانات والتقارير المتوافرة في هذا المجال غير أنه ليس من الصعب أبدا معرفة الصورة الإجمالية للجهد المبذول خلال مرحلة الإعداد للمرحلة التالية من الحرب، عبر التقريرين التاليين. 5 - تقرير سري إسباني عن قوة الجزائر - سنة 1533: (يحكم الجزائر الآن (حسن آغا) وينوب عنه في حالة غيابه (حاج باشا) و (القائد الصرردو). ويوجد بمدينة الجزائر (1800) تركي , أما ببقية البلاد فيوجد من الأتراك: في تنس 20، في برسك 10، في شرشال 30، في المدية 150، في مليانه 100، في تادلس 60، في بنوره - أوزنوره - 20، في جيجل 20، في القل 20، في قسنطينة 300، فيكون المجموع 735. وهكذا يوجد (2600) تركي تقريبا، وتوجد بمدينة الجزائر (3) آلاف عائلة عربية تقريبا و (300) ¬

_ (¬1) أنظر نص هذه المعاهدة في (قراءات - 4) في نهاية الكتاب.

عائلة يهودية. أما القوة التي بين يدي حسن آغا، وهو مخيم الآن خارج المدينة فهي تشمل (700) تركي وألف فارس وألفي راجل من العرب، ويشمل تسليح الجزائر ما يلي: في البرج الفوقاني ثلاثة مدافع لرمي الحجارة، و (5) مدافع صغيرة. وفي البرج الكبير بباب الواد مدفعان كبيران ومدفعان صغيران. وفي زاوية باب الواد قرب البحر أربعة مدافع، ومن هذا المكان إلى الباب المقابل للجزيرة (17) مدفعا، ومن هذا الباب إلى المسجد الكبير (17) مدفعا من البرونز و (4) مدافع من الحديد. وبين المسجد الكبير ودار الصناعة (21) مدفعا من بينها (6) مدافع صغيرة من الحديد. وبين دار الصناعة وباب عزون (8) مدافع، وفوق الباب ذاته مدفعين صغيرين (يرميان قنابل من الرصاص تزن الواحدة منها كيلوغرام تقريبا). وفي المرسى (8) سفن يحتوي أكبرها على (17) صفا للجذافين. ويشتغلون الآن في المدينة بصنع الخبز المجفف (كعك أو بسكويت) بكل نشاط. وكذلك في المدينة والمليانة، الأمر الذي لم نشاهده من قبل أبدا. ويسود الانزعاج في المدينة لأنهم سمعوا أن الإمبراطور سيعقد الصلح مع ملك فرنسا. لكن خواطرهم هدأت عندما علموا أن السلطان يحهز الآن عمارة قوية - أسطولا). 6 - وهذا تقرير سري إسباني آخر عن حالة الجزائر: إلى صاحبة الجلالة الملكة من فرانسيسكو بيريز دي إيديا كاييز - حاكم بجاية. بجاية 29 آذار - مارس- 1536 (وردت إلينا معلومات من مدينة الجزائر، نقلها لنا ستة من

د - شارلكان وغزو الجزائر

العبيد المسيحيين الذين تمكنوا من الفرار يوم 27 شباط (فبراير) وغادروا الجزائر بسفينة صغيرة أوصلتهم إلى مدينة بجاية. يوجد الآن في مدينة الجزائر ألفان من الأتراك وسبعة أو ثمانية آلاف من مهاجري الأندلس في مدن الجزائر ومليانة وبقاع أخرى وزعها بربروس على الحاميات. أما حاكم الجزائر اليوم فهو من سردينيا، اسمه حسن آغا، وسكان المدينة في قلق شديد، لأنهم اتصلوا بأنباء موثوق بها تفيد تحرك أسطول جلالتكم. وأخبرنا الأسرى المذكورون ان الأمطار الغزيرة التي انهمرت في فصل الشتاء قد هدمت سور المدينة في ثلاث جهات، وعلى مسافات شاسعة، وقد أقدم السكان على ترميم ما تحطم بكل سرعة، لكن العمل لم يتم إلى الآن نظرا لعدم وجود البنائين العارفين. ويقولون هنا أنهم سيستعينون بألف وخمسمائة من العرب المحيطين بالجزائر من أجل إنجاز العمل. أما مدينة قسنطينة ففيها ألف وخمسمائة من الإنكشارية يقودهم تركي اسمه (القائد كلج علي) وبربروس هو الذي أرسل هؤلاء الإنكشارية وبما أن كلج علي هذا تابع لحكومة الجزائر، فلا ريب أنه سيقدم إلى مدينة الجزائر بمجرد علمه بتحرك أسطول جلالتكم). د - شارلكان وغزو الجزائر كان (شارلكان) يعمل جاهدا على خلق كتلة أوروبية قوية تجابه العالم الإسلامي. وعندما توفي الإمبراطور النمساوي (مكسيميليان) طمع (شارلكان) في ضم هذا العرش. وكان ملك فرنسا (فرنسوا الأول) يطمع في السيطرة على هذا العرش أيضا والذي ينضوي تحت لوائه سبعة ملوك وأمراء. ومن هنا، واعتبارا من سنة 1519، بدأ الصراع بين الملكين. واجتمع الأمراء الناخبون (الالكتر) في مدينة

فرانكفورت، وبعد المساومات المعهودة تم الاتفاق يوم 5 تموز (يوليو) 1519 على انتخاب ملك إسبانيا إمبراطورا للغرب وأصبح يحكم معظم إيطاليا وبلجيكا وهولاندا والنمسا وبعض الشمال الإفرنسي بالإضافة إلى الممتلكات الإسبانية في الأرض الجديدة (أمريكا الجنوبية) ووجدت فرنسا نفسها محاطة بالأعداء وهي تكاد تفقد استقلالها، سيما بعد خيانة مارشال فرنسا (الأمير دي بوربون) أثناء الحرب، واتفاق الأمراء على اقتسام ترابها. وبعد معارك طويلة قاسية، وقع ملك فرنسا أسيرا في إيطاليا يوم 24 شباط (فبراير) 1525 وحمل إلى مدريد، حيث أرغم على توقيع معاهدة سلم فيها لأعدائه ما طلبوه منه، وكتب إلى أمه يقول: (سيدتي، لقد خسرت كل شيء، ما عدا الشرف والحياة). ثم أطلق الإسبانيون سراحه بعد أن ترك ولديه رهينة عندهم. وأرسلت أمه - أو أرسل هو عن طريق أمه - رسالة يستغيث فيها بالسلطان سليمان القانوني لنجدته والتحالف معه. وأجابه سليمان إلى ما طلبه (¬1) وما كاد يذاع نبأ هذا الحلف بين سلطان المسلمين وملك فرنسا المسيحي، حتى اجتاحت أوروبا موجة من النقمة، وارتفع صوت التنديد بملك فرنسا الذي يستنجد - بالكفار - أعداء المسيحية ضد ملك مسيحي. وأسهم (شارلكان) بهذه الحملة من أجل تضييق الخناق على فرنسا، وأعلن إلغاءه للمعاهدة السابقة التي عقدها مع ملك فرنسا وكان التحالف الذي تم الاتفاق عليه بين الملك الفرنسي ومندوبي السلطان العثماني ينص على القيام بهجوم مشترك ضد إيطاليا. وفي أيار - مايو - سنة 1538 جمع السلطان سليمان في ألبانيا جيشا كبيرا من ¬

_ (¬1) انظر نص رسالة السلطان سليمان في (قراءات - 5) في آخر الكتاب.

خريطة طرق أهم الحملات الأوربية على الجزائر

مائة ألف مقاتل للهجوم على إيطاليا. وكان معه ولداه (محمد وسليم) وسفير فرنسا في إستامبول (مسيو دولانوي) وفي الوقت ذاته قام (خير الدين باشا) بإنزال قواته في ميناء أوترنته بجنوب إيطاليا، استعدادا لمهاجمتها من جهة الجنوب، بينما يهاجمها السلطان سليمان من جهة الشرق، وملك فرنسا من جهة الغرب، لكن ملك فرنسا أحجم عن التقدم استجابة للرأي العام المسيحي، وأدى ذلك إلى فشل المشروع، وانتهى الأمر بتوقيع هدنة بين ملك فرنسا وبين الإمبراطور (شارلكان)، ووقعا على معاهدة الصلح في (نيس) سنة 1538 بعد أن مارس البابا (بولس الثالث) نفوذه القوي من أجل المحافظة على الوحدة المسيحية، وصدا للتقدم الإسلامي في بلاد إيطاليا. فتحت معاهدة (نيس) المجال الواسع أمام (شارلكان) لإعداد حملته الضخمة ضد الجزائر، لا سيما وأن ملك فرنسا تعهد لشارلكان بأنه لن يحاربه ولن يقوم بأي عمل ضده، أثناء محاربته وتحطيمه لسلطان المسلمين في مدينة الجزائر، ففرنسا والبابا وكل البلاد المسيحية كانت مشتركة في الحملة العظمى على مدينة الجزائر. كان نائب خير الدين في ولاية الجزائر (محمد حسن) يتابع جهوده لإعادة تنظيم البلاد. وتوطيد دعائم الأمن والاستقرار فيها، وحشد القوى والوسائط لتطوير الصراع ومجابهة الاحتمالات المختلفة، غير أن ذلك لم يصرفه عن متابعة الجهاد في سبيل الله في البحر. وقاد مجموعة من العمليات كان من أبرزها إغارته على جبل طارق ومعركته البحرية ضد قوة من الأسطول الإسباني. ففي عمليته الأولى، جهز قوة من (1300) مقاتل حملتهم

تفصيل معركة الجزائر الكبرى وانكسار الإسبان برا وبحرا أمامها

(13) سفينة حربية غادرت الجزائر. في شهر أيلول (سبتمبر) 1539. ووصلت هذه القوة الموانىء الجنوبية الأندلسية، وقامت بالإنزال وأغارت على جبل طارق، فاحتلت البلدة، واستولت على ما فيها من غنائم، وأوغلت في الإقليم وهي تصادر ما يقع تحت أيدي المجاهدين وتختار من الإسبانيين جماعات الأسرى والسبايا لبيعهم في المدن المغربية الجنوبية (تطوان خاصة) ثم تعود للميدان. وعندما تمت العملية وقفل (محمد حسن) راجعا إلى مدينة الجزائر، اصطدم بقوة بحرية إسبانية ضخمة يتولى قيادتها (الأميرال برنارد دي موندوزا) ووقعت معركة ضارية بين القوتين أسفرت عن غرق عدد من سفن الجانيين. وتمكنت القوات الإسبانية من تحرير سبعمائة من الجذافين النصارى الذين كانوا يعملون أسرى فوق السفن الجزائرية. لكن خسائر الإسبان خلال هذه المعركة كانت كبيرة جدا زاد عدد القتل فيها على ثمانمائة قتيل. وأتم شارلكان استعداداته لحملته الحربية البحرية الكبرى ضد الجزائر. وضم جيشه أفضل المقاتلين والنبلاء من إسبانيا وألمانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى المتطوعين، وأيضا إلى الجيش الذي أرسله البابا بقيادة حفيده (كولونا). كما أرسلت رهبنة مالطا (140) فارسا و (400) مقاتلا من المشاة. وأصبح هذا الجيش يضم (24) ألف مقاتل من المشاة - الراجلين و (ألفي) فارس. أما الأسطول فكان يشتمل على (450) سفينة نقل ضخمة و (65) سفينة حربية كبرى. وبلغ مجموع عدد أفراد البحارة (12) ألف رجل، وتولى (أندريا دوريا) قيادة القوة البحرية في حين تولى (شارلكان) بنفسه قيادة الحملة.

وعندما أصبحت الحملة جاهزة للتحرك أصدر البابا يوحنا الثالث بيانا نشره على البلاد الأوروبية كلها، أعلن فيه أن هذه الحملة هي حملة صليبية، وأن واجب كل مؤمن بالمسيح مخلص للنصرانية، أن ينضم إليها وأن يشارك في محاربة الكافرين. وحاولت إسبانيا خلال ذلك إضعاف البحرية العثمانية عن طريق محاولة استمالة (خير الدين - بربروس) وذلك بأن تم إرسال جواسيس من قبل (شارلكان) إلى إستامبول للإتصال مع (خير الدين) ومفاوضته على أساس تعيينه (ملكا) على الشمال الأفريقي كله، واعتراف إسبانيا بملكيته مقابل اعترافه بتبعيته لشارلكان ودفع جزية سنوية محددة. ودخل (خير الدين) في المفاوضات التي استمرت على فترات متناوبة طوال سنتين تحت أشراف (أندريا درريا). وكان (خير الدين) يطلع السلطان على تطور المفاوضات في كل مرحلة من مراحلها، وعندما وصلت مهمة وفد المفاوضات المكون من ثلاثة مفاوصين برئاسة الدكتور (أومبرو) حتى نهايتها، ووفقا لخطة متفق عليها بين خير الدين والسلطان بادر هذا بإلقاء القبض على (الجواسيس الثلاثة) وأودع الدكتور (أرمبرو) في سجن (قلعة الحصون السبعة) بتهمة حث أحد الرعايا العثمانيين على العصيان. وكان وقع هذا الفشل مريرا على نفس (أندريا دوريا) بقدر ما كان مزعجا لإمبراطوره (شارلكان) الذي علق أملا كبيرا في إحراز نصر كبير بثمن بخس إن هو استطاع ضم (خير الدين) لقوته. ولم يبق أمام (شارلكان) غير الحرب، فتحرك بأسطوله الضخم مغادرا (مرسى ماهون) يوم 18 تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1541، ووصل إلى (جون الجزائر) في الساعة السابعة من صباح يوم (20)

تشرين الأول - أكتوبر - وأخذ في إجراء عرض قواته البحرية أمام مدينة الجزائر لإرهاب حاميتها ثم توجه بأسطوله إلى طرف الخليج المقابل لمدينة الجزائر، عند رأس (تامنتغوس - أو تامانتغوس) وخيم هناك مؤقتا، ثم عاد مباشرة نحو الضفة اليسرى لوادي الحراش. وهناك أخذ بإنزال جنده منذ فجر يوم الأحد 23 تشرين الأول - أكتوبر - وفي الساعة التاسعة من اليوم ذاته، نزل الإمبراطور إلى الأرض، محاطا بالأشراف والنبلاء ورجال الحاشية، وأقام المركز العام لأركان حربه الإمبراطوري عند (الحمة أو الحامة) شرقي مدينة الجزائر (حيث حديقة التجارب الآن). وذلك على مقربة من مركز التجمع العام. الواقع بين الحمة وضفة الحراش. فأسرع (محمد حسن) بتجميع كل ما لديه من القوى، واستعد للدفاع، وقرر مع أركان حربه تطبيق الخطة التي نجح الجزائريون في تنفيذها خلال معاركهم السابقة مع الإسبانيين والتي مكنتهم من النصر مرتين متتاليتين. فتحصنوا في المدينة ينتظرون تطور الأحداث ويراقبون بدقة تحركات الإسبانيين ومناوراتهم. وعلى هذا فما أن وطأت أقدام الإسبانيين أرض الجزائر، حتى انطلق المجاهدون الجزائريون للعمل تحت قيادة (المجاهد الحاج بشير) وهم يحيطون بالقوات الإسبانية من كل اتجاه، ويوجهون إليها ضربات مباغتة سريعة بواسطة زمر من الفرسان القليلة في عدد أفرادها والسريعة في انقضاضها وانسحابها بحيث لم تترك للقوات الإسبانية فرصة للراحة أو النوم. وقرر الإمبراطور البدء بتنفيذ معركته في يوم 24 تشرين الأول - أكتوبر - فتولى بنفسه قيادة التحرك نحو الأمام، على رأس الفيلق

الألماني، وترك للفريق الإيطالي وفرسان مالطة مهمة حماية المؤخرة تحت قيادة حفيد البابا (كاميل كالونا). واستمر الإمبراطور في تقدمه، واستمر المجاهدون في الإغارة على القوات الإسبانية، وأرغموها على التوقف حينا عند إحدى الربوات، وفي النهاية وصلت القوات الإسبانية إلى (كدية الصابون - الواقعة على مرتفع خلف مدينة الجزائر)، حيث دارت معركة قاسية مع المجاهدين، تمكن الإمبراطور بعدها من احتلال الموقع الاستراتيجي (للكدية). ووضع أعتدته الثقيلة فيها واتخذ منها قاعدة للهجوم ثم بدأ على الفور بتوسيع قاعدة عملياته، فاحتل مجموعة التلال التي تصل ما بين (كدية الصابون) و (قنطرة العفرون) قرب البحر غربي الجزائر. وبذلك باتت مدينة الجزائر مطوقة ومعزولة في البر والبحر. وعند ذلك، أرسل (شارلكان) من قبله مندوبا (هو الفارس لورنزو مانويل) لإقناع حامية الجزائر بالاستسلام بعد أن باتت مطوقة، وبعد أن ظهر لها مدى التفوق الكبير في القرى التي أحاطت بالمدينة، ووصل المندوب إلى الجزائر، وأبلغ (محمد حسن) الرسالة التي يحملها وهي كالتالي: (أنا ملك إسبانيا الذي استولى على تونس وأخرج منها خير الدين، وتونس أعظم من الجزائر وخير الدين أعظم منك) فأجابه (محمد حسن آغا) بالرساله التالية: (غزت إسبائيا الجزائر في عهد عروج مرة، وفي عهد خير الدين مرة، ولم تحصل على طائل، بل انتهبت أموالها وفنيت جنودها، وستحصل المرة الثالثة كذلك إن شاء الله). في الليلة ذاتها، وصل إلى معسكر شارلكان رسول من قبل والي

الجزائر (محمد حسن آغا) يطلب إذنا للسماح بحرية المرور لمن أراد من أهل الجزائر وخاصة نساءها وأطفالها مغادرة المدينة عبر (باب الواد). وعرف (شارلكان) أن حامية الجزائر مصممة على الدفاع المستميت، وأنه من المحال احتلال الجزائر إلا إذا تم تدميرها تدميرا تاما. ولم يكن الإمبراطور قد أنزل مدفعية الحصار حتى تلك الساعة، فلم يتمكن بذلك من قصف الجزائر بالمدفعية، وفي الوقت ذاته كان المجاهدون الجزائريون يوجهون ضرباتهم الموجعة إلى القوات الإسبانية، في كل مكان، حتى قال أحد فرسان مالطة في تقريره عن المعركة: (لقد أذهلتنا هذه الطريقة في الحرب، لأننا لم نكن نعرفها من قبل). وكانت أعداد المجاهدين تتعاظم باستمرار بفضل تدفق مقاتليهم من كل مكان بمجرد سماعهم بإنزال القوات الإسبانية. وكان هؤلاء يستفيدون في توجيههم لضرباتهم من معرفتهم الدقيقة بالأرض واستخدامهم لمميزاتها بشكل رائع. وبدأ المطر الغزير في السقوط مع بداية الليل، وكانت كثافة الأمطار وغزارتها تتزايد مع تقدم الليل. بينما هبت ريح عاتية من الشمال الغربي، فتعالت الأمواج وتشابكت، وأصبح الأسطول الذي يحمل السلاح الثقيل - المدفعية - والأعتدة والمواد التموينية أمام مأزق خطير. ولم يكن للإسبانيين في تلك الليلة خيام يحتمون فيها من وابل المطر، إذ لم يكونوا قد جاؤا بالعتاد اللازم من السفن. فكان لا بد لهم من قضاء شر ليلة بين الماء والوحل بعد أن قضوا أسوأ نهار في المسير والاشتباك بنيران المجاهدين. ثم أقبل الفجر أخيرا على المجاهدين الذين لم يناموا ليلهم وهم في مدينة الجزائر المحاصرة يستعدون للمعركة الحاسمة. وارتفع الأذان

من المساجد داعيا الناس لبيوت الله، ورددت عشرات مآذن المدينة الدعوة، فأنزلت السكينة على النفوس. وما كادت تنقضي الصلاة، حتى فتحت أبواب المدينة بصورة مباغتة، وتدفقت موجات المجاهدين وهي تردد بصوت واحد صيحة الحرب (الله أكبر). وقاد المجاهد (الحاج البشير) الهجوم على ميمنة الخط الإسباني، وكانت مستقرة أمام رأس تافورة (بين إدارة البريد المركزي اليوم والبحر). وتلقت الفرقة الإيطالية الصدمة الأولى، فلم تتمكن من الصمود لها، واستولى عليها الرعب والفزع، فتقهقرت متراجعة بدون نظام حتى وصلت إلى معسكراتها. وازداد المجاهدون إقداما واندفاعا لاستثمار هذا النصر الأول. فواصلوا هجومهم في مطاردة فلول الهاربين إلى أن اصطدموا بكامل الفرقة الإيطالية التي كانت تحتل القطاع الأوسط في التنظيم القتالي للقوات الصليبية. وعلى الرغم من التفوق الساحق للقوى الإيطالية، فقد اندفع المجاهدون بحماسة لا توصف لقتالها. ولم تتمكن الفرقة الإيطالية من الصمود أمام الهجوم القوي للمجاهدين. واضطرب أمرها. فولت منهزمة، وتشتت إلى مجموعات صغيرة. ووجد المجاهدون الجزائريون فرصتهم لإبادة ما يستطيعون إبادته من هذه القوى الممزقة. ولم تتوقف المذبحة إلا عندما تدخلت فرقة فرسان مالطة. كانت هذه الفرقة تقف على مسافة بعيدة من مواقع القوات الإيطالية، فما كادت ترى ضراوة المعركة، وتمزق القوات الإيطالية، مما بات يهدد الجيش الإمبراطوري كله بالدمار، حتى اندفعت بكامل قوتها، وتمركزت في الفج الصغير الذي يقع وراء الجسر والذي يمر منه الطريق المؤدي إلى كدية الصابون، فضمنت بذلك حماية فلول

القوات الإيطالية، واضطر المجاهدون الجزائريون لإيقاف هجومهم حتى لا يتعرض طريق انسحابهم للتهديد. وفي الوقت ذاته اندفع القائدان الصليبيان (كولونا والأمير صالمون) ومعهما زمرة من الفرسان لإيقاف الفرقة الإيطالية، ومنعها من التوغل في فرارها، وأمكن لهما بعد جهد كبير إيقافها وإعادة تجميع من بقي منها بعيدا عن أرض المعركة. عند هذه المرحلة أصدر القائد (الحاج البشير) أمره إلى المجاهدين بالتراجع المنظم مع المحافظة على التماس مع العدو حتى الوصول إلى أسوار مدينة الجزائر وتحصيناتها، وتم تنفيذ عملية التراجع بطريقة رائعة حسبها فرسان ماطلة انسحابا من المعركة. فانطلقوا بثقل قوتهم لما حسبوه مطاردة، حتى إذا ما وصل المجاهدون بكتلتهم المنظمة إلى مسافة قريبة من حصن (باب عزون) قام رجال الدفاع الجزائريون بفتح الأبواب، ودخل المجاهدون، ثم أغلق الباب بسرعة وأحكم رتاجه وبقيت قوات العدو مكشوفة تجاه السور، تحت سيل المطر الغزير، ولم يعد باستطاعة فرسان مالطة التقدم إلى الأسوار واقتحامها، كما لم يعد باستطاعتهم التراجع بعد أن أصبح سلاح الجزائريين يحصدهم جميعا من وراء ظهورهم. وامتطى الإمبراطور (شارلكان) صهوة جواده حين بلغته أنباء الكارثة التي نزلت بالقوة الإيطالية، وتقدم مع النبلاء ورجال الحاشية ومهرة الفرسان لنجدة فريق مالطة واقتحم مع قواته منطقة الخطر تحت نيران الحصون الجزائرية ففقدت القوات نصف عدد أفرادها. وأثناء ذلك لم يوقف الجزائريون من عرب الداخل عملياتهم على مؤخرة القوات المعادية. وزاد الأمر سوءا بالنسبة لقوات الفرنج الصليبيين

عندما وقفوا عاجزين عن استخدام أسلحتهم النارية التي أفسدت السيول والأمطار بارودها وحولته إلى كتل من العجين غير المتفجر. في حين كان المجاهدون فوق الأسوار يستخدمون أسلحتهم النارية بصورة رائعة، كما كان النازحون الأندلسيون يستخدمون بكفاءة عالية القسي الحديدية لرمي السهام البعيدة المدى بدقة مثيرة للإعجاب. وتكسرت موجات الهجوم واضطرت للإنسحاب بعد أن تركت فوق أرض المعركة الغارقة بالوحل أعدادا كبيرة من القتلى. وهكذا وبينما كانت معركة يوم 25 تشرين الأول - أكتوبر -تسفر عن نصر حاسم لمصلحة القوات البرية الجزائرية، كانت العواصف تقوم بدورها لتمزيق الأسطول البحري الإسباني، إذ أدت الأمواج المتلاطمة إلى ضرب قطع الأسطول بعضها ببعض - وخاصة منها سفن النقل الكبيرة - لتعمل على تحطيمها والقذف بها فوق أرض الساحل. وأسفر هذا الموقف عن كارثة حقيقية نزلت بالأسطول الصليبي، عندما تجاوز عدد سفن النقل التي تحطمت على الساحل (150) سفينة. وكان المجاهدون المسلمون من عرب البلاد الداخلية يغنمون ما فيها ويأسرون رجالها. أما السفن الحربية التي كانت أمتن صنعا وأحسن قيادة فقد انسحبت من موقع الخطر، مستعملة المجاذيف، واستمرت عمليتها هذه نحو من أربع وعشرين ساعة. غير أن هذه السفن الحربية التي ناورت بمهارة مبتعدة عن مركز الخطر، كانت تحمل في جوفها خطرا أكبر، إذ كان العاملون على مجاذيفها من أسرى المسلمين المستعبدين في معظمهم، وكان هؤلاء يتابعون تطورات المعركة بحذر ويقظة، وتبين لهم أن لحظتهم المناسبة قد أزفت لتحرير أنفسهم من العبودية،

ولتقديم خدماتهم لإخوانهم المجاهدين في سبيل الله في الوقت ذاته. فتركوا المجاذيف، واندفعوا يجرون سلاسلهم وأغلالهم الثقيلة ويبغون النجاة مهما كان الثمن. وأدت هذه العملية إلى ارتطام (16) سفينة حرببية بجدران الساحل. ونجح المجاهدون الجزائريون في إنقاذ ألف وأربعمائة بحار منهم، وأنزلرهم الجزائر. وأراد الإمبراطور (شارلكان) وأركان حربه إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما قذف به الأسطول إلى ساحل البحر من سلاح وعتاد إلى جانب إنقاذ البحارة من القتل أو الأسر أو الغرق بعد أن انقلبت سفنهم وباتوا وهم يئنون تحتها بين الأمواج المتلاطمة. فبعثوا فرقة إنقاذ إلى الساحل، غير أن هذه الفرقة وقفت عاجزة عن القيام بأي عمل. فقد سبقهم المجاهدون واستولوا على كل ما قذف به البحر، أما بقية محتويات السفن فقد أخذت طريقها إلى عمق المياه، بما في ذلك المدفعية والمعدات والذخائر والمواد التموينية. وانتشرت قطع السفن المدمرة فغمرت مياه الساحل على امتداد مائتي كيلو متر، ما بين شرق دالس وغرب شرشال. وكان (أندريا دوريا) يشرف على العمليات البحرية من فوق ظهر سفينته الضخمة (طومبيراس) ويحاول الدفاع عن رجاله وحماية متاعه وكل ما قذفت به الأمواج على الساحل وذلك بمنع وصول المجاهدين إليه، فكان يتقدم من الساحل وهو يصارع الأمواج، ويتابع رمي قنابله وقذائف مدفعيته، غير أن محاولاته لم تحقق هدفها، بل إنها زادت من حجم الكارثة وتسببت في تدمير سفينة حربية أخرى. لم يفقد الإمبراطور (شارلكان) رباطة جأشه، وعلى الرغم من

استسلامه لقضاء الله وقدره وترديده باستمرار للعبارة التالية (فلتكن إرادتك يا رب). فقد مضى لإعادة تنظيم القوات، غير أنه كان من المحال عليه معالجة المأزق الصعب الذي وقع فيه، فقد هيمن الرعب والفزع على قواته، وفقد معظم مواده التموينية فبات جيشه مهددا بالجوع، بالإضافة إلى أن قوة الجزائريين كانت تتعاظم باستمرار وهم يتابعون الموقف من وراء الأسوار ويستعدون للانقضاض على قواته من جديد. وانطلق يستشير هيئة أركان حربه وكبار معاونيه ممن أبقت عليهم المعركة. وكانت الحلول المتاحة أمامه محدودة، فإما الإنسحاب ببقايا قواته وأسطوله وإما إعادة تنظيم ما بقي لديه من القوى والوسائط واختيار بقعة مناسبة للدفاع عنها في انتظار تحسن المناخ ووصول إمدادات جديدة من أوروبا. وانقسمت وجهات نظر القادة في تأييد أحد الحلين الوحيدين. وكان رأي قائد الأسطول (أندريا دوريا) هو العامل الحاسم في ترجيح أحد الاحتمالين - أو الحلين -. وقد حدد (أندريا) موقفه من الأزمة بوضوح، فأرسل من سفينته فدائيا أسبانيا، حمله رسالته، وقد استطاع هذا الفدائي مصارعة الأمواج والتسلل من بين المجاهدين حتى وصل إلى خيمة الإمبراطور، وأبلغه رسالة قائده التي جاء فيها: (وأما من جهة البحر فإنه من المحال بقاء الأسطول في مركز الخطر داخل الخليج، لأن بقية السفن ستتحطم حتما، إن هو لم يعمل على سحبها فورا إلى جهة (تامانتغوس) المواجهة لمدينة الجزائر على الطرف المقابل من الخليج، وأما من جهة البر، فإنه يرى بأنه من المحال أيضا البقاء أو الانتظار وأنه من الواجب الانسحاب فورا ببقية الرجال،

وركوب سفن الأسطول الباقية للوصول إلى جهة - تامانتغوس). وأيد معظم قادة الجيش وجهة نظر قائد الأسطول، إلا القائد الإسباني (فرناندو كوريتز) الذي كان يرى وجوب البقاء والمقاومة (¬1) ووقف معه أيضا الكونت (د. الكوديت) حاكم وهران العام. وهكذا رجحت كفة الانسحاب، وبدأت المسيرة الشاقة للابتعاد عن الأسوار، واختراق ضفة البحر، للوصول إلى رأس (تامانتغوس). ونظرا لنفاد المواد التموينية، فقد أمر الإمبراطور بذبح الخيول التي كانت لدى الجيش، وتوزيع لحمها لإطعام الرجال، مبتدئا بذبح تلك الخيول العربية البديعة التي جاء بها لنفسه. وبات الجيش الصليبي في تلك الليلة وراء (وادي خنيس). ثم استأنف الجيش تحركه في اليوم التالي (27 تشرين الأول - أكتوبر) حتى وصل وادي الحراش. ولما كانت مياه الطوفان قد ارتفعت كثيرا فقد بات من المحال متابعة المسير. وتم التوقف أمام الوادي. وفي صبيحة يوم الجمعة (28 تشرين الأول - أكتوبر) استطاع الجنود صنع جسر من أخشاب السفن عبروا عليه إلى الضفة الأخرى. وتابعوا تحركهم البطيء حتى وصلوا (وادي الحميض - أو الحمير) فباتوا عنده. واستؤنفت المسيرة يوم السبت (29 - تشرين الأول - أكتوبر) وأمكن الوصول في النهاية إلى رأس (تامانتغوس). لم تكن مشاق الطريق ووعورته وصعوبة التحرك هي كل ما ¬

_ (¬1) اكتسب (فرناندو كوريتز) بجدارة شهرة جلاد أمريكا الجنوبية - أو السفاح - وكان حافزه للبقاء والمقاومة هو رؤيته لسفينته المحملة بالكنوز من الذهب والفضة والحجارة الكريمة التي اغتصبها من أصحابها سكان القارة الأمريكية وقد غرقت في مياه الجزائر، فلم يبق له من أمل في الحياة إلا كسب المعركة على أمل التعويض عن بعض ثروته المفقودة.

تعرض له الجيش الصليبي أثناء تراجعه، وإنما كانت الصعوبة الحقيقية هي في رد الإغارات التي شنها المجاهدون الجزائريون والتي لم تتوقف طوال أيام المسير، في الليل كما في النهار، مما اضطر الإمبراطور (شارلكان) إلى وضع الفرقة الإيطالية في الميمنة، وعلى أبعد مسافة من الضربات المحتملة للجزائريين، في حين أسند حماية المجنبة اليسرى والمؤخرة للفرسان المالطيين والمشاة الإسبانيين. وتولى هو بنفسه قيادة المؤخرة، لرد هجمات المجاهدين، وإنقاذ من يسقط من الرجال. وبذلك لم تصل القوات إلى منطقة أنقاض مدينة (رسغوليا) - المدينة الرومانية القديمة - إلا وقد استنزفت المسيرة بقية ما تمتلكه من القدرة والجهد. وقضت بتلك الأطلال يومي الأحد والإثنين، حيث استعادت بعضا من قوتها، ثم بدأت عملية ركوب البحر يوم الثلاثاء (الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر -) وانتهت عملية الركوب يوم (3) تشرين الثاني، وكان الإمبراطور هو آخر رجل ركب البحر إلى مدينة بجاية، وفي الطريق ابتلع البحر الهائج بعضا من السفن أيضا، وأصاب بعضها بالعطب، فكانت أعمال الإصلاح والترميم تتم فوق السفن بلا انقطاع وتوقف. وعندما وصلت القوات إلى بجاية. وجدت أن الموقف أسوأ مما كان متوقعا. فقد أحكم المجاهدون العرب الحصار على الحامية، ومنعوا عنها التموين، إلا ما كان يقدمه بعض العملاء بأثمان خيالية وبكميات محدودة. ومضى الإمبراطور إلى المساجد التي تم تحويلها إلى كنائس، يمضي معظم وقته بالصلوات والابتهالات. وأصدر أمره بإبقاء الكنائس مفتوحة في الليل والنهار للعبادة. كما أعلن الصيام تذللا إلى الله وخشوعا. ولم يجد الإمبراطور في بجاية ما يعمله فأصدر أمره بجمع اليهود وقتل بعضهم واسترقاق الآخرين وبيعهم في أسواق أوروبا.

ومكث الإمبراطور أربعة عشر يوما في (بجاية). وغادرها يوم (16) تشرين الثاني (نوفمبر) 1541م بعد أن وعد حاميتها بالدعم السريع والإمداد العاجل، وعندما وصل إلى بلاده، رمى بتاجه إلى الأرض، وأقسم ألا يضعه على رأسه إلا بعد استيلائه على الجزائر. وحرم نفسه من وضع التاج لأنه لم يتمكن أبدا من تحقيق هدفه. وبقيت الجزائر (المحروسة) منيعة على المعتدين. فاقت نكبة الجيش الصليبي الذي قاده (شارلكان) كل نكبة تعرضت لها الحملات الصليبية من قبل. إذ بلغت خسارة هذا الجيش (200) سفينة من بينها (30) سفينة حربية و (200) مدفع و (12) ألف مقاتل - بين قتيل وغريق وأسير - بالإضافة إلى كامل عتاد الحملة وتجهيزها وتموينها. وكانت غنائم المسلمين عظيمة وصفها أحد مؤرخيهم بقوله: (وبقيت الجزائر كالعروس تختال في حليها وحللها من رخاء الأسعار، وأمن الأقطار ولم يبق لهم عدو يخافون منه، وشاعت هذه القضية في مشارق الأرض ومغاربها، وبقي رعب المسلمين في أعداء الدين مدة من الزمن بأمن الملك العلام ... وخلف اللعين لأهل الجزائر ما ملأ أيديهم غناء، وكسبت البلاد من ذلك أموالا طائلة، وفرج الله على أوليائه المسلمين) (¬1). وفي يوم 25 كانون الأول (ديسمبر) 1541 بعث الكونت (الونزو دي قرطبة) تقريرا من وهران إلى والده (الكونت د. الكوديت) حاكم وهران. حيث كان ينوب عنه أثناء غيابه وجاء في التقرير ما يلي: ¬

_ (¬1) عن: حرب الثلاثمائة سنة، أحمد تويق المدني، ص 297 - 298.

(وردتني معلومات جديدة وموثوقة من الجزائر تفيد بأن الأتراك أنقذوا خمسا من السفن - الإسبانية - التي سحبت أربع منها سالمة إلى الساحل، أما الخامسة فمصابة بعطب بسيط. كما أخرج - الجزائريون - من الماء ستين مدفعا بين كبير وصغير - منها عشرين مدفعا ضخما. وأرسل حسن آغا مندوبا منض قبله إلى ملك تلمسان (الملك محمد) يسأله الإعانة استعدادا لتلقي صدمة الأرمادا الجديدة. كما أرسل مندوبين عنه إلى (فليز - أوباديس) على الساحل الشمالي المغربي من أجل صناعة سفن وابتياع أشياء تحتاجها مدينة الجزائر. كذلك أرسل - حسن آغا - مندوبين اختارهم من بين الفضلاء، وجهزهم تجهيزا حسنا، إلى (حامد بن سليمان) وهو الآن شيخ محلة ملك تلمسان، يسأله القدوم لنجدته في الوقت الذي يعينه له. فأجابه الشيخ حامد: بأنه سيقدم حالا للنجدة إذا بقي على رأس المحلة. كذلك استصرخ حسان آغا لنجدته القائد المنصور وكبار المرابطين بالمملكة التلمسانية). تلقى (محمد حسن آغا) والي الجزائر ونائب (خير الدين) لقب (الباشا) مكافأة له على ما قدمه من جهد، وما بذله من تضحية، وما أظهره من كفاءة في إدارته للبلاد وفي إحباطه للهجمة الصليبية التي قادها (شارلكان) والتي كان له فضل لا ينكر في إدارة حربها. ومضى (محمد حسن باشا) إلى حشد الإمكانات والقوى بمجرد الانتهاء من معركته. وعمل على استثمار الظفر فتقدم على رأس جماعة قليلة من الجيش إلى (بسكرة) وغيرها من بلاد (الزيبان) وما يحيط بها حتى تخوم الصحراء، وأسفرت رحلته هذه عن انضمام كل هاتيك الجهات إلى النظام الجديد الذي ثبتت جذوره في العاصمة الجزائرية. لكن أعداء الداخل لم يتوقفوا عن التآمر مع أعداء قومهم

هـ - الصفحة الأخيرة في حياة (خير الدين)

ودينهم، وكان زعيم عائلة ابن القاضي في (كوكو) وهو (محمد بن محمد) من أبرز المتآمرين. وكان شارلكان في حاجة بعد هزيمته لدعم مثل هؤلاء الخونة. فدعم اتصالاته بهم. وفي تلمسان، قاد (أبو زيان) شقيق الملك محمد - المرتبط بمعاهدة تحالف مع (شارلكان) حركة تمرد، ودعمه (محمد حسن باشا) بالقوات وأمكن دحر (الملك) وإخراجه من تلمسان. وعندئذ تحرك حاكم وهران (الكونت د. الكوديت) لدعم (الملك محمد). ووقعت معركة بين (الملك محمد والقوات الإسبانية) من جهة وبين (أبو زيان) والقوات الوطنية الجزائرية من جهة أخرى عند (شعبة اللحم) على نحو ستة كيلو مترات إلى الشمال الشرقي من (عين تموشنت). وبعد قتال ضار انتصر المسلمون، وتمكنوا من إبادة القوة الإسبانية في شوال 950 - هـ (كانون الثاني - يناير - 1543). وعندما علم (شارلكان بالكارثة الجديدة، أرسل جيشا من (15) ألف مقاتل إلى حاكم وهران بمهمة الاستيلاء على (تلمسان) وأخضاعها من جديد، واستطاع السلطان محمد حشد مثل هذا العدد. فأمكن له بذلك استعادة سيطرته على تلمسان. غير أن أخاه (أبا زيان) عاد فنظم قواته، ودعمه أهل تلمسان والمسلمون، وأمكن له في (معركة الزيتون) الانتصار على أخيه (الملك محمد) الذي فر إلى بلاد (انكاد) للاستنجاد بقبيلتها القوية. غير أن هذه القبيلة، وقد عرفت خيانته وتعاونه مع أعداء الدين، عملت على قتله هو ومن معه، وانتهت بذلك حياة أخطر أعداء الداخل وعادت تلمسان لتسهم مع الجزائر في بناء المستقبل. هـ - الصفحة الأخيرة في حياة (خير الدين) لم يكن (خير الدين) وهو في عاصمة الإمبراطورية

(القسطنطينية) يمارس عمله قائدا أعلى للأسطول الإسلامي العثماني، غافلا أو متغافلا، عما يدبره أعداء المسلمين. وقد تابع المراحل المختلفة التي أعد فيها (شارلكان) حملته. وقد اقترح منذ شهر حزيران (يونيو) 1541 تجهيز أسطول حربي من مائة سفينة، يتم إرسال خمسين سفينة منها إلى مياه الجزائر لاعتراض الأسطول الإسباني. في حين يتم إرسال خمسين سفينة أخرى لاعتراض هذا الأسطول وهو في عرض البحر - غير أن المسؤولين في الديوان - الوزارة - لم يوافقوا على الاقتراح بحجة أن الجهد الحربي الذي تتطلبه الدولة في صراعها مع الغرب يتطلب المحافظة على الكتلة الرئيسية للقوات البحرية في مياه شرقي المتوسط. غير أنه تقرر إرسال دعم عاجل بمجرد التأكد من تحرك (شارلكان) إلى الجزائر. بحيث يقف الأسطول الإسباني عندها محاصرا بين القوات الجزائرية برا، والأسطول العثماني بحرا. وهكذا فما كادت أخبار الحملة الإسبانية على الجزائر تصل إلى الديوان حتى جهز (خير الدين) أسطرلا قويا، وتولى قيادته بنفسه وهو ييمم شطر مياه الجزائر. غير أن معركة الجزائر لم تستمر أكثر من (12) يوما - من الأحد 23 تشرين الأول - أكتوبر - وحتى يوم الخميس 3 تشرين الثاني - نوفمبر - 1541. وعندما وصل (خير الدين) كانت المعركة قد انتهت بالانتصار الحاسم للقوات الجزائرية. وتوقف (خير الدين) فترة قصيرة، اطلع فيها على تطورات الموقف، وشارك شعب الجزائر فرحة انتصاره. ثم انطلق بأسطوله نحو المياه الأندلسية والمياه الإيطالية، متنقلا ما بين مدنها الساحلية، موجها الإغارات للتوغل داخل الأقاليم حيث كان المجاهدون يندفعون بحماسة فيقتلون ويأسرون ويغنمون، وهم في ذلك كله ينتقمون لما حل بالمسلمين في تونس ووهران وتلمسان.

وبجاية، علاوة على ما نزل بمسلمي الأندلس. وحصل المسلمون عل مغانم ضخمة، هي بعض ما غنمه الإسبانيون من ثروات العالم الجديد (أمريكا الجنوبية). ولم يكن باستطاعة بقايا الأسطول الإسباني الخروج لاعتراض (خير الدين) بعد خسارته الفادحة في الجزائر، فمارس المسلمون إغاراتهم بحرية مطلقة. وفي تلك الفترة حدث تحول على الساحة الأوروبية. فقد تدهورت العلاقات من جديد بين ملكي إسبانيا وفرنسا. وكان الإسبانيون قد قتلوا في (لومبارديا) بإيطاليا رسولين فرنسيين، كانا يعبران البلاد الإيطالية المحتلة وهما تحت لواء السلام المنعقد بمدينة (نيس). وكان ألهما يحمل رسالة لدولة البندقية. في حين كان الثاني يحمل رسالة للسلطان (سليمان القانوني) فعادت الحرب بين الدولتين التي سيرتها الأولى. ومد السلطان سليمان يده من جديد إلى (فرانسوا الأول - ملك فرنسا) ضد العدو المشترك (شارلكان) , وتولى (خير الدين) قيادة الأسطول، وجعل من مدينة (مارسيليا) قاعدة لقيادته ومقرا لأسطوله وهناك - في مارسيليا - باع خير الدين ورجال أسطوله الغنائم التي حملوها معهم من إسبانيا، كما باعوا فيها رقيق الإسبان من الرجال والنساء. فتداولتهم أيدي القوم، واشتراهم الإفرنسيون بضاعة رابحة، ثم أخذوا يبيعونهم بأرباح طائلة إلى يهود (ليفورنو) الإيطالية، وكان هؤلاء بدورهم يعيدون بيع الأسرى الأرقاء إلى الإمبراطور (شارلكان) بأرباح خيالية. وانضم الأسطول الفرنسي إلى الأسطول العثماني بأمر من ملك فرنسا. ووضع قائد الأسطول الإفرنسي (الأمير فرانسوا دوبوربون) قواته تحت قيادة (خير

الدين) باعتباره القائد العام للقوات المتحالفة (العثمانية - الإفرنسية). وكان أول عمل قام به (خير الدين) هو قيادة القوات لمهاجمة (نيس) وطرد (حاكمها دوق سافوا) وانتزاعها من الحكم الإسباني وإعادتها لملك فرنسا. ثم استقر خير الدين بأسطوله في مدينة (طولون) وجعلها قاعدة للجيش الإسلامي والأسطول الإسلامي، بعد أن غادرها معظم سكانها بأمر ملك فرنسا، وتركوها في أيدي المسلمين. ثارت ثائرة المسيحية جمعاء ضد هذا التصرف الإفرنسي. وأخذت الدعاية المضادة للمسلمين تجتاح أرجاء أوروبا، يحملها الإسبان وغلاة الصليبية، ويستثمرونها إلى أقصى الحدود. ومن ذلك قولهم: (إن خير الدين قد اقتلع أجراس الكنائس، فلم تعد تسمع في طولون إلا آذان المؤذنين) وبقي خير الدين والجند الإسلامي بمدينة طولون حتى سنة 1544م. وكان (شارلكان) أثناء ذلك قد هاجم شمال شرقي فرنسا، وانهزم تحت جدران (شاتو تييرى) (¬1) ثم اضطر للذهاب إلى ألمانيا، حيث كانت حركة التمرد البروتستانتي ضد الكاثوليكية بصفة عامة، وضده بصورة خاصة، قد أخذت أبعادا خطيرة. وأرغمه ذلك - بعد أن هوى نجمه وذبل عوده بنتيجة نكبته أمام الجزائر - إلى عقد معاهدة مع ملك فرنسا يوم 18 - أيلول (سبتمبر) 1544 في مدينة (كريسبي دي فالوا) (¬2) - ونتج عن هذه المعاهدة جلاء (خير الدين) وقواته عن ¬

_ (¬1) شاتو - تييري: (CHATEAU - THIERY) قصر في دائرة (الايسن AISINE) على بعد 41 كيلو مترا من سواسون: (SOISSONS) على نر المارن. (¬2) معاهدة كريسبي (LA PAIX DE CRESPY) هي المعاهدة التي تم التوقيع عليها لأن فرانسوا الأول وشارلكان لإيقاف الصراع بينهما. وكريسبي: (أو كريبي: CREPY) هي مدينة في الايسن: AISNE مقاطعة (لوان: LOAN)

مدينة (طولون) ورجع إلى العاصمة (استانبول). وبما أن الحرب لم تتوقف بين إسبانيا والمسلمين، فقد استمر (خير الدين) في ممارسة الأعمال القتالية أثناء طريق عودته، فتوقف أمام مدينة جنوة، وارتاع مجلس شيوخها، فأرسل له مجموعة من الهدايا الثمينة مقابل عدم التعرض للمدينة بأذى، فتابع (خير الدين) طريقه حتى وصل جزيرة (البا) التي كانت تحت حكم إسبانيا - والتي أصبحت منفى نابليون بونابرت فيما بعد - فاحتلها، وغنم ما بها، كما احتل عددا من المدن الساحلية، من بينها مدينة (ليباري) ورجع إلى العاصمة وسفنه مثقلة بالغنائم فاستقبل كأحسن ما تسقبل به الأم أبناءها البررة. ولم يعمر خير الدين بعد ذلك طويلا، ومضى إلى جوار ربه، وكان قد سبقه رفيق جهاده - واليه على الجزائر - محمد حسن باشا سنة 1544م. فتم تعيين المجاهد (القائد الحاج بكير) لولاية الجزائر بصورة مؤقتة ريثما يتم تعيين وال جديد. وتوفي (خير الدين) ولم يترك من الولد بعده إلا ابنه حسان وكانت أمه عربية من مدينة الجزائر. واعترافا بفضل خير الدين، وتلبية لرغبة الجزائرين، أسند السلطان (سليمان القانوني) رتبة (أمير البحر - باي لرباي) إلى ابن خير الدين الوحيد (حسان) الذي ولد بمدينة الجزائر وتربى بين أهلها، وتعلم على أيدي علمائها. وكانت أمه سليلة إحدى بيوتاتها الكبيرة. وغاب بوفاة (خير الدين) نجم طالما أضاءت له سماء المسلمين في البر والبحر، وانطوت بغيابه صفحة ناصعة من صفحات الجهادفي سبيل الله لتبدأ صفحة جديدة.

و - خير الدين وموقعه في فن الحرب

غير أن ما تركه للدنيا يبقى خالدا في الدنيا، وما عمله لآخرته يلقاه خالدا مع الخالدين. وأفضل ما أقامه في الدنيا هو تكوينه للدولة الجزائرية التي أخدت على عاتقها واجب (الجهاد في سبيل الله) ضد كل الحملات الصليبية. و- خير الدين وموقعه في فن الحرب لم تكن حروب (خير الدين) في البر والبحر إلا نوعا من (حروب الإيمان) التي عرفها العرب المسلمون ونشروها على الدنيا كلها. ولقد أبرزت الملامح العامة لسيرة (خير الدين) وفقا لما سبق عرضها أن هذا القائد العظيم قد جابه في حياته صعوبات لا نهاية لها، بل إن هذه السيرة لم تكن أكثر من سلسلة من العقبات والصعوبات الآخذ بعضها برقاب بعض والتي لم يكن أقلها مجابهة قوات متفوقة على قوته بما لا يمكن قياسه أو مقارنته في موازين القوى التقليدية، ولم يكن أقلها أيضا التعرض لنكسات مريرة وصلت به إلى حد التجرد من كل القوى، إلا قوة الثقة بالنفس والإيمان الذي لا حدود له، والتي لم يكن أقلها كذلك فقد الأعزاء - أخوته في الدم وفي الجهاد في سبيل الله حيث سقط الثلاثة فوق ثرى المغرب العربي الإسلامي -. والأمر مماثل فيما تلقاه (خير الدين) من الغدر على أيدي أعداء الداخل من الخونة والذين خذلوه المرة بعد المرة، غير أن ذلك لم يضعف من تصميمه، أو ينال من عزيمته. ثم جاءت أخطار البحر والجوع والعطش والحرمان كلها لتحتل مكانتها في جملة ما جابهه (خير الدين) من العقبات والصعوبات. وقد كان من المحال احتمال ذلك كله - أو حتى بعضه لولا

ضريح البطل خير الدين باشا بحي باشكطاش باستامبول

(الإيمان المطلق) ولولا ما يفرضه هذا الإيمان من فضائل كثيرة: كالوفاء والإخلاص وإنكار الذات والاستعداد الدائم للتضحية والصدق والشجاعة بكل أشكالها. وكانت حروب (خير الدين) نوعا من (حروب الإيمان) في البر والبحر، وهو ما أكدته سيرة القائد الخالد، وهو ما تبرزه القصة التالية: (عندما توفي عروج، وأسندت إلى خير الدين القيادة، استدعى رجاله ليتهيأوا للحرب ضد الإسبان الصليبيين، وبينما هو يعمل من أجل إخراج هذه الفكرة من حيز القول إلى حيز العمل، إذ جاءه رسول من ملك إسبانيا (شارلكان) يأمره بالتخل عن الجزائر لأنها كانت تحت تصرف الإسبان، ويستطيع الإسبانيون أن يخرجوها من أيدي العثمانيين وخير ملك إسبانيا (خير الدين) بين أمرين: أولهما أن يسلمها دون قتال، وثانيهما أن يستعد للقتال. وذكر له بأنه يجب ألا ينسى أن الإسبان لم تخذلوا في معركة، وأنهم قتلوا أخويه إلياس وعروج، وإن تمادى فيما هو عليه وركب رأسه فإن عاقبته ستكون كعاقبة أخويه. فأجاب خير الدين: ((سترى غدا، وإن غدا ليس ببعيد، أن جنودك ستتطاير أشلاؤهم، وإن مراكبك ستغرق، وإن قوادك سيرجعون إليك مكللين بعار الهزيمة). عند ذلك طاش عقل الملك من هذا الجواب الحاسم، وطار لبه، وجهز كل ما عنده من قوة وحضر إلى الجزائر، وخرج له خير الدين ومعه حزم وعزم، وتلا على جميع قواده وجنوده قوله تعالى {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}. وتقدم للميدان ومعه رجاله، وقال لهم: (إن المسلمين في المشرق والمغرب يدعون لكم بالتوفيق، لأن

انتصاركم انتصار لهم، وإن سحقكم لهؤلاء الجنود الصليبيين سيرفع من شأن المسلمين وشأن الإسلام). فصاحوا كلهم (الله أكبر) وهاجموا الإسبان فأبادوهم عن آخرهم) (¬1). إن هذه الصورة لا تختلف أبدا، لا في شكلها ولا في مضمونها عن صور أولئك القادة المجاهدين في سبيل الله، والذين خرجوا من جزيرتهم فحملوا إلى الدنيا رسالة الإسلام. غير أن الموقف العام لم يكن في عهد (خير الدين) مشابها لما كان عليه أيام الفتح، فقد أخذ الضعف طريقه إلى قلوب المسلمين وأنظمتهم، فقد كانوا من قبل تحت قيادة واحدة لا تسمح لأعداء الداخل بالظهور أو بممارسة دورهم في التأثير على التيار العام. في حين أصبح لهؤلاء دورهم في توجيه الأحداث وكان أخطر ما في الأمر أن هؤلاء كانوا يحتلون مراكز قيادية تسمح لهم بممارسة دور خطير ضد مواطنيهم وإخوانهم في الدين. والواضح أن قضية (أعداء الداخل) هي من أخطر القضايا التي جابهت المسلمين في عصر التحول من الهجوم الشامل إلى الدفاع الشامل، وهي الظاهرة التي سبق لها أن برزت أيام الحروب الصليبية في المشرق، ثم تكرر حدوثها في الأندلس الإسلامية، وجاءت لتبرز من جديد على مسرح أحداث المغرب العربي - الإسلامي، فكانت في طليعة العقبات التي اصطدم بها (خير الدين) والتي أمكن له معالجتها بحزم أحيانا، وباللين والإغراء في أحيان أخرى، وفقا لما كان يتطلبه الموقف. وقد كان القضاء على أعداء الداخل هو المرحلة الأساسية ¬

_ (¬1) تاريخ الجزائر - الأستاذ مجاهد مسعود - الجزء الأول ص 81 - 82.

لتحقيق الانتصار الخارجي. ومن هنا أيضا، فقد كان للإنتصار الخارجي دوره بإضعاف أعداء الداخل وكشف خياناتهم، الأمر الذي ساعد على تصفيتهم. ولقد بقيت هذه العلاقة الجدلية الثابتة بين القوة الخارجية والقوة الداخلية هي العلاقة الثابتة والمميزة لقوة الأنظمة وقدرتها على البقاء والاستمرار، والأمر صحيح بالنسبة للعلاقة الجدلية المضادة، فالتمزق الداخلي وبروز (أعداء الداخل) ما هو إلا دليل في الواقع على مرحلة احتضار الدول وبرهان على قرب انهيارها. ومن هنا أيضا تظهر أهمية الدور الذي اضطلع به خير الدين في إنقاذ المغرب العربي الإسلامي من المحنة التي كان يجابهها، والتي كان يتعرض لها. فقد أدت الهجمة الصليبية إلى ظهور الطبقة المتسلطة من (أعداء الداخل)، ولم يكن هناك من أمل لتحويل التيار إلا بظهور قوة يمكن لها مجابهة القوى الصليبية، الأمر الذي يفسح المجال للقوى المؤمنة الصادقة لممارسة دورها التاريخي والاضطلاع بمسؤوليتها القومية والدينية، وكانت الجزائر بأرضها وبشعبها منبت تلك القوى التي عملت على تحويل تيار الاستسلام إلى تيار المجابهة. لقد استطاع (خير الدين) مجابهة الهجمة الصليبية في أشرس مراحلها، مرحلة تصفية الأندلس الإسلامية، واستطاعت (الجزائر المحروسة) مجابهة الهجمة الصليبية وهي في ذروة قوتها وجبروتها. ونشأ عن هذا التلاحم الصادق بين (تيار الأحداث) و (قصة البطل) ظهور الملحمة الخالدة. ملحمة بناء الجزائر قوة لها وللعرب المسلمين فوق كل أرض العرب المسلمين. غير أنه في مرحلة التحول الحاسم، كان من المحال إعادة العجلة إلى الوراء، والعودة بالأندلس إسلامية كما كانت أيام الفتح، فقد أظهرت مسيرة الأحداث - عبر سيرة القائد خير الدين - تلك القوى الهائلة التي تكتلت للعمل ضد المسلمين في مشارق

الأرض ومغاربها وعلى كافة الجبهات في أوروبا كما في أفريقيا الإسلامية، وفي البر كما في البحر. ومن هنا تظهر أهمية الدور الذي اضطلع به (خير الدين) ومن ورائه (الإمبراطورية العثمانية) في إيقاف الهجمة الضارية، والتصدي لها، والعمل على إحباطها. ومن هنا أيضا تظهر كفاءة (خير الدين) السياسية، وتفكيره السليم، عندما ربط جهوده بجهود المسلمين في الجزائر - وفي المغرب العربي - الإسلامي من جهة مع جهود الإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى. ذلك هو موقع (خير الدين) في التاريخ، إنه قائد التحول في مسيره الصراع من مستوى العمليات المحدود إلى المستوى الشامل. ومن المستوى المحلي إلى المستوى الدولي. ولقد مر هذا التحول بمراحل مختلفة، بداية من ممارسة القرصنة (الحرب الدفاعية المحدودة) إلى مستوى العمليات المحدودة لمصلحة (دولة تونس) ومنها إلى مستوى المغرب العربي - الإسلامي، ومن هذا المستوى إلى مستوى العالم الإسلامي عبر ربط الصراع بالإمبراطورية العثمانية. ولقد مر هذا التطور عبر الإدراك التام لطبيعة المرحلة وطبيعة الصراع الذي كانت تخوضه الأمة العربية الإسلامية خاصة والأمم الإسلامية عامة، وهنا نعود إلى بداية القصة. لقد خرج (عروج) إلى البحر غازيا مجاهدا لمقاومة الظلم الذي يتعرض له المسلمون في الأندلس وفي كل مكان من أوروبا، ووقع في قبضة الأمر، وعانى عبودية القيد، فكان لذلك دوره في تحديد هدفه من الصراع (الجهاد في سبيل الله). وانطلق مع أخوته، ومع فئة من المجاهدين، في هذه الحرب غير المتكافئة، ووظف الأخوة (ذوي اللحى الشقراء) انتصاراتهم لمصلحة (سلطان الحفصين في تونس)

غير أن هؤلاء كانوا دون مستوى المسؤولية خلال تلك المرحلة التاريخية، وجاءت مسيرة الأحداث والتي دفع (الأخوة ذوي اللحى الشقراء) ومعهم الشعب المجاهد في المغرب العربي الإسلامي ثمنها غاليا من دمائهم وكرامتهم. وتأكد خير الدين عبر هذه التجارب الذاتية أنه من المحال مجابهة الهجمة الصليبية الشاملة بحروب محدودة ذات هدف محدود، كغنم سفينة أو الدفاع عن مدينة، أو الإغارة على جزيرة. فكان الدفاع الشامل هو الأسلوب الوحيد لمجابهة الهجوم الصليبي الشامل. وكان (عروج) وأخوه (أصحاب اللحى الشقراء) قراصنة، بذلك اشتهروا وبذلك عرفوا، غير أنهم لم يكونوا قراصنة في أساليبهم وأهدافهم , لقد خرجوا للجهاد في سبيل الله، فكانوا زاهدين بما يحوزونه من غنائم، وما أرادوا من الغنائم إلا استنزاف قدرة العدو وزيادة قوة المسلمين، بدلالة تقديم ما كانوا يحصلون عليه إلى (والي تونس) وإلى (بيت مال المسلمين) وإلى صندوق الخزانة في الإمبراطورية العثمانية. ء وأفاد الجميع من هذه الغنائم ما عدا (الأخوة أصحاب اللحى الشقراء) غير أن فائدتهم كانت أكبر من كل تقويم عندما أمكن لهم دعم القدرات في الجزائر بعد أن أهدر (ملك تونس) هذا الدعم ووظغه في غير مصلحة الإسلام والمسلمين. ولم يكن (خير الدين) يبحث عن (مجد شخصي) بدلالة عزوفه عن هذا المجد عندما عرضه عليه (شارلكان) في حين تهاوى (أعداء الداخل) فكان في ذلك سقوطهم، وكان في ذلك المجد الحقيقي والخالد للبطل (خير الدين) الذي ربط جهده وعمله ووجوده بقضية المسلمين , في حين انتهى أولئك الذين عملوا لدنياهم، وسطروا أبشع

صورة (لأعداء الوطن والدين). يمكن بعد ذلك الانتقال للملامح العامة لأسس (فن الحروب) التي استخدمها (خير الدين) والتي مكنته من تحقيق انتصاراته الخالدة. لقد كانت تلك الأسس في الواقع، صورة عن أسس (فن الحرب عند العرب المسلمين) بطرائقها التقليدية والثوروية. فقد بدأ (أصحاب اللحى الشقراء) بالبحث عن قاعدة قوية ومأمونة، بدأت (بحلق الوادي) و (جزيرة جربة) وانتهت بقاعدة الجزائر. وقد كان تكوين القاعدة القوية والمأمونة هو أول عامل من عوامل النجاح. وكانت طرائق القتال - في البر والبحر - نموذجا من الحروب التشتيتية - التي برزت كظاهرة مميزة في الحروب الثوروية الحديثة والتي تعتمد على مرحلتين أساسيتين - مرحلة الاستنزاف ومرحلة الهجوم الشامل. وفي الواقع فقد كان من المحال مجابهة التفوق للقوى الصليبية بغير هذا الأسلوب الذي أكد فاعليته في حروب الجزائر - الثلاثة وآخرها حملة شارلكان - بقدر ما أكد فاعليته في الحروب البحرية. حيث كانت تقوم مجموعات خفيفة الحركة، بتوجيه ضربات عنيفة ومباغتة ثم الانسحاب قبل أن يستفيق العدو من ذهول الصدمة. وقد أدى تنفيذ هذه العمليات باستمرار إلى استنزاف قدرة العدو المادية والمعنوية قبل مجابهته بهجوم شامل يدمر بقية قدرته على الصمود والمقاومة. ولقد كان من المحال تحقيق النجاح في مثل هذه العمليات لو لم

تتوافر كفاءة قيادية عالية، تتولى إدارة المعركة في كل مرحلة من مراحلها الصعبة. وقد توافرت العوامل الثلاثة للنصر: شعب مجاهد في سبيل الله، وتطبيق رائع للعقيدة القتالية الإسلامية وقيادة على درجة عالية من الكفاءة. بذلك انتصر (شعب الجزائر) وبذلك انتصر (خير الدين) فكتب شعب الجزائر مع خير الدين قصته الرائعة في الجهاد والمجاهدين. ولم يكن (خير الدين) قادرا على تحقيق ما يريده لولا ما قام به شعب الجزائر المجاهد، وما كان شعب الجزائر ليصل إلى هدفه لولا توافر قيادة حازمة مارس (خير الدين) دوره في تكوينها وصنعها لتصبح على مستوى الأحداث. لقد مضى خير الدين إلى جوار ربه راضيا مرضيا، وبقي شعب الجزائر يردد على مدى الدهر تلك الأسطورة الخالدة (أسطورة بابا خير الدين) الذي تولى قيادة الجزائر المجاهدة في أصعب ظروف الجهاد. وضمن لها مصادر القوة الذاتية - قوة الإيمان وقيم الجهاد في سبيل الله. ومضى خير الدين إلى جوار ربه راضيا مرضيا، وبقي المسلمون يرددون الأغنية الحلوة، أغنية القوة والكرامة: لقد نصر الله فنصره الله {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} صدق الله العظيم.

قراءات

قراءات 1 - تجربة استعمارية (معاهدات إسبانية). 2 - في أدب الحرب - الشعر في الحض على القتال والجهاد. 3 - عروج في الخالدين. 4 - معاهدة ملك تلمسان مع الإمبراطورية الإسبانية. 5 - رسالة السلطان سليمان القانوني إلى ملك فرنسا. 6 - شارلكان - وبربروس .

- 1 - تجربة استعمارية (معاهدات إسبانية)

- 1 - تجربة استعمارية (معاهدات إسبانية) كان رد ملك إسبانيا (فرديناند) على اقتراح قائده (دون بيدرو) هو التالي: (لتكن المعاهدة مع مولاي عبد الله مبنية على الواقع الحاصل ولتكن ذات مفعول دائم. وبما أن بجاية قد أصبحت ضمن ممتلكاتنا، تنفيذا للقرار الصادر بذلك من الكنيسة الرومانية، فلا يمكن أن يعطى لمولاي عبد الله لقب - ملك بجاية - بل ليكن ملكا على أي مكان يختاره فيها عدا البلاد الساحلية، إذ أن مدينة (بجاية) وملحقاتها ومداخيلها وتولي الأحكام فيها، وكذلك كل البلاد الأخرى والمدن والقرى الموجودة على ساحل البحر، يجب أن تكون لنا وحدنا خالصة بصفة تامة مطلقة، ولا يحق لولاي عبد الله أن يدعي أي حق له عليها، أو أي حكم على سكانها من النصارى أو المسلمين. وبما أن البلاد المذكورة ومدنها وقراها هي من ممتلكاتنا الخاصة، فإننا نعترف لمولاي عبد الله بالملك على بقية البلاد الداخلية من المملكة مع مداخيلها وأحكامها، إنما نحتفظ لأنفسنا بالحق الأعلى في الإشراف على القضاء

الذي هو من حق السيادة. كما يجب أن يلتزم الملك بدفع جزية سنوية تترك له حرية تقديرها. ويسمح لعبد الله ومائة من أعوانه أن يسكنوا مؤقتا ربض بجاية إلى أن يجد عاصمة لملكه، وعلى شريطة أن لا يبني بذلك الربض مسجدا). أيار (مايو) 1510. ونظرا لسحب القائد (بيدرو) من المغرب ومغادرته (بجاية) في 7 حزيران (يونيو) واستبداله بحاكم جديد (هو دون انطونيو) فقد اضطلع هذا بعقد المعاهدة التي جاء نصها كالتالي: بين الملك (فرناندو) ملك إسبانيا والصقليتين. وبين مولاي عبد الرحمن ملك جبال البربر. وبين مولاي عبد الله حفيده. انعقدت المعاهدة على القواعد والأسس التالية: أولا: انعقد بهذه المعاهدة صلح دفاعي هجومي في سبيل مصلحة إسبانيا، وبين الملك عبد الرحمن والملك عبد الله. كما انعقد بينهما معا من جهة، وبين الملك فرديناند من جهة أخرى حلف دائم المفعول. ثانيا: يستمر مولاي عبد الرحمن ملكا على جبال القبائل. ثالثا: يعترف عبد الرحمن علنا بامتلاك إسبانيا لمدينة بجاية وصخرة الجزائر وتادلس وكل المراسي التي على البحر وما يتبعها - ولم يأت هنا ذكر مدن الناحية الغربية لأنها داخلة ضمن نطاق التعاقد مع بني زيان في تلمسان.

رابعا: إرجاع كامل الأسرى المسيحين إلى الإسبان دون أدنى مقايضة. خامسا: العمل على إصلاح كل القلاع والمعاقل الموجودة في المملكة. سادسا: يبعث الملك عبد الرحمن بولده محمد رهينة عند الإسبان، كما يبعث الملك عبد الله بولده البكر (¬1) رهينة أيضا. وذلك لضمان تنفيذ المعاهدة. سابعا: يتعهد العرب بتزويد مدينة بجاية الإسبانية سنويا بالمواد والمقادير الآتية: 3600 فنيق من القمح (¬2). 100 فنيق من الشعير. 50 فنيق من الفول. 1000 رأس من الغنم. 50 بقرة. 1000 حمل من الحطب. فأما أحمال الحطب فتسلم مجانا لحامية بجاية. وأا بقية المواد، فإن الموردين يتقاضون ثمنها (¬3). ¬

_ (¬1) سلم الملك عبد الله ابنه البكر إلى الإسبان - وهو صغير السن - فسلمه هؤلاء للرهبان كي يتولوا تعليمه وتثقيفه وتعميده، فنشأ وشب وهو لا يعرف غير النصرانية دينا. وأطلقوا عليه اسم (فيرناندو) ومنحه ملك إسبانيا لقب (الطفل - انفانت) ومات مسيحيا في إسبانيا. (¬2) الفنيق يعادل (50،36) كيلوغرام. (¬3) المرجع: حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا - أحمد توفيق المدني - ص 131 - 135.

- 2 - في أدب الحرب (الشعر في الحض على القتال والجهاد)

- 2 - في أدب الحرب (الشعر في الحض على القتال والجهاد) عندما سقطت وهران تحت حكم الصليبيين (الإسبان)، وترك أهلها المسلمون تحت سيطرة (اليهودي ابن اليهودية - أشطورا) انطلق العالم أحمد بن القاضي شيخ (عبد الله بن علي المساوري) و (شيخ العلامة سعيد قدورة الجزائري) بقصيدة يستنهض فيها الهمم ويحض قومه على القتال. ومنها: فمن مبلغ عني قبائل عامر ... ولا سيما ممن ثوى تحت كافر وكل كمي من صناديد راشد ... بتيجانهم، مع رأسها عبد قادر وجيرانهم في الغرب من كل ماجد ... طويل القنا أهل الوفا والمغافر وطلحة والأحلاف في غرب هبرة ... وشيح سويد بل وكل مفاخر

وشيخ بني يعقوب الحامي الحمى ... بكل قبيل مولع بالعساكر ويا معشر الإسلام في كل موطن ... وفي كل ناد سالف ومعاصر ويا معشر الأتراك، يا كل عالم ... وكل ولي حافظ للأوامر ويا سادة العربان من آل هاشم ... وغيرهم بالله ما صبر صابر؟ أناشدكم بالله ما عذر جمعكم ... لدى الله في (وهران) ذات الخنازر أذلكم الجبار! كيف رصيتمو ... بسبي العذارى من بنات الأكابر فصرتم من جور البغات كأنكم ... يهود الجزا، تعطونها بالأصاغر فلا همة تعلو بكم عن دنية ... ولا غيرة تدعوكمو للمآثر ولا ذمة ترعونها في نبيكم ... ولا حرمة تحمونها بالبواتر عليكم لحاف الذل! أين نحولكم ... أما أبصروا في السبي خير الحرائر؟ وتححت اليهودي غادة عربية ... يعاليها الخنزير فوق الهزابر وما منكم إلا خصي أذله ... بميسمه النصراني يا آل عامر

أضيم ملوك، أم تغلب ظالم ... عليكم رماكم في جوار الكوافر حرب الثلاثمائة عام - أحمد توفيق المدني ص117 - 118

البطل العظيم عروج (متحف البحرية العثمانية باستامبول).

- 3 - عروج في الخالدين

- 3 - عروج في الخالدين 873 - 924 هـ = 1468 - 1518 م عاش عروج مجاهدا في سبيل الله منذ نعومة أظفاره - في العاشرة من عمره - وحتى يوم استشهاده (ببني سناسن) وعمره لا يتجاوز الخمسين عاما - ويقال أربعة وأربعون -. ولقد أثارت حياته بقدر ما أثار استشهاده نوعا من الإثارة التي لا يمكن وصفها، وحتى اسمه بقي موضع جدل كبير، فلقد أريد - عن جهل أو عن عمد - الإساءة لهذا المجاهد العظيم، وأمكن بالإعتماد على الوثائق إجراء تصحيح اسمه فجاء كالتالي: (¬1). (الإسم الحقيقي لهذا البطل الإسلامي العظيم، مؤسس دولة الجزائر، إنما هو (عروج - بضم العين وضم الراء) وهي عربية صميمة معناها الإرتفاع والصعود، ودخلت التركية عن طريق ذكرى حادث عظيم في حياة رسول الله محمد صل الله عليه وسلم، هو حادث (الإسراء والمعراج). ¬

_ (¬1) حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدني - ص 159 - 161 و 192 - 195.

ولا ريب في أن البطل قد ولد في ليلة المعراج، فدعاه أيوه (عروج) تيمنا بذلك الحادث العظيم، كما يطلق الأتراك كثيرا على مواليدهم الذين يولدون خلال تلك الأشهر الحرم أسماء (رجب وشعبان ورمضان ومحرم). ومعروف أن الأتراك لا ينطقون حرف العين، بل يقلبونها ألفا يندمج مع ما بعده. فمدينتا (عشاق وعين أوني) مثلا وهما في بلادهم تلفظان حسب نطقهم (أوشك وأين أوني) وكلمة (عروج) ينطقون بها (أوروج). وهذا هو الإسم الذي اشتهر به بطلنا شرقا وغربا. وقبل أن يرجع الجزائريون هذا الإسم إلى أصله العربي، ويعيدون له (عينه) نطقا، كانوا في مستهل الفتح يكتبونه على الطريقة التركية (أوروج) ويدل على ذلك أثران قديمان، لا يزالان موجودين إلى اليوم: أحدهما الرخامة المنقوشة والتي كانت موضوعة على باب حصن شرشال. وثانيهما: الرخامة المنقوشة التي كانت على باب مسجد الشواش بالعاصمة الجزائرية. فرخامة شرشال قد نقش عليها: (بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وآله - هذا برج شرشال أنشأه القائد محمود بن فارس التركي، في خلافة الأمير القائم بأمر الله، المجاهد في سبيل الله، أوروج بن يعقوب، بإذنه، بتاريخ أربع وعشرين بعد تسعمائة). أما رخامة مسجد الشواش الذي هدمه الإفرنسيون، والذي كان على مقربة من ساحة الشهداء في الجزائر فهي تحمل اسم: أوروج بن أبي يوسف يعقوب التركي ويظهر من ذلك أن والد البطلين المنقذين كان تركيا صميميا،

خلافا لما يدعيه كثير من مؤرخي الإفرنج ويمكن أن يضاف إلى ذلك، لتصحيح هذا النسب وإضفاء نور جديد عليه، هذه الرخامة الموجودة بمتحف مدينة الجزائر، والتي كانت موضوعة فوق باب المسجد الذي أمر ببنائه في الحضرة الجزائرية السلطان خير الدين وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم ({في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال} أمر ببناء هذا المسجد المبارك السلطان المجاهد في سبيل رب العالين مولانا خير الدين بن الأمير الشهير المجاهد أبي يوسف يعقوب التركي. بلغه الله سؤله، وأعانه على جهاد عدو الله ورسوله. بتاريخ أوايل جمادى الأولى من عام ستة وعشرين وتسعمائة) أي نيسان - أبريل - سنة 1520م. ولقد سقط (عروج) فوق ثرى الجزائر الطهور، ولم يصدق الأعداء حصولهم على مثل هذا النصر، فما كان من الإسبانيين إلا أن احتزوا رأس (عروج). وساروا به توا نحو وهران، ومن هنالك سير بها إلى إسبانيا، حيث طيف بها على أكبر مدنهم، وذهبوا بها بعد ذلك أوروبا، حيث طيف بها كذلك خلال أغلب المدن الأوروبية التي كانت فرائصها ترتعد من مجرد ذكر اسم (بربروس) أما ثيابه المزركشة التي تركها في تلمسان، فقد أخذت إلى إسبانيا، وطيف بها أيضا أغلب المدن قبل إيداعها في معتكف (سان جيروم) القرطبي. ويذكر أن جثمانه حمل إلى العاصمة (الجزائر حيث دفن بجوار ضريح (سيدي رمضان). وقبره عن يمين الداخل متصلا بجدار المسجد. ومضى الشهيد المجاهد إلى (جنة الخلد) تاركا للدنيا ذكرا

خالدا، قيل فيما ذكر عنه: (كان للشقيقين - عروج وخير الدين - من الإقدام والجرأة، مقدارا يفوق التعارف عند الرجال، وكان لهما من الدهاء السياسي الخارق للعادة، ما يجعل الناس مشدوهين من وجود مثله عند رجلين لم تؤهلهما ثقافتها البدائية ليقوما بهذا الدور العظيم، دور قيادة الشعوب. وهكذا كانت الخاتمة البطولية لهذا القرصان المغامر الذي لا نتمالك أنفسنا عن الإعجاب بإقدامه وبجرأته النادرة، كما نعجب أيما إعجاب بهذه العبقرية التي سادت أعماله في ميدان الحرب، وفي ميدان تنظيم الدولة. كما أننا نستنكر إلى جانب إعجابنا هذا كل الإستنكار، ما كان متصفا به من مصانعة ومن قسوة فظيعة). تلك كانت كلمات المؤرخ بيشو في كتابه - تاريخ شمال أفريقيا - ولكن لا بد من التوقف قليلا عند عبارته الأخيرة التي وصف بها (عروج) بالقسوة الفظيعة، فهل كانت (قسوة الإسبانيين) أقل فظاعة وهم يجتاحون (وهران)؟ أم هل كانت قسوة (شارلكان) في تونس أقل (قسوة ووحشية؟) وهل كان بالمستطاع مجابهة تلك الوحشية - بإنسانية -؟ المهم أن أقنعة الإنسانية هي أقنعة غريبة الألوان، غريبة الأشكال، وفقا للوجوه التي تضعها. والمهم في الأمر متابعة ما قاله المؤرخ - دي قرامون - في كتابه (تاريخ الجزائر تحت حكم الأتراك) حيث ذكر ما يلي: (لا يرى كثير من المؤرخين في - عروج - أكثر من زعيم عصابة - لا غير - وإنني لا أعرف حكما جائرا مخالفا للحقيقة كمثل هذا الحكم. فإن البربروس الأول - عروج - ما كان إلا جنديا من جنود

الإسلام المغاوير، جاهد فوق متن البحار جهادا لا هوادة فيه، ضد أعداء ملكه، وضد أعداء دينه. على أنه كان ملتزما خلال جهاده هذا، بكل القواعد والأسس التي كان العمل جاريا بها خلال تلك الحقبة من التاريخ، فلم يكن أبدا، أكثر قسوة ولا أقل قسوة، من الأعداء الذين كان يمعن في محاربتهم، وعندما سنحت له الفرصة، وأمكنته غزواته من جمع قوة كافية حوله، تمكنه من القيام بجلائل الأعمال، حاول إنشاء إمبراطورية في الشمال الأفريقي، حيث كانت الفوضى ضاربة أطنابها. أما الوسيلة الوحيدة التي كانت تمكنه من إدراك تلك الغاية وتضمن له البقاء والاستمرار، إنما هي إبعاد المسيحيين عن البقاع التي يحتلونها في البلاد. ومن أجل تحقيق هذا الهدف أخذ يحارب المسيحيين قبل كل شيء، في شخص حلفائهم والخاضعين لهم، حتى يقطع عن النصارى كل طريق يتزودون منه، ويضطرهم بذلك إلى الإعتماد خاصة على ما يرد عليهم من إسبانيا. ولقد كانت بداية أمره سعيدة. وكان انتصابه بالجهات الغربية، يسمح له بإلقاء المهاجمين الإسبانيين إلى البحر لولا أنه قتل بسبب خديعة حلفائه. ولقد مات، مأسوفا عليه كل الأسف من قبل جميع الذين انضووا تحت رايته وعملوا تحت لوائه). أما المؤرخ الكبير (شارل أندري جوليان) فيقول في مؤلفه (تاريخ الشمال الأفريقي): (وهكذا انتهت في سن الرابعة والأربعين، هذه الحياة المجيدة في ميدان المغامرة، إنه هو الرجل الذي أنشأ القوة العظيمة لمدينة الجزائر وللبلاد البربرية - إنه بنظرة صادقة لا تخطيء، وهي نظرته المعتادة، قد أدرك مدى ما تستطيع أقلية عاملة تحقيقه في وسط مليء

بالمنافسات بين مختلف الإمارات المغربية، لكي يؤسس على حساب تلك الإمارات، دولة إسلامية قوية، لا تستطيع أن تنالها بسوء هجمات النصارى. وعلى هذه الصفة، تمكن من بسط سلطانه على جهات متيجة (أو متوجة - بضم الميم وفتح التاء والواو والجيم) ووادي شلف وتيطري والظهرة والونشريس ثم تلمسان، ونسف مملكة بني زيان نسفا لم تقم لها من بعده قائمة، إنما كانت مأثرته هذه تتلاشى وتضمحل، لو لم يتلقفها ويحتضنها باليمين، شقيقه خير الدين، الذي سار بها في طريق النجاح والكمال). تلك هي كلمات قليلة لا يمكن لها أبدا أن تفي المجاهد الشهيد بعض حقه، لقد كان من أول مآثره إبراز أهمية الجهاد في البحر. وكان من ثاني مآثره إعداد أخيه (خير الدين) لمتابعة دوره. وكان من ثالث مآثره انصرافه الكلي لإقامة الجزائر وتنظيمها بالتعاون مع شعبها وبإرادته ودعمه وتأييده، وكان في ذلك انتصاره الكبير الذي مهد لهذا الوطن العربي المسلم سبيل بناء المستقبل، وضمن له القدرة لمقاومة الحملات الصليبية طوال خمسمائة عام تقريبا (من الاستعمار الإسباني ثم الإستعمار الإفرنسي). ولقد كان عدد المجاهدين من الأتراك العثمانيين قليلا، وهنا يبرز الدور العظيم الذي اضطلع به الشعب الجزائري العربي المسلم عبر تاريخه الطويل، وما قدمه من تضحيات، وما تحمله من نوائب. وبقي ذكر (عروج) خالدا في طليعة الشهداء الخالدين. ومضت قوافل الشهداء فكانت تضحياتها بحق هي المنارات التي أضاءت لها دنيا الجزائر (المحروسة الخالدة).

- 4 - معاهدة ملك تلمسان مع الإمبراطورية الإسبانية

- 4 - معاهدة ملك تلمسان مع الإمبراطورية الإسبانية خاض ملك تلمسان (محمد السابع) حربا ضد أخيه عبد الله الذي كان يدعمه جده لأمه (عبد الرحمن بن رضوان). وكان الإسبان يقفون من وراء الطرفين المتصارعين، فكتب (محمد - تلمسان) رسالة إلى الحاكم الإسباني، عرض فيها إقامة تحالف فيما بينهما. وكان نص الرسالة والمعاهدة المقترحة كالتالي: تلمسان 5 أيلول - سبتمبر - 1535 (تعلمون جلالتكم أنني كاتبتكم مرارا قبل هذا، ألتمس منكم قبولي ضمن حلفائكم وخدامكم، وأنني لم أتلق منكم أي جواب، والله يعلم شدة رغبتي في أن أكون من أصدقاء جلالتكم. وفي هذه الأثناء حاربني بن رضوان، وجاء يهاجمني ومعه جماعة من المسيحين، فكنت مضطرا للدفاع عن نفسي، ولقد كلفني هذا كثيرا، لكن لم أكن استطيع غير ذلك، ولا أعتقد أن جلالتكم تعتب علي إذا أنا دافعت عن مملكتي وعن نفسي. وإني أرسل لجلالتكم معاهدة أمضيتها بنفسي وختمتها بخاتمي وألتمس من جلالتكم المصادقة عليها.

(خلاصة المعاهدة) 1 - أن يعترف بي الإمبراطور صديقا حليفا، ولا ينصر علي عدوا. 2 - أتعهد بأن أدفع أربعة آلاف (دوبلاس) سنويا، وفي نفس الآجال التي تعهد بها والدي من قبلي، على شريطة أن مداخيل باب تلمسان تكون لي كما كانت لوالدي. 3 - إذا زادت مداخيل باب تلمسان عن الأربعة آلاف (دوبلاس) فإن الزيادة منها تكون خاصة لي. 4 - أتعهد مقابل ذلك بأن أرجع للكونت دي الكوديت السبعين أسيرا مسيحيا الذين هم الآن بتلمسان، ويوجد بينهم خمسة أسرى عند عائلات تلمسانية، لها خمسة أسرى بوهران فالرجاء الأمر بالمبادلة. 5 - لا يقبل في مدينة وهران ابن رضوان ولا حفيده، ولا أحد من رجاله، فإن دخلوا وهران فرجائي إلى جلالتكم أن يبقوا بها أسرى. 6 - إذا ما فتح جلالة الإمبراطور مدن الجزائر وشرشال وتنس، فله أن يبقي تحت سلطاته المدن المذكورة وغيرها من المراسي التي يود جلالته الاحتفاظ بها، أما داخلية البلاد المذكورة فيجب أن ترجع لي، لأنها كانت من ممتلكات آبائي وأجدادي. 7 - يكون هذا الصلح لمدة عشرة أعوام. لم يقبل الكونت (دي الكوديت) بهذا النص، فأرسل للملك محمد مشررعا إسبانيا، استثمر فيه فزع الملك محمد ورعبه، وهذه خلاصة المعاهدة الجديدة التي فرضها الإسبان:

1 - أنا محمد ملك تلمسان: أتعهد وألتزم بمحض اختياري، بأن أكون الصديق والحليف والتابع لجلالة الإمبراطور إذا ما رضي أن يشملني بحمايته وألتزم بتنفيذ الشروط الآتية: 2 - أكون صديقا لمن يصادق جلالته، وعدوا لمن يعاديه، ولا أسمح مطلقا لأعدائه عربا أو مسيحيين باجتياز مملكتي. 3 - إذا جاء جلالة الإمبراطور بنفسه إلى مملكة تلمسان لمحاربة بقية الملوك في البلاد. فأنا ألتزم السير معه واضعا تحت تصرفه كل القوى التي لدي. 4 - ومقابل ذلك يتعهد صاحب الجلالة بإعانتي ضد من يحاربني أو يريد بي سوءا وذلك بواسطة الجيوش التي لجلالته بمراكز الحدود. 5 - وإذا جاء جلالته لمملكة تلمسان بنفسه، أو أرسل جيشا لقتال أعدائه، فأنا أتعهد بأن أمده بالأقوات وحيوانات الجر بأرخص الأثمان. 6 - أتعهد بأن أعيد لوهران في مدة ثمانية أيام، كل الأسرى المسيحيين الموجودين بتلمسان، وهم على أحسن حال من الصحة والسلامة. 7 - لا أقبل في بلادي، لا بربروس ولا أي أحد من قراصنة الأتراك، وإذا حل بربروس أو جماعته ببلادي، فأنا أبذل جهدي لأسرهم وتسليمهم لحاكم وهران. 8 - أمنع العرب وزناته في مملكي من إلحاق أي ضرر بمدينتي وهران والمرسى الكبير أو سكانهما من العرب واليهود وكذلك عرب الجبال - الخاضعين لإسبانيا -. 9 - أعطي أوامري لكي تمر كل تجارة تلمسان بمدينة وهران دون غيرها من المراسي، إلا إذا سمح الإمبراطور بذلك.

10 - يسمح لي جلالة الإمبراطور بأن أضع في وهران عددا من المتصرفين لكي يتولوا قبض المكوس الراجعة لي من هذه التجارة، يستثنى من ذلك ما يرد لتموين مدينة وهران، ما عدا التمور التي هي بضاعة. 11 - يستطيع العرب واليهود من سكان مدينة تلمسان ومملكتها القدوم إلى وهران وغيرها من ممتلكات جلالة الإمبراطور ويستطيعون سكناها بصفة مسالمة دون أي اعتراض شريطة إحرازهم على إذن بذلك من حاكم وهران. ولكان وهران والمرسى الكبير مثل هذا الحق في سكنى تلمسان ومدن مملكتها، على شرط إحراز الإذن مني. 12 - لا يمكن إجبار أحد رعايا مملكتي، عربا أو يهودا، على اعتناق الدين المسيحي، ويسمح لهم بأن يعيشوا أحرارا حسب قوانينهم، وأن تحترم ديارهم وممتلكاتهم، وأن يباشروا أعمالهم التجارية مع كل ممالك ورعايا جلالة الإمبراطور. 13 - مدة هذه المعاهدة خمسة أعوام ابتداء من يوم إعلانها. 14 - ألتزم بأن أدفع لجلالة الإمبراطور الذي اعترف بتبعيتي له، مقدار أربعة آلاف (دوبلس) كل سنة من الذهب الصافي معيار 17 قيراطا وموزونة وزنا دقيقا. 15 - يضع الإمبراطور تحت تصرفي، عند الحاجة، وكما فعل مع والدي، خمسمائة رجل لمشاركتي في الدفاع، وأتعهد بأن أدفع مرتباتهم منذ اليوم الذي يغادرون فيه مملكة قشتالة. 16 - يحدث كثيرا أن يصل إلى وهران تجار من العرب واليهود من تلمسان لشراء بضاعة، ويعطون بدلها رقاعا تدفع عند رجوعهم إلى وهران. لكنهم لا يعودون ولا يدفعون، فأنا ألتزم بدفع قيمة

تلك الرقاع ويجب إرغام كل عربي أو يهودي من سكان وهران على تسديد دينه لتجار تلمسان. 17 - إذا حل ابن رضوان، أو حفيده مولاي عبد الله بوهران، فإن حاكم وهران يبقيهم بها، لا يخرجون منها طوال مدة الصلح. 18 - سأعلن عن هذه المعاهدة في كل مملكتي للجميع. ولأعدائي الذين ثاروا ضدي وانضموا إلى أخي مولاي عبد الله وجده ابن رضوان. فمن قبلها وأطاعها فهو مني ويدخل في خدمتي. ومن عصاها وخالفها فهو عدو لا يجب أن يقبل في مدينة وهران. 19 - هذه المعاهدة وقعتها بنفسي وختمتها بخاتمي ووضعت عليها طابع الدولة).

- 5 - رسالة السلطان سليمان القانوني إلى ملك فرنسا

- 5 - رسالة السلطان سليمان القانوني إلى ملك فرنسا كتب ملك فرنسا (فرانسوا الأول) رسالة إلى السلطان سليمان القانوني، يطلب التحالف معه ضد إمبراطور إسبانيا والغرب (شارلكان) وأجاب السلطان سليمان بالرسالة التالية: الله العلي المعطي المعين بعناية حضرة عزة الله جلت قدرته، وعلت كلمته، وبمعجزات سيد زمرة الأنبياء، وقدوة فرقة الأصفياء، محمد المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم الكثيرة البركات. وبمؤازرة قدس أرواح حماية الأربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وجميع أولياء الله. أنا سلطان السلاطين، وبرهان الخواقين، متوج الملوك، ظل الله في الأرضين، سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والأناضول والرميلي وقرمان الروم وولاية ذمي القدرية وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام وحلب ومصر ومكة والمدينة والقدس

وجميع ديار العرب واليمن وممالك كثيرة أيضا التي فتحها آبائي الكرام وأجدادي العظام بقوتهم القاهرة أنار الله براهينهم، وبلاد أخرى كثيرة افتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر، أنا السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم خان ابن السلطان بايزيد خان. إلى فرنسيس ملك ولاية فرنسا. وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه مع تابعكم (فرانقيان) النشيط، مع بعض الأخبار التي أوصيتموه بها شفاهيا، وأعلمتنا أن عدوهم استولى على بلادكم، وأنكم الآن محبوسون، وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصكم. وكل ما قلتموه وعرض على أعتاب سرير سدتنا الملكية، وأحاط به علمي الشريف على وجه التفصيل فصار معلوما. فلا عجب من حبس الملوك وضيقهم. وكن منشرح الصدر ولا تكن مشغول الخاطر، فإن آبائي الكرام وأجدادي العظام نور الله مراقدهم لم يكونوا خالين من الحرب لأجل فتح البلاد ورد العدو، ونحن أيضا سالكون على طريقتهم وفي كل وقت نفتح البلاد الصعبة والقلاع الحصينة، وخيولنا ليلا ونهارا مسروجة وسيوفنا مسلولة. فالحق سبحانه وتعالى ييسر الخير بإرادته ومشيئته. وأما باقي الأحوال والأخبار، فستفهمونها من تابعكم المذكور فليكن معلومكم هذا. تحريرا في أوائل شهر آخر الربيعين، سنة اثتين وثلاثين وستمائة (1525م). بمقام دار السلطنة العلية القسطنطينية المحروسة المحمية

- 6 - شارلكان - وبربروس

- 6 - شارلكان - وبربروس كان فشل شارلكان (شارل الخامس) في حملته على الجزائر، ذا أثر عميق لا على الإمبراطورية الإسبانية، وعلى ملكها شارلكان، وإنما على مستوى الأحداث العالمية. وقد حفظ الشعر العربي هذا الحدث الذي قيل فيه: سلوا شرلكان كم رأى من جنودنا ... فليس له إلا هم من زواجر فجهز أسطولا وجيشا عرمرما ... ولكنه قد آب أوبة خاسر ونزلت أنباء الهزيمة نزول الصاعقة على أوروبا، وتطورت الأحداث هنالك بسرعة. فلم يبق حليف للإمبراطور سوى هنري الثالث ملك إنكلترا، وانضم إلى ملك فرنسا الدوق (دي كليف) وملك الدانمارك وملك اسكندينافيا. وكان فرح الإفرسنين يكاد يساوي فرح الجزائريين لأن سقوط الجزائر كان يؤدي لا محالا إلى سقوط فرنسا , وبادر ملكها فرنسوا الأول لإبرام معاهدات مع السلطان العثماني. وكان لهذه الغارة أيضا نتائج معنوية داخل القطر

وخارجه. وفي الجزائر أقيمت الأفراح وتواصلت الاحتفالات بمناسبة هذ النصر المبين الذي كتبه الله للمرة الثالثة في ظرف ثلاثين سنة. وكان يهود العاصمة أكثر الناس اغتباطا وفرحا، لما كانوا يضمرونه من حقد وعداوة للإسبان الذين أذاقوهم كل أنواع العذاب والاضطهاد يوم كانوا بأوروبا. وقد وجد اليهود هنا الأمن والاستقرار والمجال لممارمة نشاطهم مما جعلهم يخافون انتصار الإسبان على الجزائر. وبمجرد انسحاب شارل الخامس اطمأنت قلوبهم وصاروا يصومون اليوم الثالث من شهر ششران، ويحتفلون في الرابع منه - ببورم الأول - (108) وكانوا ينشدون القصائد من نظم رباني العاصمة (مثل مشيش) و (إبراهيم بن يعقوب تواه) و (إبراهيم بن سليمان صرفتي) وهي قصائد في تمجيد الانتصار الجزائري ومدح بطولة الجزائريين وهزيمتهم للأعداء كلما تجاسروا على غزو العاصمة. وبقي اليهود إلى القرن التاسع عشر يحتفلون كل عام بذكرى (109) = 1541م. وفي الخارج (بقي رعب المسلمين في قلوب أهل أوروبا لمدة طويلة). ولم يعد شارل الخامس قادرا على التفكير في حملة أخرى ضد الجزائر. وطغى شبح خير الدين وحسن آغا على العامة والخاصة حتى أصبح الناس إذا رأوا جفنا عن بعد نسبوه إلى خير الدين، فيتصاعد الصراخ ويكثر العويل ويفر السكان من ديارهم ومن حقولهم ومتاجرهم. وإذا حطمت الزوابع مركبا توهم الناس أن خير الدين بربروسة هو الذي أثار البحر وهيجه وأغراه على إغراق سفنهم. وبلغ الخوف من قادة الجزائر أقصى درجة حتى أصبح أهل إسبانيا وإيطاليا إذا ما حدثت جريمة أو سرقه أو وقع فساد أو تخريب أو مرض أو وباء أو قحط قالوا خير الدين وأصحابه هم السبب في ذلك. وكانوا في عويلهم يرددون:

بربروشه بربروشه أنت صاحب كل شر ما كان من ألم أو عمل مؤذ وجهنمي مدمر إلا والسبب فيه هذا القرصان الذي لا نظير له في العالم (¬1). ¬

_ (¬1) عن (مجلة تاريخ وحضارة المغرب) كلية الآداب في الجزائز - يوليو 1969 العدد 6 و 7 غارة شارل الخامس- بالحميس مولاي ص 34 - 55.

مراجع البحث الرئيسية

مراجع البحث الرئيسية

_ 1 - حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا (1492 - 1792) أحمد توفيق المدني، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر - (الطبعة الثانية) 1976. 2 - تاريخ الجزائر - الأستاذ مجاهد مسعود - الجزء الأول. 3 - مدينة الجزائر، نشأتها وتطورها قبل (1830م) علي عبد القادر حليمي. أستاذ الجغرافية لجامعة الجزائر. الطبعة الأولى. 1972م - الجزائر. 4 - تاريخ الجزائر في القديم والحديث - مبارك بن محمد الميلي - الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1369 هـ = 1976م. 5 - تاريخ الشعوب الإسلامية - كارل بروكلمان - دار العلم للملايين -بيروت الطبعة السادسة (1974) ترجمة نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي. - L'AFRIQUE DU NORD (1) JEAN DESPOIS PRESSES UNIVERSITAIRES DE PRANCE PARIS - 1964

فهرست الكتاب

فهرست الكتاب

_ الموضوع ..................................................................... صفحة مقدمة الناشر ................................................................. 7 المقدمة ....................................................................... 9 الوجيز في حياة (خير الدين بربروس) ......................................... 19 أبرز أحداث العالم الإسلامي .................................................. 21 في فترة حياة (خير الدين بربروس) الفصل الأول ................................................................. 23 مقدمات الحرب وظروفها 1 - ذوي اللحى الشقراء ....................................................... 20 2 - الموقف على جبهة المسلمين في المشرق .................................. 30 3 - الموقف على جبهة الأندلس ............................................... 42 4 - الموقف على جبهة المغرب الإسلامي ...................................... 53 5 - الجهاد في البحر والقرصنة ................................................ 72 الفصل الثاني .................................................................. 83 (خير الدين بربروسا) ........................................................... 83 1 - سنوات الصراع المرير (918 - 824 هـ = (1512 - 1518م) .......... 85

_ أ - من جيجل إلى الجزائر ............................................ 93 ب - الصراع في تلمسان واستشهاد وعروج ............................. 102 2 - خير الدين على طريق الجهاد .................................... 107 أ - بناء الجزائر والجهاد في البحر .................................... 116 ب - خير الدين أميرا عاما للأسطول العثماني ......................... 127 ج - أعداء الداخل في غياب (خير الدين) ............................. 137 د - شارلكان وغزو الجزائر ............................................ 144 هـ - الصفحة الأخيرة في حياة (خير الدين) ............................ 163 ر - خير الدين وموقعه في فن الحرب ................................. 168 قراءات ................................................................ 177 1 - تجربة استعمارية (معاهدات إسبانية) .............................. 179 2 - في أدب الحرب - الشعر في الحض على القتال والجهاد .......... 182 3 - عروج في الخالدين ............................................... 186 4 - معاهدة ملك تلمسان مع الإمبراطورية الإسبانية ..................... 192 5 - رسالة السلطان سليمان القانوني إلى ملك فرنسا .................... 197 6 - شارلكان - بربروس .............................................. 199 مراجع البحث الرئيسية ................................................. 203

2 - الجزائر والحملات الصليبية

الجزائر والحملات الصليبية

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزائر والحملات الصليبية (1475 - 1791 م) بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1400 هـ - 1980 م الطبعة الثالثة: 1406 هـ - 1986 م

الإهداء إلى الجزائر المجاهدة التي عاشت أبدا في قلب العالم العربي الإسلامي والتي عاش العالم العربي الإسلامي في قلبها فكان ذلك الرباط الأبدي الخالد بسام

المقدمة

المقدمة ويبدأ القرن الخامس عشر للهجرة ... ومع بداية هذا القرن تتعاظم فكرة الجهاد الكامنة في العالم العربي- الإسلامي وفي كل أنحاء العالم الاسلامي. وتتعاظم معها الهجمة لسرقة (التقاليد الحربية - الإسلامية) وتحريفها عن أهدافها وإفراغها من مضامينها. ومن هنا تظهر الحاجة للتمسك بأصالة الحروب الإسلامية والعودة إلى ينابيعها المتفجرة ومواردها الأساسية التي لم يذبلها التقادم ولم يضعفها الصراع الدائم، فما يكاد لهيبه يخبو ظاهريا حتى يعود متمردا على كل أساليب الحرب الشاملة وطرائقها المتباينة. ويبدأ القرن الخامس عشر للهجرة ... وقد يكون ذلك مثيرا اقتران هذا الموعد الزمني بمضي ربع قرن على ثورة الجزائر الخالدة (يوبيلها الفضي) والتي حملت في أعماقها كل الأصالة الثوروية. وهي الأصالة التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ. ويؤكد ذلك الحاجة لاستعادة ملامح الصراع في الحقب الزمنية المتقادمة. لقد كانت الحروب الإسلامية بمجموعها شكلا

متقدما من مزج (طرائق الحرب الثوروية وطرائق الحرب النظامية). غير أن التحولات التي رافقت الحروب الصليبية في المشرق العربي-الإسلامي، وفي المغرب العربي الإسلامي قد فرضت تطورا حملت الجزائر المجاهدة راية (ريادته) وصدقت في هذا الدور الريادي، فشكلت بذلك ثروة ضخمة من التجارب القتالية التي لا بد من معرفتها لفهم (الأصالة الثوروية) في العالم الإسلامي بصورة عامة، وفي الغرب العربي - الإسلامي منه بصورة خاصة. لقد جابهت (الجزائر) ومعها أقطار العالم العربي-الإسلامي، تحديات صخمة، وتعرضت لأعمال عدوانية كثيرة، لم يكن أقلها إخراج المسلمين من الأندلس، ولم يكن أقلها احتلال المدن الساحلية للمغرب العربي الإسلامي، وهنا ظهر (الأخوان ذوي اللحى الشقراء) فكان في ظهورهم بداية قيادة التحول الحاسم. وحملت الجزائر أعباء رقع راية الجهاد في سبيل الله، فكان التحول التاريخي من الدفاع الإقليمي إلى الهجوم الإستراتيجي، وتعاظم تيار الجهد والجهاد، فجرف معه المتخاذلين، ولم تمضي فترة طويلة حتى أصبحت الجزائر المجاهدة قوة ضخمة فرضت سيادتها على (غرب البحر الأبيض المتوسط) وأحبطت كل أعمال العدوان ومحاولات المعتدين. وكان الفضل في ذلك للقدرة الذاتية التي عرف المسلمون فيها قوتهم وقدرتهم، وأمكن بهذه القدرة تحرير المغرب العربي-الإسلامي وتطهير ترابه. لقد خاضت الجزائر المجاهدة حروب تحت (راية الجهاد في سبيل الله) وانطلق تيار الجهاد من (المسجد-الجامع) ومن (الزاوية) حيث طلبة العلم وشيوخ التعليم، وكان هذا التيار من القوة، ومن الشدة ما حمل الحكام على ركوب أمواجه، وتنظيم مساراته، وتوجيه

فعالياته فكان اللقاء الخالد بين الحكام والمحكومين على صعيد الجهاد في سبيل الله، وكان في ذلك نصر الإسلام والمسلمين. وحملت الخلافة العثمانية أعباء الجهاد في سبيل الله على جبهة أوروبا وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، وحملت الجزائر راية الجهاد في البر والبحر في الغرب (غرب البحر الأبيض المتوسط). وعلى صعيد الجهاد التقت الجزائر بالخلافة العثمانية، فكان في ذلك عز المسلمين وقوة الإسلام في المشرق والمغرب. وكانت قوة الجزائر قوة للخلافة العثمانية، وكانت قوة هذه قوة للجزائر، ويصبح من المتوقع أن تبقى هذه العلاقة الجدلية ثابتة، فعندما استنزفت الحروب المستمرة قدرة الخلافة العثمانية وأصيبت بالضعف، انعكس ذلك على صفحة الجرائر التي استنزفت الحروب قدرتها بمثل ما استنزفت قدرة حليفتها. غير أن حصالة هذه (الحروب الطويلة الأمد) أكدت مجموعة من الحقائق أبرزها عمق (تيار الجهاد وقوته) فلا غرابة بعد ذلك أن تتعرض قاعدة هذا التيار للهجوم المستمر بأشكال مختلفة وطرائق متباينة. غير أن (التجربة التاريخية) كافية للتأكيد على فشل الهجمات كلها. وهذا هو أبرز درس يمكن استخلاصه. ويبدأ القرن الخامس عشر للهجرة ... ومع بدايته تبرز مجموعة من الظواهر المذهلة، أهمها التمرد (على روح العصر- المودة أو الزي) في تيار المسلمين المجاهدين، وتجديد مفهوم الجهاد في سبيل الله ورفع رايته والعودة إلى الالتزام بالعقيدة الدينية الإسلامية التي أفرزت (العقيدة القتالية الإسلامية) بكل فضائلها. ولقد فسرت هذه الظواهر تفسيرات مختلفة، وبذلت ولا تزال تبذل جهود علمية مكثفة للهجوم على القلعة (من الداخل).

غير أن التجربة التاريخية تعود لتؤكد (قوة الأصالة الإسلامية) وقدرتها على تجاوز كل التحديات. وفي الواقع، عملت الجزائر المجاهدة على حفظ (التجربة التاريخية) والتدقيق فيها، وأقبل كتاب المغرب العربي الإسلامي ومؤلفوه، وكتاب الجزائر منهم بصورة خاصة على إعداد ثروة ضخمة من الكتب والمنشورات الدورية والبيانات والإحصاءات، والهدف من ذلك الإبقاء على جذوة الجهاد المتقدة، وحماية (الأصالة الثوروية) من الضياع. غير أن الجهد المبذول يفتقر إلى التعميم من جهة، ويفتقر إلى سهولة المأخذ من جهة ثانية. ومن هنا ظهرت الرغبة في التعريف (بالحروب الثوروية الإسلامية) من خلال كتيبات تسهم في تعريف أبناء المشرق العربي الإسلامي بتراث المجاهدين الخالدين في المغرب العربي الإسلامي. وتساعد في الوقت ذاته أبناء المغرب العربي- الإسلامي على تطوير المعرفة العربية (ضمن إطار حرب التعريب) التي تقودها الجزائر ومعها أقطار المغرب العربي الإسلامي. وبعد، فقد يكون من المحال الإحاطة بكل جوانب التجربة التاريخية لجهاد الجزائر خاصة والمغرب العربي- الإسلامي عامة، وإن هي إلا محاولة في جملة محاولات (المحافظة على أصالة التجربة العربية الإسلامية، والإفادة من خيراتها الرائعة. والله أسأل التوفيق بسام العسلي

أبرز الأحداث على المسرح الإسلامي

أبرز الأحداث على المسرح الإسلامي

_ السنة الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث

السنة ... الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث

_ 1087 ... 1676 ... انتصار سوبيسكي عند (لويج) وهزيمته عند زوراونو. 1092 ... 1681 ... العثمانيون يتخلون عن كييف للروس. 1098 ... 1686 ... العثمانيون على أبواب فيينا. 1099 ... 1687 ... العثمانيون يخسرون المجر. 1100 ... 1688 ... هزيمة العثمانيين في معركة موهاج (موهاكس). 1095 ... 1683 ... النمساويون يستولون على بلغراد. 1102 ... 1690 ... العثمانيون يستردون بلغراد. 1108 ... 1690 ... بطرس الأكبر يتولى على آزوف وينتزعها من العثمانيين. 1123 ... 1711 ... هزيمة بطرس الأكبر عند نهر (البروث). 1124 ... 1714 ... البندقية تخسر آخر ممتلكاتها في المورة وبحر إيجة لمصلحة العثمانيين. 1130 ... 1722 ... الفتوح الروسية في القوقاز. 1148 ... 1735 ... انتصار العثمانيين على النمسا وروسيا. 1152 ... 1739

السنة الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث

_ 1174 ... 1761 ... معاهدة صداقة بين العثمانيين فريدريك الأكبر (بروسيا). 1184 ... 1770 ... الحرب ضد الروس وتدمير الأسطول العثماني في خليج جشمه. 1198 ... 1783 ... الإمبراطورة كاترينا (الروسيا) تخضع تتار القوم. 1243 ... 1827 ... الحلف الثلاثي ضد العثمانيين - معركة نافارين.

أبرز الأحداث على المسرح العالمي

أبرز الأحداث على المسرح العالمي

_ السنة الهجرية ... السنة الميلادية ... وجيز الأحداث

السنة الهجرية السنة ... الميلادية ... وجيز الأحداث

_ 1231 ... 1815 ... انتصار الحلفاء على فرنسا وعودة لويس الثامن عشر. 1233 ... 1817 ... اعتراف الدولة العثمانية باستغلال العرب الإداري. 1240 ... 1824 ... الثورة في اليونان. وإبراهيم باشا - ابن محمد علي الألباني يقود أسطوله إلى كريت واليونان. 1243 ... 1827 ... القوات الفرنسية تجتاح اليونان وتخرج القوات العثمانية لتنفيذ قرار لندن. والإمبراطورية العثمانية تعترف باستقلال اليونان. 1244 ... 1828 ... الحرب الروسية - التركية واستقلال رومانيا. 1246 ... 1830 ... ثورة فرنسا، وخلع شارل العاشر في فرنسا وتنصيب لويس فيليب وبدء العدوان على الجزائر.

أبرز الأحداث على مسرح الجزائر

أبرز الأحداث على مسرح الجزائر

_ السنة الهجرية ... السنة الملادية ... وجيز الأحداث

السنة الهجرية ... السنة الميلاي ... وجيز الأحداث

_ 977 ... 1569 ... ثورة المسلمين في الأندلس وإرسال الأسطول الجزائري. 981 ... 1573 ... تحرير تونس. 1030 ... 1620 ... الإنكليز يهاجمون ... الجزائر. 1075 ... 1664 ... الحملة الإفرنية على جيجل. 1076 ... 1665 ... الأسطول الإفرنسي يقصف الجزائر وتونس. 1094 ... 1682 ... فرنسا تقوم بالإغارة على الجزائر. 1119 ... 1707 ... تحرير وهران وإخراج الإسبانيين. 1145 ... 1732 ... محاولة إسبانيا إعادة احتلال وهران ونجاح العملية. 1187 ... 1773 ... إسبانيا تغير على الجزائر. 1189 ... 1775 ... الحملة الإسبانية الكبرى على الجزائر وفشلها. 1206 ... 1791 ... تحرير وهران.

الفصل الأول

{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين} (سورة التوبة - الآية 123). الفصل الأول 1 - الجزائر المجاهدة. 2 - الموقف على الجبهة الإسلامية في المشرق: آ - معركة ليبانتي 1571 م. ب - الجهاد على الجبهة الأوررية. ج - تمرد جنبلاط وفخر الدين المعني. 3 - الموقف على جبهة الأندلس.

الجزائر المجاهدة

1 - الجزائر المجاهدة أصبحت الجزائر مؤهلة لمجابهة كل عدوان، فهي تمتلك قدرات قتالية رائعة، ولها أسطولها الحربي المستقل ولها إدارتها الذاتية، وإن لم تكن قد عرفت بعد الحدود المميزة بينها وبين جارتيها في المشرق والمغرب. وقد ألقى ذلك عليها واجب قيادة الجهاد في سبيل الله في المغرب العربي الإسلامي كله ذلك هو الوضع الذي كانت عليه الجزائر بعد تلك الجهود الضخمة والتضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب في المغرب الأوسط تحت قيادة (خير الدين بربروس) وبالتعاون معه حتى أبعد الحدود، ولكن قبل أن يمضي (خير الدين) إلى جوار ربه سبقه رفيق جهاده ونائبه على الجزائر (محمد حسن آغا). وعلى أثر ذلك أصدر السلطان سليمان القانوني قراره بتعيين (حسان) الإبن الوحيد لخير الدين بربروس، واليا على الجزائر، وكان ذلك وفاء لما قدمه خير الدين من الجهد للإسلام والمسلمين، واستجابة لرغبة الجزائرين. وبرهن (حسان خير الدين) أنه جدير بالثقة التي منحها له الجزائريون، فتولى قيادة الجهاد في سبيل الله، بكل ما ورثه عن أبيه من كفاءة وتجربة، وبكل ما توافر له من العزم والتصميم والإخلاص. وقد جابهته منذ بداية عهده في الولاية قضية (تلمسان)، حيث كان حاكمها (أبو زيان- أحمد الثاني) قد تولى الملك بدعم من إدارة

الجزائر، واعترف بالوحدة مع الجزائر. غير أنه ما لبث أن خضع للمؤامرات الخارجية وانساق في تيارها وأخذ في التقرب من الإسبانيين والإبتعاد عن أهله وأبناء دينه الجزائريين. وأدى ذلك قبل كل شيء إلى تدهور علاقاته مع قومه وأعوانه في تلمسان الذين ما لبثوا أن قرروا خلعه عن العرش ومبايعة أحد إخوته (الحسن). فتوجه (أبو زيان) إلى (وهران) طالبا الدعم من الإسبانيين، مقدما لهم التعهدات بأن يحافظ على إخلاصه وتبعيته لهم. وقرر حاكم وهران (الكونت د. الكوديت) اغتنام هذه الفرصة، فجهز جيشه، وانضمت إليه جموع الخاضعين للإسبانيين من (بني عامر وفليته وبني راشد- وعلى رأسهم قائدهم المنصور بن بوغانم) وتقدموا إلى تلمسان لإبعاد ملكها الحسن وإعادة تنصيب (أبو زيان) على عرش المدينة. وما أن علم (حسان خير الدين) بتحرك الجيش الإسباني وحلفاؤه من وهران، حتى قاد الجيش الإسلامي، وانطلق من الجزائر في محاولة للسيطرة على محاور التحرك ومنع الإسبانيين من الوصول إلى هدفهم. وبذلك يتمكن من دعم حليفه الملك الحسن في تلمسان، وذلك في شهر آب - أغسطس - 1547. اصطدمت قوات المسلمين بالقوات الإسبانية عند بلدة (عربال) الواقعة على بعد خمسة وعشرين كيلو مترا إلى الجنوب من وهران (وإلى أسفل البحيرة المالحة). واستعد الطرفان للمعركة، ولكن قبل وقوع الاشتباك بوغت (حسان خير الدين) بخبر وفاة أبيه، وأعقب ذلك موجة من الذهول والاضطراب اجتاحت المغرب الإسلامي، وخشي (حسان) أن يؤدي ذلك إلى ظهور أحداث خطيرة في عاصمة الدولة، فقرر العودة فورا إلى الجزائر، ونظم قواته، وانسحب في اتجاه (مستغانم). وأدرك (الكونت د. الكوديت) سبب هذه الحركة إذ كان

قد عرف بدوره خبر وفاة (خير الدين بربروس) وما أحدثه ذلك من الشعور بالفراغ المريع، فقرر بدوره اغتنام حده الفرصة، ومطاردة (حسان) على أمل تحويل عملية الانسحاب إلى هزيمة لقوات المسلمين تساعده على احتلال (مستغانم). غير أن (حسان) وصل إلى مستغانم بكامل قوته، في الوقت الذي استولى الإسبانيون على (مازغران) دونما قتال. وفي (مستغانم) عقد (حسان) مؤتمرا مع القادة من أهل المدينة والمجاهدين فيها. وتقرر الدفاع عن المدينة، وصد العدو عنها مهما بلغ الثمن، ومهما تطلب ذلك من جهد وتضحيات. وتوجه الرسل من (مستغانم) لاستنفار العرب واستقدام قوة الحامية المدافعة عن تلمسان. ووصلت القوات الإسبانية إلى أمام أسوار (مستغانم) حيث احتدم القتاد طوال ثلاثة أيام متوالية، ولما لم يكن الإسبانيون يتوقعون مثل هذه المقاومة، فقد أصيبوا بخيبة أمل مريرة، غير أن ذلك لم يضعف من تصميمهم على احتلال المدينة وأدى ذلك إلى تصعيد حدة القتال. وأثناء ذلك، كانت حامية تلمسان قد انطلقت للجهاد، وانضمت إليها جموع المجاهدين، ووصلت هذه القوات إلى ميدان المعركة يوم 21 - آب (أغسطس) فحدث نوع من التوازن في القوى. وقام الإسبانيون بهجوم قوي على المدينة، وأمكن هم خمس مرات رفع راياتهم فوق بعض أسوارها. وكان المجاهدون في كل مرة يقومون بهجوم مضاد يطردون فيه الإسبانيين من المواقع التي يحتلونها، ويسدون الثغرات التي تظهر في مواقعهم الدفاعية. واستمر الصراع المرير حول (مستغانم) أسبوعا كاملا. وعرف (الكونت د. الكوديت) أنه أخطأ في تقدير الموقف. وأنه لا قبل له فى الاستمرار بخوص معركة تستنزف قوته في حين كانت قوات المسلمين تتعاظم باستمرار.

وقرر رفع الحصار والعودة بقواته إلى قاعدته (بوهران) وبدأ بتنفيذ الانسحاب بعد عروب شمس يوم 28 آب- أغسطس-. غير أن قادة المجاهدين قرروا عدم إتاحة الفرصة للإسبانيين للقيام بانسحاب منظم. فقاد (حسان خير الدين) قوات المسلمين المكونة من (15) ألف من المشاة و (3) آلاف من الفرسان، وأخذ في مطاردة القوات الإسبانية خلال كل مرحلة من مراحل تحركها، وتضييق الخناق عليها باستمرار. وسيطر الذعر على القوات الإسبانية من جراء هذه المطاردة العنيفة. وحاول قائدها جمع الفارين من جيشه والقيام بهجوم مضاد لإيقاف مطاردة قوات المسلمين، غير أن جنوده كانوا يفكرون بالفرار أكثر من تفكيرهم بخوض المعركة. ولهذا كان الهجوم المضاد ضعيفا. ولم تتمكن القوات الإسبانية من الوصول إلى وهران إلا بعد جهود مضنية. وأفاد (أبو زيان) من بقاء تلمسان دونما حامية تدافع عنها، فهاجمها برجاله واستولى عليها وأعاد حكمه إليها. رجع (حسان) إلى عاصمته (الجزائر) واستقر فيها، وأخذ في الاستعداد لمتابعة الجهاد الداخلي من أجل بناء الجزائر وتوحيدها، ومن أجل تطوير أعمال الجهاد الخارجي ضد الأعداء. وكان هدفه الأول هو استعادة (تلمسان) وتحريرها من عميل الإسبانيين (أبازيان). خلال هذه الفترة كان المغرب الأقصى (مراكش) يشهد تطورات حاسمة على أيدي (الأشراف السعديين) (¬1) الذين أخذوا ¬

_ (¬1) هناك خلاف على أصل هؤلاء السعديين، فقد جاء في (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى) ما يلي: (إعلم أن هؤلاء السعديين كانوا يقولون أن أصل سلفهم من (ينبع النخل) من أرض الحجاز وأنهم أشراف من ولد محمد النفس الزكيه- رضي الله عنه- وإليه يرفعون نسبهم غير أن المولى محمد بن الشريف السجلماسي، أول ملوك العلويين، طعن في نسبهم،، وصرح بذلك في بعض رسائله التي وجهها إلى الشيخ بن زيدان وقال =

على عاتقهم تحقيق أمرين عظيمين: أولهما إنقاذ المغرب الأقصى من البرتغاليين. وثانيهما إنقاذ المغرب الأقصى من الانهيار الداخلي الذي وصلت إليه البلاد تحت حكم بني وطاس (المرينيين). وأقبل الشعب في المغراب الأقصى على دعم السعديين لتحقيق هذه الأهداف وقيادة حركة الجهاد. فأمكن للسعديين بذلك خوض مجموعة من المعارك والأعمال القتالية التي انتهت بتحرير السواحل المغربية من أيدي البرتغاليين. ولم تقبل سنة (1540) حتى أمكن لهم إخراج البرتغالين نهائيا من مقاطعة الدوكالة بكاملها. ومع هذه الانتصارات الخارجية، كان السعديون يمهدون لإقامة ملك جديد على أنقاض (الملك المريني المنهار) وجعلوا من مدينة (مراكش) عاصمة لهم. وما إن استقر مؤسس دولة السعديين (محمد المهدي- أبو عبد الله الشيخ) في (مراكش) حتى انصرف لبناء جيش قوي ضم إليه المقاتلين من أبناء المغرب كله. وكان يتابع التطورات في البلد المجاور (الجزائر) فعز عليه استيلاء الترك عليه، باعتبارهم غرباء عن هذا الإقليم، وكان يقبح على أهله وملوكه أن يتركوهم يغلبون على بلادهم. وفي الوقت ذاته كان يخشى ما يقوم به زعيم الوطاسيين (أبو حسون) من تحريض للبرتغاليين والإسبانيين ضد بلاده، والانطلاق في العدوان من (تلمسان) فقرر الاستيلاء عليها وعلى المغرب الأوسط بكامله (الجزائر). وفي سنة (1500 م) وجه جيشا قويا بقيادة ابنه (الشريف محمد الحران) بمهمة الاستيلاء على تلمسان. وتولى بعد

_ = فيها: وقد اعتمدنا في- الطعن بنسبكم- على ما نقله الثقات المؤرخون لأخبار الناس من علماء مراكش وتلمسان وفاس، ولقد أمعن الكل التأمل بالذكر والفكر، فما وجدوكم إلا من بني سعد بن بكر) أي من بني سعد الدين منهم حليمة السعدية- مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم- (حرب الثلاثمائة سنة- أحمد توفيق المدني- ص 325).

ذلك تجهيز جيش آخر انطلق به (من فاس) لإحكام الحصار على تلمسان وإخضاعها. غير أن أهل تلمسان قاوموا عملية الحصار بضراوة، واشتبكوا مع قوات السعديين مرات كثيرة قتل أثناءها (الحران) بن (الشريف محمد) والذي اشتهر بكفاءته القيادية العالية وشجاعته. وبعد حصار دام تسعة أشهر، أمكن للشريف محمد اقتحام تلمسان وكان ذلك يوم الإثنين الثالث والعشرين من جمادي الأولى سنة سبع وخمسين وتسمائة للهجرة (1550 م) وأخرج الأتراك منها، وامتد حكمه ليشمل الإقليم التابع لها حتى (وادي شلف). كان (حسان خير الدين) أثناء ذلك قد جهز جيشا قويا يضم (5) آلاف رجل من المجاهدين الجزائريين (من المشاة المسلحين بالبنادق) و (ألف) فارس و (8) آلاف مقاتل من مجاهدي جبال زواوة (تحت قيادة السيد عبد العزيز سلطان قلعة بني عباس). وغادرت هذه القوة (الجزائر) في سنه (1550) وهدفها مدينة (وهران) لانتزاعها من قبضة العدو الإسباني، واستثمار النصر الذي تم إحرازه عليها تحت أسوار (مستغانم). علم (حسان خير الدين) وهو في طريقه إلى (مستغانم) بأن قوات السعديين قد احتلت تلمسان ومستغانم، وأنها تتابع تقدمها نحو مدينة الجزائر، وقد وصلت في طريقها إلى مجرى (نهر الشلف). وعند ذلك، تم تشكيل قوة جزائرية تولى قيادتها (حسان قورصو) وتوجه بها فورا إلى مجرى (نهر الشلف) حيث التقى بقوات السعديين ودارت رحى معركة ضارية، انتهت بهزيمة السعديين، واستثمر (حسان قورصو) النصر بأن وجه قوة بسرعة إلى (مستغانم) أمكن لها إخراج السعديين منها. وتابعت القوات الجزائرية تقدمها في اتجاه المغرب الأقصى. غير أن (الشريف محمد المهدي) شكل جيشا يضم

(20) ألف مقاتل بمجرد عودته من المعركة. وأسند قيادة هذا الجيش إلى ابنه (الشريف عبد القادر) بمهمة إيقاف تقدم الجزائرين. واصطدمت القوتان عند حدود المغرب (بجوار قبة سيدي موسى). وتلقى المجاهدون من (زواوة) الصدمة الأولى، ثم تبعهم بقية الجيش الجزائري. ودارت معركة قاسية خاضها الطرفان بعناد، وانتهت بمصرع قائد الجيش السعدي (الشريف عبد القادر) وتراجع جيشه إلى ما وراء نهر الملوية. وعادت القوات الجزائرية بعد ذلك إلى (تلمسان) التي بقيت بدون حاكم لها، فتم تنصيب الأمير الحسن بن عبد الله الثاني ملكا عليها. غير أن هذا الملك كان ضعيفا، فتولى ممارسة السلطة الفعلية فيها القائد العثماني (في سفطة). واكتفى الملك بالانصراف إلى حياته الخاصة التي لم تكن (فاضلة) مما أثار الشعب عليه واجتمع مجلس العلماء فأعلن خلعه (سنة 962 هـ = 1554 م) وأعلن (صالح رايس) يومئذ نهاية دولة بني زيان وانضمام تلمسان نهائيا إلى دولة الجزائر. أما الملك السابق (أحمد الثالث) الذي أبعده الأشراف السعديون عند احتلالهم تلمسان، والذي ساءت سيرته بسبب اعتماده على الإسبانيين في حكم (تلمسان) فإنه مات في وهران. كان سلطان المغرب الأقصى (الشريف محمد المهدي) قد عمل عند احتلاله لمدينة فاس (سنة 956 هـ) على إلقاء القبض على كل الوطاسيين من أبناء (بني مرين) وأرسل بهم مقيدين بالأغلال إلى مدينة (مراكش) وكان لهم أنصارهم (بصورة خاصة من النازحين الأندلسيين) فساءهم ما لقيه هؤلاء من سوء المعاملة، وكان آخر ملوكهم (أبو حسون) قد نجا بنفسه، وأخذ بالدعوة لشخصه ولبني وطاس المرينيين. ولما وقعت الحرب بين المغربيين والجزائريين في معركة

(نهر الشلف) وعلم السلطان سليمان القانوبي بذلك ساءه وقوع الحرب بين المسلمين. فأرسل وفدا من كبار العلماء يرأسه الفقيه الشخ أبو عبد الله محمد بن علي الخروبي (الطرابلسي الأصل الجزائري المستقر) بمهمة توطيد السلام. ووصل هذا الوفد إلى مدينة (مراكش) وفاوض سلطان المغرب (الشريف محمد المهدي) باسم السلطان سليمان حول النقاط التالية: أولا: اعتراف السلطان العثماني بالاستقلال التام لدولة المغرب مقابل اعتراف هذه الدولة بالخلافة العثمانية، جمعا لوحدة المسلمين، وذلك بالدعاء للخليفة العثماني على المنابر. ثانيا: إطلاق سراح المقيدين المنكوبين من (بني وطاس المرينيين) والتخفيف من ضائقتهم، إذ لا يجوز شرعا أن يغل جماعة من المسلمين. ثالثا: تحديد الحدود بين مملكتي الجزائر والمغرب الأقصى. وطال النقاش حول هذه النقاط، ولم يوافق سلطان مراكش السعدي على الاعتراف بخلافة آل عثمان على المسلمين، كما لم يقبل تدخلهم في أمر بني وطاس، غير أن وساطة العلماء أسفرت عن اتفاق حول الحدود الفاصلة بين دولتي المغرب والجزائر، من ساحل البحر إلى بداية الصحراء. وهي الحدود التي ما زالت كما هي حتى اليوم، وكانت سنة (961 هـ = 1053 م) هي بداية تحديد (حدود دولة الجزائر ككيان مستقل). انصرف (حسان خير الدين بربروس) بعد ذلك إلى تحقيق أهداف ثلاثة: أولا: جمع وحدة البلاد، وإرساء قواعد الدولة على أسس

راسخة، وتحصين الثغور استعدادا لمجابهة كل عدوان. ثانيا: تحرير المدن الجزائرية التي احتلتها القوات الإسبانية وأقامت حاميات فيها، وخاصة بجاية ووهران. ثالثا: بعد تطهير وهران، قيادة المجاهدين في سبيل الله من أبناء المغرب العربي الإسلامي ودعم بقايا المسلمين، في الأندلس، لقهر الإسبانيين في بلادهم، وإقامة دولة إسلامية جديدة، حيث كانت تقوم مملكة غرناطة من قبل عهد قريب. ونجح (حسان خير الدين) في تحقيق هدفه الأول بسرعة مذهلة، بفضل ما عرفه الجزائريون وأبناء المغرب من إخلاص واليهم وصدقه وحسن سياسته. وقسم المملكة إلى مقاطعة غربية، ومقاطعه جنوبية ومقاطعه عامة. وأطلق على كل مقاطعة اسم (بايليك) ووضع على رأسها حاكما يدعى (الباي) أما المقاطعة العامة فهي (دار السلطان) وتشمل الجزائر وما حواليها، وتحكمها الإدارة المركزية مباشرة. وباي الشرق مركزه قسنطينة. وباي الغرب مركزه (وهران- بعد فتحها) وقد استقر موقتا بمازونة وبمعسكر. أما باي الجنوب، فمركزه مدينة المدية. ويحكم الشعب شيوخ منه، تحت إمرة ونظر البايات ويدعى هؤلاء الشيوخ (شيوخ الوطن). وهم: (شيخ وطن بني خليل، وشيخ وطن بني موسى، وشيخ وطن يسر، وشيخ وطن سباو، وشيخ وطن بني جعد، وشيخ وطن بني خليفة، وشيخ وطن حمزة، وشيخ وطن السبت، وشيخ وطن عرب، وشيخ وطن بني مناصر، وشيخ وطن الفحص - متيجة). وأظهر حسان خير الدين اهتمامه الكبير بتحصين الثغور، وقد استخلص من مجموعة التجارب القتالية السابقة أن (كدية الصابون)

تشكل موقعا استراتيجيا هاما، حيث كانت القوات الاسبانية الصليبية تعمل في كل مرة على احتلال هذا الموقع المشرف على مدينة الجزائر-من خلفها- وحيث تستطيع مدفعية العدو تدمير الجزائر إذا ما أمكن لها احتلالها. ولهذا أمر ببناء معقل منيع، وحصن شامخ يرتفع فوق تلك الربوة التي تعلو مائتي متر تقريبا عن سطح البحر (¬1) ثم أخذ في الاستعداد لتنفيذ الهدف الثاني وهو تحرير وهران وتلمسان. انتهج (حسان خير الدين) سياسة مضادة لكل الدول الأجنبية، بما فيها فرنسا التي كانت ترتبط بالسلطنة العثمانية بروابط رسمية جيدة، ساعدت فرنسا على الإفادة من الحريات الاقتصادية الواسعة التي منحتها لها معاهدتها مع استامبول والتي شملت كل بلاد السلطنة العثمانية غير أن (حسان خير الدين) لم يلتزم بذلك، وأعلن عن عدائه لفرنسا في مناسبات كثيرة، فما كان من فرنسا إلا أن أرسلت سفيرها المعتمد في استامبول إلى الجزائر، بهدف معرفة المدى الذي سيصل إليه (حسان) في عدائه لفرنسا، وفيما إذا كان هذا العداء سيؤثر على العلاقة الاقتصادية ما بين فرنسا والجزائر. واجتمع سفير فرنسا بالأمير (حسان) وعرض عليه تقديم مساعدات عسكرية- الأسطول والرجال - لتنفيذ مشروعه في غزو إسبانيا ونجدة مسلمي الأندلس. لكن (حسان) رفض هذا العرض، وأعلن بصراحة أن قضية الجهاد هي قضية خاصة بالمسلمين، فأكد بذلك القاعدة الثابتة (وهي عدم ¬

_ (¬1) ما زالت هذه القلعة موجودة حتى اليوم، وقد عمل الجزائريون على تدميرها في تموز - يوليو - 1830،يوم اجتاحت قوات الاستعمار الفرنسي الجزائر. وأعاد الإفرنسيون بناءها وتحصينها. وتدعى القلعة رسميا باسم (سلطان قلعة سي - أي - قلعة السلطان). أما الشعب الجزائري فما زال حتى اليوم ينسبها إلى بانيها الأول، ويدعوها باسم (برج مولاي حسان) - حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدني - ص 333.

موقع المغرب العربي الإسلامي من العالم

الانتصار بكافر على كافر). ورجع السفير الإفرنسي إلى إستامبول، وأفاد من نفوذه الواسع للتأثير على رجال الديوان، وأوغر صدر السلطان بقوله: (إن السلطة الواسعة المطلقة التي يمارسها حسان، ومحاولاته توسيع مملكته ستحطم وحدة الدولة العثمانية وتهدد كيانها بالانقسام). فقرر الديوان السلطاني دعوة (حسان) إلى إستامبول لمجابهته بالأمر ومعرفة نواياه السياسية ومدى مطامعه. وغادر حسان مدينة الجزائر موقتا. وخلفه على ولاية الجزائر في نيسان - أبريل- سنة 1552 م ذلك القائد الشهير (صالح رايس).

الجزائر عند ظهور الأتراك العثمانيين

الموقف على الجبهة الإسلامية في المشرق

2 - الموقف على الجبهة الإسلامية في المشرق: ذلك هو الموقف على ساحة المغرب العربي الإسلامي، في بداية تكون دويلاته المستقلة، والتي أصبحت خاضعة (بصورة رسمية) للخلافة العثمانية، ووقع عبء الجهاد على العالم الإسلامي في شرقه ومغربه. وهكذا وبينما كانت الجزائر تبني قدرتها الذاتية لما فيه قوتها وقوة العرب المسلمين، كانت الإمبراطورية العثمانية تخوض صراعا مريرا على كل جبهاتها وبصورة خاصة على جبهتها الأوروبية وفي البحر الأبيض المتوسط وكان أسطول الجزائر ينضم إلى الأسطول العثماني عند وقوع أي معركة بحرية، كما كان الأسطول العثماني يسرع لنجدة الجزائر في كل مرة تتعرض فيها للعدوان. وقد وضع (خير الدين بربروس) أساس هذه السياسة الاستراتيجية وترك للإمبراطورية أسطولا قويا. وعلى الرغم من المعاهدة التي عقدت مع النمسا في شباط - فبراير - 1568 م، فقد استمرت البندقية في أعمالها العدوانية متخذة من قبرص قاعدة لها وتمكن (اليهودي يوسف ناسي) الذي كان أثيرا عند السلطان (سليم الثاني 1566 - 1574) من إقناع السلطان بضرورة شن الحرب على البندقية بعد أن امتنعت هذه من تنفيذ ما طلبه السلطان إليها. وتمكنت الجيوش العثمانية من احتلال قبرص دون كبير عناء. وكان أسطول (البندقية) يرابط في تلك

آ - معركة ليبانتي

الأثناء على شواطىء كريت في انتظار النجدة تأتيه من الغرب. غير أن هذه النجدة لم تصل في حينها. آ - معركة ليبانتي: عند ذلك هب البابا وأعوانه لتدارك هذا الموقف بكل الوسائل الروحية والمادية. فأمر قداسته بقرع الأجراس والنواقيس، كل يوم ظهرا، لاجتماع الأتقياء في الكنائس والتضرع إليه تعالى أن ينقذ أوروبا من خطر المسلمين. وأرسل البابا سفراءه إلى كل مكان للتحريض على الحرب. وكللت نتيجة مساعيه بالنجاح، فتم عقد محالفة ثلاثية بين البندقية (فينيسيا) وإسبانيا والبابا سنة 1571 م. بهدف تدمير القدرة البحرية الإسلامية التي باتت تهدد البندقية بصورة خاصة والتي كانت تحتل كور فو وكريت (بالإضافة إلى قبرص التي تم انتزاعها منها). كما اندفعت إسبانيا إلى هذا الحلف على أمل التخلص من تهديد الأسطول الجزائري. واندفعت شعوب البلدان الكاثوليكية المتحالفة لدعم الجهد الحربي. وتطوع الأشراف والأمراء من كل أصقاع أوروبا حتى لم تبق أسرة من أشراف أوروبا ونبلائها إلا ولها من يمثلها في تلك الحملة الصليبية. أرسل ملك إسبانيا (فيليب الثاني) أسطولا من (22) بارجة و (8) آلاف جندي وبحار بقيادة الأميرال (جان أوستريا). وأرسلت (جنوا) أسطولا بقيادة الأميرال (دوريا) كما أرسلت صقليا ونابولي أسطولا بقيادة الأميرال المركيز (سانت كروز)، وأرسل البابا بدوره أسطوله بقيادة أميراله (أنطونيو كولونيا). وأرسلت فينيسيا أكبر أسطول بقيادة الأميرال (بروفيدينور بربريجو). واجتمعت الأساطيل المتحالفة في مرفأ مسينا في شهر أيلول (سبتمبر) 1571. وأسندت

معركة ليبانتي الكبرى

قيادة هذا الأسطول الموحد إلى ملك النمسا (دون جوان) حيث بلغ عدد بوارج هذا الأسطول (200) بارجة. وكان الأسطول العثماني لا يقل في عدده عن الأسطول المتحالف، غير أن الأسطول الصليبي كان متفوقا في مدفعيته. وقد زادت قوته عندما انصم إليه أسطول الجزائر الذي كان يضم (40) قطعة حربية بقيادة أمير البحر الجزائري. فتوجه هذا الأسطول الإسلامي بمجموعة من الإغارات على سواحل كريت والجزر الإبونية. ودخل خليج (لبانتي - أوناوباقتوس القديمة) يوم 7 تشرين الأول - أكتوبر -. وتحرك الأسطول الصليبي. فمر بمضيق أتيكا وسينالونيا ورأس ماراتيا، حتى التقى بالأسطول العثماني في مياه (ليبنتو) الواقعة على الشط الشمالي من بر اليونان المحاذي لخليج (كورينث). كان من رأي قادة الأسطول الإسلامي الإفادة من تحصين الخليج وعدم الاشتباك بالأسطول الصليبي غير أن القائد العام (الأميرال علي باشا) صمم على الخروج للمعركة معتمدا على تفوقه (حيث كان عدد بوارجه 234 بارجة). ونظم (الأميرال علي باشا) قواته، فوضع بوارجه على نسق واحد - صف - من الشمال إلى الجنوب - بحيث كانت ميمنتها تستند إلى مرفأ ليبنتو، وميسرتها في عرض البحر. وقد قسمها الأميرال علي باشا إلى جناحين وقلب، فكان هو في القلب، وسيروكو في الجناح الأيمن وبقي الجناح الأيسر بقيادة أمير البحر الجزائري (علوش باشا). ومقابل ذلك نظم الأميرال (دون جوان) قواته، فوضع بوارجه على صف (نسق) يقابل النسق الإسلامي. ووضع جناحه الأيمن بقيادة الأميرال دوريا في مقابل (علوش باشا). وأسند قيادة جناحه الأيسر إلى (بربريجو) وأسندت قيادة القلب إلى الأميرال القائد العام

(دون جوان) وترك أسطولا احتياطيا بقيادة الأميرال (سانت كروز). وما أن بدأت المعركة حتى أحاطت بوارج (سيروكو) العثماني بالجناح الأيسر للأسطول الصليبي. وأوغلت السفن الإسلامية بين بوارج الأسطول الصليبي. ودارت معركة قاسية أظهر فيها الطرفان عنادا كبيرا، غير أن المعركة انتهت بتدمير القسم الأكبر من الأسطول الإسلامي. وخسر المسلمون (20) ألف مقاتل في حين لم تتجاوز خسائر الصليبيين (8) ألاف قتيل. ودمر القسم الأكبر من الأسطول الإسلامي ونجح أمير البحر الجزائري (علوش باشا) في إنقاذ الجناح الأيسر وسفنه الأربعين، وعاد بها إلى الجزائر. غير أن (دون جوان) لم يستثمر هذا النصر، بل إنه لم يهاجم (ليبابني) ذاتها. على الرغم من أن السكان النصارى، في الداخل، كانوا يترقبون ذلك للانقضاض على العثمانيين. وأخيرا انسحب الأحلاف، حتى إذا كانت السنة التالية، صار في مقدور السلطان أن يوجه إلى المعركة أسطولا يكاد يضاهي أسطولهم منعة وقوة. وهكذا فت في عضد البنادقة الذين ظلوا مرابطين في دلماسبا دون أن يحسنوا مركزهم أو يعززوا قواهم، وزايلتهم الرغبة في مواصلة الصراع والنضال، فعقدوا مع العثمانيين معاهدة تنازلوا بموجبها عن قبرص (في آذار - مارس - 1573) وأفادت البحرية الإسلامية من تجربة (ليبانتي) فتم تطوير مدفعية الأسطول، حتى أصحت منافسة في عددها وقوتها للأساطيل المعادية (¬1). ¬

_ (¬1) جاء في حرب الثلاثمائة سنة. أحمد توفيق المدني ص 398 - 399 ما يلي: (كان الأسطول الصليبي يضم 300 سفينة يقابلها 250 سفينة لدى الأسطول الإسلامي وكانت قوة الصليبيين (80) ألف مقاتل. ووقعت المعركة يوم 17 جادي الأول 979 هـ وانتهت بغرق 94 سفينة من سفن الأسطول الإسلامي وأخذ المسيحيون 130 سفينة عليها نحو (300) مدفع و (30) ألف أسير واستشهد في المعركة علي باشا قائد الأسطول =

ب - الجهاد على الجبهة الأوروبية

ب - الجهاد على الجبهة الأوروبية: لم يلبث السللطان سليم الثاني أن توفي، وخلفه السلطان مراد الثاني (1574 - 1595م). وفي عهده قامت القوات العثمانية بأعمالها الهجومية في بلاد القبق (القوقاز) وفتحت (تفليس) وأنشأت قلعة (قارص) في سنة 1579. وعزز العثمانيون نفوذهم في جنوبي (الروسيا) ليتخذوا منها مركزا لحملاتهم ضد بلاد الكرج سنة 1581 وسنة 1583. وأصبح بإمكانهم بعد ذلك التدخل في شؤون بولونيا حيث أصبح الملكان البولونيان اسطفان باثوري وسيجموند تابعين للسلطة العثمانية. وعلى الرغم من وقف القتال بهدنة سنة 1583، فقد ظلت جمرات الحرب متقدة تحت الرماد، وظل شررها يتطاير بالنزاع المستمر على الحدود النمساوية، إلى أن اشتعلت نيرانها بعد عشر بسنوات، وكان حاكم (البوسنة) قد هزم هزيمة مروعة في حزيران - يونيو - سنة 1593 م أثناء إغارة قام بها على (سسد) في بلاد المجر. ولم يكن بد من استئناف الحرب الكبرى. ولكن السلطان مراد الثالث توفي وخلفه ابنه محمد الثالث (1595 - 1603م) الذي قاد بنفسه قواته ضد حكام النمسا (آل هبسبورغ) وانتصر عليهم في معركة (أكري). ولكن الحرب سارت بعد هذا النصر بخطى وئيدة جدا ثم استمرت

_ = العثماني. واستطاع (قلج علي) الذي تسميه المصادر الغربية (علوش) انقاذ أسطوله والاستيلاء على بعض السفن منها السفينة التي تحمل علم البابا. وبادر السلطان على إثر ذلك بتعيين (قلج علي) أميرا عاما للبحر (قبوران باشا) مع بقائه واليأا على الجزائر (باي لرباي). وتولى (قلج علي) مهمة إعادة تنظيم الأسطول، وترك (أحمد العربي) حاكما للجزائر وهو الذي تسميه المصادر التركية (عرب أحمد). ولم تمض أكثر من سنة واحدة، حتى استطاع (قلج علي) إعداد (250) سفينة جديدة، وعاد الأسطول بأقوى مما كان عليه قبل معركة (ليبانتي).

كذلك عقب وفاة محمد سنة (1603) وارتقاء ابنه أحمد العرش (1603 - 1617 م) والواقع أن الحظ لم يجر في ركاب العثمانيين إلا عندما انحاز إلى جانبهم الزعيم المجري (بوكسكاي) بعد أن نصب أميرا على (ترانسلفانيا) وهكذا عقد الصلح آخر الأمر بين الفريقين بمعاهدة سيتفاتورك (سنة 1606). وشهدت أوروبا حالة من الهدوء النسبي، حتى عهد (السلطان إبراهيم (1640 - 1648)، حيث استجمع العثمانيون قواتهم لمجابهة التحريض الذي لم تتوقف (البندقية) يوما عن إثارته تحت لواء الصليبية, مع توجيه التهديد إلى بحر إيجه من خلال سيطرة البندقية على جزيرة (كريت). وأدى ذلك إلى إقدام السلطان إبراهيم على إصدار أمر في حزيران (يونيو) سنة 1645 باعتقال جميع البنادقة في كل أنحاء الإمبراطورية ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، معلنا بذلك الحرب على البندقية. وقام الأسطول العثماني بمهاجة جزيرة كريت، واحتلال (حانيه) بدون مقاومة. وفي هذه الأثناء كان البنادقة يسعون على غير طائل، في سبيل حمل الدول الأخرى على مساعدتهم للاحتفاظ بمواقعهم في المشرق. وأمكن لهم إحراز بعض التقدم في (دلماسيا). كما استطاعوا في سنة (1651) دحر الأسطول العثماني عند (باروس). وفي هذه الفترة عرفت الإمبراطورية العثمانية نوعا من التنظيم الشامل , (الذي تولى أمره الصدر الأعظم محمد كوبريلي). وساعد على اتخاذ المواقف الحازمة ضد جيران الإمبراطورية في الشمال، ففي (ترانسلفانيا) (¬1) أقصى الباب العالي الأمير (جورج راغوجكي) الذي ¬

_ (¬1) ترانسلفانيا: (TRANSYLVANIE) وبالرومانية (أرديل: (ARDEAL) إقليم في رومانيا يقع بين جبال الكربات والألب التراسلفانية. وكان هذا الإقليم تابعا =

حاول التمرد على السلطة الإسلامية. وأقام مكانه (الأمير ميخال آبافي). ورفض الإمبراطور النمساوي الاعتراف (بآبافي) بضغط من المجريين. فتهدده الباب العالي بالحرب. وهكذا بعثت في أوروبا فكرة الواجب المشترك الذي يفرض على العالم المسيحي كله العمل من أجل دفع الخطر الإسلامي، وهي الفكرة التي طالما عمل لها البنادقة. واستجاب الملوك لدعوة البابا - بمن فيهم ملك فرنسا لويس الرابع عشر - وذلك من أجل نصرة إخوانه في الدين، على الرغم من صلاته الطيبة بالباب العالي، فحمل الأمراء الألمان الذين يؤلفون عصبة اتحاد الراين (آل هبسبورغ) وكانوا حلفاءه، على أن يضعوا (20) ألف رجل تحت تصرف الإمبراطور الألماني، فأحرجت هذه البادرة بلاط فيينا، الذي كان لا يزال يسعى لتجنب الحرب، ويأمل في مفاوضة العثمانيين. ولكن صبر السلطان ماعتم أن نفد، فأصدر أوامره بالهجوم على المجر في نيسان (أبريل) 1663، حتى إذا انتهى العثمانيون إلى أن يهددوا فيينا ذاتها، دعا الإمبراطور اتحاد الراين، بل دعا السويد أيضا، إلى نجدته، غير أن ما تلقاه من دعم وما أحرزه من انتصارين أبرزهما انتصاره على نهر الراب (قرب جبل القديس غونارد) لم يمنعاه من متابعة جهده الباسي فعقد مع العثمانيين الصلح (سنة 1665) حتى ينصرف لمناوأة السياسة الإفرنسية. بذلك، أصبح باستطاعة القوات العثمانية إلقاء كل ثقلها في معركة (كريت). وكان البنادفة يتوقعون - بل ينتظرون - وصول دعم من فرنسا، لكن هذه لم ترسل أكثر من بعض الضباط للإلتحاق في خدمة البندقية، وعندما قرر لويس الرابع عشر إرسال حملة تضم (7) آلاف رجل في صيف

_ = للملكة الهنغارية منذ القرن الحادي عشر. ثم حصل على نوع من الاستقالال (1525 - 1686) وأصبح تابعا لحكم آل هبسبورغ بعد ذلك.

سنة (1669) كان الوقت قد أصبح متأخرا. إذ كانت قلعة (قلندية) قد سقطت في قبضة القوات العثمانية منذ يوم 6 أيلول - سبتمبر - وعقدت معاهدة الصلح التي فرضت على البنادقة الانسحاب من كريت. وعاد العثمانيون لبسط نفوذهم في الشمال الشرقي من بلادهم. وحدث في سنة (1668) أن انضوى الزعيم القوقازي (دوروشنكو) تحت لواء العثمانيين (وكان يعمل من قبل لمصلحة التاج البولوني). ولكن الدولة العثمانية لم تطلب إلى بولونيا التنازل عن (أوكرانيا) إلا سنة (1672) بعد أن وثقت من عدم تدخل ملك فرنسا لويس الرابع عشر، فلما كان شهر أيلول (سبتمبر) عقد ملك بولونيا (ميخال) معاهدة مع العثمانيين تنازل لهم بموجبها عن (بودوليا وأوكرانيا) وذلك بعد أن فقد قلعة (قامنج) القائمة على الحدود، إثر حصار قصير الأمد. ولكن الماريشال (سوبيسكي) (¬1) نقض هذه المعاهدة في السنة التالية. فكتب له النصر على العثمانيين عند (خوتين) في 11 تشرين الثاني - نوفمبر - وعندما توفي الملك ميخال بعد ذلك بقليل، ارتقى (سوبيسكي) عرش بولونيا باسم (حنا الثالث). غير أنه لم يوفق لإحراز أي نصر خلال حملاته التالية، حتى إذا ما حاول عبور نهر (الدنيستر) سنة 1676، طوقت قواته عند (زوراونو) (¬2) ¬

_ (¬1) سوبيسكي: (SOBISKI: JEAN 111) ملك بولونيا (1673 - 1696) ويعتبر أحد الأبطال الوطنيين لهذه البلاد، وهو من مواليد (أولسكو: OLESKO) (1629 - 1696) انتصر على الأتراك المسلمين، وأنقذ فيينا من الحصار. (¬2) زوراونو: (ZURAWNO مدينة أوكرانية (غاليسيا:: GALICIE) تقع على نهر الدينيستر: DNIESTER . وهو نهر ينبع من جبال الكاربات في أوكرانيا، فيفصل بين مولدافيا (MOLDAVIE) وأوكرانيا ويصب في البحر الأسود وطوله 1200 كيلو متر.

فاضطر إلى عقد الصلح في تشرين الأول - أكتوبر - تنازل بموجبه عن القسم الأعظم من (بودوليا وأوكرانيا). لم تكد القوات العثمانية تفرغ من صراعها مع بولونيا حتى اندلعت الحرب مع روسيا، ودارت معارك طاحنة انتهت باستيلاء الروس على كييف والمناطق المحيطة بها. واضطرت الإمبراطورية العثمانية إلى عقد صلح في سنة (1681) اعترفت فيه لروسيا بملكية ما استحوذته من المناطق. ولم يكد العثمانيون يطمئنون إلى استتباب الأمن والسلام في الشرق، حتى حشدوا كامل قوتهم لحرب المجر من جديد. وكان النبلاء المجريون قد اقترحوا على السلطان العثماني إخضاع ما بقي من المجر تحت الحكم النمساوي، مقابل أدائهم جزية سنوية. فجهز السلطان محمد الرابع (1648 - 1687 م) جيشا سار من بلغراد لقتال الإمبراطور النمساوي في (أيار - مايو - 1683) وكان الجيش النمساوي يتوقع الحصول على إمدادات جديدة، فتراجع متمهلا إلى (فيينا). وفي 17 تموز - يوليو - حاصر العثمانيون العاصمة بقيادة الصدر الأعطم عمر مصطفى، ولكن جيشا كبيرا ما لبث أن برز من ألمانيا، على الرغم من تهديدات الملك الإفرنسي لويس الرابع عشر. ولقد استطاع هذا الجيش بالتعاون مع الفرق البولونية أن ينرل الهزيمة بالعثمانيين عند (قاهلنبرج) في 12 - أيلول - سبتمبر - وأن يحملهم على رفع الحصار عن العاصمة. ومع أن الخلاف ما عتم أن شجر ببين الألمان وملك بولونيا (سوبيسكي) بسبب من مطالب هذا الأخير، فقد وضعت الخطة الرامية لإخراج الأتراك المسلمين من المجر. وفي 5 آذار - مارس - سنة 1684م، وبفضل تدخل البابا، عقد بين الإمبراطور وسوبيسكي حلف انضمت إليه البندقية وهدفه العمل المشترك ضد العثمانيين. ومنيت القوات العثمانية على أثر ذلك بالهزيمة

تلج الهزيمة في المجر. ولم تلبث القوات الجرمانية أن ظهرت أمام أبواب (بودا) في سنة (1686) وضربت عليها الحصار. وبعد شهرين اثنين سقطت هذه المدينة، بعد أن بقيت طوال 145 سنة دعامة الحكم العثماني في المجر. ولم يؤد أحد من أعضاء التحالف الآخرين ما فرض عليه من مهام باستثناء أهل البندقية، ولكن انتصاراتهم اختتمت هي أيضا باحتلال أثينا سنة 1687، ليضطروا إلى إخلائها في السنة التالية. وحاول البولونيون أن يستردوا (قامنج) طوال الفترة ما بين سنة 1684 وسنة 1687، غير أن محاولاتهم أحبطت وفشلت. وفي سنة (1687) انضمت الروسيا إلى التحالف للإفادة من قوته في الاستيلاء على شبه جزيرة القرم. غير أن روسيا فشلت أيضا في تحقيق هدفها. أحرزت القوات الصليبية المتحالفة نصرا على العثمانيين في موهاج (موهاكس) (¬1) سنة (1687 م). وعلى إثر ذلك عقد موتمر للعلماء في (آيا صوفيا) وتقرر قرار خلع محمد الرابع وتعيين أخاه (سليمان الثاني 1687 - 1691 م). وعندما زحفت القوات النمساوية على (بلغراد) في 6 أيلول - سبتمبر - 1688 استطاعت الاستيلاء عليها، غير أن القوات العثمانية تمكنت من طردها منها في 8 تشرين الأول - أكتوبر - (1690 م). وفي السنة التالية قاد الصدر الأعظم بنفسه الجيش العثماني، وخاض معركة (سالانكمن) المشؤومة التي قتل فيها الصدر الأعظم (في 19 آب - أغسطس - 1691). تولى عرش السلطنة العثمانية بعد فترة من الاضطراب ¬

_ (¬1) موهاج: (MOHATCH) MOHACS مدينة هنغارية تقع على نهر الدانوب غير بعيدة عن الحدود اليوغوسلافية وفيها انتصر ملك هنغاريا لويس الثاني على الإمبراطور العثماني سليمان الثاني سنة 1526م. ثم انتصر فيها أيضا أمير اللورين شارل على العثمانيين سنة 1687.

السلطان مصطفى الثاني (1695 - 1703م) فقاد بنفسه الأعمال القتالية في المجر، وتمكن من إنقاذ (طمشوار) (¬1) غير أنه اصطدم بقوات أمير سافوي (الأمير أوجين) (¬2) الذي استطاع الانتصار على جيش السلطان عند زنطه - على نهر (تيس) في 11 أيلول - سبتمبر (1696م). وأفاد القيصر بطرس من انشغال العثمانيين على جبهة الغرب فاستأنف الحرب سنة (1695) وتمكن من فتح (آزوف) في سنة (1696م). وتدخلت بريطانيا وهولاندا - بالوساطة - للصلح بين العثمانيين والروس. فتم عقد صلح (كارلو ويج) (¬3) في 26 كانون أثني - يناير - سنة (1699 م).وأرغم السلطان العثماني بموجب هذه المعاهدة على التخلي (لآل هبسبورغ) عن ترانسلفانيا حتى طمشوار، وعن المجر بكاملها تقريبا. وعن القسم الأعظم من (سلوفينيا) (¬4) ¬

_ (¬1) طمشوار: (TIMISHOARA) مدينة. رومانية (في رومانيا) واسم هذه المدينة باللغة الرومانية TEMESVAR تقع على نهر بيغا: BEGA. (¬2) الاميراوجين (EUGENE DE SAVOIE CARIGAN PRINCE EUGENE قائد شهير في الجيش الإمبراطوري النمساوي، وهو ابن أوجين موريس أمير سافوا وكونت سواسون وأولمب مانسيني. من مواليد باريس (1663 - 1736م). اشتهر بأنه أحد القادة الكبار في عصره. خاض الحرب في البداية ضد الأتراك. ثم خاض حرب الوارثة الإسبانية مع القائد الإنكليزي (مارلبررو). وربطت بين القائدين أوامر الصداقة، وتمكنا بالتعاون إحراز عدد من الانتصارات في أودينارد ومالبلاكية. ولكن القائد الإفرنسي فيلار هزمه في معركة (دينان). (¬3) كارلوويج: (CARLOWITZ) الاسم القديم لمدينة (كارلوفيس: - CARLOVCI) وهي مدينة يوغوسلافية تقع على نهر الدانوب. وفيها وقعت معاهدة سنة (1699م) بين تركيا والنمسا وبولونيا وروسيا والبندقية - فينيسيا - وبها أرغمت تركيا العثمانية على التخلي عن قسم كبير من ممتلكاتها الأوروبية. (¬4) سلوفيينا: (SLOVENIE) إحدى الجمهوريات الإتحادية في يوغوسلافيا حاليا، ومساحتها (16،229) كيلو متر مربع، وعاصمتها (لجرلجابا: LJUBLJANA

وكراوتيا. كما أرغم على التنازل للبولونيين عن (قامنج) وجميع ما فتحوه في (بردوليا) وعن أوكرانيا أيضا. كما تنازل للبنادقة عن المورة وعدد من المدن في دلماسيا. وبالتنازل عن (آزوف) للروس، فتحت أبواب البحر الأسود أمام القيصر، بعد أن بقي هذا البحر لعهود طويلة بحيرة عثمانية. كان ملك السويد (شارل الثاني عشر) (¬1) قد أصبح الآن خصما عنيدا لروسيا، فعمل الباب العالي على التقرب منه، غير أن ملك السويد هزم هزيمة شنعاء عند اصطدامه بالقوات الروسية في معركة (بلتاوا - بلتافا) (¬2) فأسبغ السلطان العثماني عليه حمايته في قلعة (بندر) العثمانية. ولكن الباب العالي لم يشرع في الاستعداد لمحاربة قيصر روسيا إلا في أواخر سنة (1710 م) بعد أن عجز عن الاتفاق معه على عودة (شارل) إلى بلاده. وهكذا اضطر بطرس إلى إيقاف عملياته الحربية في مقاطعة البلطيق، ويعود أدراجه في اتجاه الجنوب. وكاد يقع في الواقع هو وجيشه بكامله في قبضة الجيش العثماني (على نهر البروت) وقدم بطرس غرامة كبيرة حتى سمح له بالتراجع في تموز ¬

_ (¬1) شارل الثاني عشر: (CHARLES XII) ابن شارل الحادي عشر، ولد في استوكهولم (1682 - 1718). وما أن تسلم ملك بلاده حتى عمل على توسيع حدودها، فانتصر على ملك الدانمرك في سنة (1700 م) وانتصر على الروس في نارفا: NARVA) وعلى ملك بولونيا (أوغست الثاني) في معركة كيسو (KISSOW)(سنة 1703) وقاد يعد ذلك جيوشه ضد بطرس الكبير ملك الروسيا. غير أن روسيا ألحقت به الهزيمة في معركة بلتافا سنة 1709 م، فالتجأ إلى تركيا (السلطان أحمد الثالث) الذي دعمه فعاد إلى السويد سنة 1715 , واستمر الصراع حتى قتل أثناء حصار هالدن) آزوف (FREDRIKSHALD HALDEN). (¬2) بلتافا: (PULTAVA) (POULTAVA مدينة أوكرانية (في الاتحاد السوفييتي حاليا) إلى الغرب من خاركوف.

- يوليو - سنة 1711م. واضطر إلى إخلاء (آزوف) (¬1) واعادتها إلى العثمانيين. مع التزامه بدك حصون طيغان (تاغانروغ) (¬2) وإزالتها من الوجود. ولقد وافق الباب العالي على هذه المعاهدة من أجل التفرغ لاستعادة ما فقده من مقاطعات فرضتها عليه معاهدة (كارلوويج). وفي سنة (1714 م) أفاد الباب العالي من الثورة التي نشبت في الجبل الأسود فأعلن الحرب على (البندقية) ولم تمض أكثر من فترة قصيرة حتى أضاعت البندقية كل ممتلكاتها في (المورة) وجزر الأرخبيل. وعاد الإمبراطور النمساوي للتدخل في الحرب. وأحرز الأمير أوجين نصرا على القوات العثمانية في بتروارادين - أو وارادين) في 4 آب أغسطس - سنة 1716. ولم يلبث أن فتح (طمشوار) في تشرين الأول - أكتوبر - وهي آخر الحصون العثمانية في الأرض الهنغارية، ليستولي في السنة التالية على (بلغراد) ذاتها. ولكن السياسة الإسبانية في إيطاليا ما عتمت أن اعترضت سبيله الظافر. فاضطر الإمبراطور النمساوي إلى قبول عروض الصلح العثمانية، وفي المعاهدة المعقودة في بازارو ويج يوم 21 تموز - يوليو - سنة 1718، تنازل الباب العالي للإمبراطور عن بلغراد وعن كامل منطقتها إلى مصب نهر الآلوته في الطونة (الدانوب) في حين كان على البنادقة أن يتخلوا عن المورة. كانت روسيا قد أخذت في توسيع حدودها عبر (بلاد الأفغان) و (فارس - إيران) وأدى ذلك إلى الصدام مه الإمبراطورية العثمانية في مرات عديدة. وعند وفاة بطرس الكبير، تولت زوجته (حنه - أو ¬

_ (¬1) آزوف: AZOV - أو - AZOF خليج يشكله البحر الأسود، ويطلق عليه أيضا اسم (زاباخ: ZABACHE) ويصب فيه نهر الدون، ويتوغل هذا الخليح حدود روسيا الجنوبية حاليا. (¬2) تاغانروغ: (TAGANROG) مدينة روسية حاليا. تقع على بحر أزوف.

كاترين) (¬1) عرش الإمبراطورية الروسية. فوطدت العزم على مواصلة التقدم نحو البحر الأسود وبحر قزوين متبعة في ذلك سياسة زوجها. غير أن الدول البحرية - إنكلترا خاصة - حالت دون هجوم روسيا على الإمبراطورية العثمانية، لأن مصالح تلك الدول تعارضت مع حصول روسيا على توسع جديد. حتى إذا انقضت الاضطرابات البولونية، هاجم الروس العثمانيين في تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1735م. ولكنهم لم ينتهوا بادىء الأمر إلى أبعد من (آزوف). وحاول الإمبراطور الألماني الذي كان مقيدا بمعاهدة تفرض عليه مساعدة روسيا، أن يتوسط في البداية بين الطرفين المتصارعين، فلم يشارك في القتال إلا في سنة (1737 م). ولكن جيوشه منيت بالهزيمة تلو الهزيمة، حتى إذا كانت سنة (1739م)، أسلمت (بلغراد) إلى العثمانيين بعد فترة قصيرة من الحصار. وعقدت بعد ذلك مباشرة معاهدة تنازل فيها الإمبراطور النمساوي عن كل المغانم التي ضمنتها له معاهدة صلح (بازاروويج). ومن ثم اضطرت (روسيا) أن توقع معاهدة مع الإمبراطورية العثمانية، غنمت بواسطتها مدينة (آزوف) التي كانت مدمرة تدميرا تاما. وفي سنة (1740 م) جدد الباب العالي اعترافه بالحماية الإفرنسية على نصارى الشرق - من الكاثوليكيين - مقابل تأييد فرنسا الديبلوماسي له في هذه الحرب. وكانت هذه هي الثغرة التي أتاحت بعد ذلك الفرصة لكل الدول لبسط حمايتها على المشرق الإسلامي بحجة حماية رعايا النصارى من المذاهب المختلفة. كانت أوروبا خلال هذه الفترة تعيش فترة تشكلها الوطني ¬

_ (¬1) حنه - أو - كاترين: 1 CATHERINE) إمبراطورة روسيا (1672 - 1727) زوحة بطرس الكبير (PIERRE LE GRAND) تولت الحكم بعد موت زوجها (سنة 1725) غير أنها لم تستمر في الحكم أكثر من سنتين.

والقومي، فوقعت مجموعة من الحروب بين الدول الأوروبية بعضها ضد بعض، وظهر في تلك الفترة بصورة خاصة إمبراطور روسيا (بطرس الكبير) في روسيا و (فريدريك الكبير) (¬1) في بروسيا الذي خاض حروبه ضد النمسا، ونظرا لأن الإمبراطورية النمساوية كانت تتزعم الدول الكاثوليكية في حربها الصليبية ضد المسلمين، ونظرا أيضا لأن بروسيا كانت تعتبر نفسها (حامية البروتستانتية) فقد حاول فريدريك التحالف مع الإمبراطورية العثمانية ضد العدو المشترك (النمسا)، وإقناع الباب العالي بشن حرب على النمسا أثناء حرب السبع سنوات (المرحلة الثالثة من الحروب السيليزية). وأمكن عقد معاهدة صداقة بين (بروسيا والإمبراطورية العثمانية) في 29 آذار - مارس - سنة 1761.غير أن السلطان رفض الإشتراك في هذه الحرب التي لم يكن له مصلحة فيها، والتي أفتى العلماء بعدم تأييدها انطلاقا من قاعدة (عدم الانتصار لكافر ضد كافر - طالما أنه لا مصلحة للمسلمين فيها). إن تجنب الإمبراطورية العثمانية الإشتراك في الحرورب الأوروبية، لم يكن ليمنعها من المشاركة في صنع أحداث السياسة الأوروبية، بسبب نشوء المسألة البولونية والتي اصطنعتها روسيا لضمان مطامعها في التوسع نحو أوروبا. وبرزت المسألة البولونية ¬

_ (¬1) فريدريك الثاني - الكبير: (FREDERIC II LE GRAND) ابن فريدريك الأول. وملك بروسيا - ولد في برلين (1712 - 1786م) تم تتويجه على إثر وفاة أبيه (سنة 1740م) اشتهر بأنه قائد عسكري كبير، وإداري منظم من الطراز الأول وإليه يعود الفضل في إظهار عظمة بروسيا. استولى على سيليزيا إثر انتصاره في معركة (مولويتز - سنة 1741م) وتحالف مع إنكلترا، وقاوم الدول المتحالفة ضده (النمسا وفرنسا وروسيا) طوال حرب السبع سنوات وانتصر في معارك روزباك ولوتن وزورندورف. واشترك في اقتسام بولونيا سنة 1772 وحصل على نصيبه منها. كان صديق الكاتب الإفرنسي فولتير. واشتهر برعايته للأدباء والفنانين والعلماء.

بصورة خاصة في عهد الإمبراطورة (كاترين الثانية) (¬1) حيث حاولت هذه الإمبراطورة إضعاف بولونيا، وأظهرت الإمبراطورية العثمانية عدم اهتمام كبير في بداية الأمر، على الرغم من إقدام روسيا على مساعدة الكرج للقيام بالثورة ضد العثمانيين المسلمين، وعلى الرغم أيضا من قيام روسيا بخلق المتاعب والمشكلات في وجه حاكم القرم (خان التتار). وأثناء ذلك بذل حزب الإئتلاف البولوني كل جهوده حتى نجح في إقناع السلطان بضرورة الدفاع عن نفوذه في الشمال الشرقي من بلاده. حتى إذا ما قامت القوات الرومية بتدمير مدينة (يالطة) على حدود (سارابيا) (¬2) سارع المفتي إلى الإفتاء بضرورة شن الحرب ضد (روسيا) على الرغم من تعلقه وزملائه رجال الإفتاء بأهداب السلام. بدأت روسيا عملياتها ضد التتار في القرم والذين تولى قيادتهم خان القرم (كراي). واستطاعت القوات الروسية أن تلحق بهم الهزيمة، ثم استولت على (خوتين) بينما كان الجيش العثماني مرابطا في (دوبريجة). وفي سنة (1770م) تابعت القوات الروسية تقدمها عبر ¬

_ (¬1) كاترين الثانية الكبيرة: (LA GRANDE CATHERINE II) إمبراطورة روسيا، ولدت في (ستيتن: STETTIN) أو بالألمانيه (SZCZECIN) المدينة البولونية الواقعة على نهر الأودر، وهي ابنة الدوق (آنهالت - زربست) عاشت في الفترة (1729 - 1796م) تزوجت بطرس الثالث. وحكمت وحدها بعد موت زوجها في سنة (1762م) اشتهرت بحروبها ضد المسلمين الأتراك بصورة خاصة، وقامت بإصلاحات كثيرة، وعملت على حماية ورعاية العلماء والأدباء والفنانين - والإفرنسيين منهم بصورة خاصة - فعمل هؤلاء على اسدال ستار على شذوذها وقسوتها. (¬2) بسارابيا: (BESSARABIE) بلاد في أوروبا الشرقية، تقع بين نهر الدنيستر ونهر بروت PRUT . ولم تخضع هذه البلاد أبدا لرومانيا، وهي تتبع حاليا، بعد تقسيمها، إلى (أوكرانيا) و (مولدافيا).

(البغدان والافلاق) إلى أن وصلت نهر الدانوب (الطوانه) واحتلت كيليا وبندر وابرائيل، بعد أن أخذت من النبلاء الرومانيين يمين الولاء للإمبراطورة الروسية (كاترينا) وفي هذه الأثناء ظهر في بحر - إيجة - لأول مرة - أسطول روسي عهد إليه مهمة إشعال الثورة في اليونان ودعم الثوار ضد العثمانيين. وهكذا احتل القرصان الإيجيون عددا من المواقع الحصينة في المورة، ولكنهم لم يتمكنوا من الاحتفاظ بها. وقام الروس بعد ذلك بإضرام النار في الأسطول العثماني (في خليج جشمة) وذلك في شهر تموز يوليو (1770م). غير أن الروس لم يستغلوا انتصارهم هذا. فكان أثر هذا العمل العدواني المباغت محدودا. وقامت القوات الروسية بهجوم جديد في سنة (1771م) فأمكن لها تحقيق نصر كبير باستيلائها على (برقوب) وإخضاع شبه جزيرة القرم. وقامت (بروسيا والنمسا) بالوساطة وتم عقد هدنة بين الطرفين تنازل السلطان العثماني مصطفى الثالث (1757 - 1773م) عن جميع مطالبه في بولونيا. غير أنه لم يتم الاتفاق بين الطرفين بشأن موضوع الحصون القائمة على البحر الأسود. وأعاد العثمانيون في هذه الفترة تنظيم قواتهم، وأمكن لهم صد القوات الروسية في البلقان. وأرغموا الروس على رفع الحصار عن (سلسترة) و (فارنا) والانسحاب في أواخر سنة 1773 عبر الدانوب. ثم توفي السلطان مصطفى عندما كان يعتزم قيادة الجيش بنفسه لتدمير جيش روسيا. وخلفه أخوه عبد الحميد الأول (1773 - 1789). فوجه القوات بقيادة الصدر الأعظم (محسن زاده) الذي وقع في كمين نصبه له الروس عند (شملا) وفرقوا جيشه، فاضطر إلى طلب الهدنة. وتم التوقيع على معاهدة للصلح بين الفريقين في (كوجك قينارجه - جنوبي سلسترة) بتاريخ 22 تموز - يوليو - 1774م.

فرضت هذه المعاهدة على السلطان العثماني التنازل لروسيا عن أعظم القلاع شأنا على البحر الأسود، كما تخلى لروسيا عن (قبرطة - أو قبرطاي) الكبرى والصغرى في بلاد القوقاز (القبق). ومنح الأسطول الروسي حق المرور في الدردنيل، ليس ذلك فحسب، بل لقد أكره فوق ذلك على الاعتراف باستقلال التتار في شبه جزيرة القرم. وعلى منح العفو العام وحرية العبادة لسكان البغدان والافلاق. وتدهورت بنتيجة ذلك هيبة الأتراك المسلمين في أوروبا بحيث ظهر أن إخراجهم من أوروبا لم يعد بأكثر من قضية وقت. ووجدت النمسا في ذلك فرصة سانحة، فعملت على سلخ (بوقووينة - أو - بوكوفينا) وضمتها إليها بعد عقد الصلح مباشرة، متذرعة بحجة واهية، فلم يستطع السلطان لها دفعا. وفي سنة (1783م) أخضعت كاترينا التتار، فقضت بذلك نهائيا على استقلال شبه جزيرة القرم. ثم إن السلطان أكره على ذلك أيضا في معاهدة (آيينه لوقواق) سنة (1784م). سنحت الفرصة للقوات العثمانية بعد ذلك للتعويض عما فقدته في حربها مع روسيا وذلك عندما قام أهل القوقاز (القبق) بالثورة على أمير الكرج (هرقل) الذي كان يحكم بحماية الإمبراطورة كاترين. وحاولت القوات العثمانية استرجاع شبه جزيرة القرم. غير أن القائد الروسي (سوفوروف) (¬1) أحبط هذه المحاولة، ثم لم يلبث أن استولى على أجاقوف في كانون الأول - ديسمبر - 1788. بعد أن تم تحطيم الأسطول العثماني في الصيف المنصرم على شواطىء القرم. ¬

_ (¬1) سوفرروف: (ALEXANDRE SOUVOROV) جنرال روسي من مواليد موسكو (1729 - 1800) من أبرز أعماله القيادية القضاء على ثورة بولونيا، في سنة 1794 وخوض الحروب ضد الأتراك العثمانيين والقضاء على جيوش الثورة الفرنسية في إيطاليا.

وفي شهر شباط - فبراير - من السنة ذاتها أعلن إمبراطور النمسا (جوزيف الثاني) الحرب على العثمانيين، وتقدمت جيوشه في الصرب وتراسلفانيا. وتدخلت من جديد (بروسيا) والدول البحرية للوساطة، وتم عقد صلح (زشتوى) في 4 آب أغسطس سنة 1791، وبموجبه احتفظت الإمبراطورية العثمانية بإمارات الدانوب حتى (أرسورة). وتابعت روسيا الحرب بضراوة في بسارابيا والقرم والدانوب، ثم وقعت صلحا مع الإمبراطورية العثمانية (عند ياش) في 9 كانون الثاني - يناير - سنة (1792 م) وقضى هذا الصلح بجعل نهر الدنيستر هو الحد الفاصل بين الدولتين، وتنازل الأتراك لروسيا عن شبه جزيرة القرم بصورة نهائية. كان ذلك عرضا سريعا للصراع المرير الذي خاضته الإمبراطورية العثمانية ضد أعداء الخارج. وكانت مرغمة على خوض مجموعة من الصراعات الداخلية أيضا، كان من أبرزها الصراع مع المتمردين من قادة الجيوش (الإنكشارية) ومع الشيعة في (فارس) ومع المتمردين في سوريا ولبنان. ولم تكن أعمال هذا التمرد وتلك الثورات بعيدة عن التحريض الخارجي وهو ما تبرزه بصورة خاصة (ثورة جنبلاط) في الشام وثورة (فخر الدين المعني) في جبل لبنان (¬1). ونظرا لارتباط هذه الأحداث بما كان يحدث على جهة المغرب الغربي الإسلامي والمشرق العربي الإسلامى فقد يكون من المناسب التوقف عندها قليلا. ¬

_ (¬1) تم الاعتماد في البحث هنا على ما ورد في (تاريخ الشعوب الإسلامية) كارل بروكلمان دار العلم للملايين ص 511 و513 و514.

ج - تمرد جبلاط وثورة المعني

ج - تمرد جبلاط وثورة المعني: كان (جان بولاط - أوجانبولاط) حاكما على (كلس) قرب مدينة حلب، حلما وراثيا من قبل الأتراك العثمانيين، وفي سنة (1603م) قامت حامية (تبريز) بالتمرد على الحكم العثماني، وظن (جان بولاط) في نفسه القوة، فأعلن الثورة بدوره، وانضم إليه أبناء عشيرته الأكراد. وكانت الدولة مشغولة بقتال المجر. وعندما انتهت معركة (بودا) بانتصار العثمانيين، بات باستطاعتهم التحول لقمع الثورات. وأمكن القضاء على ثورة (جان بولاط). فما كان من هذا إلا أن فر ليحتمي بأخطر الزعماء الثائرين في آسية الصغرى وهو (الأمير الدرزي فخر الدين المعني) الذي كان قد أعلن الثورة في جبل لبنان بالتنسيق والتعاون مع (جان بولاط). ولم تتمكن الدولة العثمانية من التعرض له بسبب انصرافها إلى حروبها الخارجية - حتى بعد هزيمة جان بولاط - بل تركت إليه حكم البلاد الواقعة في حوزته، لقاء جزية سنوية يدفعها لبيت مال المسلمين. وما لبث (فرديناند الأول) (¬1) الذي غمرت نفسه روح المغامرة، أن اتصل به ابتغاء فتح أسواق جديدة لتجارة فلورنسا، في حين كان فخر الدين يرغب في الاستعانه بفرديناند وبالبابا وبإسبانية أيضا على فتح فلسطين، ثم إن فخر الدين استولى على بعلبك سنة (1610م) وهدد دمشق ذاتها بالاحتلال. ولكن أسطولا تركيا إسلاميا ما لبث أن ظهر على الشاطىء سنة (1613) فاضطر الأمر فخر الدين إلى الفرار إلى (ليفورنو) - وكان (كوزموس الأول - ابن فرديناند) قد ¬

_ (¬1) فرديناند الأول: FERDINAND. I. GRAND DUC DE TOSCANE استمر حكمه لدوقية توسكانيا خمس سنوات (1604 - 1609م).

تولى مقاليد الحكم في (توسكانيا) فتقدم إليه (فخر الدين) وعرض عليه تجريد حملة صليبية جديدة، غير أن كوزموس كان أعقل من أن يفكر في مثل ذلك. وقضى فخر الدين خمس سنوات في البندقية (فلورنسا) استطاعت خلالها أمه (نسب) أن تدافع عن بلاده باسم حفيدها (أحمد علي) ضد والي دمشق. حتى إذا رجع (فخر الدين) من إيطاليا. اضطر إلى الاعتراف بابنه أميرا على البلاد. ولكنه قاد بالنيابة عن ابنه الحرب ضد العثمانيين. وأفاد من انصراف العثمانيين لقتال الشيعة في بلاد فارس (ايران) فعمل على بسط نفوذه على الساحل الشامي حتى أنطاكية. وفي سنة (1631م) نشأ بينه وبين الباب العالي نزاع بسبب من رفضه السماح لجيش من جيوش السلطان، حشد لحرب الفرس، أن يقضي فصل الشتاء في البلاد التي يحكمها، وطرده لهذا الجيش بقوة السلاح. وبعد سنتين اثنتين، وجهت الدولة ردا على هذا النقض لإحكام السلم، أسطولا آخر إلى الساحل الشامي فاحتل المرافىء جميعا، في حين هاجم الولاة المسلمون (الدروز) في البر، وفي 10 تشرين الأول - أكتوبر - استدرج علي بن فخر الدين، إلى خوض معركة فاصلة دارت رحاها في السهول، فهزم هزيمة شنعاء ولقي حتفه هو وعمه. وهكذا اضطر (فخر الدين) إلى أن يستسلم في مفزعه الأخير في 12 تشرين الثاني -نوفمبر - فحمل إلى استانبول، حيث حز رأسه في 13 نيسان - أبريل - سنة (1635م) بعد أن قام ابن أخيه (ملحم) بمحاولة فاشلة للثأر لشرف أسرته عن طريق الثورة المسلحة. كانت الدول الغربية تتابع باهتمام كبير ثورة (جان بولاط) و (فخر الدين المعني) فبدأت الاتصال بالدروز والموارنة. وعندما احتل إبراهيم باشا فيما بعد (سنة 1831) بلاد الشام، قام الموارنة بدور

كبير، حيث تلقوا الأسلحة من الحلفاء لمحاربة الحكم المصري. وأبرز ذلك ظهور أسر التنوخيين والمعنيين والشهابيين. وبدأت فرنسا بممارسة دور فعلي في أحداث الشرق الإسلامي من خلال ما زعمته حقا لها في حماية (نصارى الشرق) - والموارنة منهم بصورة خاصة في حين أخذت روسيا منافسة فرنسا في هذا المجال من خلال الزعم بحقها في حماية رعاياها من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية. ولم تقف إنكلترا مكتوفة الأيدي، فبسطت حمايتها على الدروز، وأدى ذلك إلى تنافس هذه الطوائف واستفحال أمرها، مما أدى فيما بعد إلى حدوث صدامات دموية (أشهرها مذابح سنة 1860) وبروز المسألة الشرقية.

3 - الموقف على جبهة الأندلس سقطت مملكة غرناطة تحت حكم (فرديناند وإيزابيللا) سنة 1492، غير أنه كان من المحال القضاء على الوجود الإسلامي في الأندلس دفعة واحدة. وفي الوقت ذاته أدت الحرب المنظمة ضد المسلمين إلى تعرض إسبانيا لأزمة حادة في إدارتها، وإلى اضطراب في أمورها المالية حتى أشرفت على الإفلاس. فالتفتت إلى الفتح، وظنت أن نهب العالم الجديد سيضمن لها الموارد الكافية، غير أن القرصنة الإسلامية من جهة والمنافسة مع الدول الغربية من جهة ثانية حرمتا إسبانيا من هذه الموارد. وزاد موقف إسبانيا سوءا بسبب المظالم وحكم الإرهاب وارتكاب الفظائع ضد المسلمين - تحت إدارة محاكم التفتيش - وبإدارة الملك الإسباني فيليب الثاني (1527 - 1598 م) الذي ورث عن أبيه (شارل الخامس - شارلكان) كل الحقد والكراهية ضد المسلمين، فجمع في شخصه كل الصفات السيئة كالظلم والشراسة وفساد الأخلاق، حتى استوجب وصف أحد المؤرخين له: (قليل من الرجال الذين عرفهم التاريخ، قد استطاعوا بجهودهم الخاصة، أن يأتوا بمثل هذا المقدار الضخم من الشر الذي جاء به هذا الملك ... وإذا كانت هناك عيوب قد برىء منها، فسبب ذلك هو أنه غير مسموح للطبيعة الإنسانية بأن تبلغ الكمال، حتى في الشر) (¬1). ¬

_ (¬1) حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدني - ص 392.

وكان من الطبيعي أن تتعاظم النقمة في نفوس المسلمين الذين لجؤوا إلى جنوب الأندلس، سواء منهم من حافظ على دينه، أو من أعلن تنصره ظاهريا بسبب عجزه عن احتمال الضغوط. وأن يؤدي ذلك إلى استعداد هؤلاء للثورة على الحكم الإسباني. واتصل هؤلاء بوالي الجرائر (قلج علي - أو علج علي) يطلبون إليه دعمهم وإمدادهم. وأعلموه أنهم قرروا إعلان الثورة في الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر - المصادف لعيد (جميع القديسين) (1568م) ولم يكن باستطاعة (قلج علي) تجاهل صرخة استغاثة المسلمين الأندلسيين. فحشد في الجزائر جيشا يضم (14) ألف مقاتل من المشاة - رماة البنادق - بالإضافة إلى (60) ألفا من أبناء المغرب الإسلامى المجاهدين في سبيل الله ... وأرسل بهم إلى مدينتي (مستغانم ومازغران) استعدادا للإغارة على وهران، ثم الإنزال في الموانىء الأندلسية. وأرسل مع الرجال المذكورين عددا كبيرا من المدافع، مع (1400) بعير محملة بالبارود. ويوم الأربعاء، المتفق عليه، أي يوم عيد جميع القديسين، كانت أربعون سفينة من الأسطول الجزائري تقف أمام مرسى (المرية) الأندلسي لدعم الثورة ساعة اندلاعها. غير أن العملية أخفقت يومئذ بسوء تصرف أحد رجال الثورة، مما أدى إلى اكتشاف أمره، فداهمه الإسبان. وضبطوا ما كان يخفيه في منزله من السلاح. واطلعوا عل مخطط الثورة، فلم تقع في اليوم المعين، وضاعت بذلك فرصة المبادأة. ولكن الثورة لم تلبث أن تفجرت بعد ذلك، ويصف (مؤرخ عربي (¬1) نقلا عن المصادر الأندلسية ما حدث خلال هذه الفترة بالتالي: لما صار الأمر إلى فيليب الثاني، شدد في إنفاذ الأوامر بحق ¬

_ (¬1) حاضر العالم الإسلامي (الأمير شكيب أرسلان) 2/ 15 - 16.

الموريسك - المسلمين - وسنة 1567، عزز الأمر الصادر بهذا الشأن والمتعلق بتغيير الزي واللغة باستيثاق غريب لأجل منع النظافة - الطهارة - التي هي من سنن الإسلام - حيث كان من عادة الشعوب اللاتينية التقزز من الطهارة والاستحمام وكانوا ينفرون من المسلم بقولهم (الذي يدخل الحمام) وكان الإسبانيون يهدمون الحمامات بالحماسة التي يهدمون بها المساجد - وانطلق جند فيليب لهدم الحمامات. وكانت الأساليب التي اتبعت للقضاء على تلك الأمة البائسة، أكبر من أن يحتملها أي إنسان، فكيف الأمر بالنسبة لأحفاد المنصور وعبد الرحمن وأبناء سراج، ولذلك لم يطل الأمر حتى استطار الشر واشتعلت الفتنة وثار (فرج بن فرج من نسل بني سراج) ومعه جماعة من ذوي الحمية من غرناطة، وقصدوا الجبال قبل أن تتمكن الحامية - الإسبانية - من مطاردتهم، ونودي (بهرناندو - دوفلرر) من نسل خلفاء قرطبة ملكا على الأندلس تحت اسم (محمد بن أمية) وعمت الثورة في أسبوع واحد جميع جبال البشرات. ووقع ذلك في سنة - 1568م -.ولما كانت هذه الجبال من أصعب تضاريس الأرض مرتقى، وأوعرها مسلكا، كان تدويخ سكانها من أصعب الأمور منالا وكانت الفتنة فيها بعيدة المدى، فاستمرت هذه المرة حولين كاملين، حافلا تاريخها بحوادث لا تحصى من القتل والغدر والتعذيب والاستباحة والاحتيال، وذلك من الجانبين لا من جانب واحد، لكنه حافل أيضا بوقائع يندر في تاريخ الفروسة وكتب الحماسة الظفر بمثلها، وتبقى على صفحات السير فخرا للقرون والأمم. وكان المغاربة هناك في موطنهم الأخير، والموقف الذي يحاولون فيه إدراك الثأر عن نحو من مائة سنة قضوها في البلاء العظيم، والهون الذي ليس له نظير، فهبوا جميعا منادين بأخذ الثأر، واقتضاء الأوتار،

قرية بعد قرية، وهدموا الكنائس، وأهانوا ما فيها، وفتكوا بالقسس، وعذبوا النصارى الذين وقعوا في أيديهم، واعتصم الذين نجوا بالمعاقل والأبراج. ودافعوا دفاعا شديدا. وكان المركيز (مونتيجارة) قائدا في غرناطة فعمد إلى المسالمة، وأخذ بالملاينة، وكادت الوقدة تنطفىء لولا ما أعاد الشرر من ذبح مائة وعشرة سجناء من المغاربة في حبس البيازين - ضاحية غرناطة - قيل إن ذبحهم وقع بغير علم المركيز، لكن الموريسك - المسلمين - لم يقبلوا العذر، ونشروا لواء الثورة. وصار (ابن أمية) أميرا بالفعل على جميع جهات (البشرات) إلا أنه لم يكن ممن يحسن السياسة، فقام بعض أعوانه وقتلوه، وبويع لرجل آخر موصوف بالنجدة والحماسة (اسمه عبد الله بن أبوه). فأرسلت دولة إسبانية الدون (جون الاوستري) أخا الملك - وهو شاب في الثانية والعشرين من العمر - بمهمة القضاء على الثوار. فباشر القتال في شتاء سنة 1569 إلى سنة 1570وأتى من الفظائع ما بخلت بأنداده كتب الوقاقع، فذبح النساء والأطفال أمام عينيه، وأحرق المساكن، ودمر البلاد، وكان شعاره (لا هوادة). وانتهى الأمر بإذعان الموريسك. لكنه لم يطل، واستأنف (مولاي عبد الله بن أبوه) الكرة، فاحتال الإسبان حتى قتلوه غيلة، وبقي رأسه منصوبا فوق أحد أبواب غرناطة ثلاثين سنة. وأفحش الإسانيون في قمع الثورة، بما أقدموا عليه من الذبح والحريق والخنق بالدخان، حتى أهلكوا من بقية العرب خلقا كثيرا، وخنع الذين نجوا من الموت، لكنهم وقعوا في الرق، وسيقوا مماليك وعبدانا، ونفي منهم جملة، فأخذ عددهم يتناقص، ولما كان اليوم المشهود والمذكور في التواريخ، وهو عيد جميع القديسين سنة (1570م) بلغ عدد من ذهب منهم عشرون ألفا، والذين أخذوا منهم في معمعة

الفتنة صاروا إلى الاستعباد. وأخرج الباقون من البلاد مخفورين، فمات كثير منهم على الطرق تعبا. ومنهم من أجاز إلى (بر العدوة) في المغرب. وطافوا هناك سائلين - متسولين - لأجل قوتهم الضروري. ومنهم من لجأ إلى البلاد الإفرنسية، حيث استقبلوهم برا وترحيبا، واحتاج إليهم هنري الرابع لأجل دسائسه في مملكة إسبانيا. والحقيقة أن (هنري الرابع) أصدر أمرا بقبولهم في فرنسة لكن على شرط أن يتحولوا إلى كاثوليكيين. وقد نفذ الأمر، وأرغموا على التنصر، وبقي الأمر على ذلك حتى بلغ السلطان العثماني، فأرسل إلى (هنري الرابع) يطلب إليه إخراجهم إلى بلاد الإسلام، فخرج أكثرهم. وبقي من اختار الإقامة بفرنسا مع النصرانية. ولما ظهر مذهب (البروتستانت) وكان منهم من اختار هذا المذهب، أصدر لويس الرابع عشر أمره بطرد البروتستانت، فهاجر قسم من هؤلاء إلى سويسرا. وبينهم العالم الشهير (أبو زيد) الذي كان من أعلم علماء عصره في كل فن، وكان صديقا لفولتير وروسو ونيوتن ولايبينتز. وكان فولتر يقول عنه (صديقنا العربي). وطالما كان فولتير يستفتيه في عويص المسائل، كما كانت بينه وبين روسو مراسلات كثيرة جمعت في كتاب. المهم في الأمر، هو أن الإسبانيين لم يتمكنوا من إخراج المسلمين دفعة واحدة. ولم ينته إخراجهم إلا في سنة (1610م) حيث وقع الجلاء الأخير ولم يبق في تلك البلاد مسلم واحد بعد أن وليها الإسلام ثمانية قرون. ويقال أن عدد من خرج منهم منذ اليوم الذي سقطت فيه مملكة غرناطة إلى السنة العاشرة بعد الألف والستمائة يبلغ ثلاثة ملايين وأن الذين خرجوا لآخر مرة يبلغ نصف مليون. وأما الإسبانيون المساكين، فلم يعرفوا ماذا يصنعون ولا فهموا أنهم كانوا

يخربون بيوتهم بأيديهم بل كانوا فرحين مسرورين بطرد المغاربة الذين كانت بهم إسانيا مركزا للمدنية، ومبعثا لأشعة العلم طوال قرون عديدة. وقلما استفادت بقعة أوروبية من حضارة الإسلام بمقدار ما استفادته هذه البلاد. فلما غادرها الإسلام، انكسفت شمسها وتسلط نحسها، وإن فضل مسلمي الأندلس ليظهر في همجية هؤلاء القوم وتأخرهم في الحضارة، وسقوط هذه الأمة في مكانتها الاجتماعية بعد أن خلت ديارها من الإسلام. يمكن بعد ذلك العودة إلى دور الجزائر الفتية في دعم هذه الثورة، ففي شهر كانون الثاني - يناير - من سنة (1569م) أرسل والي الجزائر (كلج علي) الأسطول الجزائري لدعم الثائرين، وحاول هذا الأسطول إحباط عملية الإنزال. وبلغت الثورة عنفوانها، عندما وصلت زواح الشتاء أوج قوتها في البحر، ولكن ذلك لم يمنع المجاهدين في البحر من بذل كل الجهود لمقاومة الأعاصير من أجل الوصول إلى أماكن أخرى على الساحل لإنزال الأمداد والدعم. غير أن الزوابع والأعاصير أغرقت (32) سفينة جزائرية كانت تحمل الرجال والسلاح. ولم تتمكن إلا ست سفن فقط من إنزال شحنتها فوق سواحل الأندلس، وكان فيها المدافع والبارود والمتطوعون الجزائريون. ولم يأبه والي الجزائر (كلج علي) لهذه الكارثة فصمم على إرسال مدد جديد لمسلمي الأندلس، وتمكن من إنزال أربعة آلاف من مجاهدي الجزائر، خلال شهر تشرين الأول - أكتوبر - من سنة (1570م) من رماة البنادق النارية، مع كمية كبيرة من الذخائر، علاوة على بعض قدماء المجاهدين العثمانيين للعمل في مراكز قيادة الثورة. وعاد الجزائريون، فأرسلوا دعما جديدا من الرجال والسلاح، وعزم (كلج علي) على قيادة الحملة بنفسه للجهاد هناك - فوق الأرض

الأندلسة - غير أن ما أشيع عن تجمع أسطول صليبي بهدف خوض معركة حاسمة مع المسلمين، وتوجيه السلطان العثماني له بالاستعداد لمجابهة هذه الملحمة، جعله مضطرا للبقاء في الجزائر، وانتظار تطورات الأحداث. غير أن الأسطول الجزائري لم يوقف نشاطه، واستمر الجزائريون في غزواتهم البحرية. وهدفهم تدمير كل ما يجدونه في طريقهم، وكل ما يعترض سبيلهم من السفن الإسبانية - تجارية أو حربية -. وما زادتهم نكبة الأندلس الأخيرة، وفشل الثورة فيها، إلا شعورا بالمرارة والظلم، الأمر الذي أدى إلى تصعيد الصراع المسلح - وتوجيهه بصورة خاصة ضد الأعداء الإسبانيين في حاميتي (وهران والمرسى الكبير) وفي شهر نيسان - أبريل - سنة 1578، هاجم الأسطول الجزائري بقوة وجرأة سواحل إسبانيا الشرقية والجنوبية، فحطم منشآتها، وغنم ما بها، وأسر وسبى من أهلها جمعا كبيرا، انتقاما من الموبقات التي ارتكبها الإسبان بحق المسلمين. وفي تلك السنة أيضا هاجم الأسطول الجزائري جزائر الباليئار من جديد فحطم ما فيها وغنم ما بها. وفي سنة (1582م) جهز والي الجزائر أسطوله لمحاربة إسبانيا فوق ترابها، وما تحتله من بلاد أوروبا. ونزل المجاهدون المسلمون في (برشلونه) فأعطوا فيها تدميرا، ثم قاموا بعد ذلك بعبور مضيق جبل طارق، وهاجموا (الجزائر الخالدات - أو جزر الكناري) التي تحتلها إسبانيا. فدمروا المراكز الإسبانية وغنموا ما فيها. ورجع القبطان (مراد رايس - أحد أمراء البحر الجزائريين المشهورين) بغنائم عظيمة (¬1). ولم يكن الأسطول الجزائري يذهب للأندلس، لمجرد ¬

_ (¬1) مراد رايس: مجاهد مسلم، احتفر على مقربة من الجزائر بئرا للسابلة، يروون منه، وأقيمت قرية بعد ذلك حول البئر، ثم تطورت. ويحمل البئر حتى اليوم اسم (بئر رايس) والقرية (قرية بئر مراد رايس). وأصبح اسمها منذ الاحتلال الإفرنسي للبلاد اسم (بير ماندريس).

التنكيل بالإسبانين، ولتدمير منشآتهم، وأخذ الأسلاب والأسرى منهم، بل كان يهدف بالدرجة الأولى إنقاذ المسلمين من نكبتهم. وتعرض الأسطول الجزائري أثناء ذلك لمعارك قاسية، وللهزائم أحيانا، ومنها موقعة سنة (1585 م) حيث اصطدم الأسطول الجزائري بأسطول إسباني كبير - من أسطول جنوه - ووقعت معركة أسفرت عن أسر (18) سفينة جزائرية. ونجحت الجهود في هذه الفترة بإنقاذ أكثر من عشرة آلاف مسلم أندلسي. بقيت جذوة الثورة الإسلامية متوقدة فوق أرض الأندلس، ولم تتمكن لا محاكم التفتيش، ولا أعمال القمع الوحشية للثورات المتتالية من إخمادها أو القضاء عليها. ولم يفقد بقايا الأندلسيين الذين نجوا من المذابح، وآثروا البقاء في موطن الأجداد، الأمل في إنقاذ جزء من وطنهم، يقيمون فوقه بحرية، ويمارسون عباداتهم بدون قهر على ثراه، ويرجعون إليه من شاء الرجوع من أبناء عمومتهم وإخوانهم الذين شردوا وراء البحار. وكان هؤلاء (الموريسكو) كما يدعوهم الإسبان، أهل همة ونجدة ونخوة، وأهل صناعة وفن ومال، لم ينسوا دولتهم، ولم يتخلوا عن دينهم، ولم يفقدوا ثقتهم بأنفسهم على الرغم من إنقضاء فترة مائة وعشرين سنة من تحطيم الإسبان لدولة غرناطة، وبعدما لحقهم من طغيان وظلم وإرهاق، وإرغام على اعتناق المسيحية ظاهرا، وهم يكتمون الإيمان الشديد، وينقلون لأولادهم سرا، عظمة الإسلام وحب العرب. وأفاد هؤلاء من ضعف إسبانيا ووهنها، واضطرارها لعقد معاهدة لاهاي (سنة 1609م) مع الثائرين عليها من رجال الفلانور بشمال أوروبا، وقرروا إعلان الثورة، وكانت هذه الثورة على اتصال بفرنسا - عدوة إسبانيا التقليدية - والتي كانت آنذاك

تحت حكم (الملك هنري الرابع) (¬1) كما كانت على اتصال بوالي الجزائر في تلك الفترة (رضوان باشا). ونظمت عملية الثورة لتكون على النحو التالي: 1 - يتحرك الأسطول الإفرنسي، حاملا جيشا إفرنسيا قويا إلى إسبانيا، وينزل بمدينة (دانية). 2 - يتحرك الأسطول الجزائري في الوقت ذاته، ويتحرك نحو (دانيه) لحماية عملية إنزال القوات الإفرنسية إلى البر، ثم يقوم الأسطول الجزائري بإنزال قواته بعد ذلك - بحماية الأسطول الإفرنسي. 3 - في الوقت ذاته، يقوم مائة ألف رجل من بقايا مسلمي الأندلس، بثورة عامة داخل البلاد، مما يضع الجيش الإسباني أمام تهديد مزدوج، تهديد قوات المسلمين على مؤخراته، وتهديد قوات الغزو في مواجهته. غير أن التحرك الواسع، والاتصالات لإعداد الثورة لم تكن ¬

_ (¬1) هنري الرابع: (HENRI- IV -LEGRAND) ابن (انطوان دوبوربون) و (جين البرت) ولد في مدينة (بو: Pau) جنوب فرنسا (باس بيرينة (1553 - 1610م) أصبح سنة (1572) ملكا لمملكة نافار باسم هنري الثالث، ثم أصبح ملكا لفرنسا (سنة 1589 م) تزوج سنة 1572 من (مارغريت دوفالوا) خاض مجموعة من الحروب لتوحيد المملكة الإفرنسية ولقيادة حركة الإصلاح. ونجح سنة (1598) في دخول باريس بعد أن فشل في ذلك من قبل بسبب تدخل الإسبانيين. ونجح في فرض سيطرته على كل الإقاليم. وأصلح الأنظمة المالية والزراعية واكتسبت فرنسا في عهده قوتها وعظمتها. وتزوج بعد ذلك من ماري دوميديسي: (MARIE DE MEDICIS) التي أصبحت وصية على الملك لويس الثالث عشر. وقتل هنري الرابع غيلة من قبل رجل اسمه بافاياك: BAVAILLAC عندما كان على وشك البدء بتنفيذ مشاريعه السياسية الضخمة.

خافية على مراقبة الحكم الإسباني، فأصدر الملك (هنري الثالث) ملك إسبانيا أمرا يوم 22 أيلول (ستمبر) 1609م بإبعاد كل موريسكي - مغربي مسلم - من أرض إسبانيا، وأعطاهم لذلك أجلا لا يتعدى ثلاثة أيام كي يتجمعوا في الموانىء المعينة لهم من أجل ركوب البحر وهكذا خرج من إسبانيا آخر فوج من بقايا مسلميها الذين اعتنقوا النصرانية مرغمين، وكانت أغلبيتهم العظمى من العرب المسلمين، وقامت سفن الأسطول الجزائري فنقلت معظهم إلى عاصمة الجزائر، فمنهم من توجه بعد ذلك إلى تونس أو تطوان (تيطوان) ومنهم من أقام في سهل متيجة (متوجة) بالقرب من الجزائر. ترى هل كان من الأفضل استكانة هؤلاء (الموريسك) وعدم القيام بالثورات المتتاية الأمر الذي أدى إلى إخراجهم من الأندلس؟ قد يكون من المحال محاكمة ذلك الحدث التاريخي بأي مقياس من المقاييس التي تخرج عن الحدود المكانية والزمانية التي أحاطت بالحدث، غير أن مجموعة الشواهد التاريخية المتوافرة تؤكد أنه لم يكن أمام مسلمي الأندلس خيار (غير الثورة) مهما كانت نتائجها، إذ أنها لن تبلغ في أسوأ تلك النتائج مقدار ما كان يجابهه هؤلاء المسلمون من سوء المعاملة. ومن المحتمل القول أنها كانت (ثورة يأس) غير أنها لم تكن كذلك فعلا، إذ كان تصميم الثوار كبيرا، وإيمانهم بالنصر عظيما - بدلالة بقاء ثورة البشرات مدة سنتين كاملتين - وبالإضافة إلى ذلك، فإن هدف الثورة لم يكن من أجل منازعة الإسبانيين خلال تلك الفترة ملكهم، وإنما كان الحصول على كيان ذاتي يضمن لهم ما سبق أن تم الاتفاق عليه يوم استسلام ملك غرناطة للملك فرديناند، من شروط تضمن للمسلمين (حريتهم). وهكذا كان التعصب الصليبي مرة أخرى هو الحافز للتعصب الإسلامي الذي أوقد نار الثورة وأدى إلى

ذلك العداء المستحكم الذي لم يتوقف عند حدود إخراج المسلمين من الأندلس وإنما تطور إلى صراع مستمر أخذ شكل حملات صليبية متتالية ضد المغرب العربي الإسلامي عامة، وضد الجزائر المجاهدة منها بصورة خاصة.

الفصل الثاني

{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاغلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} (سورة الأنفال - 39 و 40) الفصل الثاني 1 - الجزائر، وبناء القدرة الذاتية. آ - تحرير بجاية. (1555م). ب - انتصار المسلمين في مستغانم (1558م). ج - معركة المرسى الكبير (1573م). د - تحرير تونس (1573 م). هـ - إنتصار المجاهدين في أصيلا (المغرب) (1575م). 2 - إنكلترا تشن الحرب على الجزائر (1620م). 3 - الأعمال العدوانية الإفرنسية (1664 و 1682م). 4 - القتال حول وهران وتحريرها (1705 - 1708 م). 5 - الإسبانيون يعودون إلى وهران (1732م). 6 - تبادل الأمرى، والمعركة البحرية أمام الجزائر (1773م). 7 - الجزائر تدمر الحملة الإسبانية الكبرى (1775م). 8 - معركة بحرية جديدة أمام الجزائر (1784م). 9 - وأخيرا - تحرير وهران (1791 م).

الجزائر وبناء القدرة الذاتية

1 - الجزائر وبناء القدرة الذاتية أصبحت الدولة الجزائرية مكتملة البنيان، لها حدودها المعترف بها من قبل جوارها، ولها جهاز حكمها المستقل والتابع إسميا للإمبراطررية العثمانية الإسلامية، ولها جيشها المنظم وأسطولها القوي، والأهم من ذلك كله هو توافر الإدارة الصلبة لدى الشعب المجاهد في الجزائر للاضطلاع بدوره الكبير في بناء مستقبله ودعم قدراته الذاتية وممارسة دور أساسي وحاسم في قيادة الجهاد في سبيل الله ومجابهة الحملات الصليبية الشرسة، وقد استطاع (عروج وخير الدين وابنه حسان) تجسيد طموحات شعب الجزائر وأهدافه، ومن هنا كان الدعم الكبير الذي لقيه (ذوي اللحى الشقراء) من أبناء الجزائر للمضي قدما على طريق الجهاد. وقد تم استدعاء (حسان خير الدين) إلى عاصمة الإمبراطورية العثمانية، في سنة 1552م، نتيجة مناهضته للسياسة الإفرنسية التي كانت تستثمر الصراع الإسلامي - الإسباني، لتدعم نفوذها في العالم الإسلامي، ولتمضي في تحقيق هدف الصليبية ذاته ولكن بطريقة متطورة. ومن داخل العالم الإسلامي لا من خارجه، وتم تعيين (المجاهد صالح رايس) لولاية الجزائر برتبة حاكم عام (باي لرباي) أثناء فترة غياب (حسان خير الدين) التي امتدت أربع سنوات (1552 - 1056).

مدفع جزائري ذو تسع فوهات (متحف الانفاليد)

لقد عرف الشعب الجزائرى (المجاهد صالح رايس) من خلال جهاده الصبور في البحر، برفقة أصحاب (اللحى الشقراء). وعرف فيه الكفاءة القيادية العالية، والشجاعة في مواجهة مواطن الخطر في البر والبحر، وقدرته غير المحدودة على العمل، وإخلاصه الكبير لقضية (الجهاد وبناء القدرة الذاتية) ولهذا لم يكن من الغريب أن يبادل الشعب الجزائري هذا القائد إخلاصا بإخلاص ووفاء بوفاء. فمضى صالح رايس بعزيمة صادقه لتحقيق أهداف شعبه والتي تمثلت بطموحين أساسيين أولها: تحقيق الوحدة الكاملة بين مختلف أقاليم الدولة الجزائرية، وتوثيق عرى وحدة شعبها. وثانيها: إدخال بقية أجزاء الصحراء الجزائرية (فيما يلي الزيبان) ضمن إطار هذه الوحدة. ولم تكن أهداف (بناء القدرة الذاتية) من خلال وحدة التراب والشعب، عند الجزائريين وحكامهم إلا الوسيلة لتحقيق طموح أكبر، وهون طرد الإسبانيين وإخراجهم من مواقعهم التي احتلوها فوق الأرض الجزائرية ووضع حد نهائي وحاسم لعمليات الصراع الداخلي والذي يجد محرضا له في (الدولة المغربية السعدية). والانطلاق بعد ذلك للجهاد في مجابهة العدوان الخارجي الممثل بصورة خاصة بالعدوان الإسباني الذي أخذ على عاتقه قيادة الصراع ضد المسلمين. وبدأ (صالح رايس) بالعمل قبل كل شيء لتحقيق الوحدة الداخلية، وكانت في الجنوب الجزائري إمارتان مستقلتان (إمارة توقرت) التي كان يتولى أمرها ملوك بني جلاب يتوارثونها كابرا عن كابر، وإمارة (بني وارجلان) - أو (ورقله) ويتولى أمرها الشيوخ الأباضيون ورثة دولة بني رستم، ويمتد سلطانها إلى قرى وادي ميزاب غربا وإلى المنيعة جنوبا. وكانت الإمارتان قد دخلتا أيام (خير الدين باشا) ضمن الوحدة الجزائرية، وتعهدتا بدفع مقدار معين لخزانة

الدولة بمدينة الجزائر. لكن ابتعاد خير الدين عن إدارة المملكة فعليا أواخر أيام حياته، وانصراف الدولة الجزائرية إلى معالجة أحداث (تلمسان) وأحداث (المغرب) جعل الإمارتين تقلعان عن دفع ما يترتب عليها، وتعلنان استقلالها عن إدارة الجزائر. وحاول (صالح رايس) إعادة الإمارتين بالطرائق الديبلوماسية غير أن الاتصالات والمراسلات فشلت في الوصول إلى التسوية المطلوبة، فتقرر اللجوء إلى السلاح إذا ما تطلب الأمر. وتحرك الجيش الجزائري من مدينة الجزائر تحت قيادة (صالح رايس) وذلك في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1552م. متوجها إلى الجنوب، وانضم له في (مجانة) سلطان قلعة بني عباس (عبد العزيز) ومعه نحوا من ثمانية آلاف مقاتل من رجال القبائل الجبلية، وسار الجميع نحو (توقرت)، حيث تمت مهاجمة (واحات توقرت) وكانت قوة الصدمة أكبر من أن يحتملها ملك توقرت وجيشه، وبعد معركة قصيرة وحاسمة - أزهقت فيها أرواح كثيرة من الطرفين المسلمين - أمكن تصفية المقاومة في (توقرت) والقضاء على حكم (بني جلاب) وضم توقرت نهائيا إلى السلطة المركزية وتوجه جيش الجزائر بعدها إلى (بني وارجلان) واجتمع هنا شيوخ (ورقله) وأعلنوا رفضهم لقتال إخوتهم المسلمين، وانضمامهم للدولة الجزائرية وأصبحوا منذ تلك الفترة جزءا لا ينفصل - وإلى الأبد - عن دولتهم الجزائرية، وتعهدت لهم الدولة بالمقابل، احترام مذهبهم (الإباضي) وحرية ممارستهم له، والاحتكام بمقتضاه بالنسبة لكل من يعتنقونه. غير أنه ما لبث أن ظهر الخلاف بين (صالح رايس) وبين سلطان قلعة بني عباس ومجانة (عبد العزيز). فبينما كان (صالح رايس) يرى توحيد البلاد في إدارة مركزية قوية، كان (عبد العزيز) يرى ضرورة الاستقلال بإدارة مملكته على أن يمد الدعم لحكومة الجزائر باعتباره

حليفا لها. وأن يقدم هذا الدعم عندما يرى ذلك ضروريا، بدون أي خضوع من قبله للإدارة المركزية. فكان لا بد من الصدام الذي أدى إلى صراعات مسلحة دموية، قتل أثناءها (الفاضل) أخو عبد العزيز ودارت الدائرة على جيش الجزائر في (بوغني) وذلك في شهر كانون الأول - ديسمبر - 1552م (959 هـ) وتلقى جيش الجزائر هزيمة أخرى بعد ذلك، على الرغم من انضمام بلاد كوكو إلى الجزائريين (باعتبار كوكو من الأعداء التقليديين لقبائل قلعة بني عباس). واضطر (صالح رايس) إلى التخلي عن الصراع مع (عبد العزيز) لفرصة أخرى. وعاد من جديد إلى غزو الإسبان في البحر تمهيدا للأمر العظيم الذي كان هدفه الأسمى وهو غزو الإسبان في البر. فألقى بأسطوله الضخم على جزائر الباليئار، وعلم (صالح رايس) بخروج سفن برتغالية تحمل رجالا وعتادا، وأنها تجتاز مضيق جبل طارق، فأسرع للتصدي لها، وداهمها واستولى عليها. وعند ذلك تبين أن الأسطول الذي يشمل ستا من سفن النقل، كان يحمل سلطان فاس السابق (أبا الحسن علي بن محمد الوطاسي - المعروف بأبي حسون) والذي كان قد نجا من قبضة الشريف السعدي عندما بطش بالوطاسيين في فاس، وكان هذا الأسطول متوجها إلى فرصة باريس على ساحل الريف المغربي، والتي يدعوها الإسبان (فاليس) من أجل محاربة السعديين، وإعادة حكم الوطاسيين تحت إشراف البرتغاليين وحمايتهم. واتفق (صالح رايس) بسرعة مع (أبي حسون) على أن يدعمه لاستعادة ملكه مقابل اعتراف (أبو حسون) بالتبعية للسلطان العثماني (سليمان القانوني) والدعاء له على المنابر. والاستعداد لتجهيز الجيوش لمباشرة غزو إسبانيا مع (صالح رايس). وجهز هذا قوة بحرية تضم (22) سفينة تحمل الرجال ووسائط القتال

في شهر أيلول (سبتمبر) 1553م. وسيرها بحرا نحو مليلة، بينما خرج هو بنفسه على رأس جيش جزائري يضم (8) آلاف مقاتل فمر بتلسان، وعزز جنده بالحامية التي كانت فيها، ودخل حدود المغرب الأقصى، بينما كان (أبو حسون) يجمع حوله الأنصار من بني مرين وأعداء الأشراف المديين. ثم اجتمع الجيشان ودخل صالح رايس مدينة (فاس) في يوم 8 كانون الثاني (يناير) 1554م (الموافق 3 صفر 961 هـ) ونصب بها السلطان أبا حسون، تحت حماية الدولة العثمانية، وذلك بعد مصادمات وعدة معارك دارت بين أنصار الدولتين (المرينية والسعدية) سالت فيها الدماء الغزيرة. ومكث (صالح رايس) بمدينة (فاس) لمدة أربعة أشهر، ضمن خلالها استقرار الأمر لأبي حسون، وإخلاص الدولة المرينية الجديدة للخلافة العثمانية. وخلال ذلك، لم يتوقف (صالح رايس) عن متابعة الجهاد ضد الإسبانيين، فأرسل قوة من جيشه إلى (بلاد الريف) فاسترجع من الإسبانيين (معقل باديس الكبير) - أو صخرة فاليس - ثم رجع إلى الجزائر تاركا لأبي حسون حامية تركية، لدعمه من جهة، وضمان وفائه بالتزاماته من جهة ثانية. لكن الأمر لم يستقر طويلا لأبي حسون. فما كاد صالح رايس يرجع إلى الجزائر، حتى جمع الشريف السعدي جيشا كثيفا، وهاجم فاس، والتحم في معركة قاسية مع أبي حسون الذي قتل أثناءها، ودخل الشريف فاس من جديد، لكنه وجد أن معظم سكانها يميلون إلى (بني مرين) فكان من الصعب عليه الاعتماد عليها وجعلها عاصمة لملكه، فقرر الانتقال إلى (مراكش) وجعلها عاصمة لمملكته الجديدة (¬1). ¬

_ (¬1) ورد في كتاب (حرب الثلاثمائة سنة) أحمد توفيق المدني ص 341. ما حدث في لقاء (صالح رايس) مع (أبي حسون) وتقد سلوك صالح رايس. بما يلي: (قص أبي حسون =

اغتنم (صالح رايس) فرصة وجوده بتلمسان، فجمع مجلس العلماء فيها بعدما بلغه من كثرة تذمر أهل المدينة وشكواهم من (الملك حسن) الذي اشتهر بالانحراف عن الدين - الخلاعة والمجون - وأفتى العلماء بخلع (الملك حسن) فتم ذلك - وضمت تلمسان نهائيا للإدارة المركزية في الجزائر سنة (1554م) على نحوما سبق عرضه. آ - تحرير بجاية (1555م) كان (صالح رايس) يتابع خلال ذلك كله جمع المعلومات عن موقف الحاميات الإسبانية، وعما يقوم به المواطنون الجزائريون من مقاطعة لها وتضييق عليها، حتى وصل بها الأمر إلى حالة كبيرة من الضعف وعندها قرر توجيه ضربته الحاسمة إلى (بجاية). فحشد جيشا من (30) ألف مقاتل وتولى قيادته، وسار به من الجزائر إلى بجاية في شهر حزيران (يونيو 1555م. وانضمت إليه أثناء التقدم قوات المجاهدين من (زواوة) من (إمارة كوكو). ووصلت الجيوش الجزائرية، فضربت حصارا على المدينة، ووصل الأسطول الجزائري وهو يحمل المدفعية ووسائط القتال الثقيلة. ووجه المجاهدون نيران

_ = على (صالح رايس) قصته، فقال: أنه ذهب أول الأمر إلى شرلكان، يطلب منه أن يعينه على استرجاع عرشه. لكن شرلكان لم يستجب لدعوته، ولم تكن حالته تسمح له بالتورط - تلك الساعة على الأقل - في حرب مع المغاربة. وأن الأمر يهم البرتغاليين أكثر منه. يومئذ سار أبو حسون (الذي لم يكن يهمه شخص من يعينه على الرجوع إلى العرش وهويته، إنما يهمه الرجوع إلى عرش فاس على أي حال) إلى ملك البرتغال سنة 1553م. وكان هذا الملك موقورا من الأشراف السعديين الذين أخذوا يسترجعون من البرتغاليين ما يحتلونه من أرض المغرب الأقصى ومن سواحله، فقرر إعانته، وأمده بالسفن والمال والرجال، وكانت تلك هي العمارة التي أسرها صالح رايس. وهنا أخطأ التوفيق في نظري صالح رايس الذي كان عليه أن يكتفي بأخذ العمارة، وأسر رجالها، وإبقاء أبي حسون عنده، وأن يتخذ بذلك يدا عند السعديين، ويستميلهم إليه، أو يضغط عليهم بواسطته).

مدافعهم إلى القلعة بعد أن تم تشديد الحصار عليها. كان حاكم بجاية الإسباني (دون الونزو كاديلو) قد عرف مسبقا بتحرك القوات الجزائرية، فأرسل إلى إسبانيا يطلب الدعم، وعمل في الوقت ذاته على (تخزين) المواد التموينية بكميات تكفي لحصار طويل. وأثناء ذلك، هطلت أمطار الخريف المبكرة بكميات وفيرة، فارتفع مستوى المياه في (وادي الصومام) وأصبح باستطاعة السفن الجزائرية الإفادة منه واستخدامه من أجل اجتياز المصب والوصول إلى ما وراء المدينة بمسافة خمسة كيلومترات تقريبا. وأمكن بذلك الوصول إلى المرتفعات المواجهة للقلعة والتحصينات الدفاعية، واحتلت المدفعية مرابضها في المواقع المناسة للرمي المباشر. وبدأت المعركة بتبادل القذف المدفعي. ثم هاجم الجزائريون حصن (القصر الإمبراطوري) واستولوا عليه عنوة. وكانت المدفعية قد دمرته تدميرا كاملا وحولته إلى أنقاض. ولهذا بدأت القوات الجزائرية على الفور بإقامة التحصينات من جديد وإعادة بناء الجدران. والإفادة من موقع الحصن لتأمين مرابض جديدة للمدفعية، مع تأمين مراقبة أفضل للحامية الإسبانية التي شرعت في إعادة تنظيم قواتها لدعم مواقعها الدفاعية في المعقل (القلعة). ورأى القائد الإسباني صعوبة الاستمرار في المقاومة بدون دعم خارجي، فأرسل رسالة إلى ملكة إسانيا (خوانة) (¬1) يستنجد فيها، ويشرح موقف الحامية المدافعة عن (بجاية). ¬

_ (¬1) كان نص الرسالة التي وجهها قائد الحامية الإسبانية إلى ملكة إسبانيا - كما وردت في (حرب الثلاثمائة سنة) أحمد توفيق المدني. ص 345 - 346 ما يلي: (بجاية - 17 أيلول - سبتمبر - 1555 - أرسلت من قبل رسالة لسموكم أبلغكم فيها الحالة التعسة التي وصلت إليها مدينة بجاية، وحاجة هذا المعقل للنجدة السريعة. لا توجد أبدا أية جدران حصينة =

غير أن القوات الجزائرية لم تمهل الحامية الإسبانية فوجهت نيران مدافعها إلى معقل (باب البحر) واستمر قصفها له خمسة أيام متوالية، ودافعت الحامية عن مواقعها بثبات وعناد، ونجح المجاهدون في تحديد مكان (مخزن البارود) ووجهوا إليه نيرانهم المحكمة، مما أدى إلى انفجار المخزن بقوة دمرت جدران الحصن، فاندفع المجاهدون بعنف وقوة، وتحولت المعركة إلى اشتباك دموي - بالسلاح الأبيض - وأمكن إبادة القسم الأكبر من الحامية الإسبانية وأسر الباقين منها. وبقيت هناك عقبة كبرى، دون فتح المدينة، هي قلعة (القصر الكبير) الذي كانت تدافع عنه حامية قوية، وكان (القصر الكبير) يشكل في حد ذاته معقلا هائلا مميزا بجدرانه القوية مما جعله المركز الأساسي للمقاومة الإسبانية. وانصرف رجال الحامية الإسبانية ونساؤها وحتى أطفالها وما فيها من عبيد للعمل في الليل والنهار من أجل إقامة جدار دفاعي جديد، لحماية (القصر الكبير) الذي بلغ ارتفاعه (15) قدما. وكان

_ = تستطيع الصمود أمام هذه المدفعية المرعبة التي نصبها (الكلب) ملك الجزائر أمام بجاية، فخلال يومين اثنين، حطم الأتراك بصفة تامة الحصن الإمبراطوري، وسدوا الخنادق، وأصبح من المحال الاستمرار في المقاومة. وصرت أتلقى من رجال الحامية رسائل تسألنا - أنا والمراقب - أن نعمل على إنقاذهم باسم الرب. وقد جمعت مجلسا حربيا مؤلفا من كبار الضباط - ذكر أسماءهم - واتفقوا بأنه لا يمكن المقاومة أكثر من هذا الحد. فكل شيء قد تحطم حتى الأساس، ودمرت الجدران، ... ومن أجل ذلك اتفقنا على تسليم الحصن، وتدمير الأقواس والركائز التي لا تزال قائمة ... ونحن ننتظر مصيرنا، فالأتراك فد صوبوا مدافعهم الآن نحو المدينة ذاتها وهم كثيرون ومسلحون بالبنادق النارية ... نرجوكم رجاء حارا أن تفكروا في أهمية (بجاية) وفي حصونها، فإذا ما تمكن هؤلاء الأتراك الاشقياء دمرهم الله من احتلالها، فإن كل قوى جلالة الملكة لن تستطيع مجتمعة إخراجها منها. وألتمس من سموكم إصدار الأوامر لكي نتلقى من إسبانيا المدد اللازم بأقصى سرعة ممكنه، ولتعتقد سموكم أنني مستعد للموت - كوالدي - في سبيل الله وفي سبيل صاحب الجلالة) ..

أفراد الحامية، يرممون بالليل كل ثلمة تحدثها مدفعية الجزائريين في النهار. أراد (صالح رايس) الاقتصاد في الجهد، فأرسل رسالة إلى حاكم (بجاية) يطلب إليه الاستسلام (¬1)، غير أن هذا رفض الإنذار الجزائري. واستمرت المقاومة خمسة أيام أخرى، أخذ بعدها المجاهدون الجزائريون في تسلق جدران الحصن بعد أن ردموا الخنادق المحفورة حوله، وحاولوا اقتحامه بينما كانت المدفعية الجزائرية تتابع قصف الأهداف المعادية. وعندها جمع حاكم (بجاية) وقائد حاميتها الرجال حوله، وتشاور معهم، فأشاروا كلهم بوجوب الاستسلام، ولم يكن عددهم عندئذ يزيد على مائة وعشرين مقاتلا. فأرسلوا إلى (صالح رايس) يعلمونه بقرارهم، فقبل استسلامهم، وبر لهم بوعده السالف رغم أنهم استمروا في القتال ورفضوا الإنذار. وسمح لهم جميعا بالعودة إلى إبسانيا. ودخل الجزائريون المدينة، وقد ارتفع فيها التهليل والتكبير، وأخذوا على الفور بتطهير المساجد وإزالة ما وضعه فيها ¬

_ (¬1) أرسل (صالح رايس) رسالة إلى حاكم مدينة بجاية الإسباني، يطلب إليه الاستسلام، وفيها: (أنا ملك الجزائر، أكتب إليك يا حاكم مدينة بجاية - لقد رأيت كيف أن رجالي قد استطاعوا احتلال معقلين من معاقل دفاعكم، ثم إنك ولا ريب تعلم أني قد عقدت العزم بصفة حاسمة على أخذ هذه القلعة التي تدافعون عنها أيضا. ولتعلم أنك لن تتلقى أبدا أدنى إعانة من إسبانيا، لأنني قد أخذت السفينة التي بعثت على متنا من يطلب النجدة، وبما أنه قد اقتربت ساعة سقوط المدينة، وأنك لن تستطيع أصلا النجاة والإفلات من قبضة يدي، فأنا أطلب إليك أن تستسلم، وأن تسلم المدينة لي. وأنا أتعهد لك مقابل ذلك بأنني لن أمسك أنت ولا أي رجل من الرجال الملتفين حولك بسوء. أما إذا استمر بك العناد فلن يكون مصيركم جميعا غير الموت - عليك برد الجواب حالا، مع حامله حسن -) وقد كتبت هذه الرسالة باللغة البرتغالية - المرجع (حرب الثلاثمائة سنة) أحمد توفيق المدني ص 347.

الغزاة من الصلبان، وأعادوها إلى سابق عهدها، مساجد لعبادة الله وحده الذي صدق وعده ونصر عبده. وأخذ النازحون عن (بجاية) بالعودة إليها. وشرعوا في إعادة بناء مدينتهم وترميمها وتضميد جراحها، ولم تمض أكثر من فترة قصيرة حتى زال كل أثر للاسعمار الصليبي الذي جثم على صدر بجاية لمدة نصف قرن. ما أن ترددت أصداء انتصار المسلمين في بجاية، حتى اجتاحت إسبانيا بصورة خاصة موجة من الهياج والثورة التي وجدت أصداء قوية لها في وسط الأمم الأوروبية الصليبية ودوائر البابا في روما، وكان لا بد من تهدئة هذه الجائحة الثائرة بضحية يتم تحميلها المسؤولية، ووقع اختيار الحكومة الإسبانية على قائد حامية بجاية، الذي لم يكن باستطاعته، أو باستطاعة غيره - الصمود والمقاومة بأكثر مما تم بذله. وشكلت محكمة عسكرية أصدرت حكمها بإعدامه. واقتيد إلى ساحة عامة بعد أن تم تعذيبه وتجريده، وأقبل الجلاد فهوى بفأسه على الضحية، وفصل الرأس عن الجسد، ثم رفع الرأس ليردد ما تم تلقينه له، حيث أطلقت المقولة المشهورة: (أيها الشعب، هذا رأس رجل نذل فقده صاحبه، بعدما فقد شرفه). انطلقت القوات الجزائرية لاستثمار هذا الظفر الرائع. فمضت لتحرير الساحل الشرقي للجزائر، من كل آثار الاحتلال الإسباني، ومنها مدينة القل (التي يعود تاريخ استعمارها إلى سنة 1282م). والتي كانت قصة احتلالها مأساة في جملة المآسي التي تعرض لها المغرب العربي الإسلامي خلال تلك الحقبة التاريخية. أصبح باستطاعة (صالح رايس) التفرغ لتطهير غرب الجزائر

مدفع هاون جزائري (متحف الانفاليد)

من الاحتلال الإسباني، والتركيز على وهران بصورة خاصة، غير أن مجموعة من العوائق اعترضت سبيل التحرير. واستشهد صالح رايس (بمرض الطاعون في رجب 963 هـ - 1556) ثم استشهد بعد ذلك حسان قورصو، فأصدر (الباب العالي) قراره بإعادة (حسان خير الدين) واليا على الجزائر، لتبدأ صفحة جديدة من الجهاد. ب - انتصار المسلمين في مستغانم - (1558م). تعرضت الجزائر لمجموعة من الانتكاسات بعد انتصارها الكبير في (بجاية). وتوافقت ظروف بعضها طبيعي وبعضها غير طبيعي، لتشكل ما يمكن تسميته بالإصطلاح الحديث (الهجمة المضادة) والتي كان من أبرز أحداثها قيام قوات الأشراف السعديين في المغرب باحتلال (تلمسان) وإخضاعها لهم. وفي هذه الفترة، وصل حسان خير الدين إلى الجزائر (في شهر شعبان 964 هـ = حزيران - يونيو - 1507 م).فكان لذلك أصداء قوية فرح لها أهل الجزائر على اختلاف نزعاتهم ومشاربهم، وعادت الثقة للمجاهدين. ومضى حسان لإصلاح جهاز الإدارة قبل كل شيء، وإلى إعادة تنظيم القوات المقاتلة. ومضى بعد ذلك بجيشه إلى الغرب الجزائري، لإرجاع جماعة (الشريف السعدي) إلى ما وراء حدوده المتفق عليها، ولإنقاذ الحامية الجزائرية التي بقيت صامدة تحت قيادة الأمير صفطه (في المشور) وهي تقاوم قوات السعديين. وعندما وصل الجيش الجزائري (تلمسان) انسحبت قوات السعديين إلى ما وراء نهر الملوية، ولم تحدث سوى بعض الاشتباكات الثانوية. ولكن حسان أراد الإفادة من هذه الفرصة للقضاء على دولة السعديين المستقلة (لا سيما بعد مقتل الشريف وقيام ابنه عبد الله الغالب بالله

مقامه). فمضى بجيشه حتى وصل إلى قرب مدينة (فاس). والتقى الجيشان على (وادي اللبن) ودارت معركة قاسية وغير حاسمة، وهنا وصلت معلومات إلى حسان تفيد بتحرك القوات الإسبانية من وهران، وخشي أن يوثر هذا التحرك على خطوط مواصلاته، وأن يعزله عن قاعدته في الجزائر، فقرر فك الاشتباك، وعاد بجيشه إلى مرفأ (قصاصة) في الشمال. وأركب قواته ومدفعيته وعتاده السفن. وفي الوقت ذاته عاد القائد (صفطه) القائم باسمه على مدينة تلمسان، ومعه حاميته إلى قاعدته. وما أن وصل حسان بجيشه إلى الجزائر، حتى حشد أكبر قوة متوافرة له بهدف مهاجمة الإسبانيين في وهران وأرسل إلى جموع المجاهدين في النواحي يطلب إليهم الانضمام إلى قوته عند مجرى (نهر الشلف). كان حاكم وهران (د. الكوديت) يتحرك في الوقت ذاته على رأس القوى التي أمكن له حشدها نحو الشرق قاصدا مدينة (مستغانم). وقد ضم جيشه (12) ألف مقاتل إسباني بالإضافة إلى جماعات كبيرة من الأعراب المرتزقة (القائد المنصور بن بوغانم) ومن معه من بني عامر وبني راشد وسواهم بالإصافة إلى مدفعية ضخمة وكميات وافرة من الذخائر وعدة سفن محاذية للجيش تحمل المؤن ووسائط القتال الثقيلة. كان (حسان خير الدين) يتابع تحرك القوات الإسبانية بيقظة وحذر، وكان الأسطول الجزائري مستعدا لمجابهة كافة الاحتمالات الخطرة. فما كادت السفن الإسبانية تغادر مياه (أرزيو) وهي مثقلة بحمولتها حتى انقضت عليها السفن الجزائرية، واستولت عليها جميعا، وانتقل كل ما كانت تحمله إلى قبضة المسلمين، فتقووا به على

أعدادهم. وكان الكونت (د. الكوديت) وجنوده يتابعون المعركة البحرية، دون أن يكون باستطاعتهم التدخل فيها أو دعم قواتهم، فلما شهدوا انتقالها إلى قبضة المسلمين أصيبوا بخيبة أمل مريرة، وفت ذلك من روحهم المعنوية. كان مخطط تحرك قوات المسلمين يقضي بتوجه جيش المجاهدين من الجزائر إلى مستغانم. وفي الوقت ذاته تخرج حامية تلمسان ومن ينضم إليها من جموع المجاهدين بقيادة (الحاج علي - أو قلش علي) لتسير في الاتجاه المعاكس - على الطرق الداخلية - وهي متجهة من الغرب إلى الشرق بهدف منع القوات الإسبانية من أي محاولة للتسلل نحو الداخل، أو القيام بمهاجة القرى (الدواوير) للاستيلاء على ما فيها من المواد التموينية. ودخلت القوات الإسبانية مدينة (مازغران) بدون مقاومة، وحطمت بوابتها الضخمة - الأثرية - لتنحت من حجارتها مقذوفات لمدفعيتها. ثم أسرعت في تحركها للوصول إلى (مستغانم) والتحصن فيها قبل وصول جيش الجزائر. ووصلت فعلا وهي بكامل قوتها إلى أبواب المدينة يوم 22 آب - أغطس - 1558م. فاشبكت على الفور في معركة ضارية مع قوات المجاهدين من عرب الضاحية الذين وصلوا دعما للمدينة قبل وصول الجيش الجزائري، وتمكنوا من دخول منطقة الدفاع على الرغم من الحصار الإسباني. أعلن الكونت (د. الكوديت) النفير العام عند مطلع فجر يوم 23 آب - أغطس -. وتقدم بكل قواته والقوات الموالية له من الأسوار التي لم تصمد لثقل هذه الهجمة، فتحطمت الأبواب، غير أن المقاومة في الداخل لم تتأثر فمضت تلتحم مع الإسبانيين وحلفائهم، وتحولت

المدينة كلها ميدانا للحرب، وأصبح كل حي وكل طريق وكل منزل معقلا يدافع عنه رجال الحامية وأهل المدينة والمتطوعون. ولم تتمكن القوات الإسبانية من فرض سيطرتها، على الرغم من تفوقها الساحق، على أية منطقة أو موقع وتكبدت القوات المشتبكة خسائر فادحة في الأرواح. ووصل القتال إلى مرحلة حرجة بالنسبة للمجاهدين عندما ترددت أصداء وصول جيش الجزائر بقيادة (حسان خير الدين) إلى شرقي المدينة وجنوبها (وكان جيش حسان يضم (5) آلاف من المشاة رماة البنادق وألف فارس) وقد انضم إليه من المجاهدين الجزائريين أثناء التحرك (15) ألف مجاهد تقريبا وهم يحملون أسلحة مختلفة. واقتحم جيش الجزائر بمجرد وصوله المعركة، ودخل المدينة فورا، وكان الصدام عنيفا وقاسيا، غير أن كفة النصر رجحت لمصلحة المسلمين، فما غربت شمس ذلك اليوم حتى تم إبعاد الإسبانيين وقذفهم إلى ما وراء أسوار المدينة تاركين بين جدرانها عددا ضخما من القتلى والجرحى. وقضى الجانبان المتصارعان تلك الليلة وهما يضمدان جراحاتها ويعيدان تنظيم قواتهما. حتى إذا ما أشرقت شمس يوم 24 آب أغسطس - وجدت القوات الإسبانية والقوات المتحالفة معها من المسلمين أنها تقف أمام مأزق صعب جدا. حيث أحاطت قوات المسلمين بميدان المعركة من كل جهاته، فقد وقف جيش الجزائر ومعه مقاتلي مستغانم والمجاهدين من العرب المسلمين في مواجهة القوات الإسبانية. في حين وقف إلى يمين القوات الإسبانية جيش تلمسان بقيادة (الحاج علي). أما على يسار القوات الإسبانية فقد انتشر رجال البحر الذين غادروا سفنهم ونظموا قواتهم للاشتراك في حسم الصراع. في حين كانت مدفعية الأسطول الجزائري ترمي القوات الإسبانية بقذائفها المحكمة. وشدد المجاهدون قبضتهم على الإسبانيين وكانت أصوات التهليل والتكبير (صيحة الحرب) تثير فزع

الإسبانيين بمثل ما تثيره سيوف المجاهدين في سبيل الله. وهزت الحماسة نفوس المسلمين الذين كانوا يقاتلون إلى جانب الإسبانيين فتخلوا عن مواقعهم وانضموا إلى إخوانهم في الدين، في حين بقيت هناك فئة رفضت التخلي عن الإسبانيين، غير أنها رفضت في الوقت ذاته إشهار سيوفها في وجه إخوان الدين، فمضت إلى خيامها واعتزلت القتال ولم تبق أكثر من فئة قليلة صممت على مساندة الإسبانيين حتى النهاية. غير أن هذه الفئة لم تعد قادرة على دعم الإسبانيين الذين لم يبق لهم من أمل إلا التخلص من المعركة، وتأمين طريق للانسحاب، ولكن قوات المسلمين أمسكت بكل محاور التحرك، وأحدقت بميدان المعركة، وشددت قبضتها على العدو، وبات من المحال تأمين الانسحاب المنظم وحاول الجنود الإسبانيون عندئذ الفرار بصورة افرادية، غير أن قوات المجاهدين لم تترك لهم الفرصة، فمضت في مطاردتهم حتى بلدة (مازغران) وقتل القائد الإسباني (د. الكوديت) تحت أقدام جنوده وهم يتدافعون للوصول إلى أبواب مازغران. أما ابنه فكان في عداد الأسرى. واحتل المسلمون (مازغران) وأمروا كل من التجأ إليها. فكان عدد القتلى والأسرى من الإسبانيين يزيد على (12) ألف. وانتهت المعركة مع غروب شمس يوم الجمعة (12 ذي القاعدة 965 هـ الموافق 26 آب - أغسطس - 1558). ج - معركة المرسى الكبير (1563م) لم يبق للإسبانيين فوق أرض الجزائر غير قاعدتين أساسيتين هما (وهران والمرسى الكبير) ولهذا فقد عملت الإدارة الإسبانية على دعم القاعدتين بقوة ونظمتها دفاعيا. وضمنت لهما القدرة على الصمود

والمقاومة. وفي الوقت ذاته مضت الإدارة الجزائرية (بقيادة حسان خير الدين) لإكمال استعدادها من أجل تحرير القاعدتين المذكورتين واغتنام كل فرصة للتضييق على الحاميتين الإسبانيتين المدافعتين عنهما، حتى إذا ما كان يوم الخامس من شباط (فبراير) سنة 1563 خرج من مدينة الجزائر جيش كبير يضم (15) ألفا من رماة البنادق وألف فارس من الصباحية يقودهم أحمد أمقران الزواوي و (12) ألفا من المشاة من قبائل (زواوة وبني عباس) وقام الأسطول الجزائري بنقل الأعتدة الثقيلة والمواد التموينية من الجزائر إلى (مستغانم) التي أعدت لتكون قاعدة للعمليات. وصل (حسان خير الدين) على رأس جيش الجزائر إلى أمام مدينة (وهران) ومرساها الكبير يوم 3 نيسان (أبريل) وأقام معسكره قريبا منها، واتخذ مقر قيادته في (راس العين) واختار مرابض مدفعيته لتكون في مواجهة (حصن القديسين). وكان الإسبانيون في (وهران) قد أنهوا استعداداتهم الدفاعية ودعموا تحصيناتهم وقلاعهم. وتولى قيادة الحامية (دون الونزو دي قرطبة). ولم تكن الاستعدادات الإسبانية في (المرسى الكبير) أقل مما كانت عليه في وهران وقد تولى قيادة الحامية المدافعة عن (المرسى الكبير) شقيق قائد وهران (المركيز دون مارتان) وهو ابن الكونت (د. الكوديت). وقد عمل القائدان بمجرد علمها بتحرك المسلمين على طلب الدعم من إسبانيا التي أمدتهما على الفور بأربعة آلاف مقاتل تحت قيادة (دون خوان دي ماندوزا) لكن عاصفة بحرية قوية أعاقت تحرك هذا الدعم، وأغرقت ثلاثة أرباع الأسطول فلم يصل إلى وهران أكثر من ألف مقاتل (وكان قائد الأسطول الإسباني ذاته بين الغرقى). وأثناء ذلك، كان (حسان خير الدين) قد انتهى من تنظيم قواته للمعركة. وبدأت المدفعية الجزائرية

بقصف القلاع والتحصينات دونما هوادة. ثم قامت قوات المسلمين بهجومها على (حصن القديسين) وتمكنت من احتلاله يوم (15) شباط - فبراير - بعد معركة حاسمة تم فيها تدمير جدران التحصينات. وأفادت قوات المسلمين من الموقع الجديد، فجعلته مربضا لمدفعيتها، وأخذت في توجيه القصف من هذا الموقع، ومن المواقع الأخرى، نحو تحصينات (المرسى الكبير) وقلاعه. وطلب (حسان خير الدين) إلى قائد حصن (القديس ميشال) الاستسلام فرفض ذلك. وعندها تولى (حسان) بنفسه قيادة مجموعة قتالية، وقام بالهجوم على الحصن، وتمكن من وضع السلالم مرتين على جدران الحصن، غير أنه أخفق في احتلاله. ودامت المعركة يوما كاملا، كان فيها الهجوم الجزائري عنيفا بمقدار ما كان الدفاع عنيدا، فلم يتم حسم الصراع، وتكبد الطرفان خسائر فادحة، غير أن خسائر المسلمين كانت أكبر بحيث فقد (حسان) خيرة ضباطه ونحوا من خمسمائة من مجاهديه. وفي هذه المعركة، افتقد (حسان) أسلحته الثقيلة، إذ أن العاصفة البحرية التي دمرت الأسطول الإسباني قد أعاقت في الوقت ذاته وصول الإمدادات والأسلحة الثقيلة إلى جيش الجزائر. وحاول (حسان) من جديد الإفادة من علاقته بابن الكونت د. الكوديت (دون مارتان) (¬1) وذلك لإقناعه بتسليم المدينة، غير أن قائد حامية المدينة اعتذر عن ذلك. ¬

_ (¬1) يذكر هنا أن (دون مارتان) وقع أسيرا في معركة (مستغانم) التي قتل فيها أبوه أيضا، فقام (حسان) بتسليم جثة الكونت د. الكويت لابنه، وإطلاق سراحه حيث عاد إلى وهران وتسلم قيادة حاميتها. وعندما كتب إليه حسان خير الدين طالبا إليه تسليم المدينة أجابه بما يلي: (إنني مستعد لأن أفعل من أجلك كل شيء، وأطيع أوامرك مهما كانت، اعترافا، بجميلك علي، وتسليم جثة أبي إلي بعد أداء التحية العسكرية لها، أما أن أسلم إليك المدينة التي هي أمانة جلالة ملك إسبانيا في عنقي. فذلك أمر لا سبيل إليه). حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدني - 381.

ووصل الأسطول الجزائري يوم 4 أيار (مايو) وهو يحمل المدفعية والمواد التموينية، ونصب الجزائريون مدافعهم في مرابض مناسبة، وشرعوا بقصف تحصينات (المرسى الكبير) وقلاعه من البر والبحر. وقام المسلمون بالهجوم على القلاع خمس مرات متتالية يومي 5 و6 أيار (مايو) غير أن الحامية الإسبانية التي تلقت دعما من حامية وهران استطاعت الصمود لهذه الهجمات وتمكنت من إحباطها. وفي يوم 8 أيار (مايو) قاد حسان خير الدين الهجوم بنفسه ضد قلاع المرسى الكبير، وتمكن من رفع العلم الجزائري فوق ثغرة في مراكز الدفاع. واندفع منها إلى الداخل، لكنه أصيب بجرح في رأسه، ولم يتمكن الجيش من اجتياز الثغرة، فاضطر حسان ورجاله إلى الانسحاب. ووجه المسلمون بعد ذلك هجومهم إلى (حصن سان ميشال) الذي دافعت عنه الحامية الإسبانية بعناد وضراوة. غير أن نيران القوات الجزائرية أرغمتها على الانسحاب من تحصيناتها والانضمام إلى الحامية المدافعة عن القلعة. ووجه المجاهدون نيران مدفعيتهم نحو جدران القلعة الرئيسية، واستمر قصفها طوال (24) ساعة، وأمكن تدمير الكثير منها، غير أن رجال الحامية الإسبانية كانوا يرممون بالليل ما تحدثه مدافع المسلمين من تدمير في النهار. وفي يوم 9 أيار (مايو) كانت المدفعية الجزائرية قد دمرت حصون الناحية الغربية تدميرا تاما تقريبا، فأرسل (حسان) من جديد طلبا إلى (المركيز مارتان) بتسليم المدينة، فأجابه: (بما أن الحصون قد تحطمت فما الذي يمنعك عن اقتحام المدينة؟). وعندها أمر حسان بالهجوم العام، واستبسل الإسبان في الدفاع عن بقايا الحصون والجدران والخرائب، وتمكن الجزائريون خلال ذلك من احتلال حصن جنوة، ورفع أعلامهم فوق السور، لكنهم لم يستطيعوا الثبات

أمام الهجوم الإسباني المضاد فتراجعوا إلى مواقعهم الأولى، بعد أن تركوا فوق أرض المعركة عددا كبيرا من الشهداء , وتمكنت في هذا اليوم سفينة إسبانية صغيرة من اختراق صفوف الأسطول الجزائري، ونقلت إلى قائد حامية وهران معلومات عن اقتراب الدعم الإسباني الذي كانت تحمله (55) سفينة يتولى قيادتها (الأميرال دوريا) وأدى ذلك إلى زيادة تصميم الحامية الإسبانية على الدفاع حتى النهاية. وأرسل قائد وهران مراسلا اخترق ما بين البلدتين سباحة - يعلم أخاه (قائد المرسى الكبير) باقتراب وصول الدعم، ويطلب إليه المضي في المقاومة حتى وصول هذا الدعم. وعلى هذا استمرت المعركة بكل قسوتها وضراوتها طوال الفترة ما بين يوم 11 أيار - مايو - وحتى يوم 5 حزيران - يونيو -. حيث علم (حسان خير الدين) باقتراب وصول الدعم الإسباني، فقرر القيام بمعركة حاسمة، وحشد قواته، واستثار حماستها؛ وقذف بنفسه أمام صفوف الأعداء واندفع المجاهدون، غير أنهم اصطدموا من جديد بجدار المقاومة الضارية للإسبانيين وفشل الهجوم في الوصول إلى أهدافه، وطلعت شمس يوم 7 حزيران (يونيو) لتلقي أضواءها على الأسطول الإسباني الذي يحمل الدعم وهو يقترب من وهران. وأدرك (حسان خير الدين) أن قواته التي استنزفت المعارك المستمرة قدرتها لم تعد قادرة على تطوير الأعمال القتالية، فقرر الانسحاب من المعركة. غير أن الأسطول الجزائري لم يتمكن من تجنب الاشتباك مع الأسطول الإسباني، فخاض معركة ضارية خسر فيها (9) قطع (سفن). وانسحب بعدها إلى موانئه في الجزائر. انتهت معركة (المرسى الكبير) بدون حسم، غير أنها أكدت تصميم الجزائر على تحرير ترابها وتطهير أرضها من الغزاة. وما أن

عادت القوات إلى الجزائر حتى وجدت نفسها أمام موقف جديد يفرض عليها العودة إلى الجهاد في البحر. كان السلطان سليمان القانوني قد اتخذ قراره بالهجوم على جزيرة (مالطه) واحتلالها، لأنها تحولت لتكون أكبر معقل صليبي في شرق البحر الأبيض المتوسط وذلك منذ اتخذ (فرسان القديس يوحنا) منها قاعدة لهم منذ سنة (1530م). ولهذا أرسل أسطوله بقيادة (بيالي باشا) قائد البحرية العثمانية العام (قبودان باشا) كما طلب إلى (الرايس طورغود) حاكم طرابلس وجربه الانضمام بأسطوله لتنفيذ العملية، وكذلك الأمر بالنسبة لوالي الجزائر (حسان خير الدين) الذي أسرع فقاد قوة بحرية تضم (25) سفينة و (3) آلاف من أفضل المقاتلين. ووصل الأسطول الإسلامي بكامله إلى الجزيرة يوم 18 أيار (مايو) سنة 1565م، وحاصرها، ثم نزلت قوات المجاهدين، فاحتلت معقل (القديس ايلم) بعد أن أصيب بخسائر فادحة وبعد معركة ضارية استشهد فيها عدد من المسلمين كان في مقدمتهم (الرايس طورغود) الذي وصفته المصادر الإفرنجية - الغربية - (بأنه كان قائدا فذا لا مثيل له، لأنه كان يتحلى بفضائل إنسانية غير معهودة في القراصنة) - وكان ذلك يوم 23 أيار - مايو - وتوالت المعارك البطولية بين الجانبين كان من أبرزها هجوم المسلمين بقيادة حسان خير الدين يوم 15 تموز - يوليو - على حصن (القديس ميخائيل) وهو الهجوم الذي نجحت حامية الحصن في إحباطه بعد أن تكبد الطرفان خسائر فادحة. وتبع ذلك تطور على جبهة الصليبيين حيث جهزت صقليا جيشا تولى قيادته نائب الملك، ودعم بأسطول يضم (28) سفينة حربية تحمل (12) ألف مقاتل. وأدى وصول هذا الدعم إلى تصعيد الصراع المسلح من جديد واستمرت الأعمال القتالية بدون هوادة،

رئيس بحري جزائري

وفقد الجيش الإسلامي أكثر من نصف قوته واضطرت بقية قوات الحملة للانسحاب يوم 8 أيلول - سبتمبر - 1565م. بقيت الجزائر المجاهدة مصدر قلق دائم لحكام إسبانيا، الذين لم يجدوا وسيلة إلا اتبعوها ولا طريقة إلا مارسوها لقهر تطلعات الشعب المسلم، غير أن التحديات لم تزد المقاومة إلا ضراوة وعنادا. وقد يكون من المناسب الإشارة إلى تلك العملية التي أخذت شكل (إغارة مباغتة) على الجزائر بهدف النيل منها، وتعود قصة هذه الإغارة إلى شهر تشرين الأول أكتوبر - سنة (1567م) عندما تقدم أحد قراصنة البحر الإسبانيين الشهيرين (واسمه خوان قاسكون من بلسية) وقابل الملك الإسباني. وعرض عليه مشروع (إغارة) مباغتة بواسطة سفينتين فقط يتم بهما احتلال الجزائر. واعتمد مخطط الإغارة على الإفادة من ظلمة الليل للتسلل إلى داخل مرسى مدينة الجزائر، ثم القيام بإشعال النيران في الأسطول الجزائري، والإفادة من حالة الهياج التي تعقب ذلك لاقتحام المدينة وإطلاق سراح الأسرى المسيحيين فيها وتسليحهم والإفادة من قوتهم للاستيلاء على مدينة الجزائر وتدمير المقاومات فيها والسيطرة عليها حتى يتم وصول الأسطول الإسباني الذي يحمل الجيش والإمداد. ورأى الملك الإسباني أن هذه المغامرة لن تكلفه كثيرا، فإذا ما هي نجحت، أمكن لها أن تحقق ما عجز شارلكان عن تحقيقه، وإن هي فشلت، فإنما هي خسارة قلية لا تقارن بما يتوافر لها من فرص النجاح، وبالإضافة إلى ذلك فإنها قد تسبب إزعاجا وخسارة للجزائر تزيد في قيمتها على الثمن أو الجهد المبذول. وهكذا خرج (خوان) من إسبانيا يوم الأول من تشرين الأول - أكتوبر - ووصل إلى (مرسى الجزائر) ليلا بعد أربعة أيام، وكانت ظلمة الليل حالكة، فاستطاعت السفينتان التسلل إلى

منظر من الحياة العامة بالعاصمة الجزائرية

المرسى بدون أن يشعر بوصولها أحد. وكان الأسطول الجزائري مجمعا في مرسى الجزائر الضيق، وقد تقاربت سفنه بعضها من بعض، بحيث كان إشعال النار في سفينتين أو ثلاث منه كافيا لإحراق الأسطول بمجموعه. وأعطى (خوان) أوامره إلى ستة من رجاله بإحراق السفن، بينما مضى هو وبقية الرجال إلى (باب البحر) فباغت رجل الحرس الجزائري وقتله، ثم توجهت قوة الإغارة إلى مكان الأسرى النصارى، يحملون معهم الأسلحة من أجل تنفيذ العملية. لكن عناصر الإغارة لم تر ألسنة اللهب المتصاعدة من سفن الأسطول الجزائري - كما كان متوقعا. فتوقفت عن مهاجمة دار الأسرى، وعلمت أن زمرة إحراق السفن لم تتمكن من تنفيذ واجبها. فاكتفت بتحرير نحوا من عشرين أسيرا نصرانيا، وانسحبت إلى السفينتين، رغم معارضة قائد العملية خوان - وغادرت السفينتان المرسى وهما تستخدمان المجاذيف. وتبين عندئذ أن رجال الحرس في المرسى قد تنبهوا منذ اللحظة الأولى لحركة قوة الإغارة، فقتلوا أفراد الزمرة الستة المكلفين بإحراق السفن، ثم ركب الجزائريون بعض السفن، وتتبعوا رجال العصابة حتى لحقوا بهم غير بعيد عن الساحل، وأرمغموهم على العودة إلى الجزائر ومعهم الأسرى الذين عملوا على تحريرهم. وأعيد البحارة إلى سجن الأسرى أما (خوان قاسكون) فقد اقتيد إلى المحاكمة، التي قررت تسليمه للشعب الهائج فتم إعدامه وعلقت جثته أيامأ فوق سور المدينة، على الرغم من احتجاج رجال البحر ودفاعهم عنه باعتباره (محاربا) يجوز أسره ولا يجوز إعدامه. ... حدثت خلال هذه الفترة تطورات من المناسب الإشارة إليها، فغد توفي السلطان سليمان القانوني يوم 5 أيلول - سبتمبر - 1566 (20

صفر - 974هـ) وخلفه ابنه السلطان سليم الثاني، الذي أسند إلى حسان باشا خير الدين منصب القائد العام للأسطول الإسباني (قبودان باشا). فتوجه هذا إلى إستامبول خلال شهر كانون الثاني (يناير) 1567م (974هـ) وعين السلطان مكانه في منصب (باي لرباي) الجزائر الأمير محمد بن صالح رايس. وبقي حسان خير الدين في منصبه حتى توفي سنة 1570 عن 53 عاما. ودفن إلى جانب والده في مسجد (باكداش) في حي (بويوك) دارة بإسانبول، وفي الجزائر، توفي محمد بن صالح رايس سنة 1568، فتم تعيين قلج علي حاكما عاما (باي لرباي). وقد بذل (قلج علي) جهده - منذ اضطلاعه بالمسؤولية، على متابعة الجهاد ضد الإسبانيين، فكان أول عمل له تركيز الجهد لدعم ثوار المسلمين في الأندلس، ثم إنقاذهم وإعادتهم إلى الجزائر، مع متابعة الجهاد في البحر على نحو ما سبقت الإشارة إليه. د - تحرير تونس - 1573م لم تكن الجزائر المجاهدة وهي تمضي في بناء قدرتها الذاتية، وتخوض معاركها جهادا في سبيل الله، إنما تريد العزة لنفسها، وإنما تريده للمسلمين كل المسلمين. ولم تكن الإمبراطورية العثمانية وهي تخوض حروبها المتواصلة تبغي العزة لنفسها وقد أصبحت تمتلك من العزة بالله ما ساعدها على نشر ألويتها وبنودها فوق الشرق والغرب. ولم تكن بقية الأقطار الإسلامية وهي تقذف بنفسها في ميادين الجهاد، تبتغي العزة لنفسها أو القدرة لذاتها وإنما كانت لتدعيم الإسلام والمسلمين في كل بقعة ترتفع فوقها رايات الإسلام والمسلمين. وعلى صعيد الجهاد في سبيل الله، التقت القوات العثمانية

بالقوات الجزائرية، وبقوات المغرب العربي الإسلامي لخوض حرواب الإيمان. وكان المغرب العربي الإسلامي هو الميدان الأول للجهاد. وكانت (تونس) هي الهدف المرحلي في تلك الحروب والحملات المتواصلة، التي لا تكاد تتوقف على مسرح من مسارح العمليات حتى تتفجر على مسرح آخر. وفي تلك الفترة، كان البابا بيوس الخامس (1566 - 1572م) قد انطلق على سيرة أسلافه في تأجيج نار الحراب الصليبية، فعمل على جمع شمل البلاد الأوروبية المختلفة، وحشد قواتها في البر والبحر تحت راية البابوية للوقوف في وجه الإسلام. وتم عقد حلف كاثوليكي مقدس في كاتدرائية سان بيير (القديس بطرس) يوم 25 أيار - مايو - 1570م ليضم هذا الحلف الدويلات الإيطالية والألمانية، وقوات البابا وأسطوله. وأخذت هذه القوى مجتمعة في الإعداد للهجوم والإستعداد له. وكان من نتيجة ذلك وقوع معركة ليبانت البحرية والتي سبق التعرض لها. أراد الأمير (جون - اويوحنا) النمساوي. استثمار النصر الذي أحرزته القوات الصليبية المتحالفه في (ليبانت - أو - ليبانتي) لغزو المغرب العربي الإسلامي، والبدء في ذلك بمدية تونس (¬1). لانتزاعها من ¬

_ (¬1) كان والي الجزائر (قلج علي) قد هاجم الملك الحفصي بباجه ودمر قواته، وتقدم إلى تونس ففتحت له أبوابها. ويذكر مؤرخ هذا الحدث بقوله: (وفتح أهل الحاضرة - تونس - أبوابها لعلي باشا فدخلها بمن معه، وقصد القصبة سنة 977 هـ (1569 م) ونادى في الناس بالأمان، فاجتمع إليه وجوه البلد وأخذ عليهم البيعة للسلطان سليم العثماني، وجهر الخطباء بالدعاء له على المنابر، وضربت السكة باسمه، ولما استقرت قدمه جاءه =

قبضة العثمانيين، للانتقال منها بعد ذلك إلى الجزائر. وغادر الأسطول الصليبي جزيرة صقليا في شهر تشرين الأول - أكتوبر - من سنة (1573م) وقد ضم الأسطول (138) سفينة تحمل (25) ألفا من المقاتلين. ونزل بقلعة (حلق الوادي)، وجاء الأمير النمساوي بالملك الحفصي (أبي العباس أحمد) الذي التجأ إلى الإسبان من أجل مساعدته على إسترداد ملكه، بشرط أن يكون الحكم مناصفة بين الإسبان وبين (أحمد الحفصي). غير أن هذا رفض مشاركة الصليبيين في حكم بلاده، وتنازل عن حقه في الملك لأخيه (محمد بن الحسن) ودخل الإسبان مدينة تونس التي لم يكن بها يومئذ حامية كافية للدفاع عنها، وخرج أهلها للنجاة بأنفسهم وبدينهم، ويصف مؤرخ عربي الموقف في ترنس بما يلي: (ولاذ - أهل تنس - بالبوادي ونالهم من الجوع والعطش وكشف الستر وتشتيت الشمل ما هو مبسوط في كتب التاريخ، مما تقشعر منه الجلود ... ودخل محمد بن الحسن إلى القصبة. وشاطره قائد الجيش الصبنيول في الحكم. وعاش عسكره في البلاد، وربطوا خيولهم بجامع الزيتونة، واستباحوا ما به، وما بالمدارس العلمية من الكتب، وألقوا بها في الطرقات يدوسها العسكر بخيولهم، وهذا هو السبب في قلة تآليف الفحول من هذا القطر، فإنها ضاعت شذر مذر في هذه الواقعة).

_ = فرسان الزمامرة (من جيش السلطان الحفصي) وقالوا له: نحن خدام سلطاننا، دافعنا عنه بقدر استطاعتنا، ولا مرد لحكم الله، فإن شئتم أبقيتمونا في بلادنا، وإن شئتم ننصرف، وأرض الله واسعة، فقال لهم علي باشا: لقد فعلتم ما وجب عليكم من النصح والمدافعة عن سلطانكم، فأنتم الآن من جماعتنا) ثم ترك علي باشا جماعة من جيشه لحماية مدينة تونس. ومحاصرة قلعة حلق الوادي التي كانت لا تزال بيد الإسبان. ورجع توا إلى الجزائر ليجهز أسطوله للاشتراك في معركة ليبانت. (حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدني - ص 397).

وبينما كانت (تونس) تعيش أقسى ظروف محنتها، ظهرت طلائع الأسطول العثماني بقيادة حاكم الجزائر (باي لرباي) والذي كان يمارس في الوقت ذاته قيادة الأسطول (قبودان باشا). وقام (قلج علي) بإنزال قوات المجاهدين على مقربة من أطلال (قرطاجنة) تحت قيادة (سنان باشا) وأصدر أوامره في الوقت ذاته إلى جيش الجزائر بالتحرك فورا تحت قيادة (عرب أحمد). كما أرسل إلى جيش طرابلس يستدعيه بقيادة (مصطفى باشا) وجيش القيروان بقيادة (حيدر باشا) وكان أول عمل قامت به قوات المسلمين بقيادة (قلج على باشا) هو تضييق الحصار على (حلق الوادي) وتركيز الأعمال القتالية حتى أمكن اقتحام مواقعه وإبادة الحامية الإسبانية والاستيلاء على كل ما كانت تحتويه من الأسلحة والذخائر والمواد التموينية (وذلك لست خلون من جمادي الأولى سنة إحدى وثمانين وتسعمائة - 1573 م). ونقل المسلمون بعد ذلك ثقل عملياتهم القتالية لحصار تونس، ففر من بها من الإسبانيين ومعهم محمد بن الحسن الحفصي إلى (البستيون) (وهي قلعة بناها الإسبانيون إلى جانب تونس) واستولى المجاهدون على الحاضرة وقصبتها، ثم نقلوا ثقل الهجوم إلى حصن (البستيون) وأحكموا الحصار على حاميته. وتولى الوزير سنان باشا قيادة الحصار بنفسه، وشارك المجاهدين في أعمال ردم الخنادق وبناء أبراج الحصار (فكان ينقل التراب والحجارة، مثله كمثل كل المجاهدين، وعندما قال له أحد أمراء الجند: (أيها الوزير! نحن إلى رأيك أحوج منا إلى جسمك) أجابه الوزير: (لا تحرمني من الثواب.). وأمر ببناء (ترس) يشرف منه على قتال الإسبانيين في (البستيون). ولم يزل ملحا على حصار هذا الحصن حتى تم اقتحامه عنوة يوم الخميس (لخمس بقين من جمادي الأولى سنة إحدى وثمانين وتسعمائة - 1573 م) ومضت جموع المجاهدين لخوض المعركة الحاسمة، فأبادت الحامية الإسبانية

والقوات التي انضمت إليها من الصليبيين، ومات من الفريقين المتصارعين ما يزيد على العشرين ألفا. وسقط محمد بن الحسن الحفصي أسيرا. فأرسله سنان باشا إلى إستانبول حيث قضى نحبه. وانقرضت بهذه الموقعة دولة (بني حفص) بعد أن حكمت البلاد التونسية والكثير من بلاد الجزائر الشرقية لمدة تزيد على الثلاثمائة والسبعين سنة، كانت في أولها وفي وسطها منار علم وحضارة أضاءت لها سماء المغرب العربي الإسلامي , وأسدل بذلك الستار نهائيا على المطامع الإسبانية في مشرق المغرب العربي - الإسلامى، ولم يبق لها بالمغرب الأوسط إلا مدينة وهران ومرساها الكبير. أما في المغرب الأقصى، فكانت الأحداث تتمخض عن صراع مرير انتهى (بمعركة الملوك الثلاثة، أو معركة القصر الكبير) والتي أدت بدورها إلى انهيار المطامع البرتغالية إلى الأبد. يذكر هنا أن الانتصارات التي أحرزها المجاهدون في المغرب العربي الإسلامي، قد حملت الحكم الإسباني على البحث عن وسيلة تضمن لها الاحتفاظ بمواقعها في (وهران والمرسى الكبير) وذلك عن طريق صلح تعقده مع السلطان (مراد الثالث). غير أن حاكم الجزائر والقائد العام للأسطول الإسلامي (قبودان باشا قلج علي) تصدى لهذه المحاولة، وتمكن من إقناع السلطان العثماني بنظريته القائلة: (بأنه ما من صلح مع إسبانيا حتى يتم إجلاء الإسبانيين عن المواقع التي تحتلها في المغرب العربي - الإسلامي) وفشلت محاولة إسبانيا. وأكدت الجزائر المجاهدة أنها مصممة على متابعة الجهاد حتى يتم لها النصر الكامل على الأعداء. هـ - انتصار المجاهدين في أصيلا (المغرب) (1575 م) كان الملك السعدي (الشريف الغالب بالله) قد سلم (حجر

باديس - أو قلعة فاليس) للإسبانيين، وذلك (وفقا لما ذكره المؤرخون العرب): (لأن السلطان الغالب بالله لما رأى عمارة - أسطول - الأتراك والجزائريين لا ينقطع ترددها عن حجر باديس ومرسى طنجة - يعني البوغاز - وتخوف منهم، اتفق مع الطاغية الإسباني، على أن يعطيه حجر باديس، ويخليها لهم من المسلمين). فتنقطع بذلك مادة الترك عن المغرب، ولا يجدوا سبيلا إليه، فنزل النصارى على حجر باديس، وأخرجوا المسلمين منها، ونبشوا قبور الأموات وحرقوها، وأهانوا المسلمين كل إهانة ولما بلغ خبر نزولهم عليها لولده محمد. وكان خليفته على فاس، خرج بجيوشه لإغاثة المسلمين، فلما كان بوادي اللبن، بلغه استيلاؤهم عليها، فرجع وتركها لهم). وتوفي الملك السعدي الغاب بمدينة مراكش سنة (982 هـ = 1574 م) وخلفه ابنه محمد المتوكل، غير أن الشيخ (عبد الملك ابن الشيخ السعدي - أخا الغالب) لم يعترف بالملك لابن أخيه (محمد) وطالب بالعرش لنفسه، وغادر البلاد إلى استانبول يستنجد السلطان العثماني (مراد الثالث) ويعترف له بالخلافة، ويلتزم بالدعاء له فوق المنابر، إذا ما هو استقر على عرش السعديين. ولم يكتف الشريف عبد الملك بهذا الوعد، بل انضم إلى الجيش العثماني الذي ذهب مجاهدا لإنقاذ تونس على رأس جماعة من أنصاره. وعلى إثر ذلك طلب السلطان (مراد الثالث) إلى والي الجزائر (القائد رمضان الذي خلف قلج علي) تجهيز جيش الدولة الجزائرية، واقتحام حدود الدولة المغربية، ودعم الشريف عبد الملك الذي كان قد دخل البلاد - بصورة سرية - وأخذ في استثارة أنصاره، واستنفار القبائل من أجل دعم دعوته. ما أن انتهى القائد رمضان من تجهيز جيش الجزائر حتى توجه

إلى مدينة (فاس) في سنة 983 هـ = 1575 م. وضم جيشه البالغ عدده خمسة آلاف رجل إلى قوى (الشريف عبد الملك) ثم صادموا معا جيش السلطان محمد السعدي في مكان يقال له (الركن - ببلاد بني وارتين) فاندحر أمامهم ولحقت به هزيمة منكرة، لأن جماعة الأندلسيين الذين كانوا معه، قد انقلبوا عليه عندما رأوا جماعة الأندلسيين والأتراك يقاتلون مع خصمه، فانضموا إليهم. ودخل الشريف عبد الملك مدينة (فاس) وبويع بها سلطانا على المغرب. ثم إنه دفع للقائد (رمضان) مصاريف الحملة التي كان قد اقترضها من حكومة الجزائر (وهي 50 ألف أوقية من الذهب) وأفاض على جيش الجزائر وقادته بالتحف والهدايا الثمينة ومدافع كثيرة. ثم أعادهم إلى الجزائر وخرج لوداعهم بنفسه. مضى السلطان المعزول (محمد المتوكل) إلى مراكش، واستقر بها، وما لبث بها إلا قليلا حتى تتبعه خصمه، وهزمه من جديد، واستولى على مراكش، فأمكن له توحيد المغرب الأقصى تحت حكمه. ونفذ ما وعد به السلطان العثماني. وأكد اعترافه بخلافته، ودعا له فوق منابر المغرب. وبذلك امتدت حدود الخلافة العثمانية (في سنة 1574) من دجلة شرقا وعدن واليمن جنوبا إلى المحيط الأطلسي. علاوة على بلاد الترك والبلاد الأوروبية التي أخضعت لحكم الإمبراطورية الإسلامية. لم يقنع السلطان المعزول (محمد المتوكل) بما نزل من الهزائم، فمضى يستثير الأعداء، وتوجه بحرا إلى إسبانيا يطلب إلى ملكها الدعم والإمداد لاستعادة عرشه المفقود، ولإخراج المغرب الأقصى من دائرة نفوذ الأتراك العثمانيين. غير أن إسبانيا لم تكن يومئذ على استعداد للقيام بمغامرة جديدة، لا سيما وأن المغرب الأقصى كان

منطقة نفوذ لاستعمار البرتغال وفقا للإتفاقات بين البرتغال وإسبانيا، فمضى (محمد المتوكل) إلى عاصمة البرتغال (لشبونه) حيث اجتمع بالملك (سباستيان) (¬1) وعقد معه معاهدة تقضي بتنازله للبرتغاليين عن سواحل المغرب الغربية، وأن يحكم بقية البلاد الداخلية معترفا بسلطانهم وذلك مقابل إمدادهم له بقوة عسكرية، تبعد عمه عن العرش وتعيده إليه. وجهز (سباستيان) حملة قوية تضم (42) ألف مقاتل (ولم يكن جيش محمد المتوكل حليف سباستيان يزيد على ثلاثمائة رجل). علم السلطان عبد الملك بتحرك البرتغاليين، وأعلم العلماء والشيوخ الذين استنفروا المقاتلين للجهاد فأقبلت جموعهم من كل أنحاء المغرب الأقصى، واتجهت إلى نواحي مدينة (أصيلا) على المحيط الأطلسي. حيث أنزل البرتغاليون قواتهم في شهر حزيران (يونيو) 1578م وتمكنوا من الأرض وتحصنوا بها، واستعدوا للقتال على مقربة من (القصر الكبير). واستطاع (السلطان عبد الملك) تنظيم جموع المجاهدين الذين بلغ عددهم (40) ألف مجاهد. والتقى الجمعان يوم الاثنين 30 جمادي الأولى سنة 986 هـ (الموافق 4 آب أغطس - 1578 م) على (وادي المخازن) ودارت رحى معركة طاحنة، أظهر فيها الطرفان المتصارعان قدرا غير قليل من التصميم على انتزاع النصر. غير أن تصميم المجاهدين في سبيل الله كان أكبر، فأمكن لهم سحق البرتغاليين، ولم تغرب الشمس حتى كان جيش الغزو قد أبيد إبادة شبه كاملة بحيث كان عدد الأسرى قليلا جدا، ¬

_ (¬1) سباستيان: (SEBASTIEN) (ملك البرتغال في الفترة 1557 - 1578م) وهو من مواليد لشبونه 1554م وقتل في معركة القصر الكبير: ALCAZARQUIVIR أو KASR EL KEBIR أثناء قتاله لأبناء المغرب.

من ضباط الجيش العثماني بالجزائر

ولقي الملوك الثلاثة قادة المعركة حتفهم، فكان السلطان عبد الملك أول شهيد فيها، غير أن حاجبه المملوك (رضوان العلج) أخفى خبر وفاته وقاد المعركة باسمه إلى أن تم النصر وعندئذ أعلن على الناس الخبر المحزن. وقتل الملك (سباستيان) غرقا وهو منهزم في وادي المخازن. وحاول (محمد المتوكل) النجاة بنفسه بعد أن شهد الدائرة وهي تدور على حلفائه، فخاض نهر المخازن في محاولة للفرار بعيدا عن المعركة، فابتلعته مياه النهر. وبايع الناس يومئذ في إجماع رائع، شقيق عبد الملك (الأمير أحمد) والذي لقب فيما بعد بالمنصور، وكان أكبر معين لشقيقه الشهيد، فبادر بمراسلة ملوك المسلمين وعظمائهم وأعلمهم بالنصر العظيم. وتلقى منهم التهاني، وكان أول من وفد عليه رسول صاحب الجزائر، وأرسل له (السلطان مراد) هدية، فاستقلها ولم يعبأ بها، وقطع الخطبة للخليفة العثماني، ثم توالت الرسائل بين السلطانين فتصالحا واستقر الأمر للخلافة السعدية على أرض المغرب الأقصى. تمخضت هذه الأحداث التي انتهت بانتهاء القرن السادس عشر، عن مجموعة من المتحولات أبرزها: 1 - فشلت الصليبية الإسبانية فشلا تاما في تحقيق أهدافها على أرض المغرب العربي الإسلامي ولم يبق لها بعد توسعها الكبير إلا (قاعدة وهران ومرساها الكبير). 2 - استقرار سلطنة الأشراف السعديين في المغرب الأقصى بصورة ثابتة ووطيدة. وظهور كيان دولة الجزائر كدولة مستقلة خاضعة اسميا للإمبراطورية العثمانية، شأنها في ذلك شأن تونس وطرابلس ومصر وبقية بلاد العرب والترك، ولو أن الجزائر تمتعت

بدور ريادي في الجهاد أتاح لها قدرا كبيرا من حرية العمل السياسي والعسكري. 3 - فقد المسلمون كل قدرة على استرداد الفردوس المفقود في الأندلس. وتوقفت تقريبا الفتوح الإسلامية في أوروبا بسبب تعاظم المقاومة وتنظيمها ضد سلطان المسلمين. 4 - انصرفت الدول الأوروية لمعالجة مشكلاتها الخاصة في حروب أهلية لم تتوقف، مما أتاح لدول المسلمين نوعا من الهدوء النسبي. غير أن الصراع لم يتوقف.

من قادة الجيش العثماني بالجزائر

إنكلترا تشن الحرب على الجزائر

2 - إنكلترا تشن الحرب على الجزائر (1620 م) أفادت الجزائر المجاهدة من فترات الهدوء النسبي لإعادة تنظيم أمورها داخليا وخارجيا. فقد توفي (قلج علي) سنة (1587م) وانتهى بموته نظام (الباي لرباي). وأعقب ذلك نظام الباشوات (الثلاثيين) الذين يعينهم الخليفة العثماني لمدة ثلاثة أعوام. واستمر هذا النظام من سنة 1587 - حتى سنة 1659م. ثم جاء نظام (آغة الهلاليين) الذي هو نوع من (الحكم العسكري الجماعي) الذي يؤلف (الديوان) والذي يحكم البلاد، ويسند الرئاسة التنفيذية لكبير الضباط الذي يدعى (الآغا) وذلك لمدة شهرين فقط ثم يتولاها غيره تحت رعاية (الباشا) الذي ترسله إستانبول من قبلها ممثلا للإمبراطور العثماني (الخليفة) وليس له مطلقا التدخل في شؤون البلاد الداخلية. واستمر هذا النظام من سنة 1659 - حتى سنة 1671م. وأخيرا جاء نظام (الديوان - والباي) الذي استمر (160 عاما) أي من سنة (1671 - 1830) عندما دخلت فرنسا الجزائر. وكان (الديوان العسكري) في هذه الفترة هو السلطة العليا: يعلن الحرب ويعقد معاهدات السلام. ويعين موظفي الدولة، ويحدد العلاقات بين دولة الجزائر والدولة العثمانية وبقية الدول. وهذا الديوان هو الذي ينتخب رئيس الدولة الذي يدعى (الداي) باللغة التركية، وله معنيان (الزعيم

والخال). فالداي هو رئيس الهيئة التنفيذية، وإلى جانبه مجلس وزراء يضم خمسة رجال وينتخب لمدة العمر. وكانت السلطة القضائية، مستقلة تمام الاستقلال عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، يتولى أمرها القضاة تحت إشراف المجلس التشريعي، أما النظام الداخلي (نظام البايات وشيوخ الوطن) فلم يتغير. في الوقت ذاته، انصرفت الجزائر لمتابعة الجهاد في البحر، ولم تلبث أعمال القتال (التي تحولت إلى حرب منظمة - والتي أطلق عليها اسم القرصنة) أن أصبحت المورد الرئيسي - الاقتصادي للجزائر. وكانت أعمال القرصنة من الأمور المتعارف عليها، وكانت إنكلترا - بعد إسبانيا والبرتغال - من الدول التي تشجع على القرصنة، غير أن الجزائر أفادت من موقعها، ومما توافر لها من القدرات لتطوير أعمال الجهاد في البحر، فغنم الجزائريون خلال حروبهم البحرية مع أوروبا أكثر من ثمانمائة سفينة محملة في الفترة من سنة 1613 حتى سنة 1621 (أي بمعدل مائة سفينة في السنة) وهذا تفصيلها: (447 سفينة هولاندية و193 سفينة إفرنسية و120 سفينة إسبانية و60 سفينة إنكليزية و56 سفينة ألمانية) هذا بالإضافة إلى السفن الصغيرة التي كان المجاهدون الجزائريون يغنمونها أثناء إغارتهم المتواصلة على السواحل الإسبانية، والسواحل الإيطالية. فكانت منازل مدينة الجزائر ومخازخها المخصصة لإيواء الأسرى المسيحيين في انتظار افتدائهم تضم أكثر من ثلاثين ألف أسير يعودون إلى جنسيات مختلفة. وكان الأسطول الجزائري المحارب يتكون خلال تلك الفترة من مائة سفينة، وكان عدد رجال البحر من الجزائريين يبلغ الثلاثين ألف رجل. كانت إنكلترا أقل الدول البحرية تأثرا بالصراع البحري، ولم تكن تجارتها بعد قد تطورت مع الشرق، غير أنها أخذت في عهد (جاك

الأول) (¬1) بإعطاء مزيد من الاهتمام بعالم البحر، لا سيما وأنها لمست ما حققته إسبانيا والبرتغال من مغانم عبر غزواتها البحرية، فكان أن أطلق (جاك الأول) حرية العمل لقراصنته الذين حققوا أرباحا خيالية من خلال هجماتهم على السفن التجارية الإسبانية والبرتغالية. وفي سنة (1620م) أراد (جاك الأول) إرغام دولة الجزائر على إيقاف الحرب البحرية ضد السفن الإنكليزية، دون أن يعقد معاهدة مع الجزائر يسود بواسطتها السلام. وجاء الأسطول الإنكليزي إلى الجزائر، تحت قيادة الأميرال مانسل، وكان يحمل ألفا وخمسمائة رجل من المقاتلين، وطالب الجزائريين بتسليمه ما لديهم من أسرى الإنكليز، فرفضوا الإذعان لذلك الإنذار، وأخذ الأسطول يرمي القنابل على المرس، وحاول أخذ سفن من أسطول الجزائر، فلم يقدر على ذلك. وأنزل رجاله حوالي المدينة قصد إرهاب الجزائريين، فما استطاعوا أن ينالوا منهم منالا، ورجعوا إلى سفنهم، ثم أقلعوا إلى بلادهم دون طائل. وتكررت بعد ذلك عمليات الصراع في البحر مع السفن الإنكليزية، وكانت هذه العمليات الكثيرة والمتنوعة تدخل في إطار (أعمال القرصنة) بأكثر مما تدخل في إطار (الأعمال العدوانية ضد الجزائر). ¬

_ (¬1) جاك الأول: (JACQUES 1er) وهو جاك السادس (JACQUES D'ECOSSE) ابن ماري استيوارت الأولى. ولد في ادنبرة سنة (1566م) وأصبح ملك ايقوسيا سنة (1567م) تحت الوصاية، وأصبح ملكا لإنكلترا (1603 - 1625م). اشتهر بحروبه الدينية.

ـ[صورة]ـ الأسطول الفرنسي تحت إمرة دوكين يرمي القذائف على مدينة الجزائر

3 - الأعمال العدوانية الإفرنسية (1664 و 1682 م) اتخذت فرنسا سياسة ثابتة ضد إسبانيا وأوروبا، ودفعها ذلك إلى التحالف مع الإمبراطورية العثمانية في مناسبات كثيرة، وقد أرادت فرنسا استثمار هذا التحالف إلى أبعد الحدود، من أجل الحصول على امتيازات خاصة في المجالات التجارية مع كل دول الخلافة الإسلامية. ووافقت إستانبول على منح فرنسا (امتيازات قنصلية). ورغبت فرسا الإفادة من هذه الامتيازات لإرغام الجزائر على التعامل معها بموجبها. غير أن الجزائر رفضت باستمرار الاعتراف لفرسا بهذا الحق، وصممت على التعامل معها كدولة أجنبية في مجال التجارة، كما في مجال صيد المرجان على السواحل الجزائرية، حيث كانت هذه المجالات تنفتح في أيام السلم لتتوقف في أيام الحرب. وعندما تولى الملك لويس الرابع عشر (1638 - 1715م) حكم فرسا وانصرف لبناء عظمة بلاده، خاض مجموعة من الحروب ضد إسبانيا خاصة، وضد كل الدول المتحالفة معها. وفي إطار بناء عظمة فرنسا أيضا، أراد لويس الرابع عشر إرغام الجرائريين على الالتزام (بالامتيازات الخاصة لفرنسا في المجال التجاري) و (إيقاف أعمال القرصنة ضد السفن الإفرنسية فجهز حملة بحرية قوية واجبها احتلال موقع ممتاز على الساحل الجزائري واتخاذه قاعدة تضمن حقوق فرنسا

آ - الحملة على جيجل (1664)

المزعومة من جهة، وتساعد على التوسع الفرنسي فيما بعد. آ - الحملة على جيجل (1664) غادر الأسطول الإفرنسي قاعدة طولون في 2 تموز - يوليو - 1664م، وكان هذا الأسطول يتكون من (83) سفينة بقيادة الأميرالان (بول ودوكين) أما القوة العسكرية التي حملها الأسطول فتكونت من (8) آلاف مقاتل بقيادة (الكونت قاداني) وتولى القيادة العامة لهذه الحملة (الدوق دوبوفور). توجهت الحملة الإفرنسية إلى جزائر الباليئار حيث انضمت إليها سبع سفن من أسطول مالطا. وتابعت بعد ذلك تحركها حتى وصلت إلى أمام (جيجل) يوم 22 تموز - يوليو -. واشتبكت في اليوم التالي مع حامية المدينة بمعركة قاسية تكبد فيها الطرفان خسائر فادحة. غير أن القوات الإفرنسية نجحت في احتلال المدينة في اليوم ذاته. وشرعت على الفور بتحصين جيجل والاستعداد للدفاع عنها. وما أن بلغت أنباء سقوط (جيجل) في قبضة القوات الإفرنسية المسؤولين في الجزائر حتى أعلن الحاكم (شعبان آغا) التعبئة العامة، واستنفر المجاهدين الذين استجابوا بسرعة لنداء الجهاد. وتحرك (شعبان) بقواته نحو جيجل وقد أصطحب مدفعيته القوية، وأخذت جموع المجاهدين في الالتحاق تباعا بجيش الجزائر فترفده بالمزيد من القوة والقدرة، وفي يوم 5تشرين الأول - أكتوبر - وصل جيش الجزائر إلى المدينة، وأقام مخيمه على مسافة قريبة منها. واختار لمدفعيته المرابض المناسبة على المرتفعات، وشرع في تضييق الحصار على (جيجل). وفي يوم 25 تشرين الأول - أكتوبر - شرعت المدفعية الجزائرية بتركيز نيران مدفعيتها الكثيفة ضد الأهداف المعادية التي تم اختيارها

ب - الإغارة على الجزائر (1682م)

بكفاءة عالية. فأوقعت بالقوات الإفرنسية خسائر فادحة. وأدركت قيادة القوات الإفرنسية أنه بات من المحال الاستمرار في المقاومة والتعرض للمزيد من الخسائر، فقررت الانسحاب، وبدأت بتنفيذ ذلك تحت قصف المدفعية الجزائرية وتحت ضغط القوات المتعاظم (في يوم 31 كانون الأول - ديسمبر). وقد تم في البداية نقل (1200) جريح إلى السفن، ثم سحبت بقية القوات الإفرنسية التي تركت فوق أرض المعركة أكثر من ألفي قتيل. وقامت القوات الجزائرية بممارسة ضغط قوي حتى أمكن لها إرغام الإفرنسيين على ترك مدفعيتهم وأسلحتهم وأمتعتهم فوق ميدان المعركة (وكان من بينها مائة مدفع). وزاد من فداحة الكارثة بالنسبة للقوات الإفرنسية غرق سفينتهم (القمر - لالون) والتي كانت تحمل ألف ومائتي مقاتل غرقوا جميعا مع سفينتهم أثناء تنفيذ عملية الانسحاب. ب - الإغارة على الجزائر (1682م) أدى فشل هذه العملية إلى تصعيد الصراع ضد فرنسا، التي قررت تنفيذ عملية انتقامية ضد الجزائر عهدت بتنفيذها لقوة من (36) سفينة حربية تولى قيادتها الأميرال (دوكين). وغادرت هذه القوة الموانىء الفرنسية يوم 12 تموز - يوليو - (سنة 1682) فوصلت إلى المياه الإقليمية لمدينة (شرشال) يوم 25 من الشهر ذاته، وشرعت على الفور بقذف قنابلها على شرشال، غير أن هذه القنابل لم تحدحث خسائر تذكر، باستثناء سفينتين جزائريتين تم إغراقها في الخليج. وانتقل الأسطول بعد ذلك إلى الجزائر، فوصل مياهها الإقليمية يوم 29 تموز - يوليو - وأخذ بتنفيذ (تظاهرة قوة) رافقها إرسال إنذار للجزائر من أجل قبول المطالب الإفرنسية، غير أن الجزائر

رفضت الإنذار، فأخذ الأسطول في قذف قنابله على المدينة يوم 26 آب - أغطس - فتم إرسال (86) قذيفة، وتجددت عملية قذف المدينة ليلة (31 آب - أغطس) حيث تم قذف (114) قذيفة لم تحدث بمجموعها أكثر من خسائر طفيفة بسبب إجراء القصف من مسافة بعيدة، وتجنب الأسطول الإفرنسي الاقتراب لتجنب رمايات مدفعية القلاع الجزائرية. واستمرت أعمال القصف حتى يوم 12 (أيلول - سبتمبر) حيث عاد الأسطول الإفرنسي إلى قواعده بعد أن أدرك عقم محاولاته في تليين إرادة الجزائر المجاهدة.

القتال حول وهران - وتحريرها

4 - القتال حول وهران - وتحريرها (1705 - 1708 م) لم تتوافر الراحة للإسبانيين طوال إقامتهم في وهران، ولا عرفوا للاستقرار سبيلا، فقد أخذ العرب المسلمون على أنفسهم عهدا ألا يتركوا للغزاة فرصة إلا وأفادوا منها للاشباك معهم، فكانت هناك مجموعة من الوقائع والأيام التي يصعب حصرها. ولعل ما تركه الأدباء والشعراء من شواهد التحريض على الجهاد، واستثارة الحكام لتحرير هذا الموقع من أيدي الأعداء، هو أمر كاف للتأكيد على نقطتين أساسيتين، هما: 1 - الدور الكبير لجماهير الشعب المسلم في إرغام الحكام على الاستعداد الدائم للقتال. 2 - التصميم العنيد على تطهير أرض المسلمين من أعداء المسلمين، مهما طال أمد الاحتلال، والثقة غير المحدودة بحتمية النصر النهائي على الأعداء مهما طال أمد الصراع ومهما تخللته من هزائم أو انتكاسات (¬1). يذكر في هذا المجال - وفي معرض تاريخ تلك الوقائع والأيام - ما ¬

_ (¬1) أنظر في نهاية الكتاب - قراءات 1 - والتي تتضمن مقولات شعرية خلال مرحلتي التحريض لتحرير (وهران) ثم تجميد هذا الفتح العظيم بعد حدوثه.

قام به حاكم وهران الإسباني (دون انيقودي طوليدو) يوم خرج من وهران في شهر حزيران - يونيو - سنة 1675في محاولة للقيام بهجوم مباغت على تلمسان، غير أن الجماهير المسلمة اليقظة دوما، وقوات الجيش الجزائري المستعدة أبدا للقتال. سرعان ما أحبطت هذه المحاولة، وأرغمت القوات الإسبانية على التراجع إلى (وهران) بعد أن تكبدت خسائر فادحة. وأعقب ذلك حصار المدينة، وقصفها بالمدفعية، غير أن القوات المسلمة لم تتمكن من اقتحام (وهران) وتحريرها. (وفي سنة 1098هـ = 1686م) قاد حاكم الجزائر جيشا يضم (3) آلاف فارس وألفا من المشاة تدعمهم المدفعية بهدف فتح (وهران) التي خرج حاكمها الإسباني ومعه (8) آلاف مقاتل تدعمهم جماعة من (عرب بني عامر وجيزة). ووقع الصدام بين القوتين عند (كدية الخيار) ودارت معركة ضارية قتل فيها حاكم الجزائر (شعبان باي الزناكي) وهو يحرض المؤمنين على القتال. غير أن قوات المسلمين أرغمت القوات الإسبانية على التراجع بعد أن تركت فوق أرض المعركة (1100) قتيل. وأحكم المسلمون الحصار حول المدينة. ولم يتركوا لحاميتها فرصة لمغادرتها أو الخروج منها. (وفي السنة التالية (1687م) قاد والي الجزائر الجديد (الباي إبراهيم خوجه) جيش الجزائر وضيق الحصار على (وهران) ونصب المدافع المختلفة في مواجهة حصونها. لكن التهديد الإفرنسي لمدينة الجزائر، وتضييق الحصار عليها، أرغم جيش الجزائر على رفع الحصار والعودة لمجابهة التهديد الإفرنسي. عاد الإسبانيون للهجوم في سنة (704 1م) فغادروا تحصيناتهم

وأسوارهم، وأغاروا على المداشر والقرى العربية، ثم رجعوا إلى أسوارهم بعد أن اصطحبوا معهم (250) أسيرا عربيا. تعاظمت التحديات الإسبانية، وتعاظمت بالمقابل مقاومة الجزائريين، حتى إذا ما جاء (محمد بكداش) (¬1) واليا على الجزائر، أخذ على عاتقه قضية تحرير (وهران) (¬2) ودعمه في ذلك (باي المغرب مصطفى المسراتي - المشهور بلقب - بوشلاغم) وصهره ووزيره (اوزن حسن - أي حسن الطول). جاء (محمد بكداش) واليا على الجزائر سنة (1119 هـ = 1707 م) فكان أول ما عمله هو توحيد الجبهة الداخلية - بحسب الاصطلاح الحديث - وائتلاف قلوب الناس بإشاعة العدل ونفي المظالم وشاع في الناس عزمه على الجهاد، فأخذ القوم يستعدون لليوم العظيم استعدادا لم يسبقه مثيل، وأرسلوا إلى كل الجهات الجزائرية يستحثون القوم على الجهاد. ووصف مؤرخ عاصر الأحداث وعاينها ما حدث بالتالي: ¬

_ (¬1) محمد بكداش، ابن السيد المرتضى المرابط الناسك الصوفي، سماه (بكداس) بلسان بلده التركي، وتفسيره باللغة العربية - الحجر القاسي - كان من أعطم ولاة الجزائر بعد عروج وأخيه خير الدين بربروس، استطاع أن يوحد الشعب الجزائري حول هدف الجهاد. وجمع حوله العلماء والأدباء. وقد حفظت الأوابد كثيرا مما قيل في مدحه والإشادة بمنجزاته. (¬2) جدير بالذكر أن (وهران) تمكنت تحت حكم الإسبانيين أن تفرض سيطرتها على (89) كيلومترا مما يحيط بها من المناطق، وأخضعت القبائل التي كانت مستوطنة في هذه المناطق فكانوا يدفعون لها جزية سنوية يدعونها (الرومية) كما كان شيوخ هذه القبائل يقدمون مع الجزية رهائن من أبنائهم أو أقربائهم تحتفظ بهم السلطات الإسبانية في وهران لضمان ولائهم.

(وجاء الناس إليه من كل فج عميق، وانسلوا إليه من كل قبيل وفريق، زيادة على من عينه السلطان لذلك من عساكره، حتى أن الناس وفدوا إليه بخيامهم وعيالهم واعتكفوا عليه الليالي والأيام، ورفضوا كل شيء سواه في ذلك المقام، وأنفقوا عليه الطارف والتالد، واستطابوا لأجله الحر والبارد ... وكان طلبة العلم وحملة القرآن، هم أشد الناس مسارعة لإجابة دعوة السلطان إلى هذا الجهاد المبارك ... وكانوا بمحلة مستقلة عن غيرها -). (وبينما كانت جموع المجاهدين من رجال الشعب المجاهد، تتسارع إلى موطن الجهاد، أرسل محمد بكداش جيشا جزائريا من ثمانية آلاف وخمسمائة رجل مع سلاح كثير ومدفعية ضخمة وكميات هائلة من البارود - حتى كان ما أخرجه على يد خليفته القائد مصطفى المسراتي نحو الثلاثة آلاف وثلاثمائة قنطار). وعندما التأم شمل المجاهدين من رجال الجزائر ومن جماعات المتطوعين. بدأوا بمنازله (وهران) والتضييق عليها، وتولى (اوزون حسن) القيادة العليا، في حين أسندت إدارة العمليات إلى (الباي مصطفى بوشلاغم). في حين بقي (محمد بكداش) في الجزائر، ينظم القوات، ويرسل الدعم تلو الدعم. فيما كان رجال الدين والأئمة في المساجد يذكون نيران الإيمان في القلوب، ويدفعون بالناس إلى ساحات الشرف. ومقابل ذلك، فما أن علم الصليبيون بنوايا المسلمين، حتى أرسلوا دعما سريعا من مالطا يتكون من سبع سفن تحمل على متنها عددا من أشد المقاتلين وبعض مئات من المتطوعين الإفرنسيين. فحل هذا الدعم بمرسى وهران، وزاد من تصميم حاميتها الإسبانية على الصمود والمقاومة. بدأت القوات الجزائرية هجومها مع بداية شهر أيلول (سبتمبر) 1707م (1119 هـ) وكان أول عمل قامت به هو تدمير مجاز الماء

الذي يرد من الخارج إلى وهران، وعليه الحصن المنيع (برج العيون) حيث قام المجاهدون بحفر خندق وصل بهم إلى داخل الحصن، ودارت معكرة قاسية استطاع فيها المجاهدون طرد القوات الإسبانية وإبعادها عن (رأس الماء) وحفروا حوله الخنادق ونظموا الدفاع لإحباط كل هجوم مضاد قد تقوم به قوات العدو. ثم انتقل المجاهدون للهجوم على (برج العيون) وحفروا الملاغم لتدميره، غير أنهم فشلوا في تدميره، فهاجموه بقوة وتحت رصاص العدو وقنابله، حتى استطاعوا صعود جدران الأسوار، واقتحموها، وغلبوا أهلها عليها، وتمكنوا من احتلالها بعد معركة ضارية. وأسر المسلمون من بقايا المدافعين عن البرج (322) مقاتلا ومن أنصارهم من عرب جيذرة (60) رجلا. ووجدوا به من الجرحى (27) رجلا أمر الأمير بإرجاعهم إلى أهلهم. وغنم المجاهدون كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر والمواد التموينية. وبلغ عدد القتلى الإسبانيين (40) قتيلا. أما عدد شهداء المسلمين فقد تجاوز المائتي شهيد وغربت شمس يوم الثلاثاء 10 جمادي الآخرة 1119 هـ الموافق 8 أيلول - سبتمبر - 1707 م عن أول نصر للمسلمين في تحرير وهران. انصرف المجاهدون للتعامل بعد ذلك مع أضخم الحصون وهو (برج مرجاج الكبير) الذي كان يطلق عليه الإسبانيون اسم (برج القديس فيليب - أو الصليب المقدس - سانتا كروز) وحفر المجاهدون مجموعة من الملاغم المستطيلة وصلت إلى ما تحت البرج وشحنوها بالبارود وعرف الإسبانيون المدافعون عن البرج بأمر هذه الملاغم، وعرفوا من خلال الاشباكات المستمرة وأعمال القصف المتبادل بأنه بات من المحال الاستمرار في المقاومة، وأن المزيد من العناد لن يؤدي بالحامية الإسبانية إلا إلى التمزق والفناء عندما ستتفجر الملاغم المدمرة

لتطيح بالبرج. فأعلن الإسبانيون تسليم الحصن يوم 27 جمادي الآخرة الموافق 25 أيلول - سبتمبر - ودخل المجاهدون المسلمون، فأسروا بقايا الحامية الإسبانية وعددهم (107) رجال و3 نسوة. بالإضافة إلى كميات هائلة من الأسلحة والذخائر والمواد التموينية. تعاظمت ثقة المجاهدين بأنفسهم وبقدرتهم على حسم الصراع بعد إحرازهم لانتصارين متتاليين، فنقلوا ثقل هجومهم ضد أمنع حصون وهران وأكثرها تحصينا وقوة، وهو حصن (برج بن زهو) غير أن الهجوم مني بالفشل، وتكبد المجاهدون خسائر فادحة. فأعاد المجاهدون تنظيم قواتهم وكرروا هجماتهم المتتالية طوال ثمانية أيام. ودافعت الحامية الإسبانية عن مواقعها بثبات كبير، وكبدت المجاهدين الخسائر الكبيرة مع كل هجوم يتم إحباطه. وحاولت الحامية الإسبانية بعد ذلك مغادرة تحصيناتها ومجابهة قوات المسلمين في معركة تصادمية جبهية انتصر فيها المسلمون، وأرغموا الإسبانيين على التراجع إلى ما وراء تحصيناتهم. وعند ذلك شرع المجاهدون في حفر الملاغم تحت الحصن. وكانت الأرض تحته صخرية صلدة مما تطلب بذل جهد كبير وتضحيات كثيرة حتى أمكن إنجاز الملاغم وحشوها بالبارود وتفجيرها، غير أن ذلك لم يؤثر تأثيرا كبيرا على الحصن، فأعيدت المحاولة مرة ثانية، ولم تكن النتيجة أفضل بكثير من سابقتها، وجاءت المحاولة الثالثة محققة للهدف، فانفجر البرج، وتداعت صخوره، واقتحمه المجاهدون، واشتبكوا مع حاميته التي صممت على متابعة الصراع المسلح حتى النهاية التي جاءت بالقضاء على مجموع أفراد الحامية، وإبادة أفرادها البالغ عددهم (120) مقاتلا، بحيث لم يأسر المسلمون أكثر من ثمانية أسرى، وخسر المسلمون نحو المائتين من الشهداء. وانتهى المسلمون من تطهير الحصن واحتلاله يوم الخامس

من شعبان (الموافق تشرين الثاني - نوفمبر). وبقي على قوات المسلمين اقتحام آخر القلاع، وأكثرها منعة وأضخمها بناء وأعلاها جدارا، وهي قلعة (البرج الجديد) الذي تبرعت ببنائه سيدة إسبانية (ابتغاء مرضاة السيد المسيح - وكلفها ذلك مبلغا كبيرا من المال). وأمام هذا الموقف اضطر المسلمون للإحاطة به بمجموعة من المراكز الصغيرة التي أطلق عليها اسم (المتاريس - المتارز) والتي امتدت من ناحية (عين جندرة) حتى (شعبة الدجاج) وراء (البرج الجديد). ثم انتشرت هذه (المتاريس) إلى أرباض المدينة حتى أصبحت معقلا دفاعيا واحدا. وأخذ المجاهدون في استخدام المتاريس لتدمير المقاومات في المدينة، واستنزاف قدراتها، وصار رصاص بنادق المجاهدين يصل إلى أفراد الحامية الإسبانية وهم في عقر منازلهم. وبات من المحال عليهم الانتقال من مكان إلى مكان آخر، فاضطروا إلى ثقب جدران المنازل ووصل بعض ببعض عن طريق هذه الثغرات، وأثناء ذلك أخذ المجاهدون في التسلل إلى أطراف المدينة والتوغل فيها والاشتباك مع أفراد الحامية المدافعة عنها. حتى وصلوا إلى كنيسة (سانتا ماريا) فدمروا أصنامها، وصار قسم المدينة الموجود ما بين البرج الجديد والبرج الأحمر بين يدي المجاهدين. وأخذ الإسبانيون في نقل أمتعتهم وممتلكاتهم إلى (المرسى الكبير). وبقيت الحامية الإسبانية المدافعة عن (البرج الجديد) صامدة في مواقعها، ولم يتمكن المجاهدون المسلمون من اقتحامه، غير أن تطور الصراع في المدينة أقنع قائد الحامية في البرج الجديد بعقم الاستمرار في المقاومة، فخرج يحمل راية الاستسلام، واتفق مع القائد العام الجزائري على إيقاف الاقتتال حول البرج، فإن تمكن المجاهدون من احتلال مدينة وهران، استسلم لهم البرج مع استسلام المدينة. ونقل المجاهدون ثقل

هجومهم نحو (البرج الأحمر) آخر أبراج المدينة، ودارت مجموعة من الاشتباكات والمعارك التي تكبد فيها الطرفان المتصارعان خسائر كبيرة بدون الوصول إلى الحسم، وأخيرا، قرر المسلمون القيام بهجوم عام جبهي، تدعمه المدفعية بنيرانها الكثيفة، ونجح هذا الهجوم في اقتحام البرج يوم 14 تشرين الثاني - نوفمبر - واضطر بقية أفراد الحامية إلى الاستسلام. وعند هذه المرحلة، عرف الحاكم الإسباني العام (دون ملشور دي أفيلانيدا) أنه لم يبق ثمة أمل في المحافظة على المدينة أو الدفاع عنها؛ فاستقل سفينة نقلته إلى المرسى الكبير، ليغادرها بعد ذلك متوجها - إلى بلاده - إسبانيا. وتدفقت حشود المجاهدين إلى المدينة، بعد أن تم إسكات كل حصونها، وحفروا الملاغم تحت قصبتها، واقتحموها، فوجدو أن بقية أفراد الحامية الإسبانية قد هربت إلى المرسى الكبير. ولم يجدوا فيها إلا مجموعة من الرجال العجزة، وبعض (المغطسين) من الأعراب الذين وقفوا إلى جانب الإسبانيين، فتمت إبادتهم. وتبع ذلك استسلام (البرج الجديد) فوجد فيه المجاهدون أربعمائة مقاتل تم أسرهم علاوة على ما غنمه المسلمون من محتويات البرح وأسلحته. وكان مجموع الأسرى الذين وقعوا في قبضة المسلمين (ألفي أسير) بينهم (مائتي ضابط من كبار الضباط) والموظفين وجماعة من متطوعي مالطا والإفرنسيين الذين اقتيدوا إلى مدينة الجزائر. وأصبح (المرسى الكبير) هو الملجأ الذي انضمت إليه فلول الحامية المدافعة عن وهران، فتم بذلك تدعيم حامية المرسى بالمزيد من القدرة القتالية، التي كان باستطاعتها الإفادة من التحصينات الدفاعية والأسوار من أجل القيام بالمزيد من الصمود والمقاومة. ورفض المجاهدون المسلمون إحراز نصر منقوص، فقرروا عده

إضاعة الوقت، والانتقال بقوات الهجوم لتحرير (المرسى الكبير) وهكذا فما أن فرغ المجاهدون من استعادة وهران وتحريرها حتى نقلوا معسكرهم إلى جوار المرسى وأحكموا الحصار حوله. ولم تكن معركة المرسى الكبير هينة، ولم تكن عملية إنقاذه بالأمر السهل. فقد ركز الإسبانيون دفاعهم عنه، وعملوا على تحصينه طوال فترة احتلالهم له (1505 - 1708) فكان المرسى الكبير هو أول موقع قاموا باحتلاله، وكان آخر معقل خاضوا معركه للاحتفاط به. خاض الطرفان المتصارعان (المسلمون وأعدائهم) مجموعة من المعارك الضارية اشترك فيها الجميع من الطرفين، الرجال والنساء وحتى الأطفال، وأمكن تبادل المواقع أكثر من مرة، حيث كانت راية النصر تنتقل نوبا بين الطرفين، وقام المسلمون بحفر الملاغم تحت حصن المدينة الأكبر وإجراء التفجير مرات متتالية دونما نتيجة تذكر حتى جاء يوم (24 محرم الحرام 1120 هـ الموافق 16 نيسان - أبريل - 1708م) حيث استطاع المجاهدون المسلمون اقتحام المدينة، ودارت معركة ضارية في الشوارع والمنازل، إلى أن أمكن إبادة المقاومات الإسبانية واستسلم بقية أفراد الحامية - وعدد أفرادها (1461) إسبانيا. أما جماعة المغطسين (من الكلمة الإسبانية موقاتاز) أي الأعراب أنصار الإسبانيين فقد تمت إبادتهم ونهبهم وسبيهم - غير أن الفقهاء احتجوا على ذلك لأنه مخالف للدين. انصرفت وهران لتضميد جراحها. ولم تمض عليها فترة طويلة حتى عاد أهلوها وعملوا على إعمارها لتعود منارة للإسلام في المغرب العربي الإسلامي، وعاصمة للإقليم (بايليك). وأرسل الداي (محمد بكداش) مفاتيح وهران الذهبية الثلاثية هدية إلى السلطان العثماني (أحمد) بشارة بالفتح، واعترافا بفضل الخلافة الإسلامية في تقديم

الدعم والمساندة. وترددت أصداء هذا النصر العظيم قوية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، ففرح لها المسلمون في كل مكان، وكانت فرحة الجزائر المجاهدة أكبر من كل وصف. فقد تمكنت بجهدها وتضحياتها من طرد الأعداء عن ترابها، فكانت فرحتها بالنصر معادلة لما قدمته من الجهد والتضحيات.

ـ[صورة]ـ رسم إسباني لمدينة وهران والمرسى الكبير

الإسبانيون يعودون إلى وهران

5 - الإسبانيون يعودون إلى وهران (1732 م) أذاع ملك إسبانيا (فيليب الخامس) (¬1) منشورا ملكيا يوم 6 حزيران (يونيو) 1732 م (1145هـ) أخذته كل مراكز البلاد الغربية وعملت على توزيعه والدعاية له، وتضمن المنشور ما يلي: (قضت إرادتنا الملكية ألا نترك خارج دائرة كنيستنا المقدسة، وديانتنا الكاثوليكية، أي جزء من أجزاء الأرض التي كانت العناية الإلهية قد وضعتها تحت سلطاننا، عندما اقتضت وضعنا على عرش هذه المملكة، والتي تغلب عليها الأعداء بكثرة عددهم، وأخذوها منا، وأخرجوها عن طاعتنا بواسطة العنف والاحتيال. إننا لم نترك قط التفكير في استرجاع تلك الأجزاء المقتطعة، إنما حالت الأحداث المؤلمة بيننا وبين تحقيق أملنا في ذلك الاسترجاع، فلم نتمكن قبل اليوم من تجهيز القوى العظيمة التي وضعتها العناية الإلهية تحت تصرفنا. واليوم، وعلى الرغم من أننا لم نتخلص بصفة تامة من تلك الأحداث المؤلمة، فقد صممت على أن أبادر باسترجاع مركز (وهران) ¬

_ (¬1) فيليب الخامس: (PHILLIPPE 7) الحفيد الأصغر للملك الإفرنسي لويس الرابع عشر، ولد في فرساي سنة 1683م. وأصبح دوق أنجو في أول الأمر، ثم أصبح ملكا لإسبانيا (1700 - 1746م) وبسببه حدثت حرب الوراثة الإسبانية، وقد حاول أن يعيد لإسبانيا عظمتها، غير أنه لم يفلح كثيرا في ذلك.

ذي الأهمية العظمى والذي كان فيما مضى محط آمال، ومظهر قيمة التقوى المسيحية والأمة الإسبانية. ولقد رأيت أن بقاء وهران تحت سلطان المتوحشين الأفارقة، إنما هو عائق عظيم يحول بيننا وبين نشر ديانتنا المقدسة. كما أنه باب مفتوح يواجه إسبانيا، ويهدد سكانها الساحليين بالغزو والاسترقاق. ... ومن أجل ذلك، قررت بأن أجمع في مدينة (اليقنت) (¬1) جيشا يضم ثلاثين ألفا من الرجال والفرسان، مع كل ما يلزمهم من الأسلحة والمؤن والمدفعية، وكل الآلات والمعدات اللازمة لمثل هذه المعركة الحاسمة. وعينت لقيادة هذه الحملة (الكونت دي موتيمار) ومعه مجموعة من القادة والضباط الذين تتوافر لهم الخبرة والشجاعة، مما يجعلنا نأمل بفوز مجيد في هذه العملية. ولقد جمعت بأمري في المكان ذاته عددا عظيما من السفن المختلفة الأنواع والأشكال، تحرسها سفن الأسطول الكبيرة والصغيرة، لحمل هذه الجيش العظيم حالا من أجل استرجاع مدينة وهران. وبما أن مثل هذه الحملة لا يمكن أن تنجح ما لم تكن مؤيدة بعناية الله، فقد أصدرت أوامري، لجميع ممالكي، بأن تقام في كل مكان صلوات عامة ابتهالا إلى الله، من أجل تحقيق النصر لجيشنا في هذه المهمة العظيمة) (اشبيليا 6 حزيران - يونيو - 1732م). لقد عبر مضمون بيان (الملك فيليب الخامس) عن مدى المرارة التي نزلت بالإسبانبين نتيجة طردهم من (وهران). كما يعبر عن مدى الأهمية التي كان يعلقها الإسبانيون على امتلاكهم لهذه القاعدة في حربهم ضد الإسلام والمسلمين. ولقد تم تحرير وهران في الفترة التي كانت تخوض فيها إسبانيا ومعها أوروبا كلها تقريبا - حرب الوراثة ¬

_ (¬1) أليقنت: (ALICANTE) مدينة إسبانية تقع على البحر الأبيض المتوسط ولها ميناء كبير

الإسبانية (1701 - 1714) وهي الحرب التني خرجت فيها إسبانيا وهي محرومة من معظم مستعمراتها فيما وراء البحار -لمصلحة إنكلترا - ولهذا، فقد اتجه تفكير فيليب - منذ أن تم له الاستقرار على ملك إسبانيا بالعودة إلى (وهران) وفتحها من جديد، وأمضى في الاستعداد لهذه الحملة زهاء عشرين سنة تقريبا. وفي النهاية، أمكن له حشد قوات صخمة تكونت من: (30 ألف مقاتل و525 سفينة من سفن النقل والسفن الحربية و720 مدفعا و16420 قنبلة، و56 ألف قنبلة يدوية و80693 قذيفة مختلفة و12427 قنطارا من البارود و8 آلاف صندوق لرصاص البنادق و12 ألف بندقية ومليوني وجبة طعام لأفراد الجيش علاوة على وسائط الحصار وبقية المتطلبات) (¬1) وعندما تم حشد كل هذه المتطلبات، أطلق ملك إسبانيا بيانه، وأصدر أمره إلى الحملة بالتحرك إلى هدفها. وأقلع الأسطول الإسباني من خليج (أليقنت) يوم 15 حزيران - يونيو - 1732 فوصل بعد عشرة أيام إلى المياه الإقليمية لمدينة وهران، غير أن الرياح المعاكسة أعاقته عن الاقتراب من الساحل، فبقي يقوم بمناوراته على امتداد الساحل حتى يوم 29 حزيران - يونيو - حيث تم له الاقتراب من وهران. اختار الإسبانيون لنزولهم ساحة (عين الترك) على بعد خمسة عشر كيلو مترا إلى الغرب من وهران. ولم تكن القوة الإسلامية المدافعة عن الإقليم كافية لإيقاف عملية الإنزال أو تعطيلها. فأمكن للقوات الإسبانية إنزال قواتهم وأعتدتهم الثقيلة دونما عناء كبير. وأثناء ذلك استمرت الاشتباكات بين القوات الإسلامية الجزائرية وبين قوات العدوان على الرغم من قلة عدد المجاهدين المسلمين الذين لم ¬

_ (¬1) المرجع - تقرير الحملة في (حرب الثلاثمائة سنة) أحمد توفيق المدني - ص 475 - 476.

يلبثوا أن تلقوا بعض الدعم من حامية وهران مع شيء من المدفعية، فصارت أكثر قدرة على تكبيد القوات الإسبانية المزيد من الخسائر. وأرسلت القوات الإسبانية فرقة لمجابهة هذه الكتائب الجزائرية، فاشتبكت معها في القتال، وتقدمت شيئا فشيئا إلى أن تمكنت من مشاهدة مركز التجمع الإسلامي، القليل العدد والذي كان يمتد على طول الجبل المشرف على ميدان المعركة. انقضت حينئذ كتيبة من المجاهدين تشمل نحو الألفي رجل، بين مشاة وفرنسان، على الميمنة الإسبانية، فتمكنت من احتلال مرتفع تقع تحته عين يستقي منها جند العدو، فحالت بينه وبين الماء. لكن القائد الإسباني أصدر أمره في الساعة الرابعة من عشية يوم 29 حزيران - يونيو - إلى فرقة كبيرة من المشاة، ومعها أربعمائة فارس، بمهمة التصدي لهذه الكتيبة، العربية المسلمة، والقيام بحركة التفاف لقطع خط تراجع الكتيبة، غير أن هذه الكتيبة لم تقع في الكمين وانسحبت إلى المرتفعات التي كانت قاعدة لمجموع القوى الإسلامية. وأمضت القوتان المتصارعتان الليل في الاستعداد للمعركة، وما كادت تشرق شمس يوم 30 حزيران - يونيو - حتى كانت ميسرة الجيش الإسباني قد التحمت في معركة ضارية مع المجاهدين قتل فيها قائد القوة الإسباني الذي كان يدير المعركة. وعندما رأت قيادة الإسبانيين أن ضغط القوات الجزائرية قد اشتد ضد الميسرة، أمرت بأن يتحرك الجيش كله ضد المراكز الجزائرية، وانطلق الهجوم الإسباني بقوة وعنف فامتد أفق المعركة ليشمل الجبهة المواجهة بكاملها. ولم تصمد قوات المسلمين لثقل هذه الهجمة، فتراجعت عن مواقعها لتحتل مواقع جديدة على جانبي فج عميق يتحدر من الجبل، وهو ممر الجيش الإسباني، وأخذوا في توجيه نيرانهم ضد القوات الإسبانية، وأوقعوا

فيها خسائر فادحة. لكن القوات الإسبانية أفادت من تفوقها العددي فتمكنت من دحر قوات المجاهدين التي اضطرت من جديد إلى التراجع والاعتصام بمواقع أخرى تقع إلى الخلف من سابقتها في عمق الجبال. وأصبح باستطاعة القوات الإسبانية الإشراف من مواقعها على مدينة (المرسى الكبير). كان الباي الشيخ (مصطفى بوشلاغم) فاتح وهران وأميرها منذ سنة (1707م) قد استعد للدفاع بما توافر له من القوى والوسائط. وتجمع حوله ما يزيد على العشرين ألفا من المجاهدين من رجال الشعب، بالإضافة إلى قوة الجيش المكونة من (2500) مقاتل، وكانت وهران مسلحة بما يزيد على (138) مدفعا منها 87 مدفعا من البرونز. وقد عمل على توجيه جزء من هذه القوة لمقاومة الإسبانيين في منطقة الإنزال (عين الترك) وعندما تطورت المعركة جمع (مصطفى بوشلاغم) قادته وأعاد تقدير الموقف على أساس التفوق الإسباني فتقرر الانسحاب من مدينة (وهران) وإخلاءها من سكانها ومن الحامية المدافعة عنها. على أن تستمر المقاومة فيما وراء المدينة، ريثما تتوافر قوات دعم كافية لاستعادة المدينة وخرج الباي ورجال الإدارة وأمتعتهم وأموال الحكومة - على مائتي بعير - وتبعهم السكان. ولم يكن عددهم حينئذ كبيرا، ودخل الإسبانيون يوم أول تموز - يوليو - المدينة فكانت مدينة مهجورة، خالية من كل حياة. وكان داي الجزائر (عبدي باشا) قد أرسل دعما سريعا من الجزائر يتكون من ألفي رجل تحت قيادة ابنه، غير أن هذا الدعم وصل متأخرا، حيث كانت القوات الإسبانية قد دخلت المدينة، فانضم هذا الدعم إلى قوى المجاهدين التي طوقت المدينة من كل جهاتها. وما كاد نبأ سقوط المدينة يصل إلى الجزائر حتى هيمن عليها

الغضب، واعتزل الداي - الذي كان قد بلغ الثامنة والثمانين من عمره - ولم يلبث أن قضى نحبه حزنا. كانت حامية وهران قد تركت في المدينة عند انسحابها كامل مدفعيتها، ولم تحمل معها إلا أسلحتها الخفيفة، ورابطت في الجبال المهيمنة على المدينة، وأخذت في تضييق الحصار عليها، فلم يتمكن الإسبانيون من التحرك بعيدا عن المدينة، ولهذا عملوا على إعادة معظم قواتهم إلى إسبانيا تاركين في وهران والمرسى الكبير حامية قوية وكافية للدفاع عنهما. واستمرت الاشتباكات العنيفة طوال سنة قريبا. وكان من أبرزها معركة يوم 4 تشرين الأول - أكتوبر - حيث تمكن المجاهدون من عزل حصن (سانتا كروز) بحيث لم يتمكن الإسبانيون من إمداده إلا بعد معركة ضارية تكبدوا فيها خسائر فادحة. وفي يوم 4 تشرين الثاني - نوفمبر - هاجم المجاهدون المدينة ووصل الباي (مصطفى بوشلاغم) على رأس فرقته إلى أبواب المدينة، والتحم مع الإسبانيين في معركة ضارية استشهد خلالها ابنه. وفي يوم 12 تشرين الثاني - نوفمبر - اندلعت نيران معركة جديدة، قتل فيها المركيز (دي سانتا كروز) وعدد كبير من أفراد الحامية الإسبانية. وفي سنة (1733 م) قام المجاهدون يوم 10 حزيران - يونيو - بهجوم عنيف على المدينة، وقتل القائد الإسباني (دي ميروسنيل) ومعه عدد كبير من أفراد الحامية الإسبانية. وقام (مصطفى بوشلاغم) بقيادة هجوم جديد في سنة (1734 م) ضد (مركز العيون) حول وهران، ووصل إلى أبواب المدينة، غير أنه لم يتمكن من احتلالها. وهكذا بقيت (وهران والمرسى الكبير) تحت حصار محكم، وتحت التهديد الدائم بالحرب طوال خمسين عاما، إلى أن تم تحريرها نهائيا في سنة (1791م).

تبادل الأسرى والمعركة البحرية أمام الجزائر

6 - تبادل الأسرى والمعركة البحرية أمام الجزائر (1773 م) حاولت إسبانيا بعد استيلائها على وهران والمرسى الكبير الوصول إلى سلم مع الجزائر، غير أن هذه رفضت الدخول في أية تسوية سلمية طالما بقيت القوات الإسبانية فوق أرض الجزائر. واستمرت المفاوضات فترة طويلة، تتوقف فترة لتستأنف في مرحلة لاحقة. وأمكن في النهاية الوصول إلى اتفاقية لتبادل إطلاق سراح الأسرى فقط، وعقدت الاتفاقية الأولى في شهر تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1768 م. واشترط الجزائريون أن تطلق إسبانيا جميع من لديها من أسرى المسلمين مقابل إطلاق سراح الأسرى الإسبانيين الموجودين في الجزائر فقط. وبموجب هذا الاتفاق أطلقت إسبانيا سراح (1200) أسير مسلم مقابل (712) أسير إسباني. وأعيد تطبيق هذه الاتفاقية ذاتها في سنة 1773، واشترطت الجزائر في هذه المرة إطلاق سراح أسيرين مسلمين مقابل كل أسير إسباني، وبذلك أطلقت إسبانيا (1106) أسيرا من المسلمين - هم كل من كان لديها - مقابل إطلاق الجزائريين سراح (570) أسيرا من الإسبانيين. ظنت الإدارة الإسبانية بعد ذلك، أن الظروف قد باتت مناسبة لها لتوجيه حملة هدفها تدمير مدينة الجزائر وإخضاعها، إذ كانت الدولة الجزائرية في حال حرب مع معظم الدول الأوروبية، وكان الأسطول

الجزائري منتشرا في عدد كبير من قواعد البحر الأبيض المتوسط. ووضعت الإدارة الإسبانية مخطط عملياتها على أساس تحقيق الأهداف التالية: 1 - مهاجمة الجزائر بحرا بواسطة قدرة بحرية كافية. 2 - تدمير السفن الجزائرية التي تكون راسية بالميناء - المرسى -. 3 - تدمير حصون مدينة الجزائر وقلاعها. 4 - فرض الشروط المناسبة لإسبانيا على حكومة الجزائر. وأخذت الإدارة الإسبانية بعد ذلك في حشد أسطولها البحري في مدينة قرطاجة الإسبانية، فتجمعت (76) سفينة حربية، أسندت قيادتها للأميرال (أنطونيو - باركلو). تلقى داي الجزائر (محمد عثمان باشا) إعلاما من ملك المغرب (السلطان محمد بن عبد الله) في شهر أيار (مايو) 1773 م (1187 هـ) يعلمه بتجمع الأسطول النصراني واستعداده لمهاجة الجزائر - خلال فترة وجيزة - فشرع (داي الجزائر) بالاستعداد لمجابهة العدوان في البر والبحر، وشملت استعداداته: 1 - تجميع القوات في الجزائر، واستقدام القوات من داخل البلاد، فجاء من ولاية قسنطينة (بايليك) (25) ألفا ومن ولاية معسكر (20) ألفا ومن ولاية تيطري (5) آلاف. 2 - إخراج السكان المدنيين من مدينة الجزائر ومعهم أمتعتهم وثرواتهم إلى حدائق النزهة في ظاهر المدينة. 3 - إرسال الأسرى المسيحيين فورا - وعددهم 1548 أسيرا - إلى مدينة المدية. 4 - الشروع فورا ببناء سفينتين مسلحتين بالمدفعية القوية لدعم الأسطول البحري (العمارة).

غادر الأسطول الإسباني قواعده في شهر تموز (يوليو) 1773 - وأصبح لزاما على الأسطول الجزائري المكون من (25) سفينة، مجابهة أسطول العدو المتفوق بمعدل ثلاثة أضعاف تقريبا. وصل الأسطول الإسباني إلى المياه الإقليمية لمدينة الجزائر يوم 29 تموز (يوليو) واصطفت سفنه في مواجهة المدينة استعدادا للانقضاض عليها وقصفها، فرفعت الحصون الجزائرية على الفور أعلامها، وبادرت سفن العدو بإطلاق النار عليها. وفي يوم 30 تموز - يوليو - غادرت مرسى الجزائر بعض السفن، وسارت متحدية الأسطول الإسباني الذي اشتبك معها بالنيران، غير أنه لم يتمكن من إصابتها بسوء، واستمر تبادل إطلاق النار بين القوتين. قامت مدفعية الأسطول الإسباني بقذف قنابلها على الميناء - المرسى - يوم 1 - آب - أغسطس - وردت عليها بطاريات الحصون برمايات كثيفة ومركزة. وخرجت عوامتان جزائريتان تجرهما القوارب، فاقتربتا من الأسطول الإسباني، وألقتا عليه ما كانتا تحملانه من القنابل، ثم رجعتا إلى المرسى سالمتين، ثم خرجتا مرة ثانية، ومعهما سفن أخرى، وهاجمت هذه القوة الأسطول الإسباني، ثم رجعت سالمة، وخسر الجزائريون 8 - 10 شهداء بينهم وزير الحرب. وفي يوم 2 آب - أغسطس - فتحت حصون الجزائر نيرانها ولم ترد عليها مدفعية الأسطول الإسباني إلا بعد ساعتين تقريبا. ثم خرجت قوة بحرية جزائرية لمهاجمة الأسطول المعادي، واشتبكت معه بنيران المدفعية، فيما كانت مدفعية الحصون تتابع قذف الأسطول الإسباني باستمرار حتى الساعة (16،00) مساء، فتوقفت المدفعية الإسبانية،

وأوقفت المدفعية الجزائرية عملية القصف بعد ذلك بربع ساعة. وأثناء ذلك أصابت قنابل الإسبانيين بعض منازل المدينة، كما نزلت قذيفة بدار الحكومة (قصر الجنينة). وتجدد القتال يوم 4 آب - أغسطس - وخرجت السفن الجزائرية، وهاجمت الأسطول الإسباني وأصلته نارا حامية، وكان ضرب بطاريات الأرض - الجزائرية - قويا جدا، كما كان قصف الأسطول الإسباني أشد قوة من كل الاشباكات السابقة. ظهرت ريح قوية شرقية - يوم 5 آب - أغسطس - وانتشرت غيوم الضباب الكثيف، فأعاقت حدوث اشتباكات قوية. وفي المساء أمكن تبادل القذف المدفعي. ودعم الجزائريون قواتهم بوضع مدافع إضافية. وتقدمت السفن الإسبانية يوم 6 آب - أغسطس - فاصطدمت بسفن الأسطول الجزائري، وتبادلت القوتان أعمال القذف. واشتركت مدفعية الحصون بدعم الأسطول الجزائري. ورجمت السفن الإسبانية في الساعة (18،00) إلى مركز التجمع بعد أن أصابت قنابلها بعض منازل المدينة فدمرتها. وأصيبت سفينة جزائرية فاحترقت، غير أن بقية السفن أنقذتها. وقتل في معركة هذا اليوم وجرح (30) رجلا. كما غرقت سفينة استطلاع جزائرية (جوالة) وغرق قائدها. وفي يوم 7 آب - أغسطس - اتخذت السفن الإسبانية مواقعها للقتال وتقدمتها سفينتان لرمي المدفعية، فتصدى لها الأسطول الجزائري، واشتبك معها بالنيران لمدة ساعتين، ثم انسحبت السفينتان الإسبانيتان. واستؤنف القتال في المساء. وأصيبت بارجة إسبانية كانت تحتل أقصى موقع في تشكيل المعركة، فانفجرت وصدر

عنها دوي هائل، وعندما تقشعت سحب الدخان، تبين أنه لم يعد هناك أثر لهذه البارجة، وتوقفت المعركة، وعادت سفن الطرفين المتصارعين إلى مراكزها. ثم ألقى الإسبانيون عددا من القنابل على المرسى (الميناء) يوم 8 آب - أغسطس - غير أن هذه الرمايات لم تكن محكمة، وسقطت بعيدا في البحر. استعد الأسطول الإساني للانسحاب يوم 9آب - أغسطس - واتجه نحو الشمال. ومرت سفينة الأميرال الإسباني أثناء انسحابها على مسافة قريبة جدا من الحصون الجزائرية، فحيتها الحصون الجزائرية بطلقتي مدفع (بالبارود وبدون قذائف). انتهت هذه المعركة بفشل 9 هجمات إسبانية، وأطلق الجزائريون خلالها (15) ألف قذيفة من قذائف مدفعيتهم. وخسر المسلمون في هذه الهجمات مائة شهيد بالمرسى ولم يعلن الإسبانيون عدد قتلاهم، وخاصة ضحايا السفينة البارجة التي غرقت. أما بالمدينة، فقد كان عدد القتلى نحو الثلاثمائة. وتم أيضا تدمير ثلاثمائة منزل تقريبا. وبلغ عدد القنابل التي قذفها الإسبانيون على الأسطول الجزائري وعلى المدينة أكثر من (750) قنبلة وقذيفة من عيارات مختلفة.

ـ[صورة]ـ الوالى الجزائري يشرف على مرعكة بحرية أمام مدينة الجزائر

الجزائر تدمر الحملة الإسبانية الكبرى

7 - الجزائر تدمر الحملة الإسبانية الكبرى (1775 م) لم يكن استيلاء إسبانيا على وهران والمرسى الكبير غير مرحلة في أحلام الملوك الإسبانيين للتوسع عبر المغرب العربي - الإسلامي. وكان هذا الاحتلال لوهران محدود القيمة، محدود الأهمية، ما لم يصل إلى الجزائر ذاتها، ولكن الظروف لم تكن مناسبة لتطوير هذا الاحتلال، لا سيما بعد تلك المقاومة الضارية التي قدمتها الجزائر لحصار الحامية الإسبانية في وهران والمرسى الكبير والتضييق عليها، حتى إذا ما جاء (شارل الثالث) (¬1) حاول السير على أثر أسلافه، فجهز حملة قوية تكونت من: (22600) مقاتل و (مائة مدفع ضخم من مدفعية الحصار) و (44) سفينة حربية و (344) سفينة نقل، بالإضافة إلى وسائط القتال الأخرى والذخائر والمواد التموينية، وعندما انتهت الاستعدادات تولى (الكونت أوريلي) قيادة الحملة وتوجه بها إلى الجزائر في شهر حزيران - يونيو - 1775م. ووصلت سفن الحملة إلى مياه الجزائر مع بداية شهر تموز - يوليو -. ¬

_ (¬1) شارل الثالث: (CHARLES III) ابن فيليب الخامس، ولد سنة 1716، وأصبح ملكا على إسبانيا سنة 1759، ووضع النظام المشهور باسمه في سنة 1771 م وهاجم الجزائر سنة 1775 وتوفي سنة 1788 م. وتولى الحكم بعده ابنه باسم شارل الرابع.

وقرر (الكونت أوريلي) قائد الحملة إنزال قواته عند فجر يوم 3 تموز (يوليو) فوق أرض الساحل الواقع إلى الجنوب من (وادي الحراش). وطلب إلى قائد الأسطول (الأميرال مازاريدو) دعم الإنزال بمدفعية الأسطول للرمي على منطقة الإنزال، كما أمر بأن يتم إنزال 12 قطعة مدفعية عيار (4) و12 قطعة مدفعية عيار (8) وثمانية مدافع عيار (12) وذلك مع إنزال الأفواج الأولى من قوات الغزو. وتقرر اقتراب سفن الإنزال إلى أقرب نقطة من الساحل. وحددت مهمة كل سفينة حربية ومجموعة سفن النقل المرافقة لها. غير أنه تبين صعوبة الإنزال يوم 3 تموز (يوليو) فتقرر تأجيل تنفيذ العملية إلى اليوم التالي. وهبت رياح قوية جدا صبيحة يوم 3 تموز (يوليو) فأصبح من المحال تنفيذ عملية الإنزال بسبب هياج البحر. وفي مساء هذا اليوم ذاته، جمع القائد العام للحملة هجئة أركانه فتقرر إنزال القوات عند خليج (مالا موجير) الواقع غرب رأس كاكسين (غربي الجزائر بمسافة عشرين كيلومترا تقريبا). وحددت السفن المخصصة لهذا الإنزال وسفن الدعم التابعة لها. ونفذت البحرية ما هو مطلوب منها وأصدر قائد الأسطول (الأميرال مازاريدو) أوامره بإقلاع السفن، وفق التنظيم التالي: ... تتحرك السفن تحت قيادة القائد العام، وتكون وراءه اسفغن ناقلة الجيش، تليها السفن ناقلة الفرنسان وآلات الحرب والعتاد والمؤن. وتتقدم السفن إلى أقرب نقطة من الساحل حتى تتمكن قوات الغزو من النزول بسرعة والسير فورا نحو المرتفع الذي تعلوه قلعة السلطان (برج بوليلة) المشرفة على الجزائر، وتحتل البطاريات الجزائرية الموجودة هناك .. غير أنه ما أن هبط ظلام الليل، وأزفت الساعة المحددة لإعطاء

الأوامر بالتحرك، حتى كانت الريح قد أخذت في الاتجاه نحو الشرق، واهتاج البحر واضطرب، فحال ذلك دون تنفيذ عملية الإنزال. وعقد قائد الحملة من جديد مؤتمرا لهيئة أركانه، فتقرر تعديل مخطط الإنزال، والعودة لإنزال القوات عند المكان الذي تم اختياره من قبل (إلى الجنوب من وادي الحراش) على أن تنفذ العملية يوم 7 تموز - يوليو - وانصرف قائد الأسطول لوضع المخطط النهائي بنقل الجند، وتعيين السفن المكلفة بالتنفيذ، بحيث يتم إنزال (7700) رجل في موجة الإنزال الأولى ثم تليها الموجة التالية المكونة من (700) رجل فقط. وعندما أزف الموعد المحدد للإنزال (من صباح يوم 7 تموز - يوليو) هدأ البحر قليلا. فقام قائد الأسطول بتوزيع قائمة السفن المخصصة لكل فرقة من الفرق السبعة، وتم تعيين ضابط بحري لكل مجموعة من سفن النقل واجبه تنسيق التعاون مع قائد الفرقة التي سيتم نقلها، والتي سيرافقها حتى منطقة إنزالها. ثم ذهب القائد العام (الكونت أوريلي) برفقة قائد الأسطول للإشراف على العملية. وأمكن لهما تحديد مرابض بطاريات المدفعية الجزائرية التي تم نشرها على الساحل المخصص لإنزال القوات الإسبانية. فقرر القائد العام وضع سفينتين حربيتين في مواجهة كل بطارية من بطاريتي المدفعية الجزائر. كانت الجزائر تتابع الموقف منذ أن بدأت إسبانيا بالإعداد لحملتها، وعرفت أنها هي المستهدفة من هذه الحملة. فاستعدت لتلقي صدمة الهجوم. تحت قيادة والي الجزائر (الداي محمد عثمان باشا). وهكذا فعندما وقفت قطع الأسطول الإسباني في مواجهة الجزائر، لم يكن الأمر مباغتا. ووقف المقاتلون المسلمون وهم يتابعون حركة سفن الأسطول وهي تصطف على أشكال وخطوط مختلفة، في خيلاء وتحد، ثم عندما وجهت هذه السفن مقدماتها في مواجهة وادي

الحراش، وعندما وصلت إلى مدى رمي المدفعية الجزائرية بدأت بإنزال القوات. وعلى الرغم من معرفة المجاهدين مسبقا بأمر هذه الحملة، فقد كان حجم قوات الغزو، وتفوقها، مثيرا للقلق، وهنا انطلق قادة المجاهدين، ومشايخهم، وهم يحضون على القتال، ويرددون على إسماع المجاهدين قوله تعالى: {وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} فاطمأنت النفوس لذكر الله وأنزل الله السكينة على قلوب المؤمنين. عمل والي الجزائر (محمد عثمان باشا) على استنفار كل قادر على حمل السلاح وحشده في المعركة، كما كلف الأولاد - الصبيان - ممن يتجاوزون عمر السابعة بالعمل مع المجاهدين لمساعدتهم في أعمال الدفاع والتحصين، وتم اختيار المواقع المناسبة (لمرابض المدفعية). وقسمت القوة على النحو التالي: 1 - قوة مقاتلة بقيادة (حسن الخزنجي) - وزير المالية ومركزه (عين الربط) - وهو الحي الذي يدعى اليوم باسم (ساحة المناورات) بين مدينة الجزائر وحي بلكور. 2 - قوة مقاتلة بقيادة (القائد علي) المعروف (بآغة العرب) ومركزه عند (وادي خنيس) وهو في آخر حي العناصر حاليا (حيث حديقة التجارب). 3 - قوة مقاتلة بقيادة (خوجة الخيل - وزير الحربية) ومركزه في (باب الوادي). 4 - قوة باي الشرق (صالح) التي عسكرت على وادي الحراش. 5 - قوة باي (تيطري) مصطفى باي التي أقامت معسكرها على جهة (تامانتغوس) ومعها بعض القبائل وفرسان ناحية سباو.

6 - قوة خليفة الغرب (محمد عثمان) التي ضمت (4) آلاف فارس من فرسان العرب الدواير، وقد أقامت معسكرها على مقربة من معسكر (الخزنجي). 7 - قوة باي الغرب (إبراهيم باي) والتي أقامت معسكرها على مقربة من مدينة (مستغانم) وواجبها العمل كقوة احتياطية. ومضى كل قائد لتنظيم قواته في المنطقة المحددة له، وأقيمت التحصينات، وحفرت الخنادق، واتصل العمل في الليل والنهار، فيما كانت المدفعية تشتبك مع سفن الأسطول، وما أن سمع رجال القبائل في الجبال القريبة من الجزائر، باقتراب قوات الغزو الإسباني حتى أسرعوا من كل ناحية للاشتراك في شرف الجهاد. وتبعتهم جموع المجاهدين من كل أنحاء الجزائر، وبصورة خاصة من ناحية (قسنطينة) حتى ضاقت بهم الأرض على رحبها وسعتها. اختار قائد الحملة الإسباني خمس سفن حربية - من أكبر سفنه وأقواها تسليحا - وكانت كل سفينة منها تحمل ثمانين مدفعا، وكلفها بالتمهيد لعملية الإنزال بقذف قنابلها من عيار 24 و36 رطلا. ووقفت سفينتان منها في مواجهة (برج الشرق - أو برج الكيفان). واثنتان منها في مواجهة (محلة الآغا) ووقفت الخامسة في مواجهة (محلة الخزنجي). وأخذت هذه السفن في قصف مرابض بطاريات المدفعية الجزائرية، اعتبارا من صباح يوم 7 تموز - يوليو - وردت عليها المدفعية الجزائرية برمايات كثيفة ومركزة استمرت طوال الليل. ثم انسحبت السفن إلى عرض البحر مبتعدة عن مدى عمل المدفعية الجزائرية، ومفسحة المجال أمام سفن النقل التي استمرت في نقل القوات وإنزالها طوال اليوم واللية التالية. وتمكنت المدفعية الجزائرية من إنزال بعض الخسائر في سفن إنزال العدو. وأثناء ذلك نقلت مدفعية الأسطول

الإسباني رماياتها الكثيفة ضد حصون المسلمين ومواقعهم في (الحراش وخنيس). ثم أخذت سفن الإنزال بالتوجه إلحى مصب وادي خنيس وقامت بإنزال قسم من قواتها عنده. وبادرت قوات الغزو هذه بالانقضاض على مواقع المجاهدين المسلمين غير أن هؤلاء استطاعوا تدمير الموجات المتتالية للقوات الإسبانية، ووصلت مجموعة مقاتلة إسبانية إلى البساتين حيث كان يتمركز (مخزن البارود) إلى جانب بطارية مدفعية خنيس، وهنا دارت معركة ضارية أمكن بواسطتها إيقاف التقدم الإسباني. وأمضى المقاتلون من الطرفين ليلهم في الاستعداد للقتال، وعندما ارتفع الأذان لفجر يوم 8 تموز - يوليو - وذهب المسلمون للصلاة، دوت المدفعية الإسبانية معلنة بدء المعركة، واحتل المجاهدون مواقعهم، ووقفوا خلف تحصيناتهم، ولم تلبث نيران المدفعية الإسبانية أن غطت مواجهة الجبهة بكاملها (من مربض باي قسنطينة ما بين وادي الجميز والحرج، وحتى محلة الخزنجي ما بين وادي الحراش وعين الربط). واستمر القصف الكثيف حتى طلعت الشمس وعندها شاهد المجاهدون أن هناك أكثر من ألف وخمسمائة سفينة وناقلة وفلك وقارب قد اتجهت صوب وادي الحراش وعين الربط. وأسرع قادة قوات المسلمين في قيادة قواتهم نحو المكان الذي حدده الإسبانيون للإنزال، وأخذوا في الاستعداد للمعركة. شحنت القوات الإسبانية فوق ناقلات الجند كل ما تتطلبه عمليات التمركز والتحصين، وحملت معها كميات مذهلة من الأكياس الفارغة (لتملأ بالتراب والرمل وتوضع بعضها فوق بعض) كما دفعت مع المقدمة وحدات من المهندسين للإشراف على إقامة التحصينات وتنظيم الأرض. وكانت السفن تتقدم بصورة بطيئة نحو

الساحل، بينما كانت السفن الحربية تلقي بمقذوفات مدافعها على معسكرات المسلمين في الشرق، وعلى معسكر الخزنجي بصورة خاصة، وقابلت بطاريات مدفعية المسلمين أعمال القصف بقصف مضاد اشتركت فيه كل المدفعية باستثناء مدفعية المرسى ومدينة الجزائر، نظرا لأن السفن الإسبانية كانت بعيدة عنها وخارج مجال عملها. ووصلت السفن الإسبانية، وألقت بمراسيها في البحر، وتقدمت القوارب تحمل الجنود حتى وصلت على مقربة من الساحل، فوضعت ألواحا من الخشب تصل بينها وبين البر، اجتازها الجند، واستقر فوق اليابسة. وكان كل جندي من جنودهم يحمل بندقية ورمحا برأسين من الحديد، لكي يغرسوها في الأرض حول معسكرهم، فتعيق وصول الفرنسان المسلمين إليهم. وكذلك أنزلوا معهم كميات صخمة من الأخشاب التي ربط بعضها إلى بعض من أجل إقامة الحواجز. وهكذا فما أن وطئت أقدام الإسبانيين الأرض حتى أقاموا معسكرا منيعا، دعموه بحفر خندق عميق، ثم أوثقوا حوله الحبال، ووضعوا وراءها أكياس الرمل. وغرسوا أعمدة من الخشب بين هذه الأكياس ثم إن كل فرقة من فرق الجند شبكت حول منطقتها، وعلى شكل دائري، تلك الرماح ذات الرأسين الحديديين التي أنزلوها معهم،، فكانوا يستطيعون التنقل والسير وهم محتمون بتلك الدائرة التي تمنع عنهم الهجمات المباغتة لقوات المسلمين. وأمكن إنشاء ذلك المركز الذي كان أشبه شيء بمدينة صغيرة خلال فترة قصيرة من الوقت، وكان يتخلل المعسكر 14 طريقا يتصل بعضها ببعض. وحفروا في الوسط بئرا يستسقون من مائه العذب. قامت قوات المجاهدين بهجوم قوي على معسكر الإسبانين، فقتلوا كل الجنود الذين كانوا خارج المعسكر، غير أنهم لم يتمكنوا من

اقتحامه، فانسحبوا ومعهم قتلاهم وجرحاهم. ثم استؤنفت المعركة بقوة وشدة. وكانت القنابل والرصاص تسقط بكثافة عالية، وتحصن المسلمون وراء بطارياتهم وفوق كثبان الرمل المحيطة بالمعسكر الصليبي. وكانت قذائف المسلمين ورصاص بنادقهم يصيب جند الأعداء وهم في داخل معسكرهم، فكانوا لا يستطيعون الخروج منه أبدا. وكلما سقط منهم رجل أخذوه فورا إلى القوارب التي تنقله للأسطول، فربطوا رجله إلى قذيفة وألقو به إلى البحر حتى لا تطفو جثته فوق الماء، وكانوا أحيانا يجمعون الخمسة والستة من الجثث ويربطونها إلى قذائف ثم يلقون بها إلى البحر. وهكذا يفعلون بموتاهم داخل معسكرهم. لكن هذه الأعمال لم تكن حاسمة. ولم يجد المسلمون حيلة لاقتحام مركز العدو الإسباني نظرا للعدد الضخم من القنابل الذي كان يتساقط حول المعسكر لحمايته. واقترح باي قسنطينة القيام بهجوم شامل، على أن تتقدمه الجمال كستارة وقائية، وجمعت الإبل من كل ناحية بسرعة ودفعت نحو معسكر الإسبانيين تبعها عن قرب المجاهدون وعلى رأسهم القادة والولاة ودارت معركة طاحنة تحول لها النهار إلى ليل لكثرة دخان البارود والغبار المتصاعد، ولم تسفر المعركة عن نصر حاسم، فتراجع المسلمون من جديد، وأخذوا في الاستعداد للقيام بهجوم ليلي. وكان المعسكر الصليبي محددا جدا، وضيقا، وفيه تكدست جماعات الجند وكميات السلاح والذخائر، وأقام فيه الإسبانيون ستين نقطة محصنة، غير أن التحرك بين هذه النقاط كان صعبا جدا بسبب ضيق المعسكر، ولهذا كان من المحال القيام بأي مناورة للقوات. وكانت ميمنة هذا المعسكر على وشك الانهيار تحت هجوم المسلمين لولا تدخل السفن الإسبانية، وتوجيه نيران غزيرة عطلت تقدم المجاهدين

وأوقفته. وكذلك الأمر بالنسبة للجناح الشرقي الذي تعرض لهجوم فرنسان المسلمين وكاد يسقط بدوره لولا دعم القوات البحرية. ولهذا أعادت القيادة الإسبانية تنظيم مواقعها على عمق جبهة لا يتجاوز الخمسمائة متر. واستمر الإسبانيون في المقاومة ضمن هذه المنطقة الخطرة. وكانوا يتلقون ضربات محكمة لا يعرفون مصدرها فيتساقط منهم الجنود صرعى. وكانت كل رمية بندقية يقذفها المسلمون تصيب مقتلا من جند الإسبانيين بسبب ضيق المكان واكتظاظه بالمقاتلين. وزاد الأمر سوءا - بالنسبة للإسبانيين - نتيجة الرمايات المحكمة التي كانت تطلقها بطارية (وادي خنيس) وهي البطارية التي لم تتمكن السفينة (القديس شارل) من تدميرها. فأحدثت رمايات بطارية المسلمين خسائر فادحة في القوات الإسبانية. وزادت خسائر الإسبانيين. فامتلأت القوارب بالجرحى الذين كان يتم نقلهم إلى مركز الأسطول، حيث تجرى لهم الإسعافات الأولية في السفن الحربية، لينقلوا بعدها إلى أحد السفن الثمانية التي حولت إلى (مستشفيات بحرية) وأدرك القائد العام للحملة بعد مضي ساعات فقط أنه من المحال أمام هذه المقاومة الضارية إحراز أي نجاح أو أي تقدم. فقرر الاسحاب بقواته فورا، وأصدر أوامره إلى سفن الأسطول الإسباني بالتجمع تحت حماية مدفعية الأسطول. وأخذت بعض الفرق في الانسحاب فورا ومعها بعض قطع المدفعية. بدأ المجاهدون المسلمون هجومهم الليلي - بعد أداء صلاة المغرب مباشرة - من ليل 8 - 9 تموز - يوليو - وهطلت أمطار غزيرة زادت من صعوبة القتال، وشعر المجاهدون بمحاولات العدو للانسحاب فقطعوا عليها طريق انسحابها مرات عديدة، وأنزلوا فيها خسائر فادحة، فيما كانت المدفعية تقصف مواقع الإسبانيين دون هوادة،

وعندما ارتفعت الأصوات معلنة أذان الفجر توقفت مدفعية الأسطول الإسباني عن الرمي. واندفعت قوة من المسلمين إلى داخل معسكر الصليبيين فوجدته فارغا، ووجدت فيه الكثير من الأسلحة والذخائر والمدفعية مما يدل على أن القوات المعادية قد انسحبت على عجل فلم تتوافر لها فرصة من الوقت لحمل أسلحتها وأمتعتها وعتادها. واستولت قوات المسلمين على ما تركه العدو من غنائم فوق أرض المعركة من الوسائط القتالية والبنادق و 16 مدفعا من النحاس وقطعتين من راميات القذائف. وجمع المسلمون المقذوفات التي أرسلتها المدفعية الإسبانية فبلغت (40) ألف قذيفة. واعترفت المصادر الإسبانية بمصرع (191) ضابطا و (2088) جنديا في اليوم الأول من المعركة. في حين تذكر مصادر أخرى أن عدد القتلى الإسبانيين يرتفع إلى (4) آلاف قتيل. أما المصادر العربية فتذكر أن عدد قتلى الأعداء يبلغ (10) آلاف قتيل مقابل (مائتا شهيد) من قوات المسلمين. أمضت سفن الأسطول الإسباني أيام 9 و10 و11 تموز - يوليو - 1775 وهي في عرض البحر، تنظم المستشفيات، ثم رفعت العلم الأسود علامة الحداد، ومضت خائبة في طريق عودتها إلى قواعدها. وقرر القائد العام للحملة الإسبانية، قصف مدينة الجزائر بالقنابل يوم 13 تموز - يوليو - انتقاما لما نزل بقواته من الخسائر، غير أن هيئة أركانه أقنعته بعقم محاولته وعدم جدواها، علاوة على ما تحمله من خطر التعرض لمدفعية الساحل القوية. يذكر هنا أنه ما كادت المعركة تصل نهايتها حتى بلغت أعداد المقاتلين المسلمين الذين تدفقوا من كل أنحاء البلاد أكثر من (150) ألفا، بينهم (6) آلاف من الأتراك، و (3) آلاف بحار في الميناء (المرسى).

معركة بحرية جديدة أمام الجزائر

8 - معركة بحرية جديدة أمام الجزائر (1784) ترك تدمير الحملة الإسبانية على الجزائر أثرا عميقا على الطرفين المتصارعين، فمضت القوات الإسبانية في الإعداد لعملية جديدة على أمل أن تعوض بها عن هزائمها السابقة. وفي الوقت ذاته، أفادت الإدارة الجزائرية من المعركة، فعقد مؤتمر ضم أعضاء القيادات البرية والبحرية بهدف استخلاص الدروس من العمليات السابقة. وتقرر إقامة مجموعة من القلاع والتحصينات الجديدة، وبناء سفن للمدفعية العائمة. ولم تمض أكثر من فترة وجيزة حتى أمكن إعادة التنظيم الدفاعي في البر وإعادة تنظيم القدرة البحرية وتدعيمها. واتخذت كل الترتيبات لإبقاء السفن الإسبانية على مسافة بعيدة جدا عن المدينة. إذا ما أقدمت على مغامرة جديدة. مضت الإدارة الإسبانية بدورها لإعادة تنظيم قواتها. واستطاع قائد البحرية (الأميرال أنطونيو دي بارلكو) حشد قدرة بحرية تضم (130) سفينة حربية في سنة (1784م) وأعلن عن قيادة حملة صليبية جديدة، وأسرع البابا فنشر في يوم 18 حزيران (يونيو) من السنة ذاتها بلاغا أعلن فيه أنه (وهب الغفران والبركة السماوية لكل مسيحي يشارك في هذه الحملة). وجاءت من البرتغال قوة بحرية لدعم الأسطول الصليبي، الذي غادر المياه الإسبانية ليصل إلى المياه

الإقليمية للجزائر يوم 9 تموز - يوليو - وأخذ في الانتظام بتشكيل القتال. غير أن سفن الأسطول الجزائري لم تمهله طويلا، فخرجت العوامات حاملة المدافع الكبيرة. وأرغمته على البقاء بعيدا عن المدينة، وبحيث لا تصل قنابل مدفعيته إلى الجزائر. بدأ الاشتباك الأول في يوم 12 تموز - يوليو حيث تقدمت سبعون سفينة إسبانية (من نوع الشالوب والتي هي مجردة من الخيام والصواري) فبرزت لها (63) سفينة جزائرية من النوع ذاته، وكان منها (13) سفينة تحمل قاذفات القذائف و (43) تحمل المدافع الثقيلة. وتقدمت السفن بعضها من بعض، واستعدت للقتال، وكانت السفن الإسبانية مدعمة بالحراقات وبالسفن الضخمة. وأخذ الأسطولان المتعاديان يقومان بحركات التفاف حول خط متواز، وضمن حدود مجال عمل المدفعية. ولم يرغب الجزائريون البدء بالقتال. غير أن طلقة من مدفعية الحصون الجزائرية انطلقت في الساعة الثامنة لتأمر الجزائريين ببدء القتال. وأخذ الجزائريون على الفور برمي قنابلهم من طول الخط على السفن الإسبانية التي ردت بالمثل. وأحاط بالمتحاربين دخان كثيف، وكانت القذائف الإسبانية غير محكمة، فكانت تتخطى خط السفن الجزائرية لتسقط على مسافة بعيدة في عرض البحر. وأصيبت ثلاث سفن إسبانية، فاضطرت إلى الانسحاب من تشكيل القتال. وعندما ارتفعت سفن الدخان تبين أن الاضطراب قد هيمن على الأسطول الإسباني فيما كان الأسطول الجزائري محافظا على مواقعه وعلى تنظيمه القتالي. وانسحبت السفن الإسبانية في الساعة (11،00) إلى مركز تجمع الأسطول تحت حماية السفن الكبيرة. وبقي الأسطول الجزائري حتى الساعة (12،00) قبل أن يعود إلى مركز تجمعه.

تجدد الاشتباك بعد ثلاثة أيام عندما أطلق القائد الإسباني طلقتين في الساعة (3،00) من فجر يوم 15 تموز - يوليو - فأخذبت السفن تشكيل القتال. وفي الساعة (6،00) أطلقت السفن الجزائرية نيرانها، غير أن تشكيلها للقتال لم يكن منتظنا. في حين كان تشكيل الأسطول الإسباني منتظما على نصف دائرة تحميه من الأجناب السفن الخفيفة. وبدأت المعركة الضارية التي استمرت حتى الساعة (9،15) حيث انسحبت السفن الإسبانية (الشالوب) وبقيت الحراقات مستمرة في القذف العنيف. ثم قامت بالانسحاب، وبقي الأسطول الجزائري حتى الساعه (10،00) وعاد بعدها إلى قواعده. وانفجر مدفع في إحدى السفن فأغرقها ومات فيها 12 رجلا، وجرح (14). عادت سفن الأسطول الإسباني للقتال في الساعة (8،00) من يوم 17 تموز - يوليو - وقد انتظمت في تشكيل القتال على ثلاث مجموعات واجب الأولى الدفاع عن الأسطول وحمايته وخصصت فرقة لمجابهة الأسطول الجزائري، أما الفرقة أو المجموعة الثالثة فواجبها قصف مدينة الجزائر. وبدأت هذه المجموعات - الفرق - بالقصف من الساعة (30, 8) حتى الساعة (10،30).غير أن عملية القصف لم تسفر عن نتائج كبيرة (مقتل جزائريين وجرح خمسة) نظرا لكون الرمايات غير دقيقة وغير محكمة. وفي هذا اليوم ظهر هلال شهر رمضان وبدأ المسلمون صومهم. تقدمت السفن الإسبانية بعد ذلك في الساعة (7،00) من يوم 18 تموز - يوليو - في تشكيل القتال، وتصدت لها السفن الجزائرية، وبادرتها باطلاق النار، وبدأت الحصون الجزائرية في الوقت ذاته بإرسال نيرانها ضد السفن الإسبانية التي فتحت نيران مدفعيتها في الساعة (8،00) وكان دخان مدفعية الإسبانيين يحجبهم عن أنظار

الجزائريين، فتقدمت مجموعة من سفنهم نحو المدينة، وأصابت بمقذوفاتها جسر المرسى، فتصدت لها بعض السفن الجزائرية وأرغمتها على الانسحاب وأوقفت السفن الإسبانية قذف قنابلها في الساعة (30, 9) بدون أن تلحق بالجزائريين أضرارا تذكر. غير أن ستة مدافع جزائرية انفجرت بين أيدي سدنتها فاستشهد (5) رجال وأصيب (8) رجال بجراح. وتقدمت السفن الإسبانية من جديد في أداءة (6،45) من يوم 19 تموز - يوليو - تحت حراسة بعض القطع الصغيرة وحراقتين. وجابهتها السفن الجزائرية في الساعة (9،00) واستمر الاشتباك المدفعي حتى الساعة (9،00) ثم انسحبت السفن الإسبانية إلى مركز تجمع أسطولها. وتقدمت بعد ذلك خمسة أو ست سفن جزائرية (شالوبات) نحو مركز الأسطول الإسباني، وهاجمته، فقاومتها سفينة الأميرال والسفن التي حولها، وألقت عليها القنابل لكنها لم تحدث لها أدنى خسارة. ومات في هذه الوقعة رجلان وجرح خمسة رجال من الجزائريين. وتم انسحاب الأسطول الإسباني نهائيا من المعركة يوم 22 تموز - يوليو - مبتعدا عن مواقع القتال. وفي اليوم التالي كان هذا الأسطول يتجه نحو قواعده في الأندلس. استشهد من جراء القصف نحو ثلاتين من المدنيين، أما خسائر الجزائريين العسكرية فكان معظمها بسبب انفجار المدافع التي يستعملونها، حيث أنهم لشدة حماستهم لمقاومة العدو لم يكونوا يتركون للمدفع بعد استعماله فترة كافية حتى تبرد حرارته، كما كانوا يبالغون في حشوه بالبارود لإرسال المقذوفات لمسافة أبعد، ولهذا كانت المدافع

تنفجر أحيانا. واستشهد منهم نحو المائة رجل من جراء هذه الانفجارات. ولم يعلن الإسبانيون عن خسائرهم، غير أنهم ذكروا بأن مدافعهم قذفت الجزائر بأكثر من (15150) مقذوفا من عيارات مختلفة، لم تصب المدينة بخسائر تذكر. لم تحقق هذه الحملة أهدافها، وحاولت الإدارة الإسبانية التستر على فشلها الجديد بأنها سترسل حملة أقوى من كل حملاتها السابقة، غير أنها باتت مقتنعة، ومعها العالم المسيحي، أنه من المحال النيل من صمود الجزائر، فجنحت إلى السلام والمهادنة، وأرسل إلى الجزائر مندوبين (هما الكونت داسبلي، والأميرال مازاريدو) بمهمة عقد هدنة، ودارت مفاوضات طويلة انتهت يوم 14 حزيران (يونيو) 1785 باتفاقية تقضي بإلزام إسبانيا بدفع جزية معينة من المال للجزائر مقابل عدم التعرض لسفنها، وعلى أن تعاملها الجزائر معاملة الدولة المسالمة. غير أن هذه الاتفاقية لم تنفذ بسبب تصميم الإسبانيين على الاحتفاظ بوهران والمرسى الكبير، وبسبب مماطلة الإسبانيين في تنفيذ بقية الشروط (على الرغم من موافقة الحكومة الإسبانية على الاتفاقية). وكان لا بد من استئناف الصراع في البحر، وفي البر أيضا، من أجل إخراج الإسبانيين من فوق تراب الجزائر.

وأخيرا تحرير وهران

9 - وأخيرا تحرير وهران (1791 م) لم يتوقف الصراع يوما بين المجاهدين في الجزائر وبين أعدائهم المتمركزين في وهران والمرسى الكبير، وقد أخذ هذا الصراع أشكالا مختلفة بداية من العزل والتطويق وحرمان الحامية الإسبانية من المواد التموينية وحتى الاستنزاف المستمر بطرائق الصراع المسلح. وتعرضت الحامية الإسبانية لنكبات كثيرة، ولمحن صعبة، وكان من أبرز ما جابهته الحامية الإسبانية تلك المعركة التي فرضها عليها حاكم (بايليك الغرب) محمد بن عثمان الكردي - المشهور بمحمد الأكحل لشدة سمرته - حيث أرغمها بعد فترة من الحصار على مغادرة المدينة (سنة 1780) والاشتباك في معركة تصادمية خارج الأسوار انتهت بتدمير قسم كبير من الحامية. واستمرت بعد ذلك أعمال الحصار حتى 14 أيلول - سبتمبر - 1784م. حيث أمكن قطع الماء عن مدينة وهران. ثم تعرضت المدينة للهجوم يوم 26 أيلول - سبتمبر - وأمكن احتلال (البرج الأحمر,) بعد تضحيات كبيرة ومعارك بطولية رائعة. واستمرت عمليات الصراع بين تصعيد وتهدئة، وبين توتر واسترخاء. حتى إذا ما كان ليل 8 - 9 تشرين الأول - أكتوبر - 1790 حدثت هزة أرضية عنيفة في الساعة الواحدة صباحا واستمرت ولفترة ثلاث دقائق، وانتهت بتدمير وهران تدميرا شبه كامل، وأصيبت الحصون

والقلاع والكنائس بأضرار بالغة. ومات تحت أنقاضها ثلاثة آلاف نسمة من سكانها وجندها - ومن بينهم الحاكم العام الإسباني - بالنيابة - (دون نيكولا غارسيا,) والتهمت النيران بعض السفن والأماكن الأخرى. وزاد من هول الكارثة انطلاق الإسبانيين للنهب والسلب، وهو ما أورده قائد الجيش الإسباني في تقريره للملك والذي جاء فيه: (أن بعض الرجال الذين لا أخلاق لهم، من أصحاب الحياة السافلة - من إسبانيي وهران - قد اغتنموا فرصة هذه الحادثة فامعنوا في نهب الديار الغنية بصفة أفظع مما لو كان العدو قد قام بهذا النهب، ولم يبق للمستعمرين البائسين أي شيء مطلقا. ورغم القسوة التي قابلنا بها هذه الأعمال اللصوصية، والعقاب الصارم الذي أنزلناه بمرتكبيها، فإن الأشقياء لم يرتدعوا، واستمروا في أعمال النهب والسلب). وحدث بعد ذلك مزيد من الهزات الأرضية كان من أقواها ما حدث يوم 22 تشرين الثاني - نوفمبر - ويوم 6 كانون الثاني - يناير 1791. ولم يتوقف الصراع خلال ذلك، وتناقص عدد أفراد الحامية الإسبانية حتى بلغ (1526) رجلا. تم توزيعهم على أكثر المواقع أهمية، في حين كان بقية الرجال من غير المقاتلين يعملون مع النسوة في إصلاح الحصون وترميم الثغرات التي تحدثها هجمات المجاهدين. وتلقت الحامية الإسبانية على إثر ذلك دعما مكونا من (7) آلاف مقاتل. واستمرت حروب الاستنزاف طوال فصلي الربيع والصيف من سنة 1791، تخللتها معارك طاحنة كان من أبرزها معارك 3 - 9 أيار - مايو - ومعركة يوم 5 تموز يوليو -. عرفت إسبانيا أنه بات من المحال عليها الاحتفاظ بقاعدتي (وهران والمرسى الكبير) وتحولت هاتين القاعدتين إلى عبء يستنزف القدرة الإسبانية، فحاولت الحصول على شروط مناسبة للصلح،

واستمرت المفاوضات مع الجزائرين طويلا إلى أن تم الاتفاق على عقد معاهدة يوم 9 كانون الأول - ديسمبر 17910 - تضمنت نصوصها ما يلي: 1 - تنسحب إسبانيا من وهران والمرسى الكبير دون قيد أو شرط. 2 - تدفع إسبانيا لخزينة الجزائر سنويا مبلغ (120) ألف فرنك (ما يعادل 240 ألف دينار جزائري). 3 - ترجع إسبانيا للجزائر كل المدافع والقنابل والذخائر التي غنمتها عند استرجاعها لوهران والمرسى الكبير. 4 - تحمل سفينة إسبانية، بصفة رسمية، إلى إستانبول مفتاحين ذهبيين رمز استسلام وهران والمرسى الكبير مع جرتين من ماء عيون (وهران) للخليفة السلطان العثماني، كبشرى بالفتح وتأكيده للرابطة مع دولة الخلافة. وتقبل الجزائر مقابل ذلك: 1 - أن يكون لإسبانيا مركز تجاري في بلدة (جامع الغزوات). 2 - وأن تبتاع من البلاد الجزائرية ثلاثة آلاف كيلة من القمح سنويا. 3 - وأن تباشر صيد المرجان على الساحل الغربي الجزائري. وبدأت القوات الإسبانية بالانساب يوم 17 كانون الأول

- ديسمبر - من تلك السنة، وتم الانسحاب نهائيا، بعد ترك الأسلحة والعتاد المتفق عليه وتسليم المدينة للباي (محمد بن مصطفى) الذي دخلها على رأس المجاهدين الجزائرين يوم 24 شباط - فبراير - 1792. وكان أول عمل قام به، بعد تحرير المدينة، هو بناءه للمسجد الكبير - مسجد الباشا - وانصرف لبناء المدينة الخالدة، حتى تستأتف دورها التاريخي.

الفصل الثالث

{الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم} (سورة الأنفال - الآية 74). الفصل الثالث 1 - الجزائر (المحروسة) على طريق البناء والقوة. 2 - السياسة الاستراتيجية للجزائر. 3 - المجاهدون والحروب الثوروية الإسلامية.

الجزائر (المحروسة) على طريق البناء والقوة

1 - الجزائر (المحروسة) على طريق البناء والقوة لقد فشلت كل المحاولات للنيل من الجزائر المجاهدة، وتحطمت كل أعمال العدوان على صخورها، وغرقت على سواحلها وفي مياهها كل الموجات الصليبية، ولم يكن تحرير وهران والمرسى الكبير أكثر من حلقة في صراع مرير لم يتوقف في يوم من الأيام. وبقيت (الجزائر المحروسة) رائدة للجهاد في سبيل الله، تبني قوتها الذاتية وتقارع أعداءها، وكانت في ذلك كله خيرة معطاءة، فقوتها لها ولكل المسلمين والأعداء هم أعداء لها وأعداء للمسلمين، هكذا كانت أبدا، ومضت الأعوام بعضها يمسك برقاب بعض والجزائر البعيدة عن مركز الخلافة الإسلامية تتبادل معها الدفاع وتنسق معها الجهد، وتحمل معها الأعباء القتالية في البر والبحر. وكانت الجزائر تمارس دورها بحرية تامة، وبمحض اختيارها وإرادتها، إذ لم تكن علاقتها بالخلافة الإسلامية أكثر من علاقة اسمية، فكان الولاة يستقلون بإدارة الجزائر الداخلية تمام الاستقلال، لا تربطهم بالدولة العليا سوى روابط الود والاعتراف بالحماية، وهي رابطة أشبه ما تكون بروابط الأحلاف. بل أن هذه العلاقة أو الرابطة كثيرا ما تترك للجزائر الحرية لانتهاج سياسة خارجية مغايرة لتلك التي تلتزم بها

الخلافة، وعلى سبيل المثال، فقد سبقت الإشارة إلى الموقف الذي اتخذته الجزائر تجاه فرنسا التي كانت قد ارتبطت مع الخلافة العثمانية بمعاهدة (الامتيازات القنصلية) وجاءت الجزائر لترفض منح فرنسا هذه (الامتيازات) لأنها وجدتها تتناقض مع مصلحتها. وفي مناسبات أخرى كانت الجزائر تفرض على دار الخلافة (إستانبول) السياسة المناسبة للجزائر، وعلى سبيل المثال، فعندما حاولت إسبانيا التقرب من الخلافة لعقد معاهدة صداقة وسلام، تصدت الجزائر لهذه المحاولة وأحبطتها، وأعلنت بصراحة ووضوح أنه: (لا سلام مع إسبانيا طالما بقيت قواتها في وهران والمرسى الكبير. وأيدت دار الخلافة الموقف المبدئي للجزائر ودعمته وتم بذلك إحباط الجهود الإسبانية. كانت علاقة الجزائر بدار الخلافة أشبه ما تكون بعلاقة (الأحلاف) فكانت قوة الجزائر في قوة الخلافة، وكانت قوة الخلافة في قوة الجزائر. فلا غرابة بعد ذلك أن تكون العلاقة الحميمة قائمة على الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل. ولا غرابة في أن تترك الخلافة للجزائر النظام الذي تختاره، لإدارة أمورها. ولا غرابة أيضا في قبول كل ما يصدر عن العاصمتين بروح الإخاء، حتى لو كان في بعض الممارسات خروجا على ما هو معروف من علاقات بين الأحلاف المتشاركين في السراء والضراء. لقد أسهبت المصادر الغربية في وصف تلك المرحلة التاريخية، لا سيما خلال الفترة الممتدة بين منتصف القرن السابع عشر وبداية القرن التاسع عشر، وأمعنت في الإساءة إلى قادة الجزائر وحكامها وشعبها، من خلال وصف الحكام (بالمزاجية وعدم الاستقرار وقبول الرشاوى بل حتى فرضها بمقادير معينة واتساع نطاق الفساد على كل

المستويات المسؤولة (¬1)). وتتجاهل تلك الكتابات روح العصر وطبيعته، وليس المجال هنا هو مجال الدفاع (عن الفساد) إذ أن هذه الظاهرة المرضية المرافقة دوما لعهود الانحطاط تبقى أبدا وهي تحمل صفة (الفساد). غير أن تركيز الأحكام على السلبيات بدون إظهار للإيجابيات المقابلة يشكل بدوره ظاهرة من ظواهر (الفساد). ولقد بات من الثابت أن الجزائر بلغت في طليعة القرن التاسع عشر مرتبة من القوة وضعتها في مركز أقوى دول البحر الأبيض المتوسط، وكانت مدينة الجزائر هي أحسن ميناء على ساحل البحر بقلاعها المتينة ومدافعها الضخمة وجنودها البواسل. وكان الأسطول الجزائري يزيد على (72) قطعة حربية ممتازة كبيرة الحجم، و (140) سفينة متوسطة الحجم. وكانت كل هذه السفن الحربية مسلحة بما تحتاجه من المدافع والذخائر والجند، وبلغ عدد البحارة الجزائرين أكثر من (30) ألف بحار اشتهروا بكفاءتهم القتالية العالية وتدريبهم الرائع. ولقد كانت تلك القدرة البحرية المتكاملة هي عدة الجزائر للانتشار في البحر الأبيض المتوسط، واتخاذ الملاحة صناعة وطنية، والقرصنة مهنة تجارية. ولكن وعلى الرغم مما كان يصيبه أهل الجزائر من المغانم الضخمة عبر غزواتهم البحرية، فإنهم لم يكونوا يعتبرون أن ما يحصلون عليه من ربح طائل أو ثروة ورفاهية عظيمتين هما نوعا من السرقة أو النهب، بل إنهم كانوا يعدونها نوعا من الحروب بين المراكب التجارية أينما وجدت. ¬

_ (¬1) يمكن في هذا المجال مطالعة كتاب (العلاقات الديبلوماسية بين دول المغرب والولايات المتحدة) 1776 - 1816 - لمؤلفه إسماعيل العربي - إصدار الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر - 1978 والذي يتضمن كشفا دقيقا عن العلاقات التي كانت سائدة في تلك الحقبة التاريخية.

ولم يكن الجزائريرن يهاجمون أية سفينة يظفرون بها في عرض البحر، وإنما كان على جميع الدول البحرية التي تريد أن تجتاز بواخرها البحر الأبيض المتوسط بأمان أن ترتبط مع داي الجزائر بمعاهدة صداقة، وأن ترسل قنصلا لها يقيم في مدينة الجزائر، وتدفع لحاكمها ضريبة سنوية محددة مقابل تمتعها بالحرية البحرية. وهكذا كانت انكلترا وفرنسا والدانمرك وهولاندا وسردينيا والبرتغال والسويد والنرويج وهانوفر وإسبانيا والولايات المتحدة الأميريكية ترتبط بمعاهدات رسمية مع (داي الجزائر) وترسل إليه كل عام الهدايا الثمينة، وتطلب وده ومصادقته وبذلك كانت تضمن عدم تعرض بواخرها للضرر أو الأذى. وبذلك حصلت الجزائر على اعتراف جميع دول العالم بها كدولة مستقلة، تسابق الدول لاكتساب صداقتها والتحالف معها، والاعتراف لها بالسيادة على البحر الأبيض المتوسط. ومن ذلك تلك المعاهدة التي عقدت في أيلول (سبتمبر) سنة 1795م بين الولايات المتحدة الأمريكية والجزائر، وتضمنت التصريح للسفن الأمريكية بممارسة التجارة مع الجزائر مقابل دفع الرسوم المعتادة، وإعفاء الأدوات البحرية والحربية من هذه الرسوم على أن يصرح للسفن الجزائرية بمثل ذلك مقابل إجازات سفر لها من القنصل الأمريكي في الجزائر. وليس إعلان الحرب من قبل الجزائر على أمريكا في 12 نيسان - أبريل - 1825 بسبب سوء استغلال أمريكا للإتفاقية السابقة، ثم عقد صلح جديد، إلا برهانا على استقلالية الجزائر من جهة، وتأكيدا على ما بلغته من القوة في تلك الفترة - من جهة ثانية - (¬1) وإذن، فالأمر ¬

_ (¬1) أنظر في - قراءات 2 - في آخر الكتاب - نصي الرسالتين المتبادلتين بين داي الجزائر والرئيس الأمريكي في هذا المجال.

الذي لا يقبل الجدل هو أن حكومة الجزائر كانت تفرض إرادتها، وتعقد المعاهدات، وتعلن الحروب، وتدافع عن مصالح الجزائر دون الرجوع إلى تركيا أو غيرها من بلدان العالم. وبلغت الجزائر مرحلة من التطور الاجتماعي - والاقتصادي حسدتها عليه الدول الأوروبية الغربية، ووصلت الجزائر من القدرة الاقتصادية ما جعلها تقدم القروض والمساعدات إلى فرنسا حتى بلغت ديون فرنسا للجزائر مبلغ (7) ملايين فرنك إفرنسي (في سنة 1798م) وأدى ذلك إلى زيادة عدد السكان، حيث بلغ عدد سكان الجزائر عشرة ملايين، وعدد سكان العاصمة الجزائر (50) ألف نسمة. وكانت الجزائر تعتمد في اقتصادها على الزراعة واستخراج الحديد والرصاص والملح من المناجم بالإضافة إلى التجارة والغزو (القرصنة). وعرفت الجزائر في العهد العثماني - على خلاف ما هو شائع - تطورا ثقافيا وعلميا مذهلا بحيث كان كل جزائري تقريبا يعرف القراءة والكتابة، ويعود الفضل ذلك إلى بقاء التعليم حرا من سيطرة الدولة ومن سيطرة الحكام، فكان سكان كل قرية ينظمون بطرائقهم الخاصة ووسائلهم الذاتية تعليم القرآن الكريم والحديث والعلوم العربية الإسلامية، لأن دراسة هذه العلوم هي السبيل إلى معرفة جوهر الدين وفهم القرآن والسنة. وبقي تعليم القرآن الكريم أساس التعليم في الجزائر - كما هو في كل أقطار العالم الإسلامي - سواء كان هذا التعليم ابتدائيا أو ثانويا أو عاليا. وكانت المدارس على اختلاف مستوياتها تمول وتغذى بالأوقاف التي يحبسها أهل الصلاح والخير من الرجال والنساء، وفي بعض الأحيان كان يحبسها موظفون كبارا في الدولة كعمل من أعمال الخير. فكان هناك أملاك خاصة وعقارات وأراضي يذهب ريعها لبناء المدارس وتوظيف

المعلمين وتوفير المساكن للطلبة، فكانت الأوقاف هي الأساس في تدعيم التعليم وحماية الطلبة والمعلمين. وكانت الأوقاف ترعى التعليم بمراحله الثلاثة الابتدائي والثانوي والعالي. فبالنسبة للتعليم الابتدائي كان كل طفل بين السادسة والعاشرة يذهب إلى المدرسة. والملاحظ أن هذا بخصوص الأطفال الذكور، أما الإناث فلا يذهبن إلا نادرا إلى المدارس، ولكن أصحاب البيوتات الكبيرة، فكانوا يجلبون أستاذا معروفا بصلاحه وعلمه لتعليم البنات. وكانت هناك خيمة تدعى (الشريعة) في كل قرية مهما صغرت، من أجل تعليم الأطفال، ويشرف عليها معلم (مؤدب) بختاره سكان القرية لهذه الغاية. أما في المدن والقرى الكبيرة، فقد كانت هناك مدارس تدعى المكتب (مسيد) وكانت غالبا ملحقة بالوقف، وإلى جانب ذلك كان كل جامع يضم مدرسة للتعليم أيضا. أما أهل البادية، فكانوا يرسلون أطفالهم للتعليم في المدن حيث يقيمون عادة مع عائلات صديقة أو يصرف عليهم مجانا من الأوقاف. أما المدن الكبرى، فكان عدد المدارس الابتدائية فيها كبيرا، بحيث ضمت (قسنطينة) في سنة 1810 أكثر من (86) مدرسة ابتدائية، كان يختلف إليها حوالي (1350) تلميذا. وكان في تلمسان حوالي (50) مدرسة ابتدائية في تلك الفترة ذاتها. ومدة التعليم الابتدائي حوالي أربع سنوات، يتعلم الطفل خلالها مبادىء القراءة والكتابة وحفظ القرآن وأركان الإسلام وأصول الدين. ينتقل بعدها الطلاب إلى المدارس الثانوية - في الجامع أو في مدرسة ملحقة بالأوقاف. وكان التعليم الثانوي مجاني أيضا. وكان للمدرس في الثانوي مكانته الخاصة، بحيث كان الأهالي يتكفلون بمتطلباته الحياتية وتقديم الخدمات له من أجل مساعدته على التفرغ وإعداد الدروس. وكان في

مجلس علمي بمسجد كتشاوة قبل تهديمه على يد الفرنسيين

العاصمة وقسنطينة وتلمسان جوامع ومدارس وزوايا لإيواء التلاميذ. وعلى سبيل المثال فقد كان في (قسنطينة) 35 جامعا و7 مدارس، وكان (150) تلميذا من (700) يحصلون على أجرة سنوية من دخل الأوقاف. وكان معظم هؤلاء التلاميذ من سكان الأقاليم، وقد أعدت لهم زوايا خاصة لسكناهم بلغت ست عشرة زاوية. وقد كان في العاصمة ست زوايا لهذا الغرض ثلاثة منها لعرب الغرب واثنتان لعرب الشرق أما الأخيرة فقد أعدت لإيواء المدرسين في العاصمة والذين ليس لهم عائلات مقيمة. أما تلمسان، فقد كان فيها عدد كبير من هذه الزوايا. كما كانت فيها مدرستان إحداهما مدرسة الجامع الكبير، والأخرى مدرسة ولد الإمام. وفي ضاحية تلمسان كانت مدرسة قرية (عين الحوت). ولم تكن الزوايا مقصورة على المدن، بل كانت هناك زوايا في الأرياف تقام تخليدا لأحد المرابطين، ويقام بجانبها جامع للصلاة وبئر للشرب والوضوء. وتخصص الأرض لهذه الزوايا الريفية، فيحرثها الأهالي، ويستعمل دخلها لمساعدة المدرسين والطلبة. ويخصص أهل الخير جزءا من محصولهم السنوي للزاوية التي توجد في منطقتهم. وكان يتلقى العلم في الثانوي حوالي (3) آلاف تلميذ في كل إقليم من أقاليم الجزائر الثلاثة. لم يكن هناك فصل واضح بين التعليم الثانوي والعالي. ويسمى الأستاذ الذي يدرس في التعليم العالي (عالما). أما عدد الطلبة فكان يتراوح بين 600 و800 طالب في كل إقليم. وكانت الدروس العالية تعطى في الزوايا وأهم الجوامع. وكانت مواد التعليم العالي تشتمل على النحو والفقه (الذي يشمل العبادات والمعاملات) والتفسير والحديث والحساب والفلك بالإضافة إلى التاريخ والتاريخ الطبيعي والطب.

تلك هي لمحات عن الحياة في الجزائر سياسيا وعسكريا وفكريا، خلال مرحلة (بناء الجزائر) الحرة المستقلة، ولقد خاضت الجزائر المجاهدة صراعا مريرا على جبهة الأعداء الخارجيين وعلى جبهة البناء الداخلي، في إطار من التكامل. فدعمت وحدتها الداخلية بانتصاراتها الخارجية وحققت انتصاراتها الخارجية بفضل وحدتها الداخلية. وكان في ذلك انتصارها الأكبر. وبقي البناء الداخلي والصراع الخارجي مرتبطا بالجامع والزاوية (المدرسة). فكان هذا (الجامع) هو القاعدة القوية والأساس الراسخ لقدرة المجتمع الإسلامي ووحدته، على الرغم من كل ظواهر التمزق التي اجتاحته، والتي عرف المغرب العربي الإسلامي منها قدرا ربما زاد على كل ما عرفته أقطار العالم العربي الإسلامي الأخرى.

الحياة اليومية في منزل جزائري أيام العثمانيين

السياسة الاستراتيجية للجزائر

2 - السياسة الاستراتيجية للجزائر يظهر العرض السابق لمجموعة الأحداث التي تعرضت لها الجزائر المجاهدة عبر سنوات التكون والصراع المرير مجموعة من الحقائق، لعل من أبرزها: 1 - تكوين تحالف مع الخلافة العثمانية هدفه تنسيق الجهد العسكري على كافة المستويات. 2 - الاضطلاع بواجب الجهاد في البحر بصورة رئيسية، وهكذا فبينما كانت قوات الخلافة العثمانية تخوض صراعها المرير في البر - الأوروبي - بصورة رئيسية، كانت الجزائر المجاهدة تقود الجهاد على الجبهات الأخرى (الأندلس والسواحل الجنوبية لأوروبا). 3 - نظرا للموقع الجيواستراتيجي للجزائر، فقد أخذت على عاتقها الجهاد ضد إسبانيا بالدرجة الأولى وضد كل الدول التي ترفع راية الصليبية ضد الإسلام والمسلمين. 4 - عرفت الجزائر أنه من المحال عليها الاضطلاع بدورها أن لم تكن مطمئنة إلى جارتيها في المشرق والمغرب. فعملت في البداية على خوض الصراع ضدها، ثم انتهى الأمر بتحقيق التكامل عندما أمكن

ربط هذين الإقليمين بالخلافة العثمانية - أو بالأحرى - بسياسة استراتيجية واحدة. لقد انعكست هذه السياسة الاستراتيجية على مستوى العمليات بمجموعة من الظواهر أبرزها: 1 - تنسيق الجهد العسكري في العمليات المشتركة، حيث عمل الأسطول الجزائري في مناسبات كثيرة، منذ أيام ذوي اللحى الشقراء - بربروس - وحتى عهود بعيدة تمتد إلى أكثر من ثلاثة قرون على دعم الأسطول العثماني في العمليات الكبرى. وتولى قادة الجزائر في مناسبات كثيرة قيادة وزارة البحرية (قبودان باشا) وأسهمت السفن الجزائرية بمجموعة المعارك التي تطلبت جهدا كبيرا (معركة ليبانتي) (الهجوم على طولون) الخ ... كما قام الأسطول العثماني بالمقابل بدعم الجزائر في كل مناسبة ظهرت فيها الحاجة لمثل هذا الدعم (أثناء هجمات الإسبانيين) على المدن في المغرب العربي الإسلامي. وكانت الخلافة العثمانية تقدم للجزائر باستمرار الأعتدة الحربية وما تحتاجه لدعم قدرتها القتالية بشريا، وبوسائط القتال. وجدير بالذكر أن هذه السياسة الاستراتيجية - البحرية - لم تكن إلا ظلالا متقدمة للسياسة الاستراتيجية التي وضعها (معاوية بن أبي سفيان) وطورها الأمويون من بعده والتي تعتمد على تنظيم مجموعة من الأساطيل في الشام ومصر والقيروان - تونس - والأندلس. تقوم بأعمال مستقلة أحيانا. وتلتقي بعضها مع بعض للقيام بتنفيذ العمليات الكبرى وكان تطبيق هذه السياسة الاستراتيجية هو الذي ضمن للعرب المسلمين في البداية دعم فتوحاتهم، وهو الذي ضمن للجزائر المجاهدة وللعثمانيين من بعد مجابهة الحملات الصليبية بقوة وفاعلية، وإحراز الانتصارات الحاسمة.

2 - إعطاء أفضليات لمسارح العمليات - إذ كان من المحال على الجزائر خوض الصراع الشامل ضد كل القوى الصليبية في وقت واحد. ولهذا كان على الإدارة الجزائرية، توجيه الجهد في بعض الأحيان إلى أعمال (القتال البحري) وإعطاءها الأفضلية الأولى، للانتقال بعدها إلى حروب الاستنزاف ضد القواعد التي أقامها الإسبانيون فوق أرض المغرب العربي - الإسلامي (خاصة وهران والمرسى الكبير) للعمل بعد ذلك في دعم الجهد ضد قوات الأعداء في المغربين الأدنى والأقصى (تونس والمغرب). وهذا ما يفسر بقاء القواعد الصليبية لفترات طويلة فوق أرض المغرب العربي الإسلامي، في حين كانت أعمال القتال في البحر أو الغزوات مستمرة على الجبهات الأخرى. 3 - لم تتمكن الجزائر - بحكم خبراتها وتجاربها - التمييز بين القواعد الاجنبية فوق أرض إقليم الجزائر، وبين تلك القواعد في المغربين الأدنى والأقصى، وذلك لسببين متكاملين أولهما أن وحدة التراب ووحدة الدين تجعل الجهاد ضد كل عدوان أجنبي على المسلمين وعلى أرضهم هو واجب على كل مسلم، لا تمييز لحدود في ذلك، وثانيها أن هذه القواعد لا تتهدد الأقطار الإسلامية المجاورة وحدها وإنما تتهدد الجزائر ذاتها أيضا. ومن الملاحظ أن هذه الملامح الأولية قد ارتسمت بصورة أكثر وضوحا مع تطور الصراع ضد الأعداء - بما في ذلك ظروف الاحتلال الإفرنسي للمغرب العربي -الإسلامي ومقاومته. وهذا ما فرض بدوره العمل على تنسيق التعاون مع الأقطار المجاورة في مناسبات كثيرة. 4 - لقد خاضت الجزائر حروبها في إطار من (الدفاع الاستراتيجي): يؤكد ذلك وقوع العدوان على أرضها، واحتلال

القوات الصليبية لقواعدها الساحلية، وقد أمكن تحرير هذه القواعد وإحباط أعمال العدوان. ومن هنا فقد كان من المحال على الجزائر، التوقف دائما عند حدود انتظار وقوع العدوان لإحباطه، ولقد أثارت مصادر كثيرة بصورة غير واضحة في بعض الأحيان وبصورة واضحة تماما في أحيان أخرى (كما كانت عليه عمليات الإخوة ذوي اللحى الشقراء بربروس) إلى أن التصدي لسفن الأعداء واستنزاف قدراتهم البحرية، والإغارة على المدن الساحلية للإفرنج الصليبيين لم تكن إلا حربا دفاعية - أكثر منها انتقامية - أو في أفضل الاحتمالات دفاعية انتقامية. وإذا ما تطورت هذه الأعمال إلى ما يطلق عليه اسم (القرصنة) فذلك بنتيجة روح العصر التي جاءت من الدول الغربية البحرية، ووجد فيها المسلمون أداة دفامعية متقدمة تدعم أساليبهم في (دفاعهم الاستراتيجي) ويؤكد جدول مسيرة الأحداث في إطارها الزمني هذه الحقيقة بما لا يدع مجالا للشك أو الريبة. 5 - لقد أدى اتساع أفق الصراع، واتصال الأعمال القتالية، إلى حقيقتين برزتا خلال معظم الأعمال القتالية للقوات الجزائرية. أولاهما: تكوين خبرات قتالية رائعة على كافة المستويات، وثانيتهما الاستعداد الدائم للقتال. وقد برزت أهمية الخبرات القتالية في مناسبات كثيرة، وكان لها الدور الأساسي والحاسم في (حوار الإرادات المتصارعة) حيث خرجت الإرادة الجزائرية وهي منتصرة باستمرار نتيجة ثقتها (بحتمية النصر) وإيمانها المطلق بعدالة قضيتها ومعرفتها الثابتة بما يتوافر لها من القدرات والإمكانات. وكان الاستعداد الدائم للقتال هو الذي أحبط الأعمال العدوانية فوق المياه الإقليمية للجزائر، وهو الذي دمر أطماع الصليبيين فوق رمال الجزائر وصخورها. ولا حاجة بعد ذلك لربط هذين العاملين - المبدأين -

بمفهوم الجهاد في العقيدة القتالية الإسلامية التي كان لها الفضل الأساسي في تحقيق التكامل في أسس فن الحرب. 6 - وأدى اتساع أفق الأعمال القتالية أيضا إلى اعتماد المجاهدين على (خفة الحركة الاستراتيجية) في البحر، وخفة حركة القوات في البر. وقد يصاب المرء بالذهول عند استعراض دقائق الأعمال القتالية، ومتابعة ما تخللها من تفاصيل عن تحرك القوات للالتحاق بميادين القتال البعيدة والقاصية، سواء في البر أو البحر، والانتقال من مسرح عمليات إلى مسرح عمليات آخر. وهنا يظهر أيضا دور الخبرات القتالية المتوارثة منذ الفتوح الإسلامية عامة، وفي أيام الصراع على جبهة الأندلس بصورة خاصة، حيث اضطلع المرابطون والموحدون وبنو مرين وأبناء المغرب العربي الإسلامي عامة بالاشتراك في حمل أعباء الجهاد على كافة الميادين المتناثرة والمتفرقة والمتباعدة. 7 - ربط جهد الأعمال القتالية بالجهد الاقتصادي. وتلك ظاهرة لا يمكن تجاوزها عند التعرض لمجموعة الحروب التي خاضتها الجزائر ضد أعداء الدين. إذ لم تكن المغانم إلا وسيلة لحرمان العدو من إمكاناته ولتدعيم قدرات المسلمين في الوقت ذاته. وهناك شواهد لا نهاية لها تؤكد أن الجزائر لم تكن تبغي مغنما - من أعمال القرصنة الموصوفة. إلا للحصول على المزيد من القدرة القتالية، وبكلمة أخرى، فقد كانت الجزائر تكتب قدرتها من خلال إضعاف أعدائها، وهناك معاهدات للصداقة تنص بوضوح على تقديم الدول التي تصالحها الجزائر سفنا حربية وأعتدة قتالية ومدفعية وذخائر مقابل ما تضمنه لها الجزائر من الحماية أو مقابل ما تتبادله معها من السلع التجارية أو مقابل ما تقدمه لها من امتيازات في المعاملة (صيد

المرجان). وتجدر الإشارة هنا أيضا إلى أن هذه الظاهرة بقيت ملازمة للسياسة الاستراتيجية الجزائرية في مختلف العهود. 8 - وضوح الهدف في كل مرحلة من مراحل الصراع، واختيار طرائق العمليات المناسبة لبلوغ هذا الهدف. وقد حدد الجزائريون منذ البداية هدفهم ببناء الجزائر القوية، وحددوا هدفهم بتحرير بلاد المسلمين في المغرب العربي - الإسلامي من أعداء الدين، وحددوا هدفهم ببناء العلاقات داخليا وإسلاميا ودوليا بما يضمن لهم تحقيق طموحاتهم. فكانت حروبهم نوبا، بين حروب الاستنزاف والحروب التصادمية، وبين الحروب الهجومية والحروب الدفاعية، بين الحروب الثوروية والحروب النظامية. وقد يكون من الخطأ الفادح - بل وحتى الجحود - القول بأن التنوع في أساليب هذه الحروب وطرائقها قد جاء بنتيجة ردود فعل تجاه المواقف التي جابهتها الجزائر في أصعب أيامها، والدليل على ذلك هو أن الجزائر قد رفضت في مرات كثيرة عقد معاهدة صلح أو هدنة مع إسبانيا قبل الجلاء عن وهران والمرسى الكبير، ورفضت أيضا منح فرنسا امتيازات لا تتفق مع مصلحة الجزائر، ورفضت عقد المعاهدات مع دول مختلفة إلا بالشروط المناسبة للجزائر، ومن خلال هذا الوضوح في الهدف، ومن خلال التصميم العنيد على بلوغه، تم اختيار الأساليب المناسبة لخوض الصراع في كل صراع، بما يتناسب والهدف المرحلي أو الهدف النهائي. لقد حددت هذه الأسس الاستراتيجية، وانعكاساتها على أفق الأعمال القتالية، طبيعة الصراع الذي تجابهه الجزائر، والذي تشابكت فيه العوامل الجيو - استراتيجية، بالعوامل الجغرافية والديموغراية - السكانية - مع العوامل الاقتصادية والسياسية لتشكل

بمجموعها (خصوصية) الصراع الجزائري وهو صراع تمثل في إطار تحد ديني قبل كل شيء، بدأ من الأندلس وانتهى بالمغرب العربي الإسلامي وحملت الجزائر المجاهدة راية الريادة فيه. قد يكون من المتوقع بعد ذلك أن تخوض الجزائر صراعها في إطار (حروب الإيمان). وقد يكون من المتوقع بعد ذلك أيضا أن تكون العقيدة القتالية معتمدة في أصولها وفروعها على العقيدة الدينية الإسلامية. لقد قيل بأنه (ما من عامل ألهب التعصب الإسلامي مثل ذلك التعصب المسيحي) وقد يكون ذلك صحيحا في بعض المواقف وفي بعض الأحيان غير أن العقيدة القتالية التي طبقتها الجزائر لم تكن معتمدة على التعصب بقدر اعتمادها على المبدأ - بحسب كل الشواهد المتوافرة - ولم يتمكن التعصب المسيحي من إخراج المسلمين المجاهدين عن أساليبهم وطرائقهم. وفي الوقت ذاته فإن حروب الإيمان هذه لم تعتمد على الحقد بقدر اعتمادها على الغضب، إذ كان من المحتمل أن يؤدي الحقد لو تفجر إلى نتائج مغايرة تماما لما حدث، في حين جاء الغضب للإسلام وعلى الإسلام، فطهر النفوس ووحدها ودفعها إلى (الجهاد في سبيل الله) فلا غرابة إذن في ملاحظة التحولات الحاسمة في مواقف المجاهدين وفقا لما أبرزته عملية استعراض الأحداث في الفصل الثاني -والانتقال بصورة تدرجية، من مواقف التشرذم (القبلية الجاهلية) إلى مواقف الوحدة الإسلامية الصلبة في الداخل والخارج والتي أمكن بفضلها تحقيق النصر في (حروب الإيمان).

المجاهدون والحروب الثوروية الإسلامية

3 - المجاهدون والحروب الثوروية الإسلامية أظهر العرض الوجيز لمسيرة الأحداث - الفصل الثاني - ذلك الدور الرائع الذي اضطلعت به جماهمير الشعب العربي المسلم في رفع راية الجهاد في سبيل الله، في البر والبحر، بصورة عامة، وما قام به المجاهدون فوق أرض الجزائر الحرة بصورة خاصة، في ظروف الدفاع عن أرض الإسلام والمسلمين، وفي إحباط أعمال العدوان ودحرها. فقد كانت حشود المجاهدين هي القوة الحقيقية التي تحسم الصراع في كل مرة تتعاظم فيها قوى العدوان، فتتسارع إلى ميادين الجهاد في كل مرة يرتفع فيها صوت حاكم الجزائر معلنا (الجهاد في سبيل الله). وقد سجلت المصادر التاريخية في مناسبات كثيرة العبارات التالية: (وما كاد المجاهدون يسمعون باقتراب الأعداء - الكفار - حتى يندفعون إلى ميادين الجهاد حتى تضيق بهم الأرض). و (كان المجاهدون يقبلون ومعهم نساءهم وأولادهم، الذين يشتركون معهم في إنقاذ الجرحى ودفن الموتى وفي المشاركة بأعمال تحصين الأرض). تلك هي الصورة الرائعة والخالدة لمفهوم (الجهاد في سبيل الله) منذ ظهر الإسلام على الأرض، والتي تكررت بأوضح معانيها وأسمى

أشكالها في مجابهة ما تعرضت له الجزائر أيام البلوى القاسية والصعبة. وهذه النفرة الإجماعية هي التي تأخذ في الحروب الحديثة اسم (الحرواب الشعبية) والتي حدد المسلمون أشكالها ومضامينها من قبل أن يعرف العالم اسم (الحروب الشعبية) بقرون طويلة. وتجدر الإشارة إلى أن العالم قد عزف منذ أيام الحروب البدائية، وحتى في العصر الحديث بعض أشكال هذه (النفرة الإجماعية) فقد اشتهرت الفتيات الأمازونيات باشتراكهن في الحروب وسبقهن في مجالات حمل السلام، كما أبرز عرض الأعمال القتالية قيام النسوة الإسبانيات وحتى الأولاد بمشاركة القتاليين في أعمال الحصار وترميم الحصون والثغرات. غير أن هناك ثمة فارق كبير بين هذه النماذج وبين مفهوم (النفرة الإجماعية في الجهاد) والتي تعتمد على مجموعة من الخصائص أبرزها: 1 - الطوعية في الإقبال على القتال. 2 - الاستعداد الدائم للقتال. 3 - الاستجابة الإجماعية والموحدة لنداء الجهاد. 4 - ربط مفهوم الجهاد بهدف نبيل (الشهادة أو النصر) والذي يرتبط بالعقيدة الدينية الإسلامية. ولقد استطاعت الكنيسة في الحقيقة - عبر الحروب الصليبية - تكوين مفاهيم مشابهة كمفاهيم المسلمين في الجهاد، بل إنها عممت استخدام ذات العبارات التي كان يستخدمها المسلمون ويطلقونها على أعدائهم (الكفار) و (أعداء الدين) و (الجهاد) و (الغفران) و (الجنة) و (الخلود). غير أنه كان من المحال الاحتفاظ (بدفء هذه المفاهيم) و (حرارتها) في استثارة الهمم والتحريض على الجهاد والحض على القتال. وهذا ما أكدته وأبرزته أعمال المجاهدين عند الاندفاع لدعم المسلمين المجاهدين في الأندلس، ثم في الدفاع عن أرض الإسلام

عند انتقال العدو للهجوم على أرض المغرب العربي - الإسلامي - وتبرز عند هذه النقطة مجموعة من النقاط التي يجدر التوقف عندها من جديد، وأهمها: 1 - الموقف من أعداء الداخل - أعداء الدين -. 2 - قوة تيار الجهاد وعمق مفاهيمه. ولقد ظهرت فوق سطح عالم الفتوحات الإسلامية بعض الانتكاسات التي تعود في جذورها إلى مفاهيم (القبلية - الجاهلية). غير أن هذه الانتكاسات بقيت محدودة الخطورة، محدودة التأثير، محدودة النتائج. غير أن هذه الظاهرة أخذت في رسم أبعاد خطيرة على ساحة الصراع في الأندلس، وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط طليطلة، وتعاظم قدرة حكام الأندلس واستنصار المسلمين بهم على إخوانهم في الدين. الأمر الذي ضاعف من خطورة التمزق الداخلي، والذي استطاع المعتمد بن عباد علاجه بانتصاره (بابن تاشفين). وعرف الصليبيون من خلال ذلك أن قوة المسلمين تكمن في وحدتهم فانطلقوا للإسهام بتمزيق هذه الوحدة، وكان لهم دور كبير فيها. حتى إذا ما نقلوا صراعهم إلى أرض المسلمين في المغرب العربي - الإسلامي. انطلقوا إلى اعتماد هذه الوسيلة للتفريق بين المسلمين وضرب بعضهم ببعض ثم ضربهم جميعا. وكانت الجزائر المجاهدة قد أدركت هذه الحقيقة واستوعبتها فلم تعد تقبل مهادنة أعداء الداخل، وكانت في بعض الأحيان أكثر قسوة في القضاء عليهم وإبادتهم من قسوتها على الأعداء ذاتهم إدراكا منها بأن أعداء الداخل هم أشد خطرا من أعداء الخارج على الدين وعلى قضية الجهاد. وقد عالج أئمة المسلمين هذا التطرف ونجحوا في كبحه غير أنهم لم يتساهلوا أبدا في معالجة

(المتعاونين مع العدو). ولقد ظهرت نتائج ذلك بسرعة مذهلة فقد أمكن توحيد الجبهة الداخلية للمسلمين، والانطلاق منها بحزم لمجابهة الأعداء الخارجيين وأدى ذلك بدوره إلى ضعف أعداء الداخل وانهيارهم. حتى أنه في كثير من المعارك كان المقاتلون تحت راية المتعاونين مع الإسبانيين، ينفصلون عنهم بمجرد الاشتباك في المعركة، أو يعتزلون القتال ضد المسلمين في أضعف الحالات. ولقد كان الولاء لزعيم العشيرة أو الملك، وهو أمر مرتبط بجوهر الدين، هو العامل الأساسي في الانتكاسات وهو نزوع جاهلي، جاء المبدأ الحالد (لا ولاية لكافر على مسلم) فعمل على إلغائه. وقد برز هذا المبدأ بكل وضوحه وبأعمق معانيه في جهاد الجزائر ضد أعداء الدين فكان في ذلك بعض عدة الجزائر المجاهدة فيما حققته من انتصارات. وأما المبدأ الثاني فهو (عدم الانتصار بكافر على كافر) وهو المبدأ الذي أدى أحيانا إلى اصطدام الجزائر بالخلافة، والذي أرغم دار الخلافة على الخضوع للجزائر في النهاية. فكان في ذلك أيضا بعض عدة المسلمين في انتصارهم على أعدائهم. كانت أعمال الجهاد في الجزائر (مبدئية وثابتة) وهو ما تؤكده جميع المواقف وكان الفضل في ذلك لعمق مفهوم تيار الجهاد من جهة، وللتجارب التي أكدت صحة هذا المفهوم في كل المناسبات، وفي كل الحروب التي خاضها المجاهدون في سبيل الله. وظاهرة وجود (فئة من الخارجين على الإجماع) هي أمر طبيعي عرفته كل المجتمعات في القديم والحديث، وعرفت المجتمعات في القديم والحديث أيضا أن خطورة (أعداء الداخل) تتزايد في مرحلة ضعف المجتمع وتضعف بزيادة قوته. ومن هنا فإن ظهور قوة (أعداء

الداخل) وزيادة حجمهم وقدرتهم هو المؤشر الثابت على ما يتعرض له المجتمع من الانهيارات. والعلاقة بين قوة المجتمع وقوة أعداء الداخل علاقة جدلية ثابتة, ومن هنا فإن تصفية أعداء الداخل كمرحلة لها الأفضلية الأولى في بناء القدرة الذاتية هو أمر أساسي وحاسم (عبرت عنه الثورة الإفرنسية بوضورح عندما عملت على تصفية أعداء الداخل قبل الانطلاق لمجابهة أعداء الخارج) وسبقتها الجزائر عندما دمرت أعداء الداخل ووحدت الجبهة الداخلية قبل أن تنطلق للجهاد ضد أعداء الدين. وهنا ظهرت العلاقة الجدلية والثابتة من جديد فقد كان كل انتصار خارجي للمسلمين يضعف من أعداء الداخل المتعاونين مع الأعداء الخارجيين، وكان ضعف هؤلاء الأعداء الداخليين يؤدي بالتالي إلى زيادة القدرة لقتال الأعداء الخارجيين، وفي الواقع، فإن متابعة مسيرة الأحداث على جبهة الصراع بين الجزائر المجاهدة وأعداء الدين تؤكد هذه الحقيقة الجدلية وتبرزها بشكل واضح على امتداد صفحة الجهاد. وكان عمق تيار الجهاد هو العامل الأساسي في بروز هذه الظواهر وتأكيد فاعليتها وأهمية دورها، وهو ما تؤكده أيضا المقولات الشعرية والنثرية التي حفظتها الأوابد المغربية الإسلامية في الحض على الجهاد وتحرير الأرض المغتصبة من ديار المسلمين، فقد بقيت وهران والمرسى الكبير تحت احتلال الإسبانيين طوال قرنين من الزمن في المرحلة الأولى وعلى امتداد خمسين سنة في المرحلة الثانية، كان أئمة المسلمين ومشايخهم وكتابهم وشعراءهم لا يتوقفون عن التذكير بمأساة (وهران) واستثارة الهمم، ولم يكن باستطاعة حكام المسلمين في الجزائر تجاهل هذا التيار المحرض القوي، وهكذا كان تيار الجهاد هو الذي يدفع الحكام ويقودهم ويوجه خطاهم، ولا ينتقص ذلك من

دور هؤلاء الحكام الذين عملوا على التتابع من أجل تنظيم تيار الجهاد وإذكاء شعلته وتوجيه فعالياته وقدراته، وإطلاق شعلته العالية لإضاءة ظلمات دنيا المسلمين خلال تلك الحقبة التاريخية التي تناوبت فيها المحن والنوائب على كل ديار المسلمين، فكان للجزائر المجاهدة دورها الأساسي والحاسم في رفع قيم الجهاد في سبيل الله، وتأكيد فضائلها في حماية مجتمع الإسلام والمسلمين. ولقد كان للمسجد (الجامع) دوره في تكوين هذا التيار، وأظهرت الأوابد أيضا، وفي مناسات كبيرة (اندفاع طلبة العلم والمشايخ إلى مقدمات الصفوف) وإعطاء الأمثولات في (طلب الشهادة أو النصر) وفي (الحض على الجهاد والتحريض على القتال). فليس من الغريب بعد ذلك أن يبقى (القضاء على المسجد) هو الهدف الأول لكل الحملات الصليبية في المشرق كما في المغرب. وإذا كان هدف المسلمين من إقامة المساجد هو (الهداية) ورفع (راية الإسلام) فقد بات من المتوقع أن تعمل الحملات الصليبية، وعلى كل الجبهات، من أجل تدمير المسجد وتحويله إلى كنيسة لحرمان المسلمين من عامل صمودهم. وعرفت الجزائر المجاهدة، كما عرف المسلمون ذلك في كل ديارهم، فكان أول عمل لهم بعد كل فتح، هو ترميم المساجد وإصلاحها وإقامة المساجد الجديدة حتى تتمكن من الاضطلاع بدورها في توحيد كلمة المسلمين، والمحافظة على قدرتهم الذاتية التي يكمن فيها وجودهم. وهنا لا بد من القول أيضا، أن دويلات المسلمين في مختلف العصور والعهود، وعلى امتداد المغرب العربي الإسلامي قد عنيت أشد العناية بإقامة المساجد والاهتمام بها، وإذا كانت هذه الدول قد جنحت في فترة انحطاطها إلى التعاون مع أعداء الدين، فقد بقي هذا

التعاون ظاهرة مرضية تعبر عن جنوح مرحلي لم تلبث جماهير (المسجد) أن عملت على تقويمه وتصحيحه. لقد تعاقب على حكم الجزائر عدد كبير من (البايات والدايات) بداية من الإخوة ذوي اللحى الشقراء، وحتى نهاية الحكم العثماني، بعضهم تألق في سماء قيادة الجهاد، وبعضهم قصرت همته عن بلوغ مرتبة قيادة الجهاد. غير أن تيار الجهاد بقي قويا وثابتا، لم يتأثر بتغير الحكام ولم يتحول بتأثير الصراعات الداخلية، ولم يضعف بتأثير الانتكاسات. وبقي (تيار المسجد الجامع) هو التيار المهيمن على الجمهور المسلم، وهو الموجه للحكام على اختلاف قدراتهم وتباين إمكاناتهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن (تيار المسجد) هو الذي أزال كل التناقضات الداخلية وصهرها جميعها في تيار واحد (هو تيار الجهاد في سبيل الله) لا فارق في ذلك بين تركي وعربي؛ ومغربي وغير مغربي، فكان في ذلك بعض عدة المجاهدين فيما حققوه من انتصارات متتالية. وقد يكون من غير الضروري بعد ذلك البحث في فضائل (تيار المسجد - الجامع) بالمحافظة على تقاليد الجهاد، فالصبر على المكاره، واحتمال كره القتال، والاستعداد الدائم للقتال والإعداد له، والصلابة والتصميم حتى بلوغ النصر الكامل والثبات في مواطن الشدة والخطر كل ذلك هو بعض الفضائل الإسلامية التي تشكلت منها (العقيدة القتالية الإسلامية) والتي أبرزتها صفحة الجهاد على أرض المغرب العربي - الإسلامي والحروب البحرية. بنتيجة ذلك كله، لم تكن حروب الجزائر حروبا نظامية في مفهومها الحديث - بقدر ما كانت نوعا من الحروب الثوروية الحقيقية التي طبقت فيها أساليب الحرب النظامية، واستخدمت فيها أسلحتها، فكانت نموذجا متقدما للمزج بين طرائق الحرب النظامية

وطرائق الحروب الثوروية. وكانت هذه الظاهرة هي التي أذهلت قادة الصليبيين الإسبانيين الذين اعترفوا في مناسبات كثيرة (بأنهم لم يعرفوا مثل هذه الحروب) على الرغم من استمرار صراعهم مع المسلمين. ولم يكن ذلك إلا بسبب اعتماد الجزائر المجاهدة على أسس (العقيدة القتالية الإسلامية) والتي شكلت ما يطلق عليه في العصر الحديث اسم (الأصالة الثوروية) وهي الأصالة التي كان لها دورها الثابت في مجابهة كل ما تعرضت له الجزائر من قبل ومن بعد. وقد يصاب المرء بالذهول وهو يطالع ما جابهته الجزائر المجاهدة عبر تاريخها الطويل، وما تعرضت له من غزوات واعتداءات. لقد كانت وباستمرار في (حرب طويلة الأمد) لا تكاد تنطفىء معاركها حتى تتجدد بقوة أكبر وبعنف أعظم، واشتركت في هذه الحرب الطويلة الأمد، كل شعوب الأرض، فإذا كانت إسبانيا الصليبية هي التي تزعمت الحرب الصليبية ضد الجزائر وتركت للبرتغال قيادة هذه الحرب في المغرب الأقصى، فإن الدول الأوروبية الأخرى لم تلبث أن جاءت بدورها للإسهام في هذه الحرب الشاملة، حتى أمريكا ذاتها لم تلبث أن جربت حظها في العدوان على الجزائر المجاهدة الصابرة المحتسبة. وانتصرت الجزائر على كل أعدائها. وبقيت (الجزائر المحروسة) نجما يتألق في سماء (المغرب العربي الإسلامي) وكوكبا متوهجا يضيء دنيا الإسلام والمسلمين. لقد بقيت (الجزائر المحروسة) لأنها حفظت الإسلام فحفظها الإسلام. وعرفت (الجزائر المحروسة) تلك العلاقة الجدلية الثابتة أيضا بين دفاعها من الإسلام والمسلمين، وبين دفاع الإسلام والمسلمين

للمحافظة على وجودها وقدرتها. فكان في ذلك بناء (الأصالة الثوروية الحقيقية) التي بقيت الصخرة الثابتة ضد كل أعداء الدين. واعتمدت (الجزائر المحروسة) في تحليقها وفي انطلاقتها على جناحيها الثابتين في المشرق والمغرب. وكان في ذلك التعبير الحقيقي عن (الأصالة الثوروية الحقيقية) والتي ستبقى أبدا مصدر قوة (الجزائر المجاهدة) وقوة (المغرب العربي الإسلامي).

قراءات

قراءات 1 - وهران وأدب الحرب. 2 - ترجمة رسالتين متبادلتين بين داي الجزائر والرئيس الأميركي

(وهران) وأدب الحرب

1 - (وهران) وأدب الحرب كان بقاء الاحتلال الإسباني لوهران حافزا استثأر شعراء المسلمين فمضوا يحرضون على الجهاد ويحضون على القتال، ويبعثون في النفوس الحماسة ويذكرون الحكام دائما بواجبهم لتحرير المقدسات وكان تيار التحريض قويا أبرزته مجموعة غير محدودة من القصائد الشعرية. منها: 1 - قصيدة (محمد القوجي الجزائري) يخاطب الداي (أحمد باش خوجة) - منه: ثم التفت نحو الجهاد بقوة ... والكفر فاقطع أصله بذكور جهز جيوشا كالأسود وسرحن ... تلك الجواري في عباب بحور اضرم على الكفار نار الحرب لا ... تقلع ولا تمهلهم بفتور (...) عن وهران ضرس مؤلم ... سهل اقتلاع في اعتناء يسير كم قد أذت من مسلمين وكم سبت ... منهم (بقرب؟) أسيرة وأسير حلت بأرض المسلمين فهل لها ... من عسكر عند الصباح مغير يلقي كلاكله عليها بغتة ... يأتيهم في غرة المغرور فانهض بعزمك نحوها مستنصرا ... بالله في جد وفي تشمير بعساكر مثل السيول تزاحمت ... للسبق تحت لوائك المنصور

بادر بنا نغزو العدو وسارعن ... في حسم شوكتهم وفي التدبير أقصد بلاد الكفر شتت شملها ... خرب بها ما كان من معمور أقتلهم قتلا ذريعا واتركن ... أشلاءهم صرعى لطعم نسور 2 - من قصيدة (محمد بن عبد المؤمن) يحرض الداي (حسن الشريف باشا): نادتك وهران فلب نداءها ... وأنزل بها لا تقصدن سواها صرخت بدعوتك العلية فاستجب ... لنداءها ولتكملن مناها قد طالما عبثت بها أيدي العدا ... حتى استباحوا أرضها وحماها وتصرفوا في المسلمين فأصبحت ... أعجوبة لمن اغتدى يرعاها أضحى الصليب مؤيدا، والدين ... قد درست معالمه فلست تراها جعلوا بها الناقوس في أوقاتهم ... بدل الأذان وغيروا معناها كم من أسير حولها لا يفتدى ... كم من فقير حل في مثواها يا أيها الملك الذي أيامه ... غرر غدت بكماله تتباهى جرد (قواك) لمحق أثار العدا ... حتى ترى الإسلام في مغناها وادع الغزاة لفتحها مستنجدا ... وانهض إليها وأنزلن مرساها الآن آن الفتح إذ ظهرت به ... آثار تنبي أنه وافاها 3 - ومن قصيدة (لأبي عبد الله سيدي محمد) نظمها سنة 1114هـ (1702 م) لاستنقاذ وهران: نرجو رضاك فربنا سبحانه ... مهما رضيت بفتحه يتفضل إنا توسلنا إليك بسادة ... أقدامهم فوق الحياة تفضل فبحقهم الا قضيت حقوقنا ... وفتحت من باب العدا ما يقفل ارجعت للإسلام رجعة مشفق ... والدين ينصر والكوافر تخذل

حتى نرى وهران دار إقامة ... الصلوات يسبقها الأذان المكمل ونرى بها القرآن يفشو درسه ... والعلم حل بها فنعم المنزل ويبوء عباد الصليب بحسرة ... لديار كفرهم الشنيع تزلزل والخيل تمرح في جوانب أرضهم ... سورا ودورا بالأسارى تقفل 4 - ومن قصيدة (لأبي العباس أحمد أبي علي صاحب) في استصراخالمجاهدين لإنقاذ وهران: فمن مبلغ عني ملوك الأقالم ... وكل رئيس من رؤوس العمائم وكل همام مائل في حمائل ... على متن جار سابق في العزائم وكل زعيم مولع بحدوده يصيد ... الضواري من فحول الضراغم وسلطانها التركي في دار ملكه ... وبين علاه في دهاة العظائم وجيش بني عثمان من كل قائد ... جيوشا كموج البحر عند التلاطم يريدون (وهرانا) فما سبق القضا ... بتنفيذه للوقت في جفن عالم يخوضون لجا في سفائن رائس ... حراضا لدين الله عز العزائم وحرز بنات العرب من كل فاتك ... بأبكارها الحرات في قصر ظالم فيا آل عثمان ويا سادة الوغى ... وكلكم أعماله بالخواتم ويا معشر الأتراك ما بال سعيكم ... ووهران تزهو نخوة بالمراغم 5 - وعندما حرر المسلمون (وهران) انطلق الشعراء لتخليد هذا الحدث. فكان مما قاله الشيخ (أبو زيد عبد الرحمن التلمساني) فيها: تلت رسل البشائر يوم عيد ... علينا سورة الفتح السعيد فأحيت من رسوم البشر رسما ... عفا بالشرك من زمن بعيد

وقل (وهران) يهنيك افتكاك ... وإنقاذ من الأسر الشديد لك البشرى وللإسلام أخرى ... بمنعك من يد الكفر العنيد أتذكر حين كنت مناخ شرك ... فصرت مقام شكر للحميد وكنت مقام تثليث فأضحى ... يقرر فيك توحيد المجيد جزى جيش الجزائر كل خير ... إله الخلق ذو الملك العتيد هم المستنقذوك وقد أحاطت ... بك الأعداء تطمع في المزيد 6 - ومن قصيدة (لأبي عبد الله محمد - المعروف بابن يوسف الجزائري): مولاي فضلك للكروب مفرج ... وبتاج عز الله أنت متوج جهزت حقا للجهاد عساكرا ... كرب الورى بقربهم يتفرج كم قاتلوا الأبطال يوم الملتقى ... حتى محوا داجي الضلال وفرجوا وحياهم المولى بنصر عندما ... ركبوا المطايا للجهاد وأسرجوا حتى قضوا حقا (لوهران) التي ... أمواج بحر ضلالهم تتموج فرت خيول المشركين أمامهم ... لما رأوا برق الهدى يتورج عادت إلى الإسلام دارا مثلما ... كانت، وصارت ريحها تتأرج أضحى مؤذنها يحيعل تارة ... وبها يهلل تارة ويهزج وقراءة القرآن في أرجائها ... منها نتائج الاستقامة تنتج والدين أصبح قيما وكفى بها ... من نعمة عنا الكروب تفرج 7 - ومن قصيدة للشيخ (محمد بن محمد بن علي بن سيدي المهدي الجزائري): وهل طاوعت (وهران) قبل مملكا ... سواه فأضحى أنفها وهو راغم فكم سامها من لا يناهضها وكم ... حوالي حماها حام بالزور حالم تملكها حزب الشقاء ولم يكن ... زمانا لحزب الحق عنها مخاصم

بها يسمع الناقوس من نحو فرسخ ... ومن لغة الكفار عنه تراجم وفي كل يوم صيحة من خيولها ... ينوح لها الإسلام، والشرك باسم زهى واعتلى التثليث فيها ونكست ... لما دهم التوحيد منه الغمائم فقيض للفتح المبين مهندا، رقيق ... الشبا، صلب الصفيحة، صارم إمام سقى الكفار كأس منية ... لهم شبه بالنمل والسيف حاطم لقد صال فيهم صولة هاشمية ... فأمرهم في الحرب حيران واجم وعاد (لوهران) السنية ريها ... وحن إليها عهدها المتقادم 8 - ومن أرجوزة للشيخ (أبو عبد الله محمد التغيرلي) من مدينة الجزائر في تاريخ تحداث وهران: الحمد لله الذي قد فتحا ... وهران من أيدي الرجال الصلحا وقهر القوم اللئام الفجرة ... ورفع الإسلام فوق الكفرة في مدة السلطان فخر الناس ... (أحمد) خاقان أبي العباس من ملك البرين والبحرين ... ومصر والشام بدون مين للحرمين خادم طول المدى ... دام انتصاره على جمع العدا يا سائلا عما بوهران ظهر ... من أخذها وفتحها كما اشتهر أخذها الكفار بالثبات ... مما رويناه عن الثقات سنة أربع وعشرة مضت ... من بعد تسعمائة قد كملت فمئتان مع خمس سنين ... عدد مكثها بأيدي المشركين ثم بعد العزم من الإله ... قد جاءنا الفتح بنصر الله ففتحت سنة تسعة عشر ... ومائة من بعد ألف تعتبر في سادس العشرين من شوال ... صبيحة الجمعة خذ مقالي عن يد من قد صير الجزائر ... جنة كل قاطن وزائر محمد بكداش فخر الدولة ... وحسن صهره عالي الصولة (¬1) ¬

_ (¬1) (حرب الثلاثمائة سنة) أحمد توفيق المدني ص 438 - 442 - و466 - 472.

ترجمة رسالتين متبادلتين بين داي الجزائر والرئيس الأميريكي

2 - ترجمة رسالتين متبادلتين بين داي الجزائر والرئيس الأميريكي سنة 1825 أعلنت الجزائر الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية في 12 نيسان - أبريل - 1825، بسبب استغلال أمريكا لاتفاقياتها مع الجزائر بطريقة سيئة، وبسبب عدم وفاء أمريكا بالتزاماتها. وأرسل الرئيس الأمريكي (جيمس ماديسون) رسالة إلى الداي تضمنت ما يلي: (لقد أعلنتم سموكم الحرب على الولايات المتحدة، وقد قرر الكونغرس في إجتماعه الأخير إعلان حالة الحرب مع حكومتكم، وكلف أسطولا من بواخرنا بالتوجه إلى البحر الأبيض المتوسط لتنفيذ ذلك القرار. وسيكلف هذا الأسطول تخييركم بين الحرب والسلام، وأنتم وما ترون، ولنا وطيد الأمل أن توازنوا بين ويلات الحرب ومزايا حسن التفاهم مع أمريكا التي تزداد قوتها مع الزمن، فتجنحوا إلى استئناف ما كان بين الحكومتين من علاقات الود والصداقة، وليس لحكومتنا هدف إلا السلام والصداقة مع الجميع). وأجاب الداي (عمر) باسم الحكومة الجزائرية على ذلك - بعد أن حدد شروط الصلح، وتضمنت رسالته: (وإني أبلغكم رغبة حكومتي في استئناف علاقات الصداقة التي

ربطت بين بلدينا منذ أكثر من عشرين سنة، ولا سيما أن أمريكا كانت أول دولة عقدت معها حكومتي معاهدات سلام. ونتمنى بعون الله أن يأتينا ردكم سريعا بالموافقة على شروطنا الموضحة آنفا، أما إذا رفضتم الموافقة عليها، فإنكم تتحملون وزر خرق قوانين الإنسانية المقدسة، والاعتداء على مواثيق الأمم). وقد رضخت أمريكا لشروط الداي وتم الصلح. (تاريخ الجزائر - مجاهد مسعود - ص 104)

المراجع

المراجع

_ (1) حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا - أحمد توفيق المدني - الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر - 1976. (2) تاريخ الجزائر - تأليف الأستاذ مجاهد مسعود - الجزء الأول. (3) العلاقات الديبلوماسية بين دول المغرب والولايات المتحدة - إسماعيل العربي - الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر - 1978. (4) تاريخ الجزائر الحديث - الدكتور أبو القاسم سعد الله - معهد البحوث والدراسات العربية - جامعة الدول العربية - 1970. (5) تاريخ الشعوب الإسلامية، كارل بروكلمان، دار العلم للملايين، بيروت (1974). ترجمة نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي.

الفهرس

الفهرس

_ الموضوع ................................................ الصفحة

_ ب - انتصار المسلمين في مستغانم (1558م) ........................... 83 ج - معركة المرسى الكبير (1563م) .................................... 87 د - تحرير تونس (1573م) ............................................. 97 هـ - انتصار المجاهدين في أصيلا (المغرب) (1575م) .................. 101 2 - انكلترا تشن الحرب على الجزائر (1620 م) ......................... 109 3 - الأعمال العدوانية الإفرنسية (1664 - و1682م) ................... 113 4 - القتال حول وهران وتحريرها (1705 - 1708 م) ................... 117 5 - الإسبانيون يعودون إلى وهران (1732م) ............................ 128 6 - تبادل الأسرى والمعركة البحرية أمام الجزائر (1773م) ............... 134 7 - الجزائر تدمر الحملة الإسبانية الكبرى (1775م) ..................... 140 8 - معركة بحرية جديدة أمام الجزائر (1784م) .......................... 150 9 - وأخيرا تحرير وهران (1791م) ...................................... 155 الفصل الثالث: .......................................................... 159 1 - الجزائر (المحروسة) على طريق البناء والقوة ......................... 161 2 - السياسة الاستراتيجية للجزائر ........................................ 171 3 - المجاهدون والحروب الثوروية الإسلامية ............................. 178 قراءات .................................................................. 187 1 - وهران وأدب الحرب ................................................. 189 2 - ترجمة رسالتين متبادلتين بين داي الجزائر والرئيس الأمريكي .......... 194 المراجع الرئيسية للبحث .................................................. 196

3 - المقاومة الجزائرية للإستعمار الفرنسي (1830 - 1838م)

المقاومة الجزائرية للإستعمار الفرنسي (1830 - 1838م)

بسم الله الرحمن الرحيم

جهاد شعب الجزائر المقاومة الجزائرية للإستعمار الفرنسي (1830 - 1838م) بسام العسلي دار النفائس

الطبعة الأولى: 1400 هـ - 1980م الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986م

الإهداء إلى أرواح الشهداء من الرواد الأوائل في مجابهة الهجمة الصليبية (الاستعمارية) والذين أضاؤوا بدمائهم درب الجهاد فسارت جموع المجاهدين على خطاهم حتى النصر. بسام

المقدمة ويبدأ القرن الخامس عشر للهجرة، ومع هذه البداية يكون قد مضى على احتلال الجزائر قرن ونصف من عمر الزمن. ففي سنة (1830 م) اقتحمت جيوش الغزو الإفرنسي أرض الجزائر الإسلامية في عملية قرصنة وحشية عجزت عن مثلها جيوش البرابرة. وكان ذلك إيذانا ببدء عصر جديد عرف باسم (عصر الاستعمار). ومع بداية سنة (1980 م) يعود العالم العربي - الإسلامي ليعيش تجارب غير بعيدة في ملامحها العامة عن تلك التي عرفها منذ مائة وخمسين سنة. الحرب واحدة وظواهرها متنوعة وأشكالها متباينة، غير أن هذا التنوع وذاك التباين لا يستطيعان إخفاء هدف هذه الحرب الشرسة وطبيعتها. لقد كانت عملية غزو الجزائر - تحت راية الصليبية - هي بداية صراع مرير خاصه شعب الجزائر المجاهد تحت راية الإسلام؛ طوال فترة (عرفت بليل الاستعمار). وكان هذا الليل الطويل حافلا

بالتجارب الثوروية وأعمال الصراع المسلح. ولم تعد هذه التجارب الثوروية ملكا للجزائر وأهلها بقدر ما أصبحت ملكا لشعوب العالم كله، وبصورة خاصة تلك التي عانت من (تجربة الاستعمار) ولا تزال تعاني من (رواسبه). وتجربة الجزائر هي تجربة (فردة) فقد بدأ الاستعمار بالجزائر وانتهى فوق أرض الجزائر. وكان الجهاد طوال هذه الفترة مميزا بخصائصه، مميزا بأساليبه، مما حمل الكاتب العسكري الإفرنسي بلوفر - على الاعتراف بهذه الخصوصية، فصنفها في إطار (الحروب الثوروية الإسلامية). وقد يكون من غير المهم الأخذ برأي الغربيين في المنجزات الثوروية للعالم العربي الإسلامي، ولكن من المهم أن يعرف العرب - المسلمون أهمية تجاربهم الثوروية، لأن هذه المعرفه تجعلهم أكثر قدرة على الالتزام بأسس (أصالتهم الذاتية). تجربة (الجزائر المجاهدة) هي تجربة فردة، وقد يكون العرب المسلمون أحرى من غيرهم بمعرفة أبعاد هذه التجربة والإفادة منها. وقد يكون من الصعب الوصول إلى هذه الأبعاد إن هي لم تستند إلى بداياتها الأولى. ومن هنا تظهر أهمية العودة إلى تلك البدايات في مقاومة الهجمة الاستعمارية. لقد تميزت المقاومة الجزائرية بمجموعة من الظواهر التي ارتسمت ملامحها الأولى مع بدايات الغزو، ثم تطورت هذه الظواهر من خلال التفاعل المستمر بين قوى القمع الاستعماري وقوى الجهاد الإسلامي. وحاولت الصليبية تغطية كل سوءات الاستعمار، غير أنها فشلت في ذلك. وحاولت قوى القمع الاستعماري تدمير قواعد الصمود الإسلامية بتدمير المسلمين عقيدة وفكرا وحتى عبادة بتدمير المساجد.

والاستيلاء عليها. غير أن ذلك كله ما زاد الجهاد إلا اتقادا، وما زاد من ألق الاسلام إلا توهجا. فانطلقت الثورات المتتالية من المساجد - من قواعد الصمود -. وحاولت فرنسا الاستعمار تدمير العرب، واللغة العربية، لأنها لغة القرآن، لغة الصمود. وهنا كان فشلها الكبير أيضا، فكانت الصيحة المفجرة لكل ثورة ولكل معركة هي صيحة الجهاد عند العرب - المسلمين (الله أكبر). وتنتصر الجزائر. ويعود الصراع من البداية، وإلى البداية. غير أن أساليب الصراع تختلف، وطرائقه تتباين، لكن طبيعته ثابتة لا تتغير. ومن هنا أيضا تأخذ التجربة الجزائرية كل أهميتها، وتصبح ملكا للعالم العربي - الإسلامي كله. وهذا ما يدفع إلى (ضرورة التعرف عليها) وتذكرها دائما، والتعلم منها. (وقل رب زدني علما) بسام العسلي

وجيز الأحداث على الساحة الأوروبية

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... وجيز الأحداث

وجيز الأحداث على الساحة الإسلامية

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... وجيز الأحداث

وجيز الأحداث على ساحة الجزائر

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... وجيز الأحداث

الفصل الأول

{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ................ والله على كل شيء قدير} (سورة التوبة - الآيتان 38 و 39). الفصل الأول 1 - الموقف في دار الخلافة العثمانية. 2 - محمد علي باشا في مصر. 3 - معركة نافاران (1827).

الموقف في دار الخلافة العثمانية

1 - الموقف في دار الخلافة العثمانية بدأ القرن التاسع عشر وهو يحمل معه بدايات التحول الحاسمة في غير مصلحة العالم الإسلامي، وأخذت الضربات المتلاحقة والمتسارعة تنزل بالإمبراطورية العثمانية (الخلافة) بعد أن استنزف الصراع المستمر جهد طاقتها، وبعد أن أخذت الدولتان المجاورتان لها (بصورة خاصة) تتوسعان على حسابها، فقد سبق لدولة روسيا والنمسا أن انتزعتا قسما كبيرا من أراضيها، لا سيما بعد أن ضمت روسيا إليها ولاية الكرج (جورجيا) سنة 1784، وصار بإمكانها تهديد دار الخلافة الإسلامية تهديدا مباشرا. ورافق ذلك ثورة صناعية في الغرب، أدت إلى زيادة القدرات في دوله - وبصورة خاصة في فرنسا وانكلترا - وبدأت عملية البحث عن الأسواق الجديدة في العالم للحصول على المواد الأولية وفريق المنتجات. ولما كان العالم الإسلامي يمسك بالتجارة الدولية ومفاتيح البحار، فقد أخذ البحث عن الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك عن طريق ما عرف (بالاستعمار). وتوجهت الأطماع بالدرجة الأولى لتمزيق وحدة العالم الإسلامي، خارجيا وداخليا، وكان باستطاعة الدول العظمى استخدام عامل التحريض (القومي والوطني) لتدمير - القلعة

الإسلامية من الداخل، وظهرت نتائج التحريض بسرعة على المسرح الأوروبي. وأمام هذه الأخطار مجتمعة ظهرت حاجة الخلافة العثمانية لإعادة التنظيم الشامل في كل أجهزتها ومؤسساتها. ولم تعدم دار الخلافة وجود شخصيات إصلاحية متفتحة تنزع إلى الإصلاح، وكانت المؤسسة العسكرية التي أحرزت فيما مضى أعظم الانتصارات، قد انتهت إلى مرحلة مذهلة من التدهور والضعف والانحطاط. وكان لا بد من العمل على البدء بإصلاح هذه المؤسسة قبل كل شيء لمجابهة الأخطار الخارجية. وعندما حاول السلطان (سليم الثالث) إصلاح جيشه، وتطويره، مستفيدا في ذلك من تجربة نابليون بونابرت، تصدت له طبقة (قيادة الإنكشارية) فأمرت مع حاميات قلاع البوسفور. وأرغمت السلطان عن التنازل عن العرش في 29 أيار - مايو - سنة 1807 م0 بعد أن تم اقتياد جميع أنصار الإصلاح إلى ميدان السباق (آت ميدان) حيث تمت إبادتهم عن آخرهم. تولى مصطفى الرابع - ابن عم سليم الثالث - الخلافة، غير أنه لم يتمكن من الاسمرار في الخلافة أكثر من سنة واحدة، أقدم بعدها (مصطفى البيرقدار - حاكم سيلسترة) (¬1) على خلعه ولما كان (السلطان سليم السابق) قد قتل، فقد خلفه على الخلافة أخوه (محمود الثاني: 1808 - 1839) الذي وضع نصب عينيه تطوير الخلافة وزيادة قوتها والقضاء على (الإنكشارية). وأظهر في البداية ¬

_ (¬1) سيلستره SILISTRIE مدينة بلغارية تقع على الدانوب الأدنى - الأسفل. وكانت مركزا لإمارة الإقيم المحيط بها، تميزت بقلاعها القوية.

ومعه مصطفى البيرقدار رضوخه للعناصر المقاومة للإصلاح. وعندما تعرض للهزائم المتتالية أمام القوات الروسية وخسر (نيقو بوليس وسيلستره وروسجق) واضطر إلى توقيع صلح (بوخارست في 28 أيار - مايو سنة 1812) وهو الصلح الذي اعترف فيه بنهر البروت حدا فاصلا بين روسيا ودار الخلافة والذي أعلن فيه التزامه بعدم أي توسع جديد في المستقبل، وجد أن الفرصة قد باتت سانحة للمضي في إصلاحاته، غير أنه كان ملزما على التحرك بحذر بسبب مخاوفه من حرب يشنها (نابليون) على حدود البلاد الإسلامية، وبسبب الثورات المتفجرة في أوروبا. فمنذ سنة (1804 م) كانت بلاد الصرب قد أعلنت الثورة بقيادة (قره جورج - قره يوركي) التي قدمت دعما كبيرا لروسيا في حربها ضد العثمانيين مقابل دعم الروس لهم من أجل الاستقلال. ثم تابع (قره جورج) حربه ضد الخلافة العثمانية، ولكن الهزائم التي نزلت به أرغمته على الفرار إلى النمسا. فقام مقامه (ميلوش اوبرنوويج). وفي سنة 1820 اندلعت نار الثورة اليونانية التي أذكتها الحماسة الأوروبية - الصليبية -. وأدت هذه الثورة إلى تعقيدات كبيرة بسبب منافسات الدول العظمى على استثمارها. وكان من أبرز نتائجها، حرمان بلاد الخلافة العثمانية من إقليم له أهميته العظمى (من الناحية الجيو - استراتيجية ومن الناحية الاقتصادية والبشرية). وتبع ذلك ظهور ثورات في الروم إيلي والأناضول غير أن الخلافة العثمانية نجحت في القضاء على هذه الثورات، واستعادت هيبتها في الإقاليم. وبرهن جند الإنكشارية في هذه المعارك جميعها على ضعفهم وقصورهم. وأفاد (السلطان محمود) من فترة الانتظار والهدوء، فأسند معظم مناصب الدولة إلى رجال أكفاء ومخلصين. وأقدم بعد ذلك على الخطوة الحاسمة في

ربيع سنة 1826م حيث أصدر أمره بإنشاء جيش نظامي جديد أطلق عليه اسم (معلم اشكنجي) أي (الحرس المدرب) وذلك بعد أن اتخذ التدابير الوقائية اللازمة تحت حماية الجيوش الأناضولية التي كان حاكم (بيقوز - أو بكقوز) قد حشدها على الضفة الشرقية من البوسفور. واستخدم لتدريب هذا الجيش المدربين الذين أرسلهم محمد علي والي مصر لهذه الغاية. وأمكن للسلطان أن يكتسب إلى جانبه ضباط الإنكشارية، فأقروا خططه الإصلاحية، في حين ازدادت معارضة من دونهم من الجند لهذا الإصلاح شدة وحدة. وحدد يوم 18 حزيران - يونيو 1826 موعدا لعرض الجيش في (كآغد خانه) قرب استانبول. ولكي يحول الإنكشارية دون هذا العرض، فقد أعلنوا العصيان قبل موعد العرض بثلاثة أيام، واكتفوا بادىء الأمر بالمطالبة بإلغاء قوانين التدريب المستحدثة للجيش الجديد. ولكن السلطان أمر - بموافقة العلماء - بأن تنشر الراية النبوية - وكأنه يبغي قتال فئة من الكفار. وأوعز إلى الجيش، بعد أن حشد على وجه السرعة، بتطويق الإنكشارية في (آت ميدان) القائمه تجاه ثكناتهم، ولفظ المفتي اللعنة عليهم، ومن ثم دارت رحى مجزرة لم يسلم من هولها أحد منهم، وقتل نحو الألف من الإنكشارية في الأقسام الأخرى من المدينة وألقيت رايتهم ولباسهم المميز أي القلنسوة في الوحل وهدمت ملاهيهم ومقاهيهم التي ألفوا التردد عليها. ليس ذلك فحسب، بل حلت الطريقة (البكتاشية) المتصلة بالإنكشارية، كما حلت فرق الإطفاء والحمالين ذات الصلة الوثيقة بها. ولم تغفل الدولة رجال المدفعية وحرس البوسفور، الذين تعلقوا هذه المرة بأهداب الولاء، على الرغم من أنهم كثيرا ما أيدوا الإنكشارية وتضامنوا معهم، فقضت على كل امرىء منهم آنست

فيه ميولا مويدة للإنكشارية. كانت المنافسة الاستعمارية الإفرنسية - الإنكليزية قد قطعت شوطا بعيدا في مجال التوغل في المشرق الإسلامي، ولم تكن حملة نابليون على مصر، وتدمير الأسطول الإفرنسي في أبي قير، سوى مظهرا من مظاهر هذه المنافسة (للسيطرة على تجارة الشرق - عبر طريق الهند) وقد أخذت فرنسا في انتهاج سياسة السيطرة على الشرق من خلال والي مصر (محمد علي) الذي وجه قواته إلى اليمن، وبذلك وجدت بريطانيا نفوذها مهددا بشكل قوي، ووجدت طريق الهند مقطوعة. وعلى كل حال، فإن صراعا متباينا في الحدة كان يجري - منذ سنة 1817 م - بين القبائل اليمنية وبين القوة العسكرية المحدودة للحاكم الإنكليزي في (مخا). وعند وصول الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا نفسه، أرسلت بريطانيا الكابتن (سادلر) بسرعة من بومباي - في سنة 1819 - ليتابع عن قرب العمليات العسكرية ويبحث عن وسائل تعاون (إنكليزي - مصري) لإعادة الهدوء إلى البلاد. وكان الباب العالي ومحمد علي قد أدركا المطامع الاستعمارية الكامنة وراء هذا المسعى. فكتب السلطان إلى والي مصر محذرا من النوايا الانكليزية في 15 تشرين الأول - نوفمبر - 1819. رسالة جاء فيها: (تهدف السياسة الإنكليزية - بالنسبة للقضية اليمنية، إلى أن تحتل تدريجيا بعض المواقع من أجل التمهيد لغزو محتمل لهذه المنطقة وإيجاد الوسائل للتدخل في شؤنها) (¬1) ومع ذلك، فقد تدخلت بريطانيا بقواتها ضد (مخا) ¬

_ (¬1) MOUSTAPHA FAHMI. EMPIRE EGYPTIEN SOUS MOHAMMED ALI ET LA QUESTION D'ORIENT, PARIS 1930 P.60

وقصفت المدينة في كانون الأول - ديسمبر 1820، وأرغمت الإمام على التوقيع على معاهدة سلام، وعلى احترام حقوق المقيم الإنكليزي فيها، ممثل شركة الهند، في (15 كانون الثاني - يناير - 1821). ويذكر هنا أن بلاد المشرق الإسلامي كانت تتعرض في تلك الفترة لموجات من الجواسيس الذين يحملون واجهات علمية، بهدف التمهيد لتنفيذ المخططات الاستعمارية ومنهم على سبيل المثال (عالم الأثنوبولوجيا والرحالة ج. ل. بوركاردت 1784 - 1819) والذي كان يجتاز الجزيرة العربية في ثياب حاج مسلم تحت اسم الشيخ إبراهيم، فأوقفه (محمد علي باشا والي مصر) في الطائف سنة 1814م باعتباره جاسوسا إنكليزيا. وقد استجوبه والي مصر طويلا حول السودان والنوبة وبلاد الحبشة. وقد أثارت المعلومات التي حصل عليها محمد علي اهتمامه، وأخذ في التحدث عن مشروع لغزو - الحبشة، مما أزعج بريطانيا، فبعثت بسفيرها لمقابلة محمد علي والتحدث إليه، وفي 20 تشرين الثاني - نوفمبر - 1820، أرسل السفير الإنكليزي (سالت) نتائح مقابلته مع محمد علي باشا في تقرير، تضمن ما يلي: (اغتنمت الفرصة لأعلن له بلهجة حازمة، بأن مشروع غزو الحبشة قد سبب لي بالفعل ألما حقيقيا لأنني متأكد من أنه سوف لا يروق للحكومة البريطانية، إذ أننا نعتبر أن الحبشة واقعة تحت حمايتنا. ولقد لفت نظره إلى أن الحبشة هي البلد الوحيد في أفريقيا الذي احتفظ بالدين المسيحي، وإلى أنها صمدت صمودا مظفرا خلال أجيال أمام هجمات المسلمين، وإلى أنه لا ينبغي لأحد أن يتوقع من أوروبا عامة، ومن إنكلترا خاصة، أن تنظر بعدم المبالاة إلى هذا البلد إذا ما تعرض للهجوم. وقد التزمت أنا شخصيا بزيارة

هذا البلد لإقامة علاقات ودية مع حكامه. وهناك كثيرون من جمعية الكتاب المقدس في بريطانيا يهتمون بمستقبل هذا البلد. وعندما رأى سموه موقفي الجدي، غير لهجته وطمأنني بشكل معبر إلى أنه قد تخلى منذ الآن عن كل مطمع فيها، وذلك بالرغم من أن هذه المنطقة تغص بالذهب وبالأحجار الكريمة، وبالرغم أيضا من أن غزوه لها مضمون وذلك حتى لا يتورط ولو للحظة واحدة مع حكومتنا) (¬1). ظهر بوضوح أن (محمد علي باشا) والي مصر، كان يخشى إنكلترا، ويحسب حسابها، ولهذا فإن إنكلترا لم تعد تهتم بتطوير العلاقات الإفرنسية وهذا ما كتبه القنصل الإنكليزي في الإسكندرية في رسالة له يوم 19 حزيران 1 يونيو 1827، جاء فيها ما يلي: (ما هي القيمة السياسية لصداقة الباشا للإفرنسيين؟ إنها، حتى ولو افترضناها نتيجة شعور بالعرفان، بسبب النعم والعلاقات الشخصية فماذا يمكن أن تساوي؟ فلنتركهم إذن يتمتعون بسلام بكل فوائد محبة (محمد علي) ما دمنا قادرين على السيطرة عليه بالتخويف: هذا ما يجب أن يكون أساس سياستنا. ضعوا قوة إنكترا الهائلة في كفة الميزان، وضعوا حب الباشا للمتملقين والمتزلفين الإفرنسيين في الكفة الأخرى، وسترون كفة من سترجح؟ ..) (¬2). لقد ترافقت سياسة المنافسة هذه، بمشاريع تقسيم الإمبراطورية العثمانية، ولم يعد الحديث عن تقسيم تركة (الرجل المريض سريا ¬

_ (¬1) Ibid: PP. 66 - 68. (¬2) E.B.BARKER SYRIA AND EGYPT UNDER THE LAST FIVE SULTANS OF TURKEY .P.P.51 - 52.

أو في الخفاء. فقد ظهر في باريس كتيبان يتضمنان تلخيصا لبعض الأفكار التي ظهرت في القرن الثامن عشر حول انحطاط الإمبراطورية العثمانية. وضرورة توزيع مقاطعاتها على الأمم الأوروبية التجارية. وكان الكتيب الأول عبارة عن منشور مغفل بتوقيع. ج. ج. صدر سنة 1821 م بعنوان (آراء حول أزمة الإمبراطورية العثمانية الراهنة) ويدعو المؤلف من جديد في هذا الكتيب إلى طرد الأتراك من أوروبا، وتوزيع بعض المواقع الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط على الدول الاستعمارية وتبعا لذلك ينبغي على فرنسا أن تطالب بجزيرتي قبرص وكريت أما الكتيب الثاني فمنسوب إلى مؤلف يدعى. ب. أ. دوفو (1795 - 1877). ويحمل عنوان (حول تقسيم تركيا الأوروبية بين روسيا وإنكلترا واليونان بواسطة فرنسا) ويقترح مضمون هذا الكتيب تكوين (إمبراطورية يونانية) على أنقاض السيطرة العثمانية. وفي هذه الأثناء، كانت مسألة العمل لتقسيم تركيا مسألة مطروحة فعليا أمام الدبلوماسية الأوروبية. وفي 4 تموز - يوليو - 1821 م. أرسل (نسرلود) (¬1) مذكرة دورية باسم روسيا موجهة إلى الدول الكبرى يطالبها فيها بإبداء رأيها بشأن مصير الإمبراطورية العثمانية وكان القيصر يحث على التفاهم بين الدول الكبرى المعنية بشأن تقسيم كان يبدو له مستعجلا ووشيكا. ¬

_ (¬1) - نسرلود: CHARLES ROBERT COMTE DE NESSERLODE ديبلوماسي روسي، من مواليد لشبونة (1780 - 1862 م) عمل مفاوضا مطلق الصلاحية لقيصر روسيا أثناء موتمر فيينا، ووجه السياسة الخارجية الروسية أيام حكم ألكسندر الأول ونيقولا الأول (من سنة 1816 وحتى سنة 1856 م).

وبعد ذلك بأسبوعين كانت الحكومة الروسية تقترح على فرنسا تحالفا شكليا حول هذا الموضوع. ولكن الدوق (ريشيليو) كان يطالب بمشروع حسي - عملي - وهذا ما كان يرفضه القيصر. ورغم ذلك، كان يبدو أن شاتوبريان يؤيد هذا المشروع الروسي. حتى أنه أرسل من سفارته في روما رسالة دعا فيها وزيره إلى التفاهم مع قيصر روسيا بشأن تقسيم عادل للمقاطعات العثمانية - الأوروبية: (إذا أردتم - القيصر - الذهاب إلى القسطنطينية فقوموا مع الدول المسيحية بتقسيم عادل لتركيا الأوروبية. أما الدول التي ليست في مركز يسمح لها بالتوسع من جهة الشرق، فتحصل على تعويضات في مناطق أخرى). وهكذا كان وزير الخارجية الإفرنسي (شاتو بريان) (¬1) مستعدا للتنازل بكل طيبة خاطر عن القسطنطينية لروسيا مقابل مطالبته بكولونيا وريناني لفرنسا. أما الحكومة البريطانية فكانت على ما يظهر تسير على درب منفرد لوضع خريطة جديدة للقارة. أما بروسيا التي كان يجب عليها أن تتخلى عن مقاطعاتها الشرفية في رينانيا، فقد كانت ستحصل بالمقابل على مملكة (الساكس) التي سيعوض على أصحابها بمقاطعة ميلانو، وكانت ¬

_ (¬1) شاتوبريان: VICOMTE FRANCOIS RENE DE CHATEAUBRIAND كاتب إفرنسي من مواليد سانت مالو (1768 - 1848 م) سافر إلى أمريكا، وعاد إلى فرنسا مع انفجار الثورة الإفرنسية، ثم عاد فهاجر إلى إنكلترا سنة 1792 ورجع إلى فرنسا سنة 1800م. وكانت علاقاته مع نابليون بونابرت سيئة. وعندما رجعت الملكية عمل سفيرا لها في لندن، ثم وزيرا للخارجية من سنة 1822 - إلى سنة 1824م. وكان أول كتاب اشتهر به هو (عبقرية المسيحية) الذي صدر سنة 1802، ثم كتاب (الشهداء) الذي صدر سنة (1809) و (الطريق من باريس إلى القدس) الذي صدر سنة (1811 م) وكتب كثيرة أخرى تميزت بالعبارة الرشيقة والأسلوب الأخاذ.

حدود هولاندا ستتغير أيضا وفقا لتلك المخططات. ولم يكن على كل حال هذا المشروع هو أول مشروع في أفق الديبلوماسية الغربية خلال تلك الفترة. لقد كانت هذه الديبلوماسية المتنافسة (أحيانا) تسير بخطوات متوازية ومتكاملة، تشترك فيها انكلترا وفرنسا بالدرجة الأولى والنمسا وروسيا بالدرجة الثانية، ثم تأتي بروسيا بالدرجة الثالثة. وكانت هذه المنافسة تصل إلى مستوى الصراع أحيانا، غير أنها سرعان ما تصل إلى الاتفاق عندما يكون الأمر متعلقا بالسيطرة على العالم الإسلامي من خلال الهيمنة عليه، وهو الأمر الذي أدركه حاكم مصر في مرحلة متأخرة عندما تحدث إلى القنصل الروسي وهو يسدي نصائحه بصمت واهتمام، ثم قال له: (إني أرى بأن بروسيا في عداد الدول التي باتت تتدخل في شووننا كما لو كانت الحكومات الأربع الكبرى غير كافية، وكأن من الضروري انضمام هذه الدوله الخامسة - وأرى أن المنطق يخضع لقانون الأقوى) (¬1) ¬

_ (¬1) رينه كتاوي (حكم محمد علي) 192 - 202 إصدار القاهرة.

محمد علي باشا في مصر

2 - محمد علي باشا في مصر (¬1) بقي المماليك هم القوة الحاكمة في مصر منذ نهاية الحروب الصليبية وامتد حكمهم لأكثر من ثلاثة قرون، حتى إذا ما جاء الفتح العثماني، لم يغير كثيرا من العلاقات التي كانت سائدة، غير أن حملة نابليون على مصر (1798 م) دمرتهم في معركة الهرم، ¬

_ (¬1) محمد علي باشا، من مواليد فواله على الساحل المقدوني (1769 - 1848).كان عمه يشغل منصب (متسلم - أو نائب والي) وفي ديوان عمه هذا تمرس محمد علي بالأعمال والمعاملات من غير أن يحظى بتربية مدرسية صحيحة. حتى إذا بلغ من العشرين كان قد نجح في تجارة التبغ وعقد الصفقات فيها، والتبغ مادة التجارة الرئيسية في بلده الأم. وظهرت عليه أمارات النزوع إلى السلطة وقوة الشخصية منذ نعومة أظفاره. وعندما قام (نابليون) بغزو مصر، فأرسل السلطان سليم الثالث بضع سفن حاملة جنودا إلى مصر في صيف سنة 1799. وكان على (عم محمد علي) أن يبعث إلى مصر أيضا بكتيبة مؤلفة من ثلاثمائة رجل، فعهد إلى ابنه الصغير بقيادتها، وعين (محمد علي) مستشارا لابنه. ولم تكد الكتيبة تصل إلى مصر حتى تولى محمد علي القيادة الفعلية وأظهر في المعارك التي قادها ضد الإفرنسيين حتى أكرههم على الجلاء عن مصر من الكفاءة القيادية ما أهله للوثوب بقفزة واحدة إلى منصب القيادة العامة في سنة (1801). وفي سنة 1805، أصبح حاكم مصر بدون منازع، مستعينا على بلوغ مأربه بشيوخ الأزهر. ووافق السلطان على تعيينه واليا على مصر. ومنحه لقب (باشا).

وأرسلت الخلافة قوة لمحاربة الإفرنسيين تولى (محمد علي الألباني - الأرناؤوطي) قيادة كتيبة منها، ثم لم يلبث حتى أفاد من التناقضات التي اعقبت إخراج الإفرنسيين من البلاد. وأصبح في سنوات قليلة الحاكم المطلق لمصر، وأظهر من الغيرة على الدين، والرغبة في الجهاد، والعمل لبناء مصر، ما جعله يستحوذ على محبة أهل مصر الذين التفوا حوله وساندوه. وخلال هذه الفترة ترك - للمماليك حرية الحكم في أعالي مصر، حتى إذا ما شرعوا في مفاوضة انكلترا (وكان محمد علي قد هزم جيوشها التي حاولت النزول إلى البر، عند رشيد، في نيسان - أبريل - سنة 1807) قرر التخلص منهم. ودعا زعماءهم إلى القاهرة في آذار - مارس - 1811، زاعما أنه يبتغي استشارتهم في أمر حملة يريد شنها على الوهابيين في بلاد العرب. وهناك أعمل السيف في رؤوسهم (في 11 من الشهر نفسه) وكانت عدتهم ثلاثمائة رجل. فدانت مصر لمحمد علي كما لم تدن لحاكم آخر من قبله. غير أن جنوده الألبانيين (الأرناؤوط) الذين كانوا لا يزالون خاضعين خضوعا بعيدا لتأثير الروح العثمانية، أظهروا تهاونا فحاول قمعهم بالقوة، وأدى ذلك إلى نشوب فتنة في القاهرة سنة 1816 استطاع محمد علي إخمادها دون عناء كبير. وعلى إثر ذلك سرح جنوده الألبانيين واستعاض عنهم بالفلاحين المصريين الذين دعاهم إلى الخدمة العسكرية. وانطلق لإعادة تنظيم البلاد داخليا وعسكريا على أسس جديدة. بدأ محمد علي بالعمل للإمساك باقتصاد مصر بقبضة قوية، فقام بإحصاء عام للأراضي، ثم وزعها على الممثلين الرئيسيين للمجتمع المصري الريفي على أساس الاستفادة منها مدى الحياة.

ومكنه ذلك من تدعيم نظام حكمه، وكسب تأييد جماهير السكان العاملة. وفرض نفسه في الواقع كمالك فعلي وحيد للبلاد وكسيد لمصائرها الحيوية. وبعدما حقق كل ذلك، اختط لنفسه سياسة داخلية وخارجية ذات جوانب متعددة ومتكاملة: كان يسيطر بقبضته الإدارية القوية على ثروات وادي النيل الضخمة، وثروات المناطق التي ضمها إليه، وكان يفرض نفسه على السلطان العثماني الذي أنهكته التهدئة العسكرية) ورأى اتباع سان سيمون، رواد اشتراكية الدولة، في شخص محمد علي حاكما يحمل لواء نظريتهم الاقتصادية ويعمل على تطبيقها) والتفت محمد علي بعد ذلك إلى الصناعة: (فنشر في مالطا بتاريخ 4 نيسان - أبريل - 1814 إعلانا يدعو فيه العمال من كافة الاختصاصات إلى التعاقد معه للعمل. وفي السنة التالية أمر وكلاءه في العواصم الأوروبية الكبرى أن يزودوه بعمال مهرة ومتخصصين في صناعة النسيج التي كان ينوي دفعها إلى الأمام. لقد أدرك أنئذ أهمية تحويل المواد الأولية الوطنية في مصر نفسها وبيعها مصنعة إلى الخارج. وهكذا بدأت اليد العاملة في الهجرة إلى مصر. وفي أثناء ذلك أقدم على مصادرة العمال الحرفيين في القاهرة والمقاطعات للعمل في المؤسسات التي أنشأها). (وإلى جانب صناعة النسيج أقام محمد علي صناعات أخرى مثل صناعة السكر والزجاج والدباغة والورق والبارود والمنتجات الكيميائية، وعهد بهذه الصناعات إلى خبراء أوروبيين من مختلف الجنسيات) (كذلك برزت أيضا سياسة الانفتاح والتودد تجاه الخبراء الأجانب. وألغى محمد علي القوانين التمييزية، وأطلق حرية ممارسة الشعائر الدينية المسيحية جهارا وإنشاء المدارس والكنائس، ومنح المساواة خاصة بالنسبة لليهود). وأقبل

الافاقون والمغامرون لتجربة حظهم في مصر، وعندما حذره المقربون إليه من الاختيار المتسرع للأجاب أجابهم: (إنني أعرف أنه بين الخمسين شخصا الذين يأتون ليعرضوا علي خدماتهم هناك تسعة وأربعون يمكن اعتبارهم حجارة كريمة مزيفة. إلا أنني لا أستطيع أن اكتشف الجوهرة الحقيقة الوحيدة بينهم دون تجربتهم جميعا، إني أشتريهم كلهم، وعندما أكتشف العنصر الحقيقي بينهم فإنه يعوض علي الخسارة التي سببها لي الآخرون) (وأرسل محمد علي عشرات الطلاب في بعثات خارجية - إلى فرنسا بصورة خاصة - وسافرت البعثة الأولى المكونة من أربعين طالبا سنة 1818 م. ونظمت إدارة ومراقبة الطلاب إلى الجغرافي جوزيف أيوب، أستاذ اللغة العربية في ثانوية (سانت لويس الكبير) وكانت الدراسة مجانية على نفقة الحكومة وتشمل كافة الاختصاصات. وكان محمد علي ينتظر عودة المتخرجين الأوائل من أوروبا، ووصول اتباع سان سيمون الإفرنسيين لكي ينظم وزارة التعليم العام. وأقام مطبعة بولاق التي بقيت منشوراتها ذات شهرة في تكوين الثقافة العربية المعاصرة، والتي وضع أمامها الكاهن (دوم رافائيل) إلى جانب ترجمات لأفضل الكتب الإفرنسية والإنكليزية). وفي مجال تنظيم الجيش، اعتمد محمد علي على ضابط فرنسي قديم اسمه (سيف - وعرف في التاريخ العربي باسم - سليمان باشا) (¬1) ثم أقام المدارس العسكرية لكافة الاختصاصات. وفي نهاية ¬

_ (¬1) سيف (SEVE) واسه جوزيف (JOSEPH) ضابط إفرنسي، خدم في روسيا وغروشي وواترلو. حتى إذا رجعت الملكية إلى فرنسا، بقي بدون عمل طوال ثلاث سنوات في فرنسا، ثم يمم شطر مصر، فقدمه المهندس المعماري (باسكال كوست) إلى محمد علي، الذي ألحقه في خدمته كمهندس أولا، ثم عهد إليه بعد ذلك بمهمة =

سنة 1823، انتهى محمد علي من مرحلة التنظيم، ووقف يستعرض قواته الجديدة وإلى جانبه قنصلا فرنسا وانكلترا. (كانث الحكومة الإفرنسية تنظر دائما بعطف كبير، وتشجع باستمرار هذه النهضة المصرية. وقد أرسلت إلى محمد علي بعد ذلك بأسابيع قليلة بعثة عسكرية استقبلها محمد علي بترحيب كبير. وكانت الحكومة الإفرنسية تهدف من وراء ذلك إلى توجيه مجرى الأحداث لخدمة مصالحها، وقد وصلت البعثة إلى الإسكندرية بقيادة الجنرال (بوير) في 24 تشرين الثاني - نوفمبر - 1824 م. وفي السنة التالية (أب - أغسطس - 1825) كان عدد ضباط البعثة قد ارتفع إلى الضعف تقريبا. وكان الجنرال (بليارد) الذي تفاوض مع المراجع العليا بصدد هذه البعثة قد أعطى الجنرال - بوير - تعليمات ذات مغزى مستقاة من نصائح الوزارة الإفرنسية) (وكان على - بوير -أن يقنع محمد علي بعدة مبادىء وأن يجعله يتصرف بشكل يكسب فيه عطف أوروبا المسيحية. وهكذا فقد كان عليه أن يحمله على إعادة النظر بحملة المورة التي كانت تستنزف قوته العسكرية الناشئة بدون طائل، وتجعله على تعارض مع سياسة أوروبا المسيحية. فهو إذا ما حشد قواه من أجل إعادة البناء الداخلي عن طريق إصلاح البنى القائمة، فقد يجعله ذلك يحقق كسبا أكثر في نظر - العالم

_ = تدريب الوحدات الجديدة في الجيش المصري. واعتنق (سيف) الإسلام في حزيران (يونيو 1824 ليؤكد انصهاره الكامل في النظام، غير أن معاونيه الإفرنسيين الآخرين مثل (بلانا ودومرغ وكادو وكيسون وغيرهم) لم يحتذوا حذوه. وقد أسند هذا قيادة الفرق والكتائب الجديدة إلى قادة مرتزقة من الإفرنسيين والإسبانيين والإيطاليين وسواهم. وأصبح (سيف) مستشارا لإبراهيم باشا في كافة حروبه. (المرجع: أوروبا ومصير الشرق العربي - جوزف حجار 120 - 26).

المتمدن - أما إذا أراد أن ينطلق في سياسة توسع وطنية - فإن إفريقيا وسوريا تشكلان إمكانات عظيمة لا تحمل معها مجازفات ذات شأن). (كانت الحكومة الإفرنسية تفكر في الواقع باستخدام محمد علي لتنفيذ ما عجز نابليون بونابرت عن تحقيقه وهو السيطرة على مصر لتهديد طريق الهند. وعبر القنصل الإفرنسي في القاهرة - دروفيني - عن هذه النوايا بصراحة تامة في رسالته إلى وزير الخارجية الإفرنسي (يوم 7 آب - أغسطس - 1826) حيث قال: (إن عملية البناء العسكري للقوات المصرية التي عهد بها إلى بعثة الجنرال الإفرنسي، تمهد للأحداث التي يجب أن تجعلنا يوما ما نمتلك هذا البلد) وقد حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه الحكومة الإفرنسية منصرفة لوضع مخطط أوسع شمولا يضم المغرب الواقع على البحر الأبيض المتوسط. وقد أثار - دروفيني - نفسه فيما بعد اهتمام الباشا بهذا المخطط، الذي انتهى باحتلال الجزائر، حيث غادر بوير وكبار معاونيه مصر بعد ذلك مباشرة. لم تكن الدول الغربية - وبصورة خاصة فرنسا - تهتم بزيادة القدرة العسكرية المصرية طالما أنها تسيطر على توجيه هذه القدرة ضد الإمبراطورية العثمانية ذاتها من أجل إضعاف العالم الإسلامي من الداخل، ولم تكن هذه الدول تتردد في إعطاء محمد علي ظواهر الحضارة الغربية - عن طريق إقامة المصانع طالما أن هذه المصانع ترهق مصر أكثر مما تفيدها. وهذا ما أشار إليه القنصل الإفرنسي في مصر: (إن وضع محمد علي المالي يزداد خطورة شيئا فشيئا ... وأن تشبثه في إقامة المعامل التي لا تعود عليه بأي ربح قد استنزف

موارده. إن بناء وصيانة المصانع تقدر هذه السنة (1826) بعشرين مليون فرنك. ورغم هذا فقد أقدم على حفر عدة أقنية إضافية، وأمر بتنفيذ أشغال أخرى من هذا النوع). خلال هذه الفترة كانت الثورة اليونانية تتطور باستمرار. وأراد الخليفة العثماني الإفادة من قدرة الجيش المصري، فطلب إلى محمد علي التدخل ووعده بمنحه (المورة) (¬1) ونفذ محمد علي ما طلبه السلطان. وكان ذلك مخالفا لمخططات الدول العظمى التي أرادت استخدام قوة محمد علي ضد العالم الإسلامي لا ضد الصليبية الأوروبية، فبدأت الدول - الأوروبية الغربية في التحرك المضاد. وتمخض هذا التحرك عن التقارب الإنكليزي - الروسي التي انضمت إليه فرنسا بعد فترة قصيرة، وبات هذا التقارب هو الذي يوجه الدبلوماسية الأوروبية نحو حل المسألة اليونانية. فبعد مفاوضات دقيقة تم التوقيع على بروتوكول (سان بطرسبورغ) في 13 آذار - مارس - سنة 1825 م. وقبل الموقعون على هذا البروتوكول مبدأ التدخل الأوروبي في شؤون الإمبراطورية - الخلافة - العثمانية من أجل ما أسموه (وضع حد للحوادث التي كانت تثير الاضطراب في المشرق). وأصبح موضع العالم الإسلامي اعتبارا من هذا التاريخ تحت مبضع التشريح الذي تمسك به القبضة الأوروبية، غير أن أوروبا حاولت قبل اللجوء إلى التدخل المسلح، ¬

_ (¬1) المورة: (MOREE)، شبه جزيرة في اليونان حاليا، حملت هذا الاسم منذ القرون الوسطى، وهي تتبع جغرافيا شبه جزيرة البيلوبونيز (PELOPONNESE) الواقعة إلى جنوب اليونان والمتقطعة بدورها إلى مجموعة من شبه الجزر التي تتصل ببرزخ كورينث، وتضم الأرغوليد ولاكوني ومسينا واليد واخاي واركادي.

إقناع محمد علي بالتخلي عن الخلافة العثمانية، لأنها لم تكن تريد له التدخل كطرف ثالث في الصراع الدائر بين الخلافة الإسلامية وأوروبا المسيحية، وأخدت الدول الكبرى تغري خياله الطموح بمناطق أخرى من الإمبراطورية العثمانية تكون (أكثر ربحا) من ولاية المورة التي منحها له السلطان العثماني، فكان البعض يغرونه بخيرات سوريا، والبعض الآخر يصورون له بمبالغة النفوذ الذي سيكسبه من فتح بلاد المغرب العربي - الإسلامي. وكانت الديبلوماسية الإنكليزية تريد له سوريا، فكتب وزير الخارجية الإنكليزي (ستراتفورد كانينغ) إلى قنصله في الإسكندرية (سالت) رسالة بتاريخ 10 حزيران - يونيو 1826 جاء فيها: (إذا استطعنا أن نحمل محمد علي على فهم مصالحه الخاصة، إلى حد دفعه إلى تبني وجهات نظرنا، فلا شك في أن مساهمته ستساعد على نجاح مفاوضاتنا. وسيكون من الأفضل له التنازل عن جزء من الجزية التي سيدفعها اليونانيون مقابل احتفاط ابنه بولاية سوريا) وكان ستراتفورد كانيبغ قد أرسل مثل هذه التعليمات الدقيقة إلى سفيره في القسطنطينية (جورج كانينغ) في الرابع من حزيران - يونيو - 1826 كالتالي: (إن إغراء محمد علي بسوريا كحل للأزمة اليونانية يدخل في نطاق بروتوكول سان بطرسبورغ، فهل من الممكن إقناع والي مصر، بالتجاوب مع الوساطة بصدد المسألة اليونانية وذلك عن طريق إعطائه الأمل في ولاية سوريا، وبوعده، إذا كان سلوكه حسنا بمساعدة معينة في مشاريعه لبناء السفن؟ إني أفهم تماما أن بروتوكول سان بطرسبورغ لا يعني اسخدام القوة، إلا أنه لا يقول بأي رفض لهذه الوسيلة ...).

كانت عروض القنصل الإفرنسي (دروفيني) (¬1) المبطنة ومساعدة البعثة العسكرية والبحرية تغذي أوهام محمد علي، وفي آب - أغسطس - 1825، نزال الكولونيل ري ومعه عدد من التقنيين في الإسكندرية، ومعه عدة نماذج من المدافع الحربية قدمها (شارل العاشر) وكان ري مكلفا بإعادة تنظيم ترسانات ومعامل الأسلحة. وفي نيسان (أبريل) 1827، وصلت أيضا، بناء على طلب والي مصر، بعثة بحرية إفرنسية أخرى. وبعد فترة قصيرة انضمت السفن الجديدة التي أوصى عليها في أوروبا إلى أسطوله البحري (بين حزيران وآب - يونيو وأغسطس - 1827) أي قبل هزيمة نافاران مباشرة. عملت فرنسا بعد ذلك على تطوير علاقاتها مع مصر محمد علي باشا، وتوثيق عرى التعاون في كل المجالات. ففي 18 آب - أغسطس - 1828، نزلت في الإسكندرية بعثة علمية تضم بين أعضائها الشاب (شامبوليون) والسيد (لونورمان) ورسامين وعالم طبيعي ومهندس معماري وكانت مهمة البعثة القيام بأبحاث تنقيب عن الآثار، وبفك رموز الكتابة الهيروغلوفية (المصرية القديمة). وفي الخامس والعشرين من الشهر ذاته، وصلت بعثة دبلوماسية أخرى مؤلفة من (الكونت دوسان يجي) ابن أخ المسيو (دوهيد دونوفيل) وزير البحرية. والمسيو كرو، من وزارة الخارجية، واجتمعت مطولا إلى محمد علي الذي كان يعيد بناء أسطوله ويرغب في توسيع ترسانته في الإسكندرية، وأن يقيم فيها ورشات لبناء السفن بمساعدة التقنيين ¬

_ (¬1) دروفيني: DROUYN DE LIUYS EDOURAD ديبلوماسي (فرنسي، من مواليد باريس (1805 - 1881 م) أصبح وزيرا للخارجية الإفرنسية في عهد الإمبراطورية الثانية (نابليون الثالث).

الإفرنسيين. وقد وقعت مهمة القيام بهذه العملية الصعبة على عاتق (لوفيبور دوسيريزي) الذي وصل في نيسان - أبريل من سنة 1829م. وفي غضون عام 1829 أيضا وصل إلى مصر (مسيو بوكي ديشان) والسيدة (إيد سانت إيلم) اللذان خلقا وضعا ظريفا ومسليا لإقامتهما، وكان الهدف البعيد لهذا الغزل الإفرنسي المصري الطويل هو احتلال المغرب العربي - الإسلامي - (أو الدويلات البربرية كما كانت تسميها فرنسا). وبعد هذه المكاسب الأولى التي حققها - دروفيني - حاولت بعثتا (هودر - و - لانفسدورف) دفع محمد علي إلى هذه المغامرة الإفريقية ضد مقاطعات شبه مستقلة. إلا أن رفض باشا مصر كان مهذبا. فقد كان هناك سببان رئيسيان لإيقافه عن سلوك هذه الطريق الخطرة والبعيدة: أولهما التحالف مع أمة مسيحية ضد المسلمين، وثانيها، إدراكه بأنه يستعمل أداة لهذا الاحتلال. ولقد صرح أمام دروفيني: بأن مثل هذا التحالف قد يكون قاضيا بالنسبة إليه، وأن العالم الإسلامي قد يتخلى عنه ساخطا. ثم أنه كان يعرف مدى معارضة إنكلترا لمثل هذا التوسع الإفرنسي وهو الذي كان يعير السياسة الإنكليزية - طوال حياته - حذرا حقيقيا) (¬1). وإذا كانت فرنسا لم تكسب إقحام قوة محمد علي في المغرب العربي الإسلامي، فيكفيها منه أنها عزلت المغرب العربي الإسلامي عن الإمبراطورية العثمانية، وضمنت حياد قوة مصر عند تدخلها ضد دول المغرب. ¬

_ (¬1) G.DOUIN (L'EXPEDITION D'ALGER) PARIS 30

معركة نافاران

3 - معركة نافاران (1827 م) (¬1) اندلعت نار الثورة اليونانية ضد الخلافة العثمانية بزعامة (ابسلانتي) في سنة 1821 م. وفي سنة 1823 اعترفت إنكلترا باستقلال اليونان، وحذت روسيا حذوها حفظا لنفوذها في البلقان، وانضمت إليهما فرنسا. فتم تشكيل التحالف الثلاثي. وأرسلت مذكرة بذلك عن طريق إنكلترا، لإنذار الخليفة، غير أن السلطان محمد رفض الإنذار، وأنكر على دول أوروبا مجتمعة التعرض لشؤون السلطنة العثمانية، وعلى أثر ذلك بدأت دول الحلف في تنظيم قواتها للتدخل المسلح، واستثارة الرأي العام المسيحي كله تحضيرا لحرب الانفصال الأولى ضد العثمانيين، مدعمين في ذلك باندفاع رومانسي ألهب مشاعر أوروبا كلها ودفعها لحمل راية الصليبية. ومقابل ذلك طلب السلطان محمد مساعدة جيش محمد علي لسحق هذه الانتفاضة، وفي 16 كانون الثاني - يناير - سنة 1824، صدر مرسوم (فرمان) يقضي بالتنازل عن ولاية المورة ¬

_ (¬1) نافاران: (NAVARIN) مدينة في البيلوبونيز، إقليم مسينا، وبها خليج على البحر الايوني.

لمحمد علي. فتم بذلك تكليفه بحكم هذه المنطقة الثائرة حكما فعليا. وفي العاشر من شهر تموز التالي، كان إبراهيم باشا - ابن محمد علي - يبحر من الإسكندرية بأسطول مؤلف من (63) بارجة و (100) زورق نقل وبجيش قوامه (60) ألف رجل. وكان يرافق إبراهيم باشا هيئة أركان نصفها أوروبي، ونصفها شرقي. وأمكن لهذا الجيش أن يقضي على الثوار اليونانيين، ويدمرهم مع مدربيهم ومعاونيهم وأنصارهم الأوروبيين - واهتمت أوروبا بهذا التطور الذي أحبط سياستها الرامية إلى تحرير اليونان، ودفعت الدول الصليبية الكبرى، للمرة الأولى منذ مائة عام، على التشاور والتحالف للقيام بهجوم مضاد. وكان إمبراطور روسيا - نيقولا - هو أول من استثمر هذا التحالف فوجه إنذارا مباغتا إلى الخليفة العثماني يوم 17 آذار - مارس - 1826م طالبه فيه بجواب حاسم خلال ستة أسابيع، وإلا فسيقطع العلاقات الديبلوماسية ويحمله كل العواقب المترتبة على مثل هذا الإجراء. وفي يوم 8 أيار - مايو - وجدت تركيا نفسها مرغمة على القبول بفقرات هذا الإنذار الذي كان يقضي بمنح مقاطعات مولدافيا وفالاشيا وصربيا البلقانية استقلالها الذاتي. وفي أثناء ذلك كان الاتفاق الروسي الإنكليزي قد رسم بالضبط حدود هذا الاستقلال الذاتي الذي فرض على الباب العالي، تحت طائلة تدخل مسلح تشترك فيه فرنسا أيضا، وكان يقصد من وراء ذلك إيقاف تقدم الجيش المصري الذي كان يستعد لمهاجمة أثينا بعد أن احتل (ميسولونجي). تابعت القوات العثمانية - المصرية القضاء على ثورة المورة، وأرسل السلطان دعما إلى (إبراهيم باشا) يتكون من (4) آلاف

جندي من المشاة و (500) من الفرسان. وألقى مراسيه إلى جانب الأسطول المصري في نافاران. وعلى أثر ذلك اجتمع مؤتمر لندن - الذي لم تشترك فيه النمسا - يوم 6 تموز - يوليو - 1827، وأسفر المؤتمر عن معاهدة لحل الأزمة التركية - اليونانية بالقوة - إذا ما تطلب الأمر. وأرسلت هذه الدول أساطيلها إلى الشرق لإنفاذ قرارها، وأرسلت الأميرالية البحرية الإنكليزيه إلى قائد أسطولها في البحر الأبيض المتوسط (الأميرال كاردنجتن) بتلقي الأوامر من سفير إنكلترا في القسطنطينية. فأقلع الأميرال الإنكليزي من (أزمير). ورافقه الأسطول الإفرنسي بقيادة (الأميرال ريني) وتوجها معا إلى (نافاران) في جنوبي - غربي المورة ولحق بهما الأسطول الروسي. وكتب الأميرال الإنكليزي إلى (إبراهيم باشا) يطلب إليه التوقف عن ضرب اليونان ريثما تنتهي المفاوضات بين السفراء والباب العالي. فوعدهم إبراهيم باشا وعدا شفهيا بأنه لن يحرك أية قوة ضد اليونان حتى ترد إليه أوامر جديدة من الباب العالي. واستمر أسطول الحلفاء في محاصرة (نافاران) والأسطول الإسلامي. ورأى قائد الأسطول أعمدة من الدخان تتصاعد في المورة، فكتب الأميرال الإنكليزي من جديد لإبراهيم باسم الحلفاء، أن يتوقف عن كل نشاط عسكري في المورة. فورد له جواب من أركان حرب إبراهيم باشا: (بأنه غاب منذ يومين ولا يعرفون له مقرا). ودخلت أساطيل الحلفاء على الفور مياه (نافاران) وحلت بين البوارج التركية والمصرية. ودارت معركة حاسمة تركز فيها الجهد على الأسطول التركي - العثماني، وفي ظرف (6) ساعات غرقت قطع الأسطول العثماني بكاملها مع بعض القطع المصرية. ولم تشرق شمس يوم 22 تشرين الأول -

أكتوبر - 1827 حتى كان الحلفاء قد دمروا القدرة الحربية العثمانية، ونفذوا العمل الذي بدأته المحالفة المقدسة سنة 1571م. وكان ضياع هذه القدرة البحرية هو نقطة التحول الحاسمة في الصراع الإسلامي - الصليبي. إذ أنها فصلت ما بين المشرق الإسلامي - والمغرب الإسلامي والذي كان البحر وسيلة الاتصال الأساسية فيه. وخسر العثمانيون أكثر من مائة بارجة وسفينة لم يكن من السهل تعويضها. استجاب الباب العالي لهذا الهجوم الوحشي الذي تم في رابعة السلم، فاستولى على جميع القطع البحرية الأجنبية الراسية في القرن الذهبي. وبعد مفاوضات فاشلة، غادر ممثلو الحلف الثلاثي (إستانبول). غير أن الحرب على الباب العالي لم تعلن، وبدأتها روسيا في أيار - مايو - 1828 م بعد استعدادات ضخمة. وعلى الرغم من ذلك فقد عجزت الجيوش الروسية في السنة الأولى عن إحراز أي نصر، سواء في البلقان، أو في القبق (القوقاز)، فلما كان ربيع سنة 1829 تولى الأمير (ديبتش) قيادة الجيوش الروسية في أوروبا. فحاصر (شملا) التي أوقفت تقدمه من قبل، وتابع تقدمه حتى (أدرنة) حيث فرض شروط معاهدة الصلح على السلطان في 14 - أيلول - سبتمبر - 1829 م. وتخلى العثمانيون بموجب هذه المعاهدة للروس عن جزر الطونة (الدانوب) والمقاطعات التركية الواقعة في (القبق - القوقاز) وأرغم السلطان أيضا على الاشتراك في معاهدة لندن، فأجبر بذلك على الاعتراف باستقلال اليونان. وصل خبر هزيمة الأسطول الإسلامي في (نافاران) إلى

الشرق في مطلع تشرين الثاني - نوفمبر - وإذ توقع حكام مصر وسوريا هياج الجماهير، أصدروا الأوامر المشددة لحماية القناصل وجاليات التجار الأوروبيين. وقد نقل القنصل الروسي في الإسكندرية هذه الوقائع إلى حكومته بتاريخ 13 كانون الأول - ديسمبر - 1827. وأضاف أن خبر الهزيمة لم يحدث النتيجة المرجوة: أي أن يرضخ السلطان لمطالب الحلفاء. وكانت ردة الفعل الأولى لمحمد علي عند قراءته هذه الأخبار أن هتف قائلا: (الأقوياء دائما على حق). وبعد هذا بقليل - أي في يوم 27 كانون الأول ديسمبر - كان القنصل الروسي - بزوني - ينقل إلى الأميرال - هايدن - الذي كان في - مالطا - الحالة النفسية لمحمد علي بقوله: (... إن حدث نافاران لم يوثر على نفسية محمد علي، وأنه أفاد من هذه الفرصة ليكرر بأنه، بصفته طائعا لإرادة السلطان، لا يأسف لفقدان سفنه، وأن الخليفة سيجده دائما مستعدا لبذل كل الجهود الممكنة لمساعدته إذا ما قرر استئناف الحرب، أما بالنسبة للنكبة التي حلت بأسطوله في نافاران فأشار الباشا بكل برود إلى أنه كان يتوقع هذا) وعندما اطلع القنصل محمد علي على ما نشرته الصحف عن قضية نافاران، وعن العدوان الذي قام به الأتراك، أعلن هذا الأخير (بأن هذا العدوان لم يصدر عن هؤلاء، ولكن الأقوياء يريدون دائما أن يكونوا على حق) لم يفصح محمد علي للقنصل، وهو الدبلوماسي المحنك، بكل ما كان يفكر به، بالرغم من أن هذا الأخير كان مكلفا من قبل الأميرال الروسي - هايدن - بتاريخ 17 كانون الأول - ديسمبر - بالتأكيد له بأن الدول الكبرى لم تكن تريد شيئا بشكل مباشر من مصر، ولا من الإمبراطورية العثمانية، ولكنها كانت ترمي فقط إلى منح الاستقلال الذاتي لليونان، لذلك

فقد نصح محمد علي بالبقاء على الحياد في هذا الصراع: (ليس عندي في الوقت الحاضر أية تعليمات أريد أن أبلغك إياها سوى أن في استطاعتك أن تقول لباشا مصر أن روسا ليس لها أي مطمع لا في مصر ولا في تركيا، وأن رغبتها الوحيدة هي أن ترى السلام وقد عاد عن طريق وضع حد للآلام التي تحاصر اليونان. وأن الوسيلة الوحيدة التي تراها الدول الكبرى الثلاث هي في الاعتراف لليونان بكيان سياسي يضمن لها العيش بهدوء. وأن باشا مصر، يحسن صنعا لخيره وخير الإنسانية بالوقوف على الحياد في هذا القتال إذا ما قدر له أن يستأنف). تجدر الإشارة إلى تلك الحاشية التي أضافها الأميرال الروسي - هايدن - في رسالته إلى قنصل بلاده في الإسكندرية - والتي جاء فيها: (أن حوالي عشرين سفينة مصرية تركت عمدا، بمنأى عن نيران الحلفاء وذلك لكي يثبتوا لمحمد علي أن نواياهم لم تكن عدائية لمصر عندما دخلوا الميناء) وفي مطلع عام 1828 أبلغ الأميرال الروسي (هايدن) حاكم مصر محمد علي، بعزم الحكومة الروسية الأكيد على إقامة علاقات طيبة معه، كما كان الحال قبل الأزمة - لكونه هو شخصيا مستعد للقيام بأي شيء للحفاظ على (حسن التفاهم) ورغم ذلك فقد كان وضع محمد علي يزداد صعوبة، إذ كان عليه التوفيق بين مقتضيات الطاعة للسلطان، وبين مقتضيات مصالحه الخاصة. وكانت إنكلترا قد أوفدت إليه العقيد (الكولونيل كرادوك) ليقنعه بسحب جيوشه من المورة نهائيا. كما كان هو نفسه يؤكد أنه سيكتب إلى السلطان بهذا الموضوع، وأنه سيستعمل التعابير الحازمة للحصول على نتيجة مرضية. وكانت فرنسا تريد بدورها إزالة أثار (هزيمة نافاران)،

والاستمرار في تشجيع مصر على المضي بسياستها الاستقلالية. فعينت (دوفيتي) صديق الباشا القديم قنصلا عاما في الإسكندرية. ووصل (دوفيتي) إلى الإسكندرية في 6 كانون الثاني - يناير - 1828. وهو محمل بالهدايا الملكية من قبل حكومته , ومنذ ذلك الحين، أصبح يتتبع محمد علي في كل تنقلاته وذلك بهدف استمالته وإدخاله ضمن المخططات التي كان يراد منه أن ينفذها. وكانت المسألة تتعلق بتشجيع الباشا على الاستقلال وعلى القيام بتشجيع من فرنسا، بحملات يمكن أن تبعث من جديد لصالحه، نفوذ وحقيقة الإمبراطورية العربية، القومية. لقد أراد الحلفاء تحطيم مقاومة السلطان العثماني من خلال التدمير المتعمد والمنتظم للأسطول العثماني في (نافاران) غير أن هذه الهزيمة جعلت السلطان أكثر تصلبا في موقفه. فأخذت الدول الأوروبية التي فشلت بإقناع السلطان (بفضائل السلم) بالتوجه إلى محمد علي للإفادة منه كأداة لإقناع السلطان. وأخذ محمد علي في كتابة رسائل إلى السلطان وإلى أصدقائه بالديوان، بضرورة الجنوح إلى السلم (بحجة بناء القدرة الذاتية) وفي رسالة له جاء ما يلي: (لقد سبق وكتبت إليك بأن مصيرنا مرتبط بخيط واه، وقصدت بهذا بالضبط أن أعالج العواقب الخطيرة التي تتهدد وجود الأمة ووجود الدين الإسلامي. أما بالنسبة للكرامة التي تذكرها فإنها لا تعطى بل تؤخذ بالأفعال التي تجهد النفس، إذا صح التعبير، وهي تقضي بالعمل على تقوية الدولة وتنمية مواردها وقوتها بمجهود كبير لا يعيقه شيء ... وفي مثل هذه الظروف فإن القبول بالسلام يبرز كواجب يأمرنا به مثل محمد ذاته (ص) في حروبه مع أعدائه. إن السلام يصبح أمرا ضروريا في حالة

الانحطاط الراهنة التي تحل بالإمبراطورية العثمانية، والتهرب من هذا عن طريق اللجوء إلى المشاعر الأنانية، أو الاندفاع الزائد لا يفيد شيئا، إلا أن لا شيء يحملنا لأن نيأس ونقنط من قضيتنا نفسها، وأن نرمي بذلك الدولة والدين في كارثة نكون المسؤولين عنها أمام الله والتاريخ). لقد بقي موقف السلطان صلبا، وهو ما عبر عنه مبعوث النمسا في رسالة كتبها إلى فيينا من القسطنطينية، يوم 15 آذار - مارس - 1828 وجاء فيها: (لا شيء استطاع أن يحمل السلطان على تغيير موقفه، وسواء كان هذا الموقف صادرا عن خوف من خطر قد يتهدده إذا تراجع أمام مقترحات الدول الكبرى، أم أنه كان ناجما عن حرج ديني مبالغ فيه، أم عن تجاهل لواقع لا علاج له، فإن الواقع هو أن مقاومته ازدادت ولم تضعف). غير أنه لم يمض أكثر من شهرين حتى استطاع محمد علي وبطريقة مذهلة إقناع السلطان بالموافقة على سحب جيوشه من المورة، وكذلك استطاع إقناع ابنه إبراهيم الذي كان السلطان يريد أن يستبقيه في المورة. وكان - محمد علي - يعود مفاوضيه شيئا فشيئا على تقبل هذا الحدث. إلا أن الاتفاق النهائي بين الجانب المصري والأميرال الإنكليزي (إدوارد كودرينغتون) لم يوقع إلا في الخامس من آب - أغسطس - 1828 م. وكان القنصل الإفرنسي دروفيني قد ساهم بقسط كبير في إزالة الصعوبات من الجانب المصري. وانسحبت مصر من المورة وأخذت في الاستعداد للتحولات الجديدة. كان من أول هذه التحولات التوقف عن دعم الإمبراطورية

العثمانية في صراعها ضد روسيا وذلك استجابة لتحذير قائد الأسطول الروسي الأميرال (هايدن) الذي حمله القنصل بيزوني إلى حاكم مصر. وكان في التحذير: (فليبق محمد علي هادئا ولا يتدخل في حربنا، هذا ما نستطيع أن ننصحه به. وسيجد نفسه مرتاحا في نهاية المشهد. وإلا فإنه سيخسر أسطوله ومصر .. إن الدول الكبرى الثلاث لا تتحرش به، ولن تتحرش به وذلك من أجله ولصالحه. إننا لا نخشاه، لا بل على العكس، فسنكون مسرورين لو تمكنا من الاستيلاء على بعض سفنه الجميلة لكي نزين بها أسطولنا ولكننا وفرناه. وخاصة أنا ...). أما التحول الثاني فهو الاستقلال بمصر والاستيلاء على سوريا بالتعاون مع روسيا وبدعم من فرنسا. وبحياد من إنكلترا. وكان ذلك هو الموقف الذي توافق في الزمن مع الهجوم الإفرنسي على الجزائر. والذي يمكن تلخيصه بعزل الجزائر برا وبحرا عن كل إمكانات للدعم من قبل الخلافة العثمانية.

مدينة الجزائر ومرساها في القرن الثامن عشر

الفصل الثاني

{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (سورة الأنفال الآية 45). الفصل الثاني 1 - ذريعة الاستعمار (البراغماتية). 2 - عشية ليل الاستعمار. 3 - بدايات المقاومة: آ - فئات من المجاهدين. ب - ثورة ابن زعمون. ج - سيدي السعدي والجهاد. د - ثورة الآغا محيي الدين المبارك. هـ - بومزراق - باي تيطري -. و- الحاج أحمد باي قسنطينة. ز - حمدان خوجة والصراع السياسي. 4 - الإدارة الإفرنسية (وتكوين وحدات خاصة). 5 - الإدارة الإفرنسية (من التردد إلى التصميم)

ذريعة الاستعمار (البراغماتية)

1 - ذريعة الاستعمار (البراغماتية) خرجت فرنسا من مجموعة الحروب الأوروبية (وأبرزها حرب السبع سنوات وحرب الوراثة الإسبانية) (¬1) وهي مجردة من مناطق نفوذها في أوروبا ومن مستعمراتها فيما وراء البحار .. في حين أصبحت إنكلترا وقد امتلكت قدرة بحرية صخمة جعلتها سيدة البحار في العالم، وانتزعت من فرنسا مناطق تجارتها وجردتها من مستعمراتها. وظهر بوضوح أن تفوق القوات الإفرنسية في البر قد عجز عن منافسة القوات الإنكليزية في البحر. غير أن انفجار الثورة الإفرنسية قد ضمن لفرنسا تأمين موارد بشرية ضخمة عبرت عنها الحروب النابوليونية أفضل تعبير. وقد حاولت فرنسا الانتقام من إنكلترا عبر دعمها لحرب الاستقلال الأمريكية (التي انتهت سنة 1783) غير أن هذه الحرب لم تفد فرنسا شيئا من الناحية الاقتصادية. كما حاولت فرنسا الثورة قطع طريق الهند باحتلال نابليون لمصر (1798) غير أن ¬

_ (¬1) حرب السبع سنوات هي الحرب التي قادها فريدريك العظيم ضد النمسا وفرنسا وروسيا لتوحيد ألمانيا ويطلق على القسم الثاني منها الحروب السيليزية (1756 - 1763م) أما حرب الوراثة الإسبانية فهي الحرب التي قادتها إنكلترا والنمسا والإمارات الألمانية ضد فرنسا (1702 - 1714).

الاحتلال الإفرنسي فشل وعاد نابليون لفرنسا ليتابع الصراع من أجل (عظمة فرنسا) وانتصرت الأحلاف التي نظمتها إنكلترا على نابليون في واترلو (1815) وأعيدت الملكية إلى فرنسا في شخص لويس الثامن عشر، الذي توفي سنة (1824) ليترك لخلفه (شارل العاشر) أعباء التركة الثقيلة. ولم تفلح فرنسا في كل حروبها حتى الآن في اقتحام الحصار الاقتصادي الذي فرضته عليها إنكلترا، فاستمرت في البحث عن أسواق لتجارتها وعن موارد المواد الأولية لصناعتها. كانت علاقة فرنسا بالخلافة العثمانية جيدة طوال هذه الفترة، فقد وقفت إستانبول إلى جانب باريس أثناء صراعها ضد الإسبانيين في حروبها المتتالية (منذ أيام شارلكان أو شارل الخامس) ومنحتها (امتيازات قنصلية) للتجارة مع أقاليم العالم الإسلامي. ووقفت الجزائر إلى جانب فرنسا في أصعب الظروف وأقساها. وقدمت لها الدعم والعون كلما احتاجت لهذا الدعم. وكانت فرنسا قد أقامت لها من قبل أسواقا تجارية (مؤسسات) في عنابة والقالة ورأس بونة والقل. وكانت هذه المؤسسات تدفع ضريبة سنوية متفقا عليها إلى دار الخلافة العثمانية من جهة، وإلى باي قسنطينة من جهة أخرى نظرا لقيام هذه المؤسسات على أرض ولايته. وكانت فرنسا مقابل ذلك تتمتع بحق صيد المرجان وتصدير الحبوب إلى أوروبا (¬1). وقد تطورت هذه العلاقات لمصلحة فرنسا في فترة الثورة الإفرنسية، حيث اعترفت الجزائر بالجمهوية الإفرنسية الجديدة في وقت كانت فيه تحت الحصار الأوروبي المحكم. وتكونت بين الدولتين علاقات ودية خاصة باستثناء فترة الحملة الإفرنسية على مصر (1798 - 1802) حين طلب ¬

_ (¬1) HISTOIRE DE LA CONQUETE D'ALGER (A. NETTMENT) PARIS 56. P.P 96 102.

السلطان من الجزائر إعلان الحرب على فرنسا. وكانت الجزائر قد قدمت إلى فرنسا الثورة قرضا في سنة 1796 بقيمة مليون فرنك - بدون فائدة - على أن تستعمل فرنسا هذا المبلغ في شراء الحبوب من الجزائر. وفي سنة (1794) أذنت الجزائر للحكومة الإفرنسية أن تتمول في موانىء الجزائر يوم كانت كل الموانىء والأسواق الأوروبية مغلقة في وجه التجارة الإفرنسية. غير أن العلاقات الودية تغيرت في عهد (نابليون بونابرت) بسبب (غزو مصر). ولكن السلام عاد من جديد في سنة (1801) وأعادت الجزائر إلى فرنسا امتيازاتها (صيد المرجان والتجارة). وعندما وصل قنصل نابليون إلى الجزائر، لم يحمل معه الهدية التي اعتاد القناصل تقديمها - رمزا للخضوع - وحين طلبها الباشا مصطفى رسميا من القنصل (ديبوا تانفيل) على أساس أنها شيء واجب، رد عليه نابليون برسالة ساخطة هدد فيها بتحطيم الأسطول الجزائري. وأنذر بأن فرنسا على عهده ليست هي فرنسا التي كانت في عهد (آل بوربون). فتوترت العلاقات من جديد، وقامت الجزائر باحتجاز سفينتين فرنسيتين وضربت أخرى في ميناء تونس. فكتب نابليون إلى الباشا مصطفى يطالبه بدفع تعويض عن الخسائر، ومعاقبة الوزراء المسؤولين عن هذه الحوادث. وكان نابليون يحلم بجعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة إفرنسية لذلك فقد كان يخطط لحملة كبيرة ضد دول المغرب العربي - الإسلامي، وإقامة مستعمرات عسكرية إفرنسية هناك، وضم المنطقة إلى إمبراطوريته في البحر المذكور. وتنفيذا لذلك، طلب من الإفرنسيين الذين كانوا أسرى في الجزائر أو الذين عاشوا فيها، معلومات عن سكانها وتحصيناتها، فأوصى قنصل فرنسي سابق في الجزائر (هو جون بون سان - أندري) بضرب الجزائر ضربة

قوية وسريعة وإنهاء الحرب في ثمانية أيام. واقترح فرنسي آخر بنزول حملة إفرنسية قرب (تنس) والهجوم على مدينة الجزائر برا. ولكن نابليون تخلى عن مشروع الحملة لانشغاله بالحروب على ساحة أوروبا. ولكنه أرسل إلى الجزائر قطعة من أسطوله (بقيادة الأميرال ليسيغ) حاملا رسالة إلى الباشا (سنة 1802) يطالبه فيها بدفع التعويضات، ويعلمه برفضه تسديد المبلغ الذي يطالب به وهو (200) ألف فرنك. وكان (القبطان بيرج) الذي جمع عندئذ معلومات هامة عن الجزائر، من بين الذين رافقوا هذه البعثة، وهو الذي سيكون من أعضاء الحملة البارزين في سنة (1830). جاء (جيروم نابوليون) إلى الجزائر في سنة 1805، على رأس قطعة بحرية للمطالبة بإطلاق سراح (231) أسيرا إيطاليا: ولكن الباشا أحمد (الذي خلف مصطفى) لم يطلق سراحهم إلا بعد أن دفع جيروم مبلغ (80) ألف فرنك. ومن جهة أخرى أدت هزيمة الأسطول الإفرنسي في معركة (الطرف الأغر) (¬1) إلى أن سحبت الجزائر الامتيازات التي كانت قد منحتها لفرنسا، وأعطتها لإنكلترا (وذلك في سنة 1807). ولكن نابوليون ما عتم أن وقع (معاهدة تبليست) (¬2) مع روسيا، فعاد إلى مشروع الحملة ضد الجزائر، وأمر قنصله في ¬

_ (¬1) الطرف الأغر: (TRAFALGAR) رأس إسباني إلى الشمال الغربي من مضيق جبل طارق. واشتهر بالمعركة التي وقعت قريبا منه في سنة (1800) وانتصر فيها الأميرال الإنكليزي (نلسون: NELSON) على الأسطول الإفرنسي - الإسباني المشترك. (¬2) تيليست: (TILSIT) وهي مدينة روسية تقع في ليتوانيا على نهر (نيمين) وتعرف اليوم باسم (سومينيتسك: SOVIETSK) عقدت فيها يوم 8 تموز - يوليو - 1807 معاهدة صداقة بين نابليوف بونابرت وقيصر روسيا (الكسندر الأول: ALEXANDRE I)

الجزائر بمغادرة مدينة الجزائر، وإعلام الباشا بأنه سيواجه الحرب إذا لم يطلق سراح الأسرى الجنويين والكورسيكيين والإيطاليين. كما أمر وزيره للبحرية بوضع مخططات الحملة ضد الجزائر سواء كانت برية أو بحرية، والقيام بجمع المعلومات الضرورية عن وسائل التموين وطبيعة الأرض، وتحديد مكان الحملة وزمانها، واقترح التمويه على العدو حتى يظن أن الحملة موجهة إلى صقليا. وطلب أن لا يزيد عدد أفراد الجيش عن (20) ألف رجل، وأمر أن تأتيه المعلومات في ظرف شهر واحد. وطلب من الوزير إرسال أحد جنوده الذين يمتازون بالروح العسكرية العالية والخبرة الهندسية إلى الجزائر بصورة سرية للتجسس وإعداد تقرير مفصل وخطة واضحة، فوقع الاختيار على ضابط يسمى (بوتان). الذي وصل إلى مدينة الجزائر في 24 أيار (مايو 1808م على متن سفينة تحمل اسم (لودكان). وقد ظل هناك متجسسا على الحصون دارسا خطة النزول بدقة، متنقلا من برج البحري (كاب ماتيفو) إلى سيدي فرج. وبعد أن كتب ملاحظاته، ورسم خطته، قفل راجعا في 17 تموز (يويو) من العام نفسه. غير أن الإنكليز ألقوا عليه القبض في عرض البحر وقادوه إلى مالطا. وأثناء ذلك أعدم الخطة ولكنه أبقى على ملاحظاته التي سيعتمد عليها في إعادة رسم الخطة من جديد وفي كتابة تقريره. وأمكن له بعد ذلك الفرار من مالطا متنكرا. وعاد إلى فرنسا في تشرين الأول - أكتوبر - عن طريق أزمير وإستانبول. وضمن تقريره معلومات دقيقة عن تحصينات الجزائر وطبيعة أرضها، وعدد قواتها، وزمن الحملة المقترحة والمدة التي تستغرقها، وعدد الجيش الضروري للحملة. واقترح (بوتان) أن يكون عدد الرجال من (35 - 40) ألف محارب معظمهم من المشاة، مع بعض المدافع، وقد أظهر الأخطار التي تتعرض لها الحملة من

منظر مدينة الجزائر على البحر في القرن السابع عشر

البحر، ونصح بدلا من ذلك أن تكون الحملة برية، والاستيلاء قبل كل شيء على قلعة (مولاي حسن) المعروفة بقلعة (الإمبراطور) لأنها تشرف على المدينة. واقترح بأن يتم الإنزال في (سيدي فرج) لخلوه من المدافع والجنود. وكان من رأيه بأن أفضل وقت لتنفيذ الحملة هو في الفترة ما بين أيار وحزيران (مايو ويونيو) وألا تتجاوز مدة الحملة الشهر الواحد. ولكن انشغال نابليون في قمع (الثورة الإسبانية) ثم بالحملة على روسيا، وضعف الأسطول الإفرنسي، ثم سقوط نابوليون، كل ذلك أعاق تنفيذ الحملة. عينت فرنسا قنصلا جديدا لها في الجزائر، وهو بيير دوفال، وذلك في 28 آب - أغسطس - 1815 وقد حمل إلى الباشا هدايا تقدر بمبلغ (112,924) فرنك، تضم مجوهرات وساعات وأقمشة وأسلحة. ومقابل ذلك، أعاد الباشا إلى فرنسا الامتيازات التي فقدتها، وكان ذلك في 17 آذار - مارس - 1817 (إثر حملة اللورد اكسموث على الجزائر) (¬1) وتساهلت الجزائر فخفضت مقدار الضريبة السنوية المقررة على فرنسا من (300) ألف فرنك إلى (118) ألف فرنك. وكان القنصل الإفرنسي الجديد (دوفال) ابنا ¬

_ (¬1) اكسموث: (SOVIETSK) أميرال إنكليزي، من مواليد دوفر (1833 - 1757 م) وتولى قيادة القوات العليا البحرية في الهند سنة 1803، ثم قاد الأسطول الإنكليزي للهجوم على الجزائر وتدمير أسطولها سنة 1816، وهو الهجوم الذي وصفه الكتاب (المقاومة المسلحة الجزائرية: 1830 - 1920) والصادر عن وزارة الدفاع الوطني الجزائرية سنة 1974 بما يلي في ص 15 - 16: (وصل الأسطول الإنكليزي الهولاندي إلى الجزائر يوم 27 آب - أغسطس - 1816. واشتبك مع الأسطول الجزائري في معركة استمرت أحد عشر ساعة وثلاثة وعشرين دقيقة. انتهت بإحراق كامل البواخر والسفن التجارية الجزائرية. ووصف قائد الحملة اكسموث لمعركة بما يلي: لم أعرف عدوا في حياتي يقاتل بمثل هذه الضراوة).

لمترجم إفرنسي كان يعمل في السفارة الإفرنسية في إستانبول. وكان من قبل قد تولى جميع مهامه القنصلية الإفرسية بآسيا الصغرى حتى أصبح يتقن اللغتين العربية والتركية، وعلى الرغم من أنه قد اصطدم ببعض الصعوبات في بداية عمله في الجزائر، إلا أنه أمكن له تجاوز الصعوبات بفضل ما عرف عنه من اتباعه لأساليب الرشاوي والتوريط وخلف الوعد (فكان شخصا مشبوها). وأدت أساليبه المشبوهة إلى إثارة غضب الداي الذي عمل على (ضربه بالمروحة - وهي الحادثة المشهورة في التاريخ) (¬1) والتي ردت عليها فرنسا بإرسال قطعة من أسطولها إلى الجزائر بقيادة القبطان (كولي). وقد وصلت هذه القطعة التي حملت اسم (لابروفانس) إلى مياه الجزائر يوم 12 حزيران - يونيو 1827 م حيث طلب قائدها من الباشا القدوم شخصيا إلى السفينة للاعتذار للقنصل، ولما كان معروفا مسبقا أن الباشا لن يرضى بذلك، فقد تضمنت تعليمات (كولي) على اقتراحات تبادلية وهي: 1 - أن يستقبل الباشا القبطان ورئيس أركانه والقنصل بحضور الديوان والقناصل الأجانب ويعتذر أمامهم إلى القنصل دوفال. 2 - أن يرسل وفدا برئاسة وزير الحربية (وكيل الحرج) إلى قطعة الأسطول الإفرنسي ليعتذر باسم الباشا إلى القنصل. 3 - وفي كل الحالات، رفع العلم الإفرنسي على جميع القلاع الجزائرية، بما في ذلك قلعة القصبة، وإطلاق مائة طلقة مدفعية تحية له , وكانت تعليمات (كولي) تقضي بأنه في حالة قبول الباشا لأحد ¬

_ (¬1) أنظر قراءات - 1 - في آخر الكتاب عن قصة (الدين والمروحة) أو (اليهودي ومروحة دوفال).

المقترحات، فإنه يتقدم إليه بعد ذلك بعدة مطالب إفرنسية تتضمن دفع التعويضات، ومعاقبة الجزائريين المسؤولين عن الأضرار التي لحقت بالمنشآت الإفرنسية، وحق تسليح هذه المنشآت في المستقبل، وإعلان الجزائر أنه لا حق لها في دين (بكري). كما تتضمن التعليمات أنه في حالة عدم استجابة الباشا لواحد من الاقتراحات المذكورة، فإن عليه إعلان الحصار رسميا على الجزائر. نفذ (كولي) مهمته. فأرسل الاقتراح الثالث بواسطة قنصل سردينيا في الجزائر (الكونت د. اتيلي) الذي أصبح يرعى المصالح الإفرنسية بعد انسحاب (دوفال) وذلك يوم 15 حزيران - يونيو - وحدد (كولي) فترة (24) ساعة كمهلة إنذارية لتلقي الإجابة. وكان رد (الباشا) على (د. اتيلي) أنه لا يفهم سبب هذا الإجراء، فبدلا من أن ترسل فرنسا بقنصل جديد، وتكتب إليه مباشرة، لجأت إلى إرسال الإنذار المضحك مع ضابط بحرية. وعندما انقضى أجل الإنذار بدون رد، أعلن (كولي) الحصار في 16 حزيران - يونيو - 1827. وفي نفس الشهر الذي أعلن فيه الحصار، كلف الجنرال (الوفيردو) بإعداد مشروع (يتضمن المعلومات التاريخية والجغرافية والإحصائية والعسكرية عن الجزائر. تمهيدا لتوجيه حملة ضدها) أنهى الجنرال عمله خلال ثلاثة أشهر. ولكن الحكومة الإفرنسية لم تقرر الحملة على ضوئه، واكتفت بالحصار نظرا لحوادث اليونان، وبسبب فراغ المخازن من الأسلحة، ووجود الأسطول الإفرنسي في اليونان. فتراجعت فرنسا عن مطالبها - مرحليا -. واكتفت بالإصرار على تقديم باشا الجزائر الاعتذار لقنصلها عما ارتكبه نحوه. وأثناء ذلك كانت مشاريع إعداد الحملة تنضج على نار هادئة. فقد تم تكليف الضابط (دوبتي ثوار) بإعداد مشروع لمهاجمة

الجزائر من البحر، ولكن الحكومة الإفرسية لم تأخذ به أيضا. ثم تولى مشروع آخر وزير الحربية عندئذ (كليرمونت تونير) واعتمد فيه على مشروع (بوتان). ورأى (تونير) أن حملة إفرنسية ضد الجزائر هي أمر (ضروري وممكن). ووصف الحملة بانها: (حرب صليبية هيأتها العناية الإلهية لينفذها الملك الإفرنسي الذي اختاره الله للثأر من أعداء الدين والإنسانية. ولغسل الإهانة التي لحقت بالشرف الإفرنسي). وأضاف (تونير) مخاطبا الملك - شارل العاشر - بقوله: (لعل الوقت سيجعل من حظنا نحن الإفرنسيين تمدين الجزائريين بجعلهم مسيحيين). وتضمن تقرير (تونير) إغراءات لأصحاب رأس المال والمراكز الصناعية وذلك بوصف الحالة الاقتصادية للجزائر، وما تحتويه خزانتها في (القصبة) من كنوز متراكمه تزيد على ما قيمته (150) مليون فرنك. بالإضافة لما يتوافر للجزائر من الموانىء الكثيرة، والسهول الخصيبة، والغابات التي تؤمن الأخشاب لبناء السفن علاوة على مناجم الحديد والرصاص وجبال الملح والمواد الكيميائية الأخرى. وأثار في الوقت ذاته خيالات العسكريين ومطامعهم وذلك بالتوصية لإقامة مستعمرات عسكرية إفرنسية في الجزائر. وتضمن المشروع أيضا طريقة تنفيذ الغزو بهجوم بري، يتم فيه إنزال القوات عند جزيرة (سيدي فرج) وذلك في الفترة ما بين (نيسان وحزيران - أبريل ويونيو). وتوقع المشروع أن يتم تنفيذ العملية خلال فترة سنة أسابيع. وحددت تكاليف الحملة بمبلغ (50) مليون فرنك، وتضم (33) ألف رجل بالإضافة إلى فرقة من الفرسان - الخيالة - وعدد من فرق المدفعية. واقترح هذا (المشروع) احتلال الجزائر كلها احتلالا (طويل المدى). واقترح الوزير الإفرنسي أن تكون سنة 1828 هي الموعد

لتنفيذ الحملة، باعتبار أن أوروبا كانت تعيش فترة من السلم، ولأن الرأي العام الإفرنسي كان متهيئا لها. وقد ناقش مجلس الوزراء (مشروع توفير) في جلسة يوم 11 تشرين الأول - أكتوبر -. ولكن المجلس قرر في النهاية عدم األآخذ به في تلك الفترة. ظهر بعد ذلك (مشروع جديد) تقدم به أحد نواب البرلمان، تضمن إقامة مستعمرات عسكرية شبيهة بما فعله الرومان، ودعوة الأوروبيين للهجرة إلى الجزائر بدلا من الهجرة إلى أمريكا. وقال صاحب هذا المشروع أن احتلال الجزائر سيعوض فرنسا عما فقدته في منطقة الراين، ويغنيها عن شراء بعض البضائع مثل التبغ والحرير والسكر والزيت والقطن. ولكن الحكومة الإفرنسية لم تقتنع بالمشروع نظرا لأن حملة الانتخابات كانت على الأبواب، ولأن نتائج الحملة المقترحة ستأتي بعد الانتخابات وبالتالي فإنها لن تؤثر في الرأي العام الإفرنسي لصالح الحكومة. وهكذا استمر الحصار على الجزائر، وكان الإفرنسيون يهدفون من ورائه إلى قطع التموين عن الجزائر، فكان أسطولهم المحاصر يتكون من (12) سفينة واجبها مراقبة الموانىء الجزائرية. وإيقاف بعض السفن المشبوهة، واحتجاز بعض السفن الأخرى. ولكن هذا الحصار لم يتمكن من إيقاف أعمال القرصنة، ووقعت مجموعة من الاشتباكات كان من أبرزها معركة يوم 3 تشرين الأول - أكتوبر - حيث انطلقت مجموعة من (12) سفينة جزائرية و (3200) مجاهد و (252) مدفع واشتبكت مع القوة البحرية الإفرنسية في معركة استمرت أربع ساعات تقريبا، ولم تسفر هذه المعركة عن نتيجة إيجابية لأي طرف من الطرفين المتصارعين.

بلغت تكاليف الحصار الإفرنسي للجزائر سبعة ملايين فرنكا في السنة، وظهر احتمال قيام إنكلترا وإسبانيا بالحرب ضد فرنسا إن هي تحولت عن الحصار فقامت بحملة عسكرية، كما تغيرت الحكومة الإفرنسية يوم 4 كانون الثاني - يناير - 1828 م. وتضافرت هذه العوامل فأقنعت الحكومة الإفرنسية بمتابعة الجهد الهادىء والمماطلة في الأمر عن طريق فتح باب المفاوصات مع الجزائر لرفع الحصار بطريقة مشرفة. وذهبت بعثة إلى الجزائر يوم (29) نيسان - أبريل - 1828 م، برئاسة الضابط (بيزار) لاستئناف المفاوضات. غير أن البعثة فشلت في مهمتها بسبب إصرارها على إرغام الباشا بدفع تعويضات لفرنسا. ولكن فرنسا عادت فأرسلت بعثة أخرى برئاسة (بيزار) ذاته، وتكرر الفشل بسبب رفض الباشا لأحد الشروط الإفرنسية الأساسية والتي تقضي بإرسال وزير من حكومته إلى باريس للاعتذار، واشترط الباشا أن يفعل ذلك بعد توقيع معاهدة الصلح مع فرنسا. أما الإفرنسيون فقد وضعوا مسؤولية الفشل على عاتق القنصل السرديني في الجزائر والذي كان يرعى المصالح الإفرنسية، وزعموا أن (طيبته) و (سلامة نيته) هما سبب هذا الفشل، كما حاولوا الحاق السبب أيضا إلى نشاط القنصل الإنكليزي المضاد لفرنسا، ولم ينسو إلحاق نسبة من الفشل بالمترجم اليهودي (دوران) الذي اتهموه بعدم نقل الحقيقة. عاد الإفرنسيون إلى متابعة دراسة (مشروع الحملة ضد الجزائر) بعد أن فشلت المفاوضات. وقام وزير الحربية الجديد (دوكو) بتكليف لجنة خماسية (بدراسة المسائل المتعلقة بحملة ضد الجزائر، وتقديم خطة كاملة للعمل، وتعيين الوسائل الضرورية

للتنفيذ) وكانت هذه اللجنة تضم الجنرال (بيرج) الذي كان قد أرسل سنة (1802 م) للتجسس على تحصينات الجزائر، وكان رئيسها هو الجنرال (لوفيردو). شرعت اللجنة في عملها فور تلقيها الأمر - في صيف سنة 1828 - وجمعت المعلومات من كتب الرحالة ومعلومات الأسرى الأوروبيين والمذكرات التي كتبت عن الحملات السابقة ضد الجزائر من العام 1628 وحتى العام 1758. وخلصت إلى نتيجة تتوافق مع رأي (بوتان وتونير) اللذين سبقت الإشارة إليهما، سواء فيما يتعلق بتحديد مكان الإنزال أو فيما يتعلق بحجم القوى والوسائط، واقترحت اللجنة أن تغادر الحملة ميناء طولون في منتصف شهر نيسان - أبريل - حتى تتمكن من إنجاز مهمتها والعودة في نهاية شهر آب - أغسطس - وقدرت تكاليف الحملة بمبلغ (25) مليون فرنك. وتضمن تقرير اللجنة بعض التفاصيل، مثل جدول الهجوم على المراكز الرئيسية (منها قلعة مولاي حسن والقصبة) وتوقعت أن تشتبك القوات الإفرسية مع قوات بايات الجزائر الثلاثة مجتمعة - في معركة حاسمة - بعد عشرين يوما من بدء الإنزال. ولكن ظهور المعارضة القوية في البرلمان الإفرنسي لمشروع الحملة، وكذلك الخسارة الاقتصادية التي نجمت عن الحصار، والظروف الدولية التي لا زالت في غير مصلحة فرنسا، كل ذلك دفع فرنسا من جديد لسلوك درب المفاوصات، فأرسلت القبطان (دي نيرسيا) في سنة 1829 إلى الجزائر بمهمة مقابلة (الباشا حسين). وفتح الطريق أمام قائد الحصار الجديد (بريتونيير) - الذي خلف كولي - لتسهيل مهمته. وصدرت التعليمات بأن يصحب قائد الحصار عندما يأتي دوره في المفاوضات، مترجم إفرنسي بدلا من اليهودي (دوران).

وتم الاتفاق على خطة اجتماع الباشا وقائد الحصار بنجاح. غير أن نتيجة الاجتماع كانت سلبية، فقد طلب قائد الحصار من الباشا إرسال وفد على مستوى عال إلى باريس للاعتذار والتفاوض. ولكن الباشا استغرب هذا الطلب، وأصر على عقد الصلح في الجزائر أولا قبل إرسال الوفد إلى باريس. وأثناء عودة الوفد الإفرنسي خائبا، أطلقت المدافع من التحصينات الجزائرية نيرانها على سفينة قائد الحصار (لابروفانس). وقال الجزائريون أن السفينة اقتربت كثيرا من التحصينات، ولم ينكر الإفرنسيون ذلك غير أنهم زعموا بأن شدة الريح هي التي دفعتهم نحو التحصينات الجزائرية. المهم في الأمر هو أن السفينة لم تصب أضرار فادحة، ونجح قائدها في إبعادها. والعودة بها بسلام. وتبرأ الباشا من هذه الحادثة التي وقعت يوم 3 آب - أغسطس - سنة 1829، وعبر عن أسفه، وعاقب وزير البحرية وقائد الميناء بالطرد من منصبيهما. واستثمرت فرنسا هذا الحادث لزيادة التوتر في العلاقات الجزائرية - الإفرنسية. وزاد الأمر سوءا بتولي (دي بولينياك) رئاسة مجلس الوزراء الإفرنسي في نهاية سنة 1829 م. وهو الذي عرف بوفرة مشاريعه الاستعمارية لا بالنسبة للجزائر وحدها وإنما بالنسبة للشرق كله وحتى لأوروبا. ورافق ذلك أيضا تغيير وزير البحرية، حيث أسندت هذه الوزارة إلى (البارون دو هوسيه) الذي كان من الأنصار المتحمسين لفكرة غزو الجزائر في فترة لا تتجاوز ربيع سنة (1830 م). وكان (بولينياك) قد استقبل في أيلول - سبتمبر - عام 1829 - عندما كان وزيرا للخارجية قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، وفدا من مصر يضم القنصل الإفرنسي في الإسكندرية والمغامر الإفرنسي المركيز (دوليفرون) الذي أصبح ممثلا لمصالح محمد علي في فرنسا، وذلك لعرض مقترحات

قصر (الجنينة) مقر الإدارة المركزية العثمانية قبل أن يحرقه الفرنسيون

عرفت فيما بعد باسم (مشروع محمد علي) لحل قضية الجزائر). ويتضمن هذا المشروع قيام فرنسا بدعم محمد علي ليصبح حاكما على طرابلس وتونس والجزائر، وأن يتم ذلك بتوجيه الجيوش المصرية على امتداد الطريق الساحلي المتاخم لدول المغرب العربي الإسلامي، في حين تقوم قطع الأسطول البحري الإفرنسي بدعم هذا التحرك وحمايته. واقترح - محمد علي - لتنفيذ ذلك أن تمده فرنسا مسبقا بأربع قطع بحرية (سفن) و (28) مليون فرنك. وكان يرى أن السلطان العثماني لن يعارض هذا المشروع، الذي يحقق لفرنسا في الوقت ذاته مصالحها (التخلص من مشكلة الجزائر) وسيرضي أوروبا (بتنفيذ رغبتها في إيقاف أعمال القرصنة). وقال محمد علي للقنصل الإفرنسي في القاهرة، أنه قادر على إنهاء (المشكلة الجزائرية) بتجنيد (68) ألف رجل و (23) سفينة. وتوفير (100) مليون فرنك لتغطية نفقات الحملة. واقتنع (بولينياك) بما أطلق عليه اسم (مشروع محمد علي) وهو في حقيقته مشروع إفرنسي، لا سيما وأن (بولينياك) كان يرى منذ سنة (1814م) بضرورة الربط بين قضية مصر وقضية المغرب العربي - الإسلامي. حتى أنه تحادث مع زملائه عندما كان سفيرا لبلاده في لندن (سنة 1828) عن فوائد فرنسا وفوائد أوروبا أيضا من قيام حملة ضد الجزائر. وحين وصل إلى الحكم بدأ في البحث عن الوسيلة التي يمكن استخدامها لتنفيذ هدفه. في تلك المرحلة التي لم تكن فيها فرنسا بعد مستعدة لتنفيذ الحملة وحدها وبطريقة مباشرة، لذلك تبنى مقترحات (محمد علي) وأرسل الضابط (هودير) إلى مصر للتفاوض. كما أرسل تعليماته إلى سفير فرنسا في إستانبول لمعرفة

رأي السلطان في المشروع. ويقال أن التعليمات قد تضمنت إقناع السلطان بأن الحملة التي يمكن لمحمد علي القيام بها ستحقق للسلطان: 1 - جزية هامة من الولايات الثلاث المتمردة عليه (تونس والجزائر والمغرب - مراكش). 2 - عدم إرسال الجنود الإفرنسيين إلى الجزائر. وتذكر بعض المصادر أن الديوان العثماني (مجلس الوزراء) لم يعارض المشروع في البداية، غير أنه لم يلبث أن تحول عن موقفه، وحاول العثمانيون إقناع السفير الإفرنسي بأن تأييد هذا المخطط (يخالف الدين الإسلامي) وأن محمد علي لن يقدر على تنفيذ هذا المخطط. وبدلا من التأييد الذي كان يريده الإفرنسيون، وافق الديوان على إرسال شخصية هامة للتعرف على موقف باشا الجزائر، والتوسط في إيجاد حل سلمي بين الجزائر وفرنسا. وكان (السيد خليل أفندي) هو الشخصية التي وقع عليها الاختيار للقيام بالوساطة نظرا للصداقة التي تربطه بالوالي (باشا الجزائر) ونظرا لما عرف عنه من كفاءة ديبلوماسية عالية. وقد وصل (خليل أفندي) إلى الجزائر في شهر كانون الأول - ديسمبر (1828). ولكن خليل أفندي فشل في مهمته بسبب عناد فرنسا وتصميمها على إعادة حق صيد المرجان وإقامة منشآت مسلحة وغيرها من الشروط التعجيزية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اصطدم المشروع عندما عرض على مجلس الوزراء الإفرنسي بمعارضة وزير البحرية (دي بورمون) ووزير البحرية (دي هوسي) حيث اعتبر مشروع التعاون مع محمد علي إهانة للشرف الإفرنسي، إذ كان حاكم مصر في نظرهما لا

يختلف عن حاكم الجزائر (حسين باشا): كلاهما (بربري - مسلم) وهدد (هوسي) بالاستقالة إذا منحت فرنسا الأربع سفن إلى محمد علي. ولذلك اضطر (بولينياك) إلى تعديل المشروع بتخفيض المعونة، وتقديم السفن كإعارة فقط. واشترط أن تشترك فرنسا في الحملة بأسطول ضخم يحمي جيش محمد علي من البحر، مع الاشتراك أيضا بقوة برية ضخمة من الجنود والمهندسين للمشاركة في أعمال الحصار والهجوم. وفي 12 تشرين الأول (كتوبر) 1829 وافق الملك الإفرنسي (شارل العاشر) على المشروع المعدل. فأرسل (بولينياك) على الفور بعثة إلى محمد علي لحقت (بهودير) الذي كان لا يزال في (طولون) ينتظر سفينة تحمله إلى مصر. وقد وصل إلى الإسكندرية في 16 تشرين الثاني - نوفمبر -. غير أن مجلس الوزراء الإفرنسي قرر خلال جلسة عقدها يوم 19 كانون الأول - ديسمبر - 1829، أن تقوم فرنسا وحدها بالحملة ضد الجزائر. وفي اليوم التالي وافق الملك مبدئيا على قرار مجلس وزرائه، وعاد (هودير) في هذا اليوم ذاته وهو يحمل رفض (محمد علي) للمشروع المعدل. ومع ذلك لم ييأس (بولينياك) من التعاون مع محمد علي فاقترح في جلسة مجلس الوزراء الإفرنسي يوم 3 كانون الثاني - يناير - سنة (1830 م) إجراء تعديل جديد على المشروع، وتقرر دفع (20) مليونا - كما اشترطها محمد علي، يتم دفع نصفها عند تحرك الجيش المصري، ونصنها الباقي بعضه عند الوصول إلى طرابلس، وبعضه الآخر عند الوصول إلى تونس. وتقرر أيضا دفع مبلغ (8) مليون فرنك كتعويض على (محمد علي) مقابل السفن الأربع التي رفضت فرنسا إعطاءها أو إعارتها. وقرر مجلس الوزراء الإفرنسي أيضا إرسال الأسطول الإفرنسي لحماية

الحملة ومرافقتها ابتداء من الإسكندرية. وحمل (هودير) المقترحات الجديدة - المعدلة - إلى محمد علي، ووصل إلى الإسكندرية في 20 كانون الثاني - يناير - ووافق محمد علي على المشروع المعدل. غير أن حملة إعلامية - صحافية - واسعة ثارت في وجه الحكومة، وأرغمتها على تعديل موقفها. فقد وصفت بعض الصحف مشروع (محمد علي - بولينياك) بأنه مشروع غير عملي (غير ممكن - فظيع - غير مجد لفرنسا لأنها تستخدم مسلما ضد مسلم) كما اعترضت روسيا وإنكلترا على المشروع. وهكذا أرسلت الحكومة الإفرنسية رسولا آخر إلى (محمد علي) في 6 شباط - فبراير - عام (1830م) يعرض عليه ثمانية ملايين فرنك إذا اكتفى بطرابلس وتونس، أما الجزائر فقد رأت أن تتولاها فرنسا بنفسها. عندها يئس (محمد علي) وقطع المفاوضارت مع الإفرنسيين قائلا: (إنهم لن يصلوا أبدا إلى الجزائر، وإذا وصلوا فلن يجرؤوا على البقاء فيها لمعارضة بريطانيا لهم؟).

تواريخ احتلال فرنسا لمختلف مدن الجزائر

عشية ليل الاستعمار

2 - عشية ليل الاستعمار اجتمع مجلس الوزراء الإفرسي يوم 30 كانون الثاني (يناير) 1830 وقرر بعد دراسة استمرت أربع ساعات القيام بحملة ضد الجزائر، وأقر الملك (شارل العاشر) (¬1) مشروع الحملة يوم (7) شباط - فبراير - وأصدر مرسوما ملكيا بتعيين (الكونت دي ¬

_ (¬1) شارل العاشر: (CHARLES X) ولد في فرساي (1757 - 1836 م) حفيد لويس الخامس عشر وشقيق لويس السادس عشر ولويس الثامن عشر والذي خلفه على العرش سنة (1824 م) وقد اشتهر بخفته (رعونته) وبمزاجه المتقلب وطباعه الخاصه. وما أن أصبح ملكا حتى أصدر قانون العقوبات لحماية المقدسات، والتعويض على النازحين الذين شردتهم الثورة الإفرنسية، والقوانين ضد حرية الصحافة. وقد أثار الجزويت (البروتستانت الإفرنسيين) والمجمعات الرهبانية النقمة ضده مما حرمه من محبة الشعب وتأييده، وبصورة خاصة في عهد وزيره (فيليت: VILETTE) وهي النقمة التي لم ينقص منها انتصار (نافاران) ضد المسلمين، ولا استبدال رئيس الوزراء فيليت برئيس الوزراء (مارتينياك: MARTIGNAC) سنة 1828 وقد رفض مجلس النواب منح الثقة لرئيس الوزراء الجدد (بولينياك: POLIGNAC) فتم حل المجلس النيابي وأجريت انتخابات جديدة جاءت نتائجها لمصلحة المعارضة. وتم حل الحكومة في 15 تموز - يوليو - 1830 م. وإسقاط شارل العاشر حيث حل محله لويس فيليب (في فترة احتلال الجزائر).

بورمون) (¬1) قائدا عاما للحملة والأميرال (دوبيري) قائدا للأسطول. وفي يوم (12) آذار - مارس - 1830م، أخطرت الحكومة الإفرنسية السفراء الأجانب المعتمدين في باريس - بمذكرة رسمية - عزمها على توجيه حملة عسكرية ضد الجزائر، وذلك لحل الأزمة المتفاقمة والتي وصلت ذروتها بالحصار المفروض على الجزائر منذ يوم 16 حزيران - يونيو - 1827 م. وكان العرش الإفرنسي في حاجة لانتصار عسكري يحمل هدفا كبيرا هو (الانتقام للمسيحية) أما الذريعة فكانت موجودة (بضربة مروحة الداي). وفي يوم (14) حزيران - يونيو - تمكنت الحملة التي يقودها (دي بورمون) من إنزال قواتها في سيدي فريج. وكانت هذه الحملة مكونة من: (35) ألف جندي مشاة. (24) ألف بحار. (4512) حصان. (675) قطعة بحرية منها (103) قطع حربية ضخمة. وبالمقابل كان جيش الجزائر يضم (50) ألف مقاتل. غير أن هذا الرقم لا يمثل القوة الحقيقية التي حشدت لمجابهة الغزو ¬

_ (¬1) الكونت لويس دي بورمون: COMTE LOUIS DE BOURMONT جنرال إفرنسي، برز أيام إمبراطورية نابليون بونابرت، وهو من مواليد (مين ولوار) (1773 - 1846م) تخلى عن نابليون الذي كان يعتمد عليه في معركة ليني (LIGNY) سنة 1815؛ وباع الأسرار التي اطلعه عليها نابليون إلى الإنكليز مما ساعدهم على الانتصار في واترلو، وانضم (دي بورمون) إلى لويس الثامن عشر بعد أن قبض مبلغا كبيرا من المال لقاء خيانته (لنابليون) وأصبح (ماريشال فرنسا) بسبب دعمه للملكية. وتولى قيادة الحملة ضد الجزائر.

الإفرنسي للأسباب التالية: 1 - أن القدرة الحقيقية هي أكبر من هذا الرقم غير أن أخطاء حشد القوات أدت إلى زج قوات أصغر بكثير. 2 - أنه لم تستخدم هذه القوات في معركة واحده فاستطاعت القوات الإفرنسية المجمعة تدمير القوات الجزائرية على التتابع. 3 - أن إدارة الحرب في الطرفين لم تكن متكافئة مما أضعف من القدرة القتالية للقوات الجزائرية. وهو ما تبرزه مسيرة الأحداث على مسرح العمليات (¬1). كان حاكم الجزائر (الوالي حسين باشا) يتابع تفاصيل الحملة قبل وقوعها. ولكن يظهر أنه لم يكن على علم بمكان نزولها. فقد كان يعتقد أنها لن تتعدى الضرب من البحر، شأنها شأن الحملات الأوروبية السابقة. ¬

_ (¬1) جاء في كتاب: 1920 - 1830 - LA RESISTANCE ARMEE ALGERIENNE) والصادر عن وزارة الدفاع الوطني - الجزائر - 1974 ص 17 - بأن قوة جيش الجزائر هي (50) ألف. في حين جاء في (تاريخ الجزائر - الأستاد مجاهد مسعود - الجزء الأول ص 114) ما يلي: (وأرسل الداي إلى عماله في المدائن والضواحي يدعوهم إلى الجهاد الأكبر، ويستفز حماستهم للدفاع عن بلادهم وأوطانهم ... فوعدوا بإرسال جميع الرجال القادرين على حمل السلاح، ووضعهم تحت إمرته، حتى فاق عدد الجنود التي وعدوا بها الباشا (200) ألف رجل لم يصل منهم إلا القليل. أما تاريخ الجزائر الحديث - بدايه الاحتلال - الدكتور أبو القاسم سعد - الله - القاهرة 1970 - فيذكر في ص 32 - 35 - تفصيل هذه القوات بالتالي: (لم يكن جند الإنكشارية - في الجيش النظامي يزيد على (6) آلاف، أما ولاة الأقاليم، فقد وعد الحاج أحمد باي قسنطينة بزج (30) ألف محارب، ووعد حسن باي وهران بتقديم (6) آلآف محارب. ووعد مصطفى بومزراق باي التيطري بتقديم (20) ألف محارب. وجمع شيوخ جرجرة بين (16 و18) ألف محارب) وجمع أهالي مزاب (4) آلاف محارب. غير أن معظم هذه القوات لم تصل، وعلى سبيل المثال، فإن باي تيطري حين وصل إلى الميدان لم يأت معه أكثر من ألف رجل. (وكان قد وعد بزج (20) ألف منهم (10) آلاف برماحهم).

وما دام قد حصن الواجهة البحرية، فإنه لا خوف من عواقب الحملة. ومن جهة أخرى، كان لا يزال على الاعتقاد بأن الإفرنسيين لن يتخلوا عن فكرة التفاوض، على الرغم من استعداداتهم للحملة، وكان يساعده على اعتقاده هذا كثرة الرسل والبعثات التي جاءت طالبة التفاوض منذ إعلان الحصار. وكان الباشا يعتمد أيضا على مساعدات بريطانيا، التي كان قنصلها، بالإضافة إلى قنصل نابولي، يقوم بنشاط ملحوظ منذ عام 1827 م وكانت مصالح بريطانيا تقتضي استمرار الإدارة الحالية في الجزائر، على نحو ما كانت تقتفيه مصالحها في المشرق. وحين كتب محمد علي ناصحا الباشا، رد عليه (بأن يبيع الفول للمسيحيين بدل إعطائه النصائح بدون جدوى). وكان حسين باشا قد بعث برسله للتجسس على أخبار الإفرنسيين في إيطاليا وإسبانيا ومرسيليا وطولون وباريس وجبل طارق ومالطا. وحين جاءته هذه الرسل تنذره بأن فرنسا تستعد للقيام بحملة ضده، اعتقد أن ذلك لن يتعدى غارة بحرية ستفشل لا محالة. وعين والي الجزائر (حسين باشا) صهره (الآغا إبراهيم) لقيادة جيش الجزائر، منذ ضرب السفينة الإفرنسية لابروفانس في 3 آب - أغسطس - 1829 م، وسلمت له عندئذ خطة الإفرنسيين للهجوم على الجزائر ومكان إنزال قواتهم وعدد جنودهم ومدافعهم. ومع ذلك لم يستعد لأي شيء وكان يدعي أن قبائل الجزائريين سترغم الإفرنسيين على الفرار منذ نزولهم إلى البر. ولكنه لم يصدر تعليماته أو أوامره لهؤلاء المقاتلين الجزائريين أن يأتوا من بواديهم لمواجهة العدوان. فكان كل جيشه مكونا من أهالي سهل متيجة الذين لا يعرفون سوى بيع الحليب. وكان إبراهيم يدعى أن لديه (5) آلاف لص سيطلقهم ليلا للهجوم على معسكر العدو، وإشاعة

الفوضى والاضطراب حتى يقتل الإفرنسيون بعضهم بعضا. ولم يكتف (الآغا إبراهيم) بعدم القيام بأية استعدادات لمجابهة احتمالات العدوان، وإنما وقف لمعارضة اقتراحات زملائه (أمثال الحاج أحمد باي قسنطينة) والتي تقضي بالاعتماد على (استنزاف قدرات العدو) والاشتباك معه بمعارك صغرى (كمائن وإغارات) وهو النوع الذي يتقن الجزائريون استتخدامه بسبب سرعتهم وخفة حركتهم ومعرفتهم الجيدة للأرض. وقرر (إبراهيم) في مخطط دفاعه على صدم قوات العدو بمعركة تصادمية في المواجهة، وكان إبراهيم يقول: (أنه الوحيد الذي كان يعرف مناورات العدو الحربية وطرائقه التعبوية - التكتيكية). وفي مرحلة الإعداد للمعركة، أعطى (إبراهيم) كل جندي عشر رصاصات فقط. وكانت هذه الرصاصات في نظره (كافية للإطاحة بنصف الجيش الإفرنسي، وبعد ذلك لن تكون هناك حاجة لتوزيع البارود). عندما كان (الآغا إبراهيم) يجابه الموقف بمثل هذه الاستعدادات البدائية، وعندما كان الداي (حسين باشا) يعتمد على تقديراته المتفائلة - أكثر من اللازم، كان العالم كله يعرف أن حملة فرنسا قد باتت وشيكة (حتى أن القناصل المعتمدين في الجزائر اتخذوا كل التدابير الضرورية لحماية أنسفهم وممتلكاتهم من أعمال الفوضى والنهب التي قد يقوم بها الإنكشارية وقطاع الطرق من الجزائريين والانتقال إلى مركب القيادة الإفرسية عند بدء العدوان (¬1). غير أن أعمال النهب والفوضى جاءت من قبل جنود ¬

_ (¬1) تضمن تقرير لأحد القناصل نشر في: REVUE D'HISTOIRE ET DE CIVILISATION DU MAGHREB. FACLTE DES LETTRES D'ALGER. JANVIER 1968 NO 4 P.P. 35 - 49) بأن قيادة الحملة قد سمحت لعدد من =

جيش الغزو، كما أن القيادة الإفرنسية لم تسمح للقناصل بمرافقة الحملة بسبب صعوبات كثيرة على ما زعمته قيادة الحملة. المهم في الأمر هو أن هذه الحملة وصلت إلى الجزائر على موجات متتالية، تكونت الموجة الأولى من مائتي قطعة بحرية وصلت إلى مياه الجزائر منذ 13 حزيران - يونيو - 1830 وألقت مراسيها في ميناء (سيدي فرج). وقامت السفن بإنزال القوات فورا واستولت على رأس (سيدي فرج) وعلى قلعة صغيرة غير بعيده عن الرأس المذكور، واستمر الإنزال بعد ذلك دونما توقف وبدون مقاومة تقريبا. وجاءت بعد ذلك الموجة الثانية وهي مكونة من (110) قطع بحرية من أنواع مختلفة وأحجام متباينة، ألقت مراسيها يوم 16 حزيران - يونيو، وقامت بإنزال كل ما تحمله من الجنود والمواد التموينية والذخائر الحربية، وعادت بعد ذلك إلى فرنسا حتى تنقل حمولات جديدة. وصلت بعد ذلك قطع حربية بحرية من كل الأنواع، وهي تغدو جيئة وذهابا بين طولون والجزائر لتنقل كل يوم المزيد من القوات مع تأمين متطلبات القوات التي بلغ عدد أفرادها (30 ألف مقاتل) منهم (25) ألفا من المشاة و (5) آلاف من رجال المدفعية والمهندسين و (1500) فارس مع خيولهم و (3500) من القناصة

_ = الضباط الأجانب المعتمدين بمرافقة الحملة، وذلك بصفة مراقبين فقط. وهم: 1 - عن إنكلترا: العقيد مونتي (MONTHE) قائد سفينة مانسل. 2 - عن النمسا: الأمير فريدريك شوارتز نبرغ. 3 - عن إسبانيا: قائد الكتيبة جوكين فيللا لونغا، والرائد مانويل سوريا، والعقيد جوزيه غيرورو دو تور، وانتوان لازانكا، والنقيب كونت ميرازول (الذي وصل بعد الاستيلاء على الجزائر).4 - عن بروسيا: النقيب كلارك. 5 - عن روسيا: العقيد فيليزولف والملازم دوبينسكي (عن تقارير سويدية وثائقية في موضوع الاستيلاء على الجزائر سنة 1830 م).

والجوالة - عناصر الاستطلاع - وقوات الدرك ووحدات أخرى خقيفة. وأقام القائد الإفرنسي (بورمون) مقر قيادته في زاوية المرابط (سيدي فرج) حيث كانت الزاوية تشرف على الخليج بكامله. وكانت تضم مسجدا صغيرا يحيط به جدار، وبه بعض الغرف. وحول الزاوية كانت مزارع الشعير والحنطة وأشجار التين والبرتقال والزيتون. وبداخل المسجد كان هناك صندوق ذخائر سيدي فرج الذي كان مرصعا بالفضة والمرجان. فاختار (بورمون) المسجد لإقامته ونومه، وانتشر القادة في الأنحاء الأخرى وقد اختار كل واحد المكان المناسب لإقامته. بقيت القوات الإفرنسية في مراكزها حتى يوم 19 حزيران - يونيو - دونما أي محاولة للتحرك، حتى تقنع الجزائريين بضعف القوة الإفرنسية وتغريهم بمهاجمتها جبهيا. وفي الوقت ذاته للإفادة من هذا الوقت من أجل ضم القوات الجديدة التي تصلهم من فرنسا، وأثناء ذلك قام الجنود الإفرنسيون بحفر الخنادق المتتالية لحماية معسكرهم، واختاروا لمدفعيتهم المرابض المناسبة. عرف (حسين باشا) بخطورة الموقف عندما نزل الجيش الإفرنسي فعلا في سيدي فرج، فتحرك بسرعة، وطلب إلى ولاة الأقاليم الثلاثة (قسطينة ووهران وتيطري) إرسال الدعم، كما أرسل إلى داخل البلاد المراسيل يدعون الناس للجهاد، فاستجاب لندائه الرسميون والأهالي على السواء. وأرسل أيضا إلى باي وهران يأمره بتحصين الميناء، كما أرسل إلى باي قسنطينة يأمره بتحصين ميناء عنابة، وأمر الباشا بإجراء إحصاء لعمال مدينة الجزائر وإرسالهم إلى القلاع للدفاع عنها.

ورغم هذه الاستعدادات الظاهرية، والتي لم تكن كافية بقدر ما كانت متأخرة، فقد كشف الواقع عن بعض الأخطاء. فبدلا من أن يستعمل (الداي حسين باشا) هذه القوات لصد الهجوم الإفرنسي من سيدي فرج، فإنه احتفظ بها على مسافة عدة كيلومترات بعيدا عن العاصمة. وحين عبر له بعض الأجانب عن استغرابه لهذا الإجراء، أجابه حسين: (بأنه فعل ذلك ليسهل تحطيم العدو). وكان حسين ينظر بثقة إلى جنوده وتحصيناته، وكان يعتقد بأن القصبة لا تهزم وأنها تستطيع أن تقاوم عدة سنوات. ولم يدعم معسكراته سوى ببعض مئات من الجنود. ثم جمع (الداي حسين باشا) ديوانه العسكري. واستشار رجاله في الأمر، فقر رأيهم على أن يتركوا الإفرنسيين وشأنهم في سيدي فرج حتى يكملوا إنزال قواتهم واعتدتهم ووسائطهم القتالية، ثم ينقضوا عليهم بجموعهم - ما هو موجود الآن وما هو قادم من الداخل، فيقذفون بالإفرنسيين في البحر، فيتخلصوا بذلك منهم، ويغنموا أموالهم وذخائرهم، كما وقع مثل ذلك من قبل مع الإسبانيين (حملة شارلكان). وعندئذ تقرر إقامة معسكرين لحشد القوات في (مصطفى والي) و (اسطاوالي) وهما يبعدان (5) كيلومترات عن جنوبي شبه جزيرة (سيدي فرج). وأقام قائد الجيش (إبراهيم آغا) في (اسطاوالي) ولكنه لم يحاول تنظيم القوات التي وردت إليه من سكان سهل متيجة وأهالي جرجرة. وكانت القوات تذهب كل يوم إلى معسكر الحراش الذي يبعد مسافة أربع ساعات من (اسطاوالي) وتعود كل صباح. وقد رفض (إبراهيم) مقترحات باي (قسنطينة) التي تقضي بتوزيع القوات الجزائرية - العثمانية، وجعل جزء منها غرب (سيدي فرج) لحماية العاصمة ومنع العدو من الوصول إليها. وانتقد (الباي أحمد)

خطة إبراهيم) وقال: (بأن وضع القوات على ما هي عليه سيكون - مرشدا للقوات الإفرنسية فى زحفها نحو العاصمة. وطالب بالعناية بالجيش، وأن يأخذ كل قائد مجموعة منه ويعدها إعدادا كافيا). كما طالب (الباي أحمد) بحفر الخنادق حول المعسكر. ولكن رد (الآغا إبراهيم) كان سلبيا ومثبطا. فقد أجاب الباي بأنه: (يجهل التكتيك الحربي الأوروبي الذي يخالف التكتيك الحربي العربي). فلم يبق أمام (الباي أحمد) سوى الصمت. وفي آخر لحظة، اقتنع (الآغا إبراهيم) بضرورة حفر الخندق الذي كان يرى (أنه سيكون معطلا لجيشه لا لجيش العدو) وقد أذاع الجيش: (بأن كل عربي بدون سلاح يستطيع الحضور إلى المعسكر لأخذه) وعندما حضروا للمعسكر ليلا أعطاهم الفؤوس بدلا من الأسلحة وأمرهم بحفر الخندق، فتم تنفيذ ذلك في ليلة واحدة. ولكن الخندق لم يكن مفيدا، إذ أنه لم يؤمن حماية المقاتلين الجزائريين ولم يؤخر تقدم العدو. حدثت خلال هذه الفترة بعض الأحداث الصغرى التي تجدر الإشارة إليها، نظرا لأنها تعتبر بمثابة المؤشرات للحالة الخاصة والعامة أثناء عملية الغزو. ومن ذلك إقدام بعض الجزائريين على مهاجمة الجنود الأتراك في الليل ثم الهرب. وعندما اشتكى الجنود إلى الباشا، نصحهم (بغض النظر) وعدم تضخيم الأمر. وحاول (حسين باشا) على إثر ذلك التقرب من الأهالي، فأمر بإعدام سبعة من جند الإنكشارية بسبب اعتداءاتهم على الجزائريين، وأخذ يحقد على جنوده الأتراك، وازداد اعتماده على الجزائريين. ومن ذلك أيضا، رفض (الآغا إبراهيم) معاقبة جندي إنكشاري لأنه قتل جزائريا لكي يبيع رأسه في المدينة على أنه رأس جندي إفرنسي. وقد

أثار هذا الحادث حفيظة الجنود الجزائريين الذين كانوا في جيشه. ومن ذلك أيضا ما حدث أثناء هذه الساعات الحرجة، عندما ذهب جزائري (يدعى أحمد بن شنعان) إلى المعسكر الإفرنسي للتعرف على ما إذا كان الفرنسيون قد جاءووا مستعمرين أو محررين. وبعد قضاء ليلة واحدة، تركوه يعود من حيث أتى بعد أن زودوه بنسخ كثيرة من البيان الذي أعدوه ووجهوه إلى الجزائريين وأهالي المغرب العربي عامة. (انظر نص هذا البيان في قراءات - 2 - آخر الكتاب). وفي هذا الوقت ذاته توجه مترجم سوري كان في الجيش الإفرنسي، إلى المعسكر الجزائري محاولا إقناع القيادة بالتفاوض مع الإفرنسيين، ولكنه حمل من هناك إلى (حسين باشا) الذي أمر بقتله بعد أن ظن أنه يحاول التأثير عليه بوصفه للقوات الإفرنسية بالكثرة والضخامة. ومن ذلك، قيام بعض الجزائريين بإجراء اتصالات مع الإفرنسيين، والتظاهر بصداقة فرنسا، وإعطاء تقارير خاطئة عن حالة البلاد وحالة الجيش. ومن ذلك أيضا ما ذكر من أن (إبراهيم باشا) قد تسلم من الباشا حسين صالح) من المال لتوزيعها على المجاهدين لتشجيعهم، ولكنه لم يعط أحدا منهم شيئا. وكان (الباشا حسين) قد وعد الجزائريين بدفع مبلغ (500) فرنك لكل من يحمل له رأسا للعدو. وكلف (الآغا إبراهيم) بدفع المبلغ في مكانه مقابل وصل استلام. غير أن (الآغا) لم يدفع شيئا. وكان يقول لمن يأتيه برأس العدو: (تعال خذ المبلغ بعد المعركة). وذكر كذلك: (أن الآغا إبراهيم) ترك معسكره دون حراسة قوية (بحيث كان يستطيع كل إنسان دخوله والخروج منه بدون أن يعترضه معترض). وعندما تقرر مهاجمة المعسكر الإفرنسي: (خرج إبراهيم وحاشيته من المعسكر إلى سيدي فرج تاركا المعسكر خاليا إلا من حوالي (40) شخصا

لحراسة الأثاث، ولكنهم كانوا بدون سلاح). وهكذا - وكما وصف أحد مسؤولي الجزائر - الحاج حمدان خوجة - الموقف بقوله: (لقد ذهب الآغا إبراهيم لمحاربة الإفرنسيين، بدون جيش منظم، وبدون ذخيرة، وبدون مؤونة، وبدون شعير للخيل، وبدون المقدرة الضرورية على مواجهة الحرب) (¬1). فكانت (غلطة، من الوالي حسين باشا، لا تغتفر. لأنه عين الآغا إبراهيم لممارسة قيادة هو غير كفء لها في وقت هو من أخطر ما جابهته الجزائر). مضى أسبوع تقريبا على إنزال القوات الإفرنسية في المنطقة المحصنة طبيعيا حيث كانت المرتفعات الأرضية تحمي ميمنتهم وقلبهم. وفي مساء 18 حزيران - يونيو - أقام والي الجزائر (حسين باشا) مأدبة عشاء أشبه ما تكون (بمؤتمر حرب) حضرها: (باي قسنطينة وخليفة باي وهران، وباي تيطري، وخوجة الخيل وقائد الجيش الآغا إبراهيم) وتقرر مهاجمة المعسكر في صبيحة اليوم التالي. بدأت المعركة الحاسمة مع بزوغ الشمس ليوم 19 حزيران - يونيو - والتقف القوتان في معركة جبهية أظهر فيها العرب والترك شجاعة نادرة وكفاءة عالية مما أوقع القوات الإفرنسية في مأزق حقيقي ووصل المجاهدون إلى تحصينات الإفرنسيين، ورفعوا علم الجزائر فوقها. ولاحت بواكير النصر لمصلحة المسلمين غير أن القوات الإفرنسية تلقت دعما قويا تعززه المدفعية في اللحظة الحرجة وتحول الموقف بسرعة. فأخذت (جيوش الباشا) بالتراجع والانسحاب، وهو التراجع الذي لم يلبث أن تحول إلى (هزيمة) ¬

_ (¬1) المرجع: تاريخ الجزائر الحديث - الدكتور أبو القاسم سعد بالله - ص 32 - 37.

بسبب الضغط المتعاظم للقوات الإفرنسية التي أفادت من تفوقها فانطلقت كالسيل مجتاحة في طريقها معسكر (مصطفى والي) الذي تركه المقاتلون وهم يفرون في كل اتجاه ليقع جميعه غنيمة باردة في قبضة الإفرنسيين. وهرب (الآغا إبراهيم) من الميدان مخلفا وراءه جيشه وخيامه وأعلامه والفرقة الموسيقية. واختفى في دار ريفية مع بعض خدمه. وبدل أن يعزله (حسين باشا) فورا ويعين قائدا تتوافر له الكفاءة والقدرة لإعادة الروح المعنوية المنهارة، ومواجهة قوات العدو، أرسل إلى صهره (حمدان خوجة) الذي كان موضع ثقته ليحاول إقناعه بضرورة استلام القيادة من جديد، وقد وجده (خوجة) في حالة انهيار تام، فلم يتمكن من إقناعه لمتابعة تنفيذ مهمته إلا بعد جهد كبير. غير أن (الآغا إبراهيم) لم يتمكن من تنفيذ واجباته، فعندما تقدم الجيش الإفرنسي من (اسطاوالي) مارا (بسيدي خلف) اختفى إبراهيم من جديد. وأمام ذلك، عزله (حسين باشا) ودعا المفتي (محمد العنابي) وأعطاه سيفا وأمره بجمع الشعب وإقناع الناس بالجهاد دفاعا عن البلاد. وكان المفتي رجلا فاضلا ولكنه كان صالحا للافتاء لا للقيادة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقط أحاط الناس - رجال الحضر - بالمفتي، وحاولوا إقناعه بعقم محاولات الدفاع عن موقف بات الأمل ضعيفا في إنقاذه. لا سيما وأن قوات الإفرنسيين قد أخدت في الاقتراب من (قلعة مولاي حسن - المعروفة باسم قلعة الإمبراطور) مما زاد الموقف اضطرابا وجعل الأمل بنجاح المقاومة أكثر بعدا. أما قيادة الجيش فقد تولاها (الباي مصطفى بومزراق). ولكن تغيير القيادة لم يعد مجديا أو مثمرا، هذا على الرغم مما تميز

به القائد الجديد من الخبرة القتالية والشجاعة. فكان كل ما عمله هو جمع الغنائم واختيار البنادق الطويلة لإطلاق الرصاص بنفسه على الإفرنسيين. وتحصين البساتين حول مدينة الجزائر. وفي هذا الوقت كانت القوات الإفرنسية قد توقفت لإعادة تنظيم قواتها وتحصين مواقعها التي وصلت إليها. وبعد مناوشات بسيطة خلال هذه الفترة تمكن الإفرنسيون من إفراغ بقية السفن، وأصبحوا على استعداد لمتابعة التقدم نحو الجزائر التي لم يبق بينهم وبينها أكثر من ستة كيلومترات. فهيؤوا هجوما منظما، وانقضوا على جنود الداي الذين خاضوا المعركة بشجاعة عالية، وأظهر الأتراك والعرب والبربر من العناد قدرا كبيرا حتى أن معظمهم لم يغادر مواقعه واستمر في المقاومة حتى أبادت نيران العدو القوات المدافعة عن مواقعها. واستطاع الإفرنسيون التقدم حتى أشرفوا على المدينة، واقتربوا من (برج مولاي الحسن) وهو مركز الدفاع الأكبر لإطلاق نيران مدافعهم عن القلعة. أثناء ذلك كان وزير المالية (الخزنجي) المكلف بقيادة الحامية المدافعة عن (برج مولاي الحسن) والذي كان موضع ثقة الداي (حسين باشا) قد أخذ في التآمر مع الإفرنسيين على سيده الداي، مدفوعا إلى ذلك بما عرف عنه من الطموح - أو الطمع - الذي وصل به إلى درجة الحقد. والذي كان له دوره في القضاء على حياة قائد الجيش السابق (يحيى آغا) ثم أخذ في التقرب من الإنكشارية في محاولة لكسب تأييدهم له للاستيلاء على السلطة. وها هو الآن يحاول التفاوض مع الإفرنسيين ويعد مشروعا للتفاوض على شروط الصلح، في حين كانت الحامية تدافع ببطولة عن القلعة من يوم 1 تموز - يوليو - حتى يوم 4 منه، وأثناء ذلك كانت المدفعية الإفرنسية قد

أحدثت ثغرات في الجدران ودمرت قواعد القلعة، وقتل القسم الأكبر من أفراد الحامية، ونفدت جميع المؤن والأسلحة، ولم يبق إلا ثلاثة مقاتلين خافوا أن تحتل القوات الإفرنسية قلعتهم وتستخدمها ضد المواطنين الجزائريين في المدينة والقصبة، فأوقدوا النار في مستودعات البارود، فدك البرج وتهادى على الأرض، وهلك خلق كثير. وأدى ذلك إلى مزيد من الهياج والاضطراب، إذ عرف الناس أنه لم يعد هناك ما يحميهم من اجتياح الإفرنسيين. أخذت روح الهزيمة في الهيمنة بسرعة على الأاجهزة الإدارية والاجتماعية، وكان للبيان الذي وزعه الإفرنسيون دوره في الترويج للهزيمة بين أوساط من يطلقون على أنفسهم عادة اسم (المعتدلين) والذين اقتنعوا بأن الإفرنسيين قد جاؤوا حقا كمحررين للجزائريين من سيطرة الأتراك العثمانيين. وكانوا يعتقدون أن (فرنسا المتحضرة) لا يمكن أن تعد بشيء إلا إذا كانت مستعدة لتنفيذه. فأصبح هؤلاء من أنصار (الحل السلمي). ونجح البيان الإفرنسي بذلك من (شل القدرة القتالية) لدى بعض الجزائريين، على الرغم من أن هذا البيان قد صيغ بأسلوب غامض، وبطريقة دعائية (إعلامية). المهم في الأمر، هو أن هذه الروح الانهزامية دفعت مجموعة من ممثلي التجار وأصحاب الأموال للاجتماع في قلعة (باب البحرية) يوم 2 تموز (يوليو). وقرروا أن ضياع المدينة أصبح أمرا محتما. وأنه إذا ما دخلها الإفرنسيون عنوة فإنهم سيستبيحونها، وسينهبون ثرواتها ويعتدون على النساء ويقتلون الأطفال، ورأوا تفاديا لذلك، عدم مقاومة الجيش الإفرنسي عند دخول المدينة، وأرسلوا وفدا عنهم إلى القصبة لمقابلة الباشا، واطلاعه على ما اتفقوا عليه. وأجابهم الباشا عند مقابلته لهم: (بأنني سأقاوم ما دمت

حيا، وإن أردتم التسليم فسأتلف القصبة وأموت فيها) ثم نهض ليوقد النار في خزينة البارود، وما استطاعوا صده عن ذلك إلا بجهد جهيد. غير أن هذا الحادث أضعف من إرادة (الباشا حسين). فأرسل (بومرزاق مصطفى) إلى القائد العام الإفرنسي بعد ظهر يوم 4 تموز - يوليو - ليعرض عليه أمر الصلح، ويعد بإعطائه نفقات الحملة الحربية، ويؤكد له صداقة الباشا، وحرية التجارة الإفرنسية في البر والبحر. ولكن الجنرال (دوبرمون) القائد العام رفض هذه المقترحات، مدعيا أنها لا تساوي ثلم شرف فرنسا، ولا تعادل ثمن دماء الإفرنسيين وخسائرهم، فقد قتل منهم (400) رجل، وجرح أكثر من ألفي شخص. وبعد ساعتين تقدم إلى القائد العام تاجران من أغنياء الجزائر، وقالا له: أنهما مندوبان عن أشراف المدينة ويطلبان الهدنة والصلح. ولما أقبل المساء ذهب (بومزراق) مع قنصل إنكلترا إلى المعسكر الإفرنسي. وأظهر مصطفى استعداده لخيانة سيده، وحمل رأسه إليه، وتنصيب (الخزنجي) مكانه، غير أن (بورمون) أجابه: (بأنه لم يأت لمساعدة المتآمرين ولكنه جاء حتى يحارب، وأنه يقبل اقتراح حسين باشا الذي ينص على الاستسلام). وعندها سأل (بومزراق) و (القنصل الإنكليزي) عن الشروط التي يريدها، فدخل (بورمون) وحررها وسلمها إلى (بومرزاق) الذي عاد بها إلى (حسين باشا) فوقعها هذا بعد أن قرأها على رجاله وحاشيته (¬1). كان أول ما فعله الكونت (دوبورمون) هو حل منظمة الإنكشارية التي كان عدد أفرادها العزاب (3500) والمتزوجين ¬

_ (¬1) أنظر - قراءات 3 - نص (وثيقة الاستلام).

حوالي (الألف). وأفاد (اليهود) من هذا الموقف فانطلقوا في حملة انتقامية من أسيادهم وحماتهم سابقا، فنهبوا أموالهم ومنازلهم، واعتقلوا عددا من العثمانيين عندما تأكدوا من اقتراب الجيش الإفرنسي، وأخذوا يرقصون في الشوارع معلنين ولاءهم للسيد الإفرنسي الجديد. أما (دوبورمون) فاكتفى بترحيل الإنكشارية غير المتزوجين إلى آسيا الصغرى بعد تجريدهم من أسلحتهم. وبعد ذلك، تبادل حسين باشا - الذي كان قد بلغ الخامسة والستين من عمره - وبورمون - الزيارات، فزار الباشا أولا بورمون مصحوبا بحوالي خمسين شخصا من العرب والأتراك، وطالب باسترداد أثاثه وحاجاته التي منها كيس يحتوي على (30) ألف قطعة ذهبية. وكانت زيارة الباشا يوم 7 تموز - يوليو - وفي اليوم التالي زاره بورمون وخيره في المكان الذي يريد الذهاب إليه، فاختار أولا مالطا، ولكن خوفا من بريطانيا خيره (بورمون) في مكان آخر، فاختار (نابولي) التي كان ملكها صديقا للباشا، فقبلت رغبته، وفي 31 من الشهر ذاته، وصل حسين باشا باي الجزائر السابق إلى (نابولي) على متن السفينة الإفرنسية (جان دارك) وكان برفقته (110) أشخاص من بينهم (الآغا إبراهيم - صهر الباشا) ووزير المالية (الخزنجي) ومن بينهم أيضا (57) امرأة من الحرائر والوصيفات. لقد كانت الاتفاقية الموقعة بين الداي حسين باشا وقائد الحمله (دوبورمون) خاصة بمدينة الجزائر، في حين كان الداي (حسين) حاكما لكل الجزائر، وكان من المفروض أن ينتقل من ولاية إلى ولاية (من بايليك إلى بايليك) ومن مدينة إلى مدينة، وألا يستسلم بمجرد خسارته لأول معركة لم يتم الإعداد لها بصورة

مناسبة. فخان بذلك قضية الجزائر، وفرط بالأمانة وترك لشعب الجزائر مسؤولية تصحيح (الخطأ التاريخي) أو (الجريمة التاريحية). دخلت القوات الإفرنسية إلى مدينة الجزائر مع شروق شمس (الخامس من تموز - يوليو - 1830) وأصبح هذا اليوم نقطة تحول حاسمة في تاريخ الجزائر. إذ يعتبر الحد الفاصل بين نهاية الإسلام وبداية المقاومة المتصاعدة، وأخذت الأجيال تتناقل مع كل تطور ذكريات (عشية ليل الاستعمار) الذي بدأ في صباح ذلك اليوم. وطئت أقدام الغزاة البرابرة أرض الجزائر الطاهرة. واقتحموا أسوار (المحروسة) فنزعوا الأعلام الجزائرية عن الحصون والأبراج ودور الحكومة، ورفعوا مكانها الأعلام الاستعمارية، واستولت القوات الإفرنسية على خزينة الدولة الجزائرية وأملاكها بعد احتلالها العاصمة. وانطلقت لنهب (الأملاك الأميرية) أو المؤسسات العامة، وأموال الحكومة وكنوزها وثرواتها وما تضمه مستودعاتها من المواد الغذائية والأعتدة الحربية، وتم تقويم هذه المسروقات بمبلغ (150) مليونا من الفرنكات الذهبية. (وقد سجل المؤرخون بأن ضباط الحملة الاستعمارية اختلسوا (100) مليون فرنك لأنفسهم، ولم يطلعوا الحكومة على أكثر من (50) مليون فرنك ذهبي. مدعين أن هذا هو المبلغ الذي وجدوه في الخزانة الجزائرية. كانت الغنائم التي حصل عليها الإفرنسيون - بالإضافة إلى محتويات الخزانة الجزائرية - تشمل ألفي مدفع، منها ثمانمائة مدفع

من البرونز الخالص، قيمتها على مقتضى ثمن وزن البرونز، (4) ملايين فرنك ذهبي. وكان في مخازن الحكومة من الصرف والبضائع المختلفة ما قدر الفاتحون ثمنه بثلاثة ملايين فتكون جملة الغنائم - بحسب تقويم الاستعماريين ذاتهم -: نقدا: 48،864،527 فرنكا. مدافع برونز النحاس: 4،000،000 فرنكا. صوف وبضائع مختلفة: 2،000،000 فرنكا. المجموع: 55،864،527 فرنكا. حصلت فرنسا بذلك على أكثر من ضعف نفقات حملتها على الجزائر: وحصلت فرنسا على ما تحتاجه من المواد الأولية المخزونة في الجزائر. وابتلعت فرنسا ما كان للجزائر عليها من الديون المتراكمه. وكانت هذه هي الدفعة الأولى من عملية النهب الاستعماري، التي رافقت (ليل الاستعمار الإفرنسي في الجزائر) وانطلق جند الغزاة البرابرة، في ذروة نشوة النصر، لتطوير عملية النهب العامة بعمليات نهب خاصة لم تعرف لها شبيها إلا في غزوات التتار البرابرة. ولم يسلم منها حتى دور القناصل والتجار الغربيين الذين كانوا يقيمون في الجزائر. وحملت الغنائم (والمدافع البرونزية) والكنوز والثروات إلى فرنسا لتزيين تاج (الحرية والإخاء والمساواة) بأول ثمرة من ثمار الثورة التي كانت تعيش حياة الملكية، والملكية التي كانت ترتدي ثياب الثورة.

بدايات المقاومة

3 - بدايات المقاومة ظهر تصميم الشعب الجزائري واضحا منذ البداية لمقاومة الهجمة الاستعمارية الإفرنسية، وتجلى ذلك في الأعمال القتالية التي خاضها الجزائريون مع الإفرنسيين منذ الاشتباكات الأولى، وهذا ما شهد به كل المراقبين الذين رافقوا الحملة، وكذلك أولئك الذين كتبوا (تاريخ الحملة) من الإفرنسيين وسواهم وقد يكون من المناسب التوقف قليلا عند أحد مؤرخي الحملة الإفرنسية وقادتها، وهو (كلوزول) (¬1) الذي يصف ¬

_ (¬1) كلوزول: (BERTRAND CLAUSES OU CLAUZEL) ماريشال فرنسا، من مواليد ميروبواكس (MIREPOIX) (1772 - 1842 م) قائد الجيش الإفرنسي، ثم حاكم الجزائر، وهو الذي استولى على مسكره سنة 1835 م. وكان كلوزول من قادة نابليون بونابرت، ثم اتفق مع (بورمون) على خيانة سيدهما بونابرت، والتآمر مع الإنكليز ضده. مما ساعد إنكلترا - والحلفاء على النصر، وإعادة الملكية، واشتهر بالغدر والخيانة، ومن أقواله: (أن المعاهدات والمحالفات هي مجرد أوراق تمزق إن اقتضت الحاجة لذلك، وإذا ما ضربت فرنسا بما بينها وبين الجزائر من اتفاقيات عرض الحائط، فالذنب ذنب داي الجزائر الذي أهان فرنسا) وكان من أشهر المحرضين على الاحتفاظ بالجزائر.

معركة (اسطاوالي) بما يلي: (قامت القوات الجزائرية يوم 10 حزيران - يونيو - 1830 بهجوم شامل على امتداد الجبهة - وكان لا بد من القتال للدفاع عن كل شبر من الأرض، وخوض الصراع خطوة فخطوة. حتى أمكن في النهاية صد العرب عن الوصول إلى الهدف الذي يريدونه. لقد كانت الأرض مقطعة بالخنادق المتتالية، وكان لا بد من صدهم عند كل خندق. لقد أخفى العرب مدافعهم خلف السياج وبين الأنقاض والجدران المتهدمة والغياض الكثيفة. وأقاموا كمائنهم هنا بزمر صغيرة يتراوح عدد أفرادها بين ستة أو ثمانية من القناصة - مهرة الرماة - فكانوا يعيقون تقدم قواتنا بكفاءة. ولم يكن أمرا نادرا أن تجد النساء وحتى الأطفال عند بطاريات المدفعية وهم يعملون على تلقيم الأسلحة التي كان الرجال يستخدمونها للرمي بدقة عالية وبحذر كبير. وبذلك كانت تتضاعف قدرتهم القتالية). (واعتبارا من هذه اللحظة انطلق الجنود الإفرنسيين لعمليات انتقام وحشية. فعملوا على قتل الجرحى والإجهاز عليهم، وتشويه القتلى، وكان الجنود الجزائريون يفضلون الاشتباك بالسلاح الأبيض - الخناجر أو المدى - والموت بنتيجة ذلك عن الاستسلام للإفرنسيين). وعندما وصلت القوات الإفرنسية إلى ضواحي الجزائر، بدون مقاومة تذكر، انطلقت القوات الإفرنسية لأعمال التدمير المثيرة والإبادة الوحشية والتي وصفها (كلوزول) بقوله: (عند الوصول إلى المنازل الريفية، كانت قواتنا قد اجتاحتها ودمرتها وقتلت كل السكان الذين اختبؤوا فيها أو لجؤوا إلى الغياض المجاورة. وكان لا بد لمن يقع بصره على مشاهد الإبادة من أن يشيح بوجهه نفورا منها. ولم يحاول أحد إيقاف هذه الفوضى أو

الأعمال الفظيعة التي ارتكبت تقريبا تحت إشراف القادة الكبار. ولم تمض أكثر من 24 ساعة على هذه الأعمال حتى استطاع الجيش الإفرنسي إقامة معسكره فوق أرض مدينة هي من أجمل بلدان الدنيا). وفي مجال الحديث عن المقاومة، ذكر (كلوزول) ما يلي: (لم تقتصر مقاومة الجزائريين عند الدفاع عن القصر، بل إنهم قاوموا بضراوة في القصبة وعند باب عزون. وتميزت المقاومة داخل القلعة بالعناد والتنظيم، فكان المقاتلون يحتلون فورا مكان من يقتل، ولم يتخل سدنة الأسلحة عن أسلحتهم ومدافعهم إلا بعد أن أصبحت هذه الأسلحة معدومة الفائدة - ومدمرة - وكان المقاتلون يحاولون سد الثغرات التي تحدثها المدافع بأكياس الصوف، كما كانوا يعملون على وضع مدافع جديدة في أمكنة المدافع المدمرة ويستأنفون رماياتهم. واستمروا في ذلك حتى أصبح من المحال متابعة المقاومة. غير أنه كان من الصعب عليهم التخلي عن مواقعهم وأسلحتهم قبل العمل على تدميرها بأنفسهم) (¬1). وفي معرض الحديث عن المقاومة تضمن تقرير القنصل السويدي (في 10 آب - أغسطس - 1830) (¬2) ما يلي: (قام الماريشال الكونت دوبورمون بجولة وصل بها حتى - بليدا - القرية الصغيرة الواقعة في سفوح جبال الأطلس وعلى بعد مسافة غير بعيدة عن ¬

_ (¬1) LA RESISTANCE ARMEE ALGERIENNE PP. 17 - 19 (¬2) REVUE D'HISTOIRE ET DE CIVILISATION DU MAGHREB. (FACULTE DES LETTRES D'ALGER) JANVIER I968 NO : 4 P.P42. 44.

الجزائر. ولقد أراد بهذه الطريقة، وبما عرف عنه من أساليب رقيقة، اكتساب ثقة المواطنين العرب ومحبتهم، واعتقد أنه يستطيع بذلك إقامة علاقات مع العرب المقيمين في الجبال والسهول المحيطة بالمدينة. وانطلق الماريشال لهذه الزيارة ومعه هيئة أركانه وقوة (1200) جندي من المشاة، ومئات الفرسان (الخيالة) ومدفعي ميدان. وكان سيندم حتما لو لم يصطحب معه هذه القوة لحراسته لمجابهة المبادرة التي استقبله بها سكان (بليدا) وما يجاورها. إذ تظاهر سكان (بليدا) باستقباله استقبالا حسنا، وعامله أهل القرى معاملة حسنة، لكنه ما أن بدأ رحلة العودة إلى الجزائر، حتى انقض عليه آلاف العرب ورجال القبائل، وأرغموه على التوقف وشق طريقه في ست مرات متتالية، والقتال قتالا تراجعيا طوال الرحلة. وفقد أثناء هذه الاشتباكات أحد معاونيه، وعددا من ضباطه والمئات من رجاله في هذه المحاولة العقيمة لكسب ثقة الرجال المعتصمين في صياصي جبالهم وأعاليها. والذين رفضوا عبر التاريخ الخضوع لأية أمة. مما يؤكد أنه من المحال إقامة علاقات بين المسلمين والمسيحيين؟ وقد يكون من الصعب الآن معرفة نوايا الإفرنسيين تجاه الجزائر بحسب ما يقع تحت أبصارنا ففي حين يظهر الإفرنسيون وهم في عجلة من أمرهم عند نقل الغنائم والكنوز والثروات والمدافع إلى فرنسا مما يشير إلى احتمال عودتهم سريعا إلى بلادهم، فإنهم يشقون الطرق العريضة والمستقيمة، وينظمون الساحات العامة والمسارح والملاهي الخ ... مما يحمل على الاعتقاد بأن إقامة الفاتحين ستستمر طويلا في هذه البلاد). لم تكن هذه المقاومة إلا رد فعل أولي تجاه الأعمال الوحشية للغزاة البرابرة والتي وصفها مؤرخ فرنسي بقوله: (لم تعرف مدينة

في العالم ما عرفته الجزائر من الفوضى يوم اجتاحتها القوات الإفرنسية. فقد اختفت الحلق والسلاسل والعقود والصواري والأخشاب والسنانير من الميناء، واقتلعت الأبواب من المحلات العامة. ونهبت الأموال والأثاث والحلي من المنازل. وكثر الاعتداء على الأشخاص والأعراض) (¬1) هذا في حين كانت القوات الإفرنسية تنطلق في الشوارع لتوزيع المنشورات على المحلات العامة، ولتعلق على الجدران تلك الإعلانات: (لتؤكد للسكان احترام السلطات الإفرنسية للدين الإسلامي والنساء والممتلكات، وأن المسلمين هم الذين سيتولون باستمرار إدارة أمورهم) (¬2) غير أنه لم يمض أكثر من شهرين على هذا التعهد، حتى أمر القائد العام بمصادرة ممتلكات الأتراك وأراضي الأوقاف، وأسرع القائد (روفيجو) (¬3) فأمر بتحويل أجمل مسجد في مدينة الجزائر إلى كنيسة، وقام الجنود الإفرنسيين باقتحام المسجد على حين كان في داخله أربعة آلاف مسلم، وأعملوا فيهم القتل بالحراب وهم يؤدون الصلاة داخل المسجد الذي لم يلبث أن تحول إلى (كاتدرائية الجزائر). ولم يكن من الغريب أن يستقبل الجزائريون العزل قوات الغزاة البرابرة - بمزيج من مشاعر الغضب ¬

_ (¬1) - GABRIEL (ESQUER): LA PRISE D'ALGER 1830 - PARIS - 1929 EDITION P: 411. (¬2) - REVUE D'HISTOIRE ET DE CIVILISATION. ALGER. JANVIER 1968 N° 4 OP. 42. (¬3) روفيجو: (RENE SAVARY: DUC DE ROVIGO) جنرال إفرنسي (1774 - 1833) برز اسمه في معركة أوسترالانكا: (OSTROLENKA) وهي المدينة البولونية التي انتصر فيها الإفرنسيون على الروس سنة 1807، وأصبح وزيرا للشرطة في عهد الإمبراطورية الأولى وهو مؤلف كتاب مذكرات (MEMOIRE)

والاحتقار. وهو الأمر الذي وصفه أحد المؤرخين بقوله: (دخلت الجيوش الإفرنسية مدينة الجزائر، فوجدتها صامتة يسودها سكون رهيب، وظهر لها إنها خالية من سكانها. وكانت ذهول الإفرنسيين لهذه المقابلة كبيرا ظهرت آثاره على وجوههم وتحركاتهم. ولم يحاول - الإفرنسيون - إخفاء دهشتهم لما تركته هذه المدينة الخرساء من انطباعات غريبة في نفوسهم، مع أن المدينة لم تكن خالية تماما، فهنا تشهد تاجرا يقع أمام دكانه المغلق، وهناك تلمح أشباح نساء فوق سطوح المنازل، وفي ملتقى الطرق، كانت جماعات قليلة من الجزائريين والأتراك تدخن في صمت ثقيل. ولئن كانت هذه المناظر كلها تمثل للفرنسيين مشاهد (للفرجة) فإن الجزائريين لم يعيروا الإفرنسيين أدنى اهتمام، وكأنهم لم ينتبهوا فعلا لوجودهم - وأن هذا الاحتقار الواضح، الذي قوبل به جنود الاحتلال الإفرنسي هو الذي جعل هؤلاء المنتصرين يستغربون من هذا الوضع ويتعجبون ...) (¬1). هكذا استقبلت الجزائر المجاهدة قوات الغزو البربرية بمزيج من المقاومة السلبية والإيجابية، غير أن هذه المقاومة لم تكن إلا البدايات المبكرة، وكانت هذه البدايات المبكرة هي الأساس الثابت للتطورات المستمرة والمتعاظمة. وفي الواقع، فقد يكون من الصعب فصل المقاومة السلبية عن المقاومة الإيجابية، فهما متداخلتان ومتشابكتان إلى حد كبير لأنهما تعبير عن (الرفض الكامل للإسعمار الإفرنسي) وإذا كان المجاهدون قد استطاعوا التعبير عن غضبهم ورفضهم بالرصاصة، فقد لجأ المجاهدون ممن لم يجدوا الرصاصة، أو لم يتمكنوا ¬

_ (¬1) تاريخ الجزائر - مسعود - ص 130 - 131.

لعوامل كثيرة من استخدامها فقد استخدموا أسلوب (الصمت القاتل) كتعبير ثابت عن الغضب والرفض لهذا الواقع الذي فرضته قوة الاستعمار البربرية (وكلمة البربرية هنا تعبير عن الوحشية ورد على الأسلوب الذي استخدمه غلاة الاستعمار ودهاقنته في وصف المقاومة العربية الإسلامية). وقد أخذت المقاومة منذ البداية، على ما هو واضح، اتجاهان متباينة، واتبعت أساليب مختلفة. فكان منها مقاومة التجار والعلماء وزعماء المدن، وكان منها مقاومة شعبية دينية قادها المرابطون. ورؤساء القبائل تحت راية (الجهاد في سبيل الله) والدفاع (عن الأعراض والمحرمات والأرض والشرف والوطن). وكان منها أيضا مقاومة تندرج تحت (راية الجهاد في سبيل الله) أيضا غير أنها تجد لها حوافزها (الخصوصية) وتمثلها فئة النزوع إلى العهد التركي الإسلامي. وقد حاولت السلطة الاستعمارية إضعاف المقاومة عن طريق مهاجمة (الوحدة الدينية للمسلمين) واتهام المسلمين بالتعصب في إطار دفعهم للاتجاه الذي تريده فرنسا الاستعمارية وترضى عنه على أنه (لا تعصب). وضمن هذا الإطار حاولت تفسير مقاومة معلمي الجزائر أحيانا بأنها نتيجة تعصب المسلمين ضد اليهود (سادة المجتمع الجزائري الجدد تحت حماية الاستعمار) وأحيانا أخرى بأنها (نزوع إلى عودة الحكم الإسلامي) ممثلا (بحكم الأتراك العثمانيين). ويمكن التوقف قليلا عند التفسير الإفرنسي لظاهرة المقاومة. لقد انهارت المقاومة الرسمية في الجزائر خلال عشرين يوما اعتبارا من بداية العدوان، غير أن هذا الانهيار كان هو البداية لشكلين من أشكال المقاومة المسلحة. الشكل الأول هو الذي تولى قيادته الحكام الرسميون (ويمثلهم الحاج أحمد باي قسنطينة الذي

استمر في قيادة جهاد الناحية الشرقية حتى سنة 1837) والشكل الثاني هو المقاومة الشعبية التي برزت بصورة خاصة في الناحيتين الوسطى والغربية من الجزائر. ويدحض ذلك مقولات التفسير الإفرنسية الخاطئة للمقاومة. أن سبب المقاومة الحقيقي هو في (رفض مبدأ الاستعمار ذاته) والذي جاءت الممارسات الاستعمارية ذاتها لتدعم فكرة الرفض والمقاومة للاستعمار. لقد كان الحكم الإسلامي، عبر تاريخه الطويل، مناقضا للتعصب، ولم يثر التعصب الإسلامي إلا نتيجة (التعصب الصليبي) وكان المسلمون هم حماة اليهود منذ فتح الشام وحتى خروجهم من الأندلس، وخلال هذه المرحلة التاريخية المتطاولة شارك اليهود المسلمين انتصاراتهم بقدر ما استثمروا قدراتهم، وتعرضوا أيضا لما يتعرض له المسلمون عند مجابهة (مأساة انهيار الأندلس الإسلامية). غير أن اصطناع الإفرنسيين لليهود في الجزائر، واندفاع اليهود لدعم الصليبية المسيحية ضد المسلمين هي التي شملت (اليهودية والاستعمار الإفرنسي الصليبي) بشعور واحد مبعثه الغضب ضد هذا الواقع المفروض بقوة السلاح. لقد أظهرت الطائفة اليهودية في الجزائر ميلا واضحا إلى الإفرنسيين، كما أظهر هؤلاء لليهود عطفا أوضح، واعتمدوا عليهم في إدارة العهد الجديد نظرا لمعرفته بالبلاد. وقد مارس اليهودي (ديني) وكيل التموين دورا بارزا في حمل القائد العام الإفرنسي على حماية اليهود ودعمهم واستخدامهم. فعينت الإدارة الإفرنسية منذ اليوم التالي للاحتلال اليهودي (سرور) رئيسا للمترجمين غير الإفرنسيين. وقد أصبح (بكري) صاحب نفوذ كبير حتى أن الجيش

كان لا يفعل شيئا إلا باستشارته. وبذلك حصل على امتيازات كبيرة له ولطائفته. وهكذا أبرز الإفرنسيون الجالية اليهودية ودعموها على حساب العرب المسلمين، على الرغم من إقرار الإدارة الإفرنسية بغدر هذه الطائفة وتنكرها للجميل. إذ أكدوا في مرات كثيرة استعدادهم لبيع الجيش الإفرنسي في سبيل مصالحهم، وأصبحوا مرابين ومورطين غير أوفياء بالعهود - كعادتهم -. ويذكر أن اليهود اتهموا امرأة أحد الأتراك بإخفاء السلاح في بيتها، حتى إذا ما تبين للإفرنسيين كذب هذا الاتهام، عاد اليهود إليها وطلبوا منها دفع (600) قطعة ذهبية حتى لا تتعرض للمعاملة السيئة، فأعطتهم ما يريدون وشكت أمرها إلى الإفرنسيين فتم اعتقال اليهود وسجنوا. وفي اليوم الأول من الاحتلال اتصل (بكري) بالأتراك، وحذرهم من الخطر الذي يتهددهم، ووعدهم بالحماية مقابل أن يدفعوا له مبالغ حددها لهم. كما اتصل بقومه ووعدهم أن الإفرنسيين لن يفعلوا شيئا بدون موافقته. وكان يطمح إلى أن يكون رئيس الطائفة اليهودية - كما كان زمن الإدارة العثمانية -. واتصل أيضا بمحافظي الشرطة وطلب منهم تسليم كل القضايا الخاصة باليهود إليه، وقد فعل ذلك بدون علم الهيئة المركزية (المجلس البلدي) ورئيس الشرطة. وقد أفاد اليهود من دعم الإفرنسيين لهم، فعملوا على تهجير كثير من أغنياء العرب من المدينة، وقد تدخل أعضاء الهيئة المركزية لدى رئيس الشرطة لمنع هجرة العائلات الغنية من المدينة. وهناك من يذهب إلى أن ثورة العرب ضد الإفرنسيين - حتى في الأرياف - كانت تعود إلى النفوذ الذي أصبح عليه اليهود في الإدارة الجديدة. غير أن الأمثولات السابقة ذاتها، ومسيرة الأحداث التالية، تؤكدان أن الغضب على اليهود، وتسلطهم، إنما يعود لمبدأ

الاحتلال ذاته والذي أخل بتكوين المجتمع العربي الإسلامي وذلك باعتماده على أقلية عميلة (أوليغاركية) اسهمت بتنفيذ المخطط الاستعماري الذي كان من أعماله، انتزاع التجارة من قبضة أبناء البلاد واحتلال المنازل والمساجد والأملاك الخاصة والاعتداء على الأعراض وغير ذلك من انتهاك للمحرمات التي دفعت حتى تلك الفئة من (المعتدلين) والتي اعتقدت في البداية أنه بالمستطاع التعايش مع المستعمرين في بعض الحدود، دفعت تلك الفئة للتنكر للاستعمار والانضمام إلى صفوف المقاومة ومنظماتها. أما بالنسبة لعلاقة الجزائر بالأتراك العثمانيين (من حيث مزاعم الإفرنسيين بعمل الجزائر لإعادة الحكم الإسلامي) فما هي إلا محاولة عرفها الجزائريون قبل سواهم من كل شعوب العالم العربي - الإسلامي. وهدفها دفع الجزائر للتهرب من (الحكم الإسلامي) على اعتبار أن كل ما ينزل بالجزائر هو بسبب تمسكها بالحكم الإسلامي، ولم تكن عملية الهجوم الشامل على الدين الإسلامي فكرا، وعبادة، ومقدسات أكثر من أداة لتحطيم مواقع الصمود الجزائرية. فكان رد الفعل الطبيعي هو المزيد من الإصرار العنيد على التمسك بالإسلام والالتزام بشريعته. أما بالنسبة لطبيعة العلاقة مع الإمبراطورية التركية - العثمانية، فلا مجال للحديث عنها هنا، غير أنه بالمستطاع القول أن هذه العلاقة ما كانت في يوم من الأيام أكثر من (تحالف مقدس) ضد (تحالف صليبي) حيث جمع الجهاد بين مسلمي الجزائر ومسلمي الأتراك. وقد كان في الجزائر، يوم وقع العدوان وفقا لما سبق ذكره، ستة آلاف تركي، قتل منهم ألف وخمسمائة وبقي (3500) من العزاب وألف من المتزوجين (آباء الكراغلة). وهذا العدد لا يشكل في كل الأحوال قوة احتلال

للجزائر إذا ما ذكر أن عدد المقاتلين الذين حشدوا في الجزائر هو (بين 50 و70) ألفا. من أبناء الجزائر، وعلاوة على ذلك، فقد كان حكام الجزائر يلتمسون تجنيد المقاتلين من الأناصول لدعم قدراتهم القتالية في حروبهم التي لم تكن تتوقف، وعلاوة على ذلك كله، فكثيرا ما كان أهل الجزائر يثورون على حاكمهم التركي عندما كان هذا الحاكم يجأر بالظلم، أو يسلك سلوكا يتنافى مع قواعد الشرع. ويظهر من خلال ذلك، أو من خلال الشواهد الكثيرة أنه لا مجال للمقارنة أبدا بين الحكم التركي العثماني في الجزائر والذي كان يعمل لمصلحة العرب المسلمين، وبين هذا الحكم الأجنبي (الصليبي) الذي جعل من أهدافه محاربة المسلمين. ويكون من الطبيعي أن يشعر الإفرنسيون بوضععهم الغريب عند مقارنة حكمهم بحكم الأتراك المسلمين فيوجهون الاتهام إلى الإسلام كعامل أساسي في التحريض ضد الاستعمار الإفرنسي الصليبي. ومن الطبيعي بعد ذلك كله، أن تكون العلاقات بين الأتراك المسلمين والجزائر الإسلامية علاقة وطيدة صهرتها في سداها ولحمتها دماء الشهداء من الطرفين وهم يسقطون معا تحت راية (الجهاد في سبيل الله) على امتداد أكثر من ثلاثة قرون .. على كل حال، لم تكن (طائفة اليهود) سوى فئة مستخدمة لتنفيذ المخطط الاستعماري، ولم تكن (فئة الأتراك - الكراغلة) أكثر من فئة أيضا حاول المخطط الاستعماري الإفادة منها واستثمارها 0 وكذلك الأمر بالنسبة (لما أطلق عليه اسم حضر الجزائر، وهم الفئة المنحدرة من العرب الأندلسيين) حيث حاولت السلطات الاستعمارية استخدامهم مرحليا لتمزيق الجزائر إلى (ملوك الطوائف) يضرب

أ - فئات من المجاهدين

بعضهم بعضا. غير أن سياسة (فرق تسد) كانت تصطدم في كل مرة (بوحدة المسلمين تحت راية الجهاد في سبيل الله). ولم يتمكن (الخوارج) أبدا من كل الفئات الإسلامية، ومن كافة طبقات المجتمع الجزائري الإسلامي، البقاء في صف أعداء قومهم. وكان للسياسة الاستعمارية فضل لا ينكر في ذلك، إذ أن العدالة في توزيع الظلم قد مارس دوره الأساسي باستمرار في توحيد الجهد (تحت راية الجهاد). أ - فئات من المجاهدين كان (حضر الجزائر) أحفاد العرب الأندلسيين يشكلون فئة تمتلك بعض الثراء، وكانوا في العهد التركي يحتلون سياسيا المرتبة الثالثة بعد الأتراك والكراغلة (من أب تركي وأم جزائرية) وكانوا يملكون الأراضي في سهل متوجه (متيجة) وبعض الممتلكات في مدينة الجزائر ذاتها حيث يمارسون أعمال التجارة، وكانوا غالبا راضين بوضعهم ولا يطمحون للمناصب السياسية، ولو أن بعضهم تقلد مناصب القضاء والإفتاء والكتابة ونحوها من الأعمال التي تتطلب ثقافة عالية. وعندما بدأ الإفرنسيون في (فرز) عناصر المجتمع الجزائري تمهيدا لتمزيقه، صنفوا طبقة (حضر الجزائر) على أنها منافسة وساخطة على الأتراك. وهكذا وجهوا أنظارهم إلى هذه الطبقة التي لم تعارض مبدأ التعاون المشروط مع الإفرنسيين الذين عملوا بمجرد الاستيلاء على مدينة الجزائر، على تنحية الأتراك وإسناد بعض مناصبهم لهؤلاء الحضر، فتولى بعضهم مركز (آغا العرب) مثل حمدان بن أمين السكة، وأصبح بعضهم بايا على التيطري (مصطفى بن عمر) وتم تعيين (أحمد بوضربة) رئيسا لأول مجلس بلدي لمدينة الجزائر. ولكن فئة (حضر الجزائر.) اكتشفت

بسرعة أنها كانت مخطئة في اعتقادها بأن فرنسا ستعوض حكم الأتراك بحكم محلي تكون طبقة الحضر في موقع قيادته. وعرف أفراد هذه الفئة أن فرنسا قد جاءت لتبقى، وأن أموالهم وأراضيهم قد صودرت لمصلحة الإدارة الإفرنسية، وأن مساجدهم وزواياهم ومساكنهم قد احتلت من الجيش الإفرنسي، أو دمرت من أجل إقامة الساحات العامة والمسارح والمستشفيات العسكرية أو تحولت إلى كنائس. حتى أن أملاك (مكة والمدينة) التي كانت مؤسسات خيرية للفقراء وطلبة العلم قد استولى عليها الإفرنسيون، وأصبح ريعها يذهب مباشرة إلى خزينة الإدارة الإفرنسية. وأثناء ذلك كان أعيان هؤلاء (الحضر) يعملون لصالح فكرة (الحكم الإسلامي) سواء لدى السلطات الإفرنسية، أو في اتصالاتهم مع الباشا حسين (داي الجزائر السابق) أو مع باي قسنطينة (الحاج أحمد). وعند ذلك كشفت السلطات الإفرنسية عن أهدافها، فعملت على عزل أو طرد أو نفي أولئك الذين قبلوا التعاون معها بحجة (عدم قيامهم بواجبهم تجاه الدولة) أو (التآمر لاستعادة الحكم الإسلامي) أو (الانضمام إلى فئة الثوار). وزاد نفور (حضر الجزائر) بما أقدمت عليه السلطات الإفرنسية من (غدر بعهود الأمان) ومن (ذبح للقبائل المسلمة والمسالمة بكاملها، مثل قبيلة العوفية) ومن (أسر للمرابطين كرهائن - على نحو ما فعلته مع مرابطي القليعة) ومن (مطالبة بخمسين شابا من كبار العائلات في المدينة لحملهم كرهائن إلى باريس). وأمام هذه الوقاقع، التجأ (حضر الجزائر) إلى طرائق متنوعة للتعبير عن غضبهم، وكان أبرز دور لهم هو إثارة ضجيج عالمي لفضح أساليب الاستعمار الإفرنسي في الخارج، والتحريض على الجهاد وإثارة النقمة في الداخل - وكانت حياة (حمدان خوجة)

هي النموذج الأمثل لهذا الجهاد، إذ أخذ على عاتقه الدفاع عن قضية (الجزائر) وقضية (الإسلام) خلال تلك الفترة من (بدايات المقاومة). ولكن إذا لم يكن باستطاعة (حضر الجزائر) تجاوز هذه الحدود في المقاومة، وهي حدود مثمرة ومفيدة على كل حال إذ أنها أسهمت بوضع حجر الأساس للصراع السياسي اللاحق، فقد كان هناك فوق الثرى الجزائري من لا يزال يمتلك القدرة لحمل السلاح. وكان (المرابطون) هم الطليعة الأولى، حيث كانوا يجمعون بين مضمون (الجهاد) وبين الهدف (السياسي). وكان هؤلاء المرابطون يضمون أصالة الجزائر الإسلامية ويمثلونها أصدق تمثيل. فكان فيهم عرب الصحراء - البادية - والفلاحين وشيوخ القبائل ورجال الدين، وكلهم متفقون على الاستمرار في المقاومة وحصار الجيش الإفرنسي في حدود (مدينة الجزائر، وعدم السماح له بتجاوز حدودها. فكان من الطبيعي أن يكون سكان سهل المتوجة - (متيجة) (¬1) هم أول من يصطدم بقوات الإفرنسيين. ¬

_ (¬1) سهل متيجة: (كلمة متيجة هي تحريف للكلمة العربية - متوجة - بضم الميم وفتح التاء والراء والجيم) وقد أطلق اسم (سهل متيجة) على السهل الذي تحيط به الجبال وتتوجه من أغلب جهاته. وهو عبارة عن سطح مستو ومنبسط حوضي ومنخفض طولي في كل جهاته الغربية، ومفتوح نحو البحر في جهاته الشرقيه، تقرب مساحته من (130) ألف هكتار. يبلغ طوله من وادي الناطور في الغرب إلى وادي بودواو في الشرق نحو المائة كيلومتر, ويختلف عرضه في الأطراف الغربية والشرقية عنه في الوسط، إذ هو عريض في الوسط حيث يبلغ 18 كيلومتر، وهي المسافة الفاصلة بين قرية الأربعاء الواقعة عند أقدام جبل الأطلس وبين مدينة الحراش الواقعة عند أقدام تلال الساحل أو في الأطراف الشمالية لسهل متيجة. ويقل هذا العرض إلى (10) كيلومترات في الأطراف الشرقية والغربية ويضم السهل مجموعة كبيرة من المدن والقرى، أشهرها البليدة والقليعة =

ب - ثورة ابن زعمون

وكانت هناك حوالي اثنتي عشرة قبيلة منتشرة في سهل متيجة، لكل قبيلة منها مشيختها أو زعامتها، ولكل قبيلة منطقتها - أو وطنها - وعلى كل وطن قائد، فكان هناك على سبيل المثال وطن (بني خليل) وعلى رأسه الشرقي، وكان هناك وطن (بني موسى) وعلى رأسه (أوشفون) وكان هناك وطن (الخشنة) وعلى رأسه (العمري)، وكذلك وطن (الست) وعلى رأسه (عبد الوادي) وكذلك أيضا (شرشال) التي اعترفت بالبركاني شيخ بني مناصر زعيما لها. وكذلك (القليعة) التي كانت تخضع لعائلة (ابن المبارك) وهو مرابط له سمعة واسعة. وكانت مدينة (البليدة) هي عاصمة (سهل المتوجة) أو (المتيجة). وعندما شعرت هذه القبائل، والمدن المجاورة بالخطر، تحالفت، وقررت المقاومة، ومن ثم ابتدأت سلسلة من الاصطدامات مع العدو، وتحولت شيئا فشيئا إلى ثورة عامة. وظهر خلال هذه الثورات زعماء مارسوا دورا أساسيا وبارزا خلال السنوات الأولى (من ليل الاستعمار الطويل). وقد يكون من الصعب الإحاطة بكافة الظواهر الثوروية خلال تلك الحقبة الحافلة بكل ظواهر الاضطراب، غير أنه ليس من العسير استقراء بعض تلك الظواهر. ب - ثورة ابن زعمون: كان (ابن زعمون) من قبيلة فليسة، وقد تولى قيادة قبيلته عندما احتل الإفرنسيون الجزائر، وأظهر تصميمه على منع تقدم الجيش الإفرنسي نحو (البليدة) فانضمت إليه قوات العرب في المنطقة، وعرض عليهم القضية بما في ذلك

_ = وشرشال وبوفريك (المرجع - مدينة الجزائر نشأتها وتطورها - علي عبد القادر حليمي - الجزائر 1972 ص 15).

مشروع الدفاع عن حريتهم ووجودهم ودينهم مع الاعتراف بالسلطة الإفرنسية في الجزائر، وكان ذلك في الشهر الأول من الاحتلال حين علم أن قائد الحملة (دوبورمون) يريد الزحف على (البليدة). ولذلك كتب إلى (دوبرمون) يطلب منه عدم التقدم إلا بعد توقيع معاهدة مع العرب تنظم العلاقة مع الإفرنسيين. ولكن (دوبورمون) قرر الذهاب إلى البليدة في يوم 25 تموز (يوليو) عام 1830 على رأس جيش من ألفي جندي مشاة وبعض مئات من الخيالة - الفرسان - ومدفعين (وقد سبقت الإشارة إلى ما نزل بهذه الحملة من الدمار). وعلى أثر ذلك أصبح (ابن زعمون) صاحب نفوذ كبير في إقليم الجزائر. بسبب كفاءته القيادية العالية التي أظهرها في قيادة قواته ضد الإفرنسيين، وبسبب ما أظهره من البطولة لإيقاف تقدم العدو، وأخذت قوته في التعاظم يوما بعد يوم. حتى إذا ما أقبل يوم 26 تشرين الثاني - نوفمبر - 1830 م، هاجم ابن زعمون مدينة البليدة بقوات ضخمة، واقتحم المدينة، ودارت معركة قاسية انتقل فيها الصراع من شارع إلى شارع ومن منزل إلى منزل، وأبيد خلالها عدد كبير من الحامية الإفرنسية (التي كانت تعمل تحت قيادة العقيد رولير) وسقط عدد من سكان المدينة (أهاليها). وعندما وصل (كلوزول) في اليوم التالي قادما من حملته الفاشلة على مدينة المدية (عاصمة إقليم تيطري) وجد المدينة (بليدة) وقد غطتها الجثث التي كان من بينها (50) جنديا إفرنسيا من جنود المدفعية، ممن قتلتهم قوات (ابن زعمون). وأصيب (كلوزول) بصدمة قاسية قرر على أثرها سحب القوات الإفرنسية الباقية من (البليدة). وعاد بفلول جيشه إلى مدينة (الجزائر). دعمت انتصارات المجاهدين في (البليدة والمدية) من ثقة

المقاتلين بأنفسهم، وعززت إيمانهم بالنصر على قوات الغزو. وزادت قوة (ابن زعمون) بانضمام (الحاج سيدي السعدي) إليه، واضطلاعه بأعباء حشد المجاهدين ودعوته الناس لحمل السلاح والجهاد فى سبيل الله، وفي هذا الوقت ذاته، كان مصطفى بومرزاق ينظم المقاومة ويقودها للقتال في منطقة بوفريك، تاركا لابن زعمون وسيدي السعدي منطقة (الجانب الأيمن لوادي الحراش) حتى تنشر قواتها عن هذه المنطقة وتدافع عنها. وبذلك كانت القوتان تضمنان حماية (سهل المتوجة - متيجة). قام (ابن زعمون) بقيادة قوات المجاهدين في صيف سنة (1831 م) فهاجم بها المراكز الإفرنسية الأمامية، وأشعل النيران بالمزرعة النموذجية التي أقامها الإفرنسيون قرب (وادي الحراش) وهي المعروفة باسم (حوش حسن باشا) والتي كان الإفرنسيون يعدون العدة للاحتفال بأول حصاد لها. وتطورت الأعمال القتالية التي استمرت طوال أيام عديدة حتى باتت تهدد العاصمة (الجزائر) ذاتها. وعندئذ قرر الجنرال الإفرنسي (برتزين) مجابهة الموقف، فزح ست فرق عسكرية. بالإضافة إلى قوة الفرسان - الخيالة - بكاملها، وبعض المدفعية. وهاجم قوات (ابن زعمون) و (سيدي السعدي) عند مكان يسمى باسم (المرابط سيدي ارزين). غير أن قوات المجاهدين تجنبت الاصطدام بهذه القوة المتفوقة وانسحبت إلى الجبال المجاورة، تاركة لقوات الإفرنسيين حرية العمل في منطقة (الفراغ العسكري) ولم يجد (برتزين) أمامه إلا أن ينسحب بقواته إلى الجزائر معتقدا أنه قد نجح في وضع حد للثورة. غير أنه ما كاد يرجع حتى عادت قوات المجاهدين إلى مسرح عملياتها تحت قيادة قادتها (ابن زعمون وسيدي السعدي). قاد (ابن زعمون) بعد ذلك قواته في خريف 1831 م وخاض

ج - سيدي السعدي والجهاد

معها معركة (بوفريك - أو بوفاريك) وأفادت القوات الإفرنسية من تفوقها بقدر ما استثمرت سوء تنظيم القوات المهاجمة فتمزقت قوات (ابن زعمون) تمزقا لم يتمكن معه قائدها من إعادة تنظيمها، مما أغضبه، فقرر الانسحاب والاعتزال في منزله (في فليسة) وامتنع بعد ذلك عن المشاركة بأي عمل. أما رفيق جهاده (سيدي السعدي) فقد انضم بعد ذلك إلى الأمير (عبد القادر). ج - سيدي السعدي والجهاد كان (سيدي السعدي) من أسرة كبيرة من المرابطين المقيمين في الجزائر. اشتهر بين قومه بالتقى والشجاعة، وأسهم بقدر غير قليل في إثارة القبائل ضد أعداء الدين، وفي التحريض على الجهاد وطلب الشهادة في سبيل الله، وأمكن له تحقيق نجاح في مسعاه بفضل ما عرف عنه من الصدق والإخلاص. وقد خرج من الجزائر بمجرد دخول القوات الإفرنسية إليها، وأقام بين قومه المرابطين في (سهل المتوجه - المتيجة) داعيا للثورة. ووجد في (ابن زعمون) كفاءة قيادية جيدة، وإخلاصا في القتال. فمضى لدعمه وتأييده. وبفضل دعوته وتأثيره، هاجم (عرب متيجة) المنتشرين في الفحص (الضواحي) المزارعين الأوروبيين الذين أخذوا في احتلال السهل والاستقرار فيه. وقد قتلوا أعدادا كبيرة منهم، واضطروهم إلى الفرار واللجوء إلى العاصمة. وكان لهذه الأحداث أثر على الأوروبيين الذين تزايد خوفهم وقلقهم فغادروا مزارعهم. وانتقل الخوف إلى (مدينة الجزائر) فأغلق الأوربيون متاجرهم ومؤسساتهم، وأخذوا في التفكير بالعودة إلى أوروبا، حاملين معهم ما أمكن لهم الحصول عليه من الغنائم والثروات. وساد الاعتقاد بأنه من الصعب مقاومة

هذه الثورة الشاملة، وظهر لفترة بأن المستعمرة الوليدة - الجزائر - قد ولدت وهي ميتة. واستمر (الحاج سعدي) في تجواله بين القبائل داعيا إلى الثورة العامة وعلم القائد الإفرنسي بتحركات (السعدي) بين القبائل، وانضمام كل شيوخ القبال إلى الثورة بفضل تأثيره من جهة، وبفضل جرائم الاستعمار من جهة أخرى، إذ اتهم الإفرنسيون (قبيلة العوفية) بالاعتداء على وفد فرحات بن سعيد (الذي جاء يطلب التعاون مع الإفرنسيين) وقاموا بالهجوم على هذه القبيلة ليلا، في 7 نيسان - أبريل - 1832م وأبادوها عن آخرها. وحاكموا شيخها (الربيعة) وأعدموه، رغم براءة القبيلة من هذه الحادثة، وبالرغم من سلوك شيخ قبيلة العوفيه سلوكا سالما، وحمله هدية إلى القائد الإفرنسي (دورو فيغو) وزاد هذا الحادث من سخط القبال على الإفرنسيين، حتى أن (آغا العرب الحاج محيي الدين) (¬1) الذي عينه الإفرنسيون، لم يلبث أن انضم إلى الثوار، وترك لهم حرية الدعوة للجهاد في (القليعة) مقر أسرته. وقرر القائد العام الإفرنسي القضاء ¬

_ (¬1) كان الجنرال (برتزين) في سنة 1831 يحاول مهادنة العرب، فاستنصح حضر مدينة الجزائر، فنصحوه بتعيين الحاج (محيي الدين بن الصغير بن سيدي علي مبارك - في منصب - آغا العرب في سهل متيجة. وكان قائد الحملة الأول (دوبورمون) قد عين (الحاج ابن عمر) في منصب الباي، وعين ابنه (حمدان بن أمين السكة - منصب آغا العرب - وأثناء حملة الإفرنسين على المدية (تشرين الثاني - نوفمبر - 1830) كلف الإفرنسيون (آغا العرب حمدان) بمراقبة العرب في سهل متيجه. غير أن هذا ترك العمل والتزم في منزله معتكفا، وعندما أراد الإفرنسيون صب نقمتهم عليه حاول خداعهم، فعزله كلوزول في 7 كانون الثاني - يناير - 1831، وألغى منصب (الآغا) وأرسل حمدان منفيا إلى فرنسا. ثم عينت فرنسا ضابطا في منصب آغا العرب (العقيد ماندري). وبعد ذلك تم تعيين (محيي الدين بن الصغير) في هذا المنصب في محاولة لتهدئة (الثورة في سهل متيجة).

د - ثورة الآغا محيي الدين بن المبارك

على الثورة، فاتهم (آغا العرب) بالخيانة، وطلبه للمحاكمة، وخرج هو بالجيش الإفرنسي إلى (بئر خادم) ومن هناك وجه جزءا من الجيش إلى (القليعة) وإلى (سوق علي) قرب (بوفريك) التي كانت قاعدة الثوار. وقد اشترك في القتال الذي دار في بداية شهر تشرين الأول - أكتوبر - 1832 م، كل من الجيش الإفرنسي، وفرقة (صيادي إفريقية) وفرقة (الزواف) الخاصة، وانتهت المعركة بهزيمة المجاهدين الثوار وانسحابهم إلى الجبال والمدن المجاوره. (وفر الآغا محيي الدين مع الحاج سيدي السعدي والتحقا بالأمير عبد القادر، حيث أصبح الآغا محيي الدين خليفة للأمير عبد القادر على مدينة مليانة). د - ثورة الآغا محيي الدين بن المبارك لم يكن الآغا (محيي الدين بن المبارك) مغمورا في قومه، فقد كان قائدا مرابطا في (مدينة القليعة) عندما اقتحمت القوات الإفرنسية الجزائر. وقد حاول القائد الإفرنسي (برتزين) إخماد الثورة اللاهبة في سهل متيجة عن طريق تعيين (محيي الدين بن الصغير بن سيدي مبارك) في منصب (آغا العرب). غير أن محيي الدين لم يقبل المنصب إلا بعد أن تعهدت له فرنسا بدفع مبلغ (70) ألف فرنك سنويا. وتعهد لها هو ببقاء العرب جيث هم، بشرط أن يبقى الإفرنسيون حيث هم أيضا. وبعبارة أخرى، كان هذا الشرط تجميدا للأوضاع، وأصبح الإفرنسيون محاصرين في مدينة الجزائر. والتزم الطرفان بتنفيذ هذه الشروط في سنة 1831م. وكان (الآغا) يوصي في جميع رسائله إلى القائد العام الإفرنسي، بعدم السماح لأي إفرنسي أن يتصل بالأهالي أو يذهب إليهم، وكان يصر

على أن يكون هو الصلة الوحيدة بين العرب والإفرنسيين. ويذكر بعض المؤرخين أن مراسلاته القليلة قد أصبحت هي وسيلة الإفرنسيين الوحيدة للتعرف على أحوال العرب. وقد مارس (الآغا محيي الدين) قيادته لقومه بحكمة وكفاءة، فأمكن له بذلك، وبفضل ما عرف عنه من التقى والورع، فرض سلطته ونظامه على العرب في المنطقة ووضع حدا لأعمال الفوضى. وقام بعزل بعض شيوخ القبائل وتعيين غيرهم، فعين الحاج (محمد المخفي) شيخا على قبائل الخشنة، خلفا لابن العمري الذي قتل أثناء الثورة. وأبقى (أحمد بن أورشيف) على قبائل (بني موسى)، و (مسعود بن عبد الواد) على قبيلة (السبت) وكان الرجلان قد شاركا في الثورة ضد فرنسا. وعين أيضا (العربي بن موسى) على قبائل (بني خليل) خلفا (لمحمد بن الشرقي). وقد جاءت هذه التعيينات فدعمت من قوة قادة الثورة، الأمر الذي أغضب الإفرنسيين إذ أنه عزلهم وجردهم من كل اتصال مع الأهالي. فعملت الإدارة الإفرنسية على اتهام الآغا بأنه يعمل لحسابه الخاص، وأنه كان يتصل بالقبائل لتشجيعها على الثورة ضد فرنسا، وأنه عندما قامت هذه الثورة العامة قد انضم إليها سرا. وأن تظاهره بالعجز هو من أجل دعم الثورة. وزاد موقفه حرجا بعدوان الإفرنسيين على (قبيلة العوفية) في (7 نيسان - أبرل - 1832 م). حيث لم يكن باستطاعة القبائل العربية إلا الانتصار بعضها لبعض، وكان لا بد (للآغا محيي الدين) من أن يتخذ موقفا واضحا ضد الإفرنسيين وممارساتهم، مما أغضب القائد العام الإفرنسي الذي - عزل الآغا - عن منصبه. وعين (حمدان بن عثمان خوجة) ليكون الواسطة بينه وبين الآغا. وخصص شرطة خاصة لمضايقة الآغا ومطاردته وتتبع أخباره ومراقبة تحركاته. كما أخذ في انتهاك الاتفاق

بين الآغا وبينه (على البقاء كل من العرب والإفرنسين في مواقعهم، وامتناع الإفرنسيين عن الاتصال بالأهالي إلا عن طريقه). وأخذ في الاتصال بالعرب مباشرة، متجاوزا الآغا ومتجاهلا له. وتطور الصراع بين الرجلين، فأرسل القائد العام (دورو فيغو) حملة قوية (بقيادة الجنرال بروسارد) بمهمة مهاجمة القليعة، وتدمير قوى الثورة، وإلقاء القبض على (الآغا محيي الدين) وحمله إلى مدينة الجزائر تمهيدا لمحاكمته. غير أن (الآغا) عرف نوايا خصمه، فلجأ إلى قبيلة (بني مناد). وعندما لم يجد (بروسارد) الآغا، ذهب إلى أسرته واعتقل اثنين منها (وهما سيدي علال وسيدي محمد) ابنا عم الآغا، وكلاهما من المرابطين، وحملهما إلى الجزائر، وألقى بهما في السجن، لمدة زادت على السبعة أشهر. وعندما أرسل الآغا مساعده (حميدو) بمهمة نقل رسالة من قبله إلى القائد (الجنرال فوارول) قام هذا بتحويل الأمر إلى (الجنرال دورو فيغو) الذي كان يحقد على الآغا، فقام باعتقال (حميدو) وقرر محاكمته، ولم يحتمل (حميدو) الصدمة فمات في سجنه. وعلى الرغم من هذا الحادث، فقد استمر (الآغا) في محاولاته، فكرر الكتابة إلى القائد العام الإفرنسي للتأكيد على براءته مما هو منسوب إليه من اتهامات. وعندما يئس (الآغا محيي الدين) من الوصول إلى نتيجة إيجابية، كتب مباشرة إلى ملك فرنسا - لويس فيليب - وإلى وزير حربيته، موكدأ إخلاصه. ومنها الرسالة التي وجهها يوم 24 حزيران - يونيو - 1832 إلى الملك الإفرنسي يخاطبه فيها باسم العرب الذين تجمعوا حوله (بني مناد) ويطالبه بوضع حد لحكم (دوروفيغو) المتعسف، وإحلال العدل الذي وعدت به فرنسا الجزائريين. وكذلك رسالته إلى وزير الحربية بتاريخ 21 تشرين الأول - أكتوبر - 1832م - والتي

اشتكى فيها من القائد العام واتهمه بارتكاب الأخطاء، والإصغاء إلى أنصار عودة الحكم التركي إلى الجزائر، والعمل ضد كل ما يكتبه إليه من نصائح وآراء تخص العلاقات مع العرب. وأدى ذلك إلى زيادة تطرف القائد العام (دورو فيغو) وإمعانه في اسخدام أساليب القهر ضد عرب الجزائر، فحاول القضاء على الآغا محيي الدين بالاغتيال السياسي، وكلف أحد المترجمين بالبحث عن قاتل لاغتيال الآغا غير أن هذه الوسيلة فشلت. فقرر معاقبة مدينتي (البليدة والقليعة) على دعمهما للثوره وفرض عليهما غرامة قدرها (مليون ومائة ألف فرنك). وكان عدد سكان القليعة لا يتجاوز (1500) نسمة وهم في حالة من الفقر لا تسمح لهم بدفع الغرامة المفروضة عليهم، فقامت أسرة (المبارك) الذي كان زعيمها في سجن الإفرنسين بالجزائر، بدفع مبلغ عشرة آلاف فرنك. في حين قام (حاكم القليعة) بدفع مبلغ (1400 فرنك) فقط بالنيابة عن سكان القليعة. وأخذ القائد العام (الدوق دوروفيغو) بعد ذلك في ممارسة سلطاته للاتصال مباشرة بشيوخ القبائل وفرض الهيمنة الإفرنسية عليهم. فحاول في بداية الأمر تعيين (أحمد بن شنعان) من قبيلة (بني جاد) والذي ذكر الإفرنسيون أنه اتصل بهم عشية معركة (اسطاوالي) في 19 حزيران - يونيو - 1830 ليحل محل (الآغا محيي الدين). ولكن أهل المنطقة رفضوه وقاوموه. وعندما حاول القائد العام فرضه على (أهل البليدة) بالقوة، رفض هؤلاء بدورهم قبول هذا التعيين ووجهوا تهديدهم إلى (أحمد بن شنعان) بالقتل. فلجأ إلى العاصمة بعد أن أقام فترة قصيرة في البليدة. وعدل الدوق عن تعيينه، غير أنه قرر القيام بحملة ضد (البليدة) فهرب أهلها منها والتجؤوا إلى الجبال المجاورة. ودخلها الجيش الإفرنسي، فعاث

فيها فسادا ثم رجع إلى العاصمة (مكللا بالعار لا بالغار - كما يقول الإفرفسيون ذاتهم). كما قرر الدوق تعيين رؤساء جدد (شيوخ) على القبائل غير موالين للآغا (محيي الدين). فعين (ابن رباح) على قبائل بني موسى. وعين (سي حمود) على قبائل (بني خليل) وأبقى (الحاج المخفي) على قبائل الخشنة. وتجاوز (الدوق دورو فيغو) بعد ذلك هذه المرحلة فأخذ في الإعداد لتصفية قادة المقاومة، وأولهم (العربي بن موسى) قائد (بني خليل، و (مسعود بن عبد الواد) قائد (السبت). و (الآغا محيي الدين) على اعتبار أن هؤلاء القاده أظهروا باستمرار استعدادهم لتحريض العرب ضد فرنسا. وأراد استدراجهم إلى الجزائر، فكتب بتاريخ 6 تشرين الأول - أكتوبر - 1832 إلى أهل البليدة، طالبا منهم إرسال وفد إلى الجزائر يضم هؤلاء القادة. فشعر الآغا (محيي الدين) بالخطر، وامتنع عن الذهاب وانضم إلى (الأمير عبد القادر الجزائري) على نحو ما سبقت الإشارة إليه. أما القائدان الآخران فقد راودتهما الشكوك، وشعرا بالمكيدة، فترددا بالذهاب واشترطا الأمان. وأرسل إليهما الدوق الأمان عن طريق صديقهما (الحاج المخفي) الذي لا يشكان في نيته. وجاء معهما المخفي إلى الجزائر. فتم اعتقالهما بمجرد وصولهما الجزائر، وألقي بهما في السجن. واحتج صديقهما (الحاج المخفي) كما أرسلت عرائض الاحتجاج من القبائل، غير أن الدوق جاء بقضاة حاكموهما ونفذ الإفرنسيون حكم الإعدام فيهما. وكان لاستشهاد (العربي بن موسى ومسعود بن عبد الواد) على هذه الصورة الغادرة دوره في زيادة غضب القبائل العربية. ونفذ حكم الإعدام في شباط (فبراير) عام 1833 م - قبل شهرين من عودة (دوروفيغو) إلى باريس ثم موته في حزيران - يونيو - من السنة ذاتها.

هـ - بومزراق - باي تيطري

هـ - بومزراق - باي تيطري: ما ان استقرت السلطة الإفرنسية في الجزائر العاصمة، حتى أخذت في البحث عن الوسائل والطرائق التي يمكن لها استخدامها للسيطرة على البلاد، وحاولت في البداية أن تعتمد على الأقليات، اليهود بصورة خاصة، وكذلك الفئات غير التركية (حضر الجزائر). ويذكر أن (كلوزول) قائد الجيش الإفرنسي بعد (دوبورمون) قد طلب من أعيان مدينة الجزائر قائمة بأسماء العائلات الكبيرة في المدينة ليعين منها (بايا) على إقليم (تيطري). وحاول الإفرنسيون الاستمرار في تقليد العثمانيين عند إسناد منصب (الباي) إلى من يرغبون، فكانوا يخلعون على الشخص الذي يسمونه (بايا) القفطان المميز للباي ويسلمونه سيفا، غير أن الفرنسيين لم يلبثوا أن ألغوا بسرعة منصب الباي. المهم في الأمر هو أن (كلوزول) اختار مصطفى بن الحاج عمر (أو مصطفى بن عمار) ليكون بايا على تيطري خلفا للباي (مصطفى بومزراق) الذي كان قد اتفق مع الإفرنسيين ثم ثار ضدهم فخلعوه. وكان على (مصطفى بن عمار) مواجهة ثورة (الباي السابق) ومواجهة ثورة (ابن بومزراق) وأن يقمع اضطرابات الإقليم الثائر، وتنفيذ ما يطلبه الإفرنسيون من إخضاع للإقليم. وزاد من صعوبة الموقف أن الإفرنسيين اشترطو عليه الإبقاء على الإدارة السابقة، وعدم إجراء أي تغيير يدعم من سلطته .. فمضى (مصطفى بن عمار) إلى ممارسة الحد الأدنى من واجباته (القضاء والمخالفات ونحوها) والاقتصار في نشاطاته على حدود مدينة المدية (¬1) ولكن إذا ¬

_ (¬1) كان الإفرسنيون بقيادة (كلوزول) قد دخلوا (المدية) يوم 23 تشرين الثاني - نوفمبر - =

نجح الإفرنسيون في إلقاء القبض على (بومزراق) وسمحوا له بالذهاب إلى الإسكندرية فإن ابنه (سي احمد) قد بقي على مسرح الأحداث ينتظر الفرصة المناسبة. (ويقال أن كلوزول قد اعترف بأنه ارتكب خطأ عندما لم يعتقل سي احمد عندما اعتقل والده). وأقام (سي احمد) في المدية مقر حكم والده، وقاد الثائرين ضد (مصطفى بن عمار) واحتل دار الباي الريفية، وكان يدخل المدينة ويغادرها دون أن يحاول الباي ابن عمار اعتقاله. وعندما تفاقم الأمر طلب ابن عمار النجدة من القائد الإفرنسي العام في الجزائر. فجاء (برتزين) بنفسه، وعندها انسحب (سي احمد بن مصطفى بن بومزراق) إلى الجبال المحيطة. وعاد (برتزين) إلى الجزائر مصطحبا معه (مصطفى بن عمار). استثمر (سي احمد بومزراق) انتصاره على الإفرنسيين، فطاردهم أثناء انسحابهم من المدية. واشتبك معهم عند مضائق جبل (موازية) وانتصر عليهم، وقتل منهم عددا كبيرا، واستولى على كميات كبيرة من الأسلحة والمواد التموينية. وأقام بومزراق في (المدية). وأثناء ذلك. كان الأمير (عبد القادر بن محيي الدين الجزائري -) ينظم دولة الجزائر، ويحشد القوى ضد الإفرنسيين، والتف حوله الشعب الجزائري من إيالة (تيطري) و (وهران). فما كان من (سي احمد بن مصطفى بومزراق) إلا أن أسلم القيادة

_ = 18300 م، وأخذوا (بومزراق أسيرا). وعينوا بدله (مصطفى بن عمار) في تاريخ الجزائر مجاهد مسعود - ص 118. أو (مصطفى بن الحاج عمر) في التاريخ الجزائر الحديث - سعد الله - ص 64) وترك (كلوزول) في المدينة حامية إفرنسية بقيادة (دانليون) وعاد إلى الجزائر.

(للأمير عبد القادر) وانضم إلى قواته، ومما حفظه له التاريخ قوله: (لقد غرر الإفرنسيون بأبي، وأرغموه على أن يكون عميلهم ضد الشعب، غير أنه أدرك بعد فوات الأوان، أن من واجب كل جزائري ألا يرضى بالاستعمار، ولقد استسلم لهم بعد أن أعطوه كلمة الشرف بأنه لن يمس بأذى، ولن يخرج من بلاده، وبعد ذلك رأوا أنه لا بد لهم من إخراجه من الجزائر، فاستولوا على أمواله، وشردوا أسرته، وعلى كل حال، فإن ما قامت به فرنسا من التنكر لباي تيطري ليس بالأمر المستغرب، لأن فرنسا اعتادمت على إعطاء كلمة الشرف ثم العمل على سحبها وفقا لما تقتضيه الظروف. ويعرف العالم أجمع حقيقة أن فرنسا لا ذمة لها ولا مروءة ولا شرف. وأن المعاهدات التي تبرمها مع هذا أو ذاك هي معاهدات قصيرة العمر جدا). لقد كان غدر الاستعمار الإفرنسي بالجزائريين عاملا أساسيا في جملة العوامل التي أسهمت في توسيع الهوة الفاصلة بين الأجهزة الاسعمارية والأجهزة الوطنية الجزائرية، وظهر ذلك بصورة خاصة في (وهران) حيث لم يترك المواطنون الوهرانيون وسيلة إلا استخدموها للدفاع عن مقدساتهم وحرياتهم وكرامتهم، وبذلوا جهد المستطاع لحشد كل القدرات والقوى المتوافرة للجهاد ضد أعداء الدين والوطن، وكان في جملة جهودهم المبذولة إرسال وفد منهم إلى (العلامة محيي الدين) ومطالبته بتولي القيادة ورفع راية الجهاد. غير أنه اعتذر عن ذلك بسبب سوء حالته الصحية، وكبر سنه. فما كان منهم إلا أن توجهوا إلى سلطان المغرب - نظرا لاتصال التراب الوهراني بالمغربي وقرب وهران من المغرب - فقبل ملك المغرب ما طلبه منه أهل وهران، وأرسل جيشا بقيادة أحد الأمراء ليكون قائدا عاما على وهران. وقد اتخذ الأمير

المغربي من (وهران) قاعدة له، وانطلق بالمجاهدين حتى وصل إلى (مليانة) وبقي هناك لمدة ستة أشهر، وخافت فرنسا من بأسه، كما خافت من تعاظم قوة (أحمد باي قسنطينة) وظهر احتمال تعاون القوات المغربية والجزائرية ضد فرنسا، لإخراجها من الجزائر، فأرسلت القيادة العامة في الجزائر تقريرا مطولا إلى وزارة الدفاع الإفرنسية طالبة استخدام كل جهد مستطاع لحمل المغرب على سحب قواته التي كان يقودها ابن عم الملك في (وهران). واستجابت وزارة الدفاع لهذا النداء. فوجهت إنذارا إلى سلطان المغرب: (بأنه إذا لم يأمر قواته بالانسحاب من الجزائر خلال فترة ثمانية وأربعين ساعة، فإنها ستضطر إلى إعلان الحرب على المغرب لتدخله السافر في قضاياها). استقبل أهل (وهران) الإنذار الإفرنسي بالهزء - وحتى بالسخرية ظنا منهم أن (سلطان المغرب) سيكون أكثر حزما في مواجهة الإنذار الإفرنسي. غير أن أملهم قد خاب عندما استجاب سلطان المغرب للإنذار، وأمر قواته بالانسحاب الفوري تاركا أهل وهران وحدهم لمجابهة العاصفة الإفرنسية. وعلى أثر ذلك، اجتمع العلماء والأعيان. وقرروا التوجه من جديد إلى (العالم محيي الدين) في محاولة لحشد القوى، لا سيما وأن العالم محيي الدين كان من أكثر القاده المؤهلين لرفع راية الجهاد بسبب ما عرف عنه من الصلاح والتقوى والوطنية. وذهب وفد وهراني قابل (العالم محيي الدين) وأعلموه صراحة بأن مصير الجزائر أصبح أمانة في يديه، وأنه الوحيد الذي يستطيع حمل هذه (الأمانة) وأنه إذا ما رفعض الاضطلاع بالمسؤولية خلال تلك المرحلة الخطيرة. فإنه سيحمل وحده نتائج هذا الرفض - أمام الله والتاريخ -. ولم يعد باستطاعة

و - الحاج أحمد (باي قسنطينة)

(محيي الدين) تجنب مجابهة الموقف، فقبل تولي قيادة الجيش، تاركا للشعب الجزائري حرية تعيين الأمير الذي يختارونه لإدارة الحكم في الجزائر. وذكر للوفود أنه سيعتمد كل الاعتماد على (عبد القادر بن زيان) وعلى ولده (عبد القادر الجزائري) لما يعهده فيهما من الكفاءة والبطولة. فشكرته الوفود على ذلك، وعاهدته على أن تقدم لدعمه كل ما تستطيع. وكان ذلك نقطة التحول الحاسمة التي أدت إلى إعادة تنظيم الجزائر تحت قيادة (الأمير عبد القادر). كان ذلك هو الوضع العام الذي جابه قوات الغزو الاستعماري للجزائر، فالمقاومة تتعاظم في كل مكان، وتحوك الانتصارات السهلة التي أحرزتها قوات الغزو في بداية الأمر إلى عبء ثقيل يرهق القوات الإفرنسية في الجزائر بقدر ما يقلق رجال الدولة الإفرنسية ذاتها، وزاد الأمر سوءا ببقاء الوضع المضطرب في ولاية هي من أكبر ولايات الجزائر، هي (ولاية قسنطينة) والتي تولى قيادة المقاومة فيها رجل أمكن له الصمود في وجه فرنسا وقواتها طوال ثمانية عشر عاما، على الرغم من مجموعة الظروف الصعبة التي كانت تحيط به، وتنتصب في مواجهته، خلال كل عمل من أعماله. و- الحاج أحمد (باي قسنطينة): تولى (الحاج أحمد) إمارة (بايليك قسنطينة) في سنة 1827 من قبل (حسن باشا)، حاكم الجزائر. وكان (الحاج أحمد) مرتبطا بإقليم قسنطينة بالمصاهرة، فكان كرغليا (أي من أب تركي وأم جزائرية) وكان أخواله من عائلة (ابن غانة) التي كانت لها مكانة وسلطة على عرب الصحراء في نواحي بسكرة والزاب: كان جده هو (أحمد القلي) الذي كان (بايا على قسنطينة) أيضا، أما والده فقد

الحاج أحمد باي ولد شريف Hadj Ahmed Bey, Fils de Ahmed Cherif

كان خليفة لحسين باشا. وقد تصاهر أحمد مع عدد من الأسر والقبائل العربية في المنطقة هادفا إلى نيل تأييدهم. فتصاهر مع (ابن غانة) و (المقراني) وقسم من قبيلتي (فرجاوة وزواوة). ولكن أعداءه كانوا أولاد فرحات الذين يتنازعون منصب (شيخ العرب) مع أولاد ابن غانة. وقد واجه الحاج أحمد عدوا لدودا في شخص (فرحات بن سعيد) عندما عزله الحاج أحمد من منصب شيخ العرب وإعطاه إلى خاله (بوعزيز بن غانة) كما واجه الحاج أحمد خصوصا في بقية فرجاوة وزواوة، وفي الحزب الذي ظهر ضده في عاصمة إقليمية. وقف (الحاج أحمد) إلى جانب (الداي حسين باشا) عندما وقع الغزو الإفرنسي، واشترك في معركة (اسطاوالي) وعندما ظهرت النتيجة، وتقررت معركة الجزائر - عسكريا - انسحب (الحاج أحمد) إلى (وادي القلعة) ثم إلى (عين الرباط - مصطفى باشا الآن) شرقي العاصمة، ثم تابع طريقه شرقا في اتجاه قسنطينة، بينما انضم إليه أكثر من ألف وستمائة مقاتل من الفارين من وجه الجيش الإفرنسي ومعهم بعض النساء. وعندما وصل إلى (أولاد زيتون) استلم رسالة من (دوبرمون) قائد الجيش الإفرنسي يطلب فيها من (الحاج أحمد) دفع اللازمة (الجزية) على نحو ما كان يدفعها إلى الباشا بعد أن تم توقيع معاهدة التسليم من قبل (الباشا حسين). ووعد (دوبرمون) بالإبقاء على (الحاج أحمد) والاعتراف به كما كان من قبل. غير أن (الحاج أحمد) رد على ذلك بقوله: (إن مثل هذا الأمر يتطلب موافقة أهل الإقليم الذي يحكمه) ثم واصل سيره نحو (قسنطينة) التي وصل ضاحيتها (الحامة) بعد اثنين وعشرين يوما. وتوقف (الحاج

أحمد) في الحامة لأنه عرف أن خصومه الأتراك قد قاموا بانقلاب ضده، وعينوا بايا جديدا مكانه يدعى (حمود بن شاكر). ولكن أنصاره تحركوا عندما علموا بعودته تحت قيادة خليفته (ابن عيسى) وبعض العلماء، وعندما تأكد خصومه من عدم تأييد أهل البلاد لهم قتلوا زعيمهم وأعلنوا توبتهم وولاءهم. وتظاهر (الحاج أحمد) بالعفو عنهم؛ ولم يلبث أن (حاكم قادة المنشقين) وأمر بقتلهم وجعلهم مثالا لغيرهم. وحصل منذئذ كره شديد ضد الأتراك وأصبح لا يثق بهم. واعتمد على تأييد العنصر العربي - الجزائري -الذي أخذ في تكوين جيشه من رجاله. وكان (الحاج علي) يتعرض لضغوط ديبلوماسية قوية، فكان أول عمل له جمع ديوانه واستشارته في موضوع رسالة القائد الإفرنسي (كلوزول) التي تتضمن (تعيين الحاج أحمد بايا على قسنطينة باسم الملك الإفرنسي، شريطة أن يدفع له اللازمة - الجزية -) غير أن الديوان رفض بشكل قاطع الاقتراح الإفرنسي باعتبار أن الحاج أحمد يستمد سلطته الشرعية من الشعب ومن السلطان العثماني - المسلم - لا من ملك فرنسا. وأرسل (الحاج أحمد) رسالة إلى السلطان محمود يشرح له الموقف. وأثناء ذلك، أصدر (كلوزول) قراره بعزل (الحاج أحمد) واتخذ في الوقت ذاته إجراء (خبيثا) لإضعاف موقف (الحاج أحمد) حيث وقع (كلوزول) معاهدة مع تونس يصبح بمقتضاها (سي مصطفى) أخو باي تونس في تلك الفترة (بايا على قسنطينة) خلفا (للحاج أحمد) (¬1). ولم توافق فرنسا على هذه المعاهدة، غير أن هدف ¬

_ (¬1) وقعت هذه المعاهدة في 18 تشرين الأول - أكتوبر - 1830، وهناك معاهدة أخرى شبيهة بها وقعها الجنرال - كلوزول - مع ممثل آخر عن باي تونس (اسمه خير الدين) لحكم إقليم وهران.

المعاهدة قد تحقق بتصعيد الصراع بين (قسنطينة) و (تونس). إذ عمل (باي تونس) بعد توقيع المعاهدة على إرسال الرسائل إلى إقليم (قسنطينة) داعيا الناس إلى الثورة ضد (الحاج أحمد) متهمة إياه بالاستبداد والطغيان والخروج على طاعة السلطان، ومعلنة انضمام قسنطينة إلى تونس. وتجنبت هذه الرسائل ولو مجرد الإشارة إلى الاتفاق مع فرنسا (كلوزول). وأصبح على الحاج أحمد أن يخوض الصراع على عدة جبهات: جبهة ضد فرنسا، وأخرى ضد تونس، وثالثة ضد إبراهيم الذي أعلن نفسه بايا على عنابة، وطالب بعودته إلى (قسنطينة) ورابعه ضد باي (تيطري) الذي أعلن نفسه (باشا الجزائر) خلفا (لحسين باشا) وطالب الحاج أحمد الاعتراف به. وخامسة ضد (فرحات بن سعيد شيخ العرب) الذي عزله (الحاج أحمد) وعين بدلا منه خاله (بوعزيز بن غانه) هذا بالإضافة إلى المؤامرات التي حيكت ضده داخل عاصمته. ولم يقف (الحاج أحمد) مكتوف اليدين، فجمع ديوانه، وعرض عليهم دعوى (باي تونس) فقرر الديوان إرسال رسالة إلى باي تونس يعلمه فيها: (أنه لا حق له بالمطالبة بقسنطينة. وأن السلطان محمود هو المرجع، فكما أن باي تونس يستمد سلطاته منه، فكذلك باي قسنطينة، وأن أهل قسنطينة راضون بحكم الحاج أحمد). اتخذ (الحاج أحمد) خطوة حاسمة بعد ذلك، إذ حمل لقب (باشا) وأمر بضرب السكة (النقود) باسمه وباسم السلطان العثماني. فانتزع المبادرة من (باي تيطري) (¬1) وأحبط مخطط (باي ¬

_ (¬1) أعلن (باي تيطري) مصطفى بومزراق نفسه باشا، وطلب من الحاج أحمد الاعتراف به لكي يرسل إليه (القفطان) فلم يرد عليه. وقال للوفد (نحن سواء) والبارود =

تونس) ثم عين وزيرا للمالية (هو مساعده بن عيسى) باسم خزنجي - وأعلن أن هذه الإجراءات الإدارية تخوله ممارسة السيادة على الرأي العام. غير أن المعركة بينه وبين باي تونس لم تتوقف وإنما انتقلت إلى بلاط السلطان العدناني، فقد علم (الحاج أحمد) أن باي تونس قد بعث برسائل إلى السلطان يصف فيها باي قسنطينة بظلم الرعية والخروج عن الطاعة. فلجأ الحاج أحمد إلى إرسال وفد برئاسة (سي علي بن عجوز) أحد أعيان قسنطينة ومعه أحد ثقاته وهو (الحاج مصطفى) إلى استانبول، حيث ظل أربعة شهور. وقد حمل الوفد إلى السلطان موقف الإرادة العامة التي استندت على توقيعات رؤساء القبائل وأعيان البلاد وجميعها تؤيد حكمه وتنفي عنه الاستبداد والظلم. وبعد السيطرة على الموقف في قسنطينة، التفت (الحاج أحمد) إلى خصومه الذين تخلص من بعضهم بمساعدة الظروف، ولكن بعضهم ظل كالشوكة في حلقه. فقد خرج لمحاربة إبراهيم وفرحات بن سعيد. فهرب الأول إلى عنابة عن طريق تونس، والثاني إلى أولاد جلال في أعماق الصحراء، حيث ظل يحارب بدون هوادة، وكان (إبراهيم) في عنابة قد تواطأ مع الإفرنسيين أولا، ثم أعلن الحرب عليهم، وأخرجهم من المدينة، ولكن ابن عيسى، مساعد الحاج أحمد، حاربه واضطره للهروب، ثم تحولت المعركة على عنابة بين ابن عيسى والإفرنسيين. وعندما أيقن (ابن عيسى) من تغلب الإفرنسيين عليه، خرج منها هو وسكانها، ودخلها الإفرنسيون من جديد، واستقروا بها بعد سنتين

_ = هو الذي يقرر بيننا. فعزله بومزراق وعين بدله غريمه إبراهيم. ولكن بومزراق انهزم أمام الإفرنسيين وأسروه في تشرين الثاني - نوفمبر - 1830 واستقر بعد ذلك في الإسكندرية، وتخلص الحاج أحمد بذلك من أحد خصومه.

من احتلال الجزائر. وقد كان احتلالهم لعنابة، أهم موانىء إقليم قسنطينة، سببا في توتر مستمر بين فرنسا والحاج أحمد. وقد عين الإفرسيون على عنابة (يوسف المملوك) (¬1). أما إبراهيم، فقد احتمى بالجيال، وواصل مقاومته للحاج أحمد إلى سنة 1834 م. وكان في الوقت ذاته يحارب الإفرنسيين، ثم التجأ إلى (مدينة المدية) حيث مات، ويقال أنه اغتيل من عملاء الحاج أحمد. وإذا كان الإفرنسيون قد خلصوا (الحاج أحمد) من خصمه (بومزراق) حين أبعدوه إلى الإسكندرية (خريف 1830م) كان ابنه (سي أحمد) قد انضم إلى الحاج أحمد وأصبح خليفة له ورشحه أن يكون صهرا له. غير أن (سي أحمد) لم يلبث أن فر من عنده، والتجأ إلى الأمير عبد القادر (الخصم الآخر للحاج أحمد) (¬2). بذل (الحاج أحمد) جهودا كبيرة للحصول على دعم عاجل من (السلطان محمود) غيرأن جهوده لم تنجح في تأمين المساعدات خلال الفترة التي كانت فيها (قسنطينة) أحوج ما تكون لهذه المساعدات. وعاد الوفد الذي أرسله (الحاج أحمد) لهذه الغاية وهو يحمل ردا غامضا من السلطان (يحمل توقيع رؤوف باشا). ¬

_ (¬1) يوسف مملوك: يهودي مرتد، كان أسيرا لدى باي تونس، ووقع في غرام ابنة هذا الداي، وعندما اكتشف أمره، هرب إلى الجزائر، ثم التحق بالجيش الإفرنسي، وأصبح من المغامرين فيه. وأصبح جنرالا كبيرا فيه، وكان له دور خطير في احتلال قسنطينة، وزعم أنه ابن غير شرعي لنابليون الأول، وأنه من جزيرة (البا) (تاريخ الجزائر الحديث - الدكتور أبو القاسم سعد الله ص 133 - 134). (¬2) جاء في (تاريخ الجزائر الحديث - الدكتور أبو القاسم سعد الله - حاشية صفحة 135) ما يلي: (هرب سي احمد بأموال الحاج أحمد. وقد أكرمه الأمير - عبد القادر - ثم كواه بالنار عندما اكتشف انحرافه - ففر من عنده أيضا إلى الإفرنسيين).

وكان هذا الرد يذكر: (بأن السلطان في حالة سلم مع الدول المسيحية، وأنه لا يستطيع إعلان الحرب على فرنسا بسبب قضية الجزائر، أو بالأحرى قضية قسنطينة، ولكنه طلب من الحاج أحمد متابعة جهاده ضد الإفرنسيين، وألا يوقع صلحا معهم إلا بعد استشارته). غير أن الحاج أحمد لم ييأس. فأرسل وفدا آخر إلى السلطان (برئاسة السيد بلهوان) الذي كان يحمل رسالة إلى الصدر الأعظم - رئيس الوزراء - (رؤوف باشا). وألح الحاج أحمد في رسالته على طلب المساعدة المادية، وأعلن أنه مستعد للتضحية من أجل الدين، وأن الإفرنسيين يقتربون منه يوما بعد يوم. ولكن (رؤوف) هذا استقبل بلهوان استقبالا فاترا، ووعده بإرسال مندوب عنه إلى قسنطينة لتقصي حقائق الموقف، فكان هذا المندوب هو (كامل بك). ولكن، وقبل وصول (كامل بك) كانت هناك الاتصالات قد استؤنفت بين الحاج أحمد وبين القائد العام الإفرنسي في الجزائر (الدوق دو روفيغو) للتفاوض، حيث قام (حمدان بن عثمان خوجة) بنقل رسالة من الدوق إلى الحاج (في صيف سنة 1832 م) تتضمن إعلان (الحاج أحمد) استلام بلاده لفرنسا، ودفع ثلاثة ملايين فرنك ضريبة حرب، ودفع اللازمة السوية - الجزية - وذلك مقابل اعتراف فرنسا بالحاج أحمد (بايا) على إقليم (قسنطينة). وجمع (الحاج أحمد) أعيان المدينة، بحضور خوجة، وأطلعهم على رسالة الدوق، وبعد المناقشة استقر رأيهم على دفع اللازمة، بشرط أن تعيد فرنسا الأراضي التي احتلتها من الإقليم، ولا سيما ميناء عنابة، وإقامة قنصل فرنسي في عنابة، وإعلام القائد العام الإفرنسي بعدم قدرة الإقليم على دفع ضريبة الحرب، وإبقاء ذلك كله مرهونا بموافقة السلطان وإرادته حيث

المدفعية الإسلامية في الدفاع عن قسنطينة Raffet. Batterie Couverte Servie Par les Musulmans Lors De La Resistance De Constantine

يجب على الإفرنسيين الاتصال به مباشرة. وحمل (خوجة) رأي أعيان قسنطينة إلى الدوق، ثم رجع برسالة أخرى تحمل الشروط التالية: (دفع (50) ألف دورو، واللازمة السنوية، وتعهدت فرنسا بالحصول على القفطان للحاج أحمد من استانبول، ولكنها تبقي حامية عسكرية في كل من عنابة وقسنطينة، ويظل ميناء عنابة في قبضتها) ولكن الحاج أحمد لم يقبل هذه الشروط، وأحال الإفرنسيين على السلطان العثماني. وصل موفد استانبول (كمال بك) إلى قسنطينة عند هذه المرحلة، واستقبله الحاج أحمد استقبالا حارا. وفي اجتماع عام لأعيان المدينة ورؤساء القبائل والمسؤولين، خطب كمال بك، وقال بأن: (السلطان لم ينسهم، وأن عليهم بالصبر والإيمان، وقال أن السلطان يعمل على إبقاء إقليم قسنطينة تحت طاعته، وأن عليهم أن لا يقبلوا أي شرط بدون موافقه). وقد تأكد (كمال بك) على تعلق البلاد بالحاج أحمد، وعرف أن الرسائل التي ترد إلى استانبول من باي تونس لا تستند على الواقع، وعاد كمال إلى استانبول، وكتب إلى الحاج أحمد يعلمه أنه أطلع السلطان على الوضع، وأنه يعمل للوصول إلى حل لصالح الباي، ولكنه لم ينجح، وطلب منه أن يراسل السلطان عن طريق (سي الطاهر باشا) الذي أصبح حاكما لطرابلس. علم الحاج أحمد بعد ذلك أن القيادة الإفرنسية قد حشدت قواتها في عنابة للقيام بحملة كبيرة ضد (قسنطينة) مستفيدة من فصل الشتاء (سنة 1836 م). فخرج الحاج أحمد بقواته من عاصمة الإقليم وسار بها مسافة نصف يوم، وأقام معسكره عند مكان يدعى

(وادي الكلاب). وكانت قواته تضم (5) آلاف فارس و (1500) من الرماة المشاة. وقد التقى الجيشان في مكان يسمى (عقبة العشاري). فتظاهر (الحاج أحمد) بالتراجع إذ شهد التفوق الكبير لقوات عدوه، غير أنه لم يتوقف عن الاشتباك بهم واستنزاف قدرتهم وتكبيدهم الخسائر حتى دخل (قسنطينة). ونصب الإفرنسيون مدافعهم على جبل المنصورة وسيدي مبروك الذي يشرف على المدينة وبدأوا في قصفها. كان الجيش الإفرنسي بقيادة كلوزول. وكان الثلج والمطر يهطلان بغزارة. وحاول الإفرنسيون إرغام المدينة الباسلة على الاستسلام، غير أنهم فشلوا في محاولتهم، واضطروا إلى التراجع عنها وانطلق الحاج احمد على رأس جيشه فطارد الإفرنسيين حتى (قالمة). وفي طريق عودته إلى قسنطينة، وجد عربات محملة بالمواد التموينية التي خلفها الإفرنسيون وراءهم. وقد كان لهذا الانتصار وقع كبير في رفع الروح المعنوية للمجاهدين ومواطني قسنطينة، كما أدى إلى عزل كلوزول واستدعائه إلى فرنسا. ورجع الحاج أحمد إلى المدينة بعد انتصاره الكبير، وبدأ على الفور بإعادة تحصينها والاستعداد للجولة التالية، إذ كان على ثقة بأنه لا بد للسلطات الإفرنسية من إعادة المحاولة والانتقام لهزيمتها السابقة. وعلم (الحاج أحمد) بوجود فئة كانت ترغب في تسليم المدينة إلى الإفرنسيين أثناء عملية القصف، فحكم على بعضهم بالإعدام. ثم أرسل إلى السلطان يعلمه بانتصار المسلمين ويطلب دعمه. وفي الوقت ذاته، أبرزت هذه الأعمال القتالية كفاءة اثنين - بصورة خاصة - من قادة الحاج أحمد، وأكدت قدرتهما وإخلاصهما وهما (ابن عيسى) الذي أصبح رمزا للمقاومة البطولية و (البجاوي) الذي أصبح خليفة (للحاج

أحمد). وكان مما زاد المقاومة ضراوة وعنادا، إعلان الإفرسيين عن إرادتهم بتعيين (يوسف المملوك) بايا على قسنطينة، بينما كان أهل قسنطينة يعرفون أن (يوسف) هذا لم يكن مملوكا فقط، وإنما كان أيضا يهوديا مرتدا. علم (الحاج أحمد) عن طريق مبعوث من استانبول بإرسال مساعدات لدعمه، وقد حمل إليه هذا المبعوث (صراف افندي) معلومات عن إرسال حاكم طرابلس (سي الطاهر باشا) اعلاما إلى السلطان يخبره عن انتصار قوات قسنطينة على الإفرنسيين، مما دفع السلطان إلى إرسال دعم سريع - في ربيع سنة 1837م، عن طريق تونس، ولم يمض على انتصار (الحاج أحمد) أكثر من أشهر قليلة، فارتفعت الروح المعنوية في صفوف المقاومة. ووصلت أربع سفن عثمانية إلى ميناء تونس وهي محملة بالجنود الأتراك مع اثني عشر مدفعا ومائة وخمسين مدفعيا. غير أن (باي تونس) الذي كان مهددا بالضرب من الأسطول الإفرنسي إذا نزل الجنود العثمانيون فوق أرضه، أرسل إلى القبطان العثماني، يأذن له بإنزال المدافع فقط، أما الجنود فقد اعتذر لهم عن إنزالهم. وأرسل (باي تونس) إلى الحاج أحمد يعتذر له عن موقفه ويعلمه أنه يرغب في إقامة علاقات ودية مع الإفرنسيين. وهكذا عاد الجنود الأتراك بسفنهم إلى قواعدهم في تركيا، واستخدم (باي تونس) المدافع التي كانت مرسلة إلى حامية قسنطينة، وبقي (الحاج أحمد) محروما من الدعم في وقت كان هو أحوج ما يكون إليه. حاول الإفرنسيون استئناف المفاوضات مع (الحاج أحمد) في حين كانوا يكملون استعداداتهم لغزوه في عاصمة إقليمه.

فاتصلوا أولا باليهودي (ابن باجو) الذي كان يعمل في دار الحاج أحمد والذي كان يتاجر في (تونس). وكان القائد العام الإفرنسي عندئذ هو (دامر يمون) بعنابة قادما من الجزائر استعدادا للحملة المرتقبة. ورفض الحاج أحمد اقتراحات الإفرنسيين، وخرج لقتالهم في مكان يدعى (بلاد عمر). وهناك أرسل إليه (دامر يمون) يهوديا آخر هو (بوجناح) الذي كان يعمل في زي إفرنسي، عارضا عليه دبف مليونين من الفرنكات (ضريبة حرب) وإقامة حامية إفرنسية في قصية قسنطينة، وذلك مقابل أن تعترف به فرنسا (بايا) على الإقليم فيما وراء (مجاز عمار) أي باستثناء الأجزاء التي كانت فرنسا قد نجحت في احتلالها. غير أن علماء قسنطينة وأعيانها ورؤساء القبائل فيها رفضوا الشروط الإفرنسية. وأرسل الحاج أحمد رفضه إلى (دامر يمون) عن طريق (بوجناح). ولم يلبث هذا أن عاد وهو يحمل شروطا أخرى، ولكن الحاج رفضها، وأرسل رفضه في هذه المرة مع كاتبه لأنه لم يعد يثق باليهودي (بوجناح). كانت الإدارة الإفرنسية في الجزائر قد عقدت في تلك السنة معاهدة مع الأمير عبد القادر - الجزائري - وأصبح باستطاعتها تركيز ثقل قواتها للعمل ضد (الباي الحاج أحمد). وعندما فشلت مفاوضاتها معه، عرف أن المعركة مع الإفرنسيين قد باتت وشيكة الوقوع، فأخذ في الاستعداد للقتال، وجمع شيوخ القبائل والقادة، وحشد (5) آلاف فارس و (ألفين) من المشاة الرماة من المجاهدين بالإضافة إلى جيشه النظامي الذي كان يعمل تحت قيادته الشخصية، وترك في عاصمة الإقليم (قسنطينة) حامية صغيرة مكونة من (1500) مقاتل وانطلق ببقية القوات لمحاربة الإفرنسيين. فهاجهم مدة ثلاثة أيام متواصلة في معسكرهم الواقع في (مجاز عمار).

ولكنه فشل في هذه المرة في صد زحفهم على المدينة. فقد تمكنوا من نصب الحصار عليها ثم دخلوها بينما كان المواطنون يحاربونهم من دار إلى دار وم شارع إلى شارع. وأثناء هذه الجولة قتل (دامر يمون) القائد العام للجيش الإفرنسي فتولى مكانه الجنرال (فالي) (¬1) - كما قل (البجاوي) خليفة الحاج أحمد في (قسنطينة) وتكبد الحاج أحمد خسائر كبيرة وفقد أفضل جنده ومقاتليه. وغنم الإفرنسيون بعد استيلائهم على المدينة، مغانم كثيرة وأموالا ضخمة، ذلك لأن الحاج أحمد كان قد رفض إخلاء المدينة، كما رفض إخراج الثروات والكنوز الثمينة. عندما طلب ذلك منه أعيان المدينة حتى لا يؤثر ذلك على الروح المعنوية، وتأكيدا على التصميم في القتال حتى النهاية، وهو ما حدث فعلا. وخسر الإفرنسيون بالمقابل أعتدتهم وقسما كبيرا من قواتهم هذا بالإضافة إلى تموينهم. وجاءت الضربة الحاسمة التي زادت من متاعب (الحاج أحمد) عندما تخلى عنه صديقه (ابن عيسى) وساعده الايمن وعرض خدماته على الإفرنسيين. ولكن، وعلى الرغم من الهزيمة التي نزلت بقوات (الحاج أحمد) وعلى الرغم أيضا من ضياع ملكه وعاصمته، فقد صمم على متابعة الصراع المسلح، وعرضت عليه فرنسا الأمان، وتعهدت له بنقله إلى بلاد إسلامية. فرفض العرض الإفرنسي، ومضى يحمل السلاح وقد وضع مخططا جديدا لمقاومة الإفرنسيين يعتمد على تهديد خطوط مواصلات الإفرنسيين بين عنابة وقسنطينة، وعزلهم. غير أن صهره (ابن غانة) ¬

_ (¬1) فالي: (SYLVAIN - CHARLES - VALEE) ماريشال فرنسا. (1773 - 1840 م) من مواليد بريين لوشاتو، وهو الذي قاد العمليات للاستيلاء على قسنطينة سنة (1837 م).

اعترض على هذا المخطط، وأراده أن يحارب (فرحات بن سعيد) أولا، ثم الإفرنسيين ثانيا. وهي الخطة التي عبر عنها الحاج أحمد بقوله: ((الخطة التي فيها هلاكي) غير أنه لم يكن يستطيع مقاومة اعتراضات صهره (ابن غانة) بعد أن تضافرت جميع العوامل ضده: (موت أو تخلي قادته عنه، وخلافه مع صهره بوعزيز الذي التحق بالإفرنسيين فعينوه في منصب (شيخ العرب). وكذلك محاولة الأمير عبد القادر بسط نفوذه على إقليم قسنطينة، بتوجيه نداء إلى أعيانه، وتعيين خلفاء له فيه أمثال: حسن بن عزوز، وفرحات بن سعيد الذي لم ينس عزله له حتى بعد سقوطه على أيدي الإفرنسيين، هذا بالإضافة إلى جهود (باي تونس) المضادة له بسبب غيرته من (الحاج أحمد) والكيد له في وسط القبائل المجاورة ولدى السلطان، ثم فرنسا التي كانت ترى في وجوده بين العرب علامة خطر، فكانت تؤلب عليه القبائل، وتخلق له الصعوبات أينما حل وحيثما ارتحل. ويمكن أن يضاف إلى ذلك سلبية السلطان العثماني الذي كان (الحاج أحمد) يعتمد عليه حتى بعد سقوطه) وظل (الحاج أحمد) يقاوم كل هذه العوامل من سقوط قسنطينة (سنة 1837) وحتى استسلامه (سنة 1848) حيث كان ينتقل طوال هذه الفترة من قرية إلى قرية، ومن الجبل إلى السهل. وبينما كان في (جبل أحمر خدو) اتصلت به السلطات الإفرنسية في (باتنة) و (بسكرة) وعرضت عليه الاستسلام، وإعادة كل أشيائه إليه وأخذه ليعيش في بلاد إسلامية. فقبل العرض بعد أن كبرت سنه ووهنت قواه. وذهب من بسكرة إلى باتنة في 5 حزيران - يونيو - 1848 م، ومنها إلى قسنطينة عاصمة ملكه القديم، التي عاد إليها مجردا من سلاحه، واستقبله أعيانها عند مدخلها، ودخل إليها وسطهم في كوكبة من الخيل.

وأقام فيها ثلاثة أيام كان فيها محل رعاية خاصة. فكان أهلها يأتون إليه كل يوم بالأطعمة والألبسة وبعض مصنوعاتهم. ولكن السلطات الإفرنسية خشيت العاقبة، فمنعت الأعيان من زيارته وقدمتهم إلى المحاكم العسكرية. ثم نقلت (الحاج أحمد) إلى العاصمة عن طريق (سكيكدة). وهناك عينت له أحد المترجمين لمرافقته (وهو الضابط دي روزي) وعينت له ولأهله دارا لإقامته، وخصصت له مبلغ (12) ألف فرنك فرنسي سنويا لتغطية نفقاته. غير أنها لم تنفذ وعدها بإطلاق حريته، فبقي سجينا - تحت الإقامة الإجبارية حتى وافته منيته في الجزائر (سنة 1850 م) ويوجد قبره الآن في زاوية (سيدي عبد الرحمن الثعالبي) وسط مدينة الجزائر، ولعل موته لم يكن طبيعيا. ... حاول (الحاج أحمد) إقامة دولة تعتمد على تأييد السلطان العثماني، وتأييد الأرستقراطية المحلية فحافظ على النظام العثماني، وطلب مساعدة السلطان حتى يعطي لحكمه الهيبة والشرعية. وحاول بعد احتلال الجزائر توسيع قاعدة حكمه بتأييد الجماهير له، فكان لا يقرر شيئا هاما إلا بالرجوع إلى العلماء والأعيان وشيوخ القبائل وقادة الجيش، وإذا كان قد اعتمد في بداية أمره على الجند العثماني، فإنه لم يلبث بعد الاحتلال أن غير رأيه وتخلص من هذا الجند، معتمدا على العرب الذين أراد أن يشكل لهم دولة يكونون هم سادتها. ولم يحاول (الحاج أحمد) أن يوسع سلطانه حتى يشمل الجزائر كلها، فبقي مكتفيا، سواء في مفاوضاته مع الإفرنسيين أو في مراسلاته مع السلطان العثماني بحدود إقليمه (قسنطينة) خلافا لما كان يعمل له (الأمير عبد القادر) أو حتى

(مصطفى بومزراق - باي تيطري) الذي أخذ لقب (الباشا) وطالب الاعتراف به سيدا على الجزائر كلها. لم يتمكن (الحاج أحمد) من الاتفاق مع (الأمير عبد القادر) لأنه كان يرى فيه (دعيا أو منتحلا للسلطة). وزاد من شك الحاج أحمد في الأمير أن هذا قد وقع اتفاقات مع الإفرنسين (معاهدة ري ميشان - 1834 - ومعاهدة تافنة 1837م). وبعد اتصال الأمير بقبائل (قسنطينة) أثر المعاهدة الأخيرة وإخطارهم أنه متفق مع الإفرنسيين أحس الحاج أحمد بالشك فيه والخوف منه. لا سيما وقد هدده الأمير عبد القادر بأنه سيهاجم قسنطينة مع الإفرنسين إذا لم يستسلم له (الحاج أحمد). وزاد من اتساع شقة الخلاف بينهما أن الإفرنسيين كانوا يعملون على إثارة الرجلين ضد بعضهما البعض. والواقع أن (معاهدة تافنة) التي جاءت بعد فشل المحاولة الأولى لاحتلال قسنطينة سنة 1836، كانت مساعدة على نجاح الإفرنسين في المحاولة الثانية، فقد أطلقت أيديهم في شرق البلاد. وتذكر بعض المصادر، أن الأمير عبد القادر كان على علم بخطة الإفرنسيين نحو قسنطينة، غير أنه لم يتدخل لأنه كان يعتقد أن نجاحها سيزيل عنه منافسا خطيرا. وكان للحاج أحمد رأي في اليهود الجزائريين، فقد قال عنهم: (إنهم هم الذين عكروا دائما الشؤون السياسية التي تدخلوا فيها، فهم لا يحاربون، ولكن مصلحتهم هي دائما في رؤية الآخرين ممزقين. إنهم كالذئاب التي تأتي لتأكل ما خلفته الأسود). ودافع عن نفسه في التفاوض مع اليهودي القسنطيني (ابن باجو) لأن الإفرنسيين هم الذين أرسلوه إليه. أما (بوجناح) الذي جاءه في (زي

ز - حمدان خوجة والصراع السياسي

إفرنسي) مبعوثا من القائد العام (دامر يمون) فقد قال عنه أنه: (لم يكن ينتظر منه الخير، وأن القائد العام لم يحسن الاختيار، لأن بوجناح قد شكر الحاج أحمد على رفض الشروط الإفرنسية، وأخذ في ذمهم أمامه لأنهم: يريدون التوسع بكل الإمكانيات فاليوم يطالبونك بهذا، وغدا سيطابونك بشيء آخر) وقد طلب (بوجناح) النقود من الحاج أحمد ليذهب إلى باريس، ويتفاوض باسمه مباشرة مع الحكومة الإفرنسية. وكاد الحاج أحمد يضربه (لولا أنه مبعوث القائد الإفرنسي) وذلك عندما اقترح عليه ضرب كبار رجاله إذا لم يرضوا بشروط فرنسا. وقد علم (الحاج أحمد) أن اليهود قد نهبوا الأشياء الثمينة التي (يعرفون أماكنها السرية) عند دخول الجيش الإفرنسي إلى مدينة قسنطينة. وقد سبقت الإشارة إلى موقفه من (يوسف المملوك الذي كان مرتدا والذي حاول الإفرنسيون تعيينه بايا على قسنطينة خليفة (للحاج أحمد). لقد خاض (الحاج أحمد) صراعه في ظروف صعبه للغاية، وقد علق آماله على السلطة العثمانية التي كانت تتعرض بدورها للمحن والهجمات والضغوط الثقيلة، وقد حفظت الوثائق التاريخية رسائل (الحاج أحمد) أو (بعض رسائله) والتي تبرز طبيعته الصراع الذي خاصه خلال تلك (المرحلة التاريخية) (¬1). ز - حمدان خوجة والصراع السياسي: ظهرت خلال فترة احتلال فرنسا للجزائر مجموعة من الشخصيات البارزة التي مارست أدوارها بصورة إفرادية، بفضل ما ¬

_ (¬1) انظر قراءات - 5 - الملحقة في آخر هذا الكتاب في موضوع رسائل الحاج أحمد.

حمدان عثمان خوجة

توافر لها من الخبرة والثقافة والمكانة الاجتماعية. وهذه المجموعة هي من النوع الذي يمكن وصفه (بالمعتدلين) أو (الواقعيين) والذين حاولوا التحرك في إطار الظروف الزمنية والمكانية ضمن مفهوم (انقاذ ما يمكن انقاذه). وظهر بعضهم وهو يحاول إقامة علاقات مع فرنسا لمصلحة الإسلام ولمصلحة الجزائر المجاهدة. غير أن هؤلاء لم يلبثوا أن سقطوا تباعا، ذلك أن أرضيتهم الدينية والقومية والوطنية تجعلهم بصورة حتمية يقفون في النهاية في الصف - أو في الخندق - المعادي للاسعمار. وقد يكون من المناسب، إكمال صورة الموقف باستقراء الملامح العامة لبعض هذه الشخصيات وجهادها خلال مرحلة التحول الحاسم في حياة الجزائر. 1 - حمدان عثمان خوجة: كان حمدان عثمان خوجة، منسوبا إلى حضر الجزائر، تاجرا كبيرا، ومالكا غنيا من أثرياء مدينة الجزائر وكانت له أراضي في سهل (متوجة - متيجة) وله أملاك في المدينة. وقد ولد في أواخر القرن الثامن عشر من أسرة لها مكانتها البارزة في الدولة. فكان عمه أمين السكة (أي مسؤول المالية) وكان والده أستاذا للقانون، ثم كاتبا من الدرجة الأولى للدولة. وقد مكنه ذلك من الحصول على ثقافة عميقة ومعرفة شاملة بشؤون الدوله والبلاد عامة، كما مكنه من السفر إلى المشرق وإلى أوروبا للتعرف على أحوال العالم القديم (الشرق) والجديد (أوروبا) وكان ذلك في وقت دقيق يشهد تغيرات جذرية في السياسة الدولية (مؤتمر فيينا) وفي التفكير الإنساني نتيجة الثورة الصناعية.

طلائع المجاهدين بقسنطينة يراقبون الفرنسيين

كان حمدان عثمان خوجة في مدينة الجزائر عندما وقع الغزو الاستعماري الإفرنسي، ويظهر أنه مارس دورا خفيا في الدعوة إلى اجتماع الحضر الذين طلبوا إلى الداي الاستسلام. وكان محل ثقة الباشا (الداي حسين) الذي أرسله إلى صهره (الآغا إبراهيم) ليقنعه باستئناف القتال بعد هزيمته في معركة (اسطاوالي)، وكان ابنه حسن هو التي صحب بوحزبة، وكاتب الباشا للتفاوض مع (دوبورمون) على شروط التسليم. ويظهر أن (خوجة) أصبح موضع ثقة (دوبورمون) الذي ولاه عضوية المجلس البلدي لمدينة الجزائر. واحتفظ خوجة بمكانته في عهد (كلوزول) الذي عينه في لجنة تقدير تعويضات الأملاك المصادرة، وأسند إليه دراسة مطالب اليهود من فرنسا لدفع تعويضات عن القروض التي كانوا قد دفعوها إلى (الكراغلة) كما أصبح (خوجة) متوليا شؤون المراسلة بين (باي تيطري بو مرزاق) وبين السلطات الإفرنسية. غير أن أسهمه لم تلبث أن تدهورت، حيث تآمر اليهود ضده ووقف في وجهه المسيحيون (بسبب موقفه غير المتسامح من احتلال المساجد) مما جعله في أعين الإفرنسين من الحاقدين عليهم. وكان ذلك سببا في عزله من الوظائف التي أسندت إليه والتي قال عنها بأنه قبلها لأنه لم يكن له الخيار. حاول (الدوق دوروفيغو) إنصاف (خوجة) فأعاد إليه داره التي كان قد استقر فيها أحد الضباط الإفرنسيين. وأرسله للتفاوض مع (الآغا محيي الدين بن مبارك - مرابط القليعه) وكلفه بمهمة سرية لدى الحاج أحمد باي قسنطينه، فذهب مرتين إلى قسنطينة (آب - أغسطس وتشرين الأول - أكتوبر) 1832 م. ودامت رحلته حتى

كانون الأول - ديسمبر - من السنة ذاتها محاولا إقناع الباي باقتراح الدوق، وهو الاعتراف بالسيادة الإفرنسية، ودفع جزية سنوية لفرنسا. ثم توترت العلاقات بين (خوجة) وبين (الدوق) فنفاه من الجزائر. كما عمل اليهودي (بكري) على إغراق (خوجة) بقضايا ماليه شائكة جعلته يتابعها لدى مجلس الدولة في فرنسا. اجتمعت فئة (المنفيين الجزائريين) في العاصمة الإفرنسية في أيار (مايو) 1833 م حيث تولى (خوجة) قضية الدفاع عن الجزائر وشرحها للرأي العام الإفرنسي والعالمي. وكان للضغط الذي قامت به فئة المثقفين الجزائريين المنفيين في باريس الفضل في تحرك البرلمان الإفرنسي وتشكيل اللجنة الإفريقية. وفي الشهر ذاته أرسل (خوجة) مذكرة إلى مجلس الدولة الإفرنسي عن حالة الجزائر. وفي 3 حزيران - يونيو - أرسل مع إبراهيم بن مصطفى باشا مذكرة طويلة إلى المارشال (سولت) وزير الحربية، واقترح فيها بعض مطالب الجزائريين. وتشكيل لجنة تحقيق، وفي 9 تموز - يوليو - أرسل خلاصة للمذكرة إلى الحكومة الإفرنسية، وفي 10 منه أرسل نسخة من المذكرة ورسالة إلى الملك الإفرنسي، وناشده التدخل في الجزائر. وبعد أن تكونت اللجنة أصبح (خوجة) صوت الجزائريين الذين فوضوه ليتحدث باسمهم. ولذلك رفع في 6 أيلول - سبتمبر - رغبات الجزائريين إلى الملك الإفرنسي، وقد ألح فيها على شيئين: الحرية والاستقلال والتمتع بالحقوق التي يتمنع بها الأوروبيون. ثم كتب كتابه (المرآة) لتنوير الرأي العام. وكان الكتاب جاهزا تقريبا منذ تموز - يوليو - 1833. غير أن خوجة لم ينشره انتظارا لتحسن الأوضاع وظهور نتائج اللجنة الإريقية، غير أنه قرر نشره في تشرين

الأول - أكتوبر - وأرسل منه نسخة مع رسالة إلى أعضاء اللجة المذكوره. وينص المؤلف أن (المرآة) سيكون جزئين يتناول في الأول الجزائر في العهد العثماني وإدارة بورمون وكلوزول، ويتناول في الثاني إدارة برتزين وبيشون، ولكن لم يظهر منه سوى الجزء الأول. لقد خاب أمل (خوجة) في (اللجنة الإفريقية) التي لم تحقق ما كان يريد. وقد عرضته آراؤه في (المرآة) إلى المحاكمات بدعوى التشهير بالغير. ولم يقبل أي طلب استئناف حتى الذي تقدم به أمام مجلس الدولة. ومن جهة أخرى عاد كلوزول الذي كان ساخطا عليه، حاكما عاما على الجزائر سنة 1835. وقد أصدر (كلوزول) قرارا في 26 أيلول (سبتمبر) 1836 بطرد (حسن بن حمدان خوجة) من الجزائر بدعوى أنه كان من المتآمرين على فرنسا. أما ابنه الآخر (علي) الذي كان قد صحبه إلى فرنسا، فقد عاد إلى الجزائر في شهر آذار - مارس - 1839. وأما (خوجة) نفسه فقد ذهب إلى (إستانبول) حيث ظل على اتصال (بالحاج أحمد باي قسنطينة) يترجم له رسائله إلى التركية، ويطلع السلطان على أحوال الجزائر. لقد كان كتاب خوجه (المرآة) وثيقة من أغرب وأغنى وثائق التاريخ الجزائري الحديث. وبرزت فيه مجموعة من النقاط أبرزها: 1 - إثباته أن عدد سكان القطر الجزائري كان عند الاحتلال عشرة ملايين، وكان السيد حمدان هو المدير الثاني لمصلحة الضرائب في الحكومة الوطنية الجزائرية، ولهذا فإن معلوماته أكثر

دقة من كل البيانات التي صدرت عن المصادر المختلفة - الإفرنسية الاستعمارية خاصة -. 2 - أنه سجل أعمال اللصوصية والنهب التي قام بها الجنود الإفرنسيون. وصور أبشع الصور لتلك المنكرات التي فعلها الأدنياء دون حياء أو خجل، وبعث بوثيقة إفرنسية على يد محضر إفرنسي، أن الإفرنسيين كانوا يسرقون عظام موتى المسلمين من المقابر الإسلامية، ويرسلون بها ضمن عظام الحيوانات لمعامل تكرير السكر بمرسيليا. 3 - بيانه عن الأملاك والأرزاق المصادرة، والمظالم التي ارتكبها الطغاة أثناء الاحتلال. لقد كان (حمدان عثمان خوجة) في طليعة المطالبين بتشكيل لجة تحقيق للنظر في المظالم التي أنزلها الإفرنسيون بالجزائريين، وعندما تشكلت (اللجنة الإفريقية) وجاءت إلى الجزائر، استدعت إليها (خوجة) في جلستها الرابعة عشرة، وظهر (خوجة) وكأنه متهما بقضية لا مدافعا عنها، حيث قال له رئيس اللجنة: (بأن اللجنة تعرف أمر الكتاب الذي وضعه عن الجزائر - المرآة - وأن الكتاب يحتوي على قضايا ليس من شأن اللجنة أن تتدخل فيها، وعلى شكاوى شخصية ستنال حقها من العدالة. وطلب منه الإجابة على الأمور العامة. وعلى ما أراد أن يطلع عليه الرأي العام. واتهمه بأن أكثر ما جاء في الكتاب خال من البراهين. ودعاه إلى تقديم البراهين إذا كانت لديه. وبناء على محضر الجلسة فإن خوجة قد أجاب بأنه ليس لديه لا حقائق ولا براهين غير أن رئيس اللجنة لم يلبث (أن طمأن (خوجة) على أن الأمور التي اشتكى منها ستنال نصيبها من الاهتمام والعناية. فالمساجد التي

احتلتها السلطات الإفرنسية ستعاد إلى ما كانت عليه، وستحترم الملكية في المستقبل، وستدفع الأجور، لأن هدف الحكومة الإفرنسية هو تطبيق نفس العدالة المطبقة في فرنسا على الجزائر). ثم سأل رئيس اللجنة وهو يستجوب (خوجة) عن رأيه: (في ما إذا كان يعتقد أن تطبيق مبدأ إعادة الأملاك سيحقق الازدهار للمناطق التي احتلتها فرنسا في الجزائر. كما سيؤدي إلى استمالة الجزائريين الذين عارضوا حتى الآن الوجود الإفرنسي، والذين هم بلا شك قد أقاموا معارضتهم نتيجة للشكاوى التي نشرها - خوجة - في كتابه، والتي بالغ فيها) وعلى الرغم من أن محضر اللجنة قد اختصر إجابة خوجة على هذا الموضوع، فإنه قد عبر عن اعتقاده بأن النتيجة التي توقعها رئيس اللجة لن تتحقق بسرعة، لأن نظام العدالة المشار إليه قد يفيد أهل المدن - على ما ذكره خوجة - غير أن لن يحقق إلا القليل من الفائدة لأبناء الريف. كان من رأي خوجة - والذي أدلى به أمام اللجنة الإفريقية (بأن فرنسا لن تجني شيئا من محاولتها إغراء الجزائريين بإحلال النظام الإفرنسي محل النظام التركي الإسلامي، أو التظاهر باحترام الدين والمعتقدات، وقد سأله رئيس اللجنة ما إذا كان يعتقد بأن احترام الدين وحماية السكان وعدل الحكومة الإفرنسية الصارم قد يوفر للمواطنين فرصا مغرية لم تكن متوافرة لهم زمن الأتراك) فكانت إجابة - خوجه - واضحة، إذ أنه عبر بهذه المناسبة وبمناسبات أخرى على أنه من المحال التعايش بين الجزائريين والإفرنسيين في كل شيء.

أحمد بوضربة

2 - أحمد بوضربة: كان أحمد بضربة من حضر الجزائر أيضا، غير أن دوره لم يكن واضحا بقدر ما كان دور (حمدان عثمان خوجة). وقد عرف عنه أنه كان من التجار الميسورين في الجزائر، ومن الذين لم يكونوا على علاقة جيدة مع الحكام الأتراك، غير أنه كان راضيا بوضعه على الأقل، فأقام فترة من حياته بمدينة (مرسيليا) حيث مارس التجارة فيها، وتزوج من إفرنسية، ثم تورط هناك بقضية إفلاس مالي حملته على مغادرة مرسيليا والعودة إلى الجزائر، وخلال هذه الفترة تعلم اللغة الإفرنسية، وعرف عادات الإفرنسيين وتقاليدهم. حتى إذا ما غزت فرنسا الجزائر، ووصلت إلى العاصمة، ظهر (أحمد بوضربة) في مقر (الكونت دوبورمون) قائد الحملة بصحبة (حسن بن حمدان بن عثمان خوجة) ومعهما كاتب السلطان للمفاوضة على تسليم المدينة. مقتنعا بما أعلنه الإفرنسيون: (من أنهم جاؤووا محررين للجزائريين من الاضطهاد التركي). وتوطدت العلاقات منذ هذا اللقاء بين قائد الحملة و (بوضربة). فكان القائد الإفرنسي - دوبرمون - يستشيره في أمور الجزائر الداخلية ويثق به، حتى أنه ولاه رئاسة أول مجلس بلدي في (مدينة الجزائر) (¬1) غير ¬

_ (¬1) شكل (دوبورمون) في اليوم التالي للاحتلال (6 تموز - يوليو) لجنة حكومية إفرنسية بمهمة إدارة البلاد. وتشكيل (هيئة مركزية) من الجزائريين برئاسة (أحمد بوضربة) وعضوية (الحاج علي بن أمين السكة، وابن مرابط، وإبراهيم بن المولى محمد وحسن قلعايجي ومحمد ابن الحاج عمر والحاج قدور بن عشاش) ثم انضم إليها اليهوديان (ابن بكري وابن دوران). وكان معظم هؤلاء من (حضر الجزائر) حيث كانت السلطة الإفرنسية تعتقد بأن هذه الفئة من الفئات التي يمكن الاعتماد عليها نظرا لأنها لم تكن ذات شأن أيام الحكم التركي. ولكن سرعان ما أدرك الإفرنسيون خطأ اعتقادهم، فاتهموا (الحضريين) بالتآمر والطموح. نفوا زعماءهم من مدينة الجزائر.

أن (بوضربة) أدرك بسرعة أهداف الإفرنسيين من احتلال الجزائر، ووقف على أساليبهم الخادعة، فأخذ في المكر لهم والإيقاع بهم، ومبادلتهم خداعا بخداع. مما حمل مؤرخا فرنسيا على وصفه بقوله: (كان بوضربة رجلا فطنا ومهذبا، واسع الدهاء، غير أنه يفتقر إلى المبادىء الأخلاقية، فكان يخلق المشاكل أكثر مما يسهم في إيجاد حل لها). ولم يلبث الإفرنسيون أن اتهموه بأنه كان يتزعم (لجنة المغاربة) التي كانت تعمل لصالح استعادة الحكم الإسلامي في الجزائر، والتي كانت على اتصال مستمر مع الداي السابق (الباشا حسين). ولم تلبث أسهم (بوضربة) أن تدهورت، شأنه في ذلك شأن جميع الحضريين أمثاله، الذين رأى فيهم الإفرنسيون مصدر خطر على الاحتلال الإفرنسي، فتم إبعاد بوضربة إلى باريس مع من تم إبعاده من (لجنة المغاربة) وهم الذين لفتوا إليهم الأنظار بمظهرهم الجزائري - الإفريقي، وباتصالاتهم مع رجال الصحافة والصالونات والبرلمانيين. على كل حال، فقد كان هناك ثمة اختلاف بين (بو ضربة) وبين (حمدان عثمان خوجة) ويعرض (بو ضربة) في مذكراته (بحمدان خوجة) ويصفه: (بأنه من الذين حملوا أقلامهم لاستعمالها في هجمات - شخصية) ويفخر بنفسه فيقول: (بأنه ليس من هذا النوع، وأنه ينظر إلى الأمور نظرة واقعية، وأنه يتحرى الحقيقة، وأنه يعمل لصالح مواطنيه ولفرنسا في نفس الوقت، وقد ظهر (بوضربة) أيضا أمام (اللجنة الإفريقية) في 7 تموز - يوليو - 1833 م. فكتب إليها مذكرة، وتبرز هذه المذكرة التناقض بين الرجلين (بو ضربة - وخوجة) فبينما كان (خوجة) ثائرا على الإفرنسيين، غير مؤمن بالتعاون معهم، يظهر (بوضربة) وهو ينتقد الأوضاع، غير أنه يقترح حلولا

عملية لفائدة التعاون الإفرنسي - الجزائري. ومذكرة (بوضربة) مقسمة إلى سبعة فصول تضم عناوين مثل: (التنظيم البلدي وتطبيق القضاء والعدل، والتنظيمات الخاصة بالمناطق الداخلية، وإدارة المؤسسات الخيرية وغيرها). وقد اعتمدت (اللجنة الإفريقية) على أفكار بوضربة (لأنها - حسب تعبير رئيس اللجنة الإفرنسي - لم تكن كلها تمنيات مثالية - (يوتوبيا) بل إن الحكومة الإفرنسية قد طبقت بعضها، ولا سيما الأفكار الخاصة بالتنظيم القضائي والإدارة البلدية). وجه (بوضربة) نصائحه إلى فرنسا بأن تتبع في الجزائر سياسة العدل والحزم المقترن باللين والاعتدال عند التعامل مع الجزائر، لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة التي تؤدي إلى نتائج طيبة. ونصح كذلك بأن تتفادى فرنسا تطبيق نظام الأتراك في حكم الجزائريين، فتعتمد على البايات، باعتبار أن هذا التنظيم لا يتلاءم مع تنظيم الإدارة المتبع في فرنسا. ومن آرائه - الجدلية - في هذا الموضوع اقتراحه بأن تعين فرنسا (آغا فرنسيا) على القبائل الجزائرية وليس (آغا) عربيا. ودافع (بوضربة) عن اقتراحه بأن الجزائريين يشكون في الآغا الذي هو منهم، إذا دافع عنهم أمام الإفرنسيين بخلافه إذا كان فرنسيا، فإنهم لا يشكون في إخلاصه إذا دافع عنهم، فهم مثلا لن يتهموه بأنه كان عميلا لبلاده بخلاف العربي. وانتقد (بو ضربة) طريقة الاحتلال الإفرنسي وقال: (أن أسوأ ما تميز به هو عدم اتباعه لنظام ثابت) وأنه (لم يضمن الحماية لأحد - حتى الذين ساندوه أمثاله - فكانت النتيجة أن كل الذين كانوا مع الاحتلال قد تخلوا عنه. وأن الذين كانوا سيرحبون به لم تعد لديهم الجرأة للإعلان عن

شعورهم) وطالب بوضربة فرنسا: (بأن نعلن صراحة عن موقفها من القبائل التي خضعت لها، ومن تلك التي تريد الخضوع لها، ثم من تلك التي لا زالت تقاوم الاحتلال. فالتردد والغموض لا يزيدان الموقف إلا تعقيدا) وطلب من فرسا أيضا: (أن لا تعفي الأهالي من الضرائب ولكن تفرضها بعدل، وأن تعاقب المذنبين بحكمة). واقترح (بوضربة) أن تدمج العرب في البيئة الإفرنسية الجديدة: (عن طريق بناء القرى والمجمعات التي يستوطنها الإفرنسيون على أن يسمح للعرب بالاستقرار في هذه المستعمرات مما يسمح بالتعارف بين المجموعتين، وتضمن للعرب الاطلاع على حضارة الإفرنسيين، بالإضافة إلى أن هذه الطريقة تنهي شيئا فشيئا مقاومة العرب لفرنسا) واقترح أيضا: (إنشاء جريدة - صحيفة - لبث الأفكار وتنوير الرأي المحلي - لأن العربي في رأيه -فضولي بطبعه، وسوف يقرأ هذه الجريدة بشغف كبير. ولكنه نصح أن لا تحتوي الجريدة على مناقشة القضايا الدينية، لأن العرب عندئذ سينفرون منها. وبدلا من الدين، يجب أن تناقش الجريدة، وتقدم معلومات عن الصناعة والفلاحة والمواضيع العلمية. وقال بوضربة في هذا الصدد أن كل جزائري تقريبا يعرف القراءة والكتابة، لذلك فإن إنشاء هذه الجريدة سيفتح آفاقا جديدة أمام الجزائريين والإفرنسيين معا. وقال أيضا: أن في كل قرية جزائرية مدرستين، باستثناء منطقة جرجرة التي لاحظ أن التعليم فيها منحصر في طبقة خاصة، وهي طبقة الشيوخ والرؤساء). وكان (بوضربة) يظهر متفائلا حتى حدود الحماسة وهو ينادي (بإجراء تغييرات على النظام الإفرنسي القائم عندئذ في الجزائر) فقد طالب بإنهاء نظام العنف الذي كان قائما والذي دام ثلاث سنوات (واستبداله بنظام آخر قائم على اللين

وحماية حرية المواطنين وممتلكاتهم. وعندئذ - بناء على رأيه - سيرى الإفرنسيون أن النتائج ستكون مختلفة، إذ أنهم لن يجدوا سخطا أو مقاومة وإنما سيجدون تعاونا ورضى). وأعلن (بوضربة) أنه يقف في صالح عدة قضايا، من ذلك إقامة فرقة جزائرية (الزواف - أو الزواويين) للمشاركة في حماية البلاد، على شرط أن تؤدي الدور الإيجابي المنتظر منها، وأن تتوافر لها شروط العمل الضرورية. أما بخصوص دمح اليهود في حياة الجزائريين العامة، فإن (بوضربة) لم يمانع في ذلك، ولكنه ألح على ألا يتم هذا الدمج على حساب العرب. وقال بأن على فرنسا أن تعطي الضمانات الكافية على ألا تنال الطائفة اليهودية في الجزائر شيئا من مراكز النفوذ الكبيرة في البلاد. ويمكن الإعلان عن هذه الضمانات - بحسب رأيه - عن طريق إصدار بيان عام يوقع عليه علماء البلاد والمسؤولين عن الشؤون الدينية. أما عن القوات التي كانت لدى الجزائر في تلك الفترة، فقد حاول (بوضربة) تهدئة مخاوف الإفرنسيين من احتمال تجمع تلك القوات للقيام بالثورة. فقال لهم: (بأن هناك 16 ألف رجل مسلح في مركز اسطاوالي، و4 آلاف من القبائل الراجلين - من أهالي جرجرة - غير أنه من المحال على هذه القوات أن تتجمع من جديد، وإذن فلا خوف على الإفرنسيين من اندلاع ثورة ضدهم). ويبدي (بوضربة) بعض الآراء الهامة حول أملاك الدولة في (سهل متوجة - متيجة) فهو يقول أن دار السلطان (مدينة الجزائر وضواحيها بما في ذلك سهل متيجة) كانت تملك بين 12 و13 مزرعة ر السهل المذكور، بعض هذه المزارع كان عن طريق الإيجار.

وكانت هناك وزارة خاصة تقوم بإدارة المزارع وتعهدها، وكانت كل مزرعة تحتوي 60 - 80 زوج البقر. وكانت حدود ملكية كل قبيلة في السهل منظمة تنظيما دقيقا وثابتا، ولذلك لم تكن هناك نزاعات بين القبال على الحدود. وقال (بوضربة) أن معظم سهل متيجة يعود إلى سكان مديمة الجزائر، ولا سيما طبقة الحضر منهم. أما الأراضي المشاعة فلا توجد إلا في داخل الوطن التي هي منطقة قبلية تخضع لإدارة الشيخ محليا وإدارة الدولة التي يمثلها القائد. وهناك آراء أخرى غريبة عبر عنها (بوضربة) حول الوجود الإفرنسي في الجزائر، فقد قال: (بأنهم أرادوا الاكتفاء باحتلال السواحل والمدن، فإنهم لن يحصلوا على نتيجة في الجزائر). - لذلك نصحهم - بأن يعزموا على البقاء الدائم في البلاد، وأن يكونوا لهم خلفاء من أهلها حتى تتوافر لهم شروط الإقامة. ونصحهم بأنهم إذا احتلوا قسنطينة (وكان حديثه سنة 1834 أي قبل ثلاث سنوات من الاحتلال الفعلي لقسنطينة). فيجب عليهم تعيين حاكم إفرنسي عليها. وقال أن عدد سكان (قسنطينة) عندئذ يتراوح بين 20 و30 ألفا. وأن عادات هؤلاء وطبائعهم تختلف اختلافا واضحا عن عادات سكان الأرياف في الإقليم. ونصح الإفرسيين بأن يتعرفوا، قبل القيام بأي توسع، على إخلاص حلفائهم الجزائريين - وبذلك يتفادون تعريض جندهم للخطر المحقق. غير أنه أشار عليهم بضرورة إعادة المساجد التي استولى عليها الجيش الإفرنسي واستخدمها لأغراض خاصة.

المفتي الحنفي سيدي محمد بن العنابي

خلاصة القول: كان (بوضربة) نموذجا للمتعاونين المقاومين، المتعاونين مع السلطة الاستعمارية والمقاومين للمشاريع الاستعمارية. فأفادت منهم فرنسا خلال المرحلة الأولى ثم نبذتهم مرة واحدة وإلى الأبد. حتى أنه بات من الصعب معرفة المصير الذي انتهى إليه منذ سنة 1834 أي بعد أربعة سنوات من عمر الاستعمار الإفرنسي للجزائر. 3 - المفتي الحنفي سيدي محمد بن العنابي: عرف المفتي الحنفي العنابي بأنه شخصية فاضلة ومحترمة من معاصريه، وقد هاله ما كان يجري في البلاد من ممارسات وأعمال تتنافى مع شروط التسليم، وتتناقض مع مبادىء الثورة الإفرنسية. لذلك كتب سلسلة من الرسائل إلى الجنرال (كلوزول) يذكره فيها بنصوص الاتفاق الجزائري - الإفرنسي، وينبهه إلى العواقب المدمرة التي قد تجر إليها السياسة المتبعة آنذاك. وقد أرادت السلطات الإفرنسية إبعاده من الجزائر، فاختلقت له سببا، وهو أنه كان يتآمر ضد الدولة بالاتصال مع العرب، وأنه كان يعمل لصالح عودة الحكم الإسلامي إلى الجزائر. وعلى أية حال فقد ألقى (كلوزول) عليه القبض وسجنه بعض الوقت ثم نفاه. - ويذكر خوجة أن اعتداء شنيعا قد وقع على عائلة العنابي أيضا -. وحاول خوجة أن يفهم التهمة الموجهة إلى صديقه العنابي فكان يذهب مرة إليه ومرة إلى كلوزول - وقد أخبره هذا بأن المفتي كان على اتصال بالعرب وأنه كان يحاول إثارتهم ضد الإفرنسيين لذلك ألقى عليه القبض. وعندما ذهب إلى المفتي، نفى التهمة نفيا قاطعا. وأخيرا عرف خوجة السبب - الذرائعي - وقصه بشيء من العاطفة. فقد زار

أحد مترجمي الجيش الإفرنسي المفتي العنابي، وأعلن له أن (كلوزول) سيجلو عن الجزائر، وأنه ينوي تسليم مقاليد الحكومة إليك، فهل باستطاعتك أن تنظم جيشا وأن تعد قوة تهدىء البلاد وتدافع عنها؟. فأجابه العنابي: (بأنه سيبذل جهده في التنظيم عندما يحين الوقت) ثم سأله المترجم: (وهل ستصلك الجنود من داخل البلاد، أو أنك ستعتمد على قواتك في مدينة الجزائر وحدها؟) فأجابه العنابي: (سأجند عندما يحين الوقت من المدن ومن جميع أنحاء البلاد، وسيكون في استطاعتي أن أجند ثلاثين ألف رجل) ويؤكد خوجة أن المترجم المذكور قد أخفى شخصين ليشهدا على هذه المحادثة. وبهذه الوسيلة أوقع الإفرنسيون بالمفتي العنابي في الفخ - على حد زعمهم - ووجدوا له حجة من أجل إقصائه عن البلاد. وقد حضر خوجة وطلب من كلوزول أن يمهل المفتي بعض الوقت حتى يبيع أملاكه وينهي التزاماته. ولم يحصل له على عشرين يوما إلا بشق النفس وبتقديم ظمانات شخصية. وخلال هذه الفترة استطاع أن يبيع عقاراته وأثاثه ويقضي حوائجه ليغادر الجزائر بعدها إلى الإسكندرية. وقد كان اتخاذ مثل هذا الإجراء سببا لإسكارت السلطات التشريعية في البلاد كالقضاة ورجال الإفتاء، لأنهم لم يعودوا إلى الاحتجاج على خرق شروط التسليم خوفا من مصير كمصير المفتي العنابي.

الإدارة الإفرنسية وتكوين وحدات خاصة

4 - الإدارة الإفرنسية وتكوين وحدات خاصة تلك هي بعض النماذج للمقاومة في الجزائر، وقد كانت هذه النماذج، على ضعفها، وعلى عيوبها مصدر قلق للإدارة الإفرنسية فعملت على إبعادها ونفيها. وقد أصبح هذا الأسلوب من الأساليب الثابتة التي طبقتها الإدارة الإفرنسية في كافة العهود المتتاليه (من كلوزول إلى دوروفيغو وحتى بيجو). وذلك بهدف السماح للأجهزة الإفرنسية بممارسة عملها في إجراء كل التغييرات بعيدا عن كل شغب أو اضطراب يعود لأسباب اجتماعية أو سياسية بين المواطنين. وإلى جانب ذلك، حاولت فرنسا تجنب دفع النفقات الباهظة التي يتطلبها الاحتلال، وبقاء قوات إفرنسية ضخمة، فعملت على إنشاء وحدات وطنية - جزائرية - تتكفل الإدارة الإفرنسه بتأمين طعامها وإقامتها ورواتبها. وقد اصطدم تشكيل هذه الوحدات في البداية بالكثير من المقاومة، غير أن القيادة الإفرنسية لم تيأس، فاستمرت في محاولاتها، متبعة في ذلك ذات الأساليب التي كان يستخدمها الأتراك في تنظيم الوحدات الجزائرية. وبدأ (دوبورمون) بتطويع الجنود من المتطوعين من قبائل (زواوة) (¬1) حيث ¬

_ (¬1) زواوة: (ZAOUAOUA)

أكبر تجمع لقبائل جرجورة - ومن هنا ظهر أو اشتق اسم (الزواف) (¬1) وتم تشكيل الفوجين الأولين بناء على أمر (كلوزول) الصادر في الأول من تشرين الأول - أكتوبر - 1830. غير أن أعمال الفرار من هذين الفوجين قد أخذت في التعاظم، فكان الجنود يهربون بأسلحتهم وأعدتهم، وبلغ عدد الهاربين من الفوج الأول بتاريخ 15 شباط - فبراير - 1831 أكثر من 220 رجلا من أصل (529) رجلا. أما الفوج الثاني والذي لم يكن عدد أفراده قد تجاوز (85) رجلا فقد بلغ عدد الهاربين منه (64 رجلا) في التاريخ ذاته. ونتيجة لذلك تقرر دمج قوات الفوجين في فوج واحد (¬2) غير أن أفراد هذا الفوح قد أظهروا باستمرار تعلقهم بقضيتهم الوطنية، ولم تتمكن القيادة الإفرنسية من قهر تطلعاتهم أو إبعادهم عن تقاليدهم الاجتماعية أو إضعاف عاطفتهم الدينية. وتطورت ظاهرة الفرار، بحيث أن عدد المتطوعين بلغ في سنة 1833 - بعد ثلاث سنوات وعندما وصلت اللجنة الإفريقية إلى الجزائر - ما قوته (1144) شخصا لم يبق منهم في الخدمة الفعلية أكثر من (363) جزائريا. لقد أرادت فرنسا توفير الدم الإفرنسي، وخوض الحرب بمقاتلين يعرفون طبيعة الإقليم، ويقاتلون قومهم بدون أن تتكفل فرنسا بأكثر من نفقات زهيدة، فعملت بعد ذلك على تشكيل سريتين من الفرسان (السباهيين)، ثم طورت ذلك إلى تشكيل فرق تضم المقاتلين المغامرين المرتزقة من كل الجنسيات والقوميات وأطلقت عليهم اسم (اللفيف الأجنبي - أو الفرقة الأجنبية - ليجيون ايترانجيه). ¬

_ (¬1) الزواف: (ZOUAVES) . (¬2) من تقرير برتزين (BERTHEZENE) إلى وزارة الحرب الإفرنسية في 14 - آذار مارس - 1831 م.

الإدارة الإفرنسية (من التردد إلى التصميم)

5 - الإدارة الإفرنسية (من التردد إلى التصميم) اجتاحت القوات الإفرنسية الجزائر، وظهرت نوايا الإفرنسيين منذ البداية، فقد أخذت الأعمال العدوانية تمتد من المدن إلى القرى، ومن الساحل إلى الداخل، ورافق ذلك جهد لإبادة الشعب الجزائري بالجملة، ولم تقتصر عمليات الإبادة على إقليم معين، أو فئة من المواطنين، وكانت هناك خطة عسكرية واضحة ينفذها جيش الغزو بشن حرب متطرفة ذات طابع وحشي شاذ. ولم يعد الأمر مقتصرا على أعمال عسكرية في أيام محدودة، وإنما أصبحت الجزائر كلها مسرحا غارقا بالدماء تشتعل فيه النيران باستمرار. ولم تميز قوات الغزو بين الأشخاص والممتلكات، فالحرائق والسرقات والتخريب تختلط بالقتل والتعذيب. وليس ثمة تمييز بين الرجال والنساء والأطفال والشيوخ. وأدى ذلك إلى بروز الهوة السحيقة التي فصلت منذ البداية بين المواطنين والمستعمرين. ولم يعد باستطاعة الإفرنسيين معرفة المرتكز الذي يستطيعون الاعتماد عليه في إدارتهم للبلاد. فقد غادر معظم الأتراك البلاد، ولم يكن باستطاعتهم الاعتماد على العرب (المقيمين منهم أو الرحل). كما لم يكن باستطاعتهم الاعتماد على القبائل الجبلية الطموحة لحريتها، والتي

لا يمكن لها الخضوع للأجنبي. فكانت تلك أول عقبة جابهت الاسعمار. خلال تلك الفترة الحرجة، اندلعت نيران ثورة تموز - يوليو 1830، فأطاحت بحكم ملك فرنسا (شارل العاشر) وحملت إلى الحكم (لويس فيليب). وظهر خلال ذلك احتمال استدعاء جيش الغزو إلى فرنسا، وترك البلاد التي فتحوها إلى أهلها وساكنيها. وتم بالفعل إرجاع (الكونت دوبورمون) وبعض الضباط القادة من هيئة أركانه، بالإضافة إلى إعادة بعض القوات. ولم يبق في الجزائر إلا قوات قليلة في عددها وعدتها، ضعيفة في قيادتها. وفي الوقت ذاته، أخذت أوروبا في متابعة أحداث فرنسا بقلق، خوفا من عودة أيام الثورة الكبرى إلى فرنسا، وندمت على أنها لم تتدخل ضد فرنسا عندما قامت بغزو الجزائر، حتى لا تمتلك المقدرة والموارد المالية والمواد الأولية التي تضمن لها المزيد من القدرة القتالية إذا ما تجددت حروب على نمط (الحروب النابوليونية).وشعر سفير فرنسا في لندن (تاليران) (¬1) بمخاوف رجال السياسة الأوروبيين، فحاول طمأنتهم، ونصح حكومته بأن تقوم بأعمالها في الجزائر بمنتهى الحذر والحرص والكتمان، وأن ¬

_ (¬1) تاليران: (CHARLES MOURICES DE TALLEYRAND - PERI - GORD) ابر بخفاف: (PRINCE DE BENEVENT) ديبلوماسي إفرنسي من مواليد باريس (1754 - 1838 م) عمدة أوتون خلال أيام النظام الملكي، وأصبح رئيسا للمجلس الوطني سنة 1790، ثم وزيرا للخارجية أثناء حكومة المديرين (ديريكتوار) ثم عضوا قنصليا في آخر أيام نابليون. كان له دور كبير في إعادة الملكية الإفرنسية، ومارس نشاطا بارزا في مؤتمر فيينا سنة 1815. ثم عين سفيرا في لندن من قبل لويس فيليب واشتهر بخياله الخصب وإمكاناته الكبيرة.

تتجنب آثارة الرأي العام الأوروبي ضدها. ومن أشهر برقياته في هذا الصدد: (يجب أن لا تتكلموا أبدا عن الجزائر). حاول القادة الإفرنسيون أثناء ذلك القضاء على المقاومة الجزائرية بالقوة، على نحو ما سبق ذكره في حملات الإفرنسيين على (المدية) غير أنهم فشلوا في ذلك وقادهم هذا الفشل إلى استخلاص نتيجتين: الأولى: تجنب الإقدام على مغامرات غير محسوبة بدقة خشية تكرر الفشل. والثانية: أن المقاومة في الجزائر لم تضعف بالقضاء على حكم الداي العثماني. وأن السكان مصممون على الاستمرار في المقاومة (وهم أقوياء وشجعان ولديهم خبرات قتالية عالية). ونتيجة لذلك، وأمام الظروف الدولية، تقرر اللجوء إلى اتباع أساليب تبادلية تعتمد على المراوغة وكسب الوقت إلى أن تتوافر ظروف أفضل. مع القيام بإصلاحات إدارية تساعد على تحسين موقف الإفرنسيين. غير أنه كان من المحال تحقيق النجاح في هذه الإصلاحات، ذلك لأن فرنسا كانت ترسل إلى مستعمرتها فيما وراء البحار المغامرين من ضباطها وجنودها، وكانت تنظر إلى هذه الممتلكات الجديدة نظرة الجشع، فكانت تريد استثمار الجزائر بأعنف الطرف وأقل المصاريف، ومعاملة الجزائريين بالعنف والقسوة. وأدى ذلك إلى زيادة المقاومة، مما حمل الساسة الإفرنسيين على التردد، وطرح التساؤلات التي كان من أبرزها: هل يجب البقاء في الجزائر أم لا؟ وإذا كان لا بد من الاحتفاظ بها فما هي أفضل طريقة لإدارتها؟ وقد أجاب البارون. - منتلبير - على هذين

السؤالين في قصر اللوكسمبورغ - في آذار - مارس - سنة 1831 بقوله: (أن احتلال الجزائر هام جدا إلى درجة ان الوزير الذي يجرؤ على توقيع صك الجلاء يستحق أن يحاكم بتهمة الخيانة العظمى) وفي اليوم التالي أعلن مارشال فرنسا (في 10 آذار - مارس) أثناء مناقشة الميزانية الحربية: (أن الأمر الحقيقي هو أن نحتل الجزائر، ولا يوجد أي مجال لأي اعتراض بأن الحكومة تفكر في الجلاء عنها). وفي 19 شباط (فبراير) 1932 - أعلن وزير الخارجيه الإفرنسية - الدوق دو بروغلي - (¬1) (لقد ظهر بعض القلق والحذر عما يشاع من وجود اتفاقات سياسية تمنع الحكومة من ممارسة ما تريده في الجزائر، وأنا أوكد لأعضاء مجلس النواب، بأنه لا يوجد أي تعهد مع أية دولة أخرى تجاه هذا الموضوع. وأن فرنسا هي مطلقة الحرية بالتصرف في الجزائر بما يتناسب مع شرفها (؟) ومصالحها). غير أنه كان من الصعب على الحكومة الإفرنسية تجاهل مجموعة العوامل التي باتت تجابه الموقف. وظهرت فكرة إرسال لجنة تحقيق واجبها دراسة الموقف على الطبيعة، وإعداد تقرير يتضمن اقتراحات واضحة حول مستقبل البلاد. وكانت العوامل التي أدت إلى تشكيل هذه اللجنة التي حملت اسم (اللجنة الإفريقية) هي: 1 - المناقشة الحادة التي جرت في البرلمان حول تخصيص ميزانية لمواصلة الحرب في الجزائر. 2 - الحملة التي قام بها بعض ¬

_ (¬1) دوبروغلي: LEONCE VICTOR DUC DE BROGLIE وزير خارحة أيام الملك لويس فيليب (1785 - 1870). وهو من عائلة مارست دورا كبيرا في حياة فرنسا بسبب ما قدمته من القادة العسكريين ورجال السياسة والمال والعلماء - ويعود أصل العائلة إلى (بييمونت).

الجزائريين المنفيين - وبصورة خاصه حمدان خوجة - ضد تصرفات الإدارة الإفرنسية في الجزائر. 3 - تهدئة ثورة الرأي العام الأوروبي المضاد لفرنسا وكسب الوقت. 4 - تحديد موقف رسمي من قضية الاحتفاظ بالجزائر أو التخلي عنها. 5 - دراسة الأساليب الممكنة والطرائق الناجعة لإدارة الجزائر. وقد أصدر المارشال (سولت) تصريحا أعلن فيه رسميا: (أن الهدف من تشكيل اللجنة هو جمع المعلومات التي تساعد الحكومة على معرفة الموقف العام للجزائر في حاضرها ومستقبلها). وافق ملك فرنسا (لويس فيليب) (¬1) على تشكيل هذه اللجنة في 7 تموز - يوليو - 1833 كما قرر الملك في الوقت ذاته أن تنضم هذه اللجنة بعد عودتها من الجزائر، إلى لجنة أخرى (أكثر اتساعا) ¬

_ (¬1) لويس فيليب: (LOUIS - PHILIPPE I.ER) ابن فيليب - المساواة (PHILIPPE - EGALITE) ولويس دوبوربون - بانتيير؛ ولد في باريس سنة 1773، وأصبح ملكا لفرسا سنة 1830 حتى سنة 1848 ومات فى كلير مونت (CLAIRE) في إنكلترا سنة 1850 م. وكان قد أسهم بدور كبير وحاسم في معركة فالمي (VALMY) على المارن والتي انتصر فيها الإفرنسيون على البروسيين سنة 1792 م. وكذلك في معركة جيماب (JEMMAPES) وهي القرية البلجيكية القريبة من لييج والتي انتصر فيها ديمورييه أيضا (DUMOURIEZ) على النمساويين سنة 1792، وعاش بعد ذلك في المنفى حياة غامضة، ثم تزوج من ماري إميلى دوبوربون، وعاد إلى فرنسا في عهد الملك لويس الثامن عشر، حيث نودي به قائدا عاما للملكة، ثم ملكا في 7 آب - اغسطس - وساعده في البداية بعض الوزراء. الليبيراليين، غير أنه لم يلبث أن زاد في اعتماده تدريجيا على المحافظين وأبعد عنه الليبيراليين. فقامت ضده حركة ثورية (عصيان) أمكن له قمعها في 5 و6 حزيران - يونيو - 1840 بعد أن استمرت منذ سنة 1832 م. وقضى كذلك على كل الحركات المضادة التي قادها ضده النابوليون. وأثار تحالفه مع إنكلترا نقمة الشعب الإفرنسي.

لاتخاذ القرارات المناسبة. وقد وصلت هذه اللجنة إلى الجزائر يوم 2 - أيلول - سبتمبر - من السنة ذاتها. وبدأت عملها على الفور لتنفيذ تعليمات الحكومة التي حددت لأعضاء اللجنة مجموعة من التعليمات والنقاط التي ترغب الحكومة في معرفتها، والتي تتطلب منها إيجاد حلول للمشاكل الهامة التي كانت تواجهها الجزائر. كما أعطت الحكومة إلى (اللجنة الإفريقية) برنامج عمل مفصل تسير على ضوئه. وتبرز النقاط التي احتواها برنامج العمل المذكور أن الحكومة الإفرنسية قررت مسبقا ما ستفعله بالجزائر - الإبقاء على الاحتلال. وأن إرسال اللجنة المذكورة ما هو إلا محاولة لإعطاء موقفها صورة شرعية عادلة يكسبها شعبية واسعة ودعما جماهيريا (في فرنسا لا في الجزائر). وعلى هذا الأساس استقبلت اللجنة في اليوم التالي لوصولها أرض الجزائر ممثلي السلطات العسكرية والمدنيه في الجزائر، وأعضاء الغرفة التجارية، ولجنة استعمار الأراضي، ووفود المستوطنين الإفرنسيين - الكولون - ووفد التجار الأوروبيين، ووفد أعيان العرب الحضريين - المور - بالإضافة إلى وفد عن يهود الجزائر. قسمت اللجنة الإفريقية عملها على أفرادها بحسب اختصاصاتهم، فاختص رئيسها (الجنرال بوني) (¬1) بالمسائل العسكرية، والجنرال (مونفور) (¬2) بالطرق والقناطر، والسيد (دوفال داي) (¬3) بالبحرية. والسيد (لورانس) (¬4) بالإدارة والتشريع والقضاء. والسيد (د. أوبرسار) (¬5) بالمالية والضرائب والعقارات. ¬

_ (¬1) الجنرال بوني: (GEN. BONNET) (¬2) مونفور: (MONTFORT) . (¬3) دوفال داي: (D. DAILLY) (¬4) لورانس: (LAURENCE) (¬5) د. أوبرسار: (D.AUBERSSART)

والسيد (وينار) (¬1) بالتحارة والصناعة والجمارك، والسيد (دي لا بينسونيير) (¬2) بالزراعة واستثمار الأراضي. وبقي نائب البرلمان (بيسكاترري) (¬3) كاتبا للجنة. كانت (التعليمات) التي سلمتها الحكومة إلى اللجنة تحتوي على 24 صفحة وفيها أسئلة كان على اللجنة أن تجيب عليها، ومنها: هل تحتفظ فرنسا بالجزائر أو تتخلى عنها؟ وفي الحالتين: ما هي فائدة فرنسا؟ ثم ما هي طريقة العمل المناسبة إذا كان الاحتفاظ بالجزائر هو الحل المقترح؟ وما الوسائل التي يجب على الحكومة استخدامها لتنفيذ الاقتراح؟ وكانت التعليمات أيضا تقضي بأن تشرح اللجنة جميع أوجه الحالة الراهنة في الجزائر. مع وصف حالة السكان الجزائريين، وطبقاتهم الاجتماعية وحالة الأراضي. والأمر الواضح هو أن مهمة اللجنة قد حددت بالبحث عن الرسائل للاحتفاظ بالجزائر على ضوء تجربة السنوات السابقة وليس الإجابة على ما إذا كان الاحتفاظ بالجزائر جائزا أو ممكنا. عقدت (الجنة الإفرقية) أول جلسة عمل لها يوم 6 أيلول (سبتمر) 1833، ثم انطلقت بعد ذلك للقيام بجولة في مدينة الجزائر وضواحيها، فزارت المؤسسات العامة، وسهل متيجة متنقلة من (الحميز) إلى (البليدة) وأثناء ذلك زارت المراكز العسكرية، وتنقلت في الطرق الجديدة باحثة عن المنشآت الصناعية التي قيل لها أنها قد أقيمت فوق أرض الجزائر. وفي 14 من أيلول - سبتمبر - ¬

_ (¬1) رينار: (REYNARD) (¬2) د لابينسونيير: (DE LA PISSONNIERE) (¬3) بيسكانوري: (PISCATORY)

قامت اللجنة بزيارة (عنابة) وتجولت في بعض مناطقها التي أصبحت خاضعة للإفرنسيين. وفي 4 تشرين الأول - أكتوبر - ذهبت إلى مدينة (وهران) وتجولت في ضواحيها. وزارت خليج (أرزيو في 15 تشرين الأول - أكتوبر -. وحاولت زيارة (مستغانم) غير أنها لم تتمكن من ذلك. وفي 16 من الشهر المذكور، زار بعض أعضاء اللجنة مدينة (بجاية) التي كان الإفرنسيون قد استولوا عليها حديثا. وأخيرا عادت اللجنة إلى مدينة الجزائر في 23 تشرين الأول - أكتوبر -، لتبدأ في اليوم التالي جلساتها التي بلغ عددها (30) جلسة. تمت خلالها مناقشة الموقف من كل النواحي. وكانت العلاقات مع العرب هي أساس البحث فطرحت مناقشة الموقف من ثلاث زوايا: 1 - اتباع سياسة المهادنة - اللين - مع العرب حتى يمكن دمجهم في المجتمع الأوروبي الجديد. 2 - مواصلة الحرب ضدهم دونما أي هوادة حتى تتم إبادتهم أو دحرهم وإبعادهم عن المناطق التي احتلتها القوات الإفرنسية أو التي ستقوم باحتلالها. 3 - إحلال التشريعات الإفرنسية محل التشريعات المحلية بهدف إبعاد العرب تدريجيا عن المناطق التي تدخل تحت السيطرة الإفرنسية. تلخصت أفكار اللجنة الإفريقية ووجهات نظرها بالتالي: 1 - أن السلطة الإفرنسية بالجزائر غير ملزمة بالاتفاقات التي يتم عقدها مع الوطنيين الجزائريين باعتبار أن هذه الاتفاقات والمعاهدات تدخل في إطار (استراتيجية الحرب وليست سلاما دائما). 2 - من المحال أن تطبق فرنسا النظام الذي كانت تتبعه الإدارة العثمانية، لأن الأتراك كانوا على دين العرب ولهم نفس العادات

والتقاليد العربية. ولذا يجب على فرنسا تطبيق النظام والتقاليد الإفرنسية. 3 - إحلال جاليات غربية محل السكان الأصليين، وإفساح المجال لغير الإفرنسيين للهجرة والاستيطان في الجزائر على أن تعطى الأفضلية للإفرنسيين. 4 - تركيز جميع السلطات في الجزائر - المدنية منها والعسكرية - في قبضة سلطة عليا، هي سلطة الحاكم العام الذي اقترحت اللجنه إيجاد منصبه. مع تحديد صلة كل وزارة إفرنسية بهذا (الحاكم العام) مع تشكيل مجلس بلدي يساعده في عمله، وتكوين هيئة إدارية تشابه في تكوينها النظام المتبع في فرنسا (الوطن الأم.) 5 - الاحتفاظ بالجزائر تحت اسم (الممتلكات الإفرنسية في إفريقيا). 6 - تشكيل المجلس البلدي من عناصر مختلطه فيها ممثلين عن العرب واليهود على ألا يزيد عدد العرب عن عدد الإفرنسيين، ومهمة المجلس النظر في أمور الإدارة المحلية. عادت هذه اللجنة بعد ذلك إلى فرنسا، فشكلت لجنة أكبر، عقدت أول جلساتها في 22 كانون الأول - ديسمبر 1833 ثم استمرت هذه الجلسات التي زادت على 51 جلسة انتهت في شباط - فبراير - 1834. وأقرت اللجنة معظم مقترحات (اللجنة الإفريقية). وكان من أبرز النقاط في قرار (اللجنة الموسعة) ما يلي: 1 - الاحتفاظ بالمؤسسات الدينية الخيرية، حرصا من اللجنة

على تأمين الموارد الاقتصادية للخزينة الإفرنسية، حيث قدر الدخل السنوي لأملاك (مكة والمدينة) بمبلغ (400) ألف فرنك فيما إذا تمت إدارة هذه الأملاك بصورة جيدة (¬1). 2 - أوصت اللجنة بجعل الجزائر كلها أملاكا إفرنسية - دائمة وثابتة - وأنه يجب على فرنسا ألا تبقى في المدن الساحلية فقط، بل يجب عليها جعل تلك المدن مراكز أمامية لإمداد الجيش بضرورة حملات عسكرية توسعية في داخل البلاد لإخضاع كامل البلاد للسيطرة الإفرنسية. 3 - مقاومة كل فكرة للتخلي عن الجزائر: (إذ أن التخلي عنها هو إهانة جديدة لشرف فرسا (؟) علاوة على أنه يشكل صدمة لذاتية الأمة الإفرنسية الشرعية مما يؤدي أيضا إلى التضحية بالتجارة وبالتوسع السياسي لفرنسا وإلى تحطيم الآمال) وهكذا فحين جرى التصويت في البرلمان الإفرنسي جاءت النتيجة 17 صوتا لصالح الاحتفاظ بالجزائر مقابل صوتين لصالح التخلي عنها. وظهر للجزائريين قبل كل شيء، وللعالم كله، أن القضية ليست قضية تأديب (للداي حسن باشا) أو إخراج للأتراك من الجزائر يتبعها انسحاب إفرنسي، وإنما القضية قضية (احتلال واستعمار استيطاني). وأسفرت فرنسا عن وجهها بعد تردد، وأظهرت تصميمها على متابعة الطريق على الرغم من بعض الاحتجاجات في فرنسا ذاتها. مثل النائب الذي رفع صوته عند ¬

_ (¬1) قدرت اللجنة عدد منازل وعقارات المؤسسات الخيرية - أملاك مكة والمدينة في مدينة الجزائر (2601) منزلا من أصل خمسة آلاف منزل، بالإضافة إلى (149) منزلا في وهران و (91) منزلا في مدينة عنابة.

مناقشة قضية الجزائر في البرلمان الإفرنسي ليقول: (أن احتلال الجزائر ليس إلا محاولة جنونية، وهو هوة سحيقة تستنزف جميع خيرات البلاد الإفرنسية) أو قول مقرر الميزانية الحربية عند مناقشة موازنة سنة 1843: (إنني أفضل أن استبدل الجزائر يأجمعها بكوخ صغير من أراضي الراين). خلال تلك الفترة من سنة 1834، لم تكن فرنسا قد سيطرت عسكريا إلا على المنطقة الساحلية، فقد احتلت وهران (سنة 1830) في الغرب وتبعتها مستغانم وأرزيو (سنة 1833). وكانت مدينة الجزائر وأطرافها بأيديهم في الوسط. أما في الشرق، فقد خضعت عنابة (بونه) لحكم متناوبا للسلطات الوطنية والإفرسمة، إذ احتلها الإفرنسيون مرات متعاقبة وأخلوها بعد أن مني الإفرنسيون بخسائر جسيمة، وصلت أحيانا إلى حد ذبح الحامية الإفرنسية بكاملها. أما بين عنابة والجزائر، وفي موقع متوسط بينهما، فقد كان هناك خليج بحري تقوم بجنوبه (بوجي) التي احتلتها في سنة 1833 حملة إفرنسية جاءت إليها من فرنسا مباشرة. غير أن قوات هذه الحملة بقيت محاصرة داخل المدينة، حيث كان رجال القبائل المنتشرين على مقربة منها يهاجمون القوات الإفرنسية باستمرار. ولم يكن من السهل إخضاع هذه القبائل أو مخالفتهم. أو اجتياز الطرق عبر أراضيهم، فبقيتا القوات الإفرنسية محاصرة فوق أرض الساحل. ولقد حاول الإفرنسيون التوسع نحو الداخل، غير أن تقدمهم كان بطيئا جدا بسبب المقاومة المتصاعدة. ولم تكن سهول متيجة (متوجة) في جنوب مدينة الجزائر هادئة أو خاضعة خضوعا تاما للإفرنسيين وذلك بسبب سيطرة القبائل العربية العديدة على أرض هذا السهل.

الفصل الثالث

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (*) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة الأنفال الآية 26 و 27). الفصل الثالث 1 - في النظرية الاستعمارية. 2 - في الجهاد - والمقاومة.

في النظرية الاستعمارية

1 - في النظرية الاستعمارية تبرز عملية احتلال فرنسا للجزائر النموذج المتكامل للحروب الاستعمارية والتي تضم ذماذج متنوعة من الأعمال القتالية التي تؤدي بطبيعتها لاندلاع (الحروب الثوروية). وتعتبر عملية غزو الجزائر بسيطة في خطوطها العامة، حيث قام (فيلق الغزو) بتركيز ثقل هجمته على نقطة معينة من أرض الساحل، ثم نظم قاعدته للقيام بهجوم حاسم ضد كتلة القوات الرئيسية، ووقعت قيادة هذه القوات بالخطيئة القاتلة، حيث بالغت كثيرا في تقويم قدراتها الذاتية وتجاربها القتالية، مما أدى بها إلى الاستهانة بقوات الغزو التي لم تقدم على تنفيذ كل خطوة من خطواتها إلا بعد دراسة دقيقة للموقف وإلا بعد جمع معلومات كافية لطبيعة مسرح العمليات وقدرات الوطنيين وإمكاناتهم القتالية وأساليبهم الخ ... وهكذا، ومقابل استهانة (الداي حسين) بقوات الخصم، كان قائد قوات الغزو (دوبورمون) يعرف مراحل عملياته بدقة، فكانت المعركة الرئيسية في (اسطاوالي) اختبارا قاسيا لحوار الإرادات المتصارعة ولحوار الأسلحة المتفوقة في الوقت ذاته، وقد أفادت قوات الغزو من تفوق وسائلها النارية وكثافة قواتها لمجابهة قوات تفتقر إلى

التنظيم الصحيح وإلى وسائل القتال المناسبة. وفي الواقع، فقد كانت الإمكانات القتالية فوق أرض الجزائر متوافرة، غير أنه لم يتم حشدها بكاملها فاستطاعت القوات الإفرنسية أن تلتهم القوات التي كان يتم تقديمها على مراحل متتالية. أخذت قوات الغزو بعد ذلك في التوسع (على طريقة بقعة الزيت) أو (الخرشوفة). وقد أصيبت خلال هذه المرحلة بمجموعة من الانتكاسات والهزائم الناجمة عن تعاظم المقاومة، وعندئذ لجأت السلطات الاستعمارية إلى أساليب تبادلية تمزج بين (الصراع السياسي) الصراع العسكري) وذلك عن طريق تهدئة بعض الجبهات لتركيز الجهد على جبهة واحدة، يتم تدمير المقاومة فيها، ثم يتم الانتقال إلى منطقة أخرى، وهكذا. لقد عملت فرنسا في تنفيذ (نظرية الاستعمار) بعزل الجزائر أولا عن العالم الخارجي (وسبقت الإشارة إلى أن (أحمد باي قسنطينة) كان يجد صعوبة حتى في إرسال رسائله إلى دار الخلافة - في إستانبول - بسبب هذا الحصار - كما عزلت الجزائر عن جوارها (تونس والمغرب) وبذلك أمكن لها تركيز كل ثقلها العسكري ضد الجزائر. وتم تطوير هذه النظرية فوق أرض الجزائر ذاتها، فكانت الإدارة الإفرنسية تقود عملياتها ضد كل أقليم، أو حتى كل مدينة، بمعزل عن بقية مراكز المقاومة، وساعد في نجاح هذه الخطة ما كان بين قادة مراكز المقاومة من تناقضات استثمرتها الإدارة الاستعمارية إلى أبعد الحدود، حتى أنها استطاعت تدمير المراكز الثوروية عن طريق ضرب بعضها ببعض مما أدى إلى إضعافها جميعا. انصرفت الإدارة الاستعمارية بعد ذلك لتأمين (هدف

الاستعمار) وتحقيق (النهب الاستعماري) وهو ما عبر عنه سفير السويد بقوله: (كان من ينظر إلى نقل المغانم إلى فرنسا يظن أن فرنسا على وشك الجلاء، في حين كان من ينظر إلى إقامة الحاميات وشق الطرق وتدعيم التحصينات يعرف أن فرنسا باقية في البلاد) ولقد استمرت هذه الظاهرة في الواقع، مرافقة للعهد الاستعماري طوال فترة الاستعمار. وقد حاولت فرنسا منذ البداية تنظيم إدارتها على الأسس التالية: 1 - الاعتماد على فئات الأقليات في البلاد - أو تلك القوى الوطنية والمراكز الدينية - التي يمكن لها تقديم الدعم للإدارة الاستعمارية، ولو بصورة مرحلية، من أجل إدارة البلاد مع إبقاء هذه الفئات أو العناصر المتعاونة مع الإدارة الاستعمارية تحت المراقبة الشديدة. 2 - تشكيل قوات عسكرية من أبناء البلاد، للتخفيف من أعباء النفقات الاستعمارية من جهة، ولتوفير القدرة البشرية الاستعمارية. مع محاولة اقتلاع هذه القوات من بيئتها وعزلها حتى تصبح أكثر طواعية لتنفيذ الإرادة الأجنبية المضاده بطبيعتها للإرادة الوطنيه (الزواف - واللفيف الأجنبي .. الخ ...). 3 - عدم السماح بتشكيل مراكز القوى، ومحاولة التدمير المستمر لهذه المراكز (سياسيا وعسكريا) بكل الأساليب المتوافرة للإستعمار من نهب وتشريد وتوجيه اتهامات ملفقه ومزورة. 4 - تدمير مواقع الصمود المعنوية، ومن هنا فقد جاء الهجوم على المساجد وأماكن العبادة والحملة الصليبية على الإسلام كوسيلة وغاية في وقت واحد، وسيلة لإضعاف المقاومة الجزائرية

من جهة، وغاية (في إطار الحروب الصليبية الشاملة) التي تضمن تأمين عملية النهب الاستعماري. 5 - تطوير عملية (الهجرة والاستيطان) في محاولة لإيجاد مراكز قوى يمكن الاعتماد عليها بصورة ثابتة لتحقيق هدف مزدوج (تأمين النهب الاستعماري والتوسع فيه) و (تخفيف نفقات النهب الاستعماري) بتحميل هؤلاء المستوطنين قسما من أعباء الدفاع. 6 - الإفادة من الانتصارات التي تحرزها القوات العسكرية لدعم مبدأ الاستعمار (تفوق الرجل الأوروبي - الأبيض) وتعزيز (الهيبة الاستعمارية للقوة التي لا تقهر). وإعادة ذلك إلى (تفوق الديانة المسيحية) وفضائلها وكذلك التقدم الحضاري للغرب والذي يقابله التخلف الحضاري والوحشية للعرب والمسلمين بصرف النظر عن المضامين الحقيقية لهذه الشعارات، وينخدع المواطنون - بعضهم بداهة - فيصدقون المزاعم الاستعمارية، وينتقلون بصورة طبيعية إلى المعسكر المضاد للتطلعات الوطنية والقومية ويصبحون - ولو إلى حين - في الخندق المعادي لأمتهم. المثير في الأمر هو تبدل الإدارات الإفرنسية بسرعة مذهلة خلال مرحلة الغزو الاستعماري للجزائر، فقد سقط شارل العاشر مع بداية مرحلة الهجمة الاستعمارية، وتغيرت أنظمة متتالية، وفي الوقت ذاته تبدلت الأجهزة القيادية العسكرية تبدلا سريعا سواء بنتيجة التحولات السياسية في فرسا، أو بسبب الفشل الذي كان يلاحق عمليات الغزو. وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم أيضا من ظواهر التخبط، فقد بقي هناك محرض ثابت يكمن وراء الغزو والتوسع: أولها: وجود محرض عسكري خلفته الثورة الإفرنسية للتوسع

فيما وراء البحار، فقد كونت الثورة وما أعقبها من حروب (الحروب النابوليونية) أجهزة عسكرية ضخمة تطمح لإثبات وجودها من جهة وللتعويض عما فقدته فرنسا في عهود الملكية من مستعمرات فيما وراء البحار (انتزعتها من قبضتها بريطانيا بفضل قدرتها العسكرية المتعاظمة في البحر). ومن الملاحظ أن معظم القادة (الجنرالات) كانوا من الذين خاضوا الحروب تحت راية نابليون بونابرت. ثانيها: وجود محرض اقتصادي أبرزته القدرة الصناعية المتعاظمة والحاجة للأسواق الخارجية وظهر ذلك بوضوح تام منذ أن وطئت أقدام الغزاة أرض الجزائر. ثالثها: وجود محرض ديني يشكل حافزا قويا لتغطية عملية الاستعمار القذرة بغطاء ديني (إيديولوجي) فاصل، واستخدام هذا الحافز لتحريض المقاتلين على تنفيذ عملياتهم بوحشية وقسوة (وهذا ما يترجم أو يفسر عملية الإبادة الوحشية للمسلمين والإعتداء على مقدساتهم ومساجدهم وأوقافهم). وعلى الرغم من أن هذا المحرض قد يحتل المرتبة الثالثة بعد العاملين السابقين، إلا أنه احتل المرتبة الأولى عند التطبيق العملي والممارسة الواقعية، وذلك لأن النجاح في تحقيق أهداف المحرضين أو العاملين السابقين إنما يرتبط بالقدرة على تدمير المقاومة الجزائرية. وتدمير هذه المقاومة يرتبط بدوره بحرمانها من قاعدتها الدينية الصليبية وإضعاف هذه القاعدة بإحلال قيم جديدة تحمل ظواهر (حضارية) خادعة. وعندما يتساوى الطرفان المتصارعان - أو يلتقيان - على القاعدة المعنوية الجديدة، يبقى التفوق المادي في قبضة الإرادة الاستعمارية التي يمكن لها حسم الصراع النهائي لمصلحتها.

غير أن الوصول إلى هذا الهدف، يتطلب وجود تفوق حقيقي - لا وهمي - وقد كانت فرنسا تتفوق على الجزائر تفوقا وهميا (في حجم القوى وفي القدرة القتالية وفي المستوى العلمي والاجتماعي) ومن هنا كان من الصعب على فرنسا إقناع الجزائر بقصورها وتخلفها أو بضعف قاعدتها الدينية فكان لابد - بالتالي - من استخدام وسيلة الإكراه بالقمع والقوة لتكوين هذه القناعات الجديدة، مع إيجاد الوسائل الكفيلة بدحر الجزائر في هذه المجالات. وهذا ما يفسر أساليب الإدارات الإفرنسية المتتالية لتعميم الجهل ولإفقار الشعب الجزائري (وتجويعه) حتى يستكين للإدارة الاستعمارية. ومن الملاحظ أن الأسس والعوامل هذه والتي رافقت الاستعمار منذ بدايته قد استمرت وتطورت بصورة منهجية وثابتة طوال عهود الاستعمار، على الرغم مما كان بين هذه العهود من متناقصات ومفارقات مثيرة.

في الجهاد والمقاومة

2 - في الجهاد والمقاومة لم تكن الجزائر المجاهدة (المحروسة) يوم اجتاحتها جحافل الغزاة البرابرة بالبلد الفارغ من القدرة (فقد كان سكانه في حدود العشرة ملايين). ولم يكن أفراد شعبه بالجهلة، (فقد كان معظم أبنائه من المتعلمين الذين يجيد أكثرهم القراءة والكتابة) وإذا كانت بعض التخصصات العلمية مفقودة، فقد كان هناك ما يملأ هذا الفراغ من الخبرات الطبية المتوارثة والتي عادت اليوم للظهور رغم كل تطور علمي وتقني (التداوي بالأعشاب والطرائق الطبيعية الخ ..) ولم يكن الشعب الجزائري فقيرا، أو بائسا، فقد كانت موارده وفيرة وتجارته مزدهرة بحسب كل الشواهد المتوافرة. ولم يكن أفراد هذا الشعب يجهلون استخدام السلاح، إذ كانت لهم خبراتهم القتالية بسبب ممارساتهم المستمرة للجهاد في البر والبحر. من هنا ظهرت الصعوبة الأولى التي جابهت الإرادة الاستعمارية والتي أصيبت بالإحباط إذ أنها لم تتمكن بعد انتصارها الأولي من الحصول على انتصارات سهلة ورخيصة. ولكن على الرغم من ذلك، فلا بد من الإشارة إلى الثغرات التي ظهرت في

أوساط المقاومة وأضعفتها، مما ساعد الإرادة الإفرنسية على تنفيذ مخططاتها الاستعمارية: 1 - خاضت قوات المقاومة معاركها بصورة متنافرة، ومتضادة في معظم الأحيان، وكان كل مركز من مراكز القوى هذه يعتقد في نفسه القدرة على مجابهة (جيش الغزو). وقد استطاعت بعض المعارك الظافرة من تعزيز هذا الشعور بالقوة الوهمية. وتجاهلت قيادات مراكز هذه القوى الإرادة الواحدة الموجهة للقوى الاستعمارية والتي يمكن لها باستمرار تأمين تفوق بالقوى وبوسائط القتال لإحراز نصر عسكري حاسم. 2 - لم تفد مراكز القوى المقاومة من تجاربها القتالية السابقة، فقد أمكن لها تحقيق الانتصارات في معاركها باستمرار عن طريق استنزاف قدرة العدو قبل الانتقال للمعركة الحاسمة. في حين خاضت فرنسا معاركها في هذه المرة بطريقة الجزائر ذاتها، حيث عملت على استنزاف القدرة الجزائرية في معارك متتالية قبل الوصول إلى الحسم. وكانت موارد فرنسا تسمح لها بالتعويض عما تفقده في حروب الاستنزاف فى حين كانت وسائل المجاهدين محدودة في التعويض عن خسائرهم، وهذا ما يفسر انهيار قيادات المقاومة بعد خسارة كل معركة حاسمة. 3 - خاضت الجزائر معاركها السياسية بمعزل عن معاركها العسكرية، ولقد تولى (حضر الجزائر) قيادة الصراع السياسي مع السلطات الاستعمارية بصورة إفرادية، وبصورة منعزلة تقريبا عن القيادات العسكرية في الأقاليم. ومن هنا كان الطابع العام للصراع السياسي فرديا. وقد أسهمت الإدارة الاستعمارية بتعزيز هذه الفردية

لإضعاف كل تكتل سياسي، فكان الجزائريون يقولون ما يريدون وتفعل الإدارة الاستعمارية ما تريد. 4 - لقد رافق عزل الجزائر عسكريا ضرب نطاق مماثل من العزلة السياسية. فأمكن بذلك إضعاف المقاومة معنويا، الأمر الذي انعكس على القدرة القتالية للمجاهدين. 5 - ساعد هذا المناخ على ظهور المغامرين والطامعين والانتهازيين الذين أسهموا في إضعاف قدرة الجزائر على الصمود والمقاومة. وشكلوا طابورا خامسا لمصلحة أعداء البلاد. وعلى الرغم من (صحوة كثير من هؤلاء) غير أن عودة الوعي جاءت متأخرة فانتهى الأمر بهم إلى نهايات مأساوية إذ أصبحوا منبوذين داخليا ومنبوذين من الإدارة الاستعمارية بعد أن استنزفت غايات وجودهم. 6 - مارست الأقلية اليهودية دورا كبيرا في تثبيت دعائم الاستعمار الإفرنسي في الجزائر بفضل تحالفها معه، وعلى الرغم من أن (فكرة الصهيونية) لم تكن قد ظهرت بعد، إلا أن تجربة يهود الجزائر قد أفسحت المجال أمام (المخططات الاستعمارية) للإفادة من هذه التجربة وتطويرها خلال مرحلة المد الاستعماري عبر العالم العربي - الإسلامي. 7 - لم تحاول المقاومة الجزائرية، ولو مجرد محاولة، مهادنة الاستعمار الصليبي، فقد عرفت بفضل خبراتها المتوارثة، وبفضل عقيدتها الإسلامية الصلبة، ما يراد لها عبر الهجمة الصليبيه الشرسة، فانسحب من وجه الاستعمار، وتقوقعت في عزلتها، محتفظة بأصالتها الثوروية، متمسكة بقواعد ثباتها وصمودها،

مجاهدة بكل قدراتها على إحباط مخططات أعداء الدين - مختارة في كل مناسبة الطرائق المناسبة، فإذا كانت قد عجزت عن إيقاف الزحف الصليبي على الجزائر المحروسة إلا أنها لم تعجز عن ازدراء هؤلاء الصليبيين (بالسلبية والصمت). 8 - وكما كان شعب الجزائر المجاهد هو المحرض على الجهاد، وهو الذي يوجه التيار أمام القادة في عهود النصر (أيام الأتراك العثمانيين ضد الإسبانيين، وخلال أعمال الجهاد في البحر). فقد بقي هذا الشعب هو المحرض على الجهاد أيام الانتكاسات والهزائم؛ إذ انه كان يتحرك خلف القيادات الأكثر إخلاصا والأكثر إلتزاما بحمل أعباء الجهاد في سبيل الله. وهذا ما يفسر على سبيل المثال قدرة (باي قسنطينة) على الصمود طويلا، رغم كل الظروف الصعبة التي كانت تحيط به. وعلى الرغم من كل المؤامرات الداخلية والخارجية. قد يكون من المثير بعد ذلك ملاحظة هذه العوامل، ومراقبة تطوراتها عبر الصراع الطويل الذي خاضته الجزائر المجاهدة طوال ليل الاستعمار. لقد انتصرت فرنسا في الجولة الأولى، وأسقطت (الداي حسين باشا) غير أنها لم تتمكن من الانتصار على شعب الجزائر. وتمكنت من تمزيق القيادات الجزائرية، غير أنها لم تتمكن من تمزيق الشعب الجزائري. ونجحت في تكوين فئة من العملاء، غير أنها لم تتمكن من تحطيم ما يملكه الشعب من أنفة وكبرياء ودمرت المساجد الإسلامية غير أنها لم تتمكن من إضعاف المسلمين ونهبت ثروات الجزائر

وما فوق أرضها، غير أنها لم تتمكن من سحب الأرضية الصلبة من تحت أقدام المجاهدين في سبيل الله. لقد أصيبوا بهزيمة، ونزلت بهم نازلة، غير أن القاعدة الإسلاميه أقوى من كل هزيمة وأكبر من كل نازلة، فكان لا بد من الاستمرار في حوار الإرادات عبر صراع مرير لم تعرف له البشرية مثيلا في ضراوته وعنفه وقسوته. وكان من المحال على شعب الجزائر الاستمرار في الصمود والمقاومة لولا التزامه (بحروب الإيمان).

قرءات

{{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (*) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (سورة الصف الآية 7 و8). قرءات 1 - قمة اليهودي ومروحة (دوفال) 2 - نداء (دوبرمون) إلى أهالي الجزائر عشية الغزوة الصليبية الإفرنسية. 3 - معاهدة الإستسلام التي وقعها الداي (حسين باشا) يوم 4 تموز (يوليو) 1830 م. 4 - من تقرير (اللجنة الإفريقية سنة 1833). 5 - رسائل وثائقية (للحاج أحمد باي قسنطينة).

- 1 - قصة اليهودي ومروحة دوفال

- 1 - قصة اليهودي ومروحة دوفال كانت الحكومة الإفرنسيه تشتري ما تحتاجه من المواد الغذائية من الموانىء الجزائرية بطريقة مباشرة. وتولت ذلك (الشركة الملكية الإفرنسية) ثم (الوكالة الوطنية الإفرنسية) (¬1) التي كانت تدفع ثمن ما تشتريه إلى الحكومة الجزائرية. ثم غيرت فرنسا طريقة الدفع - أثناء حكومة المؤتمر - فلجأت إلى التاجرين اليهوديين - بكري وبوشناق - ليقوما بالدفع إلى الحكومة الجزائرية نيابة عن الحكومة الإفرنسية. كان (ميشيل كوهين بكري - المعروف باسمه المستعرب ابن زاهوت) قد أقام تجارة له في أوروبا قبل أن يفتح له مركزا في الجزائر سنة (1770م). وكان هذا المركز متواضعا في البداية، غير أنه لم يلبث أن ازدهر بسرعة عندما انضم إليه الإخوة اليهود الثلاثة لبكري - ابن زاهوت - وابنه داوود، وصهره نافتالي بوشناق (المعروف باسمه ¬

_ (¬1) الشركة الملكية الإفرنية: (COMPAGNIE ROYALE D'AFRIQUE) وقامت بدلا عنها بعد الثورة الإفرنسية الوكالة الوطنية: AGENCE NATIONALE.

المستعرب أيضا - بوجناح - والذي كان بدوره من أسرة لها علاقات تجارية في الخارج وجاءت إلى مدينة الجزائر سنة 1723 تقريبا). اعتمد (بوجناح) الأسلوب الذي أتقنه اليهود في جمع الثروة واكتنازها، ووجد ضالته في تلك البيئة المتحللة من القيم الدينية والاجتماعية، وهي متوافرة في كل مجتمع وكل زمان، وقد مثلها في تلك الفترة طبقة من حكام الجزائر، وقد حفظ تاريخ الجزائر نماذج - عينات - من تلك الفئة. منهم على سبيل المثال (مصطفى بن عصانجي) (باي التيطري بين 1775 - 1795) الذي كان يخشى غضب الباشا عليه بسبب رحلاته الرتيبة إلى مدينة الجرائر في كل ثلاث سنوات، مما حمله على اعتزال الناس حتى لم تعد له الجرأة على مقابلة أحد. وهنا قام (بوجناح) بالوساطة وشجعه ومنحه ما يحتاجه من المال وتوسط له عند الباشا حتى تم تعيينه بايا (حاكما) على قسنطينة. وحفظ (مصطفى بن عصانجي) في نفسه هذا الجميل وقدره، فجعل من (بوجناح) موقع ثقته ورجل أعماله، مما مكن (بوجناح) من استثمار نفوذه وسلطته للحصول على الثروة. ويذكر هنا أن (الباي مصطفى) أراد أن يتقدم بهدية ثمينة إلى امرأة الباشا فطلب من (بوجناح) أن يأتيه بهدية ثمينة تعرف في الجزائر باسم (الصريمة) فجاءه بها وثمنها (30) ألف فرنك. ولم يدفع له الباي ثمنها، وإنما أعطاه بالمقابل (75) ألف كيلة قمح بسعر الكيلة الواحده أربع فرنكات. وحمل (بوجناح) القمح وباعه في فرنسا - وكان محتكرا لتجارة الحبوب - فبلغ ربحه من هذه الصفقه (3,450،000) فرنك فرنسي. وبذلك ازدهرت تجارة (بكري) و (بوجناح - بوشناق) تحت حماية بعض الباشوات (مثل حسن ومصطفى) وأصبح نفوذ اليهوديان

(بوجناح) و (ابن زاهوت) قويا في كل المجالات الحيوية في دولة الجزائر. وكانا على علم بأحوال البلاد الداخلية، وكانا يتجسسان على المواطنين الجزائريين لصالح الحكام. وإذا كان (ابن زاهوت) قد حدد فعالياته في مجال التجارة، فإن (بوجناح) قد تجاوز ذلك إلى حدود نشاط الدولة، فكان يرفع الموظفين والبايات ممن يخضعون له ويدمر من يقاومه أو يعترض سبيله، مما جعل الجزائريين يطلقون عليه اسم (ملك الجزائر). وبلغ من نفوذه أنه كان يستقبل هو وزملاءه - باسم الباشا - القناصل الأجانب، كما فعل مع قنصل الدانمارك والسويد وهولاندا (سنة 1801 م) كما قام هو وشركاءه اليهود بالمفاوضات من الجزائر والبرتغال. وفي سنة (1804 م) استقبل مبعوث السلطان إلى الجزائر. وتجاوز نشاط اليهوديين الحزائر، وتطور ليشمل البحر الأبيض المتوسط، فأصبحت لهما مراكزهما التجارية في مرسيليا وجنوا ونابولي وأزمير والإسكندرية وتونس وليفورنيا وقرطاجنة (الإسبانية) ومنطقة الراين وبلجيكا. وأصبح لهما بالتالي نفوذهما الواسع لدى الدول الكبيرة أو الصغيرة نظرا لما كانا يقدمانه من قروض - وعمولات - للمتعاونين معهما. وكان هذين اليهوديين مدينين للدولة الجزائرية في حين كانت فرنسا مدينة لليهوديين بمبلغ تم تقديره في سنة 1795 م بمبلغ مليونين من الفرنكات. أما دين اليهوديين للجزائر فقدر بمبلغ (300) ألف فرنك. وعين اليهوديان ممثلا لهما في مرسيليا هو (يعقوب البكري) الذي لم يلبث أن نقل نشاطه إلى باريس. وقد ثار الرأي العام الإفرنسي ضد نفوذ اليهود الجزائريين في فرنسا، ولكن الوزير الإفرنسي (تاليران) الذي كسبه اليهود، تدخل لمصلحتهم، وحمل الحكومة الإفرنسية على التراجع عن تنفيذ الإجراءات التي كانت

تعتزم اتخاذها ضدهم. كان من نتيجة ذلك، أن تورطت الحكومة الجزائرية في قضية الدين الإفرنسي المتوجب دفعه لليهود، إذ كتب (حاكم الجزائر مصطفى باشا) إلى (تاليران) يطلب إليه أن تقوم الحكومة الإفرنسية بدفع الدين الذي عليها إلى رعاياه اليهود، وأصبحت قضية الدين مطروحة على المستوى الحكومي. وأصبح (سيمون أبوقية) بعد فترة، هو ممثل تجارة يهود الجزائر في باريس، وتقدم بمذكرة إلى فرنسا عن القرض الذي بلغ (3،377،445) فرنك. وفي سنة 1802، ارتفع هذا الدين حتى بلغ (8،151،000) فرنك. وكان (باشا الجزائر) لا يفتأ يطالب الحكومة الإفرنسية بالدين الذي يجب عليها دفعه لرعاياه اليهود. ولكن بدون جدوى، ومما يذكر أن الحكومة الإفرنسية قد سجنت ممثلي يهود الجزائر في بلادها إثر إعلان الحرب بين الدولتين (1798 م) على أساس أنهم رعايا جزائريون، ثم أطلقت سراحهم بعد انتهاء الحرب (1801 م). وفي الجزائر، كان اليهود عامة، وابن زاهوت وبوجناح خاصة، يتعرضون للاضطهاد بسبب نشاطاتهم غير النظيفة، وكانت حماية (الباشا) لهم حماية موقتة لهدف معين (على نحو ما كان عليه الباشا مصطفى). وأدى تدخل اليهود السافر - والفاضح - في شؤون الدولة إلى كراهيتهم، وكان ذلك هو السبب الذي دفع أحد الإنكشارية إلى قتل (بوجناح الملقب بملك الجزائر) في صيف سنة 1805، وتبع ذلك رد فعل عنيف ضد اليهود، وفي السنة ذاتها اغتيل (مصطفى باشا) الذي كان يعمل على حمايتهم. وعندما تولى (أحمد باشا) الحكم في الجزائر، صادر أملاك (بوجناح) واضطهد الأفراد البارزين من أسة (بكري - ابن زاهوت) وقد مارس (داوود دوران) منافس (ابن زاهوت) و (بوجناح) دورا هاما

في المصير الذي لحق بصاحبيه، وفي رئاسة الطائفة اليهودية في الجزائر. غير أن أيام ازدهار (دوران) لم تكن طويلة، فقد استعاد (يوسف بكري) سمعة العائلة، كما حل ابنه (داوود) محل (دوران) في رئاسة الطائفة اليهودية. وتابع (دوران) ممارساته في الكيد لهما إلى أن نجح في تجريدهم من جميع سلطاتهم. ففي سنة 1811، قطع رأس (داوود بكري) الذي اتهم بالوشاية بالباشا لدى السلطان، وحل (دوران) محله. ولكن هذا لم يستمر في عمله سوى ثمانية شهور، لأن يوسف بكري الذي كان عجوزا قد ثأر منه لابنه داوود. غير أن سلطة يوسف لم تدم طويلا أيضا، لأن (عمر آغا) قد أمر بنفيه (سنة 1816) فذهب يوسف إلى (ليفورنيا). وقد حل محله بالجزائر (يعقوب بكري) الذي كان ممثلا لتجارة هؤلاء اليهود الجزائريين في باريس والذي لم يكن محل ثقة العائلة. ومما يذكر أنه كان قد حصل على الجنسية الإفرنسية. وأصبح يعقوب في الجزائر هو المسؤول عن التجارة التي تديرها أسرة بكري، وهو زعيم الطائفة اليهودية في الوقت ذاته. عينت الحكومة الإفرنسية لجنة رباعية لدراسة الدين الذي على فرنسا لرعايا الجزائر اليهود في سنة 1819، وقدرته اللجنة بمبلغ (42) مليون فرنك. ولكن هذا المبلغ انخفض شيئا فشيئا حتى وصل (7) ملايين فرنك فقط، نتيجة مطالبة أطراف أخرى بديونها على أسرة (بكري - بوشناق) ولكن المذكرة التي أصدرتها الحكومة الإفرنسية في 28 تشرين الأول - أكتوبر - 1819 م. أكدت أن ملك فرنسا عازم على إرضاء مطلب باشا الجزائر للمحافظة على العلاقات الودية بين الجزائر وفرنسا. (غير أن المذكرة نصت على أن فرنسا لن تسدد الدين إلا بعد إعلان الباشا التخلي عن مطالبته

بتسديد الدين له بدل بكري). وأعلن الباشا رسميا - يوم 12 نيسان - أبريل - أنه يوافق على أي طريقة لتسديد الدين - حتى لو سددت الحكومة الإفرنسية الدين الذي عليها إلى يعقوب بكري مباشرة. والأمر الواضح هو أن يعقوب سيدفع ما عليه من الدين للجزائر بمجرد استعادته لما له من دين على الحكومة الإفرنسية. وفي 24 تموز - يوليو سنة 1820 م. صدر قانون عن البرلمان الإفرنسي بتخصيص (7) ملايين فرنك لتسديد الدين إلى يعقورب بكري. وعندئذ واجهت الحكومة الإفرنسية - على ما قيل - مطالب كثيرة يدعي أصحابها بأن لهم دين عند يعقوب بكري. وأمام ذلك، أحالت الحكومة الإفرنسية القضية بكاملها إلى القضاء، وكان ذلك يعني عدم حصول (حاكم الجزائر) على ديونه المتراكمة عند (يعقوب بكري). كان (الباشا حسين) قد تولى حكم الجزائر سنة (1818 م) خلفا للباشا (علي خوجة). وقد اشتهر بالغيرة على الدين، وباليقظة الدائمة والميل إلى الأهالي. وكان دون الخمسين من عمره حين تولى الحكم. وقد ورث قضية الدين الذي على فرنسا لرعاياه اليهود. كما واجه عدة ضغوط من فرنسا وبريطانيا، بعد مؤتمر فيينا لإلغاء الرق وإبطال دفع الضريبة السنوية على الدول الأوروبية والواقع أن هناك أقوالا متضاربة حول شخصيته ومزاجه وقدرته، فبعضهم يتهمه بالقسوة والتهور والتهاون، وبعضهم يصفه بالخيرية والأمانة والشهامة. والمهم في الأمر هو أن الباشا طلب من فرنسا أن تدفع إليه شخصيا الدين الذي عليها ليعقوب بكري، وسيتولى هو وليس المحاكم الإفرنسية تسديد الديون التي على البكري للدائنين. وكتب الباشا بذلك إلى الحكومة الإفرنسية التي لم تحاول

الرد بحجة أن وزير الخارجية (البارون داماس) لم يفهم طلب الباشا طالما أن سلفه قد وافق على أن تدفع فرنسا مباشرة إلى (بكري). وقد اتهم الباشا القنصل الإفرنسي (دوفال) بإخفاء رد فرنسا عنه، وزاد في سوء التفاهم بينهما ما قاله (يعقوب البكري) من أنه دفع بعض الأموال للقنصل الإفرنسي، فزاد ذلك من عدم ثقة الباشا في القنصل. ولذلك طلب الباشا إلى فرنسا استدعاء قنصلها، ودفع الدين الذي لبكري له شخصيا. ولكن فرنسا بدلا من أن تسمي قنصلا جديدا. وفقا للعادة المتبعة في التمثيل الديبلوماسي - وبدلا من أن تجيب الباشا بخصوص الدين، أرسلت إلى الجزائر سفينة حربية بقيادة الضابط (فلوري). طالبة من الباشا دفع تعويضات معينة، ومدعية عليه إدعاءات مختلفة. ويذكر هنا أن (الباشا) قد سجن في سنة (1826) يعقوب بكري لعدم وفائه برد الدين المستحق للقنصل الإنكليزي. كما حمله على التنازل عن كل الديون التي يدعيها (بكري) على إسبانيا وفرنسا وسردينيا، وإجراء هذا التنازل للداي (حسين باشا). الذي كرر مطالبته لفرنسا بتعيين قنصل جديد ودفع الديون، وعادت فرنسا من جديد فأرسلت في هذه المرة أربع سفن حربية بقرار من مجلس الوزراء وذلك في شهر نيسان (أبريل) 1827 م. أقبل عيد الفطر الأول من شوال سنة 1243 هـ - مصادفا ليوم 27 نيسان - أبريل - 1827، وحضر القناصل الأجانب كالعادة إلى الديوان لتهنئة الباشا بالعيد. ودخل قنصل فرنسا (الجنرال دوفال) ليهنئه بعيد الفطر السعيد (وكان يتقن التركية - في حين تذكر مصادر أخرى أنه لا يتقن التركية إلا بقدر ما كان والي الجزائر حسين باشا

يتقن الإفرنسية:. فسأله حسن باشا عن سبب عدم رد ملك فرنسا على رسالته. فما كان من (دوفال) إلا أن أجابه محتدا: (ليس من العادة أن يخاطب الملك من هو أدنى منه بدون وساطة) ففهم منها الباشا أن ملك فرنسا لا يتنازل لإجابته، فاشتد غضبه وثارت ثائرته لهذه الإهانة، وصاح بالقنصل مشيرا بمروحة من ريش النعام كانت بيده (أخرج من هنا!) وبتلك الإشارة لمست أطراف المروحة وجه القنصل. فعظم هذا الأمر على (دوفال) الذي خرج صاخبا متوعدا، وطير إلى فرنسا برقية ينبىء حكومته بما جرى له، وكيف لطمه الباشا بمروحة على وجهه، فأتاه الأمر بمبارحة الجزائر حالا فهيأ أمتعته وغادر الجزائر ورافقه أكثر الإفرنسيين المقيمين هناك (¬1) فلما رأى الداي ما فعلت فرنسا بنقل رعاياها، أدرك أنها لا بد لها من أن تحاربه، فأصدر أمره بالقبض على من بقي من الإفرنسيين في بلاده، وضبط أملاكهم، وخرب قلعة - دي كار - الفرنسية. فأعلنت فرنسا الحرب على الجزائر في 16 من حزيران - يونيو - سنة 1827 م. ¬

_ (¬1) جاء في تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال - الدكتور أبو القاسم سعد الله - الجامعة العربية 1970 - القاهرة، ما يلي: (وأمر الباشا القنصل بالخروج، وعندما لم يتحرك، ضربه بالمروحة التي كانت بيده. وادعى دوفال في تقريره إلى حكومته بأنه ضربه ثلاث مرات , أما الباشا فقال بأنه ضربه لأنه أهانه. وتذهب رواية أخرى إلى أن الضرب لم يقع أصلا ولكن وقع التهديد بالضرب - وفي حاشية المصدر المذكور ص 20 - يقر خوجة - حمدان عثمان مؤلف كتاب - المرآة -: بوقوع ضربة المروحة، ولكنه يلقي المسؤولية على دوفال).

- 2 - نداء (دوبرمون) إلى أهل الجزائر عشية الغزوة الصليبية الإفرنسية

- 2 - نداء (دوبرمون) إلى أهل الجزائر عشية الغزوة الصليبية الإفرنسية بعث مارشال فرنسا (دوبرمون) وهو يقود حملته لغزو الجزائر، منشورا عملت أجهزة الاستخبارات والمباحث الإفرنسية على الترويج له، ونشره في الأوساط الجزائرية كتمهيد للحملة، وتضمن المنشور ما يلي: (باسم المبديء المعبود نستعين؛ ويا سادتي القضاة والأشراف وأكابر المشايخ والاختيارية، اقبلوا مني أكمل السلام وأشمل أشواق قلبي بمزيد العز والإكرام. أما بعد! اعلموا هداكم الله إلى الرشد والصواب أن سعادة ملك فرنسا، الملك شارل العاشر، سيدي عز جنابه الأعلى وعز نصره، قد أنعم علي بتوليته إياي - كونت دوبرمون - منصب قائد الحملة، ويا أعز أصدقائنا ومحبينا سكان الجزائر، ومن ينتمي إليكم من شعب المغرب. اعلموا: أن حاكمكم الداي حسين قد تجرأ على تحقير العلم الإفرنسي المستحق كل الاعتبار، وأقدم على إهانته، وبسبب جهله هذا ضرب القنصل الإفرنسي - دوفال - بالمروحة. ولم يعرف أنه

بعمله هذا إنما هو يجلب إليكم الكوارث والضربات، وأنه دعى عليكم الحرب من قبلنا، وأن عزة ملك فرنسا، القادر، دام ملكه، نزع الله من قلبه رحمته المعهودة ورأفته المعروفة المشهورة نجاه هذا الداي حاكمكم الذي جلب على نفسه الانتقام الهائل - لقلة بصيرته وعماوة قلبه - وقد اقترب منه القدر المحتوم وعن قريب يحل به ما استحقه من العذاب المهين. أما انتم يا شعب المغاربة، شعب الجزائر وجيرانه، اعلموا وتأكدوا يقينا أني لست قادما لمحاربتكم، وعليكم البقاء في أماكنكم آمنين مطمئنين، وأن تتابعوا أعمالك. وتمارسوا صنائعكم وحرفكم براحة، وأعدكم أنه ليس بيننا من يزيد ضركم لا في مالكم ولا في أعيانكم، وأضمن لكم أن بلادكم وأراضيكم وحقولكم ومتاجركم، وكل ما هو لكم صغيرا كان أو كبيرا، فسيبقى على ما هو عليه، ولا يتعرض لشيء من ذلك جميعه أحد من قومنا، فآمنوا بصدق كلامي. ثم إننا نعدكم وعدا حقيقيا مؤكدا غير متغير أن تبقى جوامعكم ومساجدكم معهودة معمورة على ما هي عليه الآن وأكثر، وأن لا يتعرض لكم أحد في أمور دينكم وعبادتكم. وأن حضورنا عندكم ليس هو لأجل محاربتكم. وإنما قصدنا محاربة حاكمكم (الباشا الظالم) الذي بدأ وأظهر لنا العداوة والبغضاء. فيا أيها الأحباب سكان المغرب (الجزائر وجيرانها)! وحتى تحصلوا بهلاكه وبزوال سلطانه على كل خير، وحتى يفرج عنكم ما أنتم فيه من الغم والشدة وسوء الحال، أسرعوا واغتنموا الفرصة، ولا تعمى أبصاركم عما أشرقه الله عليكم من نور اليسر والخلاص. ولا تغفلوا عما فيه مصلحتكم، بل استيقظوا لكي تتركوا حاكمكم (الباشا) هذا وتتبعوا طريقنا الذي يؤول إلى خيركم وصلاحكم وتحققوا أنه تعالى لا يبغي قط ضررا بخليقته، بل يريد

لكل واحد من مخلوقاته ما يخصه من وافر نعمه التي أسبغها على سكان أرضه. يا أيها الجزائريون أهل الإسلام! إن كلامنا هذا تعبير عن الحب الكامل لكم، ويشتمل على الصلح والمودة، فإن أنتم بعثتم مندوبيكم إلى مبعوثنا، فنتكلم حينئد وإياهم، والمرجو من الله تعالى أن تؤدي محادثتنا مع بعضنا بعض إلى ما فيه منافعكم ومصالحكم. هذا وأما إن كان منكم معاذ الله خلاف ذلك، حتى تختاروا مقاومتنا ومحاربتنا فاعلموا أن كل ما يصيبكم من المكروه والشر إنما يكون بسببه من جهتكم، فلا تلوموا إلا أنفسكم، وأيقنوا أنه ضد إرادتنا، فليكن عليكم محققا أن عساكرنا المنصورة تحيط بكم بأيسر مرام، ودون تعب، وأن الله تعالى يسلطها عليكم، فإنه تعالى كما يأمر من يجعل له النصر والظفر بالرحمة والتسامح مع الضعفاء المظلومين، فكذلك يحكم بأشد العذاب على المفسدين في الأرض، فلا بد لكم أن تعرضتم لنا بالعداوة والشر من الهلاك عن آخركم. هذا ما بدا لي أيها السادة أن أكلمكم به، فهو نصيحة مني إليكم، فلا تغفلوا عنه، واعلموا أن صلاحكم هو في قبوله والعمل بما جاء به، وأن هلاككم لا يرده عنكم أحد إن أنتم أعرضتم عما نصحتكم وأنذرتكم به، واعلموا يقينا مؤكدا بأن كلام ملكنا المنصور المحفوظ من الله تعالى هو كلام لا يمكن تغييره، لأنه مقدر. والمقدر لا بد من تحقيقه، والسلام على من اتبع وسمع وأطاع، (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ الجزائر - مجاهد مسعود - الجزء الأول - 111 - 112.

- 3 - معاهدة الاستلام التي وقعها داي الجزائر (حسين باشا) يوم 4 تموز (يوليو) 1830 م

- 3 - معاهدة الاستلام التي وقعها داي الجزائر (حسين باشا) يوم 4 تموز (يوليو) 1830 م توجه (بومزراق) مندوب الداي (حسين باشا) ومعه قنصل إنكلترا إلى المعسكر الإفرنسي مساء 4 تموز - يوليو - 1830، وسألا القائد العام عن شروط الصلح التي يريدها، فحررها لهما، فأخذها (بو مزراق) وعاد بها إلى حسين باشا فجمع رجاله وحاشيته، وتلا عليهم نص هذه الشروط، وحينئذ لم يجد الباشا بدا من توقع المعاهدة والتسليم بهذه الشروط، التي كانت: أولا: يتسلم الجند الإفرنسي حصن القصبة، وسائر الحصون الأخرى التابعة للجزائر ومرسى هذه المدينة، في الساعة العاشرة من صبيحة يوم 5 تموز - يوليو - 1830 م. ثانيا: يتعهد القائد العام للجند الإفرنسي، لصاحب السمو داي الجزائر بأن يترك له حريته وكل ثروته الخاصة. ثالثا: يستطع الداي بكل حرية أن يسافر بصحبة عائلته وأمواله إلى المكان الذي يختاره، ويكون تحت حماية القائد العام الإفرنسي طوال إقامته في الجزائر، وتسهر فرقة من الجند الإفرنسي

على حراسته وحراسة عائلته. رابعا: يتمتع كافة الجنود الأتراك التابعين لجيش الجزائر بالحقوق المقررة في الفقرات السابقة. خامسا: تكون إقامة الشعائر المحمدية الدينية حرة، ولا يقع أي مساس بحرية السكان من مختلف الطبقات، ولا بدينهم، ولا بأملاكهم، ولا بتجارتهم وصناعتهم، وتحترم نساؤهم ويتعهد القائد العام بذلك عهد الشرف. سادسا: يتم تبادل هذه الوثيقة بعد توقيعها قبل الساعة العاشرة من صباح يوم 5 تموز - يوليو - 1830 م. ويسلم الجنود الإفرنسيون فورا القصبة وقلاع المدينة الأخرى. الكونت دوبورمون ختم حسين باشا داي الجزائر

- 4 - من تقرير اللجنة الإفريقية (سنة 1833)

- 4 - من تقرير اللجنة الإفريقية (سنة 1833) مضت ثلاث سنوات على احتلال فرنسا للجزائر، لم تعرف فرنسا خلالها الهدوء أو الاستقرار وتشابكت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي دفعت ملك فرنسا، لويس فيليب، إلى تشكيل لجنة عرفت باسم (اللجنة الإفريقية) وذلك في 7 تموز - يوليو - 1833، مهمتها دراسة الموقف الشامل للجزائر، وتحديد أسس العمل للمسقبل وتضمن تقرير اللجنة المذكورة ما يلي: (لقد قضينا تماما على أملاك المؤسسات الدينية، وصادرنا ممتلكات فئة من السكان كنا قد وعدنا باحترام ملكيتها، وبدأنا استعمال سلطتنا بغرض غرامة قدرها (100) ألف فرنك كقرض إجباري، وذهبنا أحيانا إلى حد أن أجبرنا الملاك السابقين على دفع نفقات المؤسسات الخيرية إلى الغير ... وقتلنا رجالا يحملون منا ورقة الأمان. وانتهكنا دون خجل بيوت الله والمقابر والدور، وكلها ذات حرمة لدى المسلمين. وذبحنا سكان قرى عن آخرهم لمجرد الشك فيهم، ثم تبينت لنا بعد ذلك براءتهم. وحاكمنا رجالا يعرفون بالتقوى في البلاد؛ رجالا محترمين لأنه كانت لديهم

الشجاعة الكافية لمقابلتنا والتعرض لغضبتنا، لا لشيء سوى السعي لإخوان لهم بائسين. وقد قام قضاة منا بمحاكمتهم، وارتكب رجال متمدينون منا إعدامهم. لقد فقنا في البربرية هؤلاء الذين جئنا لتمدينهم) (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ الجزائر - مسعود - 1/ 134.

- 5 - رسائل وثائقية (للحاج أحمد باي قسنطينة)

- 5 - رسائل وثائقية (للحاج أحمد باي قسنطينة) ما أن سقطت العاصمة الجزائر تحت سيطرة قوات الغزو الإفرنسي، حتى أخذ الحاج أحمد باي قسنطينة على عاتقه قيادة الجهاد في سبيل الله في إقليمه، ومضى مستنفرا الهمم، منظما للقدرات والإمكانات، موجها القوى لأعمال القتال، عاملا على إدارة الحرب، منظما للعلاقات الجديدة، حريصا على صراع الأعداء سياسيا وعسكريا، محافظا في كل ذلك على نقل الموقف بأمانة إلى السلطات العليا في دار الخلافة (إستانبول) فكانت رسائله وثائق تاريخية تصور الموقف بدقة، يوم اجتاحت قوات الاستعمار الإفرنسي دار الإسلام في الجزائر. ويمكن في هذا المجال اقتطاع مقتطفات من تلك الرسائل المتشابهه أحيانا في مضمونها، والهادفة أبدا لتحقيق الغاية الواحدة: الحصول على دعم إقليم قسنطينة حتى يتمكن من مجابهة (الحملة الصليبية): 1 - وفي رسالة أحمد باي قسنطينة إلى الصدر الأعظم بتاريخ 20 ربيع الأول 1251 هـ: المصادف يوم الخميس 16 تموز -

يوليو - 1835. جاء ما يلي (¬1): (أنه تقرر في شريف علمكم ما قد حل بساحة قطرنا من المحن وتراكم الأهوال، واشتعال نار الفتنة عند دخول الإفرنسيين للجزائر دار الإسلام، وتشتت حال المسلمين، الذين هربوا بدينهم لا يدرون أين يذهبون، وصاروا في حيرة وشدة، لكون متولي أمرهم أخطأ في تدبيره، ولم يعلم أحدا من عماله وجنوده، واشترط على العدو نجاة نفسه وأهله وماله وترك المسلمين في حيرة عظيمة، فكبسهم العدو على غرة، إذ لم يكن لهم استعداد ولا عدة فاستولى عليهم الأعراب، واستحلوا منهم ما دون أنفسهم. وكنا ممن حضر وقت جباية المال بغير عدة قوية من الرجال، فقمنا بإعانة الله، وجمعنا شتاتهم، وحاربنا عدوهم، وما سلكنا بهم الطريق إلا بعد شدائد وأهوال حتى بلغوا محل الأمن من البلاد، وقهرنا أهل الشر والفساد، وبذلنا في سبيل الله وطاعتكم أنفسنا، ومالنا المخلف عن أسلافنا، وكسرنا شوكة أهل الفتن، الموقدين نارها، الخائضين تيارها، وجلبنا الرعية بالبذل الكثير والرفق والإحسان، وأسقطنا عنهم جميع المظالم السالفة والبدع الشاقة الباطلة، واكتفينا منهم بالقانون الشرعي، فطابت نفوسهم، وقرت عيونهم وسكن روعهم، ثم أمرناهم بالاستعداد والوقوف في حراسة الوطن والحذر من مكر أهل الكفر، وما زلنا على تلك الحال، باذلين النفس والمال، حيث أن الدخل الشرعي أقل من خرج ما يلزم صرفه في الجيوش والجند الكثير الوافر، ونحن واقفون به بعون الله وعزه ¬

_ (¬1) نقلت هذه الرسائل عن (خط همايون) ونشرت بكاملها في نشرة (أبطال المقاومة الجزائرية - الصادرة عن المركز الوطني للدراسات التاريخية بإشراف أحمد توفيق المدني. الجزائر - 1976) كما كانت قد نشرت في مجلة التاريخ رقم 4 - نوفمبر - 1976.

ونصره في عين الكافر. منقادين لطاعة الدولة الخاقانية، وخدمة المملكة العثمانية، نأمر بها البوادي وأهل الحاضر، معلنين بذكر اسمه الشريف في الخطب والدعاء الصالح على المنابر، مستيقظين لأحوال الرعية، والحكم بينهم بالسوية، وتسديد شأن أهل الملة الإسلامية، والوقوف عند حدود الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. غير أننا في ضيق وهم وكرب وغم من تعذر الطرقات البرية والمسالك البحرية التي حالت بيننا وبين التوصل والوصول بأخبارنا، وإنما أعرض حالنا إلى الحضرة السعيدة، ولو كان بيدنا أقرب المرامي إلينا (مثل عنابة) لكان حبلنا متصلا بمقامكم وودنا متأكد عندكم وخدمتنا مستحسنة بين يديكم ونحن الآن لا يتهيأ لنا إرسال مكتوب إلا بالحيلة والتلطف والوسيلة، فانظروا أعزكم الله في شأن من هو عاكف على الطاعة ملازم للخدمة. فإن الأمور مرجعها إليكم، وشرح حالنا لا يخفى عليكم والسلام ختام). 2 - ووجه أحمد باي قسنطينة رسالة إلى الصدر الأعظم نامق باشا في 2 ربيع الأول 1253هـ - الموافق يوم الثلاثاء 6 حزيران -يونيو - 1837 م. وهي رسالة أقرب إلى الإنذار، وفيها ما يلي بعد الدياجة: (لا يخفاكم ما حل بقطرنا ونزل بساحنا من تراكم الأهوال منذ ذهبت الجزائر إلى الآن، وقد كابدت جميعها، وقواني الله عليها. وتحملت المشاق العظام والشدائد التي لا يطيقها أحد من الأنام، كل ذلك لرفع منار الدين وإظهار طاعة أمير المؤمنين، وتماديت على ذلك منتظرا الفرج وإزاحة الحرج على يدكم. ولما قدم سفير الدولة

السيد كامل بايك، عرفته بأمورنا، وكتبت معه عرض الحال لسيدنا أدامه الله للأنام، وكذلك مكاتبي ورسلي لم ينقطعا عن السيد طاهر باشا بتفصيل حالنا، وإنهاء جميع ما عندنا، وإلى الآن لم يصلنا جواب، وقد طال علينا الحال، وتواترت الأهوال، خصوصا حيث كان عدو الدين في طلبنا، فلا راحة لنا منه إلا بسطوتكم، ... وواجب عليكم أن تشيروا علينا، وتجبروا صدعنا ... وإن لم ترفعوا بطرفكم الأعز هذا الجانب كان عرضة للتلف والمصائب ويسألكم الله عنا ... وعليكم إبلاغ خبرنا مع طوائف الكفار، ومعاشر البغاة الفجار). 3 - ووصف أحمد باي قسنطينة سقوط المدينة في قبضة الإفرنسيين، والمقاومة الضارية للمسلمين في رسالته التي وجهها إلى (حسين باشا) وإلى طرابلس الغرب في 15 رجب 1253 هـ الموافق ليوم الأحد 15 تشرين الأول - أكتوبر - 1837 م والتي جاء فيها بعد الديباجة: (لا يخفاكم أمرنا مع الإفرنج وعدم متابعته له في مرامه، من أن أكون تحت طاعته ومن إيالته ورعيته، فلما يئس منا أتانا في عام اثنين وخمسين. ومائتين وألف - قاصدا هلاك الإسلام وخراب البلد - بين الأنام بجيوش كثيرة، فحمانا الله تعالى منه، ورجع بالويل والبؤس بعد أن قطعت منه آلاف الرؤوس، فزاد غضبا على غضبه، وشكا لجنده وحزبه، وأتانا في العام التالي بجيش وعدة أكثر من الأولى، فتهيأنا للقتال، امتثالا للكبير المتعال، فحاصر البلد ثمانية أيام بلياليها، وتكلم مدفعه حواليها، فألفى رجالها كالأسود، راغمين العدو الحسود، جزاهم الله عن دينهم خيرا، لقد أذاقوه السم الأمر، فالتفت بالرمي على السور، إلى أن لم يبق منه إلا القليل، وأهل المدينة

بين جريح وقتيل، فهجم عليهم بالدخول لأنني من خلفه بأهل الإيمان أقطعناه المأمول، فلما وجد أهل الإيمان وهنوا من الضرب والطعن ما ونوا، دخل، وكان أمر الله قدرا مقدورا ... وقد قتل بعد الدخول من أهل الإيمان كثيرا ... وها أنا الآن بالبادية في غاية السلامة ... وقد اجتمع علينا خلق كثير لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، قاصدين إعزاز دينهم، وقد كاتبنا المولى الأعظم السيد قبطان باشا ليعملوا لنا تأويلا إن كان غرضهم نصر الدين المحمدي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وإعزاز هذا الإقليم بين الأنام، وإلا يأمرونا بالقدوم إليهم، ويعينوا لنا طريقا مأمونا، لأموت بين أيديكم عزيزا، ولا أرضى بالمذلة، لأننا إن مكثنا بالبادية، وطال الأمر علينا، يحصل لهم الملل، والوطن دخلته رائحة الكفر، وأهل البوادي ضعفاء القلوب، لا سيما وأن (ابن محيي الدين - الأمير عبد القادر) منهم وهو الآن في إعانة العدو. فلا بد أيها السيد الجليل أن تعرفوا السيد قبطان باشا، وأن تعلموا أمير المؤمنين بهذه البلية العظيمة والثلمة الواقعة في إيالته. عساه يبلغ الإسلام في العدو المأمول، فكيف والله تعالى سائل أميرنا وسلطاننا عنا ويتركنا مهملين). 4 - وفي رسالة مماثلة كتبها أحمد باي قسنطينة للصدر الأعظم أحمد قبطان باشا بتاريخ 15 رجب 1253 هـ (في ذات اليوم الذي أرسلت فيه الرسالة السابقة) جاء ما يلي: (أما بعد .... اصغوا إلى ما حل بنا وإهمال ديننا، فكيف تتركونا للأعادي، وأنتم موجودون، ويشتت شملنا، وأنتم المخاطبون كلا، والله إنكم مسؤولون عن تسليمنا للكافر ومقته، وكل راع مسؤول عن رعيته، وذاك أنه لا يخفاكم شأننا، ومعاداتنا للإفرنح منذ

أخذ الجزائر ونحن معه في غاية الحرج، ويخاطبنا على الدخول تحت طاعته، وأن أكون من إيالته ورعيته. وأنا لا أزيد إلا فرارا، حرصا على الدين القويم، وامتثالا للملك العليم، فكيف أنبه في مراده الضنين وأكون خائنا للمسلمين بعد قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}).

المراجع الرئيسية للبحث

المراجع الرئيسية للبحث

_ (1) تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال - الدكتور أبو القاسم سعد الله - معهد البحوث والدراسات العربية - جامعة الدول العربية -القاهرة - 1970. (2) تاريخ الجزائر - الأستاذ مجاهد مسعود - الجزء الأول - الجزائر - 1971. (3) ثورة الجزائر - جوان جليبي - ترجمة عبد الرحمن صدقي أبو طالب - الدار المصرية للتأليف والترجمة - القاهرة 1966. (4) POLITIQUES COLONIALES AU MAGHREB - (CHARLES - ROBERT AGERON) PRESSES UNIVERSITAIRES DE FRANCE 1973. PARIS. (5) L'AFRIQUE DU NORD. (JEAN DESPOIS) PRESSES UNIVERSITAIRES DE FRANCE 1964 PARIS. (6) LA RESISTANCE ARMEE ALGERIENNE (1830 - 1920) ETUDE DOCUMENTAIRE «MINISTERE DE LA DEFENSE NATIONALE ALGER 1974.

الفهرس

الفهرس

_ الموضوع .......................................................... الصفحة

_ د - ثورة الآغا محيي الدين المبارك ............................................................ 104 ر - بو مزراق - باي تيطري .................................................................. 109 و- الحاج أحمد باي قسنطينة ................................................................. 113 ز - حمدان خوجة والصراع السياسي ........................................................... 130 4 - الإدارة الإفرنسية (وتكوين وحدات خاصة) .................................................. 146 5 - الإدارة الإفرنسية (من التردد إلى التصميم) .................................................. 148 الفصل الثالث: ................................................................................. 159 1 - في النظرية الاستعمارية .................................................................... 161 2 - في الجهاد والمقاومة ........................................................................ 167 قراءات: ......................................................................................... 173 1 - قصة اليهودي ومروحة (دوفال) ............................................................. 170 2 - نداء (دوبرمون) إلى الجزائر بين عشية الغزوة الصليبية الإفرنسية ............................ 183 3 - معاهدة الاستسلام التي وقعها الداي (حسين باشا) يوم 4 تموز - يوليو - 1830 م .......... 186 4 - من تقرير (اللجنة الإفريقية) سنة 1833 .................................................... 188 5 - رسائل وثائقية (للحاج أحمد باي قسنطينة) .................................................. 190 المراجع الرئيسية للبحث ......................................................................... 97 1

4 - الأمير عبد القادر الجزائري

الأمير عبد القادر الجزائري

بسم الله الرحمن الرحيم

الأمير عبد القادر الجزائري (1222 - 1300 هـ = 1807 - 1883 م) بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1400هـ - 1980 م الطبعة الثالثة: 1406 هـ - 1986 م دار النفائس

الإهداء

الإهداء إحياء لذكرى السيف الذي عاد إلى غمده بعد قرن من غيابه إلى روح الذي رفع راية الجهاد في سبيل الله فتناقلتها الأجيال حتى يوم النصر.

نصب تذكاري في عين المكان الذي صدق فيه على معاهدة تافنا

المقدمة

المقدمة ويبدأ القرن الخامس عشر للهجرة. وببدايته يكون قد انقضى قرن كامل على غياب سيف من أشهر سيوف الإسلام في العصر الحديث، ففي سنة (1300 هـ) غيب دمشق الخالدة في ثراها الأمير الجزائري عبد القادر بن محيي الدين الذي كان (مرابطا) من الأسرة الهاشمية التي تنتسب إلى رسول الله (ص). وحياة الرجل ليست بالحياة المجهولة أو المغمورة، فقد استثارت أعماله في ميادين القتال خيال الكتاب والمؤرخين، فمضوا إلى تسجيل منجزاته ووقائعه. وذهبوا في تفيسرها مذاهب شتى حتى باتت سيرته، وستبقى، محور جدل قائم ومستديم. لقد ظهر الأمير عبد القادر في فترة تحول حاسمة في تاريخ المسلمين، فترة الانقضاض على الخلافة الإسلامية والإجهاز عليها، وخلال هذه الحقبة التاريخية ظهرت تناقضات مثيرة لا تزال ترسم أبعادها على صفحة العالم العربي - الإسلامي على الرغم من انقضاء قرن من عمر الزمن وعلى الرغم من اندحار القوى الاستعمارية العسكرية وجلائها عن أوطان العرب - المسلمين. ومن هنا فقد كانت

حياة عبد القادر وسيرته الشخصية انعكاسا لصورة عصره. وقد أدرك هو هذه الحقيقة وعبر عنها بقوله: (إنني لم أصنع الأحداث، بل هي التي صنعتني، إن الإنسان مثل المرآة، والمرآة لا تعكس الصور الحققية إلا إذا كانت واضحة وصافية) غير أن الأخذ بهذه المقولة - حتى لو جاءت على لسان الأمير ذاته - يحتمل تفسيرا سلبيا، وهذا التفسير يناقض الواقع. فالأمير لم يكن مجرد - مرآة - سلبية تعكس أحداث بلاده وأحداث العالم، وإنما كان يمارس دورا إيجابيا في (تصنيع الأحداث) وتشكيلها. ومن هنا، فقد كان الأمير عبد القادر في حياته العامة فاعلا ومنفعلا، مؤثرا ومتأثرا، وعبر هذا التفاعل الدائم والمستمر ظهر الأمير عبد القادر، لا ليطفح فوق سطح الأحداث، وإنما ليسير مع أعمق تياراتها في محاولة منه لتحقيق الهدف الثابت (رفع راية الإسلام والمسلمين) والدفاع عن (قضية الإسلام والمسلمين) تجاه أشرس حملة صليبية عرفها التاريخ في القديم والحديث. والأمير عبد القادر، قبل ذلك وبعده، إنسان مسلم، لا تأخذه الأهواء، ولا تحركه ردود الفعل، وإنما ينطلق في كل ممارساته من قاعدته الصلبة، قاعدة الإيمان بالله، وبما أنزله على رسوله (ص). وقد كان هذا الإيمان هو زاده في رحلته الشاقة، وهو عونه فيما جابهه من صعوبات وأزمات تعجز عن حمل أعبائها همم الرجال، وتقصر عنها عزائم الأبطال. لم يكن الأمير عبد القادر في الحالات كلها، ممثلا لجهاد شعب الجزائر، ولو أنه قاد الجهاد المرير والشاق فوق أرض الجزائر. فقد عرف الأمير عبد القادر بصدق إحساسه وصفاء نفسه أن (حرب الجزائر) لم تكن أبدا بمعزل عن الحرب الشاملة التي تخوصها الأمة

الإسلامية فوق كل دنيا المسلمين. فجرد حسامه وقلمه، مدافعا عن القضية الشاملة أينما سار وحيثما اتجه. وعندما نزلت به النوازل والخطوب، تقبلها بإيمان وصبر نافذين، إيمان الرجل المؤمن بربه، المؤمن بقدره، فكان كبيرا وهو في معتقله، وكان خصومه صغارا وهم في أوج قوتهم وذروة انتصارهم. وكبر الأمير عبد القادر بأعدائه بمثل ما كان كبيرا في قومه وبين أهله وعشيرته. وأصبح الأمير عبد القادر بطلا عالميا بعد أن كان بطلا عربيا مسلما. وأمضى الأمير عبد القادر ردحا من حياته في دمشق. وانطلق منها في زيارات قصيرة لمصر والأماكن المقدسة في الجزيرة العربية. ثم قضى في دمشق، التي طالما غيبت أشرف السيوف، ودفنت أنبل الرايات، لتبعثها من جديد وهي أشد وضاء وأرفع سموا وإشراقا. ومضى قرن من الزمن؛ وبدأ القرن الخامس عشر للهجرة، وانتصرت الجزائر المجاهدة، وتحقق لها ما يريده البطل (الأمير عبد القادر) ولم ينس المجاهدون رائد جهادهم فحملوا رفاته لتستقر إلى جانب رفات الشهداء الأبرار - وما أكثرهم فوق أرض الحرية والأحرار. بسام العسلي

الوجيز في حياة الأمير عبد القادر

الوجيز في حياة الأمير عبد القادر 1222 - 1300 هـ = 1807 - 1883م

_ السنة الهجرية .......... السنة الملادية .......... وجيز الأحداث

_ السنة الهجرية ..... السنة الميلادية ..... وجيز الأحداث

الوجيز في أبرز الأحداث المعاصرة لحياة الأمير عبد القادر

الوجيز في أبرز الأحداث المعاصرة لحياة الأمير عبد القادر

_ السنة الهجرية ..... السنة الميلادية ..... وجيز الأحداث

_ السنة الهجرية ..... السنة الميلادية ..... وجيز الأحداث

قبر سيدي محيي الدين والد الأمير في سيدي قادة

الفصل الأول

(لو فرشت لي مسالك فرنسا وسهولها بالديباج والذهب ووضعت في كفة وحريتي في كفة لاخترت حريتي. وإنني لا أطلب عفوا ولا إحسانا، أطلب فقط احترام العهود التي قدمت لي. لقد طلبت وعدا فرنسيا، فأجابني إليه جنرال فرنسي. ثم أكده جنرال آخر وهو ابن الملك. وبذلك أصبحت فرنسا مرتبطة إزائي، كما هي مرتبطة بما قطعته على نفسها. ولن أتخلى عما وعدتموني به، وسأموت مع وعدي حتى أكشف عن نواياكم الحقيقية. (الأمير عبد القادر في خطابه من سجنه في فرنسا إلى سجانيه) •---------------------------------• الفصل الأول الأمير عبد القادر وبداية الرحلة الشاقة 1 - الأصالة وبناء القاعدة الصلبة. 2 - بناء دولة الحرب. آ - تنظيم الجيش. ب - التسلح والصناعة الحربية. ج - الحصون والتنظيم الدفاعي. د - التنظيم الإداري والتموين. 3 - بناء الدولة الإسلامية. 4 - في أفق العمليات والتكتيك

الأصالة وبناء القاعدة الصلبة

1 - الأصالة وبناء القاعدة الصلبة ولد مع ولادة ربيع الحياة، في يوم من أيام شهر أيار - مايو - سنة 1807، وقد جاء إلى الدنيا ليكون رابع إخوته، ولم تكن قرية (قيطنة - أو غتنا) المغمورة تعرف وهي تستقبل المولود الجديد أنها ستكتسب شهرة ما بعدها شهرة، وستنال شرفا ما بعده شرف إذ هي ترحب بهذا القادم الوليد. لقد بقيت قرية (قيطنة) طويلا وهي نائمة بهدوء، على ضفة وادي الحمام في منطقة (اغريس) بالقرب من (معسكر) إلى الجنوب الشرقي من مدينة وهران. وقد آن لهذه القرية أن تهتز لتستيقط من غفوتها حتى تسير على صفحات التاريخ. وإذا كانت (قيطنة) مغمورة، فإن قاطنيها لم يكونوا بالمغمورين، فقد سبقتهم شهرتهم فتجاوزت أفق الجزائر بفضل ما عرف عن كبيرها من التقى والورع والحكمة والكرم وأصالة المحتد، لقد كان شيخا كبيرا من شيوخ المرابطين المجاهدين، أولئك الذين اشتهرت بهم أيام الأندلس واشتهروا بها، حتى إذا زالت دولة الأندلس انتقلوا إلى ربوع الغرب العربي الإسلامي ليقيموا بين أهلهم وذويهم وليحملوا معهم راية الجهاد في سبيل الله، وزاد الشيخ شرفا على شرفه انتسابه إلى (الهاشميين) قرابة رسول الله (ص).

كان نبلاء المغرب العربي - الإسلامي خلال تلك الفترة ينتمون إلى فئتين متميزتين: فئة المرابطين وفئة الأجواد. وكانت الفئة الأولى تستمد هيبتها ونفوذها من زعامتها (الدينية) في حين كانت الفئة الثانية تعتمد في وجودها على (السيف). ولم تكن المنافسة معدومة بين الفئتين، فكان المرابطون يتهمون الأجواد بالعنف والتهور وحب النهب، في حين كان الأجواد يتهمون المرابطين بالطموح المقنع، وبالبحث عن النفوذ والسلطة والثروة من خلال العمل للدين وللدين فقط. ولم يكن في هذه الاتهامات ما يعيب الطرفين على كل حال إذ كانت هذه الفضائل بمجموعها قاسما مشتركا أكثر منها فارقا فاصلا، ولو أن الهدف النهائي كان مختلفا، فالمرابطون يعملون لآخرتهم بأكثر مما يعملون لدنياهم، والأجواد يعملون لدنياهم أكثر مما يعملون لأخرتهم. فتح الوليد عينيه ليتعرف على الدنيا من حوله، فكان أول ما أدركه شدة حدب أبيه عليه وحنوه وهو يحتضنه إليه، وإيثاره على أخوته، ولم يكن في ذلك ما يثير الحياء اوالخوف، وعلى الرغم من ذلك فقد ظهر وهو (يخاف حتى من ظله). ولعل نعومة تكوينه كانت مصدر مخاوفه فقد خلق جذابا وسيما، يكاد جماله يقترب به إلى الجمال الأنثوي من الجمال الرجولي، له أنف متوسط يبرز من وجهه بشكل رائع لا هو بالأنف الإغريقي ولا هو بالروماني، وإنما هو وسط بينهما، وتحته شفتان منحوتتان بدقة ومضغوطتان قليلا تنمان عن التحفظ المهيب والثقة بالهدف. بينما تشع عيناه الصافيتان العسليتان تحت جبهة عريضة في بياض الرخام مع نعومة مكتومة وحزينة، أو تتالقان بأشعة العبقرية والذكاء. كان ذلك هو عبد القادر بن محيي الدين - المشهور بالجزائري.

ـ[خريطة]ـ

وأخدت مواهب عبد القادر في التفتح مبكرا، فها هو قد أتقن القراءة والكتابة ولما يتجاوز الخامسة من عمره، وتمكن من قراءة القرآن وأصول الشريعة والحديث وهو في الثانية عشرة من العمر، وأصبح من حفظة القرآن وهو في الرابعة عشرة حيث أرسله والده إلى وهران للدراسة في مدرسة يسيرها (سيدي أحمد خوجمة) غير أن عبد القادر نفر من أسلوب الدراسة بقدر نفوره من حياة وهران فلم يستقر أكثر من سنة ليعود بعدها إلى (قيطنة) حيث كلف (سيدي احمد بن الطاهر قاضي آرزو) بتدريسه واطلاعه على العلوم الحديثة: علم الفلك والحساب والجغرافيا بالإضافة إلى اطلاعه على الشؤون الأوروبية. ولم يجد بعد ذلك ما هو أفضل من الانضمام إلى جماعة رجال الدين وطلاب المعرفة ممن كانوا يلتفون حول والده - محيي الدين - لدراسة العلوم القرآنية. حيث كانت تعطى - مجانا - دروس في الآداب والحقوق والتوحيد. ورافق هذا النضح الفكري نضج جسدي مبكر أيضا، فما كاد يبلغ السابعة عشرة من عمره، حتى اكتملت بنيته المتناسقة (فبلغ طوله خمسة أقدام وخمسة بوصات) وأصبح له صدر عريض ومنكبين قويين، في جسد لا يعرف التعب أو النصب، قادرا على احتمال أشد الصعاب. وبرز في مجال الفروسية، فكان فارسا مهيبا لا يدانيه أحد أو ينافسه، ولم يعد (يجاف من ظله) بعد أن أكد تفوقه المدهش في كل متطلبات الفروسية التي تحتاج العين الثابتة واليد القوية والرجولة الحقة. وها هو يصبح حديث الناس: إنه يلمس كتف فرسه بصدره، ويضع إحدى يديه على ظهر الفرس، ثم يقفز إلى الجانب الآخر، أو أنه يدفع الفرس إلى أكبر سرعة ممكنة، ثم ينزع قدميه من الركاب، ويقف على السرج ويطلق النار على هدفه بدقة عجيبة، وبلمسته الخفيفة الماهرة يثني الفرس العربي المدرب ركبتيه،

أو يمشي مسافات على قائمتيه الخلفيتين بينما تضرب قائمتاه الأماميتان في الهواء. أو يلوح ويقفز بهما كالغزال. أما في ميدان السباق فكان يركب جوادا فاحم السواد يتضاد في لونه مع بياض برنسه، ثم يتقدم إلى الحلبة ببرود ظاهر وضبط كامل للنفس، لينطلق فيسبق منافسيه بمسافات كبيرة تجعله يصل إلى الهدف وحده، وسط هتافات الإعجاب وزغاريد مئات النساء. وكان كساؤه بسيطا غاية البساطة، وليس سوى سلاحه يظهر الزينة. فقد كانت بندقيته التونسية الطويلة مرصعة بالفضة. أما مسدسه فقد كان مرصعا بالجواهر. وكان سيفه الدمشقي مغمدا في غمد من الفضة. وكانت متعته في ممارسة هوايته المفضلة (الصيد). وأتقن صيد الباز والغزال والنعامة والخنزير البري والنمر. ولم يكن في رحلة الصيد يميل إلى تلك التظاهرات الفخمة التي كان يتعمدها (الأجواد) فكان يكتفى بمرافقة خادمين أو ثلاثة ويتوغل في أعماق الغابة بحثا عن صيده المفضل (الخنزير البري) حتى إذا ما حقق هدفه، عاد من رحلته الرياضية ليعزل نفسه للدراسة بحيوية متجددة، وللتفرغ للعبادة. واشتهر بقدرته (على النوم خلال أسابيع والتعرض للصدام، وندرة أغماد سيفه - فكان عرشه قائما على سرج جواده) ولم يكن ذلك إلا نتيجة لتلك المواهب الفطرية التي صقلتها المكتسبات الفكرية والجسدية. وتزوج عبد القادر وهو لا يزال يافعا، التزاما بالحديث الشريف (من استطاع منكم الباءة فليتزح فإنه أحصن للفرج) وكانت زوجته (لالة خيرة) بنت عمه سيدي على بوطالب. وكان على هذه الزوجة الفاصلة أن تحتمل مع زوجها مشاق الرحلة الطويلة - رحلة العمر في الجهاد. بلغ محيي الدين والد عبد القادر الخمسين من عمره، فأراد أداء

فريضة الحج، واتخذت استعدادات كبيرة للحدث الهام، ورغب الكثيرون في مرافقة الشيخ المرابط للحج، وفي طليعتهم أبناؤه وحاشيته. وقرر (محيي الدين) الخروج وحده تخلصا من الموقف الحرج، غير أنه عاد فعدل عن قراره، وأعلن أن (عبد القادر) هو الوحيد الذي سيرافقه، ورضخ الجميع لهذه الإرادة وقلوبهم يغمرها الحزن. وغادر الأب والإبن قريتهما (قيطنة) في تشرين الأول - أكتوبر - 1823. وما أن انتشرت أخبار عزم (محيي الدين) على الحج حتى ترددت في كل أنحاء وهران صيحة (إلى الحج .. إلى الحج) وأقبل الآلاف من كل الجهات وهم يحملون خيامهم ومتاعهم، وتجمع الركب الكبير على ضفة نهر جديوية في (سهل شلف) وأرعبت هذه التظاهرة حاكم (وهران). فأرسل إلى (محيي الدين) يستدعيه لمقابلته. وامتثل (محيي الدين) فتوجه مع (ابنه عبد القادر) إلى وهران، وكانت المقابلة ودية، غير أن حاكم وهران ألزم ضيفيه (محيي الدين وابنه) بالبقاء في وهران بما يشبه الإقامة الإجبارية، حتى إذا ما مضت سنتان، وعرف حاكم وهران أن مخاوفه لا تستند إلى أي أساس مقبول، علاوة على ما كانت تثيره عملية (الاحتجاز) من ردود الفعل السيئة التي وصلت إلى (ديوان الباشا) وحتى إلى (منزله) حيث وقفت أم الداي وزوجته ضد هذا الإجراء التعسفي، فقرر الداي السماح (للمحتجزين) باستئناف رحلة الحج. وعندها قرر (محيي الدين) عدم العودة إلى (قيطنة) مرة أخرى لوداع أسرته حتى لا تتكرر قصة (الحشد المرعب) فغادر وهران بسرعة في تشرين الثاني - نوفمبر - 1825. ووصل ومعه عبد القادر إلى تونس مارين (بالمدية وقسنطينة) وهناك انضما إلى قافلة تضم ألفي حاج، ركبوا جميعا البحر إلى الإسكندرية. وكانت هذه الرحلة مثيرة جدا للشاب عبد القادر الذي أخذ في

التقسيم الإداري لإقليم الجزائر سنة 1830م

الاطلاع على (عالم جديد) لا سيما عندما توجه من الإسكندرية إلى القاهرة، حيث رأى عبد القادر للمرة الأولى والأخيرة محمد علي باشا حاكم مصر الذي طبقت شهرته الآفاق، وأخذ يتأمل طويلا في هذا الجندي الناجح الذي عرف بكفاءته الإدارية التي كانت تنافس كفاءته العسكرية. وأكمل محيي الدين مع ابنه رحلة الحج، فكانت متعة روحية لا توصف وبعد أداء مناسك الحج في مكة المكرمة والمدينة المنورة، انفصلا عن الحجيج ويمما شطر دمشق، ليقضيا معظم وقتهما في التردد على الجامع الأموي الكبير، وليفيدا من هذه المناسبة لقراءة الحديث وتدارسه مع الشيخ عبد الرحمن الكزبري. وكان لا بد لهما وهما في دمشق من إكمال الرحلة بزيارة قبر الصالح (عبد القادر الجيلاني - حارس الجزائر) فتوجها إلى بغداد عن طريق تدمر ووصلاها بعد ثلاثين يوما. ولما كانا من عائلة شهيرة بالهدايا الثمينة التي تقدم بها كثير من أعضائها إلى قبر الصالح الجيلاني، فإنهما لقيا استقبالا حارا كريما من قاضي المدينة (السيد محمد الزكريا) الذي كان ينحدر بدوره أيضا من الولي الصالح الجيلاني، وقدم (محيي الدين) كيسا من الذهب، على ما جرت به عادة المرابطين تجاه إحياء ذكرى هذا الرجل الصالح الذي لا يشك أحد من المرابطين بكراماته (¬1). وبعد إقامة في بغداد لمدة ثلاثة أشهر، ارتحل محيي الدين وابنه عبد القادر في طريق ¬

_ (¬1) اشتهر الصالح (عبد القادر الجيلاني) بجهاده في القرن الثاني عشر، وكان له مقامات أثرية - تذكارية - في معظم بلاد المشرق، وقد نسجت حكايات كثيرة عن كراماته. ويذكر أن (مصطفى بن المختار) جد عبد القادر، قد زار أكثر من مرة ضريح (عبد القادر الجيلاني) وأجازه الشيخ مرتضى الزبيدي، وهو الذي أنشأ قرية (قيطنة - أو غتنا) ونشر الطريقة القادرية في الغرب الجزائري، ومات أثناء عودته من الحج، ودفن في (عين غزالة) قرب (برقة) بليبيا سنة 1212هـ وأثناء عودة محيي الدين وولده من الحج بالبر توقفا لزيارة قبره.

العودة، وقد نفذت مواردهما، فكان لا بد لهما من إكمال الرحلة على نفقة إخوانهم المسلمين، الحجاج مثلهما والذين كانوا عائدين من أداء الفريضة، وانتهت الرحلة بالوصول إلى (قيطنة) بعد غياب استمر أكثر من سنتين وكان ذلك في بداية سنة 1828 م. وعرفت (قيطنة) احتفالات وولائم لم تشهدها من قبل فقد توافد كل عرب وهران ووفود ثمثل القبائل الصحروية بزيارة (سيد بني هاشم) وتهنئته بالحج والعودة بالسلامة. ولم يعد الهدوء إلى (قطنة وادي الحمام) إلا بعد فترة طويلة. كان لهذه الرحلة الروحية أثرها العميق في أعماق نفس (الشاب عبد القادر) الذي أخذ في الاعتزال عن الناس، والانصراف إلى العبادة، وقضاء الوقت في الرياضات العقلية التي تضمها مؤلفات القدماء أمثال أفلاطون وفيثاغورس وأرسطو، علاوة على مؤلفات كبار المشاهير من أعلام المسلمين والتي شملت علوم التاريخ الإسلامي والفلسفة واللغة والفلك والجغرافيا والطب فتكونت لديه خلال هذه الفترة مكتبة ضخمة كانت هي ثروته الدنيوية، وقد استمرات هذه الهواية في مرافقته طوال حياته. اقتحمت جحافل الغزو الإفرنسي الاسعماري مدينة (الجزائر المحروسة) يوم 5 تموز (يوليو) 1830 واستقبل المجاهدون هذا الحدث بثبات، دون أن يداخل نفوسهم أي شعور بالخوف أو القلق، فقد ارتفعت رايات الغزاة الإسبانيين من قبل فوق معظم المدن الساحلية، غير أنها لم تلبث أن سقطت ممرغة بالوحل، وتعرضت مدن الجزائر لإغارات بحرية كثيرة، دحرت كلها وتراجعت، وظن رجال القبائل، وأبناء المدن الداخلية للوهلة الأولى أن القضية لن تكون أكثر من قضية غزو عابرة، أو

أنها في أسوأ الأحوال، لن تتجاوز حدود الصراع مع جهاز الحكم (التركي العثماني). غير أن النوايا الإفرنسية تكشفت بسرعة، عندما أخذت الإدارة الاستعمارية في التطلع إلى ما وراء المدن الساحلية، وزاد الأمر سوءا بما أقدمت عليه جحافل الغزو من (أعمال إبادة وحشية). وبدأت الغشاوة في السقوط عن أبصار أولئك الذين تعاونوا في بداية الأمر مع السلطات الاستعمارية أو حتى هادنوها. ولم تلبث قوات المرابطين وقياداتها أن رفعت (راية الجهاد في سبيل الله) وكان ذلك بداية تطوير الصراع المسلح. رافق الغزو الإفرنسي انتشار موجة من الفوضى والاضطراب وانقطاع حبل الأمن، وتشردت جموع المسلمين الذين كانوا يسكنون المدن الساحلية وهربوا بدينم وعائلاتهم نحو الداخل وقد سيطر عليهم الذعر واليأس. وزاد من بؤسهم تعرضهم لقطاع الطرق الذين أخذوا في نهب هؤلاء المشردين والتعرض لهم دونما شفقة أو رحمة. ولم يكن باستطاعة شيخ المرابطين (محيي الدين) البقاء في عزلته وتجاهل المأساة التي نزلت بالمسلمين. فأرسل أولاده مع حامية قوية للتجول في السهل وحماية المشردين المنكوبين، وتقديم الدعم لهم، وحملهم إلى أماكن مأمونة لا تصل إليها عصابات اللصوص وقطاع الطرق. غير أن عملية الإنقاذ هذه كانت دون المستوى المطلوب في تلك الفترة الحرجة لا سيما وقد ظهرت الثارات المدفونة بين رجال القبائل، في المدن والقرى، فبات من الضروري إخضاع البلاد لسلطة قوية تحركها يد واحدة. وعقد المرابطون مشاورات طويلة لدراسة الموقف، فاتفقت كلمتهم على اللجوء إلى (محيي الدين) واستشارته في أنجح وسيلة لعلاج الأزمة. وعندما اجتمع المرابطون، خاطبهم محيي الدين ناصحا بالعبارات التالية: (منذ عدة شهور وأنا أحاول كما تعلمون جيدا،

المحافظة على درجة من النظام وسط الفوضى العامة التي تسود الآن. ولكن أقصى الجهود التي بذلتها لم تفلح في إنقاذ أكثر من عدد قليل من الضعفاء والمشردين وحمايتهم من أيدي أناس قساة غلاط. إن طغيان الأتراك قد كبح طاقاتنا وأوهنها، ولكن إذا استمرت الأمور على ما هي عليه الآن، فإنها ستحطم كل طاقاتنا تحطيما. فأواصر المجتمع تنحل، ورفع كل فرد يده في وجه جار5. وأرضى شعبنا العنان لغرائزه الرذيلة بعد أن أصبح يستهتر يوميا بقوانين الله والإنسان. وفي نفس الوقت، فإن النكبات التي تهددنا من الخارج لا تقل خطرا عن ذلك الذي ينهشنا من الداخل. فهل سنستنجد بالإفرنسيين؟ إن ذلك غير ممكن. وأن الاستسلام إليهم يعتبر خيانة لواجبنا نحو إلهنا ووطننا وعقيدتنا فما بالكم بالاستنجاد بهم؟. ولكن الإفرنسيين أمة محاربة، قوية العدد، واضحة الغنى، تشتعل حبا في الاحتلال، وماذا لدينا نحن من قوة نصدهم بها؟ إن القبائل على خلاف مع بعضها. وزعماء البلاد شرهون يتآمرون ضد بعضهم، ولا يصارعون إلا من أجل الثروة الشخصية. أما الدهماء التي رمت عنها كل قناع فبعضها قد أغنى نفسه بالنهب، وبعضها الآخر لا يكاد يجد قوت يومه. فالطرفان غير متعادلين. وأمام هذه الحالة، فحتى تصور نجاح المعركة مع الكفار يعتبر حماقة. أما محاولة المعركة نفسها فهو جنون. لا، إن الملك الإفرنسي قويا، ولا يمكن أن يواجهه بفاعلية إلا ملك مثله، على رأس دولة محكمة النظام، يملك خزانة ضخمة، ويقود جيشا تام الانضباط. وليس هناك حاجة إلى أن نذهب بعيدا للبحث عن هذا الملك. إن سلطان المغرب قد عبر عن عاطفته نحونا، ويجب أن يعرف أن الخطر الخارجي الذي يهددنا نحن اليوم قد يهدده هو غدا. إن حضوره بيننا سيشجع ويدعم حالا الخير، ويصرف

الشر. وبفضل ذلك، سيقوى النظام. وإذا حاربنا تحت لوائه، فتقدم نحو انتصار مؤكد). وتوجهت بعثة جزائرية نحو (فاس) وهي تضم عشرة أفراد من كبار شيوخ المرابطين وأكثرهم نفوذا وتأثيرا. ومضت ستة أشهر قبل أن يعلن سلطان فاس عن موافقته على ما طلبه إليه شيوخ المرابطين. ووجه جيشا بقيادة ابنه (علي) ومعه (5) آلاف فارس ومدفعي ميدان وعسكر هذا الجيش في تلمسان (الواقعة في إقليم وهران). وأسرعت القبائل فأعلنت ولاءها لسلطان المغرب. وأخذت المقاومة في التعاظم، وأدركت الحكومة الإفرنسية ما يتهدد مشاريعها من خطر، فوجهت تهديدها إلى سلطان المغرب الذي أظهر خضوعه للتهديد فأمر (ابنه علي) بالانسحاب إلى ما وراء الحدود المغربية. واجتمع شيوخ المرابطين، وقرروا إسناد منصب السلطان على (محيي الدين) وتوجهوا في جماعة منهم إلى (قيطنة). غير أن (محيي الدين) رفض العرض بتواضع، وأوصى بتوجيه نداء جديد إلى المغرب. وفشلت هذه المحاولة بإقناع (سلطان المغرب) بتحمل مسؤوليته التاريخية. واتجهت الأنظار مرة أخرى نحر (محيي الدين) الذي لم يتمكن من رفض طلبات شيوخ العرب فقال لهم: (إنني لا أصلح أن أقوم بواجبات سلطان العرب. ولكنني سأقوم بما يحتمه علي الدين. وسأذهب معكم إلى الجهاد). وكان العرب قد بذلوا محاولات متعددة لاستعادة وهران التي احتلتها قوات الإفرنسيين. فقام محيي الدين بدخول المعركة تحت قيادة ابنه عبد القادر. كانت قد مضت فترة على العرب وهم يحاصرون (وهران) ويركزون جهدهم بصورة خاصة على (قلعة فيليب) الواقعة إلى جنوب المدينة، غير أن هذه الإغارات لم تؤد إلى نتيجة تذكر، فقرر (عبد

القادر) تنفيذ عملية ضد هذه القلعة ووضع الخطة وأشرف على تنفيذها، فقاد قواته من المشاة والفرسان حتى وصل بها إلى أسفل القلعة ذاتها، وزج بجنود المشاة في الخنادق وكلفهم بمناوشة الحامية الإفرنسية المدافعة عن القلعة. ثم قاد قوة الفرسان ووضعها في موقع مناسب يتحكم بالطريق المؤدي إلى القلعة، وذلك لعزلها، ومنع أي تسلل قد يقوم به العدو. وكانت الكثافة النارية لأسلحة الإفرنسيين وقذائفهم كبيرة إلى درجة كافية لتمزيق أفضل الجيوش انضباطا وتدريبا. غير أن عبد القادر استطاع إثارة حماسة المجاهدين وهو يتجول بينهم، ويوجههم، وأمكن له بذلك التغلب على الصدمة النارية. وأثناء ذلك، نفدت ذخيرة المجاهدين في الخنادق - المشاة - وأحجم كل فرد عن التحرك لجلب الذخيرة. وشاهد ذلك (عبد القادر) فصاح بهم: (أيها الجبناء! أعطوني الخرطوش) ووضع الظروف في جناحي برنسه، وركب فرسه وعبر السهل كالسهم حتى وصل القلعة، فرمى بالخرطوش في الخندق. وحث رجاله على الثبات والاستمرار في الرمي. وعاد بدون أن يمسه أي أذى. وأحاطت (بعبد القادر) مناسبات كثيرة مليئة بالخطورة والمبادرة. استعمل فيها سيفه البكر للدفاع عن نفسه. وأدت شجاعته وفروسيته لا إلى الثناء عليه فقط، بل إلى الإعجاب المنقطع النظير به. وأخذ العرب ينظرون إليه بإكبار، ويحيطونه بهالة من التكريم، بعد أن أخذت شخصيته الوسيمة تندمج بشخصيته الشجاعة عندما كان يتقدم الصفوف دونما خوف من أذى، ليقتحم مواطن الخطر، فهو مرة يمر كالسهم من صفوف الرماة الأعداء. ومرة يطلق النار ويكتسح حربات البنادق بسيفه، وأخرى يقف بثبات عجيب والقنابل تتفجر من حوله وتحت قدميه. وأفادت العرب من هذه التجربة القتالية قدر إفادتها من تجاربها السابقة،

فعرفت أن هذا الهجوم المفكك ليس حربا. وأن كل جهودهم وتضحياتهم لن تكون مثمرة إلا إذا وجهتها إرادة واحدة تحت قيادة قائد مسؤول. وعقد مؤتمر كبير في مدينة (معسكر). ودعي (محيي الدين) الذي كان قد توجه إلى (قيطنة) لقضاء فترة قصيرة من الراحة، لحضور هذا الاجتماع. فلبى الدعوة وما كاد يصل ويترجل حتى تجمهر من حوله شيوخ المجاهدين وارتفعت الأصوات من كل مكان: (إلى متى يا محيي الدين ونحن بلا قائد؟ إلى متى وأنت واقف متفرج على حيرتنا؟ أنت يا من يكفي اسمه فقط أن يجمع كل القلوب لتشجيع القانط وردع الخبيث، وتدعيم وتماسك القضية المشتركة؟ لقد سقط أفضل فرساننا غما وفرقا؟ واستل شيوخ المرابطين سيوفهم ونادوه (اختر بين أن تكون سلطاننا أو أن تموت الآن ..). كان الموقف مثيرا، غير أن شيخ المرابطين جابهه بثبات، فوقف يخاطب زعماء المرابطين بقوله: (تعرفون جميعكم أني رجل عبادة وتقوى. ويتطلب الحكم استخدام القوة والعنف وحتى سفك الدماء. ولكن ما دمتم تصرون على أن أكون سلطانكم فإني أقبل، ولكن أتنازل عن ذلك لصالح ابني عبد القادر). واستقبل الحضور هذا الحل المباغت بالموافقة. فقد كان عبد القادر معروفا لديهم. وتوجه فارس إلى (قيطنة) لإحضاره. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي، الموافق 21 تشرين الثاني - نوفمبر - 1832 م. دخل عبد القادر مدينة (معسكر). وقد غصت كل الشوارع والطرق المؤدية إلى المدينة بجموع المسلمين. وكان الرجال والنساء والأطفال يتبادلون التهاني في مظاهرة ترحيب بهجة بسلطانهم الجديد. وبعد إدخاله إلى (الرحبة) حيث كان المجلس منعقدا، أعلم عبد القادر بكل ما حدث. وفي هدوء، ودونما زهو، أجاب عبد القادر: (أن من واجبي

إطاعة أوامر والدي - أنا لها، أنا لها) وانفجرت حماسة الناس وصاحوا بصوت واحد: (الحياة والنصر لسلطاننا عبد القادر). وجلس السلطان الشاب للناس يتقبل بيعتهم، وكان أبوه أول من بايعه ولقبه (بناصر الدين). وعندما أزفت صلاة الظهر قام بالناس إماما، ثم خطب فيهم، وشرح لهم الأخطار المحيطة بهم، وما كاد ينهي حديثه حتى ارتفعت صيحات (الجهاد - الجهاد) (لبيك عبد القادر، فكلنا رهن إشارتك). ذهب عبد القادر في اليوم التالي (22 تشرين الثاني - نوفمبر) إلى وادي خصيبية الذي يبعد مسافة عشر دقائق عن (معسكر). حيث كان في انتظاره عشرة آلاف فارس عربي لاستقباله والترحيب به. وكانوا قد اصطفوا على شكل هلال، بحسب قبائلهم، حول خيمة ضخمة أقيمت وسط السهل. وكان جميع أهالي معسكر قد تجمعوا أيضا في المنطقة. وفي اللحظة التي بدأت فيها أشعة الشمس المائلة تنبسط على جبل (مسمط)، ظهر مركب عبد القادر. تتقدمه كوكبة من الفرسان حاملي (راية الجهاد) ثم تبع ذلك رؤساء بني عامر وبني مجاهر وبني يعقوب وبني عباس على صهوات خيولهم المندفعة، وهم يحملون سيوفهم اللامعة. ثم ظهر عبد القادر وهو يغطي كتفيه ببرنسه الأحمر، وممتطيا جواده الأسود، وكان رؤساء بني هاشم (قبيلته) يسيرون في مؤخرة الموكب العظيم. وعندما وصل عبد القادر إلى (الخيمة) ترجل، واختفى عن الأنظار دقائق قليلة، ثم خرج وأبوه محيي الدين يمسك بيده ليقدمه إلى الشعب: (انظروا - هذا هو السلطان الذي أعلنته النبوءة! هذا هو ابن الزهراء! أطيعوه كما لو كنتم تطيعوني! فليحفظ الله السلطان) وردد الناس: حياتنا وأملاكنا وكل ما عندنا له، لن نطيع قانونا غير قانون سلطاننا عبد القادر وأجاب عبد القادر: وأنا

بدوري لن آخذ بقانون غير القرآن، لن يكون مرشدي غير تعاليم القرآن، والقرآن وحده. فلو أن أخي الشقيق قد أحل دمه بمخالفة القرآن لمات. وانطلق (عبد القادر) ليستعرض القوات، وليقف بين فترة وأخرى ليردد على مسامع الجميع أهداف العهد الجديد: (الجهاد الجهاد! لا حرية ولا استقلال إلا بالجهاد! الجنة تحت ظلال السيوف! هلموا جميعا إلى راية الجهاد). عاد (عبد القادر) إلى (معسكر) بعد نهار شاق كان أشبه (بعرس المجد) وما كاد يستريح قليلا حتى استدعى (كتابه) وأملى عليهم أول بيان له، هو التالي: (بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. إلى القبائل، وخصوصا نبلائها وشيوخها وأعيانها وعلمائها. هداكم الله وأرشدكم ووجهكم إلى سواء السبيل، وجعل النجاح حليف أعمالكم ومسعاكم. وبعد: إن أهالي معسكر، وأهالي شرق غريس وغربها، وجيرانهم وحلفاءهم بني شقران والبرجيين وبني عباس واليعقوبيين وبني عامر وبني مجاهر وغيرهم قد وافقوا بالإجماع على تعييني، وبناء عليه انتخبوني لإدارة حكومة بلادنا. وقد تعهدوا أن يطيعوني في السراء والضراء، وفي الرخاء والشدة، وأن يقدموا حياتهم وحياة أبنائهم وأملاكهم فداء للقضية المقدسة. ومن أجل ذلك، إذن، تولينا هذه المسؤولية الصعبة - على كره شديد - آملين أن يكون ذلك وسيلة لتوحيد المسلمين، ومنع الفرقة بينهم، وتوفير الأمن العام إلى كل أهالي البلاد، ووقف كل الأعمال غير الشرعية التي يقوم بها الفوضويون ضد المسلمين. وصد العدو الذي اعتدى على بلادنا حتى يتم طرده، وحتى لا يتمكن من أن يغل

أعناقنا بقيوده. ولقبول هذه المسؤولية اشترطنا على كل أولئك الذين منحونا السلطات المطلقة، أن عليهم دائما واجب الطاعة. في كل أعمالهم، إلتزاما بنصوص كتاب الله وتعاليمه، وإلى الحكم بالعدل في مختلف مناطقهم، والأخذ بسنة النبي (ص) في المساواة بين القوي والضعيف، الفقير والغني دونما محاباة، وقد قبلوا بهذا الشرط. لذلك! ندعوكم إلى المشاركة في هذا العهد والعقد، بيننا وبينكم، سارعوا لإعلان الولاء والطاعة. وجزاؤكم على الله في الدنيا والآخرة. إن هدفي الأساسي هو الإصلاح. وعمل الخير ما دمت حيا. إن ثقتي في الله، ومنه وحده أرجو التوفيق والنجاح). بأمر من المدافع عن الدين، صاحب السيادة علينا، أمير المؤمنين عبد القادر محيي الدين - نصره الله - آمين. حرر في مدينة معسكر 22 تشرين الثاني - نوفمبر - 1852 م. لقد تحققت النبوءة، وأصبح الحاج عبد القادر سلطانا بايعته الجزائر بسيوفها وقلوبها. وأغمض (عبد القادر) عينيه وتذكر زيارته لضريح (عبد القادر الجيلاني) في بغداد. ففي تلك الفترة، حلم (محيي الدين) بأن (ملاكا وضع مفتاحا في يده، وأخبره أن يسرع بالعودة إلى وهران. وعندما سأله عما يفعله بهذا المفتاح أجابه الملاك: أن الله سيوجهك) وفسر محيي الدين هذا الحلم بأنه كرامة من كرامات الصالح (عبد القادر الجيلاني) اختصه بها لتولي وهران وتكررت مثل هذه الشواهد الغامضة التي تشير إلى أن (عبد القادر بن محيي الدين) سيصبح ذا شأن في قومه. ولم تمض فترة حتى سرت نبوءة غربي البلاد بأن شابا عربيا سيصبح سلطانا ويقيم العدالة بين الناس.

وعرف عبد القادر أن ما وصل إليه اليوم إن هو إلا نتيجة ما توافر له من الأصالة التي لم ينكرها أو يتنكر لها، فحددها بقوله: (إنني عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار ابن عبد القادر بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن يوسف بن أحمد بن شعبان بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن فاطمة بنت محمد رسول الله وزوجة علي بن أبي طالب عم الرسول. كان أجدادنا يقطنون المدينة المنورة، وأول من هاجر إليها هو إدريس الأكبر الذي أصبح فيما بعد سلطانا على المغرب، وهو الذي بنى (فاس). وبعد أن كثر نسله، توزعت ذريته، ومنذ عهد جدي فقط، قدمت عائلتنا لتستقر في (اغريس) قريبا من (معسكر) وأجدادي مشهورون في الكتب والتاريخ بعلمهم واحترامهم وطاعتهم لله) (¬1). ولكن، ومع معرفة (الأمير عبد القادر) لهذه الحقيقة التي يحق له أن يفتخر بها ويفاخر، فقد أدرك أن ما وصل إليه، يتطلب منه العمل والجهد، حتى يكون جديرا بشرف الأجداد، وها هو يقول: (لا تسألوا ابدا ما هو أصل الإنسان وفصله، بل اسألوا حياته، وأعماله وشجاعته ومزاياه، وعندئذ تدركون من يكون). فالعمل هو الذي يشهد على قيمة الرجل، وها هو رجل الموقف ينطلق للعمل. ¬

_ (¬1) الأمير عبد القادر - سلسلة الفن والثقافة - وزارة الأعلام والثقافة - الجزائر 1974 ص (10).

بناء دولة الحرب

2 - بناء دولة الحرب تلقى (عبد القادر) البيعة تحت شجرة الدردار (الدردرة) الضخمة، وهي الشجرة التي طالما اعتاد الأعيان على الالتقاء تحت ظلها، للشورى، كلما دهمهم خطب، أو بغتتهم نائبة، فيجمعهم (وادي مروحة - من قبيل غرس) ليخرجوا وقد استمدوا من ضعفهم قوة، وتجمعوا من بعد تفرق. غير أن تجمعهم في هذه المرة تمخض عن أمر جلل، لقد أسندوا قيادتهم إلى عبد القادر وحددوا له مهمته: (إننا في حاجة لمن يقود سفينتنا ويقف في وجه العدو في الداخل والخارج ليذيقه العذاب، ولهذا فقد اتفق العام والخاص على إسناد الإمارة لعبد القادر بن محيي الدين). أراد المرابطون والمجاهدون أن يكون (عبد القادر بن محيي الدين) سلطانا عليهم، وبايعوه على ذلك، وتبعهم رجال القبائل على هذه البيعة، غير أن (عبد القادر) عزف عن (لقب السلطان) حتى يكسب صداقة سلطان مراكش (المغرب) واكتفى بلقب (أمير المؤمنين) وهو لقب ألصق بمفهومه للحكم، وأقرب إلى أصالته العربية - الإسلامية. ثم مضى إلى بناء (الدولة الحديثة) التي يمكن لها مشاركته

في حمل أعباء الحرب، ورفع راية الجهاد في سبيل الله، خلال تلك المرحلة التاريخية. بدأ (الأمير عبد القادر) مرحلة التنظيم بتشكيل جهاز الحكم (الوزارة) والتي تكونت كالتالي: 1 - رئيس وزراء - ويقوم بهذه المهمة الأمير عبد القادر (ناصر الدين). 2 - ناب رئيس. 3 - وزير خارجية. 4 - وزير خزانة المملكة. 5 - وزير الخزينة الخاصة. 6 - وزير الأوقاف. 7 - وزير الأعشار والزكاة. ثم يأتي بعد الوزراء الكتبة، وهم ثلاثة حسب الحاجة، ثم الحاجب، واتخذت هذه الوزارة من مدينة معسكر مقرا لها. واختار الأمير لشغل هذه المناصب أفضل الرجال ممن تتوافر لهم الكفاءة العلمية والخبرة الغنية والمهارة السياسية والقدرة القيادية إلى جانب الفضائل الخلقية والدينية قبل كل شيء، وبذلك استطاع الوزراء الاضطلاع بمسؤولياتهم على أفضل وجه ممكن، فلم تمض أكثر من فترة قصيرة حتى اشتهرت عن جدارة بأنها (من أفضل الوزارات التي عرفها القرن التاسع عشر). واختار الأمر لحاشيته الخاصة رجالا عرفوا بأنهم من أخلص قادة البلاد العسكريين، ومن العلماء والقضاة، فكون منهم

(مجلسا للشورى) بلغ عدد أفراده أحد عشر عضوا يمثلون المناطق المختلفة، وجعل على رأسهم (قاضي قضاة الجزائر). وما كاد يفرغ الأمير من تنظيم أجهزة الدولة، حتى أرسل إلى عمال الحكومة السابقة (في العهد التركي) والذين لا زالوا في مناطق لم يغتصبها الاستعمار الإفرنسي، طالبا إليهم الامتثال إلى (الطاعة والجماعة). حاثا إياهم على إعلان الولاء للحكومة الجديدة، والرجوع إليها في كل أمورهم. فاستجابت له الأغلبية الساحقة، وأعربت عن غبطتها بالخضوع لطاعته. أما الذين أبوا الدخول في طاعة الأمير الجديد، مغتنمين الذعر والفوضى التي انتشرت في البلاد على إثر احتلال العدو لبعض مناطقها فقد اختاروا الاستقلال بإدراتهم تدفعهم إلى ذلك شهوة التحكم والطمع، غير مبالين بما بحدق بالبلاد من خطر مدمر، وما يترتب على عصيانهم من تشتيت لوحدة الشعب، وتبديد لقوته، في الوقت الذي كان فيه العدو يجند كافة موارده ويحشد جميع قواته لاجتياح الوطن الجزائري. هؤلاء المارقون، سرعان ما أفحمهم الأمير بالمنطق أو أخضعهم بالقوة، مستدركا الخطر الذي ينتج عن عنادهم. وعين في مناصبهم رجالا توافرت لهم الكفاءة والقدرة والعدل والإخلاص .. وبذلك استقرت الأمور الجديدة، وبدأت تعمل جاهدة على إرساء قواعد الحكم النزيه على أسس متينة قوامها الدين الإسلامي وقواعده وأسسه الفاضلة. وكان أول عمل قامت به الحكومة هو الإعلان عن إلغاء المظالم. وإبطال القوانين التي كانت تفرض على المواطنين الجزائريين بين ضرائب ثقيلة ومغارم مرهقة. وأزال ما كان يعرف (بقبائل المخزن) فحقق المساواة بين كل المواطنين أمام القانون. وضبط نظاما بسيطا للحكم، وأنقص ما يمكن من الوسطاء، بهدف الوصول إلى أكبر، وتأمين السرعة في التنفيذ، ومنح أعضاء الحكومة سلطات

واسعة، وحرص في الوقت ذاته على مراقبة ممارساتهم. وحدد للموظفين رواتب كافية حتى لا تمتد أيديهم إلى الحرام (الاختلاس والابتزاز). وكانوا مسؤولين أمام الأمير، كما كانت الرقابة الشعبية - بلغة العهود الحديثة - مطبقة بصورة شاملة، حيث كان منها ديه يرفع صوته بين القبائل وفي الأسواق، داعيا الناس لممارسة هذا الحق بقوله: (من كانت له شكوى على الخليفة أو الآغا أو القائد أو الشيخ، فليرفعها إلى الديوان الأميري من غير واسطة، فإن الأمير ينصفه من ظالمه ومن ظلم فلم يرفع ظلامته إلى الأمير فلا يلومن إلا نفسه) وقد أكد مفهومه في مشاركة الشعب في الحكم من خلال رسالته التي كتبها إلى ملك فرنسا - لويس فيليب - والتي قال له فيها: (عليك أن تعلم أن أي إجراء لن يكون صالحا إذا لم يحظ بمصادقة الشعب). يمتد الوطن الجزائري على مساحة جغرافية واسعة، على ما هو معروف، ولم تكن وسائط الاتصالات متوافرة بمثل بمثل ما أصبحت عليه اليوم، ولهذا عمل الأمير عبد القادر على إعادة تقسيم البلاد إلى مقاطعات وهذه إلى دوائر، ووضع في كل منها آغا، وهذه الدوائر تشمل على القبائل النازلة فيها، وتشمل القبيلة على (بطون وعشائر). فجعل على كل قبيلة قائدا وعلى كل بطن وعشيرة شيخا. فكانت الأوامر الأميرية تصدر إلى العمال المعروفين (بالخلفاء) ومنهم إلى الأغوات، ومنهم إلى القواد ومنهم إلى المشايخ. ويقوم المشايخ برفع القضايا التي تحدث والمشكلات التي تقع إلى القواد، وهم يرفعونها إلى الأغوات ومنهم ترفع إلى الخلفاء، ثم تعرض على الحضرة الأميرية، وفي وقت الحرب يصبح هؤلاء الرؤساء قادة عسكريون، فيجمع كل منهم جماعة من عشيرته ويقودها إلى الحرب. وكان (الأمير عبد القادر) يحرص عند تجميعه للقبائل على ما بينها من روابط، وعلى

ما يربطها ببيئتها المقيمة فوقها من روابط جغرافية وتاريخية. فلم يكن يتردد في تحويل بعض القبائل خوفا عليها من الضعف تجاه ترغيب العدو وإرهابه، وكان وهو يمارس ذلك كله يدرك تماما أهمية التنظيم. وقد عبر عن ذلك بقوله: (كانت أوامري تصل إلى الخلفاء، ومنهم تنزل في تسلسل مضبوط إلى المشايخ، ثم ترفع تقارير المشايخ بنفس التسلسل، إلى أن تصل إلي. لقد كان هدفي هو طرد المسيحيين من أرض آبائنا. وكنت دوما أتحاشى استعمال الجواده (الأجواد) وأستعين بالعلماء وأهل الدين في تسيير الحكم. وقد أثبت طول المعركة بأنني كنت على صواب ... كما أنني أبعدت بطريقة مطلقة ودون أي استثناء الممثلين السابقين للحكومة التركية، لأنهم كانوا دنيئين، وكان بودي أن يقارن الناس بسرعة بين الذين يتملكهم العجب، وتغريهم زينة الحياة الدنيا. وبيني أنا الذي لم يكن لي إلا هدف واحد وهو انتصار المسلمين. وأدركت بأنني لن أوفق إلى منع القادة الذين عينتهم من أن يقرفوا اختلاسا أو أستطيع معاقبتهم - في حال ما إذا اقترفوا شيئا من ذلك - إلا إذا وفرت لهم مرتبا يكفيهم مؤونة العيش. ولذا خصصت للخليفة (110) دورو، شهريا، وصاعا من القمح يوميا حتى يتمكنوا من النفقة على ضيوفهم الكثيرين والذين يتقبلونهم بحكم مركزهم ومسؤوليتهم. وخصصت للآغا (عشر) جميع ما يتقاضاه من ضرائب وذلك نقدا أو وعينا. وكان القائد يعامل أقل من الآغا بحكم مستوى دائرته ومسؤوليته بالنسبة للآغا. وهكذا فإن كل واحد كان يتقاضى ما يناسب مهمته. ولحماية الرعية مما قد يلحقهم من مظالم من طرف رؤسائهم. فقد أقسم (حلف) الخلفاء والآغوات على صحيح البخاري بأن لا يعدلوا عن الحق، وأن يكونوا صادقين في خدمة

مواطنيهم. وكنت أسهر بنفسي على جميع أعمالهما) (¬1). ولم تمض أكثر من سنوات قليلة (في سنة 1837) حتى أصبحت الجزائر عبارة عن دولة اتحادية (فيدرالية) تضم ثماني مقاطعات، على رأس كل مقاطعة خليفة مهمته الرئيسية العمل على احترام الأجهزة الاجتماعية التقليدية، وتحقيق الوحدة الضرورية لمواصلة الحرب. فكان على رأس (تلمسان) السيد (محمد البوحميدي الولهاصي) وبها (13) ألف مقاتل. وعلى رأس (معسكر) صهر الأمير السيد الحاج (مصطفى بن أحمد التهامي) وبها (10) ألف مقاتل. ولما امتدت طاعته إلى ما وراء (وادي شلف) جعل (مليانة) مقاطعة ثالثة، وولى عليها السيد (محيي الدين بن علال القليعي) ولما مات ولي عليها السيد (محمد بن علال) من أقاربه، وكان معه (10،440) مقاتل. ولكل من هذه المقاطعات الثلاث مرسى تخصها فلتلمسان مرفأ (رشقون - أو رشكون) ومرفأ معسكر هو (آرزيو).أما (شرشال) فقد بقي مرفأ لمقاطعة (مليانة) كما ولى أحد القادة العسكرين البارزين (وهو السيد محمد البركاني) على المدية، والسيد (ابن الطيب بن سالم) حاكما على (برج حمزة) ومعه (4350) جندي، وبإمكانه - بالإضافة إلى ذلك أن يعتمد على المتطوعين من بلاد القبائل. وولى السيد (طبال بن عبد السلام) خليفة على مجانة). أما الجنوب الصحراوي فكانت به مقاطعتان، إحداهما مقاطعة (الزيبان) وعلى رأسها السيد (بن عزوز) ومقاطعه الصحراء الغربية، وولى عليها السيد (قدور بن عبد الباقي) الذي كان تحت قيادته ما يزيد عن (8) آلاف مجاهد. وفي المجموع كانت هناك (8) مقاطعات تضم ما يزيد على (59) ألف مقاتل، منهم قرابة (6) آلاف جندي منظم. وهذا ¬

_ (¬1) الأمير عبد القادر - سلسلة الفن والثقافة - الجزائر - 1974 ص 53 - 56.

آ - تنظيم الجيش

ما يوضح لنا الدور العسكري الذي اضطلعت به الحكومة المنظمة لمقاومة الغزاة. آ - تنظيم الجيش: أخذ الأمير عبد القادر - منذ لحظة مبايعته بالإمارة - ببذل جهود جبارة لإعادة تنظيم الجيش. ووضعه في مصاف الجيوش المعاصرة له في الدول العظمى. فقسمه إلى ثلاث فرق - أو أسلحة - وهي (المشاة والخيالة والمدفعية) ووحد زيه - لباسه - وأصدر القوانين العسكرية التي يجب على الجندي التمسك بها، مع تحديد العقوبات الصارمة والرادعة على المخالفات والأخطاء المرتكبة. ووضع سلم التسلسل العسكري كالتالي: جاويش (رقيب) لقيادة 12 جنديا. رئيس الصف لقيادة 20 جنديا. السياف لقيادة 100 جندي. الآغا لقيادة 1000 جندي. ويعاون الآغا والسياف في عمله (كاتب) مهمته تنظيم المحاسبة والرسائل والتقارير، ويشرف هذا الكاتب على أعمال توزيع الطعام والرواتب الشهرية على الجند. ولكي يتميز الرئيس عن المرؤوس، منح الضباط بحسب رتبهم علامات فارقة من الذهب والفضة والجوخ الأحمر. ونقش على هذه العلامات آيات وعبارات تحمل جميعها طابع النظام والطاعة والجهاد. وتقرر منح الأوسمة لمستحقيها من شجعان الجنود: (فالجندي الذي ينقض على صفوف العدو فيغلب خصمه ويحرده من سلاحه، أو يدعو الجنود للصمود عندما يكونون على

وشك الهزيمة، ويمنع بمثاله وحضور عقله وقوع الفشل أو الهزيمة، سيعلق له السلطان شخصيا الوسام أمام الجيش كله، وتعلن بطولته بدق الطبول) ويختلف هذا الوسام في مظهره بحسب جدارة مستحقه، فهو يتكون من يد فضية، أو فضية مموهة بالذهب ممتدة الأصابع. وعدد الأصابع الممتدة يشير إلى عدد مواقف البطولة التي وقفها الجندي. وكل أصبع ممتد يجعل البطل مستحقا لراتب إضافي يبلغ شلنا واحدا شهريا. وفي وسط الوسام كتبت عبارة (ناصر الدين).وكان الوسام يلصق لا على الصدر ولكن على أحد جانبي رأس البرنس. وكان الوسام يمنح أيضا للمدنيين الذين قاموا بخدمات إدارية عظيمة. كانت بدلة الجندي تتكون من سروال أزرق داكن مع حمرة ومن معطف بني له غطاء للرأس وطاقية وشاش صغيرين. وكان راتبه يبلغ تسعة فرنكات شهريا. وعلى الكم الأيمن لكل قائد خيطت العبارة التالية: (الصبر والمثابرة مفتاحا النصر) وعلى الكم الأيسر: (لا إله الا الله محمد رسول الله). وعلى الكتف الأيمن للآغا - وبدلا عن الشارة العسكرية لدى الأوروبيين - كتبت العبارة التالية: (لا شيء يفيد كالورع والشجاعة) وعلى الكتف الأيسر: (لا شيء يضر كالجدل والعصيان). وكان جميع ضباط الجيش يحملون عبارات مكتوبة على بدلاتهم مشابهة لهذه في مضمونها. فالصبائحية - أو الفرسان النظاميون - يلبسون بدلات بنية فقط، وكان قادتهم يحملون عبارة: (ثق في الله ورسوله - جاهد وانتصرا). وكان المدفعيون يحملون عبارة: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}. لم يتجاوز عدد أفراد الجيش الإسلامي في عهد الأمير عبد القادر (16) ألف مقاتل، في صفوف الأسلحة الثلاثة، وكانت أعباء الجهاد

أكبر من حجم هذا الجيش النظامي. ولهذا فقد اعتمد الأمير عبد القادر على (مجاهدي القبائل) الذين بلغ عددهم في بعض الأحيان (150) ألف مجاهد. وقسمت الوحدات الأساسية في الجيش النظامي إلى (كتائب) تضم الكتيبة منها (مائة جندي) أما الوحدة الأساسية في الفرسان فكانت السرية، وهي تضم (50) رجلا. وبقي المدفع هو وحدة الرمي، ويبلغ عدد سدنة المدفع (12) جندا. عندما بدأ (الأمير عبد القادر) في تكوين جيشه النظامي، وضع مجموعة من الأوامر التنظيمية العسكرية، تتضمن أدق التفاصيل المتعلقة بالانضباط والرواتب وملابس الجند. وكانت هذه الأوامر التنظيمية تقرأ مرتين في الشهر على مختلف الوحدات، وكانت تتخللها الوصايا والوعود للسلوك الطيب. ويكفي هنا التعرض لتوجيه يعتبر نموذجا لتلك الوصايا وفيه ما يلي: (من الضروري أن يكون القائد شخصيا شجاعا ومقداما، وأن يكون من أسرة محترمة، ليس محلا للانتقاد الأخلاقي، محافظا على دينه، صبورا، حليما، حذرا، حاضر البديهة، ذكيا في لحظة العسر والخطر، ذلك أن القائد بالنسبة لجنوده هو بمنزلة القلب من الجسد، فإذا كان القلب عليلا فلا فائدة من الجسد). لقد تحدث (الأمير عبد القادر) عن الصعوبات التي جابهته منذ البداية، وعن الطرائق التي اتبعها للتغلب على تلك الصعوبات بما يلي: (إن تجنيد جيش نظامي من شعب لم يعرف التجنيد الإجباري حتى أيام الحكم التركي، هو تجربة خطيرة تحتاج إلى حنكة وحذر كبير، لا سيما مع ما عرف عن هذا الشعب من الاستعداد للثورة بمجرد طرح فكرة التجنيد الإجباري ولهذا كان من المحال الإعلان عن خطة

من هذا النوع صراحة، فتم توجيه الدعوة الودية بشكل اقتراح وتلميح، ووزعت على كل المدن والدوائر، وهي: (على كل من يرغب في أن يلبس لباسا أنيقا وأن يصبح ابنا للسلطان، عليه أن يأتي ويلتزم بذلك، فإنه يحصل على راتب محترم، وسيعفى من كل شيء) وقد استجاب بعض الشبان لما تضمنه النداء. وقدموا أنفسهم للتجنيد. وبذلك أمكن البدء بتشكيل الجيش النظامي بدون أن يشعر أحد بذلك تقريبا. وقد وصف الأمير عبد القادر تنظيمه العسكري بالتالي: (أصبح لدي جيشا نظاميا مكونا من (8) آلاف جندي وألفي فارس - أو صبائحي - و (240) مدفعا. وكان عندي (20) مدفع ميدان بالإضافة إلى مخزون كبير من المدافع الحديدية والنحاسية مما خلفه الأتراك، والتي كان عدد كبير منها غير صالح للاسعمال عمليا. وإلى جانب ذلك، كانت هناك القوات التي ترسلها إلي القبائل الخاضعة لي وقوات خلفائي، والتي كانت تشكل قوة احتياطية ضخمة، رغم أنها مؤقتة، ما دمت لا أستطيع أن أحتفظ بالجنود لمدة طويلة بعيدا عن قبائلهم. ومن هنا كان لا بد من زيادة الاعتماد على الجيش النظامي - فكان باستطاعتي إمداد كل خليفة من خلفائي بألف جندي و (200) فارسا، ومدفعين أو ثلاثة. وكان جنودي المشاة يجندون من المتطوعين فقط، ولكنهم كانوا أكفاء إذا أخذنا في الاعتبار وسائل المالية والأسلحة التي كانت تحت يدي ... وكان مدربو جيشي النظامي من المشاة هم جنود (النظام) من تونس وطرابلس، بالإضافة إلى الفارين من الجيش الإفرنسي. وقد ازداد عدد هؤلاء حتى تم تشكيل كتيبة خاصة منهم، وقد حاربوا ضد مواطنيهم بكل شجاعة وإقدام، ولقد وزعتهم على خلفائي. أما النظاميون من فرساني، فقد

ب - التسلح والصناعة الحربية

رفضوا الخضوع لتدريب المدربين. إنهم كانوا في أسلوبهم الحربي تقودهم شهامة مستقلة تمنعهم من الاعتراف بسيد يحضعون له. وكانوا يعرفون بأنهم لا يساوون شيئا عند قتال الصدمة، غير أنهم كانوا يعتقدون أن ما من أحد ينافسهم في الاشتباك الفردي وفي الكمين وفي المباغتة وفي المناوشات الخفيفة. ولم يكن الهروب في نظرهم يحط من قدرهم حتى أمام قوة أصغر منهم، لأن هروبهم لم يكن في الغالب سوى خدعة. وكان المبدأ الذي علمتهم إياه هو أن يلحقوا الأضرار بالعدو قدر استطاعتهم بدون أن يتعرضوا هم لأي ضرر). ب - التسلح والصناعة الحربية: أمكن للأمير عبد القادر تلسيح جند جيشه النظامي كلهم بالبواريد الإفرنسية أو الإنكليزية. وحصل على هذه البواريد إما عن طريق الغنائم التي اكتسبها نتيجة معاركه الظافرة، أو من الجنود الإفرنسيين الفارين، أو بالشراء من المغرب الأقصى (مراكش). وكان على كل عربي يمتلك بارودة إفرنسية أن يبيعها إلى الدولة بمبلغ جنيهين إنكليزيين، ثم إن هذا العربي يحصل لنفسه على بندقية محلية الصنع، أو بطرقه الخاصة من الأسواق، أو من قبائل الصحراء التي تأتي إلى التل، فتغرق البلاد بأسلحة تحملها معها من تونس، ومن تقرت، ومن ميزاب، ومن أولاد سيدي الشيخ. وأدرك الأمير عبد القادر ضرورة الاعتماد في تسلحه على القدرة الذاتية للبلاد، فأقام مصانعه التي كان يديرها أوروبيون، والتي أخذت تنتح بكفاءة وإتقان ما يحتاجه الجيش من مصانعها في أهم المدن الخاضعة للأمير. ففي (تلمسان) أقيم مصنع لصهر المدافع، كان ينتج يوميا إثنا

عشر، وستة مدكات مدافع - تحت إشراف هارب إسباني قدم إلى المغرب. وكان أحد الإفرنفسيين الإختصاصيين في علم المعادن (يدعى السيد دوكاس) قد أنشأ في مدينة مليانة مصنعا للبنادق وآخر لإنتاج البارود، وكان الحديد يحضر من منجم بالقرب من مليانة. وكانت مناجم ملح البارود والكبريت والحديد والنحاس محل عمل متواصل. وقد تركزت صناعة البارود في تلمسان ومعسكر ومليانة والمدية وتاقدات. وبالإضافة إلى ذلك، فقد اشترى (الأمير عبد القادر) كمية كبرى من البارود - من المغرب الأقصى - واشترى أيضا أحجار الصوان نظرا لعدم توافره في المغرب الأوسط - الجزائر - وتم استيراد الكبريت من فرنسا، أما ملح البارود فكان متوافرا في كل مكان. وكانت المدن الإفرنسية الساحلية تقدم للأمير ما يحتاجه من الرصاص - خلال فترات السلم - بالإضافة إلى الكميات الهائلة التي قدمها له المغرب الأقصى. وأمكن بعد ذلك فتح منجم للرصاص في جبل (الونشريس) غير أن تكاليف استخراج الرصاص هنا كانت باهظة جدا، ولهذا السبب، حرص الأمير على الاحتفاظ بالذخائر في مخازن الدولة، وعدم التوزيع على الأعراب إلا بكميات محدودة نظرا لأنهم كانوا يبذرون في اسخدامه خلال احتفالاتهم ومهرجاناتهم. ولم يخرج عن هذه القاعدة إلا عندما كان يتطلب الأمر إمداد الجند الذين يحاصرون الإفرنسيين، أو في ميادين القتال، حيث كان يتم الإمداد بالذخائر في مواقع القتال ذاتها. وعندما أخذ الأمير في بناء قاعدة (تاقدامت) - اعتبارا من سنة 1836 م - عمل على تحويل السراديب الرومانية القديمة إلى مخازن للذخيرة والكبريت وملح البارود والنحاس والرصاص والحديد. ولكل الآلات والأدوات التي اشتراها (مولود بن عراش) من فرنسا بمبلغ أربعة آلاف جنيه استرليني. وكان مصنع

ج - الحصون والتنظيم الدفاعي

البنادق في (تاقدامت) ينتج ثماني بندقيات يوميا. وهو عمل من إنتاج صناع إفرنسيين جاء بهم من باريس بأجور حرة. وهناك وثيقة عن صناعة الذخائر - في المصانع الحربية الجزائرية - خلال تلك الفترة، جاء فيها ما يلي: (يعمل العرب قبل كل شيء على لف المقوى - الورق - حول قضيب معدني مجوف، ثم يدخلون الرصاصة في الأنبوب، حتى إذا ما صنعوا عددا منها جاؤوا بالبارود المحمول على جلد الخراف حيث يقوم عدد من الجنود بدهن الأنابيب (التي تحولت إلى خراطيش، أو ظروف) مع إملائها بالبارود مستخدمين في ذلك مقياسا صغيرا من القصب، في حين يعمل الآخرون على إحكام إغلاق الخرطوشة ووضعها في علب تتسع الواحدة منها إلى خمسة عشر خرطوشة - طلقة - ثم تغلف هذه بورق يكون عرضه مساويا تقريبا لطول الطلقات ويحزم الجميع) (¬1). ج - الحصون والتنظيم الدفاعي: اقتنع الأمير عبد القادر بنتيجة نجاح الإفرنسيين في احتلال (معسكر وتلمسان) دونما عناء كبير، بأنه من الضروري إقامة مراكز للاستيطان تكون بعيدة عن قبضة الإفرنسيين, وكان لا بد له في الوقت ذاته من اختيار مواقع هذه المراكز الاستيطانية - أو المدن - بحيث يمكن لها الإشراف على مناطق استيطان العرب لإبقائها تحت هيمنته، وإشعار القبائل الصحراوية المضطربة بالسلطة، وحمايتها من هجمات الإفرنسيين. وقد اختار خط التل في الجنوب لإقامة هذه ¬

_ (¬1) LA RESISTANCE ARMEE ALGERIENNE . P. 160

المدن، فأقام مدينة إلى جنوب كل مدينة كبرى سيطر عليها الإفرنسيين. وعلى الرغم مما كان يعانيه (الأمير عبد القادر) من ضعف الموارد، فقد انصرف بكليته لإقامة هذه التحصينات والمدن في المواقع الجيو - استراتيجية الحصينة، فكان منها (سيبدو) في الغرب، و (سعيدة) في الجنوب من تلمسان و (تاقدامت) إلى الجنوب من معسكر، و (بوغار) إلى الجنوب من مليانة، و (بلخورط) الواقعة جنوب - شرق مدينة الجزائر مقابلة المدية، وأخيرا (بسكرة) إلى الجنوب من قسنطينة. وكان الأمير عبد القادر وهو يقيم هذه المدن مقتنعا بأنه عند استئناف الحرب سيكون مضطرا لإخلاء كل المدن الواقعة على الخط الأوسط للأطلس، وبذلك سيكون من المحال على الإفرنسيين الوصول إلى الصحراء قبل مضي مدة طويلة على الأقل، لا سيما وأن الذيل الإداري الثقيل للقوات الإفرنسية سيعيق من تحركها السريع. وقد رغب في تدمير المدية ومليانة ومعسكر وتلمسان، حتى يحرم الإفرنسيين من التوغل بسرعة نحو الصحراء غير أن هذا المخطط الذي يعتمد على ما هو معروف باسم (الأرض المحروقة) قد لقي مقاومة بحجة أن الإفرنسيين يستطيعون بناء ما تهدم، كما أن عملية إعادة بناء هذه المدن عند الانتصار على الإفرنسيين سيكلف مبالغ طائلة (فظيعة). وكان من رأي الأمير أن هذه المدن التي يرغب في تدميرها هي (حجر المرتقى) التي سيصعده الإفرنسيون للوصول تدرمجيا إلى جوف الجزائر. ويعتبر بناء (تاقدامت) في طليعة منجزاته في هذا المجال، وقد كانت (تاقدامت) مدينة رومانية قديمة لم يبق منها إلا الأنقاض التي أراد (الأمير) الإفادة منها لإقامة عاصمة لإمارته. وكانت تقع على مسافة ستين ميلا إلى الجنوب الشرقي من وهران، ويبلغ محيطها العشرة أميال، وفيها معبدين كبيرين. وبقيت هذه المدينة خلال

عهد الازدهار الإسلامي مركزا للحكومة وفيها مدرسة ثانوية تخرج منها عدد من العلماء والشعراء. غير أن الصراع بين حكام القيروان و (فاس) في نهاية القرن العاشر الميلادي تسبب في تدميرها نهائيا، فجاء الأمير عبد القادر، وصمم على إعادة مجدها لها، مستفيدا من موقعها الجيو - استراتيجي الحصين، فوضع حجر الأساس لأول حجرة (غرفة) فيها - في شهر أيار (مايو) سنة 1836، ووضع بنفسه خطة التحصينات التي يجب أن تحيط بها، ودفع جوائز إلى كل القبائل القريبة منها حتى ترسل له العمال للاسهام في بناء الحصون. وأحضر سكان (معسكر) ومعهم معاولهم ومجارفهم وسلالهم للعمل فيها. كما أرسلت (المدية ومليانة) الأجبان والفواكه المتنوعة، وقد كانت هذه المواد التموينية بالإضافة إلى الخبز الأبيض الجيد، وإلى وجبات اللحم والأجور، من العوامل التي أسهمت بإنجاز العمل، فسرعان ما شيدت المنازل وظهرت الشوارع، وتقاطر عليها المواطنون من مختلف الأجناس للاستقرار فيها واستيطانها، فكان هناك العرب والأندلسيون والكراغلة (أب تركي وأم عربية جزائرية) الذين قدموا مع عائلاتهم لكناها بالإضافة إلى بقية المواطنين القادمين من (معسكر ومازغران - مازغنان - ومستغانم). وقد تحدث الأمير عن هذا الإنجاز بقوله: (كانت - تاقدامت - ستصبح مدينة كبيرة، وهمزة وصل للتجارة بين التل والصحراء. وقد مر العرب بموقعها، وجاؤوا إليها في غبطة لأنها تمنحهم فرصا كبيرة للربح، وبالإضافة إلى ذلك، كانت تاقدامت شركة في عين القبائل الصحراوية المستقلة، فهم لا يستطيعون الهروب مني. وقد سيطرت عليهم بمجرد التحكم في حاجاتهم المادية. فما دامت الصحراء لا تنتج الحبوب فهم مضطرون أن يأتوا إلي للتموين، لقد بنيت - تاقدامت -

فوق رؤوسهم. وعندما شعروا بذلك سارعوا إلى عرض طاعتهم. والواقع أنه منذ هذا الوقت كان باستطاعتي دائما أن أفاجئهم بفرساني غير النظاميين (القوميين - أو القوم). وإذا لم أتمكن من حمل خيامهم معي فقد كنت على الأقل أسوق مواشيهم. وكانت العقوبات القاسية التي طبقتها على بعض القبائل النائية قد جعلت البقية تدرك بسرعة أنه لا أمل في الهروب مني. وهكذا انتهى الأمر بالجميع إلى الخضوع لسلطتي، ودفع العشور والزكاة بانتظام. بل لقد كان من عادتي أن أرسل من يحصي مواشيهم دون أن ينسبوا بكلمة واحدة). وكان الأمير عبد القادر يشرف على كل الأعمال برقابة شخصية مستمرة. وقد وصف السيد (دي فرانس) الذي كان أحد المساجين عندما كانت تلك الأعمال في أوج نشاطها، ما رآه فقال: (بعد زيارة الأنقاض جئنا إلى استحكام كان عبد القادر يقيمه على بعد حوالي مائتي خطوة من قلعة - تاقدامت - وقد اقتربنا من السلطان الذي كان متكئا، بصحبة كاتبه - ابن عبود ومولود بن عراش - على مرتفع من تراب ألقى به العمال حديثا من خندق كانوا يحفرونه باجتهاد. كان لباسه من البساطة بحيث لا يميزه المرء عن العمال إلا بصعوبة. وكان يضع على رأسه مظلة كبيرة مصنوعة من سعف النخيل، وكان محيط حافة المظلة التي كانت مخيطة بخيوط من الصرف ومزينة بالعذبات، يبلغ ثلاثة أقدام. أما المظلة نفسها فقد كان علوها قدما ونصفا على الأقل. وكانت تبدو كأنها نفق منته بهامة. وعندما مررت بالسلطان حيانى بجلال فريد، وبابتسامة عذبة، وأشار على بيده للجلوس. وقد بادءته بالحديث قائلا: إذا حكمنا من الأنقاض، فإن المدينة لا شك كانت فيما مضى واسعة ومزدهرة. فأجابني: نعم لقد كانت جميلة جدا وعظيمة جدا فسألت: هل تعتقد أنني سأكتشف أي حجر عليه كتابات قديمة؟

فأجابني: (إنك سوف لا تجد شيئا، لأن هذه المدينة لم تكن ذات يوم مسيحية. ولقد كانت إحدى أوائل المدن التي بناها العرب. وكان أجدادي السلاطين الذين كان مركزهم - تاقدامت - يحكمون من تونس حتى المغرب الأقصى) ثم سألني السلطان رأيي في بناء التحصينات. فأجبته بأنها تظهر لي جيدة في موقعها وفي هندستها. وكان من الواضح أنه استفاد في بناء تحصيناته من نظرة نقدية إلى تحصيناتنا الخشبية. ويبدو أنه قد سر كثيرا من جوابي. ثم استأنف حديثه معي قائلا بحيوية:. - (إنني ما زلت آمل أن أعيد إلى تاقدامت ماضيها المجيد. وإنني سوف أجمع القبائل فيها حيث سنكون في مأمن من هجمات الإفرنسيين. وعندما تكون كل قواتي قد اجتمعت فإنني سوف أنزل من هذه الصخرة الشماء، كما ينزل النسر من عشه، لكي أطهر مدن الجزائر وعنابة ووهران من المسيحيين. ولو أنكم راضون حقيقة بهذه المدن لتركتكم تعانون فيها، لأن البحر ليس من شأني، وليس لي سفن. ولكنكم تريدون أيضا الاستيلاء على سهولنا ومدننا الداخلية وجبالنا. بل إنكم طمعتم حتى في خيلنا وإبلنا وخيامنا ونسائنا. لقد تركتم بلادكم وأتيتم لتأخذوا الأرض التي وضع فيها محمد (ص) شعبه. ولكن سلطانكم ليس فارسا ولا مرابطا، وستتعثر خيولكم وتسقط عن جبالنا لأنها ليست ثابتة الأقدام كخيولنا، وسيموت جندكم مرضا، وحتى أولئك الذين سينجون من المرض سيسقطون برصاصنا). أراد الأمير عبد القادر جعل (تاقدامت) قاعدة صلبة للدولة المحاربة، لا مجرد قلعة حربية فقط، فوضع في اعتباره ضرورة إقامة مراكز علمية فيها، وإنشاء مدرسة ثانوية، وإقامه مكتبة عامة شرع في

د - التنظيم الإداري والتموين

إحضار الكتب إليها من كل أنحاء المشرق العربي - الإسلامي (وقد كلفت المكتبة كثيرا من الوقت والجهد) على حد تعبير الأمير، وأقام في (تاقدامت) دارا لسك النقود الفضية والنحاسية (التي حمل أحد وجهيها عبارة - باسم الله - نعم المولى ونعم النصير - وحمل وجهها الآخر عبارة: ضرب في تاقدامت بأمر السلطان عبد القادر). كما أقيمت في (تاقدامت) مصانع النسيج التي أخذت في إنتاج الأقمشة ذات النوعية الممتازة. علاوة على مصانع الأسلحة والذخائر. ونظمت حماية المدينة، فكان هناك اثني عشر مدفعا وستة مدافع هاون منتشرة بين التحصينات القوية. د - التنظيم الإداري والتموين: كان على (الأمير عبد القادر) استثمار كافة الموارد لما يطلق عليه اسم (إقتصاد الحرب). فقد كان عليه، كما قال هو ذاته: (توفير المصاريف لادارتي. كان علي أن أصنع كل شيء من العدم، رغم أنني قيدت نفسي بالإنفاق على ما هو ضروري فقط. فكان لابد من فرض الضرائب الثقيلة) ومن أجل ذلك، أمر خلفائه في الأقاليم بمراقبة الموارد مراقبة شخصية، فكانوا يقومون بجولة مرتين في السنة، مرة في الربيع لجمع الزكاة، وأخرى أثناء الحصاد لجمع العشور. وكان عليهم خلال جولاتهم مراقبة إدارة الآغوات وتنظيمها، ورفع التقارير إلى الأمير عن أي شكوى ضدهم، كما كان عليهم الإشراف على الأعمال الأخرى التي تجري في أملاك الدولة. وكان يتبع - الخلفاء - في جولاتهم، عادة، فرقة نظامية وقوة من الفرسان غير النظاميين - الإحتياطيين - المعروفين باسم (الصبائحية). ذلك أنه كان من الصعب حمل الأعراب على دفع الضرائب طوعا، لا سيما عندما كان

يتعرض الأمير للهزيمة في مجابهته لقوات الإفرنسيين، فكان لسان حالهم كما وصفهم عبد القادر يردد في السر: (إن السلطان مشغول بالمسيحيين، فهو لا يستطيع فرض الضرائب علينا، دعنا لا ندبع إليه، بل دعنا نرى ما سيحدث) وما كان يحدث هو أنهم كانوا في النهاية يدفعون كل شيء، مع المتأخرات، ولكنهم لم يتعظوا أبدا فالعرب - على حد تعبير الأمير (لا ينظرون دائما إلا إلى اللحظة التي هم فيها). وكان الأمير عبد القادر يحاول وهو يطالب القبائل بدفع ما هو ضروري لدعم الدولة، أن يتوافق ذلك في الوقت ذاته مع مصالحهم الخاصة، بحيث يتم الجمع بين المصلحة العامة للدولة والمصالح الخاصة للمواطنين. ومن أجل ذلك طلب إلى خلفائه أن يقبلوا، بدل الضرائب والغرامات، المواد الاستهلاكية والبغال والإبل، وبالأخص الخيول. وكان يستفيد من ذلك كله، فيقدم الخيول لفرسانه، ويسخدم البغال والإبل في عمليات النقل والإمداد. أما المواد الاستهلاكية فكانت تقدم لتموين الجنود مع حفظ الفائض منها في مستودعات - مخازن - للطوارىء. ولقد تزايدت مصادر دخل (الأمير) عن طريق الغزوات التي كان يقوم بها كلما لجأت القبائل إلى السلاح لحل خلافاتها فيما بينها. فجعل من دولته المرجع الوحيد للاحتكام من أجل حل مثل هذه الخلافات، وأمكن له توسيع هذه القاعدة وتعميمها بحيث باتت لا تطلق رصاصة واحدة إلا بإذن الأمير وموافقته. وكان يعمل على توزيع الخيول والبغال والإبل التي تزيد عن حاجته بين القبائل للعناية بها ورعايتها لقاء أجور كافية. وقد برهنت هذه الطريقة على أهميتها وفاعليتها لمجابهة الظروف الصعبة الناجمة عن الحرب، حيث كانت خسائر الخيول في الفرقة النظامية كبيرة جدا،

حتى أنه ما من فارس لم يقتل تحته سبعة أو ثمانية من الخيول، وفي بعض الأحيان اثني عشر حتى ستة عشر فرسا. ويذكر الأمير عبد القادر هذا الموضوع بقوله: (وعلى سبيل المثال: فهناك ابن يحيى، ذلك الجندي الهمام الذي فضل موتا محققا على أن يعيش بعد هزيمتي، خلال معركتي الأخيرة مع المغاربة. (في كانون الأول - ديسمبر - 1847) فقد ثمانية عشر حصانا قتلت كلها تحته. وقد بلغت المنافسة درجة كبيرة في هذا المجال حتى أن أي فارس يقضي سنة دون أن يكون له حصان جرح أو قتل تحته، كان ينظر إليه باحتقار .. وكان (الأمير) لا يكتفي بتوزيع الخيول على الفرق النظامية، بل إنه كان يقدم الخيول أيضا إلى الفرسان غير النظاميين (القوميين - أو القوم) ممن تقتل خيولهم في العركة حتى بلغ عدد الخيول التي قدمها لهؤلاء أكثر من (6) آلاف حصان. ولم يكن باستطاعته دائما تأمين هذه الخيول، فكان يعمل في مثل هذه الحالات على تعويض الفارس الذي يقتل فرسه بجملين أو ثلاثين رأسا من الغنم يقوم الفارس ببيعها وشراء حصان بثمنها لركوبه. وقد تحدث (الأمير عبد القادر) عن بعض مصاعبه في مجال التنظيم الإداري والمالي، فقال: (لكي أعطي فكرة عن استهلاك الخيول، أقول إنني خلال سنة واحدة، أعطيت (500) حصان لغرابة وهران، وحوالي نفس العدد (لحاجوط) في سهول مدينة الجزائر. وفي الوقت ذاته هناك كثيرون لم أحاول أبدا تعويضهم، إما لأن أصحابهم أغنياء، وإما لأنني لم أعد أملك الوسائل لتعويضهم. وكانت الأغنام والأبقار التي تدفع بعنوان الزكاة تعطى للقبائل تحت إشراف القادة. وكان واجب هؤلاء المسؤولين أن يحسبوها، وأن يعينوا لها رعاة لإطعامها والعناية بها. وكانت هذه الحيوانات، التي توجد في مقر حكم كل خليفة، تستخدم لسد تكاليف الضيوف،

ولمعونة الفقراء ومساعدة الطلبة ولتموين جيشي الذي كان يأكل اللحم مرتين في الأسبوع. وبهذه الطريقة استطعت أن أقيم نظاما كاملا لإدارة الضرائب في كل ولاية (خلافة). ولكن عندما استؤنفت الحرب، لم أستطع منع الغش، وقد اغتنم العرب في كل مكان فرصة انشغالي، ولم يستطع سوى خليفتين أن يحافظا على النظام الذي أقمته إلى آخر لحظة، وهما: البوحميدي وابن علال، وقد كان الناس يخشون كلا منهما لصرامته. ولم تكن الاحتياطات التي ذكرتها تكفي لتموين جيشي في كل المجالات التي دعاه واجب الحرب للعمل فيها. لذلك أمرت تفاديا لوضع عبء جديد على الأهالي وهو إقامة (مطامير) أو مخازن للحبوب تحت الأرض في كل ولاية (خلافة) وكانت هذه المخازن توضع تحت حماية قائد كل قبيلة وبحيث لا يمكن للعدو العثور عليها، وكانت هذه المطامير - أو المستودعات مخصصة للحبوب التي تدفع كعشور، أو من أراضي الدولة، والتي كانت تحرث وتزرع مقابل أجور يتم دفعها للمزارعين، وأحيانا بالقوة. وبهذه الطريقة، برهنت للعرب، الذين من طبيعتهم الشك أنني لم آخذ شيئا من الضرائب لمصلحتي الشخصية. لقد جعلتهم يدفعون للصالح العام فأجابوني. والواقع أن هذه المخازن هي التي أخرت سقوطي، فعندما جردت من مخازن تمويني، أصبحت مضطرا لفرض مطالب جديدة على القبائل. ولما شعرت هذه القبائل بالضغط الشديد من الجهتين، العدو والصديق، ارتخى حماسها للجهاد. أما بالنسبة لي، فما حاجتي إلى اللجوء للخزينة العامة لدفع مصاريفي الخاصة، فإلى اللحظة التي وضع فيها الإفرنسيون أيديهم على أملاكي القليلة، لم أمس قط أي شيء مما أعطاني العرب للمصاريف العامة. وعندئذ لم آخذ إلا ما كان ضروريا جدا. فملابسمي كانت تصنعها نساء بيتي،

ودخل القليل كان يكفي لحاجات أسرتي. بل حتى الفائض القليل الذي ترك لي كنت أصرفه في مساعدة الفقراء والمسافرين، وبالأخص المحتاجين من أصحابي في السلاح الذين كانوا قد جرحوا أثناء الجهاد. وبذلك كان في استطاعني باستمرار أن أنادي العرب للتضحيات الكبيرة، لأنني أريتهم أن الزكاة والعشور والغرامات والمساعدات، وكل مواردي في الحقيقة، كانت مخصصة لخدمة الصالح العام فقط. وعندما اضطررت لدعوة العرب من أجل تقديم قرض كبير، كانت استجابتهم بطيئة فبعت فورا كل مجوهرات عائلتي بالمزاد العلني في أسواق معسكر، وأعلنت على الملأ أن ثمنها سيرسل إلى الخزانة العامة، فجاء القرض حينئد بسرعة، حتى ظهرت مشكلة من يدفع أولا). لقد كان على (الأمير عبد القادر) الاهتام بكل المتطلبات، صغيرها وكبيرها، ومن ذلك أنه عين لدى حكومة كل خليفة من خلفائه خياطين وصانعي الدروع والسروج لكي يصنعوا ملابس الجنود ويصلحوا أسلحتهم ويحافظوا على عدة خيولهم. كما وزع مثل هؤلاء على القبائل حتى يكون رجالها على استعداد دائم للحرب، وحتى يمكن لهم الاستجابة لنداء القتال فورا. ولم يكن باستطاعة الأمير عبد القادر إنجاز مخططاته وتحقيق أهدافه لو لم يسهر بنفسه على تنفيذها بهمة لا تعرف الكلل، وكان دائم الحركة يفتش جنوده، ويزور مخازنه الحربية، ويتفقد مدارسه، ويدير القضاء. تدفعه إلى ذلك غيرة متقدة لتحقيق مهمته العظيمة على أكمل وجه ولهذا فهو لم يضع ساعة واحدة من ليل أو نهار بدون أن يصرفها في التخطيط والترتيب وتنفيذ مشاريع جديدة للتقدم والإصلاح.

بناء الدولة الإسلامية

3 - بناء الدولة الإسلامية كان الهدف الأسمى والأشمل لعبد القادر هو جعل عرب الجزائر شعبا واحدا، ودعوتهم للمحافظة التامة على دينهم، وبعث روح الوطنية فيهم، وإيقاظ كل قدراتهم الكامنة، لبناء مجتمع الحرب والسلم، ولدعم اقتصاد الحرب بزيادة الإنتاج في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة. ولم يكن الطريق ممهدا، واصطدم بعقبات كثيرة، غير أنه تابع بذل جهوده بدون كلل أو ملل لإيقاظ الشعور الديني للعرب وتوحيدهم وتوجيههم نحو الهدف الأسمى (الجهاد في سبيل الله ضد الغزاة - أعداء الدين والوطن). ومن أجل ذلك فقد عمل منذ البداية على تنظيم التعليم العام ونشره بين القبائل. وقد تحدث عن ذلك بقوله: (كان من واجبي كحاكم مسلم أن أدعم علوم الدين وأن أبعثها. لذلك فتحت المدارس في المدن وبين القبائل. فكان الأطفال في هذه المدارس يتعلمون بدون مقابل العبادات والصلاة وحفظ تعاليم القرآن وفروضه ومعرفة القراءة والكتابة والحساب بصورة جيدة) وكان الذين يريدون مواصلة تعليمهم بعد ذلك يرسلون إلى الزوايا والمساجد لتعلم التاريخ وعلوم الدين. وخصصت للطلبة رواتب على حسب معارفهم ودرجاتهم. وظهر لي أن العلم هام جدا،

فعملت على تشجيعه، حتى إنني عفوت أكثر من مرة عن أناس مجرمين محكوم عليهم بالموت لمجرد أنهم طلبة ومعروف أن المرء في بلادنا يحتاج إلى وقت طويل حتى يصل إلى مرتبة عالية من التحصيل في العلم. لذلك لم تكن لدي الشجاعة لإضاعة ثمار احتاجت إلى سنوات من الجهد في يوم واحد. إن الساكن في كوخ قد يقطع نخلة لا تريحه، ولكن كم سنة يجب عليه أن ينتظر قبل أن يصبح بإمكانه تذوق ثمار نخلة أخرى يغرسها. ولكي أساعد الطلبة على دراستهم بذلت أقصر جهد ممكن للمحافظة على الكتب والمخطوطات من الضياع. وكان هناك أكثر من سبب يدفعني إلى بذل هذه الجهود، ذلك أنه بالنسبة إلينا يلزم المرء عدة شهور لكتابة نسخة واحدة. ومن أجل ذلك أعطيت أوامري المشددة في جميع المدن والقبائل لبذل أقصى عناية ممكمة من أجل المحافظة على المخطوطات. واشتملت أوامري على فرض عقوبات شديدة لمعاقبة كل من يتلف أو يفسد مخطوطا. ولما كان جنودي يعرفون مدى اهتمامي بهذا الموضوع فقد كانوا يحرصون على إحضار كل ما تقع عليه أيديهم من مخطوطات أثناء الغزوات. وكانوا يقومون بذلك بعناية فائقة. ولكي أشجع غيرتهم وحماستهم في هذا المجال كنت دائما أعطيهم جوائز كبيرة على ذلك. وشيئا فشيئا جمعت مجموعة ضخمة من هذه المخطوطات ووضعتها في أماكن أمينة في الزوايا والمساجد وأوكلتها إلى الطلبة الذين كانوا موضع ثقني. وبنفس الهمة التي وضعت بها نظام التعليم العام أسست نظام القضاء. فقد خصصت للقضاة رواتب شهرية، بالإضافة إلى علاوات يتقاضونها لقاء قيامهم ببعض الواجبات الأخرى، كان النطام الذي أريده يقوم على أن ممثلي القضاء يجب أن يظهروا في كل مكان، بل أن يتبعوا جيشي في مسيرته. ولم أكن أسمح بأي تنفيد

للإعدام إلا بعد حكم مطابق لشريعة الله التي لم أكن سوى منفذ لها. ولذلك كان يرافق جيشي أينما ذهب، قاض ومساعدين، أحدهما رئيس الشرطة (الذي كان ينفذ الأحكام). ولم يكن الناس ينظرون إليه باشمئزاز على فعله ذلك، ما دام ليس هو في الواقع المنفذ للقتل بل القانون. ولا شك أن كثيرا قد عانوا من نظامي هذا، ولكن لم يعان أحد بدون حكم شرعي. وجميعهم قد ارتكبوا نوعا ما من الجرائم أو خانوا دينهم. إن شريعتنا صريحة، في أن كل من أعان العدو ببضائعه فقد أحل بضائعه، وكل من أعانه بسلاحه فقد أحل حياته. ولقد أصبحت الطرق آمنة تماما، بفضل يقظة خلفائي وأعواني وقادتي، وبفضل المسؤولية التي حملتها القبائل عن كل الجرائم والسرقات التي تقع في مناطقها. وكانت يقظة الشرطة قد جعلت الناس آمنين مطمئنين، وبعبارة أخرى، فرغم وجودي بين شعب يعيش تحت الخيام، وكان لذلك من الصعب أن يدار وأن يوجه لاتساع المساحة التي كان منتشرا فيها، فقد استطعت أن أصل إلى عهد أصبحت فيه سرقة الخيول بالليل غير معروفة، وأصبحت المرأة تستطيع الخروج وحدها دون أن تخاف المهانة. وعندما يعلق الناس على هذه النتيجة الكبيرة ويطلبون السبب، كان العرب يجيبون: (إن مصائد السلطان منصوبة وليس هناك حاجة لنصب مصائدنا الخاصة). وفي الوقت ذاته أدت إصلاحاتي إلى الارتفاع بالروح العامة. فالعهر قد حورب بشدة. ولو شاء الله لانتهيت بإعادة العربب إلى طريق القرآن الذي ابتعدوا عنه كثيرا. لقد منعت منعا باتا استعمال الذهب والفضة في ثياب الرجال، لأنني كنت أكره التبذير والتحلل الذي يؤدي إليه، ولم أتسامح إلا بتزيين الأسلحة والسروج. أليس من واجبنا أن نعز وأن نكبر ما ساهم كثيرا في

سلامتنا؟ أما النساء فإن الحظر لم يشملهن. إن الجنس الضعيف يحتاج إلى تعويض، لأن الرجل في إمكانه التمتع بجميع أنواع اللذائذ التي يرغب فيها، الحرب والصيد والأشغال الفكرية والحكومة والدين والعلوم. لقد كنت أول من ضرب المثل بلبس ثياب بسيطة بساطة ثياب أكثر خدمي تواضعا. وما فعلت ذلك خوفا من تمييز نفسي أمام ضربات قنابل العدو. ولكنني فعلته لأنني كنت أرغب أن لا أفرض على العرب إلا ما أفرضه على نفسي، وأن أظهر لهم أنه من الأفضل أمام الله أن نشتري سلاحا وذخيرة وخيلا للحرب من اأن تكون ثيابنا مزينة وغالية ولكن غير مفيدة. أما الخمر والميسر فقد منعتهما تماما، كما منعت التدخين. وليس معنى ذلك أن ديننا يمنع التدخين ولكن جنودي كانوا فقراء، ولذلك كنت حريصا على أن أبعدهم عن عادة معروفة بزيادة الفقير فقرا حتى أنها أوصلت بعض الناس إلى ترك عائلاتهم في فقر مدقع، وحتى بيع ثيابهم من أجل إشباع نهمهم في التدخين. حقا لقد بقي بعض الناس يدخنون، ولكن ذلك كان في مناسبات فقط وفي سرية أيضا. وكانت هذه الخطوة كسبا كبيرا. أما المرابطون والطلبة وكل من له علاقة بالحكومة فقد أبطلوا عادة التدخين تماما. وعلى أية حال فإن هذا يظهر إلى أي مدى نجحت في كسب الطاعة). أمكن للأمير عبد القادر توحيد الوطن الجزائري، وإقامة دولة (الحرب) واتبع في ذلك وسائل مختلفة، وأساليب متنوعة. وقد تحدث هو عن ذلك بقوله: (لم يعد في الصحراء سوى أربعة مراكز لم تصلها بعد سلطتي، وهي ميزاب ووارقلة وتقرت ووادي سوف. أما أولاد

(سيدي الشيخ) (¬1) فقد اعترفوا جميعا بسلطتي. حقا لقد منحتهم بعض الامتيازات، وسمحت لهم بدفع ضرائب منخفضة، ولكنهم كانوا قبيلة من المرابطين، ومن واجبي أن أعاملهم بدرجة خاصة من الإكرام. وأما أهل القصور - والذين يستوطنون مجموعة من القرى الصحراوية - فهم لا يدفعون إلا القليل، ولا يهمني أن أكون متصلبا معهم، وهم ينظرون إلى موقفي هذا منهم على أنه رفق بهم لفقرهم). ولقد فرض الأمير سيطرته على إقليمي وهران وتيطري بالقوة - على نحو ما سيأتي شرحه - غير أنه اتبع أساليب أخرى في فرض هذه السيطرة على القبائل الكبرى، المنتشرة في تلك القطعة الساحرة من جبال (جرجرة) والممتدة من مدينة الجزائر ثرقا حتى بجاية. وذلك نظرا لما تميزت به هذه القبائل من النزوع الشديد للاستغلال، والولع المتطرف بالحرية، مما مكنهم من الاستعصاء على كل المحاولات لإخضاعهم، وساعدهم على الاحتفاظ بشرائعهم وعاداتهم وتقاليدهم، وسط حكومات متقلبة قامت وسقطت من حولهم. وكان من الواضح أن هذا المربض للجنود سيعطي عبد القادر، إذا ما كسبه إلى جانبه، عنصر دعم ثابت لا يتراجع وسيكون له عونا للزحف على أعدائه إذا ما تطلب الأمر، ولهذا قرر عبد القادو، أن يحقق وحده باللين والإغراء ما عجز الآخرون عن تحقيقه بقوة السلاح، وهكذا ظهر فجأة في أيلول (سبتمبر) 1839 في (برج حمزة) متبوعا بخمسين فارسا فقط، وكان إلى جانبه خليفته المخلص (ابن سالم). وقد سأله ¬

_ (¬1) مجموعة من القبائل في الجنوب الغربي من الجزائر، وجزء من الجنوب الشرقي للمغرب، وقد قاموا بعدة ثورات ضد الإفرنسيين منها ثورة (1864) وثورة (1881) بقيادة الشيخ (بو عمامة). وسيتم التعرض لهذه الثوارت في البحث المقبل من هذه المجموعة.

بعضهم عما يريد عمله فأجابهم (أريد أن أكسب تأييد جرجرة). وقطع الركب المرتفعات الأولى بسرعة. وكان منظر هذه الكوكبة الصغيرة من الفرسان، منحدرة إلى أعماق الوديان والشعاب أو صاعدة مرتفعات تكاد تكون عمودية، قد أثار العجب والاستغراب بين الجبليين الذين كانوا ينظرون من أكواخهم إلى هذا المنظر المثير. وانتشر الخبر بسرعة عن تقدم (الأمير عبد القادر) فتداعى الناس من كل جانب لتحية ضيفهم الشهير. وزاد العدد الذي تجمع حول خيمته على الآلاف. وغص مدخل الخيمة بالشيوخ والمرابطين واشتد الزحام حول الخيمة، وأخذ بعضهم في التسلل بخشونة لرفع أطراف الخيمة وإشباع فضوله بالتعرف على (الأمير) غير أن المرافقين ردوهم عنه قائلين لهم: (عودوا إلى الوراء، إنكم ستدوسون سيدنا). وعندما رأى عبد القادر خيبة الأمل وهي ترتسم على وجوههم، قال لمرافقيه: (دعوهم يقتربوا، دعوهم يقتربوا - إنهم أشداء صلاب مثل جبالهم، اعذروهم فأنتم لا تستطيعون تغيير طباعهم في يوم واحد). وعندما طلب عبد القادر مقابلة زعماء الأهالي، كان الجواب: (إننا نطيع أمناءنا ومرابطينا) وعندئذ تقدم الأمناء للترحيب وتقديم الولاء. وسألهم عبد القادر عمن يمثل الجميع، فأجابوه: (ليس عندنا زعيم واحد نمنحه كل الصلاحيات. إن أمناءنا الذين اختيروا بالانتخاب الشعبي هم الذين يعبرون عن إرادتنا العامة). فكان حقا جواب قوم يحرصون على حريتهم وهنا أمر عبد القادر بإفساح المجال، وطلب إلى الجمهور المتراص أن يجلس، فتكونت بذلك دائرة كبيرة ووقف هو في الوسط. والسبحة في يده. وبدأ حديثه إليهم حديثا يمر بالعقل ليصل إلى القلب، وطالبهم الإنضواء تحت لوائه لدعم قضية الحق التي يدافع عنها، قضية الله ورسوله. ومما قاله لهم: (أنه تمكن من هزم

الكفار الذين جاءوا لاحتلال أرضهم، أكثر من مرة، وكان جهاده ضدهم مجيدا من أجل الإسلام. وأن كل غرب الجزائر قد أطاع أوامره، وإذا شاء فإنه من السهل عليه أن يخضع شرق البلاد بغربها، وأن يقلب بساط غربها على شرقها، تماما كما يقلب البساط الذي يقف عليه) واستمر عبد القادر في مخاطبته لهم قائلا: (وإذا قلتم لي أن الشرق أقوى من الغرب، فإن جوابي هو أن الله قد أيدني بنصره لوضوح الأهداف التي تقودني وتوجهني .. وتأكدوا أنني لو لم أقف في وجه الإفرنسيين المعتدين، ولو لم أظهر لهم صعفهم وعدم قدرتهم، لانقضوا عليكم انقضاض البحر الهائج. ولرأيتم عندئذ ما لم يخطر على قلب بشر لا في الماضي أو في الحاضر. إن الإفرنسيين قد تركوا بلادهم، ولم يأتوا إلا لاحتلال أرضنا واسترقاق أهلها، غير أنني سأكون لهم الشوكة التي وضعها الله في أعينهم وإذا ساعدتموني فأرميهم في البحر. أما إذا لم تساعدوني فإنهم سيسترقونكم ويدوسون حرماتكم فاشكروا الله على أنني أنا عدوهم الألد. استيقظوا يا أهل جرجرة، وانتبهوا من غفلتكم. وثقوا أن ليس في قلبي سوى الرغبة في سعادة وصلاح ورفاهية جميع المسلمين. وأن كل ما أطلبه منكم اليوم هو الطاعة والوفاق والمحافظة التامة على شرائع ديننا المقدس حتى ننتصر على الكفار، ولا أطلب منكم لتعضيد جيشنا سوى ما فرضه الله العلي القدير. إنني لا أرغب في تعيير تقاليدكم، ولا في إبطال قوانينكم وأعرافكم، ولكن القيام بالعمليات الحربية تتطلب مسؤولا. إنني أدعوكم إلى الجهاد في سبيل الله، فاختاروا رئيسا عليكم. وإنني أقترح عليكم اختيار (ابن سالم) فإذا ما اخزتموه فيكون لكم الدليل والموجه في ساعة الخطر والعسرة، والله شاهد على ما أقول. أما إذا لم يلامس قولي هذا مكانا في قلوبكم، فسيأتي يوم

تندمون فيه، ولات ساعة مندم. إنني أحاول إقناعكم بالتي هي أحسن لا بالقوة. وإنني أدعو الله أن يهديكم إلى سواء السبيل). وعندما انتهى عبد القادر من حديثه، إنطلقت صيحة عامة تقول: (اعطنا ابن سالم! اعطنا ابن سالم. وخذ منا الزكاة، وخذ منا العشور، وقدنا ضد الكافرين, إننا أبناؤك وجندك وخدمك). وبعد أن ولى (ابن سالم) خليفة للأمير على (جرجرة) وسط الأفراح والمهرجانات، تابع الأمير عبد القادر مسيهرته السلمية عبر قرى الأرض الطيبة. وكانت مسيرته مجموعة من الأفراح والأعياد التي استمرت ثلاثين يوما. إذ ما كان السكان يعرفون في كل مرة مكان توقفه، حتى كانوا يسرعون إليه ببساطتهم العفوية وحماستهم المثيرة وهم يحملون معهم (ضيفتهم) التي كانت عبارة عن قصاع كبيرة من الأرز المغطى بقطع اللحم. وكان كل واحد يضع قصعته أمام خيمة الأمير، ويصر على أن يتناول الأمير منها قائلا له: (كل - إنها ضيفتي) ولكي يتفادى عبد القادر جرح العواطف، فقد كان مضطرا أن يذوق من كل قصعة على حدة. وبذلك تعرف أهل (جرجرة) على أميرهم، وتعرف هو عليهم، وكانت هذه المعرفة هي طريق الحب المتبادل، والولاء المطلق الذي استمر حتى آخر أيام الأمير فوق أرض الجهاد.

في أفق العمليات والتكتيك

4 - في أفق العمليات والتكتيك كان لا بد للأمير عبد القادر بعد ذلك من تحديد المبادىء العامة لأعماله القتالية والتي تتناسب مع الطبيعة الجيو استراتيجية للإقليم، وحجم القوى، والتي لخصتها المقولة التالية: (إن العرب لا ينكرون قوة فرنسا وقدرتها، غير أننا لا نحاربكم محاربة نظام وترتيب، ولكن محاربة هجوم وإقدام. وإن خرجت كتائبكم وقواكم نتقهقر أمامها متوغلين في الصحاري بأهلنا وأثقالنا، ولا نترك مجالا للقتال حتى ترجعوا، ثم نبقى على هذه الحال حتى تضعف شوكتكم وتلين قوتكم) وكانت هذه المقوله التي خاطب نائب الأمير فيها القائد الإفرنسي (دي ميشيل) إيجازا لأسس (حرب الحركة). وقد سبقت الإشارة إلى ما اتخذه الأمير من إجراءات إدارية للتخفيف من حركة القوات، وعدم إرهاقها بالأعباء التموينية (إقامة المطامير) وتأمين الخيول ووسائط النقل. غير أن عبقرية الأمير في مجال تطوير حرب الحركة أسفرت عما عرف باسم (الزمالة). وهي عبارة عن جزء من تنظيم (المدينة المتنقلة الضاربة في عرض الصحراء) وكانت هذه المدينة المتحركة تتكون من ثلاثة أقسام: أولها: (الزمالة) فيها مقام الأمير وآل بيته وحاشيته.

ثانيها: (الدوائر) وفيها المدنيون من شعبه والنساء والأطفال والباعة والصناع. ثالثها: (المحلة) وهي معسكر الجند المحارب ومضارب صنع السلاح، ومستودعات الذخائر والمؤن وبها مكان فسيح لاجتماع المجلس العام. واتخذ (الأمير عبد القادر) فيها مسجدا ونظم مضارب الباعة وأهل السوق، تضرب بعيدا عن الزمالة والدائرة والمحلة. فكانت تستحضر إليها الذخائر وما يلزم الإنسان من صنوف البضائع، وما تدعو الضرورة إليه لجميع الحرف. وبالجملة فقد كانت الزمالة ومتعلقاتها على أتم ما يكون من الانتظام والالتئام المدني، وكان لها منظر جميل ترى منازلها من بعيد كأنها مدينة حافلة ذات قصور مشيدة وأبنية جليلة. وتعتبر (الزمالة) مركزا حربيا، ومقرا مدنيا، بها مائتا ألف نفس، وكان الأمير يبث من هذه المدينة المتحركة عيونه (جواسيسه) ويرسل منها بعوثه، وفيها يستعد للحرب. ولم تزل تزداد قوة وتتسع حتى أصبحت ملجأ عظيما وحصنا منيعا. وقد عين لحراستها وحماية حوزها أربع قبائل من العرب وفرقة من الجند النظامي. ولقد طارت شهرة هذه المدينة المتحركة (الزمالة) التي كانت تملأ النجود والأغوار وهي تتردد بين الحل والترحال، بين الإقامة والانتقال. وقد حرص الأمير على جعل نظام التعسكر محترما من الجميع، ومنظما تنظيما دقيقا. وفي ذلك يقول: (عندما أضرب خيمتي يعرف كل أحد المكان الذي يشغله. لقد كان معي ثلاثمائة أو أربعمائة جندي نظامي، إلى جانب الفرسان غير النظاميين من بني هاشم - الاغريسيين - الذين كانوا مخلصين لي إخلاصا شديدا. ولم يكن من السهل الوصول إلي.

ولم أفعل ذلك حرصا على أمني الشخصي. ولكني شعرت بضرورة تأمين متطلبات الجهاد في سبيل الله. وقد وضعت فيه ثقتي لحماية الذراع الذي يحمل لواءه). وكانت الزمالة بحجمها الكبير، تحتاج لموارد مائية ضخمة، لا سميا في المناطق الصحراوية، فحيثما حلت، تجف الآبار ومياه الجداول. ولهذا أقام الأمير قوة خاصة من الشرطة لمنع تلويث المياه أو تبذيرها من قطعان الماشية. أما المواد التموينية (الحبوب والقمح والشعير) فكانت تجلب إلى الزمالة، أو تقوم قبائل الشمال بتقديمها عندما يطلب إليها ذلك.

الفصل الثاني

(هل تعرفون أين تكمن قوة عبد القادر؟ إنها في عدم إمكان العثور عليه، إنها في فسحة الأرض، إنها في حرارة شمس إفريقيا؛ إنها في انعدام الماء، إنها في حياة الترحل بين العرب، هنا تكمن قوته. ولا بد من إخضاعه، يجب القضاء عليه. وبدون هذا فإنكم لن تحصلوا على طائل). (الماريشال بيجو، ألد أعداء الأمير) •---------------------------------• الفصل الثاني الأمير عبد القادر وإدارة الحرب 1 - أعداء الداخل والخارج (1833م). 2 - معاهدة (عبد القادر - دو ميشال) 1834م. 3 - معركة المقطع (26 - حزيران - يونيو - 1835م). 4 - الانتقام الإفرنسي، واحتلال (معسكر) 6 كانون الأول - ديسمبر (1830م). 5 - الصراع المرير على تلمسان (1836م). 6 - معاهدة (عبد القادر - بيجو) 31 - أيار - مايو (1837م). 7 - نقض المعاهدة - واستئناف الحرب (1838 - 1839م). 8 - سنوات الصراع المرير (1840 - 1844م). 9 - على حدود المغرب (1845 - 1847م). 10 - وداعا يا جزائر الأحرار (1848 - 1852).

كان الأمير عبد القدر دوما على رأس وحداته وجنوده

أعداء الداخل والخارج (1833)

1 - أعداء الداخل والخارج (1833) بويع الأمير عبد القادر (أميرا على الجزائر) في مدينة (معسكر) بتاريخ 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1832 م. غير أن هذه البيعة كانت محدودة، إذ لم يكن الذين بايعوا الأمير يمثلون الجزائر كلها. وقد عرف الأمير منذ البداية، أن وحدة القيادة لبناء دولة الحرب هي العامل الأساسي للنجاح. فمضى لتحقيق هذه الوحدة، وعندما حاول بعض الزعماء المحليين الخروج على الطاعة والجماعة، استفتى العلماء والفقهاء فقرروا بالإجاع مقاتلة المرتدين، حتى لو قصروا في تنفيذ شرط واحد مثل أداء الضرائب ودفع الزكاة، وأرسل الأمير عبد القادر بهذه الفتوى إلى علماء مراكش يستثيرهم في شرعيتها، فأفتوا بصحتها وعلق عليها سلطان مراكش بما يلي: (إن هذه الفتوى موافقة للسنة والقياس والإجماع وأن من عرض لتنفيذها، أو أولها تأويلا آخر، فإنه يعتبر من الظالمين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). وأصبح باستطاعة الأمير، الاستناد إلى هذه الفتوى، لمحاربة أعداء الدين، أعداء الداخل، والذين كان بعضهم قد أخذ في توطيد صلاته بفرنسا، وبعضهم لا زال يحاربها غير أنه لا يرغب في الخضوع لسلطان هذا الشاب الذي لا يعتبر من وجهة نظرهم أكثر من

منافس لهم. وكان في طليعة هؤلاء (سيدي العريبي) وهو قائد قوي وله تأثير مطلق على قبيلة (فليته) في سهل الشلف - ناحية وهران - وكذلك (الغماري) قائد بني انجاد الذي رفض إطاعة الأمير. وشعر (محمد بن نونة) الذي كان يحب أن يقول أنه يحكم تلمسان باسم سلطان المغرب، أنه من السفالة الاعتراف بالولاء للأمير عبد القادر. أما (مصطفى بن اسماعيل) الذي كان محاربا قديما ومجربا والذي ابيض شعر رأسه في خدمة الأتراك (كزعيم للمخزن) (¬1) فإنه قد عبر عن تقززه من تقبيل يد (ولد ما يزال أمرد) حسب تعبيره. ومضت أشهر ثلاثة فقط على (البيعة) يوم وجه الأمير عبد القادر دعوة لاجتماع عام في مدينة معسكر تحضره جميع القوى يوم 18 أيار - مايو - 1833م. واستجابت القبائل الكبرى في التل والصحراء لهذه الدعوة الخيرة، ورحبت بها، أما قبائل المخزن، وهي التي طالما كانت آلة في يد الأتراك، فقد تملص بعضها واتخذ موقفا سلبيا، في حين رد بعضها الآخر على الدعوة ردا مهينا، وكان من الصعب على مثل هؤلاء التخلص من الفوضى التي ألفوها في هذه الفترة. وأثناء ذلك، كان (بنو هاشم - الغرابة) وهم قبيلة الأمير، قد انطلقوا نحو وهران، وأخذوا في الاشتباك مع القوات الإفرنسية وإزعاجها. واجتمعت القبائل في اليوم المحدد، (يوم 18 - أيار - مايو) واصطفت للعرض المهيب، فكان هناك (8) آلاف فارس و (ألف) راجل. ونشر الأمير علمه الخاص في سهل (خصيبية) - وهو علم كبير أبيض تتوسطه يد مفتوحة - وقد رفع أمام الجمهور الغفير في ابتهاج واحتفال كبير. وبعد ان استعرض الصفوف على فرسه. وخاطب الجمهور ببعض العبارات ¬

_ (¬1) المخزن: تعبير يقصد منه تلك القبائل التي تحالفت مع الأتراك العثمانيين.

القصيرة الصارمة، والتي كانت كافية لإثارة الحماسة وتفجير الغضب ضد أعداء الدين، قادهم في اتجاه وهران، ووصل الأمير وقواته في الوقت المناسب لدعم قبيلته (بنو هاشم) والتي كانت تتعرض في ذلك اليوم لهجوم قوي شنه ضدها القائد الإفرنسي (دو ميشيل). فكان أول ما فعله هو أن قسم قوته إلى قسمين، وجه القسم الأول منها لمهاجمة الجناح الأيسر للقوات الإفرنسية، بينما قاد هو القسم الثاني للهجوم على حصن أقامه الجنرال الإفرنسي في مكان يدعى (الكرمة). وكانت هناك حامية تدافع عن هذا الحصن تضم فرقة مشاة - ألف جندي تقريبا - قطعتين من المدفعية بالإصافة إلى فصيلة من قناصي إفريقية. وقد حاول الأمير وفرسانه تسلق الأسوار، غير أن حامية الحصن نجحت في إحباط المحاولة، وعندها قاد الأمير عبد القادر قواته ودعم القسم الأول الذي كان يشتبك مع الإفرنسيين في السهل. وقد بذلت القوات الإفرنسية جهدا كبيرا للصمود أمام الهجمات الكثيفة والضربات المباغتة للمجاهدين، غير أن هؤلاء استطاعوا سحق الصنوف المنظمة للمشاة ودمروا التشكيلات المقاتلة، واستمرت المعركة القاسية طوال النهار، حتى إذا ما هبط الليل قرر (دي ميشيل) سحب قواته الممزقة تحت حماية مدفعيته، وتحت ستار الظلام. توقفت الاشتباكات في الأيام التالية، ولم يقبل الأمير عبد القادر الخضوع لهذا الجمود، فنظم قوة من مائة فارس، وقادها بنفسه لنصب كمين في أجمة قريبة من وهران، كانت القوات الإفرنسية قد اعتادت على دفع فصائل من فرسانها إليها للعمل كمراكز مراقبة متقدمة. وظهرت سرية من القناصة الإفرنسيين في الموعد المعتاد. وعندما

وصلت إلى موقع الكمين فتح الأمير عبد القادر ورجاله النار عليها فمزقوها على الفور. وسقط عدد من قتلى الأعداء كما وقع (30) أسيرا في قبضة المجاهدين واكتفى الأمير بما حققه من نصر محدود في هذه المعركة التي أراد فيها اختبار رجاله وبعث الثقة في نفوسهم. وعاد إلى (معسكر) ليقطف ثمار عمليته التي انعكست على الصفحة الداخلية للبلاد. إذ أسرع إليه عدد كبير من الرؤساء والشيوخ الذين رفضوا الخضوع لسلطته حتى الآن، ليقدموا له دعمهم وولاءهم. وكان في طليعة هؤلاء (الحاج ابن قيسى) الذي كان مرابطا شهيرا، والذي جاء ومعه وحده نوابا يمثلون عشرين قبيلة صحراوية. أصبح بالإمكان توجيه الصراع ضد أعداء الداخل، حيث كان (سيدي العريبي) زعيم قبيلة (فليتة) التي تضم بطون كثيرة وعشائر عديدة، يحشد قواته، ويعلن صراحة أنه (سيوجهها ضد ابن محيي الدين الطموح). وقد باغته الأمير عبد القادر بقوة تضم (5) آلاف فارس انطلقت للهجوم وهي تطلق نيرانها بكثافة، وتصرخ بصيحات الجهاد، مما شل قدرة (سيدي العريبي) وحرمه من كل إمكانات الدفاع، فمضت قوات الأمير وهي، تقتلع الخيام، وتجمع الأسرى، وتقود الماشية، ولم يحصل (سيدي العريبي) على العفو عن جرائم الماضي وقبول التزامه بالمحافظة على الأمن - في المستقبل - إلا بعد أن أرسل تعهدا مكتوبا بالطاعة، وتقديم ابنه رهينة لدى الأمير. وضمن بذلك خضوع أقوى المنافسين، كما ضمن زوال تلك الأعمال الشائنة من سلب للأموال وقطع للطرق وتهديد للنفوس، ولكن، وقبل أن يغادر الأمير عبد القادر البطحاء (المعروفة الآن بهبزة) بلغه انتفاض قبائل عكرمة وبني مديان، فسار إليهم وحثهم على الرجوع عن غيهم، فأظهروا تصميمهم على الخلاف والتمرد. فأغار عليهم،

واستولى على ممتلكاتهم، غير أنهم لم يلبثوا أن أظهروا الندم، فرد إليهم أموالهم، وضمن لهم أمنهم، وطلب إليهم الالتفاف حوله لمحاربة الأعداء. فاستجابوا لطلبه. وعملوا على دعم الوطن ورفع راية الجهاد بدلا من راية العصيان. وبيما كان الأمير في سبيله لإخماد الفتن والقضاء على الثورات المضادة، حاول عمه وأخوه مصطفى استثارة القبائل ضده، واتفق عمه وأخوه مع زاوية الدرقاوة، وكذلك مع المرابطين في (الونشريس) وشكلوا كتلة تضم (600) مقاتل، وحاول الأمير استمالتهم، غير أنهم رفضوا الإذعان لرغبته، وصمموا عل مجابهته، فاضطر لمحاربتهم، وقد تغلب عليهم وفروا هاربين، أما عمه وأخوه، فقد وجدا لهم ملجأ في الجبال، ثم طلبا العفو، فعفا عنهما، وفرض على المهزومين مائة حصان وألف بندقية وخمسائة سلطاني فضة كضريبة. ومضى الأمير عبد القادر وقواته في سهل (الشلف) الواسع والمناطق المجاورة له، حيث انضم إليه عدد من القبائل الهامة، وخاصة القبائل الساكنة في بلدة (مليانة) والتي كانت خاضعة في ذلك الوقت للشيخ (ولد السائح) فخطبت وده، ووضعت جميع إمكاناتها تحت تصرفه. كما انضم إليه رؤساء قبائل (جحوط، ومرايا صومال وابن مناد وابن مناصر). وعندما وصل إلى (مليانة) اتصل بأسرة الوالي الصالح (سيدي أحمد بن يوسف) الذين يتمتعون بصيت كبير، فقدم أعضاء هذه الأسرة خدمات جليلة، وتقدم علاوة على هؤلاء مشايخ (جندل) وجميع الجنود الذي كانوا تحت قيادتهم. وقابلوا الأمير بحفاوة تامة وتوقف الأمير فترة في (مليانة) ريثما تمكن من إعادة تنظيم أمورها وعين عليها (خليفة) من أنصاره. جاء الآن دور مدينة (أرزيو) وحاكمها القاضي (سيدي أحمد بن الطاهر) الذي كان قد خالف تعليمات الأمير بعدم إجراء أي اتصال

مع الإفرنسيين، فأقدم بصورة علنية على إمداد الإفرنسيين بالماشية والعلف، وحتى الخيول التي كان يعتبر بيعها للإفرنسيين جريمة نكراء لا تغتفر. وقد حاول الأمير إيقافه عن الاسترسال في غيه، فكتب إليه محذرا من سوء تصرفاته، ومنذرا له من العقاب الشديد إن هو صمم على الاستمرار في سلوكه، غير أن (القاضي الطاهر) لم يتمكن من مقاومة إغراء الأرباح الضخمه التي كانت تؤمنها له تجارته، فاستمر في تعامله مع الإفرنسيين معتمدا على دعمهم له ووعودهم بحمايته. ودخل الأمير عبد القادر (مدينة أرزيو بصورة مباغتة وألقى القبض على القاضي، واقتاده مثقلا بالقيود إلى سجن (معسكر)، حيث أصدر تعليماته الصارمة بعدم اتخاذ أي إجراء ضده في الوقت الحاضر. وركب في اتجاه (بني عامر) لمعالجة بعض القضايا التي اضطرته للبقاء هناك عدة أيام. وكان في نية عبد القادر إعطاء الفرصة للقاضي حتى يفتدي نفسه (التي كان قد أحلها) بمبلغ (5) آلاف فرنك. ولكنه حين عاد إلى معسكر وجد أن القاضي قد قتل، وقد أذهله هذا الأمر، وعلم أن والده (محيي الدين) هو الذي أمر بمحاكمته، وأصدرت المحكمة ضده حكما بالعقاب الصارم. ونفذ فيه الحكم على الفور، وقد فقئت عيناه (وقطعت يداه ورجلاه ووضع في ساحة الصراية حتى مات بعد ثلاثة أيام بحسب ما تذكره بعض المصادر (¬1) وكان لا بد للأمير عبد القادر من تحمل تبعات هذا العمل، على الرغم من براءته منه. أراد الأمير عبد القادر دعم قدرته بالاستيلاء على تلمسان (التي تبعد مسافة ستين ميلا تقريبا إلى الجنوب - الغربي من وهران) وهي ¬

_ (¬1) تحفة الزائر (الأمير محمد) 107/ 1.

تقع على نجد في سفح جبال منحدرة عالية، وهي مشهورة بكثافة وقوة أسوارها التي طالما أعيت أعمال الحصار. وكانت قوة عبد القادر الرئيسية في هذه الفترة تتمثل في (بني عامر وبني هاشم). وبعد أن أخذ معه وحدات قوية من هذه القبائل اقترب من (تلمسان) وكان أهاليها منقسمين إلى حزبين: الأتراك والكراغلة. وكان الكراغلة يحتلون القلعة ويدافعون عنها، في حين كان العرب يعملون تحت قيادة (نونة) المتمرد والذي سبقت الإشارة إليه. وقد طلب عبد القادر من (نونة) الاستسلام، ولكنه رفضه. غير أن المقاومة التي حاولها سرعان ما انهارت، لأنه بينما كان عبد القادر يهاجه من جهة فتح عليه الكراغلة النار من القلعة. وبعد انتصاره في تلمسان عامل عبد القادر أهلها بكل احترام. لقد كان يأمل أن يعترف الكراغلة بسيادته. غير أنهم رفضوا كل العروض التي تقدم إليهم بها لأنهم شعروا بالأمان في تحصيناتهم، كما رفضوا البقاء معه على صلات طيبة. وما دام هو لا يملك المدفعية التي يخضعهم بها فقد قبل المساومة، وأقام أحد مساعديه حاكما على المدينة ثم عاد إلى (معسكر). وفي الطريق سمع بنعي أبيه. وقد شعر الابن الشجاع بفداحة الخطب الذي تركه فقدان الوالد الذي خلع عليه منذ طفولته كل حب وود، والذي كان يعامله دائما كصديق مقرب وزميل، والذي يدين له في الحقيقة بالمكانة التي وصل إليها. ولما كان لا يجد الوقت للدخول في عزلة مؤقتة يقتضيها المصاب الأليم، فإنه لم يستطع سوى أن يتبع جثمان والده إلى مثواه الأخير. كان القائد الإفرنسي (دي ميشيل) قد استولى على (أرزيو ومستغانم) ولم يكن باستطاعة (عبد القادر) إضاعة لحظة واحدة - لقد كان واجبا عليه أن يبذل قصارى جهده لإيقاف هذا التوسع الإفرنسي

في إقليم وهران. وفي يوم (2 أب - أغسطس 1833) كان الأمير عبد القادر. قد وصل بقواته إلى أسوار مستعانم التي هاجمها على الفور. وبعد أن ترك (دو ميشيل) معسكره ليدافع عن نفسه، عاد توا إلى وهران. لقد كان يأمل في الإفادة من وجود الأمير عبد القادر أمام مستغانم للقيام بحركة تسلل ناجحة طالما فكر فيها. وفي يوم (5 - آب - أغسطس) وهو اليوم التالي لوصوله إلى وهران، أرسل (دو ميشيل) قوة من (3) آلاف فارس وراجل مع ثلاث مدافع ميدان لمهاجمة (الدوائر والزمالة) وهما القبيلتان اللتان تسببتا في خسائر فادحة للإفرنسيين عند قيامهما بتنفيذ الحصار الذي أمر به عبد القادر. وفي فجر يوم 6 آب - أغسطس - حل الجيش الإفرنسي بمضارب الخيام العربية. وفتحت المدفعية نيرانها على الفور، وتقدم المشاة في صفين وأطلق الفرسان النار. ولم يقم العرب الذين أخذوا على غرة فأذهلتهم المباغتة بأي رد فعل مناسب، فرفعوا خيامهم، وتركوا وراءهم مواشيهم وكثيرا من النساء والأطفال في يد العدو وفجأة بدأت حركة فرارهم تتوقف، بينما كان الإفرنسيون في حالة من الذهول، لقد أخذت قوات العرب بالتجمع، وأخذت أعدادهم في التزايد بسرعة، وتحول انسحابهم إلى دفاع، ثم تحول هذا الدفاع إلى هجوم، وحدث ذلك كله كما لو كانت عصا سحرية قد صنعته .. لقد وصل الأمير عبد القادر ... كان الأمير قد شعر بنوايا العدو عند مغادرته (مستغانم) فتخلى عن إدارة الحصار في مستغانم وسارع إلى النقطة التي, كان يتهددها خطر أكبر، وأمكن له الوصول في اللحظة المناسة تماما. ولم يكلفه تحويل المعركة كثيرا من الجهد، فقد أسرع المشاة الإفرنسيون

بالتراجع، ونجح بعضهم في تشكيل تربيعات مقاتلة بسرعة، غير أن ذلك جعل صفوفهم غير كاملة. أما الفرسان فقد أطلقوا العنان لخيولهم، ولم يبق غير المدافع التي قامت بدورها بصورة جيدة. وتخلى الجنود الإفرنسيون عن غنائمهم التي اكتسبوها بسهولة. وداهمتهم عضة الجوع والظمأ علاوة على لهيب الشمس الحارقة فوق رؤوسهم، وفي الحال، أحاط بهم العرب من كل جانب. وهنا صاح عبد القادر بقومه (احرقوا السهل) وسرعان ما ركض مئات الفرسان بعيدا، وأشعلوا النار في الأعشاب الجافة والأجمات الممتدة وراء خطوط الإفرنسيين. وقد كان على الجنود المنكوبين الذين تأخروا في تقدمهم بسبب الجرحى الذين أبى عليهم الشرف تركهم، أن يمشوا فوق الجمر، وأن يخوضوا معركة التقدم عبر أمواج اللهيب. غير أن هذه المقاومة لم تلبث أن انهارت عندما تجاوزت المصاعب قدرة احتمال الطاقة البشرية. فألقى كثيرون منهم بأسلحتهم، واختنق بعضهم بالدخان، وقذف آخرون بأنفسهم فوق الأرض وهم في حالة من اليأس. ومكثوا يتعجلون الموت المحيط بهم، وعلم (دي ميشيل) بالنكبة التي نزلت بالحملة - عن طريق بعض الجند الفارين - فأمر على الفور بتحرك كل القوى الإفرنسية في معسكر وهران لنجدة رفاقهم، غير أن هؤلاء وصلوا متأخرين ولم يتمكنوا من القيام بأي عمل بعد أن أبيدت قوات الحملة السابقة إبادة تامة. لم يتوقف الأمير عبد القادر فوق ميدان المعركة، إلا بقدر ما تحتاجه عملية مطاردة القوات الإفرنسية وتدمير فلولها، ثم قاد قواته وراج إلى (مستغانم) لتشديد الحصار عليها وكان مشاته قد توغلوا في الضواحي، وأخذوا في مهاجمة إحدى القلاع القريبة من البحر. وعندما ظهرت سفينة شراعية فرنسية وأطلقت النار عليهم، خلع

العرب ملابسهم، وسبحوا في اتجاهها وهم يحملون بنادقهم فوق رؤوسهم، وحاولوا الصمود إلى السفينة، غير أن بحارة السفينة استطاعوا دحرهم وإبعادهم. بدأ الأمير عبد القادر بحفر الملاغم لتدمير الأسوار في محاولة منه للتعويض عن غياب المدفعية، ووصلت عملية التلغيم حتى أسفل السور، فأحدثت فيه ثغرة محدودة، وصدرت الأوامر بالهجوم العام واندفع العرب بحماسة غير أن قوات الإفرنسيين التي اصطفت فوق جانبي أعلى السور، أمكن لهم إيقاف حدة الهجوم، وركزوا نيرانهم الكثيفة على الثغرات، مما اضطر العرب للتوقف، ثم البدء بالتراجع في حالة من الفوضى بعد صراع مرير يائس. ووجد الأمير أن موارده المعدة للحملة قد نضبت، فرفع الحصار وعاد إلى قاعدته معسكر. كان لهذه المعركة نتائجها البعيدة على إقليم (وهران) والقبائل المنتشرة فيه، إذ شعرت هذه القبائل شدة وطأة الإفرنسيين وثباتهم -رغم الهزيمة التي نزلت بهم. وفي الوقت ذاته كانت معركة (المدية) قد تركت نتائج مضادة، إذ أنها دفعت قائد القوات الإفرنسية (دو ميشيل) إلى البحث عن طرائق أخرى لضرب العرب بعضهم ببعض واستنزاف قدرتهم، وإضعافهم جميعا، مما يسمح بإخضاعهم بحد أدنى من الجهد.

معاهدة عبد القادر - دو ميشال (1834م)

2 - معاهدة عبد القادر - دو ميشال (1834م) تقع مدينة (المدية) إلى جوار مدينة (مليانة)، ونظرا لأهمية موقعها، فقد حاول الإفرنسيون الاستيلاء عليها، وفي الوقت ذاته كان (باي قسنطينة) يفكر باحتلالها نظرا لأنها تقع على مفترق الطرق، ولأنها همزة الوصل مع المغرب، ولذلك قرر الأمير عبد القادر احتلالها ليتخذها ذريعة للهجوم على (باي قسنطينة). غير أن أصدقاء الأمير القدامى (الحاج موسى) وهو من أسرة شريفة قد أصبح من أعدائه، وأخذ في استثارة جميع القبائل العربية، نظرا لمناهضته للباي حاكم قسنطينة الذي كان يخوض صراعا مريرا وجهادا مشرفا ضد الكفار. ونادى (الحاج موسى) جهارا، فطالب الناس بالجهاد، ورفع رايته، وجاءته جموع المجاهدين من (باي قسنطينة) و (باي تونس) فأمكن له بذلك حشد قوة من (1200) فارس. وقادهم إلى باب (المدية) وطلب من حراسها أن يفتحوا له باب الحصن، فامتنعوا، ودارت بين الطرفين مجموعة من المعارك استمرت أسبوعين انتهت بنجاح (الحاج موسى) في فرض إرادته على (المدية) التي فتحت له أبوابها، واتفقت معه على دعمه بالمؤن لمهاجمة الإفرنسيين. غير أن الحاج موسى طلب إلى الأمير عبد القادر قبل قيامه بالهجوم أن ينضم إليه ليجاهدوا معا في سبيل الله.

وكان الأمير عبد القادر في هذه الفترة قد بدأ اتصالاته مع الإفرنسيين لتوقيع (هدنة) فأجاب (الحاج موسى) بأنه اتفق مع الإفرنسيين. وأن دينه يأمره بتنفيذ الاتفاق، وأنه يمنع (الحاج موسى) منعا باتا من أن يمر على أراضيه عند تقدمه لمهاجمة الإفرنسيين. ومضت ثلاثة أيام ظهر للحاج موسى بعدها أن يهاجم الأمير، فخاض ضده معركة قصيرة وحاسمة، انتهت بمصرع (60) مقاتلا من رجال الحاج موسى ووقوع (95) أسيرا في قبضة الأمير عبد القادر. الذي أسرت قواته أيضا (260) امرأة وولدا، واضطر (الحاج موسى) للانسحاب تاركا وراءه الغنائم والمواشي لخصمه الأمير عبد القادر الذي استثمر الموقف فأسرع بالاستيلاء على (المدية) ودمر جميع الذين أيدوا الحاج موسى ووقفوا إلى جانبه، وبصورة خاصة منهم الكراغلة. كان الجنرال (تريزيل) (¬1) قائد وهران يتابع الموقف، وفي اعتقاد أن القبائل ستنتصر على الأمير عبد القادر وعندئذ يمكنه قيادة قواته ضدها لتدميرها، وبذلك يكون قد شارك في هزيمة الأمير، وفي كسب مناطق شاسعة يضمها للحكم الإفرنسي. ومن أجل ذلك نظم شبكة من الجاسوسية لزيادة تدهور الموقف، ودفع لجواسيسه مبالغ طائلة، كما وجه رسائل إلى زعماء القبائل تحمل وعودا وأمنيات مغرية. غير أن الأخبار وصلته بسرعة وهي تشير إلى انتصار الأمير على منافسيه، ليس ذلك فحسب، بل إن بعض القبائل انضوى تحت راية الأمير. وعندئذ أسرع (تريزيل) فوقع معاهدة مع (ود بن إسماعيل) زعيم (الدوائر والزمالة) ¬

_ (¬1) تريزيل: (CAMILLE TREZEL) جنرال فرنسي من مواليد باريس (1780 - 1860) اكتسب شهرة في الجزائر، وبصورة خاصة في معركة المقطع (1835) وأصبح وزيرا للحرب في فرنسا سنة 1847 م.

في إقليم وهران نصت على ما يلي: أولا: أن تكون تلك القبائل تحت حماية فرنسا وأن تقف إلى جانبها. ثانيا: تخضع هذه القبائل لمن يولى منهم، بالموافقة مع القائد لولاية - إيالة - وهران. ثالثا: تدفع هذه القبائل ما كانت تدفعه قبل اليوم للحكومة الجزائرية أيام الحكم العثماني أو ما كانت تدفعه للأمير عبد القادر. رابعا: لا يسوغ لهذه القبائل أن تأتي أمرا إلا بعد الحصول على الإذن من حاكم وهران. وعلم الأمير عبد القادر بهذا الانحراف الثقيل، فجمع الناس وقام فيهم خطيبا فقال: (الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وأصحابه. أما بعد: فاعلموا أن الله تعالى قلدني هذا الأمر للمدافعة والدفاع عن الدين والوطن، وقد بلغكم خبر هذا الرجل - ابن إسماعيل المتنصر - فإن تركته وشأنه فإني أخاف على الوطن أن تغتاله غوائل الإفرنسيين على حين غفلة. وينشأ عن ذلك من المفاسد ما يعسر علينا إصلاحها) وبعد ذلك قرر الحاضرون على ضرورة محاربته، وكرروا له أنهم يؤيدونه. زعمت (الدوائر والزمالة) أنها خضعت لفرناس بسبب قربها من مواقعها، غير أن هذه الذريعة لم تقنع الأمير، إذ لا يمكن له القبول بذريعة (القسوة والمعاناة) أن تكون سببا للخيانة، لا سيما وأنه إذا قبل

الأخذ بهذه الذريعة، فإن كل مخططاته لحصار الأعداء وتحرير البلاد ستنهار من أسسها. وفي هذا الوقت، رفع حاكم وهران (تريزيل) المعاهدة التي وقعها مع (ود بن إسماعيل) إلى الحاكم العام (دو ميشال) الذي رد على ذلك بأن (هذا الود بن إسماعيل) أضعف من أن يقف في مواجهة الأمير، وأنه من الأفضل التعامل مع (الأمير مباشرة). ولكنه - أي دو ميشال - كان في حاجة للمناسبة التي تفتح له مجال الحوار مع الأمير، وجاءت هذه المناسبة مع نهاية تشرين الأول - أكتوبر - 1833 م. عندما توجه عربي (اسمه قدور) من قبيلة (البرجية) إلى مدينة أرزيو، وباع مواشيه إلى الإفرنسيين. وعند رحيله، طلب من القائد الإفرنسي أن يعين له قوة لمرافقته لأنه بات يخشى بطش جند الأمير عبد القادر. واستجاب القائد الإفرنسي لهذا الطلب، فكلف أربعة فرسان بموافقته، غير أن هؤلاء لم يبتعدوا عن المدينة أكثر من كيلومترات قليلة حتى انقضت عليهم قوة من المجاهدين فقتلت أحد الفرسان، واقتادت البقية أسرى إلى مدينة (معسكر). واستقبل (دو ميشيل) خبر هذا الحادث بالغبطة، إذ وجد الفرصة لكتابة رسالة للأمير عبد القادر جاء فيها ما يلي: (إنني لا أتردد مطلقا في أن أكون البادىء في اتخاذ هذه الخطوة، على الرغم من أن وضعي لا يسمح لي بذلك، ولكن شعوري الإنساني يحملني على الكتابة إليك، لذلك فإنني أطلب حرية أولئك الإفرنسيين الذين سقطوا في كمين بينما كانوا يحمون عربيا. وإنني لا أتوقع أن تجعل إطلاق سراحهم مرهونا بشروط معينة، ما دمت أنا قد أطلقت في الحال سراح بعض أفراد قبائل الزمالة وقبائل الغرابة، عندما سقطوا في يدي نتيجة الحرب وأطلقتهم من غير شروط، بل لقد عاملتهم أحسن معاملة، وبناء عليه آمل من سمو الأمير إذا كان يرغب في أن يأخذ من

التقدير قدرا عظيما، ألا يطيل المراجعات، وأن ينعم بإطلاق الأسرى). ولم يرغب الأمير من عدوه أن ينال ما وصفه (بالقدر العظيم من التقدير) فتجاهل الرد فكتب إليه (دي ميشيل) رسالة ثانية جاء فيها: (من الجنرال دي ميشيل إلى الأمير عبد القادر بن محيي الدين. لي أمل بأن تطلق الحرية للأسرى الأربعة التعيسي الحظ والمحبوسين في قلعة معسكر. وما كنت أتردد عن السعي لديكم فيما تمنعني وظيفتي الرسمية عنه، حيث تدفعني الإنسانية إليه. ولعلمي أن البشر الراقين إلى الدرجات العليا عليهم أن يمتازوا بأعمال كريمة دالة على التفاوت الذي وضعه الله بينهم، فأرجو الإفراج عن الإفرنسيين الذين وقعوا في شر مكيدة وهم في الدفاع عن بعض العرب لتخليصهم من انتقام أبناء جنسهم. ولا أظن أنكم تضعون في طريق ذلك العقبات، لأنكم إذا رغبتم أن تعدوا من كبار أهل الأرض لا تتأخروا عن إظهار أخلاقكم، وإذا أوقعت الحرب بين يدي بعض أتباعكم فأنا أعدكم بإرجاعهم دون تعريض - أو مبادلة). ومرة ثانية تجاهل الأمير عبد القادر رسالة (دي ميشيل) فجاءته الرسالة الثالثة وفيها: (إلى الأمير عبد القادر بن محيي الدين. بما أنني لم أتلق جوابا على رسالتي التي بعثتها إليكم منذ شهر، فأحب إلي القول بأنه لم تصلكم من أنكم لم تلتفتوا إلى قبول طلبي وعليه، جئت للمرة الثالثة أكرر طلب إطلاق سراح الأسرى الإفرنسيين المحتجزين لديكم، لأنهم لم يؤخذوا في ساحة الحرب، بل سقطوا في أقبح خدعة وأسوأ مكيدة، وعلي أن أذكركم أن فرنسا هي أقوى دولة في الدنيا، فليس من الحكمة أن تستمروا في مقاومتكم لها، وإذا كان

باستطاعتي اليوم أن أنتصر عليكم قبل وصول النجدات التي انتظرها فما تكون حالتكم إذا فرغ صبر فرنسا نحو العرب، وأرسلت ما تهيؤه لي، فعندها تهاجمكم قواتنا فتبعثركم كما يبعثر الهوى الرمال. فإذا رغبتم البقاء في مركزكم السامي، فما عليكم إلا الإجابة على دعوتي لعقد معاهدة بيننا، وتعود القبائل لزراعة حقولها الخصبة حتى تقدم ما يحتاجه الشعب العظيم). عند ذلك، لم يجد الأمير عبد القادر حرجا في الرد على هذه الرسالة المثيرة، فكتب رسالة جاء فيها ما يلي: (من الأمير عبد القادر بن محيي الدين - إلى الجنرال دو ميشيل، أما بعد: فقد وصلنا كتابكم المتضمن أفضل النصائح، فقدرناها قدرها، وعلمنا أنكم تحثونا في كتبكم الثلاثة على الإفراج عن الأسرى، وتندبون حظكم، مع أننا نعتني بشأنهم غاية الاعتناء، وليست عملية الإفراج عنهم ذات أهمية عندنا، غير أن الحالة التي نحن بها لا تسمح لنا أن نردهم دون فدية، فإذا رغبتم في الاتفاق قبل تسليم الأسرى إليكم عند المعاهدة بيننا، لأن ديننا يمنعنا من طلب الصلح ابتداء، ويسمح لنا بقبوله إذا عرض علينا. وأن الثقة التي منحتمونا إياها في تحاريركم حملتنا على أن نبادلكم المخابرة، وأن المفاوضة التي تطلبونها تقتضي أن تكون مبنية على شروط محترمة منا ومنكم، ولا يحصل الاتفاق إلا إذا عرفتوني شروطكم وما تطلبونه مني، وأنا أعرفكم بمثلها والله المعين. وكيف تفاخروني بقوة فرنسا، ولا تقدرون القوة الإسلامية، مع أن القرون الماضية أعدل شاهد على قوة الإسلام وانتصاراتهم على أعدائهم، ونحن وإن كنا ضعفاء على حد زعمكم،

فقوتنا بالله الذي لا إله إلا هو ولا شريك له. ولا ندعي بأن الظفر مكتوب لنا دائما. بل نعلم أن الحرب سجال يوم لنا ويوم علينا، غير أن الموت مسر لنا، وليس لنا ثقة إلا بالله وحده لا شريك له ... وأن دوي الرصاص وصهيل الخيل في الحرب لألذ لنا من الصوت الرخيم، فإذا صممتم على عقد صلات ودية بيننا وبينكم، فأفيدونا حتى نرسل إليكم رجلين من كبار قومنا، مأذونين بالمفاوضة معكم، وحينئذ تتم أمانيكم بمعونة الله. ولا تظنوا بأننا نأسف إذا اضطررنا إلى ترك البلاد، لأننا نعلم يقينا أن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده. وإن سلمنا وراثتها، فحيث ما كنا نجد أمتنا. وقد ظهر لنا من مضمون كتبكم أنكم تحتقرون قوة العرب مع دوام استعدادهم للقتال، وسابقتهم للنزال في كل زمان ومكان، وإذا عدتم إلى كتب التاريخ، قرأتم ما أجروه في آسيا وجهات الشام من الجرأة والثبات والإقدام والفتوحات التي أظهرها الله على أيديهم). وجاء رد (دو ميشيل) في رسالة أكد فيها رغبة فرنسا بالتفاهم مع الأمير عبد القادر، ورأى الأمير الرد على مضمون الرسالة بما حملته رسالته التالية: (بعد التحية، وصلني كتابك الذي أظهرت فيه رغبتك في الحصول على إطلاق سراح الأسرى الذين أوقعتهم الأقدار الربانية بين أيديكم. وقد فهمت جميع ما تضمنته رسائلك وما اشتملت عليه من تكرار الطلب. ومن المعلوم عندكم أن جميع الأسرى الذين وقعوا في أيدي عساكركم في ميادين الحرب، لم أتعرض لكم ولا لمن قبلكم في إطلاقهم، ولا أتعب أفكاركم بمراسلة قط، لأن حكمهم عندي حكم الأموات، وموتهم أعتبره حياة لهم، غير أني كنت أتألم عليهم شفقة

ورحمة. وقولكم أن هؤلاء الأسرى الذين تطلبون إطلاق سراحهم ما كان خروجهم لأمر يتعلق بكم، بل كانوا يحمون عربيا من انتقام أبناء وطنه، فهذا لا أعتبره وسيلة لإطلاقهم، فإن المحافظ والحافظ عليه كلاهما أعداء لنا، وانتهاز الفرصة في الانتقام منهم غاية مقصودة، وسائر العرب الذين عندكم أوغاد وأرذال، يجهلون واجباتهم الدينية، هذا وإني رأيتك تفتخر بأنك أطلقت الأسرى من الغراية والزمالة، من غير شروط، مع أنك لو راجعت أفكارك لوجدت أن رحمتك إنما كانت لأناس استظلوا بظلكم، واحتموا بحماكم، وكانوا عيونا لكم على المسلمين، ويخدمونكم بكامل الصدق. ومع ذلك فإن عساكركم قد سلبوهم كل ما يملكونه. فلو كان هذا المعروف الذي تذرعتم به مع غير هؤلاء كالحشم وبني عامر مثلا، لكان يحق لكم الفخر، وكنتم تستحقون الشكر. وعلى كل حال، فمتى خرجتم من وهران على مسافة يوم أو يومين، يظهر للعيان من يستحق الفخر منا). عند هذه المرحلة توقفت المراسلات التمهيدية، واستمر الصراع. ووجدت القوات الإفرنسية أنها تجابه أكثر من جبهة، وأنها تتلقى الهزيمة تلو الهزيمة على كافة الجبهات، فقررت مهادنة بعض الجبهات للتفرغ للجبهات الأخرى، وكان يهمها إسكات الجبهة الأقوى - جبهة الأمير عبد القادر. والذي كان بدوره يحتاج لنوع من الهدنة حتى يتفرغ جزئيا لبناء دولته وتطوير قدراته. وعاد (دو ميشيل) للإمساك بالمبادأة، فأرسل رسالة جاء فيها: (إلى سمو الأمير عبد القادر: حيث لا تجدني أيها الأمير غافلا أبدا عن كل فعل حسن، فإذا

كان سموكم يريد ان نتباحث في أمر المعاهدة، فأنا مستعد لذلك، مع الأمل بأنه يمكن الحصول على معاهدة موفقة يتوقف بها سفك دماء أمتين اقتضت الإرادة الإلهية ألا تكون تحت سلطة واحدة). وفضل الأمير عبد القادر في هذه المرحلة، إظهار موقف اللامبالاة من العرض الإفرنسي، فلم يرد على الرسالة واستخدم في الوقت ذاته مندوبه في وهران (اليهودي مردخاي عمار) لتهدئة ثائرة (دي ميشيل) من عدم الرد، واختلاق المعاذير المناسبة. فاضطر (دو ميشيل) لكتابة رسالة جديدة يرد عليها الأمير بما يلي: (وصلتني رسالتك، وفهمت مضمونها، ويسري أن أجد عواطفك تتفق مع عواطفي. إنني أشعر بثقة نحو نواياك المخلصة، ويمكنك أن تثق بأن أي التزام يمكن أن نتوصل إليه سيكون محل احترام من جانبي، إنني أرسل إليك ضابطين من جيشي، وهما (موليود - مليود - بن عراش، وولد محمود) وسيجتمعان خارج وهران (بمردخاي عمار) وسيعلمانه بكل المقترحات فإذا قبلتها تستطيع أن ترسل إلي، وعندئذ سنكتب معاهدة تقضي على الغضاء والعداوة اللتين تفصلاننا الآن عن بعضنا، وتحل محلها صداقة لا انفصام لها. ويمكنك الاعتماد علي لأنني لم أتخل أبدا عن كلمتي). تمت المقابلة المقترحة يوم 4 شباط - فبراير - 1834 م حمل ابن عراش شروط دو ميشيل يوم 25 شباط - فبراير - 1834.وجاء فيها: 1 - تتوقف الحرب منذ اليوم بين العرب والإفرنسيين. 2 - ستكون عادات المسلمين وشرائعهم الدينية موضع الاحترام.

3 - يتم إطلاق سراح الأسرى الإفرنسيين. 4 - تبقى الأسواق التجارية حرة. 5 - يعيد العربة كل هارب إفرنسي. 6 - يتنقل كل مسيحي داخل البلاد، على أن يحمل جواز سفر ممهور بخاتم قنصل عبد القادر وختم الجنرال دو ميشال. ووضع الأمير شروطه، ثم دمجت هذه الشروط في معاهدة واحدة حملت اسم (معاهدة الأمير عبد القادر - الجنرال دو ميشال) (¬1). الأمر الواضح هو أن الأمير عبد القادر قد أراد لهذه المعاهدة أن تكون أكثر من هدنة، أما الإدارة الإفرنسية فأرادتها أقل من ذلك. وظهر ذلك في المهمة التي حددتها الإدارة الإفرنسية لقنصلها لدى الأمير عبد القادر وهو (عبد الله ميسون) الذي كان من مماليك الأمراء المصريين ثم تطوع في الجيش الإفرنسي، وأخلص في خدمة فرنسا، فأرسلته إلى عاصمة الأمير وكلفته بالتالي: أولا: أن يكثر اتصالاته برجال ديوان الأمير والوزراء والمسؤولين في ولاية - إيالة - وهران وإغداق الأموال عليهم حتى يميل هؤلاء إلى القيادة الإفرنسية، وحتى يمكن له الحصول على أسرارهم، والاستعانة بهم إذا ما فكر الأمير بنقض المعاهدة. ثانيا: الاندماج بالشعب، مستفيدا من أصله العربي، لإبراز قوة فرنسا وإدخال الرعب في نفومس الجماهير حتى لا تتجاوب مع الأمير، وحتى تخذله في الوقت المناسب. ثالثا: تجنيد المتعلمين والمثقفين، لمراقبة الأمير من جهة، وجمع ¬

_ (¬1) أنظر - قراءات (1) في نهاية هذا الكتاب.

المعلومات عن حالة البلاد بصورة دقيقة. وانطلق (عبد الله ميسون) لتنفيذ مهمته، واتبع كل أساليب الغدر والنفاق في محاولاته لاستثارة عواطف الجزائريين، فكان يجتمع بالمثقفين بالأندية، ويحاضرهم، ومن بين ما كان يردده على أسماعهم: أن الجزائر لا يمكن أن تستغني عن فرنسا. وأن الأمير بما عرف عنه من يقظة الضمير، والتعمق في الدين لا بد له وأن يتفق معها حتى يعيش الشعبان في رفاهية ورغد. وأن الأمير سيدرك أن الحضارة الإفرنسية قد أثرت الإنسانية وأغنتها. وكم كانت دهشة (عبد الله ميسون) عندما تصدى له أحد حضور ندواته من المواطنين، ليقول له: (لقد أعلن الإفرنسيون بألسنتهم وأقلامهم تحرير الإنسان، وإلغاء الرق، والمساواة أمام القانون، ثم راحوا يفرضون علينا رقا آخر، من نوع أقسى وأمر، رقا بغير قانون، وعبودية بقيود متطورة. إن ما تقوله الآن وتتشدق به هو ظلم وبهتان. وإن ما يريد الجيش الإفرنسي أن يفرضه من الرق اليوم على شعب الجزائر، إنما هو أسوأ مما حاول أن يفرضه الدخلاء الذين جاءوا إلى الجزائر بقصد التحكم في مصائرها. لئن سبق للدخلاء في الماضي السحيق استغلال حاجة الفقير إلى لقمة العيش، ويستغلوا ضعفه واضطراب الخائنين من بطش الطغيان وجبروت الحديد والنار، وقسوة الحكم الغاشم، واتخذوا الفقر والجهل والخوف مرافق استغلال في نفوس الضعفاء، فإن الوضع اليوم أصبح يختلف كل الاختلاف عما كانت عليه في الماضي. فبفضل سياسة (فرق تسد) التي جاء بها الدخيل، قد أصاب الشعب الجزائري عبء ثقيل من الرزايا أثر في بلده الأمين ووضع من قدره. ولكن لم يتمكن هؤلاء الأجانب من أن يقذفوا ببلائهم، ويرموا بسهامهم المسمومة، إلا بعد افتراقنا وتدابرنا أما الآن، فقد ظهر الحق من الباطل، ولا يأتي

لدو ميشيل أو من يعمل في ركابه من أن يلمح بسيف العدوان في وجوهنا). فسكت (عبد الله ميسون) واعتذر للحاضرين، وعرف أن مهمته ليست بالمهمة السهلة، لا سيما وقد أخذ الأمير الذي كان يقابله ببشاشة في تتبع خطواته، وكلف عددا من أبناء الجزائر بمراقبة كل تحركاته حتى لا يثير الشك في أذهان المواطنين. وبدأت العزلة تحيط به حتى وجد نفسه مرغما في النهاية على الكتابة للحكومة الإفرنسية معتذرا عن الاستمرار في تنفيذ مهمته، وشارحا لها الموقف القوي للأمير عبد القادر بقوله: (إن الأمير على صلة متينة بتونس والمغرب وليبيا ومصر ومكة. وأن أمير مكة الذي يعتبر خليفة للمسلمين قد أعانه كثيرا، وهو يتلقى منه كل تأييد وتشجيع. ولهذا لن تتمكن فرنسا من السيطرة على الأمير إلا إذا أوقفت هذه الإعانات المستمرة).

معركة المقطع (26 حزيران - يونيو - 1835 م)

3 - معركة المقطع (26 حزيران - يونيو - 1835 م) لم يقبل كل المسؤولين الإستعماريين في فرنسا - والجزائر - بمعاهدة (عبد القادر - دو ميشال) ولا قبل بها كل المسؤولين من عرب الجزائر المسلمين، وكانت حوافز الرفض للمعاهدة متباينة لدى الطرفين، ومختلفة في كل طرف من الطرفين أيضا، وكان لا بد للأمير عبد القادر من خوض صراع مرير ضد المناوئين والخصوم الذين ظهروا بغتة ليشكلوا جبهة واحدة ضد الأمير. وكان من أكثر ما أزعج الأمير وآلمه هو وقوف (بنو عامر) ضده وامتناعهم عن دفع الضرائب نظرا لتوقف الحرب - من وجمهة نظرهم وقد كان هؤلاء هم أكثر أتباعه غيرة وحماسة، وبفضلهم أمكن له تحقيق معظم انتصاراته. وأمام هذا الموقف لجأ الأمير إلى عدوه القديم وحليفه الحالي (مصطفى ود بن إسماعيل) وكلفه بإعداد قبائل (الدوائر والزمالة) في تلمسان لتأديب بني عامر وإخضاعهم. واغتنم الزعيم (ابن إسماعيل) الذي كان على رأس (المخزن التركي) هذه الفرصة السانحة للانتقام من أعدائه القدامى وقاهريه، وفرح بما تضمنه له هذه الفرصة من غنائم وفيرة، بقدر فرحته في تدعيم هيبته على القبائل التابعة له نتيجة اعتماد الأمير عليه في تنفيذ مهمة من أخطر المهام. غير أن حدثا تدخل بصورة طارئة

ليحول من مسيرة الأحداث، فبينما كان الأمير عبد القادر يلقي خطبة صلاة الجمعة كعادته في مسجد معسكر، وقع بصره على بعض شيوخ بني عامر، فتوجه إليهم على الفور بحديثه: (وأنتم يابنو عامر، ألستم أول من دعاني إلى المركز الذي أتولاه الآن؟ ألستم أول من رجاني أن أقيم حكومة منتظمة توحي إلى الأخيار بالثقة وإلى الأشرار بالخوف؟ ألم تتعهدوا بشرفكم بأن تضعوا حياتكم وأموالكم وكل ما هو عزيز ومقدس لديكم لدعمي ومساعدتي في مهمتي الشاقة؟ فهل ستكونون أول من يتخل عن القضية المشتركة، وأول من يؤيد ويشجع، بإعطاء المثل، المؤتمرات ضد نفس الحكومة التي أقمتموها؟ كيف يمكن لأية حكومة الاضطلاع بواجبها بدون ضرائب، وكيف يمكن أن تبقى بدون اتحاد وتأييد الجميع؟ هل تظنون أن أصغر قطعة نقدية في الضريبة التي أطلبها ستستخدم في مصارفي الشخصبة أو العائلية؟ إنكم جميعا تعلمون أن أملاك والدي تكفي لحاجاتي الشخصية. إن ما أطلبه هو ما فرضه قانون الرسول (ص) كمسلمين حقيقيين. وإنني أقسم بالله العظيم أن ما يدخل يدي سأحتفظ به كأمانة مقدسة من أجل انتصار الإسلام). تأثر شيوخ بني عامر لهذا النداء الصادر من القلب والذي يخاطب العقل، فتنادوا إلى الاجتماع وجددوا بيعتهم وولاءهم، وتعهدوا بدفع الضرائب التي يطلبها الأمير. وأرسل الأمير عبد القادر على الفور رسولا إلى (مصطفى بن إسماعيل) يطلب إليه وقف مسيرته ضد بني عامر. ولكن ما أن مضت أيام ثلاثة حتى أقبل فارس يسابق الريح ليعلم الأمير بأن (مصطفى بن إسماعيل) قد بدأ هجومه على الرغم من الأمر الصادر إليه. وسرعان ما جمع (عبد القادر) قوة

من الفرسان وسار بهم حتى إذا ما اقترب من قوات (ابن إسماعيل) أرسل إليه طلبا بالانسحاب. وحين رفض هذا تنفيذ الطلب، هاجمه بفرسانه، ولما كان عددهم قليلا، فقد تمكن (بن إسماعيل) من تمزيقهم حتى لم يبق مع الأمير إلا قلة من الرجال الذين أحاطوا به، وحاربوا معه حتى قتل معظمهم، ولم ينسحب الأمير إلا بعد أن خاض معركته اليائسة بما يشبه المعجزة. فقد اخترق برنسه عدد كبير من الرصاص، وأصيب حصانه بجراحات كثيرة. وأمكن له في النهاية اختراق قوات العدو المحيطة به، والمرور من بينها كالسهم ليعود وحده إلى (معسكر) في أعقاب الليل. ما كادت أخبار هزيمة عبد القادر تنتشر، حتى استيقظت روح التمرد، فهذا (سيدي العريبي) يرفع لواء الثورة. وهذا الغماري وبنو نجاد يتبعونه ويستعدون للانضمام إلى حاكم تلمسان (سيدي حمادي) الذي كان على صلة (بمصطفى بن إسماعيل). ولم تزعج هذه الأخبار الأمير أو تضعف من إرادته وها هو يجمع (15) ألف فارس من بني هاشم القرابة وبني مجاهر وبني عباس وبني عامر، ويتولى قيادتهم للمعركة، وانسحب ابن إسماعيل بقبائل الدوائر والزمالة إلى مكان حملاتهم القديم قرب وهران، على أمل تلقي دعم الإفرنسيين. غير أن هؤلاء خذلوه. وتقابل الأمير مع ابن إسماعيل في سهول (محرز) يوم 13 تموز - يوليو - 1834 ودارت رحى معركة طاحنة لم تصل إلى الحسم بقدر ما استنزفت قوات الطرفين ووجد الطرفان أن مصلحتهما تفرض عليهما (المصالحة) فتم الاتفاق على ذلك. ومضى عبد القادر, حتى أخضع كل خصومه. وتخلص من أخطر خصمين له هما (سيدي العريبي) الذي مات في السجن و (الغماري - رئيس بني أنجاد) الذي

حوكم وحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم. عاد الأمير إلى (معسكر) منتصرا. وأثناء ذلك استبدلت إدارة الجزائر الإفرنسية، فتم تعيين (ديرلون) حاكما عاما على الجزائر (¬1) خلفا للجنرال (دي ميشيل) وكتب الأمير إلى الحاكم الجديد مهنئا، ومعلما إياه بنصوص معاهدته، فأظهر (ديرلون) استغرابه من هذه المعاهدة التي يجهل عنها كل شيء. كما أعلم الأمير بأنه ليس من حق (دي ميشيل) توقيع معاهدة تتجاوز حدود الولاية التي يحكمها (وهي وهران) وتضمن رده أيضا ما يلي: (إن رأيي الخاص هو أن لا تجتاز الشلف الأسفل في اتجاه الشرق. فإذا حكمت الإقليم الذي هو الآن تحت يديك طبقا للقوانين الإسلامية، وبعدل صارم، فسنكون أصدقاء ولكننا لن نسمح لك بدخول إقليم تيطري. فما يجري في هذا الإقليم هو من شأني. وإني لست في حالة حرب مع سكانه. وليس لي حاضرا مشاريع لإقامة منشآت في البليدة أو بوفاريك. ولكن إذا رأيت ذلك في المستقبل من أجل مصلحة فرنسا، فإني لن أسمح لأحد باعتراض سبيلي). كان ذلك يعني إلغاء المعاهدة، وكان لا بد للأمير من التعويض عن ذلك بعمل عسكري فانصرف للقضاء على أعمال التمرد التي قادها (أولاد سيدي العريبي) في (وادي شلف) وما أن فرغ منا، حتى ¬

_ (¬1) ديرلون: (DROUET D'ERLON) ويعرف بجان بابتيست - JEAN BATISTE ماريشال فرنسا، ولد في ريمس (REIMS) عاش في الفترة (1765 - 1844) وظهرت عبقريته في معركة واترلو - وكان أول حاكم عام عين في الجزائر سنة 1834، وقد تم ذلك بعد تبني وجهات نظر (اللجنة الإفريقية) التي قررت ضم الجزائر نهائيا إلى فرنسا. وكان الحكام الإفرنسيون قبل ذلك يحملون لقب (قائد الحملة الإفرنسية) أو قائد قوات الغزو.

التفت لقمع حركة (الحاج موسى بن حسن الملقب بأبي حمار) وهو من أشراف الصحراء، دخل المدية، ونشر فيها الطريقة الثاذلية، وأمكن له جمع القوى حوله. وكان لا بد للأمير من تجاهل تحذير (ديرلون) فاجتاز نهر الشلف وخاض معركة حاسمة انتصر فيها على (الحاج موسى)، واستولى الأمير على إقليم تيطري، وأعاد تنظيمه. وعندئذ وجد (ديرلون) أنه من الأفضل الالتزام بالسياسة الإفرنسية التي كانت ترى في ملك الفترة ضرورة مهادنة الأمير الذي اعتقدت فيه وسيلتها للصعود إلى أعالي الأطلس. فأرسل مسودة معاهدة جديدة للأمير عبد القادر الذي أرسل بدوره مسودة ضمنها شروطه. وكان ذلك ضد رغبة (تريزيل) الذي كان يريد التصدي للأمير ومجابهته بالقوة , وفي تلك الفترة عادت قبائل (الدوائر والزمالة) إلى سابق عهدها في التعاون مع فرنسا وإمداد قوتها بمتطلباتها وتجاوزت ذلك عندما وقعث مع فرنسا معاهدة وضعت فيها نفسها تحت الحماية الإفرنسية. الأمر الذي يعتبر تحديا صارخا للأمير الذي لم يقف صامتا، فأرسل احتجاجا جاء فيه: (إن الدوائر والزمالة هم رعيتي، وبناء على قانوننا فإن لي الحق في أن أفعل بهم ما أشاء. فإذا سحبت منهم حمايتك وتركتهم يطيعوني كما كانوا، فذلك ما أريد. وإذا كان موقفك عكس ذلك، فأصررت على التنكر لالتزاماتك، فاستدع في الحال قنصلك من مدينة - معسكر- لأنني لن أرفع يدي عن قبائل الدوائر والزمالة، حتى ولو دخلوا وراء حصون وهران، إلا بعد أن يندموا ويتوبوا وبالإضافة إلى ذلك، فإن ديني يمنعي من السماح لمسلم أن يكون تحت سلطة مسيحي، فاختر ما يحلو لك، أو أن إله الحرب سيحكم بيننا). ولم يبق أمام (تريزيل) حاكم وهران إلا الاستعداد للحرب. وكانت الاشتباكات قد بدأت بالفعل قبل ذلك بوقت قصير، إذ كان الأمير عبد القادر قد أرسل

بعض قواته لإزعاج قبائل (الدوائر والزمالة) وأمكن أسر بعض شيوخهم والاستيلاء على مواشيهم. فأرسل حاكم وهران (تريزيل) قوة عسكرية لحماية مخيماتهم قرب (مسرغين) وفي 16 حزيران - يونيو - 1835 م. وقعت الزمالة والدوائر معاهدة الحماية مع (تريزيل).ولم يلبث حاكم وهران هذا (تريزيل) أن أرسل قوة من الفرسان للإغارة على مزارع بني هاشم الغرابة بحجة الحصول ما تحتاجه القوات الإفرنسية من الشعير، وما أن علم الأمير عبد القادر بالعدوان على قبيلته الخاصة حتى أرسل (ألفي) فارس و (800) راجل إلى نهر (سيق). وقرر (تريزل) مهاجمة هذه القوة قبل أن يتم دعمها بقوات أكبر. لذلك قاد يوم 26 حزيران (يونيو) 1835، تضم (5) آلاف من جند المشاة، وفرقة من قناصي أفريقيا وأربع قطع مدفعية وعشرين عربة إمداد وتموين ومستشفى ميدان عادي. ووصلته هذه القوق (غابة مولاي إسماعيل) وأخذت في اقتحام الغابة، وشرعت في إطلاق النار على ما ظنته كتيبة عربية ضالة (شاردة) ولكن النار أعيدت بعنف وقوة. وسرعان ما ظهر الفرسان لقد كانوا طلائع عبد القادر قادمين من جهة نهر السيق ولم تمض أكثر من دقائق قليلة على هذا الاشتباك الأولي، حتى هوجمت القوات الإفرنسية بهجمات عنيفة على جبهتها ومجنباتها، وكان ذلك مباغتا إلى حد مذهل للقوات الإفرنسية، وزاد من تأثير المفاجأة كثافة الغابة، وطبيعة الأرض المتموجة التي كانت تخفي العدد الحقيقي للمجاهدين المسلمين. هذا بالإضافة إلى صيحات الحرب (الله أكبر) والتي كانت تثير فزع الجند الإفرنسي، وتحمله على الاعتقاد بتقدير قوة المسلمين أضعاف ما كانوا عليه في الحقيقة. وأدى ذلك إلى تمزيق التنظيم القتالي - نظام الصف - للقوات الإفرنسية. التي حاولت

إجراء بعض التغييرات لإصلاح التشكيل القتالي، غير أن هذه المحاولات فشلت. وأثناء ذلك صدر الأمر إلى الفرق الخلفية الإفرنسية بالتقارب لتشكيل سد، كما صدر أمر مماثل إلى الوسط للتلاحم، مع إبعاد قوة الفرسان. وفي وقت قصير، دبت الفوضى في كامل الجيش الإفرنسي. فدخل الفرسان في الميدان، ولم يكن المشاة والمدفعية قادرين سوى على إطلاق النار بدون هدف. وبعد فترة قصيرة بدأت حدة الهجوم العربي في التباطؤ، وأخذ الإفرنسيون في المرور عبر صفوفهم، وكانت عربات المؤونة قد احتجزت وأفرغت، كما حطمت براميل الخمر. وكان الجميع يأكلون ويشربون بشراهة. وبذل الضباط الإفرنسيون جهودا جبارة في محاولة للسيطرة على الموقف، وأمكن لهم في الواقع استئناف التحرك نحو الأمام، ووصل الجيش الإفرنسي عند الغروب إلى (نهر سيق) وهناك نصبوا معسكرهم في مربع ثابت. ولحسن حظ الإفرنسيين كان جيش عبد القادر الرئيسي، الذي انطلق في تقدمه السريع من (تلمسان) قد اضطر للتوقف خلال فترة قصيرة على بعد فرسخين من ذلك النهر، لذلك استطاع الإفرنسيون الحصول على بعض الراحة في الليل. وعند الفجر، بدأ (تريزيل) بالانسحاب ولكن الأمير عبد القادر كان يتحرك بسرعة أكبر، فقد عمل خلال الليل على قيادة بعض قواته، ووضعها على محاور الاتصال مع وهران. ولم يكن باستطاعة (تريزيل) تجديد الاشتباك مع قوات الأمير، لذلك قرر السير إلى مدينة (أرزيو) عن طريق الساحل. ولكنه كان يعرف مدى الصعوبات التي تجابهه إذا ما تحرك مباشرة في ذلك الاتجاه (حيث كانت هناك أجزاء من الأرض غير صالحة لسير العربات أو حاملات المدافع) فقرر أن يتحول إلى (جبال حميان) وأن يظهر على سهل أرزيو عن طريق مضيق نهر الهبرة، حيث

يغير نهر الهبرة اسمه ليحمل اسم (نهر المقطع). وحين رأى الأمير عبد القادر حركة القوات الإفرنسية، عرف هدفها على الفور، فإذا استطاع أن يستولي على مضيق نهر الهبرة، قبل أن يصلوا إليه فإنه يعلم أنهم سيكونون تحت رحمته. ولكن المسافة كانت بعيدة جدا على المشاة لتحقيق ذلك الهدف خلال الفترة الزمنية المتوافرة له. فاختار (عبد القادر) ألف فارس، وأمر كل راكب أن يردف معه جنديا من المشاة، وأن يسرعوا إلى المكان المعين. وأمكن تحقيق العملية بنجاح كامل. فالفرنسيون، بعد أن عانوا مشقة كبرى، استطاعوا عبور سهل سيراط، وبعد مطاردة الفرسان العرب لهم طوال الطريق، دخلوا مضيق (الهبرة) حوالي منتصف النهار. وقد ذهلوا عندما وجدوا منحدري المضيق مدججين بالسلاح. وحين تقدموا رميت عليهم قطع كبيرة من الصخور وبينما كان الجند الإفرنسيون مشغولين بالمناوشات خلال ساعتين، أمكن لهم فتح الطريق ببطء وبتضحيات كبيرة. وأثناء ذلك، كان عبد القادر وجيشه كله قد سد عليهم الطريق من الخلف. وقد خشيت مؤخرة الإفرنسيين من عزلها عن بقية الجيش. فاندفعت إلى الأمام وهي في حالة من الفوضى المريعة، فقد تحول جزء من مستشفى الميدان والمدفعية إلى اليمين وغرق في المستنقع. أما رجال المدفعية فقد فصلوا المدافع عن حاملاتها، وهربوا. واختلطت القوات بعضها ببعض، وأسرعت الكتائب أو أجزاء منها، هنا وهناك، باحثة عن مخبأ أو مفر. وأفسح لهم العرب مجال المرور من بينهم، لمعرفتهم إنهم لن يذهبوا بعيدا. وجرف التيار كل الجنود الذين حاولوا الفرار سباحة، وغرقوا في مياه النهر. ثم حل الليل، وسارت فلول القوات الممزقة نحو مدينة (أرزيو) وهي تحمل كل مرارة الفشل. انطلقت قوات المجاهدين طوال الليل للبحث عن فلول

القوات، وكانت صيحات البهجة وأصوات التهليل والتكبير تمزق سكون الليل في حين كانت المشاعل تضيء ظلمته. وكانت كومة رؤوس جنود الأعداء تتحول تدريجيا لتأخذ شكل تل كبير، أما المهندسون فكانوا يعملون على ضوء المشاعل لإصلاح الممرات والطرق. وتوجه الأمير مع منتصف الليل إلى المضيق، فصدمه مشهد (تل جاجم الجند الإفرنسيين) وصيحات جنوده وهم يرددون (مزيدا من الرؤوس) ووقف لحظة في صمته المهيب، لقد أرهقته متاعب الأيام الماضية، غير أن صوتا داخليا كان يحفزه للمزيد من العمل، فلوى رأس حصانه الأسود. ومضى في ظلمة الليل. اهتزت فرنسا كلها عندما وصلتها أخبار (معركة المقطع). وارتفعت صيحات (التحقيق والعقوبة والانتقام) في جوقة واحده. وهكذا استدعي (ديرلون) وحل الجنرال (دارلانج) محل تريزيل. كما عين (كلوزول) من جديد ليفتح عهدا جديدا فيما كان يسمى عندئذ (المستعمرة الإفريقية لفرنسا). وفي جلسة من جلسات البرلمان الإفرنسي، في سنة 1835، وقف النائب (تيير) (¬1) لينتقد بقوة النظام الإفرنسي الذي كان مطبقا في الجزائر، وليطالب بدعمه وتطويره حيث قال: (إنه ليس استعمارا، إنه ليس احتلالا على مدى واسع، وليس ¬

_ (¬1) تير: (ADOLPHE THIERS) رجل دولة ومؤرخ فرنسي من مواليد مرسليا (1797 - 1877) بدأ حياته محاميا في إيكس (1819) ثم قدم إلى باريس ليعمل في الصحافة، وأسس جريدة (الاناسيونال) سنة 1830، واشترك في إقامة ملكية تموز - يوليو - 1830، وأصبح وزيرا سنة 1832، ثم رئيسا للوزراء سنة 1836 - 1840، ورئيسا لحزب النظام في مجلس سنة 1848، واعتقل سنة 1851، ثم أطلق سراحه سنة 1852، وانتخب نائبا مرتين (1863 و1869) وأصبح رئيسا للجمهورية بعد سنة (1871) على أثر سقوط نابليون الثالث. واشتهر أنه ملكي محافط.

احتلالا على مدى ضيق، إنه ليس سلاما، وليس حربا ولكنه حرب سيئة الإدارة). وتحركت الحكومة الإفرنسية للعمل بقوة، فزادرت من عدد الجيش في الجزائر. وأمرت بإدارة قوية للحرب مع عبد القادر، وأصدرت قرارا باحتلال مدينة (معسكر). وكان الاعتقاد السائد هو أن الاستيلاء على عاصمته سيجبر السلطان على الاستسلام. ووصل (كلوزول) إلى مدينة الجزائر يوم 10 آب - أغسطس - 1835م. وقام باستعراض الجيش، وحاول رفع روحه المعنوية المتدهورة، فخطب في جنوده قائلا: (لقد عزمنا على الانتقام من الأمير، لأنه انتصر على تريزيل في المقطع، وكبده من الخسائر ما لا يعلمه إلا الله، ولن نرتاح حتى نكيل له خسائر فادحة، ونقصيه عن دار ملكه - معسكر - وبذلك يدرك الجزائريون أن وضع الأمير مزعزع، وأن إمكاناته قد انهارت) وصفق الحاضرون وقد أخذتهم الحماسة، وباتوا ينتظرون ترمجة هذه الوعود إلى حقيقة.

الانتقام الإفرنسي واحتلال (معسكر) (6 كانون الأول - ديسمبر - 1835)

4 - الانتقام الإفرنسي واحتلال (معسكر) (6 كانون الأول - ديسمبر - 1835) مضى (كلوزيل) في الإعداد لغزوته الكبرى، ووضع خارطة تظهر المستعمرة (الجزائر) وقد قسمت إلى عدد من المناطق (البايليكات) مع وضع أسماء البايات المحليين المعينين لحكمها. ولم يكن الأمير عبد القادر غافلا عما يعمل له (كلوزول - أو كلوزيل). فقد كانت عيونه (جواسيسه) تعمل بنشاط لتنقل له الأخبار فورا وبصورة دقيقة، وعندما علم بما يعتزم خصمه (قائد وهران كلرزول) تنفيذه، صمم على أخذ المبادأة، واستنفر القبائل، ودفعها نحو العاصمة (الجزائر) تحت قيادة خليفته (في مليانة). وقد أفاد هذا الخليفة من الدعم الذي وصله (وهو خمسة آلاف مقاتل) فانطلق من قاعدته (مليانة) واجتاح سهل (متوجة أو متيجه) فهزم القبائل المتنصرة، وقتل منهم أعدادا كبيرة وأسر منهم أعدادا أكبر. ومضى في تقدمه حتى وصل أبواب (الجزائر). وعندما كثرت المغانم، وتزايدت أعداد الأسرى، أوعز خليفة الأمير في مليانة إلى نائبه باصطحاب فئة من الجند لحراسة المؤن والأسرى وتسليمها لإرادة الأمير. وفي الوقت الذي كان خليفة (مليانة) يحقق انتصاراته الرائعة على القبائل المتنصرة وعلى الحاميات الإفرنسية، كان خليفة الأمير (بتلمسان) يقاوم

الإفرنسيين وينتصر عليهم في ولاية - إيالة - (وهران) وأخيرا. تمكن هذا الخليفة من محاصرة وهران، وعزلها، والسيطرة على طرق مواصلاتها، وفصل القيادة الإفرنسية بوهران عن القبائل المتنصرة، وقد كانت المعارك التي خاضها أمير تلمسان (خليفة الأمير عبد القادر) ضد قائد وهران (كلوزول) قوية إلى درجة وصفها أحد المؤرخين بقوله: (لقد نفذ البوحميدي جميع ما طلب الأمير تنفيذه، وصار الإفرنسيون داخل وهران في أشد الضيق، إلا أنهم أحسن حالا من أسرى الحرب. وكاد الأمير يحقق وعيده بأن لا يسمح للطير أن يحلق من غير إذنه فوق المدن التي استولى عليها الإفرنسيون الذين أصبحوا مشلولين تماما، يطلبون الخلاص من قيودهم، ويحدون صعوبة في تنفس الهواء، وتتفتت أكبادهم غيظا. وأقاموا يترقبون وصول الدعم مع أوامر الهجوم يندفعوا على ذلك الأمير الذي رماهم بسهام ذكائه المدهش). ذهب (كلوزول) إلى وهران يوم 21 تشرين الثاني - نوفمبر - 1835 لإنهاء استعداداته، وحدد واجب العمليات بقوله: (إن أول ما نبدأ به هو الزحف بجيوشنا على عاصمة الأمير، فإذا ما ساعدنا الوقت في الاستيلاء عليها، فسنثأر لأنفسنا من العرب، ثم نعقد مع الأمير صلحا لكل نزاع). وحشد (كلوزول) لمعركته جيشا من (12) ألف مقاتل؛ في حين كانت قوات الأمير تضم (8) آلاف فارس، و (ألفي) جندي من المشاة (الراجلين)، بالإضافة إلى (4) مدافع. وغادر (كلوزول) وهران يوم 27 تشرين الثاني (نوفمبر) للاستيلاء على (معسكر). ونظرا لأن هذه المدينة لم تكن مجهزة للدفاع. كما أن قوات الأمير منظمة على أساس حرب الحركة وليس على أساس واجبات الحصار، بالإضافة إلى أن اسراتيجية الأمير كانت قائمة على أساس

تجنب الصدام مع قوات متفوقة في معارك جبهية فقد أصدر الأمير عبد القادر أوامره إلى سكان معسكر بالخروج منها. اجتاز (كلوزول) بقواته غابة (مولاي إسماعيل) وخاض نهر (سيق) دونما مقاومة تذكر. ولكن عندما اقترب الجيش الإفرنسي من نهر (هبرة) ظهر له العرب وهم يتحركون في اتجاه متواز مع خط تحركه، وعلى امتداد المرتفعات المجاورة. كان الأمير عبد القادر يراقب تحرك أعدائه وينتظر الفرصة المناسبة التي يقع فيها خلل في الصفوف الأمامية الإفرنسية ليعطيه نقطة ضعف صالحة للهجوم. غير أن (كلوزول) شعر بنوايا الأمير، فتوقف لفترة ريثما أعاد تنظيم صفوفه فسد الثغرات وتحصن بالأرض، ثم أطلق قواته في وحدات صغرى للإغاره على العرب. ولكن عبد القادر رفض الدخول في المعركة. فقد ترك خصمه يتمتع بالثمار الضحلة لتغيير خط هجومه، واندفع هو بسرعة لوضع نفسه على محور التقدم الرئيسي الذي يقود إلى مدينة (معسكر)، ونشر جناحه الأيسر على مرتفع اختار فيه المرابض المناسبة لمدافعه، أما يمينه فكان محميا بصورة طبيعية، وكان اختياره لهذا الموقع مناسبا جدا من وجهة النظر (الجيو استراتيجية). ودفع بعد ذلك طلائع قواته للاستيلاء على أربعة أماكن للعبادة موقوفة على (سيدي مبارك). ولكن الإفرنسيين أمكن لهم معاودة الاستيلاء عليها بعد قتال مرير. وأطلق الفرسان العرب نيرانهم في جهات مختلفة، غير أن قنابل الإفرنسيين وقذائفهم استطاعت تدمير المقاومات العربية. وتولى الأمير عبد القادر توجيه نيران مدافعه بنفسه، واستطاعت بعض القذائف الموجهة بدقة إحداث الفوضى في إحدى الكتائب الإفرنسية فقاد الأمير على الفور مشاته ضدها. واندفعت القوات العربية بحماسة للاشتباك

مع العدو. غير أن كثافة نيران المشاة الإفرنسيين تمكنت من إيقافهم وتكبيدهم خسائر فادحة. واستمر الصراع بقسوة، ولكن ظهر بسرعة أن الهجوم بات عقيما بعد أن تمزقت القوات العربية، فاضطرت للانسحاب. ومضت ساعات على هذا الصراع المرير، الذي انتهى باستيلاء الإفرسيين على غابة (بغيلة) الواقعة على يمين المواقع العربية. بينما تقدمت مدفعيتهم إلى الأمام على محور الطريق الرئيسي. وتخلى العرب عن جميع النقاط في ميدان المعركة. وحاول الأمير عبد القادر المحافظة على بعض النظام أثناء تنفيذ الانسحاب. غير أن جهوده لم تفلح في إصلاح الخلل. وخلال نفس الليلة، انحلت فرق مشاته النظامية، أما فرسان القبائل، فإن بعضهم عاد إلى منازله، في حين توجه بعضهم الآخر إلى مدينة معسكر، ليمارس فيها أعمال النهب قبل أن ينهبها الإفرنسيون. وأما الأمير عبد القادر نفسه، فقد انسحب إلى (كاشرو - أو قرية كاشن) التي كانت ملكا لأسرته، وهي تبعد حوالي فرسخين عن معسكر. لقد ذاب جيش الأمير عبد القادر كما تذوب قطعة الثلج تحت وهج حرارة حارقة. وظهر بوضوح أن الطريق إلى (معسكر) قد بات مفتوحا. وقد سقط (تلمسان) في أيديهم بعد فترة قصيرة. ومن الممكن بنتيجة ذلك أن تستسلم القبائل بأجمعها طلبا للأمن، بل إن بعض الرؤساء الذين كان عبد القادر يعتمد عليهم أكثر من غيرهم قد تخلوا عنه. وهكذا كانت حالته تبدو يائسة. لقد كان يشعر بالألم والضيق. وكان الغضب يتملكه بنتيجة الإهانة التي لحقت بسمعته ونتيجة ضعف بعض أنصاره وخيانة بعضهم الآخر. غير أنه بالرغم من ذلك استطاع كبح جماح عواطفه فالتزم الصمت، ولم ينبس ببنت

شفة. ولقد حاول بعض الذين بقوا مع عبد القادر معرفة نواياه وسبر أغوار نفسه. فأظهر لهم التجلد، وحاول التخفيف عن المنزعجين، ورفع الروح المعنوية للمنهارين. وعندما تقدمت منه أمه بحنان الأمومة وعطفها لتبث في أذنه همسات الصبر والعزاء، أجابها بهدوء وهو يمسك يدها بكلتي يديه: (إن النساء يا أماه هن الحريات بالشفقة، وليس الرجال). دخل (كلوزول) مدينة معسكر يوم 6 كانون الأول - ديسمبر - 1835، ولم يبق بها سوى نفر من اليهود. لقد خرجوا من كهوفهم ليركعوا عند أقدام المنتصرين الإفرنسيين واشمأز المسلمون من السماح لهم بمصاحبتهم عند رحيلهم من المدينة. وفي اليوم التالي، اشتعلت النيران في أجزاء مختلفة من المدينة، ولكنها سرعان ما أخمدت. وبدأت القوات الإفرنسية بالاستراحة من الجهد المبذول، والاستعداد للإقامة في المدينة. فكان ذهولهم كبيرا عندما صدرت الأوامر إليهم بالاستعداد للرحيل، وهكذا جلوا عن مدينة معسكر في الثامن من الشهر. ورجع كلوزول إلى وهران تاركا بها القبائل المتنصرة التي أرادت أن تنتقم من الأمير. قرر الأمير عبد القادر العودة إلى دار الإمارة في (معسكر) ولما يمض على احتلالها أكثر من ثلاثة أيام. وانتشرت أخبار حضوره بسرعة. فجاءت القبائل تعتذر عن تفريطها. وعملت القبائل التي استولت على الذخائر بردها إلى الأمير طالبة منه العفو، فلم ير بدا من العفو عنها وتجاوز أخطائها. وكان (الهواري - آغا بني هاشم) بين هؤلاء، وهو الذي كان قد نهب مظلة السلطان أثناء الحرب فجاء بها الآن فقال له عبد القادر في ابتسامة ساخرة؛ (احتفظ بها لنفسك،

فلعلك تصبح سلطانا في يوم من الأيام). وعندما تقدم النهار، جاء بعض الرؤساء الذين كانوا قد فروا. فنظر إليهم عبد القادر باحتقار - وأخيرا تشجع أحدهم، وسأله، ما إذا كان عنده أوامر جديدة لهم فتعجب قائلا: (أوامري! نعم، إن أوامري هي أن تعفونى في الحال من ذلك العبء الذي ألقيتم به على عاتقي، والذي ساعدني ديني وإيماني على حمله حتى هذه الساعة. دعوا القبائل تختار خلفا لي وتعلم الحاج الجيلالي بالنتيجة، أما أنا فإنني ذاهب مع عائلي إلى المغرب الأقصى). وفي حركة واحدة جثموا، رؤساء واتباع، أمامه والتمسوا منه برجاء حار العفو عن الماشي. ووعدوه بإخلاص على متابعة الجهاد معه، وتقديم الدعم له. وأشرق وجه الأمير بنور أضاء أعماق نفسه وقال لهم: (فليفعل الله ما يشاء! ولكن تذكروا أنني أقسم أن لا أدخل مدينة معسكر باستثناء الجامع - حتى تثأروا لهزيمتكم النكراء. لقد كان الأحرى بكم أن تواظبوا على الجهاد حتى تنقذوا بلادكم من براثن العدو وتعيشوا أحرارا، أو تموتوا عن آخركم فتحرزوا الشهادة) واستعاد الأمير سلطته، فأرسل في الليلة ذاتها مجموعة من الرسل إلى كافة القبائل تدعوهم إلى الجهاد مجددا. وفي الغد، انبرى عبد القادر على رأس قوة من (6) آلاف فارس. وهدفه الوصول إلى (تلمسان) لحمايتها ومنع الإفرنسيين من الوصول إليها، غير أنه كان لا بد له في الوقت ذاته من خوض مجمرعة من المعارك ضد تلك القوى التي ارتضت لنفسها الاستظلال بحماية الإفرنسيين والخضوع لحمايتهم.

الصراع المرير على تلمسان (1836)

5 - الصراع المرير على تلمسان (1836) كبرت الهزيمة على (كلوزول) إذ رأى أن هجومه على (معسكر) ما زاد الأمير إلا قوة وعنادا. ففكر في وسيلة تخرجه من المأزق الذي يجابهه، فكلف (بوشناق) الذي أصبح قائدا لفرنسا على (مستغانم) بالتوجه إلى دار الإمارة (بمعسكر) ليشاغل الأمير. وخرج هذا العميل إلى المكان الذي يعرف باسم (البطحة) ووقعت بينه وبين جيوش المسلمين وقائع عديدة. ولو لم يتنبه (بوشناق) في الوقت المناسب إلى فتح أفواه نهر (هبرة) لفصل قواته عن جيوش المسلمين، لكانت هذه الجيوش قد دمرت قواته تدميرا كاملا. وعادت هذه القوات بفلول ممزقة لتضيف إلى هزيمة (كلوزول) هزيمة جديدة. وتابع الأمير عبد القادر بعد ذلك تقدمه للالتقاء مع عدوه (كلوزول) وكان أول ما قام به الأمير هو الهجوم على (قوة الزمالة) التي باتت متحالفة مع الإفرنسيين، فقتل قائد هذه القوة، وتمزق أفرادها، ولم ينج من الإبادة إلا الذين فروا في الشعاب تاركين أموالهم وراءهم بحيث أن الأمير كلف فرقة كاملة من جنده لحمل الغنائم وتسليمها إلى دار الإمارة. وبينما هو سائر إلى تلمسان بلغه أن قبيلة (أنجاد، أو أنكاد) تحاول إرسال دعم إلى مصطفى بن إسماعيل قرب تلمسان، وفي الوقت ذاته، خرج هذا

المتمرد (ابن إسماعيل) من تلمسان ومعه أنصاره للقاء الأمير. غير أنهم لم يصمدوا لضربات للأمير، الذي أمكن له من أن ينتصر أولا على (مصطفى بن إسماعيل) الذي تمزقت قواته، ورجعت بفلولها إلى تلمسان تاركة فوق أرض المعركة مئات القتلى وآلاف الجرحى. أما قبيلة (أنجاد) فلم تتمكن من مجابهة الأمير، بل فرت منذ بداية النهار، تاركة وراءها كل ما تملك حتى أنها سلمت في حريمها وأولادها، وجرح قائد قبيلة أنجاد المعروف باسم (عبد الله غماري). تبين للجنرال (كلوزول) أن كل آماله قد تدهورت، غير أنه حاول التكتم على هزائمه فأرسل تقريرا إلى حكومته (أشاد فيه ببطولة جيشه التي حققت له النصر على الأمير، والاستيلاء على دار الإمارة بعد معارك طويلة) إلا أن الحكومة تلقت تقارير مناقضة من عناصر استخباراتها تفيد: (بأن القوات الإفرنسية قد دخلت دار الإمارة، دون أن يكون الأمير فيها، أو يجدوا من يقاومهم، وفي اعتقادهم أن عدم مجابهة الأمير للإفرنسيين كانت خطة عسكرية والدليل على ذلك، أن الأمير اتخذ من استيلاء الإفرنسيين على معسكر حجة للفتك بالقوات الإفرنسية وتدمير القبائل المؤيدة لها - وعلى كل حال، فإن كلوزول ليس بالرجل الذي يمكن له أن يكون كفوءا للأمير، وأن ما يرسمه كلوزول من الخطط لم ولن يحدي نفعا). وكتبت وزارة الدفاع الإفرنسية إلى كلوزول رسالة جاء فيها: (بان هناك شائعات تقول بخلاف ما تدعيه أنت في تقاريرك، وعليك أن تكون صريحا مع وزارة الدفاع حتى تتمكن من معالجة المشكلات بحسب ما تقتضيه المصلحة العامة في الجزائر). وأمام هذا الموقف، أعاد (كلوزول) تقدير موقفه، فوجد نفسه أمام مأزق لا يخرجه منه إلا استيلاؤه على تلمسان، فنظم قوة من (8) آلاف جندي، وتوجه بها

إلى هدفه وبلغ الأمير ذلك، فاتخذ نفس الخطة التي نفذها في (معسكر) وأمر السكان بمغادرة المدينة. وجاء الإفرنسيون، وعندما علم (مصطفى بن إسماعيل) باقترابهم خرج هو وأنصاره، وفتحوا لهم أبواب القلعة، ولم يدخل الإفرنسيون إلا بعد دفاع مستميت، حيث وقف جند الأمير سدا في وجوههم. ولما لم تسفر المعركة عن نتيجة، توقفت قوات (كلوزول) غير أن القبائل التي خرجت من تلمسان استجابة لأمر الأمير، عادت الآن فانضمت إلى الإفرنسيين. ولم يبق أمام الأمير إلا الانسحاب بقواته إلى مدينة وجدة (على الحدود المغربية) ودخل كلوزول تلمسان يوم 13 كانون الثاني (يناير) 1836 م. وقد تقدم ابن إسماعيل والكراغلة، متبوعين بجميع اليهود لاستقبال الحاكم العام، ومجلس قيادته، رافعين إليه أسمى آيات الولاء والإسلام، داعين إياه (بمنقذهم، وولي أمرهم). أما كلوزول، فقد طلب منهم (100) ألف فرنك كعربون على إخلاصهم. وحاول أولئك المنخدعون المندهشون أن يقنعوه بعجزهم عن جمع مثل هذا المبلغ، ولكن بدون جدوى، لأن كلوزول كان لا يرحم، واستخدم الضغط الشديد والتهديد بل وحتى الضرب، وأدى ذلك إلى أن يبيع الرجل لباسه وفراشه حتى يؤدي ما افترض عليه، وأن تبيع المرأة ثيابها ومصوغها حتى تجمع المبلغ، جزء منه نقدا والجزء الآخر من الماس والجواهر وقد أدى ذلك إلى ظهور نقمة عارمة، مما أدى إلى انتشار مقولات مختلفة على الألسنة منها المقولة الساخرة التالية: (ما أعظم قادتنا، إنهم يطالبون القبائل الجزائرية بالانضمام إليهم، حتى إذا ما استجابت هذه القبائل لهم، فرضوا عليها الغرامات القاسية لتمويل خزينتهم) أما الأمير عبد القادر فقال: (إذا كانت تلك هي معاملة الإفرنسيين لأصدقائهم، فماذا عسى أن يتوقع منهم أعداؤهم).

وشاع خارج المدينة، وذاع، أن يهوديا قد ترأس محكمة حاكمت (الكراغلة المسلمين) وعاقبتهم، فزادت نقمة العرب بذلك، أن هذا الانتهاك لحرمات المسلمين لم يسمع به أبدا من قبل. وكان من نتيجته أن عاد (الأنجاد) للاتصال بالأمير عبد القادر. كما أرسل إليه (الكراغلة) بصورة سرية من يعلمه بأنهم ينتظرون بفارغ الصبر رحيل الإفرنسيين لتسليمه القلعة. غير أن (كلوزول) لم يكن يرغب بالرحيل عن المدينة، وكان هدفه هو إقامة اتصال مباشر بين تلمسان، والساحل. وكان فم (تافنة) هو أقرب نقطة صالحة لهذا الغرض. غير أن المسافة الواقعة في الوسط هي منطقة جبلية. وقرر أن يحقق هدفه يوم 23 كانون الثاني - يناير - فوجد نفسه وجها لوجه أمام عبد القادر الذي كان يقود جيشه. وبدأت على الفور المعركة التي استمرت عشرة أيام أظهر فيها العرب شوقهم للموت انتقاما لهزيمتهم السابقة، وقاتلوا بعناد وتصميم لا يمكن وصغهما. وكان الأمير عبد القادر طوال هذه الاشتباكات يتجنب الدخول في معركة تصادمية - جبهية - مع قوات الإفرنسيين، مكتفيا بالسيطرة على النقاط ذات الأهمية الاستراتيجية. فنشر قواته على الهضاب وفي الوهاد وعند الأنهار. واصطدمت القوات الإفرنسية بعقبتين: أولاهما عدم قدرتها على مجابهة هذا النوع من أساليب (الحروب الثوروية) وثانيتهما: عدم معرفتها للأرض على مسرح العمليات. ونتج عن ذلك أن انهزم كلوزول، وتقهقر إلى تلمسان، مخلفا وراءه خسائر فادحة. ثم لم يلبث أن ترك حامية في قلعة تلمسان بقيادة نائبه (كافينياك) ومضى في رحلة مثيرة في اتجاه (وهران) حيث كانت قوات الأمير عبد القادر تطارده حتى أبوابها، وقد وصفت المصادر الإفرنسية هذه الرحلة المثيرة بما يلي: (خرج الماريشال كلوزول بجنوده من تلمسان، راجعا إلى وهران،

فصادف في طريقه أهوالا جمة، وتعرض لمصائب شديدة، منها هزائم جنده، وتشتيت شملهم بوادي عشبة) (وقد عدل كلوزول عن طريقه الذي جاء منه، وسلك طريق الساحل إلى مرسى (رشقون) فوصله على أسوأ حال، ذلك أن الأمير أخذ بمخنقه وحاصره مدة شهرين كاملين، لا يخلو يوم منها دون قتال، ثم لما أعياه الأمر، وضاقت به الحيلة، بعث صريخه إلى نائبه في وهران، الذي أرسل إليه المراكب، فركبها بجيوشه، وحمل ما أمكنه من ذخائر ولحق بوهران). وفي وهران، توقف كلوزول فترة قصيرة، عين فيها الجنرال (دارلنح) قائدا على وهران، والجنرال (بهاراجوا) على الجند ومضى هو إلى الجزائر. وعندما وصلها، حاول التستر من جديد على (مغامراته الفاشلة)، فأصدر بيانا أعلن فيه (أن الحرب ستنتهي، وأن عبد القادر قد ضرب ضربات قاصية، وأنه دحر، وأنه فر إلى الصحراء). ثم سافر الماريشال كلوزول إلى فرنسا في شهر (نيسان - أبريل) تاركا وراءه تعليمات إلى (دارلنج) في وهران، بإقامة معسكر حصين على نهر (تافنة) استعدادا لفتح خط الاتصال مع تلمسان من هناك. خلال هذه الفترة تسرب (كافينياك) (¬1) إلى (بريغو) (¬2) حيث القبائل النازلة في وادي الشلف. والمعروف أن هذه القبائل قد ¬

_ (¬1) كافينياك: (LOUIS EUGENE CAVAIGNAC) الابن الثاني (لجان بابتيست كافينياك) وهو - أي لويس - من مواليد باريس (1802 - 1857)، خدم في الجزائر، ثم أصبح حاكما لها، وعين رئيسا للهيئة التنفيذية - سنة 1848، فقضى على ثورة حزيران. غير أنه فشل في فرض مرشحيه لرئاسة الجمهورية ضد لويس نابليون. (¬2) بريغو: (PERREGAUX) هي مقاطعة في إقليم وهران. في وادي نهر (هبرة) وتقع عند تقاطع الخطوط الحديدية (الجزائر - وهران) مع تلك الواصلة بين (وهران وكولومب بيشار).

استمرت بتأثير من رؤسائها أبناء (سيدي العريبي) في التأرجح بين الولاء للأمير عبد القادر، وبين العمل ضده، وذلك على الرغم من العقوبات التي نزلت بها، وها هي الآن تمتنع عن دفع الضرائب، بعد أن رفضت تقديم فرسانها لدعم جيش الأمير، ثم هي تجاوزت ذلك في حلف جديد مع الإفرنسيين بحجة تعرضها لضغط القوات الإفرنسية المستمر. وكان الأمير عبد القادر مشغولا جدا في الوقت الحاضر بحصار تلمسان، وبإجراءات (دار لانح) على (تافنة) وليس بإمكانه التوجه إلى (بريغو. غير أن العرب الذين نكثوا بعهدهم، ورحبوا بالجنرال الإفرنسي، سرعان ما شعروا بغضب السلطان، إذ لم يكد الإفرنسيون ينسحبون حتى نزل عليهم عبد القادر كالصاعقة. ففرض الضرائب الثقيلة على ثمانية عشر قبيلة منهم، واقتيدت مواشيهم، وقد أخذت قبيلة (البرجية) كمثال مريع، فهلك منها عدد كبير، وشرد الباقي ليجد المآوى حيث يستطيع. ووصل (دار لانح) بصعوبة كبيرة إلى (تافنة) يوم 16 نيسان - أبريل - 1836م ومعه (3) آلاف جندي من المشاة وثماني قطع مدفعية. وبعد أن أكمل إقامة المعسكر الحصين على ضفة النهر، تقدم في 21 من الشهر لفتح الطريق إلى تلمسان تنفيذا لتعليمات (كلوزول). وعلم الأمير بالأمر فسار إلى (ندرومة) حيث يمكنه متابعة تحركات العدو من كل جهة في المكان الذي تتشعب منه الطريق من (تافنة) إلى تلمسان. فقطع جبال القبائل الممتدة حول تافنة، ومضى محرضا القبائل على الجهاد، ثم توجه بجيشه، واعترض العدو في وادي (تافنة) والتحم القتال بينهما نهارا كاملا. ثم ضرب الجنرال معسكره في الوادي ورتب صفوفه على هيئة قلعة، ونزل الأمير بجنوده وضرب حصارا محكنا حوله. وفي يوم 24 نيسان (أبريل) تهيأ

الجنرال للانتقال من مكانه، فجاءه المجاهدون من كل مكان وزحفوا إليه دفعة واحدة، غير مبالين بنيران المشاة أو قذائف المدفعية حتى وصلوا إلى مرابض المدافع واستولوا عليها. وأخذ الجنرال بالانسحاب، واستمرت قوات المجاهدين في مطاردته حتى أعجزته عن التحرك فقرر التوقف من جديد، وأعاد تنظيم معسكره الدفاعي. وعندما قرر استئناف المسير، انقض عليه جند الأمير، واستولوا على عتاده، وقتلوا من جنده أعدادا كبيرة. ثم توجه الجنرال إلى (تافنة) يجر معه فلوله الممزقة، فأعاد تنظيمهم، غير أن قوات المجاهدين لم تترك له فرصة للراحة، وعادت فأحكمت الحصار حوله، ومنعته من التحرك، ولم يبق أمامه إلا أن يشق طريقه بين صفوف المسلمين، حيث تعرضت بقية قواته للمزيد من التدمير، وعندما وصل إلى (وهران) أرسل إلى حكومته يعلمها بما نزل بقواته من الخسائر، ويطلب إليها الدعم لإيقاف الموقف المتدهور. تابعت الحكومة الإفرنسية إرسال الإمدادات لقواتها في الجزائر، بعد ان أجمعت كافة التقارير على تصعيد المقاومة بصورة لم تكن متوقعة. ووصل الجنرال (بيجو) (¬1) على رأس ثلاثة فرق عسكرية إلى (تافنة) يوم 6 حزيران - يونيو - 1836، وفي الحال شرع الإفرنسيون في تجديد محاولتهم لفتح الطريق إلى (تلمسان) بالقوة، ¬

_ (¬1) بيجو: (THOMAS ROBERT BUGEAUD DE LA PICONNERIE) دوق ايسلي DUC D'ISLY ، ماريشال إفرنسي، من مواليد ليموج (1784 - 1849) أسهم بقدر كبير في دعم الاستعمار الإفرنسي للجزائر وتقويته. وقد تم تعيينه سنة (1840) حاكما على الجزائر فطور الإدارة الإفرنسية، ودعم الزراعة لمصلحة المستوطنين. وخاض في سنة (1844) معركة (ايسلي) ضد المغرب وانتصر فيها فمنح لقب كونت - أو دوق - ايسلي. ووقع مع الأمير عبد القادر معاهدة لم يلبث أن عمل هو ذاته على نقضها.

وأخيرا نجحوا في هدفهم، فقد حارب عبد القادر معركة طويلة يائسة ضد القوات المغيرة على ضفاف (الزقاق - أو سكاك) ولكنه تعرض في هذه المرة لهزيمة كاملة. أدرك الأمير أن سبب هزيمته إنما يعود إلى تخلي جنوده عنه وهو في أوج انتصاره، وكانت هذه هي المرة الثالثة التي تتكرر فيها مثل هذه الظاهرة: كانت المرة الأولى، عند استيلاء الإفرنسيين على عاصمته (معسكر). وكانت المرة الثانية، بعد غزوة تلمسان. وها هي المرة الثالثة في معركة الزقاق. وكل حادثة من هذه الحوادث كافية لأن تكون سببا قويا لسقوط قوة أعظم سلطان راسخ القدم. ومع ذلك، فإنها لم توثر في الأمير، ولم تحصل دولة فرنسا منه على طائل مما دفع أحد الكتاب للقول: (إن تلك الوقائع تسحق عقل القوي وتضعف عزمه، ولو كان كالصخر، إلا أن الأمير، كان لا يبالي بذلك لأنه كان يعرف أنه إذا ما ابتسم له الحظ، فإن باستطاعته التغلب على العصاة المتمردين بحد سيفه البتار). وهذا بدقة ما فعله وهو في ذروة المأزق، إذ ما كاد يبلغه أن (سيدي إبراهيم) قد اختار هذه الساعة الحرجة ليعلن ثورته ضده، ولينتحل لقب سلطان، حتى جرد سيفه من غمده، وعلقه في سرجه، وأقسم أن لا يغمده، وأن لا ينزل عن فرسه حتى يقطع رأس ذلك الخائن. وأسرع بمفرده تقريبا إلى قبيلة (بني عامر) حيث كان يعلم أن الخائن بينهم وطلب تسليمه في الحال. وبعد أن أفاقت هذه القبيلة من دهشتها وتأثرها من هذا القرار الصارم، سلمت الثائر (سيدي إبراهم) إلى عبد القادر، خائفة من أن يؤدي الرفض إلى الاتهام

بالتآمر معه. وقطع رأس الخائن فورا. وكالعادة، رجع جند الأمير من ديارهم نادمين على ما فعلوه، طالبين من الأمير العفو، فقال لهم: (لقد عفوت عنكم كثيرا، وأن هفواتكم كثيرة، وأن العدو لنا بالمرصاد، وأخاف أن يجد ثغرة في صفوفنا فيجرنا حتما إلى النهاية - ويؤسفني أشد الأسف أن ينتصر جنودنا على بيجو، وأن تهزمه هزيمة ساحقة، ثم تتقاعس في نفس اليوم الذي انتصرت عليه، وتخرج من المعركة لتسمح له بأن يتعقبها، وأن يقتل منها ذلك العدد الكبير ... لقد جاءت التقارير بأن بيجو كاد ينتحر في منتصف النهار عندما رأى جندنا يتقدمون ويفتكون بقواته دونما هوادة ويستولون على الغنائم، ويبيدون ضباطه بالعشرات، حتى أن الكثيرين من جنوده سلموا أنفسهم وعتادهم. وبدلا من أن تتابع جيوشنا الجهاد حتى نهايته، اكتفت بما حققته، ورجعت إلى ديارها تاركة وراءها عددا قليلا من المجاهدين، ففتك بهم بيجو واعتبر هذا الانتصار التافه، انتصارا لا نظير له. أيها الإخوة! إن الجزال بيجو إذ يعتبر انتصاره في هذه المعركة انتصارا، فإنه على حق، لأن المعارك التي خاضها قادة فرنسا قبله كان نصيبهم منها الخذلان. وعليه فأقول لكم إني تأثرت بواقعة الزقاق التي هي في الحقيقة لا تقدم ولا تؤخر، وإنما غرور بيجو قد خلق منها معركة كبرى حتى يشق لنفسه الطريق إلى السلطة، حيث أن الحكومة بعثته على سبيل الاختيار، فإن هو نجح، فسترسله للجزائر، وإن فشل فستبقيه في فرنسا. ولقد علم هو بهذا السر فأجهد نفسه حتى انتصر بسبب نقصان عدد جنودنا). رجع (بيجو) بعد معركة (الزقاق) إلى وهران، وطير الخبر إلى

دولته يبشرها بانتصاره، ويتبجح بما أحرزه من النصر في أول معركة له في بلاد الجزائر. ثم توجه إلى فرنسا لاستثمار هذا النصر، وإعداد نفسه لممارسة دور أكبر، مستفيدا من أخطاء خصمه (كلوزول)، ومعززا مكانته بقوله: (افسحوا المجال لعبقرية فرنسا). وبتأثير من (بيجو أرسلت وزارة الحرب الإفرنسية إلى (كلوزول) رسالة جاء فيها: (إنك لم تقم بواجبك، حيث أنك لم تتخذ الضمانات الكافية في وهران، وعلى أية حال، فإن الوضع بعد الانتصار الضئيل الذي أحرزه بيجو يهدد الوجود الإفرنسي في الجزائر بالخطر) وطلب (كلوزول) دعم حكومته لمجابهة الموقف المتدهور، وعندما استشير (بيجو في موضوع إرسال الإمدادات أجاب: (إن الوقت غير ملائم لذلك، ويجب أن يترك الأمر إلى الجنرال كلوزول حتى يجد الحل المناسب، فإذا ما عجز عن ذلك، فيجب إخراجه من الجزائر. ولم يجد كلوزول أمامه سوى التوجه إلى باريس في محاولة للحصول على الدعم. غير أنه لم يجد هناك من يستمع إليه، وعندما طلب إلى وزير الدفاع الخطة التي يقترحها، أجابه: (إننا هنا نجهل كل شيء عن الجزائر. ولك بصفتك قائدا عاما اختيار الخطة المناسبة وتنفيذها بما يتوافر لديك من القوات، فإن نجحت فذاك، وإن فشلت فللوزارة أن تفكر في الأمر) ورجع كلوزول خائبا، فقرر غزو (قسنطينة) في محاولة لإخضاع (الباي أحمد) على أمل إحراز نصر يدعم موقفه. وحشد كل القوات، وشرع في التحرك - في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - سنة 1836 م. فوصل إلى (عنابة - بونة) ثم انتقل إلى (قالما) حيث استراح وجنده لمدة ثلاثة أيام، سار بعدها إلى (قسنطينة) ولما وصلها اشتبك في معركة قاسية، أبلى فيها القائد (ابن عيسى) أفضل البلاء، وأمكن له في يوم واحد القضاء على كلوزول وقادة جيشه الذين جاؤوا معه.

وتركوا وراءهم القتل والعتاد، ولم ينج أي واحد منهم؛ وتمكن كلوزول من إنقاذ نفسه والنجاة من الموت بأعجوبة؛ ولكن بعد أن ترك ابنه قتيلا في هذه المعركة. وعزلت فرنسا (كلرزول) الذي غادر الجزائر حاملا معه قلب ابنه القتيل وتوجه إلى إسبانيا حيث قضى فيها بقية أيام حياته. كان الأمير عبد القادر يتابع الموقف، ويحشد قواته، ويحكم الحصار على القوات الإفرنسية التي نجحت في إقامة بعض المراكز الداخلية، غير أنها لم تكن قادرة على الاتصال بها أو الوصول إليها، وكانت رسائلها تحجز، وتقطع رؤوس حامليها بدون تمييز، ولم تتمكن القبائل المتحالفة مع الإفرنسيين إمدادها بالمؤونة وسواء كان الإفرنسيون في وهران أو في تافنه، فإنهم كانوا لا يستطيعون التحرك إلا في فرق كبيرة. وكانوا في هذه الحالة يحتاجون إلى تموين ضخم، وحيوانات تحمل الأثقال ووسائل للنقل. وكان أهل الدوائر والزمالة، طلبا للأمن تحت حصون وهران، يعيشون على مؤونة مقترة يتصدق بها عليهم حماتهم من حين لآخر. أما في تلمسان فإن (كافينياك) كان يشتري القطط لمائدته بمبلغ أربعين فرنكا للقط الواحد. وعندما علم (الأمير عبد القادر) بنوايا (كلوزول) وبتحركه نحو (قسنطينة) امتنع عن اتخاذ أي إجراء قد يفسد التطور الكامل لتلك الخطة. ومنى نفسه بأنه سيكون هو المستفيد في النهاية سواء نجح الإفرنسيون في خطتهم أو فشلوا. ذلك أنه إذا ما انهزم أحمد باي قسنطينة فإنه سيتخلص من منافس خطير، دون جهد من جانبه، وستكون القبائل العربية في قسنطينة عندها حرة للانضمام إليه والعمل تحت لوائه. أما إذا انتصر الحاج أحمد باي قسنطينة، فإن الإفرنسيين قد يغادرون الجزائر بعد أن تكون قواتهم قد استنزفت، غير أن ذلك قد يفتح مجال الصراع الطويل

مع أحمد باي قسنطينة. ولكن توقف الأمير لم يستمر طويلا، وانتصر الحاج أحمد. وعندها عرف عبد القادر أن ساعة الحسم قد أقبلت. فأصدر أمره من مقر قيادته في المدية، للقيام بهجوم شامل ضد كل المراكز الإفرنسية بين الأطلس والساحل. وتدفقت آلاف العرب والقبائل من الجبال كالسيل الجارف، وانضمت إليها قوات تيطري، فعملت على تدمير المؤسسات الإفرنسية الاستعمارية وإحراقها، وأسرات المستوطنين الإفرنسيين، وبلمحة واحدة لم يبق للإفرنسيين وجود حقيقي في إقليم وهران. وأصبح سهل (متوجة - متيجة) تحت رحمة قوات الأمير الذي أصدر أمره إلى خليفيه (مصطفى بن التهامي وابن حميدي) بالتوجه إلى وهران والاستيلاء عليها، وعزلها عن كل اتصال بالسيطرة على محاور الطرق المؤدية إليها. وتم تنفيذ ذلك بنجاح. وفي الوقت ذاته كلف الأمير عبد القادر خليفته (محمد بن علال) بالتوجه إلى الجزائر، فأشعل نارا حامية على قيادة الجيش هناك، وضيق على القبائل المتنصرة، بل على الإفرنسيين أنفسهم، وسار حتى دخل مدينة الجزائر ذاتتها. وأصبحت القيادة الإفرنسية في الجزائر غير موجودة عمليا , توجه الأمير بعد ذلك إلى (تلمسان) ودخلها، وذهب لزيارة قبر الولي الصالح (سيدي بومدين). وهناك كانت تنتظره مباغتة غير متوقعة. فقد كان القائد (ابن نونه) متعلقا بأستار الضريح، لائذا به، فأمنه الأمير بعدما اعترف على ملأ من الناس بأنه أتى نكرا واقترف ذنبا ولم يكتف الأمير بتأنيبه، بل إنه تجاوز عن أعماله، فأقره على طائفته، بعد أن أماط كل لثام، وجلا كل شك وشبهة عن عصيان هذا القائد. أصبحت حالة الحاميات الإفرنسية مثيرة للشفقة، فقد أصبح

الرعب من المجاعة مسيطرا على جند هذه الحاميات. وهنا ظهر (اليهودي دوران) ليمارس دور الوساطة. فقد أقنع الأمير: (بأن الفوائد التي سيحصل عليها من إطعام الإفرنسيين ستفوق كثيرا - حتى من الوجهة العسكرية - قيمة أي نصر يمكن أن يحققه عن طريق تجويعهم). وفي الوقت ذاته، وبعد موافقة الأمير على هذا المبدأ، توجه (دوران) لمفاوضة (بروسارد) الذي أصبح قائدا على وهران ليفاوضه بقوله: (إن الإفرنسيين في حاجة إلى القمح واللحم، والسلطان من جهته في حاجة إلى الحديد والرصاص والكبريت. فليبتع كل طرف ما يحتاجه من الطرف الآخر، وسيكون الجميع راضين. ويجب أن لا يخشى أبدا بأن هذا الإجراء سيكون على حسابك ولصالح السلطان. فهو لن يظهر أبدا في القضية، إذ إنني أنا الذي سأبيعكم القمح واللحم. وأنتم ستبيعونني الحديد والكبريت، ولن يعرف السلطان سوى عن طريق غير مباشر بأن المواد الأولى لكم، والمواد الأخيرة له. بل إن السلطان مستعد للسماح لكم باستئناف تموين تلمسان. ولكن ما دام هذا الامتياز بدون شك سيغضب ويثير سخط العرب الذين يحقدون على الوجود الإفرنسي في تلك المدينة، فإن السلطان لن يأخذ على عاتقه سوى كراهية ومسؤولية الترخيص به، على شرط أن يطلق الإفرسيون سراح جميع الأسرى الذين سجنوهم إثر معركة الزقاق وأن يعيدوهم إليها). وفي الحال، قبل (بروسارد) هذا الاقتراح وتم الأخذ به وتنفيذه. وكان ذلك بداية الطريق إلى معاهدة (تافنه) أو معاهدة (عبد القادر - بيجو).

معاهدة (عبد القادر - بيجو) 31 - أيار - مايو (1837 م)

6 - معاهدة (عبد القادر - بيجو) 31 - أيار - مايو (1837 م) صدمت الحكومة الإفرنسية لدى وصول أخبار هزائم قواتها في الجزائر. فأسرعت بعزل (كلوزول) وعينت (الجنرال بيجو مكانه. وحددت له مهمته بالتالي (إما أن يعقد الصلح مع عبد القادر وإما أن ينتصر عليه). ووصل بيجو إلى الجزائر، وبدأ على الفور اتصالاته بالأمير. وجرت مرحلة طويلة من المفاوصات، وتبادل الرسائل. غير أنه كان من المحال على الأمير الانفراد بأمر خطير بدون استشارة قادته وزعماء قومه. فدعا إلى مؤتمر عام يجتمع على ضفة نهر (هبرة) يوم 25 أيار - مايو - 1837. وفي الموعد المحدد، حضر شيوخ القبائل الكبار وزعماء الفرسان العسكريين، وشيوخ المرابطين وأعيان المجاهدين في إقليم وهران. وافتتح الأمير المؤتمر بقوله: (لا أريد أن أسمع أحدا منكم يتهمني بالرغبة في عقد السلام مع المسيحيين. إن قضية السلام والحرب هي قضية أنتم الذين تقررونها) ثم تابع حديثه فشرح طبيعة المراسلات التي تمت بينه وبين بيجو، والاقتراحات والعروض التي تقدم بها كل منهما للآخر - وتبع ذلك حوار طويل وعاصف. إذ وقف عدد من المخلصين لقضية الجهاد فعارضوا الاتفاق مع أعداء الدين وانضم إليهم الراغبون في مقاومة

الأمير. وكذلك الذين شعروا بأن الحرب توفر لهم المناخ الملائم للكسب والمساومة غير أن شيوخ المرابطين تصدوا للموقف وعالجوه بطريقة حكيمة تعتمد على التمييز بين السلام والاستسلام، بين سلام مقبول وسلام مطلوب وقالوا لهم بأن القرآن الكريم لم يقر أبدا إهدار الدم بدون جدوى، بعد أن استسلم الكفار، ونادوا بوضع السيف في غمده، إن الإفرنسيين قد استسلموا وطلبوا الصلح. وأن السلطان قد أملى شروطه عليهم. وتغلب هذا المنطق على المعارضة. وتم التوقيع على المعاهدة (التي عرفت بمعاهدة تافنة حيث تم تبادل الوثائق) (¬1). وما أن عاد (بيجو إلى الجزائر، حتى أصبح حر اليدين لتطوير العمل العسكري فزج قواته كلها ضد (أحمد باي قسنطينة) وأمكن له تحقيق انتصار حاسم ضده، ودخلت القوات الإفرنسية مدينة (قسنطينة). أصبح باستطاعة الأمير عبد القادر التفرغ لبناء الدولة، وإعادة تنظيمها، وزيادة قدرتها، وهو يدرك تماما أنه لا بد وأن يتجدد الصراع ضد قوى الاستعمار الإفرنسي. واصطدمت عملية إعادة التنظيم الشامل بمجموعة من العقبات، لم يكن أقلها امتناع قبائل كثيرة عن دفع الضرائب، بحجة عدم الحاجة لمثل هذه الضرائب طالما أن الحرب قد توقفت. فاضطر في البداية لإخضاع تمرد المتحالفين من بني مختار وبني نائل وبني موسى وبني عبيد والزناخرة الذين كان يترأسهم محمد ابن عودة زعيم أولاد المختار (قرب فصر البخاري). وجهز من أجل ذلك جيشا يضم (12) ألف فارس (وألفي) راجل مع بعض المدافع. وأمكن له الانتصار على قوات التمرد. ثم قرر الانتقال بقواته إلى منطقة الأغواط (جنوبي الصحراء العظمى والواقعة على بعد مائتي ميل ¬

_ (¬1) أنظر قراءات (2) في نهاية هذا الكتاب حيث نصوص هذه المعاهدة.

جنوب وهران) وذلك لإخضاع بنو عراش (في عين ماضي) والذين كان يتزعمهم (التيجيني) ودارت معارك طويلة، استنزفت فيها قوات الطرفين المتصارعين، وانتهت بانتصار الأمير عبد القادر. أصبحت الجزائر الآن دولة مكتملة الأركان، ثابتة البنيان، وشعر الأمير عبد القادر أنه قد أنجز الواجب الذي حملته الأمة الجزائرية أعباءه. فقد هزم الإفرنسيين، ووقع معاهدة سلام مشرف، وكانت مملكته نموذجا للتنظيم الرائع، لقد لبى نداء واجبه الديني في ساعة العسرة، وأنقذ قومه في ساعة البلوى. غير أنه أضاع نفسه في أمته، لقد هجر أهل بيته، وفقد عزلته التي كان يجد فيها متعته العقلية، فمنذ اليوم الأول لمبايعته، وقف أمام زوجته ليقول لها: (لقد وضع القوم أمانة في عنقي، ومن الواحب علي القيام بها، وأن ذلك لا يدع مجالا لي حتى أقوم بواجباتي الزوجية على أكمل وجه، ولك إن أردت البقاء معي من دون التفات إلى طلب حقوقك المقدسة، فإني أوافق الموافقة أزمة على ذلك. وأما إن كان قصدك ألا تفرطي فيها فأمرك بيدك، وذلك لأني قد تحملت ما يشغلني عنك) وأجابته الزوجة الصالحة - ابنة عمه - (لقد رضيت لنفسي ما ارتضيته لنفسك) وأخلص الزوجان لقضية الإسلام. وبعد التوقيع على معاهدة تافنه، وبينما كان هو في سبيله لمحاربة الخارجين عن الطاعة والجماعة، مر الأمير عبد القادر بالقرب من (معسكر) وعلمت زوجته بذلك، وكانت قد مضت شهور عديدة لم تره خلالها، فبعثت إليه الرسل ترجوه أن يعرج نحوها، ولو يوما واحدا، غير أنه أجاب (بأنه مزفوف إلى بلاده). ولقد حدث مرة أن

مضت عليه فترة تزيد على السنتين لم يسمح لنفسه بوقت يذهب فيه لرؤية عائلته. وها هو الآن يحاول استئناف حياته الخاصة، وإلقاء أعباء المسؤولية على عاتق سلطان المغرب، وتسليمه الأمانة، فيكتب له - بعد الديباجة - ما يلي: (إن شعب الجزائر متحد الآن، وأن علم الجهاد قد طوي، فالطرق آمنة وعامرة، والعادات السيئة قد قضي عليها، وتستطيع المرأة أن تعبر البلاد وحدها، ليلا ونهارا، من الشرق إلى الغرب، دون خوف على نفسها. وقد يلتقي الرجل بقاتل أخيه، فلا يجرؤ على الانتقام منه، بل يحتكم إلى القضاء. وأن كتاب الله وسنة رسوله هما فقط أساس الأحكام. والمواد الضرورية لجيشنا كثيرة، إلى جانب الرجال الذين يملؤون صفوفه. كل ذلك بفضل الله وتأييده، وبفضل دعواتكم ورضاكم عنا. ولولا ذلك لكنت أضعف الناس عن إنجاز كل هذا ... إنني لم أتقدم لتولي مسؤولية الحكومة بدافع الطموح، أو الرغبة في السلطة والجاه، أو حبا في ثروات الحياة الدنيا. ولكن - والله وحده يعلم أسرار القلوب - لأحارب في سبيل الله، ولأحقن الدماء بين المسلمين، ولأحمي أملاكهم، ولأمهد البلاد، كما تقتضي ذلك الغيرة على الدين والوطن. ومنذ تحملنا المسؤولية ونحن بالمرصاد ليلا ونهارا، متنقلين في طول البلاد وعرضها، في السهل والجبل، مرة نقود المعارك، وأخرى ننظم شؤون الدولة ونحن الآن نرجو من سموكم أن ترسلوا أحد أبنائكم أو أحفادكم أو خدامكم لتولي سلطان الحكم، لأن البلاد الآن موطدة وليس هناك معارضة من أية جهة.

وسأكون أول من يعمل تحت - قيادة - من ترسلونه، وأن أصخر كل إمكانياتي الضعيفة إلى أقصى حد لذلك، وأن أساعده بالرأي والنصيحة. إنني أثق في ذلك الاعتبار والسماحة، التي تميزكم، من أنكم ستقبلون رجائي في إعفائي من الحمل الذي يثقل كاهلي. وإنني أرسل إلى مقامكم بعض الهدايا التي كان ملك الإفرنسيين قد أرسلها إلي، والتي لم أبق منها عندي سوى بندقيتين صغيرتين. كما أرسل إليكم بعضا من أفضل البغال في الجزائر. إن عددها، بالإضافة إلى عدد الأشياء الأخرى، يوجد مفصلا في مرفق داخل هذه الرسالة. وإننا نرجوكم أن تقبلوا عذرنا، ونأمل في رضاكم وسروركم - وسيحمل إليكم الهدايا المذكورة، أخي الذي وكلته عني ليتشرف بمقابلة سموكم، وليحمل إليكم تقدير وتأكيد إخلاص ابنكم وخادمكم). عبد القادر بن محييى الدين محرم 1254 - تشرين الأول - أكتوبر - 1838 ورد السلطان (عبد الرحمن) برسالة حملت تقديره العالي للأمير، ورفضه حتى أن يسمع لحظة واحدة هذا التخلي عن الحكم من شخص أظهر كفاءة عظيمة في القيادة والتنظيم والتجديد وإنقاذ بلاده، ودعى الأمير عبد القادر، باسم الإسلام، أن يظل كما كان، بطلا للجهاد، وأن يكمل عمله الشريف، وأن يوسع وينجز واجبه، وأخيرا طلب إلى الأمير أن يرسل إليه قميصه كأثر يحتفظ به في مسجده الخاص. لم يكن الأمير عبد القادر، وهو يتنازل عن قيادته العامة، يهرب من الواجب، ويتخلى عن المسؤولية وإنما أراد توسيع دائرة الجهاد،

فقد وعد سلطان المغرب (عبد الرحمن) بوضع سيفه وعقله تحت تصرف من يوليه السلطان أمر الجهاد ضد أعداء الدين. وكان يدرك يقينا أن ما هو مقبل من الأحداث سيكون أكثر خطرا مما مضى، وهذا ما يتطلب حشد كل القوى. ومن أجل ذلك كان لا بد له من الاعتماد على جناحين قويين في المغرب وتونس، وعلى دعم من كل العالم الإسلامي فكتب إلى السلطان العثماني رسائل عديدة، غير أن إبراهيم باشا - شغل الخلافة العثمانية بأمورها - وجاء تدخل روسيا في الشمال ليصرف دار الخلافة عن كل أمر يتجاوز حدود الخطر المباشر الذي بات يدق أبواب عاصمتها. ولم يبق على الأمير إلا زيادة الاعتماد على قدراته الذاتية، فالتفت إلى البلاد ينظمها وإلى القوى يحشدها. ولم تمض فترة حتى تأكدت مشاعر الأمير، وأصبح الظن يقينا. فقد أخذ الإفرنسيون في البحث عن الثغرات لنقض معاهدة (تافنة) من أجل تطوير استعمارهم للجزائر، لا سيما بعد أن زالت معظم المقاومات، ولم يبق فوق أرض الجزائر سوى قوة وحيدة متماسكة هي قوة الأمير عبد القادر. وقد تذرعت فرنسا بتفسيرها الخاص لنصوص البند الثاني من معاهدة (تافنة). فاعتبرت أن فقرة (تملك فرنسا في إقليم الجزائر، مدينة الجزائر والساحل متيجة ممتدا نحو الشرق إلى وادي القدرة وما وراءه) في حين كان النص العربي يتضمن كلمة (فوقه) مما يخضع للأمير عبد القادر. وكان هذا الهامش الجغرافي هو البداية لتجدد الصراع.

نقض المعاهدة واستئناف الحرب (1838 - 1839 م)

7 - نقض المعاهدة واستئناف الحرب (1838 - 1839 م) تم تعيين الماريشال (فالي) (¬1) حاكما عاما على الجزائر في 30 تشرين الثاني - نوفمبر - 1837. وقد طلب عند تعيينه تعليمات الوزارة الإرنسية، فجاءه الجواب بسيطا (التمسك بمبدأ امتلاك الجزائر - ويجب أن يكون المفهوم من عبارة - وادي القدرة وما وراءه - كل البلاد الواقعة في إقليم الجزائر والواقعة وراء وادي قدرة حتى إقليم قسنطينة، وأن وضوح الدليل مستقلا عن الاعتبارات السياسية، لا يسمح بأي تنازل عن هذه النقطة. وما دمنا أسياد إقليم قسنطينة فإننا لا نستطيع أن نبقى بدون طرق أرضية تصلنا به). وأرسل (فالي) هذه التعليمات إلى الأمير عبد القادر، وأخذ في مفاوضته على شروط تنفيذها، ولكن الأمر اتخذ الإجراء المناسب والعملي بشأن المنطقة المتنازع عليها، أو بالأحرى تلك التي تريد فرنسا السيطرة عليها، ما بين الجزائر وقسنطينة - فركز جهده للسيطرة على كل المناطق جنوب (تيطري). وأمسك بقبضته القوية كل القبائل ¬

_ (¬1) فالي: (SYLVAIN CHARLES VALLEE) ماريشال فرنسي (1773 - 1840) اشترك في سنة 1837 باقتحام قسنطينة وأصبح حاكما على الجزائر.

الواقعة على حدود إقليم قسنطينة. وأرسل قواته فاحتلت كل الأراضي المتنازع عليها وراء (وادي القدرة). وبالإضافة إلى ذلك جعل هذه الأراضي مسرحا لنموذج من أعماله الصارمة التي لا تعرف المساومة نحو الذين خانوا الدين. فهناك مجموعة من الكراغلة كانت قد استوطنت هناك حديثا تحت حماية الإفرنسيين. وقد دعاهم عبد القادر إلى قطع علاقتهم الخائنة مع الإفرنسيين، ولكنهم رفضوا. وكان الإفرنسيون يمدونهم بالسلاح والذخيرة حتى يقاوموا عبد القادر، ولكن الأمير نزل عليهم وسحقهم وقطع رأس القائد العميل. وفي الحال، أعلنت كل قبائل مقاطعة (سباو) الواسعة خضوعها. وقد عين عبد القادر أحمد بن سالم ليكون خليفته عليهم. وأصبح عبد القادر الآن صاحب السيادة المطلقة على ثلثي الجزائر. وأن المناطق التي احتلها أخيرا والتي تقع في جنوبي - شرقي إقليم الجزائر كانت ذات فائدة كبيرة للإفرنسيين، لأن معسكرهم في (قسنطينة) كان يعتمد في مواده الغذائية عليها. فأخذوا يشعرون بعد ذلك الحادث أن عبد القادر يمكنه في أية لحظة أن يوقف التموين والإمداد عن الإفرنسيين، وقد عرف الأمير عبد القادر أن حركته الأخيرة ستستثير فرنسا، ووجد أنه من الضروري إجراء تحرك ديبلوماسي لتغطية تحركه العسكري، فكتب رسالة إلى ملك فرسا (لويس فيليب) يشكره على هديته التي كان قد أرسلها عشية التوقيع على معاهدة (تافنة) وحمل رسالته هذه إلى (ميلود أو - مولود بن عراش، واليهودي دوران) وأخذا معهما ستة أحصنة عربية مسومة. وكانت مهمة الوفد تتجاوز حدود المجاملة، فقد كان على الموفدين تهدئة المخاوف الإفرنسية من جهة. والتفاهم في موضوع بقاء المنطقة المتنازع عليها تحت سلطة الأمير. غير أن هذا الوفد عاد من مهمته فاشلا. وعلم الأمير وهو في (تاقدامت) يوم 10

كانون الثاني - يناير - 1839م. عن طريق وفده بتصميم فرنسا على التوسع والاستيلاء، فكان رده: (أبدا - أبدأ - لن أصادق على معاهدة تمنح الإفرنسيين جسرا أرضيا بين قسنطينة ومدينة الجزائر، لأخسر بذلك كل الثمار التي جنيتها نتيجة قصر نظرهم بجعل الجزائر محاطة بحلقة مكونة من البحر والشفة وجبال الأطلس الصغرى الواقعة مباشرة فوق وادي القدرة). ولكن على الرغم من هذا الرد الحاسم. فقد استمر الأمير عبد القادر في بذل جهد المستطاع لتجنب اندلاع الحرب. وتابع اتصالاته بالمارشال (فالي) الذي رغب في بذل الجهود أيضا لتحقيق أهداف فرنسا بطريقة سلمية، فأرسل الضابط (دوسال) في شهر شباط - فبراير - 1839 إلى (مليانة) حيث كان الأمير قد عقد مؤتمرا لكل القادة والشويخ لاستشارتهم. وتحدث (دوسال) إلى المؤتمرين، فكان جوابهم جميعا: (الحرب أولى من التنازل عن المناطق المتنازع عليها) وعزز الأمير جهوده السلمية بكتابة عدد من الرسائل إلى ملك فرنسا (لويس فيليب) وإلى وزير الحربية الإفرنسي، غير أن كل (¬1) هذه الجهود أحبطت بإرسال (دوق - دي أورليانز) ابن ملك فرنسا (لويس فيليب) والذي ما إن وصل إلى الجزائر حتى بدأ عمله بالإشراف على حملة تتحرك من ميلة في أقليم (قسنطينة) مارة بمضيق - باب الحديد - عابرة المنطقة المتنازع عليها، متقدمة منها إلى مدينة الجزائر. وأحيطت خطة العملية بنطاق محكم من الكتمان والسرية. وبدأت القوات الإفرنسية تحركها نحو (بجاية). فأسرعت القبائل ¬

_ (¬1) دوق دي أورليانز (DUC D'ORLEANS) من أسرة أورليانز الشهيرة وقد عرف باسم دوق دومال (HENRI DUC D'AUMALE) وهو الإبن الرابع للملك لويس فيليب الأول. جنرال ومؤرخ إفرنسي (1822 - 1897) وهو من مواليد باريس اكتسب شهرة من خلال حرب الجزائر. وكان في الحملة التي استولت على (الزمالة) مقر الأمير عبد القادر سنة 1843.

للدفاع عن بلادها ضد العدوان، وغادر المارشال (فالي) و (الدوق) مدينة ميلة يوم 18 - تشرين الثاني - أكتوبر - 1839. ووصلا مدينة (سطيف) من اتجاهين متقابلين يوم 21 منه. وطلب شيوخ القبائل مقابلة المسؤولين الإفرنسيين، وعندما قابلهم كبار الضباط، أبرزوا لهم جوازات سفر تحمل خاتم الأمير عبد القادر تسمح للقوات الإفرنسية بالمرور، فرضي الشيوح بذلك، وكانت هذه الجوازات مزورة. كما كان ختم الأمير قد زور أيضا. وبدلا من دخول جبال القبائل، عادت القوة التي تحركت نحو بجاية القهقرى. ثم تقدمت نحو (باب الحديد) بعد أن انضمت إلى قوات (فالي). وقام شيوخ القبائل بوظيفة الإدلاء المرشدين عند التقدم عبر المنطقة الجبلية الصعبة، وكانوا مغتبطين بتسهيل تقدم أصدقاء الأمير وحلفائه. وبفضل هذه الخدعة، مرت القوة الإفرنسية المكونة من (5) آلاف مقاتل تقريبا عبر المضيق الهائل لباب الحديد دون طلقة واحدة. ولو كان الأمير عبد القادر هناك بقوة لا تزيد على (500) رجل لما كان بوسع الإفرنسيين دخول (باب الحديد) أو لما كان في استطاعتهم الخروج منه. مر الإفرنسيون في اليوم التالي وسط قبيلة بني منصور التي بلغتتهم كما لو نزلت عليهم من السماء. ووصلت القوة الإفرنسية يوم 31 تشرين الثاني - أكتوبر - إلى (بني يني) وهناك تبادل العرب والإفرنسيون النار أخيرا. ولم يكن (لابن سالم) خليفة الأمير عبد القادر في تلك المنطقة الوقت الكافي للاستعداد من أجل مواجهة تقدم الإفرنسيين، لذلك اندهش عندما سمع بتقدمهم. وأخذ في الاستعداد متأخرا، إذ لم يلبث (الدوق) أن دخل الجزائر ومعه (فالي) يوم 1 تشرين الثاني - نوفمبر - دخول المنتصرين، واستقبلوا فيها استقبال الفاتحين. وقد دامت الاحتفالات بهذا الحادث أربعة أيام

كاملة. وأقيم احتفال ضخم في ساحة (باب الواد) تكريما لأبطال (باب الحديد). عندما علم الأمير وهو في (تاقدامت) بهذا الانتهاك الصارخ، ركب فرسه وسار ليلا ونهارا حتى وصل إلى مدينة المدية بعد (48 ساعة). وأرسل إلى (فالي) برقية احتجاج شديدة اللهجة كما كتب لابن سالم، تعليمات جديدة لمجابهة الموقف الجديد جاء فيها: (إن خرق الاتفاق قد جاء من المسيحيين! إن العدو أمامكم. اجمعوا أمركم واستعدوا للمعركة. إن الدعوة إلى الجهاد قد وجهت إلى كل مكان. وأنت رجل هذه الجهات. وإنني أضعك هناك لتمنع دخول العدو ... احذروا البلبلة. اربطوا أحزمتكم وكونوا مستعدين لكل شيء. كونوا على مستوى الحوادث. وتعلموا الصبر فوق كل شيء. لا تدعوا للضعف الإنساني مجالا بينكم. إنها محن أرادها الله. وأن هذه المحن قد خالطت مصير كل مسلم صالح تعهد أن يموت من أجل دينه. وسيكون النصر إن شاء الله حليف خطاكم. والسلام من عبد القادر بن محيي الدين) وفي الوقت ذاته وجه إلى خلفائه الآخرين رسائل ذات مضمون واحد جاء فيها: (إن الكافر قد جبهنا بالخيانة، ودليل خيانته واضح كالنهار، لقد عبر بلادي دون إذني، فاجمعوا شملكم، واربطوا أحزمتكم استعدادا للمعركة. إنها على الأبواب. وأن الخزينة العامة غير غنية. وأنتم أنفسكم لا تملكون النقود الكافية تحت أيديكم لتواجهوا الحرب. فأجيبوا إذن حالما تتلقون الأوامر بضريبة إضافية. كونوا عجلين في عملكم. وسارعوا إلى الانضمام إلي في المدية حيث أنتظركم). واجتمع الخلفاء والشيوخ والزعماء في المدية، واستمر النقاش طويلا، وطرحت قضية الحرب (فنادت الأصوات - باستثناء

صوت واحد - بالجهاد). فقال عبد القادر: (ليكن ذلك ما دامت هذه هي رغبتكم. ولكني أقبل المسؤولية بشرط واحد. أنكم ستعرضون للتعب والمشقة والمحن والخيبات. وقد تقنطون أو تتعبون من الحرب. فأقسوا لي إذن على القرآن الكريم أنكم لن تتخلوا عني أبدا ما دت أحمل راية الجهاد) فأقسم له جميع الشيوخ والخلفاء. وفي يوم 28 تشرين الثاني نوفمبر - 1839. أعلن عبد القادر رسميا الحرب على الإفرنسيين وذلك ضمن رسالة وجهها إلى المارشال جاء فيها: (من الحاج عبد القادر أمير المؤمنين، إلى المارشال فالي. السلام على من اتبع الهدى. لقد اتصلت بأول رسائلك وآخرها. وقد قرأناها وفهمنا محتواها. لقد سبق لي أن أخبرتكم بأن جميع العرب من ولهاصة حتى الكاف (من حدود المغرب حتى حدود تونس) مجمعون على الجهاد، وقد بذلت كل مجهرداتي لتهدئتهم لكن بدون جدوى. ويجب علي طبقا لشريعتنا الخضوع للإجماع. وإنني أعمل بوفاء لكم حين أخبركم بما يجري. فأرسلوا إلي قنصلي الذي هو في وهران. ويمكنه أن يعود إلى أسرته. وكونوا مستعدين. فالمسلمون جميعا قد أعلنوا الجهاد. ومهما حدث فإنكم لن تستطيعوا اتهامي بنقض العهود. إن قلبي صاف ولن تجدوني أعمل خلافا للعدل) كتب مساء الإثنين بالمدية في الحادي عشر من شهر محرم سنة 1255 (18 تشرين الثاني - نوفمبر - 1839). لقد لمع البرق وسط السحاب، وانفجرت العاصفة، ولم تمض ساعات على إعلان الحرب، حتى كان الأمير عبد القادر يقف فوق مرتفعات (بني صالح) ليتابع منظرا نادرا ما يحدث في التاريخ، لقد

تدفقت جموع العرب وقبائلهم فغطت سهول مدينة الجزائر، في حين كانت أفواج جديدة تنحدر من مختلف الجبال المجاورة لتنضم إلى ذلك الحشد الهائل. وغصت مضائق الأطلس وشعابه بالفرسان والمشاة، لقد انحدروا وكأنهم انهيارات ثلجية ضخمة حطت فوق سهول مدينة الجزائر. كان خليفتا المدية ومليانة قد عبرا نهر الشلف يتقدمان جنودهما. وأحاط ابن سالم بجيشه من القبائل بالمراكز والمسعمرات الإفرنسية المنعزلة من الشرق. وجاء أهل (حاجوط) هائجين من الغرب. وفي الحال، هوجمت المستمرات وخربت المؤسسات الزراعية ودمرت المراكز الإفرنسية بهذا الطوفان، وغطى دخان القرى المحترقة الجو، فأظلم. وهرب الإفرنسيون إلى الجزائر (المدينة)، التي اجتاحتها موجة من الفزع وملأت الشائعات المرعبة المدينة. فجلى الناس عن منازلهم وقاد الأمير قواته لمهاجمة (قلعة بودور) وهنا ظهرت أول صدمة عنيفة حيث استطاعت نيران المدفعية الإفرنسية إيقاف موجة المقاتلين العرب بفضل كثافة نيرانها ودقتها. وتحركت قيادة (فالي) بسرعة. فدعمت حامياتها وبصورة خاصة في (البليدة وبوفاريك) على أقدام جبال الأطلس. وأعلنت الحكومة الإفرنسية في الوقت ذاته (أنها لن تقبل بعد اليوم مساومة أو تراجعا - وأن الجزائر قد أصبحت منذ الأن وإلى الأبد مقاطعة فرنسية). ووصلت التعزيزات العسكرية بسرعة إلى مدينة الجزائر. وارتفعت القوة الفعلية التي أصبحت تحت تصرف المارشال - فالي - إلى (30) ألف محارب. ووضع (فالي) خطة جديدة للهجوم تختلف عن مخططات القادة السابقين الذين كانوا ينفذون عملياتهم بهجمات مباغتة تتبعها عمليات انسحاب مباغتة. وكانت خطة (فالي) تتلخص فيما يلي:

1 - الاستيلاء على المراكز التي أقامها عبد القادر وتخريها، بما في ذلك مخازن أسلحته ومستودعات تموينه .. 2 - مهاجمة وتدمير قواته النظامية التي تعتبر العمود الفقري لجهاز الحرب الجزائري. 3 - الاحتلال الدائم للمقاطعات الآهلة بالقبائل العربية الكبرى، حتى تقنعها بقدرة فرسنا على حمايتها والدفاع عنها، وبالتالي تدمير سلطة عبد القادر والقضاء على نفوذه وفي هذا الوقت ذاته، حاولت الإدارة الإفرنسية في الجزائر استثارة القبائل العربية ضد الأمير (قبائل بني شجران وبني غدو والحشم والشراقة والغرابة وبني شقران وسواهم). غير أن هؤلاء جميعا أجابوا - على لسان شيوخهم - برسالة واحدة أكدت رفضهم (لاقتراحات النصراني) والتزامهم بدعم (الأمير) حامل راية الجهاد في سبيل الله.

سنوات الصراع المرير (1840 - 1844 م)

8 - سنوات الصراع المرير (1840 - 1844 م) ركز المارشال (فالي) قواته في (البليدة) على أقدام جبال الأطلس الصغرى استعدادا للقيام بهجومه الأول بالتحرك نحو (المدية ومليانة). وعبرت قواته نهر الشفة يوم 27 نيسان (أبريل) سنة 1840م0 وهناك ظهرت فرسان الأمير عبد القادر بأعداد كبيرة. وسار الجناح الأيمن للقوات الإفرنسية نحو (بحيرة) لكنه لم يصل إليها، فقد أسرع الأمير عبد القادر بقواته وعبر المساحة الوسطى واختفى، وبذلك أصبح سهل مدينة الجزائر معرضا لضرباته، وظهر احتمال تقدم الأمير كالسيل الجارف، ولكن تلك الحركة لم تكن سوى خدعة منه. فقد كان هدف عبد القادر إرغام (فالي) على إيقاف تقدمه في سهل (وادي الشلف) وإرغامه على الدخول في الجبال عن طريق مضائق المزاية. وقد نجح في ذلك. كان الأمير عبد القادر قد عمل في الليل والنهار، وطوال شهور عديدة، لتصبح تلك المضائق الهائلة أكثر قدرة وأكثر منعة وأقوى تحصينا حتى يتحقق الهدف التالي: (أن يلاقي الجيش الإفرنسي حتفه هنا) ومن أجل ذلك حفرت الخنادق على كل مرتفع وهضبة. ونشر الأمير قواته النظامية من المشاة في هذه المواقع المحيطة بمدن (المدية

ومليانة ومعسكر وسباو وتاقدامت) وأفاد من الضباط الإفرنسيين الذين هربوا إليه، فعينهم لقيادة القوات في هذه المواقع. وتدفق العرب ورجال القبائل من كل جهة، فاحتلوا تلك المواقع والملاجىء مستعدين لإطلاق النار من عال، ضد القوات الإفرنسية عندما تدخل متثاقلة الممر الضيق المعلق وسط المنحدرات الجبلية. قسم (فالي) قواته إلى ثلاثة مجموعات. وغادر جنود هذه المجموعات بقيادة قادتهم (دوفيفييه ولامورسيير ودوتبول) الطريق، وراحوا يقفزون في الوهاد، وتغلبوا على صعوبات الطبيعة الجغرافية للأرض (الأشجار والصخور والحفر العميقة). ووصلوا الخنادق ببطء لكن بثبات. وفجأة غطى المنظر ضباب كثيف. لقد انطلق البارود ولم يتوقف، ودارت رحى معارك طاحنة استخدمت فيها كل وسائط الصراع، وأظهر المجاهدون والجند النظاميون قدرا غير قليل من الشجاعة والبأس، غير أن الكثافة النارية والتفرق بالقوى على نقاط الهجوم مكن القوات الإفرنسية من انتزاع النصر، ونجحت هذه القوات في رفع علمها فوق ذرى الأطلس بين دقات الطبل وصيحات الحرب المنطلقة من كل مكان. وانسحب الأمير ببقايا قواته إلى مليانة، التي كانت في حالة من الهياج والاضطراب والتي أمكن للأمير تهدئتها بسرعة. غير أن المارشال (فالي) دخل مدينة (المدية) فوجدها مهجورة ونصف محروقة. واستخلص الأمير عبد القادر الدرس بسرعة، فأصدر أوامره إلى خلفائه (بتجنب الاشتباك مع القوات الإفرنسية بمعركة نظامية. وممارسة الأعمال القتالية في إطار (الإزعاج والإغارة على أجنحة القوات المعادية ومؤخراتها وقطع محاور تحركاتها والاستيلاء على معداتها ووسائط النقل لديها، ونصب الكمائن والهجمات المباغتة ثم الانسحاب دائما بسرعة) وكان النجاح رائعا في

تطبيق هذه الطرائق مما وضع القوات الإفرنسية في (المدية ومليانة) في حالة انهيار معنوي (وأوشك معسكر ومليانة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1840 على الاختفاء تحت تأثير مجموعة من العوامل، وأهمها الجوع والمرض والغربة فمات 750 جنديا من أصل مجموع الحامية البالغ 1500 جندي، ودخل المستشفى 500 جندي لإاصابتهم بالحمى، أما البقية وعددهم 250 جنديا فكانوا هياكل متحركة لا يكادون يمسكون ببنادقهم). ونجح الأمير عبد القادر في إيقاف تقدم الإفرنسيين في جبال تيطري، ليس ذلك فحسب، بل إنه وضعهم دائما تحت رحمته، من حدود المغرب إلى حدود تونس، عائقا أو ملغيا عملياتهم بجهوده التي تكاد تكون فوق طاقة البشر. فهو دئما على صهوة جواده، يتحرك بصورة مباغتة وسرية، يحارب اليوم الإفرنسيين ليظهر في اليووم التالي وهو على بعد مسافة مائة ميل لجمع شمل قبيلة عربية ممزقة ولرفع روحها المعنوية، لذلك كان يبدو أنه - بنظامه الجديدي الصارم - قد تخلى عن الراحة والاستحمام. وكأنما قد أصبح جسمه شيئا روحانيا بالروح التي كانت تتقد فيه. تولى الجنرال (بيجو) منصب الحاكم العام للجزائر يوم 22 شباط (فبراير) 1841. وأخذ على عاتقه تنفيذ مخططات حكومته التي كانت قد درست قوة خصمها العنيد فوضعت تحت تصرف (بيجو) قوة تزيد على (80) ألف محارب، مدعمين بأقوى وسائط القتال والأسلحة الحربية الحديثة. ولكن الصعوبة الكبرى لم تكن في هزيمة عبد القادر بقدر ما كانت في اللحاق به. لقد كان الإفرنسيون أقوى منه ولكنه كان أسرع

منهم. فقد كانوا مرغمين على التحرك فوق الطرق الممهدة، بأرتال طويلة تثقلها المدافع ومركبات الإسعاف والأعتدة. أما هو فبعد أن يرى هدف هجوم عدوه، يتجنبه مؤقتا، ثم ينقض عليه عندما يكون في ورطة - مأزق - متخبطا في الشعاب، ضائعا في الوهاد. ونتيجة لذلك، أوقف (بيجو) العمل بأساليب أسلافه، ووزع قواته على أرتال متباعدة تعمل على محاور مختلفة، مما أرغم الأمير على توزيع قواته، وإبقاه في حالة من الريبة والشك في نوايا عدوه. وفي الوقت ذاته تخلت القوات الإفرنسية عن معداتها الثقيلة ومدافعها الضخمة، بل إنها تخلت حتى عن أرتال تموينها، وكان للعرب مزية أساسية تفوقت فيها على القوات الإفرنسية، ذلك أنهم كانوا يجدون المواد الغذائية أينما حلوا، داخل مخازن الحبوب المنتشرة تحت الأرض، في كل الجهات، بينما كانت القوات الإفرنسية ملزمة بحمل موادها التموينية. ولكن (لامورسيير) قد حل المشكلة حينما قال: (إن العرب لا يحملون تموينهم معهم. فلم نحن؟ ...) ولذلك فإنه منذئذ أصبح رجال (لامورسيير) يحملون معهم بعض المطاحن اليدوية الصغيرة، وعندما يصلون إلى مكان معين من البلاد ينتشرون هنا وهناك على مسافات تصل أحيانا بضعة كيلومترات. وأثناء تقدمهم كانوا ينقبون الأراضي أمامهم بسيوفهم وحربات بنادقهم فيضربون الصخور التي كانت تغطي مخازن الحبوب، والتي لم تكن مغطاة إلا بطبقة خفيفة من التراب. وهكذا اكتشفت مخازن الحبوب التي كان العرب يخفونها عن عدوهم، ومن جهة أخرى ضمنت الغارات الحصول على الغنم، وتحول القمح إلى دقيق بواسطة المطاحن اليدوية. وبهذه الطريقة أصبحت القوات الإفرنسية تمون نفسها في المكان الذي توجد فيه. ووضع (بيجو) مخططات عملياته العسكرية

على أساس تحقيق مبدأين (الصيانة والاعتداء). وحدد أهدافه الرئيسية بإعادة تموين حامياته التي لا تكاد تقوم بتأمين مواردها الحياتية إلا بجهد كبير وسط العرب المحيطين بهم من كل جانب. والاحتفاظ بالقبائل العربية التي نجح في إخضاعها تحت سلطته، وتنظيمها تنظيما محكما تحت إشراف الإفرنسيين، مع إرهاب القبائل الأخرى بواسطة إغارات مرعبة لإبادتبها وإحراق محاصيلها. وأخيرا، في ضرب قوة الأمير عبد القادر، دون هوادة ولا تردد، واحتلال مراكزه الحصينة، وتدمير مخازن أسلحته، أملا في إرغام الأمير على التراجع نحو الصحارى القاحلة. افتتح (بيجو) حملة سنة 1841 م بمحاولة إعادة تموين مدينتي (المدية ومليانة). وكانت خسائر الإفرنسيين قبل تحقيق هذا الهدف، فادحة، ذلك أن عبد القادر قد نازعهم كل شبر أثناء تقدمهم. وكان (بيجو) قد ذهب إلى إقليم (وهران) ومن مستغانم قاد شخصيا حملة ضد (تاقدامت) وعند وصوله يوم 25 أيار - مايو، وجدها مهجورة، بينما كانت أجزاء منها تحترق. ثم تلى ذلك تخريب (بوغار وسعيدة وتازة). وقرر الأمير عبد القادر، طبقا لتنظيمه الجديد، عدم إضاعة قواته أو تشتيتها للدفاع عن قلاعه، ولذلك تخلى عنها جميعا. وكان جيشه النظامي أكثر فائدة ونجاحا في استخدامه لعرقلة الإفرنسيين أثناء تقدمهم، أو في الاحتفاظ بولاء القبائل التي ظهر عليها التردد. وقد أصبحت المدن المحصنة بالنسبة لطرائق الحرب الجديدة التي دعي عبد القادر لمواجهتها، حملا، بل عبئا ثقيلا، كان يشعر بالغبطة للتحرر منه. ونجح الأمير عبد القادر في إعادة تنظيم القبائل، حتى باتت تتحرك بدافع واحد، تنبسط أو تنقبض تبعا لأوامر القيادة. وكانت تهاجم عند أقل خطر، وتختفي عندما تشعر بتتبع العدو لها.

وهذا هو المبدأ الحاسم الذي أصبح منذ الآن الأساس في عمليات الأمير. ومقابل ذلك، أصبح الهدف الأول للمارشال (بيجو) هو كسر حلقات هذه السلسلة المترابطة، وتحطيم السلطة التي تجعلها مجتمعة ومتماسكة، وذلك بإقامة مراكز عمل دائمة في وسط القبائل والمجمعات العربية، وإرسال حملات سريعة متتالية انطلاقا من هذه المراكز حتى يتيح لجيشه أن يثبت وجوده دائما بين العرب. واعتبر (إقليم وهران) هو المسرح الأساسي للعمليات باعتباره القاعدة التي يستمد منها الأمير قوته. فاحتل (لامورسيير) مدينة (معسكر) واحتفظ (بيدو) (¬1) بمدينة تلمسان. وكان (وشانقارنيي) (¬2) يراقب الحدود الغربية لسهل مدينة الجزائر. وقد أرسلت ثلاثة أرتال للتحرك من وهران ومستغانم نحو القبائل الواقعة في المنطقة الواسعة الممتدة بين البحر والأطلس، بالإضافة إلى تلك التي تقع في اتجاه الصحراء. وكان الرتل الأول تحت قيادة (بيجو) شخصيا، وكان يتقدم محاذيا لسهل وادي الشلف، ثم التقى بالرتل الثاني الذي كان يتحرك تحت قيادة (شانقارنيي) منطلقا من البليدة. أما الرتل الثالث الذي كان يقوده (لامورسيير) فقد كان يهدف إلى رد عبد القادر ودفعه نحو الجنوب لعزله عن القبائل التي كان (بوجر وشانقارنيي) يهاجمانها. وهنا بدأت القصص المدهشة، والمثيرة في وقعها والسامية في عظمتها، تلك ¬

_ (¬1) بيدو: (MARIE ALPHONSE BEDAU) جنرال فرنسي من مواليد فيرتو (VERTOU) في اللوار السفلي (1804 - 1863) برز اسمه في الجزائر. (¬2) شانقارنني: (NICOLAS CHANGARNIER) جنرال إفرنسي ورجل سياسي. من مواليد اوتن (AUTUN) (1793 - 1877) . أصبح حاكما في الجزائر ثم أبعد منفيا بعد انقلاب فرنسا 1851، وأعيد إلى فرنسا (1859).

القصص العجيبة التي تمتزج فيها الجرأة بالعبقرية والإيمان. والتي طبع بها عبد القادر صراعه المجيد الذي كان يقوده بشخصيته القوية. كان (لامورسيير) ينفذ بحماسة التعليمات المعطاة إليه لمطاردة الأمير عبد القادر والقبض عليه، وسمع فجأة أن الأمير كان أمام (معسكر). وعندما أعد خطته للوصول بسرعة إلى ذلك المكان، عرف أن عبد القادر قد مر قريبا من مؤخرة قواته، وأنه كان يقوم بغزوة ضد قبائل البرجية. وعادت المطاردة، ولكن عبد القادر عبر من جديد (نهر الشلف) بمناورة جريئة وسريعة، تاركا خصمه وراءه في حيرة وذهول، ومر بين قوات (بيجو) والبحر وسرعان ما استرجع مكانته بين القبائل التي فرت منه في ذلك الاتجاه، وقام بغزوة أخرى سريعة في جنوب (مليانة). ثم أسرع نحو الصحراء، حيث ظهر بكامل قوته. في نفس الوقت الذي كان الفرنسيون قد رجعوا إلى قواعدهم يائسين من العثور عليه. أثناء ذلك، كان الجنرال (بيدو) قد نجح في فرض سيطرته على عدد من القبائل المنتشرة على الحدود (المغربية - الجزائرية) ومن أبرزها قبيلة (ندرومة) مما هدد مؤخرة الأمير وطرق تموينه الرئيسية. فقاد الأمير عبد القادر قواته وأسرع نحو الحدود المغربية، وبمجرد وصوله انضمت إليه (قبائل ندرومة وبنو سناسن) ودعموا قوته بثلاثة آلاف فارس وخمسة آلاف راجل. فمضى بهم إلى القتال. وأصبحت هضاب ووديان جبال ترارة وندرومة وضفاف تافنة والزقاق مسرح اشتباكات طاحنة بين الأمير و (بيدو) طوال شهري آذار ونيسان (1842) - مارس وأبريل - وأفاد (لامورسيير) من غياب الأمير ليبسط سيطرته على (مدينة معسكر) وليوسع عملياته في اتجاه الصحراء، بعد أن نجح في إخضاع الكثير من القبائل - بمن فيهم قبائل بنو هاشم - قبيلة الأمير نفسه - فانتقل الأمير بسرعة، وعالج الموقف بمزيج من القسوة المتناهية والتسامح غير

المحدود تبعا لمعرفته لمن خضع كرها أو خيانة للإفرنسيين، فأمكن له بذلك استعادة السيطرة على الموقف. وهكذا استمر الصراع المرير على كافة الجبهات والذي أخذ شكل اشتباكات دموية عنيفة في بعض الأحيان. ونظرا لما كانت تتعرض له القبائل العربية - وخاصة النساء والأطفال - فقد اضطر الأمير لتطوير (الزمالة) حتى أصبحت عاصمة ضخمة متنقلة تتبع حركة الأمير في تقدمه وتراجعه. ولم تلبث هذه الزمالة أن تحولت لإداة فعالة في قبضة الأمير لمنع القبائل من التأرجح بين الخضوع للإفرنسيين، وبين الولاء للأمير. فعندما كان الإفرنسيون يقدمون الإغراءات لرجال القبائل بقولهم: (هلموا إلينا فإننا سنحميكم) كان هناك صوت خفي يهمس في آذانهم قائلا: (إن لدي نساءكم وأطفالكم وقطعانكم فاحذروا). وأصبحت (الزمالة) نتيجة ذلك هي الهدف الأول للإفرنسيين. حيث تركزت هجمات الربيع لسنة 1843 من أجل مطاردة الزمالة. وقد استطاع الأمير إحباط هجومين قام بهما (لامورسيير) غير أن (دومال) نجح في الإغارة على (الزمالة) يوم 16 أيار - مايو - 1843 بمساعدة خائن (هو عمر العيادي ابن فراح). وكانت غنائم الإفرنسيين كبيرة. بقدر ما كان وقع الكارثة مفزعا للعرب. وعندما بلغ الأمير الخبر (وهو في غابة سرسو) أظهر تجلده للنكبة، رغم أنه فقد فيها كل ثروته المالية ومجوهراته ومكتبته التي جهد في جمعها، فقال لأولئك الذين كانوا ينتظرون كلمته: (الحمد لله - إن كل تلك الأشياء التي كنت أقدرها حق قدرها والتي كانت عزيزة على قلبي، والتي شغلت عقلي كثيرا، لم تزد على أن أعاقت حركتي وحولتني عن الطريق الصحيح. أما في المستقبل، فسأكون حرا في محاربة الكفار) وكتب إلى خلفائه: (قام الإفرنسيون بالإغارة على الزمالة. ولكن علينا أن لا نفقد الشجاعة وسنكون منذ

الآن أخف حملا وأفضل استعدادا للحرب.) كانت صدمة (الزمالة) قوية الوقع على الأمير، وصفها بقوله: (كنت قرب (تاقدامت) أراقب الحامية الإفرنسية القريبة مني (بوهران)، عندما قام الإفرنسيون بهجومهم المباغت على (الزمالة). كان معي (1500) فارس، وكان (ابن خروب) مع فليته، وابن علال في الونشريس، ومصطفى بن التهامي بين بني ورغة، ولم أكن أبدا أتوقع نكبة كالتي حدثت من جهة (المدية) ولم يكن أحد من خلفائي يراقب تحركات ابن الملك (دوفال). ولكن رغم ذلك كله، لم نكن لنباغت بالحادث لو أن الله لم يطمس عيون شعبنا. فقد اعتقد أهل الزمالة، عندما رأوا جنود - الصبائحية - متقدمين ببرانسهم الحمراء، أن هؤلاء هم جنودي غير النظامين عائدين، بل إن النساء قد رفعن أصواتهن بالزغاريد ترحيبا واحتفاء بهم، ولم يشعرن بخيبة الأمل إلا بعد إطلاق النار، ثم تلا ذلك اضطراب لا يوصف شل جميع جهود الذين حاولوا الدفاع عن أنفسهم. ولو كنت حاضرا لكان علينا أن نحارب من أجل نسائنا وأطفالنا، ولعاش الإفرنسيون يوما لن ينسوه، ولكن الله أراد غير ذلك، ولم أسمع بالنكبة إلا بعد ثلاثة أيام من حدوثها، وكانت الفرصة عندئذ قد ضاعت). كانت قوة الإفرنسيين التي قامت بالإغارة قليلة، لهذا لم تتمكن من اقتياد أكثر من (3) آلاف أسير، كان من بينهم عدد من عائلات كبار الضباط والقادة في جيش الأمير، ولم تكن (نكبة الزمالة) أكثر من بداية بصراع مرير وقاس على كل الجبهات، وأصبح إقليم وهران مسرحا للاشتباكات الدموية المستمرة، ولم تتوقف القوات الإفرنسية من مطاردة الأمير، وتمكنت في يوم 22 أيلول -

سبتمبر - 1843 من مباغتته عندما كان معسكرا بالقرب من زاوية المرابط (سيدي يوسف) وقد صحا الأمير على صرخات (الإفرنسيين - الإفرنسيين). وكان لا يجد الوقت حتى لامتطاء فرسه، غير أنه لم يفقد رباطة جأشه وهو في أشد ساعات الضيق. فأخذ في إطلاق النار وأسرع جنده إلى أسلحتهم، وأخذوا في التجمع حوله تقودهم صيحاته الحادة، وأمكن له تمزيق الإفرنسيين والخروج بجنده وأهله. ومضى (بزمالته) التي لم تعد تضم أكثر من ألف نسمة، ليجوب بها الأرض في شقاء ويأس. وتبع ذلك قتال مرير، وكانت النسوة تحمس المحاربين بالزغاريد والأهازيج. وكان عبد القادر ورجاله يحاربون على مرأى ومسمع من زوجاتهم وأطفالهم، فأبدوا شجاعة لا توصف. وأمكن للأمير بذلك قيادة الزمالة الصغير بأمان إلى (بوك شبكة) على حدود المغرب الأقصى. أما (بيجو) فقد كتب إلى حكومته: (بعد حملة الربيع 1843، كان باستطاعتي أن أعلن بأن احتلال الجزائر وإخضاعها قد انتهى. غير أنني فضلت أن أذكر ما هو أدنى من الحقيقة، ولكني الآن، وبعد معركة 11 - تشرين الأول - أكتوبر - والتي قضي فيها على بقية مشاة الأمير وقتل فيها أول وأشهر خليفة له (ابن علال) فإني أعلن على الملأ وبكل جرأة، أن كل قتال جدي قد انتهى، حقا إن عبد القادر قد يقوم بحفنة الفرسان الذين ما يزالون معه، ببعض الحركات المباغتة المعزولة على الحدود، ولكنه لن يحاول أبدا القيام بأية حركة هامة من جديد).

على حدود المغرب (1845 م)

9 - على حدود المغرب (1845 م) اتخذ الأمير عبد القادر من حدود المغرب قاعدة لغزواته في الجزائر لفترة من الوقت، ثم ينسحب إلى الأرض المغربية مما دفع القوات الإفرنسية لزج فرقة عسكرية ضخمة بقيادة (لامورسيير) لاحتلال الجزء الذي ينطلق منه الأمير عبد القادر، ولم يكن خط الحدود الجزائرية - المغربية محددا بدقة. واختار (لامورسيير - وبيدو) مقرا لهما في زاوية حملت اسم (لاللامغنية) وهي امرأة مرابطة اشتهرت بورعها وتقواها. (ولا يزال هناك ضريح أقيم لها رسميا في المكان ذاته) وفي (لاللامغنية) حفر الإفرنسيون خنادقهم، وعلقوا معداتهم وغنوا أغانيهم، وأهرقوا خمورهم، وعربدوا عربدتهم، فكان في ذلك تدنيس لحرمة المكان المحترم، وانتهاك مثير ووحشي لمشاعر المسلمين. وانطلقت صرخة الغضب فترددت لها أصداء قوية في كل المغرب الإسلامي. مما دفع سلطان المغرب (سيدي عبد الرحمن) لتوجيه جيش بقيادة القائد (القناوي) الذي كان شريفيا متعصبا مرتبطا بالدم مع عائلة السلطان. وطلب القناوي من الإفرنسيين الجلاء عن (لاللامغنية) يوم 22 أيار - مايو - 1844. غير أن الإفرنسيين سخروا من هذا الطلب وفي يوم 30 أيار (مايو) تقدم الجيش المغربي، واشتبك

مع الإفرنسيين في معركة قصيرة وحاسمة وأرغمهم على الانسحاب. وعاد (بيجو يوم 11 حزيران - يونيو - في محاولة للتفاهم مع (القناوي) غير أن هذه المحاولة فشلت، وبعدئذ وجه (بيجو) إنذارا خطيا إلى (القناوي) جاء فيه: (نرغب أن تكون لنا نفس الحدود التي كانت للأتراك ثم لعبد القادر، إننا لا نريد أن نأخذ منكم شيئا. ولكن يجب أن نصر على عدم إيواء عبد القادر بعد اليوم، وأن لا تمنحوه المساعدة أو التأييد، وأن لا تدعموه بعد أن أوشك على الهلاك ثم تطلقوه ضدنا من جديد. إن عملا كهذا ليس من الصداقة في شيء، إننا نخوض حربا، وإنكم كنتم تقومون بالحرب ضدنا على هذا المنوال منذ سنتين. إننا نطلب منكم أن تحصروا دائرة عبد القادر وكبار مساعديه في غرب الدولة، وأن تقرقوا جيشه النظامي، المشاة منه والفرسان، ونطلب منكم أيضا أن ترفضوا منذ الآن السماح بهجرة قبائلنا إلى مناطقكم، وأن تعيدوا إلينا حالا أولئك الذين لجؤوا إليكم. وإننا نلزم أنفسنا بالمعاملة بالمثل تجاهكم فيما إذا حدث مثل ذلك بالنسبة إلينا. وهذا ما يمكن تسميته حقا التطبيق العملي لمبدأ الصداقة الحقيقية بين أمتين. وبهذه الشروط سنكون أصدقاءكم، وسنشجع تجارتكم، وسنكون إلى جانب حكومة مولاي عبد الرحمن بقدر ما نستطيع أما إذا تصرفتم غير ذلك فسنكون أعداء لكم. فأجب في الحال وبدون تملص لأنني لا أفمه). لم يأت هذا الإنذار بنتيجة تذكر، وتراجع الجيش المغربي إلى داخل البلاد، واحتل (بيجو) مدينة (وجدة) بصورة مؤقتة، وتطور الصراع على الحدود. فأرسلت الحكومة الإفرنسية قطعة من أسطولها

إلى الساحل الغربي بقيادة (دوجوانفيل) (¬1) في شهر حزيران (يونيو) 1844 لتدعيم مطالبها الرسمية. وتلقى المارشال (بيجو) في الوقت ذاته تعليمات للبدء بعملياته الهجومية البرية واضطر السلطان (عبد الرحمن) للرضوخ لمطالب الإفرنسيين بعد قصف طنجة وموقادور بقنابل الأسطول، وبعد معركة (ايلسلي) (¬2) وفرضت معاهدة الصلح على السلطان فرضا، وتضمن البند الرابع منها. (يعتبر عبد القادر خارجا على القانون في جميع أنحاء الدولة المغربية وفي الجزائر. ونتيجة لذلك، ستطارده القوات الإفرنسية من الجزائر والقوات المغربية من المغرب، إلى أن يطرد من هناك، أو يقع في قبضة قوات إحدى الدولتين. ففي حالة وقوع عبد القادر في أيدي القوات الإفرنسية، تتعهد حكومة جلالة ملك فرنسا أن تعامله باحترام وكرم. وفي حال وقوعه في أيدي القوات المغربية يتعهد جلالة سلطان المغرب بإجباره على الإقامة، مستقبلا، في إحدى مدن الساحل الغربي لدولته، إلى أن تتوصل الحكومتان إلى اتخاذ إجراء يمنعه من استئناف القتال، وتعكير الهدوء في الجزائر والمغرب). انسحب الأمير عبد القادر بعيدا في جوف الصحراء، غير أن المعاهدة المفروضة استثارت غضب المسلمين في المغرب كله، ووصلت إلى الأمير رسائل من كل المستويات تطالبه بقيادتها للإطاحة بالسلطان، غير أن الأمير رفض استثمار هذا الموقف الذي يضعف ¬

_ (¬1) دوجوانفيل: (PRINCE DE JOINVILLE FRANCOIS DE BOURBON ORLEANS) أميرال إفرنسي - من مواليد نويي (NEUILLY) (1818 - 1900) الابن الثالث للملك لويس فيليب. (شقيق دومال الذي سبق ذكره). (¬2) إيسلي: ISLY نهر مشترك بين الجزائر والمغرب، يرفده نهر تافنة من يساره.

المغرب بدلا من تقويته، ومضى يستثير حماسة القبائل في الجزائر، متنقلا باستمرار، من (تيارات) في أقاليم التل حتى الحدود المغربية. وكانت مطاردة الإفرسسين له لم تتوقف. وفي لحظة اليأس وصلته رسالة من خليفته (ابن سالم) يعلمه بقدومه إليه عندما تتوافر له ظروف مناسبة. وأثناء ذلك عقد خلفاء الأمير الثلاثة في الشرق الجزائري. وقرروا المضي في جهادهم، ومما قاله (ابن علال) لإخوته في الجهاد وهو يعانقهم ويقبلهم مودعا: (ليجمعنا الله في الآخرة، لأنني ضعيف الأمل باجتماعنا من جديد في هذه الدنيا) فأجابه ابن علال: (قد يكون ذلك صحيحا إذا استسلمنا للمسيحيين، وهو أمر حرمه الله علينا). يصور ذلك الوضع الذي كانت عليه الجزائر، في الوقت الذي مضت فيه السلطة الاستعمارية بالمطاردة الأمر الذي زاد على قدرة احتمال القبائل، فانفجر الموقف في آذار (مارس) 1845 بقيادة محمد ابن عبد الله - الملقب بومعزة - من مشايخ (الدرقاوه). ورفع (بومعزة) لواء الجهاد في منطقة الظهرة وسهل الشلف. وعلى الرغم من أن قوة - بومعزة - لم تتجاوز المئات فقد كانت شرارته هى التي أحرقت السهل، إذ اندلعت المقاومة في كل مكان (باسم بو معزة). وأفاد الأمير من هذا الموقف، فقاد قواته التي بقيت مخلصة له إلى سهل (تافنة) فدمر الحامية الإفرنسية في (سيدي مخلصة). واستسلمت له كتيبة كاملة (من ستمائة جندي) في (تموشنت). وشعرت فرنسا بالخطر المتعاظم. فأعادت (بيجو) إلى الجزائر، ودعمته بقوات جديدة حتى بلغ عدد القوات الإفرنسية في الجزائر (120) ألفا ووصل بيجو إلى مسرح العمليات يوم 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1845 وتولى قيادة (14) فرقة. وطبق أسلوب (الطابور الجهنمي) الذي يعتمد على الإبادة

للسكان وإحراق الأرض والزرع والقرى. وخاض الأمير عبد القادر صراعا مريرا ضد أرتال القوات الإفرنسية، ونجح في إحراز عدد من الانتصارات كاد في بعضها أن يسحق رتلا كاملا من أرتال القوات الإفرنسية في كانون الأول - ديسبر - 1845 م. وأصبح لزاما على الأمير عبد القادر أن يخوض صراعا مريرا على ثلاث جبهات: الجبهة الداخلية المتداعية تحت ضربات الإفرنسيين المدمرة، وعلى جبهة الصراع ضد الإفرنسيين، وعلى جبهة المغرب، وكان هذا الصراع يتطلب إمكانات صخمة، في حين انقطعت عنه كل الموارد بعد أن نجحت فرنسا في عزل الجزائر عن جناحيها (تونس والمغرب). وباتت الحلقات تضيق حول الأمير حتى كاد يسقط في قبضة أعدائه عدة مرات (منها ما حدث له يوم 7 شباط - فبراير - 1846 عندما بوغت في منتصف الليل بقوات الإفرنسين وهي تحيط به، ولم تنقذه إلا شجاعته من هذا المأزق). استمر عبد القادر بقيادة هذا الصراع المرير على امتداد عامين، وفي شهر كانون الأول (ديسمبر) 1847 وقف مع القوات المتبقية لديه (5) آلاف مقاتل في (اقدين) دائرة معسكره على الضفة اليسرى لنهر (ملوية) وأعاد تقدير موقفه، كان شاردا عن كل ما حوله يسير على رأس قوته تتبعه (الزمالة) التي أوهنها الحل والترحال، وزاد من إرهاقها غضب الطبيعة التي أرسلت أمطارها كالسيول، ووقف الأمير فجأة، وطلب إلى رجاله الاقتراب منه. لقد اتخذ قراره، وها هو يترجمه على رجاله الذين أخذتهم مهابته: (هل تذكرون القسم الذي أقسمتموه قبل ثمانية أعوام في المدية عند استئناف الحرب ... إنني دائما كنت أعتبر ذلك القسم ملزم لي نحوكم، كما هو ملزم لكم تجاهي. إن هذا

الشعور وحده هو الذي جعلني أتابع حمل راية الجهاد في سبيل الله حتى اليوم .. فإذا كنتم تعتقدون أنه ما زال بوسعي أن أقوم الآن بأي شيء فأخبروني. وإن كنتم لا تعتقدون ذلك فإني أسألكم أن تعفوني من القسم الذي التزمت به تجاهكم) وأجابه الجميع بصوت واحد، (إننا جميعا نشهد أمام الله أنكم فعلتم كل ما في وسعكم لإعلاء كلمته، وسيجزيكم الله بعدله يوم القيامة) وقاد الأمير الحديث من جديد: (وإذا كان هذا هو رأيكم، فأمامنا ثلاثة احتمالات: إما العودة إلى الدائرة حيث نكون مستعدين لمواجهة أية عقبة، وإما محاولة إيجاد طريق إلى الصحراء. وفي هذه الحالة لا يستطيع النساء والأطفال والجرحى أن يتبعونا، وسيسقطون لا محالة في أيدي العدو، وإما الاستسلام) فأجابوه: (ليهلك النساء والأطفال، أهلنا وأهلك، ما دمت أنت سالما وقادرا على متابعة الجهاد في سبيل الله. إنك قائدنا وأميرنا، فحارب واستسلم كما تشاء، إننا سائرون وراءك إلى حيث تقودنا) ودار نقاش في معالجة هذا الوضع اليائس، وانتهى عندما أخرج الأمير قطعة من الورق، ووضع عليها خاتمه، لقد كان المطر الغزير يعيقه عن الكتابة، فترك للفارسين المكلفين بنقل الرسالة إلى القائد الإفرنسي كتابة الشروط. استقبل الجنرال (لامورسيير) في ليل 21 كانون الأول - ديسمبر - فارسين أبلغاه رغبة الأمير في الاستسلام. فوافق على الفور غير أنه لم يكن قادرا بدوره على الكتابة للسبب ذاته، فالأمطار الغزيرة أعاقته عن الإجابة خطيا فأعطى سيفه، وخاتم الضابط (بازين) (¬1) إلى المبعوثين ¬

_ (¬1) بازين: (ACHILLE BAZAINE) مارشال فرنسي - من مواليد فرساي (1811 - 888 1م) خدم في الجزائر، واشتهر في حرب (القرم). وأصبح قائدا أعلى للقوات الإفرنسية في =

لتقديمها إلى عبد القادر علامة على قبول شروطه. أفاد الأمير من توقف المطر قليلا، فكتب رسالة إلى (لامورسيير) ضمنها شروطه، وعاد فأرسلها مع مبعوثيه. وأثناء ذلك كان (لامورسيير) قد نقل الخبر إلى (الدوق دومال) الذي أصبح حاكما عاما للجزائر. وكتب لامورسيير إلى الدوق ما يلى: (كنت مضطرا أن ألتزم بتعهدات، إنني فعلت ذلك وأنا على يقين أن سموك والحكومة ستوافقون على تعهداتي، إذا قبل الأمير كلمتي. إنني الآن ممتط جوادي في طريقي إلى الدائرة، وليس لدي الوقت لإرسل لكم نسخة عن الرسالة التي وصلتني من الأمير أو نسخة من جوابي عليها. ويكفيني أن أذكر بأنني وعدت ووافقت على أن يؤخذ الأمير وعائلته إلى عكا أو الإسكندرية، ولم أذكر سوى هذين المكانين، وهما اللذان ذكرهما في مطلبه واللذان قبلتهما). غادر الأمير قرية (تريرات) صباح يوم 23 كانون الأول - ديسمبر - تتبعه مجموعة من قادته وأتباعه الذين ارتضوا لأنفسهم مشاركته رحلة العمر الشاقة، حتى إذا ما وصل إلى زاوية المرابط (سيدي إبراهيم) استقبله العقيد (مونتوبان) على رأس قوة من (500) فارس، وأدى له المراسم كرئيس دولة. وبعد استعراض حرس الشرف، طلب الأمير السماح له بأداء الصلاة في الزاوية واستجاب القائد الإفرنسي لطلبه، فترجل عن فرسه - وبوسوله إلى الزاوية نزع

_ = المكسيك. وكلف سنة 1870 بقيادة جيش اللورين ضد بروسيا، غير أنه أضاع المبادأه مما سمح للقوات البروسية بتطويقه في ميتز. وحكم عليه بالموت سنة 1873 لتقاعسه، غير أنه استطاع الهرب إلى إسبانيا وقضى بقية حياته في (مدريد).

سيفه، وسلمه إلى أحد المرافقين له. وبعد ساعة قضاها الأمير في الصلاة، خرج فتابع رحلته. ووصل في السادسة مساء إلى (جامع الغزوات) حيث اتخذه الدوق دومال مقرا له. وعندما تمت المقابلة بحضور القادة الإفرنسيين، قال الأمير للدوق (أن الجنرال - لامورسيير) قد أعطاني وعدا، وإني أثق به كل الثقة، ولست أخشى أن يخلفه ابن ملك عظيم مثل ملك الإفرنسيين) أقام (الدوق دومال) عرضا للقوات الإفرنسية في الجزائر، في اليوم التالي، ووقف الأمير إلى جانب الدوق، وعند انتهاء العرض، قدم الأمير للدوق جواده، وقال له: (إنني أقدم إليك هذا الجواد الذي هو آخر جواد امتطيته، لقد كان جوادي المفضل، ولكن يحب أن نفترق الآن) وأجابه الدوق: (إنني أقبله باعتباره إكراما لفرنسا، البلد الذي ستمتد حمايته إليك منذ الآن وعلامة على أن الماضي قد نسي). وركب الأمير وعائلته ومرافقيه وأتباعه (ومجموعهم ثمانية وثمانين شخصا) السفينة (إسمودس) يوم 20 كانون الأول - ديسمبر - 1847 م. واتجهت السفينة إلى طولون. وباعت فرنسا كل ممتلكات الأمير وحقائبه وخيامه وجياده وبغاله وإبله، بمبلغ (6) آلاف فرنك، ولكن حتى هذا المبلغ التافه لم يقدم له إلا على شكل صدقة وبالتقسيط. وعمت فرسا أنباء استسلام الأمير، فاستقبل الإفرنسيون (شعبا وحكومة) ذلك بفرح طاغ وبهجة عارمة، لقد أصبحت الجزائر الآن (مستعمرة فرنسية). وأصبح باستطاعة فرنسا الآن سحب (مائة ألف جندي) لاستخدامهم حيث تتطلب الحاجة.

خرج السيف من غمده، وغادر الأمير أرض الأباء والأجداد، وودع السلاح، مستسلما لقدره بإيمان ثابت، وعزيمة صلبة ليجابه الصعاب على امتداد سنوات العمر. ـ[الحمد لله وحده .....]ـ رسالة بخط الأمير إلى العالم دي سيفري في 1852

وداعا يا جزائر الأحرار (1848 - 1852)

10 - وداعا يا جزائر الأحرار (1848 - 1852) الأمير في سجون فرنسا وداعا يا جزائر الأحرار! وداعا يا جزائر المسلمين المجاهدين الصابرين! ومضى الأمير، وما كاد يصل (طولون) حتى وجد نفسه وعائلته وحاشيته في القيود، لقد فرضت فرنسا عليهم الإقامة في قلعة (لامالق). واحتج الأمير، فعرضت عليه فرنسا اختيار البقاء في فرنسا ومنحه قصرا لإقامته وحاشيته، غير أن الأمير رفض كل العروض والإغراءات. لقد كان يفضل البقاء في ديار الإسلام عن كل كنوز أعدائه وثرواتهم. ولم تمض عليه فترة طويلة في سجنه حتى بلغته أخبار انهيار (ملكية لويس فيليب) في 28 شباط - فبراير - 1848 م. وعرف أن الضمانات التي قدمت له قد زالت بزوال الحكم الذي تعهده له بها، على الرغم من غدر هذا الحكم بما تعهد به. فكتب (الأمير من سجنه) إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية. منددا بما لحق به من غدر. فكان كل ما فعلته حكومة الجمهورية أن نقلته إلى قصر (هنري الرابع) في مدينة (بو) (¬1) والتي وصلها الأمير يوم 20 نيسان - أبريل - 1848م. وكان ¬

_ (¬1) بو: (PAU) عاصمة إقليم بيارن (bearn) في البيرينه السفلى (BASSE PYRENEES) تقع على نهر الكاف، وهي إلى الجنوب الغربي من باريس وعلى بعد (760) كيلومترا منها.

يتردد على الأمير في هذه المرحلة بعض القادة الإفرنسيين والأساقفة، وقد أذهل الأمير جميع زواره بثباته، رغم ما نزل به من البلاء بفقد أعز الناس لديه (ابنه وابنته وابن أخيه) الذين قضوا حياتهم بين يديه، وكان الأمير يمضي وقته بالعبادة صابرا محتسبا متجلدا. صلبا كجبال الأوراس، غير أن هذه القوة كانت تنهار لدى تذكر أولئك - أخوان الجهاد الذين سقطوا فوق ثرى الجزائر الطهور، وهم يرفعون راية الجهاد في سبيل الله، فتترقرق عيون الأمير بالدمع لتذكرهم. وحاول الإفرنسيون فصل الأمير عن حاشيته واتباعه، غير أن هؤلاء هددوا بالموت إن هم أبعدوهم عن أميرهم. أصبح (لامورسيير) وزيرا للحربية الإفرنسية في (حزيران - يونيو - 1848) وكتب له الأمير مذكرا بوعده الشخصي، علاوة على ما يجب أن يلتزم به من الشرف باعتباره ممثلا لفرنسا. وفي حالة من حالات اليأس، فكر أتباع الأمير بعملية انتحارية للموات من أجل إثارة قضية الأمير، وذلك بالتصدي للحرس المسلح، وخوض الصراع معه، وعلم وزير الحربية بذلك، فقرر نقل الأمير وحاشيته إلى (قصر امبواز) (¬1) وتم ذلك يوم 22 تشرين الثانى - نوفمبر - 1848 م. وصعد (لويس نابوليون) إلى عرش فرنسا، وبعد 24 يوم من انتخابه، تم عقد مؤتمر لمناقشة قضية الأمير عبد القادر (يوم 14 كانون الثاني - يناير - 1849) ووقف نابوليون الثالث إلى جانب طلب الأمير في الإفراج عنه، والسماح له بالتوجه إلى البلد الذي يريد، غير أن (الجنرالات) عارضوا ذلك. وأرسل (بيجو) ¬

_ (¬1) أمبواز: (AMBOISE) مدينة في دائرة (تور) مقاطعة (إيندر واللوار) تقع على نهر اللوار بها ولد ومات شارل الثامن. وقد استخدم قصره لإقامة الأمير عبد القادر (1848 - 1952).

رسالة إلى الأمير يقترح فيها على الأمير البقاء في فرنسا واعتبارها وطنا له. غير أن الأمير عاد فرفض هذا العرض مفضلا السجن على (الاستمتاع بمباهح فرنسا وطبيعتها الجميلة - وفقا لما اقترحه بيجو)، وظهر أن إقامة الأمير في سجن (أمبواز) ستكون طويلة، وأسلم الأمير أمره لربه، ومضى في عبادته وفق نظام دقيق اختطه لنفسه، وأثناء هذه الفترة أنجز مؤلفيه (وحدانية الله) و (ذكرى العاقل وتنبيه الغافل). ومضت الأيام متثاقلة. حتى إذا ما أقبل يوم 16 تشرين الأول - أكتوبر - 1802م وصلت إلى الأمير رسالة من نابوليون شعر منها الأمير بقرب الإفراج عنه. وتوجه الأمير إلى (باريس) في 28 تشرين الثاني - أكتوبر حيث أجريت له اسقبالات شعبية ورسمية. وقام بزيارة عدد من الأماكن التاريخية والأثرية (الأوبرا، وكنيسة سانت كلود) وهناك قدمت إلى الأمير ورقة مكتوبة - يلتزم فيها الأمير بوعد خطي ألا يعود لحمل السلاح. وجاء فيها (الحمد لله وحده، أدام الله حفظه ورعيته على مولانا لويس نابليون، وهداه وأرشده في أحكامه وحكمه. إن الذي يقدم إليك نفسه هو عبد القادر بن محيي الدين، لقد جئت لسموك لأشكرك على أفضالك ولأمتع نفسي بالنظر في طلعتك. إنك في الحقيقة أعز علي من أي صديق آخر، لأنك غمرتني بفضل يتجاوز قوة الشكر لك عندي. ولكنه جدير بنبل شخصك وعظمة مكانتك. فرفع الله قدرك. إنك لست من أولئك الذين يقيمون اعتراضات بلا طائل، أو يخيبهم الرياء والنفاق. لقد وضعت ثقتك في، ولم تصغ إلى الذين لا يثقون بي. لقد منحتني الحرية، وأنجزت تعهدات كان الآخرون قد التزموا بها دون أن ينجزوها. بل إنك فعلت ذلك دون أن تأخذ مني أي وعد. إنني إذن جئت لأقسم لك بالله العظيم، وبكل الأنبياء والرسل، أن لا أفعل شيئا يتنافى مع الثقة التي وضعتها في،

وعلي أن ألتزم بهذا القسم التزاما دينيا بأن لا أعود أبدا إلى الجزائر. فعندما أمرني الله بالنهوض، نهضت، وقد استعملت البارود إلى أقصى حد مكنتني منه وسائلي وطاقتي. ولكن عندما أمرني بالتوقف توقفت، وعند ذلك فقط تخليت عن السلطة واستسلمت. إن ديني وشرفي يأمرانني بالاحتفاظ بقسمي، ويستنكران الحنث. إنني شريف، وليس هناك من سيتهمني بالخيانة. وكيف يمكن أن يقع ذلك مني بعد أن نلت أفضالا عظيمة على يديك. إن الإحسان سلسلة ذهبية تطوق عنق الإنسان النبيل. إنني أغامر بأن آمل أن ستتفضل بالتفكير في حتى عندما أكون بعيدا عنك، وإنك ستضعني في قائمة أصدقائك المقربين، لأنني وإن كنت قد لا أساويهم خدمة لك، فإنني على الأقل أساويهم في حبهم لك، ضاعف الله من حب أولئك الذين يحبونك، وصعق قلوب أعدائك). ورد لويس نابليون على ذلك بقوله: (يا عبد القادر، إنني لم أفقد فيك ثقتي أبدا، وليس لي حاجة إلى هذه الورقة المكتوبة التي تفضلت بتقديمها إلي بكل نبل، إنني لم أطلب منك أبدا، كما تعلم، وعدا أو قسما. ومع ذلك فقد اخترت أن تكب، وأن تقدم بين يدي هذه الوثيقة. إنني أقبلها. إن هذا الإقرار العاطفي منك وشعورك نحوي قد برهن لي على أنني كنت على حق عندما وضعت فيك ثقتي غير المحدودة). أمضى الأمير عبد القادر بعد ذلك أياما في زيارة معالم باريس (فرساي، كنيسة المادلين، الانفاليد) كما زار المستشفيات، وزاره الوزراء ورجال الدين المسيحي، وكبار القادة، والضباط الذين كانوا

أسرى لديه ثم أطلق سراحهم، (بصورة خاصة أولئك الذين تم إطلاق سراحهم في 21 أيار - مايو - سنة 1841 في (سيدي خليفة) وهو التبادل الشهير الذي تم بناء على وساطة أسقف الجزائر (دوبوش) وعندما جرى انتخاب لويس نابليون امبراطورا لفرنسا يوم 21 تشرين الثاني - نوفمبر - 1852 طلب الأمير إعطاءه حق الانتخاب، فأدلى بصوته، واشترك في احتفالات التنصيب (في التويلري) ثم جاء يوم 21 كانون الأول - ديسمبر - 1852، وفيه صعد الأمير وحاشيته السفينة (لابرادور) التي أقلتهم إلى (صقليا) ومنها إلى اسطنبول، حيث وصلها يوم 7 كانون الثاني - يناير - 1853. وأقيمت احتفالات لاستقبال الأمير، وزاره وزراء الدولة ثم انتقل بعد ذلك إلى جزيرة (بروسة) فأقام فيها ثلاث سنوات، وحينما تعرضت للزلزال الشهير (سنة 1855) أظهر الأمير رغبته في الانتقال إلى دمشق، حيث وصلها في نهاية تشرين الثاني - نوفمبر - 1856. فتحت (دمشق) عاصمة المسلمين وقاعدة مجد الأمويين ذراعيها للأمير، واحتضنته كسيف من أشهر سيوف الإسلام. وكانت قد استقبلت أفواج المجاهدين المسلمين الدين رفضوا البقاء تحت حكم (الكفار) فوجدوا في دمشق غايتهم، وأقاموا في حي مستقل بهم عرف بحي المغاربة. وجمعت دمشق شمل السيوف، وضمت الأهل إلى الأهل. مضى الأمير لممارسة حياته العادية، واختار من مسجد بني أمية قاعدة له، فكان يمضي فيه معظم وقته في تدارس العلم مع العلماء وطلبة العلم، وأحب الأمير دمشق بقدر ما احبته وفتح لها قلبه بقدر ما فتحت له قلبها.

أثناء ذلك كانت بلاد الشام تتمخض عن أحداث مثيرة (فقد كان الإنكليز يبسطون حمايتهم على الدروز بعد أن شملت فرنسا النصارى بحمايتها بينما أخذت روسيا على عاتقها حماية الكنيسة الأرثوذكسية) وأخذت هذه الدول في تسليح الطوائف التابعة لها وتحريضها على التمرد والثورة. الأمر الذي انتهى بما هو معروف شعبيا باسم (طوشة النصارى) التي انفجرت في أيار - مايو - 1860. وإذ ذاك، دفع الأمير فرسانه المسلحين لحماية النصارى من الدروز، وأمكنه خلال أيام الفتنة العشرة حماية الآلاف منهم (بما في ذلك قناصل الدول الأجنبية). لقد أمنت فرنسا للأمير دخلا يكفيه له ولعائلته وأتباعه (أربعة آلاف جنيه استرليني سنويا). واستخدم الأمير فائض هذا المبلغ على المعوزين وفي سبيل العلم، حيث حرص على جمع أكبر قدر من المخطوطات القديمة التي حرصت دمشق دائما على اقتنائها وحفظها. وها هو الآن يحظى بتكريم كل الدول المسيحية التي اعترفت بجميله فأرسلت إليه أرفع الأوسمة لقاء ما قدمه من خدمات في حماية المسيحيين الذين كان يحاربهم بالأمس كمستعمرين وهو ينقذهم اليوم (كذميين) في حماية الإسلام (وبلغ عدد من أنقذهم الأمير - 15 - ألفا). غادر الأمير عبد القادر دمشق - بعد الحصول على تصريح من نابليون الثالث - في سنة 1863 للقيام بالحج. واستقبله شريف مكة بما هو أهل له من التكريم وأقام حجتين مجاورا، ثم غادر الديار المقدسة عائدا إلى بلاد الشام. وتوقف بالإسكندرية في حزيران - يونيو - 1864 م.

كانت الماسونية في تلك الفترة في أوج نشاطها، غير أنها لم تكن معروفة الأهداف، وكانت تسعى لضم كبار القوم حتى تكتسب زخما معنويا. وفي مساء يوم 18 حزيران - يونيو - أقامت الجمعية الماسونية في الإسكندرية حفلا كبيرا للترحيب بالعضو الجديد الشهير. ودعى المحفل الماسوني (المعروف بمحفل الأهرام) كبار أعضائه للاحتفال بهذه المناسبة، وأضيفت صفة , (مجاور النبي) إلى جوار عبارة (ماسوني حر ومقبول). وعاد إلى دمشق فوصلها في نهاية شهر تموز - يوليو - 1864 بعد أن أنهى تسجيل أرض منحه إياها والي مصر. وصل الأمير عبد القادر إلى مبتغاه، جمع خير الدنيا والآخرة، فمضى يتابع رحلة العمر وقد أثقلت السنون كاهله، فتفرغ للعبادة والعلم، وأشرف على أهله وعشيرته، وقضى بقية حياته في مثافنة العلماء، وإسداء الخيرات، وكان كل يوم يقوم الفجر، ويصل الصبح في مسجد قريب من داره في حي (العمارة) لا يتخلف عن ذلك إلا لمرض، وكان يتهجد الليل. ويمارس في رمصان الرياضة على طريقة الصوفية. وما زال مثالا للبر والتقوى حتى توفي رحمه الله في سنة 1883، فدفن بمقام الشيخ محيي الدين بن العربي. وترك من الأمراء محمد باشا، ومحيي الدين باشا والهاشمي وإبراهيم وأحمد وعبد الله وعلي وعبد الرزاق وعبد المالك، فالأمير محمد ومحيي الدين انتقلا إلى الأستانة وجعلتهما الدولة في مجلس الأعيان إلى أن توفيا، وكان الثاني منهما (محيي الدين) شاعرا أديبا، عالي الهمة، وذهب سنة 1870 بدون علم أبيه إلى الجزائر للاشتراك في ثورة المقراني والحداد (ثورة القبائل) فلما بلغ الخبر أباه أعلن سخطه عليه لأن الأمير بعدما أعطى عهده لفرنسا حافظ على قوله إلى الممات. وأما الهاشمي فمن ولده الأمير خالد الذي تزعم الحركة الوطنية في الجزائر سنة 1820. وكذلك

الأمر بالنسبة لبقية الإخوة والأبناء الذين تابعوا طريق الجهاد على سيرة الأمير وخطاه. وأفاقت الجزائر على ثورة الفاتح من نوفمبر (1954) وخاضت الصراع المرير حتى تم لها الاسقلال ووقفت تبحث عن كل تراث الأجداد الذين بذلوا وضحوا في سبيل الله وفي سبيل الوطن الجزائري. ولم تنس رائدها الأول، ومؤسس دولتها. فطلبت إلى دمشق إعادة (السيف إلى غمده). وحملت رفاة الأمير لتستقر إلى جوار المجاهدين الأبرار الذين مزقتهم سيوف الأعداء - فوحدتهم سيوف المجاهدين الأحفاد وأعادتهم إلى ميادين جهادهم.

قراءات

قراءات 1 - معاهدة عبد القادر - دو ميشال (1834 م). 2 - معاهدة عبد القادر - بيجو (1837 م). 3 - من رسالة الأمير عبد القادر إلى ملك فرنسا لويس فيليب (1839). 4 - من رسالتين إلى المارشال (1840). 5 - لوحة حضارية نقلتها فرنسا إلى الجزائر (الأرتال الجهنمية).

جندي من المشاة النظاميين التابعين لعبد القادر

معاهدة الأمير عبد القادر - دو ميشال (26 شباط فبراير - 1834 م)

(1) معاهدة الأمير عبد القادر - دو ميشال (26 شباط فبراير - 1834 م) إن الجنرال دوميشال قائد القوات الإفرنسية في إقليم وهران، وأمير المؤمنين سيدي الحاج عبد القادر بن محيي الدين قررا العمل بالشروط التالية: المادة الأولى: يتوقف النزاع بين الإفرنسيين والعرب ابتداء من اليوم، ويبذل القائد العام للقوات الإفرنسية وأمير المؤمنين جهدهما، كل من جهته، لإحلال الود والإخلاص بين شعبين حكم الله عليهما أن يعيشا تحت نفس السلطة. ولهذا الغرض، سيرسل أمير المؤمنين ثلاثة قناصل من جهته، أحدهم إلى وهران، وثانيهم إلى أرزيو، وثالثهم إلى مستغانم. وسيرسل الجنرال من جهته أيضا قناصل إلى معسكر لمنع النزاع بين الإفرنسيين والعرب. المادة الثانية: ستكون عادات المسلمين وديانتهم دائما موضع الاحترام والحماية. المادة الثالثة: يتم إطلاق سراح المساجين الإفرنسيين فورا، وكذلك المساجين العرب. المادة الرابعة: ستكون السوق حرة ولن يعترض أي من الطرفين فيها طريق الآخر.

المادة الخامسة: يجب على العرب إعادة كل العسكريين الذين يفرون من عند الإفرنسيين وتسليمهم إلى السلطات الإفرنسية. ومقابل ذلك يقوم الإفرنسيون بتسليم العرب الذين يلجؤون إليهم فرارا من العقوبة عن مخالفة ارتكبوها، ويتم تسليم هؤلاء فورا - في عين المكان - إلى قنصل الأمير في وهران أو في أرزيو أو في مستغانم. المادة السادسة: يحمل كل أوروبي يريد التنقل داخل البلاد جواز سفر عليه ختم قنصل الأمير وختم القائد العام للإقليم، حتى يكون حامل هذا الجواز محل احترام وحماية أينما حل في البلاد (¬1). (كتبت هذه الشروط في أعمدة متوازية بالعربية والإفرنسية ووقعها وختمها أمير المؤمنين عبد القادر والقائد الإفرنسي دوميشال - في 26 شباط - فبراير - 1834 م). ¬

_ (¬1) المرجع: حياة الأمير عبد القادر (شارل هنري تشرشل) ص 78 - 79 و300 - 301 وكذلك تاريخ الجزائر - مجاهد مسعود ص 179.

معاهدة الأمير عبد القادر - بيجو (معاهدة تافنة) 23 صفر 123 هـ = 20 أيار - مايو 1837م

(2) معاهدة الأمير عبد القادر - بيجو (معاهدة تافنة) 23 صفر 123 هـ = 20 أيار - مايو 1837م إن اليوتنان جنرال بيجو قائد الجيوش الإفرنسية في إقليم وهران، والأمير عبد القادر، قد اتفقا فيما بينهما على الشروط التالية: المادة الأولى: يعترف الأمير عبد القادر بالسلطة الإفرسية في أفريقية (في الجزائر). المادة الثانية: تحتفظ فرنسا لنفسها في وطن بلاد وهران ومستغانم ومازغران ونواحيها (المحيطة) بوهران وأرزيو، ومنطقة أخرى محددة كما يلي: من الشرق بنهر المقطع والسباخ التي يجري فيها ومن الجنوب بخط يبدأ من السباخ المذكورة مارا بالضفة الجنوبية للبحيرة وممتدا إلى وادي المالح في اتجاه سيدي سعيد، ومن هذا النهر إلى البحر سيكون تابعا للإفرنسيين. أما في إقليم الجزائر فتعتبر منطقة إفرنسية: مدينة الجزائر والساحل وسهل متيجه (متوجة) محدودا من الشرق بوادي القدرة (أو الخضرة) إلى قدام وقبله لحد رأس أول جبل حتى وادي شفة، وداخل في ذلك البليدة وسائر نواحيها، وغربا من شفة إلى المد المقابل لوادي مزغران (مازغنان) ومن هناك خط مساوي لحد البحر، ومتضمن في هذا الحد القليعة وكامل نواحيها.

المادة الثالثة: يحكم الأمير إقليم وهران وإقليم تيطري (المدية) والجزء الذي لم يقع النص عليه من الشرق في الحدود المذكورة في المادة الثانية من إقليم مدينة الجزائر. وليس له حق الدخول في أي جزء آخر من الولاية. المادة الرابعة: ليس للأمير أي سلطة على المسلمين الذين يرغبون في الإقامة في المنطقة التابعة لفرنسا. ولكن لهؤلاء حرية الانتقال منها والإقامة في المنطقة التابعة للأمير. وفي نفس الوقت يمكن للسكان المقيمين في المناطق التابعة للأمير أن ينتقلوا منها ويقيموا في المناطق الإفرنسية. المادة الخامسة: يتمتع العرب المقيمون في المنطقة الإفرنسية بحرياتهم الدينية، ويمكنهم إقامة المساجد، وممارسة شعائرهم الدينية في كل خصوصياتها، تحت سلطة قضائهم ورجال دينهم. المادة السادسة: يقدم الأمير للجيش الإفرنسي (30) ألف مكيال من القمح و (30) ألف مكيال من الشعير و (5) آلاف رأس من البقر. ويتم تسليم هذه المواد في وهران على ثلاث مرات أولها في 15 أيلول - سبتمبر - 1837م. أما الباقي فبعد كل شهرين متتاليين. المادة السابعة: يستطيع الأمير أن يشتري من فرنسا البارود والكبريت والأسلحة التي يحتاجها. المادة الثامنة: للكراغلة الذين يرغبون البقاء في تلمسان أو في غيرها، حرية التمتع بأملاكهم هناك. وسيعاملون كمواطين. أما أولئك الذين يرغبون في الانتقال إلى المنطقة الإفرنسية، فلهم أن يبيعوا أو يؤجروا أملاكهم بحرية.

المادة التاسعة: تتخلى فرنسا للأمير عن (راشقون - أورشقرن) و (تلمسان وقلعتها) وكل المدافع التي كانت فيها قديما. ويتعهد الأمير بنقل كل الأمتعة إلى وهران. بالإضافة إلى العتاد الحربي التابع للحامية الإفرنسية في تلمسان. المادة العاشرة: تبقى المبادلات التجارية بين العرب والإفرنسيين حرة، ويمكن لكل طرف أن يقيم مبادلة في منطقة الآخر. المادة الحادية عشرة: سيكون الإفرنسيون محل احترام بين العرب، وكذلك العرب بين الإفرنسيين. وتكون الأسلحة والأملاك التي اقتناها الإفرنسيون، أو التي يمكن لهم أن يقتنوها في المنطقة العربية مضمونة لهم. ويستطيعون التصرف بما يقتنونه - يمتلكونه - بحرية، ويتعهد الأمير بتعويضهم عن أي خسارة قد سببها العرب لهم. المادة الثانية عشرة: يتعهد الأمير بعدم تسليم أي جزء من الساحل إلى أية دولة أجنبية مهما كانت بدون إذن فرنسا. المادة الثالثة عشرة: يعاد الجحرمون في كلتا المنطقتين مبادلة. المادة الرابعة عشرة: لا تجوز المعاملات التجارية للولاية إلا في الموانىء الإفرنسية. المادة الخاسة عشرة: تبقى فرنسا على ممثلين لها لدى الأمير، وفي المدن الخاضعة لسلطته حتى يعملوا كوسطاء لصالح الرعايا الإفرنسيين. وللنظر في كل الخصومات التجارية التي قد تنجم بينهم وبين العرب. ويتمتع الأمير بنفس الامتياز في المدن والموانىء الإفرنسية. كتب (برشقون) في 26 سفر عام 1253 هـ. التافنة - في 31 أيار - مايو - 1837 م.

ختم الأمير عبد القادر تحت النص العربي. ختم الجنرال بيجو تحت النص الإفرنسي (¬1). وأقيم نصب تذكاري، في موضع تبادل وثائق معاهدة تافنا (تافنة) كتب فيه ما يلي: (في السادس والعشرين من شهر صفر سنة 1203 الموافق لفاتح يوليو سنة 1837 م وعلى الساعة الثالثة مساء غداة التوقيع على معاهدة تافنة التي اعترفت فرنسا بمقتضاها بالدولة الجزائرية الحرة السيدة تقبل الأمير عبد القادر بهذا المكان ووسط جيوشا آيات التكريم والإجلال من الجنرال بيجو قائد الجيوش الفرنسية النازلة بمنطقة وهران). ¬

_ (¬1) المرجع: حياة الأمير عبد القادر (شارل هنري تشرشل) ص 117 - 119 و 302 - 304 كذلك تاريخ الجزائر - مجاهد مسعود ص 270 - 271 والأمير عبد القادر. سلسة الفن والثقافة - وزراء الإعلام والثقافة - الجزائر - 1974 ص 34 - 39.

من رسالة الأمير عبد القادر إلى ملك فرنسا (لويس فيليب)

(3) من رسالة الأمير عبد القادر إلى ملك فرنسا (لويس فيليب) وجه الأمير عبد القادر في سنة 1839 مجموعة من الرسائل إلى القادة الإفرنسيين يحضهم على الالتزام بنصوص معاهدة (تافنة). وعندما شعر بنواياهم السيئة، كتب إلى ملك فرنسا رسالة جاء فيها: (الحمد لله وحده. من عبد الله الحاج عبد القادر بن محيي الدين أمير المؤمنين - إلى سعادة لويس فيليب - ملك الإفرنسيين، أطال الله حكمه، وجعله سعيدا ومجيدا. أما بعد. فإنه منذ ظهور الإسلام كان المسلمون والمسيحيون في حرب. وقد كان هذا يعتبر واجبا مقدسا لدى الطرفيين. ولكن المسيحيين، بعد أن نسوا دينهم ومبادئه، أصبحوا ينظرون إلى الحرب مجرد وسيلة للتوسع الدنيوي أما بالنسبة إلى المسلمين الحقيقيين فهم على النقيض من ذلك، ينظرون إلى الحرب ضد المسيحيين على أنها مجرد التزام ديني. وهل هناك أهم من هذا الالتزام حينما جاء المسيحيون للاعتداء على أرض إسلامية! وبناء على هذا المبدأ فقد حدت عن القواعد التي نص عليها كتابنا المقدس، عندما وقعت معكم أنتم ملك المسيحيين،

منذ سنتين، معاهدة سلام، وبالأخص عندما بذلت كل جهودي لتدعيم هذا السلام بكل الوسائل التي كانت لدي. إنكم تعلمون الواجبات التي يفرضها القرآن الكريم على كل حاكم مسلم. إذن، الواجب عليكم شكري على ما قمت به شخصيا لتخفيف صرامة أحكامه نحوكم. إنك تطلب مني تضحية تتنافى وديني، وهي الخضوع. وأراك أعدل من أن تكلفني مثل هذا. إنك تطلب مني أن أتخلى عن قبائل - هم إخواني في الدين - تلقيت منهم الوفاء والطاعة، وجاءوا بأنفسهم راضين يدفعون إلي ما فرضه القرآن من جزية، وتضرعوا إلي وما زالوا بأن أكون عليهم أميرا. وقد جلت بنفسي عبر مناطقهم - والتي هي خارجة عن الحدود التي خصصتها المعاهدة لفرنسا - وتريدون مني اليوم أن أطلب من هذه القبائل أن تخضع لهيمنة المسيحيين. أبدا. وإذا كان الإفرنسيون أصدقائي، فليس لهم أن يطلبوا مني شيئا يحط من قيمتي لدى شعبي) ...

رسالتين من أمير المؤمنين عبد القادر إلى الماريشال بيجو

(4) رسالتين من أمير المؤمنين عبد القادر إلى الماريشال بيجو أصيبت القوات الإفرنسية بمجموعة من الهزائم التي باتت تتهدد عملية (الغزو) بكاملها بالفشل، فعملت الحكومة الإفرنسية على إجراء تغيير شامل في أجهزتها القيادية العسكرية، وعينت الماريشال بيجو قائدا عاما في بداية سنة 1840 م. ودعمت قواتها بالجزائر، ووصل بيجو (الأسد العجوز) كما لقبوه، وشرع على الفور بإعادة دراسة الخطط العسكرية والاستعداد لتطوير عملية الغزو الاستعماري بهدف إخضاع (الأمير عبد القادر) الذي كان يتابع عن طريق جواسيسه ما يحدث في العاصمة - الجزائر - فكتب إلى الماريشال (بيجو) رسالتين، جاء فيهما: 1 - (السلام على من اتبع الهدى واجتنب الردى. أما بعد: لقد بلغي أنكم جئتم من فرنسا إلى الجزائر لقتالنا بما يزيد على ثمانين ألف جندي، زيادة على جنودكم السابقة فيها، فاعلموا أني بعون الله تعالى وقوته لا أخشى كثرتكم، ولا أهتم بقوتكم، لعلمي أنكم لا تضروني بشيء إلا أن يشاء الله. ولا يلحقني منكم إلا ما قدره الله علي، وإنني منذ أقامني الله في هذا الأمر وجعلني خصما لكم، ما

قاتلتكم بجنود يزيد عددهم على ثلث عدد جنودكم التي تحاربوني بها، ومدة ملكي لا يخفى ثماني سنين، ومدة ملككم يتعدى مئات من السنين، وآلاتكم الحربية قوية، ومع هذا البون الشاسع الذي بيني وبينكم، فإني أعرض عليكم أمرين فاختاروا واحدا منهما: إما أن تعطوني ما أحتاج إليه من أدوات الحرب بالشراء. ثم أنظم جنودي، وإما أن تبقوا في مواضعكم التي تغلبتم عليها، وأبقى أنا في بلادي التي تحت حكمي ثم لا يقرب أحدنا من الآخر مدة اثني عشر سنة، فيبلغ عمر ملكي عشرين سنة. وحينئذ أقاتلكم، فإن غلبتم فلا عار عليكم، إذ يقال غلبكم رجل له قوة عشرين سنة، وإن انتصرتم تكونوا قد انتصرتم على رجل له قوة فيحصل لكم الفخر، وأما اليوم، فانتصاري عليكم يعد فضيحة لكم عند الدول، وانتصاركم علي لا يعد فخرا حيث أنكم غلبتم رجلا عمر ملكه ثماني سنين، ولا قوة عنده يقابلكم بها). وجمع بيجو هيئة أركانه، وعرض عليهم الرسالة، فتقرر بعد مناقشة حادة عدم الرد عليها وتجاهلها، فأعقبها برسالة ثانية: 2 - (من الأمير عبد القادر إلى الماريشال بيجو: إن كانت دولة فرنسا ليس عندها من الأرض ما يكفي رعاياها، وأرسلتكم لتغتصبوا أراضينا، وتبذلوا في ذلكم أنفسكم وأموالكم، فنحن نتخلى لها عما هو في أيديهما الآن من السواحل، ونبقى معها في حال جيران ينتفع بعضهم ببعض، وإن أبت إلا أن تستولي على جميع وطننا، فنحن سنبذل ما في وسعنا في مدافعتها وحماية أرضنا منها إلى أن يقضي الله بيننا وبينها بما شاء، فإن البلاد بلاده، والعبيد عبيده، ولا يخفى عليكم أيها الحاكم أن غزوكم لبلادنا سبب قتل الكثير من جنودكم وإتلاف ذخائركم، وكذلك نحن، وهذا شيء لا يرضى به

عاقل فضلا عن فاضل. ودولتكم تدعي أنها أول دولة في العالم تحب الإنصاف وتفضله وتحافظ على ميزان العدل وتحكم به، ففعلها هذا يكذب دعواها ويبطل ادعاءها. وأنتم ومعظم رجالها نراكم دائما تساعدونها على الاعتداء والاغتصاب، وتبذلون أنفسكم في ذلك ابتغاء مرضاتها، ولو كان عندكم أدنى نظر سديد، ما وافقتموها على موت جنودها في الحرب، ومواسم الأمراض المختلفة التي لا تبقي ولا تذر. فيا ترى بأي شيء تعوضون ما تخسره بلادكم من الرجال والأموال والكراع. فإن كان يرضيها منكم أن تحملوا لها ما تقدرون على حمله من حجارة مدينة معسكر، أو من تراب الأراضي التي اغتصبتموها فافعلوا. وإني أراك أيها الحاكم تبذل جهدك في تعطيل مواسمنا لتقل الحبوب عندنا، ظنا منكم أن ذلك أقوى سبب لخضوع أهل البلاد لكم، والحال أن هذا ليس بشيء عندهم، فإن هممهم ليست متعلقة بلذائذ الأطعمة والأشربة مثلكم، بل يكفيهم ما يمسكون به رمقهم ويقيم أودهم كيفما كان على أن عندهم من صنوف الحبوب المحفوظة في المطامير المعدة لها ما يكفيهم سبع سنين آتية وما تأخذونه أنتم من ذلك فهو جزء من جملة الأجزاء، ولا أراكم في هذا الأمر إلا كمن ملأ قدمه من البحر معتقدا أنه ينقصه. وبالجملة، فنحن لا نترك قتالكم ما دمتم في طغيانكم تعمهون، وفي سبيل اعتدائكم تمشون، والحروب قد تربينا عليها وتغذينا بلبانها، فنحن أهلها من المهد إلى اللحد، وحروبنا كما علمتم لا نرجع فيها إلى قانون يحصرها. بل نحن فيها مخيرون مطلقون، نصرفها كيفما شئنا. وأما أنتم، فقد بذلتم أموالكم، وأفنيتم قوى شبابكم في تعلم طرقها، ولا أخالكم تجهلون أنه جاء في كتب التواريخ القديمة أن العرب يبتهجون في معامل القتال، فلا يخطر في بالكم أنهم يضجرون

منها، أو يتركونها من ذات أنفسهم، ما دامت الأقدار الإلهية مساعدة لهم، فإن حكمت عليهم بغير ذلك، فمن المعلوم أن الأرض لله من بعدهم يورثها من يشاء من عباده. فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه والسلام على من اتبع الهدى واتقى سبيل الردى).

لوحة حضارية نقلتها فرنسا إلى الجزائر (الأرتال الجهنمية)

(5) لوحة حضارية نقلتها فرنسا إلى الجزائر (الأرتال الجهنمية) أعلنت فرنسا منذ وطئت جحافلها أرض الجزائر أنها تقوم بعملها (لتمدين المتوحشين) وتعريفهم (بالحضارة الغربية) فاتبعت في ذلك أساليبها الحضارية التي رافقت (ليل الاستعماري للجزائر) بطوله. وقد يكون من المناسب التوقف قليلا عند الملامح الحضارية الأولى، والتي تطورت باستمرار مع التطور الحضاري لفرنسا. جاء في أحد التقارير الرسمية - الإفرنسية -. (بناء على تعليمات القيادة الإفرنسية، خرجت قوة من الجنود - في مدينة الجزائر - وانقضت قبل الفجر على أفراد القبيلة، وهم نيام تحت خيامهم، فذبحتهم جميعا دون أن يستطيع أحد الدفاع عن نفسه، وقد لقي الجميع حتفهم دونما تمييز بين رجل أو امرأة، وعاد الإفرنسيون من هذه الحملة وهم يحملون رؤوس القتلى على أسنة الرماح) .. وجاء في تقرير فرسي آخر: (بيعت كل الماشية إلى قنصل الدانمارك. وعرضت بقية الغنائم للبيع في سوق باب عزون في عاصمة الجزائر ذاتها، ووزع ثمنها على

ذابحي أصحابها. وفي ليل ذلك اليوم أصدرت الشرطة - البوليس - أمرها إلى أهل المدينة بإضاءة الأنوار في حوانيتهم علامة على الابتهاج). وجاء في تقرير أحد اللجان الرسمية الإفرنسية: (لقد ذبحنا أناسا كانوا يحملون إجازات بالتنقل، كما قضينا على مناطق بأكملها اتضح فيما بعد أن ضحايانا فيها أبرياء. رجال عرفوا بالقداسة بين عشيرتهم، وآخرون لا تنقصهم صفة الاحترام بين ذوي قرابتهم لمجرد أنهم مثلوا أمامنا سائلين الرحمة بزملائهم. وقد وجدنا قضاة ليحكموا عليهم ورجالا متمرنين لشنقهم). وكتب الماريشال سانت أرنو - إلى أهله: (إن بلاد بني منصر بديعة، وهي من أجمل ما رأيت في أفريقيا، فقراها متقاربة وأهلها متحابون. لقد أحرقنا فيها كل شيء ودمرنا كل شيء ... إني أفكر فيكم جميعا، وأكتب إليكم ويحيط بي أفق من النيران والدخان. لقد ذهبت إلى أفراد قبيلة (البراز) فأحرقتهم جميعا، ونشرت حولهم الخراب، وأنا الآن عند (السنجاد) أعيد فيهم الشيء نفسه ولكن على نطاق أوسع). وكتب موتيناك في كتاب له أسماه - رسائل جندي - ما يلي: (لقد كانت مذبحة شنيعة حقا، كانت المساكن والخيام في الميادين والشوارع والأفنية التي انتشرت عليها الجثث في كل مكان. وقد أحصيناهم في جو هادىء بعد الاستيلاء على المدينة، فكان عدد القتلى من النساء والأطفال ألفين وثلاثمائة. أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر، لسبب بسيط، وهو أننا لم نكن نترك جرحاهم على قيد الحياة).

وكتب القائد الإفرنسي - الكونت هيربسيون - ما يلي: (فظائع لا مثيل لها، أوامر بالشنق تصدر عن نفوس كالصخر، يقوم بتنفيذها جلادون قلوبهم كالحجر، بالرمي بالرصاص أحيانا، وباستعمال السيف في أحيان أخرى، في أناس مساكين كل ذنبهم أنهم لا يستطيعون إرشادنا إلى ما نطلب منهم أن يرشدونا إليه. ومع ذلك فإن الميل إلى سفك الدماء، وحب التعذيب بإزهاق الأرواح جملة، وبإبادة القرى والقبائل، وإحراق البيوت والتمثيل بالموتى والإجهاز على لجرحى، والفتك بالأطفال والشيوخ والنساء، والاتجار بأعضائهم المبتورة، وحليهم ومتاعهم الغارق في دمائهم. هذا الميل لم يجد في كل الذي رويت لك طرفا منه - ما يشبعه أو يرضيه، فأخذ الإفرنسيون يتفنون في ابتكار وسائل أخرى لم يعرفها تاريخ البشرية على كثرة ما حفل به هذا التاريخ من الفظائع والآثام، فهدتهم غريزة التدمر والتخريب النامية عندهم إلى طريقة أسموها أنفسهم (بجهنم) وخلاصة هذه الطريقة، أن يسد الجنود الإفرسيون باب الكهف أو المغارة التي يلجأ إليها الجزائريون بنسائهم وأطفالهم ومواشيهم فرارا من الموت والقتل والإحراق، ثم يشعلوا في بابها نارا حامية، فيختنق القطيع البشري داخل المغارة مع قطعان الماشية التي صاحبته إلى جوفها، فإذا انبلح الفجر، ذهب الإفرنسيون لمشاهدة هياكل الثيران والحمير والخرفان ويظهر أنها اندفعت بغريزتها نحو مخرج الكهف بحثا عن الهواء الذي انعدم في الداخل فتكدست بعضها فوق بعض، وتكومت جثث الرجال والنساء والأطفال بين هذه الحيوانات ومن تحتها. وشوهد رجل ميت وهو جاث على ركبتيه وقد أمسكت يداه قرن ثور محترق وبجواره امرأة ميتة تحتضن بين ذراعيها طفلها الميت، مما

يدل على أن هذا الرجل قد اختنق وهو يدافع عن امرأته وطفله اللذين اختنقا أيضا إثر هجوم الثور عليهما) (¬1) ¬

_ (¬1) - تاريخ الجزائر - الأستاذ مجاهد ميعود 1/ 339 - 341.

المراجع الرئيسية للبحث

المراجع الرئيسية للبحث

_ 1 - تاريخ الجزائر - الأستاذ مجاهد مسعود - الجزء الأول - الجزائر. 2 - حياة الأمير عبد القادر - تأليف شارل هنري تشرشل - ترجمة وتقديم - الدكتور أبو القاسم سعد الله - الدار التونسية للنشر - تونس 1974. 3 - الأمير عبد القادر - سلسلة الفن والثقافة. إصدار وزارة الإعلام والثقافة الجزائرية - طبع مدريد - أيار (ماي) 1974. 4 - الثورة الجزائرية - أحمد الخطيب - دار العلم للملايين - بيروت - أيار (مايو 1958. 5 - POLITIQUES COLONIALES AU MAGHREB -(CHARLES -ROBERT AGERON) PRESSE UNIVERSITAIRES DE FRANCE - PARIS 1972. 6 - L'AFRIQUE DU NORD (JEAN DESPOIS) PRESSE UNIVERSITAIRES DE FRANCE - PARIS - 1964. 7 - LA RESISTANCE ARMEE ALGERIENNE 1830 - 1920 (ETUDE DOCUMENTAIRE) MINISTRE DE LA DEFENSE NATIONALE) ALGER 1974.

الفهرس

الفهرس

_ الموضوع .......................................................... الصفحة

_ الموضوع ............................................................................... الصفحة

5 - محمد المقراني

محمد المقراني وثورة 1871 الجزائرية

بسم الله الرحمن الرحيم

محمد المقراني وثورة 1871 الجزائرية بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1402هـ - 1982م الطبعة الثانية: 1411هـ - 1990م

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب احتفلت الجزائر، حكومة وشعبا، في يوم 8 نيسان - أبريل - 1971 بالذكرى المئوية للثورة الكبرى التي تركت أثرها العميق ونتائجها الثقيلة على شعب الجزائر المجاهد. وفي الواقع، فإن هذه الثورة التي قمعتها السلطة الاستعمارية الإفرنسية بما عرف عنها من قسوة ووحشية، هي التي رسمت طريق المستقبل على امتداد قرن من عمر الزمن تقريبا، وأظهرت قوة الإسلام والمسلمين وما حققوه من نجاح في القضاء على فكرة (مستعمرة الجزائر). وهناك كثير ممن يجهلون، أو ينسون في كثير من الأحيان، بأن جزائر الإسلام والمسلمين قد ارتبطت مع فرنسا بمستقبلها السياسي. لا سيما عندما حاول نابليون الثالث بذل جهده لتطوير المسلمين على حساب تقليص ظل النفوذ الاستعماري. غير أن الجزائريين لم يلبثوا أن وجدوا أنفسهم بعد سقوط نابليون الثالث وهم يبتعدون عن فرسا أكثر فأكثر، واستمر ذلك طوال العشرين سنة التي تلت هزيمتهم العسكرية، فتعاظم لديهم الشعور بالظلم، وأنهم ضحية فرنسا ومصالحها الاستعمارية. أعلن الشيخ الحداد الجهاد المقدس ضد فرنسا يوم السبت في 8

نيسان- أبريل- 1871 في صدوق. وتلقى (الأخوان المسلمون الرحمانيون) نداء شيخهم بحماسة، وأسرعوا لحمل السلاح. وتضمن بيان الشيخ الحداد (أنه ليس من الصعب على المجاهدين في سبيل الله طرد الإفرنسيين، إذا ما أيد الله المجاهدين بنصره) واندلع لهيب الثورة ليشمل كل القبائل الكبرى في التل وحتى الحدود الشرقية للجزائر، بحيث بلغ عدد المجاهدين زهاء (600) ألف مقاتل. وارتفعت راية الجهاد فوق سماء الثورة الباسلة بداية من شهر كانون الثاني - يناير - 1871 غير أن ضرام الثورة ولهيبها تزايد عنفا في 14 آذار - مارس - بقيام الباثآغا المقراني بإعلان الثورة في (مجانة) حيث انضمت إليه ثلاثون قبيلة تقريبا. وعلى الرغم من أن نداء الثورة قد وجه إلى كافة مسلمي الجزائر، إلا أن (الإخوان الرحمانيين) هم الذين اضطلعوا بالعبء الأكبر للثورة، وعلى عاتقهم وقعت أعباؤهاء ونتائجها، وقد أمكن لهم في الواقع ضم 200 قبيلة إلى الثورة، مما أعطى لهذه طابعها الوطني الشامل فوق كل التراب الجزائري، واشترك بالثورة ثلث عدد سكان الجزائر مما ساعد على انتشارها في قسنطينة ومنطقة القبائل الكبرى ووهران. وقد حاولت السلطات الاستعمارية الإفرنسية خنق لهيب الثورة، غير أن هذه استمرت في التأجج على موجات متتالية ما بين نيسان - أبريل - وتموز - يوليو 1871 ولتستمر بعد ذلك في تعثر حتى كانون الثاني - يناير - 1872. تلك هي الملامح العامة لثورة 1871 في الجزائر، فهل كانت ثورة تحمل اسم الشيخ الحداد أم هي ثورة محمد المقراني، أم هي ثورة الإخوان الرحمانيين؟ ثم هل كانت هذه الثورة مستقلة في حد ذاتها؟

وهل كانت محصورة بتفاعلاتها وعملياتها ونتائجها بظروفها الزمانية والمكانية؟. لقد كان (للإخوان المسلمين الرحمانين، دورهم الأساسي والحاسم في كافة الأعمال القتالية لهذه الثورة الرائدة، فكانت بحق ثورة الإخوان الرحمانيين. وكان لعائلتي المقراني والحداد دورهما الأساسي في قيادة الثورة وتحمل أعمالها وتبعاتها. ومن الوفاء تجاوز كل المقولات والهنات في مجال تقويم جهاد أفرادهما. وكانت قبل ذلك وبعده ثورة الجزائر كلها، تحت راية الجهاد في سبيل الله، ومن هنا، وإذا كان لا بد للثورة من رمز تحمله، فقد يكون (محمد المقرني) هو رمز هذه الثورة، وإذا كان لا بد للثورة من إطار شامل يضمها، فيكفي وضعها في إطارها الزمني. أما بالنسبة لنسيج الثورة، فقد كان امتدادا لأعمال المقاومة التي بدأها الشعب المجاهد منذ الأيام الأولى للغزو الإستعماري الإفرنسي للجزائر المحروسة بقيادة الباي أحمد وعبد القادر، ومرورا بثورات لالافاطمة وابن خدومة والصبايحية وأولاد عيدون وأولاد خليفة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن هذه الثورة لم تكن إلا بداية لثورات لاحقة، اتصل بعضها برقاب بعض، فبقيت أرض جزائر الأحرار، جزائر الإسلام والمسلمين، وهي تلتهب لتحرق أقدام الطغاة حتى جاءت الثورة الكبرى (الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954) لتصل بالجهاد إلى ذراه، ولتسير بالجزائر إلى مستقبلها الحتمي، وكان النصر تتويجا لكل الجهود والتضحيات. وبعد، لقد كانت ثورة الجزائر سنة 1871، غنية بمعطياتها،

بأحداثها ووقائعها، غريبة في ظروفها. وبنتيجة ذلك كله، فإنه من المحال الإحاطة بها وإعطاءها حقها. كما أنه من العسير أيضا تجاوزها أو الإقلال من دورها الريادي، ومن هنا ظهرت صعوبة البحث بين ما يتطلبه من الشمول، وبين ما يتضمنه من التفاصيل، وكان لا بد في النهاية من إهمال بعض الشمول على حساب بعض التفاصيل وإسقاط بعض هذه التفاصيل لحساب شمول البحث، والأمل كبير في أن يكون هذا البحث قد حقق بعض التوازن المطلوب. والله الموفق بسام العسلي

الوجيز في مسيرة الأحداث التي كان لها دورها في ثورة السبعين

الوجيز في مسيرة الأحداث التي كان لها دورها في ثورة السبعين

_ السنة الهجرية ..... السنة الميلادية ..... وجيز الأحداث

ثورة (الأخوان الرحمانيين) في سطور

ثورة (الأخوان الرحمانيين) في سطور انطلقت الثورة من مجانة يوم 16 - آذار - مارس - 1871 ; وامتدت لتشمل نصف البلاد تقريبا، من الجزائر العاصمة غربا إلى القل شرقا، ومن البحر شمالا إلى عين الطيبة في أعماق الصحراء جنوبا. وقد انتهت هذه الثورة باعتقال - البطل الثائر - بومزراق - يوم 20 كانون الثاني - يناير - 1872. وحدث خلال الثورة ثلاثمائة وأربعين معركة كبيرة، زيادة على المعارك الصغيرة. وارتفع عدد الثوار الجزائريين إلى مائتي ألف محارب، في حين بلغ مجموع أفراد القوات الإفرنسية التي اشتركت في قمع الثورة، ثمانمائة ألف رجل من الجيش الأفريقي والبحرية - والميليشيا من المستوطنين المهاجرين - والأعوان (العملاء). ... HISTOIRE DE L'INSURRECTION DE 1871. EN ALGERIE. (ALGER. IMP. JOURDAN. 1891) RINN LOUIS P.P 634 - 646 ET 658 - 659

الفصل الأول الوضع السياسي العام

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}. •---------------------------------• الفصل الأول الوضع السياسي العام 1 - الموقف على جبهة المشرق. 2 - عودة إلى محمد علي باشا. 3 - اللعب بورقة الأمير عبد القادر. 4 - البدايات الأولى للصهيونية.

الموقف على جبهة المشرق

1 - الموقف على جبهة المشرق كان احتلال فرنسا للجزائر بداية تفاعلات كثيرة تجاوزت حدود الجزائر، قدر تجاوزها لحدود فرنسا ذاتها، فقد كان من المحال على الإمبراطورية العثمانية (أو بالأحرى دار الخلافة) التسليم باقتطاع جزء من بلاد الاسلام ووضعه تحت سلطة دولة نصرانية. ولكن دار الخلافة في (استانبول) كانت عاجزة عن مجابهة القدرة الحربية الإفرنسية، لا سيما بعد أن تعاظم خطر والي مصر محمد علي باشا، وبات يتهدد عاصمة الدولة ذاتها باستيلائه على سوريا. وفي الوقت ذاته، أظهرت قدرة محمد علي باشا المتعاظمة مقدار ما وصلت إليه الخلافة العثمانية من الضعف والتمزق. فانطلقت الدول العظمى (الروسيا والنمسا وبريطانيا وفرنسا) للتحالف أحيانا والتناحر في أحيان أخرى من أجل فرض وصايتها على الخلافة العثمانية، والقيام بعمل متكامل لإضعاف دولة الإسلام من الداخل والخارج، وذلك عن طريق مراكز القوى غير الإسلامية في داخل الدولة، وعن طريق العدوان الخارجي الذي تزعمته روسيا القيصرية بقيادة نيقولا الأول (¬1). وأدى ذلك إلى بعث القومية العربية والقومية اليهودية في ¬

_ (¬1) نيقولا الأول: (NICOLAS 1er) ابن بولس الأول PAUL ومن مواليد سانت =

وقت واحد. ومن الملاحظ أن هذه التفاعلات قد رسمت أبعادها بعمق على صفحة العالم العربي - الإسلامي. ويظهر ذلك حقيقة ثابتة وهي أن استعمار فرنسا للجزائر قد شكل رأس الحربة لتمزيق العالم الإسلامي، في إطار الهجوم الصليبي الشامل ضد العالم الإسلامي. ونظرا لأهمية تلك الأحداث في التأثير على الموقف الخاص بالجزائر من جهة، وتأثيره على العالم الإسلامي كله من جهة أخرى، فقد يكون من المناسب استقراء صفحة تلك الأحداث شيء من التفصيل والإسهاب. توالى على حكم الدولة العثمانية في تلك الفترة محمود الثاني (1808 - 1839) ثم عبد المجيد الأول (1839 - 1861) ثم السلظان عبد العزيز (1861 - 1876) وجاء بعد ذلك السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1909). ومقابل ذلك، خضعت فرنسا للأنظمة التالية: النظام الملكي - شارل العاشر- (1824 - 1830) ثم النظام الملكي - لويس فيليب (1830 - 1848). ثم النظام الإمبراطوري - نابليون الثالث (1848) حتى الأول من أيلول - سبتمبر - 1870 (معركة سيدان مع بروسيا). كانت الدولة العثمانية مشغولة بحرب المورة ومجابهة محمد علي عندما أرسلت فرنسا قواتها لحصار الجزائر، وفي الوقت ذاته، كان

_ = بيترسبورغ (1796 - 1855) أصبح قيصرا لروسيا سنة 1825؛ انتزع إقليم إبريغان من بلاد الفرس سنة 1826، وقاد التحالف مع فرنسا وإنكلترا للتدخل في بلاد اليونان ضد العثمانيين (1827 - 1829). كما دفع قواته لخوض حرب القرم، وهي الحرب التي لم تحقق فيها روسيا أهدافها بسبب وقوف فرنسا وإنكلترا إلى جانب العثمانين. كان من أشد أعداء الإسلام والمسلمين.

الباب العالي يعتقد أنه بالإمكان تسوية الخلاف الإفرنسي الجزائري بصورة سلمية، على نحو ما حدث في مرات كثيرة سابقة. وعندما أعلن عن اجتياح فرنسا للجزائر أخذت الدولة العثمانية في بذل الجهود - مع إنكلترا - لإقاع فرنسا بالانسحاب وأعلن الباب العالي من جهته: (حق الدولة العثمانية في الجزائر). كما أرسل مذكرات إلى فرنسا، من بينها المذكرة المرسلة في ذي الحجة 1246 هـ الموافق 13 أيار - مايو - 1831 والتي (تبين حقوق الدولة العثمانية في الجزائر، إذ بموجب المواثيق والأحكام المرعية بين الدولة العلية والدول الصديقة منذ القديم فإن حقوق الدولة السنية بالجزائر ثابتة في جميع الأزمان. ولهذا يجب استرداد الجزائر، إذ لا إشكال في أنها ملك موروث للدولة العلية). وانطلق السفراء العثمانيون في محاولاتهم للتسوية السلمية بشأن الجزائر، وأخذوا في العمل مع (بالمرستون) (¬1) في إنكلترا و (مترنيخ) (¬2) في النمسا. قدم السفير العثماني (نامق باشا) مذكرات كثيرة للحكومة البريطانية من أجل (تخليص الجزائر من الإحتلال الإفرنسي، وكان من بينها مذكرة باللغة الإفرنسية مؤرخة في 2 آذار - مارس - 1833، وكان رد (بالمرستون) ورجال الدولة الإنكليز: (بأنهم لن يستطيعوا ¬

_ (¬1) بالمرستون: (LORD PALMERSTON HENRY TEMPLES) رجل دولة إنكليزي، (1784 - 1860) قاد سياسة إنكلترا بعنف ضد فرنسا طوال أربعين عاما. (¬2) مترنيخ: (PRINCE DE METTERNICH WINNEBURG KLEMENS LOTHER WENZEL) رجل دولة نمساوي، من مواليد كوبلنز (1773 - 1859) عمل سفيرا لبلاده في باريس سنة1806 - 1809، قاد المفاوضات بشأن زواج ماري لويز من نابليون بونابرت وبعد سقوط نابليون، أصبح بموجب الحلف المقدس عمدة لأوروبا - ووصيا عليها - وفرض الحكم المطلق داخل بلاده - النمسا -.

قول أي شيء للحكومة الإفرنسية بخصوص) الجزائر دون تصفية قضايا بلجيكا والبرتغال، وهكذا رفضوا من البداية تكليف الدولة العثمانية). أما النمسا، فكانت تتصرف بميوعة إزاء القضية الجزائرية، وعلى هذا كتب السفير العثماني إلى رئيس وزراء النمسا (مترنيخ) طالبا تدخله لدى الحكومة الإفرنسية (وكتب مترنيخ مذكرة سرية، أرسل الباب العالي نصها إلى السفير العثماني بباريس، وفيها يخمن أن الإفرنسيين لن يستطيعوا إدارة الجزائر مدة طويلة بعد فشلهم في قسنطينة، ويقترح على الباب العالي البقاء شاهدا - متفرجا - في الوقت الحاضر) (¬1). أدرك رجال الدولة العثمانيون، وبشكل قطعي، أن استرداد الجزائر من فرنسا بالمباحثات السياسية فقط، هو أمر غير ممكن. وكان على الدولة العثمانية أن تسلك طرقا أخرى للوصول إلى الهدف. وأرسلت أسطولها إلى طرابلس الغرب، واقتربت كثيرا من الحدود الجزائرية. غير أن الحكومة الإفرنسية لم تتأخر في إتخاذ التدابير اللازمة. وأعلن قائد الأسطول الإفرنسي (الأميرال روسين) يوم 7 حزيران - يونيو 1835: (بأن أسطولا فرنسيا أقلع لحماية المصالح التجارية والسياسية الإفرنسية في حوض البحر الأبيض وشواطىء إسيانيا). وأمام هذا الموقف، وجد الصدر الأعظم - رئيس الوزراء العثماني - أنه من غير المناسب حدوث صدام بين الأسطولين الإفرنسي والعثماني. فأمر بعودة الأسطول إلى استنبول. وأعلن: (أن الدولة ¬

_ (¬1) السياسة العثمانية تجاه الإحتلال الإفرنسي للجزائر - الدكتور أرجمند كوران - ص51 و66 و67.

العثمانية تحتفظ لنفسها بحقها في تلك البلاد) ورد (الأميرال روسين) على ذلك يوم 8 آب - أغسطس - 1836: (أن فرنسا لن تعيد الجزائر). و (أن فرنسا لن تغض الطرف أبدا عن وجود وال معاد لها في تونس ويجب على وزارة الخارجية العثمانية عدم التدخل في شؤون قسنطينة) حيث كان أحمد باي يتابع صراعه من قسنطينة ضد الإفرنسيين. ومعروف أن أحمد باي، قد طلب من الدولة العثمانية مساعدته ودعمه، وأعلن الباب العالي: (أن من حقه مساعدة أي قسنطينة) فردت فرنسا على ذلك بقولها (أنها تعتبر نفسها في حالة حرب مع الدولة العثمانية إذا ما أقدمت هذه على دعم باي قسنطينة). غير أن الأسطول العثماني غادر المياه التركية. وروصل إلى طرابلس، فقابلت فرنسا ذلك بإرسال أسطولها إلى الميناء - نفسه، وفقا للقرار الذي اتخذته حكومتها يوم 24 أيلول - سبتمبر - 1837. وأعلنت الدولة العثمانية: (أن لها الحق في منع الإفرنسيين من القيام بحملة على القسنطينة). وتدخل السفير البريطاني، فأعلن (وجوب عدم تدخل العثمانيين في تونس والجزائر). وأخذ الأسطول العثماني في الانسحاب والأسطول الإفرنسي يطارده حتى مضيق الدردنيل. وانتهت بالفشل محاولة إلحاق تونس مباشرة بالإدارة العثمانية لتأمين إمكانية إنقاذ الجزائر من الاحتلال الإفرنسي. ومعروف بعد ذلك أن أحمد باي قاوم بضراوة الحملة الإفرنسية على قسنطينة حتى يوم 13 تشرين الأول - أكتوبر - 1837، حيث استطاعت القوات الإفرنسية اقتحام قسنطينة، وبسط سيطرتها على المنطقة الشرقية من الجزائر بكاملها. أرسل باي قسنطينة (الوالي) رسالة إلى الباب لعالي يوم 15

تشرين الأول - أكتوبر - 1837: (يعلم باسيلاء الإفرنسيين على المدينة، ويطلب المعونة، ... وإذا لم يتمكن من إيصالها إليه فإنه يسترحم السلطان إذنا بالانسحاب لديار المسلمين) ولم تجد أركان الباب العالي إمكانية لمساعدة أحمد باي، ولم يكن باستطاعة السلطان محمود الثاني - في الوقت ذاته التخلي عن الباي وخذله بعد أن برهن على ارتباطه الثابت بالدولة العثمانية. فأصدر أمره بالتحقيق في القضية من جديد. وفي مجلس الشورى التي عقد بالباب العالي وضم وزير البحرية، تقرر إرسال أمر لباي تونس من أجل مساعدة باي قسنطينة. ولم يكن لهذا القرار من نتيجة إيجابية، ذلك أن باي تونس كان مرغما على عدم استثارة الإفرنسيين الذين وصلوا إلى حدود بلاده. يذكر هنا أن الدولة العثمانية كانت تعتمد في مطالبتها بحقها في الجزائر، على المقاومة التي كان يقودها الأمير عبد القادر الجزائري من جهة وأحمد باي قسنطينة من جهة أخرى. وعندما أعلن عن اتفاق الأمير عبد القادر مع فرنسا، أرسل السفير العثماني في باريس رسالة بتاريخ 11 حزيران - يونيو - 1837، إلى وزير الخارجية الإفرسية، أظهر فيها (استغرابه وأسفه الكامل بسبب وضع شخص عادي تابع للسلطنة العلية، بشكل حاكم، وأن مصالحة دولة فرنسا مع الأمير عبد القادر هو أمر مخالف لأصول روابط الإخلاص والصفاء القائمة بين فرنسا والدولة العثمانية العلية) ورد وزير خارجية فرنسا على ذلك برسالة في 18 حزيران - يونيو - 1837؛ جاء فيها (أن فرنسا توضح بصراحة أنها لم تعترف مطلقا بحق أية دولة أجنبية في التدخل بشؤون الجزائر). المهم في الأمر هو أن الباب العالي لم يعترف باتفاقية فرنسا مع الأمير عبد القادر (معاهدة تفنا 30 أيار - مايو - 1838). ولم تلبث

فرنسا أن نقضت معاهدة تفنا، بعد أن فتحت قسنطينة. وعاد الأمير عبد القادر لحمل السلاح، كما استمرت الدولة العثمانية في تطوير الصراع السياسي، وأثناء ذلك، أخذت قضية تونس بالتدرج بعد قضية الجزائر، وحاولت الحكومة العثمانية فرض وجودها في تونس غير أن فرنسا أحبطت محاولاتها بالقوة. واستمر الموقف على ذلك حتى سنة 1847 حيث استسلم الأمير عبد القادر للإفرنسيين، وفي السنة التالية، ترك أحمد باي المقاومة. وودعت الدولة الثانية حقها في المغرب العربي - الإسلامي. لقد برهنت هذه المرحلة من الصراع السياسي، أن الإمبراطورية العثمانية باتت تعتمد على التحالفات السياسية والتناقضات الدولية بأكثر من اعتمادها على قدرتها الذاتية. كما أن الصراع الداخلي الذي تزعمه والي مصر محمد علي باشا، قد أصبح المجال الواسع أمام الدول الأوروبية للمضي في سياستها من أجل استنزاف ما بقي لدى الدولة العثانية من القدرة. ولقد حاولت الدولة العثمانية إعادة بناء قدرتها الذاتية، والاعتماد على الخبرة العسكرية البروسية. غير أن الدول العظمى لم تترك لها الفرصة لذلك.

عودة إلى محمد علي باشا

2 - عودة إلى محمد علي باشا أوضح سفير متربيخ (فون أوستن) موقف بلاده من أحداث المشرق في 16 حزيران - يونيو - 1833 بالتالي: (لم يعد هناك مفر من إقامة إمبراطورية عربية تحت لواء محمد على في القريب العاجل) وقد يظهر هذا المشروع غريبا، لكن شتى الدوافع قد أجمعت على تحقيقه فعلا. فمن جهة سيندفع باشا مصر بطموحه وتهوره إلى العمل على تخفيفه، ومن جهة أخرى تسهل ظروف الموقف السياسي والعسكري الجديد نفسها خلق مثل هذه الإمبراطورية. وإني أرى إلى جانب إمكانيات الباب العالي المعدومة، وهيبته المتداعية يوما عن يوم، جيشا عربيا مدربا أحسن تدريب، مزهوا بالنصر، وأسطولا جبارا، وموارد كافية لزيادة حجم هذا الأسطول وذلك الجيش إلى ثلاثة أضعافهما، وإدارة في غنى تام تقريبا عن الأتراك، وانبعاث الروح القومية عند العرب. وميلا واضحا لدى أوروبيين كثيرين إلى حكومة محمد علي، وأخيرا تقديرا متعاظما وواسعا يتمتع به هذا الأخير على امتداد البلاد الناطقة بالعربية) (¬1). ¬

_ (¬1) أوروبا ومصير الشرق العربي. حجار - ص 84 و 80 و 86.

لقد كان هذا الخط السياسي مرتبطا باتفاق أباطرة روسيا والنمسا وبروسيا بعد اجتماعهم في ميونيخ من 9 - 19 أيلول - ستمبر - 1833 واتفاقهم على وضع أسس (الحلف المقدس) (1) المعقود سنة 1815 موضع التنفيذ. كان مهندس السياسة الأوروبية (مترنيخ) قد استدعى سفيره في القاهرة يوم 15 أيلول - سبتمبر - للاطلاع منه على مهمته المكلف بها وهي: (تقديم مذكرة عن القوات العسكرية المصرية الراهنة ومقارنتها بقوات الباب العالي). وقد خولته معلوماته المستقاة من مصادر موثوقة، وخبرته المباشرة، أن يمثل دورا مهما في تلك الظروف، خاصة وأن مترنيخ كان يرتاح إلى استلهام أرائه، الأمر الذي جعله يتبوأ مركزا قويا واضحا حتى في نظر الإمبراطور. وقد استمع يوما، وهو على مائدة الغداء، إلى المبعوث الروسي وهو يتحدث عن نهاية الإمبراطورية العثمانية الوشيكة، وهو رأي كان سائدا آنذاك في وسط البلاط الروسي. هذا وكرر له الإمبراطور بعد ذلك - في حديث خاص - الآراء نفسها، عن الإمبراطورية المحتضرة. أما ما كان يشغل الإمبراطور الروسيا بشكل خاص (نقولا الأول) فهو محمد علي الذي كان يعتبره الإمبراطور رجلا موهوبا جدا، لكنه طموح ولا يحلم إلا بتقويض الأسرة الملكية العثمانية الحاكمة واحتلال مركزها. غير أن السفير النمساوي في القاهرة أوضح للإمبراطور أن محمد علي لا يطمح مطلقا في الاستيلاء على آسيا الصغرى، وأنه لن يتخطى جبال طوروس إذا ما أعطي وعد شرف بأن تضمن له فتوحاته الحالية. وبدا أن نقولا الأول، أخذ بهذا التحليل الجديد للوضع). (1) الحلف المقدس: (LA SAINTE ALLIANCE).

ويظهر من خلال ذلك أن دول الحلف المقدس، كانت تعمل لإقامة الدولة العربية، ولكن مع إبقاء حدود هذه الدولة فيما وراء جبال طوروس، لا سيما وأن روسيا أفادت من الخلاف المصري - العثماني أكثر من سواها لتعزيز مكانتها ودعم نفوذها لدى الباب العالي. وأمام هذا الموقف اتخذت إنكلترا أسباب الحذر، ذلك لأنها لم تكن ترضى مطلقا بهيمنة روسيا على القسطنطينية. فقامت بمناورة ديبلوماسية، أشارت فيها: (إلى أن دخول محمد علي إلى العاصمة العثمانية، وتقويض حكم السلطان ببضع ساعات، سيساعده على إغلاق البوسفور فعلا في وجه القوات الروسية). على هذا الأساس أخذت إنكلترا في تطوير علاقتها مع محمد علي باشا، بهدف تصديع عرى العلاقات الروسية - العثمانية. وكان محمد علي بدوره يصبو في الوقت ذاته لإقامة تحالف مع إنكلترا، وسعى إليه بشتى الوسائل من إيماء وتنازلات وإقناع، وقد كتب السفير الإنكليزي في القاهرة لحكومته رسالة يوم 27 تشرين الأول عام 1833 - جاء فيها: (هناك فائدة أخرى قد نجنيها من احتلال محمد علي لمودكا واليمن بالنسبة لأي اتصال نود أن نقيمه في المستقبل مع الهند عبر البحر الأحمر. إن محمد علي بامتلاكه لمصر، يسيطر تقريبا على شاطىء البحر الأحمر الغربي كله، وبامتلاكه للحجاز وللجزيرة العربية يسيطر على الشاطىء الشرقي ما عدا المنطقة الصغيرة التي تحيط بموقة. فاحتلال هذه المنطقة يضع بالضرورة شاطىء البحر الأحمر تحت حكم واحد، ويسهل مواصلاتنا مع الهند، خاصة متى كان هذا الحكم حسن الطوية نحو بريطانيا كما هي حال محمد علي ...).

ويظهر من خلال ذلك، أن إنكلترا، ومعها فرنسا، قد اتفقتا في الهدف مع دول الحلف المقدس (روسيا والنمسا وبروسيا) في دعم محمد علي باشا لإقامة دولة عربية قوية تستطيع منافسة الباب العالي، ولكنها لا تستطيع القضاء على الدولة العثمانية. وهذا ما أشار إليه تقرير القنصل البريطاني بتاريخ 29 أيار - مايو - 1834 وفيه: (إذا انتظمت الأقاليم التي يحكمها حاليا محمد علي في مملكة، فإن هذه المملكة، بحكم موقعها، ستحمل طابعا أوروبيا وآسيويا في آن واحد. وستتدخل كلما قويت داخليا في شؤون إحدى القارتين. فإذا لم توجه في وجه إحداهما، فلن تكون هناك أية فائدة سياسية من إقامتها. أن إقامة هذه المملكة - بحد ذاته - يعطي الباشا بغداد والبصرة، عبر شمال سورية، وتجعله يسيطر على سلسلة طوروس الشرقية، باسطا نفوذه، حتى حدود بلاد فارس، وستمتد سلطته المتزايدة إلى قلب آسيا، من شراز إلى مسقط وحتى البحر الأحمر، مرورا بالجزيرة العربية). لقد فتح الصراع بين محمد علي والباب العالي المجال الواسع أمام الدول الكبرى للحصول على المغانم، على حساب الطرفين المتصارعين، وبالتالي على حساب الأمة الإسلامية. وهذا ما أشار إليه القنصل الإنكليزي في مصر والذي كتب في 7 شباط - فبراير - 1838 ما يلي: (قبل تعييني، لم يكن يصل أي مركب أو أية بضاعة إلى مرفأ بيروت من إنكلترا مباشرة. ولم يكن في سوريا كلها أي مركز تجاري إنكليزي. وكانت موارد سوريا وإمكانياتها ومنتجاتها مجهولة في إنكلترا، ومنذ تعييني - سنة 1830 - بدأت تصل مباشرة من الوطن مراكب إنكليزية حمولة كل منها من 120 إلى 150 طنا، حاملة منتجات إنكليزية من إنكلترا أو مستعمراتها وقد تم افتتاح مراكز

تجارية إنكليزية جديدة في مدن البلاد الكبرى، وخاصة في دمشق وحلب وبغداد على أمل أن يتسع نفوذها ليشمل البلدان المجاورة). خلال هذه الفترة، كانت هناك قناعة ثابتة تتشكل في البلاط البريطاني، وتتلخص هذه القناعة بأن التحالف مع السلطان هو وحده السبيل القادر على إنقاذ العثمانيين من وصاية روسيا. وقد أعطى بالمرستون تعليماته بهذا الشأن لسفيره لدى الباب العالي - وأضاف بالمرستون إلى تعليماته أن هذا التحالف على كل حال يثبت السلطة العثمانية، ويكبح المطامع المصرية. وإلى هذا كان يميل سفير فرنسا في القسطنطينية، والذي كان يعتقد بأنه يجب مساندة السلطان ضد مرؤوسه، لأن تشجيع هذا الأخير - يدفع من جديد بالباب العالي إلى أحضان روسيا، ويسبب ذلك حربا لا مفر منها. لم تكن قصة (الحاجة إلى السلام) بالقصة الجديدة، فقد كان الباب العالي يستعد لشن الحرب ضد قوات إبراهيم باشا في سوريا. فقام سفراء الدول الغربية بإقناع السلطان بعدم شن الحرب (لأن المحافظة على السلام في الشرق أمر ضروري جدا لمصلحة أوروبا كلها)، وفي الوقت ذاته أعلن قادة البحر الإفرنسيين والإنكليز - الأميرالات - بأنهم تلقوا تعليمات من حكوماتهم (أن يتدخلوا بين الأسطولين العثماني - المصري إذا ما تطلب الأمر لمنع أي اشتباك بينهما (¬1). ووجد محمد علي في ذلك تراجعا عن التزامات أوروبا - وخاصة فرنسا - تجاهه، فقرر الإمساك بالمبادأة، وقام يوم 3 أيلول سبتمبر - ¬

_ (¬1) أوروبا ومصير الشرق العربي - حجار - ص 96.

1834 بتسليم مذكرة سرية إلى قنصلي فرنسا وبريطانيا (طالبا مساعدة الحكومتين البريطانية والإفرنسية على إعلان استقلاله، وفي 12 تشرين الأول - أكتوبر - من السنة ذاتها، أبلغ بلاط فيينا نفس الطلب. وكانت الحكومة الروسية هي وحدها التي لم تعلم بالأمر. وأكد محمد علي في هذه المذكرة: (بأن حربه ضد الباب العالي إنما تهدف إلى إيقاظ طاقة الأمة الإسلامية الراكدة، وإلى إقامة الإمبراطورية العثمانية على أسس جديدة، وفي سبيل هذا يعلن محمد علي استقلاله قبل أن يقوم بحملة صليبية جديدة ضد الباب العالي وروسيا). لقد ظن محمد علي باشا أنه يستطيع أن يلهب بورقة العداء ضد روسيا القيصرية ليمارس دوره في إقامة المملكة العربية التي كانت تدعمها الدولتان العظميان، وجهل أو تجاهل بأن الدول العظمى لا تريد من هذا المشروع إلا خلق تناقض داخل الإمبراطورية العثمانية - لا أكثر - وإنما تريده كل هذه الدول بقاء هذا التناقض لتفجيره في الوقت المناسب. وتجاهل محمد علي، أو جهل، حقيقتين أساسيتين وهما: 1 - أن فرنسا التي كان يعتمد عليها في مشاريعه، لم تعد في حاجة إليه بعد أن احتلت الجزائر وجعلتها قاعدة لها، وأنها باتت في حاجة التعاون مع الباب العالي لحل مشكلات الاحتلال أكثر من حاجتها لمحمد علي الذي منحها كل شيء، ولم يبق لديه ما يمنحه. 2 - أن التنافس بين الدول العظمى هو قبل كل شيء ضد العالم الإسلامي كله، وأن هذا الخط يشكل القاسم المشترك بين سياسات الدول الأجنبية كلها - وعلى هذا فإن روسيا تبقى أقرب إلى النمسا وحتى إنكلترا وفرنسا، منها إلى مصر محمد علي. وهذا ما عبر عنه البلاط القيصري الروسي في رسالة تحمل تاريخ 31 كانون الأول - ديسمبر -

1834 وجاء فيها: (لقد أوقع محمد علي نفسه في ورطة خطيرة من جراء جهله المطبق لعلاقات الثقة الحميمة التي تربط بلاطي فيينا وبيترسبورغ، فجاءت نتيجة مسعاه وبالا عليه: وأنه بمحاولته إثارة الخوف والحسد لدى الحكومات الأوروبية ضد روسيا، فإنه حكم على آماله كلها بالفشل الذريع) ويمكن من خلال الموقف المشترك للدول الأوروبية استخلاص نتيجتين: أولاهما، اتفاق الدول الكبرى مبدئيا على تجنب خطر اشتباك عام في الشرق، بالرغم من اختلاف وجهات النظر. وثانيها: رفض القوتين البحريتين، لفرنسا وإنكلترا، مشاريع باشا مصر بالاستقلال، على الرغم مما هما عليه من تنافس ضد روسيا. ولهذا فيجب على باشا مصر أن يتخلى نهائيا عن أية محاولة لإثارة بعض الدول الأوروبية ضد بعضها الآخر، وعلى كل حال، فنشاطه مراقب عن كثب بحيث أنه لا يستطيع أن يفلت من أنظار الدول ليحيك الدسائس ضد روسيا. وهكذا اتفقت أوروبا كلها على تجميد الوضع، والإبقاء على (الحالة الراهنة). وظهر بوضوح: (أن فرنسا وإنكترا اللتين دللتا محمد علي طوال سنين كثيرة، وتعهدتا نوعا ما بتعزيز قوته، ولم تتراجعا أمام أي أمر في سبيل تأجج طموحه، تتركانه اليوم وحيدا، وتتلذذ إنكلترا خاصة بجرح عنفوانه وذلك بعدم اكتراثها به، هذا على أخف تعبير) (¬1) ومقابل ذلك، نصحت روسيا الباب العالي بما يل: (... أن النصيحة الوحيدة التي رأت حكومة الإمبراطور أن توجهها لكم في السابق، والتي ترى من واجب الصداقة أن تكررها لكم الآن هي الإفادة من عامل الزمن. إن حكومة الإمبراطور، وقد ¬

_ (¬1) المرجع السابق - ص 106 .

تملكتها هذه الحقيقة لا تستطيع إلا أن تكرر النصيحة التي غالبا ما وجهتها للباب العالي باتباع سياسة التريث بانتظام، وهي التي تبدو أكثر ملاءمة لمصالح تركيا الحقيقية، وللحفاظ على استقرار الشرق عامة). لقد سمحت سياسة الاستقرار في الأزمة الشرقية للباب العالي وللدول الأوروبية أن تنفذ سياساتها الاستراتيجية بهدوء، فكانت الفترة ما بين 1834 و1838 فترة هدوء نسبي لم يعرف الشرق مثلها منذ أعوام طويلة. وأفاد محمد علي من ذلك لتدعيم قواته والقيام بجولات تنظيمية في مصر وحتى في جزيرة كريت التابعة لسلطته. وأفاد الإفرسيون من ذلك لتطوير عملية (فرنسة مصر) عن طريق توظيف أكبر عدد ممكن من مواطنيهم في خدمة الوالي، وفي شتى فروع الإدارة. مبعدين من هذه الميادين سائر الأجانب. وفرضت إنكلترا نفسها فأصبح جانبها مرهوبا في الإسكندرية كما في القسطنطينية. ووضعت النمسا تحت تصرف والي مصر هيئة من الخبراء في الجيولوجيا لتجوب لبنان ومصر بحثا عن الثروات المعدنية. في حين بقيت روسيا واقفة تراقب مسيرة الأحداث وهي سعيدة بانقسام الإمبراطورية العثمانية وضعفها. وكانت بروسيا تدخل مسرح الأحداث، فتضع تحت تصرف الباب العالي أول بعثة عسكرية مهمتها إعادة تنظيم الجيش العثماني. ونتيجة لذلك، ظهرت حتمية تجدد الصراع بين الباب العالي والوالي محمد علي، وقد ظهر ذلك واضحا في رسالة القنصل الروسي في 23 أيار - مايو - 1836 وفيها: (... يظهر بوضوح أنه ستطرأ عما قليل تطورات خطيرة على الأوضاع في المشرق، فالبحث يجري في

أمور كثيرة، كالتقارب بين إنكلترا والباب العالي، ثم إرادة السلطان في حصر قوة محمد علي مهما بلغ الثمن في إطار ضيق هو إطار مرؤوس عادي، وذلك بإرغامه على تقليص قوة أسطوله وجيشه، وأخيرا الموافقة التي يلقاها هذا المشروع من جميع الدول الكبرى. والمفاوضات عاجزة بمفردها عن بلوغ هذه النتيجة. لذا سوف يلجأ إلى قوة السلاح وستنشب الحرب) (¬1). كانت قوات محمد علي قد بسطت نفوذها على الجزيرة العربية، ووصلت إلى منطقة الخليج، ووجدت بريطانيا في ذلك مناسبة للتدخل، وفي 15 حزيران - يونيو - 1838 صرح وزير الخارجية البريطاني: (بأن وجود مصر في الخليح العربي لا يمكن احتماله. وهذا ما جعل الاشتباك بين القوتين أمرا يصعب تجنبه، إذ أن النفوذ المصري سيمتد بسرعة من البصرة الى بغداد). واجتمع محمد علي بالسفير الروسي، وشكا إليه صغف بريطانيا، ونقل السفير ذلك برسالة في 6 أيلول - سبتمبر - 1838 جاء فيها ما يلي: (ذكر محمد علي التحذير الذي تلقاه مؤخرا، والذي جاء فيه من أن بريطانيا تعتبر أي اعتداء تقوم به القوات المصرية على عدن يعتبر بمثابة إعلان للحرب، ويذكر أن الحكومة البريطانية اشترت عدن مؤخرا من أمير محلي بمبلغ (1500) جنيه. واحتج بشدة ضد هذه الادعاءات بقوله: علي هذه المرة أيضا أن أخضع لقانون الأقوياء كما هي الحال في قضيتنا. إن الدول الكبرى تصدر إلي الأوامر لأنها أقوى مني ... ولا بد لي وأنا أنهي تقريري من أن استرعي انتباه فخامتكم جديا إلى أمر يبدو تافها في الظاهر، ولكنه قد يتسبب في المستقبل بنتائج خطيرة: لقد قامت شركة الهند الشرقية ¬

_ (¬1) المرجع السابق 105 و112 و113.

باحتلال مدينة عدن الصغيرة ومرفأها في شبه الجزيرة العربية احتلالا عسكريا، حيث أنزلت فيه 30 عسكريا وكلهم مسلحون، بقيادة ملازم إنكليزي يساعده ضابط هندي). لم تقف إنكلترا عند حدود العدوان السافر لغرض سيطرتها على عدن، ومن ثم على منطقة الخليج، بل إنها مضت لتحريض الدروز على الثورة، وحذت حذوها بقية الدول العظمى، فأخذت روسيا في تسليح الأرثوذكس، في حين اعتمدت فرنسا على الموارنة والكاثوليك، ونشط القناصل الأجانب نشاطا مثيرا، ودفع ذلك إبراهيم باشا إلى اتخاذ إجراءات بالغة العنف تجاه القناصل الأجانب في سوريا، وخاصة قناصل بيروت وحلب ودمشق. وقد صرح إبراهيم باشا للقنصل النمساوي في الإسكندرية بما يلي: (هؤلاء القوم مصدر عذاب لي، إذ يعرقلون في كل لحظة سير شؤون حكومتي. وليس السلطان والباب العالي بشيء إذا ما قورنا بحضرات القناصل. فمع السلطان والباب العالي نستطيع تدبير أمورنا، ونلزم جانب الحذر، أما القناصل فهم مصدر عذابي، ولا أستطيع عمل أي شيء حيالهم، إنهم كارثة على البلاد). وأوضح القصنل الروسي الموقف بقوله: (يتمادى القناصل في سوريا بأكثر مما يفعلونه في سائر المشرق. ولقد استطاعوا أن يخرجوا أكثر من نصف سكان المدن عن طاعة السلطة المحلية بحمايتهم تحت اسم (ترجمان - وقواص - وخازن - وخادم الخ ...). ويكفي للبرهان على دور القناصل في التحريض على الثورة، والإمداد بالأسلحة، إن إبراهيم باشا جمع (21) ألف بارودة، عقب نجاحه في قمع ثورة الدروز. وأن القنصل الروسي كتب إلى وزيره في بيترسبورغ بعد

ذلك بسنة - أي في سنة 1836 - (بأنه نزع من أهالي سوريا 128 ألف بارودة ما عدا المسدسات والسلاح الأبيض منذ القضاء على الثورة في السنة الماضية). وخلال تلك الفترة، عكفت مراكز البحوث في الدول الكبرى على إجراء دراسات مستفيضة عن وضع الأقليات لاستخدامها في الترويج للقضية القومية - المناهضة بالضرورة للإسلام - ومن ذلك (مجلة ألمانية) (¬1) (اعتبرت من أفضل المجلات الدينية في تلك الآونة وخصت الموارنة والدروز والإسماعيليين والعلويين بدراسات وافية تناولت وضعهم الديني والسياسي والاجتماعي في أدق تفاصيله، فانعكست الأحداث المعاصرة على لوحة خلفية تضم مختلف هذه الجماعات). قد يكون من غير المهم بعد ذلك الدخول في تفاصيل مسيرة الأحداث. فقد وقعت معركة نصيبين يوم 24 حزيران - يونيو - 1839 وانتصر فيها إبراهيم باشا على العثمانيين انتصارا حاسما خلال ساعتين فقط. وتدخلت الدول الأوروبية المتحالفة بعد ذلك، فأرغمت محمد علي باشا على الانسحاب من سوريا، وجرت مفاوضات انتهت بتوقيع معاهدة 15 تموز - يوليو - 1841، وعادت مصر محمد علي إلى حجمها الطبيعي. وعاد محمد علي تابعا للسلطان، ولكن بعد أن حققت الدول العظمى، وخاصة بريطانيا وفرنسا والنمسا كل أهدافها في العالم الإسلامي. ¬

_ (¬1) ARCHIV FUR ALTE AND NEUE KIRCHENGES 'CHICHTE عن أوروبا ومصير الشرق العربي - حجار - ص 123.

اللعب بورقة الأمير عبد القادر

3 - اللعب بورقة الأمير عبد القادر كان خروج قوات محمد علي باشا من سوريا هو البداية لمجموعتين من الأحداث المتتالية، أولاهما: مشكلة الأقليات في بلاد الشام، والثانية: المشكلة اليهودية. وارتبطت المشكلتان ارتباطا وثيقا بالأمن الذي باتت أعباء تحقيقه في سوريا ملقاة بكل ثقلها على الحكومة العثمانية. ومن المعروف أن معظم هذه الأقليات (الدروز والموارنة خاصة) كانت قد استقرت في جبال لبنان منذ أجيال وظهرت منها عائلات مارست دورا قياديا من أمثال المعنيين والتنوخيين والشهابيين. وظنت الحكومة العثمانية أن بوسعها كسر شوكة زعامة هذه العائلات بمثل الطريقة التي سبق للسلطان محمود اتباعها في آسية الصغرى، من أجل إخضاع لبنان مباشرة لسلطة الوالي العثماني. وكان الأمير بشير الشهابي، الذي أسلم البلاد يوما إلى إبراهيم باشا قد فر إلى مالطا في تشرين الأول - أكتوبر - 1840 على متن سفينة حربية بريطانية. وكان ابنه الأكبر ضعيف العقل، في حين كان ابنه الأصغر غير كفء لخلافته. ولكن فرنسا التي انتحلت لفسها حق حماية نصارى الشرق - والموارنة منهم بصورة خاصة، كانت غير مستعدة للموافقة على اضمحلال الإمارة المسيحية من غير أن تحرك ساكنا. ونزولا عند

ضغط الدول، عين الباب العالي أحد المتقدمين في السن من أبناء أخي الأمير بشير حاكما. ولكنه حرك الدروز في الوقت نفسه للثورة، مما اقتضى احتلال لبنان كله إحتلالا عسكريا. حتى إذا رفع النصارى صوتهم بالشكوى، عين الباب العالي لجنة أنهت أعمالها برفع شكوى إلى الباب العالي تلتمس فيها إقامة إدارة تركية في البلاد. واتخذت الدولة العثمانية قرارها في آب - أغسطس - سنة 1842 بتقسيم لبنان إلى منطقتين إداريتين، يحكم إحداهما زعيم من الزعماء الدروز، في حين يحكم الأخرى زعيم من زعماء الموارنة، يحمل كل منهما لقب، (قائم مقام) أما في المناطق المختلطة، مثل منطقة المتن الهامة الواقعة على طريق دمشق، حيث كانت أكثرية مارونية تعيش في ظل المشايخ الدروز، فقد توجب على كل قائم مقام تعيين نائب عنه. وحيث أن الدول العظمى كانت تلح على أن يدفع الدروز التعويضات عن الخسائر الناجمة عن ثورة 1842، فقد اندلعت نار الحرب الأهلية، من جديد، في نوار - مايو - سنة 1840. عندئذ عمد الباب العالي إلى نزع السلاح من الفريقين، وأقام إلى جانب كل قائم مقام مجلسا يتمتع بصلاحيات إدارية وقضائية، ويتألف من ممثلين عن مختلف طبقات الشعب. مات محمد علي باشا سنة 1848، وكان ابنه إبراهيم باشا قد توفي قبله بثمانية أشهر. وخلفه ابنه عباس باشا، وكان مسلما حقا يزدري التربية الأوروبية ازدراء بعيدا. ولم يكد يرتقي العرش حتى وضع المشروع القاضي بشق قناة السويس لوصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط. وإذ كان أصحاب رؤوس الأموال من الإفرنسيين يبدون اهتماما بهذا المشروع فقد عارضه البريطانيون، وروجوا لمشروع مضاد يقضي بمد خط حديدي عبر برزخ السويس، وقد

بدىء بإنشائه فعليا سنة 1851. ومهما يكن من شيء فالحق أن مسألة المواصلات هذه، التي انتهت فيما بعد إلى أن تكون ذات أهمية عظمى بالنسبة إلى العالم كله، لم تكن هي التي قررت مصير الشرق في السنوات التالية. وإنما الذي قرر مصيره مسألة أخرى كان الباب العالي يعتبرها تافهة، ولكنها قدمت إلى الدول الأوروبية ذريعة لفرض سيطرتها على الشرق، ألا وهي مسألة الأماكن المقدسة الشهيرة. كان الفرنج منذ أيام الحروب الصليبية القديمة يتخذون من قضية الأماكن المقدسة في فلسطين حجة للتدخل بشؤون المشرق الإسلامي، كلما أنسوا من أنفسهم قوة ومن العالم الإسلامي ضعفا، وذلك بزعمهم ان لمنطقة القدس وما يحيط بها مكانة دينية خاصة لهم، لما تحفل به من ذكريات عن حياة يسوع. وقد استقرت في هذه المنطقة جمع يمثل ست طوائف نصرانية هي: اللاتين - أتباع الكنيسة الرومانية - والروم الأرثوذكس، والأرمن والسريان والأقباط والأحباش وكانت الكنائس الثلاث الأخيرة قد دخلت بسبب من ضعفها تحت حماية الأرمن الذين لم يكن للباب العالي غنى عنهم، بسبب إخلاصهم للدولة، وبسبب دورهم الاقتصادي في العالم الإسلامي. ومهما كان عليه الأمر، فقد بقيت الكنيسة الأرثوذكسية أسمى هذه الكنائس رتبة بوصفها ممثلة لعشرة ملايين من رعايا السلطان الأرثوذكسيين، وبسبب حماية الروسيا لها أيضا. وكان رجال الأكليروس اللاتيني، ومعظمهم من أصل إسباني وإيطالي، يتمتعون بامتيازات أجنبية وبحماية وزارة الخارجية الإفرنسية. والواقع أن هذه الطوائف المختلفة كانت بحكم العادة، لا بحكم القوانين والأنظمة المكتوبة، تتمتع بحقوق متعارف عليها. ولم تكن هذه الحقوق على كل

حال محددة بعضها بالنسبة إلى بعضها الآخر، تحديدا واضحا، ومن هنا فكثيرا ما احتكمت الطوائف النصرانية إلى السلطات الإسلامية لحل خلافاتها. وفي كنيسة القيامة ببيت المقدس، وكانت ملكا مشتركا بين جميع الطوائف، لم يكن من النادر أن تنشب أعمال العنف والاقتتال بين رجال الدين، الذين تميز عددهم بالوفرة بقدر ما تميزت مهامهم بالضآلة، حتى لقد كان الحرس التركي هو المسؤول عن الأمن والنظام في القبر المقدس طوال أيام عيد الفصح. حدث في صيف سنة (1847) أن فقدت في كنيسة المهد في بيت لحم نجمة مزخرفة بالنقوش الفضية، كانت معلقة فوق مسقط رأس المخلص، فاتهم الأرثوذكس بنزعها. ولكن السلطات التي كلفت بالتحقيق لم تقطع برأي جازم في هذا الحادث. وفي سنة 1849، وعندما تسرب النفوذ الأكليركي كرة أخرى إلى الحكومة الإفرنسية، اتخذت هذه الحكومة من ذلك الحادث ذريعة لمقاومة النفوذ الروسي في الشرق. وهكذا، أمرت سفيرها في إستانبول بأن يطالب، استنادا إلى إمتياز ممنوح منذ سنة 1740، بتوسيع حقوق اللاتين التقليدية توسيعا كبيرا. ولكن الروسيا تهددت الباب العالي بقطع العلاقات الديبلوماسية إذا ما أدخل أي تعديل على الوضع الراهن في الأماكن المقدسة. وبعد مفاوضات واجتماعات لجان تطاولت نحوا من سنتين، قرر السلطان إبقاء القديم على قدمه في القدس. على أن يعطي اللاتين المفاتيح الثلاثة الخاصة بالأبواب الرئيسة للكنيسة العذراء، وبالسراديب القائمه تحت كنيسة المهد، في بيت لحم. ورغم كل شيء، فقد ظل مفتاح المدخل الرئيسي إلى كنيسة المهد من جهة الغرب في غير حوزة اللاتين، ومع ذلك، فقد اضطر السفير الإفرنسي

إلى أن يعلن ارتياحه لهذا الإمتياز السخيف، وهو الذي أقام الدنيا وأقعدها قبل ذلك، منذرا بالويل والثبور وعظائم الأمور، لأن كرامة إمبراطوره قد امتهنت. ولكن الروسيا وطنت العزم على استغلال هذه الفرصة للقضاء على نفوذ عدوتها السياسي في الشرق. فاحتالت لحمل الباب العالي على أن يوعز لمتصرف القدس بأن يوضع للاتين في القدس لدن تسليمهم المفاتيح، أن هذا الإجراء لا يفيد أن لهم الحق في الدخول من الأبواب. ليس هذا فحسب، بل لقد أصدر السلطان أمره أيضا بتدوين جميع حقوق الأرثوذكس في الأماكن المقدسة، في سجلات محاكم المدينة، واعتبار كل مطلب آخر من مطالب اللاتين باطلا. حتى إذا مرت فرنسا بهذا التحدي أيضا مرا هادئا، طالب القنصل الروسي العام في فلسطين بأن يتلى فرمان الباب العالي. الجديد، في القدس، علانية. ولقد احتج السفير الإفرنسي على هذا، وتهدد الدولة بإلقاء الحصار على الدردنيل إذا ما نزلت بعد اليوم عند إرادة الروسيا. حتى إذا تجاهلت الدولة هذا الإنذار، وأذعنت لمطالب الروسيا، لم تجرو فرنسا هذه المرة أيضا، على أن تصنع شيئا. لم تقنع روسيا بما أحرزته من نصر، فتمادت في طلباتها، وأرسلت سفيرا فوق العادة إلى إستانبول، طالب الباب العالي بتسوية مسألة الأماكن المقدسة عن طريق معاهدة خاصة مع الروسيا، وبأن يعترف بالبطريرك الأرثوذكسي رئيسا روحيا مستقلا. ورفض الباب العالي هذه المطالب التعسفية الجائرة، فغادر السفير (منشيكوف) إستانبول. وفي 26 حزيران - يونيو - 1852، وجه القيصر نيقولا الأول، رسالة إلى شعبه أعلن فيها: (أن الروسيا تضطلع منذ القدم بواجب الدفاع عن الأرثوذكسية. وإن هذا الواجب قد ألزمه، بعد أن

تدخل الباب العالي في حقوق الكنائس الشرقية، بأن يبعث بجيوشه إلى إمارات الدانوب، لا لكي تشهر حربا، ولكن لكي تحصل على ضمانة لإعادة هذه الحقوق السليبة) وبعد أسبوع عبرت الجيوش الروسية نهر البروات. وبدأت (حرب القرم) التي وقفت فيها إنكلترا وفرنسا إلى جانب تركيا، واستمرت الحروب حتى 28 تشرين الثاني - نوفمبر - 1855. كانت نتائج حرب القرم كثيرة، لعل من أبرزها إفادة الدول الغربية من هذه الفرصة أيضا للمزيد من التدخل في شؤون الدولة الإسلامية. ففرضت على السلطان إصدار (منشور إصلاحي) عرف باسم (خط همايون) وذلك في شهر شباط (فبراير) 1856 وأكد السلطان فيه الحقوق التي سبق له أن منحها لرعايا الدولة في الخط الشريف المعروف باسم (كلخانة). وبموجب هذه الوثيقة، لم تبق المسائل المدنية الخاصة بالرعايا النصارى منوطة برجال الدين دون غيرهم، شأنها من قبل، بل عهد في إدارتها إلى مجلس مختلط من المدنيين والأكليركيين ينتخبه الشعب بنفسه. وأزيلت نعوت (التحقير) التي كانت تتردد حتى ذلك الحين على لسان الخطباء في يوم الجمعة ضد النصارى والكفار. ليس هذا فحسب، بل لم يعد بالإمكان إكراه المسلمين الذين يعتنقون النصرانية على الارتداد، كما كان عليه الموقف من قبل. وفتحت أبواب الإنتساب إلى معاهد التعليم الرسمية (الخاضعة لتوجيه المبشرين). وبالتالي إلى وظائف الدولة المدنية، في وجه النصارى، وفرضت عليهم الخدمة العسكرية أيضا. وكانت من قبل امتيازا خاصا بالمسلمين باعتبار الجهاد في سبيل الله فرضا من فروض الإسلام، ولكن النصارى منحوا حرية دفع البدل العسكري. ووعدوا بأن يمثلوا ثمثيلا أكثر فاعلية من قبل في

مجالس الولايات والمجالس المحلية. وسمح للأجانب بامتلاك الأراضي على شروط معينة. وأخيرا وضع السلطان نظاما للضرائب، وميزانية سنوية، مع اتخاذ التدابير لقطع دابر الرشوة. لم تتقبل الرعية إعلان (خط همايون) بمثل الحماسة التي تقبلت بها الخط الشريف الكلخاني في الماضى. إذ وجد المسلمون فيه انتهاكا صارخا لحقوق المسلمين في ديارهم وأوطانهم. وأما النصارى فلم يتوقعوا الحصول على فوائد عملية من القوانين الجديدة. وزادت الشكوك بقيمة هذا المنشور وفائدته عند المسلمين والنصارى على السواء. لأن فرض مضمونه من قبل الدول الأوروبية لم يكن خافيا على أحد. عقد بعد ذلك موتمر باريس في آذار - مارس - 1856 لتسوية المشكلات الناجمة عن حرب القرم. وظهر أن الشرق سيعيش فترة من الهدوء والاستقرار. غير أنه لم تمض أكثر من أربع سنوات حتى وجدت الدول الأوروبية فرصة جديدة للتدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية - الداخلية - وذلك بأن نظام الحكم الثنائي الذي أنشىء في لبنان، ساعد على قيام حالة من الصراع المستمر بين الدروز والموارنة. وانفجرت نار الحرب الأهلية كرة أخرى في نوار - مايو - 1860. وطغت على البلاد موجة من التقتيل والنهب دامت حتى شهر تموز - يوليو - وانتقلت الحرب الأهلية في لبنان من الجبل إلى السهل حتى وصلت دمشق. وانبرى الأمير عبد القادر الجزائري لبسط حمايته على النصارى، يساعده في ذلك إخوانه من المهاجرين الجزائريين. وترددت أصداء هذه الحرب في فرنسا بصورة خاصة. ووجه الباب العالي حاكما مزودا بسلطات واسعة (اسمه فؤاد باشا). كما أرسلت

فرنسا حملة إلى سوريا تضم ستة آلاف جندي. وأصدر القضاء أحكاما قاسية جدا على زعماء الثورة في لبنان ودمشق. ومهما يكن من شيء، فقد وجد الدروز تأييدا عند الإنكليز الذين كانوا في حاجة إليهم كقوة يلقونها في الكفة الأخرى من ميزان التنافس الدولي في لبنان، بعد أن شملت فرنسا النصارى بحمايتها. والواقع، فإن الاحتجاج البريطاني حال دون مواصلة حملة الإعدام التي كانت قد شنت على زعماء الدروز. وأبعد (2491) درزيا إلى طرابلس، ولكنهم ما لبثوا أن منحوا بعد خمس سنوات حرية العودة إلى بلادهم. وجدت فرنسا في الحرب الأهلية في سوريا (طوشة النصارى 1860) فرصة لتحقيق هدف مزدوج أولهما: إحياء فكرة القومية العربية بالترويج لإقامة دولة عربية في بلاد الشام بعد أن فشل محمد علي باشا في تحقيقها. وثانيهما: دعم وجودها بالجزائر عن طريق دعم الأمير عبد القادر الجزائري وعن طريق تطوير نفوذها في المشرق الإسلامي. وهكذا، وعلى أثر طوشة النصارى، وطوال الفترة ما بين سنة 1860 - 1865، اجتاحت فرنسا حملة سياسية صورتها المقولات التالية: (عبد القادر ملك مملكة عربية في المشرق) و (عبد القادر حاكم سوريا ونائبا عن الملك). ولقد كانت مثل هذه المقولات مرتبطة في أذهان رجال الصحافة والإعلام من الإفرنسيين بمبدأ (إقامة إمبراطورية عربية) أو التأكيد على فكرة (الحقوق الوطنية العربية). التي أخذت بالترويج لها - خاصة - صحيفة (بيرغس باريس) (¬1) غير أن ¬

_ (¬1) POLITIQUES COLONIALES AU MAGHREB CHARLES ROBERT P.P 93 - 108 وفيها: ص93 - .............. إن مجلة بيرغس

هذه الصحيفة وما تحمله من أفكار لم تلق استجابة مناسبة في بلاد الشام، وهذا ما تؤكده رسالة الأمير عبد القادر للصحيفة المذكورة، والتي تم نشرها في عدد 10 حزيران (يونيو) وفيها: (لقد قدمتم نصائحكم الغالية، وعليكم سماع الرد: لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي والتقطت صحيفة (لوكورييه دوهافر) هذه النقطة لتنطلق منها في حملتها الإعلامية لمصلحة الأمير عبد القادر. وذلك بعد أن عملت على نشر رده السابق في عددها الصادر يوم 13 تموز - يوليو - 1860. وهنا يمكن التسائل عما إذا كانت فكرة القومية العربية والدولة العربية التي ظهرت في هذه الفترة إنما هي نكوص للفكرة النابوليونية - البونابرتية - والتي وجدت لها طريقا في سياسة نابليون الثالث؟ كان نابليون بونابرت هو أول رئيس دولة في العالم الغربي فكر بإمكانية بعث

_ = باريس أو نسر باريس (L'AIGLE DE PARIS) BIRGYS PARIS: كانت مجلة تصدر باللغة العربية، ترأس تحريرها رشيد الدحداح، وكان يتم تقديمها على أنها صحيفة عربية وطنية، ولكنها كانت جريدة رسمية. وهو ما تؤكده قراءة هذه الصحيفة نصف الإسبوعية التي بلغ عدد نشراتها (179) عددا ما بين حزيران - يونيو 1859 وحتى 1866. حيث يظهر بوضوح أنها لم تكن أبدا صحيفة وطنية أو عربية - إلا في لغتها - وإنما كانت صوتا تابعا لجهاز الدعاية الكاثوليكية الموجهة إلى السوريين قبل كل شيء، ويديرها القس ف. بورغاد F.BOUGERDE مدير معهد سان لويس، في تونس، وقدأسس إتحاد سان لويس بهدف (نشر الحضارة المسيحية بين المسلمين) عن طريق المؤلفات المكتوبة أو الترجمات المنتقاة والمنقولة إلى اللغة العربية. وضمت جمعية سان لويس في عضويتها عددا كبيرا من القسس والشخصيات البارزة في الإمبراطورية الإفرنسية سنة 1860. وكانت صحيفة (برغس باريس) تترجم إلى اللغة العربية ما…يجب تقديمه للعرب والشرقيين (من أفكار فرنسية عالية) وقد طالبت الصحيفة السوريين (باتباع سياسة حضارية معتدلة إذا ما استمرت الأمور الراهنة على ما هي عليه. ذلك لأن الحكومة العثمانية تسير نحو الدمار، وستدمر معها سوريا، غير أن هذه ستعود بعدئذ إلى طريق الرفاهية - عدد 25 نيسان - إبريل - 1860).

إمبراطورية عربية ودولة يهودية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. ولعل نابليون الثالث اعتقد أن من واجبه، ومن مصلحة فرنسا أيضا، المساعدة على بعث الإمبراطورية العربية. وإذا كان نابليون بونابرت قد عجز عن التعاون مع شخصية إسلامية مناسبة، للقيام بأعباء هذه الدولة تحت هيمنته. فإن باستطاعة نابليون الثالث (على ما يعتقد في نفسه) الاعتماد على عبد القادر حتى يصبح بطل هذه القضية. ولا بد من القول قبل كل شيء بأن تدخل الحكومة الإفرنسية في سوريا سنة 1860 (أثناء طوشة النصارى) قد اشتمل على مخطط (لإقامة مملكة عربية تحت حكم عبد القادر) أو (بعيينه قائدا لها ببساطة). وقد وضع نابليون الثالث باعتباره ما قام به الأمير عبد القادر أثناء الحرب الأهلية سنة (1860). ولقد ظهرت تناقضات كثيرة في تفسير علاقات الأمير عبد القادر بفرنسا، وزاد الأمر غموضا واضطرابا بسبب الترجمة الإفرنسية السيئة والمتعمدة لأعمال الأمير وأقواله ونواياه. المهم في الأمر؛ هو أن مذابح سنة (1860) في سوريا ولبنان قد أسقطت (21،900) قتيلا وفقا لما تذكره المصادر الكاثوليكية، أو (11،500) قتيلا بحسب ما تذكره المصادر العثمانية. وقد برز من خلال هذه المذابح اسم الأمير عبد القادر الذي استطاع إنقاذ (5 - 10) آلاف مسيحي في دمشق. وكان تدخله الشجاع سببا في حقن دماء الآلاف من المسيحيين ولم يزد عدد الجزائريين العاملين تحت قيادة الأمير عبد القادر على (800) رجل مسلح، بعضهم من الفرسان. واستطاع هؤلاء بسط حمايتهم على ثمانية آلاف مسيحي، أرسل إلى بيروت منهم كل من رفض البقاء في مدينة دمشق. ومعروف أن وزير الحربية الإفرنسية آنذاك، سمح بتجنيد الجزائريين وإرسالهم كقوة جديدة

واجبها دعم الأمير في سوريا. هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد أمنت السلطات المحلية (العثمانية) للمهاجرين الجزائريين كل التسهيلات الممكنة للوصول إلى سوريا. وبالإضافة إلى ذلك، فقد قدم القنصل الإفرنسي في دمشق إلى الأمير عبد القادر ما يكفيه من الأموال والبواريد لتسليح ألف جزائري. وعلى كل حال، فإن الأمير عبد القادر لم يكن يرمي إلى خدمة فرنسا أو خيانة المسلمين، وهو ما تؤكده رسالته التي كتبها في 15 آب - أغطس - 1860 وفيها: (إن ما قمنا به تجاه المسسحيين هو أمر يفرضه الدين وتفرضه الإنسانية) وكذلك قوله للمسلين الثائرين في دمشق: (حذركم مما تفعلون. إنكم تلطخون شرف الإسلام وستضيعون أنفسكم ومدينتكم معكم، إذ أن أوروبا لن تقف غير مبالية تجاه ما يرتكب هنا من الجرائم ضد المسيحيين. فكروا قليلا، ولا تسمحوا للفرصة حتى يأتي قسيس ليقيم في مسجدنا الكبير الذي كان كنيسة من قبل) (¬1). غير أن فرنسا لم تكن تنظر لأعمال الأمير عبد القادر وأقواله، إلا من خلال أهدافها وسياساتها الخاصة. وهكذا أخذت الصحافة الإفرنسية في قرع الأجراس منذ يوم 9 تموز - يوليو - 1860 مطالبة بالتدخل العسكري في سوريا. وفي يوم 17 تموز - كتبت الصحافة الإفرنسية: (بأن التدخل الإفرنسي في سوريا إنما يعتمد على الأمير عبد القادر) وفي صحيفة: (لوكورييه دو هافر) (¬2) عدد يوم 13 تموز - يوليو - 1860 جاء ما يلي: (تقضي الظروف الراهنة، ويتطلب تحقيق العدالة (؟) العمل بسرعة لتسمية الأمير عبد القادر نائبا لملك فرنسا - ¬

_ (¬1) السياسات الاستعمارية في المغرب - شارل روبرت - ص 95 و 96. (¬2) LE COURRIER DE HAVRE

في سوريا) وتحت عنوان (صرخة الدم) في العدد ذاته جاء ما يلي: (سلموا الأمير عبد القادر قضية تهدئة سوريا بصورة فورية، وسينفذ ذلك بصورة ناجحة، وبأقل حد ممكن من العنف. إنه رجل مؤمن وعالم ومحارب، وإذن، فهو الرجل الذي يمكن للمسلمين الخضوع له. والذي يستطيع أن يفرض عليهم متطلبات العصر والحضارة). تلقت الصحافة الباريسية هذا الموضوع، وأخذت في الترويج له، فطالب بعضها (بإقامة حكومة قوية ومتحضرة للعمل مع الأمير عبد القادر) في حين طالب بعضها الآخر: (بتنصيب الأمير عبد القادر نائبا لملك فرنسا على أن يبقى تابعا للسلطان). وكتبت صحيفة (بيرغس باريس) في عددها الصادر في نهاية شهر تموز - يوليو - ما يلي: (ليس هناك من هو أجدر من الأمير عبد القادر برئاسة حكومة دمشق، إذ أنه يمتلك جميع الفضائل المناسبة للسلطة. إنه شجاع وحازم وعالم وسياسي وذكي وليس هناك من هو أفضل منه لتحقيق السلام في سوريا). ولقد عكست الصحافة الجزائرية أصداء هذه الدعاية الإفرنسية، فكان مما كتبته: (إن إقامة إمبراطورية جديدة في المشرق يكون الأمير رئيسا لها هو الحل للمسألة الشرقية التي تسببت في حدوث صراعات كثيرة، أهرقت فيها دماء غزيرة). وأخذت فكرة الدعاية: (لإقامة إمبراطورية عربية بقيادة الأمير عبد القادر) تنتشر في كل مكان. وظهر مشروع فرنسي أعلنته صحيفة فرنسية يقضي: (بقيام فرنسا ببذل الجهد لإقامة إمبراطورية عربية تضم من 10 - 12 مليون عربي، على أن تكون هذه الإمبراطورية معزولة عن مصر، وتحت قيادة الأميرعبد القادر، ويكون من واجبها ضمان الحقوق المدنية والسياسية لكل أفراد الشعب، للمسلمين كما لغيرهم، وفقا للنموذج الإفرنسي الذي وضعه نابليون بونابرت، ويكون لهذه الإمبراطورية عاصمتان،

إحداهما سياسية في بغداد والأخرى دينية في مكة .. على هذا الأساس، وانطلاقا من هذه الفكرة، توجهت الحملة الإفرنسية إلى لبنان بقيادة الجنرال (بوفورت دوتبول) (¬1) بعد أن قابل قائد الحملة الإمبراطور نابليون الثالث وتلقى تعليماته يوم 2 أب - أغسطس - 1860. ولم تعرف هذه التعليمات، غير أن الأمر المعروف هو أن الحملة وصلت إلى بيروت يوم 20 آب - أغسطس -. ولما كان من الصعب على قائدها التوجه إلى دمشق لمقابلة الأمير عبد القادر. فقد أوفد إليه المقدم (شانزي) (¬2) يحمل رسالة إلى الأمير (يؤكد فيها رغبته بتوثيق عرى الصداقة معه). ترى هل كان لدى فرنسا فكرة واضحة عن (الإمبراطورية العربية التي تزعم أنها تريد إقامتها؟) هذا ما تبرزه رسالة وزير الحربية الإفرنسية إلى (الجنرال بوفورت) بوم 22 أيلول - سبتمبر - والتي جاء فيها: (هل تعتقد إنه باستطاعة الأمير عبد القادر تشكيل حكومة في سوريا؟ وهل تعتقد أن مراكز القوى الممثلة في بيروت تريد - أو توافق على مثل هذا التعيين؟. إنني لا أبحث عن وسيلة لتحقيق تطلعاتنا في المستقبل، وهي التطلعات المرتبطة بامتلاكنا لأفريقيا. إنني لا أريد إلا وسيلة تضمن في الوقت الراهن الوصول إلى تسوية سلمية ودائمة في سوريا. ويخيل إلي انطلاقا من هذه الفكرة أن عبد القادر هو أفضل من يمكن اعتماده بسبب الشهرة التي اكتسبها في الجزائر، وبسبب دوره الشجاع في الظروف الأخيرة) (¬3) ويتابع الجنرال (بوفورت) ¬

_ (¬1) بوفورت دوتبول: (BEAUFORT D'HAUTPOUL). (¬2) المقدم شانزي: (LT.COL.CHANZY). (¬3) السياسات الاستعمارية في المغرب - شارل روبرت - ص 101.

تقويمه للموقف فيقول: (إني لا أعتقد بأن الدول الكبرى توافق عل إقامة حكومة برئاسة الأمير عبد القادر تشمل سلطتها سوريا كلها. كما أن الحكومة التركية لا توافق على ذلك أبدا. وقد يكون بالمستطاع تعيينه حاكما على (دمشق) وأن تمتد سلطته لتشمل عكا والجليل. غير أنه ما من وسيلة لإقناع أوروبا المسيحية بتسليم القدس لحكومة مستقلة. ويمكن للدولة العربية برئاسة عبد القادر أن تبسط نفوذها بعد ذلك على مدينة حلب وجزء من شمال سوريا، لتشكل نواة الإمبراطورية العربية التي تمتد بصورة تدريجية حتى بغداد والبصرة) أما بالنسبة للبنان: (فإنه يجب إقامة لبنان الكبير والمستقل، والذي تحكمه حكومة مسيحية برئاسة الأمير مجيد شهاب) ويذكر هنا أن أرملة بشير عمر شهاب كانت قد قدمت إلى الحكومة الإفرنسية قصرها وكذلك قصر (بيت الدين). وكتب بوفورت رساله في 6 تشرين الأول - أكتوبر - 1860 جاء فيها: (يجب ألا ننسى أن الأمير عبد القادر هو إنسان مسلم قبل كل شيء). ولقد أرادت فرنسا على ما هو واضح إسخدام الأمير عبد القادر كعميل لها، غير أن الأمير قاوم المحاولات الإفرنسية باستمرار. وهكذا فعندما استشير في أمر حضور قوة فرنسية إلى دمشق لإجراء عرض فيها، كان رد الأمير: (إن حضور قوات فرنسية إلى دمشق هو أمر خطير جدا، لأنه يستثير مشاعر المسلمين). غير أن فرنسا قد نجحت في الواقع - جزبيا - بتحطيم هالة البطولة والشرف التي أحاطت به، ففي الجزائر، أخذ الجزائريون من رجال القبائل يرددون: (إذا كان باستطاعة الأمير حماية المسيحيين في الشام، فلماذا لا يعمل على حماية الملمين في الجزائر). أما في دمشق، فقد قال المسلمون للأمير عبد القادر: (هل تريد تسليم بلدنا إلى الإفرنسيين

كما سلمت لهم بلادك الجزائر؟) (¬1) ولكن مقابل ذلك، فإن تعاظم قدرة الأمير حملت إلى القبائل الجزائرية، أو بعضها، الأمل في عودة عبد القادر للعمل مع إخوانه في قيادة الصراع ضد الإفرنسيين. وهنا يظهر سؤال وهو: إذا كانت فرنسا تريد إقامة إمبراطورية عربية، فلماذا لا تنفذ ذلك في الجزائر التي أصبحت تحت حكمها؟ لقد طرحت هذه الفكرة في الواقع، عندما قام الأمير عبد القادر بزيارة لفرنسا سنة 1865. وظهر بوضوح عندها أن كل ما طرحته حكومة نابليون الثالث في هذا المجال، إنما كان: (للإفادة من الأمير عبد القادر لدعم قضية فرنسا) وإن هدف الإمبراطور هو: (إقامة حكم عربي على أنقاض الحكم التركي - المسلم) أو (قيادة ثورة ضد تركيا). وقد اصطدمت كل هذه المخططات برفض الأمير عبد القادر الذي حدد بنفسه ما يريده وذلك بقوله: (لقد حاربت فرنسا طوال خمسة عشر عاما، لأنني كنت أؤمن بأنها إرادة الله لضمان إستقلال وطني وحماية ديني. وعندما وجدت أن قواتي قد استنزفت، وإن القبائل الجزائرية قد امتنعت عن دعمي وتأييدي، وأن المغرب تريد تسليمي لفرنسا، عرفت أن دوري قد انتهى. وأنها إرادة الله هي التي تفرض علي إلقاء السلاح. وقد فعلت ذلك راضيا ومصمما على التفرغ للعبادة وإقامة الصلاة والاستمرار في دراساتي الدينية طوال ما تبقى لي من أيام على هذه الأرض). ¬

_ (¬1) المرجع السابق - ص 96 و103 و107 .

4 - البدايات الأولى للصهيونية وقف نابليون بونابرت أمام أسوار عكا، وقد عجز عن اقتحامها، فحاول الاستعانة بيهود يافا وحيفا والقدس لمساعدته من أجل فتح المدينة الصامدة، ووجه يوم 4 نيسان ; إبريل - 1799 بيانا جاء فيه: (.. يا ورثة فلسطين الشرعيين، يا أبناء الأمة العظيمة، هذا بيان أوجهه إليكم لاستعادة ما استلب منكم، أسرعوا، فقد أزفت اللحظة المناسبة حتى تستعيدوا حقوقكم المدنية، وحتى تنتقموا لأنفسكم، وتحققوا وجودكم السيايي كأمة، وإلى الأبد دونما ريب) (¬1) لقد كانت صرخة نابليون للاستغاثة باليهود واستخدامهم في الحملة الصليبية الجديدة، هي باكورة التطورات اللاحقة والتي تطورت بسرعة في إنكلترا، حيث ظهر كتاب يحمل عنوان (بعث اليهود - أزمة كل الأمم - لمؤلفه جيمس بيشنو) (¬2) وذلك في سنة 1800 وتضمن الكتاب نداءا لبعث اليهود اعتمادا على نبوءات التوراة، ويقدم الحل للأزمات التي كانت تأخذ بخناق البلاد المسيحية ¬

_ (¬1) CITATION TIRE DE (A «OUI LA PALESTINE ?) DE.J.P.MIGEON ET . J. JOLLY EDIT: J. LANZAMANN, PARIS. 1970. (¬2) THE RESTORATION OF THE JEWS, THE CRISIS OF ALL NATIONS BY JAMES BICHENO.

والإمبراطورية العثمانية. وحتى يتم لفت أنظار الرأي العام البريطاني لمضمون هذا الكتاب، قام رجل اسمه (ويزربي) بوضع كتاب حمل عنوان (برسم اليهود - ملاحظات حول كتاب بيشنو) (¬1) وقد تضمن الكتاب رفضا لكل تغيير، أو تمردا على الكنيسة الرومانية. واعترض (ويزربي على رؤى بيشنو) غير أن هذا لم يستسلم، واستمر النقاش بينهما، فأمكن بذلك توسيع نطاق الجدل الذي اشتركت فيه دول وحكومات بات تزاحمها على الشرق واضحا جدا. وكان (بيشنو) قد عبر في كتابه الأول عن أمله في أن تكون فرنسا هي الأداة التي سخرتها (العناية الإلهية) لتحقيق هذه العودة إلى فلسطين، وفي رده على (ويزربي) الذي صدر سنة 1804 - في كتاب - حمل عنوان (محاولة لإزالة الإجحاف اللاحق بالأمة اليهودية) (¬2) سعى (بيشنو) إلى إحلال الحوار مكان الخصام. وكان قد تغير محط آماله السياسية. فلم يعد يبدو أن فرنسا نابليون ستوفر شروط تحقيق هذا العمل. كما ظهر أن رجوع كل اليهود إلى فلسطين غير ممكن. مما جعل القضية الآن قضية عودة جزئية فقط، وذلك بفضل (تقوى) الدول البروتستانتية هذه المرة، خاصة وإن مبادرة نابليون لجمع المجلس الأعلى لليهود القدماء، بغية تحويلهم إلى أداة لسياسته كانت قد انتهت إلى الفشل. كانت هذه الأفكار التي تدور حول رجوع (الأمة اليهودية) إلى فلسطين، والتي بثت بين الجمهور الإنكليزي قد أخذت تشق طريقها وتستأثر بالاهتمام. ولم تكن الأوساط البريطانية الحاكمة وأجهزة ¬

_ (¬1) DEDICATED TO THE JEWS OBSERVATION ON MR . BICHENO’S BOOK. (¬2) ANATTEMP TO REMOVE PREJUDICES CONCERNING .THE Jewish NATION

استخباراتها بعيدة عن تحريض هذا الموضوع وإثارته. وعلى كل حال، فقد يكون من غير المهم متابعة الحوار التمهيدي الذي كان يدور في أوساط الغرب، المهم في الأمر هو الانتقال لمسرح العمليات في فلسطين، حيث ظهرت البواكير الأولى لتنفيذ المشروع الصهيوني وذلك عندما قام المبشر الإنكليكاني (نيكولايسون) بشراء قطعة أرض في جبل صهيون لبناء هيكل عبادة إنكليكاني. (في 23 كانون الثاني - يناير - 1838) وتبع ذلك تعيين قنصل إنكليزي في القدس (19 أيلول - سبتمبر - 1838) وقد اصطدمت إقامة هاتين القاعدتين من قواعد النفوذ السياسي - الديني لبريطانيا في القدس، بعقبات كثيرة لكنها تمكنت من التغلب عليها وتجاوزها. ومن المعروف أن (نيكولاسون) ظل طوال أكثر من عشر سنوات وهو يمارس نشاطه في المدينة المقدمة بين اليهود، تحت إشراف (الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهود) (¬1). لقد حددت أهداف إقامة الدولة اليهودية في فلسطين منذ البداية وفقا لما تؤكده الكتابات التي طرحت في تلك الفترة من بداية القرن التاسع عشر، ومنها على سبيل المثال المقولة التالية: (عندما تصبح فلسطين المكان المميز والطبيعي لتجمع اليهود الجدد، وكمستعمرة للإقتصاد الإنكليزي الذي كان يسير في طريق التوسع) وعلى هذا الأساس أقيمت الكنيسة الإنكليكانية بهدف تحسين أوضاع اليهود اجتماعيا ودينيا، حتى تقام كل يوم الطقوس الدينية باللغة العبرية تشجيعا لهذا العمل ... وأخذ العمل يسير على قدم وساق، حيث شكلت طائفة صغيرة ولكنها متدينة جدا، من اليهود - ¬

_ (¬1) LONDON JEWISH. L.J.S

المسيحيين المهتدين، وأخذت تستمع يوميا في هذه المدينة المقدمة إلى الحقائق الإنجيلية بلغة الأنبياء وبروح الرسل. وهكذا كان إنشاء الكنيسة اليهودية - المسيحية الجديدة، هو: (أحد الأحداث الأكثر إثارة للاهتمام في التاريخ المعاصر، فإلى جانب الأرثوذكس والكاثوليك والأرمن والأتراك، جاء إبراهيم باشا وأعطى اليهود نفس الامتيازات. وبذلك كانت مذاهب الإصلاح الإنكليكانية الوحيدة التي لم تكن ممثلة حتى ذلك الحين بين كل هذه المذاهب الفاسدة) وأخذت وزارة الخارجية البريطابية في إظهار اهتمامها المتعاظم والشديد بمصر يهود فلسطين: (إذ أنه من حق الشعب اليهودي في أن يكون له مكان في الإمبراطورية العثمانية الشاسعة. وأنه ليس هناك شعب في العالم حتى الآن قد أسيء فهمه، وتجوهلت حقيقته كهذا الشعب. وبدأت مرحلة جديدة في العمل، ففي يوم 31 كانون الثاني - يناير - 1840، أعطى المسؤول عن الخدمات القنصلية، تعليمات محددة إلى نائب القنصل الإنكليزي الجديد في (القدس) بناء على تعليمات بالمرستون: بأن يعتبر حماية اليهود واجبا من واجبات الدولة البريطانية. وكان عليه، بالإضافة إلى ذلك، أن يزود وزارة الخارجية البريطانية بأسرع وقت ممكن بمعلومات دقيقة عن حالة السكان اليهود في فلسطين (¬1) وبدأت تقارير نائب القنصل البريطاني، تصل بشكل منتظم إلى وزارة الخارجية البريطانية، وهي تضم كافة المعلومات المتعلقة بأوضاع اليهود والبروتستانت التجارية منها ¬

_ (¬1) أوروبا ومصير الشرق العربي - حجار - ص 230 - 1 23. ومن الملاحظ اعتماد السياسة البريطانية اصطلاح (الشعب اليهودي) الذي لم يكن له وجود، إلا على شكل أقليات ممزقة في العالم كله.

والسياسية، وعلى كل حال، فلم يكن القنصل هو الوسيلة الوحيدة التي اعتمدتها الخارجية البريطانية للحصول على ما تريده من معلومات، ففي تلك الفترة، كان هنالك إنكليز آخرون يجوبون فلسطين أيضا، وهم يقومون بتنفيذ مهمة مماثلة كلفوا بها من قبل الجمعية العمومية لكنيسة اسكوتلندا ; وكان هؤلاء يجتمعون بعضهم ببعض لتبادل المعلومات وتنسيق الأعمال وكتابة التقارير بصورة مشتركة. وكانت هيئة (الجمعية العمومية للكنيسة الإسكوتلندية) تعمل في فلسطين بالتعاون الوثيق مع (الجمعية اليهودية اللندنية) التي كان أفرادها يعملون كأدلاء، وكان من الواضح على هؤلاء سعادتهم بما كانوا يضطلعون به في عملهم التبشيري في كتاب بعنوان: (تقرير بعثة الكنيسة الإسكتلندية الاستقصائية حول أوضاع اليهود في العام 1839) ولاقى الكتاب نجاحا كبيرا، وأعيد طبعه ثلاث مرات في نفس السنة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت الدعوات توجه من كل الجهات إلى المؤلفين للتحدث عن رحلتهم المثيرة وعن الاهتمام الذي كانوا يظهرونه تحبيذ للبعثة اليهودية في فلسطين، ولاستعمار هذه البلاد من قبل (الشعب المختار). ويظهر أن كل ذلك لم يكن كافيا لإثارة الانفعال على المستوى العالمي لجذب الانتباه نحو مشروع (الشعب اليهودي). فتم اللجوء إلى الوسيلة التقليدية التي أتقنت السياسة الاستعمارية البريطانية - خاصة - استخدامها، وهي (الاضطهاد والاغتيال السياسي). وحدث في مطلع شباط (فبراير) 1840، أن اغتيل رئيس دير الفرنسيسكان الإسبانيين في دمشق على يد يهود، قيل أنهم استعملوا دمه في إقامة طقوس سرية لها علاقة بعيد الفصح. وكان هذا الكاهن من التابعية النمساوية واستخدمت هذه الحادثة بمهارة عالية، لتحريك الرأي العام الليبيرالي في أوروبا، في

وقت كانت الأزمة الشرقية قد بلغت ذروتها. وقد تدخل مترنيخ شخصيا في هذه القضية. واغتنمت الديبلوماسية الإفرنسية هذه الفرصة لتؤكد حقها في حماية المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية. وتشكلت محكمة ترأس القسم الأكبر من جلساتها قنصل فرنسا (راتي منتون) (¬1) وألقي بالعشرات من يهود دمشق في السجن وتعرضوا للتعذيب. وأفادت الأوساط اليهودية في أوروبا لتصعيد حملتها المزيدة لعودة اليهود إلى فلسطين، ووضعهم تحت حماية بريطانيا. وتزعمت (الجمعية اليهودية اللندنية) التظاهرة السياسية. وتحدت كل الذين كانوا يؤكدون بأن اليهود كانوا يقتلون المسيحيين ليستعملوا دمهم من أجل غايات دينية. وتضمن الاحتجاج الذي أصدرته هذه الجمعية: (إن هذه التهمة، التي كثيرا ما تأكدت في الماضي، ليست أكثر من كذبة غير معقولة. وقد أيد اليهود - المسيحيون (أو المهتدون الجدد) الإنكليز هذا الاحتجاج العلني الذي كان يحمل (57) توقيعا. وقد صاحبت هذه المبادرة حملة دعائية واسعة. فنظمت في لندن مظاهرات جماهيرية توجت بمذكرة وجهت إلى ملوك ورؤساء دول إنكلترا وإيرلندا وبروسيا وهولندا والسويد والنروج والدانمرك وهانوفر وفورتمبرغ والمقاطعات السويسرية والولايات المتحدة الأمريكية. كما وجهت أيضا إلى كبار ممثلي البروتستانتية العالمية الزمنيين. وقد حدث ذلك قبل ثلاثة أشهر من التوقيع على الحلف الرباعي. وانطلقت الصحافة البريطانية، والتي كان يوجهها (بالمرستون) لتطرح المقولات المختلفة المتعلقة بإقامة (الدولة اليهودية) و (إعادة اليهود إلى فلسطين). ومما قيل بهذا الشأن: (أن الحكومات البروتستانتية ¬

_ (¬1) راتي منتون (RATI - MENTON) .

بتشجيعها لعودة اليهود وإقامتهم في فلسطين، تكون قد قامت بأحد التزاماتها الدولية وأسهمت بعودة السلام إلى الشرق) و (إنشاء أو بالأحرى إحياء، مثل هذه المملكة هو ضرورة من ضرورات السياسة الشرقية، وتخدم مصلحة المملكة المتحدة - بريطانيا) و (لقد مهد اتفاق لندن في 14 تموز - يوليو - 1860 الطريق أمام هذا الأمل - أمل إعادة إقامة الدولة اليهودية - ويتطابق ذلك مع كلام الكتاب المقدس: لقد مهدت الطريق أمام ملوك الشرق ... اليهود) و (لقد تحمل اليهود في دمشق العقوبات التي نزلت بهم إثر اغتيال الأب الفرنسيسكاني توماس، غير أن العزاء في ذلك هو أن هذه القضية المحلية قد ساعدت على دفع الحركة الكبرى ليهود أوروبا من أجل الهجرة إلى فلسطين قدما إلى الأمام. وفي هذا المنظور كان دور محمد علي كحاكم عادل يفيد كثيرا هذا الشعب. أما العزاء الثاني فهو قيام بالمرستون بإرسال تعليماته للعمل لدى الباب العالي من أجل حماية اليهود وتشجيعهم). وقد استمرت البحوث والدراسات التي تسير في هذا الاتجاه، ومنها المذكرة التي تبناها (بالمرستون) وجاء فيها: (إن إقامة دولة يهودية في المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط والفرات يضمن فرصا لتحقيق نمو اقتصادي كبير. ويمكن تجاوز الاعتبارات التاريخية والأخذ بالمعطيات الاجتماعية والبشرية التي ترتبط بوجود هذه المنطقة وازدهارها. لقد أفقرت الظروف هذا البلد وجعلت من المحال استقلاله فمصادر رزقه شبه ناضبة بالمقارنة مع الثروات التي قد تمتلكها هذه المنطقة فيما لو أدخلت إليها الصناعة. إلا أن هذا يطلب يدا عاملة ورؤوس أموال ورساميل في الوقت ذاته. ويتطلب توظيف الرساميل بدوره، ضمانات أمنية بالنسبة للممتلكات أو الأرواح. ومتى تأمنت هذه الضمانات فإن حب الربح سيكون دافعا قويا لهجرة

اليهود ... وأن مثل هذه الفوائد المالية قد تكفي لتجذب إلى المنطقة أناسا يهمهم الثراء. وستفعل الدولة الكبرى التي ستحكم هذه البلاد حسنا إذا ما التزمت علانية بإدخال الإصلاحات الأساسية التي تساعد على إشاعة الثقة ونشر مبادىء الحضارة الأوروبية. وأخيرا، يجب أن ينظر إلى هذه البلاد من خلال (شعب محترم رغم أنه مشتت). إن الشعب اليهودي يميل إلى استرجاع أرض فلسطين , ولقد كانت كل ذكرى من الماضي وكل تطلع نحو المستقبل يحركان هذا الأمل. ولم يكن يمنع تحقيق هذه الأمنية سوى الخوف على الحياة وعلى الممتلكات. فإذا ما أصدرت الدولة الكبرى التي ستحكم المقاطعة السورية تشريعا عادلا، وإذا ما تعهدت بمنح حماية متكافئة لليهود ولغير المؤمنين بكفالة دول الحلف الرباعي. فقد يمهد الطريق عند ذلك لعودة اليهود. وتعود الثقة من جديد وتمسح البلاد محط أنظار حملة لواء المبادرة في العالم بأسره وبشكل خاص محط أنظار ثروة الشعب اليهودي). معروف بعد ذلك، إن الإمبراطورية العثمانية، على صعفها، وعلى تمزقها، قاومت بتصميم وعناد إقامة (الدولة اليهودية) أو السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين تنفيدا للمخطط البريطاني. ولكن تبقى هذه المحاولات واستمرارها مرتبطة بظاهرتين تاريخيتين، ظهور محمد علي واستعمار فرنسا للجزائر.

الفصل الثاني الوضع الخاص في الجزائر

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}. •---------------------------------• الفصل الثاني الوضع الخاص في الجزائر. السياسات الاستعمارية. آ - الهجرة والاستيطان. ب - القضاء على مقومات الأمة العربية - الإسلامية. ج - المسألة اليهودية - وقانون كريميو. د - التحريض الخارجي (البروسي - العثماني). هـ - الكوارث الطبيعية. و- الثورات التمهيدية .

السياسات الاستعمارية

السياسات الاستعمارية استسلم الأمير عبد القادر لفرنسا في سنة 1847، وتبعه باي قسنطينة بعد ثمانية أشهر، وظن الجنرال بيجو أن الأمور قد استقرت لفرنسا بصورة نهائية. فمضى يفرض الحكم العسكري في الأقاليم التي احتلتها القوات الإفرنسية. وبقيت مناطق القبائل الجبلية الممتدة بين سهل متوجة (متيجة) غربا، والقل شرقا وهي تنعم باستقلالها، وبعيدة عن الخضوع لسيطرة جيش الإحتلال. وأخذ المجاهدون في التوجه لهذه المناطق المستقلة ليجدوا فيها ملجأ وملاذا يحميهم من الخضوع (لأعداء الدين والوطن) أثناء ذلك، كانت الإدارة الإفرنسية العسكرية في الجزائر تتخبط باستمرار وهي في حالة من العحز عن تقديم الحلول المناسبة لما تجابهه من مشكلات ومصاعب، الأمر الذي عبر عنه أحد القادة الإفرنسيين في سنة 1851 بقوله: من سوء حظ مستعمرتنا - الجزائر - أنها تعرضت للتنظيم وإعادا التنظيم عشر مرات خلال فترة خمسة عشر عاما. وعلى الرغم من كل هذه التحولات المتتالية، فلا زال النظام يشكل المطلب الأول في طليعة الاحتياجات الرئيسية الكبرى للجزائر. وبات من المحال اليوم،

ضمان الاستقرار بدون إجراء تغييرات جديدة) (¬1). استجابت حكومة الإمبراطور (نابليون الثالث) لمتطلبات التغيير، فعينت (الجنرال راندون) (¬2) حاكما عاما على الجزائر في كانون الأول - ديسمبر - 1851. وتقدم (راندون) بمشروع يربط فيه التشريع في الجزائر بهيئة مركزية، وعرض هذا المشروع على وزير الحربية (سانت أرنود) (¬3) في 14 كانون الثاني - يناير - 1852. وأدخل وزير الحربية تعديلات أعلنها في 26 نيسان - إبريل - فأصبح المشروع يتكون من 28 فقرة، وأهمها المادة الثامنة التي تعطي رئيس الجمهورية حق إصدار التشريعات التي لا تعرض على مجلس الشيوخ، وإخضاع المستعمرة الجزائرية لإدارة الإمبراطور مباشرة. وعلى كل حال فقد رفض هذا المشروع يوم 7 تموز - يوليو - فتم وضع مشروع من 32 فقرة، يوم 13 تموز - يوليو - 1852 وعرض على مجلس الشيوخ للاطلاع عليه فقط، وقد تميز هذا المشروع بليبيراليته (تحرريته) وبمنح الأقاليم الجزائرية إدارة ذاتية (غير مركزية). ولكن (راندون) قيد هذا المشروع بأن فرض على حكام الأقاليم العودة إليه ¬

_ (¬1) السياسات الاستعمارية في المغزب - شارل روبرت اغرون - من 47. (¬2) الجنرال راندون (RANDON CESAR ALEXANDRE MARECHAL DE FRANCE) من مواليد غرونوبل (1795 - 1871) برز اسمه في حروب الجزائر، وكان له دور أساسي في إخضاع مناطق القبائل الكبرى، وأصبح وزيرا للحربية من سنة 1815 حتى سنة 1867. (¬3) سانت أرنود (ماريشال فرنسا SAINT ARNAUD ARMAND LEROY) من مواليد فرنسا (1801 - 1854) وهو أحد المنظمين الأساسيين لانقلاب 2 كانون الأوله ديسمبر؛ انتصر على الروس في معركة ألما (1854) وهي المعركة التي اشتركت فيها القوات الإنكليزية أيضا.

في كل الأمور والالتزام بتعليماته التنفيذية. ثم استقال (سانت أرنود) في آذار - مارس - 1854 وخلفه على وزارة الحرب الماريشال (فايانت) الذي كان يتوقع أن يصبح حاكما عاما على الجزائر. فأخذ في الاستماع إلى وجهات نظر مرؤوسه من القادة (الجنرالات) في كافة المواضيع المتعلقة بإدارة الجزائر ومن هنا بدأ بالاصطدام مع (راندون) والتصدي لمشاريعه. وأخيرا، وعندما حاول (راندون) وضع موازنة مستقلة للجزائر، تدخل (فايانت). (¬1) وأحبط له مخططه، فما كان من راندون إلا أن أخذ بالاتصال بالإمبراطور نابليون مباشرة من أجل تنفيذ رغباته بإعادة تنظيم الجزائر. ومن أجل توسيع صلاحيات الحاكم العام للجزائر. وهذا، وبينما كان راندون يقدم مشروعه تحت عنوان مبسط: (تحويل السلطات الإدارية المسندة حتى اليوم إلى وزير الحربية، ووضعها في قبضة الحاكم العام، كان فايانت يطرح مشروعه المضاد بالعبارات التالية: (لا يمكن للجزائر أن تكون إمبراطورية صغرى إلى جانب الإمبراطورية الإفرنسية ... ولقد شعرت الحكومات في كافة العصور وفي كل البلاد بالحاجة لإجراء توازن مع السلطات التنفيذية لممثليها فيما وراء البحار وقد تم لها ذلك عن طريق إجراء رقابة فعالة ومركزية على تلك السلطات التنفيذية) (¬2) وأمام هذا التناقض والتضاد، قرر نابليون الثالث تعيين وزير في حكومته باسم (وزير الجزائر) وظيفته التنسيق الإداري بين الإدارة الجزائرية والحكومة الإفرنسية وتم تعيين الأمير نابليون لمنصب إدارة الجزائر في23 حزيران ¬

_ (¬1) فايانت: (VAILLANT J.B. PHILIBERT) ماريشال فرنسا. ولد في ديجون (1790 - 1872) أصبح ماريشالا كبيرا في البلاط الإمبراطوري أيام نابليون الثالث، ثم وزيرا للحربية. (¬2) السياسات الاستعمارية في المغرب - شارل روبرت أغرون - ص 49.

- يونيو - 1858، غير أن هذا الأمير لم يتمكن من حل التناقضات القائمة بين هؤلاء المطالبين (بحكم مدني) وأولئك المطالبين (بحكم عسكري) فتم في21 تشرين الثاني - نوفمبر - 1858، تشكيل (هيئة استشارية عليا لشؤون الجزائر والمستعمرات). واستمر الأمير نابليون في عمله (وزيرا للجزائر والمستعمرات) مدة تسعة أشهر فقط، وجد نفسه في نهايتها عاجزا عن تحقيق أهدافه السياسية، فاستقال من منصبه وخلفه (شاملز لوبا) (¬1) الذي قام بتوسيع الحدود المحتلة، فزاد عدد المواطنين الخاضعين للاستعمار من (854،990) نسمة إلى مليون و (854،990) نسمة. واستعاض عن (المكاتب العسكرية العربية) (بالمكاتب المدنية العربية). كما عمل على إعادة تنظيم القيادات، واستبدال قادة بقادة. وكان ذلك كل ما فعله لتطوير نظام الإدارة في الجزائر الذي اعتبر إنتصارا للإدارة المدنية على الإدارة العسكرية. وتولى الماريشال راندون وزارة الحرب الإفرنسية في 5 أيار - مايو - 1859، فأخذ في العمل من أجل إعادة دور الإدارة العسكرية بحجة (الأوضاع الخاصة بالجزائر)؛ حتى إذا ما جاء يوم 24 تشرين الثاني - نوفمبر - 1860، ألغي منصب (وزير الجزائر) ¬

_ (¬1) شاسلو لوبا: (CHASSELOUP - LAUBAT). لم تكن له قوة شعبية جماهيرية بين رجال الاستعمار في الجزائر الذين رفعوا عريضتين إلى الإمبراطور نابليون الثالث يطالبون بإعادة تعيين الأمير نابليون وزيرا للجزائر، غير أن شاسلو لوبا أصدر يوم 7 أيلول - سبتمبر - 1859 قرارا منع بموجبه رفع مثل هذه العرائض. كما منع إرسال البرقيات في هذا الموضوع ذاته. ثم لم يلبث أن أصدر ثلاث قرارات دعمت سلطة الرجال الاستعماريين. كان تاريخ القرار الأول 16 آب - أغسطس 1859 لتنظيم الجزائر، وقرار 11 كانون الثاني - يناير - 1860 لتنظيم إقليم وهران - وقرار 27 شباط - فبراير - 1860 لتنظيم إقليم قسنطينة.

وأعيد التنظيم العام للحكومة لمصلحة (الماريشال بيليسيه) (¬1) الذي أصبح حاكما للجزائر يعاونه جهاز إدارة مدني، مع نواب للحاكم العام في الإقاليم. وحصل (بيليسييه) على سلطات واسعة، بما في ذلك تنظيم موازنة مستقلة بالجزائر. على أن يكون اتصال الحاكم العام للجزائر بالإمبراطور نابليون الثالث اتصالا مباشرا. فنظم جهازا تشريعيا ومجلسا. استشاريا أعلى لمعاونة الحاكم العام للجرائر في إدارة الإقليم. زاد من اضطراب الجرائر الأمر الذي دفع نابليون الثالث للقيام بزيارته الأولى للجزائر في الفترة من 3 أيار - مايو - وحتى 7 حزيران - يونيو 1865. وحاول خلال هذه الجولة معرفة المشكلات الاستعمارية على الطبيعة، وعندما عاد إلى فرنسا في 20 حزيران - يونيو - حاول بالتعاون مع (ماكماهون) وضع القوانين لجعل الجزائر جزءا من فرنسا بالإضافة إلى أمور تنظيمية أخرى (¬2) ومع (ماكماهون، أسسها وقواعدها غير أن الأمور على الساحة الجزائرية لم ¬

_ (¬1) الماريشال بيليسييه: (PELISSIER AIMABLE JEAN JACQUES) ماريشال فرنسا، ودوق مالا كوف (DUC DE MALAKOF) من مواليد ماروم في مقاطعة السين السفلي (1794 - 1864) استولى على سيبا ستوبول سنة 1855 (أثناء حرب القرم) وأصبح سفيرا لفرنسا في لندن سنة 1858، وتم تعيينه سنة 1860 حاكما عاما على الجزائر. (¬2) ماكماهون: (MAC MAHON MARIE EDME PATRICE DE MAC) ماريشال فرنسا، ودوق ماغينتا (DUC DE MAGENTA) من مواليد سولي (SULLY) مقاطعة السين واللوار (1808 - 1893) برز اسمه أثناء حرب القرم حيث استطاع احتلال مالاكوف، بمساعدة بيليسييه، وانتصر في معركة ماغنتا في إيطاليا، وأصبح حاكما على الجزائر من سنة 1864 حتى سنة 1870، هزمه البروسيون في معركة رايخهوفن: (REICHSHOFEEN) وأصيب في معركة ميدان (1870) بجراح. وعلى الرغم من كونه ملكيا، فقد أصبح الرئيس الثاني للجمهورية الإفرنسية من سنة 1873 إلى سنة 1879.

تختلف باختلاف التشريعات أو تبديل الحكام والقادة. الأمر الذي أوصل الجزائر في النهاية إلى إعلان الثورة. تثير مطالعة السطور السابقة دونما ريب مجموعة من التساؤلات عن وضع هذه الدولة التي امتلكت القوة الطاغية الوحشية، والتي أمكن لها بواسطتها الاستيلاء على الجزائر، ثم وقوف هذه الدولة عاجزة عن إدارة ما سيطرت عليه بالقوة. وتعبر ظاهرة الاضطراب المستمر، والتبديل المتتابع للأنظمة والقادة على مدى القصور الناجم بين القوة وبين القدرة على استخدام القوة بصورة صحيحة. وهو الأمر الذي أكدته مسيرة الأحداث بعد ذلك عندما اصطدمت القوة الإفرنسية، بقوة أكثر كفاءة منها، هي القوة البروسية، في ميدان (سيدان) سنة 1870، فسقطت القوة الإفرنسية ضحية تناقضاقها الذاتية. وفي الوقت ذاته، فإن بروز هذه التناقضات وظهورها، لم يكن في واقعه إلا نتيجة من نتائج ردود فعل مسلمي الجزائر، في مجابهتهم لقوة الاستعمار الوحشية ; وهنا أيضا وعلى الرغم من قصور الوسائط المادية، وعلى الرغم أيضا من عزلة مسرح العمليات، فقد استطاع المجاهدون في سبيل الله ممارسة دورهم في الدفاع عن ديار الإسلام. مما أوقع السلطة الاستعمارية في شباك تناقضاتها، وتأكدت مرة أخرى في التاريخ تلك الحقيقة الخالدة، وهي أنه من المحال قهر شعب مؤمن ومصمم على تحقيق أهدافه مهما بلغت به درجة الضعف، ومهما تعاظمت في مجابهته قوى الشر والعدوان. المثير في الأمر هو أن تلك التناقضات كانت تعتمد باستمرار على اللعب (بورقة المواطنين الجزائريين)،و (المزاودة أو المناقصة على حقوقهم الإنسانية والدينية)، وعلى حقوقهم الطبيعية في (الأرض

والوطن). وهنا قد يكون من الضروري التعرض لبعض ما تم طرحه من مقولات أو بعض ما تم تنفيذه من ممارسات تؤكد على حل كل التناقضات في النهاية على حساب الجزائريين المسلمين. لقد تصدى (راندون) طوال الفترة ما بين سنة 1854 وسنة 1858 لمقاومة عمليات استثارة المواطنين عن طريق الاستيلاء على أراضيهم وإقامة المستعمرات الإفرنسية فرقها: وجاء في رسالة (راندون) إلى قائد إقليم قسنطينة ما يلي: (إن عملية التهجير الجماعي للمواطنين هي عملية جائرة، علاوة على أنها عملية تتناقض مع السياسية التي يجب علينا تنفيذها. وأرى لزاما على أن أجعل هذه الفكرة مهيمنة على تفكير الوزير، والإلحاح في ذلك حتى يتم قبولها، ذلك لأنها تشتق وجودها من قوة الأشياء وطبيعتها) (¬1) غير أن (راندون) تعرض للضغوط التي ألزمته بتنفيذ السياسة الاستعمارية، مما دفعه إلى القول: (أرجو ألا نشعر بالندم في وقت لاحق لأننا لم نضمن للعرب حقوقهم في أرضهم التي يزرعونها ويعيشون عليها) (¬2). صدر مرسوم 31 آب - أغسطس - 1858 بهدف إعادة ننظيم الإدارة في الجزائر، وتضمن التقرير الإيضاحي - التفسيري. لهذا المرسوم والذي تم إعلانه بوضوح تام (بأنه يجب على الحكومة من الآن فصاعدا، أن تجعل من الإستعمار والهجرة والاستيطان هدفا أساسيا لها، ومن أجل ذلك، يجب علينا إخماد المقاومة الصادرة عن شعب ¬

_ (¬1) رسالة (راندون) في 21 آذار - مارس - 1855 محفوظات وزارة الحرب الفرنسية 264 و H. AG (¬2) السياسات الاستعمارية في المغرب. ص 48.

مسلح ويتمتع بالنشاط والحيوية. وهناك أمل في الواقع بأن يتم استخدام التمثيل الإداري، من أجل تهجير الشعب العربي، وتمزيق التلاحم القائم بين القبائل، ويجب العمل بدهيا من أجل إضعاف نفوذ الزعماء الكبار - البارزين - للوصول إلى درجة القضاء على هذا النفوذ تماما) (¬1). و (أن علينا تحرير الإفراد من سيطرة زعمائهم، وخلق ملكيات فردية متنافسة لدى الجزائريين. ويجب أن تتم عملية إقامة الملكيات الفردية عند العرب، عن طريق استيلاء الحكومة على مساحات واسعة من الأرض تعمل الدولة بعدها على طرح هذه الأرض للبيع بصورة مباشرة) (¬2) وعلى كل حال، وإذا لم يتوافر لوزير الجزائر في الحكومة الإمبراطورية ما يكفيه من الوقت لتنفيذ هذا الهدف، فقد أفاد المستعمرون من الفرصة التي أتيحت لهم بموجب مرسوم 16 شباط - فبراير - 1859، لينطلقوا في تحركهم عبر المناطق العسكرية، لتوسيع حدود ممتلكاتهم. وعملت السلطات على إظهار حركة نشطة جديدة لدفع القبائل العربية وإبعادها عن أراصيها. مع تمليك بعض الأفراد ملكيات صغرى. وأدرك المسلمون بسرعة مضمون هذه السياسة الجديدة التي تعرض لها تقرير فرنسي بما يلي: (تهيمن على المسلمين في هذه الأيام فكرة ثابتة وقوية. وتتلخص بأن الإفرنسيين يريدون طردهم من بلادهم، وإبعادهم عن أرض أجدادهم. وتحويلهم إلى أقنان - عبيد - يعملون في خدمة المستعمرين. وقد عمل المستعمرون بممارساتهم على تعميق هذه الفكرة وتثبيتها، ولم يحاول هؤلاء المستعمرون إخفاء أهدافهم أو التمويه على آمالهم. ويقف ¬

_ (¬1) تعليمات الحكومة الإفرنسية بتاريخ 9 أيلول - سبتمبر - 1858. (¬2) السياسات الاستعمارية في المغرب - ص 52 و 53 و55.

الأوروبيون اليوم على حافة مرحلة ستقودهم إلى معاملة الوطنيين الجزائريين مثل معاملة المهاجرين للهنود الحمر في أمريكا الشمالية) (¬1) وتجدر الإشارة هنا إلى تعميم صادر عن الإدارة الإفرنسية في الجزائر بتاريخ 7 أيلول - سبتمبر - 1859، جاء فيه ما يلي: (من الضروري الحرص على أن تكون الأراضي المخصصة لإقامة القبائل العربية، لا تزيد بحال من الأحوال عن احتياجاتهم، وأن تكون متناسبة مع عدد أفراد هذه القبائل. ويجب بذل العناية الممكنة لتمييز العائلات الأجنبية التي يمكن أن توجد مؤقتا في مناطق هذه القبائل. هذا وقد تم تكوين مراكز للمستعمرات في الفترة من سنة 1858 الى سنة 1860 بلغ عددها 27 قرية. تم منحها مجانا للمهاجرين الأوروبيين وبدون منح أي تعويض للمواطنين. أما نفقات هذه المستوطنات وتكاليف إقامتها فقد تحملها المواطنون أيضا عن طريق الموازنة الخاصة التي تم بموجبها فرض سنتيم إضافي على الضرائب التي يدفعها العرب. وهي الضرائب التي فرضها راندون لمصلحة المهاجرين المستوطنين حصرا). لقد كان الصراع حادا بين المدنيين والعسكريين على إدارة الحكم في الجزائر، المستعمرة، وفقا لما سبقت الإشارة إليه، وكان كل طرف من الطرفين المتصارعين يتهم الآخر بالقصور الأمر الذي تبرزه المقولة التالية عن مصدر فرنسي: (ليس من واجبنا هنا الدخول في تفاصيل ما قام به المدنيون تجاه المواطنين الجزائريين؛ وتكفي الإشارة إلى عزل زعماء المسلمين وقضاتهم المرة بعد المرة، وحشد القبائل في معسكرات ¬

_ (¬1) تقرير من محفوظات وزارة الحرب الإفرنسية - تموز - يوليو - 1860 (171 AG. H) .

الجنود، وطرد المواطنين من بعض المناطق، مثيرين بذلك بحسب الشواهد الموثوقة حالة من الذعر بين المواطنين الذين ارتفع لديهم الحقد حتى بلغ ذروته. وقد عمل بعض العسكريين على قرع الأجراس، محذرين من الخطر الناجم عن قصور المدنيين إداريا وعدم, كفاءتهم. غير أن قادة الجيش - الضباط - يبتعدون بأنفسهم أيضا عن المسلمين، ويبعدون المسلمين عن مناطقهم. ويحرمونهم من رفع شكاواهم أو التذمر أمام محاكمنا، ولا يتورعون عن إزدراء زعماء المسلمين وتحقيرهم بصورة خطيرة). وكانت الحكومة الإفرنسية تطالب رجال إدارتها في الجزائر بالاعتدال، وهو ما أكده (راندون) الذي أوضح هدف الاعتدال بقوله: (إن تكتيك الاعتدال هو أمر ضروري لسحق الأفعى أو خنقها) وكان المدنيون يهاجمون العسكريين: (بأنهم يعملون على إشعال نار الثورة، وإثارة الاضطراب، حتى يطيلوا أمد العداء ويزيدوا من عمقه). أما الإمبراطور نابليون، فكان يوصي حاكم الجزائر بقوله: (عليكم إجراء التغييرات بهدوء، ودونما أي ضجيج قدر المستطاع) (¬1) وعندما انفجرت الحرب الأهلية في لبنان والشام، إنعكست على صفحة الجزائر، حيث صرح حاكم الجزائر يوم 19 أيلول - سبتمبر - 1860 بما يلي: (يتلخص واجبنا الأول بتأمين السعادة لثلاثة ملايين عربي، وضعتهم قوة السلاح تحت هيمنتنا ... إن واجبنا هو الارتفاع بمستوى العرب إلى مرتبة الرجال الأحرار. ونشر التعليم فيما بينهم ¬

_ (¬1) رسالة من محفوظات وزارة الحرب الإفرنسية تاريخها 14 تشرين الثاني - نوفمبر - 1860.

مع احترام دينهم، وتحسين مستواهم المعيشي - الحياتي - عن طريق استخراج الكنوز والثروات الباطنية التي أودتها العناية الإلهية في جوف الأرض. تلك هي مهمتنا التي سنضطلع بها) (¬1). ويمكن أن يضاف إلى ذلك ما قاله نابليون الثالث عند زيارته للجزائر، وحديثه إلى جماهير المسلمين بقوله: (إنكم تعرفون أهدافي وما أنوي فعله؛ إنني أؤكد تأكيدا جازما حقكم في ملكيتكم للأرض التي تشغلونها. وقد عملت على معاملة رؤسائكم بشرف، واحترمت دينكم. وأريد زيادة رفاهكم وثروتكم، كما أريد زيادة اشتراككم في إدارة البلاد أكثر فأكثر لما فيه الخير للحضارة) (¬2). ولكن، وبينما كان نابليون الثالث يطرح أفكاره ووجهات نظره بإدارة الجزائر، كان حاكم الجزائر يتابع أساليبه (لتدمير الأرستقراطية العربية - الإسلامية مصمما على عدم قبول أي إصلاح لأحوال العرب، وإخضاعهم لنظام إقطاعي لا يتعارض مع مصالح فرنسا) وأنه من واجب فرنسا العمل على (صهر القبائل، وتدمير الأرستقراطية العربية بحيث يمكن الوصول بالجزائر إلى إلغاء القضاء الإسلامي والتشريع الإسلامي وتحييد العرب) (¬3). وهنا قد يكون من المناسب تجاوز كلمة (الأرستقراطية العربية) وفقا لمضمونها العلمي، والأخذ بما هو مقصود منها عمليا، من قضاء على القيادات العربية والإسلامية وترك الشعب محروما من القيادات ¬

_ (¬1) السياسات الإستعمارية في المغرب ص 57. (¬2) خطاب نابليون الثالث في الجزائر يوم 6 أيار - مايو - 1865. (¬3) السياسات الاستعمارية في المغرب. ص 60 و69.

آ - الهجرة والاستيطان

التي يمكن لها التجاوب مع مطالب الجماهير، وخلق حالة من الفراغ القيادي الذي لا يملؤه إلا الوجود الاستعماري، وهو ما يؤكده تعميم الحاكم العام للجزائر (راندون) يوم 14 تشرين الثاني - نوفمبر - 1868 والذي جاء فيه: (علينا الإفادة من عامل الوقت باستمرار، وتسخير كافة الظروف للقضاء على وظائف الخليفة والباشآغا والآغا حتى لا يبقى من يمارس القيادة في أقاليم الجزائر الثلاثة إلا القائد والشيوخ) وكان راندون هذا قد كتب رسالة في يوم 21 آذار - مارس - 1866 جاء فيها: (يجب تكثيف الجهود لاتباع سياسة متحفظة وحكيمة هدفها إبطال النفوذ الذي تتمتع به العائلات الجزائرية منذ أجيال عديدة) (¬1). قد يكون من المحال بعد ذلك جمع كل المقولات والشواعد المتعلقة بالسياسات الإستعمارية الإفرنسية، وما تم تطبيقه من ممارسات إجرامية على أرض الجزائر، بسبب وفرة تلك المقولات والشواهد التي يضيق البحث عن حصرها واستيعابها. غير أنه بالمستطاع حصر الخطوط العامة لتلك السياسات بما يل: آ - الهجرة والاستيطان: ظنت الحكومة الإفرنسية أنها بقضائها على الثورتين الرئيسيتين اللتين تزعمهما بالمشرق أحمد باي قسنطينة، وفي بقية الجزائر الأمير عبد القادر. قد باتت قادرة على الانطلاق من المناطق الساحلية المحتلة للتوغل - دونما مقاومة - في عمق الوطن الجزائري. فكان أن شجعت الحكومة الإفرنسية جيشها على غزو المناطق الداخلية في البلاد: (فاتبع ¬

_ (¬1) رسالة راندون إلى ماكماهون - محفوظات وزارة الحرب الإفرنسية: (AG. H 265 ET AN F80 - 1680)

الجيش أسلوب الأرض المحروقة، وأحرق عشرات القرى، وقطع آلاف الأشجار من التين والزيتون، أملا في الوصول إلى نتيجة إيجابية، هي إرغام السكان على الخضوع للسيطرة الإفرنسية) (¬1). وعندما عين (راندون) حاكما عاما على الجزائر في كانون الأول - ديسمبر - 1851، عزم على تطوير سياسة التوسع والغزو لبلاد (جرجرة) و (البابور)، وكان من أتباع مدرسة سلفه (بيجو) في الاحتلال بواسطة التجويع والحرق والتخريب وقطع الأشجار المثمرة - واهتم بإنشاء شبكة من طرق المواصلات لتسهيل عملية الغزو وشجعته حكومة الإمبراطور على عمليات التوسع هذه، فجهز جيشا كبيرا سنة 1853 اقتحم به الشمال القسنطيني مرة أخرى، وغزا وسيطر على المنطقة الممتدة بين جيجل والقل وقسنطينة بجبال البابور. وبعد ذلك أخذ (راندون) بغزو المنطقة الغربية من جبال جرجرة. وفي العام 1856 غزا بقواته منطقة ذراع الميزان. واكتفى ببعض العمليات العسكرية التي اعتبرت بمثابة تظاهرة عسكرية ذات هدف استطلاعي تمهيدا لعمليات أكثر اتساعا وشمولا. وفي العام 1857، أذنت حكومة الإمبراطور نابليون الثالث لحاكم الجزائر (راندون) بغزو جبال جرجرة، واحتلالها بصورة رسمية. فجهز حملة كبيرة صمت أكثر من عشرة آلاف رجل، وانطلق بها من (تيزي أوزو) في ثلاثة اتجاهات ابتداء من يوم 24 أيار - مايو - وانتهت عمليات هذه الحملة بفرض غرامات حربية ضخمة على السكان زادت على مليون فرنك، علاوة على ما لحق بالعرب المسلمين من تدمير لقراهم وتخريب لمساكنهم ¬

_ (¬1) HISTOIRE DE L'ALGERIE CONTEMPORAINE CH. JULIEN - PARIS 1964 P.P 385 - 387.

ومزارعهم وإبادة لحيواناتهم. وانطلقت القوات الاستعمارية بعد ذلك من جرجرة والبابور إلى جهات كثيرة من البلاد. استمرت سياسة الغزو والتوسع الاستعماري طوال عشرين سنة رافقت عهد الإمبراطورية الثانية، وعانى الجزائريون ويلات الحروب والتشرد والدمار. غير أن هذه السياسية لم تكن إلا وسيلة لتطبيق أساليب الهجرة التي فتحت أمام الأوروبيين عامة وأمام الإفرنسيين خاصة لتوطينهم في الجزائر المحتلة. ولقد ارتبطت عملية الهجرة والاسيطان بعملية الاستعمار، منذ البداية. غير أنه ما أن تم الإعلان عن قيام إمبراطورية نابليون الثالث (في تشرين الثاني - نوفمبر - 1852) حتى فتحت حكومة الإمبراطور أبواب الجزائر على مصاريعها أمام أفواج المجرمين العاديين والخصوم السياسيين وزعماء المعارضين وكل المغامرين والطامعين، وخلاصة القول، فقد حاولت الحكومة الإمبراطورية حل كل مشكلاتها دفعة واحدة على حساب الجزائر. ونشطت حركة الهجرة بعدئذ، حيث تقرر تهجير مائة ألف أوروبي، واعتمد المجلس الوطني الإفرنسي مبلغ خمسين مليون فرنك لإنشاء مراكز استيطانية ومستعمرات أوروبية. وتم تخصيص الأراضي للمهاجرين من 2 - 20 هكتارا، بالإصافة إلى المنازل والحيوانات والآلات. وبلغ عدد القرى الاستعمارية التي أنشئت فيما بين أعوام 1851 و 1857 ما مجموعه ثمان وستين قرية (¬1). ¬

_ (¬1) كانت الحكومة الإفرنسية مرغمة على إيجاد الحوافز لتشجيع الهجرة، وقد أثار ذلك انتباه جيروم بونابرت الذي قال: (يكلف جهاز الإدارة الإفرنسي الذي يضم - 180 - ألف أوروبي في الجزائر، بأكثر ما تبلغه موازنة بلجيكا بكاملها - السياسات الاستعمارية في المغرب - ص 54 - كما جاء في الصفحة (60) من المصدر ذاته ما يلي: تتطلب إقامة العائلة وتوظيفها مبلغ أربعة ألاف فرنك، وعلى هذا فالعائلة الإفرنسية التي تحصل على مبلغ كهذا =

عملت حكومة الإمبراطور نابليون الثالث على تدمير القيادات، العربية - الإسلامية، وهي القيادات التقليدية، بحجة القضاء على ما أطلقت عليه اسم (الأرستقراطية العربية) وذلك بهدف خلق نوع من الفراغ السياسي - على نحو ما سبقت الإشارة إليه - ومقابل ذلك: (تبنى الإمبراطور عددا من المشاريع لإقامة مستعمرات عسكرية يتولى إدارتها القادة الكبار من الفرنسيين. وكان هدفه من ذلك خلق أرستقراطية عسكرية فرنسية قائمة على امتلاك الإقطاعات الكبيرة من قبل القادة ذوي الرتب العليا العاملين في خدمة الجيش الإفرنسي) (¬1) واعتمدت حكومة الإمبراطور أيضا على كبار الرأسماليين لدعم الهجرة والاستيطان، وكذلك الشركات الرأسمالية الكبرى، باعتبار أن كثيرا من رجال الأعمال والمصارف (البنوك) وكبار الرأسماليين - وخاصة السويسريين - كانت تربطهم صداقات شخصية الإمبراطور، الذي كان بدوره يميل إلى دعم هذه السياسة حتى لا تتكلف حكومته بتحمل أعباء اقتصادية، أو تضطر إلى تقديم المعونات المالية. وهو الأمر الذي دفعه لإصدار ما عرف باسم (مشروع بياريتز) والذي يسمح لهؤلاء بتأسيس المشاريع الكبرى بالجزائر لصالح الاستعمار الاستيطاني. وكان من استفاد من هذه السياسة على سبيل المثال - المقاول الباريسي (دومونشي) الذي منح سنة 1854 أرضا بلغت مساحتها 2672 هكتارا في تيبازة طرد منها ست وتسعين عائلة جزائرية، ليقيم فوقها وحدات سكنية للمهاجرين ¬

_ = في فرنسا، فإنها لن تهاجر إلى الجزائر، وعلينا أمام هذا الموقف السلبي، تشجيع الرأسمالين للتوجه نحو الجزائر، مع إيجاد المغريات لهم. وبذلك يتأمن للجزائر الذراع الذي تحتاجه. (¬1) السياسات الاستعمارية في المغرب - ص 68 .

ب - القضاء على مقومات الأمة العربية الإسلامية

الأوروبيين. وكذلك شركة (جنيفواز - السويسرية) التي تألفت عام 1853 من طرف رأسماليين من جنيف، وحصلت خلال عشر سنوات على مساحة (281) ألف هكتار؛ من أجل بناء القرى، لاستقبال المهاجرين الأوروبيين، وخاصة السويسريين. كما منحت (الشركة العامة الجزائرية) مساحة مائة ألف هكتار سنة 1865، لتوطين عشرين ألف عائلة أوروبية، مقابل قرض قدمته للدولة بمبلغ مائة مليون فرنك. ومنحت (الشركة العامة للهبرة ومقطع الحديد) مساحة (25،500) هكتارا عام 1865، مقابل إنشاء سد فرقوق قرب المحمدية. وحصلت (شركة جمعية الغابات) على مساحة (160) ألف هكتارا من الغابات لتستغلها لمدة ستين عاما، فقامت ببيعها إلى ثلاثين معمرا أوروبيا. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن السلطات الإفرنسية كانت تنتزع الأراضي من الجزائريين، وتهبها للجمعيات الدينية المسيحية والهيئات الكنيسة، والتي كانت تبيعها بدورها إلى المعمرين الأوروبيين. ونتج عن هذه السياسة الاستعمارية - الاستيطانية حرمان الجزائريين من أراضيهم وممتلكاتهم وموارد رزقهم وحياتهم، وعزلهم عن مناطق إنتاجهم، فتحولوا إلى طبقة بائسة محرومة من كل الحقوق. وزاد الأمر سوءا بحرمانهم من كل حقوقهم السياسية. فبات المخرج الوحيد هو اللجوء إلى السلاح، كتعبير طبيعي عن حق الوجود، وكانت الإدارة الإفرنسية الاستعمارية تتوقع مثل هذه الردود، وتعد المخططات لاسثمارها من أجل المزيد من التوسع. ب - القضاء على مقومات الأمة العربية الإسلامية: لم يرض الأوروبيون، ولم يقنعوا، بما تم تطبيقه من سياسة

استعمارية في إطار الهجرة والاستيطان فانطلقوا لشن الحملات الصحافية ضد السلطة العسكرية والمكاتب العربية، مع المطالبة بدمج الجزائر سياسيا في إطار نظام مدني، وبطرد الجزائرين من أراضيهم، وتشجيع بيعها للمستوطنين بصورة أوسع (¬1). واستجابت حكومة الإمبراطور نابليون الثالث لمطالبهم، فأنشأت يوم 24 حزيران - يونيو - 1858 ما أطلق عليه إسم (وزارة الجزائر والمستعمرات) وأسندت رئاستها إلى (الأمير جيروم نابليون) الذي كان له دور في هذا التغيير لما له من تأثير على عمه الإمبراطور فاستحدث مجلسا أعلى إلى جانبه، ومجالس إقليمية في كل مقاطعة، بهدف الإدماج الكامل للجزائر في فرنسا (¬2) ومن أجل ذلك تم إنشاء ست دوائر عمالية مدنية، وجرت محاولة لإدماج العدالة الإسلامية في القضاء الإفرنسي - المدني .. ولم يبق للسلطة العسكرية بعد هذه الإجراءات سوى منصب القيادة العليا للقوات البرية والبحرية التي أسندت رئاستها إلى ماكماهون. وكان من المفروض أن تسير الأمور سيرا طبيعيا. ولكن الوزير الجديد ¬

_ (¬1) يمكن هنا الإشارة إلى العريضة التي وقعها (420) مهاجرا أوروبيا ورفعوها إلى الحكومة الإفرنسية يوم 27 شباط - فبراير - 1863، وفيها ما يلي: (إذا ما توقفت الحكومة عن الاستجابة لمتطلبات المستعمرين الأوروبيين، ولم تترك لهم حرية إستثمار المناطق، إلا ما تم انتزاعه من القبائل منذ الاحتلال وحتى اليوم فإن ساعة الجلاء عما حصل عليه المنتصرون في سنة 1830 قد حانت. وستظهر حكومة عربية، أي أمة بدون جنسية، أو تجمع من المتوحشين ورجال القبائل المتصارعين بعضهم ضد البعض الآخر). (¬2) من المعروف، أن نابليون الثالث، لم يفكر أبدا في التخلي عن الجزائر، بعكس ما تشير إليه بعض المصادر. وهو الأمر الذي عبر عنه لويس نابليون بونابرت يوم 6 أيار - مايو - 1865 بقوله: (إن الجزائر هي لفرنسا، كما إن إيرلندا لإنكلترا، وكما إن بولونيا لروسيا، وليست الجزائر إلا كرة كبيرة، فقطعوها إلى شرائح، واجتثوا منها حياتها، فيسهل عليكم الإمساك بالكرة) السياسات الاستعمارية في المغرب - شارل روبرت - ص 63 و 68 .

وجد نفسه في أوضاع غير مرضية، لكونه اختلف مع عمه الإمبراطور حول سياسته بإيطاليا. كما اصطدم بمعارضة العسكريين بالجزائر لسياسته التي تؤيد بصورة مطلقة إتجاه المعمرين الأوروبيين الذين يرون أن الجزائر فتحت بالقوة، ومن حقهم أن يطردوا لذلك الجزائريين من أراضيهم وممتلكاتهم، ليستولوا عليها ويتقاسموها. وقد أكد (ماكماهون) بأن الأمير وإن كان قد درس جميع الوسائل الاستعمارية في الأمريكيتين، إلا أنه رغم ذلك لم يكن يحسن (فهم المعضلة الجزائرية). ولم يكن يضع في اعتباره حساب مليونين ونصف مليون من الجزائريين الشجعان (الذين صمموا على القتال دفاعا عن استقلالهم ودينهم). وأوضح أن السلطات الإفرنسية بما تنشره - صحافتها - من سباب وإهانات للجزائريين قد أسهمت بدفعهم للثورة الدائمة. وأن الأمير لم يعمل على إيقاف ذلك بالرغم من إلحاح القيادة العسكرية وضباط الشؤون العربية عليه في ذلك. كما أوضح (ماكماهون) بأن الذين كانوا ينشرون مقالات الطعن والسباب ضد الجزائريين معظمهم من المنفيين المعارضين لسياسة الإمبراطور وحكومته. وبنتيجة هذه المشاكل كلها، اغتنم الأمير جيروم فرصة ذهابه إلى إيطاليا لعقد قرانه على ابنة ملك سردينيا، فأعلن من هناك تنازله عن منصب وزارة الجزائر والمستعمرات يوم 7 آذار - مارس - 1859 فتم تعيين (الكونت شاسلو لوبا) بصورة رسمية في مكانه، وتعرض هذا بدوره لعداء العسكريين، وانتهى الأمر بإلغاء هذا النظام تماما. وتم بدلا عنه تشكيل الحكومة العامة للجزائر في كانون الأول - ديسمبر - 1860 تحت رئاسة القائد العام للقوات البرية والبحرية، والذي كان عليه الاتصال مباشرة بالإمبراطور في الأمور السياسية تحت مراقبة وزير الحربية، على أن يكون إلى جانبه مجلس

استشاري ومجلس أعلى وعين (الماريشال بيليسييه) حاكما عسكريا جديدا، وبذلك عاد الحكم العسكري بسرعة إلى الجزائر. واتبع (بيليسي) سياسة (راندون) ذاتها فيما يخص مصادرة الأراضي لصالح الهجرة والاستيطان الاستعماري، ومد الطرق المعبدة، والسكك الحديدة، لخدمة مشاريع الأوروبيين الاقتصادية، ومستقبلهم السياسي. وكان في نيته تطوير هذه السياسة والوصول بها إلى أبعد الحدود. ولكن الإمبراطور نابليون الثالث، كان يفكر في سياسة جديدة تجاه الجزائريين خاصة بعد زيارته القصيرة للجزائر في العام 1860، حيث شعر بالقلق نتيجة تجريد المواطنين المسلمين من ملكيتهم الشخصية. فقرر إصدار قانون يمنحهم حق البقاء في الأراضي التي يستثمرونها ويعيسون عليها. ونصح الأوروبيين بالتوجه للمجالات الأخرى مثل استثمار الغابات والمعادن واستصلاح الأراضي وإنشاء السدود والطرقات والصناعات المتنوعة. كما نصح بالحد من هجرة الأوروبيين إلى الجزائر، وختم رسالته التي وجهها إلى (بيليسييه) بهذا الشأن في 6 شباط - فبراير - 1863 بما يلي: (إن الجزائر مملكة عربية، وأنا إمبراطور العرب مثلما أنا إمبراطور الإفرنسيين). غير أن هذه السياسة - الليبيرالية - لم تعجب العسكريين الذين كانوا يطالبون بالعودة إلى (نظام السيف) باعتباره الوسيلة الوحيدة لإخضاع الجزائر الثائرة. وأمام هذه الضغوط أصدرت السلطة الإفرنسية قانون 7 تموز - يوليو - 1864 الذي أعاد السلطة للحكام العامين للفيالق العسكرية على الحكام المدنيين للمقاطعات الجزائرية الثلاثة. وبذلك اشتدت قبضة العسكريين على الجزائر التي تحولت إلى مستعمرة عسكرية، كما كانت خلال الفترة الأولى للاحتلال (فترة حكم بيجو). وتم تعيين المارشال (ماكماهون) حاكما

جديدا للجزائر في أيلول - سبتمبر - 1864 من أجل تنفيذ هذه السياسة. غير أن المدنيين والعسكريين على السواء استقبلوا (ماكماهون) بالغضب رغم كونه سيمارس سياسة سلفه (بيليسييه) الأمر الذي اضطر نابليون الثالث للقيام بجولته الثانية في الجزائر (3 أيار - مايو - حتى 7 حزيران - يونيو 1865) حتى تنقل في جهات كثيرة، قابل خلالها شخصيات أوروبية وعربية، وعندما عاد إلى فرنسا، وضع سياسته الجديدة في رسالة بعث بها إلى (ماكماهون) في 20 حزيران - يونيو 1865 وانتقد فيها الأوضاع السائدة. ومما تضمنته رسالته - كما سبقت الإشارة إلى ذلك -: (بأن الجزائر مملكة عربية، ومستعمرة فرنسية ومعسكر أوروبي. وأنه من الضروري الاعتماد على أريحية الجزائريين في التطوير، ذلك لأنه من المحال القضاء على ثلاثة ملايين جزائري أو رميهم في الصحراء كما فعل الأمريكيون بالهنود الحمر. واعترف أن هناك بالجزائر عسكريون يمكرون بالجزائريين. كما أن مصالح الغابات تضايقهم كثيرا، وتمنعهم من قطع ولو محراث خشبي. وذكر أن من أخطاء فرنسا أنها تطبق بالجزائر قوانين وضعت خصيصا لفرنسا - مثل قانون الصيد - وذلك مما جعل الجزائريين يفقدون أملاكهم ويتعرضون للإفلاس). لقد كانت سياسة نابليون الثالث قائمة على المرونة وكسب الوقت لتعميق جذور الاستعمار، مع التظاهر بعملية (النقد الذاتي) لتغطية سوءات الاستعمار، ورفع الشعارات الفاضلة، بهدف التضليل والخداع. وقد طلب نابليون إلى العرب إظهار أريحتهم لتطوير الجزائر، كما طلب إلى الجيش الإفرنسي في حديثه يوم 9 حزيران - يونيو - 1864 ما يلي: (إنكم أول من يجب عليه مد يد العون.

إلى العرب الممزقين بروح من الصداقة، والتعامل معهم بكرم وعدل، باعتبارهم جزءا من العائلة الإفرنسية الكبيرة). وكان مشروع نابليون للإصلاح يتضمن: (إعادة تنظيم قبائل المخزن وإقامة مجالس في مناطق القبائل. وإقامة جامعة عليا للقانون الإسلامي في الجزائر. وإعادة تنظيم المدارس الابتدابة، حيث كان هناك 2313 مدرسا يدرسون القرآن الكريم وعلوم الدين لطلاب المرحلة الابتدائية الذين كان عددهم يزيد على (26،500) طالب وبذلك يتم إخراج التعليم من أيدي المشايخ) (¬1). وعلى كل حال، فقد جاءت الممارسات والأعمال التطبيقية لتفضح كل المزاعم الإيديولوجية والمقولات النظرية. وظهر بوضوح أن (السياسة العربية للإمبراطور) لم تكن إلا الوسيلة لخدمة المصالح الإفرنسية فمحاولة اسمتمالة الجزائريين: (لم تكن إلا لدعم مركز فرنسا، وتأمين سلامة الجيش الإفرنسي وضمان أمن المهاجرين، وإمداد الجيش الإفرنسي بالمقاتلين الجزائريين الذين عرفت القوات الإفرنسية شجاعتهم في حروبها بالقرم وإيطاليا والصين والمكسيك وكذلك خدمة الاقتصاد الإفرنسي باسثمار ثروات الجزائر الوطنية التي ستسفر عنها حركة تجارية عظيمة لمصلحة فرنسا). أما هدفه من الاهتمام بالزوايا الإسلامية (فليس المقصود منه تطوير التعليم العربي - الإسلامي، وإنما هدفه تشكيل طبقة من (العملاء والجواسيس) تعتمد عليهم فرنسا في تحقيق سياستها وفرض رقابتها الفكرية والسياسية، والحيلولة دون قيام حركات ثورية ضدها تنطلق من داخل تلك الزوايا، (¬2) ولم يكتف بفرض هذه الرقابة على ¬

_ (¬1) السياسات الاستعمارية في المغرب. ص 69. (¬2) LETTRE SUR LA POLITIQUE DE LA FRANCE EN ALGERIE (L'EMPEREUR NAPOLEON III) PARIS 20 JUIN 1865 P.P.3 - 10

الزوايا، فعمل على تدعيم الوجود الكنسي في هذا البلد العربي المسلم. ورفع درجة أسقف مدينة الجزائر إلى مستوى الأبرشية، وأمر بتأسيس أبرشيتين في كل من قسنطينة ووهران. وكشفت اقتراحات نابوليون الثالث - حول التركيز الاستعماري، حقيقة نواياه ومشاريعه التوسعية - الاستعمارية. حيث خصص معظم مناطق التل للجاليات الأوروبية، والتوطن الاستعماري في المقاطعات الثلاثة. وذلك يعني تحطيم المجتمع الجزائري وطرده من أراضيه الخصبة إلى قسم الجبال الجرداء والصحراء القاحلة. وحتى عندما اقترح تخصيص مائة مليون فرنك للتطوير الاقتصادي بالجزائر، وزعها توزيعا لا يخدم سوى مصالح الجالية الأوروبية فقط ومشاريعها الاقتصادية، ولم يخصص أي مبلغ لصالح الجزائريين. وبالإضافة إلى هذا طالب بالاقتصاد في النفقات، وعدم الاهتمام بالأمور الفنية لأن البلد في نظره، حديث، والغرض، إنجاز الأعمال بكيفية أكثر بساطة تؤدي إلى (تركيز الاستعمار). وبعد أن أكد على ضرورة تدعيم فرق رجال المخزن على أطراف إقليم التل، لتخفيف الأعباء على الجيش الإفرنسي فيما يخص الحراسة والمراقبة، وتقوية فرق (الزمالات والصبايحية) والاختيار المناسب لرؤساء المكاتب العربية من رجال المخابرات واقترح - نابليون الثالث - اعتبار الجزائريين فرنسيين، تطبيقا للقوانين والتشريعات الإفرنسية السابقة التي تعتبر الجزائر أرضا إفرنسية مكملة للتراب الإفرنسي منذ سنة 1848. ولكي يرغب الجزائريين في حمل الجنسية الإفرنسية، نص اقتراحه على السماح لهم بالاحتفاظ بدينهم الإسلامي، إلا من يرغب في غير ذلك بعد أن يطلب إليه الاختيار، هذا إلى جانب فتح أبواب الوظائف العمومية لهم، على أساس خدمة

المدني في الجزائر والعسكري في سائر أنحاء الإمبراطورية (¬1). أقامت الإدارة الإفرنسية في الجزائر، منذ الأيام الأولى للاستعمار، مكتبا خاصا أطلق عليه اسم (المكتب العربي) بمهمة تأمين الاتصال بالجزائريين. وقد أطلق على هذا الاسم اعتبارا من سنة 1837 (مصلحة الشؤون العربية) وكانت هذه المصلحة تعمل تحت إشراف الضباط الإفرنسيين. وفي نهاية شباط - فبراير - 1844 صدر قرار بإنشاء وظيفة (مدير الشؤون العربية) لإدارة المصلحة السابقة تحت إشراف الحاكم الأعلى في كل دائرة وناحية وبذلك برزت (المكاتب العربية) التي حدد واجبها بتنظيم شرطة العرب، وجباية الغرامات والضرائب، ومساعدة الرؤساء الجزائريين الخاضعين لفرنسا، ومراقبة السكان من الناحية السياسية. وعلى هذا الأساس اعتبر الإفرنسيون نظام المكاتب العربية ورؤساء الأهالي مهما لهم (يؤدي خدمة جليلة ومفيدة). وقد توسمت سلطات هذه المكاتب العربية بالتدريج وقوي نفوذها حتى أصبح ديوان المكتب العربي هو المركز الحقيقي للسلطة بالجزائر، وصارت تمارس مسؤوليات الحراسة والمراقبة، والتوجيه السياسي والديني والمالي والعسكري والإداري. كما صارت إدارة مستقلة حتى عن الجيش، ويخضع لها تسعة أعشار البلاد. واعتمد ضباطها في إدارتهم على الزعماء الوطنيين. ولكن ذلك لم يمنع الأوروبيين من التمتع بحقوق وامتيازات سياسية متعاظمة اعبارا من سنة 1848. كما لم يمنعهم ذلك من تنظيم معارضة شديدة ضدها ومناصبتها العداء طوال عهد الإمبراطورية، مع محاولة القضاء ¬

_ (¬1) صدر المرسوم المنظم لمنح هذه الجنسية في 14 تموز - يوليو - سنة 1865. وحدد امتيازاتها وطريقة حصول الجزائريين عليها.

عليها باعتبارها تمثل في نظرهم حاجزا ضد تسلطهم على البلاد سياسيا وإداريا، واعتبروها دعامة للسلطة العسكرية التي يعارضون وجودها باستمرار - منذ سنة 1848 - . ودفع ذلك السلطة الإفرنسية إلى إصدار تعليماتها في 21 أذار - مارس - 1867 والتي نصت على إشراف الحكام العسكريين للمقاطعات والنواحي، على توقيع الأوامر والتعليمات، وعلى حصر عمل المكاتب العربية في إدارة بشؤون الأهالي وجعل ضباطها (مجرد ضباط إتصال بين السلطتين المدنية والعسكرية). لقد كان الجدل بين المدنيين والعسكريين من دهاقنة الاستعمار مركزا في الواقع على أفضل السبل لتأمين (النهب الاستعماري) بأفضل الوسائل وأكثرها سهولة. والشواهد على ذلك غير محدودة، ومن ذلك على سبيل المثال: (تحتاج الجزائر إلى سيف الأباء حتى تتوافر فيها السعادة. والحكومة العسكرية هي التي تستطيع ممارسة الحكم بدون أن تصاب (بالارتعاش). وهي التي يمكن لها تذليل العقبات أمام المعمرين غير المدربين والمعزولين في كل مكان) وكذلك ما قيل: (من أنه بعد ثمانية وثلاثين عاما من الاحتلال العسكري لا زالت فرنسا أجنبية عن هذا الشعب، مثل اليوم الذي وصلت فيه إلى الجزائر. وهذا ما يفرض دعم الحكم العسكري حتى لا تضيع الجزائر، وحتى لا تفقد فرنسا الطاقات العسكرية التي تستفيدها منها) ولم تتورع المجلة العسكرية الإفرنسية من دعم هذا الاتجاه فجاء في أحد أبحاثها ما يلي: (إن القوة وسيطرة الجيش هما الوسيلة الوحيدة للمحافظة على الأمن، وكسب ود الأهالي، وجلبهم إلى الحضارة الأوروبية) (¬1) هذا في حين حاولت بعض المصادر الإفرنسية معالجة ¬

_ (¬1) LA REGIME DU SABRE EN ALGERIE (LA REVUE MILITAIRE FRANCAISE PARIS 1869 P.P.13,17,31?48)

ج - المسألة اليهودية وقانون كريميو

الموقف من أرضية واقعية - ولمصلحة فرنسا أيضا - فكتبت ما يلي: (وجد الأهالي - الجزائريون - أنفسهم، وهم مرغمين على البقاء تحت أشواك المسيحيين واليهود لأنهم لم يبق فيهم أي غني بورجوازي، وحولت مساجدهم إلى كنائس، واضطر الكثيرون منهم إلى الهجرة نحو المغرب وتونس. أما ما بقي لأهالي الجزائر من الأعمال، فهي: السخرة والإغارات والضرائب والجفاف والسلب والنهب والربا وكروب الجوع والثورات، ونطلب منهم بعد ذلك كله أن يبقوا أصدقاء لنا في حالة الحروب) (¬1). لقد وضح للجزائريين من خلال الصراع الدائر بين مراكز القوى الاستعمارية، أن شعب الجزائر ومشكلاته لم تكن تعني بالنسبة للإستعماريين شيئا. وأن كل اهتمام هؤلاء موجه لتجنيس الجزائريين وصهرهم في بوتقة المجتمع الإفرنسي، بعد إعادة تشكيلهم، سواء كان ذلك بصورة بطيئة أو مستعجلة وكان لا بد لذلك من أن يثير كوامن الغضب في أعماق نفوس المسلمين المؤمنين. ج - المسألة اليهودية وقانون كريميو: استقبل اليهود في الجزائر جحافل الغزو الاستعماري الإفرنسي بالفرحة والابتهاج (سنة 1830) حتى أنهم (ركعوا على ركبهم لتقبيل أقدام ضباط وجنود الحملة وأيدتهم) وأصبحوا بعد ذلك وسيلة الإفرنسيين للسيطرة على البلاد. ووثقوا روابطهم بهم، وبدأ البعض منهم في الحصول على الجنسية الإفرنسية بصورة شخصية. حتى إذا ما أقبل العام 1843، تم وضع أول مشروع لتحقيق تجنيس جماعي ¬

_ (¬1) ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز ص 37 - 38.

لهم. واتضح بعد ذلك أن من مصلحة فرنسا ربط يهود الجزائر بها وتحويلهم إلى فرنسيين. واقترح المجلس العام لمدينة قسنطينة عام 1858 تجنيسهم بصورة جماعية، ووجه يهود الجزائر عام 1864 مذكرة إلى مجلس السيناتوس كونسولت بفرنسا في الموضوع ذاته حتى يحصلوا على حق الإنتخاب والعضوية في المجالس العامة. ولم يطل الأمر كثيرا، ففي 14 تموز - يوليو - 1865 صدر قرار من المجلس نص على منح الجنسية الإفرنسية لليهود والمسلمين معا بصورة شخصية مع إحتفاظهم بأحوالهم الشخصية (حيث نصت المادة الثانية من قرار التجنيس على أن الأهالي اليهود يصبحون فرنسيين مع احتفاظهم بالشخصية الموسوية. ولهم الحق في العمل بالجيش والوظائف العامة بالجزائر). واكتسب اليهود بعض الحقوق المدنية. وأخذت المجالس العامة بالجزائر، تطالب كل سنة إبتداء من هذا التاريخ بتحقيق الجنسية الجماعية لهم. وقد حمل المحامي (كريميو) (¬1) على عاتقه ¬

_ (¬1) كريميو - أدولف: (CREMEUX ADOLPHE ISAAC MOISE) محام يهودي وسياسي إفرنسي، من مواليد نيم (NIMES) (1796 - 1880) أصبح نائبا في سنة 1842 و1846، عمل مستشارا (يساريا) للملك لويس فيليب. وتآمر ضده في انقلاب سنة 1848، كما أسهم في انتخاب لويس بونابرت (وثلاثتهم من المحفل الماسوني الإفرنسي). وانتخب نائبا عن اليسار المتطرف في باريس سنة 1869، وبذل نشاطا كبيرا من أجل إعلان الحرب على بروسيا. وعندما اجتاحت القوات البروسية فرنسا وطوقت باريس شكل كريميو مع رفاقه حكومة (تور). ولم يلبث أن أصبح في 20 تشرين الأول - أكتوبر - منتخبا عن الجزائر. وفي 24 تشرين الأول - 1870 - أعلن قانونه المشهور بمنح الجنسية لليهود. وأصبح عضوا في مجلس الشيوح - السيناتور - مدى الحياة في سنة 1875. ومن أعماله أنه فرض على الجزائر بعد قمع ثورة سنة 1871 قانونا بتجريد الجزائريين من ممتلكاتهم التي بلغت مساحتها (446،406) هكتارا منها (301،615) هكتارا من الأراضي الزراعية، بالإصافة إلى غرامات بلغت (64،739،75) فرنك إفرنسي، أوما =

تحقيق هذا الهدف منذ عهد ملكية لويس فيليب، ووثق صلاته بيهود الجزائر خلال عهد الإمبراطورية. وقام بحوالي سبع عشرة رحلة إلى الجزائر للاتصال بزعمائهم والاتفاق معهم على الإطار الذي يتم فيه مشروع التجنيس. واستمر في بذل الجهد وتذليل الصعوبات، حتى إذا ما أتيحت له الفرصة في حكومة تور وبعد سقوط نابليون الثالث، استغل الظروف الصعبة التي تمر بها فرنسا آنذاك لتحقيق ما دعاه (أكبر حلم في حياته) فأصدر قانون 24 تشرين الأول - أكتوبر - 1870 الذي يقضي: ((بتجنيس اليهود في الجزائر بصورة جماعية وإجبارية) ونزع اليهود عنهم ثيابهم القديمة - العربية - ولبسوا لباس الأوروبيين، بعد أن تطبعوا بأخلاقهم وعاداتهم. اختلفت ردود الفعل تجاه (قانون كريميو) حتى بين يهود الجزائر. ومن المقولات التي طرحت في هذا المجال: (لقد رأينا كثيرا من اليهود متألمين من ذلك الأمر، لأنه أوقعهم فيما ليسوا أهلا له من حمل السلاح والتوجه إلى الحرب وغير ذلك، مع أنهم لا يقدرون على شيء منه. وقد شوهد من حالهم الأمر الغريب عندما زجوا في معركة (المليلة) وصاروا عبرة لكل من رآهم) ورفع كبار الدين في ولاية - إيالة - وهران - عريضة للسلطات الإفرنسية جاء فيها: (تتصل قضية التغيير في الشريعة الإسلامية وعوائد المسلمين بمرسوم التجنيس. الذي ينص - من بين ما ينص عليه - على استحداث محاكم الجنايات بالجزائر، وإسناد وظيفة القضاء للمحلفين

_ = يعادل 70 بالمائة من رأس المال المتوافر في الجزائر). LE DEFI ISRAELIEN (LUCIEN CARVO DEMARS) LIBAN 1971 P.P.44 - 45.

الأوروبيين واليهود، والاستغناء بالتدريج عن المحاكم الإسلامية ... لقد علمنا بطلب تغيير أحكام شرعنا، فلم نقبل هذا الطلب، وعارضناه بالكلام والكتابة. ورفعنا شكايتنا إليكم نطالب بالإبقاء على شريعتنا وعلى أصلها، وأن لا يقع فيها تبديل ولا تغيير، وفاء بالعهد الصادر من الدولة يوم استيلائها على الإقليم الجزائري في 5 تموز - يوليو - 1830. وكذلك العهد الواقع بين كبراء مخزن وهران وبين الدولة يوم 6 حزيران - يونيو - 1835 .. ونحن معشر المسلمين لا عمدة عندنا سوى ديننا وهو رأس مالنا، ولا يخفى أن الشرع عندنا هو الدين، والدين هو الشرع، فلا فرق بينهما كما يتوهمه بعض الناس، وإذا وقع أقل القليل من التغيير في شرعنا فقد تغير ديننا لأنهما شيء واحد ...) (¬1). أما (ابن علي الشريف باشآغا شلاطة) المشهور بعمالته لفرنسا، فقد صرح أمام قائد فرنسي بما يلي: (كم نحن مجروحون من تجنيس اليهود بالجملة، دون تفريق أو تمييز بين الرجال الفاهمين وبين اليهود الذين تعرفهم مثلي، وتعرف أننا رافقناكم في كل المعارك، وبدلا من أن تشجعونا، أبقيتمونا مرؤوسين محتقرين. إن الصحافة تتهمنا باطلا وتشتمنا وتهددنا في أملاكنا وشرفنا. ولقد حملنا السلاح لندافع عن أنفسنا). ونقلت (صحيفة الشمال) عن أحد الزعماء الجزائريين قوله: (إن الجزائريين كلهم على كلمة واحدة، في إنه ليس اليهود هم ¬

_ (¬1) تاريخ الرسالة 1 كانون الثاني - يناير - 1872 وهي تحمل تواقيع: أحمد ولد القاضي باشآغا فرندة بمنطقة معسكر؛ ومحمد عبد الله بن والي خليفة ميرا والشلف بمنطقة مستغانم. وحامد بن حامد آغا أولاد رباح بتلمسان. وعبد القادر ولد الدين آغابني عامر ببلعباس. وبذلك فهم يمثلون كل سكان ولاية - إيالة - وهران. (عن ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز - ص 145 - 146) فصل الموقف من تجنيس اليهود.

الذين أصبحوا فرنسيين، ولكن فرنسا هي التي أصبحت يهودية). (¬1) وحاول (كريميو) الدفاع عن مشروعه بقوله: (كيف تمنح جمهورية 1848 الحرية والقوانين للسود، ولا تعطي جهورية 1870 التجنيس لليهود الذين يرتدون الثياب الإفرسية منذ سنوات، قبل أن يرتدوا البذلة الشرقية) غير أن (كريميو) اعترف أن قرار 24 تشرين الأول - أكتوبر - هو الذي جعل اليهود قضاة، وهو الذي دفع المسلمين إلى الثورة. وقال: (نعم هذا هو الواقع). وعلى غرار (كريميو) دافع المجلس الملي المركزي الإسرائيلي في فرنسا، على القرار باعتباره (ضرورة اجتماعية) ونفى أن يكون سببا في ثورة الجزائريين. وادعى أن الأسباب المادية لثورتهم تكمن في أنهم كانوا على استعداد في كل وقت للثورة ضد المسيحيين. واعتبر أحد القادة العسكريين المعاصرين للحادث: (بأن قرار التجنيس الكئيب النتائج هو الذي أشعل النار في كل مكان ويجب إعدامه. وروي عن بعض الأهالي قولهم: (بأن اليهود الذين لا يدفعون الضرائب. ولا يشمون رائحة البارود، أصبحوا مساوين للإفرنسيين. ونحن الذين قدمنا عشرين ألفا من أبنائنا للحرب، وأعطينا شرفنا، نعامل هكذا كالمغلوبين). أما الحاكم العام للجزائر سنة 1871 (الأميرال الكونت دو غيدان) فقد رفع تقريرا إلى وزير الداخلية الإفرنسية في 29 نيسان - إبريل - 1871 جاء فيه: (لقد جرح العرب في أعماق قلوبهم وفي وطنيتهم النظيفة بسبب تجنيس اليهود الجماعي الذي سمح لليهود باحتلال مناصب عالية إدارية وقضائية). ¬

_ (¬1) LE NORD DU 9 ET LE 10 MAI 1871.

وصرح حاكم (تيزي أوزو): (بأنه استمر طوال ثلاثة سنوات وهو يسأل الناس ويستفسرهم عن سبب ثورتهم، وأنه خرج بالنتيجة التالية: لقد ثار المسلمون ضد السوقة اليهود وضد التصرفات الحمقاء لحكومة الرابع من أيلول - سبتمبر -). واستنكر (قارو) (¬1) قرار التجنيس بقوله: (حصل أربعون ألف يهودي في يوم واحد، وهو يوم النكبة والكارثة، وبواسطة الغش والخداع، على المزايا التي لم يحصل عليها اللاتين في روما إلا بعد نضال قرنين من الزمن) وأكد أن: (قرار 24 تشرين الأول - أكتوبر - هو غلطة ضد الوطن، وحرض الجزائريين على الثورة). تلك هي بعض المقولات التي طرحت في مجال (قانون كريميو) لتجنيس اليهود جماعيا، وتقابلها مقولات كثيرة للدفاع عن هذا القانون. المهم في الأمر هو أن هذا القانون قد أخذ طريقه للتنفيذ، رغم معارضة المسلمين في الجزائر ومقاومتهم له، وعلى الرغم أيضا من تصدي بعض الإفرنسيين من مدنيين وعسكريين - وحتى اليهود لمعارضته ومقاومته. وهناك من ينكر أن يكون لهذا القانون علاقة بثورة 1871 - في حين يرجع آخرون لهذا القانون سبب الثورة وذريعتها. والأمر الذي لا يقبل الجدل هو أن هذا القانون قد ترك أثرا عميقا في نفوس الجزائريين المسلمين المجاهدين في سبيل الله، ودفعهم لحمل السلاح دفاعا عن مقدساتهم. المهم في الأمر بعد ذلك، ربط هذا القانون بما كان يحدث على جبهة المشرق (في بلاد الشام) وفقا لما سبق ذكره، وكذلك ربط هذا ¬

_ (¬1) GARROT (LA MYSTIFICATION DU DECRET CREMIEUX) ALGER 1898 P.P.14 - 21, 38, 65 - 68.

القانون بما تم تطبيقه عند احتلال تونس، وفقا لما أورده الشيخ المجاهد أحمد توفيق المدني، ومنه ما يلي: (كانت بتونس خاصة، وبمختلف بلاد المملكة التونسية يومئذ عامة، طائفة يهودية كبيرة العدد، مسالمة، تشتغل في أمان وفي حرية مطلقة بالتجارة. وأخرجت المدرسة الحديثة طائفة من الشبان اليهود تعلموا وأصبحوا محامين وأطباء وصيادلة. وأخذ الشيطان ينفخ في أوداجهم، فأنفوا البقاء رعايا تونسيين، وراموا الإحراز على الجنسية الإفرنسية أسوة ببني ملتهم في الجزائر منذ صدور قانون كريميو سنة 1872، فأصبحوا حاكمين بعد أن كانوا محكومين. ورفعوا عقيرتهم يومئذ. وتوالت إجتماعاتهم وأخذوا في أقوالهم وفي بعض كتاباتهم يمتهنون جنسية تونس، ويفحشون القول للتونسيين .. (وتحدثت إلى أحد اليهود في الأمر، فقال لي: نحن اليوم نجتمع حول ثلاث من النقط لا خلاف بيننا فيها إطلاقا؛ اليهودية والتوراة وأورشليم - القدس. ونحن رعاية لمصالحنا، وصونا لتجارتنا، وحفظا لأموالنا، نريد أن نكون دوما مع الغالب لا مع المغلوب ... ونحن نرى أن نكون من الآن فرنسيين حتى لا يسير الركب الفرنسي الجامح بدوننا ... ومآلنا المحتم هو أن نرجع لفلسطين وأن نبني دولتنا من جديد على أنقاض دولة داوود. وعندئذ يعود لأورشليم عزها وازدهارها ويكون لليهود صوت في العالم ... وعندئذ يحكم سلطان التوراة) (¬1). ويكمل (لوسيان كورفو) صورة الموقف ونتائج (قانون كريميو) على أفق المستقبل بقوله: (ولنتذكر أيضا أن هناك ثمانون بالمائة من ¬

_ (¬1) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر /417 - 76/ ص 51.

د - التحريض الخارجي (البروسي - العثماني)

اليهود الإفرنسيين الذين هاجروا إلى إسرائيل عند إقامتها من الجزائريين اليهود الذين تم تنظيمهم وتدريبهم على توجيه الأمور الإدارية والسياسة وتكوين الأجهزة القيادية (الكادرات) لتنفيذ السياسة الإفرنسية بالتعاون مع أبناء دينهم في باريس) (¬1). د - التحريض الخارجي (البروسي - العثماني). 1 - التحريض البروسي: انفجرت الحرب البروسية - الإفرنسية في شهر تموز - يوليو - 1870. وعلى أثر ذلك نشطت أجهزة الدعاية البروسية وشبكات جاسوسيتها في العمل ضد فرنسا، في أوروبا وخارجها على حد سواء. وانعكس ذلك بصورة طبيعية على صفحة الجزائر، حيث حاولت بروسيا استثمار النقمة المتعاظمة ضد فرنسا وممارساتها وتوظيف الغضب الشعبي ضد الوجود الإفرنسي في الجزائر. وقد تم اختيار تونس لتكون قاعدة للنشاط المضاد لفرنسا بسبب قرب الحدود من جهة، ونظرا لتوافر أعداد صخمة من اللاجئين والمنفيين من الجزائريين الذين كانوا يستقرون في المناطق المتاخمة للحدود التونسية - الجزائرية، من جهة ثانية. وعلى هذا، نظم البروسيون شبكة إعلامية سرية في صيف 1870 بهدف التحريض ضد السيطرة الإفرنسية بالجزائر، خاصة بعد انفجار أحداث الرابع من أيلول - سبتمبر -. وكان على رأس هؤلاء العملاء والجواسيس البروسيين (جيرارد روهلف) و (الدكتور وتزستاين) اللذان وصلا إلى تونس بحرا - عن طريق حلق الوادي في شهر آب - أغسطس - 1870. وقد وقع الاختيار ¬

_ (¬1) التحدي الإسرائيلي - لوسيان كارفو - لبنان (طبعة فرنسية) ص 45.

على (جيراردروهلف) لتنفيذ هذه المهمة بسبب معرفته القديمة للمنطقة ومعرفته أيضا للغة العربية معرفة جيدة. حيث كان يعمل جنديا مرتزقا في حرس الشرف بالجزائر ثم غادرها في العام 1869 إلى طرابلس للقيام بنشاط مضاد للسياسة الإفرنسية بالجزائر. غير أن إقامته في طرابلس لم تستمر طويلا، إذ اكتشفت السلطات التونسية نشاطاته فأبعدته ورفيقه إلى صقليا - بعد اعتقالها لفترة قصيرة. وقد استمر بعد ذلك تسرب الجواسيس البروسيين من تونس إلى مدن الجزائر الوسطى الساحلية، وإلى المغرب الأقصى حتى طنجة لنشر دعايتهم ضد الإفرنسيين، واستمالة الأعوان إليهم. ولكنهم على ما يظهر لم ينجحوا في مهمتهم النجاح المطلوب، ولم يستميلوا إلا نفرا قليلا لم يؤد دورا مفيدا لهم ... ولعل هذا الفشل هو الذي دفع البروسيين إلى تزوير رسائل تأييد باسم الجزائريين إلى الإمبراطور البروس. فقد نشرت الجريدة الرسمية الألمانية في أواخر تشرين الثاني. نوفمبر - 1870 رسالة مزعومة من الجزائريين إلى الإمبراطور (غليوم) يعلنون فيها تأييدهم له وفرحهم بانتصاره. واضطر الجزائريون بالعاصمة إلى تكذيب ذلك في رسالة طويلة وجهوها إلى محرر جريدة (المبشر) لنشرها. وكان في مقدمة الموقعين عليها: حسن بن بريهمات، وعدد آخر من القضاة ورجال الإفتاء والأئمة والعدول (¬1). لم يحاول الإفرنسيون فهم حجج الثورة الدائمة في الجزائر وأسبابها، فاتهموا البروسيين بالتحريض عليها، كما اتهموا في الوقت ذاته حلفاءهم الإنكليز بالتحريض على الثورة، في محاولة لاستثمار ¬

_ (¬1) المبشر عدد 732 (5 كانون الثاني - يناير - 1871) والأخبار 18 كانون الأول ديسمبر 1870 وبريد وهران (21 كانون الأول - ديسمر - 1870).

التحريض الوطني الجزائري (محيي الدين بن عبد القادر)

الخلافات القائمة بين فرنسا وبريطانيا بشأن التنافس الاستعماري. وقد لا تكون هناك أهمية لاستعراض ما كانت تتبادله الصحافة البروسية - الإفرنسية - البريطانية من اتهامات بشأن التدخل في الجزائر والتحريض على الثورة. غير أن الأمر الثابت هو أن الجهود الأجنبية وعمل أجهزة الاستخبارات والدعاية كان - من حيث النتائج - محدودا. غير أن سقوط فرنسا وانهيار إمبراطورية نابليون الثالث أمام البروسيين كان ذا أثر حاسم، إذ أظهر ضعف فرنسا من جهة، وفتح باب الأمل الواسع أمام الجزائريين في التحرر من ربقة الاستعمار الاستيطاني الذي كان يجثم بكل ثقله، وبكل وحشيته، على صدورهم. 2 - التحريض الوطني الجزائري (محيي الدين بن عبد القادر): كان محيي الدين يعيش مع أبيه الأمير عبد القادر في منفاه بدمشق واشتهر بثقافته الواسعة، وحماسته للقضية الإسلامية. وحظي باحترام الدولة العثمانية التي أنعمت عليه (بالنيشان العثماني من الدرجة الثالثة) أيام السلطان عبد العزيز. وأسند إليه في سنة 1865 منصب (قاضي أزمير). وبقي يمارس نشاطه بصورة عادية حتى سنة 1870، غير أنه كان يكثر من التبرم والشكوى، ويتحرق شوقا لاستئناف الجهاد من أجل تحرير الجزائر. وعندما تأزمت العلاقات البروسية - الإفرنسية، تظاهر محيي الدين بالمرض، وحصل من الأطباء على تصريح له بضرورة السفر للاستجمام. فأذن له أبوه الأمير عبد القادر بالتوجه إلى الإسكندرية. وعندما اندلعت الحرب البروسية - الإفرنسية، ظن محيي الدين أن أمدها سيطول، وأراد انتهاز الفرصة لتحرير وطنه الجزائر من ربقة الاستعمار الإفرنسي، فغادر الإسكندرية متوجها إلى تونس بصورة

خفية - وبدون ان يعلم أحدا بوجهته - وذلك في آخر شهر تشرين الأول - أكتوبر - 1870. واستقبلته السلطة الرسمية التونسية بحفاوة، ومنحه الباي محمد الصادق (نيشان الافتخار التونسي) في 18 تشرين الثاني - نوفمبر -. وتظاهر (محيي الدين) بالانصراف لدراسة المخطوطات العربية - الإسلامية في تونس، وتجنب الاتصال بالناس - قدر المستطاع، واكتفى بتحرير نحو المائتي رسالة لزعماء الجزائر حتى (يستعدوا لمحاربة فرنسا عند قدومه إليهم، وأرسلها بصورة سرية مع المرسلين). غير أن أجهزة الاستخبارات الإفرنسية المتعاونة مع الاستخبارات التونسية شعرت بنشاطه الخفي على ما يظهر. فغادر (محيي الدين) تونس إلى مالطا، وعاد فاتجه نحو طرابلس الغرب، ومنها إلى توزر، ونفطة ونغزاوة، متنكرا في ثياب مغربية، ومعه عدد من إخوانه المجاهدين. وعند ذلك أصدرت السلطة التونسية بتحريض من الاستخبارات الإفرسة أوامرها إلى ولاة الأقاليم وأجهزة الشرطة بمطاردته واعتقاله. واستطاعت السلطات التونسية اكتشاف قافلة من أهل سوف كانت متجهة إلى الجزائر، ومعها كمية من البارود وزنها (63) رطلا، فصادرتها منهم. غير أن (محيي الدين) استطاع الوصول إلى منطقة الحدود، حيث التف حوله عدد كبير من الجزائريين اللاجئين أو المنفيين إلى تونس، ومنهم ابن ناصر بن شهرة الذي كان متمردا ثائرا ضد السلطات الإفرنسية منذ العام 1851، واستقر في (نفطة) وجعل منها قاعدة لجهاده ضد الإفرنسيين، متنقلا ما بينها وبين نغزاوة والجريد. كما انضم إليه الشيخ سليمان بن جلاب السلطان السابق في (تقرت) والذي أبعد إلى هناك منذ العام 1854. وكذلك الشيخ إبراهيم بن عبد الله، مقدم إخوان عبد القادر الجيلالي (بورقلة) والشيح مصطفى بن عزوز، مقدم زاوية

نقطة الرحمانية التي فتح أبواب زاويته لاستقبال كل الجزائريين المنفيين والفارين إلى هناك، ومحمد بن العشابي البسكري الذي التجأ إلى نغزاوة منذ مدة طويلة، والشيخ الميزوني، مقدم زاوية الكاف، الذي وضع تحت تصرف محيي الدين كاتبا لمساعدته في تحرير الرسائل والبيانات، ومحمد بن أحمد الصغير، ابن الخليفة السابق للأمير عبد القادر في (الزيبان وسيدي عقبة)، ومحمد بن علاق رئيس فرنسا أولاد يعقوب، وزيادة على هؤلاء حضر مع (محيي الدين) من طرابلس، ضابط الاستخبارات البروسي (جيرارد روهلف). وابن هلال كاتب أبيه، والشيخ محمد رزوق بن سيدي صالح البسكري الذي كان قد اضطلع بدور كبير في أحداث (ثورة الزعاطشة عام 1849) والتجأ إلى طرابلس. وكل هؤلاء على ما هو واضح من كبار المجاهدين في سبيل الله - باستثناء البروسي جيرارد طبعا - وممن كانت لهم أيامهم المجيدة ضد الاستعمار الإفرنسي. ويدل تجمعهم حول (محيي الدين) في أواخر العام 1870، على أنه قد تم الاتصال معهم بصورة مسبقة، وقبل أن يحضر إلى هناك. كما يؤكد ذلك أن (محيي الدين) كان مصمما على الإفادة من ظروف انهيار فرنسا أمام الضربات البروسية لتحرير وطنه وقومه. وقد كتب (محيي الدين) عددا كبيرا من الرسائل خلال شهر كانون الأول - ديسمبر - 1870 إلى عدد من الزعماء الجزائريين: (يدعوهم إلى الجهاد، وتدبير المؤن والذخائر، وتجنيد الناس). واستعمل محيي الدين في بعض رسائله، خاتم أبيه، للتأثير على الناس. ولكن، وبينما كان (محيي الدين) يقوم بهذا النشاط في منطقة الحدود، اتصلت الحكومة الإفرنسية بالقائم بأعمال قنصليتها في دمشق، ليطلب من الأمير عبد القادر أن يعلن استنكاره لنشاط ابنه، فعمل الأمير عبد القادر على تأكيد التزامه وعهوده تجاه فرنسا. وقام

بتحرير الرسائل التالية: 1 - رسالة إلى أعضاء حكومة (تور) ببوردو، واستنكر فيها استغلال اسمه لإثارة سكان الصحراء (¬1). 2 - رسالة إلى قنصل فرنسا بطرابلس الغرب، طلب منه العمل على إعادة ابنه. وأحاطه علما بأنه كاتب الوزير التونسي (مصطفى خزندار) والقنصل الإفرنسي، فلم يردا عليه (¬2). 3 - رسالة إلى القائم بأعمال القنصلية الإفرنسية بدمشق جاء فيها: (بأن عدو الله وعدوي وعدو نفسه، المجنون محيي الدين، وصل إلى الحدود بين حكومة تونس وحكومة الجزائر) وطلب منه الحصول على إذن لتوجيه نداء إلى سكان الجزائر: (ليتحقق الناس أنني بريء منه ومن فعله) (¬3). 4 - رسالة إلى ابن عمه (قاضي معسكر الطيب بن المختار) طلب منه أن يحذر الناس من اتباعه (فإنه محض عبث) (¬4). 5 - رسالة بشكل نداء موجه لسكان الجزائر يحذرهم من مغبة اتباع ابنه الذي عبر عنه (بالشقي) هو ومن انضم إليه، وأعلن أنه ¬

_ (¬1) تاريخ الرسالة 20 شوال 1287 هـ (3 كانون الثاني - يناير - 1871) ونشرتها صحيفة المبشر، العدد 736 (تاريخ 2 شباط - فبراير - 1871). (¬2) تاريخ الرسالة 18 ذو القعدة 1287 هـ (الموافق 9 شباط - فبراير - 1871). (¬3) تاريخ الرسالة منتصف محرم 1288 هـ (الموافق 9 نيسان - إبريل - 1871). ونشرتها صحيفة المبشر، العدد 754 (تاريخ 8 حزيران - يونيو - 1871). (¬4) تاريخ الرسالة 20 محرم 1288 هـ (4 نيسان - إبريل - 1871) ونشرتها صحيفة (المبشر) العدد 753 (1 حزيران - يونيو - 1871).

سيتبرأ منه إذا رفض الانصياع إلى أوامره وطلب منهم أن (يطردوه من بينهم) (¬1). استطاعت فرنسا بذلك، وعن طريق الأمير عبد القادر، إحباط معظم الجهود التي بذلها (محيي الدين) طوال أشهر عديدة. وزاد موقفه حرجا عند قيام حكومة تونس بحذو حذو الأمير عبد القادر في مطاردة (محيي الدين) وإلقاء القبض على كل (الغرباء) الذين يفدون بحرا إلى الجزائر. ولكن وعلى الرغم من الضجيج الذي أثارته رسائل الأمير عبد القادر، وما نزل بابنه من تدهور في الروح المعنوية بنتيجة ذلك، وعلى الرغم أيضا من مضايقات الحكومة التونسية، فقد صمم (محيي الدين) متابعة أعماله في بداية سنة 1871، فتقدم بمن انضم إليه من المجاهدين والأنصار إلى قرية (نقرين) في أواخر شهر شباط - فبراير- وسيطر على قرية (فركان) وراسله سكان الصحراء ليتجه إليهم جنوبا. ولكنه فضل أن يتجه نحو (الشريعة) و (تبسة). وفي يوم 9 آذار - مارس دخل إلى (نقرين) ووفد عليه هناك وفد من أولاد خليفة، الثائرين بالشريعة. فاتجه معهم إلى (سكرانه) ثم إلى (الشريعة) و (جبل الدكان). وشعر المعمرون الأوروبيون بالخطر، فتحصنوا بمدينة (تبسة) وأغلقوا أبوابها، والتجأ معمرو حلوفة الأوروبيون إلى (مسكيانة). وفي يوم 26 آذار- مارس- اصطدم محيي الدين بقوات فرنسية متفوقة في (وادي الحميمة) ودارت رحى معركة طاحنة أظهر فيها المجاهدون قدرا كبيرا من الثبات، غير أن القوات الإفرنسية المتفوهة بالقوى والوسائط النارية، استطاعت إحراز النصر، واضطر ¬

_ (¬1) تاريخ الرسالة أواخر المحرم 1288 هـ (20 نيسان - إبريل - 1871) ونشرتها صحيفة (المبشر) العدد 754 (8 حزيران - يونيو - 1871).

التحريض العثماني

محيي الدين أن يسحب بفلول قواته إلى (بلاد النمامشة - داخل الحدود التونسية) ورجع محيي الدين بعدها إلى مدينة صيدا في بلاد الشام، وأقام فيها سنة تقريبا بعد أن رفض أبوه استقباله، وبعد أن طرد عائلته من منزله غير أن بعض أصدقاء الأمير عبد القادر في دمشق (أمثال عادل الصلح ومحيي الدين الجوهري) دخلوا في الصلح بين الأب وابنه. كما دخل القائم بالأعمال الإفرنسي بدمشق بعد أن تسلم أمرا من حكومته بطلب العفو عليه من أبيه، فعفا عنه في رسالة وجهها إلى القائم بالأعمال الإفرنسي يوم 15 شعبان 1288هـ (تشرين الثاني - نوفمبر - 1871). كما كتب إلى والي الجزائر العام الإفرنسي، يخبره بوصول ابنه إلى دمشق. 3 - التحريض العثماني لم تتوقف الدولة العثمانية عن بذل ما تستطيعه من الجهود في محاولة لاستعادة نفوذها في المغرب العربي - الإسلامي. وعندما وقعت الحرب البروسية - الإفرنسية، حاولت الدولة العثمانية من جديد استثمار الموقف. سواء عن طريق (محيي الدين) الذي يقال أنه توجه إلى الجزائر بتحريض من السنوسيين بسوريا، والذين كان لهم ألف من الأتباع والدعاة في الجزائر، يجوبون البلاد (ويدعون إلى الجهاد ضد المسيحيين) أو عن طريق (الجمعية الخيرية الإسلامية للجزائر المحروسة) التي كانت على اتصال بالباب العالي. وجدير بالذكر أنه عندما ظهر (محيي الدين) في خريف سنة 1870 بمنطقة الحدود التونسية - الجزائرية، أشاع أتباعه أن جيشا عثمانيا من ستة آلاف جندي هو في طريقه إلى تونس للسيطرة عليها وتحرير الجزائر. ورافق ذلك انتشار دعاة من قبل العثمانيين في (قابس) و (صفاقس)

و (جربة) أظهروا نشاطا في الدعاية لصالح السلطان العثماني، هذا بالإضافة إلى قيام ثمانية ضباط من الأتراك الذين يجيدون التحدث باللغة العربية في الجنوب التونسي، ببذل نشاط واضح لاستمالة الأنصار وتنظيمهم وإمدادهم بالأموال. لم تقف فرنسا موقف اللامبالاة من التحريض العثماني، فعملت على تحذير (الباب العالي) ومارست ضغوطا قوية أرغمت الدولة العثمانية على سحب ضباطها من تونس إلى طرابلس في شهر كانون الأول - ديسمبر - كما عملت على سحب المؤن والذخائر الحربية التي وصلت إلى تونس بعد ذلك في شهر نيسان - إبريل - 1871. وعلى أثر ذلك، وجه زعماء (الجمعية الخيرية الإسلامية للجزائر المحروسة). رسالة إلى الصدر الأعظم (محمد نديم باشا) في أواخر عام 1871، جاء فيها (إن أصل محاربتنا وعصياننا ضد أعداء ديننا كان باختيار الدولة العلية ورغبتها. ولم نقصر في شيء مما رغبت به الدولة العلية وأشارت به علينا بواسطة المرحوم عالي باشا السابق، وحضرة تورس باشا، وما وعدنا به من الإعانة السرية والعلية بالأسلحة والنقود، وغريب بعد ذلك سكوت الدولة العلية عن إنجاز ما وعدتنا به بعد تحريضنا على القتال والعصيان، مع أننا نحن نبلغ الخمسة ملايين، وكلمتنا كلمة واحدة، وإيماننا ولله الحمد ثابت، وإقدامنا في الحروب بات حديث الركبان) (¬1) وفي رسالة أخرى وجهها زعماء الجمعية الخيرية جاء ما يلي: (إننا نقترح على السلطان اختيار واحد من الأمور الثلاثة التالية لحل مشكلة الجزائر: فإما توسيط بعض الدول حتى تسلم فرنسا بسيادة السلطان على الجزائر، وإما مطالبة فرنسا بالتنازل ¬

_ (¬1) تاريخ الرسالة هو 10 رجب 1288 هـ (الموافق 25 أيلول - سبتمبر - 1871).

هـ - الكوارث الطبيعية

عن الجزائر مقابل مبلغ مالي نلتزم بدفعه. وإما إعلان الحرب عليها إذا رفضت الأخذ بالحلين الأولين) (¬1) ويظهر بوضوح أن التحريض العثماني، وجهود (محيي الدين بن عبد القادر)، وكذلك التحريض البروسي، لم يكن بعيد الأثر في تفاعلات ثورة سنة 1871، لا سيما وأن الشواهد المتوافرة لا تؤكد يقينا ارتباط قادة هذه الثورة بالمحرضات الخارجية. هـ - الكوارث الطبيعية: عرفت الجزائر كل أنواع الكوارث الطبيعية والنكبات الاقتصادية والأزمات السياسية والمآزق الاجتماعية منذ أن وطئت جحافل الغزو الاستعماري الاستيطاني أقدامها ثرى الجزائر. وكانت السياسية الوحشية التي طبقتها السلطات الإفرنسية ضد الجزائريين أساس كل هذه المحن، التي عملت على تحويل الجزائريين إلى طبقة بائسة محرومة من كل ضرورات الحياة ومتطلباتها، فالعمليات العسكرية التي شنها الجيش الإفرنسي، ومنها العمليات في منطقة القبائل عام 1857، أدت إلى فقدان السكان لاستقلالهم السياسي، وتدمير إنتاجهم الزراعي وثروتهم الحيوانية، بالإضافة إلى تخريب صناعتهم التقليدية والقضاء على أسواقهم التجارية، وجاءت الغرامات الحربية الفادحة والضرائب الباهظة المفروضة لتزيد من بؤس المواطنين الجزائريين. ولتلقي على كاهلهم ما لا قبل لأحد باحتماله. تعرضت الجزائر لغزو أسراب الجراد في العام 1864، وأخذ ¬

_ (¬1) تاريخ الرسالة هو 18 محرم 1289 هـ (الموافق 28 أذار - مارس - 1871).

هذا الغزو شكلا خطيرا مع بداية العام 1766 الذي أطلق عليه اسم (عام الجراد). حيث عبرت أفواج الجراد جبال الأطلس من الجنوب إلى حقول الشمال ومزارعه (في شهر نيسان - إبريل) ملتهمة في طريقها كل ما تجده من الخضار والثمار. ففقد الناس إنتاجهم، وتعرضوا لضائقة مادية شديدة، واستمرت بعد ذلك هجمات الجراد في كل عام. وبينما كان الأهالي يعانون هذه المحنة، حدثت زلازل في البليدة وقرى متيجة (متوجة) في مطلع العام 1867. وانتشر مرض الكوليرا والتيفوس. وكان وباء الكوليرا قد ظهر في العام 1866 بشكل محدود، ثم تعاظم خطره في العام 1867، وانتشر في البلاد عن طريق المسافرين الأجانب الذين كانوا يفدون إلى البلاد عن طريق الموانىء. ومع انتشار الكوليرا، انتشر أيضا مرض (التيفوس) فأخذ الجزائريون يموتون بالجملة في القرى والطرقات العامة، مما أرغم السلطات الإفرنسية على تسخير السكان لحفر الخنادق العميقة لدفن الموتى. (وذكر أن عدد الضحايا من المواطنيين الجزائريين هو مما يصعب تقديره، وأن الذين ماتوا خلال شهرين فقط قد وصل إلى مائتي وخمسين ألفا) (¬1) (وأن ضحايا الكوليرا في منطقة دللس وحدها بلغوا عشرة آلاف مواطن). أما في بسكرة (فقد مات أكثر من ألف مواطن خلال فترة (15) يوما فقط - ما بين 15 و 30 تموز - يوليو - 1867). لم تقف الكوارث الطبيعية عند حدود انتشار الأوبئة، وإنما تجاوزتها بسبب ما حدث من القحط والجفاف، مما أدى إلى نفاد المحصولات الزراعية والغذائية. فمنذ العام 1865 والمطر يشح ولا ينزل إلا بمقدار، وفي أيام قليلة من فصل الشتاء. ودام هذا القحط ¬

_ (¬1) ثورة 1871، الدكتور يحيى أبو عزيز ص 83 - 92.

ثلاث سنوات، وخاصة عام 1867 الذي قلت فيه حتى مياه الشرب، وجفت الينابيع في الصيف، واشتد البرد في الشتاء، فيبست الحشائش، وماتت المواشي، خاصة في الهضاب العليا. وتفشت من جراء ذلك المجاعة في البلاد، حتى أصبح الناس يؤرخون بها ويقولون حدث ذلك (عام الشر). أخذ سكان الهضاب العليا يهاجرون أفواجا وجماعات إلى أقليم التل بحثا عن الطعام. وكان سكان التل الذين توجه إليهم هؤلاء المنكوبون يعيشون في ضيق شديد. وأقدم بعض الأهالي على ارتكاب جرائم القتل والسرقات، حتى يلقى عليهم القبض فيضمنوا لقمة العيش داخل السجون. وعندما كثر ازدحامهم في الطرقات والساحات العامة بمدن الشمال وقراه بحثا عما يسد الرمق، تصايح الأوروبيون، وطلبوا إلى السلطات الحاكمة أن تطردهم. بدعوى أنهم كانوا يهددون - الأمن والصحة العامة. واستجابت هذه السلطات للأوروبيين، فأعطت أوامرها لضباط الجيش من أجل إقامة المعسكرات - لحشد المواطنين الجزائريين المنكوبين في مليانة والأصنام وغيليزان، وبالفعل، تم فيها حشد حوالي خمسمائة وأربعين ألف مواطن. وقضت هذه المجاعة على أكثر من ثلاثمائة ألف جزائري - في حين قدر بعضهم عدد الضحايا بضعف هذا الرقم. ففي ولاية (عمالة) قسنطينة مات مائة وستون ألف شخص، وفي مدينة الجزائر بلغ عدد الموتى مائة ألف شخص. وتجاوز عدد الموتى في عمالة وهران مائة ألف شحص. وتناقص عدد مواطني القطر الجزائري خلال عشر سنوات، نتيجة التناقص المستمر في معدل الولادات منذ الاحتلال من جهة، وبسبب الكوارث الطبيعية من جهة ثانية، بأكثر من أربعمائة ألف شخص حتى سنة 1871. وبينما كان الأهالي يتناقصون على هذا

النحو، كان عدد الأوروبيين يتعاظم باستمرار. فقد كان عددهم (220) ألفا سنة 1861، وارتفع هذا العدد إلى (272) ألفا عام 1872. وذلك راجع لعدم تأثرهم بالأزمة لأنهم كانوا يملكون الأراضي الجيدة والمسقية في المناطق الساحلية كثيرة الأوطار، ولأنهم كانوا يحتفظون بمدخرات كافية من المواد الغذائية. استغل اليهود المجاعة عامي 1867 و1868، لتنمية ثرواتهم وأرباحهم عن طريق القروض التي كانوا يقدمونها للمنكوبين بفوائد فاحشة تتراوح بين أربعين ومائة بالمائة لمدة شهرين أو ثلاثة فقط من العام. مما جعل الكثيرين من الجزائريين يفقدون في نهاية الأمر أملاكهم ويتحولون إلى عمال بالخماسة. وبات من المحال على الجزائريين الوفاء بديونهم حتى عندما تخصب أراضيهم ويرتفع مردودها؛ إذ كان السماسرة اليهود والمعمرون من الأوروبيين، يتدخلون لخفض أسعار الحبوب بنسبة عشرين وحتى ثلاثين بالمائة. مما حمل الحاكم ماكماهون على القول: بأن رؤساء الأهالي الجزائريين دفعوا كل ثرواتهم التي استردوها من صغار الفلاحين إلى السماسرة اليهود أرباحا فاحشة عن القروض التي أخذوها منهم. والحقيقة، أن سعي اليهود وراء الأرباح الباهظة، لم يكن بالأمر الغريب عليهم، وهو ما أشار إليه أحد الأوروبيين في رسالة له بعثها إلى الإمبراطور (نابليون الثالث) في 10 أيار - مايو - 1865 وفيها: (أحيط جلالتكم علنا بأن الشعب الأهلي لعمالة وهران يدفع لصالح (ربا) اليهود، مبالغ تعادل أربعة أضعاف ما يدفعونه لفرنسا من ضرائب). وقد زادت الأزمة الاستعمارية حدة، عندما رفض بنك الجزائر تقديم (سلف - أو تسبيقات) لجمع المحصولات كما كان معتادا.

واستعجل الدائنون بقسنطينة في استعادة قروضهم، وخاصة من الحاج محمد المقراني، الذي كان قد اضطر إلى أخذ القروض من البنوك والسماسرة اليهود بأرباح عالية، حتى يساعد الفلاحين على توفير البذار. ولما كان الوطنيون الجزائريون عاجزين عن دفع ديونهم، فقد أحدث ذلك موجة من السخط والغضب في كثير من الجهات، وخاصة في منطقة حكم المقراني التي باتت تعيش حالة من اليأس القاتل. ولم تحاول السلطات الاستعمارية في الجزائر مد يد العون للوطنيين الجزائريين. وانطلق دهاقنة الاستعمار ومبشريه في إلقاء اللوم والمسئولية على الجزائريين أنفسهم، ومما قاله القسيس بورزي على سبيل المثال: (لم يقاوم العرب الجراد، وقالوا بأن الله الذي بعثه هو الذي سيطرده) في حين قال بعضهم: (لقد حدثت المجاعة بسبب كسل الجزائريين الفطري عن العمل، وكذلك لا يمكن، ولا ينبغي مساعدتهم). (وفي حين كان الجزائريون يعانون من انعدام وسائل الوقاية الصحية لهم، ومن سوء حالتهم الاقتصادية والمعاشية، وعدم اهتمام السلطات الإفرنسية بتحمل مسؤولياتها في مجابهة هذه الأوضاع، بينما كان الأمر مختلفا في أوساط الأوروبيين الذين كانت حالتهم الاقتصادية حسنة، والوقاية الصحية متوافرة لديهم). وكان كل ما فعلته فرنسا - كعادتها - إرسال لجنة للتحقيق في أسباب مجاعة 1867، وقد تقدم إلى هذه اللجنة بعض النواب الجزائريين هم (حسن بريهمات والمكي بن باديس وأحمد ولد القاضي). وجاء في شهاداتهم ما يلي: (... كان معظم الفلاحين يحتفظون بفائض منتجاتهم الزراعية - من الحبوب - في المطامير لاستخدامه في أيام الجوع أو القحط (وقت

المسغبة) ليدفعوا الضر عن أنفسهم. ولما حل بهم غلو السعر في استئجار الأراضي التي احتلها المستوطنون، مع الزيادة في المغارم، صارت الحاجة تدعوهم إلى الاستدانة، والحصول على القروض بفوائد فادحة تزيد على الستين بالمائة، ممن انتصب لذلك ولم يرحم خلق الله. واضطر الفلاحون الجزائريون إلى بيع الزرع والصرف قبل أوانه بأقل من نصف القيمة. فصار الزرع الذي يحصدونه في الصيف، يخرج كله من أيديهم في الشأن المذكور - ولم يبق بأيديهم فاضل يدخرونه). ولقد حاول شيوخ الجزائر وزعماؤها في الواقع بذل كل جهد مستطاع لتقديم المساعدات الطبية والمواد الغذائية. وأخرجت الأسر الموسرة ما عندها من مخزون الحبوب ووافر المال وقامت بتوزيعها على المتضررين والمنكوبين. واضطر بعض هؤلاء الزعماء - ومنهم محمد المقراني - إلى الاقتراض من السماسرة اليهود بأرباح فاحشة من أجل إسعاف المحتاجين. وقد وجهت حكومة (ماكماهون) نداءأ لكبار التجار، طلبت منهم أن يقدموا قروضا مالية - بضمان الدولة - لرؤساء الأهالي، ليقدموها بدورهم إلى مواطنيهم الجزائريين. واستجاب المقراني وتسلف من اليهودي (مسرين) الذي كان يملك أسهما في بنك الجزائر، قرضا بمبلغ ثلاثمائة وخمسين ألف فرنك، في شكل صكوك (سندات) غير أن هذا المبلغ لم يلبث أن ارتفع بالفوائد إلى نصف مليون فرنك. كما اقترض - المقرني أيضا - مبلغ مائتي ألف فرنك من اليهودي (عبادي - من عائلة لافي) وثلاثمائة ألف من اليهودي (أبو قاية) فارتفعت ديونه بذلك إلى مليون فرنك. وكان ذلك سببا في إيقاعه بمشكلات ومصاعب لا نهاية لها مع دائنيه.

و - الثورات التمهيدية

و - الثورات التمهيدية: لم تعرف الجزائر المجاهدة الهدوء أو الاستقرار منذ وطئت أقدام الغزاة المستعمرين ثرى الجزائر الطهور، ولم تكن ثورة باي قسنطينة في المشرق، وثورة الأمير عبد القادر في بقية أنحاء القطر الجزائري إلا البدايات الأولى للمقاومة التي لم تتوقف في يوم من الأيام. 1 - كان في منطقة (سور الغزلان) معلم يعلم القرآن الكريم للأطفال، اسمه محمد الأمجد بن عبد المالك، ولقبه (الشريف بوبغلة)، أغضبه ما كان يقوم به الإفرنسيون من انتهاكات ضد الإسلام والمسلمين، فأعلن ثورته في العام 1851 بعد أن انتقل إلى (بني مليكش) في حوض وادي الساحل الغربي، حيث انضم إليه الحاج عمر شيخ زاوية محمد بن عبد الرحمن الرحمانية وأتباعه الذين امتدت حركتهم إلى معظم مناطق جبال جرجرة والبيبان والبابور وحوض الصومام. وفي سنة 1854، قاد الحاكم العام للجزائر (راندون) (¬1) قوات ضخمة لاقتحام جبال جرجرة، واغتنم فرصة تمرد السكان ضد (آغاسباو بلقاسم أوقاسي) بتحريض من الشريف (بوبغلة) وتوغل بها إلى حوض سباو لمطاردة الثوار، واستطلاع المنطقة تمهيدا للعمليات العسكرية المقبلة. وأمكن له خلال هذه المطاردة القضاء على (بوبغلة) في كانون الأول - ديسمبر - 1854. غير أن الثورة استمرت في (ذراع الميزان) بقيادة الحاج عمر و (الإخوان الرحمانيين) حتى سنة 1856. ¬

_ (¬1) راندون: (RANDON CESAR ALEXANDRE MARECHAL DE FRANCE) قائد فرنسي، من مواليد غرونوبل (1795 - 1871). قام بدور كبير في حروب الجزائر التي برز فيها اسمه، وهو الذي قمع ثورات منطقة القبائل، وأصبح وزيرا للحربية طوال الفترة من سنة 1851 إلى سنة 1867.

حيث استطاع (راندون) إخمادها والقضاء على الثورة بعد جهود كبيرة، واضطر الحاج عمر إلى الانتقال بقواته في اتجاه شرق البلاد. 2 - تحرك الحاكم العام (رادون) من جديد في سنة 1857، لإخضاع المناطق الثائرة بقوة تزيد على عشرة آلاف مقاتل (¬1) وخاض السكان العزل والثوار ضده عددا من المعارك غير المتكافئة، منها معركة (ايشريضن - أو - ايشريدون كما يكتبها الإفرنسيون) وهي المعركة الكبيرة التي وقعت يوم 24 حزيران - يونيو - جنوب شرق قرية الأربعاء - نايث إيراثن - وأبد فيها الثوار بطولة رائعة وشجاعة لا توصف. ولم تتوقف المعارك إلا بعد اعتقال الحاج عمر يوم 7 تموز - يوليو - مما أضعف موقف زعيمة قبيلة بني (لالافاطمة) التي قادت الثورة بكفاءة نادرة حتى وقعت في قبضة القوات الإفرنسية يوم 11 تموز - يوليو وانهارت معها مقاومة قبيلة (إيسومار). 3 - كان (سي الصادق، بن الحاج) من أولاد سيدي منصور في جبل (أحمر خدون) بالأوراس، قد شارك في مقاومة الغزو الإفرنسي في (واحة الزعاطشة) منذ العام 1849، وعندما تمكنت القوات الإفرنسية من القضاء على الثورة في هذه المنطقة، اعتصم بالمناطق الجبلية. حتى إذا ما قام الإفرنسيون بغزو جبال جرجرة سنة 1857، دعا الناس لحمل السلاح واستئناف الثورة عام 1858 وبقي مستمرا في رفع راية الجهاد ضد الأعداء الإفرنسيين حتى وقع أسيرا في معركة ¬

_ (¬1) كذا في ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز - ص 17. أما في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية - كارل بروكلمان. فذكر إن القوة الإفرنسية تزيد عن (30) ألف مقاتل.

20 كانون الثاني - يناير - 1859، ووقع معه في الأسر عدد كبير من أخواته المجاهدين. 4 - كان (محمد بن بوخنتاش) من أولاد سيدي رحاب البراكتية في (الحضنة) وقد أظهر غضبه منذ البداية على الغزاة الإفرنسيين الذين انتهكوا حرمة بلاده وقدسيتها. ونجح في دفع سكان الحضنة إلى الثورة سنة 1860، فانضم إليه (سي العربي باش عدل أولاد سحنون ببريكة، وسي أحمد باي من أولاد منصور)، وامتدت ثورته من المسيلة والحضنة حتى الجهات الشمالية، وسطيف. ولم تتمكن القوات الإفرنسية من إخماد نار هذه الثورة في سنة 1860 إلا بعد جهود كبيرة ومكثفة. هـ - بقيت عائلة أولاد بن عاشور محتفظة بمكانتها القيادية في فرجيوة، ومثلها كانت عائلة أولاد عز الدين في الزواغة بالبابور. وعلى الرغم من خضوع العائلتين ظاهريا للحكم الاستعماري الإفرنسي، إلا أن نار الثورة بقيت متأججة في نفوس الأبناء. حتى إذا ما أقبلت سنة 1864، أثمرت جهود (الإخوان الرحمانيين) في إيقاد نار الثورة بالجنوب الوهراني. وقام أولاد سيدي الشيخ بقيادة الجهاد ضد الإفرنسيين في فرجيوة والزواغة. وقامت السلطات الإفرنسية بقمع هذه الثورة بوحشية، وحولت هذه المناطق إلى مستعمرات عسكرية خاضعة مباشرة لحكم فيالق الغزو والحكام العسكريين (حكم السيف). ظنت الإدارة الإفرنسية أنها باتت متمكنة من حكم البلاد بعد قضائها على هذه الثورات، وبعد أن أوغلت قواتها في عمق الصحراء. غير أنه تبين أن لهيب الثورة لا زال متقدا في أعماق ضمائر

أبناء الجزائر. وقد عبر هذا اللهيب عن وجوده بمجموعة من الظواهر في بداية سنة 1870، فعندما حل موعد الدراسة في تشرين الأول - أكتوبر - لوحظ مقاطعة الأطفال الجزائريين للمدارس الإفرنسية. خاصة في (برج بوعريريج) حيث رفض خمسة عشر طفلا العودة إلى مدارسهم، رغم أنهم كانوا يتقاضون منحة دراسية. وانتشرت كذلك ظاهرة الاتجار في البارود الذي كان يتسرب إلى البلاد عن طريق مالطا وتونس شرقا، وجبل طارق وطنجة غربا. وكثر تنقل رجال الدين بين المناطق المختلفة للوعظ والإرشاد في الظاهر، ولحض الناس على الجماد في الواقع. وأخذ الناس يهربون حبوبهم وحيوانانتهم وحاجياتهم الثمينة. الهامة - إلى مناطق الجبال النائية والبعيدة عن الأخطار. ويشترون الأسلحة والخيول. وتم قطع عدد من الأسلاك الهاتفية التي تربط بين المناطق المختلفة، مما جعل الأوروبيين يتخوفون من الوضع، فأخلوا حواضر العمل في عدة أماكن. بقي الوضع مضطربا طوال هذه الفترة في شرق البلاد، حيث كان أولاد سيدي الشيخ الشراقة في منطقة وهران، ما يزالون يحملون السلاح ويخوضون المعارك الكبيرة ضد قوات الجيش الإفرنسي ومنها معركة (ماقورة) في 17 نيسان - إبريل - 1870 بمنطقة الحدود المغربية. ورافق ذلك مجموعة من الأعمال الثورية في جهات مختلفة. 6 - حركة (ابن خدومة). كان (بو بكر بن قدور بن خدومة) من بلدة زمورة الواقعة قرب (غيليزان) قد اشترك في تمرد محلي بالمدية، مع رجل آخر ادعى أنه (صاحب الساعة) وذلك في سنة 1859، ثم اختفى عن الأنظار، ليظهر من جديد في شهر نيسان - إبريل - 1870

بمنطقة (ذراع الميزان) باسم الحاج محمد بن عبد السلام. وادعى أمام الناس أنه قدم من (فاس) وسبق له أن تعلم في تونس - على الطريقة الشاذلية - ولهذا استضافه الشيخ أحمد - أويحيى الشاذلي في (تازروت) قرب بجاية. وانتشر نفوذ (ابن خدومة) في جرجرة بفضل دعم الشيخ أحمد أويحيى، فأسس زاوية في (ايت عوانه) وتكاثر فيها أتباعه. وشكت السلطات الإفرنسية في سلوكه، فنفته إلى المغرب الأقصى، وهدمت زاويته، رغم تأكيد رئيس المكتب العربي بتيزي أوزرو بأنه لم يكن يقوم بأي نشاط سياسي. ولكنه عاد متخفيا في نهاية شهر أيلول - سبتمبر - إلى الشيخ أحمد أويحيى، ودعا أتباعه إلى الثورة، واعتصم في غابة (بني غبري) بعض الوقت. ثم انتقل إلى منطقة المدية. وأخذ يستميل بعض جنود الصبايحية في البرواقية ومجبر، وبعض أهالي أولاد ديد وسور الغزلان. ولما عجزت السلطة الإفرنسية عن إخضاعه، لجأت إلى الحيلة، واستعانت ببعض أنصارها للتغرير به (قائد قواد أولاد عبيد والحاج الجيلالي بن الحاج). ووقع ابن خدومة في الكمين المنصوب له في أوائل شباط - فبراير - 1871. ونفاه الإفرنسيون مع عدد من أتباعه إلى جزيرة (سان مارقوريت). كان من أبرز نتائج حركة ابن خدومة أنها أيقظت، أو بعثت، جذوة الجهاد في النفوس المؤمنة، فتكاثر الحجاج إلى (زاوية صدوق) و (استيقظت الحمية الدينية) بشكل واسع حتى في أوساط النساء وأصبح سكان إقليم القبائل يعلنون عن (وصول صاحب الساعة) وحلول وقت الخلاص من السيطرة الإفرنسية. وأصبح من المتوقع اندلاع نار الثورة بين لحظة وأخرى. واستخلص مؤرخ فرنسي العبرة من (حركة ابن خدومة) ولخصها بما يلي: (لم يكن هناك أي

حجة لابن خدومة وغيره في حمل السلاح، والحجة الوحيدة هي أن الجزائري لا يقبل أبدا السيطرة الإفرنسية، فمنذ اليوم الأول للاحتلال وهو على استعداد دائم للثورة. وهو لا يفرط في استثمار الفرص لتحقيق ذلك، سواء في شهر أو في عام أو حتى عشرة أعوام حتى يرمي الإفرنسيين في البحر. ونقل عن الجنرال - دوماس - قوله: خذ عربيا وإفرنسيا وضعهما في قدر واحدة لمدة أربع وعشرين ساعة، لتصنع منهما مرقا. فإنك ستجد في النهاية مرق المسيحي والمسلم منفصلين عن بعضهما، ولن يختلطا أبدأ) (¬1). 7 - حركة الصبايحية في الزمالات: كان الحاكم العام للجزائر (راندون) قد نظم فرق (الصبايحية) وطورها في عهد نابليون الثالث وهي عبارة عن قوات من المتطوعين الجزائريين الذين أطلق عليهم اسم: (الحركة، والأورطة، والصبايحية). وواجبهم هو حراسة المناطق التي يقيمون فيها، ومراقبة السكان سياسيا تحت إشراف الضباط الإفرنسيين، وقد أطلق على الثكنات التي يتمركزون بها اسم (الزمالات) وكان معظم المتطوعين من المتزوجين الذين يتقاضون رواتب شهرية، ويعملون في أراضيهم الخاصة، أو التي تضعها السلطات الإفرنسية تحت تصرفهم. ولم يكن من العادة تجنيدهم للحرب خارج الجزائر، غير أن السلطات الإفرنسية أرادت تجنيد البعض منهم للحرب في فرنسا - في أوائل العام 1871 - فأصدر وزير الحربية الإفرنسية قرارا بتاريخ 18 كانون الثاني - يناير - لنقل عدد منهم إلى أوروبا. وكان ذلك سببا مباشرا لثورة الزمالات في مجبر ¬

_ (¬1) SOUVENIR DE L'ARMEE D'AFRIQUE (WATBLED ERNEST) PARIS CHALLAMEL AINE 1877. P.P. 197 - 201

والطارف وبو مجار وعين قطار بشرق البلاد ووسطها. غير أن ثورة الصبايحية كانت قد بدأت في الحقيقة قبل هذا التاريخ. ففي زمالة (مجبر) على بعد ثلاثة عشر كليومترا شمال - شرق (بوغار) بدأت الحوادث فيها أواخر أيلول - سبتمبر - 1870 عندما فر بعض الصبايحية من ثكنتهم إلى مستغانم. غير أن السلطات الإفرنسية اعتقلتهم وأعادتهم إلى بوغار، وحاكمتهم بتهمة السرقة، وفر البعض منهم من السجن واختفوا. وهرب بعد ذلك خمسة وسبعون جنديا من جنود الزواف في الأيام الأولى لشهر تشرين الثاني - نوفمبر - ومعهم أسلحتهم وأمتعتهم. وغادروا معسكر (بوغار) إلى المدية وقصر البخاري فلاحقهم رجال الدرك والصبايحية وأوقفوهم وأحالوهم على محكمة عسكرية حكمت عليهم بأحكام مختلفة تتراوح بين ستين حتى عشر سنوات سجنا مع الأشغال الشاقة. وصل قرار وزير الحربية الإفرنسي القاضي بتجنيد الجزائريين، إلى الجزائر، يوم 20 كانون الثاني - يناير - 1871. وكان الصبايحية الذين شملهم القرار في (مجبر - ببوغار) فتم اقتيادهم إلى الجزائر العاصمة يوم 23 من الشهر ذاته، من أجل نقلهم إلى فرنسا. ولكن أبناءهم ونساءهم وأهاليهم اعترضوهم في الطريق خارج البليدة ليحولوا دون ترحيلهم. فحصل اضطراب وهيجان، رافقه إطلاق نار قتل فيه أحد المواطنين، فعاد الصبايحية على الفور إلى زمالتهم. وحضرت مجموعة من فرسان (بوغار) اقتادتهم بالقوة إلى الجزائر العاصمة. غير أن الإدارة الإفرنسية بالجزائر أعلنت أن السفر إلى فرنسا حر للمتطوعين فقط، ولا يجبر أحد على ذلك (¬1). في هذا الوقت ¬

_ (¬1) ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز. ص 184 - 188.

ذاته، كان الصبايحية في شرقي البلاد يعلنون ثورتهم بالطريقة ذاتها أيضا ولكن على نطاق أوسع وبشكل أخطر، سواء كان ذلك (بالطارف) على بعد (22) كيلومترا جنوب - غرب القالة، أو في (بوحجار) على بعد (43) كيلومترا شمال - شرق سوق أهراس، أو في (عين قطار) على بعد (22) كيلومترا جنوب - شرق سوق أهراس أيضا. وبدأت الثورة في (عين قطار) عندما رفض الصبايحية تنفيذ أوامر السفر إلى فرنسا. وهرب مائة وخمسة وثلاثون منهم بأسلحتهم وأمتعتهم إلى مزرعة (عمي موسى) على بعد أربعة كيلومترات من زمالتهم وذلك يومي 22 و23، كانون الثاني - يناير - وتبعهم في اليوم التالي مائة واثنان آخرون. وتوالى بعد ذلك تجمعهم حتى أصبحوا حوالي ألفي رجل، وتجمع حولهم أهاليهم والغاضبون على السلطة الإفرنسية وانضم إليهم عدد من أهالي (الحنانشة) بزعامة الصالح بن رزقي والفضيل بن رزقي. كما انضم إليهم محمد بن الكبلوتي بن الطاهر بن رزقي الحناشي من تونس. وقام هؤلاء بقتل صف ضابط فرنسي، وأشعلوا الحرائق في بعض مزارع الأوروبيين حول (سوق أهراس) وقتلوا تسعة منهم. ثم زحفوا على (سوق أهراس) نفسها يوم 26 كانون الثاني - يناير - وحاصروها لمدة ثلاثة أيام. وقطعوا أسلاك الهاتف التي تربطها بمدينة (قالة). وخاضوا معركة كبيرة في (عين سنور) يوم 30 من الشهر ذاته. واستمرت الاشتباكات حتى يوم 8 شباط - فبراير - 1871. وارتفع عدد قتلى الإفرنسيين إلى (15) قيلا. ثم انسحب الصبايحية، والكبلوتي، وأتباعه، إلى داخل الحدود التونسية حيث استقبلهم الشيخ الميزوني بحفاوة في مدينة (الكاف). وعلى أثر ذلك، قامت السلطات الإفرنسية بتطبيق عقوبات صارمة

ضد عائلات الثائرين. فحاكمت مائة وأربعة وثلاثين شخصا أمام محكمة عسكرية استثنائية (بعنابة) أصدرت الحكم بالإعدام على خمسة، وبالأشغال الشاقة المؤبدة على عشرين، وبالنفي والإقامة الجبرية على أربعين. وغرمت الثوار بمبلغ (376) ألف فرنك. وأعدم الإفرنسيون عددا من المواطنيين الجزائريين في الساحة العامة لمدينة (سوق أهراس) بعد فك الحصار عنها مباشرة. وصادروا أملاك وأراضي سبعة دواوير (قرى) بالجملة. وأخذوا رهائن من المواطنين حتى يتم دفع الغرامات المطلوبة أما الأوروبيون الذين اتهموا بافتعال الحوادث أو ارتكاب الجرائم، فقد برأتهم المحكمة ولقد وضعت سلطات منطقة (القالة) الإفرنسية تقريرا عن الأحداث جاء فيه: (إن المشاكل السياسية في منطقة الحدود لها دخل في حوادث الصبايحية الذين كانوا يتفجرون غضبا. ولم يكن قرار النقل إلى فرنسا بأكثر من وسيلة لإظهار غضب الصبايحية وانفجارهم. ولقد امتدت أصداء هذه الحوادث إلى المناطق الداخلية البعيدة ...) ويعني بذلك أحداث أولاد عيدون بالميلية، والأحداث الأخرى. بما فيها ثورة محمد المقراني. 8 - ثورة أولاد عيدون بالميلية وأولاد خليفة بتبسة. انفجرت الثورة في الوادي الكبير (بالميلية) ولم يكن قد مضى على انتهاء أحداث الصبايحية بسوق أهراس أكثر من أسبوع واحد. فقد أعلن أولاد عيدون ثورتهم يوم 14 شباط فبراير - 1871 في أكثر من عشرين نقطة. وزحفوا على مدينة الميلية في اليوم الثاني، وحاصروها بحوالي ألفي رجل، وقطعوا عنها قنوات مياه الشرب وأملاك الهاتف، وأرغموا عددا من الحراس والأوروبيين والصبايحية ورجال المخزن وقائد

الحامية الإفرنسية على الاعتصام بقلعة المدينة. وأحرقوا عددا من مزارع الأوروبيين بالمنطقة. واقتفى (بنو تليلان) أثر أولاد عيدون. فحملوا السلاح، وهاجموا قافلة نجدة واستطلاع فرنسية بين مدينة قسنطينة والماء الأبيض يومي 22 و23 من الشهر ذاته. وبعد أن نجح الإفرنسيون في رفع الحصار عن (الميلية) يوم 27 شباط - فبراير - تمركز الثوار في (كاف الغراب) والقرى المجاورة له. وحاول الإفرنسيون القضاء على هذة الثورة الخطيرة بإمكاناتهم الخاصة فعجزوا عن ذلك، فما كان منهم إلا أن لجؤوا إلى خصوم الثوار - من المواطنين الجزائرينن - واستعانوا بهم على أهلهم، وجندوا حوالي ستمائة من جنود البحرية الإفرنسية، وسبعة فيالق أخرى، فرضوا بها الحصار على المنطقة، وأحرقوا معظم القرى المعزولة. واعتصم الثوار (بجبل سروج) وخاضوا معركة (كاف زرزور) يوم 26 شباط - فبراير. أي قبل أن يفكوا الحصار على المليلة بيوم واحد. وقد أخذ الإفرنسيون كعادتهم أربعمائة رجل من أولاد عيدون كرهائن. وسجنوا عددا آخر منهم. وصادروا الأسلحة التي عثروا عليها وهي تزيد على تسعمائة بندقية. أما في المنطقة الشرقية، فقد أفاد أولاد خليفة من قيام حاكم منطقة تبسة باعتقال عدد من المواطنيين بحجة الاشتباه بهم، والقيام بمحاولة استطلاع (مضيق رفانة) فأعلنوا ثورتهم، وحملوا السلاح، واعترضوا سبيله، وانضم إليهم أولاد سيدي عبيد والعلاونة والرشايش والبرارشة، وهاجموا قطعان مواشي أحد الأوروبيين، وقتلوا شريكه الجزائري. وأخذوا يحرضون الناس على الجهاد لمحاربة الإفرنسيين، واضطر هؤلاء إلى اللجوء إلى (مسكيانة) وتابع الثوار جهادهم، فأحرقوا بعض مزارع الأوروبيين ومطاحن الحبوب وأكوام

التبن (القش) في أحواز تبسة التي اعتصم بها الأوروبيون، وأغلقرا أبوابها عليهم. كما اعترضوا سبيل قافلة إفرنسية بوادي الحميمة، حيث دارت مجموعة من المعارك القاسية في الوادي، وعند بحيرة الأرنب ورأس الذيب. غير أن عدم التكافؤ بالقوى ووسائط القتال والكفاءة القيادية أرغم الثوار على الانسحاب واللجوء إلى داخل الحدود التونسية. في الوقت الذي كانت ثورة محمد المقراني قد انطلقت من (مجانة) وأخذت تنتشر في جبال البابور والبيبان وونوغة والهضاب العليا لقسنطينة (¬1). ¬

_ (¬1) يذكر أن القوات الإفرنسية تعاونت مع القائد ابن باحمد والقائد علي بن العربي والقائد بو ضياف بن صالح الذين حشدوا قواتهم بين حلوفة ومسكيانة ودعموا هجوم القوات الإفرنسية (ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز - ص 189 - 192).

- صدوق- مهد الثورة الكبرى لعام 1871 م إقليم بجاية ووادي الصومام

الفصل الثالث ثورة 1871

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. •---------------------------------• الفصل الثالث ثورة 1871 1 - ثورة محمد المقراني (مجانة). 2 - ثورة الشيخ الحداد (صدوق). 3 - ثورة أحمد بو مزراق - (سور الغزلان وونرغه). 4 - في أفق الثورة

ثورة محمد المقرني (مجانة)

1 - ثورة محمد المقرني (مجانة). يتفق معظم المؤرخين على أن نسب أسرة المقراني يعود إلى فاطمة بنت الرسول عليه السلام. ويذكرون أن أجدادها من قبائل عياض هاجروا إلى إقليم المغرب العربي في القرن الحادي عشر الميلادي خلال الزحف الهلالي على الإقليم (تغريبة بني هلال) واستقروا بجبال قلعة بني حماد في المعاضيد شمال مدينة المسيلة، وجنوب شرق مدينة برج بوعريرج. وارتبط تاريخهم هناك بالأمراء الحماديين. وقبائل عياض، فرع من عرب اثبج من هلال بن عامر - من الطبقة الرابعة. وتفرعت بعد ذلك منهم بطون، مثل (بطن المرتفع) و (بطن الخراج - بكسر الخاء). وفي خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، ترك الأمير عبد الرحمن - جد المقرانيين - منطقة جبل عياض بالمعاضيد، وانتقل إلى جهات البيبان، فاستقر أولا بقرية موقة، ثم بالشواريخ، وأخيرا بقلعة بني عباس شمال غرب (سهل مجانة) داخل المنطقة الجبلية الغربية على الضفة اليمنى لوادي الساحل. وعاش هناك حتى توفي سنة (1500م) فخلفه ابنه أحمد الذي تلقب بالسلطان على المنطقة الواسعة بين واد الساحل والحضنة، وبعد وفاة أحمد خلقه ابنه عبد العزيز الذي اتخذ قرية (القلعة) عاصمة

له، وكون لنفسه نفوذا واسعا، واستعان بقوات الأخوين (عروج وخير الدين) اللذين كانا يتمركزان في (جيجل) ويعملان على طرد الإسبان من (بجاية). واشترك مع الوالي حسن بن خير الدين من أجل إنقاذ تلمسان من أطماع سلطان المغرب والإسبان معا. وتمتعت إمارة المقرانيين بالقوة وسعة النفوذ خلال عهد حكم عبد العزيز وأخيه أحمد أمقران، فمدت نفوذها إلى الهضاب العليا، وتحكمت في الطريق الواصل من الجزائر العاصمة وقسنطينة. انقسم المقرانيون على أنفهم بعد وفاة أحمد أمقران، وظهرت منهم عدة فروع متناحرة فيما بينها على السلطة والنفوذ، فكان من أهمها: 1 - فرع أولاد الحاح. 2 - فرع أولاد عبد السلام. 3 - فرع أولاد بورنان. 4 - فرع أولاد بلقندوز. واستمر ذلك حتى قام الإفرنسيون بغزو البلاد. كان باي قسنطينة متزوجا من (عيشوش) ابنة الحاج محمد عبد السلام العايب المقراني غير أن ذلك لم يمنع من قيام المشاكل بين الحاج أحمد باي قسنطينة وبين الحاج محمد عبد السلام. مما أدى إلى اعتقاله عام 1825، ولم ينقذ حياته إلا ابنته عيشوش في حين أعدم الآخرون من أقاربه. وخلال حملة الاحتلال الإفرنسية، شارك المقرانيون مع الباي الحاج أحمد في مقاومتها، وانسحبوا معه بعد ذلك إلى الشرق. وكان الزعيم البارز أنذاك هو أحمد المقراني من فرع أولاد الحاج، فقربه إليه وعينه شيخا على مجانة. حتى إذا ما قام الإفرنسيون بالغزو الثاني لمدينة قسنطينة عام 1837، اغتنم محمد عبد السلام العايب فرصة الفوضى التي حلت بالمدينة، فهرب من سجنه (سجن الكدية) يوم 13 تشرين الأول - أكتوبر - والتحق بمجانة مباشرة. واستحوذ على

السلطة بها في غياب شيخها أحمد المقراني الذي كان آنذاك يحارب على رأس قواته - مع الباي أحمد - قوات الغزو الإفرنسي. عمل الأمير عبد القادر - بعد معاهدة تافنة عام 1837 - على تعيين محمد عبد السلام العايب المقراني أميرا على مجانة وإقليمها واستبعد أحمد المقراني نظرا لعلاقته بخصمه الحاج أحمد باي قسنطينة. وأفادت فرنسا من ذلك، حتى إذا ما تجددت الحرب، أصدر الفريق فالي قرارا بتعيين أحمد المقراني خليفة على مجانة، وتم تنصيبه رسميا يوم 24 تشرين الأول - أكتوبر - 1838 في قصر الباي بقسطينة. ونص قرار التعيين على أن يحكم المنطقة بنفس الشروط والأوضاع التي كانت لعائلته في عهد الأتراك. على أن يتصل مباشرة بالفريق الحاكم على مقاطعة قسنطينة. وحددت منطقة حكمه بين فرجيوة بالبابور شرقا والتيطري غربا ومنطقة شيخ العرب جنوبا. وخضع لسلطته سكان حمزة والجلفة والحضنة وبوسعادة وأولاده نايل وبسكرة وحوض واد ريغ. كان لابد للخليفة أحمد مقراني من دفع الثمن، فعندما استأنفت فرنسا الحرب ضد الأمير عبد القادر، وأرادت اختراق مضيق (البيبان) في تشرين الأول - أكتوبر - 1839، استعانت بالخليفة أحمد مقراني وقواته، وأمكن لها بذلك تحقيق النصر على الأمير عبد القادر، وخليفته على مجانة (محمد عبد السلام العايب). كان الخليفة (أحمد المقراني) يتوهم بأن السلطة الإفرنسية ستدعم نفوذه، فمضى للعمل بحماسة، غير أنه لم يكد يمضي عامان حتى أخدت السلطات الإفرنسية بمضايقته. فأقامت منطقتين عسكريتين في (سطيف) و (المسيلة) وأصبح الخليفة تابعا لحاكم

- مضيق البيبان الذي عبره الفرنسيون بمساعدة الخليفة أحمد المقراني في أكتوبر 1839 م.

سطيف، أما المسيلة فتم تعيين منافسه لحكمها (وهو بوضياف بن بوراس). وأرغمت السلطات الإفرنسية الحاج أحمد المقراني على التخلي عن أراضي أبناء عمومته؛ أولاد بورنان وأولاد بلقندوز وأولاد عبد السلام، حتى تضمن ولاءهم بعد أن استسلموا لها. كما انتزعت من الخليفة الحاج أحمد ثلاثة أرباع المنطقة الواسعة التي كانت تخضع له. واستمرت بعد ذلك المضايقات حتى وفاته في 4 نيسان - إبريل -1853 حيث عينت السلطات الإفرنسية ابنه محمد في مكانه، ولكن بلقب (باشآغا) وهو لقب دون لقب (الخليفة) وقد حاول الباشآغا الجديد (محمد المقراني) القيام بدوره، بما عرف عنه من الكفاءة والذكاء، وبدأ عهده بالحج إلى الديار المقدسة، ثم عاد عن طريق تركيا وفرنسا، حيث استقبل مثل أبيه من طرف أصدقائه الإفرنسيين. ورجع إلى الجزائر مسرورا في العام 1855، وهو يرى نفسه أحد الممثلين الكبار للنظام والسلطة العسكرية بالجزائر. غير أن السلطات الإفرنسية لم تكن لتسمح له، ولا لسواه من الجزائريين، بزيادة قدرته الذاتية. فأخذت في إضعافه ماديا ومعنويا. وكان من جملة الإجراءات المتخذة ضده: 1 - كان الخليفة في مجانة يعتمد في قوته على فرسان (الحشم) الذين ينتمون إلى قبيلة الحشم الهلالية، المستقرة في منطقة معسكر. وكان الجد (أحمد مقران) قد اصطفاهم لتحرير مدينة وهران من الإسبانيين في سنة 1563م. ووطنهم في سهل مجانة على سفج جبل مريسان، وأصبحوا منذ ذلك الوقت مصدر الفرق والحرس، وأعفاهم من الضرائب. واستمروا على ذلك حتى سنة 1858 حيث فرضت السلطات الإفرنسية عليهم الضرائب ويظهر أن وجود عدد كبير من الفرسان الحشم والصبايحية تحت تصرف الباشآغا محمد المقراني، قد

أثار قلق السلطات الإفرنسية، فعادت في سنة 1861 وفرضت عليه أن ينقص عددهم. فهاجر الذين سرحهم إلى تونس. وأبدى هو نفسه الرغبة في الهجرة إلى هناك غضبا من هذه السياسة. 2 - استبدلت السلطة الإفرنسية وكلاء الباشآغا محمد المقراني، والمكلفين بجمع الضرائب. وقامت بتعيين شيوخ ووكلاء من قبلها لهذه الغاية. وفرضت عليه تحويل الأموال والضرائب إلى خزينة الدولة بعد أن كان يحتفظ بها لإدارة منطقة حكمه. 3 - انتزعت من أبناء عمومته (أولاد بلقندوز) خمسة آلاف هكتار في منطقة البرج لتوطين المعمرين (المهاجرين) الأوروبيين. 4 - عينت ضابطا صغيرا (نقيب - كابتن) من الجيش الإفرنسي حاكما للبرج، وألزمت الباشآغا محمد المقراني في الرجوع إليه بكل أموره. وقد عمل هذا الضابط (واسمه بيان) على مضايقة الباشآغا وإخضاعه للرقابة الصارمة. 5 - وجهت السلطة الإفرنسية رسالة توبيخ (باسم الجنرال ديغو) إلى الباشآغا محمد، أثرت فيه لدرجة أنه اعتزل الناس عدة أيام من شدة الألم. وذلك لتعاطفه مع (بوعكاز بن عاشور) زعيم فرجيوة، والذي أودع عند الباشآغا بعض حوائجه بعد أن اتهمته فرنسا بإشعال الثوره في فرجيوه والزواغة بالبابور. 6 - منعت السلطة الإفرنسية الباشآغا محمد المقراني من تطبيق نظام (التويزة) أو (السخرة) الذي كان متبعا للقيام بالأعمال التي تتطلب جهدا جماعيا ... الحصاد الزراعة، أعمال البناء الخ .. 7 - تشديد المراقبة على محمد المقراني، واستدعائه إلى مركز

(البرج) لاستجوابه عما دار من أحاديث بينه وبين أبناء عمومته أثناء زيارته لهم. وإثارة الشكوك حوله. 8 - مضايقته لسداد ديونه المالية التي اقترضها لمساعدة الفلاحين والمواطنيين في سنوات (الجفاف - والجراد - والأوبئة) وإرغامه على بيع بعض أملاكه. وكان الحاكم العسكري ماكماهون قد وعده بالمساعدة، غير أن الحكومة التي جاءت في أعقاب أحداث سنة 1870 تنكرت للحكومة العسكرية التي سبقتها. وكان باستطاعة المقراني وفاء ديونه التي بلغت مليون وثمانمائة ألف فرنك لو أعطيت له الفرصة الكافية. غير أن الحكومة المدنية رفضت ذلك. 9 - استثمار فرنسا للتناقضات القائمة بين الباشآغا محمد المقراني وخصومه من عائلته أو غير عائلته من أجل إضعاف نفوذ الجميع، وفرض السيطرة الإفرنسية عليهم. 10 - نقمة الباشآغا محمد المقراني، على قانون تجنيس اليهود. وما كان ينزل بمواطنيه من مظالم. تجدر الإشارة إلى أول رد فعل لمحمد المقراني تجاه قانون تجنيس اليهود (قانون كريميو) حيث أعلن المقراني: (.. لا أطيع أبدا يهوديا. وإذا كان جزء من بلادكم وقع تحت أيدي يهودي فقد انتهى الأمر، وسأضع عنقي بسرور تحت السيف ليقطع رأسي. أما تحت يهودي فلن يكون ذلك أبدا. وإني أعطيت كلمة شرف للحاكم العام، ولكن لم أعطها للحكم الذي خلفه وهو النظام المدني ..) وأخذ الجزائريون يتناقلون هذه الأقوال - في المقاهي والأماكن العامة - وانقسم الرأي بين ثلاث فئات: (فئة متنورة تقول أن فرنسا قد انتهى أمرها، ولم يبق لها شيء ما دام يحكمها يهودي. وفئة أقل منها وعيا: وتردد بأن الله قد

أعمى قلوب الإفرنسيين وهذا موعد رحيلهم وهو انتصار للإسلام وفئة ثالثة: كانت عارفة بحقائق الأمور وأخذ أفرادها يعدون العدة لحرب دينية مقدسة - وهي فئة المقراني والحداد). ويذكر أن الباشآغا محمد المقراني، كان يتوجس خيفة من قيام النظام المدني منذ البداية، فعندما قامت الحرب في شهر تموز - يوليو - 1870 طلب المقراني من الحاكم العام ماكماهون الإذن له بتسليح كتيبة من (القوم) تتألف من ألف وخمسمائة رجل يذهب على رأسهم للمشاركة في الحرب بأوروبا، فاعتذر له. غير أن المقراني ألح عليه في قبول الطلب، وقال: (إذا طالت الحرب، فإن المدنيين سيستولون على السلطة بالجزائر، وأنا الذي انحدر من سلالة الجنود، لا أطيع أبدا ولا أخضع لمن لا يكون عسكريا) (¬1) وعلى أي حال، فقد شارك عشرون ألفا من الجزائريين في الحرب. وقتل نصفهم على أرض القتال. وكانوا أبطالا ومغاوير وأشجع كل الفرق الأخرى باعتراف القادة الإفرنسيين ذاتهم، غير أن هؤلاء المقاتلين أصيبوا بجراح في أعماق نفوسهم بسبب إهانة الأوروبيين لهم، بعد سقوط الإمبراطورية بصورة خاصة. لقد صح ما توقعه الحاج محمد المقراني (الباشآغا) من متاعب عند قيام الحكم المدني، وأصبح السخط عاما في منطقة البيبان بسبب سوء الإدارة الإفرنسية، وكانت السلطات الإفرنسية تقوم في تلك الفترة بفتح الطريق العام بين الجزائر وقسنطينة تحت إشراف مقاول ¬

_ (¬1) طلب عدد من قادة الجزائر الإشتراك في الحرب إلى جانب فرنسا - ضد بروسيا - فبالإضافة إلى محمد المقراني تقدم ابن باحمد خليفة الأوراس بطلب مماثل. وكذلك فعل الأمير عبد القادر الذي كتب من دمشق رسالة إلى وزير الدفاع الإفرنسي أعلن فيها استعداده للحرب مع الإفرنسيين. (ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز - ص 129 - 131).

أوروبي، استخدم في عمله حوالي مائتين وخمسين عاملا بينهم أوروبيون ومغاربه، وتمركز هذا المقاول بجبال البيبان، واتبع سياسة غير عادلة تجاه العمال الجزائريين. فكان لا يعطيهم الأجور التي تتناسب مع ما يبذلونه من الجهد. كما كان يماطل في دفع الأجور لهم، على عكس العمال الأوروبيين. وفي أوائل عام 1871، مر أكثر من شهر دون أن يدفع أجورهم، فساءهم ذلك، وامتد الغصب إلى عائلاتهم وأقربائهم. وحدث في يوم 18 شباط - فبراير - 1871، أن قتل أربعة عمال أوروبيين في الغابة المجاورة لمكان العمل، ولم تتعرف السلطات على الجناة. وحاول محمد بن عبد السلام المقراني خصم الحاج محمد المقراني اسثمار الموقف. فأطلق أتباعه للإشاعة بأن هذا الحادث قد وقع بتحريض من الباشآغا محمد المقراني ذاته. وعلى أثر ذلك أرسلت المصالح الإدارية بسور الغزلان برقية إلى السلطات المحلية بالبرج تخبرها بأن المقراني بصدد إعداد ثورة مسلحة. فتخوفت من الأمر، وأصدر حاكم البرج وسطيف أمرا إلى المقراني نفسه يوم 25 شباط - فبراير - بإيقاف العمل في البيبان وإعادة العمال إلى بلادهم. وذهب المقراني إلى مكان العمل، صحبة أخيه (بومزراق) وابن عمه (حمود بودنات) فوجد الوضع مضطربا. واحتج لدى المقاول المذكور على عدم دفع أجور العمال، ودفع هو من ماله الخاص مبلغ ألف وخمسائة فرنك سلفة لهم. وجهز البغال والحمير التي حملت أمتعتهم إلى مدينة البرج تحت حراسة أخيه وابن عمه. وفي الوقت ذاته وقعت اضطرابات أخرى في مدينة المسيلة جنوب مدينة (برج بوعريرج) فقد تخوف الأوروبيون الموجودون بها، وشعروا بالخطر على حياتهم بسبب الظروف المضطربة، والإشاعات الكثيرة حول تصميم الجزائريين على القيام بالثورة. وقرروا الانسحاب إلى

مدينة بوسعادة الواقعة جنوبها، وحملوا معهم أمتعتهم واتجهوا إليها يوم 25 شباط فبراير - ورافقهم قائد الحضنة (السعيد بن بوداد المقراني) حتى أوصلهم إلى هناك سالمين وكان من المفروض أن ينسحبوا إلى البرج شمالا حيث يكثر الأوروبيون. ولكن أوضاع هذه المدينة كانت آنئذ مضطربة كثيرا، حيث أشيع بأن الجزائريين سيهاجمونها يوم 2 آذار - مارس - بمناسبة عيد الأضحى. ولذلك تم إرسال قائد الفرقة الثامنة بسطيف، وكلف بقيادة الحراسة والاستعداد للطوارئ. وتسبب هذا الإجراء في استياء المقراني، لا سيما وإن صحافة سطيف والأوروبيين أخذوا في المطالبة بإعدامه. وقد حدثت على أثر ذلك مجموعة من الحوادث في برج بوعريريج وسور الغزلان والمدية ودللس. مما يشير إلى الغضب الشامل والاستعداد العام للثورة. وأدى ذلك إلى نفاذ صبر الحاج محمد المقراني، فقدم استقالته من منصبه يوم 27 شباط - فبراير - وعاد فأكدها خلال حديثه - شهر آذار - مارس - (مع الكابتن أوليفي) حيث قال له: (كيف تريدون مني أن أخدم حكومتكم؟ أنني لا أعترف بجمهوريتكم لأنها منذ أن أعلنت وأنا أرى أشياء فظيعة، فأنت حاكم أعلى لمدينة البرج. ولكن أرسل إليها رئيس جديد لقيادة الكتائب، وحارس مدني ليراقب إدارتك. فإلى من أتوجه أنا؟ إليك أنت، أم إلى الرئيس الجديد؟ أم إلى الحارس المدني؟ في الحقيقة أنا لا أفهم شيئا من هذا، وفي الوقت الذي كنا نحن جميعا مطيعين لكم، عوضتمونا بالمركانتية (التجار الأغنياء) - واليهود، أنا لا أقبل هذا أبدا) وفي رسالة الاستقالة الثانية التي وجهها إلى الجنرال (لالمان) يوم (9 - آذار - مارس - 1871) - أكد فيها: أنه أصبح حرا طليقا بعد توقيع الصلح بين فرنسا وأعدائها، (وأنه لما أصبحت الحكومة مدنية في الجزائر، فإني أجدد

استقالتي الأولى من وظيفة الباشآغا) وفي رسالة 14 - آذار - مارس - التي بعثها إلى أوجورو، وأوليفي، ردا على رسالة الحارس الإداري - روستان - أعلن المقراني قائلا: (أني لا أقبل أن أكون تحت شخص من حكومة المدنيين يتهمني ويشيع عني بأني ثائر، ويعتقل أتباعي في سطيف وسور الغزلان). وحاول (الكابتن أوليفي) إقناع الباشآغا محمد المقراني بالعدول عن استقالته، غير أن المقراني: (عاد فأكد له بأنه لا يقدر منذ الآن أن يخدم فرنسا، لأنه يرفض الخضوع لحكومة الجمهورية، التي منذ أن تأسست وهو يعيش المقلقات. كما أضاف: بأنه لا يريد الثورة ضد فرنسا إلا إذا رفضت استقالته، وعندئذ سيجد نفسه مضطرا لحمل السلاح، لأن رفضها بالنسبة إليه يعني - الحكم عليه وبالإعدام). أجاب المفتش الإداري - روستان - على استقالة الباشآغا يوم 12 آذار - مارس - بطريقة مثيرة، (إذ طلب إليه أن يحدد إليه استقالته كتابيا وبصورة رسمية، باعتباره المسؤول والممثل للنظام المدني في عمالة قسنطينة. وأنه يبقى بعد ذلك مسؤولا عن كل ما يحدث في منطقته طوال مدة انتظار الجواب بالقبول أو الرفض). خلال ذلك، حاول شيخ فرجيوة بو عكاز بن عاشور إصلاح الموقف، وتطوع مرتين بقسنطينة أن يذهب بنفسه إلى مجانة لتسوية مشاكل المقراني. غير أن السلطات الإفرنسية رفضت طلبه. فماكان من المقراني إلا أن كتب رسالتين يوم 14 آذار مارس - إلى (أوجررو) وأوليفي حاكم مدينة البرج: (أكد لهما بأنه كان قد قدم استقالته إلى المارشال ماكماهون. وأنه كان قد قبلها منه. غير أنه بقي مستمرا في عمله بسبب انشغال فرنسا بالحرب. أما اليوم، وبعد أن عاد السلم،

- الحاج محمد المقراني، أحد أبطال ثورة 1871 م.

فإنه أصبح حرا طليقا، ورفض أن يتحمل مسؤولية ما قد يحدث بعد ذلك). ولكي يقطع صلاته بسلطات البرج، قطع خط الهاتف الذي ربط مجانة بالبرج. ودعا في مساء اليوم ذاته إلى اجتماع عام لكل أقربائه من أولاد الحاج وقواد الدواوير والأعراش التابعين له في منطقة مجانة والبرج وتدارس معهم الوضع الجديد والخطط الأولى لحركته المقبلة، وأعلن لهم أن الوقت قد حان للثورة ضد حكومة التجار واليهود ولقد تقرر في هذا الاجتماع على أن يزحف المقراني بنفسه على مدينة البرج بقواته يوم (16) آذار - مارس - وتطوير الحرب في غرب عمالة قسنطينه، في حين يتجه أخوه (بومزراق) للعمل في منطقة ونوغه وسور الغزلان، بينما كلف ابن عمه وصهره (السعيد بن داوود) بقيادة الثورة في منطقة الحضنة وبوسعادة وأولاد نايل الجلفة جنوب شرق سور الغزلان، وكان على ابن عمه الحاج بوزيد بن عبد الرحمن (شقيق السعيد بن داوود) أن يزحف من الحضنة على رأس حوالي خمسة عشر ألف رجل إلى البرج والمناطق الشمالية لتدعيم الثورة. (¬1). تجمعت قوات المقراني في مجانة يوم الأربعاء 15 آذار - مارس - ¬

_ (¬1) كان قاضي بني عيدل (الحسين بن حالة) من عرش الماين شمال مجانة، قد حضر اجتماع المقراني بمحانة مساء 14 آذار - مارس - وكان عميلا للإفرنسيين، فقام باليوم التالي بالتوجه لمدينة (البرج) وأبلغ المسؤولين الإفرنسيين عن خطة المقراني للهجوم على المدينة يوم 16 - صباحا - كما أعلم الإفرنسيين بأنه سيكون هو - أي الحسين بن حاله - على رأس أربعمائة رجل في مؤخرة المقراني، وإنه لن يتأخر في الانضمام إلى القوات الإفرنسية بعد ذلك. وهذا ما جعل الإفرنسيين يكافئونه بعد الثورة بتعيينه قائدا على عرش الماين والجعافرة. وبقيت أسرته تتوارث هذا المنصب حتى ثورة 1954 (ثورة 1871 الدكتور يحيى بو عزير - ص 206).

وقد أقبلت من كل الجهات بصورة مستعجلة، بعد أن توزع المبعوثون في كل أنحاء مجانة لإبلاغ الناس قرار الباشآغا وقواده بإعلان الثورة. وفي صباح يوم الخميس 16 آذار - مارس - استعرض المقراني رجاله الذين بلغ عددهم ستة آلاف رجل (بعين السريحة) وكان هؤلاء الرجال يرتدون أزياء مختلفة ومعهم أسلحة متنوعة، وما هو ضروري من متاع الحرب. وكان من ضمنهم (قوم) الحضنة الغربية وأولاد تبان، وأولاد إبراهيم والأربعاء بزعامة مقدميهم. ثم توجه المقراني بهذه القوات إلى البرج، حيث انضم إليه على الفور (القائد الصغير بن عدة) مع بعض أفراد (القوم) - بأسلحتهم - وكانوا ضمن قوات الحرس الإفرنسية. وفرض المقراني الحصار على المدينة - وسط زغاريد النساء - وبدأت الإشتباكات الأولى بالنيران حوالي الساعة التاسعة، ولكن القتال الحقيقي لم يبدأ إلا حوالي منتصف النهار. واستمر حتى غروب الشمس. وفي المساء أخذ اليهود الذي كلفوا بالحراسة، يفرون إلى داخل قلعة المدينة، بعيدا عن الأسوار. ووجهت السلطات داخل المدينة عدة رسائل استنجاد إلى عدة جهات، وخاصة سطيف، ومرت أربعة أيام من الحصار، بدون حوادث مثيرة، حاول الثوار بعدها تلغيم الجدران لفتح ثغرة فيها، غير أن الحامية المدافعة عن المدينة أحبطت هذه المحاولات. وبدأت قوات الدعم في الوصول، وكان في مقدمتها قائد عن تاغروط (محمد بن عبد السلام المقراني) الذي كان أول من وصل إلى البرج صباح يوم 26 آذار - مارس - وعندما اقترب من أسوارها، صاح في وجهه قائد حامية المدينة (دوشيرون) وطلب إليه الابتعاد حتى لا يضر به لأنه أصبح يشك في كل (لابس برنس) ولو كان خادما لفرنسا ومخلصا لها. وكان من حسن حظه أنه وصل معه ضابطان فرنسيان، فحالا دون تعرضه لأي أذى.

ووصلت بعد ذلك قوة دعم فرنسية تمكنت من رفع الحصار عن المدينة. وجهز الأوروبيون، وأرسلوا في اليوم التالي تحت حراسة فرقتين من الصبايحية والقوم بقيادة محمد بن عبد السلام المقراني - رافقتهم حتى سطيف. انسحب المقراني بعد فشله في السيطرة على مدينة (برج بوعريريج) واستقر بقواته في جبل مريسان (أم الريسان) شمال شرق مجانة. وعسكر هناك في مكان مرتفع يطل على سهل البرج وعين السلطان ومجانة. وأخذ في بذل الجهود لإعادة تنظيم قواته، وتوسيع نطاق الثورة. فكان أول عمل له هو إرسال عدد من المبعوثين إلى جهات كثيرة من ولايتي الجزائر وقسنطينة; واقترح على رؤساء العائلات الكبيرة الذين وجه إليهم مبعوثين: (أن يتحدوا معه لتكوين جبهة قوية يقاومون بها النظام المدني، ويحمون سلطاتهم وامتيازاتهم). ونظم المقراني شبكة من الاستخبارات: (فكان لديه حوالي تسعمائة مخبر من بني عباس يقطنون بالمدن الساحلية، ويزودونه بانتظام بالأخبار والمعلومات الكافية عن الأوضاع). وكان المقراني في رسائله يركز على نقطتين: 1 - الجهاد في سبيل الله. 2 - أسفه على سلخ أيام من عمره في خدمة الاستعمار. وقد جاء في رسالته إلى الشيخ البشير بن كابة، وسكان بو جليل ببني عباس قوله: (وبعد، تتوكلوا على الله ورسوله، وتقدموا إلى الجهاد لنصرة دينكم عزما. وتأتوا لنا إلى برج مجانة) وفي رسالته إلى باشآغا تيطري (ابن يحيى بن عيسى) وقائد قواد أولاد مختار الشراقة ببوغار والمدينة (علي بن عبد الرحمن) جاء ما يلي: (لقد فتحت أبواب الجهاد في سبيل الله ويجب عدم تفويت هذه الفرصة، والإسراع بالانضمام إلى المجاهدين ... وتحسر على ضياع حياته وحياتهم هباء في السابق دون فائدة).

المهم في الأمر. هو أن معظم جهود المقراني قد ضاعت، إذ رفض أكثر الذين اتصل بهم الاستجابة لدعوته، فأولاد بن قانة بالصحراء الشرقية أعلنوا معارضتهم له ولثورته في رسالة وجهوها إلى الحاكم الإفرنسي بقسنطينة منذ يوم 18 آذار - مارس - وأكدوا فيها استعدادهم لمحاربة المقراني الذي وصفوه بالمجنون وفعل مثلهم (محمد بن هني بن بوضياف) قائد صحارى بسكرة في رسالته إلى الحاكم الإفرنسي قسنطينة يوم 21 آذار - مارس وسلم بائآغا التيطري رسالة المقراني إلى الحاكم الأعلى الإفرنسي في المنطقة. وقاد (علي بن عبد الرحمن) حامل الرسالة، إلى رئيس المكتب العربي هناك وحتى وجهاء قسنطينة الذين نعتوا أنفسهم ((بالحضريين) وجهوا أيضا تأييدهم إلى نائب الأميرال - الكونت دوفيدون - يوم 26 نيسان - أبريل: (استنكروا فيها أعمال المقراني وأخوان الحداد الرحمانيين، الذين نعتوهم - بالبدويين - المحبين للتخريب وسفك الدماء والمعادين للخير والفلاح. وطالبوا بإنزال العقوبات القاسية ضدهم). على أن المقراني، وإن فشل في استمالة رؤساء العائلات الكبيرة مثله، إلا أنه نجح في استمالة الشيح الحداد إليه بأتباعه، وهو مكسب هائل عوضه عن كل ما فقده في الآخرين من تأييد، ذلك أن انضمام الحداد إلى الثورة غير من طابعها واتجاهها، وجند لها ما عجز المقراني عن تحقيقه من تأييد شعبي واسع، نظرا لما كان للحداد من نفوذ معنوي قوي على سكان جرجرة والبابور وحوضي وادي الساحل ووادي الصومام. ما أن علمت السلطات الإفرنسية بالجزائر العاصمة، باندلاع

ثورة المقراني منذ اليوم التالي لحدوثها، حتى كلفت الجنرال (سوسي) بمواجهته وملاحقته في منطقة مجانة. فتوجه (سوسي) إلى هناك، ووصل إلى البرج يوم 2 نيسان - إبريل - 1871 وضم إليه الحامية الموجودة في المدينة، فأصبح لدية خمسة آلاف جندي، ثم توجه صباح الثامن من الشهر إلى مجانة، وهو نفس اليوم الذي نجح فيه المقراني في ضم الحداد إلى الثورة هو وابنه وإخوانه، مما جعل الثورة تتخذ شكلا آخر وطابعا جديدا. خاض الثوار معركة كبيرة في (ساقية الرحى) قرب جبل (تافرطاست) شمال مجانة يوم 12 نيسان - أبريل - وقامت القوات الإفرنسية التي يقودها (سوسي) بإحراق قرية صوناف وكل منازل مجانة - ما عدا قصر الباشآغا الذي تمركز فيه، ووقع الشريف بن عبد الرحمن قائد الدريعات، وقريب المقراني، في أسر القوات الإفرنسية. وترك الحاج المقراني قوة كافية لمناوشة الإفرنسيين بمنطقة مجانة ومريسان. وانتقل هو إلى (زمورة) ثم إلى (فمور) شرقي مدينة البرج لإجراء مفاوضات مع أبناء عمومته الذين كانوا معارضين له، بعد أن أصبح الوضع خطيرا. وعسكر (بعين التراب) وعقد يوم (14) نيسان - أبريل - اجتماعا مع كبار رجاله في (قبة سيدي علي بوناب) وتدارس الوضع معهم وفقا للتطورات الجديدة في سير حركة الثورة. وتم الاتفاق على ضرورة توحيد الصفوف فأجرى المقراني اتصالات مع أولاد عبد السلام وأولاد عبد الله وأولاد بلقندوز، ونجح في استمالتهم إليه بعد يومين من المفاوضات. وتبعهم عدد آخر من الناس، كانوا من قبل، خارج الصف معادين أو مترددين.

ظهرت نتائج هذا التحول بصورة فورية، فقد قام الثوار من (أولاد تبان) و (الأربعاء) و (ريغة) بقيادة محمد بن عدة، بالهجوم على عدد من المزارع حول العلمة، بعضها للأوروبيين، وبعضها للمتعاونين معهم أمثال (الزين بن أحمد وأولاد قليل)، وقتلوا ثلاثة أفراد. وتمركز محمد بن عبد السلام ومحمد الصغير بن الشيخ ساعد، في قرية رأس الواد بأمر المقراني. وحاولت مفرزة فرنسية (بقيادة النقيب ترانجان) تنفيذ المهمة التي أسندت إليها يوم 30 آذار - مارس - وهي حراسة الطريق بين سطيف والبرج، ودعم قوات (الجنرال سوسي) الذي كان يهاجم (مجانة). غير أن هذه المفرزة فشلت في تنفيذ مهمتها. وتعرضت للهزيمة يوم 18 نيسان - إبريل - في (عين تاغروط) واضطرت للانسحاب إلى سطيف. فاتهمت القيادة الإفرنسية قائد المفرزة (بتهمة التقصير في أداء واجباته العسكرية)، وقدمته إلى مجلس عسكري، والتي برأه من التهمة المسندة إليه وذلك يوم 21 آب -أغسطس - 1871. أعادت القيادة الإفرنسية تقويم الموقف، على ضوء فشل مفرزة (ترانجان) في تنفيذ مهمتها، وتزايد ضغط الثوار في وادي الشعير، وأصدرت أمرها إلى (الجنرال سوسي) بالانسحاب من مجانة إلى البرج لنجدة سطيف التي أصبح الثوار يهددونها. فنسف (سوسي) قصر الباشآغا المقراني، وأحرقه يوم 15 نيسان - أبريل - ودمر بقية منازل القرية قبل أن ينسحب منها. كانت خطط الثوار تعتمد على إخلاء مدن السهل وقراه. والاعتصام بالربوات الحصينة، فأخلوا رأس الواد، وعين تاغروط، وتجمع عدد منهم في سهل سيدي مبارك شرق البرج، وفي عدة نقاط

أخرى. واعترضوا سبيل القوات الإفرنسية التي غادرت البرج متجهة إلى سطيف يوم 1871/ 4/20. وعلى أثر ذلك، عقد قادة الثورة اجتماعا لهم في (مصالتة - قرب عين مسعود) بهدف دراسة الموقف الجديد. وحضر هذا الاجتماع بو مزراق ومحمد بن عبد السلام وعبد الرحمن بلقندوز وعزيز الحداد ومحمد الصغير بن الشيخ ساعد والمقدمان الرحمانيان: قارة بن حباش من قرقور، ومحمد أكلي أو بوعرون من البابور. وتم وضع الخطة لمواجهة القوات الإفرنسية التي كانت تضايقهم من سطيف والبرج معا. وخاض الثوار بعد ذلك مجموعة من المعارك الناجحة في جبل طافات وثنية مقسم والعيون. وأحرقوا برج قائد وادي الساحل القبلي (السعيد بن عبيد في الماوكلان) ومزرعة قائد قرقور (أحمد بن زيدان) المواليين للإفرنسيين، وأكرهوا الأوروبيين في قرية وادي الذهب والوريسية والمهوان على الجلاء إلى العلمة وبقية المراكز الإفرنسية. وأسند الحاج المقراني قيادة الأعمال القتالية في وادي الشعر، شرق بوعريرج، لأخيه بومزراق ومعه بعض المقدمين الرحمانيين بزعامة عزيز الحداد. وتوجه هو إلى بني عباس لتفقد أمور المنطقة، وبذل المزيد من الجهد لكسب الأنصار والمؤيدين. ويظهر أن نجاحه في ضم الإخوان الرحمانين إلى الثورة، وتوحيد صفوف أبناء عمومته على هدف الجهاد، هو الذي جعله يطمئن بعض الشيء للجبهة الشرقية، على الرغم من أن الأعمال القتالية في وادي الشعير لم تصل إلى مرحلة الحسم. لم يتوقف الحاج المقراني طويلا في بني عباس، فاتجه إلى (أولاد جلال) يوم (25) نيسان - إبريل - ثم إلى جبل (موقرنين) بسور

- مدينة الجزائر وسهل متوجة (متيجة)

الغزلان الذي جعل منه بومزراق أكبر معسكر للثوار منذ اندلاع الثورة. وعقد هناك اجتماعا كبيرا مع قادة الثورة والمقدمين الرحمانيين بالمنطقة. وحاول أن يخطط معهم أسس العمل والطرائق التي يجب اعتمادها لمجابهة القوات الإفرنسية التي أخدت في غزو المنطقة منذ يوم 11 نيسان - إبريل - تحت قيادة الجنرال سيرير وبصحبة تروملي وفورشود، وبدعم من آغا البويرة (بو زيد بن أحمد) (¬1). ثم انتقل الحاج المقراني بعد ذلك من (جبل موقرنين) إلى (عين الطاقة) ثم إلى (ثنية أولاد داوود) و (وادي الشعير) بين واد أخريص وسيدي بن داوود. وقضى هناك ليلة 27 نيسان - أبريل - وعاقب أولاد سالم الذين استسلم البعض منهم إلى الجنرال سيريز بتحريض من الآغا بوزيد. وحصلت في اليوم التالي (معركة طكوكة) على ربوات ذراع المؤمن جرح فيها عدد من الأوروبيين وقتل من الثوار ثلاثمائة رجل نظرا لتفوق الأعداء بالقوى والوسائط. ولم يحضر الباشآغا المقراني هذه المعركة، غير أن رجاله نجحوا في اعتقال سبعة رجال من أتباع بوزيد. غادر الحاج المقراني منطقة ونوغة بعد معركة طكوكة مباشرة، فوصل إلى بني عباس يوم 29 نيسان - إبريل - وأخد في حشد الأنصار والأتباع بعد أن تأكد من عداء الآغا بو زيد الشدت للثورة، وعلم ¬

_ (¬1) كان الآغا بو زيد بن أحمد - أحد أحفعاد محمد الطيب بن سالم خليفة الأمير عبد القادر على البويرة - وقد أصبح من عملاء الإفرنسيين. وشكل عقبه كبيرة ضد ثورة المقراني والإخوان الرحمانيين في منطقة ونوغة وسور الغزلان والبويرة، وزادت حماسته لمحاربة الثورة حماسة الإفرنسيين ذاتهم. وحرص باستمرار على تزويدهم بأخبارها منذ بدايتها وحتى نهايتها (ثورة 1871 - الدكتور يحيى بو عزيز - ص 22).

بزحف قوات كبيرة من الجزائر العاصمة نحو ونوغة (تحت قيادة سيريز). وقد استدعى أخاه (بومزراق) من الماوكلان لمعالجة الموقف والاستعداد للمجابهة. نجح الحاج المقراني بجمع حوالي أربعة آلاف محارب، وعاد بهم بسرعة إلى الجبهة الغربية عبر جبال البيبان وانضم إليه في الطريق عدد كبير من رجال بوخليل وبني مكيلش وبني عباس وبني يعلى وبني منصور. وأخذ طريقه إلى مدينة البويرة (مركز قيادة الآغا بوزيد بن أحمد)، وذلك في اليوم الأول من أيار - مايو - بينهما كان الثوار الآخرون يواجهون قافلة من القوات الإفرنسية - يقودها تروملي - على الضفة اليسرى لواد سفلات. بالإضافة إلى قافلة ثانية على الضفة اليمنى لواد الجمعة - بقيادة قورشود - وكان الثوار يهيمنون عليها من ربوات سلامات. وصل الحاج المقراني بقواته إلى مدينة البويرة يوم 2 أيار - مايو - وفرض عليها الحصار. وحاول اقتحامها، غير أن الآغا بوزيد وأنصاره من أولاد بليل وأولاد عريب بزعامة القائد محمد بن منصور والقائد محمد بن إبراهيم قاوموه بشدة، فتراجع عنها إلى قرية (بوشرين) وعسكر بقواته في اليوم التالي بتسالة في أوساط بني مناد، وأخذ يستعد لمواجهة قوات سيريز التي كانت تتابع تحركاته، والتي اعترضتها قبائل صنهاجة واشتبكت معها ورفضت الاستسلام لها هي وأولاد سالم. وكانت صدمة المقراني كبيرة نتيجة فشله في إخضاع خصمه (الآغا بوزيد)، وكان قد حصل على ستة من رجاله في معركته، فحاول الإفادة منهم لمساومة (الآغا بوزيد) والاتصال به وبذل كل جهد مستطاع لاستمالته وضمه إلى صفوف الثورة، غير أن (الآغا بوزيد) كان مصمما على متابعة طريقه في خدمة الإفرنسيين، ومحاربة المقراني وأنصاره الرحمانيين. على كل حال، لم يكن باستطاعة الحاج المقراني

- خريطة واحات الصحراء الشرقية التي كانت مسرحا لمطارة المقرانيين إلى داخل الحدود التونسية أوأل 1872 م.

التوقف طويلا في (تسالة) فغادرها بقواته التي بلغ عدد أفرادها ثمانية آلاف مقاتل، واتجه إلى الربوات المحيطة (بوادسفلات) عبر واد الجمعة في اليوم الرابع من أيار - مايو - وانتشر الثوار في وادي سيدي سالم بينما أقام الحاج المقراني معسكره في (وادي الرخام) الرافد الأيسر لوادي الجمعة، عند مصب (وادي غالو) على ربوة تدعى (كدية المسدور). وكان اختيارد هذه المنطقة ناجحا، ذلك لأنها كانت منطقة وعرة المسالك ذات خوانق ضيقة، وربوات صخرية، وهضاب معقدة التضاريس، يصعب على الإفرنسيين التنقل فيها بدون أدلاء من أبناء المنطقة. غير أن (الآغا بوزيد) تكفل بحل هذه المشكلة، وأخذ على عاتقه إمداد الإفرنسيين بسيل من المعلومات عن تحرك الباشآغا المقراني، كما تعهد بتوجيه القوات الإفرنسية في تحركها عبر المناطق الصعبة. وبذلك استطاعت القوات الإفرنسية الوصول في يوم 5 أيار - مايو - إلى (دارع بلخروب) غير بعيد عن معسكر الحاج المقراني، وأخذت هذه القوات بدفع مفارز الاستطلاع لتحديد مواقع الثوار، فاشتبكت معهم منذ طلوع الفجر، واستمرت حتى منتصف النهار بصورة متقطعة وعلى الرغم من أن الإفرنسيين كانوا على علم بوجود الحاج المقراني في تلك المنطقة، إلا أنهم لم يكونوا على علم بوجوده في ذلك المكان بالذات. خفت حدة الاشتباكات في فترة الظهيرة حتى كادت تتوقف تقريبا. فمضى الحاج المقراني ورفاقه لأداء فريضة صلاة الظهر، ويظهر إنه لم يتخذ الاحتياطات الكافية، ولم يكن يعرف بوجود عدد من جنود (الزواف) الإفرنسيين يترصدونه هو ورفاقه على بعد أقل بن ألف متر. وبينما هو يصلي رماه أولئك الزواف بأربع رصاصات أصابته في جبهته، فسقط شهيدا على الفور وهو يردد شهادة التوحيد،

كما سقط معه ثلاثة من إخوانه. وتوقف الرمي تماما لهول الصدمة التي نزلت بأتباعه. وحمل الثوار في الحال جثة المقراني إلى (قلعة بني عباس) ودفنوه بمسقط رأسه. حاول (بومزراق) وقادة الثورة، إخفاء خبر استشهاد الحاج المقراني في بدايه الأمر. وأشاعوا أنه جرح جروحا بليغة بسبب انفجار قنبلة بين يديه، غير أن ثلاثة أشخاص من الستة الذين اعتقلهم في معركة 2 أيار - مايو - فروا أثناء استشهاده مستغلين فرصة ما حدث من هيجان واضطراب، والتحقوا (بالآغا بوزيد) وأحاطوه علما بالأمر. فقام هذا بواجبه وأبلغ ذلك إلى السلطات الإفرنسية. وهكذا اختفى الحاج محمد المقراني من ميدان الجهاد سرعة، وبعد واحد وخمسين يوما فقط من بداية ثورته. ولم يعش خلالها أحداثا حاسمة. وكان من نصيبه تذليل العقبات والاصطدام بالصعوبات، ومعاناة مرارة الفشل، وفقد قصره بمجانة وكل أثاثه وأملاكه، وفشل في احتلال (برج بوعريريج) و (البويرة). ولم يتمكن من إخضاع (الآغا بوزيد)؛ كما رفض أصدقاؤه القدامى (أمثال ابن علي الشريف) أن ينضموا إليه ويدعموا جبهته. ومقابل ذلك، حقق نجاحا رائعا في إيقاد جذوة الثورة، وتوحيد جبهة أبناء عمومته ضد المستعمرين. ودعم الثورة بتعاونه مع الشيخ الحداد، وإقناعه برفع راية الجهاد في سبيل الله، مما ضمن للثورة القدرة على الصمود والاستمرار. مضى الحاج محمد المقراني للقاء ربه صابرا مجاهدا، وترك جذوة الثورة متوهجة في قبضة المجاهدين، ومنهم بصورة خاصة (الإخوان الرحمانيين).

ثورة الشيخ الحداد (صدوق) (أو ثورة الإخوان الرحمانيين)

2 - ثورة الشيخ الحداد (صدوق) (أو ثورة الإخوان الرحمانيين) تنتسب الطريقة الرحمانية إلى مؤسسها الأول محمد بن عبد الرحمن (1728 - 1794 م) وهو من مواليد قرية آيت إسماعيل في فروجة على بعد (15) كيلومترا إلى الشرق من مدية ذراع الميزان بجبال جرجرة. وتلقى تعليمه في قرية آيت إيراثن، ثم أكمل تعليمه بمصر - في الجامع الأزهر - وعاد إلى الجزائر، واستقر في بجاية، ثم انتقل إلى (حي الحامة) قرب العاصمة الجزائر، وعاد أخيرا إلى مسقط رأسه (آيت إسماعيل). وعندما توفي عزم أتباعه وأخوانه بالحامة على نقل جثته إلى الجزائر سرا، ونفذوا ذلك. وحصل خلاف بين أهل الحامة، وأهل آيت إسماعيل، حيث ادعى كل طرف بأن جثة محمد بن عبد الرحمن في منطقته، فأطلق عليه منذ ذلك لقب (بوقبرين) ولا يزال أحفاده حتى اليوم يحملون هذا اللقب. اشتهر محمد بن عبد الرحمن بالتقى والعلم والورع، وأسس مدرسة دينية (المدرسة الحفناوية نسبة إلى أستاذ محمد بن عبد الرحمن في الأزهر - الشيخ محمد بن سالم الحفناوي). وأصبح لمدرسته أتباع وأنصار كثيرون، ولهم دعاتهم وزواياهم - مدارسهم التعليمية - وعندما غزت فرنسا الجزائر، قام الإخوان الرحمانيون بدور كبير في مناهضة

الغزو الاستعماري ومقاومته. فكان للإخوان دورهم في ثورة الأمير عبد القادر وثورة الشريف بونبلة (سنة 1856). وقاد الحاج عمر مقدم الرحمانيين - زوج لالافاطمة المجاهدة الشجاعة شيخة أيسو مار وإحدى بنات الشيخ علي بن عيسى الخليفة الأول لمؤسس زاوية الرحمانيين - بنفسه مقاومة جماهير الإخوان الرحمانيين ضد الجيش الإفرنسي الذي كان يقوم بعمليات الاستطلاع في جبال جرجرة تمهيدا لغزوها. وعندما نجحت فرنسا بالقضاء على ثورة الإخوان وأبعدت شيخهم الحاج عمر إلى مدينة نفطة التونسية، وتم لها اعتقال لالافاطمة بعد ذلك. تولى الشيخ محمد أمزيان بن علي الحداد مقدم زاوية صدوق الرحمانية قيادة الإخوان الرحمانيين، وأمكن له المحافظة على وحدتهم. كان الموطن الأصلي لأجداد الحداد هو قرية بني منصور في جبال البيبان، على الضفة اليمنى لوادي الساحل والصومام - في مواجهة السفوح الشرقية لجبال جرجرة - (وغير بعيد من قرية أقبو الحالية). وانتقل البعض من هذه القرية إلى قرية (تيفرة) و (إيمولة) و (صدوق - أو فلة الفوقانية) ببني العيدل على الضفة اليمنى لوادي الصومام. وقد اكتسبت العائلة اسمها من احترافها لمهنة (الحدادة). وقد ولد محمد أمزيان الحداد سنة 1208 هـ 1793 م. وتلقى تعليمه في زاوية الشيخ ابن أعراب في قرية (آيت إيراثن) بجبال جرجرة حتى إذا ما توافر له القدر الكبير من العلم والمعرفة عاد إلى صدوق، وتفرغ للوعظ والإرشاد، وتكاثر الطلاب حوله بالزاوية التي أنشأها. فكان عدد الطلاب الملازمين لزاويته أكثر من مائتي طالب، يأكلون ويشربون ويقيمون مجانا، في حين ارتفع عدد الإخوان من المئات إلى الآلاف. وتدفقت على الزاوية أموال الهدايا والزيارات، وحبس الإخوان عليها

أوقافا كثيرة من الأراضي ذات المردود الواسع من الحبوب والغلال والخضار، مما ساعدها على أداء مهمتها الثقافية والدينية والاجتماعية، ومكنها من تقديم إعانات كثيرة للمعوزين والمنكوبين خلال المجاعة الكبيرة عامي 1867 و 1868. وعندما نفت السلطات الإفرنسية شيخ الرحمانيين الحاج عمر. أصبح الشيخ محمد الحداد هو الزعيم الملهم للإخوان الرحمانيين وامتدت سلطته الروحية ونفوذ زاويته على كل المنطقة الواسعة التي تشمل جبال البابور وحوض الصومام وجبال جرجرة وحوض الحضنة. عرف عن الشيخ محمد الحداد عزوفه عن السلطة الرسمية، وقوة عاطفته الدينية، فكان أتباعه هم الممثلين الحقيقيين للطبقة الشعبية الفقيرة. ومن هنا جاءت المنافسة مع أولاد عبد السلام المقراني الذين كانوا يطمعون في التعاون مع السلطات الإفرنسية لدعم سلطتهم الدنيوية. وهذا ما حمل الحاج محمد المقراني لبذل وساطته في نهاية عام 1870 لتأمين الوفاق بين أبناء عمومته والشيخ الحداد. وأمكن له إزالة أسباب الخلاف وتوثيق الروابط بين مجانة (الحاج محمد المقراني) وصدوق (الشيخ محمد الحداد). وعندما أشعل الحاج محمد المقراني ثورته في (مجانة) وأخذ في العمل على توسيع نطاقها، أرسل وفدا إلى (صدوق) يوم 6 نيسان - إبريل - 1871 يضم ابن عمه الحاج بوزيد وصديقه محمد العربي بن حمولة وأربعة مقدمين آخرين من زعماء بني عباس، سلموا إلى الشيخ محمد الحداد رسالة (دعاه فيها إلى إعلان الثورة ودفع أخوانه إليها). ولم يكن الإخوان الرحمانيون بحاجة لمن يستثيرهم للثورة، فقد كانوا في حالة ثورة دائمة، غير أن اشتراكهم كان - إفراديا - إذ صح

التعبير. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد كان الشيخ الحداد متقدما في العمر، ويميل بطبيعته للسلم، وبفضل التفرغ لأمور الدين، غير أنه كان من المحال فصل الدين عن أمور الدنيا، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالجهاد ضد أعداء الدين. ولم يكن الشيخ الحداد لينفرد في معالجة مثل هذا الأمر الخطير بنفسه، فكلف ابنيه (سى عزيز) و (محمد) بدعوة كل المقدمين المجاورين لصدوق للتشاور معهم، فأخذوا يتوافدون حتى أكمل جمعهم صباح يوم 8 نيسان - إبريل - واحتشدوا بجوار القرية - وخرج إليهم شيخهم الوقور المسن ذو اللحية البيضاء، متكئا على عصاه. وحوله ابناه (سي عزيز) و (محمد) وبعض المقدمين المقربين إليه فوعظهم وأرشدهم، وأعلن لهم عن خلافة ابنيه له من بعده، ودعاهم بعد ذلك إلى الجهاد. وسلم لهم علم الجهاد الذي صنع قبل ذلك، وصاح قائلا - بعد أن رمى عصاه على الأرض -: (بإذن الله وعون رسوله سنرمي الإفرنسيين في البحر، ونطردهم من البلاد) (¬1). ما كاد الشيخ الحداد يعلن ثورته، حتى اندفع كل الناس لحمل السلاح تحت راية (الإخوان الرحمانيين). في ولايتي (عمالتي) الجزائر وقسنطينة، من جحوط ومليانة وشرشال غرب مدينة الجزائر إلى جيجل والقل شرقا، وباتنة وبوسعادة وسور الغزلان جنوبا. وشمل ميدان الثورة جبال البابور والوادي الكبير وحوض الصومام وجبال جرجة والبيبان وحوض الحضنة وجبالها. وامتدت إلى سهل متيجه (متوجة) وحاصر الثوار مراكز الإفرنسيين وقلاعهم العسكرية في بجاية ودلس وتيزي أوزو وأربعاء نايث إيراثن وبرج منايل وذراع الميزان، ¬

_ (¬1) ثورة 1871 - الدكتور يحيى بو عزيز - ص 235 - 240.

وابن هني (الأخضرية حاليا)، وسطيف ونقاوس وجيجل والقل وشرشال وبوداود وغيرها. واندفع إلى الثورة في أقل من شهر أكثر من مائة وعشرين ألف رجل محارب. في حين لم يستطع المقراني قبل ذلك تجنيد أكثر من (25) ألفا من مناطق برج بوعريرج وسور الغزلان وبوسعادة. أصيبت الإدارة الإفرنسية في الجزائر بالذعر، وانطلقت الأبواق الاستعمارية للهجوم على الثورة، ومما قيل فيها: (باتت المراكز الدينية مصدر خطر كبير على الإفرنسيين. ولم تعد الزوايا مكانا لتعليم القرآن فقط وإيواء البؤساء، وإنما تحولت إلى مراكز للثورة من أجل القضاء على المسيحيين. وهذا ما فعله الأخوان الرحمانيين بالجزائر بزعامة الشيخ الحداد، بفضل التأثير الديني والسياسي الكبير لهم، وارتباطهم بالقاعدة الشعبية ارتباطا وثيقا) (¬1). وقيل أيضا: (من أن النيران التي اشتعلت في كل الجزائر، كانت مدعمة بالتعصب الديني للإخوان الرحمانيين الذين انتشروا في مصيف جرجرة، ومن حدود المغرب الأقصى إلى حدود تونس. وأن إخوان 1863 و1865 ما يزالون اليوم يقودون الحرب الدينية، وجاءوا من مكة لزرع التشويش الديني في الجزائر) (¬2). قد لا تكون هناك حاجة للتوقف عند مثل هذه المقولات التي ¬

_ (¬1) LES CONFRERIES ISLAMIQUES EN ALGERIE, RAHMANIATID-JANIA (SIMON- MARCEL) ALGER JOURDAN 1910 - PP. 35 - 42, 56 - 65. (¬2) L'INSURRECTION DE LA GRANDE KABYLIE EN 1871. (ROBIN. N COLONEL) PARIS, IMP: HENRI- CHARLES- LAVOUSELLE 1901 - PI97.

باتت معروفة الأهداف، منذ أن طور الغرب هجومه الصليبي ضد العالم الإسلامي. فوصف (التعصب الديني) ليس إلا وسيلة لدفع المسلمين من أجل التخلي عن أراضيهم الإسلامية الصلبة، والتحلل من التزاماتهم، وأولها الجهاد في سبيل الله ضد أعداء الله. وهنا يمكن الاتفاق مع بعض مؤرخي الغرب في القول - إذا ما كان هناك تعصب: (بأنه لم يثر التعصب الإسلامي إلا التعصب المسيحي الذي دل عليه ما لجأ إليه الصليبيون من سفك الدماء) (¬1) وأما الهجوم على الزوايا والمساجد والمدارس الإسلامية فليس من هدف له إلا تدمير قواعد الصمود. يبقى هدف الهجوم على مكة المكرمة - عبر اتهامها بإرسال من يقوم (بالتشويش الديني بالجزائر) هو تمزيق الرابطة التي تربط المسلمين بمقدساتهم، علما أن هذه الأماكن المقدسة - الحجاز - كانت معزولة عن العالم العربي - الإسلامي في تلك الحقبة، بفضل جهود محمد علي باشا حاكم مصر، وحلفائه من الإفرنسيين. المهم في الأمر: (هو أن ثورة الإخوان الرحمانيين، أثرت على أصدقاء فرنسا من تونس إلى المغرب الأقصى، وأصبح الشيخ عزيز مثل السلطان لكل مكان بلاد القبائل) (¬2). وما إن رفع الشيخ محمد الحداد لواء الجهاد في سبيل الله، حتى انطلق ولداه (سي عزيز ومحمد) للعمل الجاد، فأمر (سي عزيز) بقطع خط الهاتف الذي يربط بجاية بأربعاء نايث إيراثن (يوم 10 نيسان - إبريل) وكلف أتباعه ومقدمي أبيه بالدعاية الواسعة لحشد الناس في صف الثورة. وأمر بإشعال النيران ليلا على الربوات وقمم الجبال ¬

_ (¬1) تاريخ الحروب الصليبية - رنسيمان - 1/ 405. (¬2) ثورة 1871، الدكتور يحيى بو عزيز - ص 239.

لإشعار الإخوان الرحمانيين بانطلاقة الثورة. وأخذ الرسل والدعاة في التنقل بسرعة إلى كل الجهات، لإبلاغ نداء الشيخ الحداد إلى السكان. وشرع سي عزيز في جمع الرجال وتنظيمهم، وتعيين القادة والرؤساء، فاستمال إليه زعيم (بني يمل - المدعو أورابح) وعينه قائدا على ثوار الجبابرة، بينما فر القائد أحمد أورابح بأسرته إلى بجاية. وبعد أن تجمع لدى سي عزيز عدد كبير من المحاربين، نظمهم وقسمهم إلى قسمين: قسم وضعه تحت قيادته المباشرة ويتكون من خمسة آلاف محارب تقريبا، يعاونه القائد عبد الله بن عبد القادر الوهراني - مقدم بني سليمان - والبشير بن علي وعبد الله بن الأعلى. أما القسم الثاني، فقد وضعه تحت قيادة أخيه محمد، ويتكون من أربعة آلاف محارب، يعاونه القائد عمر أبو جمعة، وبو جمعة بن نحمان، والعريف حمو (الذي كان من ضمن حرس ابن علي الشريف وانضم إلى الثوار). ونظم (سي عزيز) جهاز الاستخبارات فعين جماعة لهذه الغاية تعمل تحت قيادة عبد العزيز صهر الشيخ محمد بن الحداد، ومحمد أكلي بن بوعرون مقدم بني سليمان، ومحمد أو يحيى مقدم فيانة ورزقي بن بوزيان من الجبابرة. أكمل سي عزيز وأخوه استعداداتهما، ثم أقاما معسكرهما في قرية (ذراع تاقاعت) شمال الضفة اليمنى لوادي الصومام يوم 12 نيسان - إبريل - وفي هذا الوقت ذاته كان ثوار (بني) و (غليس) في الضفة اليسرى يحشدون الناس للجهاد، وكانت العقبة الرئيسية لهما تتمثل في معارضة (ابن علي الشريف - باشآغا شلاطة) و (محمد أمزيان ابن الموهوب - شيخ زاوية العراش). فوجها إليهما رسالتي تهديد في اليوم التالي لإعلان الثورة. كما كتبا رسائل مماثلة إلى شخصيات أخرى - ولم يترددا في مهاجمة برج شيخ العراش في - إيمولة - بعد يومين

من إنذاره، لرفضه الانضمام إلى الثورة، وألحقا به أضرارا فادحة. وخربا له منزل سكناه. وعندئذ استنجد (ابن علي الشريف) بحاكم بجاية الإفرنسي، الذي كان يعسكر في قرية القصر منذ يوم 9 نيسان -إبريل - فأمده ببعض البنادق القديمة، التي لم تفده. فاستنجد بالجنرال الإفرنسي (لاباسي) الذي وصل بقواته بحرا إلى بجاية يوم 14 نيسان - إبريل - غير أن هذا اعتذر عن تقديم الدعم بحجة أن الثوار قد باتوا مسيطرين على الطريق في سيدي عيش وتاقريت، مما يجعل إرسال النجدات أمرا صعبا. انتقل (سي عزيز) بقواته يوم 16 نيسان - إبريل من (ذراع بلوزير) إلى (جبل عديسة)، وعاقب بني جليل لتقاعسهم عن الاستجابة السريعة لنداء الثورة، وفرض عليهم غرامات مالية. وبدأ هو وأخوه بعد ذلك في ممارسة أعمال العنف ضد أعداء الثورة من الجزائريين والأوروبيين ثم توجها إلى (بجاية) لمهاجمتها عبر منطقة الجبابرة. بينما كان ثوار (إفناين وآيت إسماعيل) يعسكرون أمامها على يمين معسكر القصر. وجرت اشتباكات بسيطة، تراجع بعدها سي عزيز وأخوه إلى (إيغيل) أو عزوز - أمام مضيق تيزي الجمعة. وفي يوم 20 نيسان - إبريل - وصلت رسالة ثانية من الحاج محمد المقراني إلى سكان (يلولة أو سامر) يحثهم على الجهاد، ويتبرأ من (ابن علي الشريف) الذي (يثبط الناس عن الجهاد). وأبلغهم بأنه ذاهب إلى سور الغزلان لاعتراض القوات الإفرنسية. ووعدهم أن يتجه فور عودته إلى (أقبو) ليتعاون مع الشيخ عزيز - في تخريب (عزيبه) ومنازل السكان الذين تبعوه. ولكن المقراني لم يعد من هذه العمليه، إذ قتل في معركة واد سقلات - كما سبق ذكره. فبدأ سي عزير تقدمه من جديد

- الشيخ عزيز بن الحداد Si AZIZ - CHEF DE L'INSURRECTION KABYLE

على رأس قواته يوم 21 نيسان - إبريل - وهدفه الرصول إلى بجاية عبر وادي الصومام. وعندما وصلت طلائع قواته على مسافة (13) كيلومترا من المدينة، اصطدمت بطلائع القوات الإفرنسية، فتراجع سي عزيز بقواته إلى قرية (تاوديرت الأربعاء)، وانسحب قسم كبير من القوات الإفرنسية إلى الجزائر العاصمة بعد أن تلقت هذه القوات مهمة جديدة هي الدفاع عن قرى سهل متيجة (متوجة) وحماية العاصمة التي باتت مهددة بقوات الثوار. تمركز الشيخ محمد بن الحداد (بعد اشتباكات يوم 21 نيسان - إبريل) في ثلاثة مواقع لمتابعة حصار مدينة (بجاية) على بعد سبعة كيلومترات منها. فوضع قوة في (بوشامة داخل جبل قوراية) ووضع قوة ثانية في (تيزي)، أما القوة الثالثة فتمركزت في (تيرياهنت) على الضفة اليمنى لوادي الصومام. وحدثت بعض الاشتباكات جرح خلالها القائد أحمد أورابح المتعاون مع الإفرنسيين. وفي هذا الوقت ذاته، كان الثوار في (إيلولن) يهاجمون ابن علي الشريف في شلاطة. خاض (سي عزيز) والمجاهدون معركة كبيرة ضد الإفرنسيين في جبل طافات يوم 30 نيسان - إبريل - واتجه في اليوم الأول من أيار - مايو - لمهاجة برج بلقاسم بن حبيلس المتعاون مع الإفرنسيين بمنطقة البابور،، بصحبة صهره وعدد من وجهاء أولاد مقران وزعماء المنطقة، وذلك ليسهل عليهم الطريق للزحف على مدينة سطيف نفسها، غير أن ابن حبيلس حصن برجه، واستدعى أخاه عمر بن حبيلس وجماعة من بني فوغال للدفاع عنه. وأمكن له إيقاف هجوم الثوار. وكلف (سي عزيز) بعضا من قواته بمهاجمة قرية (العلمة) وحاول

هو أن يهاجم قرية (الوديسية) ولكنه فشل في محاولته - كما حاول استمالة الزروق بن يللس وداوود بن كسكاس وضمهما إلى صف الثورة، ففشل في محاولته هذه أيضا. وحدثت بعد ذلك مجموعة من المعارك يومي 6 و7 أيار - مايو، تمكن خلالها سي عزيز من التقدم إلى زمالة عين عبيسة وتدمير برجها، وذلك بالرغم من النجدات الإفرنسية وحملات أنصار الإفرنسيين من أمثال داوود بن كسكاس، وأحمد بن زيدان قائد قرقور، والحاج بوعكاز. واستطاع سي عزيز تدمير القوة الإفرنسية المدافعة عن (برج عين عبيسة) هي ومن كان معها من الصبايحية والقواد وأولاد تابت. ترددت أصداء انتصارات سي عزيز هذه بقوة، واستقبل الناس أخبارها بحماسة، فأقبلوا على الانضمام إليه. وعسكر بمن معه في جبل عنيني، وكان عددهم حوالي ستة آلاف محارب. وتصدت هذه القوات للإفرنسيين بعين رواح في ثنية الماجن. كما خاض ثوار أولاد ناصر معارك ضد داوود بن كسكاس على بعد عشرين كيلومترا من جبل باوش في عين الكحلة، واستشهد في هذه المعارك عدد من المجاهدين. وعلى أثر هذه المعارك، انسحب (سي عزيز) إلى عموشة لاستشارة أولاد صالح واستنهاض هممهم. في حين انسحبت القوات الإفرنسية إلى تاقيطونت، تحت وابل رصاص الثوار. غادر سي عزيز بعد ذلك عموشة، وانضم إلى معسكر أخيه الشيخ محمد في (تيزي الجمعة) حول بجاية. ولم يلبث أن انضم إليها بومزراق يوم 16 أيار - مايو - وتم تنظيم مجموعة من الهجمات ضد القوات الإفرنسية وأعوانها في المنطقة. وقامت البوارج الإفرنسية بقصف القرى المجاورة لمصب وادي الصومام. ثم اتجه سي عزيز

وبومزراق إلى عموشة حيث التقيا بمقدم فرجيوة - القريشي بن سيدي سعدون - في قرية تاسة، والذي كان الإفرنسيون قد هاجموا زاويته يوم 17 أيار - مايو - ودمروها تدميرا تاما بمساعدة بلقاسم بن حبيلس. وكان ثوار (عموشة) قد باغتوا القوات الإفرنسية التي أرادت أن ترغمهم على الاستسلام في (وادي البرد) وقتلوا منها ثمانية جنود، وجرحوا عشرين، كما حاصروا قوة منها غير أن النجدات الإفرنسية تمكنت من رفع الحصار وإنقاذ القوة التابعة لها. وأثناء ذلك، قام عبد الرحمن بلقندوز المقراني، ومحمد بن عبد الله من أولاد ريغة وأتباعهما، بمهاجمة معسكر القائد ابن الجودي من أولاد موصلي الموالي للإفرنسيين. واشترك عدد من ثوار أولاد صابة وبني ملول وأولاد عبد الله بن علي وبني سعيد بالبابور، في مهاجمة برج بلقاسم بن حبيلس انتقاما منه لمساعدة الإفرنسيين ضدهم. خاض المجاهدون الثوار بزعامة سي عزيز وبومزراق عددا من المعارك بداية من يوم (20) أيار - مايو - وشمل مسرح العمليات: ربوات ثنية الغنم وقرية تاسة والحمام وحول عموشة. جرح خلالها المقدم القريشي بن سيدي سعدون. كما وقعت معركة كبيرة في (جبل منتانو) يوم 25 أيار - مايو. وحاول ثوار أولاد صالح اعتراض أرتال القوات الإفرنسية التي كانت تحاول التوغل في وادي البرد وشعبة عيسى، وذلك قبل أن يتجه سي عزيز إلى أولاد عزيز وبني فوغال في تابابورت وجيجل عبر جبال البابور، حيث وصل إلى (بو مراو) يوم (26) أيار - مايو - ثم إلى الحامة. حيث التقى بصهره عمر بو عرعور الذي أحاطه علنا بالصعوبات والمشاكل التي كان يثيرها ضده وضد الثوار - أخوه محمد بو عرعور والصبايحية التابعون له، ومحمد أمقران قائد بني سيار، الذي يرجع أصله إلى عائلة المقراني وعائلة ابن منية

وعائلة ابن حبيلس. وعلى أساس هذه المعلومات، حاول سي عزيز أن يضع استراتيجية جديدة للحرب. فقسم قواته يوم 28 أيار - مايو إلى خمس كتائب: الأولى، وجهها إلى بني عزيز لتدمير برج القائد بلقاسم بن حبيلس الذي رفض الإجابة على رسائله والتجأ إلى جيجل. ونفذت هذه الكتيبة مهمتها بنجاح. أما الكتيبتين الثانية والثالثة فقد وجههما إلى (بني فوغال) على طريق فج العوانة وقرية سلمة. وكلفت الكتيبتان الرابعة والخامسة بالتوجه عبر منخفض دار الوادي لمهاجمة بعض قرى بني فوغال التي عارض سكانها حركة الثورة. شهدت قرية سلمة وأحوازها معارك كثيرة، وقام سي عزيز خلال يومي 29 و 30 أيار - مايو - بإحراق كل مراكز الأوربيين والقادة الجزائريين الموالين لهم والذين التجؤوا إلى جيجل. وعسكر يوم 31 أيار - مايو - في أولاد خديم علام، بعد أن غادر فج سلمة، ودمر برج القائد أحمد بن منية في يوم 1 حزيران - يونيو - بسبب رفضه التعاون مع الثورة. غادر سي عزيز منطقة جيجل إلى عموشة - عبر فرجيوة - في اليوم الثاني من حزيران - يونيو - وخلف وراءه المقدمين الثلاثة: القريشي ابن سيدي سعدون وعمر بوعرعور والطيب بن مبارك بودفيش، لإدارة الأعمال القتالية ضد جيجل، مع عدد من النواب والقادة الآخرين. فاتجه القريشي وعمر بن أمقران - مقدم بني شقوال بقواتها إلى الشمال - نحو ساحل البحر - وترك - القريشي - عددا من الثوار لحراسة سكان وادي جنجن من بني يدر وبني حبيبي. واتجه هو إلى جيجل بمن معه من الثوار يوم 7 حزيران - يونيو - وتعرض لقصف

البوارج الإفرنسية من البحر، وعاود الهجوم على المدينة صباح يوم 9 حزيران - يونيو - من أعاليها الغربية، واستمر في هجومه حتى منتصف النهار. وكررت قواته الهجوم يوم (11) من عدة جهات، ودمرت قنوات المياه التي تزود المدينة بمياه الشرب، واستشهد في هذه المعارك عدد كبير من الثوار. وتعاونت القوات البرية الإفرنسية مع القوات البحرية في صد هجوم الثوار عن جيجل، كما قصفت البوارج الإفرنسية مركزا للثوار طوال معارك الأيام الثلاثة، مما اضطر القريشي وابن أمقران إلى الانسحاب نحو شرق المدينة، لإعادة تنظيم القوات للمعركة ومواجهة الموقف الجديد، بينما تابع عمر بو عرعور حصار المدينة من أحوازها بعدد من الثوار. وقد اتجه عمر بو عرعور والقريشي إلى بني حبيب قرب مصب الوادي الكبير، ومن هناك إلى زاوية سيدي ورتيز لمقابلة شيخها ومقدمها الرحماني - محمد بن فيالة - ودعوته إلى حمل السلاح. وراسل القريشي القائد بلقاسم بن رابح بوزيان قائد أولاد عوات، لاستمالته وضمه إلى صف الثورة. غير أن هذا الأخير قام يتسليم الرسالة إلى الحاكم الإفرنسي لمنطقة المليلة. بينما كان القريشي ورفاقه تخوضون المعارك حول جيجل في محاولة لاقتحامها والسيطرة عليها، كان (سي عزيز) يخوض معارك أخرى ضد الإفرنسيين في كدية البيضاء قرب الوديسية، وضد الإفرنسيين وأنصارهم من أولاد نابت وأولاد صعدة في جنوب سطيف. وقامت القوات الإفرنسية بإحراق عدد من القرى في خراطة وذراع القايد وساحل قبلي وبني سليمان. ودافع الثوار ببسالة عن شرفهم، غير أنهم تعرضوا لخسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات. ثم توجه (سي عزيز) إلى (جرمونة) يوم 22 حزيران - يونيو - 1871 - ووجه فور وصوله إليها نداءا طالب فيه سكان بني سليمان وصدوق

بالتوحه إلى قرى شمال سطيف عن طريق الساحل القبلي، نظرا لما كان يجابهه المجاهدون من صعوبات في عملياتهم ضد القوات الإفرنسية في قصر الطير. وعقد اجتماعا مع زعماء الثوار في جرمونة صباح يوم 24 حزيران - يونيو - تم فيه الاتفاق على مهاجمة معسكر الإفرنسيين في كدية البيضاء، وتالة وزران - أو إيفاسن - وتوجهت القوات التي كان عدد مقاتليها يزيد على (80) ألف رجل إلى (تالة وزران) وخاضت هناك معارك ضارية في ظروف غير متكافئة استشهد خلالها حوالي مائة وخمسون من المجاهدين مقابل ثمانية من قتلى الأوروبيين. وعلى أثرها اتجه سي عزيز إلى صدوق، وعلامات الفشل بادية عليه وعلى أتباعه. وهناك، في صدوق، أصيب سي عزيز بإحباط جديد، فقد وجد جبهة أخيه الشيخ محمد وهي في حالة سيئة من التمزق، بحيث لم يتمكن من إحراز أي نصر منذ معركة (تالة وريان) في أواخر شهر نيسان - إبريل - وعندئذ انتقل سي عزيز إلى جبال جرجرة. فوجد فيها الأوضاع متدهورة إلى درجة سيئة، فقد خاض المجاهدون معركة (إيشر يضن) يوم 24 حزيران - يونيو - وهي المعركة التي تعاونت فيها القوات الإفرنسية حتى أنزلت بالثوار خسائر فادحة، وألحقت بهم الهزيمة، وقامت بعد ذلك بإحراق قراهم وتشتيت عائلاتهم على نحو ما كانت قد فعلته من قبل في معركة عام 1857 في نفس اليوم وفي المكان ذاته، مما أدى إلى إضعاف الثوار في هذه المنطقة. واتجه سي عزيز إلى معسكر (علي أوقاسي) الذي كان يعاني هو الآخر من مصاعب لا نهاية لها. وعندئذ قرر سي عزيز الأخذ بنصيحة والده، والاستسلام لأعدائه. كانت الخطوة الأولى في هذا المضمار قيام (علي أوقاسي) بتوجيه

رسالة إلى حاكم (تيزي أوزو) الإفرنسي يوم 27 حزيران يونيو - يعلمه فيها بأنه سيقود بنفسه في اليوم التالي (44) مدنيا أوروبيا. سبق للثوار إلقاء القبض عليهم وأسرهم في برج منايل. وفي الموعد المحدد، وصل المعمرون الأوروبيون إلى مسجد سيدي بو بهير تحت حراسة محمد أمقران أوقاسي، ومحمد السعيد وموسى وأحمد بن يسر، وأحمد بن محيي الدين من تاورقة ثم انتقل هؤلاء الأسرى، وهم تحت الحراسة - إلى سبت آيت يحيى حيث تسلم قائد الحامية الإفرنسية المدنيين الإفرنسيين. وتتابعت بعد ذلك الأحداث بسرعة. فقد استسلم سي عزيز للإفرنسيين في معسكر آيت هيشم يوم 30 حزيران - يونيو - ومعه علي أوقاسي ومحمد أمقران أوقاسي ومحمد لونيس أوقاسي. وتم اعتقال إخوة الشيخ محمد قرب بجاية يوم 2 تموز - يويو - واستسلم الشيخ محمد أمزيان بن الحداد يوم 12 تموز - يوليو - وتم وضع الجميع في السجن تمهيدا لمحاكمتهم كمجرمين عاديين، وكان استسلام (آل حداد). نقطة تحول حاسمة في مسيرة الثورة - إذ لم يلبث الإخوان الرحمانيون أن أصيبوا بالانهيار. فبدءوا بالتساقط تباعا تحت ضربات الإفرنسيين.

ثورة أحمد بو مزراق (سور الغزلان وونوغة)

3 - ثورة أحمد بو مزراق (سور الغزلان وونوغة) كان أحمد بومزراق، شقيق الباشآغا محمد المقراني، قائدا على عرش (ونوغة) بمنطقة سور الغزلان، وحمزة بجبال البيبان، وبقي في منصبه هذا حتى العام 1871. وعندما انفجرت الثورة، كلفه أخوه بقيادة الثورة في منطقة ونوغة وسور الغزلان نظرا لما توافر له من المعرفة بالإقليم وسكانه. فتوجه بو مزراق إليها، واصطحب معه ابن عمه (علي بورنان) قائد مزيتة، وعددا من فرسان الحشم .. كان أول مكان استهدفه بو مزراق هو مركز (وادي أخريص) الواقع على بعد (28) كيلومترا من سور الغزلان، حيث كان يتمركز به قائد أولاد سالم، وعدد من العسكريين الأوروبيين، وجنود الزواف. فاتجه إليه وهاجمه صباح 16 - آذار - مارس. (في نفس الوقت الذي كان أخوه الباشآغا يهاجم مدينة برج بو عريريج) وأكم عليه الحصار؛ ولكنه لم ينجح في اقتحامه، لأن الإفرنسيين أرسلوا دعما عاجلا للحامية المدافعة عن المركز، مما اضطر بو مزراق لسحب قواته إلى (جبل العطوش) وأخذ يواصل من هناك هجماته وإغاراته ضد الإفرنسيين والمتعاونين معهم - خاصة الحداد بن قليل - قائد أولاد مسلم - الذي تمركز مع (قومه) على بعد (8) كيلومترات من المركز

المذكور. وقد نجح بومزراق في التغلب على ابن قليل، وانتزع منه مواقعه. مما جعل عرش أولاد سالم المجاورين يخافون من سيطرة بو مزراق عليهم. فحاولوا دعم مركزهم عن طريق زيادة التعاون مع الإفرنسيين، بينما انضم بعض سكان عرش أولاد سالم لقوات الثورة. تمركز بومزراق يوم 21 آذار - مارس - في جبل السروج بثنية بوبصلة، وجمع سكان المنطقة بعض الأسلحة - البنادق - وقدموها له، كما انضم إليه عدد جديد من الأنصار. وخاض المجاهدون معه معركة ضد القوات الإفرنسية قتل خلالها ثمانية أوروبيين. ثم انتقل إلى ثنية أولاد داوود على بعد (20) كيلومترا من سور الغزلان وحاول مهاجمة مركز (وادي أخريص) مرة أخرى. ونشط في كتابة الرسائل إلى السكان المجاورين يحثهم على القدوم إليه ليشتركوا معه في اقتحامه. وبذل كل جهد مستطاع حتى أمكن له احتلال المركز يوم 26 آذار - مارس - بعد أن هرب كل من كان بداخله. فعمل (بومزراق) على تدميره، وأحرقه، وقطع خط الهاتف الذي يربط المركز بمدينة سور الغزلان. ثم عاد إلى ثنية أولاد داوود، وتوجه منها إلى جبل موقرنين الذي حوله منذ ذلك اليوم إلى معسكر كبير للثورة في منطقة ونوغة. اشتدت حماسة الجزائريين في البداية لدعم الثورة والانضمام إلى صفوف المجاهدين. فانضم إلى (بومزراق) أولاد سيدي هجرس وأولاد عبد الله وأهل القصر وبني يعلي. وفي الوقت ذاته لم يقصر (بومزراق) في بذل كل جهد مستطاع لحشد القوى والإمكانات، والتحريض على الجهاد في سبيل الله - وكان فيمن استحثهم كبراء عرش مركالة والمدادرة. وحدد هدفه التالي بالاستيلاء على برجي (الأصنام) و (بني منصور) العسكريين. وهنا أيضا تصدى لمقاومة الثورة آغا البودرة (بو

المقراني بو مزراق ESQUER, G, ICONOGRAPHIE HISTORIQUE DE L'ALGERIE T. III, PLANCHE. N. 996

زيد بن أحمد) وقائد أولاد بليل (محمد بن منصر) وأخذ بوزيد على عاتقه إعلام الإفرنسيين عن كل تحركات (بومزراق) وما تقوم به قوات الثورة من جهد في (برج الأصنام) وفي (جبل موقرنين) غير أن بومزراق لم ييأس من إمكانات التأثير على عملاء فرنسا وأنصارها والمتعاونين معها، واتبع في ذلك أسلوب (الترغيب والإرهاب) غير أن ما حققه من نجاح كان محدودا. تمركز (بومزراق) في حمام أولاد زيان بأوساط بني يعلى وبني منصور على بعد ثلاثين كليومترا من سور الغزلان وذلك اعتبارا من يوم 5 نيسان - إبريل -. وأظهر المواطنون حماسة كبرى لمساعدته ودعمه من أجل مهاجمة برج البويرة ومعسكر بني منصور. وحاول الاستيلاء على مركز تخزين الحبوب خلال اليومين التاليين، ثم اتجه إلى بوجليل في السفوح الغربية لبني عباس، واستقر لدى ابن عمه (علي بن بورنات - قائد مزينة)، واتصل من هناك بكبار بني منصور والشرفة والسكان المجاورين. ودعاهم إلى إحكام الحصار على برج بني منصور حتى: (لا يفر من بداخله من الأوروبيين والحراس، ومتوعدا إياهم فيما إذا غفلوا وأفلت الأوروبيون منه). وقد تعاون ثوار الشرفة وبني منصور على محاصرة هذا البرج، تنفيذا لتعليمات بومزراق، وأحكموا الحصار عليه، وعزلوه عن سور الغزلان، ابتداء من يوم 8 نيسان - إبريل - (وهو اليوم الذي أعلن فيه الشيخ الحداد الجهاد - بصدوق). وفي يوم 10 نيسان - أبريل - عاد بومزراق إلى معسكر حمام أولاد زيان قرب (برج الأصنام) وخاض المعركة التي تحمل منذ ذلك الوقت اسم ذلك المكان (أولاد زيان) ولكنه لم يحصل على طائل، فغادر المكان، وعاد إلى معسكر ابن عمه (علي بن بورنان) في بو جليل الذي كلف

بحصار برج بني منصور. وبقي هناك عدة أيام، يستنهض همم الناس للثورة، إلى أن استدعاه أخوه الباشآغا المقراني إلى جبل مريسان ووادي الشعير. عندما كان الثوار يخوضون صراعا مريرا في برج بني منصور، قام الجيش الإفرنسي بإحراق عدد من المنازل، وإتلاف مطامير الحبوب، كان من بينها برج بو مزراق الكائن قرب قبة سيدي داوود بالمنطقة. عندما استشهد الحاج المقراني أسرع أخوه مزراق، فحاول إخفاء الخبر في البداية، غير أنه أدرك أنه من المحال الاستمرار في ذلك، فأشاع الخبر، غير أنه وجه في الوقت ذاته رسائل إلى كل الأنحاء - منها رسالته إلى أهل الشرفة: (أخبرهم بما حدث وأكد لهم اتحاد أولاد مقران وتصميمهم على متابعة الجهاد حتى الموت). وقد حاول الإفرنسيون معرفة مكان بو مزراق لمباغتته بهجوم حاسم، ومتابعة تحركاته ونشاطه، غير أن بو مزراق كان في حركة دائمة، مما ساعده على متابعة الصراع بعزم ثابت وإرادة صلبة. انتقل بو مزراق بعد وفاة أخيه مباشرة إلى معسكر الشيخ محمد ابن الشيخ الحداد في قرية تيزي الجمعة قرب بجاية. ومن هناك اخترق بومزراق وأبناء عمومته وادي الساحل يوم 11 - أيار - مايو - والتحقوا ببرج بني منصور حيث كانت قوات الثورة تعمل على محاصرته (بأكثر من ثلاثة آلاف محارب) 0 وقد وفد على (بو مزراق) إلى معسكر بني منصور، سكان بني يعلي وأهل القصر ومشداله، ليعزوه في وفاة أخيه، ويتشاوروا معه في القدوم إلى ناحيتهم. واغتنم بومزراق هذه الفرصة، فاتصل بقائد الحامية المدافعة عن (برج بني منصور. وطلب

إليه إخلاء البرج وإجلاء الإفرنسيين المحاصرين داخله، ونقلهم إلى البويرة. غير أن (بومزراق) لم ينتظر نهاية المفاوضات، وغادر معسكر الثوار يوم 13 أيار - مايو -. واتجه إلى مسكر الشيخ محمد بن الحداد في تيزي الجمعة مرة أخرى - عن طريق مجانة - ليشترك في الهجوم الواسع على مدينة بجاية، والذي تم تنفيذه يوم 17 أيار - مايو -. انتقل بومزراق وسي عزيز إلى جبال البابور بعد فشل الهجوم على مدينة بجاية، حيث اشتركا مع ثوار المنطقة في المعارك التي دارت هناك ضد القوات الإفرنسية، إبتداء من يوم 20 أيار - مايو - والتي كان من أبرزها معركة جبل منتانو يوم 25 أيار - مايو-، وقد استغل بومزراق الأوضاع الصعبة التي كان يعانيها قائد أولاد عامر الظهرة (أحمد باي ابن الشيخ مسعود)، فاستماله إليه وضمه إلى جبهة الثورة (¬1) مع بعض أفراد عائلة أولاد ويللسن، واشتركوا جميعا يوم 26 أيار - مايو - في كتابة رسالة إلى داوودي بن كسكاس المعارض للثورة طلبوا منه الانضمام إليهم، وهددوه بنسف منزله وإحراق قرية رأس الماء التي يقطن بها إن هو رفض ذلك، غير أن ابن كسكاس لم يستجب لندائهم. انتقل بومزراق من جبال البابور إلى جبال قلعة بني عباس يوم 27 أيار - مايو - وهناك وافاه في اليوم التالي باشآغا شلاطة - ابن علي الشريف - بصحبة ابنه ليعزيه في وفاة أخيه المقراني، ولينصحه بالكف ¬

_ (¬1) ثورة 1871 - الدكتور - يحيى بو عزيز - وفي الصفحة 288ما يلى: (كان أحمد باي مخلصا للسلطات الفرنسية، ولكن هذه السلطات أهانت الرسول الذي أوفده إليها ليحيطها علما بنشاطات الثائر السعيد بن دبيش، كما قامت القوات الإفرنسية بقتل حوالي ستين شخصا كانوا يحصدون زرعهم تحت حمايته ورعايته. ولهذا نجح بومزراق في ضمه إلى الثورة).

عن مواصلة الثورة التي لا طائل منها - في نظره - بعد أن أعادت فرنسا تنظيم قواتها العسكرية. واستعادت المزيد من كتائبها وقواتها من أوروبا. ولكن بومزراق رفض حتى مجرد السماع لمثل هذه الآراء والنصائح. فافترقا في الحين. ولم تدم المقابلة سوى وقت قصير في جو من البرودة والفتور والامتعاض. كان بو مزراق على علم بتحرك قوات فرنسية إلى منطقة بني منصور للقضاء على الثوار فيها. فأخذ يستعد لمجابهتها، ويحث المجاهدين على الصمود وعدم الاستسلام. واعترض بومزراق هذه القوات قرب البويرة في يوم 29 أيار - مايو - ودارت رحى معركة قاسية استخدم المجاهدون فيها السلاح الأبيض. واستشهد عدد كبير منهم. عاد بر مزراق من جديد إلى جبال البابور، في أول شهر حزيران - يونيو - للمشاركة في المعارك التي كانت محتدمة هناك تحت قيادة سي عزيز، بينما كان الثوار يتابعون صراعهم حول برج بني منصور خلال يومي 12 و13 حزيران - يونيو - ولم تطل إقامة بومزراق في البابور، فقد عاد بسرعة إلى البيبان. وهاجم يوم 15 حزيران - يونيو - دوار بني عامر وقرية الأصنام وقرية عين حازم، بسبب تعاون بعض سكانها مع الإفرنسيين. وتمركز بعض الوقت في عين تازة، في حين اتجه السعيد بن بوداوود قائد الحضنة إلى أولاد مسلم لجمع الأنصار الجدد، وتأمين متطلبات المجاهدين من الأعتدة والتموين. والتقى بومزراق مع محمد ابن عبد السلام والسعيد بن داوود في يوم 19 حزيران - يونيو - وخاضوا معركة (بو عساكر) في اليوم التالي، وقتلوا تسعة من الأوروبيين، وجرحوا تسعة.

استسلم أفراد عائلة الحداد واحدا بعد الآخر في أقل من نصف شهر (أواخر شهر حزيران - يونيو - وبداية شهر تموز - يوليو 1871 - على نحو ما سبق ذكره) وأدى استسلامهم على هذه الصروة، إلى استسلام عدد من القادة الآخرين الذين كان لهم دورهم الكبير في الثورة، وكان ذلك انتكاسة ثانية لمسيرة الثورة تزيد في خطورتها على استشهاد مفجر الثورة الحاج المقراني ذاته. ذلك لأن هذه الانتكاسة حولت مواقع الثوار من القوة والهجوم إلى الضعف والدفاع، وانتقل مسرح أعمالها القتالية بالتدريج من التل إلى أعماق الصحراء، وقد شعر بومزراق بخطورة هذا التحول، غير أن عزيمته لم تضعف، ولم يتسرب إليه الخور أو الوهن، وحاول أن يرمم ما تصدع من الجبهة. ومضى يحض الناس على متابعة الجهاد ويحفزهم للمزيد من الصمود والثبات. مضى بومزراق إلى جنان البايليك بصدوق حيث أقام معسكره لإعادة تنظيم أمور الثورة، ثم انتقل إلى ذراع الأربعاء على ربوات الماتن، وعاقب بعض سكان بو جليل ممن استسلموا للسلطات الإفرنسية. وواجه القوات الإفرنسية في معركة قاسية يوم 12 تموز - يوليو - انسحب على أثرها إلى وادي الساحل - عبر بني عيدل وبني ورتلان، وتوقف يومين في قرى بني عباس المجاورة لحوض الوادي، بهدف حشد المزيد من المقاتلين. واتجه يوم 15 تموز - يوليو - إلى تيروردة ليعترض مسيرة رتل فرنسي كان في طريقه لغزو قلعة بني عباس - قاعدة المقرانيين - ثم اتجه من هناك إلى قرية (تيمثليت) أمام قرية (تازملت) ثم إلى جبل أزرو الحصين ببني ورتلان. أعاد (بو مزراق) تنظيم بعض الكتائب العسكرية في جبل

أزرو، ثم غادره بسرعة بعد أن توافرت له المعلومات عن قيام الإفرنسيين بمحاولة لتطويقه، منطلقين في محاولتهم هذه من قرية (تاونساوت) غربا - عند ملتقى وادي بوسلام ومهاجر - وأخذ طريقه إلى الجعافرة، وعندما وصل إلى قرية (تاخراط) على الضفة اليسرى لوادي مهاجر، اعترضه عدد من جنود (القوم) والقوات الإفرنسية، فخاض ضد هذه القوات معركته يوم 20 تموز - يوليو - وهي المعركة التي اشتهرت باسم (يوم تاخراط). غادر بومزراق (تاخراط) ومضى متنقلا بجبال بوندة وأوشانن، بين جبال قلعة بني عباس غربا وجبال تفرق والقلة شرقا، وهو يستحث المواطنين ويحرض المجاهدين، طالبا إليهم مجابهة رتل القوات الإفرنسية التي كانت تتقدم عبر مجرى وادي مهاجر - إلى الجنوب - حتى وصلت إلى قرية لشبور على أقدام مصب وادي زمورة يوم 28 تموز - يوليو - وقد تعرضت القوات الإفرنسية - في وادي الساطور بهذه المنطقة - طريق قافلة كبيرة للمقرانيين كانت متجهة من القلعة إلى جبال بوندة، محملة بما استطاعت أن تنقذه من الأمتعة والحبوب والحيوانات، بعد أن غزهها القوات الإفرنسية الأخرى يوم 22 من الشهر ذاته. بمساعدة ابن علي الشريف باشآغا شلاطة - ويظهر أن انسحاب المقرانيين من القلعة كان بأمر من بومزراق نفسه، الذي كان قد توجه إلى هناك بعد معركة تاخراط، غير أنه لم يكمل طريقه بعد أن علم بغزو الإفرنسيين للقلعة واحتلالها. وكان من ضمن من اعتقلهم القوات الإفرنسية في القلة، زوجة الباشآغا القراني وابنته وابنه بومزراق والشيخ جرابة ابن بودة الذي كان حارسا لأملاك عائلة المقراني. وعملت القوات الإفرنسية بعد ذلك على تدمير كل منازل المقرانيين والاستيلاء على كل

ما تحتويه من المتاع والأثاث ثم أحرقت القرية كلها، واستسلم أولاد حمادوش جميعا للإفرنسيين. انسحب بو مزراق بعض الوقت إلى المسيلة بالحضنة، بعد معارك تاخراط وجبال بوندة والقلعة، ثم عاد مرة أخرى إلى منطقة مجانة وبني عباس، وجدد نشاطه الحربي ضد القوات الإفرنسية والقوات المتعاونة معها من الجزائريين. واستطاع يوم 26 آب - أغسطس - أن ينتزع من القوات الإفرنسية حوالي ثمانين بغلا في معركة بسهل مجانة، اتجه ببا إلى ونوغة، ليستغلها في وسائل النقل، وأشاع بين المواطنين هناك بأن الثورة مستمرة في جبال بو طالب والوادي الكبير وتبسة والصحراء وشرشال، وأن فرنسا عاجزة عن قمع الثورة، وقد كان لهذا الأسلوب دوره في رفع الروح المعنوية للمواطنين، واكتساب أنصار جدد. وتعرض الثوار يوم 9 أيلول -سبتمبر - لقافلة فرنسية بقرية عجيبة وقبوش، كانت متجهة إلى سور الغزلان بمغانم الحرب وضرائبها التي أخذت من سكان بني منصور وبني عباس. وهاجم بومزراق القوات الإفرنسية في سهل مجانة مرة أخرى، ونشط في تجنيد المواطنين ودعم الثورة بالمجاهدين من كل المنطقة الممتدة بين برج بني منصور وسور الغزلان. وكانت معركة أولاد سيدي إبراهيم بو بكر يوم 25 أيلول - سبتمبر - من أهم المعارك التي خاضها الثوار في هذه الفترة. ثم انتقل بومزراق إلى قلعة بني عباس يوم 30 آب - أغسطس - وكان الإفرنسيون قد انسحبوا منها، فعاد أولاد حمادوش إلى صفه، وقبلوا بالعمل معه. ولكن سكان (أغيل أعلى) و (بلعيال) و (بوجليل) رفضوا ذلك. واعترضوا طريقه بزعامة الصبايحي حميمي (الذي كان بومزراق قد أمره سابقا مدة من

الزمن مع الشيخ بشير بن كابة شيخ بوجليل) ولذلك هاجم بومزراق قرية أغيل أعلى يوم أول تشرين الأول أكتوبر - عقابا لأهلها. ووجه تهديده إلى بني عباس وسكان قرية بلعيال، غير أنه أدرك بأن هذه المنطقة قد باتت خارج قبضته، فغادر منطقة البيبان واتجه إلى جبل المعاضيد، حيث وصلها يوم 3 تشرين الأول - أكتوبر - وتسلم فيها رسالة من ابن عمه (السعيد بن بوداوود) ومن (أحمد باي بن الشيخ مسعود) فعلم بأن هناك ثلاثة أرتال إفرنسية تتجه إلى جبال بو طاب وبريكة لملاحقة الثوار ومحاصرتهم، بعد أن أخذ هؤلاء في مغادرة الشمال متجهين إلى الصحراء. هنا قد يكون من المناسب التوقف قليلا، والعودة إلى جهد (السعيد بن بوداوود) الذي شارك بومزراق مصيره، وكان له دوره معه اعتبارا من هذه المرحلة. كان السعيد بن بوداوود، بحسب مخطط المقراني، مكلفا بقيادة الثورة في جبال الحضنة وبوسعادة، فركز جهوده على إحكام الحصار على مدينة بوسعادة والمنطقة المحيطة بها. وأخذ في التردد باستمرار على منطقة ونوغة وجبال البيبان للاتصال بجماهير المواطنين وحثهم على حمل السلاح، والخضوع لتوجيهات بومزراق وسواه من قادة الثورة - المقرانيين - واهتم الإفرنسيون كثيرا بمتابعة نشاطاته وملاحقة أخباره عن طريق عملائهم الذين كان من أبرزهم: (الآغا بوزيد، والصخري بن بوضياف - قائد السوامة بمنطقة بوسعادة - والشلالي بن الدوسن - قائد السلامات). انتقل (ابن بوداوود) إلى ونوغة للاتصال (ببومزراق) وغيره من قادة الثورة. ووصل إلى مجانة عبر جبال البيبان - ثم عاد إلى مدينة

المسيلة بعد معركة بو عساكر يوم 19 حزيران - يونيو - وبصحبته عدد من أفراد عائلة أولاد مقران الذين تجمعوا هناك رجالا ونساء وأطفالا، وأخذ من هناك يزود بومزراق بالفرنسان والجنود والمؤن. وشد قبضة الحصار على مدينة (بوسعادة) وهاجم أعوان الإفرنسيين في سيدي عيسى يوم 7 تموز - يوليو - والذين كانوا يستعدون لمهاجمته. وكاتب وجهاء المدية وبوغار بالتيطري محاولا استمالتهم، كما نشط دعاته في جمع الأنصار الجدد بقريتي قطيفة وسيدي بلخير. ولكي ينجح بو داوود في احتلال بوسعادة، قطع خط الهاتف الذي يربطها بالجلفة، وهاجم الإفرنسيين الموجودين في قرية العليق، وكرر هجماته على بوسعادة نفسها يومي 20 و21 تموز - يوليو - ثم عسكر في قصر الديس، وتجمع حوله ثوار المنطقة، واشتركوا معه في شن الهجوم الثالث الواسع على بو سعادة يوم 23 من الشهر ذاته - بأمر من بومزراق - واضطر الإفرنسيون أن ينجدوا أعوانهم وقواتهم المحاصرة بالمدينة، في حين انسحب ابن بوداوود وأتباعه إلى قرى أولاد جلال جنوب - شرق المدينة. خاض الثوار المقرانيون عددا من المعارك بمنطقة بوسعادة في بداية شهر آب - أغسطس -، وامتد ميدان العمليات إلى (ملوزة). وتجمع الثوار بعد ذلك في (كاف العقاب) حيث اصطدموا بقوات الإفرنسيين، وخاضوا معها معركة كبيرة يوم 5 - آب - أغسطس - 1871 عرفت (بمعركة كاف العقاب). واتجه (ابن بوداوود) وأولاد مقران بعدها إلى أولاد حناش بالمعاضيد - إلى جوار آثار قلعة بني عباس - واتفقوا على مهاجمة مدينة المسيلة، لاعتراض القوات الإفرنسية. وكتب بو مزراق رسالة إلى جماعة مزيتة بالبيبان يعلمهم فيها بما اتفق عليه هو وكبار أهل الحضنة والسعيد بن داوود من مواصلة المعركة. وفي يوم 24 آب - أغسطس - اتجه بو مزراق وابن داوود وحمود

ابن بورنان إلى المسيلة، واشتبكوا مع القوات الإفرنسية في مجموعة من المعارك التي لم تكن نتائجها في مصلحة الثوار. فأقام ابن بوداوود معسكره في جنوب المسيلة بصحبة زعيم أولاد نجاح - الشيخ جنان بن دري - وانطلق للتنقل في المنطقة من أجل حشد المجاهدين وجمع المؤن والذخائر الحربية، واستمر في ذلك نحوا من نصف شهر عاد بعدها إلى المسيلة. أما بومزراق فقد اتجه إلى ونوغة لجمع الأنصار أيضا، ونشط حمود بن بورنان في منطقة مزيتة وبني منصور والصورة في أوائل أيلول - سبتمبر - ولم تطل إقامة ابن داوود في المسيلة، فقد عاد مسرعا إلى بلاد السوامع بالمعاضيد قرب قلعة بني حماد، بينما تمركز بومزراق في وراسن قرب أولاد خلوف بالبيبان. اعترض ابن داوود طريق قافلة تموين فرنسية كانت في طريقها إلى المسيلة. وذلك في منطقة (بضاية العتروس) يوم (7) أيلول - سبتمبر - ثم انتقل بعدها إلى جهات ونوغة في منتصف الشهر بهدف حشد الأنصار والذخائر الحربية، وكلف عددا من المبعوثين بالتوجه إلى عدد من من المناطق للاضطلاع بتنفيذ المهمة ذاتها. وعاد هو بعد ذلك إلى المسيلة - عبر منطقة أولاد سيدي هجرس - فوصلها يوم 20 أيلول - سبتمبر -. وانصرف على الفور لوضع خطة العمل في جبال الحضنة، مع عدد من أبناء عمومته، واتفقوا على جمع المزيد من وسائط النقل، كالبغال والحمير والجمال، من أجل نقل أفراد عائلة أولاد مقران، وما بقي لهم من متاع، بعد أن ظهر تصميم الإفرنسيين على ملاحقتهم ومطاردة بومزراق - رأس الثورة بعد أخيه - ولم يتأخر بو مزراق عن الالتحاق بهم للاشتراك معهم في تدبير الأمور. وكان الاتفاق تاما بينهم على مغادرة الشمال والاتجاه إلى الجنوب بعد أن أخذ

الإفرنسيون في إحكام الحصار عليهم. فتجمعوا كلهم بجبال عياض وكيانة بالمعاضيد بما تبقى لهم من متاع وحبوب وحيوانات. أخذ المقرانيون طريقهم صوب الجنوب، إلى أعماق الصحراء، يوم 8 تشرين الأول - أكتوبر -،وعندما وصلوا إلى (قبر السلوقي) بجوار قلعة بني حماد في سفح جبل الجفان بجبال عياض، باغتتهم القوات الإفرنسية، فخاضوا ضدها معركة ضارية (دعيت بمعركة قبر السلوقي). واستبسلوا في الدفاع عن حريمهم وشرفهم، وفقدوا أثناء المعركة معظم ما كان معهم من المتاع والحبوب والدواب والأغنام. وكانت هذه المعركة نهإية لقوة المقرانيين ونفوذهم في الشمال، وقررت مصيرهم النهائي. وأقنعتهم بالحاجة إلى الفرار بأنفسهم إلى خارج الوطن. فأسرعوا في الحال إلى مغادرة المكان، مخلفين وراءهم عددا من فرسان الحشم لحماية مؤخرتهم، وإشغال الإفرنسيين عن مطاردتهم. ومروا بالمسيلة، ووصلوا إلى سد الجير مساء يوم 9 تشرين الأول - أكتوبر - ووصلوا في اليوم التالي إلى (أوقلت البيضاء على شاطىء حوض الزاغر الشرقي). وكان في رأي بعضهم العودة لمجابهة القوات الإفرنسية في معارك أخرى، غير أن الأغلبية ومنهم بو مزراق، كانوا يريدون التوجه إلى تونس عبر تقرت وسوف ونفطة وتوزر. انتقلت قافلة المقرانيين من شاطىء الزاغر إلى (وادي مجدل) وفشل الإفرنسيون في مطاردتهم على الرغم من كل الجهود التي بذلوها، هم وعملأوهم من أمثال (بلقاسم بللحرش - باشآغا أولاد نايل) و (الصخري بن بوضياف - قائد السوامة). واخترق المقرانيون بسلام بلاد أولاد نايل وأولاد زكري خلال يومي 14 و15 تشرين

بوشوشة ESQUER, G, ICONOGRAPHIE HISTORIQUE DE L'ALGERIE T. III PLANCHE N. 995

الأول - أكتوبر -. واعترض سبيلهم يوم 17 مخازنية أم العدم، غير أنهم تمكنوا من متابعة سيرهم إلى الجنوب حتى وصلوا (ورقلة) وحلوا بها يوم 20 تشرين الأول - أكتوبر - حيث استقبلهم بحفاوة بالغة كلا من (بوشوشة) (¬1) و (بن شهرة) و (الزبير ولد سيدي الشيخ) واتفق رأيهم على الهجرة إلى تونس، والأخذ باقتراح بومزراق. تحركت معظم أرتال الإفرنسيين نحو الصحراء، واستعانت بأنصارها وأعوانها لمطاردة المقرانيين وعسكر هؤلاء في حاسي بوروبة مع ابن ناصر بن شهرة يوم 17 كانون الأول - ديسمبر - ومن هناك انتقلوا إلى (حاسي قدور) جنوبا، ثم إلى (حاسي تامزقيدة) حيث اشتركوا يوم 9 كانون الثاني - يناير - 1872 في مواجهة القوات الإفرنسية التي داهمت قافلة (بوشوشة)، واضطروا للتخلي عن معظم متاعهم وجمالهم المتعبة وقطعان مواشيهم حتى يستطيعوا النجاة بأنفسهم، ومع ذلك، أسر الإفرنسيون لهم شخصين هما: عبد العزيز ¬

_ (¬1) كان (بوشوشة) لاجئا في عين صالح منذ أيار - مايو - سنة 1869، وقد استغل قيام الثورة، فزحف بأتباعه نحو الشمال، وهاجم في طريقه الشعانبة، المعارضين له في متليلي. وشجعته عائلة بوشمال (بتقرت) وبنو سيسين (بورقلة والرويسات) على مهاجة (تقرت وورقلة) وانتزاعهما من علي باي - الموالي للإفرنسيين في قاعدته سوف - كما وصلته رسائل من محيي الدين بن عبد القادر وابن ناصر بن شهرة يدعوانه للتوجه إلى الشمال، وفي يوم 5 آذار - مارس - سيطر على ((نقوسة وورقلة) بتأييد من المخادمة، وعاقب الميزابيين الذين لم يتحمسوا لسلطته وحركته. وقد عسكر المخادمة في قور بقرات شرق ورقلة، وخاصوا معارك ضد المخازنية الذي كان يقودهم الأخوان: نعمان بن ذباح وأخوه سليمان - بتأييد من الإفرنسيين، وعلي باي آغا توقرت وورقلة وفقدوا عددا من الرجال والجمال. وبذلك أصبحت منطقة الصحراء الشرقية أوائل عام 1871م مضطربة، لا كلام فيها إلا للأسلحة مع اختلاف الظروف والعوامل. (ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز - ص 193 و394 - 307).

ابن محمد - قاضي ساحل قبلي - ومحمد العربي بن حمودة - قاضي مجانة - أما بوشوشة فقد خسر كل زمالته خلال المطاردة، وكان تحت حوزته قبل ذلك آلاف القطعان والجمال والهوادج والزرابي والخدم. انتقل المقرانيون من (قورد عيش) إلى (حاسي جريبية) ومن ورائهم القوات الإفرنسية تطاردهم، وعندما وصلوا إلى عين الطيبة، اصطدموا بمجموعة من القوم الذين كانوا يقومون بدورية استكشاف يوم 17 كانون الثاني - يناير - ومن هناك قادهم ابن ناصر بن شهرة إلى داخل الحدود التونسية. ولم يكن بومزراق حاضرا مههم معركة (عين الطيبة) لأنه تاه عن القافلة منذ يوم 14 كانون الثاني - يناير - هو وابن عمه مسعود بن عبد الرحمن عندما حاولا أن يقوما بعملية استطلاع لتأمين الطريق لها. وبقيا في الصحراء. وتعرضا للجوع والعطش طوال ستة أيام. وفي يوم 20 كانون الثاني - يناير - 1872، عثرت عليهما دورية استطلاع فرنسية، أمام بركة ماء قرب (واحة الرويسات) الواقعة على بعد كيلومترين اثنين من مدينة ورقلة، وهما في حالة إغماء، فحملتهما إلى المعسكر الإفرنسي بالرويسات حيث أسعفا حتى استفاقا وتم التعرف على (بو مزراق). انطفأ لهيب الثورة - إلى حين - ومضت السلطة الاستعمارية الإفرنسية لتنفيذ مخططاتها، فأحالت زعماء الثورة إلى المحاكم أفرادا وجماعات. ووزعتهم إلى عدة مجموعات رئيسية في عدة محاضر وجلسات، أكبرها المحضر الذي أعد في محكمة الجزائر العاصمة ضد مائتين وثلاثة عشر متهما، بينهم أربعة وستون شخصا تمت محاكمتهم بصورة غيابية - وحول هذا المحضر إلى محكمة الجنايات بمدينة قسطينة يوم 21 أيلول - سبتمبر - 1872. وكان من بين المتهمين فيه الشيخ الحداد وابناه سي عزيز ومحمد، وتسعة عشر شخصا من المقرانيين

كلهم في حالة غياب ما عدا (بومزراق). وابن عمه (علي بن بوزيان) وابن عمه (مسعود بن عبد الرحمن) واستمرت المداولات حوالي ستة شهور. وصدر الحكم على (بومزراق) بالإعدام يوم 27 آذار - مارس - 1873. وصدر الحكم على الشيخ الحداد وابنيه يوم 19 نيسان - إبريل - 1873، فحكم على الشيخ الحداد - الذي كان يتجاوز الثمانين من عمره - بالسجن الانفرادي لمدة خمس سنوات، وعلى عزيز بالنفي العادي خارج البلاد، وعلى أخيه بالسجن الانفرادي عشر سنوات. ولم يعش الشيخ الحداد بعد صدور الحكم عليه. وروي عنه أنه قال عند سماعه للحكم (لقد حكمتم علي بخمس سنوات وأرادها الله خمسة أيام). وتوفي مساء الاثنين 29 نيسان - إبريل - 1873. وعندما وصلت هذه الأحكام إلى رئيس الجمهورية الإفرنسية للتصديق عليها، يوم 19 آب - أغسطس - 1873، تم تعديلها بالنفي للجميع في مدينة نومية عاصمة جزيرة (كاليدونيا الجديدة).وبلغ عدد المجاهدين الذين أبعدوا إلى المنفى في كاليدونيا (104) جزائريا. أذنت السلطات الإفرنسية للجزائريين المنفيين (بكاليدونيا) بالعودة إلى الوطن في سنة 1882، غير أن بومزراق بقي في منفاه، وحاول إقناع بعض إخوانه بالبقاء معه، فرفضوا كما رفضت زوجاته الثلاث ذلك، وطلبن الطلاق منه. وبقي بالجزيرة ما يقرب من ربع قرن، إلى أن حصل له ابنه (الوانوغي بومزراق) مفتي الأصنام - إذن بالعودة إلى الجزائر، فوصلها في بداية شهر تموز - يوليو - 1904م. بعد غيبة واحد وثلاثين عاما. ووجد أن كل شيء قد تبدل وتغير. واستقر بالجزائر العاصمة ما يقرب من عام بعيدا عن ابنه بالأصنام

التي لم يستطع ان يتكيف مع مناخها وجوها، فقد رأى فيها جيلا من الأحفاد والأقارب لا يعرفهم إطلاقا، بعضهم تركهم صغارا، وبعضهم ولدوا بعد رحيله، وأصبحوا كلهم آباء لعائلات جديدة، ولم يعثر على أية زوجة من زوجاته. ولم يلبث أن توفي يوم 13 تموز - يوليو - 1905 عن ستة وستين عاما. ودفن بمقبرة الحامة التي تعرف اليوم باسم (مقبرة سيدي محمد). أما (سي عزيز المقراني) فقد أقام بكاليدونيا وهو يتحرق شوقا للعودة إلى الوطن، حتى إذا ما أذنت السلطات الإفرنسية للجزائريين المنفيين بالعودة إلى الوطن ومنعته من ذلك سنة 1881، ركب سفينة إنكليزية بطريقة خفية حملته إلى سيدني باستراليا، وواصل رحلته منها إلى الديار المقدسة في الجزيرة العربية. وأمضى فترة متنقلا بين جدة ومكة المكرمة مع إرسال الرسائل إلى أهله وأقاربه في الجزائر. وفي الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر، حصل له أحد أبنائه على إذن بالعودة إلى الجزائر، فرجع عن طريق فرنسا، التي دست له السم فمات في مرسيليا، وتولى ابنه وأهله أمر نقل جثته إلى الوطن، وما أن علم شعب الجزائر حتى زحف إلى الميناء للمشاركة في دفن رفاته، وخافت السلطة الإفرنسية من وقوع صدام مع الجماهير الثائرة، فوجهت الباخرة إلى ميناء سكيكدة، حيث تم دفنه إلى جانب أبيه في مقبرة قسنطينة , وأما أخوه محمد فقد بقي بجزيرة كاليدونيا يعيش حياة الهدوء والاستقرار ويظهر أنه توفي غريبا هناك بعد عام 1888. ومضت السيوف المجاهدة في سبيل الله، إلى أغمادها، واحدا بعد الآخر ولكنها استطاعت شق الطريق أمام أجيال المجاهدين في سبيل الله، الذين توارثوا الشعلة - جيلا بعد جيل - حتى وصل جيل الأحفاد إلى هدف الأجداد.

في أفق الثورة

4 - في أفق الثورة وبعد، فقد اغتالت فرنسا الثورة الشهيدة، ودمرت أبطالها، فهل كانت تضحيات الشهداء وجهود الأبطال رخيصة؟ ولماذا كانت الثورة إن لم تترك على صفحات تاريخ الأمة بصماتها الواضحة؟ لقد مضت عشرات العقود من السنين، ولا زال سكان (ونوغة) يطلقون على عام 1871 (عام بومزراق). ومضت عشرات العقود من السنين، وما تزال الأجيال في منطقة القبائل تتناقل كابرا عن كابر تلك الأغاني الشعبية التي تتحدث عن المقراني وأخيه بومزراق وثورة الشيخ الحداد وابنه سي عزيز. بل إن بعض أصداء الأشعار الشعبية التي قيلت في تلك الفترة ترددت بأصدائها القوية في قلب دمشق الشام، عن طريق مجاهدي الجزائر المنفيين إلى دمشق. وليس ذلك إلا برهانا على عمق أثر الثورة في النفوس وهو الأثر الذي رسم كل أبعاده على مسيرة الجهاد في المراحل التالية والتي انتهت ببلوغ الجزائر المجاهدة هدفها في الحرية والاسقلال سنة 1962. لقد تعرضت ثورة سنة 1871 للكثير من الأبحاث والدراسات،

وانقسمت وجهات النظر في تقويمها انقساما كبيرا نتيجة الاختلاف في المنطلقات الأساسية لعملية تحليل هذا الحدث التاريخي: ولعلى من أبرز الإدانات التي وجهت إليها: 1 - الاختيار السيء لتوقيت تفجير الثورة، بحيث كان لزاما تفجير هذه الثورة بتواقت واحد مع الحرب البروسية الإفرنسية حيث كانت القوات الإفرنسية منصرفة للحربة مع بروسيا. 2 - غياب الحزم والتصميم عن أذهان قادة الثورة وذلك منذ اللحظات الأولى لتفجيرها (ويشمل ذلك كل القادة من المقرانيين وآل الحداد). 3 - عدم تلاحم الجبهة الداخلية للجزائريين، وعجز القادة عن تحقيق مثل هذا التلاحم، بسبب تكوينهم القبلي (الارستقراطي) أو الانفعالي (الديني). 4 - عدم توافر الكفاءة في إدارة الحرب، وعدم تطبيق مبادىء الحرب بدقة، مثل المباغتة، والمبادأة، وتحقيق أمن القوات. 5 - عدم حرص قيادة الثورة على تأمين متطلبات الثورة - وبصورة خاصة ضعف الوسائط القتالية وعدم توافرها في قبضة المجاهدين. 6 - اعتماد الثورة على عوامل التحريض الخارجي (البروسي - العثماني). تلك هي أبرز الانتقادات الموجهة لثورة 1871 وقيادتها، وهي انتقادات تبرز بشكل واضح محاكمة الثورة تاريخيا في غير إطاريها التاريخيين الزماني والمكاني. ومن هنا تظهر الضرورة لمعاودة التقويم

على أساس موضوعي من جهة، وعلى أساس نتائج الثورة وما تركته من ظلال على أفق المستقبل من جهة ثانية. لقد اعتمدت السياسة الاستراتيجية للاستعمار - عامة - والاستعمار الإفرنسي - خاصة على مجموعة من العوامل، أبرزها بشكل واضح العرض السابق لمسيرة الأحداث ومنها: 1 - الإفادة من التفوق العلمي والتقني لإبراز - تفوق الرجل الأبيض، الأوروبي - ونشر القناعة بأفضليته للحكم، وقدرته على حكم البلاد. 2 - تسخير - أو خلق - الظروف السياسية لعزل المسعمرات عن محيطها الجغرافي، وهكذا كانت الجزائر معزولة عن عالمها العربي - الإسلامي وحتى عن جوارها - المغرب وتونس. 3 - الانتشار كبقعة الزيت، بالاعتماد على فئات مختارة يتم استخدامها مرحليا لضرب الفئات المناوئة. 4 - افتعال الأزمات والأحداث لدفع أبناء المستعمرات للثورة والتمرد، من أجل استثمار نتائجها لإجراء التصفيات الاجماعية تمهيدا لتطوير الاستعمار الاستيطاني. 5 - العمل على تدمير القيادات التقليدية والقواعد الصلبة (الدينية والاجتماعية) لتكوين قيادات عملية يقتصر دورها على تنفيذ المخططات الاستعمارية، الأمر الذي يضع هذه القيادات في حالة من العزلة عن جماهير الشعب، مما يدفعها إلى الاعتماد كليا والتبعية نهائيا للاستعمار وقادته.

6 - تغطية وحشية الاستعمار بغطاء ميثولوجي، وستار من الفضائل الحضارية المزعومة ضمن إطار حرب صليبية - علمية. (وهذا أحد تناقضات الاستعمار). وتؤكد أحداث ثورة 1871، كل تلك الأسس الاستراتيجية، وهي الأحداث التي يمكن تلخيصها بالتالي: (كانت الثورة الدفينة منتشرة في كل مكان من الجزائر، فشكلت تيارا عاما، وكانت في حاجة للمفجر، فجاء المقراني وفجرها، وعمل الحداد على دعمها، ثم ظهر لقيادة الثورة صعوبة الاستمرار أمام أعداء الداخل والخارج وأمام ظروف العزلة الدولية، وأمام الضعف في وسائط القتال. وظن قادة الثورة أنهم يستطيعون إنقاذ ما يمكن لهم إنقاذه إن هم استسلموا لفرنسا على نحو ما فعله الأمير عبد القادر، في محاولة لتخفيف أعباء الحرب عن مواطنيهم، غير أن فرنسا مضت لاستثمار ظروف الثورة وتوظيف نتائجها لتطوير استعمارها الاستيطاني). لم يكن أمام قيادة ثورة 1871 غير طريق الثورة، كما لم يكن أمامهم فيما بعد من طريق غير طريق الشهادة لمن استشهد والاستسلام لمن وقع في الأسر. تلك هي الخيارات الضيقة التي بقيت مفتوحة أمام أبناء البلاد التي خضعت للاستعمار - وفي طليعتها الجزائر المجاهدة. وأكد الاستعمار الإفرنسي على طبيعته وعلى دوره في أحداث ثورة سنة 1871 من خلال ما ارتكبه من جرائم وحشية ضد المجاهدين الجزائريين. ومن خلال الأحكام القاسية على قادة الثورة وزعمائها، ثم من خلال أعمال المصادرة لممتلكات الجزائريين وأراضيهم وهو ما تبرزه المقولة التالية: (كانت أعمال المصادرة في ثورة 1871، مصدرا لكسب المزيد

من الأراضي الجيدة وتوفيرها لصالح الاستعمار الأوروبي، خاصة بعد أن قويت حركة التهجير الأوروبي من الألزاس على أثر هزيمة فرنسا خلال حرب 1870 أمام بروسيا، وصدور قرار (15) أيلول - سبتمبر - 1871 القاضي بتخصيص مائة ألف هكتار لتوطينهم بالجزائر. وقراري 16 و28 تشرين الأول - أكتوبر - 1871 القاضيان بتنظيم عملية توزيع هذه الأراضي بعد أن وصل إلى الجزائر (2200) عائلة أوروبية تضم (10،500) أوروبي. وفي الحقيقة فإن الاستعمار الإفرنسي لم يتمكن حتى سنة 1870 من تأمين الأراضي لتطوير الاستعمار الاستيطاني الأوروبي. فتألفت لجان للتعجيل بالمصادرة، وتحولت في نهاية 1872 أكثر من (33) قبيلة وفرع قبيلة (أفخاذ وبطون) من مالكة لأراضيها إلى أجيرة بعد أن صودرت منها أراضيها في حوض (وادي الساح). ولعل أصدق تعبير عن حالة البؤس التي عمت الأهالي نتيجة لقسوة المصادرة شهادة ذلك الفلاح من بني عباس، والذي قال: (بأن كثيرا من الناس اشتروا حياتهم وأرواحهم بكل ثرواتهم، وبقوا بعد ذلك كالجيف في حلوق حيوانات بني آوى. لا يسمع لهم ولا يلتفت أحد إلى احتجاجاتهم). لقد تنوعت أعمال المصادرة فشملت الأملاك الشخصية لكل من مارس دورا في ثورة المقراني والحداد، كما شملت مصادرة جماعية لسكان الأعراش والدواير (القرى) الذين أرغموا على دفع جزء من أراضيهم الجيدة لصالح الاستعمار الأوروبي وحتى الذين لم يكونوا يملكون الأراضي صودرت أملاكهم الأخرى كالدور والأثاث والحيوانات وبيعت عن طريق البلديات ونتج عن ذلك: آ - تغريم الثوار بمبلغ (38،325،914) فرنكا، خفض فيما

بعد إلى 36 مليون ونصف من الفرنكات. خصص قسم منها لتوطين مهاجري الألزاس واللورين. ب - صودرت بصورة جماعية أملاك وأراضي (313) قبيلة ودوارا، تشتمل على (5948) رئيس عائلة عزلوا من وظائفهم بتهمة المشاركة في الثورة. وبلغ مجموع مساحات الأراضي المصادرة منها (611،130) هكتارا قدرت قيمتها الحقيقية نقدا بمبلغ (91،948،450) فرنكا. ج - صودرت أملاك شخصية لعدد (360) رئيس عائلة، بلغ مجموع المساحات المصادرة منهم (54،461) هكتارا. تلك كانت طبيعة المصادرات ضد الثوار بصورة عامة في ثورة 1871. والتي كانت ثورة طبيعية في مناخها الطبيعي، كما أنها التعبير الطبيعي والعفوي عن غضب الجماهير العربية - الإسلامية في مواجهة الغزو الغربي - الصليبي الأمر الذي عبر عنه ((بومزراق) في رسالة له إلى (كبراء عرش مركالة) جاء فيها: (وكما في علمكم، فوضنا أمرنا إلى الله لأجل الجهاد في سبيل الله) (¬1). وفي رسالة ثانية: (نخبرك بأننا قمنا للجهاد ... ونحمد الله ونشكره على هذه الساعة بفتح أبواب الجهاد، حتى يغسل المسلمون ذنوبهم). وفي رسالة ثالثة: (وبعد، أيها الأحباب، إننا نريد منكم الدخول في دين الله ورسوله، ولا تتركوا حقكم في الدين والجهاد في سبيل الله). وبذلك، تكون ثورة سنة 1871 الرائدة نموذجا لتلك ¬

_ (¬1) ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز. ص 100 - 101.

الثورات التي تمخض عنها العالم العربي - والإسلامي طوال فترة عهد الاستعمار، بداية من أفغانستان ومرورا ببلاد الشام ومصر والسودان ونهاية بالمغرب العربي - الإسلامي. كما أنها مشابهة أيضا في ظروفها ونتائجها لتلك الثورات كلها. ولقد ألقت ثورة سنة 1871 بظلالها على أفق المستقبل، وكان من أبرز نتائجها إسقاط مقولة (دمج الجزائر بفرنسا) وتعميق الهوة بين المجاهدين في سبيل الله والغزاة الغربيين - الإفرنسيين - تحت راية (لحملة الصليبية الجديدة). لقد دفع ثوار سنة 1871، الثمن غاليا، من دمائهم وجهودهم وتضحياتهم. ولم تكن تنقصهم الكفاءة الإدارية أو الخبرة لإدارة الحرب، غير أن ما كان ينقصهم هو (الظروف المناسبة لانتصار الثورة)، فكانت تجربة ثورة سنة 1871 - بظروفها ونتائجها هي إحدى المنارات المضيئة، إن لم تكن من أكبر تلك المنارات على درب الثورة والجهاد.

قراءات

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (سورة البقرة: الآية (120). قراءات 1 - نص القرار الخاص بمصادرة أملاك المقراني. 2 - نص قرار مصادرة أملاك المقراني والحداد وأفراد عائلتيهما. 3 - مصادر أملاك المقراني والحداد وأفراد عائلتيهما. 4 - الحرب الصليبية في الجزائر. .

- 1 - نص القرار الخاص بمصادرة أملاك المقراني

- 1 - نص القرار الخاص بمصادرة أملاك المقراني (¬1) نحن والي الجزائر، بعد النظر في الفصل العاشر وما يليه من الأمر المؤرخ في 31 تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1845، واطلاعه على الشرط الثاني من الفصل الثاني والعشرين من المرسوم الاشتراعى المؤرخ في 16 نيسان حزيران - يونيو سنة 1851، والفصل السابع من قانون ديوان أعيان الدولة المؤرخ في 22 نيسان - إبريل - 1863، وبعد دراسة ما ارتكبه الحاج محمد المقراني باش آغا مجانة، كان في ولاية قسنطينة من العداوة البينة والفتنة الثابتة لدولة الجمهورية الإفرنسية، أمرنا بما سيأتي ذكره مفصلا: الفصل الأول: قد أجرينا الثقاف على جميع ممتلكات الحاج محمد باش آغا المذكور، ووضعنا يد الحيازة عليها سواء كانت منقولة أو غير منقولة، مما يثبت وجوده في أوطان ولاية الجزائر. الفصل الثاني: قد ألزمنا جميع حايزي أملاكه ومستودعيها ومستعيريها وعامليها ومكتريها والمتصرفين فيها بأي وجه كان، وكل من ¬

_ (¬1) نص الوثيقة في قراءات (1) وكذلك الوثيقة التالية في قراءات (2) في المرجع: (ثورة 1871 - دور عائلتي المقراني والحداد) الدكتور من أبو عزيز. ص 387 - 390.

عليه دين له، أو عناء أو نحو ذلك من التعلقات المالية أن يصرحوا بما عليهم وما بذمتهم في مدة ثلاثة أشهر تبدأ من تاريخ أمرنا هذا، وقد أطلقنا لإدارة (الدومين - أو الحراسة) أن تتصرف بجميع أملاكه على مقتضى الشروط المشمولة في الفصل الثاني من هذا الأمر المؤرخ في 31 تشرين الأول - أكتوبر - 1845. الفصل الثالث: قد أجرينا الثقاف أيضا على أنواع أملاك الأعراش والعرب الذين خرجوا عن الطاعة مع المقراني، ومن سيخرج، ووضعنا عليها يد الحيازة سواء كانت شخصية أو مشاعة ثم إن أمرنا هذا العام الشأن سيفصل أحكاما خصوصية تصدر كلما طلبها من له النظر فيها والاحتياج إليها، ويكون كل فرد معنيا فيها باسمه. الفصل الرابع: سينجز من الآن أمرنا هذا الموجه إلى وزير الداخلية للموافقة عليه. الفصل الخامس: إن عمال العمالات (الولايات) ومتصرفي الأمور التابعين للحكم العسكري هم المكلفون بإنجاز - وتنفيذ - أمرنا هذا كل واحد منهم فيما يخصه. كتب في الجزائر يوم 25 آذار. مارس - سنة 1871 .

- 2 - نص قرار مصادرة أملاك عائلة الشيخ الحداد

- 2 - نص قرار مصادرة أملاك عائلة الشيخ الحداد نحن والي ولاية الجزائر، بعد النظر في الأمر المؤرخ بتاريخ 31 تشرين الأول - أكتوبر - 1845. واطلاعه على الشرط الثاني من الفصل الثاني والعشرين من المرسوم الاشتراعي المؤرخ في 16 حزيران - يونيو - سنة 1851، والفصل السابع من قانون ديوان أعيان الدولة المؤرخ في 22 نيسان - إبريل - 1863، والأمر المؤرخ في 31 أذار - مارس - 1871 الموافق عليه وزير الداخلية يوم 7 أيار - مايو - 1871، والأمر الصادر من رئيس الحكم المؤرخ في 15 تموز - يوليو - 1871، وبعد مطالعة الحكم الذي أصدره الجنرال حاكم ولاية قسنطينة من وضع الثقاف - الحراسة - على أملاك من سيأتي ذكرهم منقولة كانت أو غير منقولة. وهذا نص حكمه: نحن الجنرال الحاكم على ولاية قسنطينة، بعد أن ثبت لدينا أن الشيخ الحداد، مقدم طريقة سيدي محمد بن عبد الرحمن القاطن بدشرة (صدوق) في عرش (بني عيدل) من دائرة بجاية، وولديه سي عزيز بن الشيخ الحداد قائد (عموشة) وسي محمد بن الشيخ الحداد قاضي (بني عيدل وريغة)، قد باشروا جميعا أعمال الفتنة الواقعة في ولاية قسنطينة. فالأول حرض أخوانه في الطريقة على الجهاد. وأما ولداه

الاثنان فاجتهدا في إثارة الناس للتخريب والعصيان؛ وتقدما أمام الثائرين للقتال، وأعطيا رأيهما للثائرين من أجل الهجوم على البلدان العامرة بالإفرنج. فلذلك تعين علينا وضع الحراسة - الأثاقف - فورا وحكمنا بما سيأتي مفصلا: الفصل الأول: وضعنا الحراسة - الثقاف - مؤقتا على جميع الأملاك المنقولة وغير المنقولة، المنسوبة للشيخ الحداد مقدم طريقة سيدي محمد بن عبد بن عبد الرحمن، القاطن بدشرة (صدوق) في عرش (بني عيدل) من دائرة بجاية. وكذلك المنسوبة لولديه الاثنين وهما (سي عزيز بن الشيخ الحداد) قائد عموشة، و (سي محمد بن الشيخ الحداد) قاضي بني عيدل وريغة. الفصل الثاني: إن حائزي الأملاك المثقفة المذكورة ومستودعيها ومكتريها والمتصرفين فيها، وكذلك من في ذمته دين أو عناء أو غير ذلك من أنواع الحقوق الراجعة إلى المضروب بالثقاف، لا بد أن يعترف بما عليه في مدة ثلاثة أشهر مبدؤها غداة اليوم الذي يعلن بالصحف - الجرائد - المرقوم فيها أسماء المثقفين. ثم إن نظارة (الدومين - الحراسة) تتصرف في الأملاك المثقفة على وفق الشروط المقررة في الأمر المؤرخ في 31 تشرين الأول - أكتوبر - 1845. الفصل الثالث: يكلف عامل ولاية قسنطينة والعقيد (الكولونيل) الحاكم على قسمة (سطيف) بتنفيذ كل فيما يخصه من أمرنا هذا الذي سيعلن باللغتين الإفرنسية والعربية في الصحيفتين المونيتور الجزائري والمبشر. كتب بقسنطينة في 1 أب - أغسطس - 1871 - الجنرال دو لاكروا

د دراسة ما طلبه الجنرال حاكم ولاية قسنطينة، والاطلاع على اجتهاد اللجة التي أقمناها يوم 7 حزيران - يونيو - 1871، أمرنا وأبرمنا ما سيأتي: وهو أننا وافقنا على الحكم المسطور أعلاه، وعلى نشره في المونيتور الجزائري والمبشر. كتب بالجزائر يوم 6 أيلول - سبتمبر - 1871/ 18 أيلول - سبتمبر - 1871 الكونت دوقيدون / شارل تاسان

- 3 - مصادرة أملاك المقراني والحداد وأفراد عائلتيهما

- 3 - مصادرة أملاك المقراني والحداد وأفراد عائلتيهما آ - مصادرة أملاك المقراني وأفراد عائلته: مرت مصادرة أملاك المقراني وأفراد عائلته بمرحلتين اثنتين، بدأت المرحلة الأولى بعد عشرة أيام فقط من إعلان الثورة. ففي يوم 25 آذار - مارس - 1871 أصدر (لامبير) المحافظ فوق العادة لولاية الجزائر، قرارا جاء فيه، بعد استعراض الحيثيات المختلفة، أنه نظرا: (إلى ما ارتكبه الحاج محمد المقراني، باش آغا مجانة سابقا في ولاية - إيالة - قسنطينة من العداوة البينة والفتنة الثابتة ضد الجمهورية الإفرنسية، أمرنا بما سيأتي ذكره مفصلا: الاستيلاء على جميع ممتلكات الحاج محمد باش آغا، ووضعنا الحراسة عليها سواء كانت منقولات أو غير منقولات مما ثبت وجوده في أوطان ولاية الجزائر. والاستيلاء - الثقاف - أيضا على أنواع أملاك الأعراش والعرب الذين خرجوا عن الطاعة مع المقراني، ومن سيخرح. ووضعنا عليها يد الحيازة سواء كانت شخصية أو مشاعة). واستنادا إلى هذا القرار صدر يوم 5 نيسان - إبريل - 1871 القرار رقم (110) الذي نص على مصادرة ملكية للمقراني تدعى (جنان بوطالب) توجد في قرية (ابن عكنون) ببلدية (الأبيار) في أحواز مدينة الجزائر العاصمة، تبلغ مساحتها العامة 16

هكتارا و 45 آرا و 65 سنتيارا. وتحتوي على برجين وحديقة وقطعتي أرض لزراعة الخضار والأشجار المثمرة ومقهى عربي وإصطبل وبئر ونافورة مياه. وهي أول عملية مصادرة لأملاك المقراني بعد صدور القرار الخاص بذلك. وفي يوم 8 أيار - مايو 1872 صدر القرار رقم (226) والذي نص على مصادرة ملكية ثانية للمقراني في بلدية (سماغير) بدوار (عين حازم) على الطريق العام بين (سور الغزلان وسطيف) في منطقة سكان (بني عامر) وتبلغ مساحتها العامة 33 هكتارا و37 آرا. وتوالت بعد ذلك عمليات المصادرة لأملاكه وأملاك عائلته حتى النصف الثاني من العام 1873. لقد كانت المصادرة في المرحلة الأولى جزئية على أملاك المقراني وبعض أفراد أسرته. وكان أهم شيء تم خلالها هو صدور قرارات المصادرة، ثم عكفت السلطات على إحصاء أملاك كل فروع عائلة أولاد مقران في فترة امتدت حوالي عامين. ابتدأتها بإصدار القرار (220) بتاريخ 26 أيار (مايو 1872 الذي نص على المصادرة الجماعية لكل أملاك الفروع الأربعة من العائلة. ومن أهم ما جاء فيه - بعد الحيثيات - ما يلي: المادة الأولى: تطبيقا لقرار 5 كانون الثاني - يناير - 1872 من الجنرال الحاكم على مقاطعة قسنطينة، تطبق المصادرة على الأملاك العقارية وغير العقارية المملوكة لأربعة فروع من أولاد مقران هم: أولاد عبد الله وأولاد بورنان وأولاد عبد الرحمن وأولاد الحاج. المادة الثانية: تطبق المصادرة كذلك على الأملاك العقارية وغير العقارية المملوكة للسيد بن بوداوود، قائد الحضنة السابق، وسي بن الشلال ابن عمه، ومسعود بن عبد الرحمن المقراني. ولخضر بن عبد

الرحمن المقراني القائد السابق لبني عيدل. وهؤلاء الأربعة أولاد مقران رؤساء الثورة بالحضنة. وبعد أن انتهت السلطات من إحصاء كل أملاكهم، وفرغت من محاكمة من وقع منهم في قبضتها أصدرت يوم 29 تموز - يوليو - 1873 ستة قرارات أخرى تحوي بالتفصيل كل الأملاك العقارية وغيرها لستة فروع من عائلة المقراني كالتالي: فرع أولاد الحاج صف الباش آغا: 82 , 70 , 4881 هكتارا. فرع أولاد عبد الله: 52 , 58 , 4721 هكتارا. فرع أولاد عبد السلام: 49 , 60 , 4060 هكتارا. فرع أولاد بلقندوز: 80 , 53 , 3787 هكتارا. فرع أولاد عبد الرحمن: 25 , 75 , 3471 هكتارا. فرع أولاد بورنان: 67 , 70, 1906 هكتارا. وبلغت مساحة هذه الأراضي التي وضعت سلطات البلديات قبضتها عليها (22829,89,55) هكتارا. ضمت (569) قرية زراعية (ضيعة) لزراعة الحبوب وأشجار التين والزيتون و (39) بستانا مسقيا (مرويا) للخضار والفواكه المتنوعة و (79) منزلا، وثلاث مطاحن لطحن الحبوب وثلاثة اصطبلات ومقهى وحماما ومسجدا. الغريب في الأمر، هو أن السلطة الاستعمارية الإفرنسية، عملت بعد أن صادرت أموال (عائلة المقراني) على دفع مبلغ

ب - مصادرة أملاك الشيخ الحداد وأفراد عائلته

(ثمانمائة ألف فرنك لعائلة (لافي) اليهودية سدادا لديونها المزعومة على المقراني، كما دفعت للبنوك والمصارف ما ادعته من ديون لها على المقراني. في حين رفضت دفع الديون المماثلة للجزائريين، ومنهم الحاج (حمود بو تليس) الذي اضطر أن يكتب إلى الحاكم العام (الكونت دوقيدون) مطالبا بمبلغ (ألفي وثمانمائة وأربعة وخمسين فرنكا وخمسة وتسعين سنتيما) كانت له على محمد المقراني. وحاول الحاج حمود ألا يصدق ما كان الناس يشيعونه قائلا إلى الحاكم العام: (بأنه لم يخطر ببالي ما يذكره الناس من أن ما بذمة الباشآغا للمسلمين لا يؤدونه لهم، ويرضون النصارى واليهود ما يخصهم من الديون). ب - مصادرة أملاك الشيخ الحداد وأفراد عائلته تعرضت عائلة الشيخ الحداد لما تعرضت له عائلة المقراني. وطبق الإفرنسيون ضدها نفس الأسلوب في المصادرة الجماعية لكل أملاكها العقارية وغير العقارية، على الرغم من أنها لم تكن في مستوى عائلة المقراني من حيث الغنى ووفرة الممتلكات، ويكاد يكون مصدر ثرائها وغناها الوحيد هو هدايا الإخوان الرحمانيين، والأوقاف التي كان الأغنياء يحسبونها لزواياها ومشايخها. ومن هنا فقداعتبرت عائلة الحداد فقيرة لا تختلف كثيرا عن وضع بقية الأهالي. ومع ذلك استعملت السلطات الإفرنسية ضدها القسوة المتناهية. وصادرت كل أملاكها وأملاك أتباعها في محاولة لتدمير (سلطتها الروحية الخطيرة على الإفرنسيين). وإذا كان المقراني قد تعرض للمصادرة بعد عشرة أيام فقط من إعلانه الثورة. فإن عائلة الحداد لم تتعرض لذلك إلا بعد عدة شهور. وبالضبط في اليوم الأول من شهر آب - أغسطس - 1871. حيث أصدر حاكم قسنطينة العسكري (دولاكروا) قراره رقم

(208) والذي صادق عليه (الكونت دوقيدون) يوم 6 أيلوله سبتمبر - ووقعه شارل تاسان المدير العام للشؤون المدنية والمالية يوم 18 أيلول - سبتمبر - 1871 ومما جاء فيه بعد الحيثيات: (لقد وضعنا الحراسة - الثقاف - بصورة مؤقتة على جميع الأملاك المنقولة وغير المنقولة، المنسوبة للشيخ الحداد مقدم طريقة سيدي محمد بن عبد الرحمن القاطن بدشرة (صدوق) في عرش (بني عيدل) من دائرة بجاية، وكذلك المنسوبة لولديه سي عزيز بن الشيخ الحداد، قائد عموشة سابقا، وسي محمد بن الشيخ الحداد قاضي بني عيدل وريغة سابقا). كان هذا القرار هو بداية العمل لإحصاء كل أملاك هذه العائلة، والذي استمر بعد ذلك حتى أواخر العام التالي (1872) حيث صدر قرار رقم (397) بتارخ 16 تشرين الثاني - نوفمبر - 1872، وهو يضم تفاصيل الأملاك التي تم إحصاؤها ومصادرتها. ووقعه مدير مصطحة البلدية. وصادق عليه (دوقيدون) يوم 2 كانون الأول - ديسمبر - من العام ذاته. بلغ مجموع مساحة الأراضي التي صودرت من عائلة الشيخ الحداد (05 , 52 , 502) هكتارا تضم (62) قرية - ضيعة - لزراعة الحبوب والتين والزيتون والغلال البعلية، وستة بساتين مروية - مسقية - للخضار والأشجار المثمرة وسبعة منازل و (15) داكانا ومخزنا للتجارة، وثلاثة اصطبلات وثلاث طواحين لطحن الحبوب، ومعصرة زيتون ومسجد، وبلغ مجموع الأشجار المثمرة التي تم حصرها (14528) شجرة أغلبها من الزيتون، والباقي من التين والبرتقال والتفاح والإجاص والرمان وغيرها ... ومرة أخرى، يظهر من الغريب حقا سلوك السلطة الاستعمارية

الإفرنسية تجاه الشيخ محمد عبد الرحمن وابنيه سي عزيز وسي محمد. فقد كان الهدف الواضح من (المصادرات) هو القضاء على النفوذ الديني، في حين كان هدف مصادرة أموال (محمد المقراني وعائلته) هو القضاء على ما أطلق عليه اسم (الأرستقراطية العربية). وبكلمة أكثر وضوحا، تدمير القيادات السياسية والدينية للوطنيين الجزائريين. بينما كانت السلطة الإفرنسية الاستعمارية ذاتها تعتمد في سياستها على إقامة الإقطاعات الزراعية والصناعية والتجارية، وتفسح المجال الواسع أمام (رأس المال) لاستغلال موارد الوطن الجزائري واستثماره. ومن المعروف تاريخيا أن هذه الطبقة الغريبة - الطفيلية. قد أسهمت منذ فجر استعمار الجزائر وحتى نهايته بخلق المتاعب أمام الإدارات الإفرنسية المتتالية - من مدنية وعسكرية -. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت هذه الإدارات الإفرنسية تكافئها بالمزيد من الامتيازات. أما نصيب الوطنيين الجزائريين من ذلك، وكما هو واضح، فهو دفع القيادات الدينية والسياسية للثورة، وخلق المثيرات المختلفة من أجل إشعال نار الثورة، ثم العمل على قمعها بقسوة ووحشية، وتوظيف نتائجها لمصلحة الاستعمار الاستيطاني.

- 4 - الحرب الصليبية في الجزائر

- 4 - الحرب الصليبية في الجزائر بقيت الحراب الصليبية أحد وجوه الحرب الشاملة للدول الاستعمارية. وكانت في كثير الأحيان تشكل الغطاء المناسب لستر سوءات الاستعمار وقباحته. ومن المعروف أن الجزائر قد تعرضت سنة 1867، وفي السنوات التالية لمجموعة من الكوارث والنكبات الطبيعية التي قضت على عشرات آلاف الأسر والعائلات الجزائرية. وخلفت وراءها عشرات الآلاف من الأطفال الأيتام - علاوة على أبناء الشهداء - الذين قضوا فوق ميادين الجهاد في سبيل الله. فوجد رجال الدين المسيحي في ذلك الفرصة المؤاتية لتنصير أولئك الأطفال، وتمسيحهم، بتقديم فتات الخبز لهم. واندفع أسقف مدينة الجزائر (لافيجري) (¬1) لتطوير هذه العملية واستغلال الجوع لصالح الكنيسة. ووجد من نابليون الثالث تشجيعا زاد من حماسته حيث ¬

_ (¬1) الأستف لافيجري:… CARDINAL LAVIGERIE, CHARLES. MARTIA هو اسقف إفرنسي، من مواليد بايون (BAYONNE) (1825 - 1892) مؤسس المدارس التبشيرية في المشرق. وأطلق عليه اسم (والد البيض المسيحيين). رائد نشر لواء المسيحية في إفريقيا الشمالية (المغرب العربي الإسلامي) اشتهر بحماسته وبعمله لدمج المغرب بفرنسا.

وجدت رسالة تحمل تاريخ 29 كانون الثاني - يناير - 1867 وفيها ما يلي: (علمنا وأخبرنا بنبأ جديد له أهميته، وهو أن الأسقف الجديد -لافيجري - قد حصل على إذن من الإمبراطور يتنصير الأهالي مع تزويده بصلاحيات واسعة، ويعتزم الأسقف إنشاء أديراة هناو هناك بالتعاون مع رجال الدين المطرودين من إيطاليا لتنصير المسلمين) (¬1). وكانت حجة الكاردينال في ذلك هي، (أن هؤلاء الأيتام بقوا بدون آباء وأمهات معرضين للموت في كل وقت. وجزاء الكنيسة عندما تؤويهم هو أن تنصرهم وتحولهم عن عقيدة آبائهم وأجدادهم الإسلامية. وكان يرى أن هذا التنصير ينبغي أن يتم ولو بالقوة. وحتى بالتفرقة بين الجزائريين من أجل القضاء على تأثير القرآن الكريم). وعلى هذا الأساس جمعت الكنيسة حوالي عشرة آلاف يتيم من تتراوح أعمارهم بين الثامنة والعاشرة، وأخذت تجمع الأموال باسمهم لتستغل ذلك دينيا وسياسيا، وإعطاء عملها (تظاهرة الإنسانية - الحضارية). غير أن هذه التظاهرة لم تخدع الجزائريين - إذ لم تلبث ممارسات الكاردينال ذاته وأتباع مدرسته أن فضحتها. وهو الأمر الذي تبرزه تلك المحادثة التي أجراها الكاردينال مع يتيم جزائري عمره عشر سنوات، زعم أنه التقى به في حي باب الواد بالجزائر العاصمة في شهر تشرين الأول - أكتوبر - عام 1868 واسمه عمر: س: من أين جئت يا بني؟ ج: من الجبل، من بعيد، بعيد! س: وأبواك أين هما؟ ¬

_ (¬1) ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز - ص 92 - 98.

ج: أبي مات، وأمي في القرية. (الغوري). س: لماذا تركتها؟ ج: هي التي قالت لي لا شيء هنا، إذهب إلى قرى المسيحيين، وسألحق بك أنا كذلك. س: ماذا فعلت في الطريق؟ ج: كنت آكل الأعشاب في النهار، وأختفي في الليل داخل الكهوف، حتى لا يقتلني العرب إذا رأوني. لأنهم يقتلون الأولاد ويأكلونهم. س: والآن إلى أين أنت ذاهب؟ ج: لا أدري. س: أتذهب إلى أحد الأولياء العرب - المشايخ -؟ ج: آه! لا، لأني عندما أذهب إليهم يطردونني، وإذا رفضت يسلطون علي الكلاب لتقتلني. س: أتريد أن تبقى معي؟ ج: آه! نعم. س: إيه، حسنا، سر معي إلى دار الأولاد، وسأعتبرك مثلهم، وأسميك شارل. وبعدة مدة سألته عن بقائه: س: أتريد أن تذهب إلى أمك؟ ج: لا أذهب، ولا أحب ذلك؟

س: لماذا؟ ج: (لأنني وجدت أحسن من أمي). ... إن هذه المحادثة القصيرة تدين نفسها، بقدر ما تدين (الكاردينال المحترم) بما تبرزه من تناقض في النقاط التالية: 1 - إن نص الأسئلة وأسلوب الحوار دول على الخبث واللؤم في تلقين الطفل بما يجب عليه قوله. 2 - من غير المعهود يدل العرب المسلمين أن تتخلى أم عن ابنها بمثل هذه السهولة. وتتركه يقطع الجبال والوهاد وحده. ولو كان الأمر صحيحا، لكان من المحتمل أن ترافق الأم ابنها لتعرف مصيره. 3 - ليس من عادة العرب المسلمين، ولم يعرف عنهم حتى في أقسى الظروف، ذبح الأطفال وأكلهم. 4 - ليس من عادة الأولياء - المشايخ - طرد طفل جائع أو محروم، وأموال الأوقات والزوايا - في تلك الفترة - كانت وفيرة ومحبوسة لمثل هذه الأعمال الخيرية. 5 - ليس من عادة العرب المسلمين إدخال الكلاب إلى الزوايا والمساجد واستخدامها لطرد الغرباء، ويقتصر استخدامها عندهم لحراسة قطعان الماشية والصيد. في حين تستخدم النساء الإفرنسيات والرجال الكلاب لأكثر من غرض، ومنها حراسة المنازل ورطرد الغرباء. 6 - إذا كان عمل الكاردينال المحترم (حضاريا - إنسانيا) فلماذا يغير اسم الطفل من عمر إلى شارل. 7 - ثم هل هناك، وفي مثل هذا العمر، من يرضى عن أمه

بديلا. إلا إذا تم توجيهه بروح من الحقد والكراهية؟ مهما يكن من أمر، فقد اصطدمت مشاريع (الكاردينال المحترم) بمقاومة المسلمين الضارية، وانعكس ذلك بالضرورة على المهاجرين - المستوطنين في الجزائر من الأوروبيين. وثارت ضجة مفتعلة، ذلك لأن الرأي العام الغربي كان مؤيدا للكاردينال فيما يخص بدمج الجزائر بسرعة في فرنسا والمجتمع الأوروبي - عن طريق التنصير - ولم يكن الإمبراطور ذاته ورجال دولته ضد هذه الممارسات. ولكن الخلاف كان معه في الوسائل فقط. فهو كرجل دين متعصب، نظر إلى المشكلة من زاوية الحرب الصليبية ضد الإسلام والمسلمين، ورأى أن ينفذ أهدافه بحزم وقوة وسرعة، بدون أن يقيم وزنا للعواقب السياسية. أما رجال الدولة والمسؤولين، فقد عالجوا المشكلة من الناحية السياسية والعسكرية - وشعروا بالصعوبات التي قد تسببها لهم سياسة التنصير، بحكم اطلاعهم على تمسك الجزائريين بدينهم وعقيدتهم الإسلامية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنهم لم يكونوا في عجلة من أمرهم، حيث كان عامل الوقت - بنظرهم - كفيل بتحقيق هدف النصير على مهل وبدون أي استثارة. وقد اعترفت المصادر الغربية بما لقيه الكاردينال المحترم من مقاومة - وفقا لما تبرزه المقولة التالية: (لقد اعترضت الكاردينال وكنيسته عقبة حقيقية، وهي رفض الجزائريين رفضا حازما لتنصير أبنائهم. فقد أحسوا بأنهم طعنوا في عقيدتهم الدينية. وكان هذا الشعور عاما حتى لدى الموالين للسلطات الإفرنسية والموظفين لديها) ولقد كان ابن علي الشريف باشآغا شلاطة - من رجال فرنسا المعتمدين وأشد أنصارهم حماسة لسياستهم. وعلى الرغم من ذلك، فقد صرح للماريشال

(ماكماهون): (بأنه لن يكون مسيحيا أبدا، ولا يعرف إذا كان أبناؤه أو أبناء أبنائه سيكونون في يوم من الأيام مسيحيين). لقد شكلت فرنسا لجنة للتحقيق أثر الاضطرابات التي اجتاحت الجزائر - وأشار حسن بن بريهمات، والمكي بن باديس وأحمد ولد القاضي إلى التذمر وأسبابه بما يلي: (لقد تجاوز الأوروبيون في بعض العمالات، الولايات، حدودهم، وخرجوا عن المقصود. حتى أنهم تكلموا فيما يخص الشريعة الإسلامية). فلا غرابة أن تكون سياسة التنصير عاملا في دفع الجزائريين إلى الثورة. وعلى الرغم من أن رسائل المقراني وبومزراق وقادة الإخوان الرحمانيين، لا تشير صراحة إلى قضية التنصير، إلا أن العامل الديني كان الحافز الأساسي لاستنفار الناس وحضهم على الجهاد وحمل السلاح. ففي رسالة الباشآغا إلى الشيخ بن كابه، وكبراء قرية (بو جليل ببني عباس) قال بعد التحية: (وبعد فتوكلوا على الله ورسوله، وتقدموا إلى الجهاد لنصرة دينكم عزما). فهو يدعو الناس إلى الجهاد لنصرة دينهم. وتلك هي عقلية جماهير الجزائريين تجاه النصارى - المسيحيين المسيطرين على بلادهم. ولا بد أنها عقلية جاءت نتيجة سياسة التنصير التي عملت الكنيسة على تحقيقها منذ الاحتلال. وكما قال مؤرخ صليبي: (لقد عرف الإسلام بالتسامح، ولم يظهر التعصب على المسلمين إلا نتيجة لما أظهره الفرنج الصليبيون من التعصب).

المراجع

المراجع

_ 1 - السياسة العثمانية تجاه الإحتلال الفرنسي للجزائر (1827 - 1847) - الدكتور أرجند كوران، نقله عن التركية الدكتور عبد الجليل التميمي- تونس 1974. 2 - أوروبا ومصير الشرق العربي - تأليف: دكتور جوزف حجار، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت - 1976. 3 - ثورة 1871 (دور عائلتي المقراني والحداد) الدكتور يحيى بوعزيز. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع (سنيد) الجزائر - 78. 1 - POLITIQUE COLONIALES AU MAGHREB (CHARLES-ROBERT AGERON) PRESS UNIVERSITAIRES DE FRANCE «PARIS 1972. 2 - L'AFRIQUE DU NORD (1) JEAN DESPOIS, PRESS UNI-VERSITAIRES DE FRANCE PARIS 1964. 3 - LE DEFI ISRAELIEN, LUCIEN CARVO- DE- MARS, LIBAN - BEIRUT, 1971. 4 - HISTOIRE DE L'INSURRECTION DE 1871 EN ALGERIE, (RINN LOUIS) ALGER. IMP. HPURDAN 1891.

الفهرس

الفهرس

_ الموضوع .......... الصفحة

_ الفصل الثالث: (ثورة 1871) ............................... 117 1 - ثورة محمد المقراني (مجانة) ............................ 119 2 - ثورة الشيخ الحداد (صدوق) ............................ 144 3 - ثورة أحمد بومزراق (سور الغزلان وونوغة) ............... 160 4 - في أفق الثورة .......................................... 179 قراءات وثائقية: ............................................. 187 1 - نص القرار الخاص بمصادرة أملاك المقراني ............ 189 2 - نص قرار مصادرة أملاك الشيخ الحداد .................. 191 3 - مصادرة أملاك المقراني والحداد وأفراد عائلتيهما .......... 194 4 - الحرب الصليبية في الجزائر ........................... 200 المراجع الرئيسية للبحث .................................... 206

6 - الأمير خالد الهاشمي الجزائري

الأمير خالد الهاشمي الجزائري والدفاع عن جزائر الإسلام بسام العسلي دار النفائس

بسم الله الرحمن الرحيم

الأمير خالد الهاشمي الجزائري والدفاع عن جزائر الإسلام بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الثانية 1404 هـ - 1984 م دار النفائس

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب هذه الجزائر المجاهدة ما هوى منها شهاب إلا أتبعه شهاب آخر، وهذا هو شعب الجزائر المجاهد، ما مضت منه قافلة إلا وأتبعتها قافلة. وتستمر الشهب في إضاعة سماء العروبة والإسلام، وتستمر القوافل تترى على سبيل الجهاد في سبيل الله. ما عاشت الجزائر، جزائر العرب المسلمين، يوما من الأيام لنفسها، لقد كانت أبدا، وعلى امتداد قرون طويلة وهي تحمل الراية، راية الريادة، لم تتعب وقد أتعبت كل من عاداها. حتى أصبحت أمثولة الدنيا في التضحية والفداء والصبر والثبات. وعرف العالم، وعرف المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، ما احتملته الجزائر وما عاناه شعبها المجاهد، فحملوا لأرضها وشعبها كل الحب والتقدير والإكبار. وتاريخ جهاد شعب الجزائر بعد ذلك نسيج متلاحم صنعته تضحيات لا نهاية لها، وبرزت من خلاله شهب وكواكب ونجوم لا حصر لها. ويقف المرء حائرا أمام هذه الوفرة من الرواد المتشابهة

في تألقها، المتماثلة في حجومها وأشكالها وأضوائها. وعلى هذا، فالانتقاء لا يعني الأفضلية قدر ما يعني تصوير مرحلة تاريخية من خلال قيادة تاريخية معينة. هكذا كان الأمير عبد القادر الجزائري، وهو يقول: "أما بعد، فإن الفرنسيس المعتدين على البلاد الإسلامية، بعدما عاهدناهم وسالمناهم، نكثوا وجالوا في بلادنا وعاثوا، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن المعلوم أن التهاون في مثل هذا، والإغضاء عنه يزيدهم طغيانا لواعتداء علينا ... ومما علم من كتب التواريخ، أن العرب يبتهجون في معامع القتال كما يبتهج العريس ليلة عرسه، فلا يخطر في بالكم أنهم يضجرون منها أو يتركونها من ذات أنفسهم ما دامت الأقدار الإلهية مساعدة لهم. فإن حكمت عليهم بغير ذلك، فمن المعلوم أن الأرض لله من بعدهم يورثها من يشاء من عباده، فلا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ". وها هو محب الدين الخطيب يقول عن الأمير الشيخ طاهر الجزائري ما يلي: "هو الذي ربى عقلي، وهو الذي حبب إلي هذا الاتجاه الفكري منذ كنت طفلا إلى أن صرت رجلا. ولا أعرف مؤلفا ولا حامل قلم في ديار الشام، إلا وقد كانت له صلة بهذا العربي العظيم والأفادة من عقله وسعة فضله. وكل الذين جاهدوا هناك لأجل الحرية، وفي سبيل المعارف، ولإحياء علوم السلف، ولإعادة مجد العروبة والإسلام، إنما كانوا من إخوانه. وهو واسطة عقدهم ورأس مجالسهم، أو من طبقة تلاميذه، وهو مضرب المثل عندهم في كمال العقل وسعة الاطلاع التي لا حد لها.

وبالإجمال، هو جرثومة الخير الأولى من أيام ولاية مدحت باشا على سوريا، إلى أن هاجر الرجل العظيم إلى مصر سنة 1325 هـ ". وها هو محمد الشريف بك الجزائري يصدر صحيفة "البوستة" في مصر (1896 - 1904) للدفاع عن قضايا العرب والمسلمين. وها هو الأمير علي باشا الجزائرى نجل الأمير عبد القادر يتولى الدفاع عن دنيا العرب والمسلمين. وها هو الأمير سليم الجزائري، "الضابط الأستاذ بالمدرسة الحربية والخائض غمار الحروب دفاعا عن الإسلام وحامل الأوسمة البطولية، يمضي في قوافل الشهداء دفاعا عن العرب والإسلام ". وها هو الأمير عز الدين الجزائري، يحمل السلاح في الثورة السورية الكبرى، دفاعا عن دنيا العرب المسلمين، ويمضي شهيدا للقاء وجه ربه وقد أدى الأمانة. وها هو الأمير خالد الهاشمي الجزائري. يلتمع كالشهاب في سماء العرب المسلمين، ثم يمضي، بصمت، بعد أن بذل الجهد المستطاع، وأكثر مما هو مستطاع، لحمل راية الريادة دفاعا عن الإسلام والمسلمين. هؤلاء سطورفي الملحمة الخالدة التي عاشها شعب المسلمين في أصعب مرحلة من تاريخهم. وهم سطور فخر تنحني الدنيا إجلالا لها وتقديرا.

إنهم فخر الجزائر، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وهم دخر العرب، في كل دنيا العرب. وهم فخر المسلمين في كل دنيا المسلمين. حملوا السيف والقلم، خاضوا الصراعين السلمي والمسلح، وجاهدوا في الله حق جهاده، وتركوا للدنيا سطورا مضيئة، تهدي الباحثين عن الهدى في كل زمان ومكان. وتجربتهم التاريخية، ليست ملكا للجزائر ولشعبها المجاهد فحسب، وإنما هي ملك العالم العربي- الإسلامي كله. وتتعاظم أهمية هذه التجربة التاريخية، على مر العصور والأيام، ذلك لأن نسيج التاريخ لا زال متصلا، ولا زالت الحرب قائمة، ولكن بأساليب أكثر تطورا وأكثر خبثا ولؤما. وهذه تجربة الأمير خالد الهاشمي الجزائري- وهي تجربة تاريخية خالدة - ترسم ظلالها على الأفق الممتد، وترسل جذورها إلى أعماق الأرض العربية - الإسلامية. وعسى أن يجد فيها القارىء الفائدة والمتعة. والله ولي التوفيق بسام العسلي

الوجيز في حياة الأمير خالد

الوجيز في حياة الأمير خالد

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... وجيز الأحداث

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... وجيز الأحداث

وجيز الأحداث المعاصرة للأمير خالد في العالم العربي - الإسلامي

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... وجيز الأحداث

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... وجيز الأحداث

الفصل الأول

(وهب الأمير خالد للجزائر كل حياته ونشاطه وذكائه، وقدم للإسلام كل عواطفه وقلبه، قلب رجل شريف نبيل لا يخشى في الله وفي سبيل إحقاق الحق صولة جاهل ولا لومة لائم). جريدة الدفاع الجزائرية - عدد 21 كانون الثاني- يناير- 1936 - في تأبين الأمير خالد. •---------------------------------• الفصل الأول 1 - انطلاقة الاستعمار من الجزائر إلى العالم الإسلامي. 2 - الهجوم الاستعماري - الاستيطاني في الجزائر. 3 - السياسة الاستعمارية والظهير البربري. 4 - الثورة الجزائرية (1897 - 1899) ومواقف الاشتراكيين .

انطلاقة الاستعمار من الجزائر إلى العالم الإسلامي

1 - انطلاقة الاستعمار من الجزائر إلى العالم الإسلامي ما إن انتهت فرنسا من القضاء عل ثورة الإخوان الرحمانيين سنة 1871 (ثورة المقراني والحداد) حتى انطلقت لتعميق جذور وجودها الاستعماري في الجزائر، ولتوسيع مناطق نفوذها إلى ما وراء حدود الجزائر. وكان هدفها التالي هو فرض نفوذها على تونس. وكان الإيطاليون يطمعون منذ وقت طويل، بحذو أسلوب فرنسا في السيطرة الاستعمارية، غير أن روما ترددت في السير على هذا الطريق خشية أن تخلق بذلك أزمة دولية. وأفادت فرنسا من أول فرصة سنحت لها لتنفيذ مخططاتها الاستعمارية في الاستيلاء على تونس. وتم لها ذلك عندما نشب خلاف بين (باي تونس) وإحدى الشركات التجارية الإفرنسية في سنة 1881. فعملت فرنسا على تجريد الباي من سلاحه في العاصمة بواسطة جيش كان قد اجتاح الإقليم بحجة تأديب قبيلة بدوية اخترقت الحدود، وقامت بأعمال عدائية في الجزائر. والحق أن الإفرنسيين أبقوا للباي عرشه اسميا، غير أنهم سلبوه جميع السلطات الحقيقية بلا استثناء.

حاولت فرنسا بعد ذلك التوسع في اتجاه الغرب، غير أنها اصطدمت بمقاومة الدول الغربية (إنكلترا وألمانيا). وفي سنة 1904، انتزعت فرنسا موافقة بريطانيا وإسبانيا على مشروعاتها التوسعية بعد أن اعترفت لإنكلترا بحق استعمار مصر، وبعد أن منحت إسبانيا منطقة نفوذ أوسع في ممتلكاتها السابقة في المغرب. وكان الإفرنسيون قد قدموا لسلطان مراكش - السلطان عبد العزيز -مشروعا للإصلاح الإداري، يتم تنفيذه بمساعدتهم. عندما وصل الإمبراطور البروسي - ويلهلم الثاني - أرض طنجة في 31 آذار - مارس - 1905 - وكان يقوم برحلة في البحر المتوسط - بعد أن حرضه على ذلك مستشاروه الذين كانوا يؤيدون مصالح (الأخوة مانسمان) الاقتصادية في مناجم مراكش. وهناك في طنجة، ألقى القيصر ويلهلم خطابا أيد فيه استقلال السلطان، وعلى أثر هذا الخطاب، نجح السلطان عبد العزيز في عقد مؤتمر دولي لبحث المسألة المراكشية. ولقد عقد هذا المؤتمر في الجزيرة الخضراء في الفترة من 15 كانون الثاني - يناير - إلى 7 نيسان - أبريل - 1906، لينتهي إلى الاعتراف بسيادة السلطان، والاتفاق على تنظيم شرطة دولية - بوليس - لحراسة المرافىء، وإقامة مصرف للدولة يكون رأس ماله أوروبيا. تسبب تعاظم التدخل الأجنبي بأمور مراكش في اضطراب النظام والأمن، وبدأ الموقف في الخروج من قبضة السلطان عبد العزيز، واستمرت فرنسا ذلك لتقوم باحتلال (وجدة) و (الدار البيضاء) في سنة 1907, وما لبث عبد الحفيظ أن ثار على أخيه السلطان عبد العزيز مستغلا الاستياء العام في طول البلاد وعرضها، وحمل الفقهاء

على خلعه. وتمكن من إخضاع البلاد كلها لطاعته خلال فترة وجيزة. واعترفت به أيضا كل من إسبانيا وفرنسا بعد أن أعلن اعترافه باتفاقات الجزيرة الخضراء. ولكن عبد الحفيظ لم يكن أقدر من أخيه على مواجهة الأوضاع العسيرة التي خلقها التحريض الخارجي، فطوقه الثوار في فاس سنة 1911، مما دفعه إلى التماس الدعم من فرسا. والواقع، أن هذا الحادث قرر مصير البلاد، على الرغم من أن ألمانيا ظلت تحاول أن تضمن لنفسها بعض الحقوق عن طريق هجومها على أغادير (وهو الهجوم المعروف بوثبة النمر، إذ أرسلت إلى أغادير مركبا حربيا، اسمه النمر (تايغر) بعد أن كانت إسبانيا قد وسعت منطقتها أيضا احتلال العرائش والقصر. ومهما يكن من أمر، فقد اعترفت ألمانيا ذاتها، آخر الأمر، الحماية الإفرنسية لمراكش - وهي الحماية التي حددت شروطها بصورة رسمية في المعاهد التي عقدت مع السلطان في 4 تشرين الثاني نوفمبر - سنة 1912. وخلف عبد الحفيظ السلطان يوسف، حتى إذا توفي هذا سنة 1927، خلفه ابنه محمد الثالث. ووطد المارشال (ليوتي) (¬1) بما شن على القبائل المعادية، سلطة الحكومة التي ¬

_ (¬1) ليوتي - لويس هيبرت غونزالف: (Lyautey, Louis Hubert Gonzalve) ماريشال إفرنسي، من مواليد مدينة نانسي (1854 - 1934). برز اسمه في استعمار الهند الصينية (فييتنام) ثم في استعمار مدغشقر وفي الأعمال القتالية في جنوب وهران نظم في سنة 1912 عملية الحماية على المغرب - مراكش - الأمر الذي أثار ألمانيا وكان حافزا أساسيا في هجومها على فرنسا في الحرب العالمية الأولى. وقد أصبح وزيرا للحربية الإفرنسية (1916 - 1917). وهو صاحب الدور الأساسي في قانون الظهير البربري.

انتهى السلطان إلى أن يصبح مجرد رئيس اسمي لها. واحتفظت فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى بالمركز الذي اكتسبته في مراكش، لتبسط نفوذها على البلاد كلها ما بين سنة 1921وسنة 1924 وذلك عن طريق مجموعة من الحروب التي أرهقت فرنسا. ودفع المغاربة (المراكشيون) ثمنا غاليا لها من دمائهم وتضحياتهم. وعرفت بلاد المغرب - مراكش - في هذه الفترة بطلا من أشهر أبطال الحروب الثوروية في العالم الإسلامي هو (الأمير عبد الكريم الخطابي) الذي كان يعيش مع أسرته منذ عهد بعيد في منطقة الريف، عند أجدر على خليج الخزامى. وفي سنة 1921، أعلن الأمير عبد الكريم ثورته ضد الإسبانيين للدفاع عن قومه. ولم يكن مع الأمير آنذاك سوى عدد قليل من الرجال، غير أن لهيب ثورته لم يلبث أن انتشر سريعا بين القبائل كلها في مراكش الشمالية. وأنزل عبد الكريم بأعداء المسلمين خسائر فادحة، ثم هاجم منطقة الاحتلال الإفرنسية، وتهدد فاس بالاحتلال؛ وعندئذ تعاونت قوى الاستعمار الإسباني - الإفرنسي للقضاء عليه وعلى ثورته، وتم لها ذلك في شهر شباط - فبراير - سنة 1926 حيث اضطر الأمير عبد الكريم إلى إلقاء السلاح، فنفي في بداية الأمر إلى مرسيليا ثم أبعد إلى جزيرة (ريونيون) بالقرب من جزيرة القمر - مدغسكر - ومنذ ذلك الحين، وطدت إسبانيا أيضا سلطتها في مراكش - المغرب .. لم تلبث إيطاليا بعد ذلك أن انضمت إلى ركب الدولتين الاستعماريتين (بريطانيا وفرنسا). فاتجهت إلى طرابلس الغرب

(ليبيا)، وطلبت إلى رجال تركيا الفتاة الموافقة على السماح للقوات الإيطالية باحتلال طرابلس الغرب، وعدم التصدي لمقاومة قواتها، غير أن تركيا رفضت الطلب الإيطالي الغريب، فأعلنت هذه الحرب على تركيا يوم 29 أيلول - سبتمبر - 1911، فوطئت قواتها الأرض العربية - الإسلامية يوم (5) تشرين الأول - أكتوبر - ووقع عبء الدفاع على عاتق أنور باشا ومصطفى كمال، الذي كسب هنا أول إكليل من أكاليل مجده العسكري. وعلى الرغم من دعم جماهير العرب المسلمين للقوات التركية، ومشاركتهم لها بحماسة في رفع راية الجهاد. إلا أن القوات الإيطالية حققت نجاحا انتهى بعقد معاهدة (أوشي) سنة 1912. وتخلت تركيا لإطاليا عن طرابلس وبنغازي. ولم يحتفظ الخليفة إلا بحق تعيين الموظفين الدينيين في تلك البلاد. ليس المجال هنا التعرض للاستعمار الإيطالي وطرائقه الوحشية في قهر الشعب العربي المسلم في ليبيا، فلذلك مجاله الخاص، وبحثه المستقل، غير أن ما يهم البحث هنا هو الإشارة إلى نقطتين أساسيتين ترتبطان بالاستعمار الإفرنسي للمغرب الإسلامي: أولاهما أن استعمار فرنسا للجزائر هو الذي فتح المجال أمام تطور الهجمة الاستعمارية الصليبية ضد العالم الإسلامي، وثانيهما: أن إيطاليا بما عرف عنها من تخاذل وضعف وخور في الحروب قد استأسدت في إبادة الشعب العربي - الإسلامي في طرابلس، محاولة التأكيد لمنافسيها الأوروبيين أنها ليست أقل منهم حماسة للحرب الصليبية ضد المسلمين.

لم تتوقف مقاومة المجاهدين في سبيل الله في طرابلس على الرغم من كل الظروف السيئة التي أحاطت بالبلاد، ومارست (زوايا السنوسيين) هنا ما مارسته زوايا الإخوان الرحمانيين وسواهما في الجزائر المجاهدة. وتصدى لقيادة أعمال الجهاد عدد من المشايخ والزعماء، لعل من أبرزهم محمد بن عبد الله (في فزان) وأحمد الشريف (ومعه فبائل العبيدات والبراعصة والدرسة) وسالم بن الزنقاني، ورمضان السويحلي زعيم مصراته. ويحتل بعد ذلك عمر المختار مرتبة الريادة في قيادة الجهاد (في برقة) (من سنة 1924 حتى سنة 1931). والذي أرغم الإيطاليين على الدخول معه في مفاوضات سنة 1929 فكان في جملة شروطه: (عدم تدخل الحكومة الإيطالية في أمور الدين الإسلامي، والاعتراف باللغة العربية لغة رسمية في دوائر ودواوين الإدارة الإيطالية، والسماح بفتح المدارس الدينية التي تدرس فيها علوم القرآن، والتفسير والحديث والفقه وسائر العلوم. وكذلك إلغاء القانون الذي وضعته إيطاليا والذي ينص على عدم المساواة في الحقوق بين الوطني - الليبي - والإيطالي، إلا إذا تجنس الليبي بالجنسية الإيطالية) غير أن إيطاليا لم تكن جادة في المفاوضات وكان هدفها كسب الوقت، تماما كما فعلت فرنسا مع الأمير عبد القادر الجزائري في معاهدة (تافنة) الشهيرة. فتم استئناف الحرب إلى أن تم لإيطاليا القضاء على الثورة، وإعدام البطل (عمر المختار). المهم في الأمر، هو أن أساليب الإيطاليين ضد الشعب العربي الإسلامي في ليبيا لم تختلف عن نظيرتها من الأساليب الإفرنسية ضد

الشعب الجزائري. ولقد أرادت إيطاليا: (إقامة مملكة لاتينية في ليبيا - لإعادتها كما كانت في عهد الرومان - ولتأمين استيطان ثلاثة ملايين إيطالي فيها) ومن أجل ذلك: (أقدم الإيطاليون على ارتكاب آلاف الأفعال الوحشية بدون موجب، سوى الانتقام من المسلمين واستئصال شأفتهم من طرابلس وبرقة). ولما كانت أراضي الجبل الأخضر من برقة، هي أجود قطعة من بر طرابلس، وفيها المياه الجارية والعيون الصافية والغابات الملتفة والمروج الخصبة، فقد توجهت أنظار الإيطاليين إلى استعمارها قبل غيرها. وقاموا بإجلاء القبائل العربية الساكنة في الجبل الأخضر وجواره عن أراضيهم، وجمعوا منهم ثمانين ألفا نسمة رجالا ونساء وأطفالا، وساقوهم إلى صحراء سرت - في الأراضي الواقعة بين برقة وطرابلس على مسافة عشرة أيام من أوطانهم الأصلية، وأنزلوهم في معاطش ومجادب لا يمكن أن يعيش بها بشر، فمات عدد كبير منهم جوعا وعطشا، وماتت مواشيهم كلها من فقد الكلأ والماء. وكان أهالي طرابلس وبرقة يزيدون على المليون ونصف المليون قبل الغزو الإيطالي. ولم تمض فترة طويلة، حتى انخفض هذا العدد إلى سبعمائة ألف نسمة. وبلغ عدد السكان الذين أعدمهم الإيطاليون شنقا من أهالي طرابلس وبرقة خلال فترة الاحتلال، عشرين ألف نسمة، وكثيرا ما شنقوا أناسا بمجرد إرادة قائد، أو مجرد رغبة ضابط صغير. وقد وقع لهم أنهم شنقوا نسائ جردوهن من ثيابهن وأبقوهن عاريات عدة أيام. كما وقع أنهم كانوا يسلكون ستين أو سبعين شخصا في سلسلة

واحدة، ويحبسونهم على هذه الصروة مدة إلى أن يموتوا. وجند الإيطاليون من أهالي الجبل الأخضر - برقة - كل الرجال من سن البلوغ إل الخامسة والأربعين ليحاربوا بهم إخوانهم. ثم عمدوا إلى الأحداث من فوق 4 سنوات حتى 12 سنة، فأخذوهم قهرا من أحضان آبائهم وأمهاتهم، في يوم تشيب من هوله الأطفال ودفعوهم إلى إيطالبا لأجل تربيتهم وتنشئتهم في النصرانية. واغتصبوا النساء في أعراضهن وقتلوا منهن الكثيرات ممن دافعن عن شرفهن حتى النهاية. وكان نحو من مائتي امرأة من نساء الأشراف، قد فررن إلى الصحراء قبل وصول الجيش الإيطالي إلى الكفرة، فأرسلت القيادة الإيطالية قوة في إثرهن لمطاردتهن حتى قبضوا عليهن وسحبوهن إلى الكفرة، حيث خلا بهن ضباط الجيش الإيطالي واغتصبوهن. وهكذا أنزلوا المعرات بسبعين أسرة شريفة من أشراف الكفرة، الذين كانت الشمس تقريبا لا ترى وجوههن من الصون والعفاف. ولما احتج بعض الشيوخ على هتك أعراض السيدات المذكورات، أمر القائد الإيطالي بقتلهم. ثم استباح الإيطاليون الزاوية السنوسية بالكفرة - المسماة بالتاج - وأراقوا الخمور فيها، وداسوا المصاحف الشريفة بالأقدام. وحملوا الشيخ سعد (شيخ قبيلة الفوائد)، وخمسة عشر رجلا معه من الشيوخ، وقذفوا بهم من الطائرات على مشهد من أهلهم، حتى إذا وصل أحدهم إلى الأرض وتقطع إربا، صفق الإيطاليون طربا، ونادوا بالعرب قائلين: (ليأت محمد هذا نبيكم البدوي الذي أمركم بالجهاد، وينقذكم من أيدينا).

وعندما اجتاحت القوات الإيطالية طرابلس، قبضت على ألوف من أهلها في بيوتهم، ونفتهم بدون أدنى مسوغ إلى جزر إيطاليا، حيث مات أكثرهم من سوء المعاملة. وأباد الإيطاليون في غير ميدان الحرب، كل عربي يزيد عمره على (14) سنة، وأحرقوا يوم 26 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1911حيا خلف بنك روما، بعد أن ذبحوا أكثر سكانه بينهم النساء والشيوخ والأطفال. وفي اليوم التالي (يوم 27 تشرين الأول - أكتوبر) وصف أحد المراسلين ما وقع عليه بصره بقوله: (صادفت 50 جنديا يقودون ستة من العرب إلى خرابة يستعملها الجنود لقضاء الحاجة، ولما أدخلوهم إليها، اشترك الضباط والجنود في قتلهم بالمسدسات والبنادق، وما كدت أفر من هذا المشهد حتى رأيت ما هو أشد هولا، وهو طائفة من الجنود يسوقون (50) عربيا بين رجال وأطفال، وأدخلوهم إلى مكان قد تهدم، وبدأ الضباط يقتنصون هذا الصيد الكريه بمسدساتهم وبنادق جنودهم مدة عشرين دقيقة. وكلما سمعوا أنينا من جثة أعادوا عليها النار حتى انقطع الأنين). واستمر الجيش الإيطالي ثلاثة أيام يطلق الرصاص على كل من يلقاه من العرب. فهلك عدد من النساء والأطفال وبلغ مجموع القتل خلال ثلاثة أيام، أربعة آلاف عربي. ولما كانت (واحة جغبوب) هي مركز السادة السنوسية، فقد حرص الإيطاليون على إبادة رجال الدين فيها ومحو معالم الإسلام. وأصدرت الحكومة الإيطالية أمرا بإقفال جميع الكتاتيب التي تعلم الأطفال أمور دينهم، وتحقظهم قرآنهم الكريم.

وبهذه الطرائق: (استطاع الإيطاليون تشريد ثلث مليون من السكان، وأبادوا ثلث مليون آخر، وتركوا بعد ذلك للمدارس الإطالية إكمال المهمة، فلم يتركوا في طول البلاد وعرضها مدرسة غير إيطالية. وضمنت المدارس الإيطالية القضاء على الدين الإسلامي بجعل التعليم فيها إجباريا. وتكفلت دور الفحش والدعارة بواجب إفساد أخلاق الشبان. وبدؤوا بالتمييز بين العرب والبربر، على أمل تنصير الجنس البربري من أهل طرابلس وبرقة) (¬1). وتبقى المنافسة الاستعمارية بين إنكلترا وفرنسا للسيطرة على مصر، هي البداية للصراع على العالم العربي، وقد برزت هذه المنافسة بشكلها الواضح في عهد (محمد علي باشا) وورثته على حكم مصر. حتى إذا ما أمكن توريط هؤلاء الورثة بمشكلات اقصادية مستعصية على الحل. وجدت أوروبا فرصتها لإحكام قبضتها على مصر، فتم تشكيل لجنة أوروبية لتسوية الديون والحد من سياسة الخديوي توفيق المالية. وكانت هذه (الوصاية المالية) كافية لفرض الهيمنة على الدولة بكاملها. كانت بريطانيا تتطلع في الواقع منذ عهد بعيد للسيطرة على ¬

_ (¬1) لمطالعة المزيد عن أعمال الإيطاليين خلال فترة الغزو. يمكن الرجوع إلى: حاضر العالم الإسلامي - الأمير شكيب أرسلان 2/ 64 - 128. وفي الصفحة 84 رسالة للبطل عمر المختار، يشير فيها إلى أن كل ما سبق وصفه ليس إلا قليلا من كثير. وأن ما ارتكبه الإيطاليون بحق الشعب العربي المسلم هو مما يعجز الإنسان عن وصفه أو الإحاطة به.

مصر، بحجة تأمين طريق الهند للتجارة، وجاء احتلال فرنسا للمغرب العربي - الإسلامي ليمهد الطريق أمام إنكلترا للسير نحو قلب العالم العربي الإسلامي. وقد تظاهرت انكلترا في البداية أنها راغبة بمشاركة الدول الأوروبية في الهيمنة على مصر. وقد أدى تدخل (اللجنة الأوروبية) في أمور مصر الداخلية، (كإنقاص عدد أفراد الجيش المصري - بهدف التوفير) إلى ظهور تناقضات حادة، برزت من خلالها الإرادة المصرية - الوطنية في شخص أحمد عرابي، الذي أصبح وزيرا للحربية في شهر شباط - فبراير - سنة 1882م. والذي تولى قيادة الحزب الوطني، والمطالبة بالإصلاحات لمصلحة الفلاحين المصريين ضد أصحاب الاقطاعات الواسعة من ذوي الأصول التركية. ولكن الضباط الأتراك في قيادة الجيش المصري دبروا مؤامرة ضد (الزعيم أحمد عرابي)، انتهت إلى نشوب خلاف بينه وبين الخديوي. وهنا دعا أحمد عرابي مجلس النظار إلى عقد مجلس من الأعيان رغم إرادة الخديوي. واغتنمت بريطانيا الفرصة لتعلن أن سلامة الأوروبيين في مصر باتت (مهددة بالخطر). وأوعزت إلى أسطولها للقيام مع الأسطول الإفرنسي بتظاهرة عسكرية في مياه الإسكندرية. وأسرع - عرابي باشا - إلى تحصين الإسكندرية والاستعداد لمجابهة احتمالات العدوان. وفي هذه الفترة استدعت فرنسا أسطولها، وتركت لبريطانيا حرية العمل ضد مصر، فوجهت إنذارها إلى أحمد عرابي بإيقاف العمل في تحصين الإسكندرية. وازدادت حدة التوتر في مصر، ووقعت بعض الاعتداءات على

الأوروبيين في 11 حزيران - يونيو - 1882، وعندما رفض عرابي الإنذار البريطاني، قامت البوارج الحربية البريطانية بقصف الإسكندرية يوم 11 تموز - يوليو - ولم تلبث القوات البريطانية أن وطئت أرض مصر، وانضمت إليها على الفور قوات الخديوي توفيق، الذي كان قد طلب من بريطانيا حمايته. وتوجه أحمد عرابي بقواته إلى التل الكبير لمجابهة القوات (البريطانية - الخديوية). ووقعت معركة يوم 13 أيلول - سبتمبر - لم تكن في مصلحة القوات المصرية، رغم ما أظهرته هذه القوات من الاندفاع والحماسة وذلك بسبب عدم التكافؤ في القوى والوسائط التي زجها في المعركة. ولم يمض أكثر من يومين، حتى تم اعتقال أحمد عرابي في القاهرة، حيث تم نفيه إلى جزيرة سيلان ليقضي فيها عشرين عاما تقريبا، وقد تم السماح له بالعودة إلى وطنه سنة 1901. قررت معركة (التل الكبير) في الحقيقة، مصير أرض الكنانة ومستقبلها لفترة ثلاثة أرباع القرن تقريبا. فقد فرضت بريطانيا رقابتها على المالية المصرية وقيادة الجيش المصري، وأقامت حاميات بريطانية في مناطق كثيرة، على امتداد قناة السويس ومنطقة البحر الأحمر بصورة خاصة .. ليس هذا فحسب، بل إنها اصطنعت منصب (القنصل العام) الذي يقيم إلى جانب الخديوي؛ ليكون الحاكم الفعلي للبلاد. شأن المقيمين البريطانيين الذين جرت عادتها على تعيينهم مستشارين للحكام الوطنيين في الهند. إذا فقد أصبح تاريخ مصر - طوال هذه المدة - مرتبطا بتاريخ الإمبراطورية البريطانية. وتم فصل مصر عن

العالم الإسلامي، وعزلها عنه، مع إفساح المجال أمام الأجانب لاستغلال الموارد الوطنية - ومن الامتيازات الضخمة التي اغتصبها الغربيون، توجيه الزراعة لمصلحة الاقتصاد البريطاني، والتحكم فيه، بما يتناقض مع مصلحة الوطنيين المصريين، وتحميل الشعب المصري نفقات الاحتلال البريطاني، ونفقات أجهزة الحكم البريطانية التي امتدت لتشمل كل فروع الدولة. وفرضت بريطانيا ثقافتها على مصر، تماما على نحو ما فعلته فرنسا في الجزائر، وإيطاليا في ليبيا، ولو أنه كانت هناك ثمة فوارق في الأساليب والطرائق. ولعل حادثة (دنشواي) في دلتا مصر، والتي قتل فيها إنكليزي بضربة شمس. وقيام البريطانيين باستغلال الحادثة لإنزال أشد العقوبات بالفلاحين، وشنق أربعة منهم يوم 28 حزيران - يونيو - سنة 1906، مع جلد (17) مواطنا بالسياط بطريقة وحشية، هي حادثة كافية لتصوير التشابه بين الطرائق الاستعمارية كلها. أفادت بريطانيا من ظروف الحرب العالمية الأولى، لتنفيذ مخططها في الإجهاز على الدولة العثمانية، بالتعاون مع حلفائها الأوروبيين، ففرضت على مصر نظام الحماية في 4 آب - أغسطس - سنة 1914. وجعلت بريطانيا من مصر وشعبها أداة الهجوم على القوات العثمانية - الألمانية، حتى إذا ما انتهت الحرب، انصرفت الإدارة البريطانية في مصر، إلى إدارة البلاد عن طريق استثمار التناقضات بين الأحزاب بعضها ضد بعض أحيانا، وبينها وبين القصر في أحيان أخرى. ورافق ذلك اضطرابات مثيرة، لعل أبرزها تلك التي رافقت اعتقال الزعيم سعد زغلول وثلاثة من إخوانه في 8 آذار - مارس - 1919.

وتبع ذلك محاولات للاتفاق بين القيادات المصرية والسلطات المحتلة، من أجل الحد من نفوذ الاستعمار البريطاني. غير أن بريطانيا كانت تحيط هذه المحاولات، المرة بعد المرة، عن طريق خلق التناقضات الداخلية وتظاهرات القوة. وكما أخذت فرنسا بالتوسع - كبقعة الزيت - من الجزائر نحو الشرق ونحو الغرب ونحو الجنوب، (للقضاء على دولة رباح - حول بحيرة تشاد وحوض الكونغو). فقد انطلقت بريطانيا من مصر نحو السودان والصومال. ولما كانت ثورة المهدي تشكل العقبة الأولى في وجه كل توسع بريطاني (منذ أن أعلن المهدي ثورته في سنة 1881)؛ فقد أخذ (كتشنر) على عاتقه القضاء على ثورة أتباع المهدي. وهكذا تحرك كتشنر (القائد العام للجيش البريطاني - المصري) في خريف سنة 1896 ليقود ضد السودانيين معركة أم درمان الشهيرة، والتي قتل فيها الخليفة (عبد الله التعايشي)، كما قضي على الدولة المهدية. غير أن السودانيين استمروا في المقاومة، ولم يتمكن البريطانيون من توطيد نفوذهم قبل سنة 1928. أما في الصومال، فقد تولى محمد بن عبد الله حسن - من قبيلة أوغادين - مقاومة الإيطاليين والبريطانيين منذ سنة 1899، وأمكن له توجيه ضربات موجعة لقوات الدولتين، واستمر في ذلك حتى سنة 1920، حيث قررت بريطانيا تصفية مقاومته بصورة نهائية. واستخدمت أسطولها الجوي لتدمير مواقع المسلمين كلها. وفي الوقت ذاته انطلقت القوات البريطانية لمطاردته، وأمكن لها في النهاية قتله يوم 23 تشرين الثاني سنة 1920.

تجدر الإشارة إلى أن هذه الهجمة الصليبية الشاملة، لم تتوقف عند حدود العالم العربي، وإنما تجاوزته إلى أقصى المشرق. وهنا قامت روسيا بدور المنافس للبريطانيين، إذ احتلت قواتها بخارى وسمرقند في سنة 1868، ثم ضمت إليها خوارزم سنة 1873، كما ضمت إليها خواقند سنة 1876 حتى إذا ما أقبلت سنة 1884، استولت روسيا على مرو، وبذلك توطد مركزها في المشرق. ومقابل ذلك قامت بريطانيا باجتياح أفغانستان، واستولت على كابول وقندهار في سنة 1878، وعقدت معاهدة مع أفغانستان سنة 1879 تنازلت فيها أفغانستان لبريطانيا عن مجازبولان ووادي قرم. أما بالنسبة لبلاد فارس (إيران)، فقد بقي الصراع الروسي - البريطاني مستمرا عليها، حتى سنة 1907، حيث أمكن لروسيا - بعد هزيمتها في الحرب الروسية - اليابانية (1904) أن تتفق مع بريطانيا، فحصلت هذه على قاعدة في جنوب فارس تمتد من حدود الأفغان حتى بندر عباس. ومقابل ذلك، حصلت روسيا على الجزء الشمالي من البلاد، والذي يمتد من قصر شيرين - شرقا حتى الحدود الروسية - الأفغانية غربا ويشمل أصفهان ويزدوكاخ. ومع انتقاص العالم الإسلامي من أطرافه، وتمزيقه، بات من السهل على الحملة الصليبية توجيه حرابها إلى قلب العالم الإسلامي (الممثل بالامبراطورية العثمانية) للإجهاز على بقية الروابط التي كانت توحد جهد العالم الإسلامي. جاءت الحرب العالمية الأولى، بعد ذلك، لتصل بالحملة الصليبية حتى نهايتها. واستطاعت الدولتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا،

أن تنسقا الجهد فيما بينهما لتمزيق بقايا العالم الإسلامي في إطار معاهدة سايكس - بيكو الشهيرة، وفي إطار إقامة كيان صهيوني في فلسطين (وفقا لما تضمنه تصريح بلفور في 2 تشرين الثاني - نوفمبر -سنة 1917). وأكد ذلك أن الحلفاء قد انتهوا إلى قرارات مختلفة جدا عن نص البيان الإفرنسي البريطاني، الذي أعلن بعد هدنة مودرس في 8 تشرين الثاني - نوفمبر - 1918 وفيه: (أن هدف الدولتين هو تحرير الشعوب الخاضعة للنير العثماني، وأنهما مستعدتان لإقامة حكومات مستقلة في سوريا والعراق تكفل للقطرين تطورا سياسيا حرا). وظهرت النوايا الحقيقية للدولتين الاستعماريتين الكبيرتين (فرنسا وبريطانيا) من خلال البيانات التي أذاعتها روسيا في أعقاب قيام الثورة الشيوعية، وكذلك من خلال التناقضات في تصريحات رجال السياسة في الدولتين الاستعماريتين. ولقد أدركت فرنسا بأن الفرصة باتت مناسبة لها لاستثمار ما بذلته من جهد، طوال قرون عديدة، من حق حماية النصارى في بلاد الإسلام، ومن خلال نشر الثقافة الإفرنسية في بلاد الشام. كما أن بريطانيا وجدت أخيرا الفرصة مناسبة لتنفيذ مخططاتها في التوسع واكتساب قواعد جديدة. ولقد حاول الزعماء العرب بقيادة الشريف فيصل حمل قيادات الحلفاء على الوفاء بالتزاماتهم تجاه العرب، غير أن هذه الجهود باءت بالفشل، وعقد مؤتمر سان ريمو في 25 نيسان - أبريل - 1920 فتقرر

وضع سوريا كلها تحت الانتداب الإفرنسي، ولم تكن هذه التسمية سوى الغطاء الرسمي لإخفاء بشاعة الاستعمار وسوءاته، وهو ما أكده وزير الخارجية البريطاني - اللورد كرزون - في خطابه أمام مجلس اللوردات، يوم 25 حزيران - يونيو - سنة 1920، حيث أعلن: (بأن انتدابات جمعية الأمم ليست إلا حديث خرافة، ذلك لأنها الوسيلة لتوزيع البلاد المفتوحة بين المنتصرين) (¬1). ومضت فرنسا لتنفيذ مخطط (الانتداب)، فوجهت إنذارا إلى الملك فيصل (¬2) في 14 تموز - يوليو - سنة 1920 للاعتراف بالانتداب الإفرنسي على الساحل. ورفض الملك فيصل الإنذار، فاحتلت القوات الإفرنسية حلب يوم 23 تموز - يوليو - وأعقبها احتلال دمشق (بعد معركة ميسلون التي انتصر فيها الجنرال غورو على جيش يوسف العظمة الحديث التكوين). ودخلت القوات الإفرنسية دمشق يوم 25 تموز - يوليو. ولم تلبث فرنسا أن قسمت سوريا إلى أربع دول؛ هي أ - لبنان الكبير. ب - دمشق. ج - حلب. د - دولة العلويين (وهي منطقة النصيرية الواقعة شمالي لبنان بين العاصي والبحر المتوسط). ليس هذا فحسب، بل لقد ضمت بيروت وطرابلس والبقاع إلى دولة لبنان الكبير. وهكذا، وبينما كان في لبنان قبل ذلك (200) ألف ماروني موالين لفرنسا، شكلت فرنسا كيانا يضم الأقليات ¬

_ (¬1) تاريخ الشعوب الإسلامية - بروكلمان - ص 762. (¬2) كان الشعب السوري قد بايع الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكا على سوريا في 8 آذار - مارس - 1920.

ومنهم (135) ألفا من النصارى المنتمين إلى مختلف الطوائف، و (30) ألفا أرمني، و (20) ألفا من الأجانب، و (44) ألف درزي و (105) آلاف من الشيعة. وثارت سوريا لهذا التقطيع في أوصالها، فما كان من فرنسا إلا أن أعلنت في سنة 1922 تشكيل دولة اتحادية سورية تضم دول دمشق وحلب والعلويين. وبدأت فرنسا بتنفيذ مخططاتها لتدمير قواعد الصمود والأصالة في المجتمع السوري الإسلامي - مما أدى إلى الثورات المستمرة. وتم انتداب فلسطين من قبل بريطانيا في 24 تموز - يوليو - سنة 1922 (بموجب اتفاق سان ريمو أيضا). وتم تعيين مندوب سامي بريطاني - يهودي - أطلقت يده في تقسيم البلاد إلى مقاطعات إدارية، مع منحه السلطات المطلقة لتوزيع الأراضي العامة - أملاك الدولة - واستثمار الموارد المعدنية والثروات الطبيعية للبلاد، وكذلك تعيين الموظفين وعزلهم. واعتبرت الإنكليزية والعبرية والعربية لغات رسمية متساوية. وانطلق اليهود تحت حماية المندوب السامي (هربرت صموئيل) لتنفيذ المخطط الصهيوني، وإقامة المستوطنات، والهيمنة على الصناعات والتجارة في المدن الكبرى. وأدى تعاظم نفوذ اليهود إلى انتشار الغضب في أوساط المسلمين الذين وجدوا أنفسهم وقد تحولوا في بلادهم إلى كتلة مهملة ومهددة باستمرار في حاضرها ومستقبلها؛ الأمر الذي أدى إلى ثورة سنة 1936 الكبرى والتي لم تتوقف إلا باندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939م. وعملت بريطانيا في الوقت ذاته على تقسيم جنوب بلاد الشام إلى

قسمين، فلسطين وشرقي الأردن. وأعلنت قيام إمارة أردنية مستقلة في منطقة شرقي الأردن ولم تلبث أن تحولت الإمارة إلى ممكة حملت اسم (المملكة الأردنية الهاشمية). وأصبح العراق بدوره تحت سلطة الحماية البريطانية - منذ هدنة مودرس - وأخذت بريطانيا على عاتقها فرض هيمنتها على العراق، وذلك وفقا لمضمون التصريح البريطاني - الإفرنسي الصادر في آذار - مارس - سنة 1918. غير أن العراق تصدى لمقاومة المخططات البريطانية، وانتقلت المقاومة من مجال الصراع السياسي إلى مجال الصراع المسلح. مما أدى ببريطانيا إلى القيام بمحاولة إحكام سيطرتها، وانتهى الأمر بثورة شبه عامة في 30 حزيران - يونيو سنة 1920 م ضد التدخل البريطاني في الشؤون الداخلية للعراق. وقامت بريطانيا بقمع الثورة بصورة وحشية في ربيع سنة 1921. لكنها أدركت بأنه المحال عليها حكم العراق مباشرة، فقررت إقامة نظام ملكي. وفي الوقت ذاته كانت الحركات الوطنية في العراق تطالب الملك فيصل الذي أخرجته فرنسا من سوريا، أن يتولى عرش العراق. ووطىء فيصل البصرة في 23 حزيران - يونيو - سنة 1921. واسقبلته بغداد اسقبالا حماسيا. وجرى استفتاء أعلن على أثره السير (برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني، تنصيب الأمير فيصل ملكا على العراق في 23 آب - أغسطس - سنة 1921م. غير أن الصراع ضد بريطانيا - وانتدابها - لم يتوقف. بدأ بعد ذلك الهجوم على قلب الإمبراطورية الثانية التي رفعت

راية الإسلام طوال قرون عديدة. وكانت تركيا قد خسرت البلقان خلال الحرب العالمية الأولى، وانتهى بها الأمر إلى الخروج من الحرب (بعد اقتطاع البلاد العربية منها) وذلك في 30 تشرين، الأول -أكتوبر - 1918م وذلك بموجب هدنة مودرس وبدأ الحلفاء في دفع قواتهم لاجتياح تركيا، فقامت اليونان باحتلال أزمير في 15 أيار - مايو - 1919 بعد أن شجعتها بريطانيا على ذلك. وعاشت تركيا فترة من الاضطراب في الحكم، فقام الحلفاء بالتمهيد لقيام مصطفى كمال، بأن قاموا باعتقال مناوئيه وخصومه وتشريدهم؛ كما قام اليونانيون بمذابح وفظائع وحشية في مدينة أزمير لم يسمع بمثلها. وانطلق مصطفى كمال لتنفيذ دوره. فأسس جمعية وطنية في الأناضول واستثار حماسة الأتراك للدفاع عن بلادهم. وأمكن له تحقيق انتصار على اليونانيين في سقارية، ثم عقد مع فرنسا معاهدة حصلت فيها فرنسا على امتياز استثمار مناجم الحديد والكروم والفضة في وادي نهر خرشوط الذي يصب في البحر الأسود. كما عقد معاهدة مع روسيا تنازل فيها عن (باطوم) التي ضمت إلى جمهورية جورجيا السوفييتية. في 29 تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1923، أعلن انتخاب مصطفى كمال رئيسا للجمهورية، وفي 3 آذار - مارس - سنة 1924، ألغيت الخلافة من تركيا. وقام أتاتورك (مصطفى كمال) باستثارة مراكز القوى الدينية، وعمل على تدميرها، وانتقل بعد ذلك إلى إلغاء وزارة الأوقاف في 2 آذار - مارس - سنة 1924 وعهد في

شؤونها إلى وزارة المعارف. وذهب أتاتورك إلى ما هو أبعد من ذلك فحدد عدد المساجد، ولم يسمح بغير مسجد في كل دائرة يبلغ محيطها خمسمائة متر. كذلك خفض عدد الأئمة إلى ثلاثمائة شيخ فقط. وفرض عليهم أن لا يقصروا خطبة الجمعة على الأمور الدينية، بل أن يتعرضوا للمشكلات الزراعية. وأوصدت أبواب عدد من الجوامع أشهرها جامع أيا صوفيا الذي حول إلى متحف، ومسجد السلطان محمد الفاتح الذي حول إلى مستودع وعمل أتاتورك بعدئذ على إلغاء الأحرف العربية واستبدالها بأحرف لاتينية في 28 آذار - مارس سنة 1928. وأمكن بذلك القضاء على تركيا الإسلامية، والسير بها نحو الغرب. وتبع ذلك استبدال القوانين الإسلامية بقوانين أوروبية - وانتهت بذلك وحدة العالم الإسلامي.

الهجوم الاستعماري الاستيطاني على الجزائر

2 - الهجوم الاستعماري الاستيطاني على الجزائر فتحت فرنسا أبواب الجزائر أمام المهاجرين الفرنسيين والأوروبيين على السواء. فكان عدد المهاجرين الإفرنسيين في البداية أقل من عدد المهاجرين الأوروبيين، وفي سنة 1839 بلغ عدد المهاجرين إلى الجزائر (25) ألف أوروبي من أصلهم (11) ألف فرنسي. وفي العام 1847 بلغ عدد الإفرنسيين (48) ألفا من أصل (110) آلاف مهاجر أوروبي، بينهم (32) ألف إسباني و (8 - 9) آلاف من الإيطاليين والألمان والمالطيين والسويسريين. وبلغ عدد الإفرنسيين في العام (1860) مائة وعشرون ألفا من مجموع مائتي ألف - وارتفع هذا الرقم في العام 1871 إلى (130) ألف فرنسي مقابل (115) ألف أوروبي. وتعادل الرقمان تقريبا في العام 1876. وفي العام 1889 صدر قانون بمنح الجنسية الإفرنسية بصورة آلية لجميع الأفراد الذين ولدوا في الجزائر من أبوين أجنبيين، وتفوق الإفرنسيون في الجزائر على غيرهم من الأوروبيين في عددهم لأول مرة. وتابع الإفرنسيون بعد ذلك تطوير الهجرة إلى الجزائر، بينما

أ - النزعات الاستقلالية للمهاجرين (المستوطنين)

هبطت نسبة المهاجرين من الجنسيات الأخرى إلى حد كبير بعد العام 1895. وتوقفت الهجرة أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم استؤنفت بعد ذلك، غير أن نوعية المهاجرين تبدلت. فلم يعد المزارعون هم الذين يهتمون بالهجرة إلى الجزائر، بل اقتصرت الهجرة على العمال والتجار ورجال الأعمال وموظفي الحكومة وعمالها. وتعود هذه الظاهرة إلى مكننة الزراعة من جهة (إدخال الزراعة الآلية) وإلى تناقص مساحات الأراضي الصالحة للزراعة من ناحية أخرى. يبرز العرض السريع السابق أن الجزائر تعرضت لهجمة استيطانية واسعة في أعقاب القضاء على ثورة الحداد والمقراني (ثورة 1871)؛ ويعود سبب ذلك إلى هجرة الإفرنسيين من مقاطعتي الألزاس واللورين اللتين احتلتهما بروسيا سنة 1870، كما أن الآفة الزراعية التي لحقت بالكثير من كروم العنب في فرنسا عام 1878، دفعت عددا من صانعي الخمور إلى الجزائر. المهم في الأمر هو أن هذه الهجرة أدت إلى مجموعة من الظواهر، أو العوامل، التي رسمت أبعادها على صفحة الجزائر وعلى مستقبلها. وهذه الظواهر هي: أ - النزعات الاستقلالية للمستوطنين - المهاجرين. ب - التكون النفسي الخاص بالمستوطنين. ج - موقف الجزائريين من الهجرة. أ - النزعات الاستقلالية للمهاجرين (المستوطنين): أظهر المستوطنون الأوروبيون في الجزائر جنوحا نحو الاستقلال بأمور الجزائر وإدارتها منذ البداية، وكان هذا الجنوح عاملا أساسيا في جملة عوامل اضطراب الإدارة الإفرنسية في الجزائر، وتأرجح هذه الإدارة بين المدنيين والعسكريين، حتى إذا ما سقطت إمبراطورية نابليون

الثالث إثر الحرب البروسية - الإفرنسية، ظن المستوطنون أن الفرصة باتت مناسبة لهم للاستقلال بأمور الجزائر، فقاموا بمهاجة المراكز العسكرية الإفرنسية، وأنزلوا الإهانات بالعسكريين، وأقاموا لجان الدفاع والأمن العام. وقاموا في شهر تشرين الثاني - نوفمبر 1870 بضرب الحاكم العام العجوز (الجنرال إيستر هازي) وطردوه من مقره. في هذه الفترة من ظهور الروح الانفصالية للمرة الأولى عند المستوطنين، جرت اتصالات مع (غاريبالدي) في إيطاليا، وملكة إنكلترا، ولكن الحكومة الإفرنسية المؤقتة سرعان ما استعادت سيطرتها على الجزائر. وأخذ المستوطنون بعد ذلك في استخدام قوتهم الاقتصادية الجديدة لممارسة الضغوط السياسية ضد الحكومة الإفرنسية، ولتطبيق السياسة المناسبة لهم. وعندما حاولت فرنسا تطبيق سياسة الدمج بهدف معاملة الجزائر كأي مقاطعة إفرنسية أخرى، انبرى المستوطنون لمقاومة هذه السياسة وإحباطها. وظهر خلاف حاد بين المستوطنين وبين الحكومة الإفرنسية - في باريس - في عهد الجمهورية الثالثة بسبب التناقض في وجهات النظر تجاه القضايا الاقتصادية، ومشاريع الاستثمار ونفقات الإدارة في الجزائر، وبسبب التناقض أيضا بشأن الدور المقبل للجزائريين في بلادهم. وكان معظم المستوطنين يعتقدون بوجوب إبادة الجزائريين وإفنائهم، بينما كان الليبراليون في فرنسا يعتبرون أن من الواجب تدريب الجزائريين على الأعمال الرخيصة. وهو ما تبرزه مقولة

(جوليوس فيري) (¬1) رئيس الوزراء الإفرنسي سنة 1892 حيث كتب ما يلي: (قمنا بدراسة نفسية المستوطن دراسة دقيقة ووثاثقية، فوجدنا أنه إنسان محدود الأفق للغاية. ومن المؤكد أن الكفاءة العقلية ليست هي السبب في ظاهرة تحكم المستوطن في مصير أهل البلاد. غير أن هذا المستوطن ليس مجردا من الفضائل، ففيه تتجسد كل صفات العامل المجد، والإنسان الوطني، ولكنه لا يملك ما يمكن للإنسان أن يسميه (بفضيلة الفاتح) وهي التي تتمثل في إنصاف الروح والقلب، وفي الإحساس بإنصاف الضعيف، وإحقاق الحق بما لا يتعارض مطلقا مع صلابة الحكم والإدارة. ومن الصعب على المستوطن الأوروبي أن يفهم بأن ثمة حقوقا أخرى غير حقوقه في البلاد العربية - الإسلامية .. وأن أبناء هذه البلاد ليسوا شعبا خلق للعبودية، أو للتكبيل بالأصفاد وفقا لرغباته. ويعلن المستوطنون أن الشعب الخاضع للاستعمار هو شعب غير قادر على تحسين أوضاعه، أو على تقبل العلم، دون أن يبذل هؤلاء المستوطنون أي جهد أو محاولة لرفع مستواه العقلي والأدبي من الحالة البائسة التي يعيشها. وليس من شك في أن نيتنا لا تتجه إلى إبادة أهل البلاد، ولا القذف بهم إلى ما وراء الصحراء، ولكن ¬

_ (¬1) جوليوس فيري: (FERRY - JULES) رجل دولة فرنسي، من مواليد سان دييه (1832 - 1892) اشتهر بأنه من غلاة الاستعماريين ومتطرفيهم، وقد أسهم بدور كبير في وضع الأسس الأولى لإدارة المستعمرات، كما مارس دورا هاما في التوسع الاستعماري الإفرنسي بالاستيلاء على تونس وطونكين (الهند الصينية) والكونغو.

ليس ثمة فائدة في الاستماع إلى شكاواهم، ولا الاهتمام لتكاثرهم، وهو تكاثر يزداد بصورة مضطردة مع فقرهم). وهذا ما عاد الجنرال كاترو فأكده بقوله: (يعيش المستوطنون أكثر من غيرهم من الناس تحت سيطرة غرائزهم، أكثر مما يعيشون وفقا لمتطلبات العقل ومعطيات المثل العليا. وقد ظلوا عن طريق الوراثة الرجعية، على النحو الذي كان عليه آباؤهم عندما ذهبوا إلى إفريقيا لاستيطانها، وهم يشكلون الرواد الأوائل، حاملين معهم طبيعتهم الميالة إلى العمل وإلى العزلة، فنفذوا بحماسة رائعة ونجاح منقطع النظير مشاريع تحمل طبيعتهم الفردية ومصلحتهم الشخصية. وهم على ضوء هذا يمثلون مجموعة من الأفراد، أكثر من تمثيلهم لجماعة محددة تقوم على مجموعة من الأسس والتقاليد. وهم لا يتنادون إلى التجمع والعمل المشترك إلا دفاعا عن مصالحهم. ولكن هذه المصالح، التي هي في حد ذاتها مصالح طبقية، لا تكون دائما منسجمة مع مصالح فرنسا. ويفتقر هؤلاء الرجال، على الرغم من حسن نيتهم، إلى الفضائل الخلقية الروحية، والتقليل من المفاهيم المادية والأنانية الشديدة الغرور تجاه علاقاتهم مع أهل البلاد. وهم - أي المستوطنون - يفتقرون أيضا إلى خميرة كريمة وأصيلة من الثقافة غير المتحيزة، وإلى تذوق الأفكار، ويتضخم هذا الافتقار مع مرور السنين، ومع ازدياد الثروة، (¬1). ¬

_ (¬1) الجزائر الثائرة (جوان غيسلبي) ص 18 - 24.

المهم في الأمر هو أن امتلاك المستوطنين للثروة قد مكنهم من فرض إرادتهم على الحكم الإفرنسي في باريس، وقد اعترف رئيس الوزراء الإفرنسي (جوليوس فيري) بفشل سياسة (الدمج) في سنة 1894، فتم تشكيل مجلس أعلى للجزائر، يضم ستين عضوا بينهم سبعة عشر فقط من الجزائريين. وخففت فرنسا في العام 1896 من ارتباطاتها بالجزائر، وأصبح من حق الجزائر - جزائر المستوطنين - في سنة 1900 أن تشرف على شؤونها المالية، ونص قانون صدر في العام 1898 على تكوين هبات مالية جزائرية تضم (24) عضوا من الجزائريين و (48) عضوا من المستوطنين - وكانت هذه الهيئات المالية هي التي تقترح الموازنة الجزائرية التي أطلق عليها اسم (باستيل المستوطنين) وظلت تسيطر على البلاد من العام 1898 إلى العام 1945. وكان المستوطنون والجزائريون من أعضاء هذه الهيئات المالية يمثلون المصالح الضخمة لأصحاب الأملاك. ولم يكن المستوطنون يبدون أي اهتمام بمصالح الجزائريين ورفاهيتهم وكانوا يعزون مشاعر القلق عند الجزائريين إلى التأثيرات الخارجية. لقد حارب عدد كبير من أبناء الجزائر (ومن أبناء المغرب العربي الإسلامي عامة) تحت العلم الإفرنسي وللدفاع عن (شرف فرنسا) غير أن تضحياتهم قوبلت بالجحود والإنكار من قبل المستوطنين، فقد تصدى هؤلاء لمقاومة كل إصلاح أرادته الحكومة الإفرنسية، لا من أجل مصلحة الجزائريين وإنما من أجل مصلحة فرنسا بالدرجة

الأولى. وهكذا فعندما طرح (كليمنصو) (¬1) بعض الاقتراحات التي زعم أنها إصلاحية، جابهه المستوطنون بما يشبه الثورة، وهددوا بالانفصال، على نحو ما كانوا قد فعلوه سنة 1871، ووجهوا حملة من الاحتجاجات والعرائض والضغط من قبل النواب الذين يمولهم المستوطنون. وهكذا وجد المحاربون الجزائريون أنفسهم أمام موقف عسير في وطنهم ففضلوا الهجرة إلى فرنسا على البقاء في وطنهم. لقد أطلق الإفرنسيون على العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين لقب (أيام زهو المستوطنين في الجزائر) هذا على الرغم مما تعرضت له الجزائر في هذه المدة من النكسات الاقتصادية التي دفع الجزائريون ثمنها لحساب المستوطنين، ومنها على سبيل المثال (أزمة الخمور) التي وقعت في فرنسا مع مطلع الثلاثينات، وأدت إلى قيام أصحاب صناعة الخمور فيها بالمطالبة بتخفيض مستوردات الخمور من الجزائر. وعلى أثر تهديد المستوطنين بالانفصال ومقاطعه المنتجات الإفرنسية، مما أرغم حكومة (باريس) على إلغاء التعرفة الجمركية العالية التي كانت تعتزم فرضها على خمور الجزائر، ويكفي هنا القول: (أن الجزائر البلد المسلم بات بفضل الحضارة الإفرنسية مصدرا للخمور. وقد كان التوسع في هذه الزراعة على حساب ¬

_ (¬1) كليمنصو - جورج (CLEMENCEAU - GEORGES) رجل دولة وسياسي إفرنسي من مواليد مويرون. آن بارد (MOUILLERON EN PAREDS) (1841 - 1929) شغل منصب وزير للحربية، ورئيس مجلس النواب سنة 1917، وكان له دور كبير في مباحثات الصلح التي أعقبت الحرب، ووضع معاهدة فرساي (1919). ويعتبر كليمنصو من كبار الاستعماريين، وغلاتهم.

ب - التكوين النفسي الخاص بالمتسوطنين

زراعة المواد الغذائية الأخرى التي يعيش عليها، ويقتات من خيرها شعب الجزائر). ب - التكوين النفسي الخاص بالمتسوطنين: تضمنت الفقرة السابقة بعضا من الشواهد التي تبرز التكوين النفسي الخاص بالمستوطنين في الجزائر، وفي الحقيقة فإن هذا التكوين ليس خاصا، وإنما ينطبق تماما على كل الهجرات الاستيطانية التي رافقت أعمال الاستعمار. فشعور المستوطن بقوة دولته، وما يشهده من أعمال إجرامية وفظائع لإخماد ثورات المواطنين ومقاومتهم للاستعمار، ثم ما تزعمه الدول الاستعمارية من ممارستها للاستعمار بهدف (القيام بدور حضاري ناجم عن تفوق الإنسان الأوروبي - تفوق الرجل الأبيض) وتغطية ذلك بغطاء ميثولوجي - ديني - في إطار حرب صليبية، كل ذلك مما يجعل المستوطن إنسانا عنصريا، وفردا ومميزا بقسوته الوحشية على أبناء البلاد الخاضعة للاستعمار. وهنا لا يمكن في الحقيقة المساواة في نظرة المستوطنين إلى أبناء البلاد الأصليين، إذ أن آراء عضو مجلس الشيوخ (هنري بورغو - الذي كان يلقب بملك الخمور في الجزائر، بسبب كثرة ما يملكه من كروم العنب في البلاد) أو جورج بلاشيت (الذي كان يلقب بملك الحلفاء - بسبب تملكه لمئات الأفدنة من الأرض التي تزرع فيها نباتات الحلفاء اللازمة لصناعة الورق المصقول) هي آراء تختلف كل الاختلاف عن آراء زارع الشاي ذو الأصل الإسباني، أو حتى الموظف الإفرنسي الأصل الذي يعمل في دائرة الحاكم العام في

الجزائر. ومع ذلك، يبدو أن المستوطنين يتحدون في اتخاذ مواقف مشتركة، إذ أن المستوطن الثري يفرض رأيه إلى حد ما على (المستوطن الصغير) الذي لا يشاركه في مصالحه. لقد كتب أحد الإفرنسيين الليبرالين في موضوع المستوطنين ما يلي: (يشترك هؤلاء المستوطنون الإفرنسيون في الجزائر مع الجنوبيين في الولايات المتحدة في أكثر من صفة واحدة. ولعل في طبعة هذه الصفات: الشجاعة والديناميكية - الحركة المستمرة -وضيق الأفق، والاعتقاد المتأصل في نفوسهم بأنهم خلقوا ليكونوا سادة. ويكون غيرهم عبيدا، وأن أية محاولة لتبديل هذه الفروق هي عملية تستهدف نشر الفوضى، وصحيح من وجهة نظرهم، بأنه يجب العطف على الخدم، ولكن بشرط أن يظهر هؤلاء الرغبة للبقاء دائما في طبقة الخدم). هذا فيما كتب كاتب آخر: (تكون البلاد ملكا للناس الذين يعرفون كيف يستثمرونها، وكيف ينهضون بأهلها، ويقيمون لهم المؤسسات، ويوطدون لمصحتهم دعائم الحياة الثقافية والمادية. ويجب أن يفهم كل فرنسي، أن هذا الكفاح الذي يخوضه إخوانه في الجزائر، إنما هو كفاح هدفه الدفاع عن الوطن الأب المشترك، وحماية الحضارة المسيحية، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من شمول ومن عمق في المضمون، على تربة أفريقيا. ولقد كانت فكرة الحضارة المسيحية هي سبب وجود فرنسا والحافز لعظمتها، ولهذا فإن إضعاف هذه الفكرة من طريق الخطر الكبير الذي تتعرض له فرنسا في الجزائر

سيعرض فرنسا ذاتها لخطر الزوال) (¬1). تبرز المقولات والشواهد السابقة تلك المواقف المشتركة التي كونها النظام الاستعماري ذاته. فالمستوطن، مثله كمثل أي إنسان آخر، يتشكل ويتكيف ضمن إطار المجتمع الذي يعيشه، ومن هذا المجتمع يستمد قيمه وأفكاره. ولقد أفسد النظام الاستعماري التكوين النفسي للمستوطنين، وبات لزاما عليه تحمل تبعات ما أفسده. ومن غير الصحيح إلغاء التبعات على المواطنين - أو المستوطنين الذين وجدوا أنفسهم، بحكم السياسة الاستعمارية، وهم في وسط معاد لهم في مجموعه، مناوىء لثقافتهم، إدراكا من هذا الوسط بأن تراثه وثقافته ومذهبه الديني، هي بمجموعها القاعدة الصلبة لمجابهة ما يتعرض له. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فقد وجد المستوطنون أن الحلول الديموقراطية للمشكلات الجزائرية الوطنية، وتحقيق الانفتاح على المواطنين الأصليين، سيفسد عليهم متعة الامتيازات التي يمارسونها ويستثمرونها. ومن هنا برز الجدار الفاصل، ونشأت الهوة العميقة بين المستوطنين الأوروبيين من جهة، وبين المواطنين الجزائريين من جهة أخرى. وكان لا بد لهذا الحاجز الفاصل من أن يتزايد تعاظما مع الأيام، بتأثير الأخطاء المتراكمة، مما خلق الوضع المتفجر بصورة دائمة فوق أرض الجزائر. ¬

_ (¬1) الجزائر الثائرة (جوان غيلسبي) ص 24 - 26.

ج - موقف الجزائريين من الهجرة

ج - موقف الجزائريين من الهجرة: جابه الجزائريون جحافل الغزو الإفرنسي بالمقاومة الضارية منذ بداية الاحتلال الأجنبي وظل رجال القبائل يقاومون بعنف توسع الإفرنسيين طوال الفترة من عام 1830 وحتى عام 1871. واستخدم الجيش الإفرنسي أشد الوسائل وحشية في حملاته المتطاولة لإخماد جذوة الجهاد المتألفة أبدا فوق ثرى جزائر الأحرار. ولم تكن مقاومة الجزائريين قائمة فقط بسبب تحريض القيادات المؤمنة، بداية من الأمير عبد القادر وأحمد باي قسنطينة والإخوان الرحمانيين والشيخ الحداد والمقرانيين وسواهم، كم لم تكن هذه المقاومة نتيجة سخط الشعب على وحشية الإفرنسيين ووسائلهم البربرية. وإنما كانت مرتكزة أيضا، ولعل هذا هو المهم، على تعلق الجزائريين بدينهم الإسلامي وتمسكهم بأرضهم الطيبة الطهور. لقد قامت القوات الإفرنسية بتدمير أراضي الجزائريين تدميرا شاملا ثم أدى اغتصابهم لها فيما بعد إلى تمزيق الروابط الأساسية للمجتمع الريفي. وصدر مرسوم في العام 1840 يقضي بمصادرة أملاك الجزائريين الذين امتشقا الحسام ضد الإفرنسيين، والاستيلاء على أراضيهم. وفي سنة 1843م، صدر مرسوم آخر يقضي بمصادرة أراضي (الداي التركي) وأراضي الوقف الإسلامي (الحبوس) التي ينفق ريعها على المساجد وغيرها من شؤون المسلمين؛ فأتاح هذا المرسوم للإفرنسيين فرصة السيطرة على شؤون المسلمين. وفي عامي 1844 و1846 صدرت مراسيم اشتراعية تسمح بمصادرة الأراضي التي لم يكن لأحد فيها حقوق مشروعة - من وجهة نظر القوانين الاستعمارية الإفرنسية -.

واستمرت الإدارة الإفرنسية في إصدار مراسيم المصادرة للأراضي الجزائرية، مغتنمة كل فرصة مناسبة لإحكام سيطرتها على البلاد. وكان فشل ثورة الإخوان الرحمانيين (ثورة المقراني والحداد 1871) فرصة مناسبة للإفرنسيين من أجل اغتصاب عدة ملايين أخرى من الأفدنة، مما أنزل ضربة أخرى بالمجتمع الريفي الجزائري. وأدى هذا العمل إلى إفقار الكثيرين من رجال القبائل الذين كانوا من أشد الناقمين على فرنسا. ودفع بهم إلى الهجرة، والانتشار في كل أنحاء الجزائر بحثا عن العمل. وصدر قانون إفرنسي في العام 1873 سمح ببيع أراضي القبائل أو أراضي الوقف. وكانت الأرض إذا بيعت، انتقلت إلى الخضوع لقوانين الأراضي الإفرنسية، وأصبح من المحال إعادتها إلى القوانين الجزائرية الإسلامية، حتى لو كان من ابتاعها جزائريا. وأدت الفوارق بين قوانين تملك الأراضي الإفرنسية والإسلامية إلى بقاء هذه المشكلة حتى في القرن العشرين سببا من أسباب نقمة الجزائريين وسخطهم، لا سيما وأن هذه القوانين في جملتها فرضت على رجال القبائل الإقامة في مناطق معينة، وقيدت حركتهم وحركة قطعان مواشيهم عبر المنتجعات ومناطق الرعي الخصبة التي كانت لهم من قبل. كما أدت عمليات الاغتصاب المتعددة، إلى تراجع الجزائريين عن المناطق الساحلية التي تضم الأراضي الخصبة، وانسحابهم نحو الداخل حيث الأراضي الجبلية المقفرة، والتي تصعب زراعتها. وهكذا تمزقت الطبقة المتوسطة الجزائرية وضعفت، وعلى سبيل المثال، فقد كان عدد سكان الجزائر يقدرون تقريبا بـ (75) ألفا قبل

اجتياح فرنسا للجزائر، وهبط هذا العدد مع بداية الاحتلال إلى (60) ألفا، ثم إلى (20) ألف جزائري فقط. ومرت مدن بليدة وميدية والمعسكر وتلمسان وعنابة وقسنطينة وغيرها، بفترات من الحصار والمذابح، وفر الكثيرون من أبناء المدن إلى الأرياف. واستمرت الهجرات على نطاق واسع أيضا إلى بلاد الشام، طوال القرن التاسع عشر، احتجاجا على الإجراءات الإفرنسية. غير أن مدينة (قسنطينة) انفردت عن سواها من مدن الجزائر، بأنها استطاعت استعادة مكانتها بسرعة؛ فأصبحت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مركزا سياسيا ودينيا لمقاومة المخططات الاستعمارية الإفرنسية. وقد تم لها ذلك بفضل الطبقة المتوسطة ذات الجذور العريقة والتقاليد الراسخة والثقافة الدينية الرفيعة. علاوة على ما يتوافر لهذه المدينة من انفتاح على داخل البلاد، ووجود فئة متعلمة لها قدرة قيادية. وقد تمكنت هذه الطبقة المثقفة المختارة -بمعونة باي قسنطينة، من تجنب الدمار الذي ألحقه الإفرنسيون بالمدن الجزائرية الأخرى، ولم يعد من الغريب والحالة هذه أن تكون هذه المدينة مهدا لظهور عدد كبير من قادة الثورة الجزائرية وزعمائها في وقت لاحق. على كل حال، أدى نجاح الإفرنسيين في القضاء على ثورة القبائل (سنة 1871) إلى نهاية فترة من الوطنية الريفية، وبداية فترة أخرى من جهود أهل المدن، يقودهم سكان قسنطينة، للحصول على بعض حقوقهم بوسائل الصراع السلمي. وظلت الطبقة المختارة متماسكة، متلاحمة، في مدينة قسنطينة، لتأخذ على عاتقها قيادة

الجهاد الديني والصراع السياسي. وهكذا كمنت المعارضة للحكم الإفرنسي في تعابير دينية. وأثناء ذلك، كان المستوطنون قد حصلوا بين عام 1896 وعام 1900 على درجة لا بأس بها من الحكم الذاتي. فجعلوا من الجزائر وحدة إدارية مستقلة عن المقاطعات الإفرنسية ذاتها. واعتبارا من هذا التاريخ، أخد الجدال في الاحتدام حول وضع الجزائريين في بلادهم، حيث لا يتساوى الفريقان في نفس الحقوق الإفرنسية. وتقرر أن يكون للجزائريين نسبة الثلث في التمثيل في اللجان المالية. ومع ذلك لم يعين إلا جزائريان في الفترة الأولى، وهما ينتسبان إلى الطبقة الثرية من أصحاب الأراضي. وعين في العام 1922 واحد وعشرون جزائريا في هذه اللجان (¬1) وكانت نسبة الأقلية التي أعطيت للجزائريين في هذه اللجان سببا في بقائهم بدون أية سلطة حقيقية وفعلية. حدثت في الجزائر انتفاضات وثورات قصيرة (في العام 1907 وفي العام 1911) وتمكنت القوات الإفرنسية من قمعها بالقوة. وقامت بتفريق التظاهرات التي جرت احتجاجا على نتائج الانتخابات المزيفة التي حدثت في تلك الفترة. وتألف في الوقت ذاته أول حزب جزائري هو حزب (الجزائر الفتاة) بزعامة الأمير خالد الجزائري، غير أن هذا الحزب لم يعمر طويلا. وقد أعلن هذا الحزب موافقته على الالتزامات التي فرضت حديثا على الجزائريين لأداء ¬

_ (¬1) ارتفع هذا الرقم في العام (1937) إلى (24) عضوا.

الخدمة العسكرية - الإلزامية دفاعا عن فرنسا، ولكنه طالب بتوسيع تمثيل الجزائريين في الجمعيات والمجالس المنتخبة، وبتطوير التعليم وتوسيعه، وبإنهاء الضرائب الخاصة المفروضة على العرب، وإلغاء قانون (السكان الأصليين). وقرر نحو من ثمانمائة مواطن من أهالي تلمسان في العام (1911) الهجرة من مدينتهم والنزوح إلى بلاد الشام (دمشق) احتجاجا على: (قانون التجنيد الذي يرغم الجزائريين على الخدمة تحت راية الصليبيين، ومصادرة أملاك الوقف، وقانون (السكان الأصليين) وجوازات التنقل داخل البلاد، وعدم المساواة أمام المحاكم، وزيادة الضرائب، وعدم تمثيل الجزائريين تمثيلا كافيا في المجالس المنتخبة، ومنافسة الصناعات الأوروبية للصناعات الوطنية - المحلية - وعنف نظام الغابات، والامتيازات الممنوحة لليهود، والغرائم الجمركية والضرائب الثقيلة، وحماية الإدارة الإفرنسية لموظفيها حتى ولو أساؤوا، وعدم اهتمام السلطات بشكاوى الجزائريين). ولد دلت هذه الهجرة الجماعية على إحساس المواطنين الجزائريين باليأس من بذل الجهود لحل مشاكلهم في ظل النظام الاستعماري الجاثم على صدر البلاد. بدأ بعض الجزائريين بالهجرة من المناطق الريفية على فرنسا بحثا عن العمل، وفرارا من الواقع الذي كانت تعيشه الجزائر، وذلك قبيل الحرب العالمية الأولى. لكن الحرب ذاتها هي التي شكلت الحافز الأساسي لهجرة جماعية واسعة النطاق. وارتفع عدد الجزائريين العاملين في فرنسا من نحو أربعة آلاف أو خمسة آلاف

قبيل الحرب إلى نحو ثمانين ألفا إبانها. واستمرت هذه الهجرة حتى العام 1924، لسد الفراغ في حاجات فرنسا إلى اليد العاملة. وأخذت الهجرة في الهبوط بصورة حادة بعد العام 1924، ولا سيما في العام 1929، بسبب حدوث الأزمة الاقتصادية العالمية. وعندما استؤنفت الهجرة ثانية في العام 1936، بلغ عدد الجزائريين العاملين في فرنسا نحوا من اثنين وثلاثين ألفا. مقابل نحو من مائة ألف في الفترة الواقعة بين عامي 1920 و1924. أدت جهود العمال والجنود الجزائريين، وتضحياتهم، أيام الحرب العالمية الأولى، وموجة الغضب التي هيمنت على الجزائر، إلى قيام اليسار الإفرنسي بتأييد حركة الإصلاح. ورفض رئيس الوزراء (كليمنصو) الإذعان لمقاومة المستوطنين وضغوطهم، من أجل صرفه عن تنفيذ ما أطلق عليه صفة (اقتراحات معتدلة). وصدر تبعا لذلك قانون في عام 1919، يسمح للمتعلمين الجزائريين - في فرنسا -بالحصول على الجنسية الإفرنسية، شريطة التخلي عن حقوقهم الخاصة بموجب القانون المدني الإسلامي. (وكان القانون الذي بني على تقرير لجنة مجلس الشيوخ الإفرنسي في العام 1865 قد سمح بمثل هذه الإجراءات. غير أن التعقيدات التنفيذية جعلت من المحال على الجزائري الحصول على هذه الجنسية). ولكن عدد الجزائريين الذين استجابوا للقانون الجديد لم يكن كبيرا، وعندما حل العام 1936، لم يكن عدد الذين اكتسبوا الجنسية الإفرنسية يزيد على بضعة ألوف. وهنا لا بد من الإشارة إلى ذلك الجهد الكبير الذي بذلته (جمعية العلماء المسلمين الجزائرية)

والتنظيمات الإسلامية الأخرى من أجل توعية المواطنين، وإقناعهم بالتمسك بهويتهم الإسلامية؛ ورفض التجنس بالجنسية الإفرنسية. وعلى كل حال، فقد شرع بعض الجزائريين ممن تعلموا في فرنسا، وتكيفوا مع حياتها، بالمطالبة لقبولهم مواطنين إفرنسيين، على الرغم من القانون المدني الإسلامي. وكان هؤلاء (المعتدلون) يبحثون عن نموذج جديد من الإدماج، ومن المساواة في الأوضاع، ضمن المجتمع الجزائري. وأدت الانتخابات العامة في فرنسا - في أيار، مايو، 1936 - إلى فوز اليسار الإفرنسي بانتصار بارز، وقيام حكومة للجبهة الشعبية بقيادة الاشتراكي (ليون بلوم) (¬1). واستجابت الحكومة الإفرنسية لطلبات (المعتدلين الجزائريين) فوافقت على القانون الذي اقترحه (بلوم - فيوليت) والذي كان من المقرر أن يعطي الجنسية - الإفرنسية إلى فئات معينة من الجزائريين المثقفين (المتعلمين في فرنسا) بدون أن يتخلى هؤلاء عن حقوقهم التي يضمنها لهم القانون المدني الإسلامي، ولكن هذا القانون لم يصدق عليه في البرلمان الإفرنسي، بسبب معارضة المستوطنين القوية له. وأدى فشله إلى خيبة أمل الكثيرين من (المعتدلين) الجزائريين، الذين حاولوا الإخلاص لمدرستهم الإفرنسية التي نشؤوا فيها. ¬

_ (¬1) ليون - بلوم (BLUM LEON) رجل سياسي فرنسي، من مواليد مدينة باريس (1872 - 1950) زعيم الحرب الاشتراكي. شكل حكومة الجبهة الشعبية في العام 1936 وأبعد إلى ألمانيا منفيا في العام 1943. وعاد إلى فرنسا بعد انتهاء الحرب ليشكل الحكومة الإفرنسية في العام 1946.

السياسة الاستعمارية والظهير البربري

3 - السياسة الاستعمارية والظهير البربري أصدرت الحكومة الإفرنسية في 11 أيلول - سبتمبر - 1914 القانون الذي اشتهر باسم (الظهير البربري) (¬1) أو (قانون ليوتي). ونصت المادة الأولى منه على ما يلي: (تبقى القبائل البربرية خاضعة في إدارتها لشرائعها وعاداتها وقوانينها الخاصة، تحت رقابة السلطات الإفرنسية). ونصت المادة الثانية على أن (تختار السلطات الإفرنسية في الوقت ذاته لكل قبيلة ما يناسبها من القوانين والأنظمة). ولقد ظهر هذا القانون بعد مرحلة من الأبحاث والدراسات والممارسات، بدأت مع بداية الغزو الإفرنسي للجزائر، واستمرت حتى قيام الثورة الجزائرية الكبرى (1954)، غير أن السبب المباشر لظهوره هو التمرد المستمر لما كان يطلق عليه اسم (بلاد ¬

_ (¬1) الظهير البربري DAHIR BERBERE.

المخزن) (¬1) وبصورة خاصة ما وقع في (خنيفرة) في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1914 حيث تصدى رجال المخزن لرتل من القوات الإفرنسية، وقتلوا من أفراده (613) جنديا، وجرحوا (1187) جنديا، وكان الهدف الأساسي هو (تأكيد السياسة الاستعمارية وفقا لمبدأ: فرق تسد). وفي الحقيقة فقد أثار ظهور قانون (الظهير البربري) جدلا كبيرا، وحوارا حادا، في كل أنحاء العالم الإسلامي وحاولت الإدارة الاستعمارية الإفرنسية بالمقابل والأجهزة الإعلامية التابعة لها وكتابها وباحثوها وأعوانها، التقليل من أصداء هذا القانون ونتائجه. غير أن ذلك كله لم يتمكن من حجب الحقيقة، وهي أن الإدارة الاستعمارية قد أرادت من خلال هذا القانون، وتطبيقاته، التأكيد على ما تزعمه من أن: (الشعب المغربي ليس شعبا عربيا) وأن هناك فارقا مميزا بين (الشعب المغربي، والكتلة البربرية). ¬

_ (¬1) بلاد المخزن: (PAYS DU MAKHZEN) هي البلاد الصحراوية والجبلية من مناطق القبائل الممتدة ما بين المغرب - مراكش - والجنوب الجزائري، وكانت هذه البلاد خاضعة لسلطات المغرب، بخلاف (البلاد السايبة) التي كان ارتباطها بالسكان اسمها. وتضم مقاطعات مستقلة، وتبلغ مساحتها أربعة أو خمسة أضعاف مساحة (بلاد المخزن) وكانت بلاد المخزن تقدم للسلطان الجنود المقاتلين. وتؤدي الضرائب. وكانت علاقات السلطان بالمرابطين حسنة، نظرا لما لهم من نفوذ على البربر، ولم تكن قبائل (بلاد المخزن) خاضعة لحكومة منظمة بحسب المفهوم الغربي - فكان (القادة: ....) من قادة قبائل بلاد المخزن هم الذين يمارسون الحكم والقضاء وإقرار الأمن.

وأن: (الشعب المغربي الذي لم يتم تعريبه بعد يجب توجيهه للتعامل مع الحضارة الإفرنسية، وعزله عن كل تأثير عربي). وأن (المغرب الذي بقي كتلة بربرية، لم يوثر فيها الإسلام إلا تأثيرا سطحيا وضعيفا، ولم تتوغل فيها العروبة إلا بصورة جزئية ومحدودة جدا، هي كتلة يمكن لها، ويجب لها، أن تمارس دورا من أجل تحقيق فائدة عظمى لفرنسا). وكانت هذه السياسة تستند إلى معطيات قديمة قائمة على وجود لهجة بربرية، يمكن الإفادة منها لخلق واقع جديد عن طريق تكوين عقيدة بربرية جديدة. أسرع من يطلقون على أنفسهم ألقاب (علماء الأجناس - أو العروق) لوضع (نظرية عرقية) تدعم السياسة الاستعمارية، فقالوا: (إن هذا العرق البربري، ينحدر مثلنا نحن - الأوروبيين - من العرق الآري، وهو عرق مميز بمجموعة من الخصائص التي تطبع بمسيمها معظم الإفرنسيين مثل: الصراحة والإخلاص والإحساس بأهمية الروابط الاقصادية، وغياب أو ضعف النزعات العدوانية! ... والكفاءة المتوارثة في العمل، فهذه الكتلة البربرية هي التي جعلت من أفريقيا أهراء - مستودعا - يمون روما بما كانت تحتاجه من الحبوب والغلال. وأخيرا، فهناك حب الحرية، فالتقاليد البربرية قد جعلت من الإنسان البربري، رجلا حرا، يعشق حريته إلى أبعد الحدود، وهو على استعداد للقتال دفاعا عنها). ولقد جعلت هذه الحريات التي تتم ممارستها إجماعيا - كأسس ديمقراطية - وإفراديا - كمواطنين أحرار - جعلت من الصعب إخضاع

البربر بالقوة وحدها. وهذا ما يؤكده. النظام الاستبدادي الجائر) الذي حاولت الإدارة الإفرنسية تطبيقه سنة 1884، فكان من نصيبه الفشل الذريع. ولقد مرت على ذلك سنوات، ويجب تهنئة البربر خاصة على ما أظهروه من عدم الاهتمام بالاضطرابات السياسية ومن إرادة صلبة. فالبربري لا يحلم، لا ببرلمان، ولا بالاستقلال العربي. ويظهر أن البربر، الديمقراطيون منهم والمحافظون على حد سواء. بقوا محتفظين بفضائلهم السياسية التي يعتمدونها لإظهار الأخطاء العربية. أما بالنسبة للعقيدة؛ (فإن الجهود المستمرة طوال ثلاثة عشر قرنا، لم تتمكن من إدخال البربر في الإسلام. وضاعت كل الجهود في الهواء. وليس من قبيل التعصب القول بأن العرق البربري الصافي - النقي - لم يعتنق الإسلام، أو يمارس عباداته. فهم لا يقيمون الصلاة أبدا. وأما الأعياد الدينية بالنسبة لهم، فهي ليست أكثر من مناسبات لإطلاق القنابل، ومن المؤكد أنها تعديل للأساليب الوحشية في التعبير عن الحرية. وهي، في بعض الأحيان، يمكن اعتبارها وسيلة ساذجة للدجل والخداع مما تمارسه الزوايا والمساجد، وهي وسيلة عرف البربر كيف يسخرون منها، لا سيما وأن المعجزات التي ينتظرونها لم تحدث أبدا. وهنا يقع دهاقنة الاستعمار - من العلماء - في تناقضاتهم خ عندما يكتشفون: (بأن البربر يجنحون للتمسك بالدين، وبالإسلام خاصة، وليس ذلك إلا تعبيرا عن استعداد البربر لتبني أية ديانة من الديانات ...). ما من حاجة في الحقيقة للتوقف عند مثل هذه المقولات

وأشباهها ونظائرها مما سبق ذكره أو مما سيأتي عرضه، فالشواهد التاريخية المعروفة جدا، تدحض ما تتضمنه مثل هذه المقولات الخبيثة في نصوصها واللئيمة فى أهدافها، فمن المعروف أن جيش فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير قد ضم أعدادا فخمة من مسلمي العرب والبربر على حد سواء. وقد استمر المسلمون في رفع راية الجهاد في سبيل الله قرونا طويلة في بر الأندلس وبحره، وفي المغرب العربي الإسلامي ذاته، ولم تكن جيوش المرابطين والموحدين ومن جاء بعدهم، حتى الغزو الصليبي للمغرب العربي الإسلامي (من الإسبانيين ثم الإفرنسيين) بما في ذلك جيش الأمير عبد القادر، إلا جيوشا إسلامية رفعت راية الإسلام لتضم تحتها ودونما تمييز وتفريق المجاهدين من المسلمين عربا وبربرا، وسواهم سواء بسواء ويؤكد ذلك وحده افتراء المزاعم الاستعمارية للتفريق بين العرب والبرر، والتمييز فيما بينهما على أساس عرقي - قومي. غير أنه من المفيد في كل الأحوال، التوقف عند هذه المقولات التي سيصطدم بها كل باحث تاريخي عند التعرض لما أطلقوا عليه صفة (الأدب الاستعماري في الجزائر). ذلك لأنه لا بد لكل باحث من أن يذهل لأساليب التضليل التي اتبعت من أجل اختراع الأكاذيب التي تخدم أهداف الاستعمار، ثم تضخيم هذه الأكاذيب والترويج لها حتى ظهر وكأنها ذات صلة حقيقية بالواقع. وقد أمكن بذلك خلق ما أطلق عليه اسم (الأسطورة القبلية) أو (الأسطورة البربرية) والتي تم دعمها بأبحاث عرقية، قيل أنها علمية، وهي ليست في حقيقتها ذات صلة (بالعلم) إلا من وجهة

خدمة (الأقوياء البيض من الأوروبيين)، والإسهام في ضمان مصالحهم؛ شأن كل الواجهات العلمية والتقنية التي تسخرها الدول العظمى حاليا للهيمنة على الشعوب المستضعفة. المهم في الأمر، هو ألا يصدم القارىء عندما يقرأ في المراجع الاستعمارية إصطلاح (برابرتنا) لإبراز ذلك الرابط المشترك بين الإفرنسيين والبربر - على ما كان يزعم ضباط الاستعمار وكتابه والعاملون في إدارته، والمنفذون لما يخططه دهاقنته وقسسه ومفكروه. ومن ذلك قولهم: (يتشابه رجال قبائلنا في أفريقيا الشمالية مع رجالنا في إقليم - أوفيرن - (¬1) فهل يمكن التفريق بين البربري الأصيل ذو العرق الأبيض عن مواطن أوفيرن؟ إن أكثر هؤلاء البرابرة وحشية هم الأقل ممن اتصلوا بالحضارة الخارجية المستوردة. إنهم مميزون بطول القامة، والبياض الناصع للبشرة، والرشاقة في التكوين والنحول مع الصدر البارز المقبب وهي كلها من الملامح التي يشتركون فيها مع مواطنينا في أوفيرن. ويتميز هؤلاء عن سواهم - حتى بين البربر - بخصائصهم المتفوقة ¬

_ (¬1) أوفيرن: AUVERGNE . إقليم قديم من أقاليم فرنسا، قسم في القرن الرابع عشر إلى مقاطعة دوفينيه (DAUPHINE) ودوقية أوفيرن، وأعيد توحيدها في سنة 1527 أيام الملك فرانسوا الأول. وعاصمة أوفيرن هي كليرمونت - فيراند CLAIR MONT FERRAND وشكلت فيما بعد مقاطعات (باي دو دوم (PUY DE DOME)، وكانتال. وقسما من اللوار العليا. وطبيعة الإقليم جبلية بركانية مع سهول خصبة تتشابه مع طبيعة الجزائر.

فيزيولوجيا، وهم أقل الناس تأثرا بالإسلام. هؤلاء الفلاحون الطيبون، ذوو الطباع الخشنة، لديهم كفاءة عالية في اختراع الحيل البسيطة. إنهم نموذج حقيقي للقيم الأخلاقية التي تتعارض بقوة مع القيم الإسلامية. وهكذا فإن الروح القديمة للبربر، هي ذات الروح القديمة لفلاحينا الإفرنسيين. إن حبهم للأرض هو الذي يوجه فضائلهم الحربية. لقد حرث - المسلمون - في المخزن كمن يحرث في البحر، وكان الموج دائما يعمل من ورائهم على إزالة ما يتم بناؤه على الرمال). وحتى يسهل على الاستعماريين الإفرنسيين إدارة هذه القبائل والهيمنة عليها، فقد حاولوا النفخ في بوق (ديموقراطية الشعب) لخلق خصائص مميزة بين قبائل المخزن وبين بقية مواطني الجزائر، وهو ما تبرزه المقولة التالية: (تظهر الديمرقراطية هنا - في الأطلس الأوسط - بكل أبعادها، فالشعب وحده هو القائد والشعب وحده هو الذي يتكلم، والشعب وحده هو الذي يغني). وحتى يفصل الاستعماريون بين رجال القبائل وبين الدين الإسلامي، فقد زعموا مرة أن أصول هؤلاء آرية، وزعموا مرة أخرى، أنهم من أصل روماني، وفي مرة ثالثة زعموا أنهم من أصل يهودي، وفقا لما تتضمنه المقولة التالية: (انحدر بربر الأطلس الأوسط من اليهود، ثم انتقلوا إلى الإسلام). وفي إطار هذه الحرب الصليبية، طرحت مقولات، ونظريات، لا نهاية لها، تصورها المقولة التالية: (عداء البربر للشريعة القرآنية - الإسلامية - هو عداء ثابت، ويعتبر مميزا للعرق

البربري؛ البعيد عن الإسلام أو المعادي له، فالبربر جميعا لا يقبلون شريعة لهم إلا شريعة عاداتهم الوطنية، حتى أنه بالإمكان القول بأن البربر لا يخضعون للشرع إلا بقدر ما نخضعهم له بالقوة من أجل مساواتهم ببقية المسلمين ... إن القانون الذي يحكم البربر هو قانون العرف، الذي ينسجم في كثير من الأحيان مع قوانيننا الإفرنسية بأكثر مما ينسجم مع القوانين الإسلامية. وإن من مصلحتنا جميعا استخدام عاداتهم المدنية من أجل إخضاعهم لسيطرتنا). لقد كانت السلطات الاستعمارية الإفرنسية تعرف تماما أن ما تطرحه من مقولات، وما تبذله من جهد في هذا المضمار، هو أمر يتناقض مع حقيقة الموقف في الجزائر المجاهدة، فبعد عقود من الجهد عبر سنوات الصراع الوحشي المرير، لإعادة تنظيم القضاء بهدف إضعاف الإسلام والمسلمين، ظهرت وثيقة في سنة 1930 تنص على ما يلي: (الإسلام بين هذه القبائل عميق الجذور جدا، وقد بقيت القبائل متعلقة بعاداتها المحلية في كل ما يتعلق بأمورها التي يحكمها القادة والشيوخ. وهم - أي رجال القبائل - يرجعون إلى القاضي للفصل في كل الأمور المتعلقة بأوضاعهم الشخصية). ولكن على الرغم من ذلك، فإن السلطات الاستعمارية لم تيأس من إمكانية إبعاد المسلمين عن قواعدهم الصلبة، لتكوين (مسلمي الهوية) (¬1) مركزين الجهد على القبائل البررية في الأوسط ¬

_ (¬1) مسلمو الهوية MUSULMANS D'ETIQUETTE.

الأطلسي (حيث تشكل القبائل في جبال جرجرة قلعة الاستقلال للناطقين باللغة البربرية. وحيث يمكن - أو يجب تحويل السكان في هذه المنطقة إلى فرنسيين لسانا وقلبا). وللوصول إلى هذا الهدف، عملت السلطات الإفرنسية على اختيار (قبائل الشلوح) (¬1) والزيانيين كأساس لتوحيد كتلة البربر وإعدادها لتكوين (جمهورية بربرية) تشمل القبائل البربرية في المغرب العربي الإسلامي، وللوصول إلى الهدف، أعطيت التوصيات إلى رجال الاستعمار الإفرنسي بالجزائر: (من أجل منع الحديث باللغة العربية في وسط البربر - وتعليمهم كل شيء ما عدا العربية والإسلام). وكان يتم إعداد الضباط الإفرنسيين والإداريين المدنيين - من الإفرنسيين أيضا - في دورات تعليمية لتطبيق سياسة مستقلة خاصة بالقبائل. وكان في جملة التوجيهات الثابتة التي يلقونها على مسامع هؤلاء، ولا يتعبون من تكرارها باستمرار، تلك التي تنص على ما يلي: (يجب العمل من أجل إيقاف توغل الإسلام عميقا في نفوس أولئك الذين يعتنقون الإسلام ظاهريا - مسلمي الهوية - وعدم السماح لأولئك البربر بالتعريب عن طريق الشرع الإسلامي. وحرمان القضاة من ممارسة دورهم، وصرفهم عن صلاة الجمعة، وعدم الاستهانة بتأثيرها في نفوس المسلمين، كل ذلك ¬

_ (¬1) قبائل الشلوح: KABYLE CHLEUHS.

مع دعم العادات الوطنية للبربر وبعثها. (فالسياسة الحقيقية للبربر تقوم على احترام عاداتهم وتنظيماتهم، وإحاطة هذه العادات والتنظيمات بإصلاحات نقوم بإدخالها إلى البلاد ... والعمل قدر المستطاع بسرية لتعزيز الفوارق اللغوية والدينية والاجتماعية بين العرب من سكان السهول والبربر من سكان الجبال. والحد من اتصال القبائل البربرية بالسكان العرب ومن ثم، الاعتماد على هؤلاء البربر، لتشكيلهم بمرونة من أجل قبول الحضارة الإفرنسية، وإغرائهم بالمساعدات المادية الزهيدة). لم تسقط الحملة الصليبية من حسابها إمكانات تحويل مسلمي البربر إلى النصرانية، إكمالا لمخطط (فرق تسد) وإمعانا في دعم قاعدة الاستعمار. فكان الدين هو أحد وسائل السياسة البربرية التي وضعت النشاط الكاثوليكي في مقدمة وسائلها من أجل استثمار التأثير الجيد للمسيحيين المخلصين والمتحمسين لدينهم، ومن أجل تغطية سوءات الاستعمار بحجاب الأعمال الخيرية (للإخوات البيض) وما تبذله البعثات الفرانسيسكانية من جهد تعليمي وخيري. هذا بالإضافة إلى ما تبذله الهيئة (الأفريقية - الإفرنسية) من جهد في هذا المضمار (¬1) وكانت التوجيهات المعمول بها هي: (يجب استخدام القسس الأفاضل، لا من أجل ¬

_ (¬1) بلغ عدد هذه المؤسسات الخيرية في الأول من تموز - يوليو - 1931 ما يلي: 1 - مستشفى، 1 مصح، 4 دور أيتام، 4 مستوصفات، 4 معامل لتشغيل الفتيات، 9 دور أطفال. وضمت الجمعيات النسائية 206 امرأة (السياسات الاستعمارية في المغرب - أغرون. ص 118).

الوعظ والإرشاد، بل من أجل الإيحاء بالثقة والصداقة واكتساب حب البربر. فالسياسة البربرية ذات أهمية كبرى، بالنسبة لفرنسا، ويجب دعم المدارس والإرساليات العلمانية لاكساب محبة البربر عن طريق إظهار الطيبة وإقامة العلاقات الجيدة، وتقديم الخدمات). ذهب بعض الكاثوليكيين إلى ما هو أبعد من ذلك: (فقد أرادوا إعادة البربر إلى الحظيرة المسيحية، بزعم إعادتهم إلى دين أجدادهم. وبزهم أنهم لا زالوا أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام، ومن المقولات التي طرحت في هذا المجال: (يمكن غزو البربر، لا بالسلاح، وإنما بالغزو المعنوي وسيكون الغزاة هم من رجال الإرساليات المسيحية - والمبشرين - الذين يتحدثون إلى هؤلاء - البربر - عن السيد المسيح، وعن تاريخ المسيحية الحافل بأسماء المنقذين، وبالكثير من الأشخاص الأسطوريين). ويظهر هدف المبشرين، وأعمال الإرساليات من خلال المقولة التالية: (لنفسح المجال أمام المسيحية حتى تمارس دورها في التأثير على نفوس البربر ... وسيساعد ذلك دونما ريب على عزل العرب بطريقة فعالة جدا، مما يؤدي بالتالي إلى إبعاد المسلمين عن طريقنا في أفريقيا الشمالية. وسيكون ذلك لمصلحة حضارتنا ولفائدة عرقنا - الآري-). فيما ذهبت مقولة استعمارية إلى المطالبة: (بإطلاق كامل الحرية لإرساليات - التبشيرية - في تحركها وعملها حتى تستطيع الاضطلاع بواجباتها) وكان من هذه

الواجبات: التبشير بفكرة شرب النبيذ والخمر الذي يثير في النفس البهجة والحبور حتى تحل المشروبات الروحية محل الشاي الأخضر والنعناع، وهي المشروبات التي كان البربر قد اعتادوا على شربها، واعتبار شرب النبيذ والخمر علامة مميزة لهؤلاء الذين سيعتنقون المسيحية. والاهتمام بتعليم الأطفال خاصة، ومضاعفة عدد المدرسين عن طريق الاستعانة بالبربر الذين يرتدون عن دينهم الإسلامي ويصبحون مسيحيين. هذا إلى جانب مضاعفة أعداد الكنائس في (المغرب الكاثوليكي) من أجل الوصول إلى إعادة الفتح المسيحي الجديد للمغرب. يظهر من خلال ذلك أن إصدار قانون (الظهير البربري الأول) في 11 أيلول - سبتمبر 1914 لم يكن إلا تتويجا لمجموعة من الجهود الكثيفة والمركزة والتي بدأت مع البدايات الأولى لاستعمار الجزائر، غير أن المقاومات والثورات المستمرة قد شكلت عقبات كؤود في وجه المخططات الاستعمارية. حتى إذا ما جاء ليوتي إلى الجزائر في سنة 1914، ظن أن الفرصة باتت مناسبة للانتقال من مرحلة العمل السري - أو المتحفظ - إلى مرحلة العمل العلني. وقد تم على أثر إصدار قانون الظهير البربري، تكوين (هيئة للدراسات والأبحاث البربرية) في 9 كانون الثاني - يناير 1915 .. وقد حددت مدينة (الرباط) مقرا لهذه الهيئة. وقد كشف تكوين هذه الهيئة وتنظيمها أنها لم تكن مجرد جهاز للأبحاث الاجتماعية. فقد تشكلت هذه الهيئة برئاسة الأمين العام للمحميات الإفرنسية. وضمت في عضويتها مدير شعبة الاستخبارات ورئيس المكتب السياسي لحاكم الجزائر (ليوتي)

وكان واجب هذه الهيئة هو إعداد المخططات التطبيقية في مجالي السياسة والإدارة. وتحديد القبائل التي تنطبق عليها مواصفات (القبائل البربرية). وقد دمجت هذه الهيئة فيما بعد (بالمدرسة العربية العليا) والتي كان قد تم تأسيسها في الرباط سنة 1914. وأسندت إدارتها إلى (بربري) تم إعداده وتبنيه من قبل وتثقيفه للاضطلاع بهذه المهمة. وكان برنامج هذه المدرسة يتضمن إلقاء محاضرات وإعداد دورات لتطوير اللغة البربرية التي يسخدمها صغار الضباط والمترجمين، وتحولت المدرسة بسرعة إلى زمرة نشطة تحتل المرتبة الأولى في التخطيط لبرامج (البربر). لقد قيل عن الجنرال ليوتي - الحاكم العام للجزائر - عندما أعلن قانون (الظهير البربري) بأنه - أي ليوتي - يمارس سياسة ملونة ومضادة للبربر، وأنه يعمل مخلصا لقضية بناء المغرب الواحد - والموحد - وأنه أيضا يتخذ موقفا براغماتيا - ذرائعيا - بحيث أنه لا يضع حلا واحدا لأي مشكلة، وإنما لديه دائما مجموعة من الحلول. وقد وجد دونما ريب أن السياسة الإفرنسية التي كانت مطبقة قد أخطأت في تقديرها عندما بالغت في قضية (تكوين كتلة البربر) ومن أجل ذلك فإنه أخذ في وضع صيغ مختلفة مع تنويع في الأساليب المستخدمة حتى يصبح بالإمكان التكيف مع الظروف والمواقف المعقدة جدا في المغرب العربي - الإسلامي. غير أنه من المعروف عن (ليوتي) أيضا بأنه هو الذي أرغم الضباط على

دراسة العلاقات الجدلية مع البربر. كما عمل - من الناحية الإدارية - على بعث المجالس البربرية. وظهرت أهداف سياسته بوضوح في رسالته إلى حكومة (باريس) يوم 6 تموز - يوليو 1915. وفيها: (أعتقد بأنه يجب علينا بعث العادات والمؤسات البربرية، ومنها الجمعة على سبيل المثال، ذلك لأن خصوصية الخيال تشكل أفضل وسيلة لإبراز التناقض أو التضاد مع الإسلام) وهناك أيضا التعميم الذي أصدره (ليوتي) ردا على رسالة أحد ضباط الاستخبارات، بشأن أحد الطلاب العرب الذي دخل المدرسة واستمر في ممارسة عبادته - الصلاة - فكان في تعميم ليوتي ما يلي: (هنا يجب أن تسير السياسة البربرية في الاتجاه المضاد، وعلينا تجنب تعليم اللغة العربية للسكان، والتي تربطهم بماضيهم دائما. إن العروبة هي عامل من عوامل انتشار الإسلام ذلك لأن اللغة العربية هي اللغة التي يعلمها القرآن. وتفرض علينا مصلحتنا تطوير البربر بعيدا عن إطار الإسلام. وعلينا من الناحية اللغوية نقل البربر مباشرة إلى الإفرنسية، ومن أجل ذلك فإننا في حاجة لمدرسين من البربر، كما يجب فتح مدارس فرنسية - بربرية يتم فيها تعليم الإفرنسية إلى أطفال البربر. وعلينا بعد ذلك التدخل بحذر على مستوى المخططات الدينية. فالإسلام غير مستقر في وسط البربر. وقد علمت من هؤلاء الذين احتفظوا باستقلالهم، أن فهمهم للإسلام لا زال سطحيا، وأن هؤلاء البربر قد رفضوا كافة الأحكام التشريعية - القضائية -

واعتمدوا على العرف والعادة. وعلى كافة ضباطنا استيعاب هذه المبادىء: وعليهم أن يتجنبوا بصورة خاصة التعرض لذكر الإسلام أمام السكان البربر). وعلى هذا الأساس، تم وضع مخطط شامل يتضمن إقامة (مدرسة فرنسية - بربرية) و (تنظيم قضاء مدني بربري) و (تطوير الظهير البربري ودعمه بظهير جديد - أعلن في سنة 1930). لقد نص قانون الظهير البربري: (على ضرورة تشكيل مدارس إفرنسية - بربرية، يكون فيها المعلم هو فاتح منطقة القبائل). وواجب هذه المدارس هو: (إسهام المدرسة البربرية في المحافظة على تقاليد البربر ومؤسساتهم. ومعارضة تأثير المدارس القرآنية - الإسلامية، وتوجيه البربر نحو فرنسا) بحيث يصبح من الطبيعي، ومن المتوقع، أن يظهر بين البربر من يقول بعد زمن ليس ببعيد: (بأن أجدادنا هم المغول - أجداد الإفرنسيين). ويتم في هذه المدارس تعليم القراءة والكتابة، باللغة البربرية وبالأحرف اللاتينية، ثم الانتقال إلى التعليم باللغة الإفرنسية للقراءة والكتابة والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والصحة، واستبعاد تعليم اللغة البربية والقرآن وعلوم الدين، مع إجراء توجيه نحو الحياة العملية وخاصة الزراعة، والإفابة من حدائق المدارس لهذه الغاية. وتبقى اللغة الإفرنسية هي أساس التعليم كله في المدارس البربرية. وتنفيذا لهذا المخطط، تم في بداية شهر تشرين الأول - أكتوبر -1923، فتح (6) مدارس ابتدائية في (عيط سفوشن) ومدرستين في زيان، وبعد خمسة أشهر تم فتح (7) مدارس ضمت (200)

طالب. وكانت كل مدرسة تضم على الأقل معلما واحدا مسيحيا من القبائل. وفي تشرين الأول - أكتوبر سنة 1924 عملت هيئة الدراسات العليا للمغرب، على تكليف المدرسين بإعداد برامج للبربر تعتمد على عادات البربر وتقاليدهم. واختيار مدرسين من القبائل لضمهم إلى صفوف جهاز التعليم. ومن أجل تجنب كل خطأ في هذه البدايات، فقد تم إعلام هؤلاء المدرسين (بأن هذه المدارس ليست مجرد مراكز تربوية وإنما هي تنظيمات سياسية وأجهزة دعائية. وعلى هذا يجب على المدرسين اعتبار أنفسهم عملاء ومتعاونين مع قادة المراكز. وعلى المدرسين الرجوع إلى هؤلاء القادة في كل مناسبة لتلقي توجيهاتهم). استمر العمل في السنوات التالية لتكوين المزيد من المدارس في كل حدود منطقة (الأطلس الأوسط)، فبلغ عدد المدارس في بداية سنة 1927 ست عشرة مدرسة فرنسية - بربرية ضمت (600) طالب. وبلغ عدد هذه المدارس في بداية سنة 1930 - ثلاثين مدرسة ضمت (700) طالب وحققت هذه المدارس التي أطلق عليها المسلمون اسم (مدارس الروم) ما أرادته السلطات الإفرنسية من إنشائها. ولم يعد (للمدرس الفقيه) دوره في التعليم وتدريس القرآن. وانتصر دوره في المسجد على تولي الدفاع ضد هذا الهجوم الشامل. وقد زعمت السلطات الاستعمارية بأن الضباط والطلاب البربر - المتخرجين من هذه المدارس، قد أكدوا أنهم متفوقون عقليا على أمثالهم من طلاب المدارس العربية الريفية.

وظهر خلال هذه الفترة للسلطات الإفرنسية أن هناك حاجة لتكوين مدرسة عليا من أجل إعداد المدرسين حتى تصبح هذه المدارس (خالصة للبربر ويضطلع بها البربر ذاتهم) وحتى يتم (عزل الجيل وحمايته من كل تأثير عربي أو إسلامي) وقد تم تنظيم هذه المدرسة وإنشاؤها في (عزرو) في شهر تشرين الأول - أكتوبر 1927. وكان الحاكم العام للجزائر - الجنرال ليوتي - قد حدد منذ يوم 25 كانون الثاني - يناير 1924 أهداف هذه السياسة في رسالة له تضمنت ما يلي: ويجب المحافظة بحزم وثبات على الفوارق القائمة بين سكان بلاد المخزن من العرب، وبين سكان الجبال البربر والذين يجهلون العربية. وأعتقد أنه يجب الإشارة إلى تلك الأهمية التي أعلقها على هذه القضية التي ترتبط بعملنا السياسي والتي تعتبر نتيجة مباشرة من نتائح التهدئة المستمرة للبلاد ذات العادات البربرية). وتبقى الظاهرة الأكثر خطورة في (قانون الظهير البربري) هي ظاهرة إبعاد البربر عن القضاء الإسلامي (قضاء الشرع) وإخضاعهم لحكم (المحكمين). وكانت السلطات الإفرنسية قد أقامت منذ سنة 1857 في منطقة القبائل الكبرى ما أطلقت عليه اسم (الجمعة القضائية) واقتصر عملها في البداية على منطقة (القلعة الوطنية) وفقا لمرسوم 29 آب - أغسطس 1874. وفي 25 آب - أغسطس - 1880 كلف هذا المركز بإعداد النصوص القانونية للحكم والقضاء بما يتوافق مع القانون الإفرنسي. وقد تم تطوير

(الجمعة القضائية) فأصبحت تضم كل السلطات الإدارية والسياسية في المنطقة (الدوار) بالإضافة إلى الصلاحيات القضائية .. ومع صدور قانون الظهير البربري، تم في 22 أيلول - سبتمبر - 1915 إعادة تنظيم (الجمعة القضائية) فتقرر اعتماد اللغة الإفرنسية، وبدأ البحث في (مكتب دراسات القضايا البربرية - في مكناس) لإعداد النصوص القانونية التي تساعد (القضاة - المحكمين) على أداء عملهم. واستمر العمل حتى 8 آذار - مارس 1924 حيث صدر الأمر (بتسجيل العرف) الذي يتم الاعتماد عليه في القبائل الكبرى، مع الأخذ بعين الإعتبار عادات البربر وتقاليدهم. وكان الحكام الإفرنسيون هم الذين يشرفون على مجالس (الجمعة القضائية). وحددت صلاحيات المحكمين - من القادة - بالمخالفات والجنح التي تبلغ عقوبتها السجن لمدة سنة، والغرامة بمبلغ ألف فرنك فرنسي. وحتى السنتين والغرامة بألفي فرنك إذا ما اشترك في المحاكمة ممثل عن الحكومة الإفرنسية. أما بقية الجرائم، فتقدم إلى (المجلس القبلي الأعلى) الذي يصدر بدوره أحكامه استنادا إلى التقاليد والعرف. وقد ظهر من خلال الممارسة العملية أن هناك تناقضا وتضادا في إصدار الأحكام، لا بين (أحكام الشرع الإسلامي) و (أحكام الجمعة القضائية) فحسب، وإنما أيضا بين الأحكام الصادرة في كل (جمعة قضائية) بسبب اختلاف (الأعراف والتقاليد والاجتهادات) ما بين جمعة وأخرى، غير أن السلطات الإفرنسية لم تجد في ذلك ما يثير

الاهتمام، وهو ما عبرت عنه المقولة التالية: (ليس هناك أي خطر - أو محذور - في تحطيم وحدة التنظيم القضائي ضمن منطقة الحكم الإفرنسي، طالما أن الأمر يتعلق بدعم العنصر البربري. وطالما أن الأمر يتعلق بإيجاد ثقل معاكس يمكن له ممارسة دوره - ضد المسلمين - ولعل تحطيم المرآة الواحدة هو - من الناحية السياسية أمر مفيد جدا). وهكذا تم تعميم الجمعة القضائية. فبلغ عدد محاكمها في الأول من كانون الثاني - يناير - 1929 ما يقارب (72) جمعة، ووصل عددها في سنة 1930 إلى (80) جمعة. وامتد حكمها ليشمل ثلث المناطق الإسلامية في المغرب العربي - الإسلامي، وبقيت (14) قبيلة أو بطنا وفخذا من القبائل والبطون والأفخاذ المصنفة، على أنها (بربرية) وعددها الإجمالي (84) قبيلة، غير خاضعة لأحكام (الجمعة القضائية). وكانت هذه النتيجة كافية لإقناع السلطات الإفرنسية بنجاحها في إمكان دعم الظهير البربري بظهير جديد (في سنة 1930) تمهيدا لإحلال الحكام والقضاة الإفرنسيين، وتطبيق القانون المدني الإفرنسي. تلك هي بعض ملامح ما أطلق عليه اسم (الظهير البربري) (¬1) وليس المجال هنا هو مجال تقويم نتائج هذا (الظهير) أو التعرض لما جابهه من مقاومة الإسلام والمسلمين من عرب وبربر على حد ¬

_ (¬1) REF: POLITIQUE COLONIALES AU MAGHREB (CHARLES ROBERT AGERON) 1972. p.p. 109 - 148.

سواء، مما سيتم التعرض له في أبحاث قادمة. غير أنه من المهم هنا الإشارة إلى ما يتعرض له العالم العربي - الإسلامي من حملات معاصرة مختلفة في أساليبها وطرائقها، غير أنها تنطبق في أهدافها مع ما سبق عرضه.

الثورة الجزائرية (1897 - 1899) ومواقف الاشتراكيين

4 - الثورة الجزائرية (1897 - 1899) ومواقف الاشتراكيين باتت المواقف العقائدية - المبدئية - للاشتراكيين تجاه الاستعمار والامبريالية معروفة تماما. غير أن هذه المواقف، ليست كذلك تجاه العمل السياسي للاشتراكيين في تعاملهم مع القضية الجزائرية. وفي الحقيقة، فإنه لم يكن للاشتراكيين الإفرنسيين مواقف واضحة وموحدة، مع الاستعمار أو ضده، وعلى هذا، فإنه بالإمكان اعتبار (جوريس) (¬1) و (بلوم) ومدرستهما الاشتراكية نموذجا لما كانت عليه مواقف الاشتراكيين الإفرنسيين من القضية الجزائرية. ¬

_ (¬1) جوريس - جان (JAURES JEAN) رجل سياسي فرنسي. من موايد كاستر CASTRES (1859 - 1914) اشتهر ببلاغته في الخطابة وقوى حجته. وهو واحد من أبرز الزعماء الاشتراكيين الإفرنسيين، أسس جريدة أومانيتيه L'HUMANITE كما أسس الحزب الاشتراكي الموحد. مارس دورا كبيرا في إضراب مقاطعة كرامو CRAMAUX وفي قضية اليهودي دريفوس DREYFUS وقد اعتبر ممثلا للاشتراكية والفكر الاشتراكي ورائدا من رواده لا في فرنسا وحدها وإنما على المستوى العالمي. وقد قتل غيلة غشية يوم اندلاع الحرب العالمية الأولى.

كتب (جوريس) بأن أول معرفة له بالقضية الجزائرية، قد جاءته عن طريق (محاسب معهد كاستر) حيث كان (جوريس) في سنته الدراسية الثالثة عشرة. وإن هذا المحاسب ذكر له بأنه أمر حاجبه بمساعدته من أجل ضرب عامل الحديقة ضربا مبرحا. وذلك عندما كان يعمل في الجزائر، لأن عامل الحديقة العربي تجرأ على استخدام (المرحاض) الخاص ببيت المحاسب فشعر الشاب اليهودي جوريس (بالهوة التي انحدرت إليها عبودية الإنسان) وكتب عن ذلك ما يلي: (شعرت بالشفقة الكبيرة تجاه هذا العرق العربي، الذي يعمل الجنود والقسس على تجريده وسلبه كل حقوقه. وتخيلت هذا الرجل وقد جلس يحكي لأطفاله، بكل هدوء، تلك الأعمال البشعة والمجردة من الشجاعة. ولا ريب أن العادة المستمرة في ممارسة الضغط غير المسؤول قد جرد هؤلاء الناس من ضمائرهم). تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة (الشفقة على مخلوقات المستعمرات - من العرب المسلمين خاصة) كانت في تلك الفترة هي البدعة السائدة - المودة - في وسط دهاقنة الاستعمار. فتولى الجمهوريون الإفرنسيون، قضية الدفاع عن حقوق مواطني المستعمرات. وعمل (بول بيرت) وزير التعليم الإفرنسي، على تشكيل (جمعية حماية الجزائريين) في سنة 1883، وكذلك عمل الاقتصادي (ليوري - بوليو) صاحب نظرية التوسع الاستعماري والذي ترأس (الجمعية الإفرنسية لحماية أبناء البلاد الجزائريين). ومن المعروف أن (ظاهرة الشفقة) هذه كانت مرتبطة تاريخيا بعملية النهب الاستعماري، واستغلال اليد العاملة في المستعمرات.

المهم في الأمر، وبصرف النظر عن تلك البدايات لذكريات (جوريس)، فإن اهتمامه بالقضية الجزائرية لم يظهر واضحا قبل رحلته إلى الجزائر في (نيسان - أبريل - 1890) ويذكر عنه أنه أثار أمام التحالف الإفرنسي في سنة 1884: (ضرورة نشر اللغة الإفرنسية في المستعمرات، وبصورة خاصة بين العرب والقبائل، وذلك لمساعدة المستعمرين الإفرنسيين في مهمتهم الصعبة لإنجاح عملية الدمج والغزو المعنوي). وكان من رأيه في عملية الدمج: (بأنه ليس هناك في الجزائر حاليا إلا جمع من الناس المغلوبين على أمرهم ومائة ألف من المنتصرين. وليس هناك ما يمكن أن يطلق عليه اسم (شعب حقيقي) إلى جانب (الشعب الإفرنسي) وهذا ما يتطلب تعميم اللغة الإفرنسية). وكان الشاب (جوريس) في تلك الفترة، مرشحا للبرلمان على لائحة (الاتحاد الجمهوري) في سنة 1885. ولهذا لم يكن من الغريب أن يظهر تعلقه بسياسة التوسع الاستعماري للجمهوريين، وكان قوله المعروف في ذلك: (لقد أضاعت علينا الإمبراطورية إقليمين ومنحتنا الجمهورية مستعمرتين) والمقصود بالإقليمين: الألزاس واللورين اللذين فقدتهما فرنسا بنتيجة حربها مع بروسيا سنة 1870 وانهارت على أثرها إمبراطورية نابوليون الثالث، أما المقصود بالمستعمرتين فهما: المغرب العربي الإسلامي والمكسيك. في الوقت ذاته، لم يحاول (جوريس) التستر أو إخفاء إعجابه بالاستعماري (جوليوس فيري) الرجل الذي استطاع خلال ثلاث

سنوات: (نقل مركز ثقل فرنسا إلى بلاد بعيدة فيما وراء البحار). وفي سنة 1887 (استنفر كل إمكاناته لإثارة حماسة الجنود وفخر المواطنين بانتصارهم على القبائل، واحتفل بأبطال هذه المعارك الرائعة). ولم يعرف عن (جوريس) أنه أظهر اهتماما بتلك المناقشات البرلمانية بشأن القضية الجزائرية، لا بصفته نائبا في مجلس النواب، ولا بصفته صحافيا، ولا حتى بصفته ممثلا لليسار. مع العلم أن تلك المناقشات التي احتدمت في سنة 1892، قد استأثرت باهتمام الجميع. لم يعد (جوريس، نائبا عن الجمهوريين في سنة 1893، وإنما أصبح ممثلا للاشتراكيين. وبصفته هذه ذهب إلى الجزائر - لاكتشافها والتعرف عليها - في نيسان - أبريل 1895. وفي الجزائر، اشترك جوريس (بالمؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي العمالي الجزائري،،ولم يعرف عن (جوريس) أنه تحدث في هذا المؤتمر، أو تعرض لأي موقف من المواقف. وما إن مضى شهر على مغادرة (جوريس) للجزائر، حتى فرضت السلطالت الإفرنسية الحصار على (65) عضوا من أعضاء المؤتمر في ضاحية (مصطفى) - حاليا حي الجزائر - خلال أيام 22 و23 و24 حزيران - يونيوا - ولم يحرك (جوريس) ساكنا حول هذه القضية. وعبر (جوريس) عن مشاعره تجاه (المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي العمالي الجزائري) بقوله: (من المعتقد بأن الجزائر المستعمرة تسير في طريقها نحو الاستقلال الإداري، وستعلن بحزم أنها ضد اليهود). كما أعلن عند مغادرته للجزائر: (بأنه من الصعب القيام بعمل له أهميته بشأن الجزائر).

يمكن هنا التوقف قليلا عند مقولة (ضد اليهود) وهي التي سبقت مقولة (ضد السامية) في الجزائر. ويتطلب ذلك العودة إلى ردود فعل المهاجرين اللاتين تجاه اليهود، والذين هاجروا للاستيطان في الجزائر حاملين معهم أفكارهم ومعتقداتهم المضادة لليهود. ومعروف أن اللاتين يحملون حقدا ضد اليهود (قتلة السيد المسيح - بحسب اعتقادهم). وقد بقي هذا الاعتقاد قويا في وسط الإسبانيين الذين استوطنوا في (وهران) والمالطيين والإيطاليين الذين استقروا على ساحل قسنطينة وفي (الجروة). وعندما صدر (قانون كريميو) - بمنح الجنسية الإفرنسية لليهود - أفاد هؤلاء الكاثوليك منه لإثارة الأحقاد في أوساط المواطنين الجزائريين المسلمين، والتظاهر في الوقت ذاته بالأسف لاضطرارهم لمحاباة اليهود الذين أصبحت لكتلة أصواتهم الانتخابية ثقلها في التحكم بانتخاب نوابهم. وأصبحت الحركة المضادة لليهودية في الجزائر، منذ ذلك الحين، قاعدة في لعبة الانتخابات البرلمانية. تشكلت أول (جمعية ضد اليهود) في الجزائر، غداة انتخابات تموز - يوليو - 1871. وقام أفراد المعسكر الذي فشل في الانتخابات بتوجيه اتهاماتهم لليهود، كما أدانوا قانون كريميو الذي تسبب في إثارة القبائل الكبرى التي احتضنت ثورة المقراني والحداد (سنة 1871). واستخلص الجمهوريون (الانتهازيون) النتيجة من ذلك، فقرروا استثمار القوة الانتخابية لليهود، وأخذوا في إجراء الاتصالات مع سماسرة اليهود الذين تعهدوا لهم بضمان النجاح في الانتخابات بصورة مستمرة. وذهب اليهودي الشهير

(سمعون كانوي) (¬1) إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد أعطى اسمه لجهازه (الكانوي) الذي ضمن النجاح في الانتخابات (اللحزب الجزائري) طوال عشرين عاما، وهو الحزب الذي كان من أبرز نوابه المعروفين (برتانيا وطوسون) (¬2). وأمام هذا الموقف، قرر اليسار الراديكالي - المتطرف - والذي كان محروما من السلطة، استخدام ورقة (الحركة المضادة لليهود) كبوق انتخابي، ولم يلبث أن أطلق على (الحزب الإفرنسي) صفة (الحزب المناضل ضد الحزب اليهودي). وعندما خاض اليساريون الجزائريون الانتخابات البلدية، انبرى الحزب اليهودي لمحاربتهم فأطلق عليهم ألقاب (الانتهازيين الجزائريين) و (نقابة الانتهازيين)، وأمكن لهم دونما كبير عناء الانتصار على اليساريين الجزائريين. وعمل هؤلاء على إثارة الفضائح المتعلقة بتزوير الانتخابات، وأضعفت هذه الفضائح من قوة (الحزب اليهودي) غير أنها لم تزحزحه عن مواقعه. وأمام هذا الموقف، قرر الحاكم العام للجزائر (تنظيف إسطبلات أوغياس) (¬3) ولم يتردد في إفساح ¬

_ (¬1) سمعون كانوي: SIMON KANOUI. (¬2) برتانيا وطومسون: BERTAGNA ET THOMSON. (¬3) تنظيف إسطبلات أوغياس (NETTOYER LES ECURIES D'AUGIAS) تعبير ورد في أسطورة أوغياس (AUGIAS) ملك الأياذة: ELIDE، والذي كانت إسطبلاته تضم ثلاثة آلاف ثور. وقد تركت هذه الإسطبلات بدون تنظيف طول ثلاثين عما. وقد قام ملك مسينا: MYCENE (الملك أوريشينية EURYSTHENE) بإرسال هرقل (لتنظيف إسطبلات أوغايس) الذي عمل على تحويل نهر ألفيه: ALPHEE لتنظيف الإسطبلات بعمل تمير بالبطولة: وأصبح =

المجال أمام المواطنين الجزائريين المقربين من السلطة، ودعم الراديكاليين المعادين لليهود بصورة سرية. وهكذا ظهرت في انتخابات سنة 1895، البيانات الانتخابية التي تصف اليهود - بالأجانب والغرباء -. ومنذ ذلك الحين تعاظم نفوذ الراديكاليين اليساريين المدعومين من قبل الإدارة الحكومية. وتبع ذلك اقتراب الحزب الإفرنسي من السلطة، مستفيدا في ذلك من الاستثمارات المالية الضخمة التي كانت تجنيها فرنسا من الجزائر. لم تكن الظروف السياسية هي التي صنعت كل شيء على كل حال، فلقد انفجرت المشاعر المضادة لليهود اعتبارا من سنة 1895، وكان ذلك بعد الأزمة الاقتصادية الحادة (1893 - 1894) والتي عرفت باسم (أزمة الخمور). وكان باستطاعة المصارف مجابهة هذه الأزمة بسهولة عن طريق تقديم (السلف) للمزارعين الأوروبيين. غير أن المصارف (البنوك) امتنت عن تقديم مثل هذه السلف، بحجة الضغط الكبير الذي تتعرض له والذي يفوق قدرتها. ولم يبق أمام المستوطنين (المعمرين) إلا اللجوء للمرابين من اليهود (مستثمري البؤس والشقاء)؛ وأدى ذلك إلى تعاظم النقمة ضد اليهود، مما أدى إلى انتشار أرجوزة مضادة لهؤلاء المرابين التاريخيين تقول:

_ = اصطلاح (تنظيف اسطبلات أوغياس) رمزا لما تقوم به قيادات الدول والأحزاب والتنظيمات لتطهير أجهزتها من الفساد، وإعادة تنظيم أمورها الداخلية على أسس سليمة .

عشنا طويلا في بؤس وشقاء وعلينا اليوم طرد الغرباء فلنبعد ولنطرد هؤلاء الغرباء عصابة اليهود القذرة وعلى الرغم من كل الظواهر، فقد تبين بوضوح بأنه لم يبق إلا خطوة واحدة للانتقال من الحركة (المضادة لليهود) إلى (الاسقلال الإداري). وقد أدان (جوليوس فيري) و (جوليوس كامبون) (¬1) بصورة رسمية، سياسة الدمج التي عرفت منذ سنة 1881 بسياسة (إلحاق الجزائر بفرسا). وكانت سياسة الدمج أو الإلحاق هذه هي سياسة (الانتهازيين واليهود) كما وصفها اليساريون الراديكاليون، ومقابل ذلك تبنى هؤلاء سياسة الاستقلال الإداري للجزائر، وإقامة موازنة خاصة وبرلمان خاص لها. ولقد كان هذا الاتجاه تعبيرا عن ظهور الجيل الجديد من الإفرنسيين الاستعماريين، وهو الجيل الذي أخذ في الجنوح إلى الاستقلال بالجزائر، والذي رفع شعار (الجزائر الحرة). وكان الاعتقاد الأشد في وسط هذا الجيل هو: ضرورة صهر العروق الأوروبية فوق أرض الجزائر لتكوين شعب جديد - وظهر عدد من ¬

_ (¬1) جوليوس كابون: (JULES CAMBON) ديبلوماسي إفرنسي؛ من مواليد باريس (1845 - 1935) أصبح حاكما عاما على الجزائر، ثم سفيرا لبلاده في برلين من سنة 1907 إلى سنة 1914.

الكتاب والزعماء الذين عبروا عن هذا الاتجاه، لعل من أبرزهم (دانييل سوران) (¬1) الذي كان من رأيه: (الجزائر غير فرنسا، ولو أن الجزائريين فرنسيون. فغدا أو بعد غد، ستكون الجزائر مستقلة. إن فرنسا ترزح على صدورنا دونما شفقة أو رحمة، وهي بذلك تدفعنا لسوء الحظ نحو المخرج المرعب، وسيأتي يوم لن تكون الجزائر هي فرنسا، هذا إذا لم تصبح عدوة لها). ولماذا لا يستقل الإفرنسيون المهاجرون إلى الجزائر؟ ألم يحصل الإنكليز الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة - على الاستقلال، وحاربوا الإنكليز ذاتهم بقيادة جورج واشنطن؟ وعلى هذا، فعندما عقد المؤتمر الاشتراكي الثالث، بحضور (جورس) سنة 1895. تحدث الخطباء كثيرا عن اليهود، وهاجموهم بعنف، غير أن المؤتمر لم يتخذ توصيات محددة ¬

_ (¬1) دانييل سوران: (DANIEL SAURIN) محام وصحفي، بدأ حياته فوضويا وكتب نشرة بعنوان (النظام عن طريق الفوضى) ثم انتهى إلى الإشتراكية. وأصبح في سنة 1898 رئيسا لهيئة (سانت فانسان دوبول)، وزعيما للحركة المضادة للسامية، ثم منظما أساسيا في حركة الإشتراكيين الجزائريين. وهي الحركة التي ولدت في الجزائر في وسط الظروف الاقتصادية الصعبة. وكان ينكر على اليهود (اختلاساتهم واستخدامهم لرأس المال كوسيلة للضغط) غير أنه كان مضادا للسامية بقدر معادل لمعاداته للرأسمالية. وهو الذي نظم المؤتمر الاشتراكي الأول في قسنطينة سنة ثم 1881، ثم المؤتمر الاشتراكي الثاني في بونة. - عنابة - سنة 1893 وبعد ذلك المؤتمر الاشتراكي الثالث سنة 1895 في الجزائر.

وواضحة ضدهم. وتركز الحوار حول الاستقلال الإداري للمستعمرين، وإجراء تشريع يناسبهم. ومما قيل في هذا المجال: (يجب إعداد القوانين هنا في الجزائر، حيث بإمكاننا الإسهام بدعمها على الأقل، بدون انتظار طويل أو بذل عناء كبير، و (تقضي الضرورة بوضع تشريع يستجيب لحاجات المستعمرين - المستوطنين). ولم يمارس (جوريس) في المؤتمر دورا كبيرا، باستثاء بعض الملاحظات والتوجيهات والتوصيات التنظيمية والإدارية. أما الحوار حول العلاقة مع أبناء البلاد الأصليين - العرب المسلمين - فلم يتعرض له أعضاء المؤتمر إلا من ناحية متطلبات أمن الأوروبيين، ومما قيل بهذا الشأن: (إن الاستجابة لما يرضي - العرب المسلمين - في حدود الشرعية، ستسهم يقينا في إزالة القسم الأكبر من ظواهر العنف القائمة يين الاستعماريين والمواطنين - انديجين). كان ذلك هو موقف الإفرنسيين - الجزائريين - الاشتراكيين في مؤتمرهم سنة 1895. وخرج (جوريس) من المؤتمر بنتيجة واحدة وهي: (أن العرب والمستعمرين متفقون في نقطة واحدة على الأقل - وهي عداءهم لليهود). وأمام هذا الموقف كتب مقالا جاء فيه: (ما هو التطور الدقيق للممتلكات العربية؟ وما هو العدد الأقصى للعائلات العربية التي انتزع اليهود بمهارتهم ملكيتها؟ ثم ما هي حركة أو معدلات الرواتب بين العرب والأوروبيين؟ ثم ما هي سبل الأوروبيينس والعرب واليهود في مختلف الفروع الإدارية

ومختلف المؤسسات القائمة في الجزائر؟). وطرح (جوريس) قضية تعليم العرب، فأجابه المستوطنون بأنه لا فائدة ترجى من تعليم العرب الذين يشكلون خطرا في عدائهم للأوروبيين. وعندئذ قال لهم جوريس بحزم: (ألم يحتفظ العرب بمؤهلاتهم الفكرية وقيمهم الأخلاقية؟ أليست لديهم القدرة على سبيل المثال، لإدراك معطيات الأعمال الجيدة، والأخوة الإنسانية والشجاعة والإخلاص والعرفان بالجميل، وهي القيم التي لم تزدهر في التاريخ بمثل ما ازدهرت في التاريخ العربي؟ وبالاختصار، هل توقف عرب الجزائر عن ممارسة دورهم في التاريخ، وأصبحوا يعيشون على هامشه؟). وحمل (جوريس) على فكرة انفصال الجزائر عن الوطن الإفرنسي، بزعم أنه من المحال فصل السياسة الجزائرية، عن السياسة العامة للاشتراكية الإفرنسية في العالم. وأعلن عن اعتقاده بإمكانات قيام اليهود بدور الوساطة - المصالحة بين الأوروبيين والعرب في الجزائر. وحدد لاشتراكيي الجزائر - الإفرنسيين - دورا مزدوجا: طرد الانتهازيين من اليهود وإبعادهم عن السلطة، وتنسيق جهودهم مع الاشتراكيين الإفرنسيين، والاهتمام كذلك بالعرب - على اعتبار أنهم كتلة من البروليتاريا الفقيرة والمحرومة والتي تعيش أقسى درجات البؤس. لقد حدد (جوريس) دور الاشتراكية في عالم الاستعمار بقوله: (لا ينتظر التيار الإنساني منا إيقافه من أجل تصفية شوائبه. وكل ما يجب على الاشتراكيين عمله، هو أخذ المبادأة لتقديم مقترحات إنسانية أو تقديم الاحتجاجات الضرورية، سواء كان الأمر يتعلق

بالهندوس الذين يستعمرهم الإنكليز أو العرب الذين يستعمرهم الإفرنسيون). استمرت بعد ذلك أعمال التحريض ضد اليهود في الجزائر، جنبا إلى جنب مع نشاط الجيل الإفرنسي الجديد العامل على الاستقلال الإداري. وأمكن بذلك خلق مناخ مثير ساعد على تشكيل موقف درامي، تفجر عن اضطرابات مثيرة في شهر أيار - مايو 1897، حيث دمرت المخازن والمتاجر اليهودية، وقام الأوروبيون بانتهاك حرمة المعابد اليهودية، كما هاجموا العمال العرب في معتقلاتهم، وأشعلوا النيران التي امتدت ألسنة لهيبها لتحرق الجزائر كلها. وامتدت الاضطرابات من مستغانم إلى أنكرمان ثم إلى عين تيموشنت ووصلت إلى وهران ثم إلى الجروة فالجزائر. ووقف رجال الشرطة موقف المتفرج، ولم يحاولوا مجابهة مثيري الاضطراب أو التعرض لهم. كما قامت البلديات بإبعاد اليهود. وعندما استدعت السلطات الجيش للتدخل، أظهر الضباط رغبة في عدم التعرض لمثيري الاضطراب، نتيجة حقدهم ضد اليهود، وتأثرهم بالخائن اليهودي دريفوس (الضابط الإفرنسي الذي خان فرنسا لمصلحة بروسيا) (¬1). ¬

_ (¬1) دريفوس - ألفريد: (DREYFUS ALFRED) ضابط فرنسي، يهودي، من مواليد مولهاوس: MULHOUSE (1859 - 1935). قام بالتجسس لمصلحة بروسيا، فأدانته المحكمة العسكرية في 22/ 12 / 1894 بتهمة الخيانة العظمى، وأرسل إلى (جزيرة الشيطان في غيانا الإفرنسية) حيث قضى خمسة أعوام. ومارس اليهود خلال ذلك نشاطا محموما حتى أعيد دريفوس إلى فرنسا وأعيدت محاكمته، فأدانته المحكمة من جديد، غير أن رئيس الجمهورية (لوبيه) أصدر مرسوما بإلغاء =

واسؤنفت الاضطرابات طوال الفترة من 19 حتى 25 كانون الثاني - يناير - 1898، وفي هذه المرة: (وخلال دقيقتين فقط، احترقت مخازن اليهود في شارع باب الواد. واقتلعت الأبواب والنوافذ وألقي بها وسط الشارع. وتطايرت البضائع في الفضاء. غير أن أحدا لم يسرق - أو ينهب - شيئا. ولم يشترك العرب في ذلك باستثناء بعض الأولاد). ولم تتوقف الاضطرابات إلا عندما تدخلت كتائب القناصة المسلمين، والتي قامت باعتقال خمسمائة من المتظاهرين. وكانت الظاهرة المثيرة في هذه (الحركة الشعبية الكبرى) اقترانها بطلب الاستقلال والعداء لليهود. واتخذ الاشتراكيون موقفا واضحا من (اللاسامية) ومن العداء لليهود، فكان موقفهم هذا ممثلا بالمقولة التالية: (ليسوا اشتراكيين أولئك الذين يناصبون اليهود العداء). لقد كان هدف (جوريس) ومدرسته الاشتراكية الإفرنسية، على ما يظهر بوضوح هو: 1 - إصلاح سوءات النظام الاستعماري لمصلحة فرنسا. 2 - إصلاح الإنحرافات اليهودية لمصلحة اليهود ذاتهم. 3 - تنفيذ مخطط دمج العرب المسلمين بالمجتمع الإفرنسي وهو ما تبرزه المقولات التالية: (لماذا لا يسمح للعرب بانتخاب عدد من ممثليهم الذين يتم

_ = تجريد (دريفوس) من رتبته، وتبرئته، وفي 12/ 7/ 1906 صدر الحكم ببراءة دريفوس وإلغاء كل الأحكام السابقة. مع منحه وسام جوقة الشرف وإعادته إلى الخدمة. وقد قسمت قضية دريفرس فرنسا إلى معسكرين متصاوعين، معسكر القوى اليمينية والدينية المتعصبة - ضد دريفوس - والقوى التقدمية والليبرالية مع اليهود مع قضية دريفوس .

استدعاؤهم للحضور إلى هنا بصورة دورية للمثول أمام مجلس الوزراء الإفرنسي من أجل مناقشة ميزانية الجزائر، ومن أجل طرح رغبات الشعب العربي وتطلعاته، وللاشتراك في المناقشات وفي الاقراع على القوانين التي تتعلق بالجزائر). - غير أن (جوريس) حدد أمام مجلس الوزراء شروط اختيار من يجب منحهم حتى تمثيل الجزائريين - من العرب - أو أن يقتصر هذا الحق على الموظفين والعسكريين المسلمين بالإضافة إلى أولئك الذين تخرجهم المدارس الإفرنسية، و (منح العرب المسلمين ضمانات المواطنين الإفرنسيين، حتى يعتادوا شيئا فشيئا على التنكر للضمانات التقليدية التي يجدونها في كتابهم المقدس - القرآن الكريم). بذلك يمكن لفرنسا على ما يعتقده (جوريس) امتصاص نقمة العرب المسلمين: (فالغضب عند المسلمين هو أقوى من الخوف) ويمكن عن طريق الاشتراكية: (جمع كل البروليتاريا على صعيد واحد سواء منهم الإفرنسيون أو الإيطاليون أو الإسبان أو العرب البؤساء - وبذلك يتم توحيد كل العروق في الجزائر، وتوفير مناخ الثقة المتبادلة فيما بينهم، و (يبقى موقد العدالة الاجتماعية هو الوسيلة لصهر العناصر المتنافرة التي تثير الاضطراب في الجزائر. وإننا على ثقة بأن المستقبل والسلام، مرتبطان بهذه العدالة). عقد بعد ذلك المؤتمر الخامس (للحزب الاشتراكي للعمال الجزائريين) في سنة 1902 وقدم فيه، وللمرة الأولى، تقرير عن سياسة الاشتراكيين تجاه المسلمين، وتضمن هذا التقرير: (1 - يجب على البروليتاريا الجزائرية الاهتمام بالمواطنين - المسلمين -

والدفاع عن حقوقهم لفرض المساواة في الرواتب. 2 - تطبيق سياسة الدمج وفرضها بالقوة. 3 - جعل التعليم الإفرنسي إلزاميا ومجاني. 4 - فرض اللغة الإفرنسية على كل المواطنين المسلمين، حتى في المساجد. 5 - منع إصدار الصحف باللغة العربية). وكان تعليق (جوريس) على هذا التقرير - ما يلي: (أهنىء نفسي وأنا أرى ما يتم اتخاذه من إجراءات ضد الفقر وما يتم التوصية به من مضاعفة لعدد المدارس والمستوصفات، وإحياء تلك الصناعات الوطنية الأصيلة التي كان يمارسها الجزائريون. ومنح هذا الشعب أخيرا الشعور بأن فرنسا تستخدم تجاهه الكرم والطيبة،. وحدد (جوريس) الهدف من ذلك، وهو: (دعم التوسع السلمي بأساليب معقولة لمصلحة فرنسا والحضارة الإفرنسية، وتجنب التوسع عن طريق الغزو العسكري، (¬1). عقد بعد ذلك مؤتمر أمستردام سنة 1904، والذي ضم ممثلي اليسار في العالم، وتمخض عن هذا المؤتمر ولادة (الحزب الاشتراكي الموحد). ثم عقد هذا الحزب مؤتمرا في شتوتغارت بألمانيا سنة 1907، واتخذ مواقف واضحة ضد الاستعمار واستغلال الشعوب بعضها لبعض وأدان سياسة الدمج التي كان يتبناها الحزب الاشتراكي الإفرنسي. وأوصى بتوجيه نداء للمسلمين في العالم كله من الهند حتى المعرب، لإعادة بعث مؤسساتهم الدينية، غير أنه كان من المحال تحقيق ذلك، بعد أن ¬

_ (¬1) المرجع الرئيسي لهذا البحث - إفرنسي (السياسات الاستعمارية في المغرب - أغرون) ص 152 - 177.

عملت الدوائر الاستعمارية على تحطيم كل القيادات والمؤسسات الدينية في المغرب العربي - الإسلامي. غير أن الجزائر لم تعدم الوسيلة للتأكيد على أصالتها الثوروية، وبرز ذلك من خلال جهد (الأمير خالد) لتأسيس (حزب الجزائر الفتاة). والغريب في الأمر أن (الحزب الاشتراكي الإفرنسي) لم يحاول بذل أي اهتمام بقضايا المواطنين الجزائريين، إلا عندما اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى، في سنة 1914. وكان ظهور حزب الجزائر الفتاة، في واقعه، وعلى الرغم من كل الظروف التي أحاطت به، مجرد تعبير عن (يقظة الإسلام). كما كان اشتراك الجزائريين في الحرب، وما قدموه من تضحيات تعبيرا آخر عن (الوجود الإسلامي) غير أن هذا التعبير بقي مرتبطا بالإدارة الاستعمارية. ولعل ذلك هو الذي دفع بالحزب الاشتراكي الإفرنسي إلى إعادة تقويم موقفه من الجزائر الإسلامية وقضيتها.

الفصل الثاني

(فليشهد الله: بأنني لست من أولئك الباحثين عن شرف الوصاية. لقد اقتحمت مجال العمل السياسي، وخضت الصراع في مجالس النواب - المنتخبين - للدفاع بكل ما وهبني الله من القوة، وبكل ما في قلبي من الحب، عن مصالح إخواني المسلمين ورفع الضرر عنهم. الأمير خالد •---------------------------------• الفصل الثاني 1 - الأمير خالد - من دمشق إلى الجزائر -. 2 - في أفق الصراع السياسي (1913 - 1919). 3 - مع لعبة التمثيل والانتخابات (1919 - 1922). 4 - الصفحات الأخيرة في جهاد الأمير خالد (1923 - 1936).

الأمير خالد - من دمشق إلى الجزائر

1 - الأمير خالد - من دمشق إلى الجزائر كان صورة عن عصره، ومرآة انعكست عليها أحداث أمته ووطنه، غير أنه لم يكن مجرد صورة سلبية أو مرآة جامدة فحسب، بكلمة أوضح، لم يعش حياته العامة منفعلا بقدر ما كان فاعلا، ولم يشترك في أحداث قومه متأثرا بقدر ما كان إيجابيا ومؤثرا. لقد حمل في أعماق نفسه، وهو ما زال صغيرا، جراح أسرته، وما كانت تعانيه من مرارة البعد عن الوطن، وضغوط القهر. وصحيح أن العالم الإسلامي كان في تلك الحقبة التاريخية مفتوح الرحاب أمام كل المسلمين للحركة والتنقل، لا حدود ولا سدود أمام الإنسان المسلم في وطنه الكبير، وصحيح أيضا أن العرب والمسلمين قد احتفظوا حتى تلك الفترة بعاداتهم وتقاليدهم الموروثة منذ مئات السنين، ومنها استعدادهم الدائم للارتحال والاستيطان في أي مكان يختارونه، وأي موقع يريدونه في كل ديار الإسلام. وصحيح بعد ذلك، أن دمشق الخالدة بقيت أبدا كعهدها، قاعدة صلبة للعروبة والإسلام، بحيث يستطيع الإنسان

المسلم أن يركن إليها ويرتاح فيها، ويجد في رحابها أهلا تربطه بهم وتشدهم إليه روابط الإسلام الوشيجة. غير أن الظروف التي أحاطت بانتقال أهله وعشيرته وذوي قرابته وبني قومه، لم تكن في كل الأحوال ظروفا طبيعية. لقد احتل الاستعمار الإفرنسي موطن الآباء والأجداد. وقام جده بتولي قيادة الجهاد في سبيل الله، حتى إذا ما انتصر الباطل على الحق في غفلة من الزمن، لم يعد باستطاعة قائد الأحرار البقاء فوق ميادين جهاده ومنتجع قومه، فغادر موطن صباه، ومضى في رحلة العمر الشاقة حتى وصل (دمشق). وهنالك، استقر بمن معه، واستمرت دورة الحياة في مسيرتها. فكبر الأبناء وتكاثر الأحفاد. وكان منهم ذلك الشاب الذي نشأ وهو يحمل في أعماق نفسه آمال أمته وآلامها، ذلك هو الأمير خالد بن الهاشمي بن الحاج عبد القادر الجزائري، أبرز قادة المقاومة الجزائرية في وجه الاستعمار الإفرنسي. ولد الأمير خالد في دمشق يوم 20 شباط - فبراير - 1875. وكان أبوه الهاشمي بن الأمير عبد القادر، أما أمه فكانت سوداء. ولم يكن العرب، المسلمون، يفرقون بين العروق والأجناس منذ أن أطلق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم صيحته الإنسانية الخالدة في الديار المقدسة: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). وهكذا نشأ خالد في (بيت التقوى). وتردد على معاهد دمشق الدينية، وأمضى في رحاب دورها ومساجدها ومراتعها مرحلة طفولته المبكرة وشبابه الغض، حتى إذا ما بدأ ساعده

يصلب على الحياة، وحتى إذا ما أخذ عوده يقسو على الأيام، قرر (الهاشمي) العودة إلى الجزائر، في سنة 1892، وخلف وراءه مئات الأفراد من أبناء عمومته، ممن ضمتهم الدولة العثمانية إلى أجهزتها وقياداتها العسكرية والسياسية والإدارية، ومضى الأمير خالد وأخوه في رفقة أبيهما إلى موطن الآباء ومثوى الأجداد في (الجزائر المحروسة). لم يستقر الأمير خالد في الجزائر طويلا، إذ لم تمض سوى أشهر قليلة حتى تم إرساله وأخيه إلى باريس للدراسة في ثانوية (ليسيه لويس لوغيراند) بصفتهما طلابا داخليين يتقاضى المعهد منهما التعويضات المقررة للدراسة. استخدمت السياسة الاستعمارية الإفرنسية، في جملة وسائلها، أسلوب اختيار أبناء زعماء البلاد الخاضعة لاستعمارها، وضمهم إلى الجيش، فكانت بذلك تحتفظ بهم كرهن - رهائن -. وتضعهم في الوقت ذاته تحت مراقبتها المباشرة، بالإضافة إلى استخدامهم لضرب الحركات الوطنية إذا ما تطلب الأمر. وميزت السلطات الإفرنسية بين هؤلاء الذين يقبلون التخلي عن جنسيتهم ويقبلون الجنسية الإفرنسية، حيث كانت تفتح لها المجالات للترفيع في سلم الرتب العسكرية، مع تعيينهم في القوات الإفرنسية. أما أولئك الذين يرفضون اعتناق الجنسية الإفرنسية، فكان ترفيعهم يتوتف عند رتبة نقيب (كابتن)، مع تعيينهم في القوات الوطنية فقط (الأنديجين). وعلى هذا، قبلت

الكلية العسكرية الإفرنسية (سان سير) (¬1) الأمير خالد - بدون إجراء الفحص العادي للقبول - وذلك في 7 تشرين الثاني - نوفمبر - 1893. وحاولت الإدارة الإفرنسية قبول الأمير خالد لا كأجنبي، وإنما كمواطن فرنسي - على أمل قبوله الجنسية الإفرنسية قبل تخرجه من الكلية. وأظهر الأمير خالد تفوقا واضحا في دراسته العسكرية، غير أنه ترك الكلية قبل الوقت المحدد لامتحانات التخرج - وغادر باريس في مطلع سنة 1895. وذكر أن السبب في ذلك هو ما تضمنته إضبارته من أوصاف في غير مصلحته مثل: (متكتم منطو على ذاته، يميل إلى العنف، يحتقر رؤساءه ويزدريهم). والحقيقة أن سبب تركه للكلية هو إصابة والده بمرض وصل به إلى مرحلة خطيرة، ونفاد موارده المالية، مما دفعه إلى استدعاء ابنه خالد للوقوف إلى جانبه في آخر أيامه. المهم في الأمر هو أن حكومة باريس شعرت بالقلق تجاه تقلب مزاج الأمير الهاشمي، ونواياه المضادة لفرنسا. علاوة على الديون الضخمة التي بات يرزح تحت أعبائها، مما قد يدفعه إلى الثورة أو ترك الجزائر مع كل أفراد ¬

_ (¬1) سان سير: (SAINT CYR L'ECOLE) مدينة صغيرة تقع في مقاطعة (السين والواز - SEINE ET OISE) في دائرة فرساي. وبها الكلية الحربية التي تحمل اسمها، وقد أنشئت هذه الكلية سنة 1808 في منزل قديم كان شيد لتعليم الفتيات الصغيرات في سنة 1685 - أيام الملك لويس الرابع عشر، وبإشراف السيدة مانتونون: MAINTENON وقد دمرت الكلية الحربية أثناء الحرب العالمية الثانية (1940 - 1944) فنقلت مؤقتا إلى كوتكيدام COETQUIDAM سنة 1947. وأعيدت بعد ذلك إلى مكانها في (سان سير).

أسرته مما قد يثير النقمة في ظروف كانت الإدارة الإفرنسية تحرص كل الحرص خلالها على تهدئة البلاد وإخماد عوامل النقمة. وعلى هذا تلقى رئيس المباحث الخاصة أمرا بإعاقة سفر الأمير خالد إلى الجزائر. ولكن هذا الأمر لم يكن ليعيق عائلة الأمير الهاشمي من ركوب البحر بصورة سرية ومغادرة الجزائر، وعلى هذا فرضت السلطات الإفرنسية على عائلة الهاشمي الإقامة الإجبارية في (بوسعادة). وكانت السلطات العسكرية الإفرنسية تتابع باهتمام ما كانت تقوم به السلطات المدنية من أعمال ضد عائلة الهاشمي، وأدركت مدى الخطأ الكبير الذي وقعت فيه هذه السلطات المدنية، فأخذت على عاتقها تصحيح الموقف، ونجح الجنرال (كوليه) (¬1) في رفع هذه العقوبة، وأعيد قبول الأمير خالد من جديد في الكلية الحربية (سان سير) فالتحق بها يوم 15 أيار - مايو - 1896 وذلك لإكمال المدة المحددة لدراسته العسكرية. تجاوز الأمير خالد هذه البدايات الشاقة، ورفض قبول الجنسية الإفرنسي، ولم يبق أمامه إلا متابعة حياته العسكرية العادية (ضابطا في جيش المواطنين الجزائريين) (¬2). تخرج الأمير خالد برتبة ملازم ثان في الجيش، وكان عليه الانتظار لمدة خمس سنوات حتى يتم ترفيعه لرتبة ملازم - هذا في ¬

_ (¬1) كوليه: GENERAL COLLET MEYGRET. (¬2) ضابطا في جيش المواطنين - ترجة الاصطلاح: OFFICIER AU TITRE INDIGENE.

حين كانت المدة المحددة للترفيع هي أربعة أعوام فقط - ولم يكن باستطاعة الأمير خالد تفسير هذا التأخير إلا أنه وسيلة للإزعاج المتعمد. وقد مارس الخدمة في وحدات فرنسية لمدة سبعة أعوام وذلك خلافا لرغبته حيث كان قد طلب تعيينه في إحدى كتائب الصبايحية الجزائرية. وكان تعليقه على ذلك - في وقت لاحق - بما يلي: (لقد كنت دائما، وبدون أي حجة أو ذريعة موضعا للشبهات والشكوك). كان الأمير خالد يعاني في هذه الفترة من الإحباطات المتتالية، فقد كان يعتبر نفسه ممثلا لقومه، غير أن السلطات الإفرنسية لم تكن لتتعامل معه إلا كملازم في الجيش الجزائري. ولعل هذا ما يفسر سبب إرساله لبرقية التهنئة التالية لرئيس مجلس النواب الإفرنسي في الأول من كانون الثاني - يناير - 1902: (لنضرع إلى الله من أجل رفاه فرنسا وعظمتها). وقد رد الرئيس الإفرنسي على هذه التهنئة، غير أن الحاكم العام للجزائر تدخل في الأمر، وعمل على تأخير تسليم الرد حتى يوم 14 تموز - يوليو - حيث مناسة عيد الثورة الإفرنسية. وكان الأمير خالد قد طلب في سنة 1900 منحه لقب - آغا - غير أن السلطات الحاكمة في الجزائر رفضت الاستجابة حتى لهذا الطلب المتواضع الذي لا يشير إلا إلى رغبة الأمير في تجاوز حدود رتبة الملازم - التي هي رتبة أصغر من شأنه دونما ريب -. وخلال ذلك، لم تكن هموم مواطنيه لتغيب عن أنظاره، مما تركه نهبا لمشاعر القسوة والمرارة. يضاف إلى ذلك ما كان يعانيه من نقص

الموارد المالية، الأمر الذي جعله - كأبيه - ساخطا باستمرار على مجمل الأوضاع العامة والخاصة في أموره الحياتية. المهم في الأمر، هو أن الأمير خالد نقل لفترة قصيرة، للخدمة في كتيبة الصبايحية الأولى، في سنة 1904 أو1905، وفي سنة 1907، استدعيت كتيبته للعمل في المغرب - مراكش - للإسهام فيما أطلق عليه صفة (عمليات تهدئة الشوايا). وأظهر الأمير خالد كفاءة عالية في قيادة قوته تحت نيران المعركة، الأمر الذي استحق الإشادة بسلوكه في تعميم (الأمر اليومي للجيش). وتم ترفيعه سنة 1908 إلى رتبة نقيب (كابتن) فكانت هذه أعلى رتبة يمكن أن يبلغها طابط جزائري لا يحمل الجنسية الإفرنسية. وكان رؤساؤه قد وعدوه بمنحه وسام جوقة الشرف (ليجيون دونور) تقديرا لجهوده وبطولته، كما وعدوه بتعيينه نائبا للحاكم العام للجزائر غير أن شيئا من هذه الوعود لم يتحقق. ومقابل ذلك، أقر له الحاكم العام للجزائر حتى تقاضي تعويض سنوي قدره (2800) فرنك إفرنسي، تم رصده في موازنة الجزائر، بالإضافة إلى التعويض السنوي الذي كان يتلقاه من وزارة الخارجية الإفرنسية، شأنه في هذا التعويض شأن كل ورثة وأحفاد الأمير عبد القادر الذين كانوا يتقاضون تعويضات مماثلة. وعلم الأمير خالد في هذه الفترة بأن رئيسه قد تلقى توبيخا من الحاكم العام للجزائر، لأنه أرسل الأمير خالد إلى (الشوايا) بدون استشارته أو أخذ رأيه. لقد كانت الإدارة الإفرنسية ترغب يقينا في عدم إتاحة الفرصة أمام الأمير خالد للحصول على هيبة عسكرية، غير أن سلوكه في

المغرب ضد رغبة الإفرنسيين هو الذي ساعد الحاكم العام للجزائر عل اتخاذ موقفه العدواني، فقد كانت فرنسا تتظاهر بالحياد من الصراع الدائر في المغرب بين السلطان عبد العزيز وبين ابن عمه الثائر ضده مولاي عبد الحفيظ. وقد اتخذ الأمير خالد موقفا صريحا إلى جانب السلطان عبد العزيز، وعندما نجح مولاي عبد الحفيظ في خلع السلطان، حاول التحرك لدعمه. وهكذا اتجه الأمير خالد للاتقاء بعمه الأمير عبد الملك الذي كان قائدا سابقا - جنرالا - في الجيش العثمانى، ثم انتقل للعمل مع القوات الإفرنسية، فقاد رتلا فرنسيا من طنجة بهدف استثارة القبائل لمصلحة السلطان المخلوع والذي لجأ إلى طنجة. وصرح الأمير خالد فيما بعد - بأنه تحرك لإنقاذ عمه ودعمه، وذلك بعد أن أعلم رؤساءه بتحركه. وزعمت السلطابت الإفرنسية أن هذا التحرك قد سبب لها حرجا كبيرا في المغرب - وفقا لتقيوم الجنرال ليوتي الحاكم العام للجزائر -. وصدر الأمر إلى النقيب خالد بتجنب إجراء أي اتصال مع عمه الأمير عبد الملك. اعترفت فرنسا بنظام السلطان الجديد - مولاي عبد الحفيظ، وأصبح الأمير خالد خصما في نظر النظام الجديد في مراكش - المغرب - ولم يعد باستطاعته العودة إلى المغرب بصفته ضابطا في الجيش الإفرنسي. وهكذا فعندما جاء دور كتيبته للتوجه إلى (وجدة) في سنة 1910، طلب إليه عدم مرافقة كتيبته من جند الصبايحية، الأمر الذي أغاظ الأمير خالد، ودفعه إلى الاستقالة من الجيش في نيسان - إبريل - 1910. وهنا تدخل قائد الفيلق

الإفرنسي التاسع عشر - الجنرال بايود - (¬1) والذي كان شأنه شأن معظم القادة الإفرنسين ممن كانوا ينظرون بتقدير كبير لكفاءة الأمير خالد وقدراته. وطلب إلى السلطات الإفرنسية في الجزائر السماح له بضم الأمير خالد إلى قواته في الدار البيضاء - كازابلانكا - غير أن وزير الخارجية الإفرنسية رفض هذا الطلب بتحريض من الحاكم العام للجزائر - الجنرال ليوتي -. غير أن الجنرال بايود نجح في النهاية بإقناع الأمير خالد بالعدول عن استقالته وسحبها، كما حصل له على إجازة من القيادة في تموز - يوليو - 1911، لمدة أشهر عديدة يقضيها في دمشق. وعندما عاد إلى كتيبته في سنة 1912 كان على هذه الكتيبة ركوب البحر، والانتقال إلى المغرب، وعادت المشكلة للظهور من جديد: ماذا يفعلون بالأمير خالد؟ وقام الجنرال بايود بطرح المشكلة مباشرة على الجنرال ليوتي، بقوله: (يجب أن يرافق الأمير خالد سريته، ذلك لأنه إن لم يرافقها فسيصاب بحرج - معنوي - قد يدفعه ليصبح عدوا). ولكن الحاكم العام للجزائر، ليوتي، أجاب بقوله: (إني أعرف خالدا معرفة وثيقة جدا، ¬

_ (¬1) الجنرال بايود: GENERAL BAILLOUD- قائد إفرنسي، كان الأمين العام لرئيس الجمهورية الإفرسة فيليكس فور FELIX FAURE ،1895 - 1899. ثم تولى قيادة الفيلق التاسع عشر في الجزائر والتابع للجيش الإفريقي، وأحيل إلى التقاعد سنة 1914، فرشح نفسه لانتخابات المجلس النيابي - نائبا عن الجزائر - وممثلا لجبهة الدفاع عن العلاقات الإسلامية - الإفرنسية. غير أن خصمه (بروسيه - BROUSSAIS المدافع عن مصالح الاستعماريين - الكولون - فاز عليه في الانتخابات.

واعترف له بذكائه الحاد جدا، وبإخلاصه لأصوله ووفائه بالتزاماته تجاه تقاليده العرقية. غير أنه سبب حرجا لنا في أزمة سنة 1908. إنه عنصر شغب واضطراب. خذه إلى الجزائر). على كل حال، لقد شعر النقيب خالد بالشكوك وهي تحيط به، فقرر أخذ المبادأة، وتقدم إلى حكومة باريس بطلب لإعفائه من الخدمة وتسريحه من الجيش، ولم يستسلم للوعود أو الإغراءات بإمكانية استدعائه في وقت لاحق للخدمة في المغرب - مراكش -. ولم يبق أمام وزير الحربية الإفرنسي (ميسيمي) إلا أن يعبر عن أسفه، وقبل اسقالة النقيب خالد في 15 حزيران - يونيو 1913. ولكن هذه الاستقالة حددت على شكل إجازة مفتوحة لمدة ثلاث سنوات، ومنح وسام جوقة الشرف برتبة فارس للأمير خالد مكافأة له على شجاعته في حملة سنة 1908. حانت الفرصة التي طالما تطلع إليها الأمير خالد وهي الانتقال للعمل السياسي، وإظهار خصومته الدفينة للاستعماريين. ولم يبق لديه مجال للانتظار، فقد تفجرت القروح التي طالما عانى من آلامها بعد كل تلك المتاعب والعقبات. فبدأ بالتدخل منذ سنة 1913، في الانتخابات المخصصة لاختيار المندوبين الماليين. وعمل على دعم أحد أصدقائه (زروق الحلاوي) ضد مرشح الإدارة الإفرنسية (بن سيام) وكان الفشل من نصيب صديق الأمير خالد. وأفادت الإدارة الإفرنسية من هذه المناسبة لتوجه إلى الأمير خالد اتهاما: (بأنه يخطط لإثارة الاضطرابات) وأنه (يحرض على

توجيه الانتخابات بصورة سيئة) وأنه يجب - نتيجة لذلك حرمانه من (التعويض السنوي الذي يتقاضاه من خزانة الجزائر). فكان رده على ذلك: (بأنه لم يترك له الخيار لخدمة فرنسا من أجل المال). ولم يعد من الصعب على الأمير خالد اتخاذ قراره للمضي قدما في مجال الصراع السياسي. وقد التف حوله أصدقاؤه وهم يشجعونه لممارسة دوره السياسى. وقال الأمير خالد فى ذلك: (لم أرغب أبدا أن أكون أكثر من جندي. غير أني لم أعد قادرا على الخدمة منذ الآن فصاعدا، بدون أن أخسر علاقاتي بفرنسا وبإخواني في الدين). بدأ الأمير خالد اعتبارا من هذا التاريخ في الظهور كواحد من أبرز قادة حركة (الجزائر الفتاة) وكانت هذه الحركة السياسية قد أخذت طريقها إلى الظهور منذ سنة (1900) وضمت في صفوفها نفرا من الشباب الجزائريين المسلمين الذين تلقوا دراساتهم في المدارس الإفرنسية بالإضافة إلى العناصر المستقلة من رجال الإدارة الإفرنسية. وبذلت الحركة جهدا واضحا لضم العناصر المثقفة والنشطة والتي تعتقد بجدوى الدمج مع فرنسا، مع فتح المجال أمام المسلمين، لتمثيلهم بدرجة أكبر في المجالس المحلية وأجهزة الإدارة الوطنية. وقد اصطدمت هذه الحركة، منذ البداية، بالإدارة الإفرنسية في الجزائر والصحافة التابعة لها، غير أنها لقيت بالمقابل دعما قويا من فرنسا، ومن الشخصيات السياسية الليبرالية بصورة خاصة (¬1) ¬

_ (¬1) كان في مقدمة هذه الشخصيات ألبان روزيه ALBIN ROZET.

غير أن حركة (الجزائر الفتاة) بقيت حركة محدودة لا تمثل أكثر من فئة محدودة من المواطنين، ولا تحتل مركزا مناسبا بين مراكز القوى المتصارعة على الساحة الجزائرية - الإفرنسية. وقد حاولت الحركة إقناع الرأي العام في أوساط المسلمين بقبول الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الإفرنسي (والتي فرضت بموجب قانون صدر سنة 1912)، وذلك مقابل منح المواطنين المسلمين الحقوق السياسية. غير أن الحركة فشلت في إقناع المسلمين كما فشلت في الحصول على الحقوق السياسية. ورفض المسلمون المحافظون الذين كانت تدعمهم الإدارة الاستعمارية الجزائرية الاعتراف بحركة (الجزائر الفتاة) التي اعتبروها حركة لا تمثل إلا الشباب السياسي الطموح. أما الاستعماريون فكان رأيهم حاسما وواضحا: (اطردوا هؤلاء الشبان الأتراك - أنصار الجامعة الإسلامية). في حين كان الموقف في فرنسا مناقضا تماما لموقف الاستعماريين في الجزائر، حيث أخذت أكثر العقول السياسية المتطرفة في مناصرة حركة (الجزائر الفتاة) والمطالبة بفتح المدن الإفرنسية أمام هذه النخبة المتطورة، وذلك تجنبا لما قد يحدث في المسقبل من اضطراب أو ثورة. وكان هذا الموقف السياسي لحركة (الجزائر الفتاة) الذي يصدم الإدارة الإفرنسية في الجزائر، هو الذي جذب إليه الأمير خالد بن

_ = ومسيمي: A. MESSIMY وآبيل فيري: ABEL FERRY وجورج ليغس: GEORGES LEYGUES وجورج كليمنصو: GEORGES CLEMENCEAU.

الهاشمي. وقد كان هناك يقينا بعضا من التناقض بالنسبة لهذا الضابط، الذي يمثل في سلوكه السيد الشرقي الكبير والذي أخذ إخوانه في مناداته منذ ذلك الحين (بالأمير خالده). ثم أصبح لزاما عليه أن يمثل دوره السياسي، باعتباره بطلا لنظام الدمج مع فرنسا. غير أن هذا التناقض لم يكن مثيرا في تلك الحقبة التاريخية، وها هو نائب نانسي - المقدم دريانت - يقدم الأمير خالد إلى أعضاء الحركة بقوله: (إنه رجل له مكانته السامية، يتحدث باللغة الإفرنسية بطريقة مثيرة للإعجاب، وهو يعرف تماما متطلبات مواطنيه واحتياجاتهم، وليس إخلاصه لهم بالأمر المثير، كما أنه من غير المثير أيضا وفاءه بالتزاماته تجاه فرنسا وطنه بالتبني). ثم أليس الأمير خالد، واحدا من هذه النخبة المختارة من أبناء المسلمين الذين اكتسبوا الظواهر الإفرنسية واللسان الإفرنسي، مع بقائهم أوفياء لتقاليدهم العربية وعقيدتهم الإسلامية؟ وهل باستطاعة الأمير خالد التنكر لما يحق له أن يفخر به من أصالة المولد ونبل المحتد، الشريف، بالإضافة إلى تلك السنوات الطوال التي عاشها في ظروف متناقضة وصعبة؟ فلماذا لا يمارس بعد ذلك الدور الذي يتناسب مع تكونه الطبيعي وليعمل على استرداد الحقوق السياسية المسلوبة من قومه؟ وليحاول أن يكون مفيدا لقومه ولإخوانه في الدين بما لا يتناقض مع مصلحة فرنسا.

في أفق الصراع السياسي (1913 - 1119)

2 - في أفق الصراع السياسي (1913 - 1119) غادر الأمير خالد الجزائر، وتوجه إلى باريس، فوصلها مع نهاية سنة 1913، وبدأ جولته بإلقاء المحاضرات عن (الظروف السياسة والاجتماعية التي يعيشها المسلمون في الجزائر). وطرح خلال محاضراته برنامج حزب (الجزائر الفتاة) ودافع عنه بكبرياء ولكن بطريقة ديبلوماسية. ومما قاله: (نحن أبناء عرق له أمجاده، وله عظمته، وهو ليس بالعرق الأدنى، غير أنه يعاني في هذه المرحلة من قصور كبير في التقويم. وهو يرفض أن يزج نفسه على طرق المستقبل التي يفتحونها أمامه. ولكنه لن يستمر في رفضه هذا) ومما قاله أيضا: (يشتكي المسلمون من حرمانهم من فرص التعليم، كما يشتكون من النطام الاستثنائي الذي فرض عليهم). ويتعرض الأمير خالد لمواقف جده الأمير عبد القادر حين يقول: (عندما نعتقد بأن تاريخنا قد انتهى، فإنه سيبدأ معكم أنتم الإفرنسيون. تماما على نحو ما انتهى تاريخ أجدادكم المغول ليبدأ مع روما). وفي النهاية

أثار الأمير خالد قضية التقارب الإفرنسي - العربي في الجزائر فقال: (إن الحلف العضوي الذي يمزج قوى الإفرنسيين بقوى المواطنين الجزائريين من شأنه تحقيق التقارب في المستقبل بين العرقين - أو الجنسيتين - ومن الحكمة بمكان منح هؤلاء الذين قبلوا أداء كل واجباتهم بما في ذلك دفع الضرائب - وضريبة الدم خاصة - أن ينالوا بالمقابل حقوقهم) وأنهى محاضرته بقوله: (افتحوا أمامنا أبواب العلم، واعملوا على مساعدتنا قدر ما تستطيعون في أيام السلم. وشاركونا في رفاهكم وعدالتكم. وعندئذ سنقف إلى جانبكم في ساعات الخطر). استقبل الليبراليون الإفرنسيون بالهتاف والتصفيق هذا الأسلوب الذي طرح فيه الأمير خالد قضية بلاده في محاضراته طوال سنة 1914، وبلغة امتزج فيها الفخر بالسياسة، وضم فيها ما تميز به العرق العربي من الفخر بالماضي التليد والاعتزاز بأرض الأجداد، واستعادة الأصالة السياسية التي تجمع بين الشعبين. وكتب صحيفة (الأزمنة) الإفرنسية في ذلك: (لقد نظرت باريس إليه بعيون امرأة خاضعة لتأثيره). غير أن الحاكم العام للجزائر اسقبل ردود الفعل هذه بغضب جامح. وأصبح الأمير خالد واحدا من دعاة ومؤسسي الاتحاد الإفرنسي - الجزائري الموجه لإجراء إصلاحات ليبرالية في الجزائر. ولم يتردد الأمير خالد في دعم هذا الاتجاه فكان مما قاله بهذا الشأن: (إذا كان من السهل التفاهم مع الإفرنسيين في فرنسا، فإن ذلك يعني أن وجود مشكلة اسمها (مواطني الجزائر) هو تعبير عن خطأ الإفرنسيين في الجزائر).

وصرح الأمير خالد بعد ذلك: (إنه لا يستطيع الثقة بالإدارة الجزائرية التي يجب عليها تطبيق القوانين التي وضعت - أو التي سيتم وضعها. أو تنفيذ السياسة الجديدة التي حددها مجلس النوواب الإفرنسي - في شهر شباط - فبراير -1914).وعلى هذا طالب إلى الأمير خالد برجاء - أن يحدد مباشرة الحقوق التي يرغب حزب (الجزائر الفتاة) في استردادها لمصلحة المواطنين. فطلب الأمير خالد: (1 - استخدام اليد العاملة الجزائرية في فرنسا وتأمين الحماية لها. 2 - رفع الضغط الذي يمارسه النظام عن المواطنين والقبائل جميعها ودونما استثناء. 3 - إجراء تمثيل صحيح ونزيه للمواطنين الجزائريين في كل الهيئات الاستشارية والمجالس التشريعية). وكان مما قاله بهذا الشأن: (إن من يطلق عليهم اسم ممثلينا قد صنعوا في الحقيقة للعمل ضد استرداد حقوقنا الشرعية وخدمة مصالحهم الشخصية فقط، في حين أن الجزائر الفتاة، باسقلاليتها وعدم وجود مصالح شخصية لأفرادها، تمثل أصدق تمثيل الرأي العام الجزائري). يظهر مما سبق، وبشكل واضح تماما، أن الأمير خالد، قد وضع نفسه في موضع الخصم العنيد للإدارة الإفرنسية في الجزائر ولمن يتم انتخابهم من قبل هذه الإدارة باسم (نواب إداريين). وقام منذ ذلك الحين صراع بين الحكومة الإفرنسية في الجزائر، والتي أخذت في العمل للتخلص منه، وبين وزارة الخارجية الإفرنسية التي التزمت طويلا بالدفاع عنه وحمايته. وبينما كانت الإدارة

الإفرنسية في الجزائر ترى في الأمير خالد عدوا للجمهور الجزائري، كانت الوزارة الإفرنسية تعتبره رجلا مستقلا يدين بالولاء لباريس. ما أن اندلعت نار الحرب العالمية الأولى حتى أسرع النقيب خالد للتطوع على الفور في وحدات المتطوعين الجزائريين (القوم). وقد نظرت باريس إلى هذه المبادأة بتقدير كبير. في حين اعتبر الحاكم العام للجزائر أن هذه المبادأة تنطوي (على سوء النية وذات طابع تحريضي مثير). وفكر وزير الحرب الإفرنسي - في كانون الأول - ديسمبر، 1914 - بإرساله إلى سوريا من أجل العمل ضد الأتراك - العثمانيين. غير أن الحاكم العام للجزائر عارض هذه الفكرة وأسقطها. أما الأمير خالد، فكان من أنصار مبدأ قيام (الثورة العربية) التي أقرها المؤتمر العربي الأول في باريس (في كانون الثاني - يناير - 1913) والتي كانت تحتضنها الحكومة الإفرنسية وتشجعها وتروج لها منذ زمن بعيد. وقد أظهر الأمير خالد حماسته للإسهام في مشروع الثورة العربية ومعه فرسان الصبايحية الجزائريين. وصرح بعدئذ في كانون الثاني - يناير - 1915، لصحيفة الأزمنة، (بأن تدخل الألمان في شؤون الإمبراطورية العثمانية سيكون حافزا للقيام بالثورة ضد السلطة غير الشرعية). غير أن حماسة الأمير خالد اصطدمت بعقبات أحبطت تطلعاته. وكان في جملة هذه العقبات غير المتوقعة رغبة الإدارة الإفرنسية في مقاومة الطموح لدى سلالة الأمير عبد القادر، وما يتميز به أفراد هذه السلالة من الفخر

والاعتداد بقوة الشخصية القيادية. وجاءت مسيرة الأحداث مؤيدة لوجهة نظر الإدارة الاستعمارية، ففي 10 آذار - مارس - 1915 غادر عبد الملك - عم الأمير خالد - مدينة طنجة بصورة مباغتة، والتحق بمنطقة الاستعمار الإسباني ليرفع في منطقة الريف راية (الجهاد في سبيل الله) ضد المستعمرين. وانتقلت عائلة الأمير خالد بدورها إلى منطقة الاستعمار الإسباني أما الأمير خالد، فقد أعلن على الملأ التزامه بالولاء لفرنسا. وفي هذه الفترة أعلنت أجهزة الإعلام الألمانية - في رسائل مزعومة من عبد الملك وعلي باشا - تاريخها 11 كانون الأول - ديسمبر - 1914، الاستيلاء على تازه، وأعقب ذلك نشر رسالة مزعومة ثالثة تاريخها 25 كانون الثاني - يناير - 1915، تعلن توجه الأمير خالد إلى الصحراء ومعه (7) آلاف رجل. وأكدت السلطات الاستعمارية في الجزائر أن الألمان قد أعلنوا عن تنصيب الأمير خالد سلطانا على الجزائر في 12 كانون الثاني - يناير -. واجتاحت الجزائر خلال هذه الفترة شائعة تقول: (أن هناك نبوءة تنتشر من قبل الحرب عن ظهور أحد أبناء هذا الذي أضاع الجزائر، يأتي لإنقاذ الجزائر، وأن هذا الإبن سيحمل لقب السلطان، وسيأتي إلى الجزائر من الريف. وخدمت هذه الشائعة قضية عبد الملك الذي اختار له اسما حركيا هو: الحاج قداح). وعلى أثر ذلك، فكر وزير الحرب الإفرنسي بإيقاف الأمير خالد واعتقاله، غير أن الحاكم العام شك في صحة المعلومات التي توافرت لديه، واكتفى بالرد: (أن مثل هذا الإجراء سيؤكد

للمواطنين الجزائريين ما يتم تناقله من شائعات). وأثناء ذلك، كان الأمير خالد يمارس عمله في جبهة القتال، وقد أرسل إلى زوجته وابنه أمرا حاسما بترك تطوان والعودة إلى الجزائر. كما التمس من الحاكم الإفرنسي تقديم المساعدة لإرجاع زوجته وابنه، وقد تم تنفيذ ذلك فعلا. واعترفت الحكومة الإفرنسية بسلامة موقف الأمير خالد، وقررت منحه التعويض السنوي الذي كان يتقاضاه عمه عبد الملك، وهو مبلغ خمسة آلاف فرنك. ولم تمض على ذلك أكثر من فترة قصيرة حتى منح الأمير وسام جوقة الشرف، وكان للشجاعة التي أظهرها في القتال تقديرها، فتم منح الأمير خالد وسام الصليب الحربي، مع الإشارة - ببطورلاته في عدد من المرات (بواسطة تعميم الأوامر اليومية). وقد كان لذلك دوره في إرغام الحاكم العام للجزائر على إخفاء حقده الدفين ضد الأمير خالد. غير أن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في اعتراض رسائل الأمير خالد ومراقبتها، وإحاطته بشبكة من الجواسيس حتى في وحدته، شأنه شأن المواطنين عامة. وكانت هذه الجاسوسية مصدر إثارة حقيقية للضباط وصف الضباط المسلمين مما دفع بعضهم للفرار، وإعلانهم أنهم لجئوا إلى الفرار للتخلص من هذه الرقابة المزعجة. بقيت السلطات العسكرية مستمرة، على كل حال، في التعامل مع الأمير خالد بتقدير واحترام كبيرين. على نحو ما كان أمرها معه باستمرار. وكان الأمير خالد أثناء ذلك، في حركة دائمة وتنقل مستمر بين الوحدات الجزائرية، لمعالجة كل ظاهرة من ظواهر

الضعف، وليعيد الهدوء والثقة لنفوس المقاتلين، وليثير حماسة الرماة بكلماته البليغة، وليؤم الصلاة علنا ويقيم شرائع العبادة الإسلامية، حتى بات من المعروف في الجزائر بأن الأمير خالد يمارس دور الشيوخ ورجال الدين. عاد الأمير خالد إلى الجزائر مع نهاية سنة 1916، بعد أن أمضى في الجبهة فترة ثمانية عشر شهرا، لقضاء إجازته، غير أنه عاد في الحقيقة بسبب ما كان يعانيه من مرض (التدرن الرئوي - السل). وأظهرت الإدارة الإفرنسية تذمرها على الفور من وصول الأمير خالد إلى الجزائر، وذلك لأنه لم يتم إعلامها مسبقا، ولأن محرضي الشعب كانوا في انتظاره. ولم تلبث الإدارة الإفرنسية في الجزائر أن أعلنت بأن هذا المرض منتشر جدا في أوساط الشبيبة الجزائرية، وقام مدير صحيفة الإسلام - صادق بن دندون - بالترويج لهذه المقولة. وأعلنت الإدارة الإفرنسية في الجزائر - في سنة 1917 - بأن مرض الأمير خالد هو (مرض مزعوم) وكانت حجتها في ذلك أن عودته قد ترافقت مع فترة الإصلاح في الجزائر، وأن الأمير خالد قد أقدم على خطبة حفيدة باشآغا مسكره - ولد القاضي - على الرغم من كونه متزوجا وله ابن من زوجته السابقة. وأضيف إلى ذلك رحلة الأمير خالد إلى باريس، للاشتراك في مؤتمر (جامعة حقوق الإنسان) الأمر الذي لم ترض عنه الإدارة الإفرنسية في الجزائر. ذلك لأن هذا المؤتمر الذي عقد في تشرين الثاني - نوفمبر - 1916، قد طالب بأن تتضمن معاهدة السلام المقبلة: (الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها) وكان

الحزب الوطني التونسي هو أول من رفع هذا الشعار وطالب بتنفيذه. وقد عمل مؤتمر سنة 1917 على دراسة المشكلة الجزائرية، وقرر قبول اعتناق قدامى المحاربين الجزائريين للجنسية الإفرنسية مع احتفاظهم بوضعهم الإسلامي، مع منحهم حق الاشتراك في انتخابات مجلس النواب والشويح، وكذلك حقهم في ترشيح أنفسهم لشغل المناصب البرلمانية في المجلسين المذكورين؛ وكذلك تعميم التعليم وجعله إلزاميا للجنسين الذكور والإناث. وفي الواقع، فقد تأثر الأمير خالد تأثرا كبيرا بمقررات هذا المؤتمر، وتكونت لديه قناعة بأن العالم السياسي الإفرنسي بات مستعدا لمنح المسلمين حتى التمثيل النيابي - البرلماني - بدون أن يتخلى هؤلاء عن أوضاعهم الدينية. ما إن تماثل الأمير خالد للشفاء من مرضه حتى طلب إلى القيادة الإفرنسية إعفاءه من الخدمة بصورة نهائية، لكن القيادة رفضت طلبه هذا، فعاد إلى الخدمة، ووجد نفسه، عندما تم توقيع الهدنة، قائدا - لسرية في كتيبة الصبايحية الأولى - في المدية - وكانت الإدارة الإفرنسية في الجزائر تتابع تردده الدائم على مدينة الجزائر واتصالاته بحزب الجزائر الفتاة وأعضائه العاملين. كما كانت تهتم بما يظهره من تفاخر بعلاقته مع (ماريوس - موتيه) (¬1) ومع ¬

_ (¬1) ماريوس موتيه: (MARIUS MOUTET) نائب اشتراكي فرنسي، أرسله كليمنصو إلى الجزائر ومنحه سلطات مطلقة للتحقيق في الأسباب التي أثارت الاضطرابات في أوريس، ووضع مقترحات إصلاحية تم إصدارها في قانون 4 شباط - فبراير - 1919.

الحاشية المحيطة بالرئيس الأمريكي (ويلسون) وبنتيجة هذه العلاقة، أخذت الإدارة الإفرنسية في الجزائر باتهامه بإقامة علاقات غير مباشرة مع الرئيس ويلسون والإيحاء له: (لوضع مبادئه في حقوق الشعوب لتقرير مصيرها، وبالتالي استعادة الجزائر لاستقلالها). واستطاع الأمير خالد باستمرار الدفاع عن نفسه، وتحدي متهميه لإثبات صحة أقوالهم. وكان يردد: (لو فعلت ذلك، لغادرت الجزائر منذ عهد بعيد، ولما بقيت فيها). وظهر أن تلك الاتهامات لم تكن تستند إلا على تقارير الشرطة، وهي تقارير كانت تفتقر إلى الصحة والدقة، كما أن التقارير التي قدمها - المتطوعون - عن علاقاته بالحزب الدستوري التونسي، لم تكن صحيحة. الأمر الذي دفع الإدارة الإفرنسية في الجزائر إلى طي الموضوع، وعدم رفعه إلى حكومة باريس، ووضع حد حاسم للحوار حول هذا الموضوع. غير أن الحقيقة الثابتة هي أن المبادىء التي طرحها ويلسون بشأن (حق تقرير المصير) قد تركت أصداء قوية في أوساط المواطنين الجزائريين حتى بات الحديث عن هذا الحق هو محور أحاديث العامة والخاصة في المجتمع الجزائري لمدة طويلة من الزمن. بقي الأمير خالد محافظا على ولائه لفرنسا بصورة عامة، على الرغم من كل المداخلات والإغراءات. وها هو أحد رؤسائه (العقيد كلوزيه) سجل في تقريره عنه سنة 1919 ما يلى: (أعرف النقيب خالد منذ واحد وعشرين عاما، إنه ضابط يتمتع

بكفاءة عالية جدا، وهو يدرك تماما الموقف والسلوك اللذين يفرضهما عليه أصله ... وإني أعتبره - شخصيا - بمثابة نموذج رائع للجندي. وإن ما حصل عليه من الأوسمة والثناءات لتؤكدان ذلك. إنه رجل واجب ومسؤولية، فخور وأبي ومتحفظ ووفي بالإضافة إلى ما ينفرد به من فضائل نبيلة وأخلاق عالية). انطلاقا من هذا الموقف، فإن الأمير خالد لم يشترك في مؤتمر (المغاربة الوطنيين المنفيين في لوزان) سنة 1916. كما لم يشترك في المؤتمر الثالث للوطنيين المضطهدين والذي طالب باستعادة تونس والجزائر لاسقلالهما. ولم يشترك أيضا في (جمعية المسلمين لاستقلال الجزائر وتونس) وهي الجمعية التي تأسست في برلين (في كانون الثاني - يناير - 1916) (والتي ضمت إليها عمه الأمير باشا وابن عمه الأمير سعيد) (¬1). وهكذا بقي الأمير خالد ملتزما بحزب (الجزائر الفتاة) لا أكثر ولا أقل، وهو الحزب الذي صنفته ألمانيا في الحرب العالمية الأولى بأنه حزب معاد لها، لأن أعضاءه لم ينقادوا للوطنيين المنفيين والذين اجتمعوا في مؤتمر برلين. وقد أعلن الأمير خالد في بداية سنة 1919، أنه من أنصار ¬

_ (¬1) الأمير علي باشا هو الذي وضع (النداء الشهير للمسلمين) وطالبهم بالخدمة في جيوش الحلفاء لإنقاذ الخليفة وإنقاذ المسلمين وأماكنهم المقدسة وتحرير الجزائر وتونس والمغرب. وقد صدر هذا النداء باللغة العربية في برلين سنة 1916. أما الأمير سعيد فقد انضم إلى الحلفاء، وتولى القيادة في دشق قبل دخول الجيش العربي إليها.

تشكيل وفد جزائري وإرساله إلى (مؤتمر السلم). ذلك لأن إنكلترا قررت على ما يقال إحاطة نفسها بممثلين عن مستعمراتها والدول التابعة لها - الدومينيون -، وأن على فرنسا أن تفعل ذات الشيء بالنسبة لمستعمراتها ومحمياتها. وقد أثارت هذه المقولة الإدارة الإفرنسية التي اعتقدت: (بأن الأمير خالد يريد تقليد الوطنيين الهنود، وإنه يعمل على تحقيق الاستقلال للجزائر من خلال مؤتمر السلم). ويجب أن يضاف إلى ذلك، أن الإرادة الإفرنسية فرضت على الجزائر في تلك الفترة ستارا من الشكوك حول كل شباب (الجزائر الفتاة): (هذه الحفنة من المتعلمين والطموحين والمتآمرين) والذين ما فتؤوا يثيرون المتاعب لأنهم لم يفيدوا شيئا من إصلاحات سنة 1919، وذلك لأن نسبة النواب المسلمين لا زالت محددة بما لا يتجاوز معدل ربع عدد الأعضاء في المجالس الاستشارية العامة، وثلث عدد أعضاء المجالس البلدية، وثلاثين بالمائة من عدد المنتخبين الماليين. وباتت الإدارة الإفرنسية تخشى من أن تقف وهي عاجزة عن تعيين المرشحين للانتخابات واحتواء نشاطاتهم وأعمالهم , لقد كان عدد من يحق لهم الانتخاب في سنة 1914 لا يتجاوز خمسة آلاف ناخب، وها هو العدد يقفز إلى مائة ألف (أو على وجه الدقة 103،149 ناخب يشكلون أحد عشر بالمائة من مجموع المواطنين الجزائريين الذكور والذين يتجاوزون الخامسة والعشرين من عمرهم) فهل تستطيع الإدارة الإفرنسية في الجزائر توجيه هذا العدد؟ ... لقد كان لزاما على الإدارة الإفرنسية إعداد هؤلاء الناخبين الجدد، وتعليمهم في مؤسسات التعليم الخاصة

بالدولة، غير أن الإدارة عملت بدلا من ذلك على اتباع أسلوب مبتكر يتلخص بإنقاص عدد الناخبين، وإثارة الانشفاق بين الشبيبة الجزائرية وخلق التناقضات بين العروق - الأجناس - الجزائرية وضرب بعضها ببعض. أمام هذا الموقف، حاول الأمير خالد تشكيل حزب إسلامي واحد وموحد يضم القبائل والعرب وسواهم ويكون لهذا الحزب فروعه في كل مكان. وكان مما يردده بهذا الشأن: (لنبتعد عن العقلية العرقية فالدين الإسلامي - يضمنا جميعا). ولم تقف الإدارة الإفرنسية أمام هذه المحاولة موقف المتفرج، فأسرعت إلى دفع عملائها ورجال أجهزة مخابراتها للعمل بنشاط - في المدن الكبرى خاصة - من أجل إثارة التناقضات، وشحن العداء بين العرب والقبائل - البربر - والنصارى، وتحريض بعضهم على بعض. وعملت على بعث الأحقاد فيما بين القبائل، عن طريق نشر قوائم الخصوم المرشحين للانتخابات البلدية المقبلة. بقيت (الجزائر الفتاة) تضم حتى تلك الفترة في صفوفها المسلمين - الإفرنسيين (أي الذين حصلوا على الجنسية الإفرنسية). وأراد قائد الشرطة استثمار هذا الموقف فألقى قنبلته لتمزيق وحدة الحزب من خلال طرح السؤال المتعلق بقانون الجنسية. وكان هذا السؤال هو: هل يجب قبول الجنسية التي جاء قانون سنة 1919 ليفسح المجال أمام الجزائريين لاكتسابها، الأمر الذي يساعد ويدعم بعض أعضاء حزب الجزائر الفتاة، من أمثال

الدكتور ابن شامي والمحامي بو دربا والأستاذ صوالاح وكلهم يحملون الجنسية الإفرنسية مما يجعلهم في يوم من الأيام يقفون على قدم المساواة مع الأوروبيين عن طريق غزو المجلس الجزائري؟. أو هل يجب العمل بما يناقض ذلك، والتنكر لكل حاملي الجنسية الإفرنسية وذلك بتطبيق مبدأ التنازل عن الحالة الشخصية للمسلم كشرط لحصوله على الجنسية الإفرنسية. حتى لا يسترد إلا حقوقه السياسية؟ ... كان الشيخ العجوز الحاج موسى عضوا منتخبا في المجلس الاستشاري لبلدية الجزائر منذ سنة 1884، وقد احتفظ دائما بإخلاصه لعقيدته الإسلامية، كما احتفظ بقدرته على تحسس مشاعر قومه والاستجابة لهم. ولهذا فقد أقر الوضع الذي تفرضه الإجابة على السؤال الثاني. ووافقه على ذلك عدد من شباب حزب الجزائر الفتاة، وفي مقدمتهم الأمير خالد، والمهندس قائد حمود ومدير صحيفة الجزائر الفتاة (الأقدام) وهو الحاج عمار حمو. وأخيرا تم وضع لائحتين انتخابيتين معاديتين. وبقي أمل حزب الجزائر الفتاة معلقا بحسم القضية - قضية الجنسية - عن طريق انتخابات المسلمين في الجزائر.

مع لعبة التمثيل والانتخابات (1919 - 1922)

3 - مع لعبة التمثيل والانتخابات (1919 - 1922) أحيل خالد بن الهاشمي على التقاعد في تشرين الثاني - نوفمبر -1919، فتقدم لانتخابات بلدية الجزائر، منافسا للحاج موسى مصطفى الذي تم انتخابه بعدد (940) مقابل (925) للأمير خالد. في حين هزمت قائمة حزب (الجزائر الفتاة) وفشلت بسبب تبني الحزب لقضية اكتساب الجنسية الإفرنسية. وأصابت هذه الهزيمة الدكتور ابن شامي بجرح لأنه كان يعتقد في نفسه أنه زعيم حزب الجزائر الفتاة منذ سنة 1912، وزاد من عمق جرحه أنه لم يحصل على أكثر من (332) صوتا. الأمر الذي دفعه إلى اتهام الأمير خالد (بالتآمر ضد السلطة الإفرنسية، واستثمار تأثيراته الفوضوية). وتبنى مدير مكتب الشرطة هذا الاتهام، فقاد الدكتور ابن شامي إلى (باريس) حتى يقوم بعرض شكاواه ضد الأمير خالد. كما تابع ابن شامي حملاته ضد الأمير خالد في صحيفة الحزب (المستقبل الجزائري) ومما كتبه بهذا الشأن: من المعروف أنه

استنفر الجمهور علنا، طالبا تدخله الفوضوي، ومثيرا التعصب الإسلامي ضد سياسة الدمج، وضد الحصول على الجنسية الإفرنسية، متهما حامليها بالكفار، أصحاب القبعات الإفرنسية - البيريه). وعلقت صحيفة الأخبار على ذلك: (يجب إلغاء نتائج الانتخابات لأنها ألحقت الهزيمة بسياسة الدمج، وهي السياسة غير الشرعية لفرنسا ذاتها). المهم في الأمر، هو أن مستشارية الشرطة ألغت نتائج انتخابات البلدية بزعم أن هذه الانتخابات قد اعتمدت على (التعصب الإسلامي). جرت بعد ذلك انتخابات نيسان (أبريل) - حزيران (يونيو 1920، وعلى الرغم من معارضة الإدارة الإفرنسية، فقد تم انتخاب الأمير خالد - وعلى التتابع - نائبا ماليا، ثم مستشارا عاما، وتم انتخابه بأكثرية ساحقة ضد مرشحي الإدارة الإفرنسية، حيث حصل على (7) آلاف صوت مقابل (2500) صوتا نالها محيي الدين رزوق الذي كان أمينا عاما للاتحاد الإفرنسي - الجزائري منذ سنة 1914، ومستشارا عاما بأكثرية (2505) صوتا مقابل (256) صوتا أحرزها الدكتور تامزالي. وفي انتخابات 18 نيسان - إبريل - استطاع الأمير خالد دعم أصدقائه، فأمكن ضمان النجاح لأربعة منهم، وهم محمد بن رحال والدكتور موسى وابن عموره وقائد حمود. وتم انتخاب مدير صحيفة (الأقدام - راشيدي) الحاج عمار حمو، مستشارا عاما ضد باشآغا بن سيام، والذي هزم في الانتخابات المالية من قبل شيخ

الزاوية (بن تونس). وبذلك أصبح باستطاعة حزب الأمير خالد أيضا احتلال 5 مناصب من مراكز المستشارين العامين البالغ عددهم 29 مستشارا. وعلى الرغم من أن الأمير خالد ورفاقه الناجحين في انتخابات 18 نيسان - أبريل - لم يشكلوا أكثر من خمسة، من أصل 20 منتخبا، فقد أعلن المستعمرون والإدارة الإفرنسية، الويل والثبور لما بات يتهدد الإفرنسيين من خطر، على حد زعمهم (¬1). وعمل رئيس الشرطة على توجيه رسالة مفتوحة لكل عمداء المدن - مخاتير - طالبا إليهم إعلامه عن متطلباتهم من البواريد والرشاشات لضمان الدفاع عن المراكز الاستعمارية. وعقد بعد ذلك مؤتمر لعمداء الجزائر في شهر أيار - مايو - 1920؛ تم فيه توجيه احتجاج شديد اللهجة ضد الحقوق الانتخابية التي أقرها البرلمان الإفرنسي للمواطنين الجزائريين المسلمين. وأخذ هذا المؤتمر على عاتقه إثارة الاضطرابات ضد تلك القوانين. وحذر الحكومة الإفرنسية من مغبة (المسؤولية التي تتحملها وهي تتجاوز الاعتبارات، وتخطىء التقويم، بتطبيقها للقوانين التي تتم دراستها والتصويت عليها خارج الجزائر والجزائريين). وأعلن رئيس متتخبي الاستعماريين أمام النواب الماليين: (بأنه ¬

_ (¬1) هناك تقرير يعود تاريخه إلى شهر آب - أغسطس - 1920 وفيه: (ليس الموقف خطيرا إلى درجة كبيرة، إذا ما أمكن لنا دعم الحزب الذي يبرهن على إخلاصه، بأكثر مما يفعله الحزب المنافس له).

يجب عدم الوقوع في خطأ منح كتلة - المسلمين الجزائريين - حقوق الانتخابات التي لا تتناسب مع حالتهم الاجتماعية - وهي الحالة التي كان يتم وصفها من قبل الاستعماريين بأنها حالة العصر البرونزي، إن لم تكن حالة العصر الحجري). وفي 15 أيار - مايو - أعلن أستاذ في جامعة الجزائر - هو الدكتور برنارد لافيرن - (بأن قانون سنة 1919 قد أفسح المجال الواسع أمام المنتخبين المسلمين بحيث أنه لن تمر أكثر من أربعة أعوام حتى تحمل الانتخابات ممثلي عائلات الزوايا والمساجد بالرغم من أنهم لا يرتبطون مع الإدارة الإفرنسية بأية روابط). والمهم في الأمر هو أن هذه التظاهرة العنيفة قد حظيت بالدعم الاجتماعي والموحد لممثلي البلديات البالغ عددهم (246) ممثلا. وأدى ذلك إلى قيام حملة حقيقية في مجال الصحافة، بدأتها صحيفة (صدى الجزائر) بمقال يحمل عنوانا مثيرا: (الجزائر في خطر). وأثارت في مقالها الشكوك حول صحة ولاء الجزائري المسلم، والنقيب السابق خالد. وفي 20 آب - أغسطس - 1920، أجمعت الصحافة الاستعمارية على المطالبة: (باعتقال كل المحرضين من حزب خالد). ومضت صحيفة (برق القسنطينة) لتشير - حسب زعمها - إلى ذلك (الحقد الدفين، والقسوة الوحشية التي تطبع بطابعها العرق بكامله - العرق العربي الإسلامي - والذي مضى قرابة قرن على تحضيره بدون أن تقتلع هذه الحضارة شيئا من وحشيته؟). والغريب في الأمر أن الصحافة الاستعمارية - وهي تردد مثل

هذه الترهات، لم تحاول التعرض لما نزل بالمواطنين المسلمين من المجاعة في سنة 1920، (حيث كانت ألنسوة يحملن على سواعدهن أبناءهم الموتى من الجوع). ولم تعمل هذه الصحافة - إلا على شحن عواطف الاستعماريين بالمزيد من الكراهية والبغضاء - هذا إذا كانوا في حاجة لمثل هذا المزيد - ضد أولئك الذين تصدوا لمجابهة الشر، والذين رفضوا الخضوع لسياسة الضغط، فقاموا للدفاع عن حقوق المسلمين، وطالبوا بتمثيلهم تمثيلا سياسيا صحيحا. نشرت صحيفة (الأزمنة) في عددها يوم 20 أيار - مايو - 1920، وعلى صفحتها الأولى، موضوعا عن التمثيل النيابي - البرلماني - للمسلمين الجزائريين، جاء فيه: (يجب أن يكون للمسلمين نوابهم في مجلس النواب والشيوخ، ذلك أن تطوير المصارحة الاستعمارية، يجب أن يتبعه تطوير مماثل وعلى ذات المستوى من الصراحة - من طرف المواطنين المسلمين). وتحركت على الفور وفي الاتجاه المضاد، الدوائر الاستعمارية، فطرحت قضايا (طرح الجنسية الإفرنسية على المسلمين) و (مشكلة الأمن). وتجاوزت ذلك إلى ما يمكن تسميته (بتنظيم مؤامرة حقيقية) لاستصدار قانون (إعادة فرض السلطات التأديبية وتشديد الرقابة على المواطنين) وذلك عشية وصول الأمير خالد مع وفد جزائري إلى باريس يوم 29 تموز - يوليو 1920. وهنا قد يكون من المناسب التوقف قليلا عند الطريقة التي تم

اتباعها لاستصدار هذا القانون، نظرا لأنها تمثل أسلوب الاستعماريين في المكر والخداع. كان هناك مشروع تم تقديمه من قبل السلطات الإفرنسية في 20 أيار - مايو - 1920 من أجل تمديد العمل بقانون 15 تموز - يوليو - سنة 1914 لمدة سنتين إضافيتين. وكان لزاما تقديم هذا القانون إلى (هيئة الشؤون الخارجية والمستعمرات) في مجلس النواب الإفرنسي، غير أن تعديل هذا القانون والموافقة عليه لمصلحة المواطنين الجزائريين، كان سيحظى بدعم النائب (موتيه) صديق الأمير خالد، ولهذا فقد عمل الاشتراكي (ليون بلوم) على تحويل المشروع إلى (هيئة الإدارة العامة) وتم طرحه أمام مجلس النواب في جلسة تغيب فيها النواب الذين يدافعون عن التمديد - وفي مقدمتهم - موتيه - وذلك في يوم 21 حزيران - يونيو - 1920. وأصبح هذا المشروع هو القانون المعروف بقانون 4 آب - أغسطس - 1920. وفيه تم تمديد العمل بقانون سنة 1914 لمدة سنة واحدة فقط. المهم بعد ذلك أيضا، متابعة ذلك الحوار الذي تردد في البرلمان الإفرنسي. فقد وقف النائب (موتيه) لاستجواب الحكومة في موضوع السياسة التي تعتزم تبنيها تجاه المواطنين الجزائريين المسلمين. فتصدى للإجابة عليه نواب الجزائر - من الإفرنسيين - وأعلنوا: (بأنهم يستغربون عدم إقدام الحكومة حتى تلك اللحظة على اعتقال الأمير خالد زعيم المتعصبين المسلمين). (وطالبوا بتكوين هيئة تتولى التحقيق في موقف النقيب السابق خالد) ورد

موتيه على هذا الهجوم بقوله: (إن الأمير خالد يحمل الصليب الحربي، ولديه ما يكفي من أكاليل الغار لتحميه ضد العار الذي يراد إلصاقه به) (¬1). ووقف أيضا نائب فرنسي ليقول: (بأنه كنائب اشتراكي، ارتكب عملا شائنا وقبيحا ضد مصلحة فرنسا، عندما حمل مجلس النواب الذي يستظل بالعلم الإفرنسي - الأزرق السماوي - على الموافقة على قانون قدمه النواب الجزائريون، وكانت الكلمة النهائية والحاسمة للنائب - موتيه - الذي عاد ليخاطب المنتخبين الجزائريين - الإفرنسيين بقوله: (إن سياستكم ستدفع بالمسلمين للتجمع خلف علمهم الأخضر). هل من الغريب توجيه كل هذه السهام للأمير خالد بن ¬

_ (¬1) المقصود بالعار الذي يراد إلحاقه بالأمير خالد، هو الاتهام الذي نشرته صحيفة (صدى الجزائر) وذكرت فيه أن الأمير خالد دفع ابنه للهرب إلى سوريا فرارا من الخدمة العسكرية في الجيش الإفرنسي. وهذا الابن هو من مواليد سنة 1900، وكان محميا من نظام الخدمة الإلزامية بصفته ابنا لمواطن من مواطني المحميات. وعلى كل حال. فقد تطوع هذا الابن في الجيش الإفرنسي في بيروت بتاريخ 22 تموز - يوليو - 1920. وقد وجه إليه والده رسالة طلب إليه فيها أداء خدمته في الجزائر وليس في سوريا (لإعطاء المثل لإخواننا في الدين). وقام النائب الإفرنسي - موتيه - بقراءة الرسالة التي وجهها الأمير خالد إلى ابنه - أمام مجلس النواب الإفرنسي. وجاء فيها: (إنك بتطوعك رددت السهم إلى صدور أولئك الخونة والانتهازيين الذين يهاجموننا عبر الصحافة. وأحبطت خطط الحاقدين الذين ما فتؤوا يستخدمون كافة الوسائل، ليضمونا في موقع العداء من فرنسا).

الهاشمي، وهو ما زال يحتل موقعا ثانويا ومتواضعا في أفق العمل السياسي؟ في الحقيقة، أبرزت الانتخابات البلدية بصورة مباغتة نجما تألق في ليل الظلام لمسلمي الجزائر، وأخذت كتلة المسلمين في التعرف عليه، عن كثب، وأعجبتها فيه دونما ريب قدرته على التصدي للإدارة الاستعمارية في الجزائر والانتصار عليها. هذا السيد الكبير، الذي ينتعل دائما الحذاء البني ويلبس القفاز الأبيض، خلق يكون أميرا في كل ملامحه، بما في ذلك لحيته، وهو كما وصفه تقرير من تقارير الشرطة الإفرنسية: (إنه يلهب مشاعر الجماهير المسلمة حيثما اتجه، وهو يصر على طرح نفسه بصفته حفيدا للأمير عبد القادر). وقد أخذت الشخصيات الإسلامية التقليدية في التقرب إليه والإحاطة به ومبايعته على العمل معه والاشتراك في الصحيفة التي بات يرأس تحريرها - صحيفة الأقدام. ولا ريب أن الأمير خالد قد تأثر بذلك أشد التأثير، فكان يسلك في ممارسته مذهب الزعماء الدينيين - المشايخ - فيؤم المصلين في صلواتهم، ويذهب لتعزية ومواساة العائلات الشهيرة بمعاداتها للاستعمار منذ أجيال عديدة. ويذكر له اشتراكه في العيد السنوي لسيدي عمار الشريف في قرية (آبو) ووقوفه لوعظ أكثر من ثمانية آلاف مسلم، تقاطروا من كل مكان للاشتراك في إحياء هذه المناسبة. عملت الإدارة الاستعمارية من جهتها على تقديم الأمير خالد منذ فوزه بانتخابات البلدية، بصفة (الأمير المزعوم) و (رئيس

الشيح ذوي العمائم) و (بطل المسلمين المحافظين). وكانت ترى في نجاحه المباغت (يقظة مفاجئة للتعصب الإسلامي). وكتب الحاكم العام للجزائر رسالة إلى الوزارة الإفرنسية بتارخ 4 أيار - مايو - 1920 جاء فيها: (لم تتوقف كتلة المسلمين عن الخضوع لفكرة دينية تختلط فيها تطلعات غامضة وقوية عن الوطنية الإسلامية). كما أن منظمة الاستخبارات لشؤوون الوطنيين المسلمين، خضعت للرعب من فكرة (الرابطة أو الجامعة الإسلامية) والتي كان يتم طرحها من قبل الأمير خالد قبل سنة 1914، ثم استبدالها بعد هذه السنة بشعار (الوطنية الإسلامية). وقد اشتركت الصحافة في إذكاء مخاوف منظمة الاستخبارات من خلال طرحها لما يجده الأمير خالد، ولو أنها كانت تعالج هذه المخاوف بأسلوب ساخر، مثل قولها: (الفزاعة القديمة للجامعة الإسلامية) (والجهاز الحربي لخصومنا: الوطنيين). ذلك هو الموقف العام للأوروبيين في الجزائر من الأمير خالد، غير أن بعض الإفرنسيين الليبراليين والذين عرفوه عن قرب اتخذوا موقفا مؤيدا له، من أمثال فيكتور باروكاند وبوجيفا وفيكتور سيلمان الذي سيصبح فيما بعد رئيسا لتحرير (صحيفة الإقدام). أما في باريس، فكان هناك تناقض في الرأي تجاهه. وعلى سبيل المثال، فقد كان رأي مساعد الأمين العام للدولة في وزارة الداخلية والمسؤول عن الجزائر - روبرت داوود - والذي عمل من قبل رئيسا لمكتب الحاكم العام للجزائر فأكسب معرفة جيدة

أوضاع الجزائر السياسية، كان هذا الرأي واضحا في تصريحه في شهر آذار - مارس - 1920 والذي تضمن ما يلي: (أكد الأمير خالد باستمرار ولاءه التام لفرنسا ولو أنه حشد حوله كل جماعة المشايخ، مما بات يدفع إلى التفكير بأنه تولى قيادة الحاقدين على فرنسا). كما أن رئيس استخبارات شؤون الجزائر في وزارة الداخلية - بينر - والذي كان يستطيع أن يقوم بصورة صحيحة ما ترسله استخبارات الجزائر من معلومات، لم يعتقد أيضا بصحة ما يقال عن دور الأمير خالد (التخريبي) فقال معلقا على مثل هذه المعلومات: (يظهر أن هناك مبالغة كبيرة في القول بأن مشاعر الأمير خالد هي مشاعر مضادة لفرنسا). أما الجنرال (ليوتي) فإنه لم يتوقف منذ سنة 1908، عن إثارة الشكوك ضد الأمير خالد، فكتب إلى صديق له في الجزائر يوم 4 آذار - مارس - سنة 1920 ما يلي: (أعرف الأمير خالد معرفة جيدة، وأعرف أية محنة أو كارثة يمثلها بشحصه) وعاد في 6 أيار - مايو - 1922 للقول: (لا أثق بهذا الشجاع المتهور الذي يندفع كما تندفع النار). يظهر من خلال العرض السابق لمقومات الأمير خالد طوال سنتي 1919 و 1920، أنه بقي مخلصا، من وجهة النظر السياسية، لمبادىء حزبه - الجزائر الفتاة. ويبرز ذلك واضحا عبر ما كانت تطرحه (الأخبار) (من ترحيب بالحقوق التي أمكن اكتسابها بقانون سنة 1919 وخاصة ما تميز به من الصراحة في

مناقشة المجالس البلدية، الأمر الذي تحول إلى مدرسة كبرى لتعلم الحريات السياسية) وكذلك قول الأمير خالد إلى إخوانه المسلمين وهو يطلب إليهم (منح ثقتهم الكاملة لأولئك الإفرنسيين الفرسان والذين يعملون بصدق من أجل تمثيلنا بمثيلا صحيحا). وحدد الأمير خالد في حزيران - يونيو - 1919 - في صحيفة الأقدام مطالب الجزائريين المسلمين وهي: 1 - إزالة - أو رفع - القوانين الاستثنائية. 2 - إقامة المجمعات المشتركة أو المختلطة (وكان الإفرنسيون يقيمون مدنهم الخاصة بهم). 3 - إزالة الحواجز العسكرية. 4 - ضم أقاليم الجزائر الثلاثة وإخضاعها للقوانين المطبقة على الأقاليم الإفرنسية ذاتها. وعاد الأمير خالد فطالب باسم مسلمي الوطن الجزائري إجراء تمثيل للمواطنين الجزائريين في المجالس الإفرنسية - التشريعية والتنفيذية - مع منح مسلمي الجزائر حقوق المواطنين الإفرنسية ذاتها بدون أي تعرض أو تغيير في حالة المسلمين الشخصية. ويظهر من ذلك أن الأمير خالد كان يعارض سياسة الدمج الكامل للجزائر بفرنسا. وخاض في سبيل ذلك صراعا حادا مع صديقه (جان ميليا) الذي كان يطالب بدمج الجزائريين إدماجا كاملا بالإفرنسيين وإصدار قانون جديد مثل (قانون كريميو) خاص بالمسلمين. وكانت حجة الأمير خالد في ذلك: أ - إن مشروع الدمج هو مشروع خيالي لأن كتلة المسلمين لا

تريده. وهي لا ترغب في نوعية المواطن الإفرنسي، ولا ترضى لحالتها بديلا بسبب تمسكها بعقيدتها الدينية. 2 - إن فرنسا ذاتها لا توافق أبدا على مثل هذا البرنامج الاجتماعي خوفا من قيام خمسة ملايين مسلم جزائري بإغراق الإفرنسيين في وطنهم (¬1). وجاء في تقرير للشرطة أن خالدا رد على (جان ميليا) خلال حفل تكريم أقيم على شرفه بما يلي: (إن إصدار قانون - مثل قانون كريميو - لا يمكن له أن يرضي المواطنين المسلمين الذين يريدون الاحتفاظ بلغتهم وعاداتهم وتقاليدهم ودينهم والذين يتطلعون للعيش بهدوء وسلام. ولا يمكن للمواطن المسلم أن يتخلى عن وضعه الشخصي). وبينما كان الأمير خالد يعارض سياسة الدمج، فإنه طرح بديلا عن هذه السياسة بسياسة الاتحاد). وكان يردد: (لندع الحديث عن الدمج، ولنأخذ بسياسة الاتحاد). وقد أخذ في هذا المجال بالمقولة التي طرحها بعض الإفرنسيين وهي: (اعملوا على اتحاد العرقين - الجنسيتين - في إطار من الاحترام المتبادل للطرفين). وتبنى في هذا المجال شعار (فرنسا والإسلام). ومن أجل ذلك، فقد طالب بجعل التعليم الإبتدائي (عربيا - فرنسيا) في وقت واحد. وجعل هذا التعليم إلزاميا في الجزائر، إلى جانب إقامة ¬

_ (¬1) مجلة الأقدام الأسبوعية 21 - 28 حزيران - يونيو - 1919. أما تقرير الشرطة المشار إليه فتاريخه 25 كانون الثاني - يناير - 1921.

جامعة عربية تقف إلى جانب الجامعة الإفرنسية في التعليم العالي. لقد كان ذلك كافيا جدا حتى يعتبر (مجلس الاستعماريين) الذي عقد في حزيران - يونيو - سنة 1919 بأن الأمير خالد يجعل من نفسه (بطل العقل الوطني المسلم) وأن تعمل الصحافة الاستعمارية على وصفه (ببطل بعث الجامعة الإسلامية). غير أن الأمير خالد استطاع أن يتجنب بكفاءة عالية ما تثيره مثل هذه المقولات من ردود فعل عند الاستعماريين الإفرنسيين فقال في حديث له مع المستشار العام للإدارة الجزائرية: (بأن عائلته في سوريا وقعت ضحية العنف التركي - مشيرا بذلك إلى إقدام جمال باشا على إعدام الأمير عمر وابنه يوم 20 نيسان - أبريل - سنة 1916 - ثم أن عائلته دفعت الثمن مرة أخرى على أيدي الوطنيين العرب). غير أن ذلك لا يمكن أن يعيقه من الحفاط على علاقاته مع عائلته. والبقاء على حذر من مسيرة الأحداث وتطوراتها في سوريا. (وأنه إذا ما كان يصر على طرح القضية الوطنية، فليس ذلك إلا من أجل إشراك إخوانه في الدين للعمل عبر القنوات الشرعية من أجل الوصول إلى موقف أفضل). ولكن مثل هذا الدفاع لم يمنع المستشار الإفرنسي من تأنيبه: (لأنه قال لخصومه ممن قبلوا الجلسة الإفرنسية، بأنهم تنكروا لدينهم ولأصلهم - جنسيتهم). لم يكن العمل السياسي للأمير خالد، بعد ذلك، في وسط المجالس الجزائرية، إلا ترجمة أمينة لأقواله المعروفة، ومواقفه

السياسية الثابتة، فعندما تم انتخابه مستشارا عاما، أعلن عن تمنياته: 1 - أن يتم إلغاء وعزل كافة القوانين والمجالس الاستثنائية. 2 - عدم العودة للسلطات الزجرية التي كان يعتمدها رجال الإدارة الإفرنسية. 3 - الموافقة على التمثيل النيابي - البرلماني - للمواطنين المسلمين. وأما في مجال عمله في الإدارة المالية - بصفته عضوا منتخبا فيها - فقد حاول الاحتجاج على الضرائب التي تضمنها مشروع قانون يعيد فرض السلطات الزجرية - الانضباطية - وكان رد الفعل على هذا الاحتجاج كما وصفه الحاكم العام الإفرنسي: (كان معظم الأعضاء المنتخبين من الكهول الذين حافظوا على وفائهم في خدمة الإدارة الإفرنسية. ولهذا فإنهم رفضوا احتجاج لأمير خالد وأحبطوا له أمنيته). وقد نقلت الاستخبارات الإفرنسية في الجزائر للحكومة الإفرنسية معلومات - وصفتها بأنها مؤكدة - عن تصميم الأمير خالد على مقابلة مؤتمر عمداء الجزائر الذي عقد في أيار - مايو - 1920 وذلك بمحاولة تنظيم مؤتمر موسع لتمثيل المواطنين المسلمين. وأن سي بن رحال والدكتور موسى يعملان مع الأمير خالد في هذا الاتجاه. ولكن لم يتحقق شيء من ذلك -. وكان لهذه الفكرة التي طرحها الأمير خالد ثمارها فيما بعد، حيث تم عقد أول مؤتمر (للنواب المسلمين) في الجزائر يوم 11 أيلول - سبتمبر - 1927 .

(وهو تاريخ ولادة حركة اتحاد النواب المنتخبين للمسلمين). وتبع ذلك توجه الأمير خالد والدكتور موسى وابن رحال إلى باريس لطرح وجهة نظرهم ومعارضة الوفد الذي أرسله الحاكم العام للجزائر (وضم محيي الدين زروق والدكتور بنثاني - أو ابن شامي - وقائد صياح سي حني) بهدف إقامة النظام (الخاص بالمسلمين). وقد وصل الأمير خالد ورفيقاه في وقت متأخر، حيث كان مجلس النواب الإفرنسي قد أقر إقامة النظام الذي اقترحه الحاكم العام للجزائر. وقام رئيس مجلس النواب الإفرنسي باستقبال الأمير ورفيقيه، وخفف من مخاوفهم بشأن الأساليب التي سيتم اتباعها في تطبيق هذا القانون). وقابل الأمير خالد مساعد الأمين العام لوزارة الداخلية الإفرنسي. وطلب تقديمه لمحكمة تنظر في الاتهامات الموجهة إليه. ومنها (ما تضمنه برنامجه الانتخابي لسنة 1919 عن استقلال الشعب العربي) وكذلك ما كانت تتضمنه الحملة الصحافية التي كان يوجهها الاستعمار ضده ومنها تهمة (تنظيمه لبؤرة الاضطرابات في الجزائر على نحو ما سبق له أن فعله في المغرب). غير أن مساعد الأمين العام لوزارة الداخلية أجابه بقوله: (لنضرب صفحا على الماضي) وأكد ذلك بأن الدوائر المركزية في باريس لم تأخذ بما كانت تتبناه الإدارة الاستعمارية في الجزائر من تحريض ضد الأمير خالد. غير أن هذا التأكيد لم يعمل على إزالة الشكوك من إمكانية تطوير الموقف نحو اتجاه أكثر ثوروية.

قدم الأمير خالد ومعه مستشارو البلديات المسلمين في الجزائر استقالاتهم من أعمالهم في يوم 9 تشرين الأول - أكتوبر - 1920. وذلك على الرغم من عدم تطبيق قرار إلغاء الانتخابات الذي اتخذه مدير شرطة الجزائر. غير أن احتجاج المرشحين الفاشلين في الانتخابات أمام مجلس الدولة جعل قرار الإلغاء معلقا. وكان أصدقاء الأمير خالد يتوقعون إجراء انتخابات جديدة، وكان يهمهم من أمر هذه الانتخابات إبراز المصالحة التي تمت بين أعضاء حزب (الجزائر الفتاة) بأكثر مما يهمهم الفوز فيها. ولقد بدأت هذه المصالحة في أثر ذلك النداء المؤثر الذي وجهه الشيخ - الكهل - ابن رحال وطلب فيه (إقامة الوحدة بين أولئك الذين يمزق بعضهم بعضا، والذين يجب عليهم توحيد جهودهم لما فيه خير المسلمين ومصلحتهم). وانتهت المحاولات الأولى بإجراء المصالحة بين الأمير خالد والدكتور موسى بن شفوف، النائب المالي عن خنشلة وذلك بحضور ابن شامي (بنثامي). كما حدثت مصالحات كثيرة طوال سنة 1920، وأقبل القسم الأكبر من أعضاء حزب الجزائر الفتاة على إجراء المصالحة فيما بينهم، وتقارب الخصوم بعضهم من بعض في يوم واحد، مما دفع رئيس شرطة الجزائر الذي عمل طويلا من أجل هذا الانقسام والتمزق للقول: (لقد ظهر بأن الانقسام بين الأمير خالد وأعضاء حزب الجزائر الفتاة، لم يكن انقساما نهائيا أو حاسما). وأن

تظاهرة المصالحة هي تعبير عن الحقوق، وتأكيد على الخطأ السياسي الذي تم ارتكابه بتطبيق قانون المواطنين المسلمين). كانت الثمرة الأولى للمصالحة هي وضع قائمة انتخابية موحدة برئاسة الأمير خالد وضمت قائد حمود والدكتور العربي والحاج عمار - وكان الحاج موسى قد توفي - بالإضافة إلى الدكتور تامزالي وشيكيكن وساطور رشيد وإلياس بن سمعان وفيكتور باروكان وضمت القائمة أيضا كافرا ويهوديا وإفرنسيا (وكان على رأس القائمه في وهران اليهودي مردخاي شالوم). ومقابل ذلك تم وضع قائمة برئاسة الدكتور بنثامي (ابن شامي) وتوجيه الدكتور صوالح ودعم الإدارة الإفرنسية التي يمثلها الباشا آغا صحراوي وصياح مصطفى سي حنة ومحيي الدين زروق والقائد الإبراهيمي الأخضر وكان لهذه المجموعة صحيفتها (المستقبل الجزائري) والتي كان يديرها الدكتور بنثامي، ثم أصبحت تحمل عشية الانتخابات اسم (مستقبل الجزائر) وانتقلت إدارتها أيضا إلى الدكتور صوالح يوم 7 كانون الثاني - يناير 1921. وعلى الرغم من دعم الإدارة الإفرنسية المطلق للقائمة المضادة لقائمة الأمير خالد، فقد انتصر الأمير خالد ونجحت قائمته بكاملها، فكتب يوم 9 كانون الثاني - يناير - 1921 رسالة إلى وزير الداخلية الإفرنسي - في باريس - جاء فيها: (على الرغم من الضغوط التي لا توصف، فقد نجحت القاثمة التي أترأسها بكاملها).وتجدر الإشارة إلى أن عدد الناخبين في الجزائر بلغ (1880) ناخبا؛ اشترك منهم في الاقتراع 866 مواطنا وحمل

الأمير خالد على (720) صوتا، أما الدكتور بنثامي، الذي فشل في الانتخابات، فلم يحصل على أكثر من (263) صوتا. أما الدكتور العربي الذي أخرج من قائمة الأمير خالد في اللحظة الأخيرة، فإنه سقط في الانتخابات، ولم يحصل على أكثر من (263) صوتا. وبرهنت هذه النتيجة، وللمرة الرابعة، ثقة الجزائرين المسلمين المطلقة بالأمير خالد، ودعمهم لقيادته. لم يعد لدى الإدارة الاستعمارية في الجزائر، إعتبارا من هذا التاريخ، أدنى شك أو ريية في أن (خميرة الوطنية الإسلامية قد ثبتت في الجزائر). وبات الهم الأساسي الذي تعانيه أجهزة الاستخبارات هو متابعة تحرك المواطنين المسلمين في انتظار (إعادة بعث الحضارة الإسلامية - في الجزائر - بكل أبعادها وشموليتها). وهي الحضارة التي سيتم التمهيد لها - من وجهة نظر الإدارة الاستعمارية في الجزائر - وبنشر التعليم العربي على نطاق واسع). واستخلصت الإدارة الاستعمارية مخطط عمل الوطنية الإسلامية، ومراحله بالتالي: 1 - إقامة تحالف مع الاشتراكيين الأوروبيين. 2 - تركيز الجهد في مرحلة وسيطة للحصول على المساواة بين العروق - الجنسيات - وتنسيق التعاون مع الدولة التي تحتل بلاد المسلمين. 3 - الانتقال بعد ذلك إلى مرحلة الاستقلال الكامل.

وكان هدف الإدارة الاستعمارية من إبراز هذا المخطط المزعوم، أو المفروض، هو إحراج الأمير خالد أمام حكومة باريس. ومقابل ذلك فإن شباب (حزب الجزائر الفتاة) لم يتوقفوا أبدا عن التصدي لمجابهة مثل هذه المقولات الخبيثة - في تلك الفترة - فكان مما يقولونه عن خصومهم في الإدارة الإفرنسية في الجزائر: (إنهم يحاولون اظهار وطنيتنا على أنها مضادة لفرنسا، وكل ذلك لأننا مستقلون - ولم نخضع لهذه الإدارة الإفرنسية). وأظهر نائب جزائري صورة الموقف بالمقولة التالية: (يجب ألا يغيب عن الأنظار أبدا بأن الإدارة الإفرنسية تضع الانتخابات دائما في ظروف صعبة للغاية. فإما أن يفوز المرشح للانتخابات بدعم من الحكومة فيكون عبدا لها - مملوكا -، وإما أن يفوز مستقلا عنها فتصفه - أو تتهمه - بأنه محرض على الثورة). أما مجلة الأقدام - الناطقة باسم (حزب الجزائر الفتاة) فقد نشرت في عددها 23 أيلول - سبتمبر - 1921 ما يلي: (اليوم، ونحن نمارس ذات الحقوق، ونضطلع بذات الواجبات التي يضطلع بها الإفرنسيون، بات لزاما علينا ممارسة الحقوق بصورة مشتركة دونما أي احتواء أو احتجاج). وفي الحقيقة، فقد احتح أصدقاء خالد على توصية المستشار العام للجزائر الذي طالب بإلغاء تجنيد المسلمين مقابل رفض منحهم الحقوق الوطنية. كما عمل خالد بدوره على توجيه رسالة إلى رئيس الحكومة الإفرنسية بهذا الشأن، مركزا بإلحاح على عدم

المساواة في مدة الخدمة العسكرية بين الجزائريين والإفرنسيين (¬1). بقيت قضية التحالف مع الشيوعية، وهي القضية التي أخدت صفتها الشرعية من خلال اقتراح شخصي تقدم به الوفد الجزائري - التونسي إلى مؤتمر مدينة تور، وتضمن هذا الاقراح ما يلي: (إذا ما وافقت الجزائر - وصوتت - في المؤتمر فإن ذلك بسبب ما تضمنته بنود المؤتمر الثالث الدولي بشأن الاستعمار، وهي البنود التي أوجدت فيها البروليتاريا الجزائرية تعبيرا عن تطلعاتها في استرداد حقوقها). وتولت مجلة الأمير خالد إدانة الشيوعية بقولها: (قضية المسلمين الجزائريين هي قضية عرقية ولا يمكن حلها بوسيلة صراع الطبقات) (¬2). وعادت المجلة للقول: (لنتحدث بصراحة، فحزب الجزائر الفتاة لا يحتاج لإخفاء عواطفه تجاه الشيوعية التي لا يمكن له اعتناقها بسبب عقيدته الدينية) (¬3). وقد أدان الحزب الشيوعي الإفرنسي - الجزائري - ما حملته مقررات المؤتمر الدولي الثالث للأحزاب الشيوعية في العالم. وهاجم أيضا (الوطنية الإسلامية الجزائرية) كما أدان المبادىء الوطنية والإقطاعية للبورجوازيين العرب. ¬

_ (¬1) رفع المستشار للجزائر توصيته يوم 12 تشرين الثاني - نوفمبر 1921. واحتجت عليها مجلة (الأقدام) في عدد يوم 2 وكذلك في عدد يوم 16 كانون الأول - ديسمبر - 1921. (¬2) مجلة الأقدام - الافتتاحية 8 نيسان - إبريل 1921. (¬3) البرق الجزائري (Depeche Algerienne) عدد يوم 19 حزيران - يونيو -1921.

لم يلبث الأمير خالد أن استقال من مناصبه التي تم انتخابه لإشعالها وهي (المستشار العام) و (المنتخب المالي). وكانت استقالته المباغتة يوم 22 أيار - مايو - 1921، بسيب ما أوضحه الأمير خالد ذاته في مقولته التالية: (إنني لا أرى فائدة من وجودنا في هذه المجالس. إننا غارقون في وسط أكثرية ساحقة. وعلاوة على كوننا أقلية، فهناك عدد كبير منا من الأتباع - المرتبطين - وعلى هذا فستكون أصواتنا معدومة، وأعمالنا ملغاة). وزاد من تأثير هذه المباغتة أنها حدثت عشية افتتاح مؤتمر (النواب المنتخبين الماليين) والتي تميزت عند افتتاحها في يوم 17 حزيران - يونيو - بخطاب ألقاه (ابن رحال) والذي وصفه ليوتي بقوله: (بأنه ذو فائدة عظيمة. في حين وصفته صحافة الجروة بأنه: (تظاهرة تعبر عن بعث الروح الإسلامية وهي تستعيد حقها في النهوض أمام السيادة الإفرنسية) (¬1). ويظهر أن الأمير خالد أراد باستقالته، إثارة انتباه أعضاء البرلمان بشأن استعادة الحقوق الجزائرية. وقد كتب الأمير خالد في رسالة استقالته: (علينا اليوم وأكثر من أي وقت مضى، توجيه أنظارنا نحو الوطن الأم - فرنسا - ونحوها وحدها فقط، على أمل رؤية هذا الوطن وهو يقرر مصيرنا بصورة حقيقية). هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اتخذ الأعضاء الماليون المنتخبون المسلمون - من العرب والبربر - قرارا بالإجماع يوم 31 أيار - مايو - 1921 يعارض مباشرة ذلك القرار الذي قدمه ممثل الإدارة الإفرنسية إلى ¬

_ (¬1) مجلة الأقدام 23 حزيران - يونيو - 1921.

(المجلس الاستعماري الجزائري). وطالب النواب - المنتخبون المسلمون بصورة أساسية إجراء تمثيل خاص بهم، وانتخاب حر لهم، وإقامة مجلس للنواب الجزائريين المسلمين وأن يكون لهم نسبة الخمسين في المجالس الجزائرية القائمة أو التي ستتم إقامتها في المستقبل. وجدير بالذكر هنا، أن النزعة الاستقلالية البارزة للمسلمين، لم تكن إلا رد فعل لما ظهر لدى المستوطنين الأوروبيين في الجزائر من نزعة استقلالية، استثارت المسلمين جميعهم، ودفعت رئيس النواب الماليين للقول: (إن التجمع الجزائري يسمح لنا بالتصويت على الأسس والأنظمة والتي لا يمكن الاعتراف بها أو قولها إلا بواسطتنا ومن قبلنا). وكان من الطبيعي، ومن المتوقع، أن تثير استقالة الأمير خالد جدلا حادا بين الأصدقاء والأعداء على السواء، كما كان من الطبيعي، ومن المتوقع أيضا، أن يتعرض الأمير خالد ذاته لضغوط بمجرد إصابته بإحباط، أو ردة فعل فقط على ما أظهره المستوطنون من نزعة استقلالية. وكان في جملة ما تعرض له الأمير خالد تلك الحملة الصحفية التي شنتها ضده الصحف التابعة للدوائر الاستعمارية. وبالمقابل فقد تصدى آخرون للدفاع عنه، ومما قيل بهذا الشأن: (يجب ألا تنجح تلك العقول السقيمة والنفوس الخبيثة في مسعاها لترجمة الرغبة في التحرر من هيمنة فرنسا واستغلالها لخنق أصوات المسلمين الجزائريين).

وكان مما عاناه الأمير خالد هو إظهار بعض أصدقائه - وفيهم من كان شديد الحماسة - رغبتهم الواضحة في التخلي عن الصراع، واعتزال ميدان الجهاد. كما كان في جملة ما عاناه أيضا تعرض صحيفته (الأقدام) لمتاعب مالية؛ مما اضطره لإصدارها في صحيفة واحدة، بل حتى إيقافها عن الصدور من يوم 10 حزيران - يونيو -وحتى يوم 22 تموز - يوليو -. وكان أن اجتمع مؤتمر النواب المنتخبين المسلمين للبلديات، وتقدموا إلى الأمير خالد برجاء العدول عن استقالته. ورشح نفسه بعد ذلك للانتخابات الفرعية في شهر تموز - يوليو - 1921،وعادت الإدارة الإفرنسية في الجزائر لبذل جهودها لإسقاطه غير أنها فشلت في مساعيها، ونجح الأمير خالد بأكثرية ألفي صوت، وانتصر على منافسه (محيي الدين زروق) الذي كان مرشح المخابرات الإفرنسية. أدى هذا النجاح، والذي لم يكن متوقعا تماما، إلى إعادة تنظيم صفوف حزب (الجزائر الفتاة) كما أعيد تنظيم إدارة صحيفة (الأقدام). فاختفى من إدارتها الحاج عمار وقايد حمود. وفي يوم 2 أيلول - سبتمبر - أعلن الرجلان (تنازلهما عن عملهما لمصلحة الأمير خالد) الذي أسند إدارة الصحيفة إلى أحمد بلول، وهو أستاذ مجاز في العلوم الفيزيائية. كما أدى نجاح الأمير خالد إلى مصالحة بينه وبين (بنثامي) أو بن شامي. وعندما جرت الانتخابات الفرعية في تشرين الأول - أكتوبر - 1921، أفاد (بنثامي) من دعم الأمير خالد له، ففاز في المدية بانتخاب (المستشار العام)،كما عمل الأمير خالد على دعم مرشح آخر في هذه الانتخابات (في المليانة) مما أدى إلى نجاح هذا المرشح.

عاد التفاؤل مهيمنا على مناخ حزب الجزائر الفتاة في نهاية شهر تموز - يوليو - 1921 وذلك لدى استقبال الحاكم العام الجديد للجزائر، والذي عمل فور وصوله على إعادة قانون سنة 1919 إلى مجلس الشيوخ. وعبرت مجلة (الأقدام) عن تفاؤلها هذا بقولها: (إننا على يقين من أن - الحاكم الجديد - سيسرع إلى تأمين حل مناسب لقضية إعادة حقوقنا، نظرا لعدالة قضتنا) (¬1)؛ وهي القضية التي تشمل، فيما تشمله: التمثيل النيابي - البرلماني - والإلحاق السياسي والإداري بفرنسا، والتي باتت اليوم تحتل أكثر من أي وقت مضى - الأفضلية الأولى على كل ما عداها من الأمور. ولم يحاول حزب الجزائر الفتاة - في كل ذلك - إخفاء مخاوفه من إقامة نظام (المحمية الجزائرية - أو الدومينيون الجزائري) نظرا لأن إقامة مثل هذا النظام ستضع الجزائريين المسلمين تحت رحمة الاستعماريين. وقد حاول الأمير خالد من جهته طرح ذلك، على أحد الوزراء، لدى مروره بالجزائر، غير أن السلطات الجزائرية حالت بينه وبين مقابلة هذا الوزير. فانتقم الأمير خالد لنفسه بأن طرح ما يريد قوله على وفد برلماني إفرنسي كان قد وصل إلى الجزائر في أيار - مايو - 1921، لمشاهدة المعرض الذي أقيم فيها. وفي هذا اللقاء، عارض الأمير خالد منح حقوق الإستقلال للمستوطنين الإفرنسيين وطالب بإلحاق الجزائر بالوطن الأم - فرنسا - سياسيا وأداريا - مع الاستجابة لرغبات المسلمين في الاحتفاظ ¬

_ (¬1) الأقدام 23 أيلول - سبتمبر - 1921 .

بحالتهم الشخصية. وكان من رأيه أن تستمر فرنسا بممارسة دورها الوسيط أو الحكم بين المستوطنين - الكولون - وبين الجزائريين المسلمين. وكان يردد باستمرار: (أننا نريد أبدا البقاء تحت الوصاية الإفرنسية - فرنسا - ذلك لأنها هي وحدها القادرة على توجيه مصالح جميع العناصر من سكان الجزائر بصورة متوازنة وعادلة) (¬1). وتجدر الإشارة إلى ذلك السؤال الذي طرحته صحيفة جزائرية على الأمير خالد وهو: (ما هو الحال الذي ستكون عليه الجزائر في سنة 1950؟ وهل ستكون فرنسية أو عربية؟ فأجاب الأمير خالد بقوله: (سيكون هناك أجانب - أغراب - تحت قبضة الأوروبيين المسوطنين في الجزائر؟، وهو ما حدث فعلا. قام (أحمد بلول) بتقديم مقترحات الأمير خالد - سابقة الذكر - إلى لجنة مجلس الشيوخ الإفرنسي وذلك في يوم 23 كانون الأول - ديسمبر - 1922، واستهلها بقراءة تقرير (قائد حمود) والذي تبناه نواب العرب والقبائل في مؤتمرهم يوم 31 - أيار - مايو - 1921. ثم اقترح الموافقة على منح حق الاقتراح - الانتخاب لهذا التمثيل للهيكل الانتخابي الذي تنبثق عنه مجالس المنتخبين - أو النواب المالين) - وهذا يعني منح هذا الحق إلى مائة ألف ناخب تقريبا من المسلمين الجزائريين. وقام أفراد لجنة مجلس الشيوخ بتهنئة (أحمد بلول) على تواضعه وعلى ما تميزت به مقترحاته من الواقعية. كما أن النواب الافرنسيين بصورة عامة لم يكونوا معادين أو ضد مثل هذا ¬

_ (¬1) الأقدام 27 كانون الثاني - يناير - 1922.

التمثيل، غير أنهم لم يكونوا في الوقت ذاته على استعداد للتضحية بمستوطني الجزائر، أو التعرض لمقاومتهم العنيدة بصفتهم ممثلي الاستعمار. وهكذا تم تشكيل جامعة إفرنسية لتمثيل المواطنين المسلمين الجزائريين في مجلس النواب - البرلمان - وأسندت رئاسة هذه الجامعة إلى الفرنسي (إداوار هيريوت)؛ غير أن هذه الجامعة ولدت ميتة، ولم تمارس أي نشاط. وأثناء ذلك، حاول الأمير خالد تنظيم (جمعية الأخوة الجزائرية) في الجزائر بهدف تأمين الوسائل الضرورية للعمل من أجل دعم المطالب السياسية. غير أن دور هذه الجمعية اقتصر على جمع الاشتراكات، وتأمين الدعم المالي، ولم تتحول إلى حزاب سياسي حقيقي. قام رئيس الجمهورية الإفرنسية (ميلراند) بزيارة للمغرب العربي - الإسلامي (الذي كان يطلق عليه الاستعماريون اسم شمال أفريقية لفصله عن العالم العربي - الإسلامي. فأفاد حزب (الجزائر الفتاة) من هذه المناسبة لإثارة انتباه فرنسا، وتركيز الأنظار على قضية مطالب الجزائريين - المسلمين ... وحصل الأمير خالد على موافقة الحاكم العام للجزائر من أجل مقابلة رئيس الجمهورية الإفرنسية - بالرغم من معارضة رئيس الشرطة في الجزائر وتم هذا اللقاء يوم 20 نيسان - أبرل - 1922. في المكان الذي اختاره الحاكم العام للجزائر وهو (مسجد سيدي عبد الرحمن) في الجزائر العاصمة. وأراد الأمير خالد تفسير انتقال

رئيس الجمهورية (ميلراند) (¬1) إلى المسجد (بمثابة تعبير عن رغبة في الإعلان لسكان الجزائر، دونما تمييز بين معتقداتهم، ودونما تفريق بين عروقهم - أجناسهم - أنهم جميعا أبناء لفرنسا، وأن لهم حقوقا متساوية في أوطانهم). وطالب الأمير خالد باسم التضحيات التي قدمها الجزائريون المسلمون في الحرب، ومن أجل التطور البطيء والثابت للمصالح والأفكار، أن يتم تطوير الحريات التي قدمتها فرنسا بسخاء وذلك حتى يأخذ الجزائريون المسلمون مكانتهم في صف العائلة الإفرنسية الكبيرة. وكان مما قاله: (لقد أتينا للاشتراك في تمثيل نيابي - برلماني - في البرلمان الإفرنسي. ونحن نستحق هذا الشرف. وسيعتبر الوطن الأم دونما ريب، أن من واجبه إقرارنا ومنحنا هذه الحقوق تلقائيا). ولقد وصف نائب فرنسي كان يرافق رئيس الجمهورية، بأن الأمير خالد قدم مطالبه بفخر وتعال ولكن باحترام. ورد الرئيس الإفرنسي الذي ما جاء إلى الجزائر إلا من أجل دعم الإفرنسيين المستوطنين وإدخال الطمأنينة إلى نفوسهم. فقال بوضوح وصراحة: (لا ريب عندي بأنه سيأتي يوم يتم فيه زيادة الحقوق ¬

_ (¬1) ميلراند - اتيين الكسندر - MILLERAND ETIENNE ALEXANDRE رجل سياسي إفرنسي، من مواليد باريس، (1809 - 1143) اشتراكي، عمل وزيرا للحربية (1914 - 1915) ثم أصبح رئيسا للجمهورية (1920 - 1924) ثم انسحب من ميدان العمل السياسي بسبب معارضة (كارتل اليساريين) ومقاومتهم له.

السياسية التي سبق منحها للمواطنين الجزائريين ... وأعتقد أنه من الحذر انتظار النتائج التي سيسفر عنها قانون 1919). الأمر الواضح هو أن هذه الإجابة السلبية لم تغلق الباب نهائيا أمام مطالب الأمير خالد، وعلق الأمير خالد على ذلك بقوله: (إن رئيس الجمهورية الإفرنسية لا تستطيع قول ما هو أكثر من ذلك، ,وإلا فإنه سيخرج على سلطاته المحدودة والضعيفة والتي حددها له الدستور الإفرنسي). أما مرافقو الرئيس الإفرنسي - مساعدوه - فكان تعليقهم على لقاء خالد برئيس الجمهورية، كالتالي: (لقد كان لقاءا مشهورا ومتسما بالعظمة ولعله أمر مثير رؤية حفيد الأمير عبد القادر وهو يتحدث من موقع الند للند، مع رئيس الجمهورية الإفرنسية). هذا في حين أخذت دوائر المستوطنين الاستعماريين اعتبار خطاب خالد أمام رئيس الجمهورية بأنه لا يمثل (أكثر من صوت نشاز - منعزل) إلا أن خطاب قائد حمود أمام الرئيس الإفرنسي في بليدا، وكذلك خطاب محمد بن رحال في وهران، دحض مقولة أولئك الحاقدين اللذين اعتبروا أن موقف الأمير خالد هو موقف (لا يحتمل، ولا يحوز التهاون بشأنه، وأخذوا في تناقل النبأ على أنه (حدث خطير). وقامت الدوائر الاستعمارية في الجزائر بنقل المعركة ضد الأمير خالد إلى الصحافة الإفرنسية في فرنسا. فأخذت هذه - عن عمد وتصميم - في التعليق على خطاب الأمير خالد تحت عناوين مثيرة، مثل: (الخطاب المباغت) و (الموقف غير المتوقع) و (الخطاب الذي جاء في غير وقته، وفي غير محله) و (ضربة قوة حقيقية) أو (الانقلاب

الحقيقي) و (تظاهره وطنية للجزائريين المسلمين على غرار التظاهرة التونسية). وذهبت بعض الصحف للتذكير (برحلة الأمير خالد ورفيقه انفر باشا إلى موسكو في أيلول - سبتمبر - 1920). وقامت الحكومة الإفرنسية بنشر كتيب خاص تحت عنوان (رحلة الرئيس إلى الجزائر) وتضمن في موضوع خطاب الأمير خالد، الفقرة التالية: (لم يكن من المتوقع أبدا، على ما يظهر، أن يلقي الأمير خالد مثل هذا الخطاب، لا سيما وأن عائلته تعيش مع عدونا - عمه عبد الملك). وهكذا استطاعت الدوائر الاستعمارية في الجزائر - الكولون - تجنيد أكثر من مائتي صحيفة لتضخيم ما أطلقت عليه (أسطورة الحدث الشهير ليوم 20 نيسان - أبريل - 1922). غير أن رجلا واحدا لم يغير موقفه من الأمير خالد، وهذا الرجل هو الحاكم العام للجزائر، الذي قال في مقابلة صحافية: (لقد رفع البعض أصواتهم بالصراخ عاليا ... أليس من الواجب رؤية الأمور من زاوية مضادة؛ والنظر إلى مطالب الأمير خالد على أنها علامة إيجابية على التعلق بفرنسا، مما يثير الإعجاب بمؤهلاته ومواقفه) (¬1). لم يكن الإفرنسيون في الجزائر مستعدين على كل حال للتساهل تجاه هذه القضية التي طرحها الأمير خالد. وفي 20 أيار - مايو - 1922، أعلن النواب - المنتخبون - الماليون بأنهم لا يستطيعون الموافقة على التعديلات في تكوين المجالس الجزائرية. وهي التعديلات التي منحت، المستوطنين الأوروبيين حتى التمثيل في البرلمان ¬

_ (¬1) صحيفة (برق تولون) 30 نيسان - إبريل - 1922 DEPECHE DE TOULOUSE.

- مجلس النواب - الإفرنسي، مع زيادة عدد ممثليهم، مستشاريهم -. وعارض رئيس مجلس النواب - المنتخبين - تسجيل هذا الطلب الذي تقدم به النواب المسلمون في إعلانهم. وعندئذ غادر النواب المسلمون قاعة الاجتماع احتجاجا على موقف رئيس المجلس. وأخذ حزب (الجزائر الفتاة) بالمطالبة بتحقيق المساواة مع الأوروبيين في مجال التمثيل النيابي (أي 6 ممثلين لمجلس النواب و3 ممثلين لمجلس الشيوخ). وذهبت صحيفة إفرنسية - مذهب السخرية من ذلك - فقالت: (يمكن تأجيل منح الحقوق السياسية - للمسلمين الجزائريين - حتى وقت متأخر - وإلى سنة 2325 م. تقريبا). انتقل الصراع إلى مجلس النواب الإفرنسي، حيث تقدم نائبان فرنسيان بمشروع قانون لتأجيل تطبيق نظام (المواطنين المسلمين). ويقترح مشروع القانون هذا منح حتى التمثيل النيابي - البرلماني - لخمسة ملايين من المسلمين)،وذلك بمعدل نائب واحد لكل مقاطعة من مقاطعات الجزائر الثلاث، وممثل واحد عن الجزائر كلها لمجلس الشيوخ. ودافع أحد النائبين اللذين قدما هذا المشروع - وهو السيد موتيه - عن مشروعه أمام لجنة شؤون المسلمين بقوله: (يجب الاهتمام بالمسلمين الجزائريين، وتأهيلهم للحياة السياسية الإفرنسية ... ويجب إفساح المجال أمام المسلمين الجزائريين حتى يستديروا بوجوههم نحو فرنسا ومعاملتها كحكم - أو وسيط - عادل ... ولقد أزفت الساعة لإظهار أنفسنا بصفتنا متحررين جدا - ليبراليين - ... ويجب عدم الانتظار حتى تقوم الحركة التي ترتسم على صفحة الجزائر بانتزاع هذا الإصلاح، وتحقيقه بالقوة ... ولعله من

الأفضل إجراء هذا الإصلاح في الوقت المناسب (¬1). جاء رد النواب الجزائريين المسلمين على هذا المشروع في رسالة إجماعية تتلخص بأن شروع القانون ليس أكثر من (هيمنة إفرنسية). في حين دافع أصحاب المشروع عن مشروعهم فوصفوه بأنه (فأل حسن). وعندئذ استخدم النواب الجزائريون الإفرنسيون حججا أخرى تتلخص بأن: مطالب المنتخبين الجزائريين هي مطالب تتناقض مع مبادىء الحقوق الإفرنسية، وأنها تعيق عملية الدمج؛ وهي بنتيجة ذلك ظاهرة تعبر عن الوطنية الإسلامية. وهذا ما عبر عنه نائب - وهران - الإفرنسي بقوله: (يشعر الجزائريون شعورا غامضا - ضبابيا - عن تخمر الوطنية الإسلامية في نفوسهم، وهم يتعاطفون بقلوبهم مع الأتراك. ويريدون التعبير عن تطلعاتهم هذه بمجموعة من التظاهرات، ويعتقدون أن باستطاعتهم الوصول إلى أهدافهم الجديدة عن طريق طرح قضية التمثيل النيابي - البرلماني). ورافق ذلك الجدل، توجيه الاتهامات وإثارة الشكوك حول شخص الأمير خالد. وفي يوم 5 تموز - يوليو - 1922، وقف أحد النواب في مجلس النواب ليوجه اتهامه للأمير خالد بأنه ومحرض الثورة) و (قاتل الجزائر)، في حين وقف نائب آخر ليثير قضية (علاقة الأمير خالد بعمه الخائن لفرنسا - عبد الملك. وكان الإفرنسيون على ¬

_ (¬1) جلسة مجلس النواب الإفرنسي يوم 9 تشرين الثاني - نوفمبر - 1922.

حق - من وجهة نظرهم طبعا - بتوجيه كل أحقادهم ضد الأمير خالد وحزبه (الجزائر الفتاة) الذي تبنى في هذه الفترة الحكمة التالية شعارا لعمله: (لا أحد يدافع عمن لا تمثيل له في مجلس النواب -البرلمان).

4 - الصفحات الأخيرة في جهاد الأمير خالد (1923 - 1936) بينما كان النواب الجزائريون في صراع مع مجلس النواب الإفرنسي لإسقاط القانون الذي يمنح النواب المسلمين تمثيلا في البرلمان الإفرنسي، كان الحاكم العام للجزائر يكتب رسالة إلى وزير الداخلية يؤكد فيها وجهة نظره: (وهي أن الإصلاحات التي تم إدخالها منذ سنة 1919 هي إصلاحات كافية ختى تلك الفترة). وأثناء ذلك كانت الإدارة الاستعمارية في الجزائر تهاجم بعنف ما أسمته: (الحفنة الصغيرة من أنصاف المتعلمين الذين يتلقون أوامرهم وتعليماتهم من الأمير خالد (. هذا في حين عمبت هذه الإدارة على تكوين أربع دواثر انتخابية جديدة في أيلول - سبتمبر - 1922 وذلك بطريقة تسمح بتعديل نتائج الانتخابات القادمة للمستشارين العامين بحيث يكون نصف عددهم من المسلمين، وقد تم اقتطاع هذه الدوائر الانتخابية بما يضمن عزلها عن نفوذ دوائر (الجزائر الفتاة).

وعندما جرت الانتخابات في العاصمة الجزائر، نجحت الإدارة الإفرنسية في إسقاط ثلاثة من مرشحي حزب (الجزائر الفتاة) وذلك على الرغم من فوز الأمير خالد في هذه الانتخابات. وكانت نتائج هذه الانتخابات تمثل انتصارا لرئيس الشرطة الذي تمكن من إسقاط كل أصدقاء الأمير خالد وإخوانه. وشعر الأمير خالد بخيبة أمل مريرة لهذا الفشل غير المتوقع عبر عنها بقوله: (إننا ضحايا قضية عادلة. وتشاركنا كتلة الجماهير كلها طريقتنا في معالجتنا للأمور. وإنهم قليلون أولئك الذين يمتلكون الشجاعة للتعبير عن آرائهم). اتسع أفق الصراع فور ظهور نتائج الانتخابات بين الأمير خالد وأعدائه. فمنذ شهر أيلول - سبتمبر - 1922، أخذت الصحافة التابعة للدوائر الاستعمارية - الكولون - في فرنسا ذاتها بالترويج بالفكرة: (إن مطالب الأمير خالد لا تقف عند حدود التمثيل النيابي - البرلمان - وإنما تتجاوزها للمطالبة بتوسيع نطاق التعليم للأدب العربي. وأنه يحاول جمع الأموال لإقامة مدرسة كبرى، يتم فيها تعليم اللغة العربية بصورة حرة). وفي 20 كانون الأول - ديسمبر - 1922، وقف نائب في مجلس النواب الإفرنسي ليناقش قضية التعويضات التي تدفعها فرقا لأحفاد الأمير عبد القادر بقوله: (يجب عدم مساعدة أولئك الذين لا يعملون على مساعدتنا) (¬1). واستنكر من جديد تلك الحملة من ¬

_ (¬1) يذكر أن مجموع ما كانت تخصصه فرنسا لورثة الأمير عبد القادر هو (60) ألف فرنك تقريبا - من موازنة الخارجية الإفرنسية، وكان نصيب الأمير خالد يمثل أكبر حصة فيها - حيث خصص له مبلغ (7500) فرنك في سنة 1923.

الاضطرابات التي يقودها الأمير خالد، والتي تتخمر فيها الثورة ضد فرنسا. واتهم الأمير خالد: (بأنه يثير الحرب الأهلية ويحرض على انفصال الجزائر عن فرنسا). وأورد هذا النائب (مورينو) ما كان قد كتبه الأمير خالد في صحيفته محذرا الأوروبيين بقوله: (إنكم تدفعون بالجزائريين المسلمين إلى مهاوي اليأس، وتثيرون فيهم مشاعر الغضب، عندما تبرهنون بأنهم لن يحققوا شيئا من المكاسب عن طريقكم، وعندئذ لا يحدون أمامهم سوى اللجوء إلى السلاح، وهم لا يخافون أن يخسروا شيئا بعد كل ما فقدوه منذ وقت طويل بفضل أعمالكم، وهم عندها لن يقولوا لكم أبدا: (افسحوا لنا المجال بقربكم) وإنما سيقولون لكم: لماذا أتيتم، وماذا تفعلون هنا؟ عودوا إلى بلادكم). ثم تابع - النائب مورينو - هجومه على الأمير خالد، مشيرا إلى تلك النداءات التي كان يوجهها الأمير إلى مواطنيه المسلمين وإلى الكتلة الوطنية. وعاد من جديد إلى ما كان يتقاضاه الأمير خالد من تعويضات، طالبا إيقافها ومنعها عن (هذه الأفعى التي تنفث سمها في صدر من يقدم لها الغذاء). ونهض نائب فرنسي آخر - عن الجزائر - (وكان قد أحيل من قبل إلى القضاء بتهمة التحريض على العصيان العسكري وإثارة حركة عصيان) فوجه حديثه إلى رئيس مجلس النواب: (مطالبا بإعادة النظر في اضبارة - ليوتي - وما تتضمنه من إدانة للأمير خالد وما قام به من تحريض ثوري في المغرب). ثم حصل على موافقة مجلس النواب بتمديد (قانون أو نظام التعامل مع

المواطنين المسلمين) لمدة خمسة أعوام، بعد أن كان من المقرر تطبيقه لمدة سنتين فقط. وتبع هذه الهدية التي قدمتها فرنسا إلى الأمير خالد مع قدوم عيد الميلاد - نويل - أن وقف بعض أصدقاء الأمير خالد، ووجهوا إليه التقريع واللوم باعتباره المسؤول عن الاقتراع الذي أدى إلى تمديد (نظام التعامل مع المواطنين المسلمين). ودافع الأمير عن نفسه، غير أن هذا الدفاع لم يخفف من العبء الثقيل الذي بات يرزح على صدره، وهو العبء الذي زاد من ثقله استمرار الصحافة في حملتها الشرسة ضده. وكان من أبرز ظواهر الحملة الجديدة، تخصيص زوايا اعتبارا من بداية كانون الثاني - يناير - 1923 ,يتم فيها نشر مقولات زعماء المسلمين والشخصيات البارزة من أتباع فرنسا - والتي تتركز ضد: (المحرض خالد عدو فرنسا وعدو مواطنيه المسلمين). وظهر بوضوح أن هذه الحملة ليست إلا تمهيدا للانتخابات القادمة من أجل تجديد انتخاب المندوبين أو النواب الماليين. أما صحافة الدوائر الاستعمارية - في فرنسا والجزائر - فقد ركزت هجومها في شهري شباط - وآذار (فبراير ومارس 1933) على مقولة (اتهام الأمير خالد بالعمالة لموسكو). وكان مما قيل بهذا الشأن: (هذا الأمير الذي تموله فرنسا ليقود بالتعاون مع البولشفيك في موسكو حملة هدفها إشعال نار الثورة وذبح الإفرنسيين). وكذلك: (هذا السيد العظيم المسلم الذي يسير وهو يضع يدا بيد مع الحزب الشيوعي في الجزائر، ويلتقط اليهود في البلد، ويجمع الناقمين من الموظفين

ويحشدهم جميعا في حزب وطني جزائري، للعمل ضد فرنسا). وقالت إحدى صحف الدوائر الاستعمارية: (لقد ذهب الأمير خالد إلى موسكو لتلقي التوجيهات والتعليمات، ثم عاد إلى عنابة -بونة - للدفاع عن حزبه - الجزائر الفتاة - ودحض حملة الافتراءات الموجهة إليه شخصيا. ونجح في ذلك نجاحا كبيرا. كما استطاع توجيه حملته لإثارة الاضطرابات ضذ الإفرنسيين. وقد عملت الإدارة الإفرنسية منذ زمن بعيد على إعاقته حتى لا يتحرك على هواه). وأثناء ذلك أقام ابن النائب - مورينو - دعوى على الأمير خالد بتهمة (القدح والذم) ضده وذلك لأن ابن هذا النائب (قارن خدمة النقيب المتقاعد خالد في الجبهة بنزهة من نزهاته التي يتسكع فيها (بالشوارع) وكان أن حكمت المحكمة على الأمير خالد بدفع غرامة ألف فرنك كتعويض وخمسة آلاف فرنك - عطل وضرر ... وأثناء ذلك أيضا، كان الأمير خالد هو المرشح عن الدائرة الانتخابية الأولى للجزائر العاصمة - منذ يوم 23 آذار - مارس - 1923، غير أنه امتنع عن دخول المنافسة الانتخابية. وفي يوم 6 نيسان - أبريل - أعلنت صحيفة (الأقدام) (بأن الأمير خالد يتنازل عن حقه في الانتخاب لمصلحة منافسه عبد النور تامزالي). وامتنع عن الظهور في المحافل العامة. وكان قد كتب يوم 16 آذار - مارس - ما يلي: (فليشهد الله بأني لست من أولئك الباحثين عن شرف الوصاية، لقد اقتحمت مجال العمل السياسي، وخضت الصراع في مجالس النواب - المنتخبين - للدفاع بكل ما

وهبني الله من القوة، وبكل ما في قلبي من الحب لحماية مصالح إخواني المسلمين ورفع الضرر عنهم). أثار انسحاب الأمير خالد من المعركة الانتخابية جوا من الشك، فمضى المواطنون بين مصدق ومكذب، غير أن الأمير خالد قطع الشك باليقين في رسالته التي وجهها إلى الصحافة يوم 11 نيسان - أبريل - 1923 وجاء فيها: (لقد أتعبتني خدمتي العسكرية الطويلة، فأحلت على التقاعد بحالة عجز صحي كامل - مائة بالمائة - وأرغب في أخذ استراحة باتت ضرورية، أو حتمية، لصحتي المتدهورة. وانسحب من مجال العمل السياسي، متنازلا عن كل المناصب التي تم انتخابي لها - في النيابة المالية، والمستشارية العامة، والبلدية). فهل كانت استقالة الأمير خالد حقا بسبب سوء حالته الصحية؟ للرد على هذا السؤال، يمكن العودة لما كان قد كتبه يوم 26 - آذار - مارس - ذلك الخصم العنيد للأمير خالد - الجنرال ليوتي - وجاء فيه: (لقد أصابني ما يشبه الدوار خلال إقامتي في الجزائر، وأثناء أحاديثي مع أصدقائي القدامى من الجزائريين بشأن التطورات الطارئة ... إنني لم أعرف من قبل مثل هذا الشعور العميق بالمرارة، والإحباط، والحقد. إنها سياسة إجرامية حقا). والجنرال ليوتي، لا يحاول معرفة أساب هذه المشاعر - التي لم يعرفها من قبل على حد زعمه - وكل ما أمكن له معرفته هو تدهور الوضع في الجزائر إلى مرحلة خطيرة. وعلاج هذه الحالة من وجهة نظر الاستعماريين معروف ويتلخص بالقمع ولا شيء غير القمع. ونظرا لما يتطلبه مثل هذا القمع من أضحيات، فلماذا لا يكون

الأمير خالد وحزبه - الجزائر الفتاة - ضحية جديدة في حملة ضحايا الاستعمار؟ وفي الواقع، فإن الإدارة الاستعمارية الإفرنسية في الجزائر حققت نجاحا كبيرا في تنفيذ مخططاتها خلال هذه المرحلة. وأمكن لها في انتخابات 15 نيسان - أبريل - 1923 إسقاط كل مرشحي حزب الجزائر الفتاة، وجاءت بعد ذلك لاستثمار هذا النجاح وترجمته رسميا على أنه ارتداد المواطنين الجزائريين المسلمين عن سياسة الأمير خالد، واتجاههم لتأييد الشخصيات المعروفة بولائها - عمالتها - لفرنسا. وقد جاء في تقرير الموقف السياسي والإداري عن مسلمي الجزائر - يوم الأول من أيار - مايو - 1923 ما يلي: (تمت ترجمة انسحاب الأمير خالد من الانتخابات - في كل مكان - بأنه شارة تدل على الرغبة في التهدئة والاتفاق والمصالحة، على نحو ما يحدث في المعارك الانتخابية. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن عزوف الناخبين عن الانتخابات، وتجنب حدوث أي صدام، قد طبع هذه الانتخابات بطابع الإدانة، فلم يظهر إلا كل معتدل حذر أو من الموالين للسلطة وأتباعها). لقد أدى انسحاب الأمير خالد من المعركة الإنتخابية إلى زوال ما يمكن أن يطلق عليه اسم (معركة انتخابية) فاقتصرت بيانات مرشحي القوى المتوازنة والمتعاكسة على تبادل التهاني، وحتى أصدقاء خالد لم يضمنوا بياناتهم شيئا أكثر من عرض قضية التمثيل النيابي - البرلماني - وأكثر من قضية مدة الخدمة العسكرية؛ وامتدح واقعية القوانين الشرعية للناخبين الذين يعرفون من يفضلون من مرشحي النظام والمصالحة.

غير أن هناك على كل حال رغبة - تمثل احتجاجا - رفعها المجلس البلدي لمدينة (سطيف) في أيار - مايو - 1923 ونقلت إلى حكومة باريس. وهي توضح تماما ما كانت عليه هذه الانتخابات. وقد جاء في هذا الاحتجاج ما يلي: (يطلب مستشارو البلدية الأوروبيون، ألا تكون الانتخابات القادمة للمسلمين خاضعة لأي نوع من أنواع الضغوط أو الإرهاب، وأن تترك لهم حرية انتخاب المرشحين الذين يرغبون في انتخابهم). وقف الحاكم العام للجزائر أمام نواب المالية المنتخبين، واكتفى بالقول: (كان الفشل من نصيب أولئك المحرضين الذين يكثرون من شقشقة اللسان). ذلك لأنه كان يعتبر من وجهة نظره بأن مطالب حزب (الجزائر الفتاة) لا تستجيب للتطلعات العميقة، غير أنها تمهد الطريق للاقتراحات النظرية التي كان يطرحها الأمير خالد ورفاقه. وهي اقتراحات في غير وقتها - هذا مع إزالة الشكوك المحيطة بها - ذلك لأن الحاكم العام لم يكن ليأخذ بهذه الشكوك القائلة بوجود مؤامرة وطنية مضادة لفرنسا. حققت الإدارة الإفرنسية في الجزائر، المرحلة الأولى من مخططها، فقد أمكن لها إرغام الأمير خالد على الانسحاب من مجال العمل السياسي، وألحقت الهزيمة بحزبه في الانتخابات. وجاءت المرحلة الثانية لإبعاده عن الجزائر. ولم تكن هذه الإدارة في حاجة لاستصدار مرسوم بالإبعاد أو افتعال أزمة تزيد - أو تعيد للزعيم المهزوم قوته، وتمنحه مزيدا من الرصيد المعنوي. لا سيما وأن العمل الرسمي ضد الأمير خالد كان سيصطدم حتما بعقبات كؤود وليس أقلها كون الأمير

خالد (ضابطا سابقا في الجيش الإفرنسي) علاوة على كونه (نائبا منتخبا) حتى بعد استقالته. وعلى هذا فقد كانت الضغوط غير المباشرة أفضل وسيلة تمتلكها الإدارة الإفرنسية للوصول إلى أهدافها في محاربة الأمير خالد، لاسيما بعد أن حققت وسائل الضغط هذه نجاحا كبيرا في المرحلة السابقة، ولم يعد من الغريب أن تظهر عملية إبعاد الأمير خالد - أو نفيه - على أنها مجرد رغبة شخصية. وقد عبر الأمير خالد عن رغبته هذه في رسالته التي حررها في (عين البيضاء) يوم 11 نيسان - أبريل - وأعلن فيها استقالته، كما أعلن رغبته بالتوجه إلى سوريا. غير أنه أرجأ الحسم في قرار الإبعاد الاختياري حتى نهاية شهر تموز - يوليو - 1923، حيث أعلن (الشيخ عبد العزيز الثعالبي) أيضا رغبته في مغادرة تونس والتوجه إلى الشرق بعد هزيمته (¬1). وقد كتب الأمير خالد إلى أصدقائه رسالة في 30 تموز - يوليو - 1923 جاء فيها: (لم يعد بمقدورنا إطلاقا العيش في الجزائر حيث أصبحت الحياة فيها - بالنسبة لي - أمرا لا يطاق ولا يحتمل، ولم يعد أمامي إلا الانسحاب إلى بلد يتوافر فيه قدر أكبر من الإنسانية). ¬

_ (¬1) يظهر أن سياسة الإبعاد عن البلاد والتي كانت تستعمرها فرنسا. قد تشابهت في طرائقها وأساليبها فقد ادعى الشيخ الثعالبي - أنه يغادر البلاد لأسباب صحية. وأثارت قضية إبعاده تعليقات متناقضة غير أن الأمر الثابت هو أن الشيخ الثعالبي قد تعرض لضغوط وظروف مشابهة لتلك التي عاناها الأمير خالد، ومنها نجاح السلطات الإفرنسية الاستعمارية في تفتيت حزبه، وإثارة الخلافات مع أقرب أنصاره، وعلى كل حال، فقد تكشفت كل منه الأساليب بعودة الشيخ الثعالبي من منفاه إلى تونس في شهر تموز - يوليو - سنة 1937. واستقباله فيها استقبال الأبطال المنتصرين.

كانت سياسة (السوط والجزرة - أو الترغيب والترهيب) هي إحدى السياسات المعروفة للاستعمار، وقد طبقت فرنسا هذه السياسة على (الأمير عبد القادر - وورثته). وقد تحدث الشيخ ابن باديس الذي كان يعتبر الأمير خالد زعيما عظيما، بأن موضوع مغادرة الأمير خالد للجزائر قد طرح على المناقشة. وأن فرنسا قد أخذت على عاتقها وفاء ديونه التي بلغت (85) ألف فرنك. كما التزمت بدفع نفقات سفره، وأبقت له تعويضاته السنوية (¬1). وصل الأمير خالد إلى مصر، وشرع على الفور بالعمل لتسوية قضية (الخلافة الإسلامية) ووجه نداءا طالب فيه بعقد مؤتمر إسلامي في كابول. باعتبار أن أفغانستان هي البلد الإسلامي الوحيد الذي لم يخضع للاستعمار. ومن النعروف أن (كمال أتاتورك) قد أزال منصب الخلافة الإسلامية في 3 آذار - مارس - 1924، مما أثار نقمة عارمة في كل أنحاء الوطن الإسلامي، وبصورة خاصة في المشرق الإسلامي. وفي الأول من نيسان - أبريل - 1924 نشرت صحيفة الأهرام (القاهرية) نداءا وجهه الأمير سعيد حفيد الأمير عبد القادر، طالب فيه عقد مؤتمر إسلامي عالمي، وكان الأمير سعيد هو رئيس الرابطة الإسلامية لبلاد المشرق الإسلامي. فكان من الطبيعي، ومن المتوقع، أن ينضم الأمير خالد إلى الأمير سعيد، ليعملا معا لدعم قضية العالم الإسلامي. حدثت بعد ذلك تطورات على الساحة الإفرنسية دفعت بالأمير خالد للتفكير في استئناف نشاطه السياسي. فقد جاءت نتائج ¬

_ (¬1) جريدة الشهاب - شباط - فبراير - 1936.

انتخابات أيار - مايو - 1924، لتحمل تحالف اليسار (الكارتل اليساري) إلى سدة الحكم، فاستقال رئيس الجمهورية (ميلراند) وتولى (هيريوت) (¬1) تشكيل الحكومة. وهو الرجل الذي كان معروفا بتعاطفه الشديد مع حزب (الجزائر الفتاة). واشتهر بتشجيعه لهم بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكان من مقولاته المشهورة، (لنشجع أولئك الفتيان المغمورين في الجزائر، والذين أخد الوطن الإفرنسي في استقبالهم واحتضانهم، كأبنائه الآخرين، منذ أن سقط إخوانهم قتلى إلى جانب أبنائنا - في ميادين القتال). وعندما أعلن (هيريوت) بيانه الوزاري، ضمنه تأكيده: (بأننا سنأخذ بعين الاعتبار مصالح مستعمراتنا. وذلك عن طريق تعميم ثمار حضارتنا على أبناء المستعمرات والذين لا تعتبرهم فرنسا موضوعا من موضوعاتها وإنما أبناء لها). ومع استلام الرئيس (هيريوت) لمسؤولياته، ترأس (الجامعة الإفرنسية، لتمثيل المواطنين المسلمين الجزائريين في المجلس النيابي الإفرنسي. وأدى ذلك إلى بعث التفاؤل في نفس الأمير خالد الذي أرسل في ذات اليوم الذي تشكلت فيه الوزارة الإفرنسية الجديدة - وهو يوم 14 حزيران - يونيو -برقية عاطفية ومثيرة جاء فيها: (إننا نرى في تسلمكم السلطة، بشائر عصر سعيد، ومقدمة ¬

_ (¬1) هيريوت - إدوار (HERRIOT EDOUARD) كاتب إفرنسي ورجل سياسي، من مواليد تروي، TROYES سنة 1872 وهو أحد رؤساء الحزب الراديكالي - الاشتراكي. شغل منصب رئيس مجلس الوزراء في مرات عديدة، كما عمل رئيسا لمجلس النواب (1936 - 1940) ثم رئيسا للجمعية الوطنية سنة 1947 وسنة 1951.

عهد جديد، يتم فيه إدخال المواطنين الجزائريين المسلمين في طريق التحرر، وإزالة القوانين والتدابير الاستثنائية وإجراء تمثيل في المجلس النيابي الإفرنسي - البرلمان - وإصدار عفو سياسي عام، وتأمين حرية التعليم، وتحقيق المساواة في الأعباء العسكرية. وأملنا كبير بنفسكم الحرة الليبرالية) التوقيع - الأمير خالد - في المنفى-. لقد كان تذييل البرقية الموجهة للرئيس الإفرنسي بصفة (المنفى) هو تأكيد ثابت بأن مغادرة الأمير خالد لوطنه الجزائر، لم تكن مغادرة طوعية، وهو ما أكده الأمير خالد أيضا بعد ذلك في تصريحاته أثناء جولة له في فرنسا بقوله: (أنه أبعد عن وطنه لأنه دافع عن المصالح الحيوية لمواطنيه المسلمين الجزائريين). وأخذ في الاستعداد أو للسفر إلى فرنسا، غير أنه كان لا بد له قبل سفره من الاشتراك في استقبال الزعيم المصري الكبير سعد زغلول باشا في الإسكندرية، وذلك لدى عودته من منفاه للمرة الثانية ظافرا باعتراف حكومة العمال البريطانية بزعامته للحركة الوطنية المصرية. ولقد كان لتواقت الأحداث في عودة الزعيم المصري من منفاه وفوز تحالف اليسار الإفرنسي دورهما الثابت في حفز الأمير خالد لمتابعة الجهاد والتوجه إلى فرنسا حيث وصل إليها في بداية شهر تموز - يوليو - وفي نفسه أمل كبير بأن يتمكن من الدفاع عن قضية إخوانه المسلمين في الجزائر. استقبل الحزب الشيوعي الأمير خالد بمجرد وصوله إلى باريس، في محاولة منه لاحتضانه والمتجرة باسمه. ونشرت صحيفة (أومانيتيه) (¬1) ¬

_ (¬1) أومانيتيه (L'HUMANITE) 3 تموز - يوليو - 1924.

صورته مع صورة عن رسالة (المنفي الأمير خالد) إلى الرئيس هيريوت. وأعد الحزب الشيوعي في برنامجه تكليف الأمير خالد بإلقاء محاضرتين حدد موعدهما في يومي 12 و19 تموز - يوليو - حضرهما حشد كبير من أبناء المغرب العربي - الإسلامي بالإضافة إلى عدد من أبناء المستعمرات الأخرى ممن يعملون أو يقيمون في العاصمة الإفرنسية. وقدم عريف الحفل الأمير خالد إلى جمهور الحضور بالعبارة التالية: (القائد الذي أرهب الاستعمار وأدانه بأكثر مما فعله أحد سواه). وقد استقبل أبناء المغرب المسلمين الأمير خالد بنداء: (عاشت أفريقيا الشمالية حرة مستقلة) غير أن الصحافة الشيوعية تجنبت الإثارة من قريب أو بعيد إلى نداء أبناء المغرب المسلمين الذين كانوا يرددون الهتاف دونما توقف. وفي المحاضرة التي ألقاها الأمير خالد يوم 12 تموز - يوليو - نهض النائب الشيوعي الإفرنسي - أندريه برثون - والذي تولى من قبل الدفاع عن الشيخ الثعالبي - فوعد الحضور: (بأن تعمل الشيوعية الدولية على تحرير مسلمي الجزائر) ثم ختم مقولته بنداء وجهه الأمير علي بن الأمير عبد القادر (والذي كان عضو الهيئة المركزية للحزب الشيوعي) إلى حضور المحاضرة. وظهر واضحا أن الأمير خالد لم يخضع لهيمنة الحزب الشيوعي، على الرغم من كل المحاولات، وهذا ما أشار إليه تقرير الهيئة المركزية - فرع أفريقيا الإفرنسية - غير أنه أيد الإتحاد بين أبناء المستعمرات ودافع بصورة موضوعية عن قضية (التبعية لحزب

سياسي) مشيرا بذلك إلى ما كانت قد نشرته صحيفة (الأقدام) (¬1) حيث رد الأمير خالد على صحيفة (العمل الإفرنسي) بالجملة التالية: (من المحال علينا التبعية لحزب أوروبي - لم نشكله نحن نظرا لما عليه حالنا البائسة ونحن خاضعون للقوانين الاستثنائية). واكتفى الأمير خالد بتوجيه الشكر إلى ممثل الأحزاب الاشتراكية والشيوعية (الذين يدافعون عن المسلمين). وأثار بصفته ممثلا وحيدا لفكر المسلمين الجزائريين إلى التكتل الاتحادي (تريدينيون) والذي كان يوجهه صديقه - فيكتور سبيلمان - الذي وصفه أمير البيان شكيب أرسلان (بأنه الملاك الحارس للشعب الجزائري) (¬2). غير أن ذلك لم يمنع الحزب الشيوعي من استثمار هذا التجمع لتشكيل حزب (نجمة شمال أفريقيا) وهو الحزب الذي تبنى هدف (المطالبة باستقلال أقطار الشمال الأفريقي الثلاثة - تونس والجزائر والمغرب - استقلالا كاملا، وسحب جيوش الاحتلال الإفرنسية من هذه الأقطار). وأصدر هذا الحزب صحيفة ناطقة باسمه، اختار لها اسم المجلة الأسبوعية التي كان يصدرها ويحررها الأمير خالد وهي (مجلة الأقدام) وأضيف لها اسم الأمير خالد بصفة (مدير شرف). تميزت محاضرات الأمير خالد بالموضوعية، وبوفرة المعلومات قدر تميزها بقوة العاطفة والحماسة، وقد نشرت هذه المحاضرات تحت ¬

_ (¬1) الأقدام 30 آذار مارس - 1923. (¬2) الأمة العربية (LA NATION ARABE) كانون الثاني (يناير) نيسان (أبريل) 1937.

عنوان (موقف المسلمين في الجزائر - محاضرات ألقيت في باريس بحضور أكثر من (12) ألف مستمع) وذكر أن عدد العمال الجزائريين في مقاطعة السين أكثر من (15,450) عاملا (¬1). وركز الأمير خالد في محاضراته على ما تضمنته رسالته إلى الرئيس الإفرنسي من مطالب، وأبرزها: 1 - التمثيل النيابي البرلماني - للمسلمين بما يتعادل مع تمثيل الأوروبيين المستوطنين في الجزائر (أي 6 منتخبين لمجلس النواب و3 منتخبين لمجلس الشيوخ مع تجاوز التفاوت الكبير في العدد، حيث كان عدد المسلمين في الجزائر يتجاوز الخمسة ملايين). 2 - إزالة النظام المفروض على المواطنين المسلمين - أنديجين. 3 - المساواة في أداء الخدمة العسكرية بين الجزائريين والإفرنسيين. 4 - إفساح المجال أمام الجزائريين للترفيع في المناصب المدنية والرتب العسكرية حتى أرفع المناصب والرتب. 5 - ضمان حرية الصحافة وحرية التعليم. 6 - ترك حرية التعليم الديني وفصله عن تدخل الكنيسة والدولة. 7 - تطبيق القوانين الاجتماعية - الضمانات - الممنوحة للإفرنسيين على المواطنين الجزائريين. ¬

_ (¬1) تقرير مدير شرطة باريس 11 تشرين الأول - أكتوبر - 1923. أما (التقرير عن موقف المسلمين في الجزائر، فقد نشرته مؤسسة الاتحاد (تريدينيون) ثم الجزائر - 1924.

8 - منح العمال الجزائريين حرية العمل في فرنسا بصورة تامة. لقد اصطدمت هذه المتطلبات بمقاومات مختلفة، ففي مجال عمل الجزائريين في فرنسا، صرح رئيس اتحاد عمداء الجزائر - الإفرنسيين آبو - (بضرورة تقييد خروج اليد العاملة الجزائرية من الجزائر. وقال: بأن هذه اليد العاملة ضعيفة غير أنها مفيدة في كل الأحوال للعمل في الجزائر وفي الجزائر وحدها) (¬1). وكذلك فعلت كافة الصحف التابعة للدوائر الاستعمارية. أما صحيفة الشيوعيين - أومانيتيه - فقد عالجت الموضوع بأسلوب ساخر، وذكرت: (أنها مع إقرارها لهذه الحقوق الأساسية إلا أن البورجوازيين يهدفون من خلالها غزو الديموقراطية بأجمل الوسائل وأمضى الأسلحة). على كل حال، وبالرغم من خلو محاضرات الأمير خالد من المطالب الجديدة، فإن ما طرحه أصبح فيما بعد هو الأساس الذي تبناه الوطنيون الجزائريون في برامجهم الحزبية. وبصورة خاصة ما أعلنه الأمير خالد - بلسانه - للمرة الأولى، وعلى رؤوس الأشهاد، عن وضع الجزائر قبل الاستعمار الإفرنسي من تطور علمي ورفاه اقتصادي (حيث كانت أموال الأوقاف - الحبوس - وحدها تتجاوز مئات ملايين الفرنكات الإفرنسية، وأن قسما من هذه الأموال كان مخصصا لتعليم أكثر من 300 ألف طفل في مدارس تعليم القرآن الكريم). وقارن ذلك بما أصبح عليه حال الجزائر من فقر وبؤس متعاظمين نتيجة النهب الاستعماري. ¬

_ (¬1) صحيفة الكومونات (JOURNAL DES COMMUNES) 1 - كانون الأول - ديسمبر - 1923.

تصدى الليبراليون واليساريون للعمل على مستوى المخطط السياسي الإفرنسي، فأدانوا تفاهم الأمير خالد مع الشيوعيين واعتبروا ذلك - ذنبا لا يمكن الصفح عنه-. وعمل مدير (مجلة المواطنين الجزائريين - بورداري) (¬1) على اتخاذ قرار بقطع علاقاته مع الأمير خالد (الذي فضل - بزعم مدير المجلة - الاستسلام للإرهابيين المغامرين الشيوعيين). أما الرئيس الإفرنسي الإشتراكي - هيريوت - فقد صرح فيما بعد - وبمناسبة الحديث عن تونس: (بأنه يعارض هذا التحالف الوحشي الغريب بين الشيوعية والوطنية) وكان هذا الرأي هو المهيمن بصورة عامة على وسط اليسار الإفرنسي. أما اليمين الإفرنسي فقد عاد لتبني اتهامات فرنسيي الجزائر للأمير خالد (المجند في خدمة البولشفيك). بالإضافة إلى افتراءات كثيرة - منها إقدام الأمير على تنظيم العمال المسلمين في فرنسا ... انعكست هذه الحملة الجائرة التي اشترك فيها اليمين واليسار بصورة قوية على الصفحة النفسية للأمير خالد، وأشعرته باليأس. فطلب من جديد إلى صحيفة - أومانيتيه - نشر رسالة له تضمنت ما يلي: (ما أن يرفع مواطن مسلم صوته عاليا في الجزائر للاحتجاج ضدها ينزل به من الظلم حتى يتهمونه بأنه محرض على التخريب وأنه عامل ضد فرنسا ... وليست محاولات تغطية احتجاجاتي ضد ¬

_ (¬1) مجلة المواطنين الجزائريين: (LA REVUE INDIGENE DIRECTEUR BOURDARIE).

نوعية الوصاية المفروضة على المواطنين المسلمين في الجزائر إلا كمن يحاول اعتراض ضياء الشمس بالمظلة). كانت هذه الرسالة البليغة والاحتجاجية آخر محاولة علنية بذلها الأمير خالد لطرح قضية وطنه. وعرف من ردود الفعل الإفرنسية أن إقامته في باريس لم تعد موضع رضى السلطات فيها. كما شعر بأن جهده مع (كارتل اليسار) قد وصل إلى منتهاه. فغادر فرنسا، ووصل إلى الإسكندرية - في مصر - مع بداية فصل الخريف لسنة 1924، ولم يتمكن من تحقيق رغبته في التوجه إلى دمشق، نظرا لمنع السلطات الإفرنسية له من اقتحام مناطق نفوذها. وفي الإسكندرية حاول الأمير خالد الهرب من رقابة القنصل الإفرنسي، واستخدم جواز سفر وأوراق ثبوتية زائفة لمغادرة مصر. غير أن أمره اكتشف فأحيل إلى محكمة قنصلية في الإسكندرية، واعتقل، وأصدرت المحكمة حكمها عليها في شهر آب - أغسطس - سنة 1925 بالسجن لمدة خمسة أشهر ... ضاع بعد ذلك كل أثر للأمير خالد، وترددت شائعات كثيرة عن اشتراكه في ثورة الريف بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي. كما ترددت شائعات مماثلة عن اشتراكه في الثورة السورية الكبرى (سنة 1925) غير أنه ما من وثائق رسمية تؤكد ذلك أو تنفيه. أفاقت دمشق على خبر مباغت صباح يوم 10 كانون الثاني - يناير - 1936 معلنا وفاة المجاهد الأمير خالد بن الهاشمي الجزائري. وأقيمت عليه الصلاة في مسجد بني أمية الكبير. وانتقل إلى جوار

ربه عن عمر يناهز الستين عاما. وانتقل الخبر بسرعة في أقطار العالم الإسلامي. فصدرت الصحافة الجزائرية - الإسلامية - وهي (تعلن الحداد العام في الجزائر. لقد مات الأمير خالد). (¬1) وكتبت صحيفة الدفاع: (تبكي جزائر المسلمين اليوم في الأمير خالد فارسا ومجاهدا مضى، غير أن اسمه الخالد سيبقى مرتبطا ارتباطا وثيقا بحركة الجزائر الفتاة التي أسسها ودعمها بكل ما في نفسه من العزم والقوة، وغذاها بكل حماسته وإيمانه). لم يشمل الحزن إخوانه من حزب الجزائر الفتاة فقط. فقد شعر الجميع بالخسارة الفادحة لفقده، فمضى العلماء لتأبينه، واشترك الشيوعيون في مأتمه. لقد مضى الإنسان المؤمن والمجاهد الصادق للقاء وجه ربه، غير أن تضحياته وجهوده ومعاناته لم تلبث أن أينعت ثمارا عمت بفائدتها كل الوطن الجزائري (¬2). ¬

_ (¬1) الدفاع 24 كانون الثاني - يناير - 1936. (¬2) المرجع الرئيسس للبحث: السياسات الاستعمارية في المغرب (شارل روبرت أغرون) ص: 249 - 284 (إفرنسي) وكذلك مجلة تاريخ وحضارة المغرب - كلية الآداب الجزائر - يناير - 1968 العدد 4 ص 19 - 39.

الفصل الثالث

سيدنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشرف البشر، فمن ذا الذي يستطيع الانتقاص من قدرنا). (أضرم أجدادنا حربا حامية الوطيس لمدة خمسة عشر عاما، وأزيد، لم يكن النصر حليفهم. غير أن تقدير بطولتهم وشجاعتهم هو حق ثابت لا ينبغي أن ينكره المنتصرون علينا. كما لا ينبغي لي، أنا حفيد الأمير عبد القادر، أن أسكت عنه مثلما فعل كثير من النواب المنتخبين. الأمير خالد الهاشمي الجزائري •---------------------------------• الفصل الثالث 1 - الأمير خالد في موقعه التاريخي. 2 - من الجد عبد القادر إلى الحفيد خالد

الأمير خالد في موقعه التاريخي

1 - الأمير خالد في موقعه التاريخي قد يقف الباحث أو المؤرخ حائرا أمام هذا الركام المتناقض من المقولات، وهو يحاول تقويم الموقف الصحيح للأمير خالد. وقد تتزايد حيرته إذا ما حاول إجراء مثل هذا التقويم بعيدا عن إطاري الأحداث الزماني والمكاني، بمعنى إسقاط الموقف العام - الدولي والمحلي - لتلك الحقبة التاريخية وإهمال الموتف الخاص لما كان عليه موقف مراكز القوى الاستعمارية والإسلامية في الجزائر خلال مرحلة تصدي الأمير خالد لتوجيه مسيرة الأحداث. وهنا قد يكون من المناسب قبل كل شيء الأخذ ببعض المعطيات التي أصبحت بمثابة المسلمات الوصفية نظرا لالتقاء كثير من وجهات النظر المتباينة عندها، وأبرزها: 1 - لقد ظهر الأمير خالد - في المرحلة الوسيطة بين تطور الهجوم الاستعماري الشامل، وبين البدايات المبكرة للهجوم المضاد للاستعمار عامة. يؤكد ذلك التوسع الاستعماري الذي أعقب الحرب العالمية الأولى (باسم الانتداب أو الحماية أو

الوصاية) وما قابله من انتفاضات في العالم الإسلامي (ثورات تونس ومقاومات ليبيا والحركات الوطنية في مصر وثورة المهدي في السودان والثورة السورية الكبرى 1925). 2 - وظهر الأمير خالد بعد قرن من استعمار فرنسا للجزائر تقريبا حيث اجتاحت جحافل الغزو الاستعماري الجزائر في سنة 1830 م على ما هو معروف، وبدأ الأمير خالد نشاطه للعمل في الفترة 1915 - 1925. وخلال هذه الفترة نجحت قوى الاستعمار في إزالة الكثير من قواعد الصمود والمجابهة - إذا صح التعبير - فقد أمكن لفرنسا ومؤسساتها خلال هذه الفترة القضاء على القيادات القبلية والزعامات الدينية وتركت الساحة الجزائرية في حالة من الفراغ أخذت هي بإملاء فراغها بأجهزة وتنظيمات تابعة لها. مع استثمار كافة التناقضات الممكنة لإفراغ هذه التنظيمات من أهدافها. 3 - وعاش الأمير خالد بعد ذلك متنقلا بين دمشق - وطنه بالولادة - والجزائر وطن آبائه وأجداده، وفرنسا - الوطن الأم. كما كان يطلق عليها، فكان لا بد له من معالجة آلام وآمال مواطنيه من منظار شامل، ولقد عرف بحكم مواطنته أبعاد القضية التي يعيشها. والأخذ بقضية الجزائر على أنها قضية خاصة وعامة، تعود خصوصيتها إلى طبيعة ما يعانيه مسلمو الجزائر، وتعود عموميتها إلى ارتباطها بالهجوم الاستعماري الصليبي الشامل. ولقد عاصر الأمير خالد أحداثا مثيرة، لم يكن أقلها إزالة الخلافة الإسلامية، ولم يكن أقلها تمزيق العالم الإسلامي واقتسامه بين الدولتين

الاستعماريتين الكبيرتين بريطانيا وفرنسا. ولم يكن أقلها أيضا ظهور حركات اشتراكية تبعها انفجار الثورة الشيوعية في ألمانيا وروسيا. وكان لذلك كله دوره في التحرك السياسي وفي المعاناة الصعبة لظروف الصراع. 4 - والأمير خالد قبل ذلك وبعده سليل أسرة منسوبة إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو أصيل المحتد كريم المنبت. فكان لا بد لذلك من أن يطبعه بطابعه وأن يسمه بميسمه، فهو أحق الناس بالدفاع عن الإسلام والمسلمين، لا سيما وهو يعيش كل ظروف القهر والمعاناة الناجمة عن ظروف الحملة الصليبية الجديدة. وهو إلى ذلك، لا يرى في غير الإسلام وسيلة لدعم الصمود، ولإحياء الأمل في النفوس. فكان من نتيجة ذلك أن ربط الأمير خالد بين ماضي المسلمين وحاضرهم وما يجب أن يكون عليه مستقبلهم. ووضع بذلك أساس قاعدة العمل. 5 - وكان المسلمون في الجزائر يجدون في العالم الإسلامي متنفسا كلما أثقل صدرهم كاهل الاستعمار، فكان الزعماء يفرون بدينهم إلى تونس وإلى المغرب أحيانا، وإلى مصر في أحيان أخرى، وإلى بلاد الشام خاصة في كل الظروف، غير أن جحافل الغزو الاستعماري سبقتهم - أو لحقت بهم - لاحتلال هذه البلاد. فبات المخرج عسيرا، وضاقت دنيا المسلميىن يما رحبت. ولم يبق أمام المحكومين إلا الاحتكام إلى حاكميهم وصدقت المقولة (فيك الخصام وأنت الخصم والحكم). ولكن، وحتى في ظروف (ليل الاستعمار الحالك السواد) لم يفقد الأمير خالد كل الأمل في

إمكان صيانة قواعد الصمود، والإبقاء على ما بقي منها، فمهد بذلك الطريق، وأضاء شعلة النور وسط الظلام، لتهتدي بهداها، ولتستضيء بنورها الأجيال المقبلة. وبعد، قد يكون من السهل على الباحث أو المؤرخ أن يقف اليوم، ليصدر إدانته على ما قام به الأمير عبد القادر الجزائري، وأن يتهم قادة ثورة 1871 - المقراني والحداد بالقصور أو التقصير، وأن يعود إلى مقاومة الحاج باي أحمد في قسنطينة، وأن يصف بومزراق وبو معزه ولالا فاطمة والإخوان الرحمانيين وحتى الأمير خالد، بأنهم ضلوا السبيل وأخطأوا التقدير. غير أن مثل هذه الأحكام تفتقر إلى النزاهة قدر افتقارها للموضوعية. لقد كان كل واحد منهم صورة صحيحة للفترة التي عاشها، ومن المحال إدانة مرحلة تاريخية بدون الأخذ بجميع العوامل المحيطة بتلك المرحلة وما سبقها ثم ما رافقها وما تبعها أيضا. وفي إطار اتصال هذا النسيج التاريخي يمكن تقويم أهمية عمل تلك النجوم التي أضاءت السبيل وهي تضحي بوجودها وبكل ما تملك للدفاع عن قيمها ومثلها العليا وفضائلها الخالدة. عند هذه النقطة، يمكن العودة لاستقراء سيرة الأمير خالد وأعماله، لا من أجل الدفاع عنه، فقد دافع عن نفسه طوال حياته بإباء الرجال، وشمم الأبطال، وإيمان المجاهدين الذين يحتسيون جهادهم في سبيل الله ورسالته الإسلامية. وإنما من أجل إجراء تقويم وجيز لتلك الأعمال، واستخلاص أبرز دروسها. عندما بدأ الأمير خالد نشاطه السياسي لخوض انتخابات البلدية

سنة 1919، ترافق ذلك مع الصراع بشأن قانون 4 شباط - فبراير - 1919 (¬1) وأدى ذلك إلى تطور الحركة الوطنية الجزائرية، وتكوين شخصية الشعب الجزائري الإسلامية، وتركز الصراع حول سياسة الإدماج أو ضدها، من خلال التجنس بالجنسية الإفرنسية أو رفضها. وقد أراد بعض الشبان الجزائريين - المتفرنسين - الإفادة من القانون المذكور على حد زعمهم لزيادة عدد الناخبين والمنتخبين. وهنا اتخذ الأمير موقفه التاريخي الذي عبر عنه بقوله: (لا يقبل المسلم الجزائري بديلا عن جنسيته بجنسية أخرى إلا في نطاق شخصيته الخاصة، لسبب جوهري واحد، هو المحافظة على دينه وشريعته الإسلامية). وفي معركة الانتخابات - سابقة الذكر - ظهرت ثلاث قوائم، عبرت عن الاتجاهين المتصارعين على الدمج والتجنس، وضده، فكانت القائمة الأولى برئاسة شيخ عظيم التقوى والورع هو الشيخ الحاج موسى الذي كان مستشار بلدية الجزائر منذ سنة 1884، ولم تضم هذه القائمه أي جزائري متجنس بالجنسية الإفرنسية، وكانت الشخصية البارزة المرموق إليها من بين كل المرشحين، ¬

_ (¬1) كان قانون 4 شباط - فبراير - 1919 يخول بعض المسلمين من الملاك والتجار وحاملي الأوسمة من أعضاء الغرف التجارية والزراعية الذين يزيد عمرهم على 25 سنة، حتى الاقتراع في الانتخابات، فتزايد عددهم من (5) آلاف ناخب إلى (431) ألف ناخب، وكانوا جميعهم من غير الخاضعين لقانون الرعوية INDIGENAT الخاص بغيرهم، ومن جملة الميزات الممنوحة لهم التجنس بالجنسية الإفرنسية، والارتقاء إلى المواطنة الإفرنسية بعد التصريح والإعلان بنبذ الشريعة الإسلامية، والتخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية.

هي شخصية الأمير خالد. ومقابل ذلك، كانت القائمة الثانية برئاسة السيدين (وليد عسيى) و (ابن شامي أو بنثامي) لا تضم إلا الشخصيات والأعيان المتجنسين بالجنسية الإفرنسية أو المؤيدين للتجنيس والداعمين له. أما القائمة الثالثة، فقد شملت مرشحين جزائريين غير معروفين بالإضافة إلى إفرنسيين عرف عنهم دفاعهم عن حقوق المواطنين المسلمين، وهما: المحامي - لادميرال -والصحافية (باروخان) مديرة جريدة الأخبار. ومن المفيد ملاحظة ما رافق الحملة الانتخابية من بيانات تبرز طبيعة الصراع. فقد هاجمت صحيفة - الأقدام - الناطقة باسم (حزب الجزائر الفتاة) بقولها: (لم يبق في الجزائر متجنس واحد يمكن أن يشرف أقرانه بتمثيلهم في المجالس، لأن قائمة السيد بنثامي - ابن شامي - قد لمت شملهم جميعا) هذا فيما كان الأمير خالد يدعو الناخيين الجزائريين إلى التصويت على (قائمة المرشحين المسلمين غير المتجنسيين لئلا يتولى أمورهم المرتدون - الكفرة - أصحاب القبعات - البيريه). وكان يذكر الناخبين في كل مناسبة: (بأن المسلم الصادق يحرم عليه انتخاب إفرنسيين أو أشخاص ينتمون إليهم. ويستعمل في مخاطبتهم عبارة الاعتزاز بالإسلام، والإعراض عن الجهل والجاهلين التي استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم مع هرقل عظيم الروم -والتي كان الأمير عبد القادر يستعملها في مراسلاته مع الماريشال بيجو متحديا له - وهي: - السلام على من اتبع الهدى -) ومقابل ذلك: (كان المرشحون على قائمة بنثامي - ابن شامي - ينددون بالقومية الإسلامية والتنكر لأساليبها والشكوى من خصومهم الذين

يصفونهم للعامة بالمارقين المرتدين عن الدين). يمكن فهم محاولة الأمير خالد، وإخوانه المجاهدين، بسهولة ودونما كبير جهد أو عناء، لقد استطاعت فرنسا تكوين تيار جارف، فكأن لا بد للمؤمنين المخلصين من تكوين سد في وجه هذا التيار، وعدم تمكينه من اقتلاع ما بقي من جذور الأصالة الذاتية الكامنة في الإسلام، وفي الإسلام فقط، وعلى هذا أيضا يمكن فهم الحوافز التي دفعت بالأمير خالد وإخوانه إلى طرح المطالب التي تؤدي - بمجموعها - إلى تطوير السد القائم بين فرنسا والمسلمين. ولئن طلب الأمير خالد في كل مقولاته معاملة الجزائريين كالفرنسيين، فإن ذلك للتخفيف عنهم من جهة، ولتوفير المناخ أمام بناء القاعدة الثوروية الصلبة. وهذا بدقة ما أبرزه بحث للباحث الجزائري (محفوظ قداش) (¬1) جاء فيه ما يلي: (كان نشاط الأمير خالد يرتكز على مبدأ مستقر، ألا وهو الاعتصام بالإسلام، ولهذا المبدأ أثر عميق في السياسة الجزائرية، الماضية والحاضرة، فهو محورها، ولم يكن في الإمكان حينذاك أن يعبر الناس علنا عن الوطنية والقومية السياسية. غير أن الدين وقضية الدفاع عن الشخصية الإسلامية، كانا يفتحان للأمير خالد مجالا رحبا لإفراغ ما في جعبته. ¬

_ (¬1) مجلة تاريخ وحضارة المغرب، كلية الآداب، الجزائر، العدد 4 - يناير - 1968. بحث بعنوان (الأمير خالد ونشاطه السياسي) للباحث: محفوظ قداش. ص 19 - 39.

ويجب ألا ننسى أن الإسلام هو الذي بقي طوال عهد الاستعمار الإفرنسي الضمان الأول للشخصية الجزائرية. فلم تشق القومية الجزائرية طريقها إلى الإستقلال، ولم تهمس مطالبها الأولى، إلا بفضل انتسابها إلى العالم العربي - الإسلامي، وأخذ نصيبها من نهضته الميمونة، فكان الأمير خالد في الجزائر رائدا من روادها العظام. فنشر في (الأقدام) عدة مقالات عن المدنية العربية، وطلب إلى الأدباء المسلمين إعداد دراسات خاصة بها وتراجم أقطابها وعلمائها المشهورين لمقابلتها بالاكتشافات الأوروبية الحديثة، التي كاد ظهورها وتطورها السريع بعد حرب 1914 - 1918 أن يخطف أبصار المسلمين، ويضعف إيمانهم بمبادئهم وأعمالهم ومستقبلهم. فانبعثت النهضة في الجزائر العاصمة، فكانت وثبة وطنية، ورغبة شديدة في ثورة كبرى، وأخذ الزعماء يحلمون وقتئذ بإنشاء دولة إسلامية عظمى، وإحياء مجد الأجداد وحضارتهم الزاهرة زمن الخلافة في دمشق وبغداد وقرطبة). وتصدى الأمير خالد لفضح سوءات الاستعمار، وإسقاط الأقنعة عن مزاعم الحضارة الغربية التي حملها الاستعمار الإفرنسي لجزائر المسلمين، فكان في جملة مقولاته بهذا الصدد: (لم يعمل الاستعمار شيئا لنا أو لأهلنا، فالجوع يقف على الأبواب، وليس لنا إلا أن نركب القطارات ونسلك الطرق والمحطات المخصصة لكبار المعمرين - المستوطنين -. نعم! إنهم ينشئون لنا بعض المدارس في الأكواخ. ولكنهم يقتطعون في نفس الوقت أراضينا، ويسلبون أولادنا، ويغتصبون أموالنا، ويعلموننا الخمر والميسر، ويحملون إلينا جميع الأمراض والموبقات والرذائل التي يتصف

بها رجال يدعون أنهم متحضرون ... وعندما نمر بضواحي العاصمة وعند المرور على بعض الدواوير بما فيها الداخلة في المزارع النموذجية، نكاد أن نقطع ونجزم أن فرنسا لا وجود ولا أثر لها في الجزائر منذ (95) عاما. فليس هناك لا مدارس ولا طرق ولا آبار ولا سدود، ولا أطباء ولا بيطريون ولا مستشارون زراعيون) (... إن حقوق الأهالي مهدورة منسية ... فكأن المسلم الجزائري لا يصلح إلا أن يكون جنديا أو دافعا للضرائب الباهظة، ولو كلفه ذلك بيع آخر عنزة من ماشيته). وفي مقولة أخرى: (.. يقول لنا بعض الأوروبيين: لو كنتم تحت سيطرة الألمان أو الإنكليز لكنتم تقدرون سلوك فرنسا تجاهكم! وأقول: هل هناك، اللهم، جور أقسى من جور فرنسا ... لا يمكن أن يتمنى المرء بعد هذا الظلم الغاشم إلا الموت ... ! فإذا كانت سياسة الإدارة الإفرنسية قائمة على تقويض اللغة والدين وإفقار الشعب، فقد نجحت كل النجاح: فالشعب غارق في الجهل، والدين ورجاله في محنة، والفقر مدقع). والأمير خالد، وهو يطالب معاملة المسلمين الجزائريين كالإفرنسيين، يصرخ مع أفراد حزبه في وجه الاستعماريين: (في هذه الأفريقية، التي تتجه إليها كل الأطماع الشرسة الدفينة، والتي عاث فيها على تعاقب العصور كل نوع جديد من جنود ومرتزقة ومعمرين وموظفين، أصبحنا نتهم بإثارة الثورة لأننا نقول: إن الناس يموتون جوعا. ونتهم بعداوة فرنسا ومقاومتها لأننا نطالب

بالمساواة بين خلق الله ... إذن، فلنكن فوضويين وشيوعيين وأعداء لفرنسا، ووطنيين وكل ما شئتم من صفة، ولكن لنبق رجالا قبل كل شيء ...). ويحذر الأمير خالد الإفرنسيين من التمادي في سياساتهم الاستعمارية، فيقول لهم: (أيها الأوروبيون: إن كل الإجراءات التي تتخذونها ضد هؤلاء وأولئك لن تجدي نفعا، لأن الحوادث المقبلة ستكتسح كل هذا العبث والفساد، ولأن الأجل لذلك قد حل ... إن الإفرنسيين القاطنين بالجزائر، باتوا وهم ينتظرون بمرارة اليوم الذي سيرغمون فيه على شد أمتعتهم وحقائبهم للعودة إلى الوطن الأم ... فمستقبلهم غامض مجهول، والأفق أمامهم ملبد بالغيوم والسحب والعاصفة على وشك الرعد والقصف على رؤوسهم، وهم منذ الآن يتألمون من ذلك ويتحسرون عليه ... ! وقد حق لهم أن يشتكوا ويتألموا ... فأي شيء أعز عليهم، وأي ألم أشد من مغادرة بلد كانوا يعيشون فيه عيشة الأمراء والأسياد في ثراء واسع بلا كد أو تعب، تخدمهم أقوام وأمم من العبيد، دون أمل في الرجوع يوما إلى ذلك الفردوس؟ إني لأشفق على كربهم حقا، وعلى عدم انبثاق بصيص من نور في أفقهم). ويرتفع صوت الأمير عاليا وهو ينذر الاستعماريين بما يشبه إعلان الحرب، فيقول لهم: (الحذر ثم الحذر، إننا دخلنا لأمد طويل في طور من الحروب الأهلية والعالمية والفتن التي لا يدري أحد بعواقبها. فإذا تماديتم في تعسير حياة الأهالي - المواطنين - بعد يسرهم في أوطانهم، فستكون شدة انفجار ثوراتهم على قدر

شد الخناق عليهم) ولقد كان هذا التحذير الذي يشبه النبوءة بما سيحدث، مرتبطا برؤية الأمير خالد - الواضحة - لمسار خط الاستعمار، على الرغم من شدة ظلام ليل الاستعمار في تلك الفترة، وها هو يربط خط هذا المسار بمجمل قضية الاستعمار، وذلك من خلال مقولته: (أيها اللبنانيون والسوريون والجزائريون والتونسيون والمغاربة ... إنكم عبيد خاضعون لنير بعض السماسرة والبورجوازيين الذين سوغوا لأنفسهم تدنيس أرض أوطانكم العزيزة. إن لكم في بعض معاقل الحرية في الخارج أصدقاء يقظين ... أجل، وقولي لكم هو عين الحق والصدق والأمانة ... سننتقم جميعا). وكان لا بد للأمير خالد، في إطار تحركه السياسي، من توجيه غضبه نحو أولئك المتجنسين الذين كانوا لا يؤيدون مطالبة الجزائريين بالتمثيل النيابي، وظهر ذلك في تعامله - على سبيل المثال - مع (مسيو صوالح) الذي وصفه: (بالخيانة لبني جلدته، والكفر والارتداد عن دينه. وقال عنه: إنه يعتقد أن تجنسه وكفره، وقطع الصلة بينه وبين ملته، وأكل لحم الخنزير، ولبس القبعة أو البرنيطة، كل ذلك يخوله صفة الإفرنسي النبيل. فمثله كمثل الوطواط، لا هو عصفور ولا هو فأر، إنما يتجسم في خلقه الرياء والنفاق، ولن يجد إلا اللعنة والخزي، أينما ولى وجهه). والمعروف - في الجزائر - عن (مسيو صوالح) هذا، انه لم تبق له في تلك الفترة أية علاقة مع إخوانه الجزائريين. فكانت جريدته (الناصح) تعتبر لسان حال الإدارة الإفرنسية. وكانت الولاية العامة

هي التي تتولى تغطية نفقاتها ومصاريفها. وحدت الوقاحة (بمسيو صوالح) أنه بات يجادل في مبدأ تمثيل المسلمين في مجلس النواب الإفرنسي ذاته. فكان يتساءل كمن لا يعلم ولا يدري شيئا بقوله: (هل هذا التمثيل ممكن؟ وهل هو ناضج قد أتى أوانه؟). وقدر ما كان يهتم الأمير خالد بكبار الأمور المتعلقة بالسياسة الاستراتيجية، فقد كان يظهر قدرا مماثلا من الاهتمام بشؤون مواطنيه الصغرى: (فهو يعمل قدر استطاعته من أجل التطوير الاجتماعي للمسلمين، مثل إنارة (حي القصبة) في الجزائر العاصمة، وجلب المياه النقية إلى المساكن، وإنشاء مراكز صحية، وإغلاق دور البغاء بالقصبة، ومقاومة شرب الخمور والكحول، وتوسيع مقبرة (سيدي محمد) وغير ذلك. وتضمنت جهوده دعم المزارعين وإرشادهم، وعتقهم من ربقة الاستعمار، ولم تكن مطالبته بفتح المجال للعمال من أجل العمل في فرنسا إلا بهدف تحرير العمال من سيطرة المستعمرين - الكولون - وتطويرهم اقتصاديا واجتماعيا وكان الوحيد من العائلات العريقة الجذور الذي رفع صوته بقوة ضد نظام الرعوية البغيض. وعلى هذا الأساس طلب (يوسف حمدان) الأمين العام للأخوة الجزائرية، - وهو تنظيم شيوعي - إلى المواطنين بنداء حار: (أن تتم إعادة الأمير خالد إلى وطنه وإماطة اللثام عن أصدقائه القدماء الذي دفعتهم السلطة الاستعمارية في الجزائر للوقوف ضده). وبسبب ذلك، تعرض الأمير خالد، في جملة ما تعرض له من اتهامات، اتهامه بالشيوعية، وقد سبق في عرض سيرة الأمير

الإشارة إلى رفضه الخضوع لهيمنة الشيوعيين، أو تسليم قضية بلاده لغير أبنائها معتمدا في ذلك على القدرة الذاتية للعالم العربي الإسلامي، وتناقض هذه القدرة الإسلامية مع معطيات العقيدة الشيوعية. غير أن ذلك لم يمنع الأمير خالد من الإشارة إلى السبب الذي يدفع اليائسين المسلمين من التعلق بأي أمل يخرجهم من مأزقهم، فقال في ذلك: (إن المسلمين اشتراكيون وتعاونيون واتحاديون بالطبع، كما تدل على ذلك بيئتهم وعيشتهم، ولكن لم يكونوا متطرفين أبدا. وإذا كان إلى يومنا هذا عدد كبير منهم قد انقادوا إلى النظرية الشيوعية واعتنقوا مذهبها. فالسبب الجوهري في ذلك هو السياسة الحمقاء التي يمارسها الولاة والعمال الإفرنسيون في الجزائر والتي يتضاعف فيها يوما بعد يوم عدد الساخطين والناقمين). وأبرز الأمير خالد أسباب ما يحيط به من بؤس، وما يعانيه مواطنوه. فنسب ذلك إلى الاستعمار وإدارته وأساليبه، وفضح طريقة الاستعماريين في الاستحواذ على الأراضي الخصبة، وذكر أن ثروات المعمرين الطائلة لم تأتهم من عمل المحاريث والأدوات الزراعية فقط، وإنما من عرق الفلاح الجزائري وجهده. وقارن بين دخل المعمرين الذين كانت أرباحهم تبلغ الملايين، وبين أجور الفلاحين المسلمين التي كانت تتراوح بين 2 و4 فرنكات في اليوم. فصب جام غضبه على المسؤولين عن ذلك. كما انتقد بقسوة الإدارة الإفرنسية في الجزائر على تقصيرها

وتهاونها. وانتقد أيضا قلة نواب المسلمين والممثلين الجزائريين في البلديات ووفرة عدد الموظفين الأوروبيين فيها بحيث كانوا يبتلعون وحدهم موارد ميزانيتها كلها. وطرح الأمير خالد أيضا (وضع البلديات العسكرية، فندد بالتعسف والإرهاب فيها، وكان يعتمد في كثير من الحجج على مقولات الأوروبيين ذاتهم، مستفيدا في ذلك من التناقضات بين القيادات الإفرنسية ذاتها وبين القيادات الاستعمارية في الجزائر، والحكومة الإفرنسية في باريس. ومن ذلك ما قاله أحد الولاة الإفرنسيين القدامى: (إن تطبيق الحضارة على الجزائريين في بعض النواحي معناه الزيادة المطردة في الضرائب والغرامات ونهب أموالهم وأخذها غصبا وتجريدهم من أملاكهم والوصول بهم إلى الخراب والهلاك).

من الجد عبد القادر إلى الحفيد خالد

2 - من الجد عبد القادر إلى الحفيد خالد عملت الإدارة الاستعمارية في الجزائر، وهي تحكم قبضتها على الوطن الجزائري أرضا وشعبا، على تشويه سمعة الأمير عبد القادر وذلك على نحو ما فعلته مع كل القيادات الجزائرية المتتالية ضمن إطار الحملة الشاملة لتدمير قواعد الصمود، وفصل الجماهير عن قياداتها، وتدمير الجماهير وقياداتها معا بعد ذلك حتى تفرغ الساحة من كل زعامة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. وقد أدرك الأمير خالد ذلك لدى انتقاله بصحبة والده وأفراد عائلته من دمشق إلى الجزائر. فكان لابد له من التصدي لتصحيح المواقف الخاطئة والأفكار المشوهة، ولهذا لم يعد من الغريب عليه أن يحاول الإفادة من كل موقف للتذكير بأعمال جده العظيم، والإشادة بجهوده ومنجزاته، والتذكير بتضحياته ومعاناته. ولم يكن هدف الأمير خالد- يقينا - التأكيد على رابطة عصبية كتلك العصبية الجاهلية، بدلالة عدم وقوفه إلى جانب أقاربه في المواقف التي

تتناقض مع هدفه السياسي. وهكذا - وعلى سبيل المثال - فعندما نسب إليه سلوك أقاربه من أمثال خاله الأمير علي باشا وابن عمه الأمير سعيد من أعضاء اللجنة الإسلامية لاستقلال الجزائر وتونس، المنشأة في برلين في شهر يناير - كانون الثاني - 1916. رد الأمير خالد على ذلك بقوله: (بأنه يطلب ألا يحاكم إلا على نشاطه السياسي فقط، وعلى أعماله وحدها، لا على أعمال أقربائه). ومن هنا يظهر أن تركيز الأمير خالد على سيرة جده إنما كان بهدف تحقيق ما يلي: 1 - ربط وحدة الجهاد على أرض الجزائر في نسيج متصل. 2 - الالتزام بالقيم والأهداف التي جاهد في سبيلها الأمير عبد القادر والتي يسير عليها هو أيضا باعتبار أنها تشكل القاعدة الثابتة والصلبة للجهاد ضد الحملة الصليبية الجديدة. وليس من الغريب أن يردد الأمير في كل مناسبة على أسماع مواطنيه العبارة التالية: (لا تنسوا أن آباءكم قد هبوا للنضال لأول إشارة من جدي الكريم). وعند هذه النقطة، نقطة الجهاد والنضال يلتقي الجد والحفيد في قضية الدفاع عن الإسلام والمسلمين، في الجزائر المجاهدة خاصة، وفي العالم الإسلامي عامة، وقد تكون ملاحظة هذا الخط المشترك واضحة من خلال الموافف المعروفة والتي يمكن استقراء بعض ملامحها عبر النماذج والأمثولات التي لا تشكل في كل الحالات إلا قليلا من كثير، ووجيزا من ملحمة متطاولة تتجاوز في

مضمونها وأهدافها كل الحدود. كانت الفكرة الشائعة، والتي طالما روج لها الاستعماريون في فرنسا: (بأن جماهير المسلمين لا تزال تعيش في غياهب الجهل، وهي بعيدة كل البعد عن - نور الحضارة الأوروبية. فالمسلمون متخلفون جدا، منعزلون بأنفسهم بسبب تعصبهم الديني، الذي لا ينسجم مع مطالبتهم بالحصول على حق التمثيل السياسي والاجتماعي على قدم المساواة مع الإفرنسيين، وعلى هذا فإن منحهم مقاعد النيابة أو عضوية مجلس الشيوخ هو أمر سوف لا يجديهم نفعا، وهم في حاجة أكيدة إلى زيادة في التربية والتعليم - الإفرنسي - حتى تصبح لديهم القابلية لفهم المدنية الأوروبية، ويصبحوا قادرين على اكتساب الأساليب الحديثة للتنمية الاقتصادية وتطبيقها. وقد يطالب نوابهم باستقلال الجزائر - باسم مبادىء ويلسن - في الحين الذي تباع فيه نساؤهم رقيقا). ويتصدى الأمير خالد للرد على هذه المقولة، بنخوة الرجل العربي، وإيمان الإنسان المسلم، فيقول: (لقد أفاد المسلمون أوروبا إلى حد بعيد جدا بحضارتهم ومدنيتهم. وإذا كانوا متأخرين الآن، فلأن (30) ألفا على الأكثر من أصل خمسة ملايين جزائري يترددون على المدارس. ويمكن للجزائريين على غرار السنغاليين، الذين اعتبروا مواطنين إفرنسيين مع احتفاظهم بنظام أحوالهم الشخصية الإسلامية، أن يكون لهم ممثلون في مجلس النواب. وأنه لا جدوى من الحديث مع الوطنيين الجزائريين عن أساليب التنمية، ما دام هناك استمرار في إحداث مراكز جديدة

للاستعمار، وما دام تطبيق قانون - طورانس - مستمرا (¬1). أما ما قيل عن المرأة المسلمة بأن الصداق الذي يؤديه لها زوجها إنما هو ثمن شرائها ... ففي بلادكم أنتم أيها الأوروبيون، تشتريكم نساؤكم - وفي أوروبا كلها تعقد زيجات المنفعة والمتعة، وفيها كلها لبس وإكراه. وكذلك يشاهد المرء اليوم في شوارع باريس فتيات يكاد عمرهن لا يتجاوز (12) سنة، وهن يتعاطين البغاء جهرة ... وأما بالنسبة لقضية الربط بين التعليم والتمثيل، فالأمر المعروف هو أن الاستعماريين الأوروبيين وأعوانهم فضلوا أناسا جهلة عينوهم تعيينا - في الانتخابات - على المثقفين المسلمين المخلصين والذين كان الشعب يريد انتخابهم. فحالوا دونه ودون ذلك. واتهموا هؤلاء المثقفين بالوطنية المتعصبة، وبالنزوع إلى الاستقلال التام. والحال أن الأوروبيين هم الذين يطالبون باستقلال الجزائر الذادي - ليتحكموا بالمواطنين المسلمين، وليستأثروا بخيرات البلاد - بينما يكتفي النواب المسلمون بالمطالبة بربط العمالات الجزائرية الثلاث إلى العمالات الإفرنسية، وجعلها سواء بسواء معها في كل الشؤون). وقرأ الأمير خالد - وهو في منفاه بسوريا سنة 1934 - مقالا مهينا ¬

_ (¬1) جريدة الأقدام 9 حزيران - يونيو - 1922. وقانون طورانس، هو القانون الذي يتم بموجبه تحديد ملكية المسلمين. غير أن عقد الملكية الذي كان بيد المسلم الجزائري لم يكن يحميه من قيام المعمر الأوروبي بالاستيلاء على أرضه.

بالرسول صلى الله عليه وسلم - كتبه صحفي إفرنسي. وتعرض فيه أيضا لأزواجه رضي الله عنهن، فوجه إليه الأمير برقية شديدة اللهجة يخبره أنه مسلم غيور على دينه، وأنه من سلالة ذلك النبي العظيم، ويقول فيها أنه يترك له الخيار بين اثنين: إما الاعتراف علنا بذنبه، وإما المنازلة بالسلاح. فأجاب الصحفي، وهو المسمى - بيير مارييل - الأمير برسالة اعتذار (¬1). هنا يمكن العودة إلى مواقف الجد - الأمير عبد القادر - يوم اجتمع عدد من القسس في فرنسا، ووجهوا إليه أسئلة عديدة، منها السؤال التالي: (إن دعوة محمد اكتنفها الغموض من جميع جوانبها، وإن العرب بوجه عام، والشرقيين منهم بوجه خاص قد كابروا، وادعوا أن دعوة محمد دعوة يقرها العقل والمنطق). ورد الأمير عبد القادر بالتالي: (لم تكن رسالة محمد دعوة تهويس وإسعاف، ولكنها دعوة اتساع أفق وشمول نظر، فاستطاعت بذلك تلبية حاجة البشر كافة، من خاصة وعامة، وذلك لأنها الرسالة الوحيدة بين الرسائل التي لا مسخ فيها ولا إسفاف، ولا غش ولا إجفاف، وهي فوق هذا وذاك بدأت باسم الله الرحمن الرحيم. وختمت بأنه رب العالمين. وجاءت رسالة الإسلام في وقت كان العالم كله في تأخر من جميع الوجوه، دينيا وعلميا ومدنيا وسياسيا. ¬

_ (¬1) جريدة الدفاع - الجزائرية - 18 أيار - مايو - 1935.

فلم يمر قرن واحد، حتى أوجدت للعالم كله دينا قيما وعلما محكما ومدنية سعيدة وسياسة رشيدة، فنفخت في الإنسانية روحا جديدة، لا تقبل الفناء، ما دامت الأرض والسماء. فهي كالينبوع الذي تفجر في أرض وفاض على غيرها، فأحياها بعد موتها. وكان ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. ولا تقف صفات الإسلام عند هذا الحد في الصفات التي تتميز بها الديانات والرسالات، بل كان من أهم صفاته أنه دين الهداية إلى الحق، والارتفاع بقيمة العقل من الانسياق وراء المعميات والخوارق الغريبة عن الطبيعة المدنية في الاقتناع والتصديق. واستمرت رسالة الإسلام، تغزو الممالك والبقاع، وأخذت راية الدين الحنيف ترفرف على البلدان والأمصار، وتغلغلت دعوة النبي العربي في أوروبا وغيرها من البلاد التابعة للديانة المسيحية، وعز على الكنيسة أن ترى دين محمد يعلو على كل دين ويدحض كل فرية وكل دعوة تقوم على الزيف والأباطيل. فجندوا لها إرسالياتهم التبشيرية، وبعثروها في الممالك والأصقاع، ظانين أنها تجدي مع رسالة من عند الله. وحاول مبشرو أوروبا أن يصفوا الإسلام بالنقائص، فمنهم من قال: إن دعوة محمد استهوت الناس حسب غرائزهم، وإرضاء أثرة المنافع والثروة فيهم. وفات هؤلاء أن الإسلام جاء لتنظيم حياة الناس. وزعم فريق آخر منهم، أن الإسلام لم يكن يريد بدعوته غير الشهرة الشخصية والحياة والسلطان، ويقصدون بذلك محمدا صلوات الله وسلامه عليه.

وفات هؤلاء أيضا أن رسالة محمد جاءت مليئة بالرحمة والبر والحنان وأن صفاتها صفات الحكمة والخير، وأنها اتسمت بأهداف سامية لا تمت إلى طلب السلطان والجاه. وفريق ثالث من هؤلاء، زعم بكل سخافة وحمق أن الطمع في الأقاويل تبطل هذه الدعاوى وتنقضها. وجلية الأمر أن محمدا لم يكن كغيره، يرضى بأوضاع كاذبة، أو يسير تبعا لاعتبارات باطلة، أو يقبل أن يتسم بأكاذيب وأباطيل زائفة، فجاء نتيجة لذلك صوته منبعثا من الطبيعة ذاتها. ولهذا وجد آذانا صاغية، وقلوبا واعية، فانتشرت رسالته، وعمت الناس كافة. وتلك هي رسالة السماء، قام بها خير رسول وخير إنسان، (¬1). وعاد القسس لطرح سؤال آخر: (لماذا يحفظ العرب القرآن؟ مع أن هذه الطريقة تؤثر كثيرا على عقول الناس، وبخاصة الصغار منهم، وهذا الإجراء سيكون أثره السيء على النشء الجديد. وأجاب الأمير عبد القادر: (إن هذا السؤال غريب ومتسم بالعصبية، وإني لأفهم الأسباب التي تدفعكم إلى هذا النوع من التفكير، ولو أنكم واجهتم الحقيقة كما يجب أن تواجه لأدركتم أن حفظ القرآن له مميزاته. ومما لا شك فيه أن الحفظ من أهم الأسباب لاستدعاء الفهم. فإنما طلب الفهم والإدراك إنما يكون عند ظهور الحاجة إليه. وعند الإحساس بعدم الفهم، وحينئذ يلجأ الحافظ إلى السؤال عن معنى ما سمع أو ¬

_ (¬1) تاريخ الجزائر - تأليف الأستاذ مجاهد مسعود الجزء الأول - ص 379 - 389.

ما حفظ من الدين، يظن أنهم يعرفون ذلك الذي خفي عليه. وعلى ذلك يكون حفظ آيات القرآن من أعظم الدواعي إلى دراستها وطلب معرفتها. وكثير من العلماء الأعلام الذين حفظ التاريخ آثارهم، وجرى ذكرهم في الخافقين، وكانت لهم اليد الطولى في الدرس والإفادة والتأليف، وخدمة العلم والأدب، كانوا من أولئك الذين لقنوا القرآن وهم صغار أحداث لم يبلغوا رشدهم، وكانوا هم الذين فهموا كتاب الله واجتهدوا في تأويله، واستنبطوا منه الآداب والأحكام، وأصبحوا أئمة يستضاء بنورهم، ويهتدى بهديهم وقد خدم كثير منهم الدين، وأحيوا علوم اللسان، وحذقوا كثيرا من ألوان المعارف، وأصبحوا بها مضرب الأمثال. لقد فتح القرآن الكريم لكثير من النابهين باب النبوغ، ولم يعطل لواحد من الذين عنوا به، وأقبلوا عليه، ملكة من الملكات؛ بل إنه هو الذي نبه فكرهم، وشحذ عزائمهم، وجعل لهم ذكرا في العالمين. وكان البيت المسلم يحرص أشد الحرص على أن تلقى فيه آيات القرآن، يسمعها الرجال والنساء والولدان كل صباح، لا يكاد يخلو من ذلك بيت من بيوت المسلمين. وكان التنادي في الإغراق على قراء القرآن ومحفظيه للأحداث مضرب الأمثال. كما كان الولدان أنفسهم يتنافسون في حفظه ويتبارون في تلاوته. كان ذلك من تقاليد المسلمين، حتى سرت عوامل الضعف وتتابعت الأحداث، ووفد الاستعمار على بلاد المسلمين، مختفيا

وراء ما يزعم من أصول التربية الحديثة، وكأن هذه التربية شيء غريب عن الإسلام والمسلمين، وكأنه لم يكن في هذه الأمة مفكرون في أصول التربية، نظروا في أسسها، وشرحوا أهدافها، ووضحوا مناهجها، ولذلك فإن هذه التربية الحديثة لا تستقل على هؤلاء الصبيان شيئا إلا أخذهم بحفظ كتاب الله، وتنشئتهم على هداه، وما أسرع ما استجاب ضعاف النفوس لهذه الدعوة، غير ناظرين إلى ما تخفي هذه الدعوة وراءها من عمل الاستعمار على المباعدة بين نائئة هذه الأمة، وبين المأثور الصالح من تقاليد السلف وأصول العقيدة، ولن يتمكن العرب من فهم دينهم إلا إذا اهتموا بالقرآن الاهتمام التام. إن القرآن هو أسمى الكتب السماوية التي تبدو فيها سمات الرقي جلية ناصعة مهما سخر أولئك السذج المتعصبون لآلية العصر، والمتذيلون للمدنية المادية التي تقوم على أساس الغرائز والتي لابد أن تهوي في العاجل القريب إلى التلاشي والفناء. بل قل: إنها بدأت تسير في طريق الفناء بخطوات واسعه، لن تغيثها منه سلطة الاختراعات، ولن تنجيها قوة الحديد والنار. حقا إن ما يحتويه القرآن بين ثناياه من إمارات السمو وعلائم الكمال لهو خليق بالدرس والتأمل. ولم لا؟ ألسنا في الوقت الذي نرى فيه أنصار المدنية المادية، وأشياع الحرية الزائفة، يوغلون في الظلم والجشع والكذب والنفاق، نشاهد مبادىء هذا الكتاب تنتصب وسط الدائرة الجهنمية المؤلمة من الآثام والجرائم منارة عالية بها بعد الطبيعة تشع من ثناياها الأنوار السماوية، وتنبعث من

خلالها الأصوات الأبدية، هاتفة باسم الحق، مؤيدة كلمة الفضيلة، ناطقة بقداسة الشرف واحترام العدالة والإنصاف، ولا تكاد هذه الأنوار تبدو، حتى تغشى عيون الآثمين، ويخطف سنا برقها أبصار المجرمين، ولا توشك تلك الأصوات أن تهتف حتى ترتجف منها قلوب الظالمين. وترتعد لها فرائص المنافقين. ويحس أولئك وهؤلاء في أفئدتهم بالرهبة من السماء، تهددهم وتنذرهم بالويل والثبور، وعندئذ يحنقون على أهل هذه التعاليم القوية الكاشفة عن تضليلهم، والفاضحة لتغريرهم، ويودون أن يمزقوهم شذر مذر ليزول سلطانهم، ويتزلزل كيانهم، وعندئذ لا يجدون أمامهم أنجع من وسائل الدس والتفريق، ولا أنجح من بث الشقاق والتمزيق. ولا أحد من سيف الإغراء والإغواء، وتملك المطامع، والتزلق إلى الأهواء. وإنشاب أظافر الاستعمار في بلادهم، والهيمنة على مواقفهم، والتسلط على مواردها ومصادرها حتى يستذلوا فيخفتون بهذا الاستذلال ذلك الصوت الذي يروعهم نهارا ويقض مضاجعهم ليلا. ولكن لو أن المسلمين أخلصوا لدينهم، واتبعوا تعاليم كتابهم، وتخلقوا بأخلاق نبيهم، لسخروا من كل إغراء، ونظروا إلى المثل الأعلى المرسوم في قرآنهم. وتطلعوا إلى السمو المتمثل في كل آية. وأيقنوا أن هذا الكتاب، شأنه أن يقودهم إلى الحرية والسعادة. بل إلى الرفعة والسيادة. ذلك بأنه إذا انتصرت في قلوب المؤمنين روح الخير التي تمثل الألوهية على الأرض، تعهدت هذه الروح العلائق بين الإنسان وربه بالتقوية والإنماء.

ومتى تفرقت تلك العلائق، جعلت النفس المؤمنة تتلقى أوامر السماء بهيئة نقية صافية، ثم تمليها أولا على حياتها العملية الخاصة، حتى يطبق العلم على العمل، فتحقق الحكمة: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب}. فإذا تم للمؤمن ذلك أفاض تلك الأوامر الإلهية على بيئته ومجتمعه، وقد تتسع هذه الدعوة حتى تعم الإنسانية جمعاء، وإذ ذاك تصلح حال الدنيا ويسودها السلام وتشملها العدالة. ويحل الرضاء محل النزاع، وتحل المحبة محل البغض والحفيظة، ومن آيات ذلك أن الأوامر الإلهية كانت مند غابر العصور ولا تزال وستظل، تقود بني الإنسان إلى الفلاح والكمال إذا وضعوها موضع الاحترام والعناية والتطبيق، ولكنها تشهد دمارهم وفناءهم إذا هم سحبوا عليها ذيول الإهمال والنسيان. فالقرآن إذا هو روح الإسلام الذي أشع ولا يزال يشع في الوجود، وهو قلبه الذي ينبض بالحياة، وعقله الذي به يفكر ويتأمل، والذي ضمن له ذلك الامتياز على جميع ما عرفته البشرية من أديان، والذي أفاض تلك المبادىء السامية الخالدة. ويشتمل القرآن على كل خير الإنسانية وعوامل رقيها وتقدمها، محتويا على جميع عناصر الصلاحية لكل الأزمنة، والأمكنة والبيئات والمجتمعات على اختلاف نزعتها، وتباين مشاربها، مما حقق لنبيه أن يكون خاتم الأنبياء والمرسلين. وجعل رسالته غاية الغايات ونهاية النهايات، وأسند إليها الكلمة الفاصلة، والقول الحاسم في جميع التشريعات الفردية والعلائق الأسرية والقوانين

المدنية والأنظمة الدولية، والمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسلمية والحربية والمعاهدات السياسية. وبالإجمال كل ما يحتاج إليه الفرد أو الأمة، في الحياة الخاصة أو العامة. إن القرآن هو نظام عالمي واقعي موحى، فهو ينظم تطبيق كل حادثة من أحداث الوجود وشرحها وتقديرها. إنه بالنسبة إلى جميع المؤمنين بمثابة ذاكرة قد أعدت أتم الإعداد. أو مذكرة إحصائية للمفردات اللغوية أو قاموس من القواميس له. وهو بالنسبة إلى كثيرين أيضا كتاب للتعريفات المضمونة والقابلة للتطبيق دائما. إنه مجموعة من اللغات للأفعال العملية وللتأملات الباطنية التي تركز الانتباه في البراهين على المجد الإلهي وقوة الله. والقرآن هو الذي يقوم بدور تبسيط مشكلة منهج الحياة أمام المؤمنين. لأن هذه المجموعة من القوانين الموحاة هي التي تغذي الذاكرة، وتحل عقال العمل دون أن يكون لدى الفكر حاجة للتردد. ويكفينا اعترافات بعض النصارى الذين درسوا الإسلام. يقول مستشرق: (حسب هذا الكتاب جلالا ومجدا أن الأربعة عشر قرنا التي مرت عليه، لم تستطع أن تخفف ولو بعض الشيء من أسلوبه الذي لا يزال غضا كأن عهده بالوجود أمس). ويقول مستشرق آخر: (ولقد أتى محمد بكتاب تحدى به البشر جميعا أن يأتوا بسورة من مثله، فعاقهم العجز وشملتهم الخيبة وبهتوا أمام ذلك الإحراج القوي الذي أغلق في وجوههم كل باب).

ويقول مستشرق ثالث: (لقد تحدى محمد الإنس والجن أن يأتوا بمثله، وهذا هو برهان رسالته بالمعنى الكامل. ولم يكن الأمر في القرآن يتعلق بقيمة أدبية استثنائية، فإن محمدا كان يحتقر الشعراء. ودفع عن نفسه أن يكون واحدا منهم). هذا هو مجمل آراء فريق من العلماء الذين يبتغون من بحوثهم مرضاة العلم في ذاته، ويقصدون وجه الحقيقة حيث كانت فلا يخرجون عنها. غير أن هناك فريقا آخر من الباحثين الغربيين يخضعون في بحوثهم لأهواء شخصية أو مطامع فردية أو أهداف سياسية أو تعصبات دينية تعميهم عن الحق وتضلهم عن الصراط السوي، فهم حين يدرسرن القرآن دراسة عميقة ويتأملون في مبادئه الأساسية وعناصره الأولية تأملات دقيقة، يتبينون ميزاته التي لا نظير لها في أي كتاب سماوي آخر، نراهم بدلا من الإشادة بهذه الحقائق الناصعة، يسارعون فينظرون إلى بني جلدتهم بأن القرآن كتاب خطير، لأنه اشتمل على مبادىء يمكن أن تقيم الدنيا وتقعدها، وذلك إثر اليقظات الإسلامية التي أصبحت تطل من الشرق والغرب. ولقد خاف هؤلاء أن تكون هذه اليقظات الإسلامية، والحركات الاستقلالية هي أشعة من تباشير الصباح لمستقبل العالم الإسلامي الباسم، وحملة شعلة المعرفة والنور وتطبيق شريعة الله. ذلك هو مشعل النور الذي استمر الأمير عبد القادر في حمله وهو في غياهب سجنه (في سارية امبواز بفرنسا - حيث أقام أربعة سنوات 1847 - 1851) ثم تناقل الأبناء والأحفاد في رفع هذا

المشعل حتى جاء الأمير خالد، فقام بأداء دوره مدافعا عن الإسلام والمسلمين، حتى مضى للقاء ربه راضيا مرضيا. غير أن جهده بقي حديث الأجيال. وجاء من بعده سلف تابعوا رفع مشعل النور. ولعل أصدق ما يطبق على وصف حال الأمير خالد، قوله تعالى لرسوله الكريم الذي هو أسوة حسنة للناس أجمعين، وإماما هاديا للمسلمين، ونموذجا لما كان - ويكون عليه - الرسل والصديقون والمجاهدون في سبيل الله، وفي سبيل رسالته الخالدة أبدا على الدنيا - مادام في الدنيا صوت للمسلمين، قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء - الجزء الخامس عشر - الآية 72 - 76.

قراءات

قراءات 1 - رسالة الأمير خالد إلى المؤتمر العربي الأول. 2 - في رثاء الأمير خالد.

(1) الأمير خالد والمؤتمر العربي الأول

(1) الأمير خالد والمؤتمر العربي الأول انعقد المؤتمر العربي الأول في القاعة الكبرى للجمعية الجغرافية - بشارع سان جرمان - في باريس وذلك في الفترة 18 - 23 حزيران - يونيو - 1913، بهدف مقاضاة الدولة الثانية في حقوق العرب - في ظل الخلافة الثانية -. ولم تكن الجزائر المجاهدة غائبة عنه، إذ كان من المتوقع أن يحضره الأمير خالد، حيث وجهت إليه الدعوة للمشاركة فيه، غير أن الأمير خالد كان في هذه الفترة مشغولا بالاستعداد للسفر إلى دمشق، ولم يترك الفرصة تفوت دون أن يسجل موقف الجزائر في المؤتمر، فبعث بالرسالة التالية التي تليت في الجلسة الختامية: الجزائر - 25 جمادى الأولى سنة 1331. إلى السادة الأفاضل العظام أعضاء المؤتمر العربي اتصلت بدعوتكم لأبناء الأمة العربية بكل فرح وسرور. وأدعو الله من صميم الفؤاد أن يثبث سعيكم، ,وإني واحد منكم قلبا وقالبا -. وما دامت الأفكار شريفة، والمقاصد عفيفة فلا شك من النجاح. وأخبركم بأن دعوتكم كان لها صوت رنان، وقد انتشرت في جميع الآفاق. وأتتنا الجرائد الشرقية والغربية بما يسر الخاطر، ويبعث على الأمل بنجاح هذه النهضة العامة، ولا شك في أن

الدولة العثمانية توافق على طلبنا بتحسين الإدارة الداخلية، حتى تترقى سوريا في أوج المعالي. وبترقيتها تكون نتيجة حسنة للدولة العلية. هذا مع أن المراد عدم الخروج من تحت سلطتها فالمولى يوفق الجميع لما فيه صلاح الوطن والأمة. وكنت أود أن أحضر بنفسي في مؤتمركم العظيم، ولكنني مشتغل بالسفر إلى زهرة سوريا، منشئي ووطني دمشق. وهنالك أقف حسب طاقتي بما هو واجب على كل وطني غيور. والسلام. (¬1) خالد ابن الأمير الهاشمي الحسني حفيد الأمير عبد القادر ¬

_ (¬1) الجزائر والأصالة الثورية - صالح خرفي - ص 91.

(2) في رثاء الأمير خالد

(2) في رثاء الأمير خالد الجزائر المجاهدة ترتدي السواد حدادا على الأمير خالد، ويقيم شعب الجزائر المجاهد احتفالا تأبينيا، يقف فيه الشاعر الجزائري المجاهد - محمد العيد - ليلقي قصيدة في رثاء أخيه المجاهد (الخالد) بما قدمه لشعبه (تحت عنوان يا بلادا) (¬1). يا بلادا، يخزى الكرام عليها ... ويعز الأسافل الأوغاد يا بلادا، يطوى الجميل وينسى ... العهد فيها، ويخلف الميعاد يا بلادا، لا يثبت الرأي في شيء ... عليها، ولا يدوم الوداد يا بلادا، يلقى النبوغ بها الشؤم ... ويسعى في قتله الحساد يا بلادا، ما للزعامة فيها ... قوة، أو لزاعميها اتحاد لا تسومي آسادك الغلب ضيما ... فمن الضيم تأنف الآساد ¬

_ (¬1) من قصيدة محمد العيد التي ألقيت سنة 1936 في تأبين الأمير خالد - في (صفحات من الجزائر) الدكتور صالح خرفي - الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر - 1973.

إكتفي في البرور مني يا أرض ... بشعر به يجيش الفؤاد ذي معان، أبيها مستجيب ... وقواف، عصيها منقاد كل جهدي عليك قول مقفى ... كل مالي يراعة ومداد إنا مهما بكاك مني (امرؤ ... القيس) وحيا حماك مني (زياد) لست أجدي عليك. يا أرض ... ما يجدي عليك النجار والحداد غير حي على البسيطة شعب ... ليس فيه صناعة واقتصاد

مراجع البحث الرئيسية

مراجع البحث الرئيسية

_ 1 - الجزائر الثائرة (جوان غيلسبي) دار الطليعة - بيروت - 1961. 2 - حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر - 1977. 3 - الجهاد الأفضل (عمار أوزيغان) دار الطليعة - بيرورت - 1964. 4 - الجزائر والأصالة الثورية (صالح خرفي) الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر 1977. 5 - مجلة تاريخ وحضارة المغرب (كلية الآداب - الجزائر) العدد 4 يناير 1968. 6 - LA DECOLONISATION 1919 - 1963 (HENRI GRINAL) LIBRAIRIE ARMAND COLIN: 1965. 7 - POLITIQUES COLONIALES DU MAGHREB

_ (CHARLES - ROBERT AGRON) PRESSE UNIVERSITAIRES DE FRANCE 1972. 8 - HISTOIRE DE L'ALGERIE CONTEMPORAINE (CHARLES - ROBERT AGRON) QUE SAIS - JE. NO 400. PRESSE UNIVERSITAIRES DE FRANCE- 1969.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب

_ الموضوع ................................................................ الصفحة

_ الفصل الثالث: ........................................... 169 1 - الأمير خالد في موقعه التاريخي ...................... 171 2 - من الجد عبد القادر إلى الحفيد خالد .................. 185 قراءات: .................................................. 199 1 - رسالة الأمير خالد إلى المؤتمر العربي الأول .......... 201 2 - الشاعر محمد العيد - يرثي الأمير خالد .............. 203 مراجع البحث الرئيسية .................................... 205

7 - عبد الحميد بن باديس وبناء قاعدة الثورة الجزائرية

عبد الحميد بن باديس وبناء قاعدة الثورة الجزائرية

بسم الله الرحمن الرحيم

عبد الحميد بن باديس وبناء قاعدة الثورة الجزائرية بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الثانية 1403 هـ - 1983 م دار النفائس

مقدمة الكتاب يشكل الصراع المسلح أحد وجهي السياسة الاستراتيجية، في حين يشكل الصراع السلمي وجهها الآخر، وتتشابك في حالتي الصراع العوامل الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الخ ... وقد باتت هذه الحقيقة من المسلمات وذلك منذ أن أطلق (كلاوزفيتز مقولته الشهيرة: (بأن الحرب ليست إلا استمرارا للسياسة، ولكن بوسائل أخرى - هي وسائل العنف والإكراه). ولقد بات من المعروف - عبر التجربة التاريخية الطويلة - أن الصراع السياسي هو الأساس في كل صراع، وهو الذي يسبق الصراع المسلح ويرافقه ويستمر بعده. ولقد استطاعت فرنسا، بتفوقها العسكري، تدمير مراكز القوى العسكرية، وإزالة قواعدها. واستيقظ شعب الجزائر ليجد نفسه وقد بات محروما من كل قدراته، ومجردا من كل أسلحته، ولم تكن فجيعته بفقد أسلحته المادية أكثر خطرا عليه من التدمير المستمر لقواعده المعنوية.

عند هذه النقطة، تظهر صعوبة الموقف الذي تعرضت له الجزائر المجاهدة، غداة الحرب العالمية الأولى - وهي تتحسس ما حولها لشق طريقها نحو المستقبل، في وسط (ليل الاستعمار) المدلهم الظلام. وعند هذه النقطة أيضا، تبرز فضيلة الرواد التاريخيين الذين استطاعوا مجابهة كل الصعوبات وتحدي كل العقبات، وهم يبنون قاعدة الثورة حجرا بعد حجر، حتى أصبح البناء شامخا، وفي شموخه القدرة الجبارة لمجابهة كل الأعاصير. لقد عرف أولئك الرواد التاريخيون، أنه من المحال عليهم وهم يبنون قاعدة الثورة، إقامة هذه القاعدة فوق أرض رملية رخوة. ولم يكن من الصعب عليهم الاستناد إلى الأرضية الصلبة التي بقيت على الرغم من تطاول عهد التخريب فيها، وعلى الرغم من كل جهود المخربين، قادرة على احتضان قاعدة الثورة وحمايتها. وظهر لأولئك الرواد التاريخيين أن الأصالة الذاتية هي الأرضية الوحيدة التي يمكن اعتمادها لبناء قاعدة الثورة. وبدأت عملية تطوير الربط التاريخي بين ماضي الأمة وحاضرها وبناء مستقبلها. وهنا ظهرت قوة الإسلام العظيم الذي ما اعتنقه المسلمون يوما إلا وكان النصر حليفهم، وما ابتعدوا عنه يوما إلا وكان نصيبهم الفشل والخذلان. ولم تكن الجزائر المجاهدة مفتقرة للرجال، وهي أرض البطولات والأمجاد منذ أن عرفت الإسلام، ممن يستطيعون حمل الرسالة وأداء الأمانة. وفي البحث السابق (الأمير خالد الهاشمي

الجزائري) بزر بوضوح شكل الصراع المتوقع وطرائقه وما كان عليه حال الجزائر. عند هذه المرحلة، ينتصب جيل من العمالقة الرجال، العمالقة لا في حجمهم وإنما في شدة إيمانهم بحتمية انتصار قضيتهم، قضية الإسلام والمسلمين فوق أرض الجزائر المجاهدة، وفي كل دنيا العرب المسلمين. وبين جيل أولئك العمالقة من الرجال ينتصب الشيخ المجاهد عبد الحميد بن باديس وإلى جواره حشد من عظماء الرجال المؤمنين؛ فيهم الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ مبارك بن محمد الميلي والشيخ أحمد توفيق المدني والشيخ محمد العيد آل خليفة. والعربي التبسي وإبراهيم أبو اليقظان والأمين العمودي ويحيى عمودي ومحمد خير الدين والطيب العقبي والسيد الزاهري ومحمد علي دامرجي والشيخ عبد الرحمن الجيلالي. وعمر راسم (الملقب بابن المنصور الصنهاجي) وأبو اليقظان (رائد الصحافة الوطنية الجزائرية) وسواهم كثير يصعب حصرهم، وليس الهدف هو عرض جيل أولئك الرواد، وإنما الهدف هو إبراز ما توافر للجزائر من رجال عمل معظمهم تحت راية الإسلام وفي نطاق جهد (رابطة العلماء). لقد ترك هؤلاء، وإخوانهم، على صفحة الجزائر المجاهدة أخاديد عميقة، ورفعوا في سمائها منارات مضيئة، فبات من الصعب (الإمساك بكل النجوم) أو الإحاطة بما في القبة الزرقاء من (شهب وكواكب ونجوم) غير أن اعتراف هؤلاء جميعا بما كان

لرائدهم ومفجر طاقاتهم - الشيخ عبد الحميد ابن باديس - من الفضل في الريادة والجهد، هو أمر كاف للتركيز على جهده بهدف الوصول إلى أرضية الثورة. وإذا كان للثورة الإفرنسية كتابها وأدباؤها وفنانوها الذين رسموا الطريق - طريق الثورة - أمام أجيال الثورة. وإذا كان للثورة الروسية كتابها ومنظروها وباحثوها الذين حددوا معالم الطريق أمام أجيال الثورة. فإن للثورة الجزائرية من كل ذلك نصيب لا ينافسه منافس، ولا يطاله مطاول ولا ينكره إلا مكابر. ولهؤلاء الرواد جميعا فضل على كل مفكري الثورات وواصفي نظرياتها ومفجري طاقاتها، فقد عمل جميع أولئك في ظروف أقل ما يقال فيها أنها كانت متفتحة على آمال النجاح، مبتعدة إلى حد كبير عن ظروف القهر المرعب والضغط الوحشي. أما هؤلاء: علماء ثورة الجزائر، وكتابها وفنانوها وأدباؤها وشعراؤها ورجال صحافتها، فقد عملوا وسط ظروف يصعب وصفها، ووسط مناخ من اليأس القاتل. غير إن القلوب التي يعمرها الإيمان بالله الواحد القهار. والنفوس التي يضيئها نور الإسلام الخالد، استلهمت من إيمانها وإسلامها كل الثقة بالنجاح وكل الأمل في المستقبل. لقد عمل عبد الحميد بن باديس وجيل الرواد، بإيمان لا تزعزعه الجبال بحتمية انتصار الإسلام والمسلمين، ونصروا الله، لصدق الله وعده وأيدهم بنصره، وأمكن لهم بذلك (بناء قاعدة الثورة) بسام العسلي

سيد المجاهدين وإمام المصلحين العلامة المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

من أقوال عبد الحميد بن باديس لمن أعيش؟ أعيش للإسلام والجزائر! قد يقول قائل: إن هذا ضيق في النظر، وتعصب للنفس وقصور في العمل، وتقصير في النفع، فليس الإسلام وحده دينا للبشرية. ولا الجزائر وحدها وطن الإنسان. ولأوطان الإنسانية كلها حق على كل واحد من أبناء الإنسانية. ولكل دين من أديانها حقه من الاحترام. فأقول: نعم، إن خدمة الإنسانية في جميع شعوبها، والحدب عليها في جميع أوطانها، واحترامها في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها هو ما نقصده ونرمي إليه ونعمل على تربية نفوس الناشئة عليه. ولكن هذه الدائرة الواسعة ليس من السهل التوصل إلى خدمتها مباشرة، ونفعها دون واسطة. فوجب التفكير في الوسائل الموصلة إلى تحقيق هذه الخدمة وإيصال هذا النفع. إذا قلنا العرب، فإنا نعني الأمة الممتدة من المحيط الهندي شرقا إلى المحيط الأطلنطيقي غربا، والتي فاقت سبعين مليونا عدا، تنطق بالعربية وتفكر بها وتتغذى من تاريخها، وتحمل

مقدارا عظيما من دمها، وقد صهرتها القرون في بوتقة التاريخ حتى أصبحت أمة واحدة. إن الاتحاد الإسلامي والوحدة العربية، بالمعنى الروحي والمعنى الأدبي والمعنى الأخوي، هما موجودان، تزول الجبال ولا يزولان، بل هما في ازدياد دائم، بقدر ما يشاهد الناس من عمل في الغرب ضد العروبة والإسلام ... أما نحن - ونحن أعرف بأنفسنا - فإننا نتيقن أن هذه الأمم الإسلامية العربية استيقظت من سباتها، وهبت للنهوض من كبوتها، وشعرت بكرامتها، وأخذت تذكر ماضيها، أيام حريتها واستقلالها وهو غير بعيد، فانتبهت تعمل لفك قيودها ونيل حريتها (¬1). الإسلام هو دين الله، ويجب أن يكون أيضا دين الإنسانية، لما فيه من سمو. فهو دين يكبر العقل ويمجده، ويدعو إلى تطبيق جميع أعمال الحياة على أحكام المنطق. والإسلام يستنكر استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، كما يستنكر الطغيان في جميع مظاهره وأشكاله .. والإسلام دين ديموقراطي في كل شيء، فهو لا يقبل بالاستبداد مطلقا، وهو دين إحقاق الحق لكل إنسان عادل ومنصف. إن الشعب الجزائري ليس فرنسيا، ولا يريد أن يكون فرنسيا، وحتى لو أراد، فلا يستطيع أن يكون فرنسيا لأنه بعيد كل البعد عن ¬

_ (¬1) صفحات من الجزائر- الدكتور صالح خرفي- الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائز - 1973 ص 5 و79 و90.

فرنسا، بلغته وعاداته وأصوله وديانته. وإن التجنيس - الذي هو في الحقيقة اختيار جنسية غير إسلامية للمسلمين، ينطوي على التنكر للشرائع المقدسة التي تنظم شؤون حياة المسلمين، وتضع لهم قوانين دنيوية وبشرية (¬1). ¬

_ (¬1) الجزائر الثائرة، جوان غيلسبي - تعريب خيري حماد - دار الطليعة - بيروت -1961.

ومما قاله عبد الحميد بن باديس (شعرا) شعب الجزائر مسلم ... وإلى العروبة ينتسب من قال: حاد عن أصله ... أو قال مات، فقد كذب أو رام إدماجا له ... رام المحال من الطلب يا نشء أنت رجاؤنا ... وبك الصباح قد اقترب خذ للحياة سلاحها ... وخض الخطوب ولا تهب وارفع منار العدل والـ ... إحسان واصدم من غصب يا قوم هذا نشوءكم ... وإلى المعالي قد وثب كونوا له يكن لكم ... وإلى الأمام ابنا وأب وأمزج نفوس الظالمين ... السم يمزج بالرهب وأقلع جذور الخائنين ... فمنهم كل العطب واهزز نفوس الجامدين ... فربما حيي الخشب نحن الألى عرف الزمان ... قديمنا الجسم الحسب ومعين ذاك المجد ... في نسل العروبة ما نضب من كان يبغي وذنا ... فعلى الكرامة والرحب

أو كان يبغي ذلنا ... فله المهانة والحرب هذا نظام حياتنا ... بالنور خط وباللهب حتى يعود لشعبنا ... من مجده ما قد ذهب هذا لكم عهدي به ... حتى أوسد في الترب فإذا هلكت فصيحتي ... تحيي الجزائر والعرب (¬1) أعشب الجزائر روحي الفدا ... لما فيك من عزة عربية بنيت على الدين أركانها ... فكانت سلاما على البشرية (¬2) ¬

_ (¬1) الثورة الجزائرية - أحمد الخطيب - دار العلم للملايين - بيروت 1958 ص 125 - 126. (¬2) صفحات من الجزائر - الدكتور صالح خرفي. ص 91.

الوجيز في حياة (ابن باديس)

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... وجيز الأحداث

تحية وإهداء هذا (ابن باديس) يحمي الحق متئدا ... كذاك يتئد الشمل الأماثيل (عبد الحميد) رعاك الله من بطل ... ماضي الشكيمة لا يلويك تهويل عليك مني وإن قصرت في كلمي ... تحية ملؤها بشر وتهليل (¬1) ¬

_ (¬1) الشاعر الجزائري محمد العيد، صفحات من الجزائر - الخرفي - ص 70.

الفصل الأول

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}. الفصل الأول 1 - نظرية الاستعمار الإفرنسي وتطبيقاتها في الجزائر. 2 - حرب الحضارة الصليبية ضد الإسلام. 3 - الأهداف التربوية للتعليم الاستعماري. 4 - الفرنسة، والتنصير، نتائجهما. 5 - الانهيار الكبير أ - الجزائر سنة 1925. ب - أحمد بن عليوة - والرحمانية. ج - الشيخ عبد الحليم بن سماية. د - عمر راسم. هـ - احتفال فرنسا بمرور مائة عام على احتلال الجزائر.

نظرية الاستعمار الإفرنسي (وتطبيقاتها في الجزائر)

1 - نظرية الاستعمار الإفرنسي (وتطبيقاتها في الجزائر) هل يحتاج أبناء الشعب العربي خاصة والأمة الإسلامية عامة للتعرف على الاستعمار من خلال النظرية؟ وهل أصبحت فترة (ليل الاستعمار) بعيدة العهد، متقادمة البعد، حتى لم يبق منها إلا ذكريات باهتة، وأثار جراح مندملة؟ كلا، ليس الأمر كذلك، فلا زالت جراح الاستعمار تدمي الروح والجسد، ولا زال حضوره يؤنس الأمة العربية - الإسلامية. وهل الاستعمار الاستيطاني في فلسطين الشام، إلا امتدادا لفضائل الاستعمار الغربي في بلادنا؟ وهل الممارسات الصهيونية وأعمال القمع الوحشية، والاستفزازات اليومية، غير تجسيد عملي لما رسمه الوجود الاستعماري على الصفحة الجغرافية لعالم العرب المسلمين؟ وهل المعاناة التي يعيشها الشعب العربي من عقابيل ذلك إلا واحدة من فضائل الاستعمار؟. ثم هل توقفت الهجمة الاستعمارية الصليبية حتى يمكن استحضار الشواهد والنظريات من أجل ربط الأحداث التاريخية وإبرازها؟ وهل ...

الأسئلة كثيرة ولا نهاية لها. ويعرفها إنسان العالم العربي الإسلامي بقدر ما يعرف إجاباتها. غير أنه بالرغم من ذلك كله. فلا بد، التزاما بمبادىء البحث العلمي وأساليبه، من العودة إلى النظرية للانطلاق منها إلى عالم التطبيق العملي، مما يبرز بوضوح أكبر أهمية الجهد الكبير لدحض النظرية ذاتها وإسقاط تطبيقاتها. وتبرز هنا (التجربة التاريخية لشعب الجزائر المجاهد، بمثابة أبرز نموذج وأوضح مثال للصراع بشأن تطبيق النظرية الاستعمارية الإفرنسية من جهة، ومحاولات مقاوماتها وإسقاطها من جهة ثانية، على أيدي مجاهدي شعب الجزائر، ورواده التاريخيين. الأمر الثابت تاريخيا أن الاستعمار الغربي بانطلاقته المذهلة طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر - خاصة - لم يعتمد على نظرية واضحه المعالم، محددة الأبعاد، وإنما انطلق من خلال - فرض منطق القوة الوحشي، والاستجابة لمتطلبات النهب الاستعماري - (تلبية لاحتياجات الثورة الصناعية). ولعله كان من الأفضل للعالمين، عالم الاستعمار، والعالم الخاضع للاستعمار، البقاء دون نظرية استعمارية، إذن لكان من المحتمل جدا أن يصل الطرفان المتصارعان إلى صيغة تسمح بتبادل المنافع - على نحو ما يتم بذله من جهود في الوقت الراهن، ومع اقتراب القرن العشرين من نهايته، للوصول إلى مثل هذه الصبغة، ولو أن رواسب النهب الاستعماري لا زالت تعترض سبيل مثل هذه التسوية السلمية العادلة والتي يمكن لها ضمان حد مناسب من مصالح كل الأطراف.

والنظرية الاستعمارية، بعد ذلك، ليست نظرية واحدة ولا موحدة، فهناك نظريات كثيرة مما أبدعته عقول دهاقنة الاستعماريين من مفكرين ومنظرين وباحثين، في كل مركز من مراكز القوى الاستعمارية والمراكز المضادة لها، وفيما بينها أيضا، كمثل ذلك التناقض - أو بالأحرى التباين- بين النظرية الاستعمارية البريطانية أو الإفرنسية أو البرتغالية أو الإسبانية أو حتى الإيطالية والهولاندية. وهناك تباين أيضا في أسلوب تطبيق النظرية حتى بالنسبة للدولة الاستعمارية الواحدة، فتطبيقات الاستعمار الإفرنسي للمغرب العربي - الإسلامي لم تكن واحدة في أقطار المغرب الإسلامي (تونس والجزائر والمغرب) وكذلك بين هذه الأقطار، وبقية البلاد والأمصار التي أخضعتها فرنسا لنظريتها الاستعمارية. ولكن، وعلى الرغم من كل تباين واختلاف، فإن أكثر النظريات رواجا وشمولا لتطبيقات النظرية الاستعمارية هي التالية: (الاستعمار، هو إقامة علاقات مع بلاد جديدة لاستثمار كافة موارد هذه البلاد بكل أنواعها، ووضعها في خدمة الوطن -الاستعماري -. والعمل في الوقت ذاته لنقل فضائل التفوق العلمي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والفني والأدبي والتجاري والصناعي الذي تنفرد به العروق المتفوقة للشعوب البدائية التي يتم إخضاعها للاستعمار. وهكذا فإن الاستعمار هو مؤسسة قائمة في البلاد الجديدة الخاضعة للاستعمار، والتي

يقيمها عرق متفوق لتحقيق الهدف المزدوج الذي أشرنا إليه) (¬1). قد لا تكون هناك حاجة لدحض مثل هذه المقولة، التي تدحض ذاتها بذاتها، على ضوء التجربة التاربخية. فالتفوق العرقي - المزعوم - لم يكن في يوم من الأيام مرتبطا بالتفوق الحضاري. كما أن أسس هذا التفوق الحضاري تختلف من عصر إلى عصر ومن قارة إلى قارة. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن تعميم معطيات الحضارة الغربية باعتبارها عاملا متمما - أو واجهة تجميلية - لعملية الاستعمار الاقتصادي، إنما تعني القضاء على أسس حضارات أكثر تفوقا من الحضارة الغربية ذاتها وأكثر أصالة منها: (مثل الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية). المهم في الأمر، هو أن النظرية الاستعمارية (قد انتحلت الحق الذي تكمن شرعيته في أهداف الاستعمار ذاتها) ومن خلال إنتحال هذا الحق، عملت الدول الاستعمارية على تأميم الشعوب الخاضعة للاستعمار ومواردها وجعلها حقا لما أطلق عليه الاستعماريون وصفا تجميليا هو: (الكنز أو الثروة المشتركة للإنسانية) وبكلمة أكثر وضوحا: حرمان الشعوب التي يتم إخضاعها للاستعمار من حق التصرف بثرواتها ومواردها بما يتوافق مع مصالحها ومع وجودها ذاته، بعد أن أصبح حق الوجود ذاته مرتبطا بمصلحة القوى الاستعمارية. لقد عملت مراكز القوى الاستعمارية على فرض نظريتها الاستعمارية، دوليا، من خلال إعطائها الطابع الشرعي في ¬

_ (¬1) LA DECOLONISATION 1919 - 1963. (H.GRIMAI) P.P. 6 - 8, 28, 67, ET 93.

(معاهدة فرساي) و (مبادىء عصبة الأمم) التي انبعثت عنها، وتضمنت فيما تضمنه: (ليست الإمبريالية إلا الشكل الخارجي - وغير الشرعي في استطالاته المتطرفة - لفكرة ولحاجة لهما أساسهما الشرعي المطلق .... لقد عملت الطبيعة على إجراء توزيع غير عادل، وغير متساو، لقدراتها البشرية ولمخزونها من المواد الأولية في الكرة الأرضية كلها، فبينما توضعت في النهاية القصوى للقارة الغربية - التي هي أوروبا - العبقرية المبدعة للعروق البيضاء، ووفرت لها علم استخدام هذه الموارد الطبيعية، تركت أضخم احتياطيات لهذه الموارد في إفريقيا وآسيا الاستوائية والمحيطات الاستوائية، والتي تتجه إليها المتطلبات الحياتية حيث تندفع لاستثمارها البلدان المتحضرة ... فهل يجب أن تترك تلك المساحات الشاسعة جرداء مقفرة؟ ... وهل يجب أن تهجر للأشواك تلك المناطق غير المزروعة والتي يمكن أن تنبع فيها الحياة والغذاء؟ ... إنه من الواجب على الإنسانية كلها أن تفيد من هذه الثروة الموزعة على الكرة الأرضية كلها، إفادةكاملة. إن هذا الغنى هو الثروة المشتركة للإنسانية. وما من سلطة، أو قوة، حتى لو مضى على وجودها ألف سنة، تستطيع التصدي للحق العالمي في استخدام الموارد التي تقدمها الطبيعة في كل مكان من أجل تلبية الاحتياجات الشرعية للإنسانية؟ ... ليست القضية هنا قصية رثاء للإنسانية التي ارتكبت باسمها أبشع الجرائم التي عرفتها البشرية، ولكن الظاهرة المثيرة هي

انتحال الأقوياء- الاستعماريين- لأنفسهم حق تصحيح الأوضاع التي كونتها الطبيعة. وبكلمة أخرى، محاولة تصحيح أخطاء الطبيعية- إن كانت الطبيعة التي يؤمنون بها معرضة للخطأ - استجابة للنوازع الاستعمارية. وإعطاء هذه النوازع ما أطلقوا عليه اسم (الحق الشرعي - لعمل غير شرعي). وإلباس ذلك كله الرداء (الإنساني). وحرمان الشعوب التي تم إخضاعها للاستعمار من حق ارتداء هذا الثوب الإنساني؟. المهم في الأمر، هو أن الدول الاستعمارية تبنت النظرية السابقة، وتخلت عن مبدأ الاستثمار البسيط الذي اعتنقته في البدايات الأولى لظهور الاستعمار، وسارت عليه ردحا طويلا من الزمن. وأصبح لهذا الاستعمار أجهزته المتكاملة التي تمارس عملها تحت مظلة غطاء شرعي. غير أن هذه الشرعية في التغطية جاءت من طرف أوروبا الاستعمارية وحدها، التي اعتبرت أن قدرتها تسمح لها بفرض حضارتها حتى لو كانت الشعوب الإسلامية الخاضعة لها ذات حضارات تفوق حضاراتها أو تتعادل معها خلال فترة بداية الاستعمار. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن فرض هذه الحضارة بالقوة من جهة والاستمرار في إضعاف المسلمين الخاضعين للاستعمار من جهة ثانية قد أخل بالمبدأ الذي زعم الاستعمار الإفرنسي- خاصة- أنه قادر على إقامته، وهو تحقيق التوازن في العلاقات المتبادلة، وأدت الممارسات الاستعمارية إلى زيادة الهوة بين الاستعمار الإفرنسي والدول الخاضعة له، وظهر بوضوح أنه من المحال ردم الهوة الآخذة بالتباعد في العمق والاتساع. وإذ ذاك بات المخرج الوحيد هو في

فصم الروابط بين الدول الاستعمارية والدول الخاضعة لها (لا سيما وقد ظهر أن هذا الاستعمار يحمل في جوفه بذور مصرعه) غير أن الرجال الذين عايشوا، فترة ما بين الحربين العالميتين، لم يكونوا يتوقعون حدوث مثل هذه القطيعة بين ليلة وضحاها. وكان الكثيرون ينظرون إلى هذه القطيعة على أنها (أمل بعيد المنال). هذا على الرغم من أن الظروف الاقتصادية الناجمة عن النهب الاستعماري قد زادت من بؤس مواطني البلاد المستعمرة. وتفاقمت خطورة الوضع باقتناع الدول الاستعمارية- والمقصود هنا فرنسا بصورة خاصة - عن تقديم أية مساعدة للمواطنين المسلمين في الجزائر - الأنديجين -. إلى جانب الاستمرار في تطبيق المادة (13) من القانون المالي لسنة (1900) والتي تنص على ما يلي: (يجب على البلاد الخاضعة للاستعمار أن تتحمل أعباءها المالية عن طريق الضرائب والغنائم) وعلى هذا، لم تكن الموازنة الإفرنسية تضم في بنودها إلا ما يخص الدفاع، وتغطية قسم من نفقات الأجهزة الإدارية. باعتبار أن هذه الأجهزة مخصصة للموظفين الإفرنسيين ولا يجوز استخدام الموظفين المسلمين فيها نظرا لتخلفهم الثقافي- على حد زعم المستعمرين- وتجدر الإشارة إلى أن ما حققته هذه الأجهزة الإدارية من نجاح في تحقيق المخططات الاستعمارية، قد أدى إلى خلق مناخ من اليأس في قلوب معظم سكان البلاد الخاضعة للإستعمار. وقد برزت هذه الظاهرة بوضوح في المعرض الاستعماري الذي أقيم في سنة 1931، والذي عرضت فيه، عينات من مواطني البلاد الخاضعة للإستعمار بألبستهم الوطنية التقليدية. وهم المواطنون الذين

كانوا يتباينون بعروقهم - ألوان بشرتهم - ويختلفون في أنماط حياتهم وعاداتهم، غير أنهم يتساوون- على ما كانت تزعمه فرنسا الاستعمارية - بفخرهم إنهم يخدمون جميعا تحت راية - العلم الإفرنسي - الذي يخفق فوقهم جميعا. ***

حرب الحضارة الصليبية ضد الإسلام

2 - حرب الحضارة الصليبية ضد الإسلام كان في مدينة الجزائر وحدها يوم وطئتها أقدام الغزاة الصليبيين- الإفرنسيين - سنة 1830 مائة وستة مساجد، وعندما حرر المسلمون الجزائريون بلادهم سنة 1961 لم يكن في عاصمة الجزائر أكثر من ثمانية مساجد فقط. وهكذا اختفى 98 مسجدا كانت من أعظم منارات الدنيا. وكانت الأوقاف الإسلامية في جزائر المسلمين تبلغ نحو (66) في المائة من مجموع الأملاك العقارية والزراعية. ويعود السبب في ذلك إلى شغف الجزائريين بحبس أموالهم على المساجد وأضرحة الأولياء وأندية العلم عامة والحرمين الشريفين خاصة. وكان الجزائريون يديرون هذه الأموال بمهارة وكفاءة، بواسطة إدارة أهلية، ولم يكن أحد يشكو يومئذ فقرا لأن جميع الفقراء كانوا يأخذون حصتهم ونصيبهم من خيراتها. وهكذا استمرت الجزائر في بحبوحة من العيش أيام عزها ومجدها، حتى غزتها جحافل الصليبيين الإفرنسيين. وعندئذ تطلعت فرنسا إلى تلك الخيرات فحاولت انتزاعها من أيدي أصحابها، ولكنها وجدت

شروط الواقفين حائلة بين الإفرنسيين وبين ما يطمعون. فخلقوا مشكلة التدخل في أمورها بحجة التنظيم والإصلاح. واشتهر القضاء الإسلامي، عبر التاريخ، بنزاهته وإستقلاليته، ووجد الاستعمار الإفرنسي في هذا القضاء عاملا قويا في المحافظة على شخصية الجزائر الإسلامية والإبقاء على أصالتها، فراح يخطط لفرض هيمنته على هذا القضاء، فأصدر قرارا يوم 10 نيسان - أبريل - 1834 ينص على (استئناف الأحكام التي يصدرها القاضي المسلم أمام مجلس الاستئناف) وفي هذا ما يخالف الشريعة الإسلامية، إذ أنه ليس لحكم الله استئناف أو تمييز، أو مماطلة وتسويف. وزاد الأمر خطورة بإسناد حق الاستئناف إلى قضاة الاستئناف من النصارى أو اليهود. وزاد في العدوان الإفرنسي الأثيم - أيضا - إرغام القضاة المسلمين على إصدار أحكامهم (باسم الملك الإفرنسي - إبان حكم الملكية، وباسم الإمبراطور - في أيام نابليون الثالث، وباسم الدولة الإفرنسية - في عهد بيتان). وأضيفت إلى ذلك مجموعة من الصعوبات والعراقيل، جعلت اختصاص القضاة المسلمين بعد سنة 1841 محصورا في دائرة ضيقة النطاق لا تتجاوز الدعاوى المتعلقة بالأحوال الشخصية والإرث. وكانوا قبلا ينظرون في الدعاوى الجنائية والمدنية والتجارية وقضايا العروض والعقارات. ولم يتوقف نشاط الاستعمار الإفرنسي المعادي للقضاء الإسلامي عند حد تضييق الخناق عليه والحد من صلاحياته، بل تجاوزها إلى لأعمال حذف المحاكم الإسلامية وإبطالها. ففي 28 آب - أغسطس - سنة 1874، صدر أمر بحذف المحاكم الإسلامية

(بمنطقة القبائل) وإبدالها بجماعات أهلية أطلق عليها اسم (الجامعات القضائية). وخصصت صلاحياتها بالحكم حسب العرف والعادات الأهلية لا الدين. فكيف تم هذا التحول؟ للإجابة على ذلك، قد يكون من الأفضل التوقف عند بعض المقولات التي طرحت في إطار الحرب الصليبية- الحضارية - ضد المسلمين. لقد بدءت عملية احتلال المساجد، مع البدايات الأولى لغزو الجزائر، ففي سنة 1832، صرح (روفيغو) (¬1): (بأنه يلزمني أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه معبد إله المسيحيين) وخاطب رجاله قائلا: (عجلوا بذلك، فجامع كتشاوه - كيجاوه - هو أجمل مسجد في المدينة خاصة وأنه يتاخم القصر، ويقع وسط الدوائر الحكومية والحي الأوروبي (¬2) وتملك الجزائريون الفزع، وتساءلوا جميعا: إلى بيوت الله توصل المستعمرون الفجرة؟ وهرع المسلمون إلى المسجد يحمونه بقلوبهم. ودخل أربعة آلاف منهم رحاب المسجد، وأقفلوا الباب عليهم، وقد عقدوا ¬

_ (¬1) روفيغو SAVARY RENE DE ROVIGO واسمه سافوري. رونيه - دوق - (1774 - 1833) تولى منصب وزير الشرطة أيام نابليون بونابرت، ثم عين حاكما للجزائر. (¬2) مسجد كتشاوة: يوجد حاليا في ساحة ابن باديس، وكان موجودا منذ القرن الرابع عشر، وأعيد بناؤه أيام حسان باشا - بن خير الدين بربروس 1209هـ (1794 - 1795) ليكون من أعظم مساجد الجزائر. وتعرض المسجد لتشويه مرعب سنة 1845 وتحول إلى كنيسة، ثم استعاده المسلمون سنة 1962.

النية على الاستثهاد معه. وفي يوم 18 كانون الأول - ديسمبر -1832، حضرت قوات من المدفعية والمشاة الإفرنسيين، وأحاطوا بالمسجد. واقتربت فرقة من حاملي الفؤوس، وأخذت تكسر الباب الموصد، وبينما كان صياح الأهالي واستغاثاتهم تعلو عنان السماء، كانت القوات الإفرنسية تقتحم رحاب المسجد وتنطلق بوحشية وهي تطعن الأهالي بحد الحراب والسيوف. وقتل المسلمون عن آخرهم وطلي الجامع بدمائهم. وقام القساوسة يتلون أناشيد الغفران على أشلائهم الممزقة. وتم تحويل المسجد إلى كنيسة عرفت باسم (كنيسة سان فيليب). واستمرت بعد ذلك عملية هدم المساجد، وتحويلها إلى كنائس للنصارى وبيع لليهود وثكنات للجيش والشرطة وأصطبلات للخيل والدواب. وتعرضت المدن الجزائرية الأخرى لما تعرضت له العاصمة (الجزائر) حيث ذكر أحد رؤساء الأديرة والنائب العام لمطران الجزائر، فقال ما يلي: (إن الحاكم الإفرنسي - فالي - هو رجل عميق الإيمان، صاحب ذمة وضمير، يحكم الجزائر كالملك المنفرد بحكمه. هذا هو الرجل الصالح للمستعمرة. فهو يبغي تثبيت دعائم الدين، وفرض احترامه في كل مكان. ويريد أيضا مضاعفة الصلبان والمعابد في الجزائر. كما أن صاحب السيادة بإمكانه تنفيذ إرادته مع أي رجل كان. وقد اختار أجمل مسجد في قسنطينة ليجعل منه أجمل كنيسة في المستعمرة. وهو مسجد صالح باي). لم تكن عملية التدمير البربرية لأماكن المسلمين المقدسة إلا

واحدة في جملة وسائل التدمير المادي والمعنوي للقدرة الإسلامية، وكانت الوسائل الأكثر خطورة هي: 1 - أعمال الإبادة الوحشية للمسلمين. 2 - نشر الأمراض والأوبئة وإهمال الشؤون الصحية. 3 - إفساح المجال بعد ذلك للارساليات التبشيرية حتى تكمل عملها فيما أطلق عليه سياسة التنصير. 4 - توجيه التعليم بما يتوافق مع الأهداف الاستعمارية. وقد تنضب الأقلام وتضيق الصحف عن جمع الشواهد الثابتة والبراهين الواضحة عما بذلته السلطات الاستعمارية الإفرنسية وهي تمضي لتنفيذ المخطط المتكامل الذي عرضت أبرز نقاطه السابقة، لإبادة الشعب الجزائري المسلم وتصفية وجوده المادي والمعنوي. ولقد رافقت عملية الغزو البربري للجزائر، واستمرت معه، فظائع رهيبة، وأعمال إبادة إجماعية لم يعرف لها مثيل، ومن شواهدها الشهيرة والمتناقلة، قيام جند الغزو بقتل الشيوخ والأطفال والنساء، ثم تقطع آذان النسوة وأيديهن لنهب الأقراط والعقود (حتى كانت الأقراط المعلقة في آذان الجزائريات، تشحن بالبراميل، وتكدس أكواما في سوق باب عزون في العاصمة لبيعها بالمزاد). وهكذا كانت تباع حلي الحرائر الطاهرات من النساء المسلمات وهي تقطر من دمائهن البريئة. واستثارت هذه الوحشية بعض الإفرنسيين فمضوا في وصفها: (لقد قلت أن الاستعمار هو عملية اغتصاب. ولكن هذا أيضا لا يكفي، يجب أن أقول عملية اغتصاب هائلة. عملية إبادة شعب بأسره) وقال كاتب فرنسي: (دعونا من الخداع والمواربة، فما نفع تمويه الحقيقة. إن الاستعمار لم يكن في البدء حركة حضارية وإرادة حضارية. كان

حركة قوة نفعية، إنها مرحلة صراع من أجل الحياة، صراع التزاحم الحيوي الكبير الذي انتقل من الأفراد إلى الجماعات، ومن الجماعات إلى الأمم. وراح ينشر ألويته فوق العالم الفسيح ... إن من يقول حضارة، إنما يعني منفعة الغير - ورغبة كريمة في مساعدة هذا الغير. في حين أن الاستعمار في أساسه، ليس سوى عملية منفعة شخصية - أنانية - يفرضها القوي على الضعيف). ويعرف السفاح الاستعماري (بيجو) الاستعمار بقوله: إن الاستعمار هو الفتح البربري الكبير، وهو أشبه شيء بمرور قوافل الرحالة الذين يهجمون على بلد ما، فيقتلون ويذبحون وينهبون كل شيء) (¬1) وسار المارشال (سانت آرنو) على نهج .. (بيجو) فكتب في وصف إحدى عمليات الإبادة ما يلي: (إن بلاد بني مناصر رائعة حقا. وهي إحدى المناطق الغنية التي شاهدتها في أفريقيا ... فالقرى والمساكن متقاربة جدا ... لقد أحرقنا ودمرنا كل شيء ... إنها الحرب، وكم من نساء وأولاد لاجئين إلى ثلوج الأطلس، قضوا نحبهم من البرد والبؤس) وفي (رسائل جندي) كتب - مونتانياك - يصف ما فعله بأحد الجزائريين: (قطعت رأسه، وقبضته اليسرى، وقدمت إلى المعسكر شاكا رأسه على حربة، معلقا يده على قضيب بندقية. ثم أرسلناهما إلى الجنرال - باراقاي ديلليار - الذي كان في المعسكر القريب منا. وكم كان الجنرال شديد السرور والفرح). أما كريستيان، صاحب كتاب (أفريقيا الإفرنسية) فإنه بعد أن يصف كيفية إقدام القوات الإفرنسية ¬

_ (¬1) الثورة الجزائرية (أحمد الخطيب) ص 159 - 163.

بقيادة الجنرال (روفيغو) على ذبح جميع أفراد قبيلة (الوفية) وهم نيام (يوم 6 نيسان - أبريل - سنة 932 1) يقول: (وهكذا أبيد من كان حيا دون تفريق بين الشاب والشيخ والذكر والأنثى)، ويقول (بن) واصفا إحدى المجازر: (لقد كانت المذبحة رهيبة، فالمساكن وخيام الأجانب منتصبة في الميادين والشوارع والساحات، مغطاة بالجثث، وتبين بعد الاستيلاء على القرية بأن عدد الضحايا بلغ 2300 قتيل بين امرأة وطفل، أما الجرحى فكان عددهم معدوما ... وقام الجنود باكتساح البيوت ونهبها وإحراقها وإحراق الأشجار ... وفي اليوم التالي، نزلت الحملة إلى (البليدة) وأحرقت كل شيء في طريقها، وهدمت هذه القرية الجميلة ... وكان خط النيران المشتعلة في الجبل هو المرشد إلى طريق سير الحملة) ويكتب الكولونيل (دومونتانياك) إلى (الجنرال لامورسيار) (طلبت مني في مقطع من رسالتك أن أخبرك عن مصير النساء اللواتي نسبيهن، إننا نحتفظ ببعضهن كرهائن، وبعضهن نستبدلهن بالجياد، ثم نبيع الباقيات بالمزاد العلني باعتبارهن حيوانات لنقل الأحمال ... ولكي أطرد الأفكار السوداء التي تمتلكني بعض الأحيان، أقوم بقطع رؤوس ... لا ليس رؤوس نبات (الأرضي شوكي) بل رؤوس رجال حقيقيين) ولا بد لهؤلاء المساكين الذين يصبحون بدون مأوى، حفاة، عراة، أن يلجؤوا إلى الكهوف التي هي آخر ملجأ طبيعي للإنسان، تقيه الحر والقر، وتحميه من غوائل الليل ووحوش القفار). وفي هذه الكهوف، حدثت أشنع أعمال الإبادة، ضد قبيلة

(أولاد رباح) التي جاءها إنذار من الكولونيل (باليسي) (يوم 11 حزيران - يونيو - عام 1845) يأمرها فيه بالإسلام خلال عشر ساعات. ولما كان الاستسلام يعني مد الرقبة للجزائر فقد اشترطت القبيلة لخروجها انسحاب القوات الإفرنسية. وبدون إنذار آخر، أوقد (باليسي) النار أمام الكهوف، وسلط الدخان على المحتمين فيها طوال الليل حتى قضوا خنقا. وهذا وصف مريع للعملية - وقد اقتطف من كتاب (رسائل جندي) مؤلفه - مونتانياك: (أية ريشة تستطيع رسم هذا المنظر، عند منتصف الليل، وتحت ضوء القمر، لقد انشغل قسم من القوات الإفرنسية في تحضير نار جهنمية ... إننا نسمع الأنات المتقطعة المنبعثة من الرجال والنساء والأطفال والحيوان. وطقطقة الصخور المحترقة وهي تتساقط. وطلقات الأسلحة المستمرة ... لقد حدث في هذا اليوم أعنف صراع بين الإنسان والحيوان، فعند الصباح، وبينما كنا نخلي مداخل الكهوف، فوجئنا بأفظع مشهد يقع عليه النظر. لقد وجدنا في داخل الكهوف جثث الثيران والأغنام والحمير المندفعة بغريزتها الطبيعية إلى استنشاق الهواء الطلق الذي حرمت منه في الداخل، وقد تكتلت بين هذه الحيوانات، وتحتها جثث الرجال والنساء والأطفال. ورأيت رجلا ميتا جاثيا على ركبتيه، يمينه تمسك بقرن ثور، بينما كانت بالقرب منه امرأة وعلى ذراعيها طفلها ... من السهل التعرف على هذا المنظر، فالرجل قد اختنق مع المرأة والطفل والثور، في الوقت الذي كان يحمي فيه عائلته الصغيرة من ثورة هذا الحيوان ... لقد كانت الكهوف واسعة، حتى إننا أحصينا فيها سبعمائة وستين جثة؛ ولم ينجح في الخروج

منهم سوى ستين ما لبث أن فقد أربعون منهم الحياة. ونقل رجال الإسعاف عشرة في حالة صحية خطيرة أما العشرة الباقون، فقد أطلقنا سراحهم ليعودوا إلى قبائلهم يبكون أطلالا وخرابا). لم تقف جهود فرنسا - الحضارية - عند حدود أعمال الإبادة المباشرة للجزائريين المسلمين، وإنما تجاوزتها إلى أعمال الإبادة غير المباشرة وفي طليعتها إهمال الناحية الصحية، ونقل الأمراض والأوبئة الحضارية إلى الجزائر - ومنها أمراض السل والسرطان والأمراض التناسلية. ومعروف أن الجزائر - وأفريقيا كلها عامة - لم تكن تعرف قبيل الاحتلال الاستعماري شيئا عن مثل هذه الأوبئة، ولم يأت بهذه الأمراض الفتاكة غير جنود الحملة الإفرنسية المكونين من السجناء واللقطاء والمرتزقة. وهكذا فقد رافقت الحملة الاستعمارية، حملة أخرى من الأوبئة المخيفة التي صدرها المجتمع الإفرنسي القذر. وجدير بالذكر التنويه إلى ما كتبه (البروفسور ليفي فالنسي) في هذا المجال. وفيه ما يلي: (تضم الجزائر بسكانها التسعة ملايين نسبة من المسلولين تعادل ما تضمه فرنسا التي يبلغ عدد سكانها أربعين مليونا. وبالرغم من كل ذلك لم تتخذ سلطات الاستعمار الاحتياطات الوقائية اللازمة، مثل بناء المستشفيات الصحية، وزيادة أعداد الأطباء الذين هم بمعدل 4 - 8 أطباء لكل مائة ألف نسمة، فلا عجب إذن بعد كل هذا أن نرى نسبة وفيات الأطفال بين العرب تبلغ خمسين بالمائة) كان ذلك في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث بلغ عدد الأطباء الموجودين في الجزائر (1851) طبيبا. وهذا يعنى توافر طبيب واحد لكل (5400) نسمة - نظريا - أما من الناحية العلمية، فكان

معظم هؤلاء في العواصم الكبرى والمراكز الصحية الإفرنسية، وواجبهم الأول هو خدمة الإفرنسيين. وقد يكون ذلك وحده كافيا لإبراز اهتمام السلطات الاستعمارية بالعرب المسلمين، وما نتج عن هذا الاهتمام من إسهام في أعمال الإبادة غير المباشرة للعرب المسلمين في الجزائر. لم تقف فرنسا عند هذا الحد، فأضافت إلى سجلها الحضاري جريمة دينية وإنسانية ما عرفها التاريخ، عبرت فيها عن حقدها الدفين ضد الإسلام وتعصبها الأعمى والأحمق للمسيحية. وتمثلت هذه الجريمة بالمجاعة الكبرى التي اجتاحت الجزائر سنة 1867 والتي ذهب ضحيتها حوالي نصف مليون نسمة. لقد كانت فرنسا وراء المجاعة، لأن التاريخ لم يذكر أبدا حدوث مجاعات من هذا النوع في البلاد، فالجزائر غنية بمواردها الغذائية، وكانت تجارتها مزدهرة قبل الاحتلال الإفرنسي للبلاد، ولكن الحروب التخريبية التي شنتها فرنسا على الحرث والنسل لتحطيم المقاومة الشعبية، كانت العامل الوحيد الذي أدى إلى المجاعة الرهيبة. فالسنوات التي سبقت عام 1867 كانت سني حرب طاحنة، لم يعرف تاريخ البشرية إلا نادرا بمثل وحشيتها وبمثل ما رافقها من فظائع وآثام. ولم تجد فرنسا سبيلا للتغلب على الشعب إلا بحرمانه من وسائل الحياة - الغذاء والماء -. ولذا تم تطبيق مخطط إجرامي لإحراق الغابات والمزارع والحقول والبساتين وتخريب القرى والمدن، وردم العيون والآبار. وكان من نتيجة ذلك ظهور مجاعة

سنة 1867 التي انتظرتها فرنسا بفارغ الصبر، لتشرع في تنفيذ مهمتها الثانية المتعلقة يتنصير المسلمين. وصهرهم في البوتقة المسيحية. واغتنمت فرنسا هذه المجاعة فجلبت إلى الجزائر أكبر عدد ممكن من (الآباء البيض) و (الإرساليات التبشرية) الأخرى. وزودتهم بالأطعمة المختلفة، وحثتهم على استدعاء الأهالي الجياع لزيارة الكنائس، بعد إغرائهم يوجود ما يبتغون. ولم تكن بغية الأهالي آنذاك سوى لقمة العيش. ويقف الجزائريون على أبوابا الكنائس والمعابد المليئة بأشهى الطعام، ضمر الخصور، غور العيون. يتلهفون إلى لقمة العيش، فلا يجدونها إلا بشروط. ولم تكن هذه الشروط سوى الخروج على الدين الإسلامي والدخول في المسيحية، وبهذا فقط يتمكنون من مضغ لقمة الحياة، وإلا فالموت لهم بالمرصاد. وذات يوم، وقف أحد الجزائريين الجياع أمام باب إحدى (الإرساليات التبشرية) في عمالة (وهران). وطلب إعطاءه لقمة عيش تحفظ له ما بقي من حياة. وكان الرجل في حالة تفير الرثاء في أقسى القلوب المتحجرة، بسبب ما وضح من أمره من الضعف والهزال. واستقبله (المبشر المحترم) ورحب به، وأدخله المعبد. وأخذ يعرض على بعد منه أنواع الطعام الشهية، واصفا لذائذها وفوائدها. ولم يتمكن الرجل من إيقاف لعابه السائل، فهم بمد هيكل يده ليحظى بشيء من الطعام. ولكن المبشر حال دونه ودون مبتغاه، وقال له بصراحة: (لن يأكل هذا الطعام الشهي إلا من دخل الدين المسيحي). وانتابت الرجل رجفة، ولم يلبث أن أدار ظهره للطعام المشروط، وأخذ يسحب رجليه الضعيفتين

سحبا. حتى إذا ما ابتعد عن باب الكنيسة خر على الأرض فاقدا الحياة. ومضى أبناء وهران، الذين عاشوا المجاعة، يتناقلون هذه الحادثة فيما يتناقلون. ويسجلونها برهانا - في جملة البراهين - على ما اتسم به (هؤلاء المبشرون) من قسوة القلب، والبعد عن كل القيم الحضارية والمفاهيم الإنسانية. وقد توافرت شواهد كثيرة أجمعت كلها على أن المبشرين الذين سبقوا الحملة الاستعمارية، ورافقوها، مثلوا أشنع تمثيل عقلية الاستعمار البغيضة، والقائمة على التقتيل الجماعي ونشر الرعب وتعميم الفوضى في المغرب الإسلامي عامة وفي جزائر المسلمين خاصة. وإلا لما تركوا هذا الرجل - وأمثاله الكثيرون - يموتون جوعا أمام عيونهم، بلا ذنب اقترفوه إلا لأنهم قالوا: ربنا الله، وما رضوا عن دينهم بديلا، بينما كان بوسع هؤلاء المبشرين المحترمين تلافي جرائمهم الدنيئة، والتستر على أعمالهم القذرة. ولكنهم يدركون بأن مثل هذا الرجل، سيجعل من أطفاله أيتاما لا معيل لهم. وبعد ذلك يسهل عليهم إلتقاطهم وزجهم في (دور الأيتام) التبشيرية حيث ينشؤون نشأة مسيحية محضة. وأشهر هذه الدور (دار بن عكنون وبوزريعة) في مدينة الجزائر، ودار بطيوه بالقرب من مدينة (أرزيو). ومثل هؤلاء الأينام الذين قضى آباؤهم جوعا، وهم الذين جاء بهم الجنرال بيجو إلى الأب (بريمو) وسلمه إياهم قائلا: (حاول يا أبت أن تجعلهم مسيحيين، وإذا فعلت، فلن يعودوا إلى دينهم ليطلقوا علينا النار). لقد عبر بيجو في جملته هذه تعبيرا صريحا عن نوايا حكومته في

القضاء على الدين الإسلامي. وسانده في تعبيره كاتبه الخاص حين قال: (إن أيام الإسلام الأخيرة قد حانت، ولن يكون في الجزائر كلها بعد عشرين عاما من إله يعبد غير المسيح ... وإذا ما ارتبنا في أن هذه الأرض ستبقى لفرنسا، فمن الجلي - على الأقل - أن الإسلام قد فقدها ... إن العرب لن يكونوا لفرنسا إلا حينما يصبحون مسيحيين). أصبحت العلاقة الجدلية القائمة بين الاستعمار وبين التبشير الكنسي، من العلاقات المسلم بها تاريخيا، والمعترف بها دوليا. ولم تعد بحاجة لدليل أو برهان. وقصة احتكاك المغرب العربي - الإسلامي بالصليبية العمياء - وهي نقيض المسيحية السمحاء - لم تبدأ باحتلال الجزائر، ولكنها أعرق في القدم. فالاحتلال نتيجة من نتائجها. وما كان التبشير إلا مقدمة صادقة للإستعمار. ورائدا وفيا لطلائع الزحف التوسعي. ولولا تسلل المبشرين إلى أفريقيا، ونفاذ هواجسهم إلى أدغالها، وتسرب تعاليمهم إلى حنايا سكانها، لما رسخ للإستعمار قدم في هذه القارة. وكانت هذه الإرساليات أمينة لرسالتها المزدوجة، التي تسربها حسوا في ارتقاء ... فقد لا تكفي الإرسالية بتمهيد الأرض لأقدام الغزاة، وإحضاع الرقاب لسيوفهم، بل ربما عاد القسيس من جولته إلى باريس. وفي طيات أثوابه خريطة يسهل بها مؤامرة الغزو. وها هو الأب (شارل دوفوكو) إمام أئمة الكاثوليكية، وأحد رحالة الصحراء، رحل إلى المغرب الأقصى، ورجع منه بوثائق وبخريطة قيل عنها: (أنه لولا خريطة الأب فوكو ووثائقه عن المغرب التي قدمها للحكومة الإفرنسية، لكان احتلال فرنسا للمغرب من الصعوبة بمكان).

وكان على فرنسا أن تعترف له بالجميل، اعترافها بقوادها الفاتحين، فأقامت له تمثالا في حديقة - ليوتي - بالدار البيضاء -أزيح عنه الستار سنة 1922. وكانت الوثنية والبربرية في أفريقيا نقطة الضعف التي ركز التبشير هجومه عليها، والكوة التي نفذ منها إلى القارة. وكان المبشرون يتطلعون باستمرار في نهم مسعور إلى استغلال الوثنية وتسخير البربرية لخدمة الاستعمار. وهو ما أبرزه بحث ظهر في مجلة - المغرب الكاثوليكي - بعنوان (روح الإنجيل غذاء لروح البربر). جاء فيه: (إن البرابرة قريبون من الإنجيل، وأساطير الإنجيل التي تفيض بحياة الرجل، تصف حياة شبيهة بحياتهم. وأمثال الإنجيل تشبه كثيرا من أمثالهم. وإن حياتنا الخلقية الإفرنسية قد كيفتها وصبغتها المسيحية، فلم لا يكون الإنجيل إذا مركز الاتصال الذي تلتقي به الروح البربرية والروح الإفرنسية اللتان تنشد إحداهما الأخرى). ولم يكن العرب في أفريقيا في مأمن من هذا النهم المسعور، بل هم آخر المطاف للجولة المبيتة، والهدف البعيد لها. ولم يكن الإسلام في معزل عن هذه المساومات الرخيصة. بل كان الغنيمة التي يتحلب لها ريق الصليبية البغيضة، وإنما اتخذت البربرية ذريعة للوصول إلى الإسلام المستعصي. وركز الهجوم على البربرية لاستدراج العرب والتمكن من تلابيبهم، وهو الأمر الذي أكده (الأب فوكو) الذي اشتهرت عنه مقولته التالية: (إن أبناء البرابرة هم فتيان جنس لطيف، وهم مستعدون لقبول الروح اللاتينية التي انتموا إليها في العصور الحالية. إن البرابرة ليسوا متعصبين ولا جاحدين، وإن

دخولهم في المسيحية هو الذي يعيد العرب ويدخلهم إليها كارهين) (¬1) والأمر الواضح هو أن الصليبيين قد جنحوا إلى كوة الوثنية، حين استعصى عليهم الولوج من باب الإسلام. فاستنجدوا بالعصبية المفرقة حين أعياهم الدين الموحد. الدين الذي وقف بالبربر والعرب على صعيد واحد في وجه الاحتلال، هو الذي دفعهم إلى نبش الماضي، والالتفات إلى لاتينية البرابرة حتى يجدوا ما يفتتون به أوصال الحاضر ويمزقونه. إنها الصليبية تعيد نفسها، ومجاف للحقيقة وللواقع التاريخي من يزعم أن التبشير في الجزائر كان في خدمة المسيحية، ولو كان القائل مبشرا مسيحيا. لأن أقوال سلفه تغلق في وجهه باب مثل هذا الزعم. فقد كان غزو الجزائر منذ بدايته غزوا صليبيا أعلن عن أهدافه بوضوح تام، فأعاد إلى الأذهان ملاحم الحروب الصليبية في المشرق وأيامها في أندلس المسلمين. والكنيسة هي التي باركت الغزو الصليبي في المشرق واحتضنته، والقسيس هو الذي كان يغمس السيف في الماء المقدس، ويقلده عنق الفارس، ويشيعه بالدعوات وهو في طريقه إلى بلاد الشام. أما بالنسبة لاحتلال الجزائر، فإن الكنيسة لم تقتنع بالدعوات الضارعة، بل سارت في ركاب الاحتلال، وتلاحمت معه جسما وروحا. وأذعنت في طواعية للوحشية البربرية التي جاء ¬

_ (¬1) جريدة (الشريعة) الجزائرية. (31 كانون الثاني - يناير - 1933، نقلا عن مجلة (المغرب الكاثوليكي) دار الكتب الوطنية بتونس العاصمة - (صفحات من الجزائر - الدكتور صالح خرفي - ص 311 - 329).

بها الغزاة المستعمرون، الذين لم يشبع حقدهم بدخول البلاد، فمضوا إلى إشباعه بقلب أوضاع هذه البلاد رأسا على عقب، وهذا ما يفسر تركيز هجومهم على الإسلام ومقدساته. لا غرابة في ذلك، فالمعروف من القوانين الدينية للفروسية الغربية التي زحفت إلى المشرق في الحروب الصليبية القديمة هذه القوانين: أولا: أن تصدق كل تعاليم الكنيسة وتمتثل لأوامرها، فإن فعلت ذلك، ولو أدى بك إلى الاستشهاد دخلت الجنة. ثانيا: أن تحمي الكنيسة، وتبذل كل ما تستطيع من مال ونفس ونفيس في سبيل نصرتها ودعمها. ثالثا: أن تشن على الكافرين (أي المسلمين) حربا لا هوادة فيها. ومن هذا البند الثالث، نشطت الوحشية الصليبية، وانطلقت من عقالها لتقتل وتحرق وتدمر وتبيد، في حرب لا هوادة فيها، وبقلب لا يعرف الرحمة، وكأن المسيحية لن تقوم لها قائمة إلا على أنقاضى الإسلام، وبني الإسلام. ولا تستطيع الكنيسة تبرئة ساحتها من فظائع الاحتلال والتي سهر على تنفيذها سفاحون عسكريون، لأنهم زحفوا في حمى الكنيسة، ووسموا صدورهم بالصليب، فالهدف واحد عند الطرفين الديني والعسكري، الهدف إبادة الإسلام في هذه الربوع. وكان رجال الكنيسة هم الدماغ المفكر والمخطط، وكان رجال العسكر، هم الذراع المنفذ والمدمر. ولقد سبق عرض بعض الشواهد التي تؤكد هذه الحقيقة، وهذه طائفة أخرى منها:

قال الكردينال - لافيجوري -: (علينا أن نخلص هذا الشعب ونحرره من قرآنه، وعلينا أن نعنى على الأقل بالأطفال، لتنشئتهم على مبادى غير التي نشأ عليها أجدادهم، فإن واجب فرنسا تعليمهم الإنجيل أو طردهم إلى أقاصي الصحراء بعيدين عن العالم المتحضر) واستجابة لهذه التوصية وأمثالها يصدر أحد القادة الإفرنسيين - مونتانياك - تعليماته إلى مرؤوسيه: (لا يمكن تصور الرعب الذي يستولي على العرب حين يرون قطع رأس بيد مسيحية، فإني أدركت ذلك منذ زمن بعيد، وأقسم بأنه لا يفلت أحد من أظافري حتى يناله من قطع رأسه ما ينال. وقد أنذرت بنفسي جميع الجنود الذين أتشرف بقيادتهم، أنهم لو أتوا بعربي وهو على قيد الحياة، فسأنهال عليهم ضربا بعرض نصل سيفي. وأما قطع الرؤوس، فيجب أن يتم على مرأى ومسمع جميع الناس ... هكذا تكون معاملة العرب: قتل جميع الذكور الذين تجاوزوا الخامسة عشر من أعمارهم، وسبي جميع النساء، وخطف جميع الأطفال. وشحن الجميع في السفن، ثم إقصاؤهم إلى (جزر مركيز) أو إلى الثلث الخالي من الأرض. وخلاصة القول: يجب إبادة كل من لا يتمرغ تحت أرجلنا كالكلاب). ويعود القائد الإفرنسي (سانت آرنو) ليؤكد مجددا ما تميزت به مواقفه البطولية التي تتوافق مع ما سبق ذكره: (لا تسأل عن أشجار الزيتون الباسقة التي ستكون فريسة وحشيتي، واليوم، في برنامجي إحراق جميع ضيع قبيلة بني سالم وابن القاسم وقاسي وقراهم. لقد أحرقت أكثر من عشر قرى كانت كلها بهجة وغنى. وهو القائل: تركت ورائي حريقا حافلا تندلع لظاه فيما يقرب من

مائتي قرية أصبحت طعمة للهب والحريق، لقد لعبت يد الدمار بالبساتين. بقدر ما لعبت يد المناشير بأشجار الزيتون). ولقد دافع (سانت آرنو) هذا عن فعلته الهمجية بقوله: (على الرغم مما يقوله أصحاب البر والإحسان، فإني أعتقد بأن الغاية تبرر الوسيلة، فالجيش الذي تكون مهمته إبادة شعب، لا يكترث بقوانين الحرب، فما الحريق إلا حريق، لا يضرم الإنسان النار، ويطلب منه أن تكون بردا أو سلاما، وما طبيعة النار إلا الإحراق والتدمير، وكان بالمستطاع موافقة هذا المجرم على حججه الذرائعية لو وقعت جرائمه في ظروف الاقتتال. غير أن جريمة سد الكهف لخنق 1500 إنسان بين شيخ وامرأة وطفل - وأمثالها هي من الجرائم التي تعجز الذرائع عن تغطية بشاعتها. وهنا تعود الصليبية - وليست المسيحية - لتحمل مسؤوليتها الكاملة. لقد كان باستطاعة الكنيسة على الأقل الإعلان عن استنكارها لما يتم ارتكابه من جرائم لا إنسانية، وأن تعتصم بجدران الكنائس وهي توجه دعوات المغفرة لمن خرجوا على تعليمات السيد المسيح وتنكروا لها - وقد كان مثل هذا الموقف هو أضعف الإيمان -.

الأهداف التربوية للتعليم الاستعماري

3 - الأهداف التربوية للتعليم الاستعماري (ليس الهدف من فتح المدارس الإفرنسية - في شمال أفريقيا هو أن تكون عقولا مثل عقل (فولتير) أو (مونتسكيو) أو (جان جاك روسو). إن الهدف - ببساطة - هو أن نبدل لغة بلغة، ودينا بدين، وعادات بعادات). وقد تكون هذه الجملة التي أعلنها أحد القسس - المبشرين - بصراحة كافية لتحديد مبادىء أهداف التربية الاستعماري وأسس التعليم في ظل الاستعمار. ويكمل الكاردينال - لافيجري - هدف التعليم بمقولته الشهيرة: (علينا أن نجعل من الأرض الجزائرية مهدا لدولة مسيحية تضاء أرجاؤها بنور مدنية منبع وحيها الإنجيل .. تلك هي رسالتنا الإلهية). وليس المجال هنا مجال مناقشة (الكاردينال المحترم) بصحة هذه الرسالة التي زعم أنها إلهية، إذ أن قراءة الإنجيل تنفي كل احتمال لوجوب التنصير بالقوة وعن طريق الإبادة، لا سيما عند استخدام هذه القوة ضد قوم يدينون بالله، ولديهم كتاب أنزل من لدن عزيز رحيم، كما أنزل على الذين من قبلهم. غير أن الاستعمار لم يجد خيرا من الدين حجابا يستر خلفه أعماله الإجرامية. تلك الأعمال التي لا

تترك مجالا للشك في براءة الدين المسيحي والأديان الأخرى من الاستعمار البغيض. لقد سبقت الإشارة إلى ما كانت تتمتع به الجزائر، وبقية أقطار العالم الإسلامي في المغرب، من ارتفاع رائع في المستوى التعليمي - الثقافي، قبل أن تمتد إليها يد الاستعمار الآثمة التي أخمدت نور هذه الثقافة، وعملت على نشر الجهل والأمية في الجزائر حتى تتسلل إلى أغراضها العدوانية. ومع أن الاستعمار الإفرنسي هو الذي جلب الجهل والفاقه إلى الجزائر فقد ادعى مناقضا لأعماله، بأنه جاء رسول حضارة ومدنية. ووصف الجزائريين المتمدنين بأنهم شعب (همجي جاهل). وقد يكون من الأفضل هنا الإشارة إلى ما أثاره أحد أعضاء مجلس الشيوخ - أوجين كومب - حين أثار مجلس الشيوخ بقوله: مما لا شك فيه هو أن التعليم في الجزائر كان قبل الاحتلال الإفرنسي - سنة 1830 - أكثر انتشارا وأحسن حالا مما وصل إليه الآن - بعد قرن وربع من الاستعمار - الأمر الذي لم يكن يرضي السلطات الإفرنسية في الجزائر. فقد كان هناك أكثر من ألفي مدرسة للتعليم الابتدائي والثانوي والعالي، وكان يتولى التدريس فيها نخبة من الأساتذة الأكفاء. كما أن الطلاب كانوا من الشباب الناهض المتعطش إلى العلم، هذا فضلا عن مئات المساجد التي كانت تعنى بتلقين اللغة العربية لطالبيها (¬1). لم يشأ الاستعمار الإفرنسي. سيرا مع خطته لتدمير العروبة ¬

_ (¬1) الثورة الجزائرية (أحمد الخطيب) ص 128 - 136.

في الجزائر، أن يترك اللغة العربية حرة طليقة تؤدي واجبها الديني، وتبلغ حضارتها الإنسانية. فشن عليها حربا وحشية، بهدف إعاقة انتشارها وازدهارها. وراح يغلق المدارس العربية بالقوة، بدون أي سبب، ويعتقل أساتذتها وشيوخها، وذنبهم الوحيد أنهم يعلمون اللغة العربية، وفي هذا قال أحد الإفرنسيين - بولار: (لقد أحدث وجود الإفرنسيين اضطرابا بالغا يين هؤلاء المفكرين الأدباء. واضطر معظم العلماء والفقهاء إلى ترك وظائفهم التي كانوا يشغلونها. كما تشتت شمل التلاميذ الذين اضطروا إلى السعي وراء العلم في السر بعد أن كانوا يتلقونه علانية وفي حرية تامة). ولقد زاد في تمكين فرنسا من اضطهادها للغة العربية، سيطرتها المطلقة على عقارات الدولة الجزائرية والأوقاف الإسلامية. وهذا ما حدا بفرنسا إلى تعيين أناس من أعوانها للإشراف على قضايا التعليم في المساجد والمدارس. ووضعت لهم خطة تهدف إلى إهمال اللغة العربية - لغة القرآن الكريم - وقد كتب - بولار - بهذا الصدد: (أسندت إدارة التصرف في المساجد والمكاتب إلى أفراد بارعين في الكيد والدس. استخدموا القسط الأوفر من الأموال في مصلحتهم الشخصية. ومن هنا أهملت أغلبية المدارس وتركت وشأنها). ويعلق الضابط الاستعماري - رين - على أسلوب فرنسا تجاه التعليم في الجزائر، فيقول: (كان للغزو الإفرنسي أثر سيء إذ بسط يده على عقارات الدولة، دون أن يخصص ولو محلا واحدا للتعليم). أدرك الاستعمار الإفرنسي أن انتشار اللغة العربية يشكل خطرا

على الوجود الإفرنسي في الجزائر الإسلامية، ويقضي على مخططاته الهادفة إلى (فرنسة الجزائريين) والقضاء على أصالتهم. ولذا عملت على محاربة اللغة العربية بشتى الوسائل ومختلف الأساليب للحد من تعلمها وانتشارها. وكان في جملة إجراءاتها إصدار القانون المعروف (بقانون 24 كانون الأول - ديسمبر - 1904) والذي ينص على: (عدم السماح لأي معلم مسلم أن يتولى إدارة مكتب لتعليم اللغة العربية بدون رخصة يمنحه إياها عامل الولاية. العمالة - أو قائد الفيلق العسكري. ويعد فتح مكتب بدون رخصة اعتداء على حدود القوانين الخاصة بالأهالي - المسلمين -). وضعت السلطات الإفرنسية في الجزائر - بعد ذلك - العراقل أمام منح (رخصة التعليم) فكان على المعلم - الشيخ - التعرض لمواقف صعبة والرضوخ لشروط مهينة، يلتزم بتنفيذها نصا وروحا في مدرسته، حتى يحصل على (رخصة التعليم القانونية) وكانت تلك الشروط تنص على ما يلي: 1 - إقتصار التعليم على تحفيظ القرآن لا أكثر. 2 - عدم التعرض بأي وجه كان إلى تفسير الآيات القرآنية، وخاصة تلك التي تحض على الجهاد في سبيل الله، وتدعو إلى محاربة الظلم والاستبداد. 3 - استبعاد تدريس تاريخ الجزائر، وتاريخ العرب المسلمين، وجغرافية الجزائر والبلاد العربية.

4 - استبعاد الأدب العربي، بجميع علومه، والامتناع عن تعليم المواد العلمية والرياضية. وفرضت السلطات الإفرنسية على حامل (رخصة التعليم القانونية) أن يبث روح السخط والاشمئزاز بين الناشئة من الثقافة العربية والإسلامية، وأن يخلص للسلطة الاستعمارية، وأن يتبع تعليماتها وينفذ توجيهاتها المتعلقة بالثقافة العربية، وإلا تعرض لما جاء في القانون ذاته: (يجوز لنفس السلطة أن تسحب رخصة التعليم لأجل معين، أو نهائيا من المعلمين الذين يرتكبون أي عمل من شأنه أن يمس بحسن السلوك أو الأخلاق. كما يجوز لها أن تأمر بإغلاق أبواب هذه المكاتب بصورة تأديبية). وهكذا اعتبرت السلطة الإفرنسية أن كل عمل خارج عن شروطها المذلة مسا بحسن السلوك والأخلاق، يستوجب سحب رخصة التعليم أو حتى إغلاق أبواب المكاتب - بصورة تأديبية -. ويستطرد القانون قائلا: (وأخيرا فإنه لا يجوز لمكاتب التعليم العربية أن تفتح أبوابها للأولاد الذين هم في سن التعليم أثناء ساعات التعليم في المكتب الإفرنسي. وذلك في القرى التي تبعد ثلاثة كيلومترات عن المدرسة الإفرنسية). وإذن، فقد عرف الاستعمار الإفرنسي بأن تعليم القرآن الكريم في مكاتب الشيوخ، ينافس الثقافة الإفرنسية المفروضة فضمن قانونه - الفقرة الأخيرة - في محاولة للحد من نشاط التعليم في المسجد والمكتب وحتى يرغم التلاميذ على التوجه إلى مدارسه التي أظهر الأولاد وأهاليهم عزوفا عن تعليمها الإفرنسي وقد رأوا فيه خطرا يهدد دينهم ويضر بأصالتهم. خطت فرنسا بعد ذلك خطوة أكثر خطورة، وقد اعتقدت أن

الأمور باتت ملك يمينها، فأصدر وزير الداخية - شوتان - قرارا رسميا في 8 آذار - مارس - 1938، يمنع تعلم اللغة العربية في الجزائر، وجاء في هذا القرار: (أن اللغة العربية تعتبر لغة أجنبية). لقد كان صدور هذا القانون أمرا شديد الغرابة، فهو يعبر بوضوح عن أهداف فرنسا الاستعمارية ضد العرب المسلمين، وصحيح أن هذا الأمر لم يعد مجهولا أو بحاجة للبرهان والتأكيد، غير أن الأمر الغريب هو اعتبار اللغة العربية أجنبية في الجزائر، مع أن سكان هذه البلاد البالغ تعدادهم في تلك الفترة زهاء عشرة ملايين - على أقل تقدير - كلهم من العرب، ولغتهم الوحيدة هي اللغة العربية. ولعل فرنسا كانت تعتقد بأن قرار المنع هذا سيحد من نشاط الهيئات الدينية والتنظيمات الإسلامية، غير أن رد الفعل المباشر كان أقوى من قرار المنع، فما كاد يصدر القرار حتى هبت الأحزاب والهيئات الوطنية والتنظيمات الدينية مطالبة بإلغائه. وتوالت الاحتجاجات الشعبية على الحكومة الإفرنسية من داخل البلاد وخارجها. وظلت فرنسا مصرة على تنفيذ قرار المنع، حتى إذا ما اندلعت نار الحرب العالمية الثانية، اضطرت فرنسا مرغمة إلى مسايرة الشعب الجزائري - ريثما تنتهي الحرب - وتساهلت بعض الشيء في هذا القرار. وعندما وضعت الحرب أوزارها، استأنفت فرنسا وصل ما انقطع من سياستها، فأصدرت في 22 تموز - يوليو - 1945، قرارا: (يفرض على معلمي المكاتب العربية معرفة اللغة الإفرنسية). من المعروف أن معظم معلمي المدارس الإسلامية هم من

خريجي جامع الزيتونة في تونس وجامعة القيروان في فاس، بالإضافة إلى من يتخرجون من الأزهر، وهذه الجامعات لا تدرس لغة غير لغة القرآن العربية. والأمر الواضح هو أن فرنسا قد أرادت من قرارها هذا إقامة عائق جديد أمام علماء المسلمين وشيوخهم للحد من نشاطاتهم التعليمية. وتجدر الإشارة أيضا، إلى أن عدد ما أنشأته السلطات الإفرنسية من نوع المدارس التي تعلم العربية والإفرنسية (¬1) لم يتجاوز الثلاثة مدارس في الجزائر وتلمسان وقسنطينة، وأن طلبة هذه المدارس يخضعون لشروط استعمارية قاسية، ولا يكادون يكفون لسد حاجة السلك القضائي والترجمة. وعلى الرغم من ذلك، فقد اعتبرت السلطات الاستعمارية في الجزائر، بأن اللغة الإفرنسية هي اللغة الرسمية في البلاد. وأخذت في فرضها بالقوة على الشعب الجزائري الذي رأى فيها لغة الظلم والقهر والاضطهاد، ولسان الجور والطغيان. وعلى كل حال، فإن الاستعمار الإفرنسي الذي حاول فرض لغته، لم يكن راغبا من وراء ذلك إلى تعليم الشعب الجزائري، ورفع مستواه الثقافي. بل كان هدفه الوحيد هو صهر الجزائريين في البوتقة الإفرنسية، وتبديل أحوالهم الشخصية. وهذا ما ظهر واضحا في المقولة التي طرحها المسؤول عن التعلم في الجزائر منذ سنة 1908 حين قال: (ليس من الكرم والجود في شيء أن ترغب الجامعة في نشر العلم في القبائل - بل دعونا نقولها كلمة صريحة ونطلقها داوية: إن ذلك في صالح فرنسا ¬

_ (¬1) أطلق على هذه المدارس اسم (ECOLES FRANCO - MUSULMANE).

وحدها، وهو ما نضعه دائما نصب أعيننا، وقد أضفى على تعليمنا طابعا خاصا، كما ساعد مدرسينا على اتباع طرقهم ووسائلهم الخاصة. كما أضفى في الوقت نفسه على برامجنا طابعها الراهن. وإنه لمن الأهمية بمكان أن نبث في أذهان الأهالي فكرة رفيعة ونقية عن وطننا، وذلك بتلقين تلاميذنا دروسا عن عظمة فرنسا، وجيشها وثروتها تتناسب وأعمارهم كما تتفق ودرجة ثقافتهم). ويستطرد الكاتب قائلا: (إن المدرسة الألهية في شكلها الراهن، وبعملها المزدوج، ليست أداة تجديد فحسب، بل هي على وجه الخصوص أداة سلطة وسلطان .. وسيلة نفوذ وسطوة، وستخلق من رعايانا عضوا مفيدا جدا، وساعدا مخلصا لفرنسا) وكان هذا المسؤول - المسيو برنار - يرد بذلك على المنادين بسياسة التجهيل في الجزائر القائين بهذا الرأي: (لما كان تعليم الوطنيين يؤدي بالجزائر إلى خطر محقق سواء من الناحية الاقتصادية، أم من ناحية التعمير الإفرنسي، فإن الرغبة تميل إلى إلغاء التعليم الإبتداني). وهكذا انقسم المستعمرون إلى قسمين: قسم يرغب في عدم تثقيف الجزائريين حتى لا ينافسوهم في الوظائف والأعمال الحرة، وحتى يظل الأوروبيون هم المسيطرون سيطرة تامة على مرافق البلاد الحيوية. ومن هؤلاء - بيير مورلان - الذي قال في الأطروحة التي حصل بها على درجة الدكتوراه ما يلي: (يجب ألا ننظر إلى المواطن الجزائري وكأنه ذو عقل شبيه بعقلنا، وإذا فكرنا في أن التعليم يستطيع أن يغيره تغييرا كاملا، فإننا نخالف بذلك بل نتجاهل قانون التطور الثابت).

ولعل (بيير مورلان) وأمثاله ممن يحملون مثل هذا الرأي، من دهاقنة الاستعمار ومفكريه هم جميعا من الذين يتعارضون مع (قانون التطور الثابت، على الرغم من الشهادات العلمية التي منحت لهم لتغطية فقرهم العقلي. ذلك بدلالة أن هذه التغطية لم تتمكن من إخفاء حرمانهم من العاطفة الإنسانية والفكر المتحرر. ولذا قد يكون من الصعب اعتبار أي استعماري (وكأنه ذو عقل شبيه بعقل الإنسان الجزائري المسلم). أما القسم الثاني فإنه لا يرى مانعا من تعليم الجزائريين، شريطة ألا يكون هذا التعليم خاضعا لنظام خاص يؤدي في النهاية إلى تغيير الأحوال الشخصية. غير أن السلطات الإفرنسية طبقت الحلول المناسبة التي تضمن عدم تشجيع التعليم بين الجزائريين تشجيعا كاملا. بينما تمسكت بأهداف القسم الثاني وعملت على ضوئه. وأصبحت الثقافة الإفرنسية نتيجة لسياسة الحكومة تكاد تكون معدومة بين الأهالي الجزائريين، في حين أنها تزداد ازدهارا وانتشارا بين الأوروبيين المستوطنين. ومن المعروف أن هنالك مليونين من الأولاد في سن الدراسة قد أوصدت في وجوههم أبواب العلم والمعرفة وشردتهم فرنسا في الشوارع. ولم يتجاوز عدد الطلاب الذين ضمتهم المدارس - في الفترة التي سبقت قيام الثورة سنة 1954 - مائتي ألف تلميذ فقط. وقد يكون ذلك وحده كافيا للتأكيد على نجاح فرنسا في تحقيق أهداف (تربيتها الحضارية).

الفرنسة والتنصير ونتائجهما

4 - الفرنسة والتنصير ونتائجهما ما إن أحكمت فرنسا قبضتها على الجزائر، وفرضت وجودها الاستعماري بالحديد والنار، حشتى أخذت في دعم هذا الوجود -بحسب ظنها - عن طريق تطبيق مجموعة من الأنظمة والقوانين لفرنسة الجزائر وتنصير سكانها، وكانت المقولة التي تعبر عن هذا التفكير السقيم هي: (أن جبال الأطلس هي جبال الألب، وأن (نهر الشلق) (¬1) هو نهر السين. وأن الصحراء هي المروج، وأن اللغة العربية هي الإفرنسية، وأن الغسلام هو المسيحية، وأفريقيا هي أوروبا). من المعروف أن بريطانيا قد استعمرت بلادا عديدة، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية والهند، كما عملت إسبانيا على استعمار دول أمريكا اللاتينية - أمريكا الجنوبية - وعلى الرغم من الروابط الروحية واللغوية وروابط الدم التي كانت تربط بريطانيا ¬

_ (¬1) نهر الشلق: أكبر أنهار الجزائر، يبلغ طوله سبعمائة كيلومتر، ينبع من جبال عمور في الأطلس الصحراوي، ويصب شمالا في البحر المتوسط.

وأمريكا بعراها الوثيقة، فإن بريطانيا لم تزعم أبدا بأن الولايات المتحدة هي بريطانيا، كما لم تزعم اسبانيا بأن الأرجنتين أو المكسيك أو الشيلي هي أقطار إسبانية. غير أن الحماقة الإفرنسية صورت لرجال إدارتها ودهاقنة ساستها بأن احتلالها للجزائر، وما أعدته من مخططات في حملتها الصليبية ضد الإسلام والمسلمين، سيتيح لها فرصة إزالة الوجود العربي - الإسلامي من جزائر المسلمين وضمها إلى (الوطن الأم) فرنسا. وهكذا أصدرت منذ 22 تموز - يوليو - سنة 1834، أمرا بتحويل الجزائر من أرض محتلة إلى (ملكية فرنسية) ناقضة بذلك كل القوانين والأعراف الدولية، ومتجاهلة لكل الحقائق التاريخية، ومتنكرة لكل حقوق الأفراد والجماعات. مضت فرنسا قدما في تنفيذ سياستها، فأصدرت مرسوما في 4 آذار - مارس - 1848 يقضي بتشكيل (مجلس الأعيان) (¬1) باعتبار أن (الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا). وبعد ذلك وفي سنة 1870، أعلنت فرنسا بأن الجزائر تتألف من ثلاث مقاطعات إفرنسية. (ولايات أو عمالات قسنطينة والجزائر ووهران) واتبعت ذلك غداة الحرب العالمية الثانية بإصدار أمر في 7 آذار - مارس - 1944، يعلن: (أن المسلمين الجزائريين أصبحوا فرنسيين. وأعلن قانون 7 أيار - مايو - 1946 أيضا: (بأن جميع الجزائريين هم مواطنون فرنسيون). ¬

_ (¬1) ديوان الأعيان: (Senatus Consulte).

وعندما وضع الدستور الإفرنسي في 27 تشرين الأول - أكتوبر - 1946، أعلن: (أن الجمعية الوطنية لها وحدها حق إصدار القوانين، ولا يمكن لها منح هذا الحق لغيرها ... وأن النظام التشريعي لمقاطعات ما وراء البحار - هو ذاته نظام الوطن الإفرنسي، إلا ما استثناه القانون، وفي 20 أيلول - سبتمبر - 1947 صدر قانون باسم (النظام الأساسي للجزائر) وهو بمثابة دستور خاص بها يحتوي على ستين مادة، وقد جاء في أهم مواد اللائحة الأولى: أولا: تتكون الجزائر من مجموعة من المقاطعات لها ذاتيتها المدنية وذاتيتها المالية ونظامها الخاص المنصوص عليها في مواد هذا القانون. ثانيا: تكفل القوانين المساواة التامة بين جميع المواطنين الإفرنسيين في المقاطعات الجزائرية الثلاثة، دون تمييز في الأصل والجنس واللغة والدين. خامسا: يمثل الحاكم العام حكومة الجمهورية الإفرنسية في الجزائر. سادسا: يتم إنشاء مجلس جزائري يخول إدارة المصالح الجزائرية بالاتفاق مع الحاكم العام، وقد حددت صلاحيات هذا المجلس، ببحث النظام التشريعي والاقتصادي في الجزائر وتنظيم أعمال الإدارة. إن إصدار هذا المرسوم هو في حد ذاته برهان حاسم على

التناقض القائم بين مقولة (الجزائر الإفرنسية - نظريا) و (الجزائر المستقلة - إداريا وماليا واقتصاديا من الناحية العملية). ويدحض بما لا يدع مجالا للشك ما كانت تطرحه فرنسا طوال قرن وربع القرن، من أن (الجزائر جزء مكمل لفرنسا ومتمم لها). ويعود سبب هذا التناقض الفاضح لعاملين أساسيين أولهما: رفض مسلمي الجزائر رفضا قاطعا لكل سياسة تدمجهم بفرنسا وتقضي على شخصيتهم الأصيلة. وثانيهما: رفض المستوطنين - الكولون - لكل سياسة تساوي بينهم وبين مسلمي الجزائر في الحقوق والواجبات. لقد زعمت فرنسا بأن الجزائر هي مقاطعة، مثلها كمثل مقاطعتي (بريتانيا) و (نورماندي) بالنسبة لفرنسا، غير أن الواقع يدحض مثل هذا الزعم. فبريتانيا ونورماندي وسواهما من المقاطعات الإفرنسية تحكم وتدار بموجب دستور فرنسا وقوانينها. في حين وضع للجزائر دستورها الخاص بها، والذي ينص على إدارة الحكم في الجزائر من قبل (حاكم عام) و (جمعية جزائرية). في حين يوجد على رأس كل مقاطعة فرنسية (محافظا) - بريفيه - ويعود هذا المحافظ في شؤونه إلى وزارة الداخلية الإفرنسية، أما الحكام في ولايات الجزائر الثلاثة (العمالات) فإنهم يعودون في شؤونهم إلى الحاكم العام، الذي يتبع بدوره لوزارة الداخلية الإفرنسية - قسم الشؤون الخارجية -. وينص الدستور الجزائري الخاص على إيجاد مجمعين انتخابيين في الجزائر: المجمع الأول: وهو المفضل والحاكم بأمره في الجزائر

ويشمل الأوروبيين واليهود. المجمع الثاني: وهو الخدم - في نظر المستعمرين - ويشمل شعب الجزائر المسلم. ولا وجود لمثل هذا النظام في المقاطعات الإفرنسية (بريتانيا ونورماندي وسواهما) إذ أن الدستور الإفرنسي قد نص على مساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. وحتى المادة الثانية من دستور الجزائر الخاص تمنح مثل هذه المساواة. غير أن المادة (31) منه تناقضها تماما، حيث تنص صراحة على التميز بين الأوروبيين الاستعماريين - الكولون - وجماهير الشعب المسلمين - أنديجين -. وعلى الرغم من نص المادة الخمسين من (الدستور الجزائري الخاص) القاضي بإزالة نظام الحدود الجنوبية المعروفة (بالتراب العسكري) فإن نظام هذا التراب استمر قائما على الحكم العسكري الفردي - دكتاتوري - للضابط فيه حق فرض الطاعة بالقوة. وذلك طوال الفترة من بداية الاحتلال حتى قيام ثورة التحرير سنة 1954. نصت المادة 53 من (دستور الجزائر الخاص) على أن (المجموعات المحلية هي البلديات والمقاطعات، وبناء عليه فإن البلديات المشتركة قد ألغيت ... وسيتم تطبيق هذا النص على مراحل بموجب قرارات تتخذها الجمعية الجزائرية) ومعروف أنه لا توجد في فرنسا أنظمة عسكرية أو (بلديات مشتركة) (¬1) فلماذا ¬

_ (¬1) بلديات مشتركة - ترجمة: (Commune Mixte).

فرضت هذه الأنظمة على الجزائر وحدها إن كانت مساوية للأقاليم الإفرنسية؟ ... ثم كيف تتحقق مثل هذه المساواة بين المستوطنين الأوروبيين (الكولون) (¬1) وبين أبناء البلاد من مسلمي الجزائر في نظام المجالس والمجموعات الجزائرية، وقد انتقص ممثلي المسلمين إلى الخمسين من مجموع العدد الصحيح لهم، في حين كان عددهم الحقيقي يزيد عشر مرات على عدد اللاجئين الأوروبيين (الكولون). ولقد أقيمت على الحدود في كل من الجزائر وفرنسا هيئات جمركية، وتولى مصرف جزائري إصدار عملة جزائرية غير متداولة في فرنسا - بالرغم من ارتباطها بالفرنك الإفرنسي - ووضع في الجزائر نظام خاص بالمرتبات والأمن الجماعي يخالف تماما النظام السائد في فرسا. فإذا كانت الجزائر هي بريتانيا والنورماندي فلماذا يتم وضع نظام جمركي خاص بالجزائر، وهل بين بريتانيا وباريس جمارك؟ وهل النقود المتداولة في النورماندي مغايرة للنقود المتداولة في مقاطعة البيرينة؟! وطالما أن الأمر كذلك، فلماذا تصر السياسة الإفرنسية، وهي تمعن في ضلالها وتضليلها، على أن الجزائر فرنسية؟. لقد وضعت فرنسا نفسها أمام مأزق حقيقي بمزاعمها أن (الجزائر فرنسية) إذ بات أمامها واحد من مخرجين لا ثالث لهما: فإما أن تبقي على نظام الإدارة الاستعمارية الذي استمر قائما حتى ¬

_ (¬1) الكولون (COLON) اصطلاح قصد به مجموع الأوروبيين الاستعماريين وتنظيماتهم وأجهزتهم.

قيام الثورة التحريرية، وتكون بذلك قد اعترفت ضمنا بوجود وضع مميز وشخصية مستقلة للجزائر. وإما أن تعمل على دمج الجزائر عمليا بفرنسا، فتقتلع النظام الاستعماري من جذوره وتساوي بين فرنسيي (المتروبرل) وبين الجزائريين المسلمين. بحيث يكون القانون المطبق في فرنسا هو ذاته المعمول به في الجزائر، وبهذا أيضا يتقلص ظل الاستعمار عن الجزائر، ويمسك الجزائريون البالغ عددهم عشرة ملايين نسمة بزمام الحكم في بلادهم. ولم يكن باستطاعة فرنسا الاستعمارية اللجوء إلى أحد من المخرجين لأنها ستخسر ما اعتبرت أنه من حقها - بحكم التقادم الاستعماري -. هذا بالإضافة إلى أن (فرنسة الجزائر فرنسة حقيقية وعملية) كان لا بد وأن تصطدم برغبات المستوطنين - الكولون - الذين كانوا يستأثرون بملكية الأراضي الخصبة والمغتصبة، والذين كانوا يعملون باستمرار حتى يبقى الجزائريون خدما لديهم وعمالا في مزارعهم، يتقاضون أجورا زهيدة لا تكاد تكفي لتأمين أبسط المتطلبات الحياتية. ويصرون على عدم مساواة الجزائري بالأوروبي حتى لا يطالب بحقه الإنساني المشروع. وقاوم الأوروبيون المستوطنون في الجزائر - الكولون - دمج الجزائر دمجا عمليا بفرنسا، لأن الجزائريين يشكلون الغالبية العظمى والأكثرية الساحقة في الجزائر، بينما لم يتجاوز عدد الأوروبيين المستوطنين في الجزائر حتى قيام ثورتها في الخمسينات مليون نسمة. فإذا ما طبق قانون المساواة تطبيقا صحيحا يصبح للجزائريين تسعة أعشار الحكم في بلادهم وخمس

الحكم في فرنسا. وكانت فرنسا تخاف من إطلاق يد الجزائريين في إدارة المصالح والمؤسسات الجزائرية حتى لا يؤدي ذلك إلى ظهور احتمال قيام الجزائريين بحركة مباغتة تعلن فيها انفصالها عن (الوطن الأم) وتستقل بأمورها، مستندة في ذلك إلى كل الحجج القانونية والوطنية والدينية. وبعد ذلك، ومع افتراض قبول فرنسا مكرهة على هذا الحل، فإن الجزائريين لم يكونوا على استعداد لقبوله. وقد تجمعت كل الشواهد لتؤكد حقيقة واحدة وهي رفض كل حل يؤدي إلى إجراء تبديل في أصالتهم القومية وعقيدتهم الدينية. وهكذا بقي النظام السائد في الجزائر - حتى قيام ثورتها - هو النظام المعروف (بنظام التوسع الاستعماري والامتيازات الاستعمارية). وهو النظام الذي لم يعرف فيه أبناء الجزائر المسلمون إلا السلب لممتلكاتهم والنهب لأموالهم والانتهاك لحرماتهم والنيل من مقدساتهم. وقد وصف النظام الاستعماري في الجزائر، حتى قيام ثورتها،: (بأنه نظام استعماري فوضوي قائم على التمييز العنصري والتفرقة الدينية وقوة القهر التي أغرقت المسلمين في حمامات الدم) كما حدد مفهوم حكم الإفرنسيين للجزائر بالمقولة، التي طرحها الإفرنسيون ذاتهم وتضمنت ما يلي: (نحن الإفرنسيين مقيمون في ديارنا بالجزائر، فقد أصبحنا سادة هذه البلاد بالقوة، لأن الغزو لا يتحقق إلا بالقوة التي تفرض وجود طرفين غالب ومغلوب. وقد أمكن تنظيم البلاد عندما تم قهر المغلوبين. وهذا التنظيم يفرض مرة أخرى فكرة تفوق الغالب على المغلوب، وتفوق الإنسان المتحضر من الإنسان

المتخلف، فنحن إذن أصحاب البلاد الشرعيين) (¬1) وطالما أن منطق الحكم هو منطق القوة فقد ظهر بوضوح أنه ليس هناك خيار حتمي غير خيار واحد هو الاحتكام إلى السلاح، وقد بات هذا الخيار ينضح على نار هادئة حتى تفجر في النهاية ليفرق البلاد ومستعمريها في حمامات الدم ومستنقع الوحل. وعند هذه النقطة يمكن العودة إلى تلك النار الهادئة التي ألهبت الحريق، والتي أوقد فتيلها الإفرنسيون ذاتهم من خلال سياسة التنصير. ومن المعروف، أن في جملة الدوافع الظاهرة التي حدت بفرنسا (ابنة الكنيسة الكاثوليكية المفضلة) إلى احتلال الجزائر، رغبتها الملحة في القضاء على الدين الإسلامي الذي ادخرت له كل حقد دفين منذ هزائمها المنكرة أيام الحروب الصليبية القديمة في المشرق (حملة لويس التاسع - أو القديس لويس على مصر). وعلى الرغم من أن معاهدة تسليم العاصمة التي أبرمها القائد الإفرنسي - دوبومون - مع (الداي حسين) تقضي بحرية الشريعة الإسلامية واحترامها، وضمان حرية الأهالي وأملاكهم وتجارتهم، إلا أن (دوبومون) نفسه لم يلبث أن نكث العهد بعد مضي شهرين فقط على إبرام الاتفاقية، وإصدر أمرا يوم 8 أيلول - سبتمبر - 1830 يقضي بالاستيلاء على الأوقاف الإسلامية. والاستيلاء على الأوقاف إنما يعني الاستيلاء على الدين، لأن المساجد والشؤون الديية الأخرى وما يترتب لها من خدمات تمول كلها من الأوقاف. ¬

_ (¬1) مجلة (أفريقيا اللاتينية) أيار - مايو - سنة 1922.

والحكمة في الأوقاف هي عدم رضوخ الدين لأية سلطة مدنية أو عسكرية، وتعني الأوقاف أيضا استقلالية الدين وحرية عمله بعيدا عن كل نفوذ دنيوي. وقد أحدث صدور هذا الأمر رد فعل عنيف لدى المسلمين، استوعبه قائد الغزو بالقوة وإصدر أمرا ثانيا في 7 كانون الأول - ديسمبر 1830، كفل لنفسه: (حق التصرف في الأملاك الدينية بالتأجير أو الكراء). وبهذا تم وضع يد الاستعمار الإفرنسي على الدين الإسلامي في الجزائر. وأصبحت فرنسا المسيحية تتصرف على هواها في شؤون مساجد المسلمين وقضائهم وتعليمهم، فلا تعين مفتيا أو إماما أو مؤذنا أو حتى خادما إلا إذا أظهر استعداده للتجسس على إخوانه المسلمين. وإلا إذا كان أطوع من بنان الاستعمار في تلبية مشيئته، حتى ولو ادت هذه المشيئة غلى الكفر بالدين الإسلامي. ولقد وصف مدير إفرنسي لمكتب الشؤون الإسلامية في الجزائر ما فعله الاستعمار الإفرنسي بالدين الإسلامي، فقال: (لقد أذللنا الدين الإسلامي. وبلغ الأمر أن لا يعين إمام أو فقيه إلا إذا شارك في أعمال الجاسوسية الإفرنسية. ثم عليه كي يرتقي في الدرجة أن يثبت قدرا كبيرا من الحماسة والإخلاص للإدارة الإفرنسية). وعلى الرغم من أن قانون سنة 1905 قد نص على (فصل الدين عن الدولة)، وطلب العمل به في الجزائر بموجب مرسوم 27 أيلول - سبتمر - 1907، فإن هذا القانون طبق على جميع الأديان، ما عدا الدين الإسلامي الذي ظل (مؤمما) طوال ليل الاستعمار.

لقد زعموا أنهم بذلك يستطيعون إذلال الإسلام من خلال إذلال المسلمين، وجهلوا بأن الإسلام لا يذل لأنه شريعة الله، وجهلوا أيضا أن إذلالهم للمسلمين هو محنة أو بلاء في عقيدة المسلم لا بد له من تجاوزه، وقد تجاوزه فعلا وانتصر على أعداء الإسلام والمسلمين.

الانهيار الكبير

5 - الانهيار الكبير استمرت فرنسا في محاولاتها الرامية إلى (تنصير المغرب العربي - الإسلامي - عامة) والجزائر منه بصورة خاصة. ولم تلبث حين احتلت الصحراء، أن وجهت إليها إرساليات. عديدة من (الآباء البيض) معتقدة أن هذه المناطق ستكون تربة خصبة لبذورهم. وبثت (الإرساليات البشيرية) الأخرى في كل مدينة وقرية. غير أن هذه الجهود المكثفة اصطدمت بالعوائق المستمرة والعقبات المتتالية. وبرز احتمال فشل كل الجهود المبذولة مما أفزع المسؤولين عن (سياسة التنصير) والداعين لها. فبادرت السلطات الإفرنسية إلى إغلاق ما تبقى من المدارس - المكاتب - الدينية، وألقت بشيوخها في غياهب السجون والمعتقلات بحجة أنهم لا يحملون إجازات - تراخيص - رسمية من الدولة، تتيح لهم حق ممارسة التعليم. وراحت تحشو خطب أئمة المساجد - التابعين لها - بعبارات تنتقص من قيمة الدين الإسلامي وتنفر المسلمين منه

وأدرك المسلمون في الجزائر خطورة هذه الهجمة، فقاطعوا المساجد - الإفرنسية - التي ارتضى خطباؤها لأنفسهم ذل الخضوع لسلطان القوة. وراح كل فقيه وشيخ يجمع الطلبة في بيته، ويلقنهم مبادىء دينهم. وذعرت السلطة الاستعمارية لهذا الصمود، فراحت تزيد من اضطهادها للفقهاء والعلماء، ومضى هؤلاء لإظهار المزيد من الصمود، وعادت مساجد الأرياف خاصة لممارسة دورها وقد تحولت إلى ملاذ يلجأ إليه العلماء والطلبة المضطهدون، فرارا من قبضة السلطة القوية في المدن. احتفظت هذه الجوامع بنظامها الذي يشبه إلى حد بعيد أنظمة المدارس الداخلية. فالطالب يتعلم وينام فيها، على نفقة الأبرار الأخيار، أو أهل القرية التي يقع فيها هذا المسجد - الجامع -. أما طلبة المكاتب القرآنية الغرباء، الموجودون في المدن، فإنهم يعتمدون في أمر معيشتهم على الصدقة والاستجداء، بعد أن منعت الإدارة الإفرنسية عنهم موارد الأوقاف، وبعد أن مضت لمحاربتهم بكل الوسائل. ولم يجد الطلبة في اللجوء إلى الاستجداء غضاضة طالما أن هدفهم النبيل، وهو تعلم العلم وتعليمه قد فرض عليهم أقسى أنواع الحرمان. وبات من الأمور العادية أن يطرق أسماع أبناء المدن الجزائرية - عند الظهيرة وفي المساء - صوت يأتيهم من الخارج وهو ينادي، (الموجود لله) فيعرفون أنه صوت الطالب القرآني الذي يعاني الفقر والعوز، ويقاوم البرد والجوع، في سبيل المحافظة على وجوده الإسلامي. وقد لا يكون بعض أبناء المدن - أو معظمهم في تلك الحقبة،

أحسن حالا من طالب القرآن، غير أنهم لا يترددون في الإسراع إليه ومشاركته جهده وجهاده. وتجدر الإشارة هنا إلى ما عرف عن الجزائريين عموما من رغبة كبرى في تعلم القرآن وحفظه حفظا غيابيا - عن ظهر قلب - حتى أن نسبة حفظة القرآن في الجزائر ترتفع بين الذكور إلى نسبة 40 بالمائة. ويرجع الفضل في الإبقاء على جذوة الإسلام متقدة في الجزائر بالرغم من كل أساليب القمع والقهر إلى حملة الكتاب والمدافعين عن الإسلام من الفقهاء والعلماء الذين تصدوا بإيمان لا يتزعزع لصراع الاستعمار ومبشريه. فحافظوا بذلك على أصالتهم الإسلامية وحضارتهم العربية ودينهم الحنيف، في وقت حجز فيه الاستعمار جميع المصاحف، وأخلى البلاد والمكاتب منها، وأغلق المدارس والجوامع. وقذف بمبشريه إلى معركة التنصير. وأسفرت هذه المعركة عن هزيمة الاستعمار ومبشريه ودعاته، وخرج حفاظ كتاب الله وهم أعزة بنصرهم، لقد نصروا الله فنصرهم وصدق الله وعده ونصر جنده. غير أن فشل الاستعمار في تطبيق سياسة التنصير لم يدفعه إلى اليأس، فمضى دهاقنته ومفكروه لاستخدام وسائل تبادلية: فإذا ما فشلت أساليب الهجوم المباشر، فلماذا لا يتم استخدام أساليب الهجوم غير المباشر؟ وإذا لم ينجح دعاة التبشير في إقناع المسلمين بتبديل دينهم، فلا أقل من صرفهم عن إسلامهم، والعمل على تشويه الإسلام ذاته بالخرافات والبدع. وهكذا جندت فرنسا أجهزتها لبث التعاليم الدينية - المبتكرة - بواسطة أعوان لها ضعاف الأنفس والإيمان من الأئمة ورجال

الإفتاء والقضاة، وأصحاب الطرق الدينية خاصة ممن استحوذت عليهم شهوة الدنيا، واشترى الاستعمار عقولهم بالمال والألقاب، هادفا من وراء ذلك إلى النيل من سمعة الشريعة الإسلامية، وكان أول عمل قام به الاستعمار هو إرغام القضاة على عقد جلسات المحاكم الإسلامية في الأسواق العامة وعلى رصيف الشارع وفي المقاهي القذرة. وأخذت تختلق الخرافات والأساطير وتنسبها إلى العلماء والأولياء الصالحين. وشجعت على إقامة الولائم العامة وحفلات الزار (الوعادي) الذي أصبحت فيما بعد مراكز خطيرة لنشر دعاية الإستعمار الإلحادية، المتسترة بستار العلمانية - وبلغت إهانة فرنسا للدين الإسلامي حدها حين أنشأت الإدارة الاستعمارية (لجانا استشارية للشعائر الدينية في كل مقاطعة، يرأسها دائما أوروبي، ويكون أحد أعضائها ممثلا للشرطة). ... وفي إطار الهجوم غير المباثر، تبنت الكنيسة - طوعا أو كرها - أساليب العمل لتشويه الإسلام، يدعمها في ذلك حكم عسكري صارم. ومن القصص الشهيرة في هذا المجال ما تم اكتشافه أثناء الثورة الجزائرية التحريرية - سنة 1954 - في بعض المناطق الشرقية، حيث ظهر أن بعض الأضرحة التي يؤمها الشعب ويتبرك بأعتابها لم تكن إلا قبورا لرهبان مسيحيين. ولم يصدق الشعب للوهلة الأولى ما يراه حتى وقت أنظاره على (الصليب في القبر). وبذلك قطع اليقين حبال الشثك (¬1). ¬

_ (¬1) عن صفحات من الجزائر - الدكتور صالح خرفي - ص 324.

وفي إطار الهجوم غير المباشر على فضائل المسلمين، اتبعت فرنسا كل الأساليب التي توافرت (في حضارتها) من إشاعة للمحرمات، وتعميم للفواحش، وتشجيع على المنكرات، ويدخل في ذلك تشجيع السرقة والإجرام من أجل قتل الروح المعنوية لدى الشباب المسلم، ونشر الفساد والفوضى في أوساط الجزائريين حتى تضمحل القيم الفاضلة، وينصرفوا عن قضاياهم الأساسية إلى الأمور التافهة المهينة. وكان القضاء الإفرنسي يمارس دوره في دعم هذا الهجوم استنادا إلى قوانين تفرضها مصلحة السياسة الاستعمارية، ولهذا فإنها لم تكن لتمتنع عن إصدار حكم جائر ضد مواطن جزائري يجاهر بأرائه الوطنية، وحكمه بالسجن من خمس سنوات إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، في حين تحكم هذه المحاكم على مجرم قاتل (شريطة أن يكون القاتل والمقتول جزائريين) بالسجن من ستة أشهر إلى خمس سنوات. هذا إذا لم يكن رجال الشرطة قد أطلقوا سراحه قبل تقديمه للمحاكمة حتى يمعن في إرتكاب المزيد من الجرائم. وما يقال في الجرائم والسرقات يقال عن الفجور والرذيلة، وسجل مثل هذه الأعمال حافل يندى له (جبين الحضارة). ... وبعد، قد يكون من تجاوز الحقيقة القول: (بأن مخططات الاستعمار قد فشلت تماما، وأنها لم تحقق بعضا من أهدافها). فلقد استطاعت هذه المخططات إفساد فئة على الأقل، وجعلت منها أداة في قبضة الاستعمار. كما استطاعت الوصول بفئة ثانية

أ - تلك كانت حياة الجزائر سنة 1925

إلى مرحلة اليأس القاتل. وقد أبرز شيخ من شيوخ المجاهدين، بعض ملامح المجتمع الجزائري في سنة 1830 - وبعد مضي قرن من الزمن على استعمار الجزائر - كما عرض بعض ما وصل إليه حال المجاهدين وقد بذلوا كل ما يستطيعون - وأكثر مما يستطيعون - في مجابهتهم للقهر الاستعماري، حتى انتهى أمرهم إلى اليأس والقنوط. ويقول هذا الشيخ وهو يصف انطباعه عن الجزائر يوم وصلها (سنة 1925) (¬1) ما يلي: أ - (تلك كانت حياة الجزائر سنة 1925: الخير والرزق والكسب والحكم والسلطان للأوروبي مهما كان جنسه، ومهما كان عمله. والبؤس والشقاء والحرمان والمرض والجهل والجوع والمهانة والعدم للجزائري المسلم الذي سلب منه كل شيء، حتى القدر الأدنى من الكرامة - واغتصب منه كل شيء حتى الشبر الأخير من أرضه المنتجة. وحرم من كل شيء، حتى مقعد المدرسة للصبي، ولقمة الخبز للجائع، وزجاجة الدواء للمحتضر. وأكاد أقول: والقبر لمن أنجاه الله بالموت من محن الحياة .. وكنا نجلس - أحيانا - حول مائدة مقهى، ويلتف حولنا جمع من شبان الوسط المترف، أما شرابهم فكان كحول - الأنيزيت - وكانوا يتغالون في كمية ما يشربون من كحول إلى حد الإسراف، يصلون به إلى درجة الإسعاف. ولا حديث لهم إلا عن أنواع السيارات وما ظهر منها، وما فقد صيته وسمعته. فهذا يريد أن يستبدل الستروان بالفورد، وذلك يبيع البيجو ويشتري مكانها ¬

_ (¬1) حياة كفاح - مذكرات - أحمد توفيق المدني 2/ 30 و 31 و 48 - 57.

الفيات، حتى إذا لم تبق في كنانة الحديث أية حثالة من ذكر السيارات لووا العنان إلى حديث الغانيات، هذا يقص نبأ ليلة قضاها مع (هيلينا) وذلك يذكر قطيعته مع (جوليات) الخ ... ولم يكن رجال هذه الطبقة من المترفين بأسعد حالا من شبابها .. كانوا يجتمعون حلقة كبيرة يتجاوز عددها أحيانا العشرين رجلا في مقهى أوروبي يسمى (الفروبير) يقع بين حديقة السكوار وساحة الحكومة (حديقة بور سعيد وساحة الشهداء اليوم) ثم تنهال عليهم كؤوس الكحول الخالصة من شراب -الأنيزيت - يتلو عامرها ما فرغ منها، بين أحاديث بسيطة سامجة، عن سفرة فلان، ومائدة فلان، وزواج فلان، وخصومة فلان مع فلان، حتى إذا امتلأ الرأس كحولا، وارتخت الأعصاب، وتهاوت الأهداب، قام كل واحد منهم إلى سيارته الفاخرة، يمتطيها ولا يكاد يقوى على تسييرها. وأم بيته، حيث تنتظره السيدة الفاضلة التقية النقية بطعام العشاء. ويا لعظيم الفرق بين سيدات تلك الطبقة ورجالها. أما الرجال والشبان، فكما رأيت، وأكثر مما رأيت، وأما السيدات، ولم يختلطن بمستعمر، ولم يعرفن أجنبيا، ولم يترددن على مدرسة فرنسية، ولم يدخل العبث والرجس بيوتهن، فكن من أطهر وأجل ما يستطيع الإنسان ذكره عن سيدة كاملة، مسلمة عربية تقية طاهرة ورعة. حفظت من جزائر الأجداد دينها وإيمانها وعروبتها وعزتها وشرفها. وورثت عنها ابنتها تلك التقاليد وتلك الأخلاق. أما الرجال والشبان فقد جرفهم التيار الأوروبي الجامح، وتلقوا في المدارس شر ما يتلقاه شاب في مدرسة: لا دين ولا شرف ولا أخلاق ولا وطنية، قشور

ب - أحمد بن عليوة والرحمانية

من العلم ضمن منهاج استعماري خبيث: أجدادنا هم الغول - أو الغال - (سكان فرنسا الأقدمون). الرومان هذبونا ومدنونا، أكبر رجالنا نابليون بونابرت، قديسنا القومية جان دارك الخ ... أبمثل هذا الشاب - وحاشا ثلة قليلة منه - هو الذي يرجى منه للجزائر خير؟ أهذا هو الذي يمكن أن يعمل من أجل نفض غبار الموت عن أمته وقومه وينفخ فيهم روح الحياة اليقظة، والاستعداد ليوم عظيم؟ لقد كانت الجزائر في مجموعها ساخطة على فرنسا، ناقمة على أعمالها، ذاكرة فظائعها وآثامها، سواء في ذلك الخاصة المثرية أو الدهماء المملقة، ولا ترضى الجزائر - والله - إلا بأمر واحد هو استقلالها بأمور نفسها وتخلصها من ربقة الاستعمار القتال ... ولكن من هو الذي يتقدم لهذا العمل؟ ومن هو الذي يستطيع في الحالة الحاضرة أن يصرخ هذه الصرخة؟ ومن هو الذي يستحيب لها بعد كل ما حدث؟ ...). ... ب - أحمد بن عليوة والرحمانية كانت الطريقة (الرحمانية) على ما هو معروف من أكبر الحركات الدينية في الجزائر، وقد تصدى (الإخوان الرحمانيون) لمقاومة الاستعمار الإفرنسي بضراوة، وقدموا تضحيات جسيمة في الثورات المتتالية والتي كان من أبرزها ثورة سنة 1871 برئاسة المقراني والشيخ الحداد , غير أن فرنسا استطاعت تدمير هذه الحركة الدينية من الداخل، وصرفها عن أهدافها، وتنصيب من يضطلع بتشويه الدين عن طريق ضعاف النفوس من أمثال (الشيخ

أحمد بن عليوة) الذي تحدث عنه وعن طريقته الشيخ المجاهد (أحمد توفيق المدني) بما يلي: قال لي الأخ محمد رضا الأكحل - وكنا في أواخر شهر تموز - يوليو - سنة 1925 - : لنا اليوم سهرة حافلة بمقبرة سيدي محمد بن عبد الرحمن، فلنستعد لها مبكرين حتى نكون في الصفوف الأولى. لم أفهم إطلاقا. سيدي محمد مقبرة كبيرة وشهيرة بعاصمة الجزائر تعادل في أهميتها وفي قيمتها وفي علو كعب من دفن بها مقبرة الزلاج التونسية، وهي ذات أقسام ثلاثة: المسجد والضريح، وساحة الضريح الفسيحة، وقبورها مسواة مع الأرض، ثم القسم الخلفي وقبوره عاليه بارزة، فكيف تكون حفلة ساهرة فوق الأجداث؟ قال لي مؤكدا أنها حفلة سنوية يقوم بها رجال الطريقة الرحمانية الذين يأتون في ركب عظيم من مدينة قسنطينة لزيارة شيخهم صاحب الطريقة. تقززت أولا، هذه من أعظم البدع ... ويجب أن أرى ذلك رأي العين ... وجاء الليل وذهبنا جماعة إلى المقبرة، فإذا بالساحة الفسيحة الموجودة أمام الضريح وقد أصبحت أشبه شيء ببهو فخم لقصر ثري، وقد فرشت أرضها بالبسط الثمينة، والزرابي المبثوثة، والمنابذ الصوفية الفارهة. وجلسنا، واستمر توارد القوم من حي (بلكور) ومن العاصمة وما يحيط بها، حتى لم يبق من مكان تطأه رجل إنسان. وبعد صلاة العشاء، التأمت حلقة الذكر، وأخذ (الفقراء) يترنمون بأصوات هي إلى البشاعة أقرب منها إلى الرخامة. وطال

ذلك نحو الساعة. فبعض تلك الأناشيد والأذكار كان مستقيم المعنى صحيح المبنى، فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الموعظة والذكرى، أما بعضها الآخر ففيه إشارات واضحة إلى مذهب (وحدة الوجود) يترنم بها القوم ولا يفهمون لها معنى، وخرجت من هناك آسفا حزينا وأنا أتساءل: كيف تمكن أحمد بن عليوة المستغانمي من إنشاء طريقة صوفية وهو شبه أمّي؟ ... زارني - أحمد بن عليوة - يوما، - وسألته: ما هي الأسس التي بنيت عليها هذه الطريقة الجديدة؟ قال: سأبعث إليك بكتاب ألفته وطبعته ... وما هي إلا ساعة حتى جاءني أحد (الفقراء) يحمل إلي كتابا، اسمه: (المنح القدوسية في شرح متن ابن عاشر على الطريقة الصوفية). وأخذت في الحين أقرأ الكتاب، ويا لهول ما قرأت: كلام أهوج، وخرافات لا تنطلي حتى على الأبله، وأباطيل وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان. ودعوة سافرة غير حكيمة، لمذهب (وحدة الوجود) المنافي لعقيدتنا الإسلامية القرآنية الطاهرة على خط مستقيم. فاستعذت بالله من رجل اتخذ في ذهني صورة الشيطان في جسم إنسان ... هذا ما جاء به أحمد بن عليوه الذي كان يعمل حزازا بمستغانم قبل أن ينتحل مذهبه (الذي نادى به محيي الدين بن عربي الأندلسي في كتابه - شجرة الكون - وعالجه اليهودي الهولاندي اسبينوزا - وتعرض له عمر بن الفارض) وهو مذهب (وحدة الوجود) الذي اشتهر به أيضا شيخ الصوفية جلال الدين الرومي. والذي يتنافى تماما مع تعاليم الدين الإسلامي، ويصل بصاحبه إلى الكفر والإلحاد. ***

ج - ضحية من ضحايا الاستعمار (الشيخ عبد الحليم بن سماية)

ج - ضحية من ضحايا الاستعمار (الشيخ عبد الحليم بن سماية). ومرة أخرى، قد يكون من الأفضل العودة إلى ما كتبه الشيخ المجاهد أحمد توفيق المدني في مذكراته: (أذكر حادثا وقع لي، عرفني بعالم جليل، ومنه عرفت ما آل إليه حال الذين رفضوا التعامل مع الاستعمار. ولم يركنوا إليه. والذين اختنقت أنفاسهم بما لاقوه من مرارة ظلم وإرهاق ... كنت على موعد معه في مزرعة السيد محمد بن الأكحل، غير بعيد عن بلدة الأربعاء. ودخلت المكان مع صاحب الدعوة. وكان الشيخ يتوسط القاعة، وكأنه بجلاله وهيبته يحتل كامل الغرفة ... كان حقا شيخا جليلا، قام للسلام علي، ولم تتغير ملامحه، ولم تبد على وجهه أدنى بشاشة ... قال لي: مرحبا بك. ثم سكت طويلا، ولا يتحرك، ولا يبدي إشارة - ليشارك في الحديث - حتى كأنه صورة مجسمة من الشمع الملون. قلت للسيد محمد بن الأكحل هامسا: أهذا هو الشيخ عبد الحليم بن سماية، العالم الشهير، الذي طبق صيته آفاق العالم الإسلامي؟ قال لي: نعم. وهذه هي حاله مئنذ أن أصبح ملازما للوحدة والعزلة، وستكون محظوظا إن أنت ظفرت منه بكلمة. قلت: ومنذ متى وهو يلازم هذه الحالة؟ قال لي: منذ بدأت الأحاديث تتردد عن احتفال فرنسا بصفة صاخبة بمرور مائة عام على احتلالها الجزائر. فهمت. وعلمت أن الرجل البائس يكاد يقتله الهم والحزن، وأن سكوته هذا هو نوع من الفرار من الدنيا. ولكنني اتجهت إليه

ضحية من ضحايا القهر الاستعماري (الشيخ عبد الحليم بن سماية) وهو يظهر في الصورة أعلاه، وإلى جانبه الإمام الشيخ محمد عبده أثناء زيارته للجزائر سنة 1903.

بكليتي، وأخذت أستفز منه الشعور والإحساس، وأثير في قلبه الآلام والأحزان حتى أسمع حديثه، وأطلع على ما يخفيه في فؤاده الجريح من هم وألم. فقلت له: بالله يا أستاذنا العظيم، وأنت رجل العلم ومربي الجيل، وحامل لواء القرآن. إن قلبي يذوب ويلتهب وأنا أرى حال هذا البلد الذي كان أمينا، فأصبح مهانا ذليلا، حتى أن الخنازير ورعاة الخنازير يريدون الاحتفال باحتلاله. فازداد وجهه احمرارا، وازدادت نظراته حدة، وازدادت ملامح وجهه قسوة، حتى لقد خيل إلي أنه يثور ثورة عنيفة مرعبة. غير أنه سيطر على نفسه، وقال في حدة: (بل قل أنه أصبح مثل المومس الداعرة يتناولها من يشاء من الأشقياء دون أن تنال منهم شيئا. لكن هذا هو قضاء الله. ولا راد لقضائه) ثم هدأت ملامحه. وعاد إلى صمته. فقلت له فورا: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فلتغيروا ما بأنفسكم من ذلة واستكانة ورضوخ وتشتت شمل وقلة الناصح، وخوف العالم، وانهيار الإيمان، يغير الله حالكم إلى أحسن حال. فتململ قليلا، وقال في ألم يحز القلب ويهد القوى: (لقد قال الله ذلك لقوم يعقلون، وما نزلت آية من القرآن هي أهدى للأمم وأدل على طريق الحرية والسعادة كهذه الآية، لكن أين من يفهم، وأين من يسمع وأين من يعي؟) قلت: (يا أستاذي العظيم، لقد ربيت في المدرسة الثعالبية جيلا، بل أجيالا من الرجال. بثثت في صدورهم العلم، وألهمتهم الحكمة والصواب، أليس فيهم من يقول اليوم كلمة الحق أو يدعو إلى الخير؟) وأجاب مضعضعا: ليس فيهم…والله رجل رشيد. ما فيهم إلا المخنث والخصي، فهالني أن أسمع من ذلك العلامة العظيم،

مثل هذه الكلمات السوقية، وظهر علي الإمتعاض والاعتراض، وقلت: يقولون إن الناس على دين ملوكهم والطلبة على دين أساتذتهم و .. فقاطعني قائلا: أما الناس فهنا على دين ملوكهم الملاعين حقا؛ السفه والزيف والفساد والنفاق، والتكالب على الدنيا ونكران الآخرة، أما أن الطلبة على دين أساتذتهم، فلا. لا. لا. وأطال في لفظ (لا) الأخيرة طولا انتهى بنفسه، قلت له: ما حكم الله في ... فقاطعني بحدة قائلا: (هنا لا يوجد حكم الله. هذه دار حرب. سقطت فيها الأحكام الشرعية. وانتهى فيها أمر الإسلام) قلت: يا ويلاه! أنت تقول هذا؟ إن هذا القول هو غاية ما يريده المستعمر كي يتم له ابتلاع الأرض الجزائرية وما فوقها وما تحتها من خيرات. قال: (وهل بقي فيها شيء لم يبتلعه ولم يهضمه؟) قلت: نعم: بقي فيها الإسلام، بقي فيها الإيمان، بقيت فيها الروح التي لا تغلب، بقيت فيها النفوس المتألمة الظمأى، بقي فيها حب الانتقام من الظالمين. إنك تعيش يا استاذي الكبير في معزل عن الشعب، بعيدا عن الطبقات العامة، لا تعرف نفسيتهم ولا تفكيرهم ... إنهم والحمد لله لا يسمعون كلامك، ولا يختلطون بك. ولو أنهم استمعوا إليك أو اختلطوا بك لتقولوا عليك الأقاويل، ولكفروا بك بعد إيمان. فتنهد، ونزلت دمعة من عينيه، وقال: (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع) ثم عاد إلى صمته وسكوته كأنما هو أبو هول القرن العشرين. قال لي الأخ محمد بن الأكحل: منذ أمد طويل، لم نر الشيخ تكلم كما تكلم اليوم ... هذا رجل أصابه اليأس في الصميم، واصطلى من الاستعمار الإفرنسي بنار الجحيم. وأصبح يحيا في

نفسية لا تنتظر معها سلامة: إما موت وإما جنون. وقد كانت الثانية لسوء الحظ، فلم يمض أمد طويل على لقائنا حتى علمت بأن الشيخ عبد الحليم بن سماية قد فقد عقله، وأخذ يهذي ولا يعرف ما يقول. غير أن الشيخ لم يفقد حتى وهو في حالته الأخيرة، مهابته أو سلامة محاكمته، ومما يحكى عنه في هذه الفترة: أنه دخل مرة حديقة (بور سعيد) وكانت تدعى (السكوار) وهو يمتطي جواده، وأخذ يتجول بين مساربها، وأفواج العامة تسير في ركابه. ففاجأه شرطي الحراسة بقوله: هنا ممنوع ركوب - أو مرور - الخيل، أخرج. فأجابه الشيخ محتدا: أنا لا يمتعني أحد! فأخذه إلى محافظ الشرطة، والعامة تتبعه، وكان المحافظ يعرف عنه الكثير، فقال له: يا سيدي الشيخ، ممنوع منعا باتا مرور الخيل بالمنتزهات العامة، خوفا على الضعفاء والأطفال. فرد عليه الشيخ: عجبا! صبرنا على حصانكم موضوعا بساحتنا العمومية مائة سنة (يقصد بذلك تمثال الدوق دومال - فاتح الجزائر) ولا تصبرون على حصاننا ربع ساعة. قال محافظ الشرطة وقد ترجموا له ذلك: هذا كلام عدو عاقل لا كلام صديق مجنون. وأذن له بالانصراف. هذه الحادثة، وأمثالها، أكدت أن ما أصاب الشيخ لم يؤثر أبدا على ملكته العلمية، وإنما أثرت على سلوكه ووجوده في المجتمع بين الناس. أو قل بأنها (عقدة الاضطهاد) التي أفقدته القدرة على التكيف مع محيطه، وهي الظاهرة التي تحمل طبيا اسم (المونوماني) والتي لازمته حتى انتقل إلى جوار ربه، مأسوفا عليه

د - ضحية أيضا من ضحايا القهر الإستعماري - عمر راسم -

من الخاصة والعامة. وتلك هي الصفحة الأخيرة في حياة هذا العالم الجليل الذي أعجب به أيما إعجاب الشيخ محمد عبده (المصلح الاجتماعي الذي طالما تألق نجمه في سماء مصر والعالم الإسلامي) وذلك أيام حل بالجزائر سنة 1903. ... د - ضحية أيضا من ضحايا القهر الإستعماري - عمر راسم -. عمر راسم - ابن المنصور الصنهاجي كما كان يلقب نفسه في مقالاته الجريئة - وهو من رجال الرعيل الأول في الإصلاح والجهاد، وممن نكبوا على يد الاستعمار الإفرنسي نكبة سوداء أثرت على البقية الباقية من حياته، فجعلته يوقع على رسائله بما يلي: (البائس اليائس الثائر على العصر وأهله، عمير راسم). خلق ليكون فنانا عالميا، وله لوحات رائعة تحاكي الفن الفارسي الأصيل، خلد في لوحاته حياة الجزائر في عصره. وأبدع في محاولاته لإظهار عظمة الإسلام في مقارعة الصليبية (¬1) واستخدم قلمه بقدر ما استخدم ريشته للدفاع عن قضايا مواطنيه وطرح هموم أمته والتصدي لأعداء دينه، فكانت صحيفته (ذو الفقار) التي صدرت سنة 1908 منبرا حرا تعبر عن أصالة صاحب المنبر وما يمثله في شعبه. وكانت له مواقف رائعة، منها موقفه في سنة 1914 عندما تعرض للمسألة الصهيونية بقوله: (إن اتفاق زعماء ¬

_ (¬1) جمعت وزارة الثقافة الجزائرية أروع لوحاته في كتاب أنيق للغاية حمل اسمه (عمر راسم) وذلك تقديرا من الثورة لما قدمه هذا الإنسان المبدع من جهد وتضحية في سبيل وطنه.

عميد الصحافة الجزائرية الأستناذ عمر راسم ضحية أخرى من ضحايا القهر الاستعماري. أنصفته الثورة وقدرت له جهوده وتضحياته.

العرب الفاتحين، وأهل البلاد، مع زعماء اليهود، هو أمر من المحال بلوغه. لأنه اعتراف بزعامة البلاد - في فلسطين - فلا يحق لغير العرب، وهم أبناء إبراهيم الأصفياء الموعودون بتلك البقعة المطهرة أن يمتلكوا تلك الأرض، ولا لغير راية الإسلام أن تخفق عليها، ما دام في عرق العرب دم. وفي أجسام المسلمين روح) (¬1). هذه الروح الأصيلة، وهذه الإرادة القوية، لم تلبث أن أصيبت بالضعف واليأس نتيجة المعاناة الطويلة والشاقة مع الاستعمار وأجهزته. وقد وصف (المجاهد أحمد توفيق المدني) في مذكراته عن هذا الإنسان المجاهد ما يستحق التسجيل، ذلك أنه ما من إنسان أقدر من الفنان على تصوير محيطه والظروف التي يعيشها. وقد كان عمر راسم فنانا مبدعا تميزت روحه بالرقة والشفافية وهذا ما يعطي لمقولاته أهميتها البالغة في تصوير حالة الجزائر خلال تلك الفترة بأكثر مما تصور الحالة الشخصية للفنان ذاته. قال الشيخ المدني في مذكراته: (جاءني - عمر راسم - يحمل شبه ابتسامة وقال لي: أنا مطلع على جهادك، إنما أنا متأسف على شبابك، فلماذا تضيع وقتك سدى؟ وقد فوجئت بذلك الحديث ممن كنت أعتقده قبسا من نار الثورة، وشعلة من نور اليقين. وقلت له: هل أنت الأستاذ عمر راسم صاحب جريدة الجزائر الشهيرة - ذو الفقار - والجزائري الوحيد الذي حوكم بتهمة الاتصال بالعدو، وصدر عليه حكم الأشغال الشاقة. قال حزينا كئيبا: أي نعم أنا ¬

_ (¬1) ذو الفقار - 28 حزيران - جوان - 1914 عن الجزائر والأصالة الثورية - الدكتور صالح خرفي - ص 135.

هو. فماذا انكرت مني؟ قلت: أنكرت منك لهجة لم أكن انتظرها، وحديثا عجبا لم أكن أتوقعه. واستمر الحديث، وفهمت أن الرجل كان في بادى - أمره مؤمنا عصاميا طموحا، فلما أصابته نائبة السجن، ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، ودارت عليه دائرتها بالسوء. وخرج من سجنه غريبا، مبتئسا بالحياة. لا يرى الناس ولا يرى الأشياء، ولا يرى الحوادث، إلا من وراء منظار أسود فاحم اللون. وها هو عمر راسم يصف سبب ما هو فيه: (أنا فقير مدقع، وضيع بين الناس مصاب بسرطان في حنجرتي، أعزب إلى أن أموت، استعمار فرنسا يزداد طغيانا وظلما شنيعا يوما بعد يوم. الدولة العثمانية ماتت وورثها الكافر مصطفى كمال، ولم يأت على المسلمين يوم تفرقت فيه كلمتهم، وتشتت فيه آراؤهم مثل اليوم). وفي رسالة من عمر راسم إلى صديقه المجاهد أحمد توفيق المدني، جاء ما يلي: (هذا يا أستاذ، إن ما اقرحتم به على هذا العبد الذي يعيش على هامش الدنيا والحياة، هو غير مقبول ... لأني كما صرحت لكم به مشافهة، لا أريد أن أكون مع الناس أعتقد أنهم أعداء الحق والإنسانية والومطن، ولا أرضى أن أكون في كتاب أو صفحة أو صورة أو مرآة. ولو مع عبد القادر أو المقراني أو غيرهما ... ويا أيها المؤلف النشيط، اسمحوا لي أن أقول لكم إنكم لا تعرفون الجزائر كما عرفتها، وشاهدت ما كان لها من مزايا ورجال، وأقطاب علم ووطنية صادقة وأعمال نبيلة وثقافة نادرة ومدنية رفيعة

هـ - احتفال فرنسا بمرور مائة عام على احتلال الجزائر

وإسلام نزيه، ومحسنين من دون فائدة. ولكن لما انقرضوا وظهرت شرذمة الفساد ضاع الشرف، وخاب الوطن ولا طمع في المستقبل). تلك هي سطور قليلة في حياة إنسان، دمره الاستعمار الإفرنسي بوحشيته - الحضارية - وقد أمكن معرفة بعض ملامح مأساته. ولكن كم هي الجرائم، وكم هي المآسي، التي ماتت مع أصحابها ولم يعرف بأمرها أحد. تلك هي الصورة القاتمة للجزائر المجاهدة بعد مرور قرن من الاستعمار. وبينما كان شعب الجزائر يعيش مع همومه ويأسه وقنوطه، أبت فرنسا إلا أن تمعن في إذلاله، فقررت إقامة احتفالات ومهرجانات بهذه المناسة، ودعت إلى حضورها وفودا من أمم الدنيا كلها. وأنفقت عليها الأموال الطائلة بسخاء - أموال شعب الجزائر - فيما كان هذا الشعب يعيش في شر مسغبة. وقد يكون من المناسب هنا، إكمالا لصورة الموقف، التعرض لبعض ملامح هذه الاحتفالات وفقا لما ذكرها أحد معاصريها (¬1). ... هـ - احتفال فرنسا بمرور مائة عام على احتلال الجزائر جمعت فرنسا لجنة يمكن وصفها بلجنة الأذناب، مهمتها البحث عما تستطيع فرنسا تقديمه (للأهالي) بمناسبة الاحتفال المئوي. فكان أحدهم ينادي بوجوب إعطاء بعض الحقوق ¬

_ (¬1) حياة كفاح - أحمد توفيق المدني 167/ 2 - 171.

السياسة. وكان آخر ينادي بوجوب تخصيص ثكنة عسكرية لتكون مستوصفا طبيا للمسلمين. وكان غيرهما ينادي بمطالب تافهة، لا فائدة منها. وما كان ذلك من الحكومة إلا جرعة دواء مهدىء - مسكن - خالتها تخدر الجسم الإسلامي طويلا. فإذا بها تحولت إلى جرعة منشطة بعثت بالجسم بعيدا نحو الآفاق السامية والآمال البعيدة. واكتفت فرنسا ببناء دار بسيطة في (حي القصبة) أسمتها (دار الصناعات الأهلية) ولدت ميتة، ودفنت إلى الأبد مع الأموات. وعملت فرنسا على إحياء عادة وثنية قديمة، إذ أقامت جدارا فوق كهف طبيعي صغير، بضاحية (سيدي فرج) وعينت له وكيلا من قدماء جنودها، بزعم أن ذلك هو: (ضريح سيدي فرج) وما هو في حقيقة أمره إلا مغارة مهملة أحيت بها وثنية مرت عليها الدهور. أما ضريح سيدي فرج فقد كان أول ما دمره الإفرنسيون، وأزالوا كل أثر له، أثر نزول جحافل غزوهم بالساحل الجزائري. كما عملت فرسا على ارتكاب حماقة أخرى تزيد في بشاعتها ووقاحتها على ما سبقها، حيث أقامت حفلا دينيا (بالمسجد الأعظم الجزائري) حضره الوالي العام - بورد - وكامل رجال الإدارة الإفرنسية دونما استثناء، وخطب فوق ذلك المنبر الشهير الذي توالت عليه أقدام كبار العلماء منذ القرون العديدة، خطب الشيخ محمود كحول، الموظف بإدارة الجريدة الرسمية في الولاية العامة وإمام المسجد، الذي كان يدعى تجاوزا (المفتي) ليقول: إن المسلمين يوالون فرنسا لا قالبا، بل قلبا وإيمانا. وأنهم

يطيعونها إطاعة مخلصة. ثم قام رجال الإدارة الإفرنسية بالمسير، ومعهم رجال الدين من أئمة وحزابين ووكلاء القبور وقراء القرآن على الأموات، إلى (مغار سيدي فرج) التي أرادوا أن يدشنوها معبدا يوم 5 تموز - يوليو - 1930 (يوم الاحتلال البغيض) فقرؤوا هنالك ما أمروا بقراءته من كتاب الله. وهيؤوا لهم خرفانا مشوية، أكلوها سحتا، وكأنهم يأكلون لحم أمتهم، ويمتصون دماء شعبهم، وينهشون عظام شهدائهم. وقال أحد المسلمين، وهو يغادر الحفل: أقسم بالله ثلاثا، إننا كنا نأكل وكأننا نلتهم النار، وكنا نشرب وكأننا نبتلع السم. وكنا نقرأ القرآن ونشعر أننا كنا (نسب الدين).كانت وجوهنا مصفرة، وكانت سحناتنا مكفهرة، وكان شعورنا جميعا دون استثناء، شعور من احتقر احتقارا لم ينل مثله أي شعب من شعوب الأرض. وكان الوالي، وكان شيخ بلدية الجزائر الاستعماري الصميم، وكان والي الولاية، يتقبلون الوافدين عمدا في مرسى الجزائر العتيق، تحت حنايا دار الاميرالية الجزائرية الأثرية، ويقولون كلهم، العبارة التقليدية الجارحة التي اعتادوا تكرارها في كل المناسبات: (في هذا المكان، حيث كانت اللصوصية تضرب أطنابها، وحيث كان الظلم والطغيان، وحيث كانت أوروبا تخضع لهول القرصنة وفظاعتها، نستقبلكم أيها السادة، وقد ساد الأمن، وعاد الرخاء، ونشر العدل بساطة، وزالت اللصوصية، وانمحت القرصنة إلى الأبد. تحت لواء فرنسا العظيم المنتصر).

واحتفلوا بعد ذلك احتفالا صارخا، وأكلوا وشربوا وسكروا وعربدوا واختلط حابلهم بنابلهم. ثم أحيوا ليلهم حتى الصباح وسط أنوار كأنها من قلب القمر. كانت عندهم ليلة. وكانت لدى الجزائريين الذين لم يشارك أحد منهم في الاحتفال ليلة نحس مستمر. ثم زادوا على كل ذلك، أكثر من ذلك، زادوا عليه إقامة مؤتمر كاثوليكي ديني متعصب، جمعوا له القسس والرهبان من كل مكان، وارتفعت أصوات وأصوات ضد الدين الإسلامي؛ وضد العروبة وضد المدنية الساطعة التي لولاها ما كانوا هم ولا كان أجدادهم الأولون. ضربوا الدين في الصميم. لم يتورعوا عن مس الذات المطهرة المحمدية، ووصفها بالشنيع من الأوصاف. لم يمنعهم خجل أو حياء عن إيذاء شعب كامل في دينه وفي دياره، في ساعة هائلة رهيبة. لم يبق فيها لذلك الشعب من معقل يلتجىء إليه إلا الدين.

الفصل الثاني

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. الفصل الثاني 1 - عبد الحميد بن باديس. 2 - جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. 3 - مدافع الله ونهاية رحلة العمر. 4 - إخوان عبد الحميد في الجهاد: آ - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. ب - الشيخ مبارك بن محمد الميلي. ج - الشيخ أحمد توفيق المدني. د - الشيخ الطيب العقبي. هـ - الشيخ التبسي. 5 - تيار الأصالة الثورية في الجزائر آ - الشاعر محمد العيد. ب - أحمد رضا حوحو. ج - الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض وتجربته التربوية الرائدة في ميزاب.

عبد الحميد بن باديس

1 - عبد الحميد بن باديس ما أظلمت دنيا المسلمين يوما إلا وارتفع في سمائها نجم يتألق ليهدي التائهين سواء السبيل. وما اشتدت الخطوب في عالم العرب المسلمين يوما إلا وظهر رائد يصدق قومه الهداية، ويسير بهم نحو الدرب القويم. وقد ظهر في الفصل الأول، ما وصلت إليه الجزائر المجاهدة الصابرة في حكم الاستعمار والمستعمرين. حيث بلغ اليأس منتهاه، وحيث بلغ القنوط غايته. وفي وسط الظلمة الحالكة، ظهر ذلك الإنسان المسلم المؤمن، فأشرقت له دنيا الجزائر، والتفت حوله فئة من المجاهدين الصابرين، كأنهم كانوا على موعد مع قدر أمتهم. وكان عليه، وعليهم، شق الطريق، وسط صعوبات لا نهاية لها. ذلك هو عبد الحميد بن باديس. وقد وصفه أحد أقرب الناس إليه بقوله: (كنا هنالك جمعا صالحا لست أنساه، كانوا نحوا من عشرين رجلا، منهم الشيخ، ومنهم الكهل، ومنهم الشاب. إنما نور الإيمان والعزيمة الراسخة كان قد ارتسم فوق كل محيا،

كالفجر الصادق ... وإننا لكذلك، فإذا بطلعة مهابة مشرقة أطلت علينا، فقام لها الجميع احتراما وتقديرا. ذلك هو الشيخ المجاهد المقدام - عبد الحميد بن باديس - وقد أخذ نجمه يتألق في سماء الكفاح، وأخذ اسمه يكتسح ميادين النضال، وأخذت بواكير أعماله الإصلاحية تبدد حجب الظلام الحالك ... وكأن عبد الحميد بن باديس، كان الحادي عشر من ذلك الرعيل الأول الذي بعث به عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي، لهذا المغرب العربي، يعلم الناس دينهم ويجدد إيمانهم ويمتن أخلاقهم ويهديهم سبيل الرشاد. وقد لا يستطيع أحد وصف هذا الرجل العملاق ... كان الرجل حذرا، إنه يشفق على مشاريعه العظيمة أن تخفق أو تصاب بنكسة، نتيجة لكلمة عابرة، ينقلها جاسوس، أو لتعبير يساء فهمه ويسوء نقله. ولكن ها هو الآن - وبعد سنوات من الجهاد - وقد أصبح رجلا مكتملا هادفا، لقد أخذ يشق طريقه قدما نحو غايات بعيدة لم يكن يفصح عنها، إنما كانت تفصح عن نفسها من خلال كلماته. هذا رجل طلق الدنيا الرخيصة، بما فيها من شرور وأثام، وبما تحتويه من مباهج ومغريات، وأقبل على الدنيا الصالحة، دنيا العمل والجهاد، والتضحية والفداء. وبذل النفس في سبيل نفع المجموعة الجزائرية خاصة والأسرة الإسلامية عامة. ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس في مدينة القسنطينة - المدينة التي طالما أتعبت قوات الغزو الاستعماري منذ أيام واليها أحمد باي. واحتفظت بكل أصالتها

لأكثر من سبب، أولها انفتاحها على الأقاليم والأرياف المجاورة لها. وثانيها بعدها عن العاصمة التي بقيت مركز ثقل الوجود الاستعماري. ولهذا فقد وقع على قسنطينة عبء الاحتفاظ بأصالة الجزائر كلها. فلا غرابة أن تكون مهدا لحركات المقاومة، وأن تحتضن كل الحركات الإصلاحية، ثم أن تدفع للثورة ضد الاستعمار بأكبر عدد من رجالها وأبنائها. وهكذا ففي هذا المحيط الفاضل ولد ابن باديس سنة 1305 هـ = 1889 م. وبدأ خطواته الأولى في التعلم بمدارسها حتى إذا أكمل تعليمه، تاقت نفسه لانتهال المزيد من العلم. ووجد في والده (محمد المصطفى) خير مشجع للمضي على درب العلم والمعرفة، ولا ريب أن الوالد قد وجد في ابنه من الفضائل ما بعث فيه الأمل (ببعث أمجاد البيت الباديسي الشهير في التاريخ بتأسيس الدولة الحمادية). فقال له منذ أول عهده بتلقي العلم: (يا عبد الحميد - أنا أكفيك أمر الدنيا، أنفق عيك، وأقوم بكل أمورك، ما طلبت شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر، فاكفني أمر الآخرة. كن الولد الصالح العالم الذي ألقى به وجه الله). وترددت دعوة الأب بأصدائها القوية في أعماق نفس عبد الحميد، فمضى في سنة 1908 إلى تونس الخضراء - حيث منارة العلم الإسلامي في جامعة الزيتونة - وانصرف ينهل من ينابيع العلم الصافية، حتى إذا ما مضت عليه أربعة أعوام من الجهد المتصل والعناء المستمر، أدرك أنه بلغ المرتبة التي تؤهله للانتقال من

عالمه النظري إلى العالم العملي، أو من الجمع والتحصيل إلى العطاء والإفاضة، للإفادة مما علم وتعلم، وكان لا بد له قبل هذا التحول من إكمال فرائضه الدينية، فمضى في سنة 1912 إلى الديار المقدسة في الحجاز، حيث أدى فريضة الحج، وزار خلال رحلته بلاد مصر والشام، ليعود بعدها إلى قاعدته الصلبة في قسنطينة، مستقرا في مسجدها الشهير (الجامع الأخضر). وأخذ في ممارسة عمله - بكل ما في الشباب من إيمان وحماسة وبكل ما في الشيوخ من حكمة وسداد رأي، ولم يلبث طويلا حتى تكشف عن شخصية عملاقة، تفيض علما ونورا يضيئان العقول الضالة والنفوس التائهة. وأخذت دروسه تجتذب إليها الفدائيين الصالحين، لا من مدينة قسنطينة وحدها، بل من كل جهات المشرق الجزائري، علاوة على أولئك الوافدين إليه من وسط البلاد وغربها. وأصبحت دروسه المختلفة، تجاوز العشر ساعات كل يوم، عامرة بمختلف علوم الدين - من فقه وعبادات ومعاملات - علاوة على ما كان يتخلل تلك الدروس من توجيه وإرشاد يتناسب مع الواقع العملي الذي كانت تعيشه الجزائر الصابرة المجاهدة في تلك الظلمة القاتمة. وكانت روح الشيخ المؤمنة تفيض بالثقة والأمل، فتجاوبت لها النفوس وأطمأنت إليها القلوب. والشيخ بعد ذلك يتابع دوره باندفاع وحماسة شديدين، لا يتعبه الجهد ولا يناله النصب. ويزيد من حماسته واندفاعه ما كان يلمسه من تجاوب عميق في نقوس تلاميذه وأتباعه. وها هو يعبر عن هذه الحقيقة بقوله: (إنني أرى حالة البلاد قبل دروس الجامع الأخضر وبعدها:

كان الجهل سائدا، والبدعة قائمة، والضلال مخيما، فإذا بهذه الثلة الصالحة من الطلبة الذين يرتادون دروسنا، تبث الفضيلة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتبين أمام الناس سبيل الخير والصلاح. والشباب في الجزائر كافة، وخاصة الذي لم تدنسه تعاليم فرنسا، ومباهج مدينتها الفاجرة، لا يزال مادة أولية - خاما - إذا ما نحن تداولناه بالدعوة الإصلاحية السلفية، جعلنا منه دعاة صالحين. يحثون على الخير، ويقضون على الخرافات والأباطيل، ويفتحون أمام الشعب أبواب الحياة السعيدة الحقة، التي توصدها فرنسا بكل ما ملكت من حول وطول). ويدرك الشيخ عبد الحميد طبيعة المعركة التي يخوضها، وما هي عليه من الشمول والاتساع، مما يتطلب استنفار كل القوى المتوافرة، وزجها جميعها في معركة المصير، ويظهر ذلك في مقولته وهو يوجه حديثه إلى الشيخ أحمد توفيق المدني: (سواء أطال مقامك بالجزائر أو قصر، وسواء إن اهتديت إلى كفاح سياسي أو أخفقت، فهذا واجب عيني قد وضعه القدر فوق عاتقك. فابدأ كفاحك بهذا ريثما ييسر لك أسباب كفاح آخر. وكفاحنا هنا شاق، مرير، متعدد النواحي، مختلف الاتجاه. فأينما ضربت بسهم صائب في أي ميدان، كان نضالك مشرفا، وكان جهادك محمودا) (¬1). والشيخ عبد الحميد، يخوض معركته معتمدا على أرضية صلبة ¬

_ (¬1) حياة كفاح - أحمد توفيق المدني - 11/ 2 - 12 و18.

من الإيمان بالله والثقة بشعبه الجزائري المسلم، وقد أمده ذلك الإيمان وتلك الثقة بالقدرة على مجابهة التحديات مهما عظمت، وهو يقول في ذلك: (سجون واتهامات ونكبات: ثلاث لا تبنى الحياة إلا عليها، ولا تشاد الصروح السامقة للعلم والفضيلة والمدنية الحقة إلا على أسسها. وأمة أخذت تقدم الضحايا في سبيل سعادتها، حقيقة بأن تنال المادة وبأن تهنأ بها ... ومن رام أن يحول بيننا وبين فكرتنا التي نؤمن بها، ويؤمن بها المؤمنون الصادقون، فقد حاول عبثا قلب الحقائق. ونحن لذلك لا نتزحزح عن تلك الفكرة قيد شعرة، مهما طال سيل الكوارث على أمة لها ما للشعب الجزائري من الصفات المرغوب فيها، الكامنة كمون النور في الكهرباء) (¬1). غير أن ثقة عبد الحميد بن باديس غير المحدودة بشعبه الجزائري، لا تمنعه من إدراك واقعه المرير، وما آل إليه هذا الشعب من ضعف وتمزق بنتيجة الضربات الاستعمارية الشاملة. وها هو يقول: (برغم ما في الأمة الجزائرية من أصول الحيوية القوية، فقد عركتها البلايا والمحن، حتى استخذت وذلت، وسكنت على الضيم ورئمت للهوان، وبرغم ما بينها من روابط الوحدة المتينة، فقد عملت فيها يد الطرقية المحركة تفريقا وتشتيتا، حتى تركتها أشلاء لا شعور لها ببعضها، ولا نفع، تتخطفها وحوش البشرية من هنا وهناك، بسلطان القوة على الأبدان أو سلطان الدجل على العقول والقلوب. ¬

_ (¬1) جريدة المقاومة - الجزائرية - 22 نيسان - أبريل - 1957.

ويدرك الشيخ أهمية الكلمة، فيعمل على إصدار (الشهاب). ثم (المنتقد) ويحدد لهما هدفهما (لسان الشباب الناهض بالقطر الجزائري) و (الوطن قبل كل شيء) ويقف بعد ذلك وقفة المتأمل - أو بحسب اللغة العسكرية (إعادة تقويم الموقف) - ليرى حصالة جهده، فيقول: (أعلن - الشهاب - من أول يوم، و- المنتقد - الشهيد قبله، سنة 1924 أنه - لسان الشباب الناهض بالقطر الجزائري. ولم يكن يوم ذلك من شباب إلا شباب أنساه التعليم الاستعماري لغته وتاريخه ومجده، وقبح له دينه وقومه. وقطع له من كل شيء - إلا منه - أمله. وحقره في نفسه تحقيرا) و (أعلن - الشهاب - من أول يومه، و - المنتقد - الشهيد قبله - أن - الوطن قبل كل شيء - وما كانت هذه اللفظة يومئذ تجري على لسان أحد بمعناها الطبيعي والاجتماعي العام. لجهل أكثر الأمة بمعناها هذا، ولخوف أقلها من التصريح به) (¬1). وشعر يهود قسنطينة بخطورة ذلك النور الذي يشع من (الجامع الأخضر) فأخذوا - كعادتهم - في الكيد له، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وأبى الله إلا أن يتم نوره - ويشتد بهم الغيظ والحقد، حتى إذا جاء صيف سنة 1934، أقدم يهودي على استفزاز المسلمين عندما مر (بالجاح الأخضر) فشتم من به من المسلمين، وتطاول على شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. وحدث الانفجار الدموي الرهيب بين المسلمين واليهود. ¬

_ (¬1) صفحات من الجزائر - الدكتور صالح خرفي. ص 80 - 91 (عبد الحميد بن باديس والعروبة).

وظل الصراع أسبوعا كاملا قتل فيه (22) يهوديا. وعجزت السلطة الإفرنسية عن إيقاف - أو احتجاز الحماسة الدينية الملتهبة، والشعور القومي المتفجر، فاضطرت للتوسل إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس والنائب الدكتور بن جلول، من أجل التدخل لتهدئة الموقف المتفجر الذي بات يتهدد الوجود اليهودي كله في القسنطينة. هنا، لا بد من التوقف قليلا عند ظاهرة ما أطلق عليها اسم (مجزرة قسنطينة) والتي تجاوزات في مضمونها وأصدائها حدود الجزائر لتأخذ أبعادا عالمية. وقد يكون من غير الطبيعي، تفسير ما حدث في قسنطينة على أساس أنه مجرد رد فعل لاستفزاز (يهودي عابر) كما أنه من غير الطبيعي الأخذ بهذا الاستفزاز ذاته على أنه مبادرة فردية (ليهودي حاقد). ولعل هذه الحادثة تبرز أهمية الدور الذي كان يضطلع به (مسجد الجامع الأخضر) وإمامه (الشيخ عبد الحميد بن باديس) في نشر الوعي ضد الأخطار التي تتهدد العالم الإسلامي على أيدي الاستعمار والصهيونية، وأدى ذلك إلى تعاظم نقمة اليهود، فكان استفزاز اليهودي تعبيرا عن هذه النقمة، واختبارا لمعرفة ما وصل إليه التنظيم الإسلامي من القدرة في مدينة قسنطينة، وعندما أدركت السلطات الاستعمارية تعاظم قدرة (عبد الحميد بن باديس) فضلت تجنب مجابهته في ظروف غير مناسبة لها، ولجأت إلى أسلوب (التهدئة) عن طريق عبد الحميد ذاته (¬1). ¬

_ (¬1) تجدر الإشارة هنا إلى ما كتبه (إيليا أبو ماضي - الشاعر اللبناني المهجري - في جريدة (السمير) ص 15 - آب - أغسطس - 1934. وتضمن ما يلي: (لا نخطىء =

المهم في الأمر، هو أن الشيخ عبد الحميد بن باديس، لم تصرفه قسوة الظروف التي كانت تعيشها الجزائر عن رؤية أبعاد الصراع، وشمولية المعركة، فالحرب ضد المسلمين هي حرب واحدة، سواء كان مسرحها الجزائر، أو كان مسرحها فلسطين، أو ابتعدت حتى أقاصي المشرق الآسيوي. وها هو الشيخ يعود في سنة 1938، ليقرع الأجراس محذرا من خطورة (الزواج غير الشرعي بين الاستعمار البريطاني والصهيونية العالمية، فيقول: (تزاوج الاستعمار الانكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة، فأنجبا لقسم كبير من اليهود الطمع الأعمى. وقذف بهم على فلسطين الآمنة والرحاب المقدسة. فأحالوها جحيما لا يطاق، وجرحوا قلب الإسلام والعرب جرحا لا يندمل ... جاء الزوجان المشؤومان الصهيونية والاستعمار الانكليزي، فكانا بلاء على فلسطين ويهودها. فليست الخصومة بين كل عرب فلسطين

_ = التقدير إذا قلنا أن الصهيونية من أهم العوامل التي أثارت نقمة العالم الإسلامي على اليهود، فقد كان هؤلاء منظورا إليهم في كل بلد إسلامي كعنصر وطني. فلما حملوا لواء الوطن الصهيوني، وتسلحوا بوعد بلفور، تبدل موقفهم في العيون، وصاروا منظورا إليهم كقوم فاتحين غاضبين، يحاولون أن يطردوا العرب من فلسطين ليحلوا مكانهم ويؤسسوا دولة يهودية. فالصهيونية، وهي فكرة دينية، هي التي جعلت المسلمين ينهضون لمصارعتها باسم الدين، ولكل شيء آفة من جنسه ... وخلاصة ما نراه، أن ثورة المسلمين على اليهود في قسنطينة هي ثورة المقهور، المجروح في كبريائه. ولكن بعض الجرائد الأمريكية في نيويرورك، لا تستلهم فيما تكتب عن هذه القضية غير مصالحها الخاصة، شأنها في كل قضية تتعلق باليهود). وقد أعادت صحيفة الشيخ ابن باديس - الشهاب - نشر هذا المقال - ج 10 - م 10 - 1934 (الجزائر والأصالة الثورية - خرفي - ص 38).

ويهودها، ولكن الخصومة بين الصهيونية والاستعمار الانكليزي من جهة، والإسلام والعرب من جهة، والضحية فلسطين، والشهداء حماة القدس الشريف، والميدان رحاب المسجد الأقصى، وكل مسلم مسؤول أعظم المسؤولية عند الله تعالى على كل ما يجري هناك، من أرواح تزهق، وصغار تيتم، ونساء ترمل، وأموال تهلك، وديار تخرب، وحرمات تنتهك، كما لو كان ذلك كله واقعا بمكة أو المدينة. إن لم يعمل لرفع الظلم الفظيع بما استطاع). ومن المنطلق ذاته، منطلق الدفاع عن الإسلام ضد كل من ينال منه أو يتعرض له، وقف الشيخ عبد الحيمد بن باديس ضد المستوطن الإفرنسي في الجزائر (المعمر آشيل) الذي هاجم الإسلام، متبعا في ذلك خطوات المستشرق الإفرنسي (هانوتو) (1) فجابه بذلك (الإمام محمد عبده) ونشأت عن ذلك مقارنة ممتعة تعرض لها الكاتب الجزائري (الدكتور صالح خرفي) (¬2) بما يلي: (كانت خطة الهجوم على الإسلام مبيتة مدروسة، متألبة ضد مبادئه التي تقض مضاجع الطامعين، وإن كانت خطة الدفاع بالعكس من ذلك، تبدو مدروسة، منسقة الأسلوب، ولكنها في ¬

_ - (1) هانوتو: Hanotaux- Gabrielx مؤرخ ورجل سياسي فرنسي، من مواليد (بورفوار) مقاطعة الايسن - (1853 - 1944). تولى منصب وزير الخارجية في الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وانصرف بعد ذلك للكتابة، فألف كتاب (حياة أو تاريخ الكاردينال ريشليو) كما ألف بعد ذلك كتابه (تاريخ الأمة الإفرنسية). (¬2) صفحات من الجزائر - الدكتور صالح خرفي - ص 65 - 75.

الواقع دفاع تمليه عواطف كل مسلم، أنى شرق أو غرب، ويفرضها العدو المشترك. فهانوتو - فرنسي ومسؤول. وآشيل معمر فرنسي عاش في الجزائر. وقد عاش الاثنان في فترتين زمنيتين مخلفين من هذا القرن. وفرنسا في الفترتين كانت تتطلع بجناحيها إلى كل من آسيا وأفريقيا، ولا تخطو خطوة فيهما إلا وجدت الإسلام يقف لها بالمرصاد. فانكب أصحاب الفكر في عاصمة النور - باريس - على دراسة الأساليب التي يزيحون بها الإسلام عن طريق أطماعهم. أو على الأقل يضمنون تحييده - مسالمته - في زحفهم إلى معاقله. فتولدت فكرة التهجم على الإسلام واستنقاصه، والنيل من تعاليمه، ومن النفوس التي تتسلح به، في وجه الامبراطورية الإفرنسية الزاحفة. فكانت الفكرة تنبعث من باريس لتمتد إلى المستعمرات الإسلامية في القارتين، ترود خطى الأفاقين الزاحفين، وتمهد الطريق بطلائع تبشيرية تحارب في الجبهتين: جبهة تركيز المسيحية، وجبهة تقويض الإسلام، وعلام الذهاب بعيدا، (فهانوتو) نفسه يقرر بأنه ودولته أصبحا مع الإسلام وجها لوجه، ويجب التفكير في أن تكون هذه المواجهة في صالح الاستعمار الإفرنسي على حساب الإسلام، وتطرفت النزعة الاستعمارية من جراء الإسلام المتربص لها في يقظة. ومن العجيب أن ينتشر هذا الجنون في وسط (النخبة الإفرنسية المثقفة) فيدعو البعض منها إلى نبش قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة، ونقل جثمانه إلى متحف اللوفر في باريس.

وتباينت آراء المستشرقين المتعصبين ضد الإسلام، سلبا وإيجابا، لينا وشدة، واختلفت في معاملته كوسيلة، وإن كانت غاية الجميع واحدة، فالمهم: إما أن يستسلم هذا الإسلام للحضارة الأوروبية، ويخلي الميدان لإشعاعها، وإما أن يوطن أكنافه قنطرة من الوثنية الأفريقية إلى المسيحية حتى قال أحد مؤرخي الكنيسة الإفرنسية: (إن الإسلام قنطرة للأمم الأفريقية، ينتقلون بها من ضفة الوثنية إلى ضفة المسيحية، فليس الواجب والحالة هذه قاصرا على معاملة الإسلام بالتساهل، بل لا بد من رعايته وتعضيده بأن نسعى في توسيع نطاقه، وترتيب الأرزاق على المساجد والمدارس، وجعله رائدا لمدنية فرنسا، وآلة نستعين به في فتح البلاد). وتعبر المقولة السابقة عن (سياسة الهجوم غير المباشر) ضد الإسلام والمسلمين وذلك عن طريق استخدامه مرحليا لخدمة الأهداف الاستعمارية - الصليبية. ولكن (هانوتو) ومن بعده (آشيل) اختارا أسلوب الهجوم المباشر، وتسلحا بالعداء الصريح، وتصديا في مواجهة سافرة لحرب المسلمين. وإذا كان (هانوتو) قد اغتر ببصيص من الاستشراق ظنه الإشعاع الكافي الذي ينفذ به إلى أسرار الإسلام وغاياته البعيدة، يبعثرها يمنة ويسرة، في عشوائية أبعد ما تكون عن بصيرة العلم الراسخ. فإن (آشيل) قد اغتر بدوره أيضا بتلك المعرفة السطحية التي اكتسبها من خلال احتكاكه القليل بالمسلمين، ومن خلال بصره الأعشى إلى عقيدتهم

الإسلامية في الجزائر، فاعتقد في نفسه الخبرة الواسعة المخولة للتهجم عليه. وتلك وصمة الاستشراق ولا تزال، يزن المستشرق ثقافته في العربية، بميزان لغته الأصلية فتتجلى له القطرة بحرا ويزكو المأخوذ رغم ضآلته، وتبرر الوسيلة المفضوحة غايات وأطماعا استعمارية دنيئة، وينتج عن ذلك غرور بالنفس يقود إلى المنعرجات الملتوية. وإذا كان (هانوتو) و (آشيل) يحملان من الحماسة للحضارة الأوروبية الصليبية ما دفعهما للنيل من الإسلام في عقر داره، وفي مستعمرات دخلوها ظلما وعدوانا، فإن أبناء الإسلام لن يكونوا أقل منهم حماسة واستماتة في سبيل عقيدة كانت - وستبقى أبدا - الحصن الحصين لهم ضد كل تهجم دخيل. لذلك، لم يعدم (هانوتو) من يجابهه بنفس الصراحة التي هاجم بها، فكان له -الإمام محمد عبده - بالمرصاد، وكال له الصاع صاعين، في بحر ليلة واحدة كتب فيها رده. ولم يعدم (آشيل) من يرد كيده في نحره، فكان له - عبد الحميد بن باديس -. وبين الردين - رغم الفترة الزمنية الفاصلة بينهما - تجاوب أصيل، فهما ينزعان إلى نبع واحد هو الإسلام، نزوع التهجم إلى حمأة إستعمارية واحدة، ويمثلان حركة إصلاحية متكاملة، إحداهما صدى للأخرى - صدى عفوي كما سبقت الإشارة إليه - تعززها لحمة توجيهية تصلها بواسطة الكتاب أو المجلة أو الزيارة الخاطفة، توزن بما تحمل من أسرار، لا بما يتسع لها الوقت من الدقائق المعدودة، كتلك الزيارة التي قام بها الإمام محمد عبده للجزائر في سنة 1903.

غير أن الأمر الواضح - وفي هذا الموقف بالذات - أن ابن باديس كان إلى الجرأة أقرب وهو ينازل خصمه. هذا بالرغم من الحرية الفكرية التي توافرت للإمام محمد عبده، وحرم منها ابن باديس. فقد واجه الأخير (آشيل) بوجه سافر، ونشر مقالاته بإمضائه الشخصي الصريح، واضعا نفسه أمام المسؤولية مباشرة، غير متخذ من اسم (جمعية العلماء) جنة تحميه، ولا من مجلة (الشهاب) درعا يتستر وراءه. ولم يلجأ إلى انتحال أسماء مستعارة؛ في حين نشر الإمام محمد عبده مقالاته ضد (هانوتو) بإمضاء (إمام من أئمة الإسلام) ولم يأذن لصاحب جريدة (المؤيد) التي نشرت له بالتصريح باسمه. وهكذا بالنسبة لكل مقالات محمد عبده في الرد على (هانوتو) التي جمعت في كتاب على حدة ستة 1900 ونسبت إلى (عظيم من عظماء الإسلام وإمام من أئمته) وهذا ما أشار رجال الفكر في مصر. (فقد جزم أكثر أهل العلم والأدب في مصر، أن كاتب المقالات هو الإمام محمد عبده وذكروا له ذلك في مجلس خاص، وتوقعوا أن يتهلل وجهه، ولكنه فاجأهم بقوله ممتعضا: أنه لا يسوءه ويحزنه شيء كما يسوءه هذا القول، المتضمن لمنتهى ذم قومه وأهل بلده، بالجهل والعجز عن مثل هذا الرد الذي يجب أن يضطلع به أكثر أهل التعليم. ثم قال: ومن المصاب على المرء أن لا يستطيع الاستخفاء في هذا البلد الكبير، إذا ما أراد أن يظهر رأيه وأفكاره دون شخصه، إذا رأى مصلحة في ذلك). وكانت المصلحة من وجهة نظر الإمام - على ما يظهر هي الإبقاء على حركته الاصلاحية بعيدة عن سطوة القصر، وجبروت الحكم

العثماني، الذي لم يغفله بدوره، فتعرض له بنفد جارح في معرض رده على (هانوتو). أما ابن باديس، فقد عاش التجربة في الجزائر، بأقسى مما عاشها محمد عبده في مصر. فقد نازل ابن باديس عدوا مجاورا له، وملاحقا منه، يملك من السطوة والسلطة والتأييد الرسمي ما يستطيع أن يمد به يد الإساءة إليه. فلم يستنكف الشيخ عن الصراحة السافرة. ولا تقاعس عن المجابهة المباشرة. بينما كانت يد (هانوتو) في باريس تقصر عن أن تمتد إلى الشيخ محمد عبده في مصر بسوء، ولو عن طريق غير مباشر، طريق الخديوي أو المعتمد البريطاني. ... برزت بعد ذلك ظاهرة أكثر إثارة في الموضوع، فقد أقبل الشاعر أحمد شوقي على دعم الإمام محمد عبده وامتداح رده على (هانوتو). غير أن شوقي فعل كما فعل الشيخ محمد عبده، فلم يصدر قصيدته في مدح إجراء محمد عبده باسمه - وبصورة صريحة، وصدرت بعد ذلك في ديوان (الشوقيات المجهولة). وبالإضافة إلى ذلك، فقد تميزت قصيدة أحمد شوقي هذه ببرودة العاطفة، وضعف الروح الشاعرية التي اشتهر بها أمير الشعراء. وقد يكون السبب في ذلك - والذي دفعه إلى التنكر في نشر القصيدة باسمه - هو معاناته من الصراع بين الرغبة في إرضاء القصر الذي كان ينظر إلى الإمام محمد عبده بكثير من الحذر، وبين الشعور بالواجب لإنصاف الإمام والدفاع عنه ودعمه.

وعلى النقيض من ذلك فقد وقف شاعر الجزائر محمد العيد، خلف الشيخ عبد الحميد بن باديس، واشترك معه في الهجوم على آشيل بقصيدة مميزة بصدق العاطفة والإحساس النابض بالحياة. ولعل مجرد قراءة أولية للقصيدتين (¬1) كافية لتقويم موقف الرجلين من الحدث الواحد. هنا لا بد من القول: بأن طبيعة المعركة التي خاضتها الجزائر قد أكسبتها من القسوة ما انعكس على موقف بن باديس ومحمد العيد، لقد كانت معركة حياة أو موت؛ معركة حاضر ومستقبل، عاشتها الجزائر المجاهدة بكل آلامها ونوائبها ومعاناتها، فكان الموقف الرائع لابن باديس والشاعر محمد العيد. ¬

_ (¬1) انظر قراءات في آخر هذا الكتاب.

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

2 - جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومضت الأيام والشهور والسنين، بعضها آخذ برقاب بعض، والشيخ عبد الحميد بن باديس يخوض معركة المصير على كافة الجبهات، وفي كل الميادين، من صراع ضد السلطات الاستعمارية وأعوانها إلى صراع ضد الانحرافات المذهبية، ومن معركة للرد على أعداء الدين في الخارج إلى معركة أخرى ضد ظواهر الضعف والتمزق في المجتمع الجزائري المسلم، كل ذلك والحرب مستمرة على أشدها بين الطرقية التي انتقلت من مواقع الهجوم إلى مواقع الدفاع في محاولة للدفاع عن وجودها ومصالحها، غير مدركة في الحقيقة أين تكمن مصلحتها الحقيقية بعد أن أفسدها الاستعمار. وكان هذا التحول برهانا أكيدا على انتصار حركة الإصلاح الإسلامي التي كان يقودها بعزم رائع وإرادة صلبة، وايمان عميق وحجة دامغة وعلم غزير، الشيخ المجاهد عبد الحميد بن باديس، ومن وقف إلى جانبه في ساعة العسرة من المؤمنين الصادقين أمثال: العالم الجليل مبارك الميلي والشيخ الطيب العقبي والشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ العربي التبسي

والشيخ أحمد توفيق المدني وسواهم. وكانت هذه الحركة تدعو في مجموعها إلى أفكار المصلح الإسلامي الأكبر، شيخ الإسلام (ابن تيمية). واتخذت (مجلة الشهاب) شعارا لها قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه -: (لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها). اكتسبت الحركة الإصلاحية الإسلامية قدرتها وقوتها من خلال الصراع المستمر، ومن خلال تجاوزها للتحديات المتتالية، وعبر تحركها اليقظ والحذر على طريق التقدم والتطور. وهكذا فما أن مضت فترة عشرين سنة تقريبا حتى أصبحت جذور الحركة عميقة، وأصبح لها قاعدتها الصلبة وبات بالمستطاع الانتقال من التحرك الفردي إلى التحرك الجماعي المتكامل، ومن العمل السري - إذا صح التعبير - إلى العمل العلني، ومن الجهد غير المنظم إلى الجهد المنظم. وكان من نتيجة ذلك أن تداعى المخلصون المؤمنون لتدارس الموقف، فتقرر توجيه دعوة للعلماء من أجل الاجتماع في نادي (الترقي) لتحقيق هدف محدد وواضح تضمنته بطاقة الدعوة وفيها: (جمع العلماء من كل الطوائف ومن كل المذاهب الموجودة بالجزائر حتى تمثل وحدة وطنية صميمة. ومعالجة ما تجابهه البلاد من تصادم بين الفكرتين الأساسيتين وهما: الإصلاح والطرقية. فكما أن رجال الإصلاح الإسلامي يكونون ولا ريب في طليعة هؤلاء العلماء، إلا أنه يجب أن يكون ضمن العلماء أيضا رجال من الطرقية. فداخل هذه البوتقة الصالحة يجب أن ينصهر الجميع، ويخرج منها الشعب الجزائري الأصيل، شابا، صالحا، عملاقا ... إن الواجب يقضي بإقامة

من أعضاء المجلس الأول لجمعية العلماء المسلمين الجزارين الشيوخ: 1 - عبد الحميد بن باديس 2 - محمد البشير الإبراهيمي 3 - مبارك الميلي 4 - العربي التبسي 5 - إبراهيم أبو اليقظان 6 - الأمين العمودي 7 - يحيى حمودي 8 - محمد خير الدين 9 - الطيب العقبي 10 - السعيد الزاهري.

جمعية للعلماء المسلمين الجزائرين واجبها معالجة حالة المجتمع الإسلامي المهلهل في الجزائر، والذي لا تقوم قائمة البلاد إلا بإصلاحه على أسس مطهرة، مع احترام كل المذاهب وصيانة كل المبادىء التي تعارض الإسلام). لقيت الدعوة استجابة قوية وعميقة من قبل العلماء وجماهير المسلمين على السواء، كان ذلك في منتصف عام 1931، (وكانت أيام حياة جديدة، مشرقة، باسمة، تنتظر حادثا هو أسعد حوادث الجزائر وأكثرها نورا وإشراقا وسط الأعاصير والأهوال. وكان الأمر الرائع حقا هو أنه لم يدخل أي واحد من العلماء أو المدعوين أي اعتبار لرد فعل الحكومة. لقد تجاهلت فرنسا الجزائريين لمدة مائة عام - ولم تتذكرهم إلا بالسوء - فماذا لو تجاهلوها بدورهم، ولتفعل بعد ذلك ما تشاء) (¬1). اتخذ العلماء المجاهدون كافة الترتيبات لنجاح انطلاقة الجمعية في مراحلها الأولى: (فالطريق وعرة المسالك مزلقة، فإذا ما أصاب المشروع عطب في الطريق، تكون الأمة تد أصيبت بنكسة شديدة، ربما فقدت معها أملها) وعلى هذا الأساس وجهت الدعوة إلى (120) عالما من علماء الجزائر الذين اشتهروا باستقامتهم وإخلاصهم لعقيدتهم، ونقاء سيرتهم. ووافق (109) منهم على المشروع. وحدد موعد الاجتماع، ومكانه (نادي الترقي)؛ وانصرف ابن باديس والإبراهيمي والميلي والمدني لإعداد قائمة أعضاء المجلس الإداري. ¬

_ (¬1) حياة كفاح أحمد توفيق المدني - 2/ 175 و178 - 182 و186 - 188.

وعندما عرضت رئاسة المجلس على الشيخ ابن باديس، امتنع عن قبولها لأسباب خاصة. منها وجود والده وإخوته كموظفين في الإدارة الإفرنسية - غير أن إلحاح العلماء وإصرارهم على مبايعته حمله على قبول هذه الرئاسة. وجاء يوم الاجتماع، وكان يوم عيد لم تشهد الجزائر قبله عيدا لها منذ قرن من الزمن. كانت الأرواح طاهرة، والنفوس مطمئنة مؤمنة، والقلوب مفعمة بحب الخير والإصلاح. وكان الجو جو ثورة عارمة: تقوم اليوم على الإصلاح، وتقوم غدا لا محالة على السلاح. (ووقف - عبد الحميد بن باديس - عظيما، هائلا، شامخا كالطود الأشم، وقد هيمن بشخصيته الفذة وبساطته المثالية وتواضعه الجم، على ذلك الاجتماع، وقد أعجب به خصمه كما أعجب به أصحابه ومريدوه. وما هي إلا جولة من الأحاديث البسيطة والخطب الهادفة والمركزة، حتى جاء دور انتخاب الهيئة الإدارية التي صادق عليها كبار العلماء. ففازت بإجماع الحاضرين. وتمت المصادقة على القانون الأساسي بإجماع مماثل. وأصح ابن باديس رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين). هكذا نشأت (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). ولم تعرف الحكومة الإفرنسية كيف تجابه هذا الموقف الجديد، واكتفت في البداية بالإشارة إلى الحدث؛ فكتب (جون وكشان) في مجلة (فرنتيار) الباريسية يقول تعليقا على جمعية العلماء ومساعيها، بعد أن تكلم عن شخصيات ابن باديس والعقبي والإبراهيمي، ما يلي: (إن هؤلاء الثلاثة قد تعلموا بالشرق، فابن

باديس بتونس، والعقبي بالقاهرة ومكة، والإبراهيمي بتونس ودشق، وتشبعوا جميعا بفلسفة الوحدة الإسلامية فكانوا من أقطابها. إنما علينا أن نضيف إليهم الشيخ أحمد توفيق المدني - أحد قدماء الزعماء الدستوريين المليين والذي هو على علاقة متينة جدا مع الأمير الشهير شكيب أرسلان زعيم جماعة السوريين والفلسطينيين، وعدو فرنسا الألد). وكتب (شارل روبيرا) (¬1): (تأسست جمعية للعلماء المصلحين منذ سنة 1931، وضمت ثلاثة عشر عالما، من بينهم مبارك الميلي وتوفيق المدني، وهما أول من ألف في التاريخ الوطني الجزائري باللغة العربية. وهكذا ولدت الملية الجزائرية. فكتاب التاريخ الوطني الذي ألفه الشيخ المدني، وهو كتاب (الجزائر - 1931 -) الذي طبع على نفقة الأمة الجزائرية. كان كتابا يحمل على غلافه شعار جمعية العلماء، الإسلام ديننا، الجزائر وطننا، العربية لغتنا. وخلقت في الجزائر كلمات تحمل معاني جديدة في اللغة العربية، مثل كلمة وطن وكلمة الشعب وكلمة الأمة الجزائرية. وهذه الملية الجزائرية الجديدة مثلها كمثل كل الحركات الملية في بلاد الشرق الأدنى، متصلة اتصالا وثيقا بالحركة العربية الإسلامية التي انطلقت من مؤتمر القدس الأول الذي عقد سنة 1931). لم تقف الإدارة الإفرنسية في الجزائر مكتوفة اليدين أمام هذا ¬

_ (¬1) histoire de l'algérie contemporaine(CH, Robert ageron) que sais je ? no 400 p. 88

التحول، فأخذت - على عادتها - في الدس لجمعية العلماء المسلمين والكيد لها. وجاءتها فرصة مؤاتية عندما تصدى الشيخ الطيب العقبي - في درس من دروسه الأسبوعية - للهجوم على الطرق والطرقيين. وكان القاسمي والشيخ بن عليوه وهما من كبار مشايخ الطرق حاضرين، فانسحبا. وانفصل شيوخ الطرق عن الجمعية وأخذوا في العمل لتأليف جمعية (علماء السنة). واغتنمت الإدارة الاستعمارية تلك الفرصة، فعملت على مساعدة الجماعة على تنظيم جمعيتهم، وأعانتهم بواسطة رجالها على بث دعاياتهم، وما فتئت الحرب القلمية أن أعلنت شديدة قاسية بين الطرفين. تمثل جماعة العلماء فيها جريدة (المرصاد) التي كان يحررها محمد عبابسة. وتمثل جماعة المرابطين ورجال الطرق جريدتهم المعروفة (البلاغ الجزائري). وارتاحت الإدارة الإفرنسية إلى أنها تمكنت بهذه الوسيلة من خلق انشقاق خطير سيأتي على جمعية العلماء. غير أن الطبقة الواعية في (جماعة العلماء) تمكنت من (رأب الصدع) وإيقاف المهاترات و (الحرب الكلامية) ومضت على طريق العمل والبناء. جاء تأسيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) ليضع حدا فاصلا وحاسما بين ماضي الجزائر، وهي تحت النير الاستعماري، وبين حاضرها الذي أشرق زاهيا في ميدان النهضة الإسلامية -العربية. ولقد كان ذلك الحاضر الجديد هو الأساس الراسخ المتين الذي بني عليه المستقبل، مستقبل الجزائر تحت راية الحرية والاستقلال، وبسيل من دماء المجاهدين الأبرار وقوافل الشهداء الأخيار.

كان تأسيس جمعية العلماء حدثا تاريخيا لأنه عمل على تنظيم تيار جارب أمكن له تغيير أوضاع الجزائر دينيا وعلميا وأخلاقيا واجتماعيا. وكانت تبث في كل وسط وفي كل مكان، روح الإيمان الخالص والوطنية الحقة وأخلاق الفضيلة والرجولة الكاملة. فتبعث في نفس المسلم الجزائري كل ما حفل به الإسلام من فضائل معنوية تدفع إلى العزة بالله والقوة بالاعتصام بدينه الحق. وانتهت، بتأثير جمعية العلماء، كل نظريات الاستعمار بشأن التجنس ونبذ الدين وأحكامه مقابل الحصول على حقوق وهمية. وانقاد النواب السياسيون - طوعا أو كرها - إلى ما أصبح يطلق عليه شعار (الحصول على الحقوق الإفرنسية، دون التنازل عن الحالة الشخصية الإسلامية). وتحول هؤلاء النواب السياسيون، فبعد أن كانوا حتى الأمس من دعاة التجنس بالجنسية الإفرنسية - التفرنس - باتوا اليوم وهم يرفعون مطالبهم الفردية والجماعية باستقلال الدين الإسلامي عن الحكومة. وبإدخال اللغة العربية بصفة إلزامية - إجبارية - ضمن المناهج الدراسية. وتعاظم الوعي الديني في أوساط الجماهير. وأحبطت أساليب الطرقية وبدعها وأساطيرها. واتجه التيار الإسلامي نحو فهم الدين فهما حقيقيا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وظهرت في الجزائر من جديد الأخوة الحقيقية التي تربط المسلم بأخيه المسلم. وتوثقت عرى أخوة الإصلاح الإسلامي الذي شاركت فيه كل العناصر، واعتنقته كل الطبقات في كل الحواضر والبوادي. ***

جانب من قاعة النادي أثناء اجتماع العلماء المسلمين في الجلسة الأولى: 1 - مبارك الميلي 2 - عبد القادر بن زيان 3 - العربي التبسي 4 - الأمين العمودي 5 - عبد الحميد بن باديس 6 - الطيب العقبي 7 - محمد سعيد آيت جر 8 - محمد خير الدين 9 - السعيد الزاهري 10 - يحيى حمودي 11 - عبد اللطيف سلطاني 12 - الجيلالي الفارسي

بات من المحال فصل الدين عن السياسة. فالمطالب السياسية تعبير عن تطلعات الجماهير. والجماهير تعتمد في قاعدتها على العقيدة الإسلامية وعلى العروبة، والسلطة الإفرنسية تلقي بكل ثقلها لمحاربة الإسلام والعروبة. وكان لا بد في النهاية من حدوث الصدام الذي تم التعبير عنه باسقالة (950) نائبا جزائريا مسلما بصورة إجماعية من كل المجالس البلدية والمالية والنيابية التي يشغلونها، ووقف الاستعماريون الإفرنسيون لمواجهة التيار وشعارهم: (إن كل ما يناله المسلم الجزائري ينتقص من حقنا. فالجزائري محكوم. وعليه أن يطيع النظام). وعلى أثر ذلك، جاء وزير الداخلية الإفرنسي - رينيه - لزيارة الجزائر (¬1). وضرب المستوطنون والإدارة الإفرنسية نطاقا حوله، فلم يسمحوا له الاتصال بممثلي الجزائر، وأوهموه أن الجزائر تسير على طريق الثورة. فطرح مقولته: (الأمن قبل كل شيء). وعاد إلى فرنسا بعد أن أصدر قانونا زاجرا يستطيع أن يلهب جلد كل مجاهد جزائري، مهما كان لونه، بسوط من حديد. وأخذت وطأة الإرهاب تتزايد ثقلا وشدة، وأخذ العنف يزداد غلوا كلما أمعن المسلمون في الشكاية. وجاءت سنة 1936، ونجح في الانتخابات الإفرنسية تكتل الشمال الذي ضم الراديكاليين والشيوعيين والاشتراكيين. وتشكلت (حكومة الجبهة الشعبية) برئاسة (ليون بلوم). قابل المسلمون ذلك بحركة شعبية واسعة، وعقدوا مجموعة من ¬

_ (¬1) جرت هذه الزيارة في صيف سنة 1935.

اللقاءات والاجتماعات انتهت باتخاذ قرار لعقد مؤتمر عام لأول مرة في تاريخ الجزائر، يضم النواب كافة والشيوعيين ومناضليهم والمسلمين ومجاهديهم وجماعة من العلماء باسمهم الخاص، لا بصفتهم أعضاء بجمعية العلماء. وتبنى النواب أمام هذا الإجماع الرابع مطالب (جمعية العلماء). واجتمع المؤتمر يوم 7 حزيران - يونيو - 1936. وتقرر بالإجماع إسناد الرئاسة للشيخ - عبد الحميد ابن باديس - احتماء بمركزه الديني وقيمته العلمية وسمعته العالمية. ثم طرحت المشاريع، واتفق الجميع على أن تكون المطاب كالتالي: 1 - إلغاء كل القوانين والقرارات الاستثنائية بالجزائر. 2 - إلغاء الولاية العامة للجزائر، وأن تكون الجزائر تابعة لفرنسا مباشرة. 3 - أن تكون الهيئة الانتخابية بالجزائر واحدة، يشترك فيها المسلمون والأوروبيون، (وبذلك تكون النسبة الكبرى للمسلمين وفقا لعددهم). 4 - أن يكون للمسلمين الجزائريين نوابهم الذين يمثلونهم بالبرلمان الإفرنسي - بباريس. 5 - أن يكون الجزائريون فرنسيين بصفة تامة، مع بقائهم متمتعين بالحقوق الشخصية الإسلامية. 6 - الإستقلال التام للدين الإسلامي، كاستقلال الأديان الأخرى، والإنفاق عليه من أموال الأوقاف المسترجعة التي

اغتصبتها فرنسا منذ أوائل عهد الاحتلال. 7 - اعتبار اللغة العربية لغة دراسة بالمدارس الجزائرية. كما تقرر إرسال وفد كبير لباريس. يتدارس مع حكومتها هذه المطالب، وفي الوفد رجال الشعب من علماء ونواب ومفكرين، برئاسة عبد الحميد بن باديس. ***

مدافع الله ونهاية رحلة العمر

3 - مدافع الله ونهاية رحلة العمر سافر الوفد الوطني الجزائري برئاسة عبد الحميد بن باديس إلى فرنسا، ليطلب من حكومة (دلادييه) تنفيذ مرسوم 27 أيلول - سبتمبر - 1907، القاضي بفصل الدين عن الدولة، بالإضافة إلى بقية المطالب التي سبق عرضها. وجرت مناقشات في هذا الصدد أظهر فيها الشيخ عبد الحميد تمسكه بما تم الاتفاق عليه من مطالب - تمثل الحد الأدنى لتطلعات الجزائريين المسلمين. وعندئذ حاول (دلاديه) إرهاب الشيخ عبد الحميد، فقال له: (لدى فرنسا مدافع طويلة) فرد عليه الشيخ عبد الحميد: (يوجد لدينا مدافع أطول). وعندما تساءل (دلادييه) عن نوع المدافع ااتي يملكها الجزائريون، أجابه ابن باديس بكل حزم ورباطة جأش: (إنها مدافع الله). وبعد ذلك، تدخل (ليون بلوم) فاقترح مقابل مطالب المسلمين المرفوضة، توسيع دائرة الناخبين الجزائريين ضمن الهيئة الانتخابية الإفرنسية بالجزائر، وذلك بإدخال (21) ألفا من النخبة

ضمن الإفرنسيين الذين كان عددهم (202,750) ناخبا. لكن النواب الإفرنسيين احتجوا وأعلنوا أنهم يستقيلون جميعا إذا ما تم هذا الإجراء. وتبعهم عمداء المدن (محافظوها) فأعلنوا مثل ذلك. وتمخض جبل الحكومة الإفرنسية عن ولادة فأر هزيل: رفع عدد نواب المسلمين بمجلس النيابات المالية من 21 نائبا مسلما، إلى 24 نائبا مسلما مقابل (48) نائبا فرنسيا. وقال (مسيو سارو) وزير الداخلية الإفرنسي، تعليقا على تهديد المستعمرين: (أشهد أنه ليس لهؤلاء السادة لا وطنية ولا ضمير ولا فكر). عاد الوفد الجزائري إلى الجزائر وهو يحمل خيبة أمل مريرة، وأنشد عبد الحميد قصيدته الرائعة: شعب الجزائر مسلم ... وإلى العروبة ينتسب ومضى الشيخ عبد الحميد في توجيه قادة الجزائر وشبابها نحو المخرج الحقيقي: (لا تتغير السياسة الاستعمارية بالجزائر، عن طريق وفود تذهب إلى فرنسا، ولا بلجان تبعثها الحكومة العليا - حكومة باريس - إلى الجزائر. ذلك أن حكومة الجزائر الاستعمارية أقوى من حكومة فرنسا ذاتها هنا ... فلا تغيير لوضع تريد بقاءه في الجزائر. فالوفود إذن لا تستطيع أن تغير شيئا، ولكن الشعب الجزائري هو الذي يستطيع أن يغير كل شيء، ومتى نفض الشعب عن نفسه غبار الجهل والغفلة، وأدرك وجوب تسيير شؤونه بنفسه، وأخذ يضع كل شيء موضعه، لم يجد أين يضع الاستعمار إلا حيث توضع الأطمار البالية).

واستمر عبد الحميد في نفخ رماد الحرية، مرددا مقولته المعبرة عن استيائه من أن يرى الاستعماريين وهم يحتفلون كل عام بعيد حريتهم (عيد الثورة الإفرنسية 14 تموز - يوليو 1789) لا في فرنسا وحدها، وإنما في كل وطن تستعمره فرنسا. في حين كان وطنه ومواطنوه محرومين من هذه الحرية، فكانت مقولته الرائعة: (أيتها الحرية المحبوبة! يا من تحتفل بأعيادك الأمم، وتنصب لتمجيدك التماثيل، ويتشادق بأمجادك الخطباء، ويتغنى بمحاسنك الشعراء، ويتفنن في مجاليك الكتاب، ويتهالك من أجلك الأبطال، وتسفك في سبيلك الدماء، وتدك لسراحك القلاع والمعاقل، ولكن أين أنت في هذا الوجود؟ كم من أمم تحتفل بعيدك وقد وضعت نير العبودية على أمم وأمم ... وكم من قوم نصبوا لك التماثيل في الأرض وقد هدموك في القلوب والعقول والنفوس، فأين أنت أيتها الحرية المحبوبة في هذا الورى؟ أنت أنت الحقيقة الخفية، خفاء حقيقة الكهرباء. أنت أنت الروح السارية في عالم الأحياء. ولئن خفيت بذاتك، فقد تجليت على منصة الطبيعة في بسائط الأرض وأجزاء السماء. فأبصرتك عيون اكتحلت بأثمد الحقيقة. واقتبست منك عقول صقلت بالعرفان. واحتضنتك صدور أنيرت بالإيمان، وتذوقتك نفوس ما عبدت إلا الله، وخدمك قوم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .. آه .. آه .. أيتها الحرية المحبوبة. واشوقاه إليك، بل واشوقي إليهم - حملة الحرية - المحيا محياهم، والممات مماتهم، أنقذ الله بهم بلادك وأحيا عبادك. إننا أعداء أعداء الحرية، وأحباب أحبابها، سواء كانوا من أهل البرانيط، أو من

ـ[كانوا من أهل البرانيط، أو من]ـ أهل البرانيس) (¬1). إنها دعوة إلى الثورة، ونداء إلى حمل السلاح والاحتكام إليه. غير أن الدعوة مفتوحة، والنداء مؤجل. فلا زالت أرضية الثورة غضة، ولا زالت ظروفها الدولية والمحلية غير مؤاتية. وإذن فليستمر العمل لإنضاج الثورة على نار هادئة. وهذه النار الهادئة هي تطوير الفكر الثوري بالعلم والمعرفة، حتى لا تضيع التضحيات سدى، وحتى لا تسيل الدماء هدرا. وعلى هذا يمضي ابن باديس، محددا للمفاهيم الصحيحة، مقوما للأفكار الخاطئة، مهاجما للآراء المستوردة أو المدسوسة والتي يمكن لها تشويه البناء الثوري. ويتحدث ابن باديس عن (العروبة) فيلمس فيها المقومات التي تهبها الخلود، مهما تلبدت الظروف السياسية من حولها، واختلف العرق بالمنضوين تحت لوائها. العروبة جوهر خالد، قابل للانبعاث، باعث للأمل. العروبة حقيقة تطفو فوق الملابسات المضللة أو تزييف المستعمر. العروبة نهاية المطاف، مهما طال الشوط، وغاية الغايات مهما تصارعت الوسائل. إن الظروف العصيبة التي عاشتها الجزائر، فكادت تطمس فيها معالم الإسلام والعروبة، لم تزد المصلح الكبير - وهو يعيشها - إلا تعلقا بالمرامي البعيدة التي تعامى عنها الدخيل. وإيمانا بالغد العربي الأكبر الذي كفر به المستعمر، وكاد يكفر به المواطن. ¬

_ (¬1) جريدة (المقاومة الجزائرية) نيسان - أبريل - 1957.

(العرقية) التي يذكيها المستعمر في كل شبر عربي ليمزق بها العروبة والإسلام. (الطائفية) التي يغذيها ليغذي بصراعها وجوده وتسلطه، هي ذاتها التي ينطلق منها - ابن باديس - حجة على المستعمر وفلسفته، ومنها ذاتها يصبغ العروبة بصبغتها الأصيلة التي تتنزه عن العرقية وتتعالى على الطائفية - وها هو يقول: (تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد، وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد. فليس الذي يكون الأمة، ويربط أجزاءها، ويوحد شعورها، ويوجهها إلى غايتها، هو هبوطها من سلالة واحدة. وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد. ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان. وشاهدت ما بينهما من اختلاف نظر، وتباعد تفكير، ثم وضعت شاميا وجزائريا - مثلا - ينطبقان باللسان العربي، ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب في ذلك كله، لو فعلت هذا لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم - قالها سنة 1936). ولا يذهب - ابن باديس - بعيدا في التماس الحجة وإثبات الدليل، فراقع المستعمر حجة عليه: (وإذا نظرت إلى كثير من الأمم الأوروبية اليوم، وفي مقدمتها فرنسا، فإنك تجدها خليطا من دماء كثيرة، ولم يمنعها ذلك من أن تكون أمة واحدة لاتحادها فيما تتكون به الأمم - سنة 1938). والمصلح العربي الجزائري، يستمد تأييده للعروبة من منابعها الأصيلة، ويستلهم فيها رسولها محمد صلى الله عليه وسلم، ويلتزم بذلك في الحديث النبوي

الذي ربط العروبة بالدين واللغة: (أيها الناس، الرب واحد، والأب واحد، والدين واحد، وليست العروبة بأحدكم من أب ولا أم، ولكنها اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي). وما كانت هذه الصرخة التي انبرى لها رسول الله، مغضبا يجر رداءه، ونادى لها (الصلاة جامعة) إلا ردا حاسما على التطرف العرقي في (قيس بن مطاطيه) الذي أراد حرمان سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي من شرف العروبة - فيضيف - ابن باديس - قوله: (كون رسول الإنسانية، ورجل القومية العربية أمته هذا التكوين المحكم العظيم، ووجهها لتقوم للإسلام والبشرية بذلك العمل الجليل. فلم يكونها لتستولي على الأمم، ولكن لتنقذهم من سلطة المستولين على مقدرات العباد باسم الملك أو باسم الدين. ولم يكونها لتستخدم الأمم في مصالحها، ولكن لتنهض بهم من دركات الجهل والذل والفساد إلى درجات العز والصلاح والكرامة. وبالجملة لم يكونهم لأنفسهم بل للبشرية جمعاء). ويعود ابن باديس، فيطلق لسانه بالدعاء الصاعد من أعماق نفسه، مبتهلا الله في أن يحييه لخدمة العروبة، وأن يميته في خدمتها، مقتفيا بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: (هذا هو رسول الإنسانية، ورجل القومية العربية، الذي نهتدي بهديه، ونخدم القومية العربية خدمته، ونوجهها توجيهه، ونحيا لها ونموت عليها، وإن جهل الجاهلون وخدع المخدوعون واضطرب المضطربون - سنة 1936).

ركز الاستعمار الإفرنسي هجومه على اللغة العربية لضرب المسلمين بعضهم ببعض، وعزل الذين يتحدثون اللغة البربرية - المازيغية - واتخاذهم بطانة له وأعوانا لتنفيذ سياسته - وقد سبق عرض هذه السياسة بشيء من الإسهاب -. وتصدى - ابن باديس - لهذه الحملة الفاسدة المفسدة، ودأب عمره، يصل الليل بالنهار لبعث الجزائر العربية المسلمة. وقد دخل الميدان الإصلاحي والإسلام ضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، والعروبة لا يكاد يرتفع لها صوت في ديار الجزائر. فرابط في واجهته (بالجامع الأخضر) مرابطة الجندي المجهول. وآمن بالأبعاد التي عشيت عنها فلاسفة الاستعمار، حتى أعاد شعبه إلى سواء السبيل، وأنقذه في الوقت المناسب، مما كان يراد له من تشتت وفناء، وقال في ذلك: (لو جئنا - شعبنا - بعد عشرين سنة لما أدركنا فيه قابلية للعلاج. ولكن الله أراد خيرا بهذا الشعب، بعث فيه من آمن بنشوره، بعد إيمان الكثير بموته). لقد كان - ابن باديس - على موعد مع قدره، وكان قدره هو قدر شعبه، فمضى بجولته من الصفر، بل من الصفر المركب. فلم يكن هناك كفر، ولكن إسلام مشوه. لم يكن هناك جهل فحسب، بل ثقافة دخيلة مسمومة. لم يكن هناك شعب ألقى حبله على غاربه. ولكن، كان هناك الشباب الجاهل فقط، الشباب المشوه الثقافة واللسان، المفصول عن تاريخه وحضارته، والمتصل - بانقطاع تاريخي - مع الرومان والغول أجداد الإفرنسيين. مما كان يروجه دهاقنة الاستعمار ومبشروه. فوقف ابن باديس يؤكد أصالة الجزائر في عروبتها، وأصالة العروبة في

جزائر المسلمين، وأطلق مقولته: (لقد تعربت الأمة الجزائرية تعربا طبيعيا، اختياريا، صادقا، فهي في تعربها نظيرة إسماعيل جد العرب الحجازيين. فقد كان من العرب لما شب في مهدهم ونطق بلسانهم، وتزوج منهم، وليس تكون الأمة بمتوقف على اتحاد دمها. ولكنه متوقف على اتحاد قلوبها وأرواحها وعقولها، اتحادا يظهر في وحدة اللسان وآدابه واشتراك الآلام والآمال) سنة 1938. تلك هي الأرض الصلدة التي نهض لها - ابن باديس - يبذر فيها بذور الخصوبة والنماء، وذلك هو المسلك الوعر الذي شق فيه طريقه، وتلك هي نقطة الانطلاق لنهضة، ابتدأت بذرة في أرض موات، فغدت أصلها ثابت وفرعها في السماء. ابتدأت حبوة علمية في (جامع سيدي قموش) وانتهت احتفالا شعبيا بختم تفسير القرآن الكريم في (كلية الشعب) بقسنطينة. وابن باديس، متمسك في مسيرته الشاقة بثلاث دوائر متداخلة متشابكة لا تعرف الانفصام ولا التجزئة، ولا تكتمل الصورة إلا بها جميعا، ودون طغيان من إحدى هذه الدوائر على الدوائر الأخرى، أو توسع بعضها على حساب البعض الآخر، وهذه الدوائر هي: الجزائر والعروبة والغسلام (أو بترتيب معاكس سيان في ذلك طالما أنه ضمن تحقيق التوازن فيها). فهو إذ يقيم نهضته، يقيمها بمقدار ما أعطى لهذه الدوائر الثلاث من تلاحم ثابت ودائم. و (عروبة الجزائر) عند باعث نهضتها، ليست عروبة خطابة أو تهريج، أو حماسة جوفاء، إنه وهو يذكيها بأنفاسه الملتهبة، ويرويها من عرقه المتصبب

ويرعاها العشرات من السنين، يعطيها من الدراسة النظرية حقها، ويستمد لها من التاريخ العميق أصالتها. ويواجه أعداءها المتنكرين أو الناكرين لها، مواجهة الحجة بالحجة، ويقف من عروبة الجزائر موقفه من العروبة عامة. لا ينكر ما أثبته التاريخ من - أصل مازيغي - لسكان الجزائر القدماء. لأن العروبة الإسلامية فوق السلالات: (ما من نكير أن الأمة الجزائرية كانت مازيغية من قديم عهدها، وأن أمة من الأمم التي اتصلت بها، ما استطاعت أن تقلبها عن كيانها، ولا أن تخرج بها عن مازيغيتها أو تدمجها في عنصرها وفي عصر ظهورها، بل كانت هي التي تبتلع الفاتحين فينقلبون إليها، ويصبحون كسائر أبنائها ... فلما جاء العرب وفتحوا الجزائر فتحا إسلاميا لنشر الهداية لا لبسط السيادة، دخل الأمازيغ من أبناء الوطن في الإسلام، وتعلموا لغة الإسلام العربية، طائعين، فوجدوا أبواب التقدم في الحياة كلها مفتحة في وجوههم، فامتزجوا بالمصاهرة. وثافنوهم في العلم، وشاطروهم سياسة الملك وقيادة الجيوش. وقاسموهم كل مرافق الحياة، فأقام الجميع صرح الحضارة الإسلامية، يعربون عنها، وينشرون لواءها بلغة واحدة هي: لغة القرآن. فاتحدوا في العقيدة والنحلة، كما اتحدوا في الأدب واللغة. فأصبحوا شعبا عربيا واحدا، متحدا غاية الاتحاد، وممتزجا غاية الامتزاج، وأي افتراق يبقى بعد أن اتحد الفؤاد، واتحد اللسان: لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم تبق إلا صورة اللحم والدم

واليوم، فإن اللغة العربية والآداب العربية هي لسان الأمة الجزائرية كلها، لا يجهلها إلا عدد قليل من المنقطعين في بعض رؤوس الجبال. ولا تستعمل اللغة المازيغية إلا في بعض النواحي القليلة استعمالا شفاهيا محليا. ثم اللغة العربية هناك لغة الكتابة والخطابة والتعليم والتخاطب العام. ولو رأيت (الجامع الأخضر) في قسنطينة، لرأيت أبناء الجزائر من جميع جهاتها، وفيهم من يتقنون المازيغية، يتزاحمون على مناهل العربية العذبة، ويتسابقون إلى الفوز في ميادين بيانها الفسيحة، ويتعاونون على بناء صرحها، ورفع منارها، ويستعذبون في سبيل المحافظة على تراثهم منها كل مر. ويستسهلون في سبيل تبليغه لغيرهم كل صعب. لو رأيت هذا لعرفت كيف كانت هذه الأمة الجزائرية أمة عربية واحدة، فحكمت بالجهل المطبق، أو الكيد المحقق على كل من يقول فيها غير ذلك). ويستمد - ابن باديس - الحجة التي تبكت المستعمر، من واقع المستعمر ذاته، ليدحض دعوى البربرية التي تحدوه، ويشنع عليه احتجاجه بحالة في الجزائر، وتغافله عن مثيلة لها في فرنسا. فيفضح فيه التزييف المتعامي، والمغالطة المضللة: (تشكل فرنسا أمة واحدة ... وعلى الرغم من ذلك، فإنك تجد في قرى من دواخل فرنسا وأعالي جبالها، من لا يحسن اللغة الإفرنسية، ولم يمنع ذلك القليل - نظرا للأكثرية - من أن تكون فرنسا أمة واحدة. وهذه الحقيقة الموجودة في فرنسا، يتعامى الغلاة المستعمرون

عنها هنا في الجزائر. ويحاولون، بوجود اللغة المازيغية في بعض الجهات وجودا محليا، وجهل عدد قليل جدا بالعربية في رؤوس بعض الجبال، أن يشككوا في الوحدة العربية للأمة الجزائرية، التي كونتها القرون وشيدتها الأجيال - سنة 1938). ولم يتجن - ابن باديس - بقوله هذا على الواقع الجزائري، بل نقله نقلا أمينا صادقا، فلم تفرض اللغة العربية على الناطقين بالمازيغية. ولكنها نبعت من قلوبهم، وفجرها الإسلام، فلا بدعة أن يقف الفتى الزواوي - با عزيز بن عمر - ليقول عن العروبة: (وإننا لنشعر من قبل ومن بعد، بدم العروبة يجري في عروقنا، وهو صاف لم يمازجه كدر وإن اختلف المظهر. ونسمع صوتها الحنون يرن في آذاننا. فنفتح له الطريق إلى قلوبنا وأعماقنا. فالعربية حية فينا. ونحن أحياء فيها ما دامت السموات والأرض). إن (عروبة الجزائر عروبة تاريخ وحضارة، لها أيامها المجيدة، ودولها العريقة، ولن يقوم أمر الوطن الجزائري اإلا بها، و - ابن باديس - حين يذكر هذا التاريخ، إنما يحدو شعبه إلى مستقبل أفضل يستمد عراقته وأصالته من التاريخ العربي لهذا الوطن: (لبس أبناء الجزائر العروبة، وامتزجت بأرواحهم، وتغلغلت في قلوبهم، وأشرقت شمس معارفها في آفاق أفكارهم، وجرت ينابيع بيانها على أسلات ألسنتهم، فأصبحوا ومنهم فيها علماء وخطباء وشعراء، ولهم منها جنود وقواد وأمراء. وحسبك من كثرتهم القائد الفاتح والخطيب المصقع - طارق بن زياد - ثم ما قامت مملكة من أبناء الوطن إلا وهي عربية في كل شيء. مثل

سائر الممالك العربية في المشرق، بل فوق بعضها - سنة 1938). كان من عادة - ابن باديس - التي عرفت عنه، أنه يحتفظ بالكلمة الفاصلة لليوم الحاسم، ويخفي سرها في صدره، ويطيل الصمت. فإذا نطق، قطعت جهينة قول كل خطيب. يقف من الأحداث موقف المتتبع الصامت، حتى إذا بلغت ذروة التعقيد والتشابك، وأصبح الموقف موقف مصير، صدع بقولة الحق التي تسمو فوق كل الاعتبارات. وقد ظهر منه هذا الموقف سنة 1938، عندما احتدم صدام فكري قومي بين الأمير شكيب أرسلان وسليمان باشا الباروني في قضية (الوحدة العربية). فتدخل - ابن باديس - وأسفر مرة أخرى عن وجه عربي صميم، فقال القول الفصل في القضية، وتجرأ به في دنيا التضليل والتهريج، وعالم من الجبن والاستكانة. هكذا كان شأنه في القضية المصيرية. وأضافها للتاريخ وقفة بطولية، أبان فيها رأي الخبير بواقع العالم العربي. وأفصح عن القول الجريء: (إن دولا لا تسوس نفسها بنفسها، ولا تشق طريقها على ضوء مصلحتها، لا يمكن تصور وحدة عربية بينها. إن الوحدة السياسية لا تكون إلا بين شعوب تسوس نفسها. فتضع خطة واحدة تسير عليها في علاقاتها مع غيرها من الأمم: وتتعاقد على تنفيذها، وتكون كلها في تنفيذها والدفاع عنها يدا واحدة، فهي مقتدرة على الدفاع عنها، كما كانت حرة في وضعها. وأما الأمم المغلوبة على أمرها. فهي لا تستطيع أن تضع أمرا لنفسها، فكيف تستطيع أن تضعه لغيرها؟ ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، فكيف تستطيع أن تدافع عما تقرره

مع غيرها؟ وإذا لم تستطع أن تعتمد على نفسها في داخليتها فكيف يعتمد عليها في خارجيتها. فالوحدة السياسية بين هذه الأمم، أمر غير ممكن، ولا معقول، ولا مقبول). وابن باديس مؤمن (بالرابطة القومية) الخالدة قدر إيمانه باستحالة تحقيق (الوحدة السياسية) بين شعوب لا تملك أمر نفسها، وهو إذ يقف هذا الموقف المزدوج، إنما يبصر الشعب العربي بواقعه السياسي المؤلم الذي يقف حجر عثرة في سبيل إعطاء الوحدة الأصيلة مظهرا سياسيا، وفي إنكار - ابن باديس - لهذا الواقع، دعوة صارخة للثورة عليه، والملاقاة على صعيد الروابط العربية الثابتة والدائمة: (هذه الأمة العربية، تربط بينها - زيادة على رابطة اللغة - رابطة الجنس، ورابطة التاريخ، ورابطة الألم، ورابطة الأمل، فالوحدة القومية الأدبية متحققة بينها ولا محالة). ويقف عبد الحميد بن باديس في سنة 1938 وقفة القائد العسكري الذي خاض معركته وانتهى منها، وأخذ في إعادة استخلاص الدروس المستفادة من الصراع السابق، استعدادا للجولة التالية. وينتهي - ابن باديس - من إعادة تقويم الموقف ليقول (... ما اليوم - سنة 1938 - فقد تأسست في الوطن كله جمعيات ومدارس ونواد باسم الشباب والشبيبة والشبان، ولا تجد شابا - إلا نادرا - إلا وهو منخرط في مؤسسة من تلك المؤسسات، وشعار الجميع الإسلام، العروبة، الجزائر ... لقد نفضت الأمة عن رأسها اليوم غبار الذل. وأخذت تنازل وتناضل وتدافع

وتعارض، وشعرت بوحدتها، فأخذت تطرح تلك الفوارق الباطلة وتتحلى بحلل الأخوة الحقة، وتنضوي أفواجا أفواجا تحت راية الإسلام والعروبة والجزائر. لقد شعرت الأمة بذاتيتها اليوم، وعرفت هذه القطعة من الأرض التي خلقها الله منها، ومنحها لها، وأنها هي ربتها، وصاحبة الحق الشرعي والطبيعي فيها، سواء اعترف لها به من اعترف، أم جحده من جحد. وأصبحت كلمة الوطن، إذا رنت في الآذان، حركت أوتار القلوب، وهزت النفوس هزا). وعرف الشيخ عبد الحميد خطورة المخطط الاستعماري، لعزل أقطار الوطن العربي - الإسلامي بعضها عن بعض، وإشغال كل قطر بهمومه ومتاعبه عن هموم إخوانه المسلمين ومتاعبهم في الأقطار الأخرى. وعلى الرغم من أن هموم الجزائر المجاهدة - في تلك الحقبة التاريخية بالذات - قد تجاوزت في حجمها وأبعادها كل ما كان يعانيه كل قطر عربي - إسلامي، إلا أن عبد الحميد يتجاوز هذا الواقع في تطلعاته نحو المستقبل ويكتب كلمة عتاب قد تجرح برقتها وعمقها بأكثر مما تفعله السيوف، وكان في عتابه: (مضت حقبة من الدهر كاد فيها الشرق العربي أن ينسى هذا المغرب العربي). وإلى عهد قريب كانت صحافة الشرق - غالبا - لا تذكره إلا كما تذكر قطعة من أواسط أفريقيا. في هذه الأيام يغمط حقه، ويتجاهل وجوده في كتب لها قيمتها، مثل كتاب (ضحى الإسلام) وغيره. ولكن هذا المغرب العربي، رغم التجاهل والتناسي من إخوانه المشارقة، كان يبعث من أبنائه من رجال السيف والقلم من يذكرون به ويشيدون باسمه،

ويلفتون نظر إخوانه المشارقة إلى ما فيه من معادن للعلم والفضيلة ومنابت للعز والرجولة. ومعاقل للعروبة والإسلام) (¬1). ... كل ذلك (وجمعية العلماء المسلمين) ماضية قدما إلى الأمام بفضل توجيه رئيسها الشيخ - ابن باديس - وذلك لتنفيذ أهدافها الواضحة، وأبرزها: أولا: تطهير الدين الإسلامي مما ألحق به الاستعمار من خرافات وبدع، وإيقاد شعلته الوضاءة التي بذل الاستعمار لإخمادها كل جهد مستطاع. ولم يتورع عن اقتراف أفظع الجرائم لإطفاء هذا النور الإلهي - ويأبى الله إلا أن يتم نوره -. ثانيا: بعث اللغة العربية وإحياؤها بعد أن جد الاستعمار لوأدها ودفن حضارتها. ثالثا: العمل بصورة سرية - حتى لا تتعرض الجمعية للملاحقات البوليسية التي تشل نشاطها - وذلك من أجل خلق تيار تحرري، والوقوف جنبا إلى جنب مع الأحزاب الوطنية المنادية بالاستقلال والسيادة. ويبرز هذا الهدف في مقولة ابن باديس: (إن الدولة الجزائرية لم تزل حية طالما أنها محافظة على دينها ولغتها) (¬2). نشأ بنتيجة ذلك صراع عنيف بين جمعية العلماء من جهة، ¬

_ (¬1) صفحات من الجزائر. (الدكتور صالح خرفي) ص 79 - 91 و 334 - 335. (¬2) الثورة الجزائرية (أحمد الخطيب) ص 122 - 127.

والاستعمار الإفرنسي ومبشريه وبعض الزوايا والطرقيين من جهة أخرى - كما سبقت الإشارة إليه -. وتطور هذا الصراع بعدئذ، ولجأت الإدارة الإفرنسية إلى استخدام كل ما تختزنه من أسلحة الدس والغدر. فأخذت في تحريض الطرقيين وأصحاب الزوايا (كالعلويين والشاذليين والقادريين) على جمعية العلماء وأتباعها، مخوفة إياهم من السير في ركابها، لأن مبادءهم ستطيح حتما بمراكزهم الدينية القائمة على التزييف والباطل، وستقطع عنهم الزيارات التي تتوقف عليها رفاهيتهم، وصورت لشيوخ هذه الطرق والزوايا كيف أن موارد عيشهم، ومصادر رفاهيتهم ستزول إذا انتصرت مبادىء جمعية العلماء الإصلاحية. وزينت لهؤلاء الشيوخ فضائل مقاومتهم لهذه الجمعية الناشئة، واصفة علماءها وأتباعها بالكفر - الزندقة - لأنهم لا يقيمون الولائم العامة - أوكار الدعاية الاستعمارية المسماة بالوعادي - ولأنهم لا يزورون الأولياء. وهذا وتر حساس أجاد الاستعمار في بادىء الأمر الضرب عليه لأن الجزائريين لهم تعلق كبير بالأولياء، حتى إنهم أصبحوا يقيمون على قبر كل رجل صالح قبة، ويولمون على روحه الولائم السنوية. ويقصده الزوار من كل مكان ملتمسين بواسطته الخير والبركة. وأخذ الاستعمار - داخل نطاق سياسته التضليلية - بالإساءة إلى سمعة الأولياء الصالحين. فراح يختلق الأكاذيب والبدع. مدعيا أن (الولي فلان) يحيي الموتى، ودخل من يشاء إلى الجنة. وأن (وليا آخر) يختص بشفاء المرضى ... وهكذا دواليك .. وكان هدف الدوائر الاستعمارية من ذلك (تأليه أصحاب

القبب). وتضليل المسلمين الجزائريين عن جوهر دينهم حتى يسهل تنصيرهم بعد أن يصور لهم أن الإسلام عبارة عن (دين خرافي). وأسرعت جمعية العلماء لمعالجة الموقف قبل فوات الأوان. فراح علماؤهم يخطبون في الناس هادينهم سواء السبيل، موضحين لهم مبادىء الجمعية التي ما أنشئت إلا للمحافظة على الدين القويم، وحمايته من البدع والأساطير التي ألحقها به المستعمرون الإفرنسيون لأغراض خبيثة في نفوسهم. واشتد الصراع حين شعر أفراد من الشعب بفداحة الخطر الداهم على دينهم، إذا لم يأخذوا بيد العلماء الأحرار، ويعملوا على دعمهم. وعرفت الإدارة الاستعمارية أن شوكة العلماء وجمعيتهم تتزايد قوة يوما بعد يوم، وأن مواعظهم تجد آذانا صاغية لدى جماهير الشعب. فأصدر سكرتير الأمن العام في الجزائر - ميشيل - تعليماته المشددة (لمراقبة جمعية العلماء مراقبة دقيقة) و (حرم في هذه التعليمات على غير الإمام أو المفتي المعين من الإدارة الخطبة في الجامع) وحتى يشرف بنفسه على تنفيذ هذه الأوامر، عين نفسه (رئيسا للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية). وبدأ أفراد الشعب يصحون من سباتهم العميق وينضوون تحت لواء جمعية العلماء الآخذ في اكتساح البلاد. ازداد عويل الاستعمار. وكثرت ضغائنه وأحقاده، ولم يحجم عن تدبير مؤامرة لاغتيال رئيس الجمعية - الشيخ عبد الحميد بن باديس -. وتعهد بتنفيذ هذه المؤامرة أتباع العلويين إلا أن هذه المؤامرة باءت بالفشل. وقبض أنصار بن باديس على المجرم، وكادوا يفتكون به لولا أن ردد الشيخ عبد الحميد قول النبي

الأعظم صل الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). واستمرت جمعية العلماء في جهادها، وهي تصل الليل بالنهار، حتى تبعد خطر الإلحاد عن الشعب. وأبت جمعية العلماء أن ينحصر عملها في قاعدتها (جامع سيدي الأخضر بقسنطينة) فأوقدت البعثات العلمية إلى المدن والأرياف، داعية المواطنين إلى اقتفاء سيرة السلف الصالح منبهة القوم إلى مغبة ما يحل بهم، إذا هم ساعدوا الاستعمار الإفرنسي بطريقة غير مباشرة على نشر سياسته الإلحادية. وقد صادفت هذه البعثات في طريقها عقبات ومشقات، وتحملت عذابا وإهانات كالها عليها البوليس الإفرنسي وأنصاره. إلا أنها خاضت جميع هذه المخاطر بإيمان قوي وعزيمة صلبة. يمكن هنا وفي مجال التعرض لأساليب الإدارة الإفرنسية في محاربة جمعية العلماء، ذكر حادثة مقتل (الشيخ ابن دالي عمر -الملقب بـ: كحول) والذي كان الإفرنسيون قد نصبوه إماما للمسجد الأكبر بالعاصمة - الجزائر -. فعلى أثر عودة ابن باديس ووفده من باريس، دفعت فرنسا بهذا الشيخ لإرسال برقية إلى الحكومة الإفرنسية (تتضمن عبارات قاسية ضد الوفد، والمؤتمر الذي عقده العلماء، ويتبرأ منهم، ويؤكد إخلاص المسلمين لفرنسا وموالاتهم لها). وأعقب ذلك تعاظم النقمة ضد هذا الذي انتحل لقب (مفتي الجزائر). فبات رجل الشارع الجزائرى يوجه أبشع الإهانات وأقذعها لهذا الخائن. وزاد الموقف توترا بسبب

إقدام الشيخ الطيب العقبي على قيادة الحملة ضد (كحول). وأرادت الإدارة الإفرنسية ضرب عصفورين بحجر واحد، فأعدت قاتلا محترفا وجهته لقتل الشيخ كحول، واتهمت في الوقت ذاته جمعية العلماء بتدبير جريمة القتل. وتم اعتقال (الطيب العقبي) وألقي به في السجن. وأشاعت الإدارة الإفرنسية في الوقت ذاته إشاعات مضادة لجمعية العلماء (التي تنظم جرائم القتل والتصفيات الجسدية للتخلص من خصومها - على ما زعمته الإدارة الإفرنسية). وكان لهذه الدعاية دورها في تساقط ضعاف النفوس. وفي مقدمتهم نائب قسنطينة الدكتور ابن جلول الذي أظهر تخاذله أمام قوة الهجمة فنكص على عقبيه وتنكر لأصحابه وشيعته. وقال: (إنه لا يشترك في حركة تعمد إلى القتل وإغماد الخناجر في قلوب المعارضين). وأدركت جمعية العلماء، وأعضاء نادي الترفي خطورة الموقف، فتم عقد اجتماع تقرر فيه الإعلان عما يلي: أولا: إن العقبي ذهب ضحية غدر إداري ومؤامرة استعمارية دنيئة. ثانيا: إن الادارة الاستعمارية لا تقصد بعملها هذا النيل من الشيخ العقبي، وإنما تريد تمزيق جمعية العلماء. ثالثا: إذا نجحت الإدارة الاستعمارية في الوصول إلى هدفها، فإنها ستدمر الحركة الإسلامية من خلال إضعاف (جمعية العلماء).

رابعا: على الجمعية دعم الشيخ العقبي بكل قوة والدفاع عنه بكل ما يتوافر للجمعية من قدرات مادية ومعنوية، لإظهار براءته. وإلصاق التهمة بمرتكبها الأصلي (الإدارة الإفرنسية). خامسا: القيام بحملة توجيهية لدحض مقولات (دعاة الهزيمة) و (دعاة السوء) وإحباط مخططات الأعداء الظاهرين والمستترين الذين يحاولون طعن جمعية العلماء ونادي الترقي من الخلف ومن الأمام. والمحافظة على جمعية العلماء، ومتابعة عملها بانتظام. وتم تعيين محام للدفاع عن العقبي. ومضت أشهر قليلة على الصراع ظهرت بعدها الحقائق واضحة، واعترف القاتل - عكاشة - بفعلته، وأطلق صراح العقبي. غير أن الإدارة الإفرنسية نجحت في إسقاط الشيخ العقبي بشباكها، وأخذت في استخدامه لتنفيذ مخططاتها داخل جمعية العلماء. وظهر ذلك في أكثر من مناسبة. كانت الأولى عندما عقدت الجمعية اجتماعا لها لتوحيد الجهد مع الزعماء السياسيين، فوقف العقبي ليقول: أنتم رجال الله. أنتم رجال الدين. فما لكم وللسياسة؟ وهؤلاء الزعماء الانتفاعيون، لا تعرفونهم ولا يعرفونكم. هل رأيتموهم في المسجد يصلون معكم؟ هل رأيتموهم في النادي يستمعون معكم إلى الإرشاد الإسلامي؟ كلا، لستم منهم وليسوا منكم؟ ...) (¬1). وكانت المناسبة الثانية، عندما لاحت نذر الحرب العالمية الثانية في الأفق، وتعاظمت تهديدات ألمانيا النازية لفرنسا. وفي ¬

_ (¬1) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 2/ 254 - 261.

اجتماع للعلماء في تلك الفترة، وقف الشيخ العقبي ليبادر إخوانه العلماء بقوله: (أرى أنه يجب علينا إرسال برقية إلى رئيس حكومة فرنسا، نظهر له فيها صدق عواطف الشعب الجزائري، ووقوفه مع فرنسا ضد كل عدوان) وتصدى له كل رجال الجمعية، وخاصة ابن باديس العظيم، الذي قال له: (كيف نكون مع فرنسا وهي التي لم تقم لنا وزنا، ولم تعترف لنا بحق، وأمعنت في إهانتنا واحتقارنا. فكيف تجدنا ساعة الخطر أعوانا وأنصارا؟ يجب علينا أن نسكت عنها إطلاقا ولا نقول لها كلمة). ... هنا لا بد من مقارنة موقف الشيخ العقبي بموقف الشيخ التبسي. فعندما اندلعت نار الحرب العالمية الثانية سنة 1939، طلبت الولاية العامة بالجزائر إلى مختلف الهيئات والشخصيات الجزائرية أن يعلنوا للناس في الداخل والخارج عن ولائهم لحكومة فرنسا وإخلاصهم لها. وعلى هذا الأساس جاء ضابط كبير في الجيش الإفرنسي إلى الشيخ العربي التبسي - بتبسة - يسأله أن يدلي بتصريح يذاع بالإذاعة - الراديو - وينشر في الصحف. يؤكد فيه تأييده لفرنسا في حربها ضد الألمان. ولكن الشيخ العربي، أرفع وأجل من أن يمكن الاستعماريين من تحقيق هذه البغية الآثمة الدنيئة. فقفل الضابط الإفرنسي خائبا يجر أذيال الفشل. إذ أفسد الشيخ العربي على الاستعماريين خطتهم الرامية إلى إخضاع الشيخ عبد الحميد بن باديس كرئيس لجمعية العلماء بواسطة أحد إخوانه. وإثر هذا الحادث، جاء الشيخ العربي إلى قسنطينة،

فقص على الشيخ ابن باديس القصة. وأعقبها سائلا مداعبا: (لو جاءوك يا شيخ، فماذا كنت تجيبهم يا ترى؟). فاندفع الشيخ عبد الحميد في ثورة مباغتة فقال: (أما أنا فوالله لو قال الاستعماريون قل: لا إله إلا الله محمدا رسول الله - ما قلتها) (¬1): (إني لن أمضي برقية - بتأييد فرنسا - ولو قطعوا رأسي، وماذا تستطيع فرنسا أن تعمله؟ إن لي حياتين، حياة مادية، وحياة أدبية روحية. فتستطيع القضاء على حياتنا المادية بقتلنا ونفينا وسمجننا وتشريدنا. ولن تستطيع القضاء على عقيدتنا وسمعتنا وشرفنا، فتحشرنا في زمرة المتملقين) (¬2). ... وتضيق الصفحات عن احتواء مآثر الشيخ عبد الحميد بن باديس. وهوى السراج الوهاج الذي أشرق نوره على الجزائر، فتغلغل في كل أرجائها. مات الرجل عملاقا يوم 16 شباط - فبراير - 1940 وقد بات ملء السمع والبصر والفؤاد. وماتت بموته مجلته (الشهاب). وخرجت الجزائر المجاهدة تنعي في يوم واحد فقيديها الغاليين الإمام ابن باديس ومجلته. قيل إنه مات (بسل العظام) وقيل إنه مات (مسموما). وتعددت الأسباب والموت واحد. غير أن هناك حقيقة بقيت ثابتة وخالدة، لقد مات الوجود المادي لابن باديس غير أنه بقي حيا بحضوره ¬

_ (¬1) جريدة المقاومة - الجزائرية - 22 نيسان - أبريل - 1957. (¬2) الجزائر والأصالة الثورية (الدكتور صالح خرفي) ص 23.

المعنوي - الروحي - ولقد قيلت كلمات كثيرة في رثائه، لعل أصدقها كلمة أخيه في الله وأخيه في الجهاد وخلفه في رئاسة جمعية العلماء الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الذي كتب ما يلي: (... أعتقد أن الراحل، أخي العزيز، لم يكن لأحد دون أحد، بل كان كالشمس لجميع الناس. وأعتقد أن فقده لن يحزن قريبا دون بعيد. وإن أوفر الناس حظا من الأسى لهذا الخطب، هم أعرف الناس بقيمة الفقيد، وبقيمة الخسارة بفقده للعلم والإسلام، لا للجزائر وحدها. فلهذا بعثت أعزيكم على فقد ذلك البحر الذي غاض بعد أن أفاض ... وإن كانت التعازي تعاليل لا تطفي الغليل. ولكنها على كل حال تحمل بعض الروح من كبد تتلظى شجنا، إلى كبد تتنزى حزنا. وظني في أخي أنه لو كان يعرف عنواني لكان أول معز لأول معزى) (¬1). (واحسرتاه - رحم الله الراحل العزيز، جزاء ما بث من علم وزرع من خير وثقف من نفوس. ولله ذلك اللسان الجريء، وذلك الجنان المشع، وذلك الرأي الملهم. وإنا لفقدك يا عبد الحميد لمحزونون). ¬

_ (¬1) كان الشيخ الإبراهيمي في هذه الفترة معتقلا في سجون (الحكومة).

إخوان عبد الحميد في الجهاد

4 - إخوان عبد الحميد في الجهاد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس، كبيرا بنفسه، عملاقا بإخوانه، فقد التفت حوله مجموعة من كبار العلماء كلهم ذوو فضل وسعة في العلم، وكلهم يحمل في أعماقه إيمانا راسخا وإسلاما صادقا وحماسة لا حدود لها لخدمة أهداف جمعية العلماء (الإسلام والعروبة والجزائر). لقد بات من المسلم به أن شخصية الشيخ (عبد الحميد بن باديس) قد هيمنت على الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية لجزائر المسلمين في عقد الثلاثينات (1930 - 1940). وبات من المسلم به أيضا أن ظلال الجهود التي بذلت في هذه الفترة، قد أرسلت استطالاتها نحو أفق المستقبل، بفضل الشيخ عبد الحميد بن باديس وإخوانه المجاهدين في جمعية العلماء. وإذا كانت الظروف الدولية قد جاءت لتعيق تفاعلات الأحداث - لا على الصفحة الجغرافية للجزائر وحدها - وإنما على الصفحة الجغرافية للعالم، بسبب الحرب العالمية الثانية، فإن تفاعلات هذه

الأحداث قد انطلقت بكل أصالتها، وبكل قوتها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية مما يؤكد الدور الحاسم الذي مارسه الشيخ عبد الحميد وإخوانه المجاهدون في بناء القاعدة الصلبة للثورة. وليس الهدف على كل حال، إجراء حصر لتلك المجموعة المؤمنة المجاهدة، إذ أنها تتجاوز حدود الحصر والإحاطة، ولكن المهم التوقف قليلا عند أبرز الجهود المبذولة لإجراء ذلك التحول الحاسم في حياة الجزائر المجاهدة، والانتقال بها من مواقع الدفاع السلبي إلى مواقع الهجوم الإجابي - إذا صح التعبير وجاز -. لم يكن من المتوقع - في كل الأحوال - أن تخمد جذوة اللهبة الثائرة التي أطلقها الشيخ عبد الحميد بن باديس من معاقلها، أو أن تموت بموته. وذلك لمجموعة من الأسباب: أولها: أن ظهور عبد الحميد قد جاء تتويجا لتفاعلات بطيئة ومستمرة عبرت عن أصالة الجزائر الثورية. وكانت هذه التفاعلات أوسع من حدود الجزائر. فقد حمل المجاهدون الجزائريون معهم، وبداية من الهجرة الأولى التي ارتحل فيها الأمير عبد القادر وإخوانه إلى بلاد الشام، حمل هؤلاء معهم رايات الجهاد في سبيل الله، وأناروا بضيائها عالم العرب المسلمين في المشرق - عبر الصحافة والكتب والتعليم - وانعكست هذه الأضواء على صفحة الجزائر المجاهدة. وثانيها: أن الجزائر المجاهدة لم تعدم أبدا وجود القيادات التي تصدت للحملة الصليبية الإفرنسية، وكان جهد هذه القيادات وتضحياتها المستمرة، هي مشاعل النور على طريق الجهاد. ولئن

أ - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

قصرت هذه القيادات عن الارتفاع حتى مستوى الشيخ ابن باديس إلا أنها بجهودها وتضحياتها، مهدت السبيل لظهور جيل (العلماء العمالقة). وثالثها: أن ظهور عبد الحميد قد توافق مع وجود علماء كبار - جيل العلماء العمالقة - ومعذرة عن هذا التعبير - كانوا كلهم على مستوى الأحداث، حتى لو سقط بعضهم على الدرب ولم يكمل الطريق على نحو ما يحدث دائما في كل حركة ثوروية أصيلة. ورابعها: أن الشعب الجزائري الذي هزته الأحداث بقوة وعنف فأيقظته من غفوته، بات مؤهلا لاختيار طريقه، وأصبح من العسير إعادته إلى (قمقمه المغلق). وانتصب الشعب الجزائري عملاقا قويا، وانتصبت أمامه قيادة عربية - إسلامية -. والتقى عاملان أساسيان من عوامل تفجير الأحداث، ولم يبق إلا ظهور العامل الثالث، وهو (توقيت انفجار الحدث). وجاءت بعد ذلك مسيرة الأحداث لتحدد هذا التوقيت. وهذا ما يبرز بدوره أهمية (إخوان عبد الحميد) وما قاموا به من دور في صنع الأحداث. أ - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لم يكن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مجهولا يوم بدأ حياة الجهاد فوق أرض الجزائر، لقد كان ماضيه الحافل بجلائل الأعمال يتقدم عليه ويسبقه، لقد عرفته عواصم العالم العربي - الإسلامي من قبل، في تونس ومصر وبلاد الشام، مجاهدا بالكلمة الصادقة والعلم الصحيح والإيمان العميق قبل كل شيء. ففي سنة

1908، كان طلاب العلم في دمشق، ينهلون من علمه الغزير في (مكتب عنبر) و (المدرسة السلطانية).وكان (متكب عنبر) في تلك الفترة، موئل العلم ومنهل المعرفة ومنارة الهدى لكل الشباب الذين ينتظرهم مستقبل البلاد. وكان أساتذة هذا المعهد خيار من عرفهم العالم العربي الإسلامي، منهم الشيخ عبد القادر المبارك، ومنهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي قال عنه أحد تلاميذه: (أعجبنا في الشيخ سعة علمه، وقوة ذاكرته، واستقامة منهجه، حتى ولد في نفوسنا حب اللغة العربية وآدابها). ومن دمشق، ينتقل الشيخ الإبراهيمي إلى الحجاز، حتى إذا ما انتهت الحرب العالمية الأولى، عاد إلى موطنه الأصلي - الجزائر - ليتابع فيها جهده المخلص، وجهاده الصادق، مواكبا في مسيرته وعلى خط مواز جهد - ابن باديس - وجهاده. حتى إذا ما أقبلت سنة 1931، كان لقاء الخطوط المتوازية في (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). وكان الشيخ الإبراهيمي باستمرار الصخرة الصلدة في مجابهة المخططات الاستعمارية الإفرنسية الرامية (لتدمير إسلام الجزائر وعروبتها) وحرمانها من أصالتها الذاتية. وعرضه هذا الأمر لإزعاجات السلطات الإفرنسية واضطهادها له، والتي لم يكن أقلها الاعتقال والسجن. توفي ابن باديس. وكانت جمعية العلماء قد أصبحت تحت أحكام الحرب القاسية هامدة. وقد قررت التزام الصمت التام تجاه أحداث هذه الحرب، واستمر رجالها في ممارسة واجباتهم والاضطلاع بمسؤولياتهم في المدارس والمساجد.

وكان (الإبراهيمي العظيم) قد أخذته السلطة الإفرنسية عند بداية الحرب من تلمسان، وألقت به منفيا طريدا في (أفلو) الصحراوية النائية، ليذوق فيها العذاب الأليم. واجتمع العلماء بقسنطينة بعد أن غاب عنهم رائدهم ابن باديس واتفق الجميع على أن يكون نائب الرئيس البشير الإبراهيمي - رئيسا للجمعية. وأن يباشر عمله بمجرد إطلاق سراحه، ويكون له مركز الرئاسة على الفور. ولم تمض فترة طويلة حتى تم الإفراج عن الشيخ الإبراهيمي، فباشر عمله في رئاسة العلماء: فكان الرئيس، وكان المعلم، وكان الصحفي، وكان الكاتب، وكان الخطيب، وكان بإيجاز العقل المدبر والذراع المنفذ حتى قال عنه أحد علماء الجمعية (ما رأت جمعية من الجمعيات رئيسا كالبشير الإبراهيمي). عندما تولى (الشيخ الإبراهيمي) رئاسة الجمعية، كانت الأسس قد ترسخت، والمبادىء قد ثبتت، فوجه الشيخ الإبراهيمي جهد الجمعية نحو التعليم العربي الحر، واندفع بجرأة غريبة وسط حماسة شعبية رائعة لتأسيس مدارس البنين والبنات، والحكومة مشدوهة لا تدري ماذا تفعل: أتقاوم المدارس مقاومة عامة وتوصد أبوابها، وعندئذ تجد نفسها لا محالة أمام ثورة عامة في ظروف غير مناسبة لها نتيجة ظروف الحرب ذاتها؟ أم تتساهل في أمر هذه المدارس مع إدراكها لخطورة هذا العمل وتأثيره العميق على مخططاتها الاستعمارية؟ وكان أن اتبعت سياسة مزيجة بين اللين والشدة، فكانت تتساهل في بعض الجهات، لتضطهد المدرسين ورجال التعليم في جهات أخرى. كل ذلك، ومركب التعليم

يمضي قدما تدفعه ريح شعبية قوية. واستطاعت الجمعية بفضل دعم المسلمين الجزائريين لها من تأسيس (170) مدرسة عربية حرة تعلم الدين الصحيح والتاريخ الإسلامي والعلوم العصرية. وبلغ عدد تلاميذها كل سنة، ما يزيد على الخمسين ألفا بين ذكور وإناث، وكونت الجمعية لهم طبقة صالحة من المدرسين، أغلبهم من خريجي (جامعة الزيتونة) بتونس، وجاوز عددهم في مرحلة ما قبل الثورة (900) معلم. ويتقاضون جميعا، نفس المرتبات من الهيئات المحلية للمدارس. وأنشأت (جمعية العلماء) لجنة للتعليم، تحت إدارة نخبة من أفضل العلماء، أمثال المرحوم الحفناوي هالي ومحمد الصالح رمضان (واضع قصائد الشباب الهادفة والتي أصبحت فيما بعد أناشيد الثورة الجزائرية). فأوجدت هذه اللجنة البرامج التعليمية، ووضعت البرامج التربوية، وأخضعت كل مدارسها لمنهاج واحد. وفي العام 1947، دشنت جمعية العلماء أول معهد للتعليم الثانوي في مدينة (قسنطينة)،أطلقت عليه اسم فقيد الجزائر (الشيخ عبد الحميد بن باديس). وشرع هذا المعهد، بفضل دعم الشعب له، بتطوير عمله حتى بلغ عدد طلابه سنة 1903 ألفا وخمسمائة طالب من جميع أنحاء الجزائر. وأخذت جمعية العلماء في هذه السنة بإيقاد البعثات من خريجي المعهد إلى المشرق العربي - الإسلامي لإتمام الدراسة في المعاهد العليا. وخاصة في جامعة الزيتونة بتونس. كما ارتفع أثناء ذلك عدد المدارس الابتدائية حتى وصل إلى أكثر من

(300) مدرسة في سنة 1953، وارتفع بذلك عدد الطلاب السنوي إلى أكثر من (70) ألف تلميذ. وكانت الجمعية قد أجرت في أواخر السنة الدراسية لسنة 1952 أول امتحان لنيل الشهادة الابتدائية العربية (باسم الشعب الجزائري) وبدون موافقة الإدارة الإفرنسية الاستعمارية. وإلى جانب ذلك كله، كانت الجمعية تنشر كل أسبوع مجلتها الكبرى (البصائر) التي كانت منبرا رفيعا للفكر الإسلامي. ومنهلا للعلم الغزير والأدب الهادف. وكانت تعمل أيضا على إماطة اللثام عن تحولات السياسة الدولية، فتسهم في نشر الوعي السياسي، وبلغ عدد ما يطبع منها أسبوعيا (30) ألف مجلة، وقد استمرت في الصدور حتى أغلقتها الإدارة الاستعمارية الإفرنسية سنة 1956. كانت مجلة (عيون البصائر) هي مرآة الجزائر المجاهدة طوال الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية، وانفجار ثورة التحرير (1954). وكانت (عيون البصائر) أيضا منبر رئيس جمعية العلماء (الشيخ الإبراهيمي) الذي أضاف إلى أعبائه في سنة 1948، أعباء جديدة هي رئاسته (للجنة إعانة فلسطين). ففي هذه السنة أقيم الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين العربية - الإسلامية. واهتز العالم العربي - الإسلامي لهذا الحدث الأليم. وكان تجاوب الجزائر أكبر من الكلمات، وأعظم من كل وصف. وقد يكون من المناسب استقراء بعض نشاطات (لجنة إعانة فلسطين) من خلال بعض برقياتها. أرسلت (اللجنة) برقية إلى الأمين العام للجامعة العربية (عزام باشا) جاء فيها:

(يسعدنا إعلامكم أنه قد تألفت بالجزائر لجنة لإعانة فلسطين، مؤلفة من كل الهيئات والشخصيات التي تمثل الاتجاه الإسلامي الجزائري. إننا بلسان هذه اللجنة نؤكد لسعادتكم تضامن الشعب المسلم الجزائري مع كل الدول العربية المكافحة ضد الإمبريالية الصهيونية، ونأمل انتصار القضية العربية العادلة). الشيخ البشير الإبراهيمي، فرحات عباس الشيخ بيوض، الشيخ العقبي. ووجهت (اللجنة) برقية إلى الحكومة الإفرنسية جاء فيها: (إن لجنة إعانة فلسطين، التي تمثل كل التشكيلات الدينية والسياسية بالجزائر، وتشمل الشخصيات الممثلة للاتجاهات الجزائرية، قد تأثرت بصفة مؤلمة من القرار الذي اتخذه المجلس الوطني الإفرنسي في إرسال التحية المخلصة لدولة إسرائيل المزعومة. إن هذا القرار يعتبر عملا عدائيا ضد العالم الإسلامي. واللجنة تحتج بشدة على هذه الحرية التي تتمنع بها وسائل الدعاية الصهيونية ومنظماتها. وجميعها يعمل لفائدة الإمبريالية وضد الديموقراطية. واللجنة تلفت نظر حكومتكم لما في اعترافها بدولة إسرائيل المزعومة من جرح لعواطف خمسة وعشرين مليونا من المسلمين، سكان المغرب العربي المتضامنين تضامنا فعالا مع إخوانهم أهل فلسطين، ومن إساءة عميقة للعلاقات بين فرنسا والإسلام). عباس فرحات، الشيخ بشير الإبراهيمي، الشيخ الطيب العقبي، الشيخ إبراهيم بيوض.

ووجهت اللجنة برقية إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة (تريفف لي) جاء فيها: ا (إن لجنة إعانة فلسطين التي تشمل كل المنظمات والشخصيات الممثلة للشعب المسلم الجزائري تحتج على ما مس العالم الإسلامي من عدوان صريح قامت به الصهيونية، وهي تحاول إقامة دولة يهودية فوق أرض فلسطين. وتعتقد اللجنة أن هذه المحاولة تناقض ميثاق هيئة الأمم المتحدة. وتمثل تهديدا صريحا للسلام العالمي. وتؤكد اللجنة تضامن المسلمين الجزائريين مع الشعب الفلسطيني في حربه مع الصهيونية الإمبرالية الاستعمارية - احتراماتنا). فرحات عباس، الشيخ الإبراهيمي، الطيب العقبي، الشيخ إبراهيم بيوض. ولم تكتف اللجة بهذه التظاهرة الإعلامية، التي أكدت بروز الشخصية الجزائرية الإسلامية. فعملت على إرسال مجموعة من المجاهدين إلى فلسطين، كما جمعت أموالا طائلة بالنسبة لما كانت عليه حال الجزائريين المسلمين في تلك الفترة. فقد أرسلت مبلغ أربعة ملايين فرنك في البداية (للجهاد الفلسطيني). ثم أرسلت مبلغ ثلاثة ملايين فرنك، قام الشيخ أحمد توفيق المدني بتسليمها للسيد أحمد ثروت سفير مصر بباريس، وتم ذلك بحضور إسماعيل صبري باشا، خال الملك فاروق (¬1). ¬

_ (¬1) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 2/ 388 - 390.

غير أن (الشيخ البشير الإبراهيمي) يتجاوز في نشاطاته دوره الرسمي، فينطلق من خلال (عيون البصائر) مستنفرا الهمم، محذرا من الخطر، ملهبا للحماسة، فيكتب في ذروة المأساة - سنة 1948 - ما يلي: (يا ضيعة الآداب الإسلامية بينكم. إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وقد لدغتم من الجحر الإنكليزي مرات، فلم تتعظوا ولم تتبصروا. خدع خلفكم، كما خدع سلفكم، واستهوى أمراءكم وكبراءكم ودعاكم إلى موائده فلبيتم، وما رأى منكم في كل الحالات إلا المجاملة، واستمرار المعاملة، وما آنس منكم إلا التهافت على أعتابه، والتعلق بأسبابه. فيا ويحكم! أكل ذلك لأن الإنكليز أغنياء وأنتم فقراء، أو لأنهم أقواء وأنتم ضعفاء؟ كلا. إنهم أغنياء بكم، وبأمثالكم من الأمم المستخذية، وليسوا أغنياء عنكم. وأنتم الأقوياء بما يستمدونه من أرضكم وجيوبكم. فاقطعوا عنهم المددين يضووا ويهزلوا، واخذلوهم في مواطن الرأي والبأس ينخذلوا، وعمروا جزيرتكم تخرب جزيرتهم. إن لبدة الأسد هي بعض أسبابه إلى زرع الهيبة في القلوب. ولكن لبدة الأسد البريطاني لبدة مستعارة. فلو أن أمة استرجعت شعراتها من تلك اللبدة التي تكمن وراءها الرهبة، لأمسى الأسد هرا، مجرود العنق، معروق الصدر، بادي الهزال والسلال. إن الغنى عمل وتدبير، فلو عملتم لكنتم أغنياء. وإن بدء الغنى من غنى النفس بالتعفف عن الكماليات، وفطمها عن الشهوات، وإن القوة مشيئة لا جبر فيها. فلو شئتم أن تكونوا أقوياء لكنتم.

وإن بدء القوة من قوة الأخلاق، وقوة الاتحاد ... ان العروبة لفي حاجة إلى ذلك الطراز العالي من بطولة العرب. وإن الإسلام لفي حاجة إلى ذلك النوع السامي من الموت في سبيل الحق ليحيا الحق .. أيها العرب ... أيها المسلمون ... إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا - ونحن عصبة - إنا إذا لخاسرون) (¬1). ويعود الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، لمعالجة القضية الفلسطينية في أزمتها - سنة 1948 أيضا، فيقول: (أيظن الظانون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة، تنسى فلسطين أو تضعها في غير منزلتها التي وضعها الإسلام من نفسها؟ لا والله، ويأبى لها ذلك شرف الإسلام ومجد العروبة ووشائج القربى). (ولكن الاستعمار الذي عقد العقدة لمصلحته، وأبى حلها لمصلحته، وقايض بفلسطين لمصلحته هو الذي يباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كيلا تلتحم. وهيهات لما يروم). ويعود ليخاطب العرب فيقول: ¬

_ (¬1) الجزائر والأصالة الثورية (الدكتور صالح خرفي) ص 28 - 30 و 41 - 43.

المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء.

(أيها العرب! قسمت فلسطين، فقامت قيامتكم، هدرت شقاشق الخطباء. وسالت أقلام الكتاب، وأرسلها الشعراء صيحات مثيرة، تحرك رواكد النفوس. وانعقدت المؤتمرات. وأقيمت المظاهرات. علم الصهيونيون أن الوعد لا يعدو كونه وعدا. وأن نصه الطري اللين ... أن انجلترا تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين، فأعدوا لتحقيقه المال، وأعدوا الرجال، واتخذوا من الوقت سلاحا، فلم يضيعوا منه دقيقة، واستعانوا بنا علينا، فاكتسبوا من ضعفنا قوة، ومن جهلنا قوة، ومن تخاذلنا قوة، ومن أقوالنا الجوفاء قوة، وأصبحت هذه القوات كلها ظهيرا لهم علينا). ويقبل عيد الأضحى، أول عيد بعد إقامة الكيان الصهيوني، فينفث الشيخ الإبراهيمي زفرة لاهبة، فيقول: (النفوس حزينة، واليوم يوم الزينة، فماذا نصنع؟ إخواننا مشردون، فهل نحن من العطف والرحمة مجردون؟ تتقاصانا العادة أن نفرح في العيد وأن نبتهح، وأن نتبادل التهاني، وأن نطرح الهموم، وأن نتهادى البشائر. وتتقاضانا فلسطين أن نحزن لمحنتها، ونغتم، ونعنى بقضيتها ونهتم، ويتقاضانا إخواننا المشردون في الفيافي، أبدانهم للسوافي، وأشلاؤهم للعوافي، أن لا ننعم حتى ينعموا، ولا نطعم حتى يطعموا ... ليت شعري، هل أتى عباد الفلس والطين، ما حل ببني أبيهم في فلسطين). (أيها العرب! لا عيد حتى تنفذوا في صهيون الوعيد، وتنجزوا لفلسطين المواعيد. ولا نحر حتى تقذفوا بصهيون في البحر. ولا

أضحى حتى يظمأ صهيون في أرض فلسطين ويضحى). (أيها العرب! حرام أن تنعموا وإخوانكم بؤساء. وحرام أن تطعموا وإخوانكم جياع. وحرام أن تطمئن بكم المضاجع وإخوانكم يفترشون الغبراء). ... تلك نمانج من مقولات كثيرة تخاطب العقل قدر استثارتها للعاطفة. ولعل أبرز ما يميز مواقف الشيخ الإبراهيمي في هذا المضمار: 1 - تحليله العميق للموقف الاستعماري، وهو قد سبق (ماوتسي تونغ) في تحليل ضعف الهيكل الاستعماري بأكثر من ربع قرن. وبينما يشبه (ماو) الاستعمار (بعملاق له قدمان من صلصال)؛ يعود الشيخ الإبراهيمي ليشبه (أسد الاستعمار البريطاني بهر، لم يكسب فروته المرعبة إلا من النهب الاستعماري). 2 - وفي مقولة (الشيخ الإبراهيمي) تركيز مستمر على الأصالة الذاتية (القوة في نفوسنا والضعف في نفوسنا). والمثير في الأمر أن الثورة الجزائرية قد انطلقت من هذه الأصالة ذاتها. وكان اعتمادها دائما على القدرة الذاتية لشعب الجزائر المجاهد. 3 - ويدعو الشيخ الإبراهيمي لمقاطعة الاستعمار وحرمانه من موارد النهب، حفاظا على قدرة العرب المسلمين في أوطانهم. وهي الدعوة التي لا زالت تتردد قوية إلى ما بعد نداء الشيخ الإبراهيمي بثلاث عقود، دون أن تجد لها أذانا صاغية.

4 - والشيخ الإبراهيمي، ينطلق بصيحته من منبره، بقلب الإنسان المسلم، وإرادة الرجل المؤمن (حرام أن تنعموا وإخوانكم بؤساء) فالمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، إذا أصاب عضوا منه المرض تداعت بقية الأعضاء للسهر والحمى. ... وتمضي السنوات متثاقلة لترهق كاهل الشيخ، وتنفجر ثورة الجزائر. ويعتقل الإفرنسيون أحمد طالب الإبراهيمي، في حين يكون الشيخ مريضا على فراشه، بمستشفى كراتشي. فيكتب الإبن أحمد طالب الإبراهيمي إلى أخيه: (لم يكاتبني والدي هذه الأيام الأخيرة. ومن المحتمل أن يتلقى نبأ إيقافي برصانته المعهودة). وبعد أربعة أعوام من السجن يعود أحمد طالب الإبراهيمي ليكتب إلى أخيه: (كاتبت اليوم والدنا أيضا، آه لو تعلم كم أبتهل إلى الله كي يعيش حتى يوم الاستقلال! فإذا ما كتبت له أن يشهد الجزائر وقد حررت أرضها، عندئذ يسوغ لي أن ألقي عليه مقطع (لورانزا تشيو) في مسرحيته الشهيرة: (تعال يا والدي النبيل! تعال وانظر إلى أحلام عمرك تتهادى ضاحية، لقد أينعت الحرية ... هيا وانظر نبتك المحبب ينبثق من الثرى). يومئذ أقول له ما قال شوقي لسعد زغلول: لينم أبو الأشبال ملء جفونه ... ليس الشبول على العرين بنوم (¬1) ¬

_ (¬1) رسائل من السجن - أحمد طالب الإبراهيمي - ص 15 و 125 - 126.

ب - الشيخ مبارك بن محمد الميلي

ب - الشيخ مبارك بن محمد الميلي: كتب عنه صديق له: (إنه الرجل المثالي، الحر الأبي، الذي وضع حياته كلها منذ رجع من الزيتونة عالما جليلا في خدمة دينه وشعبه، مدرسا ومحاضرا ومفكرا عميقا ومرشدا نصوحا. كان نحلة منتجة، لا تراها إلا ساعيه وراء رحيق زهرة، أو واضعة مع جماعتها عسلا شهيا).ذلك هو مبارك بن محمد الميلي - الذي ولد في قرية (الميليه) وليس في مدينة (ميلة) التي حل فيها بعد ذلك وجعلها ميدان جهاده. وكانت ولادته سنة 1316 هـ (1898 م). وأتم دراسته الابتدائية على يد شيخه ومربيه العالم الشيخ محمد الميلي. ثم انتقل إلى قسنطينة حيث تتلمذ على يد الشيخ ابن باديس الذي أنس في تلميذه الذكاء والفضيلة، فوجهه في السنة ذاتها (1338 هـ = 1919م) للدراسة في جامعة الزيتونة. حيث أمضى في تونس أربع سنوات ليعود في سنة 1341 هـ = 1922 م إلى قسنطينة وقد توافر له قدر كبير من العلم والمعرفة. واستعان به شيخه عبد الحميد بن باديس للتدريس في معهده شهورا. ولما رأى طموحه ونبوغه وعلمه، أيقن أنه لا يليق معينا له، بل يكون قاعدة للإصلاح والنهضة، وسدادا لثغر مهم في ناحية مهمة في الجزائر. ولما طلبه الأغواطيون، حثه الشيخ عبد الحميد على الذهاب إليهم وقيادة نهضتهم الناشئة، وإصلاح النفوس في الأغواط المتعطشة للنور. وزار الشيخ مبارك الأغواط، فأعجب بها وبأهلها، فانتقل إليها في أواخر سنة 1342 هـ - 1923 م.

مضى الشيخ مبارك يضرب في كل ميدان من ميادين الجهاد، يمضي معظم وقته (عشر ساعات يوميا) في تدريس تلاميذه الذين زاد عددهم على سبعين تلميذا - فيهم ست فتيالت - لينصرف بعد ذلك إلى (الجامع العتيق) في الأغواط للالتقاء - بعد صلاة العشاء - بالشبيبة والرجال الراغبين في تلقي الإسلام من مورده الصافي ومصدره العذب. وليتردد بعد ذلك مرة في الشهر على الأقل لزيارة (مدينة بوسعاده) وإلقاء محاضراته التوجيهية الهادفة فيها. ولينتقل أيضا إلى (مدينة الجلفة) مرة في الشهر للهدف ذاته. ولينتقي من بين تلاميذه من يتوسم فيهم الخير والفضيلة فيوجههم إلى (قسنطينة) و (جامعة الزيتونة بتونس) فشكل بذلك جهازا للاضطلاع بنهضة الأغواط - الضاربة في عمق الصحراء - وليعمل أثناء ذلك كله على الاختلاط بجماهير الشعب، يوجههم نحو الدين القويم، ويفضح أساليب الاستعمار ووسائله المضادة للعرب المسلمين، وليحارب الطرقية وبدعها وانحرافاتها، مقتديا بذلك سيرة أستاذه ابن باديس. وهاله أمر ما كانت تطرحه الدوائر الاستعمارية من أن (أهل البلاد ينتمون إلى الشعوب الغربية في أصولها ويلتقون بعد ذلك مع الإفرنسيين والرومان بأكثر من التقائهم مع العرب المسلمين). فمضى ليدحض هذه المقولة وأمثالها، وأفاد من كل فرصة تتاح له لوضع كتابه (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) محددا هدفه من ذلك بقوله: (إني شديد الشعور بالمسؤولية، ولكنني شديد العراقيل كثيرها، شديد الحاجة إلى المعين، عديمه. ففي التحرير، أجد عراقيل قلة المواد وبعد أسلوبها عن نظامي واختلاط مواضيعها بالنظر إلى أسلوبي،

وأعلم كثرة الكتب الإفرنسية وحسن نظامها، ولا أجد من يعرب لي منها. وحاجتي إلى كتب الإفرنسية من حيث المادة والنظام، ومن حيث الاطلاع على مقاصدهم نحونا للتعريض بردهم في كتابتنا). ويكتب إلى صديق له: (أكاتبك اليوم فيما يهم عملنا، ولكنني أقتصر الآن على التنبيه لكتاب حماد أو ابن حماد، لتعريب فصول من كتاب - كاريت - تحت يدي ترجمة فهرست كتاب كاريت - وقد أعدت النظر فيها، فظهر لي إني أحتاج اليوم من أبوابها (الباب الرابع من الكتاب الأول. والأبواب السادس والسابع والتاسع من الكتاب الثالث). وقد التزمت في هذا الجزء وضع باب لبيان قبائل بني هلال وغيرهم من العرب، في أنسابهم ومراكزهم وحياتهم وعلاقتهم بالبربر. ووضع باب آخر لتفصيل قبائل البربر بعد هجوم الهلاليين. فما تجده في كتاب - كاريت - يعين على هذا فترجمه لي). ولم يعدم الشيخ مبارك على كل حال من يقدم له العون لإنجاز مشروعه العظيم، سواء من أبناء الأغواط الذين كان عدد كبير منهم قد تعلم الإفرنسية وأتقنها، أو من خارج الأغواط - وبصورة خاصة الشيخ أحمد توفيق المدني - الذي قدم للشيخ مبارك كل جهد مستطاع، حتى تم إخراج هذا المشروع للنور. ... وكان الشيخ مبارك يشرح في دروسه، أمراض المجتمع، فيبين آفاتها وويلاتها على أصحابها. ويهاجم الإلحاد الذي تبثه

المدارس الاستعمارية والأحزاب السياسية المنحرفة، ويهاجم البدع التي ألصقت بالدين فقتلت المسلمين، ويهاجم ضلالات الطرقيين الضالين، مثل (زردات القبور) (¬1) وحفلات مواليد المشايخ الطرقيين، واعتقاد العامة في الشيخ وطريقته بما ينافي الدين، وغير ذلك من المفاسد الخلقية. وكانت لدروس الشيخ مبارك نتائجها العظيمة. فشاعت الثقافة، وانتشرت اللغة العربية وآدابها بين الأغواطيين. وأقبلوا على الدين - وكان أكثر الأغواطيين من قبل مرتبطين بالطرائق الصوفية المتنافرة والمتناحرة، فتطهرت عن طريق الشيخ مبارك عقائدهم. وتفتحت عيونهم على الحق والهدى. وعرفوا دين الله الحق فتمسكوا به، وطرحوا عنهم رداء الطرقية وانحرافها، وتنكروا لمنكراتها. وانضم معظم شباب الأغواط لحركة الإصلاح التي يستجيب لها العقل وتتفجر لها العاطفة. وكان الشيخ مبارك ينظم زيارات كبار العلماء الجزائريين للأغواط. من أجل إلقاء المحاضرات. فزار الشيخ عبد الحميد ابن باديس الأغواط، وحضر درس الشيخ مبارك في (الجامع العتيق) ثم تلاه بدرس بليغ هز نفوس الأغواطيين وترك فيهم أعمق الأثر. وكذلك فعل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ بيوض إبراهيم. وسارت الأغواط بذلك في ركب الإصلاح. وصارت من أنصار اللغة العربية وقاعدة صلبة من قواعد الدين (مما أهلها ¬

_ (¬1) الزردات، جمع ومفردها زردة وهي طعام سنوي تصحبه أسواق للتجارة والفجور تقام حول قبور المشايخ، وتدوم أياما. وكان الاستعمار يأمر بها لإفساد الأخلاق، وتشويه الدين الإسلامي الحنيف. (نهضة الجزائر الحديثة - محمد علي دبوز - 3/ 259 - 272).

العلامة المصلح والمؤرخ العظيم الشيخ الأستاذ مبارك الميلي

بالتالي لتكون قاعدة من قواعد الثورة عندما انفجرت هذه الثورة). أحب الشيخ مبارك الأغواط وأهلها الذين بادلوه حبا بحب وإخلاصا بإخلاص، بعد أن سلخ بينهم أحلى سنوات العمر في عمل دؤوب وجهد مستمر. لقد جاءها وعمره ثلاثون عاما، وكانت أيامه بها حلوة هانئة، فتزوج فيها من ابنة شيخه (محمد الميلي - جاء بها من ميلة). وولد له في الأغواط ابنه البكر محمد. وظن أن الحياة ستسير به في يسر متنقلا من نجاح إلى نجاح أكبر، ومن نصر إلى نصر أعظم في حياة العمل والإنتاج. ولم يشعر باقتراب السحب المزمجرة من أفق حياته. عرف الشيخ مبارك خطورة التعليم الإفرنسي على حياة الناشئة، فخصص لهؤلاء الناشئة أيام عطلهم وبعض الوقت في كل يوم، خارج أوقات دوامهم في المدارس الإفرنسية وذلك لتعليمهم أصول دينهم، وليحسن توجيههم، ويزيل من عقولهم ونفوسهم ما تدسه برامج التعليم الإفرنسية من توجيهات سيئة. وكانت السلطة الاستعمارية في الأغواط تعتقد أن مدرسة الأغواط، مثلها كمثل الكتاتيب التعليمية العقيمة، فلم تقم لها وزنا في بداية الأمر. غير أنها استفاقت فجأة لتعرف بأن الشيخ مبارك قد دمر لها كل جهودها، وأحبط لها كل خططها، فأخذت في الكيد له والتحريض ضده. غير أن هذه الوسيلة المكشوفة والرخيصة لم تحقق هدفها، فما كان من الإدارة الإفرنسية إلا أن لجأت إلى ذات السلاح الذي استخدمته - في وقت واحد - ضد الشيخ ابن باديس، فدفعت من يعمل على اغتياله من قبل الطرقيين وذلك في سنة 1926.

غير أن تلاميذ الشيخ وأنصاره من الأغواطيين تصدوا للمجرم، وانتزعوا منه مسدسه، وكادوا يفتكون به. وعيل صبر السلطة الاستعماري في الأغواط فطلبت إلى مشايخ الطرق إرسال عرائض تطلب طرد الشيخ مبارك من الأغواط وإغلاق مدرسته. ومارست في الوقت ذاته ضغطا على موظفيها وأعوانها من الأغواطيين لمضايقة الشيخ وإزعاجه. وشعر الشيخ مبارك بالدائرة تضيق من حوله، والأنصار يبتعدون خائفين عنه. وعرف أنه بات من المحال عليه الاستمرار في أداء دوره والاضطلاع بواجبه، فحزم حقائبه، ورحل في سنة 1350 هـ = 1931 م، عائدا إلى بلده (الميليه). بعد أن قضى ثمانية أعوام من عمره في الأغواط (¬1). كان الشيخ مبارك قد أرسل إلى الزيتونة بتونس مجموعة من أنجب طلابه سنة 1347 هـ = 1927 م ضمت: أحمد بن التهامي شطة، وأبو بكر بن بلقاسم، وأحمد بن بوزيد قصيبة، ومحمد الطيب الحفصي، ومحمد بن أدهينة بن الحاج عيسى، وعمر بن الساسي؛ وكلف أدهينة بن الحاج عيسى بمرافقتهم إلى تونس ¬

_ (¬1) الأغواط: مدينة في شمال وادي ميزاب، تبعد عن مدينة بريان أول مدن ميزاب من جهة الشمال بثلاثة وسبعين ميلا ونصف الميل. وهي في جنوب مدينة الجزائر وتبعد عنها بمائتي ميل وثلاثة أميال. والأغواط مدينة جميلة في شمال الصحراء. تمتاز بحسن موقعها، وجمال تكوينها وسحرها الخلاب! فهي مدينة تجمع بين سحر الصحراء وجمالها، وحسن الشمال وفتونه. والأغواط مدينة قديمة بنيت على وادي - أمزي - وهو واد كبير ينحدر من الجنوب الشرقي لجبال عمور في الشمال، فيمر على الأغواط، ويذهب مشرقا في جنوب الأطلس الصحراوي فيسقي بلادا كثيرة، حتى ينتهي في سباخ - ملفيغ - في جنوب (سيدي عقبة) وهو أكبر واد في الصحراء.

وتنظيم أمورهم، ومتابعة دراستهم والاهتمام بهم - كلما توافرت فرصة من أدهينة لزيارة تونس في أموره التجارية - وقد اضطلع هذا بواجبه على أكمل وجه، فلم يشعر الطلاب بأية معاناة أثناء تعلمهم. وبعد أن أكملوا دراستهم عادوا إلى الجزائر لمتابعة الجهد الذي بدأه شيخهم مبارك. فتكونت بذلك القاعدة الإسلامية الصلبة في الأغواط. حيث عمل الشيخ أحمد بن التهامي شطة والشيخ أبو بكر ابن بلقاسم الحاج عيسى ومعهما رجال الإصلاح على إنشاء مدرسة الشبيبة في سنة 1945، وتم الانتهاء من إقامة هذه المدرسة وبنائها في سنة 1366 و (1947 م).وحضر حفل تدشينها الشيخ الإبراهيمي والشيخ إبراهيم بن عمر بيوض. وكانت إقامة هذه المدرسة تتويجا للجهود التي بذلها الشيخ مبارك في الأغواط. تابع الشيخ مبارك جهاده في كل الميادين التي اقتحمتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، غير أنه لم تتح له فرصة اقتطاف ثمار جهده، أو رؤية آثار عمله - شأنه في ذلك شأن أستاذه وشيخه عبد الحميد بن باديس، فمضى للقاء ربه يوم الجمعة 1364 هـ = 9 شباط (فبراير) 1945، عن عمر يناهز (48) عاما. تاركا وراءه لدنيا الجزائر أثرا لا يمحى (هو تاريخ الجزائر الحديث) ومخلفا من بعده أجيالا تسير على نهجه وتكمل أداء (الرسالة الخالدة) رسالة الإسلام والعروبة والجزائر.

ج - الشيخ أحمد توفيق المدني

ج - الشيخ أحمد توفيق المدني ما من كتاب صدر عن الجزائر، أو تعرض للجزائر، خلال الفترة الممتدة من سنة 1925 - 1980 إلا وكان للشيخ أحمد توفيق المدني ذكره مقترنا بأفضل ما يطمح إليه الإنسان من الذكر الحسن والإشادة بأجمل الفضائل. وإذا دل ذلك على شيء فإنما يدل على الأثر العميق الذي تركه في حياة الجزائر الدينية والاجتماعية والسياسية خلال مراحل الجهاد الأفضل والصراع الأمثل. وقف الشيخ أحمد توفيق المدني، وإلى جانبه القائد فرحات عباس، في نيسان - إبريل - 1956 ليعلن من القاهرة، تأييد جمعية العلماء للثورة، وانضمام مجاهديهم إليها وكان ذلك تحولا حاسما في حياة الثورة. لكن قصة الشيخ المدني لم تبدأ في هذه المرحلة، إن قصته مع الثورة قصة طويلة تعود إلى نعومة أظفاره، وأيامه الأولى مع الحياة، لقد خلق ليكون ثائرا. ويتحدث الشيخ أحمد توفيق المدني عن حياته، فيقول: (في إحدى الديار العربية التي يرجع عهد بنائها إلى العصر الحفصي الأخير بتونس، ولدت يوم 1 تشرين الثاني - نوفمبر - 1899 - الموافق 24 جمادى الثانية سنة 1317 هجرية. سليل عائلتين من كرام المهاجرين المجاهدين الجزائريين. أما الأب فهو محمد بن أحمد بن محمد المدني مولدا، القبي الغرناطي، من السادة الأشراف. ولد بالحضرة الجزائرية، وتلقى علومه العربية بالجامع الكبير، وكانت به بقية من كبار علماء الجزائر. أما جده فقد كان أمين

الأمناء، أي شيخ بلدية العاصمة الجزائرية. ثم اعتزم الهجرة مع والده إلى تونس عندما اشتد الاضطهاد الإفرنسي بمدينة الجزائر. واستقر حينا ببلاد الجرجرة الأبية. وكان ذلك سنة 1870. ووقعت الثورة الكبرى التي تولى كبرها المجاهدان المقراني وابن الحداد، فشاركا فيها إلى أن انهارت. وتعارفا يومئذ مع جدي للأم - الصالح الشيخ عمر بويراز، الذي كان بدوره قاصدا مدينة تونس، مهاجرا مع أخيه عبد الرحمن، واشترك هو وأخوه في أعمال الثورة، ثم انتقل الجميع بعد ذلك إلى تونس في قافلة واحدة). ويتحدث الشيخ المدني عن طفولته: (هل كنت حقا صبيا؟ إنني لفي شك من ذلك مريب؟ لقد كانت الحياة في منزل فخم، جمع الأب والأم والابن، حياة ناعمة سعيدة، لا يؤرقني فيها إلا ما كنت أصغي إليه من حديث الأب والجد والخال عندما يزوروننا، ليتبادلوا أحاديث السمر، وليجتروا ذكر فظائع الاحتلال الإفرنسي، وذكر استحواذ الإفرنسيين على سلطة ونفوذ في البلاد التونسية - اعتبارا من سنة 1881 - ... وكنا قبل العشاء نحيط بجدي - عمر بويراز - ونتحلق حوله رجالا ونساء وصبيانا، فيلقى علينا كل ليل درسا في الدين والأخلاق، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعرج - كل يوم - على ذكر الاحتلال الإفرنسي بالجزائر ومآسيه وفظائعه ومذابحه وقذارته، إلى أن يستقر شعورنا، وإلى أن تسيل دموعنا، ويقول لنا كلمة لم نكن نفهمها يومئذ وفهمناها فيما بعد: (إن هذه الدموع هي خميرة المستقبل). ثم نصلي العشاء جماعة، وهو يؤمنا. ونتركه بعد ذلك لتهجده وأذكاره. ونسير جمعا إلى غرفة خالي - محمد بويراز. فيأخذ في الحديث الثائر المهيج

الهادف، ويحتد في حديثه وهو يتعرض لحالة الإسلام والمسلمين. وعن اعتداء أعداء الإسلام على بلاد الإسلام، وأن ما سيأتي به المستقبل هو أدهى وأمر، نظرا لفراغ البلاد الإسلامية من الدعاة المرشدين. واشتغال كل مسلم بما يعنيه خاصة). بدأت حياة أحمد توفيق المدني بكتاب من كتاتيب العاصمة تونس، ولم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره. لينتقل في سنة 1909 إلى المدرسة الأهلية القرآنية، ومنها إلى الجامع الأعظم (جامع الزيتونة) في سنة 1913. (والمدرسة الخلدونية - التي تعد تكميلية للدراسة الزيتونية). وأظهر خلال ذلك قدرة خطابية مثيرة، وكفاءة عالية في الكتابة دفعته إلى تحرير عدد من المقالات الوطنية والاجتماعية والسياسية، نشرها في صحيفة (الفاروق) التونسية - التي كانت تصدر أسبوعيا. (وكان ذلك في سنة 1914). وعندما انفجرت الحرب العالمية الأولى، كون خلية من رفاقه للتحريض على الثورة ضد فرنسا. فكان أن اعتقلته السلطات الإفرنسية في تونس يوم 14 شباط - فبراير - 1915 وألقت به في السجن حتى شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1918.وقد أفاد من فترة السجن لمتابعة تعليمه الديني ودراسة اللغة الإفرنسية حتى أتقنها. وعندما خرج من سجنه، كان إنسانا جديدا قد صلب عوده، وتكونت شخصيته، واتسع أفقه، رغم حداثة سنه. أدى هذا النضج المبكر، بالمجاهد الشاب أحمد توفيق المدني، إلى الالتقاء مع جيل رواد الجهاد، حيث تم له التعارف في تونس مع الشيخين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير

أحمد توفيق المدني، في افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة سنة 1947، وإلى جانبه الشيخ خير الدين.

الإبراهيمي واللذين سيكون لهما أثر كبير في حياته. كما ساعده ذلك على التحرك السياسي مع الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي - مؤسس حزب الدستور التونسي - وذلك في سنة 1919. وفي 29 أيار - مايو عقد الحزب مؤتمرا له - في منزل الشيخ حمودة المنستيري بالمرسى، وبرئاسة الشيخ عبد العزيز الثعالبي. وتقرر انتخاب أحمد الصافي أمينا عاما للحزب وأحمد توفيق المدنى - أمينا عاما مساعدا للقلم العربي. وأعيد تنظيم الحزب، فكان أعضاء اللجنة التنفيذية يضمون 27 رجلا. غير أن حزب الدستور لم يلبث أن انهار تحت ضربات الاستعمار الإفرنسي ومؤامراته. وتم إبعاد (أحمد توفيق المدني) إلى الجزائر يوم 5 حزيران - يونيو - 1925. حيث انفتحت له آفاق جديدة للجهد والجهاد. كان أول لقاء له مع شعب الجزائر في حفل الشبيبة الإسلامية بالجزائر في ليلة 27 رمضان من سنة 1925. ووصف هذه الليلة بأنها (من أسعد ومن أغرب ومن أثرى ليالي حياته) اندفع فيها بحماسته المعهودة وهو يلقي خطابه على حضور زاد عددهم على (500) جزائري. وختم خطابه بقوله: (ليكن شعاركم في حياتكم أيها الأحرار الأبرار: الإسلام ديننا، العروبة لغتنا، الجزائر وطننا، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). وقد أشعره تجاوب الجمهور معه بضرورة العمل بحماسة أكبر. عمل بعد ذلك على تأسيس (نادي الترقي) ليكون قاعدة للعمل الديني والسياسي والاجتماعي وذلك في سنة 1927. وفي هذا النادي ذاته تشكلت (جمعية العلماء المسلمين الجزائرين) سنة

1931. وكان لأحمد توفيق المدني دور هام في تشكيل هذه الجمعية وتنظيمها. كما كان في جملة نشاط نادي الترقي: 1 - تأسيس جمعية الفلاح. 2 - جمع شمل وحدة النواب الجزائريين المسلمين. 3 - تنظيم اجتماع مؤتمر طلاب شمال أفريقيا. 4 - تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية الكبرى. 5 - مقاومة سياسة التجنس والاندماج. 6 - مساعدة الكفاح الفلسطيني. 7 - محاولة تكوين البنك الإسلامي الجزائري. 8 - مقاومة التبشير المسيحي. 9 - تكوين جمعية الزكاة. وقد تعثرت هذه المشاريع في حين حقق بعضها نجاحا رائعا في تحقيق بعض أهدافها؛ غير أن مجرد استعراض (نوعية هذه المشاريع) هو أمر كاف لإبراز فضائل القدرة المحركة الكامنة وراءها. عرف عن الشيخ أحمد توفيق المدني أنه منظم رائع أكثر منه خطيبا في المحافل، وأنه خطيب مفوه أكثر منه شاعرا، وأنه شاعر أكثر منه كاتبا صحفيا، وكاتب صحفي أكثر منه باحثا ومؤلفا. وقد كانت هذه المواهب أو الكفاءات المتنوعة التي تحقق التكامل أكثر مما تسبب التنافر، هي أفضل سلاح للشيخ المدني في جهده الصادق وجهاده الميمون. فمضى يحارب على كل الجبهات، ويخوض الصراع في كل الميادين. وكانت الصحافة هي مجاله الأول وميدانه الأفضل نظرا لمعرفته بما كان للكلمة من أثر بالغ في استثارة الجماهير. وها هو نموذج عن مقالة له تحت عنوان (بين الموت والحياة)، وموقعة بلقبه (المنصور) (¬1)؛ جاء فيها هجوم حاد ¬

_ (¬1) مجلة الشهاب - العدد 3 - المجلد السادس - 27 شباط - فبراير - 1930.

على سياسة الدمج و (التفرنس) وتضمنت ما يلي: (طريقان قد فتحا اليوم في وجه - الجزائر الفتاة - وعلى رأس كل من الفريقين جماعة ترغب الناس سلوك ذلك الطريق وتعدهم الوعود، وتمد لهم في الأماني. أما الطريق الأول: فهو طريق التجنس والتنازل عن القومية واللغة، ونبذ التاريخ والتقاليد، والدخول في جنسية جديدة هي جنسية العنصر الغالب، والاندماج فيها. وقبول ما يتبع ذلك التجنس والاندماج من أخلاق جديدة، ولغة جديدة وعقلية جديدة. ودعاة هذا الطريق يبثون دعوتهم بجد ونشاط، يكتبون ويخطبون ويحادثون وينشرون الصحف والمجلات باللغة الإفرنسية طبعا، ويريدون أن يؤثروا على الطبقات المتعلمة في المدارس الإفرنسية والمتشبعة بالأفكار الإفرنسية. وأما الطريق الثاني: فهو طريق المحافظة على الذاتية الجزائرية، أي المحافظة على دين البلاد وعلى لغتها، وعلى تقاليدها، وعلى مدنيتها الخاصة، وعلى توثيق الرابطة بين حاضرها وبين تاريخها المجيد. والأخذ من ثمرات المدنية الغربية بكل نافع مفيد، لا يمس العقيدة الدينية والوطنية، ولا يعتدي على كرامة البلاد، ولهذا الطريق أنصاره ودعاته حتى من بين طبقة الشبيبة المتعلمة في المدارس الإفرنسية، فأي الطريقين يجب أن تسلك الجزائر، وهي في فجر نهضتها الحديثة؟ ... لقد أخفقت سياسة التجنس والاندماج تماما، وأفلست كل الإفلاس. وهكذا يخيب ويفلس كل أمر مخالف لسنن الطبيعة وقوانين الاجتماع. فلم يتجنس المتجنس إذا، ويقدم على التضحية بدينه وقوميته؟ اللهم إلا إذا كان يرى دينه منحطا فيريد أن

يتبرأ منه، ويرى لغته ساقطة فيريد أن يستبدل بها غيرها، ويرى أن أمته سافلة فيريد أن يعتز بأمة أخرى، ويرى تاريخه بشعا فيريد أن يقطع الصلة بينه وبينه. فهو يصبغ نفسه صباغا خشنا، ويحشر نفسه في زمرة قوم ليس منهم وليسوا منه. ويغدوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومثل هذا الرجل قليل في الجزائر والحمد لله. المسألة الموضوعة أمامنا الآن، هي مسألة المحافظة على الإسلام وعلى العربية. وهذه المحافظة هي البرنامج الوحيد الذي يجب أن يكون برنامج الجزائر بأسرها في حاضرها ومستقبلها. وكأن الجزائر اليوم غير شاعرة بتلك الحقيقة الرهيبة القاسية التي نراها رأي العين أمامنا. كأنها ليست شاعرة بأن الإسلام في الجزائر سائر في طريق الموت. وكأنها ليست شاعرة بأن العربية في الجزائر سائرة نحو الاضمحلال. وكأنها ليست شاعرة بأنها إذا فقدت إسلامها وعروبتها فقدت كل شيء ولم تنل شيئا. وكيف نريد أن يحيا الإسلام وأن تحيا العروبة في الجزائر. إذا كان الشعب الجزائري لا يعمل العمل الجدي الصالح في سبيل تلك الحياة؟. تظنون أن الإسلام يستطيع أن يعيش إسلاما تقليديا على مر الدهور كما هو الآن عائش في أوساطنا؟ وإذا كنا لا ندرسه ولا نبث دروسه في كل الأوساط وفي مختلف الجهات، فماذا يبقى لنا منه بعد جيل آخر؟ والعربية، كيف تستطيع أن تعيش وأن تقاوم في سبيل الحياة، إذا نحن أهملنا دراستها إهمالا، ونبذنا أمرها ظهريا؟ وعلى من تريدون أن تعتمدوا لحفظ دينكم ولغتكم؟ أتعتمدون على الحكومة؟ ... إن كانت الأمة تريد لنفسها الحياة في ذاتيتها، فليس عليها إلا أن تقوم وحدها بكل الجهود، وتنتشل بأيديها

أبناءها من هذه الحالة البائسة، وهذا هو وحده واجب الأمة اليوم. وهذا هو موقفها بين (الموت والحياة) .... فيا شعب الجزائر: عربيتك ودينك في حالة تلاش واضمحلال، وناشئتك في جهل وإهمال. وإن مستقبلك كأمة إسلامية هو بين يديك. فإن شئت عملا صالحا فهذا أوان العمل الصالح. ولا يكون العمل منتجا مثمرا إلا إذا كان رائده التضحية والاتحاد، ونبذ كل شقاق وخلاف، وعدم النظر إلا للواجب المفروض ... لسنا الآن في وقت يسمح لنا أن نتشاجر فيه وأن نختلف، بل نحن في وقت يوجب علينا أن نوحد الجهود. وأن نكون صفا واحدا يعمل بعزيمة لا تلين في سبيل الله والأمة والوطن). ويقرن (المدني) القول بالعمل، وهو ما تبرزه الحادثة الطريفة التي يعرضها - المدني ذاته - بقوله: (كنا في قاعدة - نادي الترقي - وعلينا كآبة وفي نفوسنا هم - بسبب الاستعدادت الإفرنسية للاحتفال بمناسبة مرور مائة سنة على احتلالها للجزائر - وإذا بالسيد محمد بلحاج مدير المدرسة الثعالبية الكبرى وأحد كبار الملحدين والمتفرنسين، يخبرنا بأنه قد ولد للسيد (ساطور) زعيم المتجنسين ولد بالأمس، فأطلق عليه اسم (كريستيان) أي (المسيحي) ونظر إلي نظرة شماتة، لأنه علم أن الأمر يؤلمني ويمعن في تعذيبي. قلت للناس من حولي؛ انظروا: هذه هي نتيجة التجنس بالجنسية الإفرنسية! وشاء ربك أنني رزقت بولد في نفس الليلة، هو مولودي الأول، فأطلقت عليه إسم (إسلام).

وذهبت من الغد إلى النادي. واجتمع الناس، وكان بلحاج حاضرا، فوقفت وقلت: يا جماعة! بالأمس ولد لزعيم المتجنسين ولد دعاه (كريستيان) واليوم أبشركم بأنني رزقت ليلا بولد دعوته (إسلام). ففي هذين الاسمين منهاج سياستين: سياسة التجنيس تجعل أولادكم (كريستان) وسياسة الإسلام والعروبة والوطنية تجعل أولادكم (إسلام) فاختاروا، وأنتم الآن على بينة من الأمر. وصفق القوم طويلا. أما محمد بلحاج فقد اصفر لونه، وتلعثم لسانه، وقال بعد لأي: لقد جنيت على ولدك جناية لن يغتفرها لك إذ أطلقت عليه هذا الاسم. ونظرنا إليه جميعا نظرة احتقار وازدراء. وأقسم بالله إنني لم أعد منذ ذلك اليوم أسمع في النادي كلمة تجنس، ولا تجنيس. ماتت الفكرة إلى الأبد. ولم نر وجه محمد بلحاج بعدها إطلاقا) (¬1). ويمضي الشيخ مدني على درب الجهاد، بالكلمة والعمل، مركزا جهده باستمرار على قضية (الأصالة الذاتية للجزائر) وهي الأصالة المرتبطة أبدا بالإسلام والعروبة. ويحدث في سنة 1934 أن دفعت الإدارة الإفرنسية بعض أذنابها للتقدم بطلبات أبرزها: (1 - إلغاء مساجد المسلمين. 2 - إغلاق المدارس التي تعنى بتعليم القرآن الكريم. 3 - تقييد حرية الصحافة في الجزائر، وتثور الجزائر من أقصاها إلى أقصاها. وينتصب الشيخ المدني عملاقا وهو يمتدح أصالة شعبه ويهاجم بعنف وجرأة الاستعمار وأذنابه. فيقول: ¬

_ (¬1) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 2/ 167 - 168.

(احتقروها واستصغروها، وتهاونوا بأمرها، وغرهم منها طول السكوت وطول الاستسلام، وخالوها ميتة فاستنسروا، وحسبوها جثة هامدة فتنمروا. وراموا الإجهاز على ما بقي فيها من بقية الحياة، بحسب ظنونهم، فتآمروا وقرروا ما قرروا، والله من ورائهم محيط. تحدوها امتهانا وصغارا، فإذا بها ترفع ذلك التحدي بأنفة وكبرياء. وقرروا فيما بينهم موتها، فإذا هي تقرر على رؤوس الملأ حياتها الخالدة. كذبت أمانيهم، وسفهت أحلامهم، وأرتهم رأي العين كيف تكون الأمم الناهضة وكيف تكون الشعوب المستيقظة، وكيف تتقدم في ميدان العمل السلمي المشروع أمة تتوثب للسعادة فأرادوا لها الشقاء، وتتطلع للحرية فصاغوا لها قيود الاستعباد. وتريد أن تتقدم مع المتقدمين، فأرادوا لها التقهقر مع الغابرين). وكم كانت أمة الجزائر الحية الحساسة بديعة في مظاهرها القوية الناطقة. وكم كانت جليلة رائعة. يوم نطقت فيها مئات آلاف من الألسنة والقلوب. في تلمسان، وفي قسنطينة، وفي بونه، وفي جيجل؛ وفي بسكره؛ وفي قالمة، وفي سوق أهراس، وفي عشرات من المدن والقرى، فكان نطقها رهيبا، وكان صوتها مدويا مسموعا، وكانت كلماتها الصادرة عن يقين وإيمان تسمع حتى الصم، وتنفذ حتى إلى القلوب الغلف التي هي كالحجارة أو أشد قسوة. كانت موجة الاستياء عظيمة لم تر البلاد مثلها فيما سلف. وبلغت القلوب الحناجر لما لحق بها من ألم وكمد. وكاد اليأس يستولي على الأنفس فيقودها حيث يقود اليأس

عادة الأنفس المستاءة. لولا حكمة أصلية كبحت جماح النفس وألزمتها السكينة والهدوء ... وبلهجة ساخرة، مريرة، يقول الشيخ المدني: تمخضت أمة الجزائر مائة وأربعة من الأعوام فولدت ... حسن الدواجي قاضي تلمسان، وابن عبد الله نائبها المالي، وابن علي الشريف نائب مالي بلاد القبائل، وغرسي نائب مالي مليانة، وسي جلول خليفة الأرباع. وهم أبطال هذا العصر ومعجزة هذا المصر، أتوا بما لم يأت به الأوائل ولا الأواخر، واقترحوا على الإدارة الإفرنسية من المقترحات ما به تزول الكروب، وتنجلي الخطوب، وتنتهي الأزمة وينقذ الفلاح، وينتهي خطر المرابين، ويتعلم التسعة والسبعون بالمائة من أبناء الأمة الأميين، ويتبدل شقاء الجزائر سعادة، وفقرها غنى ومسرة، وروعها أمنا واطمئنانا، اقترحوا - ويا للعار والشنار - هذه المقترحات التي سولت لهم أنفسهم اقتراحها: أولا: تأييد غلق مساجد المسلمين التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، في وجه علماء المسلمين غير الرسميين، الذين يريدون أن يقوموا بما أوجبه عليهم ربهم من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والإرشاد. لم يكتف هؤلاء السادة بقرار عامل عمالة (ولاية) الجزائر، فهم يريدون تأييد ذلك القرار بقانون رسمي. ثانيا: القضاء النهائي على البقية التي سلمت إلى هذه الساعة من التعطيل، من المدارس القرآنية الحرة التي تلقن أبناء المسلمين كلام الله وآيات الذكر الحكيم، حيث لا يوجد ذلك في

مدرسة أخرى. بدعوى أن تلك المدارس لا تخضع لقواعد الصحة، ولا تخضع للحكومة. وما كنا نعلم قبل هذا الاكتشاف الخطير أن في الجزائر مدارس لا تخضع للحكومة ولا لقوانينها. ثالثا: تقييد حرية الصحافة بالجزائر، لا الصحف العربية التي لا توجد في الدنيا بأسرها صحافة أضيق منها حرية، ضرورة أن يكون للوالي العام حق إغلاقها متى شاء، وكما أراد، بواسطة قرار يصدره بصقته نائبا عن وزير الداخلية - بل الصحف الإسلامية التي تصدر باللسان الإفرنسي والتي يديرها رجال يحملون الجنسية الإفرنسية. تلك الصحف التي تخضع للقانون العام، قانون الصحافة الشهير، الذي نسمع به نحن مجرد السماع فقط، قانون 1882، تلك الصحافة، هي التي يريدون أن يقيدوها ويكمموها، حتى لا يبقى للمسلم الجزائري صوت يسمع وكلمة تقال. بدعوى أن هذه الصحف تعمل ضد نفوذ فرنسا بالبلاد. وهل نفوذ فرنسا بهذه البلاد مزعزع إلى الدرجة التي تخافون معها أن تقضي عليه الصحافة التي ليست هي بشيوعية ولا بثورية، إنما قصاراها أنها تقول كلمة حق. ... وتتعاظم قوة المقاومة في المغرب العربي - الإسلامي الخاضع لحكم فرنسا. وتفشل كل الوسائل القمعية والأساليب القهرية في إعادة العملاق الجزائري إلى قمقمه. وتشعر فرنسا بقوة الضرام الكامن خلف الرماد، وتتزايد مخاوفها مع اقتراب نذر الحرب العالمية الثانية. ويكتب الشيخ المدني في تشرين الأول - أكتوبر -

1937. ما يلي: (نعم! في الشمال الأفريقي هيجان، وفي الشمال الأفريقي اضطراب، وفي الشمال الأفريقي حركة تذمر واحتجاج عنيفة وبعيدة الغور. ولسنا نحن الذين ننكر ذلك أو نحاول التخفيف من حدته في نظر الحكومة. إنما نحن نسأل حكومة فرنسا وحكومة الجزائر، ونسأل كل عاقل مدرك في هذه الدنيا: هل يمكن أن يركن إلى جانب التهيج، وأن يستاء وينزعج، وأن يصل إلى درجة اليأس، شعب قانع بما لديه من سعادة، راتع في بحبوحة العيش الهنيء متمتع بإدارة حازمة تضع دواءها على موضع دائه ساعة أن يحس بوجوده، وحكومة عطوفة تسهر على صالحه، وتجيب في التو والحين رغباته، وتغدق عليه من ضروب الخير والنعم أصنافا وألوانا، وتمكنه من وسائل العلم النافع والعمل الصالح؟). ويعود الشيخ المدني في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1937، لمعالجة (مشكلة الجزائر) فيقول: (إن العصر عصر قوة لا عصر حق. فما دمنا نقدم الحق وندافع عنه بصفته حقا لا يعتمد إلا على النظريات والأقوال، فسوف لا نلاقي في نضالنا إلا الخيبة والفشل. علينا أن نكون أنفسنا تكوينا جديدا قويا. تكون قوتنا فيه مادية فعالة، قوة كفاح سلمي مشروع يعتمد على المال الوفير والرجال الأقوياء المتعاضدين. عندئذ، وعندئذ فقط، إن تكلمنا استمع الناس لمطالبنا، وإن اتجهنا نحو الحكومة عاملتنا كما تعامل الأقوياء، لا كما تعاملنا اليوم). لم يكن الشيخ المدني محصورا في دفاعه عن المسلمين

بالحدود الجغرافية للجزائر المجاهدة، شأنه في ذلك شأن كل الشيوح في رابطة العلماء الجزائريين، وشأن معظم الذين تصدوا لقيادة الصراع ضد الاستعمار الإفرنسي. لقد أدرك الجميع أن معركة الجزائر هي جزء من الحملة الصليبية الشاملة ضد العالم الإسلامي - العربي - وعلى هذا لم يكن من الغريب أن يتصدى الشيخ المدني لمعالجة قضايا العالم الإسلامي، وأن ينقلها إلى صفحة الجزائر، بمثل ما ينقل صراع الجزائر إلى أفق العالم الإسلامي. وفي حديثه عن فلسطين، في تموز - يوليو - 1937 جاء ما يلي: (كان آخر اختراع أنتجته المخيلة الاستعمارية الانكليزية هو تجزئة فلسطين إلى ثلاثة أقسام: قسم شرقي جبلي يقع ضمه إلى مملكة شرقي الأردن التي يتولى أمرها الأمير عبد الله، وقسم غربي يشمل سواحل فلسطين الشمالية وأخصب بلادها ويكون دولة يهودية مستقلة تمام الاستقلال لها حكومتها وإدارتها ودستورها. وأخيرا قسم ثالث يشتمل بيت المقدس ومراحل حيفا، ويبقى تحت الانتداب الإنكليزي بدعوى حماية الأرض المقدسة ومجرى نفط الموصل. ففلسطين التي اقتعطت أول مرة من بلاد الشام، ثم نكبت بالاستعمار الصهيوني، يريدون أن ينكبوها أخيرا بتقسيم جديد يمزق أوصالها، ويجعل فيها لليهود دولة رسمية ذات استقلال تام. ثم تبقى المدينة المقدمة تحت نير الوصاية إلى أن يقع تمهيدها للصهيونية فتزدردها. وقد أجمعت كلمة العرب في فلسطين على رفض هذا المشروع الخاسر، وأجمعت كلمة العرب في العالم أجمع على تأييد هذا الرفض الأبي لأنه لا يوجد من يجري في عروقه دم العروبة الحار، ويرض ى

مثل هذه المذلة والمهانة - ويخلص إلى القول - إن قدر الله وضاعت فلسطين، فإنها والله لن تذهب ضحية الصهيونيين، بل هي تذهب ضحية المسلمين الجامدين، وضحسة سلوك المسلمين المتغافلين. فيا عامة المسلمين ويا خاصتهم، ويا ملوكهم وأمراءهم وقادتهم، هذه فلسطين الشهيدة ضائعة متلاشية فماذا أنتم فاعلون؟،. ... ويمضي الشيخ المدني في ممارسة دوره، ملتزما بما حدده لنفسه من منهج في الحياة - حرا خلقت وحرا أعيش وحرا أموت. ومن موقع الحرية هذا ينطلق للتبشير بثورة التحرير (1954)؛ حتى إذا ما تفجرت، انطلق وإخوانه لدعمها بصورة سرية، حتى إذا ما اعتقل الشيخ التبسي في سنة 1956 وضاقت آفاق العمل السياسي، انتقل برفقة عباس فرحات إلى القاهرة لمتابعة الصراع السياسي. وتنتصر الثورة، وتعود الجزائر لتحتضن أبناءها الذين ما عرفوا في يوم من الأيام إلا الحب لها والعمل في سبيلها. وينتقل الشيخ المدني من مجال العمل السياسي إلى مجال البنء. وتبقى الكلمة رائدة. فينطلق إلى عالم التأليف. وتصدر له مجموعة من الكتب (عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع) أهمها (حياة كفاح) في جزئين. والمأمول أن توافق الحكومة الجزائرية في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد - الرجل الثائر - على الإفراج عن الجزء الثالث من هذه المذكرات (¬1). هذا بالإضافة إلى ما سبق له نشره، ¬

_ (¬1) قدم الشيخ أحمد توفيق المدني مشكورا للمؤلف مجموعة كتبه وذلك أثناء زيارة =

د - الشيخ الطيب العقبي

بداية من تقويم المنصور ورواية وحرب الثلاثمائة سنة بين إسبانيا والجزائر وتاريخ الجزائر وإسهامه بتاريخ الجزائر الحديث (الذي وضعه الشيخ مبارك بن محمد الميلي). واليوم، وقد بلغ الشيخ المدني الثمانين من العمر - لا زال يتدفق نشاطا وحيوية وهو يدير (المركز الوطني للدراسات التاريخية - الجزائر) ولا زال يسهم بالبحوث الغزيرة في (مجلة التاريخ) الصادرة عن المركز الوطني للدراسات التاريخية، والتي يرأس تحريرها أيضا. ويضيق المجال عن ذكر ما قدمه هذا الشيخ المجاهد بحق لأمته الإسلامية وشعبه العربي ووطنه الجزائري: إنه سيف من سيوف الإسلام والعروبة والجزائر. د - الشيخ الطيب العقبي: إنه من مواليد الفترة الأخيرة من القرن الماضي - التاسع عشر - أمضى في (المدينة المنورة) المرحلة الأولى من شبابه - قبل الحرب العالمية الأولى، وعاصر الثورة العربية في سنة 1916، واتهم بالمساهمة فيها من قبل الأتراك، فنفي إلى تركيا، ثم رجع إلى (مكة المكرمة) ليدير جريدة (القبلة) و (المطبعة الأميرية) في حكم الحسين بن علي شريف مكة. ولم يلبث طويلا، حتى عاد إلى وطنه الجزائر، التي استقبلته، داعيا مصلحا وشاعرا وكاتبا

_ = المؤلف للجزائر في صيف سنة 1979. وقد أسهمت هذه الكتب والمؤلفات في إغناء البحوث التي يتم تقديمها للقارىء في إطار هذه المجموعة من الكتيبات عن الجزائر المجاهدة. فللأستاذ المدني شكر المؤلف وتقديره. (انظر قراءات 2).

وخطيبا. ولم يلبث أن أسس جريدة (الإصلاح) في بسكرة سنة 1926، فكانت إحدى الصحف التي رفعت راية الريادة في إيقاظ النهضة الفكرية الإصلاحية، والتي قال عنها (الشيخ بشير الإبراهيمي) ما يلي: (ثم أسست جريدة (الإصلاح) ببسكرة، فكان اسمها أخف وقعا، وإن كانت مقالاتها أسد مرمى، وأشد لذعا. وأسماء الجرائد كأسماء الأناسي، يظن الناس أنها وليدة الاختيار المقتضب، والشعور الطافر، وغلطوا. إنما هي وليدة شعور متمكن، وتأثر نفساني عميق، تزجيه مؤثرات قارة). وعندما التقى العلماء في (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) سنة 1931، كان الطيب العقبي أحد مؤسسيها الرئيسيين، ومن أبرز أقطابها العاملين. ويتحدث عنه الشيخ المدني بقوله: وكانت فصاحته تخلب الألباب، ذو صوت جهوري يؤثر على الجماهير. كما كانت لسيرته الفاضلة وسلوكه الديني النقي دورهما في التأثير على الجماهير تأثيرا عظيما ... كان العقبي عظيما، مدهشا، يخلب الألباب بسحر لسانه وبديع بيانه. فالتفت العامة حوله التفافا رائعا وساندته مساندة قوية). وعندما توجه الوفد الوطني الجزائري إلى باريس سنة 1936 برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس. كان (الشيخ العقبي) في جملة أعضاء الوفد. ويصف ابن باديس موقفا من مواقف العقبي في هذه الرحلة، فيقول: (فلما ترنحت السفينة على الأمواج، وهب النسيم العليل، هب العقبي الشاعر من رقدته، وأخذ يشنف أسماعنا بأشعاره، ويطربنا بنغمته الحجازية مرة، والنجدية أخرى، ويرتجل البيتين والثلاثة والأربعة في المناسبات، وهاج بالرجل شوقه إلى الحجاز،

فلو ملك قيادة الباخرة، لما سار بها إلا إلى جدة دون تعريج على أي مرسى، وإن رجلا يحمل هذا الشوق كله إلى الحجاز، ثم يكبته، ويصبر على بلاء الجزائر وويلاتها ومظالمها، لرجل ضحى في سبيل الجزائر تضحية أي تضحية). لقد عايش الشيخ العقبي حركة الإصلاح الديني التي انطلقت من الجزيرة العربية (الحركة الوهابية) ويظهر أنه تأثر بها إلى حد كبير. وعندما وصل الجزائر صدمته بدعة الطرقية وانحرافاتها، فانطلق في الهجوم عليها بعنف وقوة، مستخدما موهبته الشعرية (¬1) ¬

_ (¬1) نشر الشيخ العقبي في مجلة (الشهاب) الأسبوعية سنة 1927 قصيدة جاء فيها: هلم بنا يا قوم نحو الملا نرقى ... لتجديد دين الله فهو الذي يبقى ودونكم أهل الغواية والردى ... ففيهم وعيد الله، لا شك قد حقا أناس دعوكم للضلال، وناصبوا ... ذوي العلم والتقوى العداء لهم حمقا ألم يعلموا أن الجهالة غتيها ... وخيم. وأن الجهل بالمرء كم يشقى فويل، وويل، ثم ويل لجاهل ... قضى عمره بطلا ولم يعرف الحقا رمى جانبا تلك العلوم التي بها ... غدا الغير حرا عندما حرم الرقا (المرجع - صفحات من الجزائر - الدكتور صالح خرفي) ص 283 - 286 وانظر بقية القصيدة في آخر الكتاب - قراءات (3).

وبلاغته النثرية لفضح الطرق ومشايخها، ولإسقاط الهالة الدينية التي كانوا يتسترون بها. استمر الشيخ العقبي، عنيفا في هجومه، مقذعا في نقده، مما أثار شيوخ الطرق ضده. وكانت جمعية العلماء قد تبنت خطا معتدلا يرمي إلى جمع الشمل وإجراء الإصلاح من الداخل - بالحجة والإقناع واكتساب الوقت (وإقناع رجال الطرق بوجوب تطوير زواياهم حتى تصبح معاهد علم ونور وهداية - على نحو ما كان عليه أمرها عند ظهورها). وأدى تطرف العقبي في هجومه إلى أن انفكت العصبة، وانحلت الرابطة الأولى. وانسحب المرابطون من نادي الترقي ومن جمعية العلماء. ثم إن الشيخ العقبي ازدادت صلابته، حتى اصطدم برجال جمعية العلماء - مثل السيد عمر إسماعيل والعاصمي - واشتعلت نار حرب مؤلمة بين الجانبين. إلى أن جاء الاجتماع الثاني للعلماء فانسحب الطرقيون من الجمعية، ثم أسسوا جماعة (علماء السنة). وقعت بعد ذلك حادثة (مقتل مكحول) والتي سبقت الإشارة إليها (نهاية فقرة 3 - مدافع الله) وخرج العقبي من السجن، وهو غير العقبي الذي دخله. فأخذ في الإيضاح للإدارة الإفرنسية حتى إذا ما انفجرت الثورة التحريرية الكبرى (سنة 1954). وقف منها موقف المشكك بقدرتها على النجاح. وأصيب في أواخر أيامه بأمراض الشيخوخة، وتوفي سنة 1956.

هـ - الشيخ التبسي

هـ - الشيخ التبسي: هو العربي بن قاسم التبسي، من كبار علماء الإصلاح بالجزائر، عاش حياته مجاهدا (بتبسة) وقد سبقت الإشارة إلى بعض مواقفه في عرض سيرة (ابن باديس). وبقي في كل مواقفه ملتزما بمواقف (جمعية العلماء). مؤيدا لها، منفذا لمنهجها، وكان له فضل كبير في إيقاظ الوعي الإسلامي الصحيح. وقد يكون من المناسب اختصار كل صفحات جهاده المشابهة لكل صفحات إخوانه من أجل الوقوف على الصفحة الأخيرة منها: (في مساء يوم الخميس 4 رمضان 1376 هـ الموافق 4 نيسان - أبريل - 1957، وعند الساعة 11 ليلا. اقتحم جماعة من الجند الإفرنسي التابعين لفرق المظلات، المتحكمين اليوم في الجزائر، سكنى فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ العربي بن قاسم التبسي، الرئيس الثاني لجمعية العلماء، والمباشر لتسيير شؤونها، وأكبر الشخصيات الدينية، بعد أن حطموا بعض نوافذ الأقسام المدرسية الموجودة تحت شقته (بحي بلكور) طريق التوت، وذلك شأنهم في اقتحام ديار المسلمين. لا يأتونها غالبا من أبوابها، وإنما من السطوح أو النوافذ، لتتم - حسب زعمهم - المفاجأة، أو ليشتد الإرهاب والنكال. ثم طرقوا باب الشقة، ففتحت لهم، وكانوا يرتدون اللباس الرسمي للجيش الإفرنسي، ومسلحين بأسلحتهم التي يحاربون بها الشعب، الجزائري والمدنيين المسلمين. وقد وجدوا فضيلة الشيخ في فراش المرض الملازم له. وقد اشتد عليه منذ أوائل شهر آذار - مارس - 1957. وأخذت نوباته تتوالى عليه

عنيفة عدة مرات في الأسبوع. فلم يرعوا حرمته الدينية، ولا سنه المتقدمة، ولا مرضه الشديد، وانتزعوها من فراش المرض بكل وحشية وفظاعة. ثم أخذوا في التفتيش الدقيق للسكنى والملفات والكتب والرسائل، بعد أن حجزوا عائلته، وفصلوه عن أبنائه وبناته. وانهالوا بالضرب على أكبرهم لما حاول مساعدة والده المريض، ثم أخرجوه حاسر الرأس، حافي القدمين غير متدثر بشيء من لباسه المفضل، وأرغموه على ارتداء سروال ولده - البنطال الإفرنجي - ومعطفه، وكلاهما لا يصلح لباسا له لصغره. وكان من المحقق لدى العائلة أنهم ذهبوا به للتحقيق معه، وإنما عومل هاته المعاملة لأنهم لم يشاؤوا أن يميزوه بشيء عن أفراد شعبه، زيادة في النكال والاستفزاز، وكان هذا شأنهم منذ التحصيل على التعويضات الخاصة في آذار - مارس - 1956. وخصوصا منذ أن (حجزت) الجزائر إلى قائدي فرق المظلات (ماسو - و - بجارد). ولكن المفاجأة كانت عندما سئل عنه، من الغد والأيام التالية، في الإدارات الحكومية المدنية والعسكرية والشرطة والعدلية، فتبرأت كل إدارة من وجوده عندها أو من مسؤوليتها عن اعتقاله أو من العلم بمكانه. حتى وصل الأمر إلى الإدارة العليا بمقر الوزير المقيم والوالي العام، فتظاهرت بإنكار العلم، واستنكار (الفعل) ووعدت بالبحث. وقد بقيت المسألة كذلك إلى أن أرسل مراسل جريدة (لوموند) الباريسية بالجزائر، بخبر صغير، نشر في زاوية مهملة، يعلن فيه أن رجال المظلات، قد اعتقلوا الشيخ العربي التبسي، وهو عضو هام في جمعية العلماء، وأنه تحت أيديهم لأجل التحقيق والاستجواب. وكان

ذلك بعد يومين من الاعتقال. وإذا بمؤسسة الصحافة الإفرنسية، وهي هيئة رسمية - تبادر بإذاعة بلاغ على العالم تزعم فيه أن الشيخ العربي التبسي قد اختطف من قبل مجهولين. ويظهر من هذا البلاغ المضلل - أنها محاولة لتبرئة فرنسا من القضية. وجمعية العلماء، تذيع على العالم أجمع أن الإدارة الإفرنسية، المدنية والعسكرية، مسؤولة مسؤولية كاملة في قضية فضيلة الشيخ العربي، وتخشى أن تكون قد اغتالته يد العدوان أو مات تحت التعذيب، ولم يمكنها أن تدعي أنه حاول الفرار، أو افتكاك السلاح من يد الجنود فقتل. كما لم يكن بمقدورها أن تدعي أنه انتحر، وهو مقيد اليدين والرجلين، بعد افتضاحها في قضية الشهداء: ابن مهيدي وبو منجل والعمران، فاخترعت هذه الدعوى لتبرر تنصلها من المسؤولية وعدوان أعوانها. وتلاحظ الجمعية أن فضيلة الشيخ العربي، كان في الزمن الأخير قبلة أنظارهم، ومحط آمالهم، لعلهم يجدون منه لينا أو تفهما يشجعهم على اتخاذه المفاوض الصالح للفت من عضد الثورة، وتشتيت شمل الشعب. فما وجدوا فيه إلا الصلابة والحزم والتضامن الكامل مع شعبه المجاهد وجيش التحرير المحارب وجبهة التحرير المناضلة. لقد زعم بعض المسؤولين، أن الشيخ ربما اختطف من قبل رجال الإرهاب المضاد ثم زعموا في بلاغ أنه اختطف من طرف مجهولين. ثم بدأت بعض التعليقات الصحافية تزعم أن الذين اختطفوه هم الإرهابيون (وهي الصفة التي كانت تطلقها الإدارة

الاستعمارية على رجال جيش التحرير الوطني الجزائري). وإن جمعية العلماء تكذب كل تضليل في الموضوع، وتعلن للرأي العام الإفرنسي، وللرأي العام العالمي، أن الإدارة الإفرنسية المدنية والعسكرية هي التي اعتقلته، وأن رجالها الرسميين هم الذين أخذوه، وأنها تتحمل مسؤوليتها كاملة والأمة الجزائرية، تهيب بكل ضمير حي في العالم، وبكل الهيئات الدولية والمنظمات الإنسانية والمذاهب الدينية، أن يتدخلوا في الموضوع، وأن يسألوا الحكومة الإفرنسية، ويجبروها على فتح تحقيق محايد، لكشف النقاب عن هذه القضية) (¬1). وتلك كانت الصفحة الأخيرة في حياة الشيخ العربي بن قاسم التبسي. ¬

_ (¬1) جريدة المقاومة - الجزائرية - 22 نيسان - أبريل - 1957.

تيار الأصالة الثورية في الجزائر

5 - تيار الأصالة الثورية في الجزائر يظهر العرض السابق أن الجزائر عاشت حياة الثورة الكامنة أحيانا والثورة الدموية في أحيان أخرى منذ أن وطئت أقدام الغزاة الاستعماريين ثرى الجزائر الطهور. غير أن قوة القمع الوحشية وأساليب الحرب الصليبية (الحضارية) تمكنت من إسقاط عدد كبير من المواطنين الجزائريين في شباكها - ولو أن هذا العدد الكبير بقي بالنسبة لعدد مسلمي الجزائر قليلا ومحدودا - وقد استطاعت الإدارة الاستعمارية الإفادة من هذه المجموعة الساقطة من المجتمع الجزائري - في تكوين تيار لا هو فرنسي ولا هو إسلامي، وظيفته خدمة المخططات الاستعمارية الصليبية في الجزائر، دون التمتع بأي امتيازات. وكان لا بد من خلق تيار مضاد، وهنا ظهر دور (رابطة علماء المسلمين الجزائريين. في تنظيم هذا التيار الذي كان موجودا دونما ريب، غير أن هذه الرابطة استطاعت توحيد الجهد في تيار واحد، وفي ذلك ظهرت كفاءة القائد العظيم ابن باديس. وقد وصف الزعيم الجزائري - عباس فرحات - هذا التيار بقوله:

(وكان الجزائريون المتخرجون من جامعة الزيتونة في تونس، والأزهر في القاهرة، يجعلون من نهضة الإسلام والقومية العربية الشروط الأولى للنهضة الجزائرية. وكان أنصارهم من جماهير الفلاحين يشكلون عددا ضخما. فقد كان الشعب الجزائري الذي أرهقه حكم بولسي، واستثمار عنصري، ينطوي على نفسه، ويتمسك بقوة بعقيدته الدينية وانتمائه القومي) (¬1). وكان لا بد لهذا التيار من أن يضم إليه بالضرورة كل أولئك الذين يلتقون معه فكريا وعقائديا، ممن يمثلون الطليعة الفكرية، سواء كان هؤلاء من رجال الصحافة أو من الشعراء أو من الأدباء. وكان لا بد لهذا التيار أيضا من أن يؤثر بقوته على كل التيارات الفرعية التي تمارس عملها بعيدا عن التنظيم، إذا صح التعبير، ويمثل الفئة الأولى الشاعر الجزائري الثائر - محمد العيد - والأستاذ أحمد رضا حوحو، في حين يمثل الفئة الثانية الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض - قائد النهضة الإسلامية في ميزاب، ومعه الصحافي (أبو اليقظان). هذه النماذج - وأمثالها مما يصعب حصره - هي التي عبرت عن تيار الأصالة الثورية، وإذا كان هذا التيار قد استطاع إبراز هذه النماذج ورفعها، فإنه كان ولا ريب تيارا عنيفا، قويا، جبارا، ضم جيوشا من الجنود المجهولين الذين مارسوا دورهم بتجرد وإنكار للذات لا يعرفه إلا أولئك المتصوفة. وشتان بين الصوفية السلبية الهروبية، وبين هذه الصوفية المخلصة الإيجابية. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن هذا التيار هو نسيج متصل، شأنه في ذلك ¬

_ (¬1) ليل الاستعمار (فرحات عباس) ترجمة وليم خوري - ص 270.

أ - الشاعر محمد العيد

شأن كل تيار تاريخي، يتفاعل في الأعماق ليرسل بظواهره كلما كانت هناك ضرورة للظهور. ولقد اقترن هذا التيار - عبر مسيرته الشاقة - بمجموعة من الروافد الفرعية والتي كانت بدورها أيضا من ظواهر الثورة العميقة والجانحة للتعبير عن وجود الجزائر الفتاة وما يتوافر لها من الحيوية، مثل (جمعيات الكشافة الجزائرية المسلمة) و (اتحاد الطلبة الجزائريين المسلمين) و (اتحاد الكتاب الجزائريين) وأخيرا (اتحاد العمال الجزائريين المسلمين) الذي انشق عن الحزب الشيوعي الإفرنسي في ظروف حرب التحرير. عند هذه النقطة تظهر أهمية الدور الرائد للشيخ عبد الحميد بن باديس ومدرسته الإسلامية التي مهدت السبيل بتضحياتها وجهودها أمام طريق الثورة، وفجرت الطاقات الكامنة في أعماق المجتمع الجزائري المسلم. أ - الشاعر محمد العيد قدمه المرحوم البشير الإبراهيمي، سنة 1938 إلى حضور الاحتفال بختم - ابن باديس - رحمه الله لتفسير القرآن الكريم بالكلمة التالية: (ومن يعرف محمد العيد، ويعرف إيمانه وتقواه وتدينه وتخلقه بالفضائل الإسلامية، يعرف أن روح الصدق المتفشية في شعره، إنما هي من آثار صدق الإيمان، وصحة التخلق. ويعلم أن من هذه الناحية بدع في الشعراء). وكان الشيخ الإبراهيمي قد ذكر قبل ذلك في سنة 1937 ما يلي: (إذا كان في النهضة الأدبية العلمية بالجزائر نواحي نقص فمنها أن يبقى شعر

محمد العيد غير مجموع ولا مطبوع) (¬1). أما محمد العيد، فقد قال - في سنة 1965 - معبرا عن أمنياته: (لي أمنيتان في هذه الدنيا، ومرحبا بعدهما بغفوة القبر. أن أحج إلى بيت الله الحرام. وأرى ديواني مطبوعا بين أيدي القراء). وفيه كتب الأمير شكيب أرسلان - من جنيف سنة 1937 ما يلي: (كلما قرأت شعرا لمحمد العيد الجزائري، تأخذني هزة طرب، تملك علي جميع مشاعري وأقول: إن كان في هذا العصر شاعر يصح أن يمثل البهاء زهيرا في سلاسة نظمه، وخفة روحه، ورقة شعوره، وجودة سبكه، واستحكام قوافيه، التي يعرفها القارىء قبل أن يصل إليها، وأن التكلف لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه - يكون محمد العيد، الذي أقرأ له القصيدة المرتين والثلاث ولا أمل. وتمضي الأيام وعذوبتها في فمي. كان يظن أن القطر الجزائري تأخر من إخوته سائر الأقطار العربية في ميدان الأدب، ولا سيما في الشعر، ولعله الآن سيعوض الفرق، بل يسبق غيره بمحمد العيد). ذلك هو تعريف وجيز بالشاعر المجاهد الذي عانى من الحياة قسوتها وشظف عيشها، وعمل مدرسا في معهد (ابن باديس) ¬

_ (¬1) صفحات من الجزائر (الدكتور صالح خرفي) ص 187 - 195. وفيه: (ما أمرها لحظة، وما أبلغها عظة أن يسأل المرحوم البشير الإبراهيمي في أيامه الأخيرة محمد العيد عن حاله، فيرد عليه بهذين البيتين: يا سائلا عنا، وعن أحوالنا ... هذا لسان الحال عنا يخبر أصحابنا رحلوا، وصرنا بعدهم ... غرباء، تنكرنا العيون، وننكر

وهدفه تنشئة جيل مؤمن صلب - كما قال هو ذاته عندما أنحى عليه أصدقاؤه وإخوانه باللائمة لاختياره لهذا العمل الشاق، عمل التدريس (¬1) ومضى يضرب في الحياة مستنفرا الهمم، مثيرا للمشاعر، مؤيدا للإصلاح الذي قاده ابن باديس واضطلعت به جمعية العلماء. مغتنما كل مناسبة للإشادة بالمسؤولين عن هذه الحركة المباركة. وهو الإنسان الجزائري المسلم، الذي سحقته قبضة الاستعمار بكل وحشيتها، لا يتناسى آلام قومه أو يتجاهلها، فينطق شعرا مثيرا يعرض فيه بأولئك المتخمين الذين أنستهم الدنيا مشاركة الفقراء في بؤسهم وشقائهم، وهو لا يفتأ في الإفادة من كل مناسبة للتعريض بالاستعمار الإفرنسي سبب كل البلاء وأس كل الشقاء الذي عاشه الشعب الجزائري المسلم على امتداد ليل الاستعمار. وهو على الرغم من الظلام الدامس الذي ميز ذلك الليل، وعلى الرغم أيضا من الظروف الصعبة التي عاشها، لم ينقطع أبدا عن فتح نافذة الأمل أمام شعبه، مبشرا أبدا بحتمية الثورة وحتمية انتصار الجزائر المجاهدة وشعبها البطل. وكان مصدر تفاؤله هو إيمانه العميق بأصالة أمته التي عبرت عنها (جمعية العلماء الجزائريين المسلمين) التي اتخذت شعارها (الإسلام - العروبة - الجزائر). ¬

_ (¬1) انظر (قراءات - 4) في نهاية الكتاب.

ب - أحمد رضا حوحو

ب - أحمد رضا حوحو (على أثر إعدام المفوض الاستعماري (سانمار سيللي) في قسنطينة من قبل مجاهدي المقاومة السرية يوم 29 آذار - مارس - 1956 قامت القوات الإفرنسية بحملة إرهابية عنيفة، اعتقلت خلالها وجهاء مدينة قسنطينة، ومن بينهم الأديب (أحمد رضا حوحو). وقد سيق هؤلاء الوجهاء إلى سجن (الكدية) ولكن المدير المسؤول عن السجن رفض استقبالهم بحجة أنه لا يوجد متسع لأي شخص في السجن. فقادهم الجنود إلى (الحزوب) على بعد ستة عشر كيلومترا من مدينة قسنطينة، وفي الطريق أطلق الحرس عليهم النار من الخلف، وصرعوهم) (¬1) تلك بإيجاز الخاتمة المأساة لمجاهد طالما عرفه رواد معهد ابن باديس وطلبته، وأنسوا فيه خلقه القويم، وجرأته في مقارعة الاستعمار. ولد أحمد رضا حوحو ببلدة (سيدي عقبة) إحدى ضواحي مدينة (بسكرة) الجميلة بواديها الذي يخترقها حاملا فوق كل ضفة من ضفافه غابات النخيل الخضراء المتناسقة. ثم انتقل إلى مدينة (سكيكدة) على الساحل الجزائري ليواصل تعلمه الثانوي، ومنها ارتحل إلى المدينة المنورة سنة 1937، ليعود بعدها إلى قاعدته في معهد (ابن باديس) وليعمل كاتبا عاما للمعهد في الفترة التي كانت تمارس فيها الإدارة الإفرنسية كل وسائل الضغط والطغيان ¬

_ (¬1) الثورة الجزائرية (أحمد الخطيب) ص 191 ومجلة الشباب (الجزائرية) عدد 20 شباط - فبراير - 1961 ص 6 و7 .

لإعاقة هذا المعهد عن ممارسة دوره. غير أن أحمد رضا حوحو، صمد للضغوط واستمر في أداء دوره، مسخرا أفضل صفتين عرف بهما: (الصمود والعمل المتواصل). اختار (أحمد رضا حوحو) الكلمة سلاحا له، وكانت القصة القصيرة هي مجال هذه الكلمة، فأخرجت له مطبعة التليلي بتونس في أول سنة 1947 قصته (غادة أم القرى) ثم ظهر له (مع حمار الحكيم) وقبل وفاته بأشهر فقط، صدرت له مجموعة قصص قصيرة في كتاب البعث، عدد شهر كانون الأول - ديسمبر - 1955. ومجموعة قصص حوحو هي (نماذج بشرية) قدم لها بقوله: , (لو لم تكن هذه الطباع متباينة بعض التباين، تتمتع بشيء من الحرية لخلا المجتمع من هذه النماذج النادرة الطريفة، ولما وجدنا هذه الضحية من ضحايا المجتمع تكسر قيود بيئتها، وتتخذ من الوطنية دينا يهديها سواء السبيل. ولما تعرفنا على هذا الفقيه الطاعن في السن الذي يتخذ من شرع الله حانوتا لبيع الجرائم. ولما كانت هذه النماذج البشرية التي نقدمها للقراء). كان (أحمد رضا حوحو) يختار أبطال قصصه من واقع مجتمعه، فيجيد تصويرهم بخيال الشاعر وريشة الفنان ليسقط القناع عن الرذائل، وليعمل على إبراز الفضائل، وهدفه الثابت هر تنقية المجتمع الإسلامي العربي من شوائبه، وتطهيره من انحرافاته، حتى لا تكون هناك ثغرة يتسلل منها أعداء الدين والوطن.

ج - الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض وتجربته التربوية الرائدة في ميزاب

ج - الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض وتجربته التربوية الرائدة في ميزاب تبقى هناك تجربة تربوية رائدة عرفتها الجزائر المجاهدة فيما حمل اسم (معهد الشباب) الذي أسس سنة 1333 هـ = 1914 والذي تحول سنة 1375 هـ = 1954 م إلى ما أصبح يعرف باسم (معهد الحياة) نسبة إلى جمعية الحياة الخيرية التي تقوم به. وكانت (القرارة) الواقعة في شرق (ميزاب) بجنوب الجزائر هي مسرح هذه التجربة التربوية التي ارتبطت بحق باسم الشيخ المصلح (إبراهيم بن عمر بيوض). وتكمن أهمية التجربة التربوية الرائدة (لمعهد الحياة) بمجموعة النقاط التالية: أولا: ربط المدرسة التعليمية بالحياة ربطا وثيقا: (تبتدىء الدراسة في المعهد، في الثامنة صباحا وتنتهي في الثانية عشرة زوالا، فينصرف الطلبة إلى دورهم، ومعظمهم يذهبون بعد الغداء إلى بساتينهم وحقولهم للعمل فيها نحو ساعتين في كل يوم. وهذا العمل هو أحسن رياضة للجسم يعول عليها المعهد في ما يجب عليه في التربية الجسمية، إنه يحث التلاميذ على النشاط والعمل في البستان خارج أوقات المعهد. أما في الصيف، فإن دروس الوعظ العمومي، ودروس دار التلاميذ، تتم في فترة بين العصرين، حيث يذهب الطلبة والتلاميذ إلى بساتينهم وحقولهم في الصباح - بعد صلاة الفجر - فيقضون فيها ساعات عديدة، إلى السابعة فيرجعون. وفي البستان، يقوم الطلبة بأعمال تربي خلقهم وعقولهم وأجسامهم، فيتسلقون النخل الطويل للتأبير أو الفرق

وتنضيد العراجين، أو للصرم، ويحرثون الأرض بالفؤوس الكبيرة، وينزحون الماء من الآبار العميقة، ويقومون بكل الأعمال الفلاحية الصعبة، فينهمر العرق من التلاميذ، وذلك العرق هو الذي يغسلهم من الفسولة، ويبعد عنهم الرخاوة والأمراض، ويورثهم أخلاقا عظيمة لا تكون إلا بالعمل في البساتين والحقول! إنه أحسن في التربية من لعب الكرة وغيرها من كل الألعاب التي يأتيها المترفون الفارغون. إن ذهاب الطلبة إلى العمل في البساتين والحقول، من وحي المعهد وتوجيهه، ومن أمر الوالدين وحثهم، لينشأ ابنهم على حب العمل، وعلى النشاط والحزم والشجاعة، وعلى القوة في جسمه، وعلى الفراهة والنضارة في كل نواحيه) (¬1). ثانيا: تنمية الفضائل، من خلال الالتزام بشعار المعهد الذي وضعه له الشيخ بيوض (الخلق قبل العلم، ومصلحة الجماعة قبل مصلحة الفرد). وكذلك: (إن الغاية التي يجب أن يجعلها المتعلم نصب عينيه هي: طلب رضى الله سبحانه وتعالى، وشرف العلم نفسه، وتثقيف العقل، وتربية النفس تربية صحية، وإعدادها لتحمل عبء الإصلاح الديني والوطني). (إن الأنانية هي أم كل الشرور، إنها سبب الحسد والعصبية، والعداوة الشديدة بين الأمم والأفراد، وكل الويلات التي تفتك بالمسلمين. لذلك يحاربها المعهد بكل وسائله، وتحاربها الهيئة التدريسية بكل طاقاتها وتطهر النفوس منها، وتملؤها بحب ¬

_ (¬1) نهضة الجزائر الحديثة (محمد علي دبوز) ص 43 - 44 و34 و158 - 160.

التضحية والغيرة على المصلحة العامة، وبكل الأخلاق الاجتماعية الأخرى: كحسن العشرة والأمانة والسخاء وغيرها. ويتم الاعتماد في ذلك على شيئين: البيئة والأساليب التربوية العملية التي تغرس في التلميذ الفضائل الاجتماعية. إن البيئة في (ميزاب) و (القراره) و (المعهد) كلها تغرس فيه التضحية والاهتمام بالمصلحة العامة. إن وادي ميزاب هو وطن (العمل لله) فمرافقه العامة كالمدارس والمساجد والنوادي ودور العشائر وغيرها، كلها من بناء المحسنين الذين يبتغون رضوان الله وحسن ثوابه، وهم الذين يقدمون كل ما يحتاجه دار المعهد الكبير من أثاث كأسرة النوم وأدوات الطبخ وغيرها. إن جدران المعهد تنطق بهذه الحقيقة، وتأمر بهذه الصفة وتغرس في التلميذ هذه المنقبة العظمى. إن التلميذ يرى العمل لله في أغلب الأشياء التي تكتنفه في دار المعهد. ويرى التضحية والعمل لله في مدير المعهد وأساتذته، إنهم كلهم يعملون لله، وإذا أخذوا شيئا زهيدا من الجمعية، فإنه لا يعد أجرة، إن هو إلا كالجائزة التي تعطى رمزا للتلميذ. إن ما يمسكهم في ثغورهم إنما هو خلق التضحيه والعمل لله، والشعور بالواجب. فلولا هذه الفضائل ما ثبتوا يوما واحدا في ثغورهم. ومع البيئة التي تعتمد عليها البعثة في التربية الاجتماعية تمرين الطالب على خدمة الجماعة، وتعويده القيام بشؤون غيره. وذلك بتكليفه ببا يستطيع القيام به من شؤون المعهد. فيكون له عملا مستمرا يلزمه القيام به). ثالثا: تحمل المسؤولية - الإدارة الذاتية: يجتمع مدير المعهد

مع كبار الطلبة البارزين في مطلع كل عام دراسي فينظرون في قانون المعهد، فيزيدون فيه أو ينقصون، إنهم يحسنونه دائما، ويراعون فيه حاجات الطلاب وأحوالهم، ثم يوزعون الأعمال. وهذه الأعمال إما فردية أو جماعية. فيعينون للجماعية من يليق لها، وللفردية من يستطيع القيام بها. ويكتبون كل ذلك على لوحة - يعلقونها في الدار. فتسارع كل جماعة إلى عملها، ويبادر كل فرد إلى واجبه. فيقومون بها في جد ورغبة وإتقان، وهم يهزجون بأناشيدهم الدينية - الشجية والمثيرة للحماسة وحب العمل-. إنهم يخدمون إخوانهم الذين يحسون أنهم أقرب إلى نفوسهم من إخوتهم - الأشقاء. ويردون لزملائهم بعض اليد، إنهم كلهم يعملون. والأعمال في المعهد كثيرة، ومن الصعب حصرها، ومنها أعمال تتصل بالطبخ، وأخرى بنظافة الدار، وأعمال أدبية ومادية تتصل بالتلاميذ، ومنها: تقوية الضعفاء بدروس خاصة في الدار، ورئاسة الجمعيات وهي للخطابة والكتابة وإدارة خزائن الكتب العامة في الدار وتنظيم إعارة الكتب للتلاميذ واستردادها. وحث الطلبة على القراءة المفيدة. وتعليم الصلاة للمراهقين ومراقبتهم ليصلوا بالطهارة والوضوء، ويتقنوا صلاتهم ويؤدوها في المسجد مع الجماعة. رابعا: إعداد الطلاب للاعتماد على أنفسهم في العلم والتعلم. حيث يعمل (معهد الحياة) على غرس الاعتماد على النفس في التحصيل لدى التلميذ، ودفعه إلى تنمية مواهبه العقلية. ومن أجل ذلك: (يعمل التلاميذ على مطالعة دروسهم وإعدادها قبل تقريرها. وتتم هذه المطالعة بصورة فردية وجماعية، حيث يطالع

فريق من الطلبة يقطعون بفؤوسهم خشبة النخلة بعد إسقاطها. فريق من طلبة البعثة ينقون التمر قبل شحنه في الخابية.

كل تلميذ درسه وحده، فيعمل عقله كل الأعمال ويحاول فهمه بنفسه، فيتعب في ذلك، ثم يجلس إلى جماعته في مطالعة الدرس، وهم من طبقته، وعلى مستواه في الذكاء، فيناقشون الدرس الجديد المقبل، ويحاولون فهمه بأنفسهم، وقد يتعبون في ذلك أشد التعب، ولكن عقولهم تتطور، وفهمهم يقوى على مر الأيام. وتتكامل ثقتهم بأنفسهم فتدفعهم إلى العمل، وتبعثهم على الطموح. ويراجع طلبة المعهد قبل مطالعة الدرس المقبل، الدرس الماضي، فيستعينون بالقديم على فهم الجديد. ويربطون الجديد بالقديم فيرسخ. وتتم المناقشة في مطالعة الدروس بالعربية الفصحى. فيدربون عقولهم على الفهم، وألسنتهم على الفصاحة. وقد تعلم كثير من التلاميذ فصاحة اللسان في المناظرة التي كانت تحتدم في مطالعة الدروس الجديدة. ومن لا يطالع درسه من الطلبة قبل تقريره، توقع عليه العقوبة بأن يوبخه الأستاذ، ويجلسه وراء حلقة الدرس. وهذا عقاب يشق على التلاميذ أكثر من العصا. وقد يطرد من الدرس فلا يحضره، وتلك عقوبة أشد وقعا وأكثر إيلاما. خامسا: تنوع الأنشطة (النشاط) مثل: إنشاء الفرق التمثيلية، وتحرير المجلات الأدبية والعلمية وتنظيم الرحلات الكشفية (جمعية كشافة الجنوب). وإقامة المخيمات، وإحياء حفلات السمر. ففي مجال التمثيل، تختار الجمعية الروايات التاريخية والاجتماعية، ذات الصلة الوثيقة بالمجتمع الجزائري فتبين أمراضه وعلاجها والدواء الشافي لها. مثل رواية (بلال بن رباح) للشيخ محمد العيد و (شبح القصر) له أيضا. ورواية (الشيخ

الحاج عمر بن يحيى) التي ألفها محمد علي دبوز في زعيم النهضة، فبين أدواره وأنواع جهاده، وحال النهضة في أيامه. والجماهير في (وادي ميزاب) مغرمة بالتمثيل، سيما الروايات الاجتماعية والتاريخية المعنية. ويتخلل الاحتفال - الذي يبدأ بتلاوة القرآن الكريم وبه يختتم - أناشيد مطربة حلوة، معظمها من إنشاء طلبة المعهد، يختارون لها ألحانا موافقة من أغاني المطربين الكبار، وقد يضعون هم الألحان الجميلة القوية. فيضعون عليها أناشيد إسلامية وطنية بالعربية الفصحى، فتعرض على لجنة خاصة في المعهد، فإذا ارتضتها وارتضت ألحانها قدمتها للمنشدين الذين يرصعونها بأناشيدهم المطربة التي يسحر بها الجمهور. وفي مجال الكتابة والتحرير، أصدر المعهد منذ سنة 1358 هـ = 1939 م مجلة أطلق عليها اسم (مجلة الشباب). فكانت هذه المجلة من أكبر الأسباب في تقدم المعهد وتطوره، ومن أقوى الوسائل التربوية التي تكونت فيه، رقت عقول الطلبة بالمقالات والقصائد والقصص الذي يكتبونها. وأذكت فيهم حب الأدب، وخلقت في نفوسهم حب الجمال، وبعثهم حب الفصاحة والبلاغة على القراءة الكثيرة والمفيدة، فاكتسبوا عادة الفصاحة والبلاغة، فنبغ في المعهد جماعة من الكتاب والشعراء، فخرجوا من نطاق مجلة الشباب الضيق إلى رحاب الصحافة الجزائرية الواسع وغيره. ومن هؤلاء: الشيخ عدون بن بالحاج والمرحوم الأديب حمو بن عمر لقمان، وعلي امعمر، وأحمد بن عمر، والأخضر السائحي الكبير - وإبراهيم بن يحيى الحاج أيوب، وحمو بن عمر

فخار، وصالح الخرفي وسواهم كثير (¬1). وفي مجال العمل الكشفي، عملت الجمعية الرياضية على تنظيم الحركة الكشفية في سنة 1365 هـ = 1946 م. وكان مركزها (القرارة) وكانت هذه الحركة، تعنى قبل كل شيء بالتربية الدينية: (إن الدين هو الأساس القوي الراسخ للشخصية القوية في كل نواحيها، الناجحة في كل أمورها. فهي تراقب ملوك أعضائها مراقبة دقيقة ليكون كما يأمر الدين، وتحيط أعضاءها في مخيماتهم بجو ديني قوي. فالصلوات الخمس يؤديها الأعضاء في أوقاتها، بالطهارة الكاملة، والوضوء، والأذان، وفي الجماعة. إذا نصبوا مخيمهم فأول مكان يختارونه ويحتفلون به هو المصلى. فيمهدونه ويعدونه أحسن إعداد. وينتخبون من بينهم ¬

_ (¬1) يمكن انتقاء نموذج لما كانت تنشره (مجلة الشباب) في موشح لمؤلفه (أحمد ابن عمر الشيخ أحمد) تم نشره في العدد 246 الصادر يوم الخميس 11 جمادى الأول 1355 هـ (13 تموز - يوليو - 1936). نداء إلى أرباب الحياة يا شباب القطر يا أهل الرشاد ... هذه أوطاننا فيكم تنادي للصلاح للكفاح للجهاد ... فأجيبوها بجد وعناد وانهجرا نهج بني ماضي العصور أيها الأقوام اقضوا عمركم ... في سبيل الدين فهو نهجكم في سبيل العلم وهو نوركم ... في سبيل الشعب وهو مجدكم لتعيشوا في سرور وحبور اسلكوا نهج الرعيل الأول ... وألبسوا لامته للقسطل وأبيدوا السفهاء العذل ... وارتقوا فوق السماك الأعزل أنتم في الأرض نور فوق نور

مؤذنا وإماما. فيؤذن المؤذن في الأوقات. فيسارع كل الأعضاء إلى ارتداء ثياب الصلاة البيضاء السابقة، وصعدون لها بالوضوء الكامل والخشوع الواجب. وبين العشاءين، يجلس الأعضاء كلهم حلقة واسعة فيقرءون جميعا في ترتيل خاشع قوي ما تيسر من القرآن الكريم وكذلك بعد صلاة الصبح). وتعلم الكشافة لأفرادها: تسلق النخيل، والسباحة في الأحواض، والسباحة في الأبار، وأعمال الفلاحة الصعبة. ويخرج الكشافة في كل ربيع إلى - إلى صحراء - سيما في القرارة - فينصبون خيامهم فيها لمدة أسبوعين. ويدرسون الناحية التي يخيمون فيها، ويضعون لها الخرائط، ويكتبون عنها المقالات. ويتصلون بالأعراب في خيامهم، فيدرسون أحوالهم. ولما جاء الاستقلال، وتوحدت الجمعيات الكشفية في الجزائر، دخلت كشافة الجنوب في (الكشافة الإسلامية الجزائرية). فصارت فرعا منها، وانقسمت إلى أفواج: فوج الحياة (في القرارة) وفوج الإصلاح (في غرداية) وفوج النهضة (في العطف) وفوج الفتح (في بريان) وتقيم هذه الأفواج مخيما عاما في كل سنة في عطلة الصيف، وتتم إقامة هذا المخيم في الشمال، لأن طقسه في الصيف أنسب، ومعرفة الشمال والتعرف إلى أهله، مما يجب على كل مثقف في الجنوب معرفته. ويدوم هذا المخيم شهرا، يدرس المشتركون فيه الناحية جغرافيا وتاريخا واقتصاديا. ويرسمون ما يروق لهم من المناظر الطبيعية أو الآثار التاريخية. ويكتبون عنها المقالات المفيدة. ويتصلون بسكانها، ويقيمون لهم الحفلات فيسمعون أناشيدهم، ويعرضون رواياتهم (مثل رواية صلاح الدين الأيوبي) ويخرج

الأهالي من حفلاتهم، وفي نفوسهم أثر عميق مما يلقيه الكشافة في أحاديثهم ورواياتهم التي يدعون فيها الجماهير إلى التمسك بالدين وحب اللغة العربية. كان لكشافة الجنوب قبل الاستقلال علمها الخاص وشعارها، ولما انضمت إلى الكشافة الإسلامية، صار شعارها وعلمها هو شعار وعلم الكشافة الإسلامية الجزائرية: هلال تتوسطه زهرة ياسمين بيضاء، فيها خمس بتيلات إشارة إلى الأركان الخمسة للإسلام الذي يجب على كل كشاف جزائري أن يتمسك به. أما بياض الياسين فرمز لبياض القلوب ونقاء السيرة مما يجب أن تتصف به الكشافة الإسلامية. وأريج الياسمين هو رمز السمعة العطرة التي يجب أن يتركها الكشاف المسلم الجزائري في كل مكان يحل فيه. ... وبعد، فقد يكون من الصعب الإلمام بكل أبعاد هذه التجربة التربوية الرائدة، غير أن اللمحات السابقة كافية لإبراز أهميتها في إطار (صراع النظريات التربوية الحديثة). وقد يكون من المثير بعد ذلك، استقراء مناهج هذا المعهد التي تعتمد على (الأصالة الذاتية). وهنا تبرز أول فضيلة من فضائل هذا المعهد التربوي، ألا وهي التطور المستمر في برامج التدريب، وذلك بدون أن يتخلى المعهد عن برامجه ومناهجه الأساسية. يعتبر معهد الحياة: (أن القرآن هو أساس العلوم جميعها، سيما

جماعة من الطلاب يغسلون ثيابهم في حوض تصب فيه قناة من عين القرارة في الفوساعة. فريق آخر يحمل على الدواب قطع الخشب المجزأة. فريق من الطلبة يقطعون بفؤوسهم خشبة النخلة بعد إسقاطها.

العلوم العربية والشريعة، وهو أساس التربية كلها، وآثاره لمن تدبره في خلقه وعقله ولسانه وجسمه لعظيم، لذلك اشترط معهد الحياة حفظه واستظهاره وعدم نسيانه. وحفظ القرآن الكريم هو أحسن ما يهيىء نفس التلميذ وعقله ولسانه للتعليم الثانوي والعالي، إنه يقوي الإرادة في التلميذ، ويكسبه فصاحة اللسان، ويزوده بثروة كبيرة من العربية الفصحى) ومن أجل ذلك: (أنشىء في المعهد قسم خاص لحفظ القرآن يتولاه معلم خاص) (ولا زال حفظ القرآن واستظهاره شرطا للدخول في معهد الحياة إلى اليوم. وقد أحسن المعهد بالتمسك - يهذا الشرط، لا سيما في هذا الزمان الفاجر الملحد الذي نحن فيه) (ولقد حفظ كثير من المسيحيين القرآن الذي يكفرون برسالته، لآثاره في الخلق، وجدواه العظيمة على عقل المرء ولسانه. أما هذا الزمان الفاسد اللئيم، وأغلب البلاد العربية اليوم، تعزف عن القرآن، وتنفر من حفظه، لذلك تشيع فسولة الأخلاق، وفسولة العقول، وفسولة اللسان في معاهدها. وأصبحنا لا نرى منها إلا غثاثة النفس. وأجيالا هزيلة تورث للأمة هزالها! ليتها تعرف الفوائد التربوية العظيمة للقرآن، فتجعل حفظ القرآن كله أو جزءا منه شرطا للدخول في معاهدها) (¬1). أما عن نظام (معهد الحياة) فالتلميذ يقضي معظم نهاره، وجزءا كبيرا من ليله في معهده. وهو كالمعاهد الداخلية التي لا يفارقها التلميذ. ويتكفل المعهد بأكل التلميذ ونومه. وتبدأ أعمال الطالب الدراسية من السحر - قبل الفجر - حيث ينهض الطالب ويذهب إلى ¬

_ (¬1) نهضة الجزائر الحديثة (محمد علي دبوز) ص 39 - 43 و 50 - 51.

(دار التلاميذ التابعة للمسجد في ميزاب) فيلتقي هناك بالتلاميذ القدامى الكبار عاكفين على دراستهم، يقرءون الكتب، أو يكررون محفوظاتهم في المتون، أو يتلون القرآن في المسجد. وبعد صلاة الصبح مع الجماعة، يقع درس الوعظ العمومي، أو يقع درس أو درسان في دار التلاميذ في اللغة العربية والشريعة. وتستمر الدروس إلى السابعة، حيث ينصرف التلاميذ لتناول فطورهم. ثم تستأنف الدروس من الثامنة حتى الثانية عشرة. وفي الشتاء ينصرف التلاميذ بعدها للعمل في الحقول والبساتين وتناول طعام الغداء. أما في الصيف فيمضي التلاميذ فترة الصباح بكاملها في الحقول والبساتين. وفي الحالين، يجب على طالب المعهد أن يصلي العصر في المسجد مع الجماعة، فيفتح المعهد أبوابه بعدها، وينصرف الطلبة إلى دروسهم حتى المغرب، حيث يعود الطلبة بعد الصلاة إلى قسم القرآن في المعهد لحفظ القرآن وتدارسه. وتبدأ المطالعة الإجماعية بعد صلاة العشاء لإعداد دروس اليوم التالي. (ومعهد الحياة، مثله مثل كل المعاهد في ميزاب، يفتح الأستاذ دروسه بالدعاء إلى الله والتضرع إليه أن يفتح عليه وعلى تلاميذه كنوز حكمته، وأبواب علمه، ويفيض عليهم رحمته. ويعيذهم من الشيطان ووساوسه التي تشغل البال ويغيم بها العقل، وينيلهم رضاه الذي يستلزم كل الخيرات والبركات، ويختم الدروس بدعاء الأستاذ أن يبارك الله فيما تعلموه، ويتطول عليهم بالمزيد ويحمد الله على ما أنعم به من نور العلم ونعمة المعرفة ... إن الملحدين أبناء بطونهم يرون هذا الدعاء جمودا وقشورا،

والتربية الدينية كلها رجعية وانحطاطا. فيحتقرونها ويحتقرون من يلتزمها، لأنهم لا يؤمتون بالله، ورؤوسهم فارغة من العلم الصحيح. كل ما فيهم إنما هي البطون المنتفخة التي أورثها لهم أساتذتهم الملحدون وعصرهم الفاجر. فصاروا كالمرأة الوحمة تكره الأطعمة اللذيذة المفيدة، وتغرم بالتهام الطين). (لقد حفظ الله نهضة الجزائر الحديثة، وحفظ معهد الحياة في الأعاصير التي تشتمل عليه من كل ناحية لتطفئه، وتقضي على النهضة، فلم تزده إلا ازدهارا لأنه شديد الصلة بالله، وحمايته، فحفظه من كل مكروه، وبارك له فصار أحسن معهد في التربية والتعليم). وكان (معهد الحياة) - ولا زال - يولي اهتماما أساسيا بالتربية الدينية، وغرس الدين الإسلامي العظيم في نفس التلميذ بكل الوسائل، وبناء العقيدة الدينية وترسيخها بكل الوسائل العلمية والتربوية. فتراه يعتني بالتوحيد فيجعله أول ما يحفظ الصغار مع السور الأولى من القرآن الكريم، وهم في الحداثة دون البلوغ، ثم تكون أول ما يدرسون إذا كانوا في المراهقة قبل البلوغ، ثم يدرسون العقيدة في كتب الفقه الكبرى بنحو فلسفي، ويدرسونها في كتب علم الكلام إذا كانوا في الطبقات العليا. كل ذلك لتركيزها في نفوسهم، وتعميق أسسها، حتى لا يستطيع الجهل والاستعمار والملحدون فيها شيئا، هذه الكوارث التي تتسلط على الدين الإسلامي لتهدمه في النفوس، وعلى العقيدة الإسلامية لتفسدها في القلوب، وهي أساس الدين والخلق) (¬1). ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 26 و116 - 117 و64.

ويشمل التعليم الإعدادي والثانوي مواد المنطق والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع واللغة الإفرنسية - التي خصص لها في المرحلة الثانوية 4 حصص أسبوعيا. بالإضافة إلى تاريخ الأدب والتاريخ الطبيعي والتربية المدنية، وتوسع في التاريخ فزاد تاريخ أوروبا وتاريخ الدولة العثمانية وتاربخ الأندلس، وتاريخ الجزائر قبل كل شيء. ما في الجغرافيا، فيدرس التلميذ جغرافية العالم السياسية والطبيعية باختصار، ويتوسع في جغرافية المغرب والأقطار الإسلامية. أما مدة الدراسة فهي 3 سنوات للإعدادي وثلاث سنوات للثانوي (بكالوريا). ويعمل المعهد على إيفاد المتفوقين من طلابه إلى الجامعات الإسلامية (في تونس والقاهرة خاصة) كما يسقبل الطلاب من كل أنحاء الجزائر، ومن الأقطار العربية - الإسلامية المجاورة. لقد تعززت مكانة المعهد بفضل ما أظهره طلابه من التفوق في كل مجال اقتحموه من مجالات الحياة العملية، واعتمادهم على أرضيتهم الدينية الصلبة. ولقد عرف عن الرجال الذين دفعهم (معهد الحياة) إلى الحياة العامة، بإخلاصهم لدينهم ووطنهم، وكفاءتهم، وصلاحهم، وجهادهم المخلص وعملهم ابتغاء مرضاة الله وحده. واشتهر عنهم في (حرب التحرير - الثورة الجزائرية) شجاعتهم وتضحيتهم (لقد نزلوا إلى الميدان العملي، بحماسة كبيرة، وحب للعمل شديد، إنها الرغبة في الجهاد في سبيل الله! فسدوا أهم الثغور في الأمة، فكان منهم العزابة المثقفون الأكفاء والمدرسون المخلصون الناجحون، والتجار الأمناء، والفلاحون الناشطون، ومنهم رؤساء العشائر الذين

وعدة كبرى للوطن، ومنهم رؤساء البلديات الذين كانوا سورا منيعا للدين والوطن. يردون عنه كيد الاستعمار، ويحمونه من شر الجامدين وفساد المفسدين. ومن تلاميذ المعهد، من لم ينل من العلم شيئا كثيرا لضعف مواهبه. ولكنه نال قسطه من التربية كاملا. فكان رجلا صنديدا في مجتمعه). خلاصة القول، لقد شكل (معهد الحياة) تجربة تربوية رائدة لا في الجزائر وحدها وإنما في الوطن العربي الإسلامي. وهي تجربة تستحق كل اهتمام وبحث وتطوير، وإذا كان الاتحاد السوفييتي يفخر برائد تربيته (ماكارنكو). وإذا كان الأمريكيون يباهون برواد تربيتهم من أمثال (جون ديوي)، فإن للجزائر - وللعالم العربي - الإسلامي أن يفاخر بهذه التجربة التربوية التي يعود الفضل الأساسي فيها للشيخ (إبراهيم بن عمر بيوض). ولد إبراهيم بن عمر بيوض سنة 1899 م، في القرار، إحدى قرى ميزاب، وتعلم فيها، وفي المعهد الذي كان يديره والده والشيخ عمر بن الحاج مسعود. وفي سنة 1921 توفي الحاج عمر. فما كان من ابنه الشيخ إبراهيم - ولما يكن قد تجاوز الثانية والعشرين من عمره - إلا أن جمع تلاميذ المدرسة، وأعلن لهم أن الدراسة ستستمر تحت إدارة الشيخ عمر بن الحاج مسعود، وأنه سيقوم مع بعض إخوانه في مساعدة الشيخ على إدارة المعهد وتطويره - للنهوض بميزاب كلها. تلك كانت البداية، وانصرف الشيخ إبراهيم بن عمر للعمل بكل طاقة الشباب وإيمانهم، يلقي الدروس، ويطور المعهد، ويرسل البعثات، ويرعى الخريجين،

ويوسع مجالات العمل، ويبني المسجد المتمم للمعهد. ويضع برامج التدريس، ويسهر على رعاية شؤون طلابه، ويوجههم للبحث والدراسة وهو يكرر على مسامعهم باستمرار: (إن غرضي من هذه الدروس أن أنشىء عقولا تفهم بلاغة القرآن، ونفوسا دارعة بعدة الفصاحة والبلاغة. إن جهادنا يستلزم هذه العدة، وهذا لا يكون إلا بعملكم أنتم! ألا فاعملوا، طالعوا دروسكم مرارا قبل الدرس، وراجعوها مرارا بعده واعتمدوا على أنفسكم). إستمر الشيخ إبراهيم في عمله المنتج والمبدع حتى بداية الحرب العالمية الثانية، وإذ ذاك تضاعفت أهوال الاستعمار، وأطلقت أيدي الحكام العسكريين الإفرنسيين في الجنوب فعزموا على خنق النهضة، والقضاء على معاهدها ورجالها. فشمروا لتهديم والانتقام، وشمر أنصار النهضة للدفاع والبناء. وكانت معارك طاحنة استمرت زمانا طويلا، كان الله فيها مع حزبه وأوليائه. فلم تعصف تلك الأهوال بمعهد الحياة، بل زادت في نشاطه ورسوخه. فسارت أشواطا واسعة في أيام الحرب. لقد حلف الحاكمان العسكريان الطاغيان في (غرداية) وحلف أذنابهما الأيمان المغلظة على القضاء على نهضة ميزاب ورجالها، وأن يشنقوا زعيمها الشيخ بيوض أو يسجنوه أو ينفوه. فاستخدم الاستعمار أذنابه في الجنوب لكتابة التقارير السوداء ضد النهضة وزعيمها الشيخ بيوض. فطالبوا بنفيه أو سجنه، وبإبطال المدارس العربية، وكل ظواهر النهضة. فاستند الحكام العسكريون إلى هذه التقارير، فحكموا على النهضة بأنها حرب ضد الدولة، وعلى

زعيمها الشيخ بيوض بأنه عدو فرنسا اللدود. وأن له يدا مع الألمان. فعزموا على القبض عليه. ولكن الله سخر للنهضة حماة مخلصين دهاة من أبنائها، فدافعوا عن النهضة وزعيمها، وفضحوا الحكام العسكريين وتواطؤهم مع أذنابهم أعداء النهضة الأقدمين. وخافت الولاية العامة عاقبة المساس بالنهضة وزعمائها. إن نهضة ميزاب هي جزء من نهضة الجزائر، والشيخ بيوض أحد زعمائها. سيثور أولئك الزعماء عليها، ويثور ميزاب والجزائر. وهي ضعيفة قد احتل الألمان ديارها وأخذ بخناقها فتبصرت الولاية العامة، فكفكفت من شرور الحكام العسكرين في ميزاب، وأمرتهم بالحكمة في حربهم، فلم يستطع الحكام العسكريون اعتقال الشيخ بيوض. فأكدوا ما سبق أن فرضوه عليه في سنة 1938 م. من الإقامة الجبرية في بلد القرارة. وحرمت زيارته على مدن ميزاب، وشددت عليه الرقابة. فاستقر الشيخ بيوض، وانقطعت عنه الأشغال الخارجية التي كانت تزاحم عمله في المعهد، أو تقطعه عنه. فصار وقته كله للمعهد. ووجد الطلبة من وقته وجهوده كل ما يريدون، ونشطت الدراسة في المعهد، حتى إذا ما انتهت الحرب سنة 1944، وضعت فرنسا - ديغول - سياسة جديدة للجزائر تعتمد على قليل من اللين وكثير من الخبث والدهاء والمكر. وهذه السياسة شر من الغلظة والاستبداد والجبروت. واستغل زعماء النهضة وعلماؤها هذا المناخ، فانطلق الشيخ البشير الإبراهيمي - رئيس رابطة العلماء بعد وفاة ابن باديس - وهو

يقود نشاط جمعية العلماء في قوة وإخلاص ومهارة. وكان يجوب البلاد ويهزها بخطبه ودروسه ومقالاته في البصائر. وفعل ذلك رجال جمعية العلماء كلهم (وخاصة الطيب العقبي وأحمد توفيق المدني). وكذلك فعل الشيخ بيوض، الذي انطلق من عقال الإقامة الجبرية، فجاب أنحاء الشمال والجنوب، يهزهما بخطبه ودروسه، ويضع الخطط المحكمة مع رجال النهضة للجهاد المقبل. كثرت أعمال الشيخ بيوض الاجتماعية، وتعددت ميادين جهاده، فهذه وفود من رجال النهضة من مدن ميزاب تترى عليه للتفاوض في الجهاد الذي يقومون به. وهذه أعباء جمعية الحياة التي يرأسها، وذلك مجلس العزابة الذي هو رئيسه. إن أغلب مشاكل المدينة ترفع إليه. وهذه أسفاره للدعاية ولمصالح النهضة الأخرى. وهذا حزب المعارضين وقد تكتلت صفوفه، واشتدت معارضته، وانضم إليهم أذناب الاستعمار من (القواد والباشآغاوات) وغيرهم. واتحدوا جميعا مع المستعمرين العسكريين في محاربة النهضة. فنازلهم حزب الإصلاح جميعا بقيادة الشيخ بيوض، فوقعت أعنف المعارك الاجتماعية والسياسية معهم في هذه العهود. لقد كثرت فروض الشيخ فلم يبق للمعهد من وقته إلا القليل. وجاءت ضرورة أخرى تهرب منها كل التهرب، فأرغمه الواجب على الخضوع لها. وهو دخوله في المجلس الجزائري نائبا عن وادي ميزاب، فانقطع عن التعليم في المعهد، وحل أبناؤه النبغاء محله. صدر الدستور الجزائري الذي قضى بإنشاء المجلس

الجزائري في 20 أيلول - سبتمبر - 1947. وكان المستعمرون قد أحسوا بكنوز الصحراء الجزائرية، فعزموا على التمسك بالصحراء، وقطعها عن الشمال. وكانوا يوقنون بثورة الشمال عليهم. إن مقدماتها ودخانها قد شاهدوه في حوادث سطيف في 8 أيار - مايو - سنة 1945. وفي عيون كل الجزائريين التي تشتعل فيها النيران. وقالوا: (إن الصحراء لا جبال فيها تصلح للثورة، فهي المكان الآمن لهم في الجزائر، وكنوزها هي الأثداء الغزيرة التي ترويهم. لقد شبعوا من خيرات الشمال فيجب أن يتخموا من كنوز الجنوب أيضا. إن استقرارهم في الصحراء يجعلهم يقطعون عن الدولة الجزائرية التي ستنشأ في الشمال غذاءها من الصحراء فتموت هزالا. أو تظل ضعيفة تخضع لهم وتسير في ركابهم. على أن استقرارهم في الصحراء، وإنشاء دولة إفرنسية فيها يمكن من القضاء على ما يمكن أن يناله الشمال من استقلاله بثورته. سيحيكون له الدسائس ويخلقون له المشاكل، ويحفرون له الهوى التي يقع فيها. إن الصحراء هي اللقمة السائغة، وهي الدار الآمنة لهم في المغرب، فيجب التمسك بها، ويجب التمهيد لذلك بالقضاء على كل نهضة فيها. وكانت نهضة وادي ميزاب التي دخلت شبابها تقض مضاجعهم، ويرون فيها حتوفهم فعزموا على القضاء عليها). وعين الاستعمار للمجلس الجزائري أذنابه، وجعل للصحراء فيه نوابا من الضعفاء أو من الأذناب وعزم أن يجعل نائب ميزاب في المجلس أحد أذنابه الكبار الذين ينصرون أهواءه فيطالبون بفصل الصحراء عن الشمال، وبالقضاء على النهضة ورجالها فيجد

الاستعمار مستنده وحجته، فيبلغ كل أغراضه. ورأى رجال النهضة في ميزاب هذا الخطر الذي تستهدف له الجزائر، والنهضة التي هي روح الجزائر ورأس مالها الكبير، فهبوا جميعا لدرئه، وإفساد خطة المستعمرين. فكان الله معهم، فاستمالوا بعض رجال الحكم في فرنسا وفي الجزائر بالوسائل المغرية، والأساليب السياسية البارعة، وأروهم عاقبة إرغام الميزابيين على نائب لا يرتضونه. فأخذوا وعدا من الولاية العامة أن يكون الانتخاب حرا في ميزاب، فتمسك رجال النهضة بهذا الوعد، وأفادوا منه كل الإفادة، واستقدموا غداة يوم الانتجاب 4 نيسان - إبريل - 1948 مراقبين شرعيين يراقبون الانتخابات في ميزاب، وبعض الصحفيين الإفرنسيين. وبذلوا في ذلك المال الكثير. ونظموا صفوفهم، وخاضوا معركة الانتخاب للمجلس الجزائري في نشاط ويقظة ودهاء واتحاد ففازوا بما أرادوا. رأى رجال النهضة وحزب الإصلاح أن المعارك بينهم وبين الاستعمار في المستقبل ستكون معارك ديبلوماسية خطيرة! إنها مسألة فصل الصحراء عن الشمال، وما يجب أن يفعلوه لتظل الصحراء جزءا من الشمال، فلا بد من نائب لهم في المجلس الجزائري، تتوافر له الكفاءة والقدرة من أجل إحباط المخططات الاستعمارية. ووقع اختيار الجميع على الشيخ بيوض. غير أن الشيخ رفض العرض، وأظهر تمسكه بميدان العلم الذي خلق له، وذاق حلاوة النجاح فيه. غير أن أهل ميزاب ورجال نهضتها ما زالوا به حتى أقنعوه بقبول المنصب، حتى لا تترك ثغرة ينفذ منها الاستعمار وأذنابه. ونزل الشيخ إلى ميدان الجهاد الجديد، وقاد

معارك كبرى ضد فصل الصحراء عن الشمال استمرت ست عشرة سنة كاملة (من سنة 1947 إلى سنة 1962) وكان رجال النهضة في ميزاب كلهم جنده وأنصاره في معاركه السياسية الكبرى. فالتفوا حوله، ورفعوا صوتهم معه ينادون بإباء الصحراء وهم يستنكرون فصل الصحراء عن الوطن الجزائري - وبقي الشيخ بيوض على اتصال وثيق (بمعهد الحياة) لم تصرفه عن الاهتمام به متاعبه السياسية. وكان الجميع يشعرون بوجوده دائما بينهم، رغم ابتعاده بجسده عنهم. وكان لهذه الرابطة القوية دورها في دعم (معهد الحياة) واضطلاع أفراده وتلاميذه القدامى بواجباتهم الدينية والوطنية في كل أنحاء الجزائر. لقد انبث مئات من خريجي (معهد الحياة) في بلاد الشمال بالجزائر، ففي كل المدن الكبرى بالشمال، وفي كثير من القرى، تجد تلاميذ معهد الحياة، وأثرهم في الشمال كأثرهم في الجنوب. كانوا دعاة تملؤهم الحماسة للعمل من أجل الدين الإسلامي ونشر اللغة العربية، وكانوا نماذج تحتذى في الأقوال والأعمال. وقد جاهدوا باستمرار لدعم كل الحركات الوطنية في الشمال، فوقفوا مع (جمعية العلماء) بكل ما أوتوا من قوة. ودعموا حزب الشعب وجماعة البيان. ولما اندلعت الثورة، كانوا في الشمال والجنوب جندها المخلص وأنصارها الثابتين. وكانت دكاكينهم التجارية ومساكنهم في مدن الشمال، معاقل للثورة، ومستودعا لأسرارها وأموالها، وملتقى لضباطها وملاجىء لثوارها. وكانوا يعملون على دعم الثورة وتنفيذ مخططاتها بكفاءة عالية وإيمان صلب، ويعتبرون جهادهم في الثورة هو جهاد في سبيل

الله، يقومون به لوجه الله، وواجبا وطنيا يرضي ضميرهم الحر وحبهم للوطن وإخلاصهم لدين الله. وكانوا لثقافتهم، ودهائهم الموروث، قادرين على خداع المستعمرين وإخفاء حقيقتهم الثورية، وكان من المحال قيام الثورة في العاصمة لولا ما قاموا به من جهد، وما قدموه من تضحيات مستفيدين في ذلك من منازلهم ودكاكينهم المنتشرة حتى في وسط الأحياء الأوروبية. حتى إذا ما انتهت الثورة بالنصر، انصرفوا إلى متابعة أعمالهم، والإسهام في بناء المجتمع الجديد بالقدر الذي تطلبه الثورة منهم. ... تلك هي صفحة رائعة من صفحات الجزائر المجاهدة. صفحة رسم الشيخ عبد الحميد بن باديس، بعض ملامحها بريشته، وترك بعضها لريشة إخوانه وتلاميذه، وبعضها رسمت بريشة إخوان له كان عملهم مستمدا من عمله ورافدا له. وبفضل هذا التكامل تشكل التيار الجارف الذي أرسى القاعدة الثابتة والأرضية الصلبة لانطلاقة الثورة. غير أن هناك تيارا آخر كان له دوره في مجموعة التفاعلات التي أدت إلى انفجار الثورة. وهذا التيار هو (تيار التكتلات الحزبية) وهو يتطلب بحثا مستقلا. غير أنه من المناسب هنا الإشارة إلى أن التياران لم يكونا متناقضين أو متضادين تماما. لقد كان لكل تيار مساره الخاص، وكانت هناك قنوات تصل بين كل التيارات على امتداد مسارها، ومن هنا يظهر التأثير المتبادل بين هذه التيارات. وهذا ما يؤكد بطريقة غير مباشرة الدور الكبير الذي اضطلع به

(الشيخ عبد الحميد بن باديس) وإخوانه في تمهيد الطريق أمام الثورة. وتبقى تجربة (الشيخ عبد الحميد بن باديس) و (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) و (معهد الحياة) من التجارب التاريخية الخالدة الرائدة، لا باعتبارها تجارب قد مضت وانصرمت، وإنما باعتبارها تجارب ترسل ظلالها إلى أفق المستقبل، وباعتبارها أيضا من التجارب التي تحتفظ بكل فائدتها وأهميتها لا في الحدود الزمنية أو في حدود الإطار الجغرافي للجزائر. إنها تجارب حية، تمتلكها الأمة الإسلامية والعالم العلربي وهي جديرة بالدراسة والتعلم (وقل رب زدني علما).

محتوى الكتاب

(محتوى الكتاب)

_ الموضوع ..................................................... الصفحة المقدمة ....................................................... 5 من أقوال عبد الحميد بن باديس ............................... 11 ومما قاله عبد الحميد بن باديس شعرا .......................... 14 الوجيز في حياة (ابن باديس ................................... 16 تحية وإهداء ................................................... 17 الفصل الأول .................................................. 19 1 - نظرية الاستعمار الإفرنسي وتطبيقاتها في الجزائر .......... 21 2 - حرب الحضارة الصليبية ضد الإسلام ...................... 29 3 - الأهداف التربوية للتعليم الاستعماري ....................... 47 4 - الفرنسية والتنصير ونتائجهما .............................. 56 5 - الانهيار الكبير ........................................... 67 أ - الجزائر سنة 1925 ....................................... 72 ب - أحمد بن عليوه والرحمانية ج - الشيخ عبد الحليم بن سماية .............................. 77

_ د - عمر راسم .............................................................. 82 هـ - احتفال فرنسا بمرور مائة عام على حتلال الجزائر ...................... 86 الفصل الثاني ............................................................... 91 1 - عبد الحميد بن باديس .................................................. 91 2 - جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ...................................... 109 3 - مدافع الله ونهاية رحلة العمر ............................................ 121 4 - إخوان (عبد الحميد) في الجهاد .......................................... 144 أ - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ........................................... 146 ب - الشيخ مبارك بن محمد الميلي ........................................... 159 ج - الشيخ أحمد توفيق المدني ............................................... 167 د - الشيخ الطيب العقبي ..................................................... 183 هـ - والشيخ التبسي .......................................................... 187 5 - تيار الأصالة الثورية في الجزائر ......................................... 191 أ - الشاعر محمد العيد ....................................................... 193 ب - أحمد رضا حوحو ....................................................... 196 ج - الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض وتجربته التربوية الرائدة في ميزاب .......... 198

8 - نهج الثورة الجزائرية (الصراع السياسي)

نهج الثورة الجزائرية (الصراع السياسي)

بسم الله الرحمن الرحيم

نهج الثورة الجزائرية (الصراع السياسي) بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1402 هـ - 1982 م الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م دار النفائس

المقدمة تبقى (التجربة التاريخية) هي رائد الباحث والقارىء، كلاهما يجد فيها الفائدة والمتعة، ولقد عرفت الجزائر المجاهدة تجربة تاريخية فريدة تجسدت فيها كل سوءات الاستعمار الاستيطاني، وبرزت فيها كل أشكال النهب الاستعماري، واستخدمت فيها كل أنواع القهر الاستعماري ووسائله. ولقد كانت تجربة مريرة وقاسية، لا تشابهها أية تجربة من بين كل التجارب التي عاشتها الشعوب المقهورة في ليل الاستعمار. ويعود السبب في ذلك، وبالدرجة الأولى، إلى ما توافر للجزائر من الأصالة الثورية، إلى جانب ما انفرد به الاستعمار الفرنسي من الوحشية واللاإنسانية. لقد رفضت الجزائر المجاهدة أبدا الخضوع لإرادة جلاديها ومغتصبيها وممتهنى كبرياءها، فكانت في حالة ثورية دائمة، لا تكاد نار لهيبها تخمد في منطقة حتى تتفجر في منطقة أخرى. ولا تكاد فترة تمر على إخماد الثورة حتى يعود اللهب وهو أشد احتداما، وأكثر ضراما. ومقابل هذا التمرد، كانت فرنسا الاستعمار تطور دائما أساليب قمعها الوحشية، فإذا كانت فظائع (بوجو) و (كلوزويل) قد مثلت عصر الوحشية في منتصف القرن

التاسع عشر، فقد جاءت مذابح 8 أيار - مايو - 1945 لتعيد للذاكرة تلك الأعمال التي لا يمحوها التقادم، ولا يزيلها النسيان. لقد بقيت الجزائر المجاهدة في حالة ثورة دائمه، وكانت فترات الهدوء التي عاشتها هي مرحلة الاستعداد لاستئناف حمل السلاح والاحتكام إليه. وعبر هذ االصراع الذي لم يتوقف، تطورت أساليب الصراع السياسي في خط مواز لتطور أساليب الصراع المسلح، فكانت (لعبة الأحزاب) و (لعبة الديموقراطية) وحملت هذه الأحزاب باستمرار أهدافا متشابهة في أشكالها ومضامينها، وقد كانت هذه الأهداف مرنة حتى تتكيف مع الظروف المرحلية للصراع، سواء كانت هذه الظروف دولية أو محلية. ولا غرابة بعد ذلك أن تكون الأهداف التي طرحها الأمير خالد الهاشمي في العشرينيات متشابهة مع تلك التي حددها عبد الحميد بن باديس وجعية العلماء المسلمين الجزائريين في الثلاثينيات، وهي ذاتها تقريبا التي تبناها حزب الشعب الجزائري في الأربعينيات ثم رفعها (أصدقاء البيان والحرية) في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولا غرابة أيضا، في أن يدرك قادة الجزائر ومفكروها وحماتها أن الصراع السياسي ليس أكثر من وسيلة مرحلية لا يمكن لها أن تحقق تطلعات الشعب الجزائري وأهدافه في عملية بناء المستقبل. ولكن ومع هذا الإيمان بحتمية الاحتكام

إلى السلاح، كان لابد من خوض الصراع السياسي حتى منتهاه وغايته، ذلك لأن الحوار عبر هذا الصراع هو الوسيلة الأمثل لإيقاظ وعي الشعب الجزائري، والإبقاء على جذوة الجهاد المتقدة. ومن هنا تظهر أهمية العودة إلى استقراء ملامح الفترة الصعبة من الصراع السياسي والتي سبقت اندلاع الثورة الجزائرية العظمى في سنة 1954. والمثير في الأمر هو ملاحظة ذلك الاقتران في تطوير وسيلتي الصراع في وقت واحد. وسيلة الصراع السياسي العلنية، ووسيلة الصراع المسلح السرية. ولقد ساعد هذا الاقتران في تحقيق أكثر من هدف في وقت واحد. لقد ساعد قبل كل شيء على تأمين الغطاء الشرعي، للعمل غير الشرعي - بحسب قوانين الاستعمار وأنظمته. وأسهم في ربط الصراع السياسي بالصراع المسلح. ومهد لتكوين جيل قادة المستقبل من خلال مدرسة الصراع ذاتها. فلا غرابة بعد ذلك أن يكون معظم قادة الثورة هم من خريجي تلك المدارس الحزبية التي سبقت اندلاع الثورة , لقد كانت تلك المدارس خاضعة لمجموعة من المؤثرات والعوامل. لم يكن أقلها الضغط الرهيب للإدارة الاستعمارية في الجزائر، ولم يكن أقلها ذلك التلاحم العضوي بين أجهزة الاستعمار الاستيطاني في الجزائر والحكم الإفرنسي في فرنسا ذاتها، ولم يكن أقلها أيضا تلاحم كل القوى الاستعمارية - يمينها ويسارها، رجعيها وتقدميها - في جبهة واحدة ضد الجزائر

وشعبها. وقد كان من الصعب الوصول إلى هذه القناعة التي باتت أساس عمل الثورة، لولا التجربة التاريخية للصراع السياسي الذي قادته الأحزاب. وكان من الصعب، إن لم يكن من المحال، تجنب الوقوع في الخطأ، فقد كان حوار الإرادات قاسيا ومريرا استنفر فيه كل طرف من الأطراف المتصارعة كل موارد المعرفة والذكاء. وبات من المتوقع ظهور الأخطاء. وإقرارا بالحقيقة التاريخية: كانت أخطاء قيادات الأحزاب أقل بكثير مما يمكن توقعه في مثل الظروف التي عاشتها تلك الأحزاب، وأقل بكثير أيضا مما كانت عليه أخطاء الأجهزة الاستعمارية التي كانت تزعم تفوقها في كل مجال من مجالات الصراع. لقد سقطت عبر هذا الصراع المرير كثير من القيم والمبادىء، وظهرت مكانها قيم أخرى ومبادىء مغايرة. ورافق ذلك سقوط مريع لبعض المجاهدين وارتفاع رائع في تألق مجاهدين آخرين. وعبر هذا السقوط والارتفاع، وعبر تجربة الخطأ والصواب، تمرست القيادات الشابة بالجهاد، واكتسبت ما يلزمها من التسلح المادي والمعنوي. فكان أن برزت إلى الوجود تلك القيادة التاريخية التي أخدت على عاتقها السير بالجزائر نحو أفق المستقبل. ومن هنا تبرز الأهمية الكبرى لهذه التجربة التاريخية.

لقد كانت تجربة مريرة وقاسية، غير أنها كانت ذات فائدة يصعب تقويمها. ولعل من أبرز فوائدها احتفاظها بقيمتها القديمة المتجددة. وهذا ما يجعلها ثمينة للبحث والدراسة والتأمل. (وقل رب زدني علما). بسام العسلي

أول رئيس لجمهورية الجزائر الثائرة، والذي كان له شرف إعلان قيام (الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية)

الوجيز في حياة (عباس فرحات)

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... الأحداث

_ 1370 .......... 1951 .......... تشكيل تحالف الأحزاب الجزائرية والحركات الدينية (جمعية العلماء) برئاسة فرحات عباس. 1375 .......... 1956 .......... إلتحاق فرحات عباس بالقاهرة، وإعلان انضمامه وحزبه لجبهة التحرير الوطني. 1377 .......... 1958 .......... تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية برئاسة فرحات عباس (يوم 19 - أيلول - سبتمبر). 1381 .......... 1962 .......... انتخاب (فرحات عباس) رئيسا للجمعية الوطنية. 1382 .......... 1963 .......... استقالة (فرحات عباس) لخلافه مع (بن بيلا) واعتزاله الحياة السياسية.

الوجيز في حياة (مصالي الحاج)

_ السنة الهجرية .......... السنة الميلادية .......... وجيز الأحداث

_ 1354 .......... 1936 .......... عودة مصالي الحاج إلى الجزائر بعد إطلاق سراحه. 1355 .......... 1937 .......... (مصالي الحاج) ينظم (حزب الشعب الجزائري) والإدارة الإفرنسية تقوم باعتقاله وتحكمه بالسجن لمدة سنتين. 1357 .......... 1939 .......... إطلاق سراح (مصالي) وعودته إلى الجزائر. 1359 .......... 1941 .......... حكومة فيشي تعتقل (مصالي) وتصدر حكمها عليه بالسجن لمدة (16) عاما، والنفي بعدها لدة (20) عاما مع غرامة فادحة. 1365 .......... 1946 .......... إطلاق سراح (مصالي) وتنظيمه لحركة (انتصار الحريات الديموقراطية). 1371 .......... 1952 .......... اعتقال مصالي الحاج، ونقله إلى فرنسا نهائيا، للإقامة في (نيورت). 1374 .......... 1954 .......... إنقسام الحركة وتمزقها، ثم قيام الثورة. بقاء مصالي الحاج في فرنسا.

الفصل الأول العمل السياسي

«والله الذي لا إله غيره: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة يدخلها». حديث شريف - رواه البخاري ومسلم. الفصل الأول العمل السياسي 1 - لعبة الأحزاب و (الديموقراطية). 2 - حزب (نجم شمال افريقيا). 3 - حزب الشعب الجزائري. والحركة من أجل (انتصار الحرية والديمقراطية). 4 - عباس فرحات (والاتحاد الديمقراطي لأعضاء البيان الجزائري). 5 - الحزب الشيوعي.

لعبة الأحزاب و (الديمقراطية)

1 - لعبة الأحزاب و (الديمقراطية) لعبة (الهدم والبناء) من اللعب الإنسانية الباقية ما بقي الإنسان على وجه الأرض، يمارسها الأطفال صغارا (للعبث والتسلية). ويمارسها الكبار رجالا (للتطوير نحو الأفضل والأمثل) وتمارسها الهيئات في المجتمع، بعضها ضد بعض (في الغابة الكبيرة) حيث يفرض الأقوى - وليس الأصلح دائما - وجوده على الأضعف حتى يسخره لتحقيق أهدافه - التي قد لا تكون أهدافا فاصلة باستمرار وقد أتقن الإنسان هذه اللعبة - لعبة الهدم والبناء - وعمل على تطويرها دائما (فكانت لعب الميكانو الحديثة للأطفال نموذجا لها). كما عمل أيضا على تطبيقها في الحياة العملية، سواء ضمن المجتمع الواحد، أو فيما بين المجتمعات المتناحرة أحيانا، والمتعايشة في أحيان أخرى، والتي تستمر في كل الحالات بممارسة لعبة الهدم والبناء، بعضها ضد البعض الآخر. كل ذلك والحياة الإنسانية ماضية في مسيرتها الجبارة متجاوزة هؤلاء القائمين بالهدم وأولئك من ضحايا عملية الهدم لتقرر في النهاية مصير (لعبة القدر). اكتسبت (لعبة الهدم والبناء) في (ليل الاستعمار) أبعادا

جديدة، إذ باتت هذه اللعبة أشد تعقيدا وتركيبا، وذلك بسبب ما تتطلبه عملية النهب الاستعماري من تركيبات معقدة ومتناقضة في كثير من الأحيان. وقد جند الاستعمار لعملية (الهدم والبناء. كل ما هو في ترسانته من الوسائل المادية والمعنوية، فكانت القوة الوحشية ركنا من أركانها المادية وكانت الصليبية أساسا من أسسها المعنوية، وكان الهدف الثابت هو تغيير بنية وتكوين المجتمعات التي تم إخضاعها بالقوة والقهر، من أجل بناء المجتمع الجديد الذي يمكن له التكيف مع ظروف الاستعمار. هكذا بدأت فرنسا عندما دفعت جحافل الغزو لاجتياح الجزائر، فقد عملت على تدمير القيادات القبلية والزعامات الدينية والرئاسات المحلية، وخلقت حالة من الفراغ، قامت بعدها بتكوين قيادات عملية وزعامات وهمية تعمل تحت إشراف الاستعماريين وتنفذ مخططاتهم. واستمرت بعد ذلك في عملية التدمير، فحاولت القضاء على الأصالة الذاتية لشعب الجزائر وذلك بفصله عن جذوره التاريخية من جهة، وبالقضاء على قواعد صموده من جهة أخرى فكانت الحرب الصليبية للقضاء على الإسلام، ولما كانت هناك صعوبة كبرى في هدم بناء تكامل عبر مئات السنين، فقد كانت الوسيلة المرحلية هي الاكتفاء بصرف المسلمين عن دينهم وحرمانهم من الاتصال بعروبتهم، مما يؤدي بالتالي إلى إضعاف الإسلام والعروبة تدريجيا حتى تموت وحدها، نتيجة حرمانها من موارد غذائها الأساسية (المسجد والمدرسة).

هنا برزت قوة (الأصالة الذاتية) في أفق التحدي المصيري، وانطلقت حفنة من المفكرين العلماء، وخاضت الصراع بإيمان لا يتزعزع، وثقة بالله لا تضعف. وبدأت بعملية البناء المضاد، فأقامت المساجد، وأنشأت المدارس (فارتفع عددها بين 1943 و1954 من بضع عشرات إلى مئة وخمسين مدرسة. تعلم اللغة العربية وتدرس القرآن الكريم). في ذلك يكتب الكاتب الجزائري (عمار أوزيغان) (*) فيقول: (كان الخطر المميت بالنسبة للاستعمار يكمن على وجه الدقة في هذا الاتحاد الغريب بين مفاهيم الإسلام المتعارضة - كالروحية والمادية - (والتي لم يتمكن الاستعماريون الصليبيون من فهمها). لقد كان الدين الإسلامي وثاقا يمتن اتحاد مختلف العناصر في القوة الشعبية التي تزخر بها بلادنا. غير أن العدو الاستعماري الذي كان يقيم في (الفيو - باليه) كان أكثر ذكاء حين كان يهدم الجوامع ويحولها إلى ثكنات أو اصطبلات! كانت هذه معابد تهدم ويتم الخلاص منها. إلا أن الجامع كان أيضا الجامعة، كما هي الزيتونة في تونس، والقرويين في (فاس) وكما هو الأزهر في القاهرة. فهدم جامع كان يعني هدم مدرسة ومكتبة وقاعة محاضرات وبيت للشعب وجمعية استشارة - أو دار للشورى - ومتحف موسقي يدرس فيه تجويد القرآن وهو فن يتطلب معرفة مسبقة بمقامات الموسيقى الكلاسيكية أو الشعبية - الأندلسية أو الشرقية ... إننا لن نشدد الكلام على الروح

_ (*) الجهاد الأفضل (عمار أوزيغان) ص 29 - 30.

الصليبية التي تجلت في تحويل الجامع إلى كنيسة، وإقامة الأنصاب التذكارية يعلق عليها الصليب الحديدي فوق العبارة اللاتينية: .. (سننتصر بهذه الإشارة) (*). ولن نشدد على شعارات المدينة: مثل شعار مدينة الجزائر، الذي عمم في العالم كله بواسطة الطابع البريدي الذي رسم عليه صليب ضخم في السماء، منتصرا على هلال صغير منكس فوق البحر). وكان العدو الاستعماري ذكيا جدا في اختياره - موظفي الجوامع - من بين العسكريين المتقاعدين المرشحين لأن يصبحوا نواطير، وسواس خيل، وعمال بلدية وكهرباء ... وإذا برهن طالب الوظيفة على إخلاصه للنظام الاستعماري، وحفظ عن ظهر قلب - الستين فصلا - اعتبر مستوفيا للشروط المطلوبة ليمنح إجازته - كشيخ للإسلام - موقعة بإمضاء الحاكم العام. ولم يكن على المفتي الأكبر أكثر من أن يختار المحفوظات المناسبة، وانتقاء النص الصالح ليكون خطبة الجمعة، مع حرصه أن يخضع (كلمات الله) إلى الرقابة المهنية المجدفة عليه، التي يمارسها (الإله الآخر) - معبوده - وهو المفوض السامي. وإذ يصغي إلى المذياع وهو ينقل الصدى المحرك الآتي من عبارات (الله أكبر) يتصور هو، كاهن السلطان الناري، أن جمهور المصلين الذين يسجدون، فيلمس جبينهم السجادة التي تغطي الأرض، يشبهون حشدا من العبيد الراكعين الذين يقدمون خضوعهم وأرواحهم قرابين!

_ (*) سننتصر بهذه الإشارة: (In Hoc Signo Vinces).

وكان العدو الاستعماري بارع الذكاء في محاربته المستمرة المميتة للغة العربية (اللغة الأجنبية) حين كان يغلق كل مدرسة عربية موجودة بعد ثلاث كيلومترات من أية مدرسة إفرنسية، غايتها تعليم بعض المفردات الكافية لإدارة العمال الزراعيين، كما تعلم البغال بضع كلمات تجعل قيادتها أقل إزعاجا ... وكان العدو الاستعماري يدرك مدى الخطورة في ازدهار اللغة العربية الصحيحة ... فأن يتعلم الصغار الجزائريون لغتهم الأم، يعني تخلصهم من عار أنهم (أطفال الساحة العامة) أيتام ولقطاء ومشردون، يعني إيقاط وعيهم بجدارتهم وكرامتهم، يعني تجنيبهم خطر المراهقة التي لا جذور لها والتي تتدهور في هاوية الكحول ونرفانا الكيف والكوكائين والفجور، يعني أن تعاد للشاب العزب روحه الواثقة القوية الصافية، ليدرك منشأ الفعل الانعكاسي الاستعماري: مثلا عار الأوروبية العرقية، العاهرة، الكريهة، التي ترفض أن تراقص عربيا حتى لو كان ساحر كأدونيس - عربي فينيقيا الذي عشقته فينوس. إن تعلم اللغة العربية من جديد هو إحياء التربية الطبيعية والعقلية والتاريخية التي تتيح أن نكتشف السبب في أن جبل جرجره - الجبل الحديدي - الروماني الذي لم تصله المسيحية، قد سمى أعلى قمم الأطلس في منطقة التل باسم , (لا لا خديجة) الزوجة الأولى للنبي العربي وأم المؤمنين - تلك صورة من صورة الهدم والبناء. أما الصورة المقابلة، فتتلخص باستخدام الأساليب المضادة للاستعمار، لهدم ما يحاول أن يبنيه على أنقاض أصالة الجزائر

وعروبتها وإسلامها. وقد كان الاستعمار هنا ذكيا أيضا فقد استخدم في بنائه بعض الحجارة التي أمكن له إعادة نحتها وتكييفها حتى تنسجم مع شكل البنيان الجديد. وهذا ما عبرت عنه المقولات التالية: (كان يجب القتال ضد جهاز الاستعمار السياسي والإداري والإقتصادي. كان يجب القتال ضد إيديولوجيته الاستعبادية التي تمثلها البورجوازية الاستعمارية وأسياد المزارع، وملوك المناجم والبنوك والنقل البحري الخ ... وضد أيديولوجيا أنصاره غير المباشرين، الأرستوقراطية العمالية الأوروبية، وإقطاعية الأغوات والباشوات من موظفين وأسياد ورجال دين منحرفين وملاكين كبار ... لم يكن العدو المستعمر مجرد قوة مادية راسخة ظاهريا، كجبل يصمد للقنبلة الذرية. كانت تدعم قوته المادية قوته المعنوية، وقدرته على الاستهواء التي كان الماريشال ليوتي يعبر عنها بقانون إيمان المسؤولين عن الشؤون الإسلامية: (إظهار القوة كي لا يلجأ إلى استعمالها). وإذن، فقد كانت قوة العدو المستعمر الحقيقية، إنما تكمن واقعيا في عقدة العجز عند ضحاياه. وهكذا فإن للأفعى نظرة ساحرة تقدر أن تشل من بعيد العصفور، التي ينسى أن يطير عن غصنه، ويستسلم للسقوط، جامدا، تحت الشجرة، قرب الأفعى ... وكان لا بد من إقناع العصفور بأن فيه قوة تستطيع التغلب على الأفعى. وبأن هذا لا يكلفه إلا أن يؤمن بقوته الخاصة، وأن يقهر خوفه، وألا ينسى وجود أجنحته. ومن أجل ذلك، كان لا بد من الاعتماد على مساعدة

الشعب الجزائري لشل القواعد السياسية والأيديولوجية التي تعيق انطلاقته، وكان في جملة هذه القواعد: 1 - الأيديولوجيا الثورية المضللة، والتي كان الثوريون فيها أشبه (بديوك الليل) التي تبشر بالصباح قبل الأوان، والليل ما يزال أسود كثيفا، لم يفوزوا بعد، ولم يكن بإمكانهم أن يفوزوا، بمواجهة جماهير المسلمين لاستخدام العنف في الكفاح من أجل الحرية، وكان كل شيء مركزا - عندهم - حول المساواة في الحقوق مع الأوروبيين. مع ما يرافق ذلك من تجشم المشقات مع الخصم - أعني أوروبيي الجزائر - للحصول على مدارس ومحاريث وطرق ومستشفيات، واختيار طريق (الانعتاق بالتطور) وهذه كانت الخطة السياسية ... للمنتخبين - غير الإداريين - الذين يسمع صوتهم أكثر من غيرهم والأكثر شعبية (الأعيان)، و (الطلاب)، الذين تثقفوا بالثقافة الإفرنسية. وكانت رسائل العمل هي الشكاوى التي كان يرفعها (إلى الإفرنسيين الطيبين في فرنسا)، (وفد) يرسل إلى باريس حيث كان ... (منخبونا) يجدون رجالا ديموقراطيين لكي (يصغوا) إليهم، ويشاركوهم غضبهم، ووزراء يسمح لهم تهذيبهم (باستقبالهم) وتقوية أوهامهم ... المتعلقة (بفعالية) العمل الذي تقوم به بعض الشخصيات - حتى العالية - لرفع العبء الاستعماري دون استخدام العتلة الشعبية. لهذا، لم يكن المنتخبون - الأتباع منهم والمستقلون - يسلمون بهذا التناقض: أنهم بطالون (مخمورون بحشيشة الكيف). 2 - محاربة أدعياء الكفاح ضد الاستعمار، مع تصريح

المدعي منهم بأنه أقرب إلى فلاح ثري ملحد أو أوروبي، منه إلى العامل الزراعي المؤمن الجزائري: يعني أنه يرسم حدا خاطئا على الصعيد السياسي - وأنه يثير جدلا بيزنطيا بتجاهله للعدو الرئيسي الذي هو (النظام الاستعماري، مصدر الجهل والظلامة). وتصريح هذا المدعي، بأنه مفكر (حر) دون أن يكافح في سبيل فصل الكنيسة عن الدولة فصلا حقيقيا، ونسيانه حتى مساعدة المسلمين لنيل الحرية الدينية , وبشكل أخص وقوفه ضد التدخل الإفرنسي لاختيار رجال الإمامة والإفتاء الذين يعينهم حاكم مسيحي أو يهودي أو ملحد - دون إله - وهذا كله يعني رفض الدفاع عن أكثر الحقوق بداهة: حرية الضمير. يعني رفض الدفاع عن (الديموقراطية)، والامتناع عمليا عن المساس بمؤسسات الظلم الاستعماري، والمشاركة في ترسيخ الركود الاقتصادي والاجتماعي وازدياد التخلف الإيديولوجي. 3 - محاربة الإيديولوجية الاستسلامية (أمام صعوبات الثورة المسلحة) وهي الأيديولوجيا التي كانت تشل الثوريين - ذوي الأغراض - سواء في الحزب الشيوعي الجزائري، أو في الحركة الوطنية الجزائرية (والتي كانت تمثلها قيادة الحاج مصالي). وكان هؤلاء الإيديولوجيون يجدون لهم غطاء في مقولات ذات ظواهر براقة - لامعة - تزوغ لها الأبصار الضعيفة - ومنها على سبيل المثال: (إذا كان (الاستراتيجيون) غير موجودين إلا في الحزب الشيوعي الجزائري والحركة الوطنية الجزائرية، فإن ذلك يعني بأن كل عمل مستقل عنها محكوم عليه بالفشل مسبقا ... فالثورة فن لا يعرفه غير الأعضاء

المريدين وحدهم ... والاقتراب من الثورة بغير إذنهم ممنوع ... وذلك حتى لا تكون الثورة مجرد مغامرة دامية لا مستقبل لها، وحتى لا تكون (عملية انتحار) تقوم بها حفنة من المغامرين الذين تلقحوا بالجرثومة الفوضوية الكامنة في الأقلية الفعالة) ... وهدفهم الهنائي هو عدم قيام الثورة التي ستشكل خطرا حقيقيا على مخططاتهم، وتتشكل عنها نتائج اجتماعية تغاير أهدافهم. 4 - محاربة الإيديولوجية الوطنية - الإصلاحية - وهي تتميز بإرادة الوصول إلى الاستقلال بسير متبصر، بالسياسة اللاعنفية - وكان يمثلها عباس فرحات قبل الثورة - كأنه يتم الاستقلال بالتعلم أو بالتجارة أو بالصناعة أو امسترداد الأرض، أو بالحياة العصرية - الغربية - أو بتعليم المرأة للتخلص من الحجاب أو بالعمل البرلماني أو النقاي، أو بالأناشيد الوطنية الحماسية ... وكأنه كان على الجزائر أن تنتظر الحليف الذي سيأتي من الخارج والذي سيقضي على الاستعمار بأسلحة من أنواع أسلحته. وهكذا كانت هذه الإيديولوجيا الإصلاحية تبشر بالصبر حتى يأتي المحرر الذي سيلبس في آن واحد قناع سيدنا سلطان اسطنبول والحاج غليوم الثاني والغازي أتاتورك وجوزيف ستالين والفوهرر هتلر وروزفلت ... 5 - التصدي للإيديولوجية الوطنية الرجعية التي كان يمثلها شيوخ الطرق ممن وظفهم الاستعمار لخدمة أغراضه، وتنفيذ أهدافه، وكان لهذه الإيديولوجية المفسدة أساليبها الهادفة إلى خلق البدع وإلصاقها بالإسلام. وكان لهذه الأيديولوجية

الرجعية أيضا قاعدتها الاقتصادية القائمة على الملكية العقارية الواسعة، والتي كانت تستغل المزارعين الذين لا أرض لهم، أو الفلاحين المعوزين. ولقد خلق الاستعمار طبقة من كبار الملاكين، وشجعها بواسطة منح يجريها على الموظفين من إداريين ورجال دين. أو بواسطة اختلاسات كانت تجري عنوة. وكان غرض المستعمر هو أن يرتبط بفئة ثابتة على الصعيد الاقتصادي والسياسي. وأن يستخدم تأثيرها الإداري أو الديني، للسيطرة على الفلاحين الفقراء، أو المتوسطي الحال. ويراقب غالبية الشعب الجزائري. وكانت الرجعية الدينية تحرص أيضا على بقاء الهوة القائمة بين الريف والمدينة، وذلك نظرا لما كانت تتمتع به المدينة من سبق في التطور سواء في مجال الوعي الديني أو الوعي السياسي، أو في الوعي الطبقي والعاطفة القومية (¬1). وليس من الغريب بعد ذلك أن تنحدر حركة مثل حركة (المرابطين) إلى مجرد حلقات للدراويش أو الحواة، أو صانعي التمائم والتعاويذ التي تبعد (العين الشريرة) والفقر والمرض والضعف والعقم ... بعد أن كانت لعهود طويلة حركة (رائعة للجهاد) تألقت في سماء المسلمين عندما قام رجالها بالدفاع عن .... (أندلس المسلمين) وعندما تصدوا لهجمات الغزاة الصليبيين الإسبانيين طوال ثلاثة قرون (في أعقاب سقوط دولة المسلمين في الأندلس) ثم في مجابهة الحملات الأولى للغزو الإفرنسي. وليس من الغريب بالمقابل، بل أنه أمر متوقع جدا، ¬

_ (¬1) الجهاد الأفضل (عمار أوزيغان) ص 15 - 19.

أن تتصدى الحركة الإصلاحية الإسلامية التي قادها الشيخ عبد الحميد بن باديس ومعه شيوخ رابطة العلماء لهذه الانحرافات، ويعلمون على هدم ما حاول الإفرنسيون بناءه على أنقاض التنظيمات الإسلامية الأصيلة، التي انحدرت إلى هوة سحيقة تحت ضربات الاستعمار المادية والمعنوية (¬1). هنا يبرز سؤال: وهل كانت كل الحركات السياسية والدينية التي عرفتها الجزائر في ليل الاستعمار - حركات عملية أو مشبوهة؟. يقينا لا! لقد عرف عالم الدول التي خضعت للاستعمار، كما عرفت الجزائر، حركات مخلصة وعرفت زعماء مخلصين، غير أن تلك الحركات وأولئك الزعماء قد بقيت، وبقوا، في حالة من القصور عن إدراك الأهداف البعيدة لأمتهم، وأنعزلوا، في كثير من الأحيان عن تيار التفاعلات العميقة في ضمائر أفراد الشعب. وأسهم التدمير المستمر لمعاول الاستعمار (المادية والمعنوية) في استنزاف قدراتهم أحيانا، وفي حرفهم في أحيان أخرى، وفي تدميرهم تدميرا تاما في معظم الأحيان. من هنا تظهر ضرورة التعرض لتلك المرحلة التي سبقت اندلاع الثورة التحريرية الكبرى (1954). والتي يمكن اعتبارها ¬

_ (¬1) انظر العدد الثاني من هذه المجموعة (الجزائر المجاهدة في مجابهة الحملات الصليبية القديمة) وكذلك العدد السابع من هذه المجموعة أيضا (عبد الحميد بن باديس. وبناء قاعدة الثورة الجزائرية).

(مرحلة المخاض العسير لولادة الحدث العظيم) وهي المرحلة التي بدأت بواكيرها بالأمير خالد وبحركة (جمعية العلماء) على نحو ما سبق عرضه في العددين الساقين من هذه المجموعة ***

حزب نجم شمال أفريقيا

2 - حزب نجم شمال أفريقيا (*) كان حزب (الجزائر الفتاة) والذي أسسه الأمير خالد الهاشمي الجزائري. وهو أول تنظيم حزبي عرفته الجزائر غداة الحرب العالمية الأولى. وكانت (جمعية العلماء الجزائريين المسلمين) هي أبرز تنظيم اجتماعي - ديني - سياسي، ولو أنه لم يرفع الهوية السياسية. وفي تلك الفترة ذاتها ظهر - في باريس - تنظيم جديد ارتبط بالطبقة العاملة لأبناء المغرب العربي الإسلامي عرف باسم (حزب نجم شمال أفريقيا) وارتبط ارتباطا وثيقا باسم (مصالي الحاج) على الرغم من أن أول رئيس لهذا الحزب - أو الجمعية - كان (سي محمد جيفال) وهو تاجر جزائري مستقيم وشجاع من المنطقة الثامنة عشرة، وكان من أعضاء مكتب الجمعية (عبد القادر بن الحاج علي وعلي الحمامي، ومصالي الحاج). كان ذلك في العام 1924، فخلال مؤتمر نظمه الأمير خالد الهاشمي في باريس، تفرق المهاجرون من شمال أفريقيا

_ (*) (نجم شمال أفريقيا) L'ETOILE NORD AFRICAINE.

الذين كانوا يحضرون الاجتماع، وهم يهتفون (عاشت أفريقيا المستقلة) وفي السنة نفسها - في منتصف شهر أيلول - سبتمبر - تأسست (جمعية نجم شمال أفريقيا) في باريس وكانت أهدافها الاجتماعية الدفاع عن مصالح عرب شمال أفريقيا المادية والمعنوية والاجتماعية. وكان يختفي وراء واجهتها تلك المطالب السياسية الخاصة باستغلال بلدان أفريقيا الثلاثة. وخلال تلك الفترة، كان الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي يقود حربه الضارية ضد الاستعمار الإسباني في الريف، ويحقق إنتصاره الرائع في معركة - أفوال - الشهيرة - فكان أول نشاط تمارسه الجمعية هو إرسال برقية إلى الأمير الخطابي - بمناسبة انتصاره، جاء فيها: (عمال المغرب العربي الذين يعملون في الناحية الباريسية، والذين يجمعون في هذا اليوم التاريخي - السابع من كانون الأول - ديسمبر - 1924 مؤتمرهم الأول، يبعثون لإخوانهم رجال المغرب الأقصى وإلى زعيمهم البطل عبد الكريم بالتهاني الصادقة من أجل انتصارهم على الاستعمار الإسباني. ويعلنون تضامنهم معهم في كل مسعى يقومون به من أجل تحرير البلاد، ويشاركونهم المناداة باستقلال الشعوب المظلومة، وبسقوط الاستعمار العالمي والاستعمار الإفرنسي). ترددت أصداء هذه الصيحة قوية مجلجلة في كل أنحاء المغرب العربي - الإسلامي، إذ كيف يرتفع صوت ينادي بالاستقلال الوطني من قلب عاصمة الاستعمار - باريس - في

لوقت الذي لا يكاد فيه صوت يرتفع في كل أنحاء المغرب العربي الإسلامي ليطالب بما هو أقل من ذلك بكثير - الدمج - بدون أن يلقي أذنا صاغية؟ لقد حدث ذلك في وقت خيل لكثير من أبناء المغرب العربي الإسلامي أن أقدام الاستعمار قد باتت ثابتة وقوية فوق أرض الوطن، وأفاق كثير من الناس ليدركوا أن بناء الاستعمار إنما هو بناء فوق الرمال. وكان من نتيجة ذلك أن انضم عدد كبير من رجال المغرب العربي - الإسلامي إلى الجمعية - وخاصة من العمال الجزاريين - وشعرت (الجمعية) بأن ساعدها يشتد، فأصدرت صحيفة ناطقة باسمها (حملت اسم جريدة - الأمة). في سنة 1927، تولى (مصالي الحاج) رئاسة جمعية , (نجم شمال أفريقيا)؛ فأعطاها قوة دفع جديدة بما عرف عنه من قدرة تنظيمية كبيرة، وحماسة شديدة للعمل. وهنا قد يكون من المناسب التوقف قليلا عند شخصية (مصالي الحاج،) الذي أصبح في فترة من الفترات (أبو الوطن الجزائري). أو (والد الحركة الوطنية الجزائرية). ولد مصالي الحاج في العام 1898 في مدينة تلمسان. عن والد فقير كان صانعا للأحذية، فلم تتح له الفرصة إلا للتعلم بصورة محدودة، وفي سنة 1911، أيقظه حدث كبير ترك أثرا عميقا في حياته، فقد شاهد في هذه السنة أهل مدينته (تلمسان) وهم يهاجرون هجرة شبه جماعية، تاركين مدينتهم فرارا من جور الاستعمار، ميممين وجوههم شطر المشرق العربي -

الإسلامي، حيث استقر بعضهم في تونس، وتابع أكثرهم هجرته إلى بلاد الشام. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، قاتل (مصالي الحاج). في صفوف الجيش الإفرنسي، حتى إذا ما انتهت الحرب وعاد إلى الجزائر، لم يجد فيها غير البؤس والفقر والاضطهاد، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من المقاتلين الجزائريين في الجيش الإفرنسي، وأدت البطالة التي انتشرت في الجزائر اعتبارا من سنة 1920، وحاجة فرنسا إلى القيام بالأعمال العمرانية، إلى هجرة كثير من الشبان الجزائريين إلى فرنسا بحثا عن العمل. وكان بين هؤلاء المهاجرين (الشاب مصالي الحاج) حيث عمل في عدد من مصانع باريس كما عمل بائعا متجولا في الشوارع. وواظب على تلقي الدروس في معهد الدراسات الشرقية. كما حضر محاضرات عدة في جامعة بوردو. وعاش كغيره من العمال الجزائريين حياة الكفاف وفي أوضاع شاقة، واتصل بالطبقات العاملة الإفرنسية، وسرعان ما انضم إلى الحزب الشيوعي، ثم تزوج من شيوعية بارزة. وقد أفاد من خدمته في الخلايا الشيوعية الباريسية، إذ أكسبته مرانا وتجربة تنظيميين استثمرها بشكل جيد عندما شرع في تنظيم الحركة الوطنية الجزائرية. حاول (مصالي الحاج) نقل مركز ثقل حركته إلى الجزائر، وتطوير الحركة في فرنسا ذاتها. غير أن نطاق الجمعية (جمعية نجم شمال أفريقيا) وصحيفتها (الأمة) لم يتجاوز حتى سنة 1929 حدود النطاق الضيق للعمال المهاجرين والمقيمين في باريس وضواحيها. أما في الجزائر فقد بقيت الجمعية وصحيفتها

مجهولتين من الجمهور وخاصة الفلاحين منهم. ويعود السبب في ذلك إلى رفض الجزائريين المسلمين للفكر الشيوعي، وهو الأمر الذي تعبر عنه المقولة التالية: (جاء عبد القادر بن الحاج إلى الجزائر ومعه مصالي الحاج للاجتماع بزعماء الحركات الوطنية، وعقد هؤلاء اجتماعا جرى فيه حوار بشأن الالتقاء بمصالي الحاج ورفيقه، وفي هذا الاجتماع قال أحد الحضور - الطيب الجميل -: إننا نحاول إخراج الشرعية من الباب فإذا بها تطل علينا من الشباك! لقد بات من المعروف أن حركة (نجم شمال أفريقيا هي حركة شيوعية). وأن الرجلين كانا من رجال الحزب الشيوعي المعدودين، ولا يزالان يعملان سرا بوحيه وبالاتفاق معه. وأن هذه الحركة المذهبية المشبوهة، إنما هي من أجل تغلغل الشيوعية في كل الأوساط الإسلامية التي بقيت مغلقة في وجه دعاية الكومينترن. فالعامل مع هذين الرجلين إنما هو العامل من أجل الكريملين، ولفائدة مبدأ رفضه المسلمون قاطبة. ويعتقد الشيوعيون أنه يجب التخلص من الاستعمار أولا بواسطة حركة دينية قومية، ثم هم يتخلصون سريعا من هذه الحركة لفائدة الشيوعية). وتقرر بعد جدال عدم الاجتماع بزعيمي جمعية (نجم شمال أفريقيا). وهكذا فقد اقتصر نشاط الحزب بصورة رئيسية على فرنسا، وأقام له اتصالات مع تونس والمغرب - مراكش - وغيرهما من الجماعات الإسلامية والهيئات العربية. وشهد

(مصالي الحاج) مؤتمر مناهضة الاستعمار الذي عقد في بلجيكا سنة 1927، والذي ترك أثرا عميقا في عقول الكثير من الوطنيين في آسيا وأفريقيا. أصدرت الحكومة الإفرنسية قرارا في سنة 1929 بحل (حزب نجم شمال أفريقيا) لمطالبته بالاستقلال فانتقل عدد كبير من مناضليه إلى الحركة السرية، ودعموا بذلك (كوادر - أجهزة) الجهاز التنظيمي الشيوعي الذي كانوا قد انضووا تحت لوائه في البداية. وفي العام ذاته، تأسس حزب (النجم الثاقب) الذي تبنى مطالب أقل عنفا وبرنامجا أكثر اعتدالا، يستهدف رفض (رسالة فرنسا التمدينية) في الجزائر. واستمر الحزب في إصدار صحيفته (الأمة) في أوقات غير منتظمة، وكانت كالمشرفين عليها عرضة دائمة لإجراءات العنف الإفرنسية. وفي سنة 1930 بعث الحزب بمذكرة إلى عصبة الأمم يناشدها الدعم لتحقيق مطالب حزب (النجم الثاقب). وظهر خلال ذلك أن قرار حل (حزب نجم شمال أفريقيا) إنما جاء بسبب الضغط الذي مارسه (عمد الجزائر) و (النواب المنتخبون) من المستوطنين على الحكومة الإفرنسية. وعلى كل حال، فقد عاد حزب (نجم شمال أفريقيا) للظهور مجددا في سنة 1933، وعقد مؤتمرا عاما وهاما في فرنسا. وقد تمكن (مصالي الحاج) وأنصاره من حمل المؤتمر على استصدار قرار مطول يتضمن الإجراءات التي يجب اتخاذها قبل الاستقلال وبعده (*). وعلى أثر ذلك قامت الحكومة الإفرنسية

_ (*) انظر مواد هذا القرار في نهاية هذا الكتاب (قراءات 1).

باعتقاله والحكم عليه بالسجن لمدة سنتين وذلك بالتهمة التي كثيرا ما استخدمت ضده وضد غيره من الوطنيين وهي (تأليف منظمة غير مشروعة). وعندما أطلق سراح (مصالي الحاج) سنة 1935 عاد على الفور لاسئناف نشاطه، وظهر حزب (نجم شمال أفريقيا) تحت اسم جديد هو (الاتحاد الوطني لمسلمي شمال أفريقيا). واشترك (مصالي الحاج) بصورة بارزة في الحملة العالمية التي شنت ضد غزو الإيطاليين للحبشة (أثيوبيا). ولم تمض بضعة أشهر على إطلاق سراحه حتى كان مصالي ثانية عرضة للاعتقاد بموجب مرسرم (رينيه) القاسي، وسافر إلى سويسرا حيث قضى ستة أشهر في حالة نفي اختياري، تجنبا للسجن من جديد. وقد اتسعت آفاقه في سويسرا من جراء حضوره (المؤتمر الإسلامي في جنيف) واتصاله بالأمير (شكيب أرسلان). وأدى هذا الاتصال إلى تحويل (مصالي الحاج) من صورته الشيوعية الإفرنسية إلى مظهره الإسلامي العربي. وأثر الأمير شكيب على مصالي فحمله على معارضة اقتراحات (بلوم - فيوليت) التمثيلية. وعلى زيادة الاتصال بالحركة الإصلاحية في الجزائر ذاتها. وقام الأمير شكيب ذاته بكتابة مجموعة من الرسائل إلى زعماء المغرب العربي - الإسلامي، أشاد فيها (بالزعيم مصالي الحاج) وامتدح صدق وطنيته وإقدامه وحماسه، وأنه (لو كان للإسلام مثله في مختلف الأوطان لتغير الحال غير الحال) وكان ممن تلقى رسائل الأمير شكيب - بهذا الشأن - محيي الدين القليبي - بتونس - وأحمد توفيق المدني - بالجزائر - وعبد الحميد بن باديس - بقسنطينة - والطيب العقبي - ببسكره - ومبارك

الميلى - بالأغواط - وعلال الفاسي - بفاس - ومحمد بن أحمد داوود - بتطوان - وساعدت هذه الرسائل (مصالي الحاج) على تطوير نشاطه في أنحاء المغرب العربي الإسلامي. أدى تحالف قوى اليسار في فرنسا (الاشتراكيين والشيوعيين) إلى انتصارهم في انتخابات سنة 1936 وتشكلت, حكومة (ليون بلوم). وقام محامو الدفاع عن (مصالي الحاج) برفع قضيته إلى رئيس الوزراء الإفرنسي، وصدر قرار بعودته إلى فرنسا. فاستأنف (مصالي) نشاطه التنظيمي والدعائي بمجرد وصوله إلى باريس، بعزيمة أكثر وتصميم أكبر. واستعرض نحوا من أربعين ألف عامل من عمال المغرب العربي الإسلامي في باريس، وذلك في صباح يوم الباستيل من سنة 1936، وكانت مسيرة العمال ترفع شعار , (تحرر الوطن العربي). ودخل مصالي وحزبه (نجم شمال أفريقيا) إلى الجزائر نفسها، للمرة الأولى، في الثاني من شهر آب - أغسطس - 1936 حيث عقد اجتماعا عاما في الملعب البلدي في الجزائر، بحضور نحو من عشرة آلاف جزائري. وقام (مصالي الحاج)؛ بعد ذلك بجولة في أنحاء البلاد، حيث ألقى عددا من الخطب، نالت نجاحا بارزا في مسقط رأسه (في مقاطعة تلمسان). وذكر حزب (نجم شمال أفريقيا) في هذه الآونة، أن عضويته تضم أحد عشر ألف شخص نظموا في سبعة فروع في فرنسا، وفي نحو من ثلاثين فرعا أخرى أثناء الجولة التي قام بها مصالي في أنحاء البلاد. علاوة على ثلاثين فرعا كانت قد تأسست في الجزائر من قبل. ولقيت حملة مصالي

ضد اقتراحات (بلوم - فيوليت) (*) ومطالبته بالاستقلال، معارضة قوية من قبل (أنصار الدمج) ومن قبل الحزب الشيوعي - بوصفه أحد الأحزاب الحاكمة في فرنسا الآن - والذي بات يؤيد استمرار السيادة الإفرنسية على الجزائر. وأدى هذا الصراع إلى نتيجتين مهمتين: أولاهما تخلي الكثير من الجزائريين عن ارتباطاتهم الشيوعية، تأييدا لموقف حزب (نجم شمال أفريقيا) القومي. وثانيتهما حل حكومة الجبهة الشعبية لحزب (نجم شمال أفريقيا) في كانون الثاني - يناير - 1937. ... قرر زعماء (حزب نجم شمال أفريقيا) بعد حل حزبهم، تأسيس حزب جديد. واجتمع مصالي الحاج وعماش عمار، وراجف بلقاسم وموسوي رباح ونحال محمد الرزق، وأعلنوا يوم 11 - آذار - مارس - 1937 تأسيس (حزب الشعب الجزائري) ودعمهم أعضاء شعبة الجزائر لحزب (نجم شمال أفريقيا).

_ (*) بلوم - ليون (BLUM - LEON) (1872 - 1950) شكل حكومة الجبهة الشعبية سنة 1936، وقرر الاستجابة لطلبات الراغبين بالحصول على الجنسية الإفرنسية (أنصار سياسة الدمج مع فرنسا) ومنح هذه الجنسية إلى فئات معينة فقط من الجزائريين المثقفين. ولكن هذا القانون لم يصدق عليه في البرلمان الإفرنسي بسبب معارضة المستوطنين ومقاومتهم له. وأدى فشله إلى خيبة آمال تلك الفئة التي (حاولت الإخلاص لثقافتها الإفرنسية) وفي الوقت ذاته، اصطدم (مشروع بلوم فيوليت) بمقاومة المسلمين في الجزائر ومعارضتهم له.

حزب الشعب الجزائري والحركة من أجل انتصار الحرية والديمقراطية

3 - حزب الشعب الجزائري والحركة من أجل انتصار الحرية والديمقراطية تكون حزب الشعب تكوينا يغاير ما كان عليه تشكيل حزب (نجم شمال أفريقيا). إذ اعتمد حزب الشعب بالدرجة الأولى على الجزائريين، وكان برنامجه مركزا على تأليف حكومة جزائرية شعبية وبرلمان (مجلس نيابي) واحترام حقوق الأمة الجزائرية وبعث اللغة العربية والاعتماد على الدين الإسلامي، فكان من بعض الوجوه مشابها لحزب الدستور الجديد (في تونس) و (فريق العمل المغربي) إذ لم يكن قد قام في المغرب حتى هذا التاريخ حزب سياسي. ولم يكن ذلك تحللا نهائيا من الارتباط بالحركات السياسية الأخرى في المغرب العربي الإسلامي، أو تقصيرا عن تبادل الدعم ضد فرنسا من أجل الاستقلال. فكان القرار بتأليف حزب الشعب على أسس جزائرية صرفة، عملا تكتيكيا، فرضته الظروف السياسية والقانونية التي جعلت من تونس والمغرب محميتين فرنسيتين ومن الجزائر قطرا فرنسيا. استقبلت أوساط العمال الجزائريين العاملين في فرنسا تكوين (حزب الشعب) بحماسة، وأعلنت عن تأييدها له. وعاد (مصالي الحاج) إلى الجزائر في حزيران - يونيو -

1937. ورشح الحزب لأول مرة مرشحيه للانتخابات البلدية في الجزائر - العاصمة - وبالرغم من بيان الحزب والوسائل الشرعية التي استخدمها في الانتخابات - فقد جرى اعتقال (مصالي الحاج) وأعضاء اللجنة الإدارية للحزب يوم 27 آب أغسطس - 1937. وأسندت إلى (مصالي الحاج) تهمة (التحريض على أعمال العنف ضد سيادة الدولة) و (إعادة تنظيم هيئة محلولة). وقد تم هذا التوقيف في ذات اليوم الذي صدر فيه العدد الأول من جريدة الحزب الرسمية (الشهاب) وهي صحيفة أسبوعية باللغة العربية، كان مديرها ورئيس تحريرها (مفدي زكريا) وهو مجاهد شاب من (ميزاب). ولم يكن ذلك إلا بداية لأعمال القمع ضد الحزب ومجاهديه. ففي الوقت الذي كان يصدر فيه العدد الثاني من جريدة (الشهاب) تم اعتقال رئيس تحرير الجريدة الجديد (غينانيش محمد) من تلمسان. كما اعتقل عدد آخر من أعضاء الحزب - مات أحدهم وهو (كحال محمد) خلال التعذيب الذي أعقب - اعتقاله. وصدر الحكم على (مصالي الحاج) بالسجن لمدة عامين وتجريده من كافة حقوقه المدنية والسياسية. وصدرت أحكام مماثلة على بقية المعتقلين من أفراد (حزب الشعب) وقادته. ووضعتهم الإدارة الإفرنسية في سجن (بربروس) حيث عوملوا كمجرمين عاديين، ولكنهم أعلنوا الإضراب عن الطعام مرتين، فحصلوا على اعتبارهم كسجناء سياسيين، وأرسلوا إلى معتقل الحراش (ميزون كاريه) وسمح لهم بتلقي الصحف والطعام والزيارات الرسمية كل أسبوع.

بقي حزب الشعب، حتى تلك الفترة، حزبا شرعيا، ولم تكن مكافحة إلا لتزيده نموا ونشاطا، ذلك إن القمع الإرهابي الذي مارسته الإدارة الإفرنسية ضد مجاهديه، قد دعمت من وجوده، وأكسبته تعاطف الجماهير معه، وبدأ أعضاؤه في التكاثر في كل أقاليم الجزائر وفي العاصمة الجزائر وضاحيتها بصورة خاصة، وفي بليدة وتلمسان ووهران وقسنطينة وعين بيضاء بعد أن كانوا يقتصرون على العمال المهاجرين في فرنسا. أجريت انتخابات تكميلية لمجلس بلدية الجزائر، وفازت قائمة (أحمد بومنجل) التي كان يساندها حزب الشعب بأكثرية ساحقة وذلك للمرة الأولى. وفشلت للمرة الأولى أيضا، وأزيحت من المسرح السياسي الأسر البورجوازية التي كانت تتطاحن منذ سنوات فيما بينها في معركة لا معنى لها، ومن هذه الأسر (آل شقيقن) و (بودريا) و (حافظ) و (تمزالي) و (طيار) و (بنتامي) و (بن سماية) و (ولد عيسى) و (بن سيام) إلخ ... فقد أدار أهالي (حي القصبة) في العاصمة الجزائر ظهورهم لسياسة الأسر الكبيرة، لينضم نهائيا إلى صف الأحزاب ذات الاتجاهات السياسية العقائدية. وتدعم هذا التطور في شهر نيسان - أبريل - من سنة 1939، في انتخاب مجلس مدينة الجزائر العام، فبالرغم من الضغط الذي تعرض له الناخبون من قبل المحافظة والحكومة، فاز مرشح حزب الشعب الجزائري (دوار محمد) الذي اعتقل بعد ذلك ومات في السجن. أصدر (حزب الشعب) في تلك الفترة صحيفة أسبوعية باللغة الإفرنسية حملت اسم (البرلمان الجزائري). وكانت هذه

الصحيفة تحرر وتدار من سجن الحراش (ميزون كاريه) وبقيت قوة الحزب قائمة في فرنسا - سنة 1940 - وتمكن من اقتناء آلة طباعة، وأصبحت لمجاهديه خبرة طويلة في شؤون النشاط السياسي والدعائي. غير أن حياة صحيفة (البرلمان الجزائري) لم تستمر طويلا. فقد نشبت الحرب العالمية الثانية، وفي 29 أيلول - سبتمبر - 1939، أصدرت الإدارة الإفرنسية قرارها بحل (حزب الشعب الجزائري). ثم أخلي سبيل أعضاء هيئته الإدارية السابقة، وفي يوم 4 تشرين الأول - أكتوبر - أعيد اعتقال بعض هؤلاء الأعضاء بدون أي سبب مباشر. وشملت تلك الاعتقالات: مصالي الحاج ومعروف بومدين وبوحريدة عمار وخليفة بن عمار، ومفدي زكريا ومكي وفليطة أحمد وقدور تركي وابن العقبي ومحمد خيضر ومحمد ممشاوي وبو معزة علاوي. ولكن الأحداث أخذت تتعاقب مسرعة. فوقعت فرنسا الهدنة وغيرت نظامها وسياستها الخارجية. وقام في لندن الجنرال ديغول يوجه نداءه للشعب الإفرنسي وشعوب المستعمرات يدعوها فيه إلى المقاومة والقتال ضد الاحتلال الألماني. فأدرك الشعب الجزائري أن العالم سيشهد تغييرات ضخمة، وأن هذه الأحداث ستشمل الجزائر. ومع ذلك، انعقدت محكمة عسكرية في مدينة الجزائر. وأصدرت حكمها على (مصالي الحاج) يوم 28 آذار - مارس - سنة 1941 بالأشغال الشاقة لمدة 16 سنة، وبالإبعاد عن الأرض الإفرنسية والمحمية لمدة عشرين سنة بعد ذلك، وبغرامة مالية قدرها ثلاثين مليونا من الفرنكات. ومنذ ذلك الوقت ضاع (حزب الشعب) في متاهات عديدة بين العمل

العلني والعمل السري. فقد كانت ظروف الحرب، ونشاط أجهزة الأمن الإفرنسية، قادرة على إحكام قبضتها على البلاد. وكانت سلطات (فيشي) تكثر من الاعتقالات ومعسكرات التجمع والإقامة الإجبارية. كان من آثار هذا النطام الذي استمر حتى نزول القوات الأنكلو - أمريكية في الجزائر يوم 8 تشرين الثاني - نوفمبر - 1942، أنه نشط الرأي العام الجزائري، ففي معسكر القوميين والشيوعيين والعلماء والأشراف والنقابات العمالية والتقدميين والتجار واليهود أخذ اللقاء ينتظم وانتشر تبادل الآراء بين الجميع. وكانت أنباء الخارج موضوع تعليقات يومية، وأصبحت السجون هي المدارس الحقيقية للمجاهدين، فيها يعقدون ندواتهم ويلقون محاضراتهم ويبحثون مستقبل بلادهم. فمن روزفك إلى ستالين، ومن تشرشل إلى ديغول، ومن شرعة الأطلسي إلى استقلال الشعوب المستعمرة، وكانت النظريات تتصارع وتسري بين مجموع المعتقلين. وكان هناك من الرجال من زج بهم في السجون لجرائم عادية، وفيهم تجار لا تربطهم بالسياسة أيه روابط، سجنوا لأنهم تجار حرب ساروا على درب الكسب غير المشروع. هؤلاء وأمثالهم تخرجوا من السجون وهم يحملون حماسة المجاهدين المتمرسين. وعندما كانت الإدارة الإفرنسية تضع أحد القوميين في إقامة إجبارية، كان هم هذا الأخير ينصرف بالدرجة الأولى إلى تنظيم خلية، حيث لم يكن يوجد شيء من ذلك القبيل، وإلى نشر مبادىء الحزب في صفوف الفلاحين. وبذلك، كانت عمليات القمع تنشر خميرة

الاستقلال الوطني من منطقة إلى أخرى - دون قصد منها -وفي الجامعات والمدارس انخرطت الشبيبة بأكثريتها الساحقة في الحركة القومية، وتغيرت الأخلاق بتغير الزمن، حتى إنه كثيرا ما أخذت تظهر خلافات سياسية بين الأب وابنه. وكانت الأجيال الجديدة تتغنى بتيارات العصر المحرقة، وتتجه إلى المساهمة في الحرب الفكرية - العقائدية - التي أخذت تجتاح العالم وتعمل على تقسيمه وتمزيقه. وقد خرج معهد (بليدة) عددا كبيرا من القوميين النشيطين من بينهم (سعد دحلب) و (محمد يزيد) و (بن يوسف بن خدة) وبعدهم (رمضان عبان). كما خرج غيره من المعاهد العربية الإسلامية شبانا آخرين، مثل الصديق وآية أحمد وبن بيلا وشنتوف ومصطفاي وسواهم ممن انضموا إلى صفوف الدعوة السياسية الجديدة فقويت بهم وازدادوا قوة بها. وغدت (لحزب الشعب الجزائري)، إدارة جديدة تقود مصيره بصورة سرية، وكانت هذه الإدارة على اتصال بمحكومي آذار - مارس - 1941 (مصالي الحاج وزمرة قيادته). وكان من أبرز عناصر الإدارة الجديدة: الدكتور الأمين دباغين وأحمد مزغنة ومكري حسين، وحسين أصلح. ... انتهت الحرب العالمية الثانية، وعاد (مصالي الحاج) وأنصاره إلى خوض المعترك السياسي. واشتركوا في أول انتخابات جرت في عهد الجمهورية الرابعة. فبعد أن أطلق سراحه عند انتهاء الحرب بصورة رسمية، منع من دخول المدن الكبرى في الجزائر، وفرضت عليه الإقامة الإجبارية - تحت

المراقبة في قرية (بوزريعة) القريبة من مدينة الجزائر، وذلك في تشرين الأول - أكتوبر - من عام 1946. وقام مصالي في هذه الآونة، يحيط به أنصاره من أمثال الدكتور الأمين دباغين وحسين الأحول وأحمد مزغنة ومحمد خيضر بتأسيس (حركة انتصار الحريات الديموقراطية). كانت (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) التي حلت محل (حزب الشعب الجزائري) - الذي كان لا يزال منحلا. تؤيد إنشاء جمعية تأسيسية جزائرية، ذات سيادة منتخبة على أساس الاقتراع العام، دون تمييز من أي نوع، وجلاء الجيوش الإفرنسية عن الجزائر، وإعادة الأراضي التي انتزعت، وتعريب التعليم الثانوي، وعودة المساجد إلى الأشراف الديني البحت. وقرر مصالي أن يشترك في انتخابات شهر تشرين الثاني - نوفمبر - ليضع هذا البرنامج أمام الشعب الجزائري، وليختبر فكرة استقلال الجزائر عن طريق صناديق الانتخاب. ولذلك رفض محاولات الحزب الشيوعي الجزائري، الذي كان واقعا تحت تأثير ضغط شديد من الطائفة الانتخابية الأولى، للاشتراك في (جبهة متحدة) تشمل الشيوعيين، وحركة انتصار الحريات الديموقراطية، والاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري وجماعة العلماء. وأسف فرحات عباس (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان) لموقف مصالي، ولكنهم قرروا عدم الاشتراك في الانتخابات تحاشيا لوقوع الانقسام في صفوف القوميين وتهيئة فرصة لمصالي كان قد فشل فيها. وجاءت نتائج الانتخابات في الطائفة الثانية مخيبة لأمل (حركة انتصار الحريات الديمقراطية - مصالي الحاج) إذ حصلت على خمسة مقاعد،

تتضمن انتخاب (مزغنة) و (خيضر) عن مدينة الجزائر، و (الأمين) عن قسنطينة. وذلك من المجموع الكلي وهو خمسة عشر مقعدا. ولكنها حصلت على - 153،153 - صوتا فقط من مجموع المقترعين وهو 464،319 - من مجموع من لهم حق الانتخاب وهو - 1،245،108 - وكانت ثمانية مقاعد في (الطائفة الثانية) من نصيب المستقلين الذين تؤيدهم الإدارة الإفرنسية، والذين يؤيدون التعاون بين الإفرنسيين والمسلمين، وحصل الشيوعيون على مقعدين. وفي انتخابات مجلس الجمهورية الإفرنسي، كانت النتيجة مختلفة نوعا ما. فعلى الرغم من جهود الإدارة لإبعاد حزب (الاتحاد الديمقراطي) عن الانتخابات غير المباشرة، حصل الحزب في النهاية على أربعة مقاعد من سبعة، بينما كانت ثلاثة مقاعد من نصيب المستقلين الذين يؤيدون التعاون بين الإفرنسيين والمسلمين، وأظهر هذا النجاح أن (الاتحاد الديموقراطي) احتفظ بالشعبية التي سبق له أن كسبها من قبل، وذلك على الرغم من أنه لم يشترك في الانتخابات (للجمعية الوطنية). ... كان أمام (الجمعية الوطنية الإفرنسية) أربعة مشاريع لقانون الجزائر، قدمتها الحكومة الإفرنسية والحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي وحزب (الاتحاد الديموقراطي) منضما إلى (جماعة المستقلين المسلمين للدفاع عن اتحاد الجزائر) - وهو الاسم الذي اختاره أولئك المسلمون الذين يؤيدون التعاون بين الإفرنسيين. والمسلمين - وقام أعضاء (حركة انتصار الحريات الديموقراطية - مصالي) بعرض وجهات نظر القوميين الجزائريين أمام الجمعية

الوطنية الإفرنسية. وفي يوم 20 آب - أغسطس - وهو يوم يصفه الحزب بأنه تاريخي، جادل أربعة أعضاء من حزب (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) في أن (الجزائر ليست إفرنسية) وأنها لا تعترف بموقف الأمر الواقع الذي أوجده الغزو الإفرنسي للجزائر في سنة 1830. وأن الجزائر (لن تعترف بأي قانون إلا إذا تضمن إعادة السيادة للشعب) وكانوا يطالبون بإقامة جمعية تأسيسية جزائرية تنتخب بالاقتراع العام دون تمييز من أي نوع. وهو الاقتراح الذي تكرر كثيرا من حزب (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) في سنوات ما بعد الحرب. وتعرض النائب (أحمد مزغنة) في نقاشه لمجمل المظالم الاقتصادية التي عانت منها الجزائر وشعبها خلال حكم الاستعمار الإفرنسي للبلاد، فذكر ما يلي: (... يكفي أن تسير في شارع لير في المساء، حيث ينام مئات من السابلة على الأرض، أو أن تفحص مجموعات الرجال والنساء والأطفال والشيوخ العرايا تقريبا التي دفعها البؤس والخوف من الموت نحو المدن، والذين يبحثون في كل صباح، ويزاحمون الكلاب والقطط على بقايا الطعام، لتأخذ فكرة عن المأساة الإنسانية التي لا تصدق، والتي تجري في الجزائر) (*). قام ممثلو حزب (الاتحاد الديموقراطي) بطرح وجهات النظر الجزائرية أمام مجلس الجمهورية على شكل قانون مقترح. وقال أحد هؤلاء الممثلين: (بأن الأوروبيين في الجزائر هم الذين

_ (*) ثورة الجزائر (جوان غيلسبي) الدار المصرية ص 56 - 62 - و86 - 89.

فرضوا على فرنسا سياستها على المسلمين طوال خمس وسبعين عاما. وظهرت تغييرات كثيرة في السياسة: التعاون، الدمج، الارتباط، الحكم الذاتي، عودة الاتصال، غير أن أحدا من هذه السياسات لم ينفذ. وبقيت السياسة الوحيدة التي تمارس في الواقع - في الجزائر - هي سياسة التفوق الإفرنسي). وكان القانون المقترح يدعو إلى إقامة الحكم الذاتي الكامل للجزائر، والاعتراف بالجمهورية الجزائرية وببرلمانها - مجلس نوابها - الخاص، وحكومتها الخاصة، في علاقة اتحادية بفرنسا. ونصت مواد أخرى على مواطنة مزدوجة للإفرنسيين والجزائريين في كل من فرنسا والجزائر، ولغتين رسميتين، وتعليم إلزامي باللغتين الإفرنسية والعربية. وإصلاح زراعي. وتستطيع الجمهورية الجزائرية تكوين اتحاد مع دول المغرب العربي - الإسلامي (تونس والمغرب) داخل الاتحاد الإفرنسي. ولم تبحث الحكومة الإفرنسية اقتراح حزب (الاتحاد الديموقراطي، في المجلس، ولا اقتراح حزب (حركة انتصار الحريات الديموقراطية - حزب فرحات عباس) في الجمعية بحثا جديا. ولذلك لم تكن تجربة الحزبين في أول برلمان منتخب أكثر فائدة من تجربة ممثلي الجزائر في الجمعية التأسيسية الأولى والثانية. قبلت لجنة الجمعية الوطنية الإفرنسية التي تبحث القانون الأساسي للجزائر، الحل الوسط الذي عرضته الحكومة وذلك يوم 21 - آب - أغسطس - 1947. وغادر أعضاء حركة (انتصار الحريات الديموقراطية) القاعة؛ ورفضوا الاشتراك في أية مناقشة بعد ذلك. وفي السابع والعشرين من الشهر ذاته، أقرت

الجمعية القانون بمجموعه. وفي مجلس الجمهورية، ترك مندوبو (الاتحاد الديموقراطي) مقاعدهم بعد أن عبروا عن خيبة أملهم. وأعلن زعيم الاتحاد - مصالي الحاج - أن الحزب لا يستطيع قبول القانون الذي تبنته الجمعية، وذلك لأن هذا القانون كما قال: (ليس قانونا إدماجيا في حين أنه يسعى لأن يكون كذلك، وهو ليس اتحاديا بالقدر المرغوب. وليس فيه شيء ديموقراطي، برغم أنه ولد في أسى التحرر العظيم وجراحه. وهو ليس تقدميا حيث أنه يأخذ بيد ما يعطيه بالأخرى. وهو قانون بلا شخصية وبلا أصالة، ميت لا تدب فيه الحياة، وأصالته الوحيدة - إذا كانت له أصالة - أنه استبقى - تحت شكل جديد - الامتيازات القديمة لكبار ملاك الأرض. إنه فقط استبدل سلسلة ذهبية بالسلسلة الحديدية التي تقيدنا فعلا). ... تضمن دستور 1947، سابق الذكر، بعض الفقرات أو المواد التي تصلح لتكون أرضية مناسبة لتطورات لاحقة تسير بالجزائر نحو الإصلاح السلمي، ومنها على سبيل المثال: مادة 107: تؤلف الجمهورية الإفرنسية مع شعوب ما وراء البحار اتحادا يسمى الاتحاد الفرنسي، يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز جنس أو دين. مادة 108: الاتحاد الإفرنسي هو اتحاد أمم وشعوب، تقبل عن رضى بأن تنسق، أو أن تضع في نطاق

مشترك مواردها وجهودها لتنمية حضارتها ورفاهيتها وتحسين نظمها الديمقراطية وضمان أمنها وسلامها. ويضم الاتحاد عند تشكله، الجمهورية الإفرنسية واحدة لا تتجزأ والدول المتحدة وبلدان ما وراء البحار، ومنها الجزائر كدولة اتحادية. مادة 109: يجب أن يؤدي التقدم الذي تحققه شعوب الاتحاد إلى أن تقرر مصيرها بحرية ويمكن بالتالي لكل شعب أن ينسحب من الاتحاد في نهاية مهلة لا تتجاوز العشرين عاما، فإما أن يصبح مجرد دولة اتحادية، أو جزءا من الأمة الإفرنسية. مادة 110: يؤدي تشكل الاتحاد الإفرنسي إلى إقامة دستور في كل بلد تضعه جمعية محلية تنتخب بالاقتراع العام. وكان باستطاعة فرنسا الإفادة من هذا القانون - الدستور - لتجاوز أحداث سنة 1945 المخيفة، وما تركته من جراحات عميقة في النفوس (مذابح سطيف وقالمة في 8 أيار - مايو - 1945) وكذلك إصلاح ما أفسدته التصرفات الهوجاء في سنتي 1946 و 1947، عن طريق إعداد شكل مرن للتطور السياسي في الجزائر، لو لم تتسم الأعوام التي انقضت بين سنة 1947 و1954 بسمة الازدياد في قوة المستوطنين، وهجمتهم المسعورة ضد مسلمي الجزائر. وكانت فرنسا مشغولة - أو متشاغلة -

عن المغرب العربي - الإسلامي، بحربها الطويلة والفاشلة في الهند الصينية، وصراعاتها السياسية الداخلية، ومتاعبها الاقتصادية، وبأحداث الحرب الباردة على المسرح العالمي، ثم جاءت أحداث تونس والمغرب (مراكش) لتصرف أنظارها عما كانت تتمخض عنه الجزائر، وذلك بدلا من أن تفتح هذه الأحداث أبصارها على ما يمكن أن يحدث في الجزائر. وهكذا كانت فرنسا تسير مغمضة العينين إلى حيث يقودها المستوطنون في الجزائر ذاتها - وهم رمز غلاة الاستعماريين الذين تحجرت عقولهم وجمدت عند إحداث الفتح أو الغزو القديم للجزائر -. وانصرف هؤلاء المستوطنون إلى وضع الألغام تحت عجلات الدستور الجديد وقد عزوا الانتصار الكامل الذي حققته (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) في الانتخابات البلدية التي جرت في تشرين الأول - أكتوبر - 1947 إلى شعار الحركة (الحقيبة أو الكفن) - وهو المصير الذي كان يلوح به المتطرفون - بحسب وصف المستوطنين لهم - وذلك في صراع هؤلاء المتطرفين الجزائريين في صراعهم ضد المستوطنين. وأرغم المستنوطنون الحاكم العام المتحرر الفكر (الليبرالي) شاتينيو على الاستقالة، ليحل محله الحاكم العام الاشتراكي الجديد (مارسيل أدمون نيغلين) الذي برهن كأحد خلفائه (روبير لاكوست) بأنه يساري في فرنسا، ويميني استعماري متطرف في الجزائر. وقد قام (نيغلين) على الفور بإجراءات صارمة لتحديد نشاط الوطنيين الجزائريين، ومنعهم من التعبير عنه في الجمعيات المنتخبة. وأقدم على إجراء عمليات تزوير واسعة لتزييف

الانتخابات في أول جمعية وطنية جزائرية (برلمان) في العام 1948، وذلك بهدف التأكيد على وجود (التفوق الإفرنسي في الجزائر). وفعل مثل ذلك في انتخابات الجمعية الثانية سنة 1951، علاوة على تزييف الانتخابات الثانوية المحلية. ففي انتخابات نيسان - أبريل - سنة 1948، فاز مرشحو (حركة انتصار الحريات الديموقراطية - جماعة مصالي الحاج) بتسعة مقاعد فقط من مجموع ستين مقعدا في دوائر (انتخاب الدرجتين) كما فاز مرشحو (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري - جماعة فرحات عباس) بثمانية مقاعد. أما المقاعد الثلاثة والأربعون الباقية فقد أعطيت للمرشحين من أنصار (التعاون الإفرنسي - الجزائري). وفي الانتخابات الفرعية التي جرت في العام 1951، لتجديد بعض المقاعد، خسرت حركة انتصار الحريات الديموقراطية أربعة مقاعد من مقاعدها التسعة، كما خسر الاتحاد الديموقراطي مقعدا واحدا من مقاعده الثمانية. أدى الخلاف الذي نشب بين الحكومة الإفرنسية من جهة، وبين الحاكم العام (نيغلين) من جهة ثانية، في موضوع سوء تصرف هذا الأخير في الانتخابات، إلى استقالته في العام 1951. وقد خلفه (المسيو ليونارد) وهو مدير عام سابق للشرطة. فحافظ هذا على سياسة (تكييف الانتخابات) - وهي لفظة متطورة للتزييف والتزوير - وأثمرت جهوده بتحقيق أكثر مما كان متوقعا في نتائج الانتخابات التي أجراها في حزيران - يونيو - 1951 (للجمعية الوطنية الإفرنسية). فقد خسرت حركة انتصار الحريات الديموقراطية جميع المقاعد الخمسة التي

كانت لها في الجمعية الأولى. كما خسر الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري جميع مقاعده في مجلس الجمهورية. وكان بين الذين أسقطوا في الانتخابات (فرحات عباس) الذي رشح نفسه في مدينة (سطيف) حيث سبق له أن أنشأ جماعة أصدقاء البيان والحرية، والاتحاد الديموتراطي لأنصار البيان الجزائري. ولم تؤد هذه الانتصارات التي حققها المستوطنون في تخريب مفعول القانون الأساسي لعام 1947، إلى زيادة التفاهم بين المستوطنين والجزائريين. ولكن المخاوف التي كانت موجودة عندهم في العام 1947 (من موجة التطرف الجزائري - الإسلامي) قد زالت الآن، وزال معها ما كانوا يشعرون به من الحاجة للتفاهم مع الوطنيين الجزائريين. وقد كتب مؤرخ فرنسي بارز عن النتائج البعيدة المدى لهذه الفترة فقال: (... وهكذا انهار شيئا فشيئا العمل التحرري الذي قام به الحاكم العام - الليبرالي شاتينيو -: فقد جمدت المراكز البلدية، وغيرت قطاعات الإصلاح الريفي ... وهجرت الاقتراحات لإقامة مجمعات ريفية - كومونات -. واعتبر أن إعادة إسكان الفلاحين قد تحققت، وأفاد من مشاريع الإسكان أولئك الذين يملكون رأسمال معين وواردات كافية، ولم تنتفع منه جماهير الشعب التي لا مأوى لها. وظلت المحاكم المختلطة قائمة، ولم يتحقق الفصل بين العقيدة الإسلامية والدولة، وأعيد تنظيم المقاطعات الجنوبية ضمن مخطط جبان، وأخذت مشاريع التصنيع التي بدأت بداية طيبة في العام 1947 - 1948 تواجه

الآن المتاعب. وحتى مشاريع فتح المدارس التي بدأ تنفيذها بنجاح، أخذت تعاني من ضآلة الأموال المتوافرة لها، والتي كانت قد خصصت لها، وأصبح عدد الطلاب في سن الدراسة أكبر بكثير مما يمكن للمدارس الموجودة أن تستوعبه). كان بين التأثيرات التعيسة على عقلية المستوطنين، ما كانت تلقاه حزازاتهم ضد الجزائريين من تعزيز عام مستمر. وأدى تزييف الانتخابات إلى المجيء إلى الجمعية الوطنية الجزائرية (بأُمّعّات) لا يخرجون على إرادة الإدارة الإفرنسية، وهم من الأفراد (معدومي القيمة) وأكثرهم من الأميين الذين أسهمت استكانتهم وخضوعهم الذليل في حجب الرغبات المتعاظمة التي كانت تجيش بها صدور المسلمين والقوميين من أبناء الطبقة المتوسطة. وأمام هذا الموقف، أخذ بعض متحرري الفكر من المجموعة الأوروبية في إظهار قلقهم المتزايد من اتساع الفجوة، وعمق الهوة، التي باتت تفصل بين المستوطنين والجزائريين، وقد مثل (جاك شوفالييه) رئيس بلدية الجزائر تلك المجموعة القليلة في العدد، والكثيرة في كفايتها وإدراكها، والقوية في التعبير عن نفسها، حيث قال: (علينا أن نفكر اليوم، بأنه من الأفضل للإنسان أن يجد حوله أنصاف ثائرين لا أتباعا وخدما) وقد ألف شيفالييه وعدد من أعضاء الجمعية الجزائرية الذين يشاطرونه الرأي كتلة داخلية من الليبيراليين (لتوثيق أواصر التعاون الإفرنسي الجزائري، ولحماية حريات معينة). ولكن نشاط هذه الكتلة لم يترك أي أثر على الصفحة السياسية للجزائر. كما لم تنجح المحاولات التي قامت بها لردم الهوة بين

الفريقين. ولم تؤد التحقيقات التي قام بها عدد من النواب في فرنسا ذاتها إلى تبديل الإجراءات التي تقوم بها السلطات في الحملات الانتخابية. ... كان رد الفعل على إحباط قانون 1947، وعلى تزوير الانتخابات، قويا وعنيفا في وسط كل الأحزاب السياسية الجزائرية، وبصورة خاصة في وسط (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) حيث توافرت لهذه الحركة مجموعة من الشباب المتقد حماسة للعمل السري. وظهر بوضوح أن هذه الحركة باتت خاضعة لسيطرة عدد من مراكز القوى، التي ساعد على تشكيلها غياب القيادة الأساسية (قيادة مصالي الحاج) التي كانت ضحية للاضطهاد المستمر والملاحقة العنيفة، والاغتيالات المتتالية لكبار العاملين فيها. ويضاف إلى ذلك، الوضع الخاص، للزعيم مصالي الحاج الذي بات شيخا منهكا، استنزف النضال قدرته، واستهلكت السجون حيوية شبابه، فأفقدته المرونة المطلوبة للقيادة. وزاد الأمر سوءا شعوره الخاص (بأن له الحق في اتخاذ القرار الأول والأخير) في كل ما يتعلق بالأمور العامة للجزائر، وهو أمر بات يتناقض جذريا مع تطلعات القيادات التبادلية التي باتت تمارس دورها بفاعلية في وسط الحزب، وعلى مستوى السياسة العامة للبلاد. وهو الموقف الذي وصفه الزعيم (فرحات عباس) بقوله: (... من عام 1925 حتى عام 1954 - منذ (نجم شمال أفريقيا حتى - اللجنة الثورية من أجل الوحدة والعمل)

تتابع رجال كثر ينتمون إلى الاتجاه القومي. فليس من الضروري أن يكون المرء مفسرا ملهما حتى يدرك أن المشكلات لم تعد مطروحة عام 1953 على النحو الذي كانت مطروحة فيه بعد الحرب العالمية الأولى، كما لم تعد هي نفسها طرق تفسيرها وحلها. وكان النزاع الذي أدى إلى نشوء (اللجنة الثورية من أجل الوحدة والعمل) بشكل خاص، هو تعبير عن الافتراق بين الروتين والتجديد، بين قومية كلامية كانت تحاول أن تبقى في مرحلة البيانات وبين قومية نشيطة تتلظى للعمل. ويجب أن نضيف إلى هذا الازدواج مساوىء - عبادة الفرد - فقد شرب (حزب الشعب الجزائري) وبعده (الحركة من أجل انتصار الحرية والديموقراطية) الشبان العاملين عبادة (مصالي الحاج) خلال عشرات السنين، وذلك من أجل إيجاد رمز للحركة، فكان يسمى (أبا الشعب) ولم يكن هناك أحد في الحزب يجرؤ على مخالفة (المعلم). ولم يعرف (مصالي الحاج) وهو من أصل متواضع مثلنا جميعا أن يوقف هذا (التأليه) فأخذ من مكمنه، وأخذ يعتقد بمعصوميته. ولما تجاوزته الأحداث والمشكلات، حاول أن يداوي عدم كفاءته الثورية بطلاء خارجي يعود إلى التهريج أكثر مما يعود إلى النضال الفعلي الصحيح. وعندما حاول أعوان غير مأخوذين بالسحر الظاهري أن يقوموا بردود فعل مناسبة وصحيحة كان الأوان قد فات، فاصطدموا بحاجز صلب. وكان المرض عميقا لدرجة أصبح من الضرورة معها انتظار انفجار الحزب حتى يصبح بالإمكان القيام بعمل ثوري حقيقي. ومهما يكن من أمر، فقد كانت فرنسا الاستعمارية،

وجزائر المستوطنين الغلاة، تصفقان لهذا النزاع بين الأشقاء. ولم يكن يخطر في بالهما أن الأزمة ستعجل سير التاريخ، وذلك أن هذا النزاع هو الذي أدى إلى قيام (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) فقد جلب معه دواءه الذي ظهر في زمن وجيز أنه قوي بقدر ما هو منقذ) (*). وعلى كل حال، قررت الحكومة الإفرنسية في سنة 1952 نقل (مصالي الحاج) نهائيا من الجزائر ووضعه تحت الإقامة الإجبارية في (نيورت) بفرنسا، غير أن هذا الإجراء لم يؤثر على نشاط الحركة التي تمكنت من عقد مؤتمرها الثاني - المؤتمر العام - في نيسان (أبريل) 1953. وكان هذا المؤتمر هو الأول بعد المؤتمر التأسيسي الذي عقد في العام 1947. وأظهرت المناقشات التي جرت في المؤتمر وجود خلافات عميقة في صفوف الحزب، حول الشؤون المتعلقة بتنظيم الحركة وعقيدتها، بالإضافة إلى بروز الصراع الشخصي. وقد أعلن (أحمد مزغنة) في خطاب الافتتاح، الذي رحب فيه بالأعضاء، أن الحركة تنتقل الآن من مرحلة الإثارة إلى مرحلة التنظيم والتعليم الحزبي، ثم دعا الحزب إلى حشد (قوى جديدة) في الداخل، وإلى مضاعفة جهوده، في الخارج. وأكد (مصالي الحاج) في الرسالة التي بعث بها إلى المؤتمر، بصورة خاصة، على الوضع الدولي، فكتب يقول: (أن الاستعمار الإفرنسي وهو يحتضر الآن على فراش الموت، قد تلقى دعما جديدا من الولايات

_ (*) ليل الاستعمار (فرحات عباس) ص287 - 288.

المتحدة. وأن بوسع الاتحاد السوفييتي أن يعقد الآن، كما عقد في الماضي، صفقات مضرة بالشعوب المستعمرة، ولذا فإن من واجب حركة انتصار الحريات الديموتراطية أن تعتمد على نفسها، ثم مضى إلى القول: إن أمامنا مهام كثيرة لا مناص منها للمضي في نضالنا، ومن هذه المهام أن نكون حزبا قويا يسوده النظام. وأن نثقف الشعب الجزائري حتى يتمكن من ممارسة دوره في مختلف الظروف، وأن نبرهن على حقيقة وجود حزبنا في الداخل وفي الخارج. وأن نستلفت اهتمام الرأي العام العالمي بروحنا النضالية التي تبدو كل يوم وأن نخطط سياسة خارجية مقررة وثابتة. وأن نعرف كيف نحسن استغلال جميع الأوراق الرابحة في أيدينا في الداخل والخارج. وأن نملك منظمة طيبة وصحافة صالحة وممثلين أكفاء في البلاد الأجنبية. وأن نخلق انسجاما بين هذه المظاهر المختلفة من نشاطنا. وتوجيه هذا النشاط يتطلب سعة في الأفق، وحسنا في الاختيار والتوجيه، وسعة في الأفق والخيال، وروح الابتكار والحافز التي هي من الصفات التي لا غنى عنها لزعمائنا) (*). قدمت اللجنة المركزية تقريرها العام إلى المؤتمر، محللة فيه عيوب الحزب وآماله. وكان المؤتمر السابق قد توصل إلى ثلاثة قرارات مهمة، وهي: 1 - اشتراك حركة انتصار الحريات الديموقراطية في الانتخابات. 2 - النضال ضد الاستعمار بكل الصور والأشكال. 3 - السعي لتحقيق وحدة الشعب

_ (*) الجزاثر الثائرة (جوان غيلسبي) ترجمة خيري حماد ص 100 - 111.

الجزائري. وأجبر مرشحو الحركة، الإدارة الإفرنسية، من الناحية الإيجابية، على استحدام القوة لإسقاطهم في الانتخابات، واتسعت عضوية الحزب في الجزائر. وخلقت الظروف المناسبة لتحقيق وحدة جميع الوطنيين في البلاد. أما من الناحية السلبية، فقد كلفت الحملات الانتخابية الحزب ثمنا باهظا في الغرامات والاعتقالات، وكانت هناك حالات من الافقار للانضباط الحربي بين بعض الممثلين. وقد أسهمت جهود القمع الاستعمارية على اتساع الحزب وزيادة نشاطه وتثقيف مناضليه، وتكوين تنظيم الملاك الحزبي - السري -. قسمت اللجنة المركزية نشاطها في ست سنوات إلى ثلاث فترات، فترة الهجوم التي تشمل عامي (1947 و1948) وهي الفترة التي قدم فيها الحزب برنامجه لإنشاء جمعية تأسيسية ذات سيادة. وفترة الدفاع من آذار (مارس) 1948 إلى كانون الثاني (يناير) عام 1950 وفترة النقاهة من عام 1950 إلى عام 1953. وقد مر الحزب في الفترة الدفاعية بأزمتين عنيفتين استطاع اجتيازهما بنجاح وهما: 1 - أزمة البربر. 2 - قضية الأمين دباغين. وقد أطلقت اللجنة المركزية على حركة البربر، اسم: (الانحراف الطائفي ذي الطبيعة العنصرية والشيوعية) وحذرت من أن تظل هذه المشكلة (ورقة رابحة في يد الاستعمار طالما أنها قائمة وموجودة) وتختفي وراء هذا التعبير الماركسي مشكلة أكثر عمقا وأهمية، وهي مشكلة التباين العرقي بين العرب والبربر في الجزائر والتي خلقها الاستعمار الإفرنسي

وحاول استثمارها إلى أبعد الحدود وبأقذر الوسائل (وتقدر نسبة البربر في تونس بالنسبة للعرب واحد بالمائة، وترتفع هذه النسبة في الجزائر إلى تسعة وعشرين بالمائة لتبلغ في المغرب خمسة وأربعين في المائة). وكانت التفرقة بين العرب والبربر الذين وحدهم الإسلام هي إحدى سياسات الاستعمار الإفرنسي الأساسية (فرق تسد). ويحتشد معظم البربر في الجزائر في منطقة القبائل، وهي من أكثر مناطق البلاد اكتظاظا بالسكان، ومن أرفعها في المستوى الثقافي، بسبب انتشار التعليم الإسلامي في الجوامع، ومن أوسعها في هجرة أبنائها إلى الأجزاء الأخرى من الجزائر، وإلى أوروبا. ولم يكن من الغريب تبعا لذلك، أن يمارس الشبان القبليون البارزون، دورا كبيرا في النشاط الديني والقومي في الجزائر دون أن يستبعدوا عن هذا النشاط زعماء المناطق الأخرى. ولهذا فإن ما يسمى (بأزمة البربر) لم تكن في الحقيقة إلا مغالطة في الوصف والتسمية، إذ أنه كان في جوهره صراعا في الآراء بين المثقفين الشبان الممتلئين حماسة وحيوية، والذين كان بعضهم بمحض الصدفة من القبليين، وبين الزعماء الكبار - التقليديين - في الحزب، والذين كان بعضهم بمحض الصدفة أيضا من العرب. وتتعرض جميع الأحزاب لمثل هذه (الصراعات بين الأجيال). ولم تكن حركة انتصار الحريات الديموقراطية لتشذ عن هذه القاعدة الخالدة. أما قضية (الأمين دباغين) فقد كانت إشارة مبكرة لصعوبة قدر لها أن تربك أوضاع الحزب بصورة حادة في السنوات التالية. فقد وقع خلاف شخصي بين (مصالي الحاج) وبين (الدكتور الأمين

دباغين) الشاب اللامع الذي أصبح فيما بعد وزيرا للخارجية في حكومة الثورة، وأدى هذا الخلاف إلى فصل الدكتور الأمين من الحزب وإلى انسحابه من الحياة السياسية. فقد كان الحزب على صعيد السياسة الخارجية، يقف في هذه الفترة، بصورة رسمية موقف المناوأة لحلف الأطلسي. وكانت الحكومة الإفرنسية قد أدخلت الجزائر في هذا الحلف في العام 1949. نظم الحزب صفوفه في فترة النقاهة تنظيما أفضل، ووسع آفاق عمله ونشاطه، على الرغم من إبعاد زعيمه (مصالي الحاج). وعندما تحدثت اللجنة المركزية للحزب عن الوحدة بين الجزائريين الوطنيين، قالت في عبارة حسنة السبك والصياغة: (أنها اتخذت شكلا لا يستجيب مع المطامح الشعبية). وبالاختصار، فإن الشيوعيين من الأوروبيين، أو أنصاف الأوروبيين، والمعتدلين من (الاتحاد الديمرقراطي لأنصار البيان الجزائري) و (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) كانوا أصعب مراسا من أن تستطيع (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) التأثير عليهم للدخول في ائتلاف واحد. مضت اللجنة المركزية بعد ذلك في عملية (النقد الذاتي) فتساءلت وهي تبحث عن محتوى أكثر دقة لأهدافها في الاستقلال، فقالت في تقريرها: (هل نعتزم حقا خلق جزائر حرة بالنسبة إلى شخص واحد بصورة خاصة، أو إلى أقلية حاكمة؟ جزائر تتحرر اسميا وتكون في الحقيقة وسيلة يعزى إليها الفضل في رفع شخص أو أقلية من الناس إلى منصة

الحكم ... هذا هو هدفنا. أننا نريد أن نخلق دولة للشعب وعن طريق الشعب، يكون فيها الجزائريون دون تميز من ناحية العنصر أو الدين أحرارا متساوين. إننا نعني قيام دولة ديموتراطية ... ولذا فإن مبدأنا الأول هو الديموقراطية). هذا نوع من الاعتراصات التي قدمتها اللجنة المركزية على الاتجاه إلى زيارة سلطة (مصالي الحاج) وميله إلى أخذ زمام السلطة الشخصية بيديه. وقد رفضت اللجنة المركزية نظام الملكية، على أنه نظام عتيق بال، واختارت الجمهورية كمبدأ ثان لها. أما بالنسبة إلى المبدأ الثالث، فقد اقترحت الرفاه الاقتصادي والعدالة الاجتماعية (*). واختارت اللجنة أخيرا الحرية الدينية مبدأ لها انسجاما مع التقاليد الإسلامية. وتحدثت اللجنة المركزية بعد ذلك عن قضية القصور العقائدي فأعادت دراسة مفهومها عن الوطنية. وأكدت وجوب ابتعادها عن الغلو والتعصب (الشوفينية). وأن تكون دفاعية، ومتحررة، وديموقراطية، وغير

_ (*) حددت اللجنة المركزية في المجال الاقتصادي الأهداف التالية: تكوين اقتصاد وطني سليم يستعاض به عن الاقتصاد الاستعماري القائم، وتحقيق الإصلاح الزراعي. والسير على طريق التصنيع. وتأميم مصادر الإنتاج الأساسية. وتنسيق الاقتصاد مع المغرب وتونس لإقامة سوق مشتركة للإنتاج والاستهلاك. أما في الميدان الاجتماعي، فقد اقترحت اللجنة المركزية، رفع مستوى المعيشة - الحياة - والتوزيع العادل للدخل القومي. وضمان الحرية النقابية. واقترحت اللجنة من الناحية الثقافية: نشر الثقافة القومية والتعليم التقني، وشن حملة على الأمية لمكافحتها.

شيوعية، وغير مادية. وحددت اللجنة مركز (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) الثوري، على الصعيد السياسي، بين الشيوعيين الثوريين نظريا بالنسبة للأهداف والوسائل، والمختلفين عن الحركة عقائديا، وبين الإصلاحيين من أتباع (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان) و (جماعة العلماء). وأكدت اللجنة أن الثوري الحقيقي لا يمكن أن يوجد دون اتصال ثابت بالواقعية، وقالت: (... وعلى الثوري والحالة هذه، أن يهبط من برج نظرياته العاجي إلى جذور الحياة الواقعية، ليستخلص منها نتائجه، ويتحقق عن طريقها من مبادئه في العمل). وعلى الحركة، رغبة منها في التطور الكامل أن: (تحسن التفكير على صعيد قومي). بينما كانت في مرحلتها الدعائية تقصر تفكيرها على الصعيد الحزبي. وتحدثت اللجنة المركزية عن عيوب خططها الاستراتيجية، فأشارت إلى وجوب تقسيم النضال إلى عدد من المراحل، مع إيجاد عدد من الأهداف المرحلية التي يجب الوصول إليها على التوالي. ولاحظت اللجنة المركزية في ميدان واحد أن الحزب لم يوجه رسائل إلى الأقلية الأوروبية، وأنه عندما كان يوجه هذه الرسائل، فإنه كان يكتفي فيها ببعث الطمأنينة في نفوس الأوروبيين من أن الحركة لا تريد أن تقطع رؤوس الإفرنسيين، أو تقذف بهم إلى البحر (الكفن أو الحقيبة) واقترحت اللجنة أن تقوم الحركة ببذل جهد أكبر لإيضاح وجهة نظرها في أن

من حق الإفرنسيين أن يعيشوا في الجزائر، وأنهم سيعتبرون من الجزائريين، يتمتعون بنفس الحقوق، وتفرض عليهم نفس الواجبات. وأكدت وجوب قيام الحزب باطلاع الأقلية على ما يعانيه الشعب الجزائري من اضطهاد وظلم. وتحدثت اللجنة المركزية أخيرا عن العيوب الأسلوبية (التكتيكية) فذكرت أن الحزب، كان في بعض الأحيان شديد التصلب في موضوع التحالف مع الجماعات الأخرى، وكان في أحيان أخرى شديد المرونة. وأيدت اللجنة وجوب استمرار التحالف مع جميع الأحزاب الراغبة في مقاومة الاستعمار، سواء أكانت هذه الأحزاب تشترك مع الحركة، أو لا تشترك معها في آرائها وأساليبها. وأكدت اللجنة وجوب وضع سياسة انتخابية للحزب، تقوم على العناية بانتقاء المرشحين، وإعداد البرامج السياسية المفصلة، والدعاية التي تتفق مع تطلعات جميع الطبقات الاجتماعية. وقد امتلأ هذا الجزء من التقرير بصورة خاصة بالإشارات إلى معارضة اللجنة المركزية لسياسة (مصالي الحاج). ولا ريب في أن الإشارة إلى حاجة الثائر للهبوط من برجه العاجي، إنما هي موجهة إلى رئيس الحزب (المبجل العظيم). كما أن التلميحات بأن بعض النواحي العقائدية والدعائية كانت تفتقر إلى الدهاء. وقد تكون موجهة أيضاء إلى الزعيم الأقل ثقافة من أعوانه. وقد عزا إليه أعوانه الشبان والمتحمسون والمنسقو التفكير، أنه كان دائم التفكير على الصعيد الحزبي، وأنه أفنى حياته في تعبئة الجماهير واستثارتها، وأغرق في تركيز جهوده، على المعارك السياسية الكلامية.

وحللت اللجنة المركرية في فصل ثالث، آمال الجزائر في المساعدة الدولية، فرأت للشمال الأفريقي دورا استراتيجيا بارزا بين الكتلتين العالميتين المتصارعتين، وفي الصراع بين الدول الاستعمارية، وبين القارتين الآسيوية والأفريقية المناهضتين للاستعمار. وأضافت اللجنة أن فرنسا - المتصلبة - في موقفها تجاه مطامع مستعمراتها، ستجد نفسها في صراع متزايد مع الولايات المتحدة التي تجد نفسها (مقيدة بالحركة الوطنية في شمال أفريقيا، وفي دول الكتلة الآسيوية - العربية، فتعمل في اتجاه يتفق مع أهداف المغرب) ويجب أن تظل سياسة الحركة قائمة على أساس (الحياد اليقظ) سارية المفعول بالنسبة إلى المستقبل أيضا. وتحدثت اللجنة عن الارتباط بين العوامل الداخلية والخارجية، فأشارت إلى التأييد المهم الذي لقيته القضيتان التونسية والمغربية - المراكشية - من الدول - العربية - الآسيوي في نقلهما إلى الميدان الدولي، وأكدت الضرورة الحيوية للعمل الداخلي والمساعدة الخارجية بالنسبة لجهاد الجزائر. وبدت الحركات الوطنية الثلاث في الشمال الأفريقي، في نضالها المنفرد والمستقل. غير منسقة أو منسجمة، ولكن اللجنة لا ترى من (الحكمة) أن يأمل الإنسان في وحدة الشمال الأفريقي في المستقبل القريب. وبدا موقف اللجنة من بحث السياسة الخارجية منسجما بصورة عامة مع حيادية (مصا لي الحاج) وذريعة - إلى حد ما - لتغطية تقصير الحركة عن تأييد التونسيين والمغاربة - المراكشيين - بصورة أكثر فاعلية وحيوية. ويمكن القول بصورة عامة أن اللجنة المركزية، وضعت الجزائر ضمن محتوى عالمي،

وأظهرت اهتماما أكبر بالشؤون الخارجية من الاهتمام الذي أظهره زعماء (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان). وقد يكون من المناسب هنا التوتف قليلا عند وجهات نظر اللجنة المركزية، تجاه كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بالنظر إلى أهميتها المقبلة في سياسة (جبهة التحرير الوطني الجزائرية) نتيجة انضمام عدد كبير من أعضاء (اللجنة المركزية) إليها. فقد ذكرت اللجنة عن السياسة السوفياتية ما يلي: (... من المهم أن نلاحظ أن التأثير الشيوعي، على الرغم من تبنيه للقضايا الوطنية في آسيا، وانتقاله منها إلى مرحلة الصراع الطبقي، يتوقف جملة في آسيا على حدود الدول الإسلامية. وتتخذ السياسة السوفياتية موقف المؤيد بصورة عامة لجميع حركات التحرر في البلاد الخاضعة للاستعمار، ومثل هذا الموقف الذي لا يتطلب أي مجهود خاص، هو موقف أسلوبي - تكتيكي - مجرد، يتخذ بهدف إضعاف الدول الغربية. وتستهدف هذه السياسة حقيقة إقامة الفرصة لتقوية الأحزاب الشيوعية المحلية. وهذا الأسلوب (التكتيك) الذي نجح في الهند الصينية والملايو وربما الهند، لم ينجح في البلاد الإسلامية المماثلة، ولا سيما في أندونيسيا وإيران). ورأت اللجنة أن سياسة الولايات المتحدة تنطوي على نفس التوسعية السياسية والعقائدية الموجردة في السياسة السوفياتية. وكانت وسائل العمل الأولى التي اختارتها الولايات المتحدة، إعادة بناء أوروبا اقتصاديا عن طريق مشروع مارشال، ثم مشروع النقطة الرابعة، وهي وسائل ضعيفة لم تفلح في

مواجهة النفوذ الشيوعي. وعادت أمريكا فآثرت الوسائل العسكرية على الاقتصادية. وهكذا فرضت على حلفائها سياسة إعادة التسلح، وبنت مساعداتها على أساس فرض سياستها الخاصة على حلفائها. وبالاختصار فإن الكتلة الغربية، تمثل عددا من التناقضات. وتحدثت اللجنة المركزية عن أساليب الكتلتين فقالت: (تمسك الكتلة السوفياتية في ميدان الحرب الباردة بزمام المبادأة دائما. وبهذا تمكن الشيوعيون الإفادة من نظام حكمهم الفرد - مركزية القيادة - لتنظيم أجهزتهم الدعائية، والاعتماد على القوة الحقيقية، واستثمار ضعف الحكومات الغربية، للتأكيد على تفوقهم في لعبة الحرب الباردة). وكانت خلاصة تقرير اللجنة المركزية، تعالج قضية الحزب نفسه: فقد كان الحزب حزبا جماهيريا لا حزبا عقائديا - فكريا - (كالاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان) مثلا. ولقد انتهى التقرير إلى القول: (وبالنسبة إلى حزب جماهيري، فإن الميول الفردية والأعمال التي تخالف الانضباط الحزبي، ووحدة الحزب، لا يمكن التسامح فيها مطلقا. فالنضالية متوجبة على جميع العناصر التي يتألف منها الحزب الجماهيري. ويتصور الحزب الجماهيري مختلف وسائل العمل، وهو يضفي أهمية رئيسية على قاعدة نشاطه، وهي التنظيم الحزبي). وأقر المؤتمر العام (لحركة انتصار الحريات الديموقراطية) قرارا ينطوي على الاستجابة التفصيلية للتقرير العام الذي قدمته اللجنة المركزية. كما وجه رسائل، أولاها إلى الشعب الجزائري عن الوحدة، وثانيتها إلى المعتقلين السياسيين؛ وثالثها إلى

(مصالي الحاج) عن تعلق الحزب المطلق بالمثل التي يمثلها؛ ورابعتها إلى الشعب في القطرين: التونسي والمغربي - المراكشي - داعيا فيها إلى دعم أواصر وحدة المغرب؛ وخامستها إلى الجامعة العربية لشكرها على مساعداتها لقضية الشمال الأفريقي؛ وسادسها إلى مجموعة الدول العربية - الآسيوية داعيا إياها (لممارسة دور قيادي في مستقبل العالم). نشرت صحيفة (الجزائر الحرة) في كانون الأول - ديسمبر - 1953 - وهي الناطقة باسم الحركة، نداء دعت فيه إلى عقد مؤتمر وطني جزائري. وقد وقع النداء كل من حسين الأحول، وابن يوسف بن خدة، وعبد الرحمن كيوان بالنيابة عن اللجنة المركزية. وطلب النداء من الفلاحين الجزائريين والعمال والتجار والنساء والشبان والطلاب والمثقفين أن يتحدوا وأن يشتركوا في مؤتمر يمثل جميع الأحزاب السياسية والمنظمات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والأفراد المستقلين من الديموقراطيين وغيرهم. وذكر النداء: أن المثل الأعلى القومي، سيكون شرعة المؤتمر ودستوره وكتب (عبد الرحمن كيوان) في شهر شباط - فبراير - 1954 - مقالا افتتاحيا قال فيه: (إن الشعب الجزائري قد أعلن تأييده لفكرة المؤثمر، وأوضح أن الحركة تدعو إلى مقاطعة انتخابات الجمعية الجزائرية، لأن الأوضاع السياسية لم تكن مشجعة لعقد المؤتمر في ذلك التاريخ. وأبلغ (حسين الأحول) الشيوعيين في وقت متأخر من

ذلك الشهر، أن الحركة ترحب برغبتهم في الاشتراك بالمؤتمر. ولكنها تعتقد أن من الواجب إيضاح الفكرة بصورة أكثر جلاء للجماهير قبل أن يعقد المؤتمر. وأشار إلى أن الجبهة الفاشلة التي تم تأليفها في العام 1951، كانت اتفاقا بين الأحزاب أكثر منها اتفاقا بين الجماهير. وقد اشترك (الشيخ الإراهيمي) في النداء الذي وجه داعيا إلى الاتحاد. وكتب (حسين الأحول) في شهر آذار - مارس - 1954، مقالا افتتاحيا في (الجزائر الحرة) استعرض فيها دروس السنوات السبع عشرة الماضية من النضال. وأكد أن المؤتمر الثاني للحركة في العام 1953 قد أقر مبدأ (القيادة الجماعية). و (إذعان الأقلية لقرارات الأغلبية). وأضاف: إن القيادة الجماعية تقلل من إمكان وقوع الأخطاء، لأنها (تعبر عن الروح الأساسية لحزبنا وهي في الوقت نفسه الروح الديموقراطية والثورية الصحيحة). أما إذعان الأقلية لقرارات الأكثرية: (فتعبير عن القانون الأعظم للتنظيم العقائدي والواقعي، وهو تنظيم يخلق العروة الوثقى والقوة، ويتيح للعمل المنظم المجال الكافي زمانا ومكانا). لكن أية دراسة دقيقة لقرار العام 1953 لا تكشف حقا عن أية إشارة واضحة ومحددة لمبدأ (القيادة الجماعية). ولكن (الأحول) الذي قدر له أن يضع اسمه بعد فترة قصيرة على رأس جماعة من الحزب، كان يشير هنا إلى النقطة الرئيسية في الخلاف المتزايد بين اللجنة المركزية و (مصالي الحاج). فإذا كان من المحتوم أن ينطلق الانضباط الحزبي على كل إنسان، وإذا كان هذا الانضباط يعني قبول الأقلية لقرارات الأكثرية، فإنه يصبح من المحتوم

على (مصالي الحاج) نفسه أن يوافق على القرارات التي تتخذها اللجنة المركزية، حتى ولو كان هذا يختلف معها بصورة شخصية. وكتب (عبد الرحمن كيوان) في أواخر شهر آذار - مارس - 1954 يقول: (إن المؤتمر المقترح سيحترم استقلال الأحزاب التي ستشترك فيه) وبعد أن افترض أن الاقتراح قد جوبه بعدد من الاعتراضات الحزبية، اعترف بأنه من المحال تأليف حزب واحد في الجزائر، بسبب الوجود الاستعماري من جهة، وبسبب الضغط العقائدي من الناحية الثانية. ولكن المؤتمر الذي يعني (الاتحاد لا الوحدة) يمكن أن يتحقق فورا. ومن الممكن أن يتطور المؤتمر إلى حزب، على غرار (حزب المؤتمر الهندي). وكتب (بن خده) في وقت لاحق من الشهر ذاته، وفي الصحيفة نفسها يقول: (إن فكرة المؤتمر تزداد شعبية يوما بعد يوم). ويظهر أن هذا المقال، كان آخر إشارة إلى موضوع المؤتمر. وقد يكون ذلك مؤشرا إلى التاريخ الذي وقع فيه الخلاف الحقيقي بين اللجنة المركزية وزعيم الحزب (مصالي الحاج). صدرت صحيفة (الجزائر الحرة) يوم 16 أيار - مايو - 1954، وهي تحمل تحيتها في الذكرى السادسة والخمسين لميلاد (مصالي الحاج) وكان في كلمة التحية ما يلي: (إن كفاح مصالي الحاج، وكفاح الحركة الوطنية لتحرير الجزائر، اسمان لمسمى واحد). وبعد أن عرض المقال حياة زعيم الحركة انتهى إلى القول: (وسواء أكان مصالي في (نيورت) في فرنسا أو في الجزائر؛ فإنه سيظل رمز نضالنا،

والمشعل المضيء لكفاحنا من أجل الحرية) وعقدت في الأسابيع التالية عدة اجتماعات للحركة، كما أقيمت مظاهرات ضخمة في الجزائر وفرنسا. ولم يبرز في هذه الاجتماعات إلا اثنان من أعضاء اللجنة المركزية وهما (أحمد مزغنة) و (مولاي مرباح). أعلنت صحيفة الحزب (الجزائر الحرة) في منتصف شهر آب - أغسطس - وتحت عناوين بارزة، أن الحركة قد عقدت مؤتمرا طارئا في منتصف شهر تموز - يويو - 1954 (من 13 - 15 تموز) في مدينة (هورنو) في بلجيكا، وذلك لمعالجة ما تعرض له الحزب من أزمة داخلية مخيفة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، أثرت أبلغ الأثر على أعمال الحزب ونشاطه. وأضاف الإعلان أن المؤتمر اتخذ قرارا إجماعيا باستنكار أعمال بعض أعضاء اللجنة المركزية لاخرافهم سياسيا وارتكابهم أخطاء خطيرة. فبالإضافة إلى تذبذب اللجنة المركزية وترددها داخليا، ارتكبت أخطاء على الصعيدين الأفريقي الشمالي والدولي، إذ لم تتمكن من تحقيق التضامن مع تونس والمغرب - مراكش - وظلت قضية الجزائر مهملة على الصعيد الدولي. وقررت الحركة في مؤتمرها هذا تأكيد عزمها على اتباع سياسة (فعالة ومنشطة ومتزنة) تؤدي إلى الرفع من شأن الحزب وتقوية مركزه. وأكد المؤتمر ثقته المطلقة (بمصالي الحاج) وقدرته على تذليل الصعاب أمام الحزب، واختاره بالإجماع رئيسا مدى الحياة. وبعد بضعة أسابيع من المحاولات الفاشلة للتفاهم، كما يبدو، قررت الحركة حل اللجنة المركزية. وأعلن (مصالي الحاج) من (نيورت) فصل (ابن يوسف بن خده) وحسين الأحول وعبد الرحمن كيوان وابن باديس

وفروض ويزيد ولوانشي وبوده: (لانحرافهم وعدم إطاعتهم وسوء استعمالهم لأموال الحزب ورفضهم إعادة ممتلكاته). وبعد أيام، ذكرت صحيفة (الجزائر الحرة) أنه لم يكن هناك تصدع في الحزب، وإنما كانت هناك اتجاهات مؤسفة تم تصحيحها الآن. وعادت الصحيفة إلى توجيه اهتمامها إلى أعمال العنف الإفرنسية في الجزائر. ... أمام هذ االموقف عقدت جماعة (اللجنة المركزية) وأنصارها، مؤتمرا استثنائيا في الجزائر (من 13 إلى 16 آب - أغسطس - 1954). وتقرر في هذا المؤتمر رفض اتهامات (مصالي الحاج) الموجهة إليهم بالانحراف. وأكد سياسة المؤتمر العام سنة 1953، وجرد مصالي الحاج ذاته وأحمد مزغنة ومولاي مرباح من جميع مهامهم الحزبية. وأعلن بطلان المؤتمر الفرعي - الذي سبق عقده في بلجيكا - وشرحت (اللجنة المركزية) في العدد الأول من الصحيفة التي أصدرتها وهي (الشعب الجزائري) لتكون الناطقة باسمها - (وهو العدد الذي ظهر بين أيلول - سبتمبر - وتشرين الأول - أكتوبر - 1954) وجهة نظرها في حقيقة الأزمة التي تعرضت لها الحركة. وأعلنت أن الصراع كان قد بدء منذ أيلول - ستمبر - 1953، عندما طلب (مصالي الحاج) من اللجة المركزية الجديدة صلاحيات مطلقة. واعترفت اللجة المركزية أنها أبعدت (أحمد مزغنة) و (مولاي مرباح) وهما المقربان جدا من مصالي الحاج، عن القيادة، ولم تكن قد شرعت بعد في تنفيذ المهام التي عهد إليها

بها المؤتمر الثاني. وطلبت من مصالي أن يعيد النظر في الموضوع، وبعثت إليه بوفد للتشاور معه في (نيورت) فمنيت مهمة الوفد بالفشل. وعاد (مصالي الحاج) في كانون الثاني - يناير - 1954، فكرر طلباته أن السيطرة الشخصية لا تتفق مع مبادىء الحزب الثوري من جهة، كما أن الوضع لا يسمح بإعطاء جميع السلطات إلى رجل واحد، من جهة ثانية. وعلى هذا تقدمت اللجنة المركزية باقتراح لعقد مؤتمر عام لتقرير هذه القضية. ورفض (مصالي الحاج) الاستماع إلى الوفد الثاني الذي ذهب إلى (نيورت) لبحث هذا الاقتراح. واتهمت (اللجنة المركزية) بعد ذلك (مصالي الحاج) بتهمة التواطؤ مع (مزغنة) للقيام بتحريض عمال الحزب على لجنتهم المركزية عن طريق تأليف ما أسموه (بلجنة السلامة العامة). وبعض الإجراءات الأخرى. واستجابت (اللجنة المركزية) في شهر آذار - مارس - (ولم تكن قد استعدت بعد لمواجهة انشقاق علني مع مصالي) إلى بعض مطالبه، ومنحته بعض السلطات التي طلبها. وهنا شرع مصالي ومزغنة ومولاي مرباح في استئصال المعارضة لهم داخل الحزب عن طريق (إجراءات قهرية). وفي إعداد العدة لمؤتمر يضمن فيه أنصار مصالي لأنفسهم سلفا السيطرة عليه. ورفضت اللجنة المركزية حضور مؤتمر (هورنر) ببلجيكا. وعقدت بعد ذلك مؤتمرها في الجزائر. ونظرت (اللجنة المركزية) بصراحة إلى الطبيعة الحقيقية لخلافها مع مصالي، وأكدت أن ما أسماه مصالي (بالإصلاحية) من جانبهم لم يكن في الحقيقة إلا (الواقعية الثورية) التي تمخ ض

عنها مؤتمر عام 1953. ثم مضت (اللجنة المركزية) إلى القول: (لقد أراد مصالي أن يقاوم بالكلام العنيف وحده، وبالإثارة بقصد الإثارة، وبالتعصب والمغامرة، سياسة توطيد دعائم الحزب، وتوسيع قواته العاملة، وبناء القواعد التي لا مناص منها لتحقيق النجاح، ولترسيع نضالنا وتضخيمه، وكذلك أعمالنا التنظيمية، وإعدادنا الجدي. ومحاولاتنا إيجاد وحدة صحيحة لجميع القوى الشعبية العاملة). وكان الصراع في الحقيقة (ناجما عن عوامل القيادة والأساليب). فمصالي يريد فرض سلطته الشخصية بينما أيدت (اللجنة المركزية) فكرة القيادة الجماعية وديموقراطية الحزب. وكان مصالي يعارض في العمل النظري الذي يستهدف إقامة عقيدة واضحة المعالم، ثابتة على أسس أكثر علمية، وتقبلا عقليا (لأنه كان يخشى أن يؤدي هذا التنظيم إلى الحد من صلاحياته). ومضت اللجنة فأعلنت أنها تؤمن (بأن النضال يجب أن يكون في سبيل مجد البلاد، لا في سبيل مجد رجل فرد) ولاحظت اللجنة بمرارة، أنه في الوقت الذي يأوي فيه مصالي الحاج إلى (برجه العالي) فإن مناضل الحزب يضحون بأنفسهم في سبيل بناء الحزب بتعبهم وجهدهم، ثم قالت: (ومن الجوهري، أن يعلم جميع المناضلين والشعب هذه الحقائق. وأنه بات لزاما وضع حد لادعاء مصالي الغريب؛ بأنه يعتبر نفسه وحده، ندا بل ومتفوقا على الحزب كله، وعلى الشعب الجزائري كافة. ومن الواجب أن نضع حدا أيضا لفكرة استحالة الاستغناء عن إنسان فرد. ولم يشترك المنضلون في

الحزب لأن مصالي رئيسه؛ بل لأنه، أي الحزب، يمثل الحركة الوطنية الجزائرية الثورية). كانت هذه الوطنية التي أيدتها (اللجنة المركزية) الآن، مغفضلة إياها على (مغامرة مصالي) لا تقوم على أساس عنصري أو ديني، بل على أساس: (إرادة الكفاح لتحقيق حرية الشعب الجزائري سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا) واتجه جناح اللجنة المركزية بعد هذا الانشقاق من جديد إلى زيادة الجهد في موضوع الوحدة، وعقد المؤتمر الوطني الجزائري. فقد شعر أعضاؤه بأن هذه الوحدة ضرورية لتأمين نضال فعال ضد فرنسا. ... لم يكن الانشفاق الذي وقع من (اللجنة المركزية) لحركة أنصار الحرية والديموقراطية، وبين زعيمها (مصالي الحاج) ناجما فقط عن الخلاف الشخصي واقتراع الأغلبية، وبين الحزب والمؤتمر الوطني الجزائري، وبين السياسات والدعاية من ناحية والعمل في جميع الميادين من الناحية الأخرى. وإنما كان أيضا (صراعا بين الأجيال) ونتيجة للانفصال الواقعي بين مصالي والحركة، وهو انفصال أدى دائما إلى أن يكون عائقا في طريق نمو الحزب المضطرب واستمراره. فمصالي، زعيم الحزب ومؤسسه، يسير الآن في طريق الشيخوخة. وقد شب وشاب في عهد كانت فيه الخطب المثيرة والمظاهرات الجماهيرية، وتقديم المطالب المسرحية، هي كل ما يمكن عمله وتحقيقه عن طريق حركة

وطنية ناشئة، تناهض سياسة استعمارية لدولة قوية كفرنسا. أما العناصر الفتية في (اللجنة المركزية) للحزب، فقد تأثرت بحياة العمل السري، والاختفاء، التي عاشتها، وبهزيمة فرنسا في عام 1940. وبالحركات النضالية الناجحة في عدد من البلاد في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي حققت الاستقلال في مواجهة قوات متفرقة. لكن هذا الانشقاق في حركة أنصار الحريات الديمريراطية قد جزأ الحركة الوطنية الجزائرية وأبعد احتمال قيام معارضة موحدة وعملية ضد فرنسا. وعندما اندلع لهيب الثورة في الجزائر، ليلة الواحد والثلاثين من تشرين الأول - أكتربر - عام 1954، لم يكن (مصالي الحاج) - وهو (والد الوطنية الجزائرية) على علم بها. وهكذا تخطته الأحداث لأول مرة في حياته. ... أصبحت المصالية (نسبة إلى مصالي الحاج) رمزا للانتهازية السياسية، فقد أقام الرجل بعد ذلك في فرنسا، وحاولت فرنسا - لاكوست وديغول من بعده - اللعب بورقته، على أنه نموذج للاعتدال السياسي. وكان وهو في منزله (في نيورت) تحت الحماية الإفرنسية، مستعدا لممارسة مثل هذا الدور، غير أن الجزائر الثائرة، وقد أهرقت سيولا من الدماء، ودفعت من أرواح أبنائها آلاف الشهداء، هذه الجزائر لم تعد مستعدة لقبول (المساومات) أو (أنصاف الحلول) فمضت في طريق الثورة لبناء مجتمع الجزائر الحرة، المالكة لمقدراتها، والسيدة لنفسها وبنفسها. ومضى (مصالي الحاج) إلى زوايا النسيان.

لكن ذلك لا يغير من الحقيقة الساطعة شيئا: لقد أمضى مصالي الحاج شبابه وشيبه في مقارعة الاستعمار الإفرنسي، بين السجون والمعتقلات والتشرد. وقاد الصراع المرير في أقسى الظروف. ورفع صوت الجزائر، يوم لم يكن بها من يجرأ على رفع هذا الصوت - إلا قلة حفظهم الله للجزائر وحفظ الجزائر بهم من أمثال عبد الحميد بن باديس وإخوانه في الجهاد. وليس هناك من يذكر أبدا أن (مصالي الحاج) هو أول من أطلق (الجزائر الحرة) وأول من بشر بالاستقلال والانفصال عن فرنسا - ولو بصورة قانونية دستورية وفي إطار التحالف مع فرنسا -. ويبقى لمصالي الحاج فضل في تنظيمه (لحزب الشعب الجزائري) الذي انبثق عنه تنظيم (حركة انتصار الحرية والديموقراطية) والتي كانت بدورها مهدا لنشوء التنظيم السري. الذي لم يلبث أن تطور إلى (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) لتنتهي بعد ذلك إلى (جبهة التحرير الوطني الجزائري). و (جيش التحرير الوطني الجزائري) وهما التنظيمان السياسي والعسكري اللذان قامت عليهما الثورة، ووقع على عاتقهما بناء الجزائر الحديثة.

عباس فرحات والاتحاد الديمقراطي لأنصار البيان الجزائري

4 - عباس فرحات والاتحاد الديمقراطي لأنصار البيان الجزائري كانت الحركة الثانية التي تركت بصماتها القوية على الأحداث السياسية للجزائر، خلال فترة ما قبل الثورة (1954) هي حركة (الاتحاد الديمقراطي لأنصار البيان الجزائري) وهي الحركة التي ترتبط بدورها ارتباطا وثيقا باسم (فرحات عباس) الذي ولد في (طاهر) القريبة من قسنطينة - سنة (1899م). وهي المدينة التي اشتهرت بجهادها ضد الإفرنسيين منذ أيام (الحاج أحمد باي قسنطينة) وقاعدة (عبد الحميد بن باديس) وأخوانه من مجاهدي علماء المسلمين. وإذا كان نصيب (مصالي الحاج) من التعليم ضئيلا، فقد استطاع (عباس فرحات) نيل نصيبه من التعليم الثانوي والجامعي، وأصبح يحمل (إجازة الصيدلة). وكان خلال دراسته مبرزا في نشاطاته الاجتماعية، مما جعله (رئيسا لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين. كما كان من أنصار الأمير خالد الهاشمي - حفيد الأمير عبد القادر - وزعيم حركة (الجزائر الفتاة). وقد أثر تعليمه في المعاهد الإفرنسية - بصياغة أفكاره - فكان منساقا للبحث عن صيغة توفيقية تسمح بالاندماج مع فرنسا مع الاحتفاظ بالهوية الإسلامية وهي المقولات التي وجدت لها سوقا رائجة في الثلاثينات من هذا القرن على ساحة

الجزائر والتي وجدت لها تعبيرا في مقال كتبه (فرحات عباس) وجاء فيه: (... إنني لست مستعدا للموت في سبيل الوطن الجزائري، لأن هذا الوطن لا وجود له، إنني لم أكتشفه، ولقد سألت عنه التاريخ، سألت عنه الأحياء والأموات. وزرت المقابر من أجل اكتشافه، فلم أجد من كلمني عنه إطلاقا. إننا لا يجب أن نبني فوق الرمال. وإنني قد أبعدت بصفة باتة ونهائية كل خيال، لكي نربط المصير بصفة مطلقة مع الوجود الإفرنسي بهذه البلاد. إلخ ...) (*). وكما تزوج (مصالي الحاج) من شيوعية إفرنسية، فقد تزوج (فرحات عباس) من إفرنسية ولكن غير شيوعية. وكما كان (للأمير شكيب أرسلان) تأثيره على (مصالي الحاج) لإيقاظه على أصالته الإسلامية العربية، فقد كان هنا لرابطة العلماء (عبد الحميد بن باديس - وأحمد توفيق المدني) دور أساسي في تحويل تفكير فرحات عباس وانتزاعه من بؤرة تفكيره الإفرنسي وثقافته الإفرنسية لإيقاظه على حقيقته كجزائري مسلم عربي. ويصف أحمد توفيق المدني - مقابلته الأولى، لفرحات عباس، وهو لا يزال في بداية طريق العمل السياسي، فقال: (ذهبت لمقابلة - فرحات عباس - كان لا يزال في مقبل العمر، طويل القامة، أسمر اللون، يضع على رأسه غطاء من نوع - الكولباك - الروسي الأسود الرفيع، وقد جلس جلسة المعتز بنفسه، المعتمد على قوته، الشاعر بمسؤوليته. وبعد تحية بسيطة،

_ (*) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 2/ 61/ و57 - 60 و63 - 64.

جلست إليه، فبادرني قائلا، بلسان فرنسي فصيح، ولم يكن يتكلم العربية إطلاقا: أنا مسرور جدا بالتحدث إلى رجل مؤمن مقتنع، قاوم الاستعمار بشدة وصلابة. فتغلب عليه الاستعمار، وأخرجه من البلاد (*). قلت: وأنا سعيد بالتعرف على هذا الشاب النابه الذي أمعن في فضح الاستعمار، وبين آلام الشعب، وأفصح عن ظلامته: إننا تتبعنا ونحن بتونس مقالات (كمال بن سراج) وعلمنا أنك أنت كاتبها. وأبانت لنا الطريق عما خفي عنا من أساليب الاستعمار وظلمه وجبروته. والآن، ونحن هنا، يمكن أن نربط بين طرفي الحبل وأن نوحد الجهود من أجل تحطيم هذا العدوان الاستعماري البشع، ولكي نضع أسس الدولة الجديدة الحرة بالشمال الأفريقي. وقال - عباس فرحات - أما أنتم بتونس فلكم الحق في تكوين الحركة الملية، وفي محاولة إقامة الدولة المستقلة على أنقاض نظام الحماية الذي أصبح نظاما استعماريا كامل الأركان. أما نحن في الأرض الجزائرية، فوضعيتنا تختلف. إن فرنسا ملكت البلاد بقوة السلاح وقتل المدافعين الأحرار، وتشريد بقايا الشعب شذر مذر. فتفكير الطبقة المتنورة بالجزائر هو غير تفكير الطبقة المتنورة التونسية. نحن هنا لا نستطيع إطلاقا محاربة فرنسا، إلا بواسطة قوانينها، وداخل إطاراتها، فكفاحنا وقد ابتدأ ولن ينتهي قريبا، يرتكز على دعامتين أساسيتين: الأولى: فضح

_ (*) من المعروف أن الشيخ المدني هو في الأصل جزائري، ارتحل أهله في سنة 1870 إلى تونس. وفيها ولد - المدني - لم أبعد إلى الجزائر.

الاستعمار أبشع فضيحة، وبيان أساليبه واستهتاره بالقيم الإنسانية، وإبلاغ الرأي العام العالمي والإفرنسي ما يقاسيه هذا الشعب المسكين من آلام لم يتحملها شعب قبله ونرجو أن لا يتحملها شعب بعده. والثانية: إرغام فرنسا، بالحجة والبرهان على تطبيق قوانينها التي تقول بأن الجزائر قطعة من فرنسا، وأن الجزائري فرنسي قانونا، وذلك يوجب إلغاء كل القوانين الاستثنائية الخاصة بالأهالي، ويجب إعطاءنا كل حقوق المواطنة الإفرنسية. وبذلك نصبح سعداء مثل بقية المواطنين الإفرنسيين، لا حيف ولا ظلم ولا إرهاق، ونشارك على بساط التساوي في كل المجالس البلدية والعمالية والمالية، ومجلس الأمة لباريس. وأجابه (أحمد توفيق المدني) بقوله: أنا معك في المرحلة الأولى من غير احتراز. أما في المرحلة الثانية، فلا أكتمك أنني على عكس نظريتك. أنا أتصور الجزائر حرة مستقلة، دولة إسلامية عربية على غرار ما قاله مصطفى كامل عن مصر: أحرار في بلادنا، كرماء لضيوفنا، مرتبطة إرتباطا عضويا مع تونس والمغرب الأقصى. وثيقة الصلة ببقية البلاد العربية. وقال (عباس فرحات) عندها: أقول لك بصراحة مع احترام رأيك، أنني رجل واقعي لا أسير مع الخيال، ولا أتتبع الطرق المسدودة ولست مؤمنا إطلاقا بوجود شعب جزائري تواق للحرية والاستقلال، وليست لنا أمجاد تاريخية تفادينا من وراء الدهور، أو تربط بين حاضرنا وماضينا.

ورد عليه المدني - في شبه حدة: إنك تعلمت في فرنسا، أو في مدارسها بالجزائر، ولم تقرأ إلا كتبها المدلسة، ولم تطلع إلا على آدابها السخيفة الإباحية، ولم تختلط إلا برجالها الذين احتلوا أرضك، وامتهنوا أهلك، واستعبدوا شعبك. الجزائر أمة قائمة الذات، لها تاريخها الحافل، ورجالها الأبطال البواسل، وقد عطرت الدنيا بذكر جهادها المجيد، من أيام يوغورطا وماسينا إلى عبد القادر والمقراني. وإنك إن ناديت بالإفرنسية والتفرنس والذوبان في بوتقة الغالب، وهو أمر من المحال تحقيقه، فإنك لن تسير طويلا، وستجد نفسك ومن التف حولك من شبان هذه الحركة وحيدين، تعملون لغير غاية وتسيرون إلى غير هدف. إن هذا الشعب الجزائري لا يريد إلا السير على طريق الشرف والبطولة، التي توصله إلى مركز القوة والاستقلال بالحكم. وإنني أرى إنه ربما اتبعك اليوم، ما دمت تصرخ بآماله، وتفرج كربته بكشف ظالميه. أما متى تجاوزت ذلك، وسرت قدما في طريق الاندماج والذوبان، انفض من حولك، وتركك مع قلة قليلة من أمثالك. وافترق الرجلان - على غير رضى - غير أن المعركة لم تتوقف، فقد أوعز الشيخ بن باديس إلى أحمد توفيق المدني بكتابة رد على مقولة (التفرنس). (والاندماج) نشرها في (الشهاب) على مسؤوليته - حتى حسب البعض إنها من كتابة - ابن باديس - رحمه الله، وكانت المقولة تحت عنوان (كلمة صريحة) وجاء فيها: (.. إننا نعيش حقا في وسط سادت فيه الفوضى من جميع جهاته، فمن فوضى في الدين إلى فوضى في الأخلاق إلى فوضى

في الاقتصاد. وزادتنا الأيام على كل ذلك فوضى جديدة ربما كانت أخطر الفوضات، وأشدها تأثيرا على حياة الأمة، ألا وهي فوضى التكلم باسم الأمة. فما من متكلم اليوم، وفي أي مناسبة من المناسبات، إلا ورفع عقيرته مدعيا بأنه يمثل الأمة الإسلامية قاطبة في هذه البلاد. وأن الكلمات التي يقولها من عند نفسه إنما هي كلمة الأمة الحق، وقولها الفصل. ولو إنهم اقتصدوا في القول، ولم يلجوا باب الغلو والإسراف وقالوا إننا نتكلم باسم الفريق الذي انتخبنا أو باسم الهيئة التي ننتمي إليها، أو باسم الجماعة التي نحن منها، أو باسم الذين شاركوننا في الرأي والتفكير، لكان قولهم أصوب، ورأيهم أصلح، وكلامهم أقرب إلى نفوس السامعين من رجال الحكومة ومن رجال الشعب. إننا نتكلم اليوم حول هذا الوضوع إثر ما رأيناه من الحملة التي أجمعت الأمة على مجابهتها، في إثر اجتماع اللجنة الوزارية الإسلامية بباريس. لقد قال البعض من النواب المحليين، ومن الأعيان، ومن كبار الموظفين بهذه البلاد: إن الأمة الإسلامية الجزائرية مجمعة على اعتبار نفسها أمة فرنسية بحتة، لا وطن لها إلا الوطن الإفرنسي، ولا غاية لها إلا الاندماج الفعلي التام في فرنسا، ولا أمل لها في تحقيق هذه الرغبة، إلا بأن تمد فرنسا يدها بكل سرعة، فتلغي جميع ما يحول دون تحقيق هذا الاندماج التام. بل لقد قال أحد النواب النابهين، أنه فتش عن القومية الجزائرية في

بطون التاريخ فلم يعش على خبر. وأخيرا! أشرقت عليه أنوار التجلي فإذا به يصيح: فرنسا هي أنا! حقا إن كل شيء يرتقي في هذا العالم ويتطور، حتى التصوف. فبالأمس، كان يقول أحد كبار المتصوفين الجزائريين - وهو الشيخ أحمد بن عليوه المستغانمي (وهو صوفي منحرف): فتشت عليك يا الله ... وجدت روحي أنا الله واليوم يقول المتصوف في السياسة: فتشت عليك يا فرنسا ... وجدت روحي أنا فرنسا فمن الذي يستطيع بعد اليوم أن ينكر قدرة الجزائري العصري على التطور والاختراع؟ إن هؤلاء المتكلمين باسم (المسلمين الجزائريين) والذين يصورون الرأي العام الإسلامي الجزائري بهذه الصورة، إنما هم مخطؤون، يصورون الأمور بغير صورتها، ويوشكون أن يوجدوا حفيرا عميقا بين الحقيقة، وبين الذي يجب أن يعرفها. فهم في واد، والأمة في واد ... لا يا سادتي! نحن نتكلم باسم قسم عظيم من الأمة، بل ندعي أننا نتكلم باسم أغلبية الأمة. ونقول لكم، ولكل من يريد أن يسمعنا، ولكل من يجب عليه أن يسمعنا، إن أراد أن يعرف الحقائق، ولا يختفي وراء آكام الخيال: نقول لكم إنكم من هذه الناحية لا تمثلوننا، ولا تتكلمون باسمنا، ولا تعبرون عن شعورنا وإحساسنا. إننا نحن فتشنا في صحف التاريخ،

وفتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة موجودة، كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا. ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية. ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن ومن قبيح، شأن كل أمة في الدنيا. ثم إن هذه الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا. ولا تريد أن تصير فرنسا. ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها وفي أخلاقها وفي دينها. لا تريد أن تندمج ولها وطن معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحاية المعروفة). كان ذلك عاملا أساسيا وحاسما في تحول (عباس فرحات) وإزالة الغشاوة التي أسدلتها على أبصاره نشأته في المدارس الإفرنسية، ومعايشته للوسط الإفرنسي. أما العاملان الأساسيان الآخران فهما: التصاقه ببيئته الجزائرية الأصلية (بيئة الفلاحين) في (شرق الجزائر) وأخطاء، أو جرائم، السياسات الإفرنسية ذاتها. وهو الأمر الذي أوضحه فرحات عباس ذاته بقوله (*): (إنني أنتسب بالفعل إلى فئة الفلاحين، ولم يكن إلا من قبيل المصادفة تولي والدي وأشقائي الوظائف العامة، لقد نشأت في وسط الفلاحين، أولئك الفلاحين الجبليين الذين لم ينل البؤس من شجاعتهم وأنفتهم وكبريائهم. لقد قضيت سني

_ (*) ليل الاستعمار (فرحات عباس) إصدار جوليارد ص 107 - 113 (في ترجة وليم خوري ص 137 - 145).

حداثتي وسط هذه الفئة من الناس المتواضعين الصلبين الكرماء، وإذ نشأت في ناحية (دوار) تابع لمجمع مختلط (كومون ميكست) بعيد عن المدينة، غير موروث، وكان من المحال علي أن أنفصل عن أولئك الفلاحين ولم يكن تضامني مع الفلاحين هو تضامن محبة وتعاطف، بل هو تضامن في العيش والحياة إلى حد ما، فقد نشأت بينهم وأصبحت شابا وأنا معهم، لذلك صرت أعرف آلامهم وأدرك مصدر شقائهم وبؤسهم مما كان يثير حزني. إنني لست ابن مهاجر، مثل بعض رفاقي في المدرسة، إذ أن أسرتي لم تأت من مالطا أو فرنسا أو غيرهما إلى الجزائر بحثا عن الثروة. إن الأجيال لا حساب لها بالنسبة لذوي، لأنهم ملك الأرض الجزائرية. فالجزائر لهم كما أنهم ملك لها، هم متعلقون بأرضها سواء كانوا فقراء أم أثرياء، وهم في أيامنا هذه، عندما يهاجرون هربا من الجوع، يعودون حتما إليها ليموتوا فيها. إن عملية احتلال الجزائر هي قضية معروفة - لكنني سأسرد هنا بإيجاز كيف جرت الأمور بالنسبة لأفراد قبيلتي. لقد قام العقيد - الكولونيل سان أرنو - عام 1851 في زحفه من قسنطينة إلى (جيجل) بإحراق محاصيلهم وقراهم. وقطع أشجارهم المثمرة، ونهب مواشيهم، فقضى على كل مقاومة عندهم. ثم عادوا فاستأنفوا حمل السلاح عام 1871 تلبية لنداء مقراني والحداد، فغلبوا على أمرهم من جديد، وهجروا من أراضيهم، وطردوا إلى أرض صخرية بين نجود التل العليا عند أطراف مديرية (فج مزالا). وقد أنشىء في مناطقهم خمسة مراكز للتوطين هي جيجل ودوكسين واستراسبورغ وطاهر وشفقا. وبعد

ذلك بسنوات عادوا يعملون كعمال في أراضي الساحل تلك التي كانت في السابق أراضيهم، أما المجدودون منهم، فقد تمكنوا من شراء قطعة صغيرة أقاموا فيها مساكن لهم. وكان والدي من بين هؤلاء، أما الباقون فقد مضوا يتنقلون من قرية إلى قرية، حسب إرادة أرباب العمل. أما المدارس فلم يكن يوجد منها شيء لديهم، كانوا يعيشون على هامش مراكز الاستيطان الإفرنسي حيث كانوا يستخدمونهم لأنهم يتكلمون لغتهم، ولكن ما أن يصبح الأمر متعلقا بعمل إداري (عند القاضي أو المدير أو حارس المياه والغابات والجابي إلخ ...) يصبح الترجمان ضروريا. وهكذا أصبحوا غرباء في وطنهم بالذات، كما بقيت القوانين الإفرنسية غير مفهومة لديهم، وانتهى الأمر أخيرا بأن جردوا من القليل الذي أبقاه لهم النظام الاستعماري. وقد سبق أن رأينا أن هذا الشقاء كان من نصيب شعب بأكمله، كما أن بؤسه الفظيع كانت نتيجة صدام بين الشرق والغرب، شرق مغلوب مسلوب ومجبر على الصمت، وغرب طامع عنيف متوحش. ومن طبيعتي أنني أكره العنف، وأكره أكثر منه الظلم، الناجم عن شراهة الفئات المتخمة. وتزداد بشاعة الظلم في الجزائر بقدر زيادة عمق جذوره. ومن العبث إلقاء تبعات هذا الظلم على الإفرنسي الشرير، ونبرىء منه الإفرنسي الطيب. فالمسؤولية هنا جماعية مشتركة، وهي نتيجة نظام، وثمرة مفاهيم خاطئة. ويقال أن الإنسان هو الذي يضع النظم، ويصح أيضا أن نقول بأن النظم تضع الإنسان، إن فرنسيي الجزائر لم يكونوا

جميعهم في البدء أشرارا، ولكنه النظام الاستعماري الذي تطبقه البورجوازية الإفرنسية هو الذي جعلهم على ما هم عليه الآن. وليس من استعمار في العالم يعادل في ظلمه الاستعمار الإفرنسي في الجزائر. إذ لم يخطر في بال أي نظام استعماري أن يفني الشعب المغلوب بمثل الصفاقة والوحشية التي جرى عليها الاستعمار الإفرنسي، ولما لم يتمكن من تحقيق هذا الهدف، رأى أنه من المهارة وضع الشعب الجزائري في السجن بواسطة صيغ قانونية كاذبة خادعة - وعلى سبيل المثال - فعندما يعلن الجزائري أنه عربي، يجيبه المشرعون الإفرنسيون (كلا إنك إفرنسي) وعندما يطالب بحقوق الإفرنسيين يجيبه المشرعون أنفسهم: (كلا إنك عربي). لذلك كان على الجزائريين استنكار مثل هذا النظام، وكان عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم ليعلنوا موقفهم، وهم في الواقع لم ينقطعوا أبدا عن الاحتجاج والدفاع، وكان ذلك في الدرجة الأولى أمام الديموقراطيين الإفرنسيين أنفسهم. وهذا هو السبب الذي من أجله أصر جيلنا والأجيال التي سبقته على اللجوء إلى فرنسا الجمهورية والحرة ضد فرنسا الاستعمارية الطاغية. وكانت هذه الأجيال تعتقد بأنه يكفي أن توضح لفرنسا الأولى التناقضات التي كانت سببا في شقاء الشعب الجزائري حتى تضع حدا لها. وإذا كان جيلنا قد رفض مبدأ (العنصر المتفوق) و (العنصر المتدني) على أنه مبدأ خاطىء ومشين. فقد تبنى مع ذلك مبدأ العنصر الأستاذ والعنصر التلميذ، إذا اعتقد بتقدم القوانين وتطورها. وبأن الجزائر الجديدة ستولد عن طريق المدرسة والخبرة الفنية الحديثة. وبأن

نظام العقل والذكاء هو مدخل الحرية. وبأن تحالفا يقوم بين الشبيبة الجزائرية والأحرار الإفرنسيين يمكنه أن يؤدي تدريجيا إلى تحقيق الديموقراطية الحقيقية. جاءت مسيرة الأحداث لتؤكد لنا أن الأمور ليست على مثل هذه الدرجة من البساطة، فالرأسمالية والاستعمار مرتبطان برباط واحد لا يمكن فصله - أو حله. كانت الرأسمالية تعمل في باريس، وكان الاستعمار يعمل في الجزائر. ولم يكن بالمستطاع التعرض بالهجوم على أحدهما دون مهاجمة الآخر. على عكس ما تصورت بادىء ذي بدء. فإن وجود (بروليتاريا) ثورية واحدة، ووجود أحرار في فرنسا لم يكن ليغير شيئا في المعطيات الرئيسية للمشكلة الاستعمارية. إذ بقيت هذه المشكلة بالرغم من كل الدعايات، مشروعا عنصريا للسيطرة والاستغلال. عندما ولدت كان تجريد الجزائريين من ممتلكاتهم قد تحول إلى حقيقة واقعة. وكان النظام الاستعماري مهيمنا على الجزائر. وكان الجزائريون يعيشون في فقر يصعب وصفه. وهم يجاولون تضميد جراحهم والإفلات من قبضة الفناء المادي والانحلال المعنوي، وكان الفلاحون يتشبثون بالأرض بشكل يائس، ويئنون تحت عبء البؤس والاضطهاد، ويشاهدون وهم عاجزون، عالما بأكمله، يتألم ويموت، وهذا العالم هو عالمهم. وقد خلف السلم دون عدل، ألما كبيرا، لوجود دون سعادة. وحيال عدم الثقة بالغد، كان الأبناء يخلفون الآباء بنسبة عالية من الولادات والوفيات، كان الشقاء يقرع الأبواب غالبا، وكان الفلاح

الجزائري يستقبل هذا الشقاء، من أي جهة جاءه، بذات الدعاء: لنصبر، فهذا كله من عند الله. فلنصبر!! ولم يكن ذلك الصبر يعني الاستسلام الأبله، وإني في موقف يسمح لي بأن أعرف ذلك حق المعرفة، لقد كان هذا الصبر حيال ذلك الشقاء المقابل الوحيد الذي وجده الفلاح ضد اليأس. لقد كان هذا الفلاح يأمل دائما باستعادة حقله، يتملكه في ذلك حبه للأرض وحماسته لها. وكان يكافح الاستعمار بوسائله الخاصة، دونما سند ولا دعم ولا تدريب، وإذا كان يمزج كفاحه أحيانا ببعض العنف، فذلك لأن استخدام وسيلة العنف باتت عادة مستحكمة من عادات الاستعمار. ولم يكن هذا الفلاح، روتينيا جامدا، ذلك أنه بمجرد أن يتوفر له الحظ بالحصول على ملكية متوسطة، كان همه الأول أن يتكيف مع متطلبات الحضارة الفنية التي لم يكن باستطاعته أن ينكر قيمتها، فكان على غرار المستوطن الذي أصبح جاره يدخل في استثماره الزراعي الأساليب الحديثة (*).

_ (*) ولكنه بعكس المستوطنفين لم يكن ينتفع إلا بمساعدة هزيلة مضحكة فالمصارف الزراعية وبيوتات المال التابعة للمستوطنين، كانت تستولي على مجمل القروض الزراعية تقريبا. ونذكر مثالا واحدا بهذا الشأن في عام 1953، كانت الجزائر تقدم سلفا قيمتها (42) مليار فرنك للمصارف الزراعية. وكانت تخصص هذه المبالغ للمستوطنين وعددهم (21) ألفا من المستوطنين المزارعين. بينما تقدم مليارن فقط للجمعيات الزراعية الجزائرية التي تضم أكثر من مليون فلاح جزائري.

ولكن الجزائريين، على النطاق الاجتماعي والأخلاقي، وسواء أكانوا أغنياء أو فقراء، كانوا متشبثين بتصميم وعناد بحضارتهم المتوارثة عن الأجداد، وبلغتهم القومية، وتقاليدهم الأصيلة، وسواء تخرجوا من المدارس الإفرنسية أو المدارس العربية، أو في أقاصي النواحي - الدوارات - كانوا جميعا يشعرون بالحاجة إلى احترام، إرث الأجداد والمحافظة عليه. لقد حافظوا وهم بمواجهة مجتمع أوروبي معتد، حافظوا على العزة والقوة اللتين يوحي بهما إليهم انتسابهم إلى الشعب المضطهد، الشعب العربي الجزائري. وكانوا يواجهون إزدراء الأوروبيين لهم بإزدراء مماثل، وباحتقار من هم واثقون من حقهم الصريح. لقد رفضوا بقوة وصلابة خرافة التفوق العنصري التي أراد النظام الاستعماري أن يفرضها عليهم. كانوا يعلمون أن المستوطن، سواء كان إفرنسيا أو إيطاليا أو إسبانيا، لم يكن متفوقا عليهم، كانوا ينحنون بالتأكيد تحت ثقل الضغط والقوة، ولكنهم كانوا يرفضون أن يتراموا كالكلاب. أما الإمبريالية الاستعمارية، فقد كانوا على ثقة من زوالها يوما ما بوسيلة أو بأخرى. فالبيت الذي لا أساس له، سينهار عاجلا أم آجلا. أما مؤقتا، فإن الظلم مهما كان الرداء الذي يرتديه، فيبقى ظلما، ومهما ثقل هذا الظلم عليهم، فإنه سيبقى معه شعلة الثورة، وأمل تحرر أكيد). تلك هي الصورة العامة لإنسان الجزائر كما رسمتها ريشة

(فرحات عباس) في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. ففي هذا العقد، كان (مصالي الحاج) قد أخذ في فرض وجوده على المسرح السياسي للجزائر، وكانت طلباته ومقترحاته تعتبر (متطرفة) و (غير واقعية) من وجهة نظر الاستعمار الإفرنسي. ومقابل ذلك فإن الإصلاحات التي بدأب رابطة (علماء المسلمين الجزائريين) بقيادة عبد الحميد بن باديس لم تكن قد أخذت أبعادها للتأثير على التيار العام، وبصورة خاصة على هذه الفئة من (المستغربين) أو (المتفرنسين) وهي الفئة التي وجدت في صيدلي (سطيف) الشاب فرحات عباس - ممثلا لها وناطقا باسمها. وعلى هذا لم يكن من الغريب أن يندفع (فرحات عباس) بكل ما في الشباب من اندفاع وحماسة، ليكتب في كتابه (الجزائر الفتاة) والذي نشره سنة 1931 ما يلي: (... إن الجزائر أرض إفرنسية، ونحن إفرنسيون، لنا قانوننا الشخصي الإسلامي). وقد أعربت نظريته عن التطور من (مستعمرة إلى مقاطعة) أصدق التعبير عن الرغبات الاندماجية عند فريق المستغربين. وللوصول إلى هذا الهدف، كان لابد من انتهاء عهد الاستعمار والاستيطان، فكتب عباس فرحات يقول: (ليس هناك في الفرآن الكريم ما يمنع الجزائري المسلم من أن يكون إفرنسي الجنسية، قوي السلاح، حاضر الجنان، داعيا للتضامن الوطني. ولا شيء يمنع ذلك إلا الاستعمار). ألف الفريق الذي كان يمثل الجزائريين في الهيئات والمجالس المحلية المنتخبة في عام (1930) اتحادا للمنتخبين

المسلمين بزعامة الدكتور (ابن جلول) الذي كان يرأس جماعة قسنطينة. وكان الهدف الأساسي لهذا الاتحاد المختلف الأشكال والصور، الدمج التدريجي للنخبة المتعلمة من الجزائريين في الحياة الإفرنسية، وتحسين أحوال جميع الجزائريين (*). وفي عام 1935، ألقى (فرحات عباس) خطابا باسم الاتحاد، بحضور وزير الداخلية الإفرنسي - رينيه - الذي كان يزور الجزائر آنذاك فقال: (لم يبق هناك في هذه البلاد شيء إلا الاتفاق على سياسة الإدماج، وذوبان العنصر المحلي في المجتمع الإفرنسي) وأوضح عباس موقفه بصورة أكثر جلاء في العام التالي، عندما أصدر بيانا قال فيه: (نحن الأصدقاء السياسيين للدكتور بن جلول، سنصبح من القوميين. وهذا الاتهام ليس بالأمر الجديد. فقد تحدثت إلى شخصيات متعددة حول هذا الموضوع. أما رأيي فمعروف تماما. فالإحساس القومي هو ذلك الشعور الذي يدفع بشعب ما إلى العيش داخل حدوده الإقليمية، بل هو الشعور الذي خلق هذا العدد من الأمم. ولو كنت قد اكتشفت الأمة الجزائرية، لغدوت إنسانا قوميا. ولن أخجل آنذاك من هذه الجريمة. فالرجال الذين

_ (*) حاول الاتحاد الحصول على تمثيل أوسع للجزائريين في جميع المجالس الجزائرية المنتخبة، وعلى معاملة متساوية في الخدمة العسكرية. وإنهاء عهد المحاكم الخاصة (الاستثنائية) وإصلاح أنظمة الغابات والأحراج، وإلغاء الغرامات الإجماعية وتوسيع التعليم، وتحسين الأوضاع الزراعية في الأرياف، وحرية الدين، ورفع أجور العمال الجزائريين.

يموتون دفاعا عن فكرة وطنية، يجلون ويحترمون أبلغ الاحترام. وليست حياتي بأغلى أو أثمن من حياتهم ... إنه ليس بوسع إنسان أن يقيم بناء على الرمال. وقد بددنا مرة وإلى الأبد، جميع الضباب والخيالات، لنربط إلى الأبد بين مستقبلنا ومستقبل ما تحققه فرنسا في هذه البلاد، ولا أرى إنسانا يؤمن إيمانا جديا بقوميتنا. أما ما نريد أن نحارب من أجله فهو تحررنا السياسي والاقتصادي ... فبدون هذا التحرر للمواطن الجزائري، لن يكون هناك جزائر إفرنسية تستطيع البقاء إلى الأبد ...). حصل (اتحاد المنتخبين المسلمين) هذا على دعم كل الشخصيات المشتركة في الاتحاد والتي تعمل على (الدمج) كما لقيت هذه الجماعة دعما من (الجبهة الشعبية الإفرنسية) التي انتصرت في الانتخابات الإفرنسية سنة 1936، واستحوذت على الحكم فيها. غير أن اتحاد المنتخبين المسلمين فشل في الحصول على تأييد لاقتراحاته الإصلاحية. وكانت ردود فعل الدكتور بن جلول وجماعته عنيفة في مجابهة هذا الفشل، فقام (بن جلول) في الهجوم على الإدارة الإفرنسية هجوما عنيفا في سنة 1937، ودعا جميع المنتخبين الجزائريين إلى الاستقالة إذا لم تستجب الإدارة الإفرنسية لهذه الإصلاحات (التي عرفت باسم اقتراح بلوم - فيوليت سبقت الإشارة إليها). ولبى نحوا من ثلاثة آلاف جزائري في منطقة قسنطينة النداء, فغادروا مكاتبهم، لكن الاستجابة كانت ضعيفة في المناطق الأخرى. وعاد المنتخبون الجزائريون إلى مراكزهم في كانون الثاني (يناير) عام 1938. بعد أن تلقوا تأكيدات بأن اقتراحات (بلوم - فيوليت) ستبحث في

البرلمان الإفرنسي. ولا ريب في أن فشل هذا البرلمان في إقرار المشروع، كان نقطة تحول في تفكير الكثيرين من الجزائريين المعتدلين. وأدرك فرحات عباس أن الجزائريين أضعف من أن يقاوموا الاستعماريين في كل من باريس والجزائر في وقت واحد. وكان قد اعتمد على تأييد فرنسا نفسها في مطالبه للمساواة في المعاملة. ولكن أمله خاب الآن حتى في أكثر الإفرنسيين تقدما وحرية فكر. ووصف فرحات عباس، الصراع في هذه الفترة بما يلي: (عندما جرت المعركة الانتخاية لتجديد المجالس البلدية لعام 1935. رافقتها اشباكات في قسنطينة وبجاية وسطيف. فقامت الشرطة بإطلاق النار على الجماهير في بسكرة خصوصا حيث كانت الشرطة تحت أمرة عمدة فاشي يدير أحد المصارف. وعملت الإدارة الإفرنسية التي كانت خاضعة خضوعا تاما لسلطة الإقطاعيين من المستوطنين، على حماية المجرمين، وأطلقت أيديهم في أعمال القمع والاعتقال، وتم إغلاق المقاهي، وتقديم أساتذة اللغة العربية للمحاكمة. وتسريح الموظفين ممن كانوا يتعاطفون مع الحركة، وعملت الإدارة الإفرنسية على تدمير التجار والمزارعين عن طريق الغرامات المالية الباهظة التي فرضت عليهم، كما ألغت القروض الزراعية للفلاحين. الخ ... ثم طالب اتحاد العمد الفاشيين بأن يرسل إلى الجزائر فصائل القناصة، وأن تسحب منها سرايا الرماة الجزائريين لاستبدالها بقوات زنجية. كما طالب هذا الاتحاد بتوقيف

المحرضين، وتكوين الحرس السيار أما المحرضون فلم يكونوا سوى المنتخبين العرب الذين كانوا يطالبون بالمساواة في الحقوق في جمهورية كانت تعلن عن نفسها: (بأنها تشكل مع الجزائر وحدة لا تتجزأ)، وعلى أثر ذلك، توجه المنتخبون المسلمون بنداءاتهم إلى الأحرار الإفرنسيين، وإلى رئيس الجمهورية ووزير الداخلية، كما وجه (موريس فيوليت) الذي كان عضوا في مجلس الشيوخ، استجوابا إلى الحكومة، وألقى بيانا رائعا عن الموقف في الجزائر. ولكن النصر كان إلى جانب الحزب الاستعماري - كما هي العادة - ولمواجهة المناقشة في هذا الموضوع، زار الجزائر وزير الداخلية الإفرنسي - مارسيل رينيه - وتأثر كثيرا لبؤس الشعب الجزائري، وعدالة مطالبه، غير أن هذا التأثر لم يمتعه من إصدار القرار الذي حمل اسمه - قرار رينيه - والذي دعم فيه سلطة أجهزة القمع ضد الشعب الجزائري. أما الإصلاحات، فلم تكن موضع بحث الوزير الهمام. لم تنجح وسائل القمع في إيقاف نشاط (اتحاد المنتخبين المسلمين). الذي دعا في سنة 1936 إلى إقامة تجمع في كل أنحاء الجزائر أطلق عليه اسم (المؤتمر الإسلامي) وضم المنتخبين والعلماء والاشتراكيين والشيوعيين والمحاربين القدماء والفلاحين. وتم وضع ميثاقا يتضمن المطالب الأساسية (*). وجاءت لجنة

_ (*) طالب المؤتمر بإنهاء جميع القوانين الخاصة - الاستثنائية - المفروضة على الجزائريين، وإعادة تنظيم العلاقات الإفرنسية - الجزائرية. والمحافظة على قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، وفصل الدين =

تحقيق برلمانية إلى الجزائر - في آذار (مارس) 1937 بهدف دراسة وضع الوطنيين الجزائريين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وأيدت اللجنة عدالة المطالب الجزائرية. غير أن الاستعماريين كانوا يطرحون القضية على صعيد آخر، فكانوا يعترضون على المطالب الجزائرية بقولهم: (إن الجزائريين المسلمين هم جميعا قوميون وأعداء، فإذا منحتهم فرنسا المساواة في الحقوق، فستطرد من الجزائر، لذلك يجب أن تبقى سيادة الأوروبي وأفضليته قاعدة ثابتة). وهكذا انطلقت حملة عنيفة في الصحف ضد مسلمي الجزائر - في باريس والجزائر معا - وكان يغذي هذه الحملة ويمولها ويوجهها آل مورينو، وديرو، وبروجو، وسيكار - وفشل مشروع الإصلاح، وتراجعت حكومة الجبهة الشعبية اليسارية، كما تراجعت من قبلها الحكومات اليمينية. لقد قابلت في العام 1937 - ولا زال الحديث للزعيم فرحات عباس - الرئيس (ألبير سارو) الذي كان يشغل في تلك الفترة منصب وزير الداخلية، وبينت له عدالة مطالبنا. وإذ ذاك اعترف الوزير المذكور - متأثرا بحججي، بأنه عاجز أمام خصومه الاستعماريين - وقال لي: (لقد استقبلت هنا النواب الجزائريين - نواب المستوطنين

_ = عن الدولة، وحرية التعلم باللغة العربية، وحرية الصحافة - التعبير - والتساوي مع الإفرنسيين في الأجور والرواتب، ومساعدة الفلاحين، وإجراء الانتخابات على درجة واحدة. (الجزائر الثاثرة - تعريب خيري حماد - ص 69).

- وبحثت معهم مشروع الإصلاح - مشروع فيوليت - والذي عرضته علي الآن، وناقشتهم لأكثر من ساعة، وحاولت إقناعهم واستثارة وطنيتهم وحكمتهم ومشاعرهم. وإني مضطر لأن أسلم بأن هؤلاء السادة، لا يحملون في أشخاصهم سوى أنبوب الهضم). جرت الأحداث بعد ذلك متسارعة، وقام مجلس الشيوخ الإفرنسي بإسقاط حكومة الاشتراكي (ليون بلوم) لتخلفها حكومة (دالادييه) التي استقبل رئيسها وفدا جزائريا يضم ابن باديس وفرحات عباس: وقال (دالادييه) للوفد: (إن البرلمان يعارض مشروع فيوليت، ويبدو أن الجنسية الإفرنسية لا تتلاءم مع الحقوق الشخصية الإسلامية. ولا أستطيع أن أقول شيئا ضمن هذه الظروف، بل أسألكم مساعدتي في حفظ النظام. ولا تحرجوني كي أستخدم القوة المتوفرة لدى فرنسا، لأن فرنسا قوية). ورد عليه فرحات عباس: (إن احترام حقوق الإنسان هي أفضل سلاح) أما ابن باديس الذي كان متألقا، شامخا، ففد اكتفى بأن قال للرئيس دالادييه: (القوة والعزة لله وحده. إن قضيتنا عادلة وسنستمر في الدفاع عنها حيال وضد الجميع). وتسارعت الأحداث على ساحة الجزائر بمثل ما كانت تسير متسارعة في فرنسا. فقد انفرط عقد (اتحاد المنتخبين الجزائريين) ووقف العلماء والشيوعيون ضد المصاليين.

ووقع خلاف بين فرحات عباس والدكتور بن جلول، إذ خاف فرحات من سياسة بن جلول المغرقة في التساهل مع الإفرنسيين. وبقي فرحات أقرب من خصمه إلى الفلاحين الجزائريين، بينما كان بن جلول أقرب إلى الطبقة الأرستقراطية. وقام بن جلول بتأليف (التجمع الجزائري - الإفرنسي الإسلامي). ومقابل ذلك، قام فرحات عباس بتكوين (اتحاد الشعب الجزائري) بهدف (توحيد جماهير المسلمين الجزائريين مع ممثليهم المنتخبين، لكسب المعركة، والقيام بعمل جماهيري إذا اقتضى الأمر). ثم كانت الحرب العالمية الثانية، ولما تمض أكثر من أشهر قليلة على هذه الأحداث. واجتاحت القوات الألمانية فرنسا - التي ظهر أنها لم تكن قوية إلا ضد الشعوب المستضعفة - وتبع ذلك اعتقال الرئيس (دالادييه) واضطهاد الديموقراطيين الإفرنسيين. أما في الجزائر، فقد أظهر الحاكم العام (لوبو) بادرة ذات مغزى في تموز (يوليو) 1940، حيث منع مقالا في صحيفة (صوت المستوطن) لأن هذا المقال تضمن العبارة التالية: (لقد ارتكبت فرنسا أخطاء، وعليها أن تدفع الثمن وحدها، إذ لسنا ملزمين بتحمل نتائج هذه الأخطاء). وراح أسياد (الجزائر الإفرنسية) يستقبلون بزجاجات الشمبانيا ضباط رجال لجان الهدنة الألمان، في الفنادق، وفي فيلاتهم الفخمة، وممتلكاتهم، وأخذ أكثرهم نفوذا يتعامل مع حكومة فيشي. كما

استمرت أعمالهم في الازدهار. كانت الأمور عندهم على خير ما يرام - وسط الهزيمة - ما دام المستوطن لا يزال سيد الجزائر (*). ... انهارت هيبة فرسا، نتيجة الهزيمة التي نزلت بها في سنة 1940. وأدى تعاون الكثيرين من المستوطنين مع نظام فيشي الموالي للنازيين في فرنسا إلى قيام أعمال العنف ضد مسلمي الجزائر بصورة خاصة، وضد اليهود أيضا. وأدى ذهاب الجزائريين إلى الحرب للدفاع عن فرنسا إلى تدمير الإنتاج. وزاد من الصعوبات الاقتصادية التي عاشتها الجزائر في سنوات الحرب ما حدث من انحباس الأمطار في بعض السنوات، ووقوع سيول وفيضانات في سنوات أخرى. وخلال ذلك كانت الدعاية النازية، والخلافات بين سياسة فرنسا وقادتها العسكريين، إلى انهيار ما بقي من هيبة لفرنسا في أنظار الجزائريين. ثم جاء ميثاق حلف الأطلسي، وتعاظم قوة الحلفاء ليشكل حافزا جديدا في دفع الجزائريين لتفكير بمسقبلهم على أسس جديدة. وتحولت السجون والمعتقلات التي أقامها النازيون وأنصارهم من الفيشيين في الجزائر إلى مدارس سياسية، تبلورت فيها النويات الأولى للتنظيمات السرية. وأدى إقبال حكومة فيشي على اتباع أسلوب (تمجيد عظمة فرنسا المسيحية) إلى دفع المعتدلين الجزائريين وفي طليعتهم - عباس فرحات - إلى الوقوف صراحة في صفوف

_ (*) ليل الاستعمار - فرحات عباس - ترجمة وليم خوري ص: 164 - 173.

(الجبهة الإسلامية). وأدت النداءات التي كان يوجهها الجنرال ديغول من لندن، طالبا مقاومة حكومة فيشي، إلى استجابة الكثيرين من الجزائريين للمقاومة. نزلت القوات الأنكلو - أمريكية على أرض الجزائر يوم 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1942، فيما كانت إذاعات لندن وموسكو وواشنطن تكثر نداءاتها لصالح حرية الإنسان، والمساواة بين الشعوب، فكانت بذلك تساهم مساهمة كبرى في إيقاظ وعي الشعوب سياسيا - لا سيما شعوب أفريقيا وآسيا الخاضعة للاستعمار. فقد أخذت الشعوب المستعمرة تدرك حقوقها، وتشعر بقوة شخصيتها، وترفع رأسها متطلعة نحو مستقبلها. ويفسر ذلك - جزئيا - حماسة أبناء الجزائر الكبرى لنزول قوات الحلفاء على أراضيهم. وكانت فرنسا الحرة - بقيادة ديغول - تحتاج لدعم كل قدرة بشرية ممكنه للإسهام بالمجهود الحربي، مما ساعد الجزائريين على بذل محاولة لطرح الشروط التي كانوا يعتبرونها مناسبة كضمان مقابل جهودهم وتضحياتهم. وقدم (فرحات عباس) مع عدد من كبار الممثلين الجزائريين المنتخبين، في كانون الثاني (يناير) 1942 سلسلة من المطالب إلى (السلطات المسؤولة). وقد رفضت هذه السلطات فورا - الرسالة الأولى - التي وجهها ممثلو الجزائر، لأن الإفرنسيين رأوا أنها وجهت إلى السلطات الأميركية وغيرها، ولأنها جعلت اشتراك

الجزائريين في المجهود الحربي رهنا بعقد مؤتمر جزائري عام (*). وبعد يومين قدمت صيغة أخرى معدلة بعض التعديل إلى (السلطات الإفرنسية). بعد أن حذفت منها كل إشارة تفيد بأنها إنذار نهائي. وذكرت: (أن الجزائريين بإسهامهم في المجهود الحربي، سيضمنون تحررهم السياسي ضمن إطار فرنسي). وتم في النهاية (إعلان بيان الشعب الجزائري) (**). لقد كان إعلان بيان الشعب الجزائري، خطوة رئيسية في

_ (*) نصت الرسالة الأولى التي وجهت إلى السلطات المسؤولة على ما يلي: (إذا كانت هذه الحرب، كما أعلن رئيس الولايات المتحدة، حربا لتحرير الشعوب والأفراد دون تمييز في العنصر والدين، فإن الشعب الجزائري سيشترك فيها بكل ما لديه من قوة، ويقدم كل ما يستطيع من تضحيات لهذا الكفاح التحرري. ويستطيع الشعب الجزائري بهذه الطريقة أن يحقق تحرره السياسي، في نفس الوقت الذي يتم فيه تحرير فرنسا. ولكن من المناسب أن يذكر موقعو هذه الرسالة أن الشعب الذي يمثلونه محروم من الحريات الأساسية والحقوق التي يتمتع بها المقيمون الآخرون في هذه البلاد، على الرغم من التضحيات التي وافقوا على تقديمها. وعلى الرغم من الوعود القاطعة والرسمية التي وعدوا بها في مرات متعددة. وعلى ضوء هذا، فهم يطالبون، قبل أن يحملوا جماهير الجزائريين على الاشتراك في المجهود الحربي، بالدعوة إلى عقد مؤتمر يضم جميع الممثلين المنتخبين في المنظمات الجزائرية. ويستهدف هذا المؤتمر، إعداد دستور جزائري يضمن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية) الجزائر الثائرة - غيلسبي - تعريب حماد ص 79 - 80. (**) انظر البيان وملحقاته في آخر هذا الكتاب (قراءات 2).

تطور الحركة الوطنية الجزائرية، فقد ذكر البيان أنه يمثل وجهات نظر ثمانية ملايين ونصف المليون من الجزائريين. ثم مضى البيان يسرد في العبارات التي استخدمها فرحات عباس (قائمة حساب صادقة وموضوعية عما تم في القرن الماضي) ويتلو (استنكارا واضحا ومقصودا لسياسة الدمج عن طريق التمثيل) ثم طلب للجزائر (حياة قومية ديموقراطية صادقة وموثوقة). وعلى الرغم من عدم تنكر بيان - فرحات عباس - للثقافة الإفرنسية والغربية، إلا أنه رفض (العبودية) الناجمة عن النظام الاستعماري. وتعرض البيان للانحطاط الاقتصادي والاجتماعي في ظل الاحتلال الإفرنسي والذي بلغ حدا وصل بالجزائريين إلى الذل المهين والفقر المدقع حتى صاروا يشعرون أنهم أجانب في بلادهم، وغرباء وهم فوق أرضهم. وخصص البيان اهتماما خاصا إلى الدور الذي يمارسه المستوطنون في الحيلولة دون وصول أكثر الجزائريين المستغربين تطرفا، إلى درجة المساواة معهم. وانتهى إلى القول: بأن الأوروبيين والجزائريين ظلوا منفصلين، لا تجمعهم رابطة روحية واحدة. وأشار البيان إلى سياسة الدمج من خلال التمثيل فقال: (تبدو هذه السياسة اليوم في نظر الجميع، واقعا لا يمكن التعبير عنه، وأداة خطرة في خدمة الاستعمار). ثم أكد أخيرا: (بأن الوقت قد فات على أن يقبل الجزائري بأن يكون شيئا آخر، غير أن يكون جزائريا. بقي أهم ما في البيان هو أن الموقعين عليه كانوا من الموصوفين - من قبل الإفرنسيين - (بذوي الأفكار المحافظة) أو

(المعتدلين). وكان البيان في حد ذاته يمثل أشد استنكار للحكم الإفرنسي في الجزائر وأخطره، مما أصدره حتى ذلك التاريخ (المعتدلون) و (المستغربون) الذين كانوا يأملون في الماضي الإسهام إسهاما كاملا في الحياة الثقافية الإفرنسية. وقد تم بعد ذلك تجاوز الصيغة العمومية للبيان بصدور (ملحق للبيان) تم فيه إيضاح ما يجب اتخاذه فورا من إجراءات. وما يجب تأجيله منها حتى نهاية الحرب. وكان (ملحق البيان) تعبيرا عن طموح الجزائر لاستعادة السيادة الجزائرية. مع إعطاء فرنسا دورا يشبه دور (الوصاية). لم تمض فترة طويلة على إرسال (ملحق البيان) إلى السلطات الإفرنسية، حتى تسلم (الجنرال ديغول) السلطة في الجزائر، واختار الجنرال (كاترو) حاكما عاما لها. وقد رفض هذا فورا وبصراحة مطالب المعتدلين. وأكد أن فرنسا لن توافق أبدا على استقلال الجزائر. وقد أدى رفض فرنسا - للمرة الثانية - قبول البيان كأساس للمحادثات الإصلاحية إلى رد فعل عنيف لدى الجزائريين. ورفض المندوبون الجزائريون في شهر أيلول (سبتمبر) 1943. الاشتراك في دورة طارئة للجان المالية. معربين برفضهم هذا عن تمسكهم بالبيان والتزامهم به. وكان رد (كاترو) على ذلك فرض الإقامة الجبرية على (عباس فرحات) وغيره من زعماء الجزائر. ولم يعدل (كاترو) عن قرار الحل إلا بعد أن ذهب إليه وفد من الممثلين اعتذر عن الأحداث الجارية، وأعلن عن رغبته في تطور الجزائر ضمن نطاق المؤسسات الإفرنسية. ومع ذلك، فقد ألقى (الجنرال ديغول) في كانون

الأول (ديسمبر) خطابا في قسنطينة، عملا بمشورة تلقاها بضرورة الرد بصورة إيجابية وبناءة على مطالب الجزائريين. فوعد بالإصلاحات التي صدرت فيما بعد (في قانون شهر آذار (مارس) لعام 1944). ولكن هذه الإجراءات التي كان في وسعها أن ترضي المعتدلين في عام 1936، لم ترضهم الآن، فرفضوها، واشترك معهم في رفضها جماعة العلماء (برئاسة الشيح الإبراهيمي). كما رفضها (مصالي الحاج). ولم يحظ القانون إلا بتأييد فئة قليلة من (المعتدلين جدا) في اللجان المالية، والذين كانوا قد تخلوا عن تأييدهم للبيان تحت ضغط الإفرنسيين. ... استطاع المنتخبون المؤيدون للبيان الجزائري، تحرير المعتقلين والمحكومين السياسيين في آذار ونيسان (مارس وأبريل) 1943. وخرج (مصالي الحاج) من سجن لامبيز، وقضى يوم حريته الأول وليلته الأولى في منزله في (سطيف). وبعد إقامة قصيرة في مدينة الجزائر، وضع تحت المراقبة، وفرضت عليه الإقامة الإجبارية في (بخارى) ثم في شلاله. أما (فرحات عباس) فقد مضى لإعادة تنظيم الجماهير وتعبئتها وأدت جهوده إلى مقاطعة انتخابات اللجان المالية، فقام (كاترو) باعتقاله مع (الرئيس صياح) وعدد من جماعة أنصار البيان، واجتاحت التظاهرات مدن الجزائر وسطيف وقسنطينة مما أرغم (كاترو) على إلغاء أوامره بفرض الإقامة الإجبارية على (صياح) في بني عباس، وعلى (فرحات عباس) في طبلبالا - جنوب وهران. وانصرف (عباس فرحات) على الفور لإجراء اتصالات مكثفة مع

زعماء البلاد، طوال الأشهر الثلاثة الأولى من العام (1944) وقد وصف جهده خلال هذه المرحلة بما يلي: (... كان على إعادة الاتصال مع مختلف المنظمات، فانضم العلماء برئاسة الشيخ الإبراهيمي فورا إلى الحركة وأيدوني. وكذلك كانت مباحثاني مع (مصالي الحاج) مستمرة، أما الشيوعيون، فقد رفضوا، ووجهوا إلي اللوم: بأنني أسير بسرعة زائدة. وأعلنوا أنهم يفضلون الدعوة إلى تجمع آخر تحت اسم - أصدقاء الديموقراطية والحرية - يؤيد سياسة الوحدة والدمج مع فرنسا. وقد أيد مصالي جهدي مع إبدائه بعض التحفظات. لقد منحني ثقته دون أن يلتزم بمسؤولية. كان يدرك أنه يجب أن نضع شيئا ما. وقد أسر لي بقوله: (ومع ذلك، فإذا كنت أمنحك ثقتي لتحقيق جمهورية جزائرية مشتركة مع فرنسا. فإنني مقابل ذلك، لا أثق بفرنسا أبدا. إن فرنسا لن تعطيك شيئا، وهي لن ترضخ إلا للقوة، ولن تعطي إلا ما نستطيع انتزاعه منها). وعلى كل حال فقد انتهت هذه الجهود إلى تأسيس (حركة أصدقاء البيان والحرية). في 14 آذار (مارس) 1944. وقام (عباس فرحات) بإيداع نظام هذه الحركة في محافظة قسنطينة. وقد حدد أهداف حركته بما يلي: (إن مهمة التجمع المباشرة والفورية هي الدفاع عن البيان، الذي هو تعبير عن فكر حر مستقيم، ونشر الأفكار الجديدة، والاستنكار النهائي للاضطهاد الذي يقوم به النظام الاستعماري، ولعقيدته العنصرية واستبداله (المادة الثالثة). أما أسلوب عملنا فقد حددناه على الوجه التالي: (إغاثة جميع ضحايا القوانين الاستثنائية. والاضطهاد

الاستعماري، وخلق تيار رأي عام يؤيد البيان. وجعل فكرة الأمة فكرة منتشرة في الجزائر أمة ترغب في دستور يحقق جمهورية مستقلة اتحادية بدلا من جمهورية إفرنسية، وخلق مبدأ التضامن الجزائري، بين جميع سكان الجزائر سواء أكانوا يهودا أو مستوطنين أو عربا مسلمين. وخلق الشعور بالمساواة والرغبة في الحياة المشتركة. هذه الرغبة التي هي - العنصر المنشىء للأمة - (المادة 4). (*). أقام فرحات عباس مقر (حركة أصدقاء البيان والحرية) في (6 - ساحة الكاردينال لافيجري - ساحة الشهداء حاليا) في مدينة الجزائر. ولم تمض فترة طويلة حتى وصل إلى مقر الحركة أكثر من نصف مليون طلب انتساب. وأصدر (فرحات عباس) صحيفة ناطقة باسم الحركة حملت اسم (المساواة). وعلى صعيد السلطة، وبنتيجة ضغط المستوطنين، تم إبدال الجنرال (كاترو) في نهاية شهر أيلول (سبتمبر) 1944. وحل محله في منصب الحاكم العام للجزائر السيد (ايفيز شاتينيو) وهو دبلوماسي محترف يعرف مشكلات الإسلام والعالم العربي معرفة واسعة، وكان من الأحرار المتبصرين بالأمور. غير أن المستوطنين لم يعجبهم أيضا تعيين هذا الحاكم العام الجديد. فأظهروا له العداء، كما أظهروا خصومتهم لقرارات 7 - آذار - مارس - 1944 (التي كان قد أعلنها

_ (*) ليل الاستعمار - فرحات عباس - ترحمة وليم خوري.

ديغول على أنها قرارات إصلاحية ورفضها الجزائريون). وكانوا إلى ذلك أعداء طبيعيين لحركة (أصدقاء البيان والحرية). ولم يكونوا يكتمون تصميمهم على إحباط هذه الاتجاهات بالجملة. وأثناء ذلك، كانت الحركة تمضي في سبيلها بنجاح، وكانت مجلة (المساواة) الأسبوعية التي انتظم صدورها منذ أيلول - سبتمبر - 1944، تحقق نجاحا كبيرا في نشر أفكار الحركة. غير أن وحدة الجماعة التي ضمت للمرة الثانية، المثقفين والعمال والعلماء والمعتدلين، لم تعمر طويلا. ففي المؤتمر العام الأول الذي عقدته في آذار - مارس - 1945، وقع خلاف بين مؤيدي كل من مصالي الحاج وفرحات عباس. فقد رغب أعضاء (حزب الشعب) الذين انضموا مؤخرا إلى الحركة في أن يحيوا الزعيم (مصالي) على أنه (الزعيم الأوحد للشعب الجزائري) وأيدوا فكرة إنشاء برلمان وحكومة جزائرية. أما فرحات عباس وغيره من المعتدلين، فقد أيدوا بقوة فكرة (قيام جمهورية جزائرية - مستقلة ذاتيا ومتحدة فيديراليا مع فرنسا) وهي الفكرة الأساسية التي قامت عليها الجماعة. ولكن جماعة حزب الشعب انتصروا في هذه المعركة العقائدية بأغلبية كبيرة، ففرضوا تعبيرهم على المحتوى الأكثر تطرفا في برنامج الجماعة. ورافق هذا التحول تصعيد في التوتر، بدأ مع بداية عام 1945. وفي تلك الفترة، عقد الممثلون العرب مؤتمرهم في مصر الجديدة - القاهرة -لبحث تأسيس الجامعة العربية، في آذار - مارس - 1945 وانعكس ذلك على صفحة الجزائر، فقد أثار هذا الحدث حماسة المجاهدين من جهة، كما حفز الإدارة الإفرنسية الاستعمارية

لزيادة ضغوطها لقمع الظواهر التحررية. وتصفيتها مرة واحدة وإلى الأبد - على حد زعمها - وكان الانفجار الكبير، المعروف باسم (مذبحة 8 - أيار - مايو - 1945 (والتي سيتم التعرض لها فيما بعد - في هذا الكتاب)) ورافق هذه المذبحة أعمال قمع رهيبة، وتم اعتقال عباس فرحات ومصالي الحاج وعدد كبير من الزعماء والمجاهدين والمناضلين، وألقي بهم في السجون والمعتقلات. عندما كانت الجزائر المجاهدة تضمد جراحها النازفة، قامت فرنسا بإجراء أول انتخابات في أعقاب الحرب العالمية الثانية - وذلك في تشرين الأول - أكتوبر - 1945 لتكون هذه الانتخابات - على حد زعم فرنسا - حلقة الاتصال الأولى بين فرنسا والجزائر. وقد طبقت إصلاحات عام 1944 (إصلاحات ديغول) لأول مرة في هذه الانتخابات التي جرت للجمعية التأسيسية، لوضع الدستور الإفرنسي. وأدت النداءات التي وجهها الوطنيون إلى الامتناع عن الاقتراع في دوائر انتخابات الدرجتين، بنسبة خمسين في المائة في مقاطعتي الجزائر وقسنطينة، وخمسة وثلاثين في المائة في وهران. وأحرز اتحاد المنتخبين المسلمين الذي يتزعمه الدكتور (ابن جلول) سبعة مقاعد من مجموع ثلاثة عشر مقعدا مخصصة لدوائر انتخاب الدرجتين ورفضت الجمعية التأسيسية الاقتراحات الاندماجية التي قدمها (بن جلول). وتركزت دراسها لموضوع الجزائر، في قضية العفو العام عن جميع أولئك الذين اشتركوا - أو بالأحرى اتهموا

بالاشتراك - في ثورة 1945. واقترعت على هذا العفو، وأطلق سراح معظم المعتقلين. قام فرحات عباس، بعد إطلاق سراحه بتأسيس (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري) في مدينة سطيف. ولم تكن المنظمة الجديدة، بخلاف جماعة أصدقاء البيان والحرية، تعتمد على قاعدة جماهيرية واسعة النطاق، ولكنها كانت تستهدف حمل لواء البرنامج الأصلي الذي تبناه البيان. وقد وجه (عباس فرحات) نداءه المشهور (إلى الشبيبة الجزائرية الإسلامية والإفرنسية) في اليوم الأول من أيار - مايو - 1946. ولم يكن هذا النداء مجرد تعبير عن وجهات نظر - عباس فرحات - المعتدلة فحسب، بل كان تعبيرا عن الأثر العميق الذي تركته مذبحة 1945 في نفسه وتفكيره. وقد بدأ - فرحات - بعرض حياته الطويلة في التعاون مع فرنسا، حتى يصل إلى القول: (وإذا قدر لفكرة واحدة، أكثر من غيرها أن تسيطر على حياتي العامة، فهي فكرة العمل والتبشير بتحقيق التعاون الإفرنسي -الجزائري، وتأييد الثقافة والتقنية الحديثة التي تشكل عنصر القوة التي لا مناص منها فيه ... وبقي الاتحاد في الديموقراطية، والأخوة في العدالة، هما عقيدتي السياسة، وسيظلان كذلك دائما وأبدا). ومضى إلى إنتقاد الإدارة الإفرنسية لمواقفها الرجمعية ضد كل محاولات الجزائريين لتحقيق هذا التعاون المنشود. وأدانها بجريمة التحريض على أحداث سنة 1945، واستفزازاتها، وتنظيمها للمتطوعين وارتكاب الفظاشع والمذابح وأعمال البطش والإرهاب ضد المسلمين الجزائريين، حتى وصل إلى القول: (لا

نريد اندماجا، ولا نريد سيدا جديدا، ولا انفصالا. وإنما نريد شعبا فتيا يتولى تثقيف نفسه اجتماعيا وديموقراطيا، محققا لها التطور الصناعي والعلمي، وحاملا رسالة بعثها فكريا وخلقيا، مرتبطا بشعب عظيم متحرر الفكر. نريد ديموقراطية فية في نشأتها، توجهها الديموقراطية الإفرنسية العظيمة. هذه هي الصورة بل التعبير الواضح لحركتنا الرامية لبعث الجزائر). ووصل إلى النقطة الدقيقة والحساسة من ندائه فقال: (وإذا لم تتمكن الشبيبة الجزائرية من التغلب على الفروق العنصرية القائمة بينها، فإنها ستنتهي إلى انتحار أخلاقي بصورة حتمية، مثقلة بالنتائج ... وإذا لم يتخلص الأوروبيون في الجزائر من مركبات الاستعمارية والاسعلاء التي تلازم الفاتح المحتل، فلن يكون بالمستطاع إقامة أي مجتمع جزائري). قرر حزب (الاتحاد الديمرقراطي لأنصار البيان الجزائري) الاشتراك في انتخابات الجمعية التأسيسية الإفرسية الثانية. وكان نجاح حملته الانتخاية رائعا حيث حصل على أحد عشر مقعدا من مجموع ثلاثة عشر مقعدا - لدوائر انتخابات الدرجتين - مع واحد وسبعين بالمائة من مجموع الأصوات. وقد مثلت هذه الانتخابات قمة قوة الحزب في الجزائر. بينما ظهر بوضوح أن الجماعات المطالبة بالاندماج، قد فقدت التأييد الذي كان لها في وسط جماهير الناخبين. وسرعان ما أوضح فرحات عباس موقفه بعد الانتخابات من المستقبل الفوري للجزائر. فقد واصل حملته على الدمج، وأكد وضوح الشخصية الجزائرية وأصالتها. ولم يؤيد قيام دولة إسلامية في الجزائر. وإنما أيد قيام دولة جزائرية

يكون فيها الجزائريون والأوروبيون متساوين في الحقوق. وتقوم على أساس اقتراع عام على درجة واحدة للجميع. وقدم فرحات في شهر آب - أغسطس - عام 1946، مشروع دستور للجزائر، إلى الجمعية التأسيسية لكن الجمعية رفضت البحث فيه. جرت انتخابات المجالس البلدية في الجزائر مع بداية سنة 1948. وعملت الإدارة الإفرنسية على تزوير هذه الانتخابات بشكل استفزازي ومثير، وكان رد فعل المسلمين الجزائريين عنيفا، وعندما عقدت الجلسة الافتتاحية (للجمعية الجزائرية) في نيسان - أبريل - 1948. وقف (عباس فرحات) ليرفع احتجاجه ضد إجراءات الاقتراع، وصضد اعتقال عدد من المرشحين - من بينهم عدد من مرشحي حركة انتصار الحريات الديموقراطية - كتلة مصالي الحاج -. لكن الأغلبية التي تمثل. المستوطنين الإفرنسيين تصدت لمجابهته ولم تسمح له بمتابعة احتجاجه، فما كان من (عباس فرحات) إلا أن انسحب من الجلسة، وانسحب معه ممثلو (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري). واتخذت (الجمعية الجزائرية) على أثر ذلك قرارا بطرد (عباس فرحات) وأخوانه من عضوية الجمعية. وهكذا عادت خيبة الأمل من جديد لتحبط تفاؤل الكثيرين من مثقفي الاتحاد الديموقراطي. وكتب السيد (أحمد بومنجل) وهو من زعماء الاتحاد الديموقراطي - (ومن الذين أصبحوا بعدئذ من زعماء الثورة البارزين) - كتب ما يلي: لقد خدعتنا الجمهورية الإفرنسية، واستغفلتنا، وسيستفيق

الإنسان ذات يوم، ليجد أن الجزائر قد انتقلت إلى صف الكتلة الشرقية، وسينتهز البعض آنذاك الفرصة للحديث عن التنكر للجميل، والبكاء على الآمال الضائعة، دون أن يكلف نفسه عناء التفكير في الأسباب والعوامل التي أدت إلى مثل هذا السلوك. وقد يحاولون آنذاك إيجاد الأعذار لتخفيف الذنوب والندامة، ولكن بعد فوات الأوان. ولا ريب في أن الخيار الذي يمليه اليأس، لا يمكن إلا أن يكون خيارا ضد فرنسا). وأدى عجز الاتحاد الديمرقراطي لأنصار البيان الجزائري عن الإسهام في حياة الجزائر السياسية، عن طريق تمثيله في الجمعية الجزائرية، وعجزه عن إرضاء مطالب أعضائه العادلة، إلى خلق أزمة خطيرة وحادة في صفوف الحزب. ولما كان هؤلاء يؤيدون الثورة عن طريق التطور، فلم يكن من السهل عليهم أن يبحثوا عن سبل أخرى غير المنظمات البرلمانية التي وقفوا أنفسهم عليها. انضم الاتحاد الديموقراطي في عام 1951، إلى أحزاب المعارضة الأخرى في محاولة للحصول على القوة عن طريق الاتحاد. واشترك الاتحاد مع حركة انتصار الحريات الديموقراطية - مصالي الحاج - وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين - الشيخ الإبراهيمي - والحزب الشيوعي الجزائري. وشكل الجميع (الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها). وحددت هذه الجبهة أهدافها بالتالي: ( 1 - إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في حزيران - يونيو - 1951.

2 - احترام حرية الاقتراع في انتخابات الدرجتين. 3 - احترام الحريات الأساسية للعقيدة والفكر والصحافة والاجتماع. 4 - مقاومة الاضطهاد بكل أشكاله وصوره. 5 - إطلاق سراح جميع المعتقلين والسجناء السياسيين. 6 - الفصل بين العقيدة الإسلامية والدولة). ولم يقدر للجبهة أن تعمر طويلا، شأنها في ذلك شأن جميع الجهود التي بذلت بعد الحرب لتحقيق الوحدة بين الوطنيين الجزائريين، كما أن (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري) لم يتمكن من كسب القوة التي أمل فيها أن يضمن إجراء انتخابات أكثر نزاهة. وعلى الرغم من اتحاد هذه الأحزاب في معارضتها للاستعمار، فقد كانت لها وجهات نظر متباينة في البرنامج الإيجابي للجزائر. وعندما سئل الاتحاد الديموقراطي في العام 1949 عن موقفه من الحزب الشيوعي الجزائري قال: (إنه رغم علاقته الوثقى بالحزب الشيوعي الإفرنسي، فهو الحزب الوحيد الذي حاول على الصعيد الفكري والصعيدين السياسي والاجتماعي، أن يفهم وأن يفسر إرادة الشعب الجزائري في التحرر. وهو، على هذا الأساس، يعتبر في هذه البلاد من المدافعين عن الحريات التي لم تسمح السلطات الاستعمارية حتى الآن بوجودها، ومع ذلك فقد لاحظ الاتحاد الديموقراطي، وجود خلاف في الرأي على السياسة الخارجية، إذ بينما يتبع الحزب الشيوعي السياسات الشيوعية، فإن الاتحاد الديموقراطي يتبنى سياسة الحياد بين الكتلتين. ويختلف الاتحاد عن الشيوعيين أيضا في طريقة التشكيل الحزبي، وفي المسألة العقائدية المتعلقة بالصراع الطبقي. وأشار الاتحاد أيضا إلى أن

الحزب الشيوعي لم يفلح في إقناع أعضائه الأوروبيين بأن الجزائريين في حاجة إلى تحرر وطني. ومع ذلك فقد وجد الاتحاد الديموقراطي أن التعاون مع الشيوعيين على الصعيد البرلماني - أمر معقول للغاية). وشعر الاتحاد بالنسبة إلى (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) باشتراك وثيق معها في المصالح، للدفاع الدائم عن الدين الإسلامي والدفاع عن اللغة العربية. واتفق الاتحاد الديموقراطي مع حركة انتصار الحريات الديموقراطية في ضرورة قيام اتحاد مع أقطار المغرب العربي الإسلامي - شمال أفريقيا -. ولكنه اختلف معها في أفضل الوسائل لتحقيق الاستقلال. فقد بقي فرحات عباس مؤمنا بالتطور. بينما بقي (مصالي الحاج في أعماقه إنسانا ثوريا. أخذت قوة الاتحاد الديموقراطي وحماسه للعمل يضعفان في بداية الحقبة المبتدئة بعام 1950. وفي المؤتمر الذي عقده منفذو الحزب في مدينة الجزائر في نيسان - أبريل - عام 1954، أشار فرحات عباس إلى النضال العملي الذي تقوم به تونس والمغرب ضد فرنسا، بينما تبدو الجزائر هادئة تماما ومضى إلى القول: (وفي الحقيقة فإن النقمة الشعبية عميقة الجذور، ولا ريب في أن الأيام المقبلة مشحونة بالنذر القاتمة ... ولقد أصبح القانون الأساسي لعام 1947 وثيقة ميتة، وهناك شبه إجماع بين الممثلين الجزائريين، في جميع المجالس المنتخبة، بأن سلطات الإدارة الإفرنسية في الجزائر تتصرف وفق أهوائها. وإذا استمرت باريس في رفضها القيام بدور الحكم، وإذا استمرت في دعمها لأعمال خرق القانون. أفلا يكون من حق الجزائريين

المشروع، أن يلجؤوا إلى آخر سبيل مشروع، وهو القوة؟) وتحدث عن دور الاتحاد الديموقراطي فقال: (يجب أن نقسم بأن سياسة التعمية الهائلة، والتدليس الشرير، التي غدت الجزائر ضحية لها منذ إعلان الإصلاحات، قد جعلتنا نختفي تقريبا. ولا ريب في أن من الواضح أن حزبا تقدميا أقام أعماله على أساس احترام الشرعية، ويخاصم الآخرين ويخالفهم تأييدا لفكرته - بالثورة عن طريق القانون - لا يستطيع أن يحرز أي تقدم، عندما تجعل السلطات العامة من مؤسسة الدولة مظهرا استبداديا. هذه هي مأساة حزبنا كلها). ومع ذلك فقد مضى عباس فرحات إلى القول: (إن مفهومنا للجزائر هو أن ترتفع إلى مرتبة الجمهورية التي تعمل على أن تكون نقطة التقاء بين الاسلام والمسيحية، مع ما ينطوي عليه هذا المفهوم من عزيمة مشتركة صادقة على العيش معا، والتعايش، كأساس ممكن تحقيقه ولا مناص منه). وخطط عباس فرحات لحزبه مهامه المستمرة في أن تكون إرضاء المطالب الفورية والدفاع عن المصالح الحيوية للطبقات العاملة، والاتصال بجماهير المسلمين وجموع الفلاحين ممن يصعب الوصول إليهم والاتصال بهم. وإقناع الأوروبيين ولا سيما الفقراء من المستوطنين بأنهم أيضا من ضحايا الإقطاعيين الأثرياء. وجه , (فرحات عباس) وحزبه، في الأشهر القليلة التي سبقت الثورة، عدة نداءات إلى فرنسا لأنها، حكمها الاستبدادي في الجزائر، وإقامة تعاون أخوي، والدعوة إلى مؤتمر في باريس، يمكن للمصالح المتضاربة في الجزائر أن تلتقي فيه. وأن تواجه

بعضها بعضا في جو سلمي. ولكن - جميع هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح. وفي تشرين الأول - أكتوبر - أشار عباس فرحات إلى أنه قد يمضي وقت طويل قبل أن تظهر إلى الوجود الجمهورية الجزائرية. وأنه يتحتم على (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري،، في غضون ذلك أن يعيد تنظيم جهازه. وأظهرت مالية الحزب عجزا كبيرا. وعلى الرغم من جميع هذه النذر والإشارات، فقد بوغت الاتحاد الديموقراطي بنشوب الثورة عندما أعلنت فعلا. يظهر العرض السابق أن السبب الأساسي لأزمة (معتدلي الاتحاد الديموقراطي) يعود إلى سياسة فرنسا الاستعمارية. فإن عناد فرنسا وإهمالها أدى إلى استقطاب الرأي العام الجزائري في اتجاه واحد هو اتجاه الثورة. ولم يعد هناك مجال للوطنية المعتدلة للبقاء بين جماعة (الأمعات) من مؤيدي فرنسا، وكان حتما لهذه الوطنية أن ترفد الثورة بقوتها، وبما توافر لها من عناصر مثقفة، كان لها دورها الكبير في توسيع القاعدة الاجتماعية للثورة. ... هنا، ومع انفجار الثورة، تجدر الإشارة إلى موقفي زعيمي التكتلين الرئيسين - موقف مصالي الحاج - زعيم حزب الشعب الجزائري (ثم حركة انتصار الحرية والديمرقراطية) وموقف عباس فرحات، زعيم حركة (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري). وفقا لما تتضمنه مقولتين فقط - في

جملة مقولاتهما التي ظهرت في أعقاب انفجار ثورة الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954. ... وصل فرحات عباس إلى القاهرة، وعقد مؤتمرا صحافيا يوم 25/ 4/ 1956. أعلن فيه انضمام (حزب البيان) إلى (جبهة التحرير الوطني) وتضمن بيان فرحات عباس ما يلي: (إن النظام الاستعماري هو عدونا الأساسي، والحرب لم تكن ضرورة طبيعية وحتمية، وإنما هي حرب فرضت علينا فرضا، ولهذا فنحن نتوجه بأنظارنا إلى الضمير الحر العالمي، وإلى الضمير الحر الإفرنسي بصورة خاصة. إن المفاوضة والتفاهم ليسا ممكنين بين الشعبين الجزائري والإفرنسي، بل هما مما يتمناه كل الأحرار في العالم. على أن هذا لا يمكن أن يكون محلا للخداع والتضليل بعد الآن. إن المفاوضات مع فرنسا لا يمكن أن تتم إلا مع ممثلي - جبهة التحرير الوطني - أي مع المجاهدين الذين يخوضون معاركهم الآن في سبيل حرية الشعب. إن من الضروري إعادة السلام إلى الجزائر، لأن حياة وطني جزائري واحد، وحياة شاب فرنسي مقاتل، لهما أثمن وأشرف من جميع امتيازات المستعمرين. إن كيان الجزائر مرتبط كل الارتباط بكيان تونس والمغرب - مراكش - ومن المعروف أن الغزو الإفرنسي للجزائر واحتلالها هو الذي استتبع الغزو الإفرنسي لتونس والمغرب. فكيف يتصور بعد هذا تحرر الجارتين تحررا حقيقيا مع بقاء الاستعمار الإفرنسي في الجزائر؟. فإما أن يتم تحرر الجزائر،

وإما أن يكون استقلال تونس والمغرب مجرد سراب خادع. لقد توحدت الآن جميع القوى الوطنية المجاهدة ضد الاستعمار في سائر بلاد المغرب العربي - الإسلامي - تحت قيادة موحدة. ولن تكون هناك بعد اليوم خلافات حزبية أو سياسية في الجزائر. لقد صهرت بوتقة الجهاد الجميع ضد العدو المشترك. إنني أعلن هنا، وعلى رؤوس الأشهاد، بأنه لن يكون بعد اليوم سلام أو هدنة أو هوادة، بل شدة متزايدة في الكفاح الذي فرضه الاستعمار علينا فرضا، إلى أن يتم القضاء على جميع المستعمرين الإفرنسيين، والمرتزقة العاملة في خدمتهم، وتتحرر الجزائر تحررا تاما). ووجه الزعيم (فرحات عباس) حديثه إلى الأقلية الأوروبية، فكان فيما قاله: (إذا انسحبت الجيوش الاستعمارية وأذنابها من الوطن الجزائري على الفور، وإذا لم تقم فرنسا بأي أعمال انتقامية ووحشية ضد المواطنين الجزائريين الأبرياء، فإن جيش التحرير الوطني سيضمن لكم الحرية والأمن والمساواة. أما إذا أصرت الجيوش الإفرنسية على متابعة أعمالها الوحشية الفظيعة التي ترتكبها الآن، فإن فرنسا وحدها ستكون مسؤولة عن رد الفعل العنيف، وعن نتائجه الخطيرة، بل إن الوطنيين من أبناء المغرب سينقلون الحرب إلى أراضي فرنسا ذاتها). ثم حمل الزعيم (فرحات عباس) اعلى مجموع الدول الاستعمارية التي تدعم الاستعمار الإفرنسي بالمال والسلاح قائلا: (لقد لاحظت الشعوب العربية في شمال أفريقيا، بأن هذه الدول الاستعمارية التي تنادي بالانتصار للحريات الفردية، وحقوق الإنسان هي ذاتها التي تساعد الاستعمار الإفرنسي للقضاء على هذه

الحريات. تلك المبادى، التي تجاهد الشعوب العربية الآن لبلوغها. ومن المؤكد أن - هذه الحرب القذرة، كانت قد انتهت، لو لم تبادر منظمة (حلف شمال الأطلسي) إلى إنقاذ الاستعمار الإفرنسي من موته المحتوم. إننا نطلب باسم العدالة الإلهية إلى جميع أحرار العالم أن يمتحنوا ضمائرهم في هذه اللحظات الرهيبة. إنا نعلم أننا لسنا وحيدين في هذه المعركة الضارية. إن لنا أصدقاءنا وأنصارنا في كل الشعوب الأخرى. ونحن نتقدم بهذه المناسبة بأجزل الشكر وأعظم الامتنان للشعوب العربية والآسيوية التي أيدتنا بكل قواها. ولسائر الشعوب الأخرى التي أبدت عطفها على قضيتنا الكبرى. وأن الشعب الجزائري لن ينسى هؤلاء الأصدقاء أبدا). وختم الزعيم فرحات عباس تصريحه بقوله: (نحن مستعدون للتفاوض مع فرنسا بإسم جبهة التحرير الوطني، ولكننا نضع لذلك شرطا واحدا: إعتراف فرنسا بكيان الشعب الجزائري وقوميته) (*). ... وكان زعيم الحركة الوطنية الجزائرية (مصالي الحاج) قد صرح قبل ذلك بفترة قصيرة - بما يلي: (... لن تنتهي الحرب الاستعمارية في الجزائر، حتى لو جندت فرنسا لها نصف مليون جندي. وإذا لم يحصل الشعب الجزائري على استقلاله، فإن تأزم الوضع سيهدد السلام العالمي كله. لقد أصبحت مشكلة

_ (*) صحيفة لوموند - الإفرنسية - 26/ 4/ 1956.

الجزائر ذات أهمية خاصة بالنسبة لحلف شمال الأطلسي. وربما وقف العالم كله ضد الحلف المذكور بسبب السياسة الإفرنسية. لقد اندلعت الثورة الجزائرية من داخل الجزائر، وبفضل حيوية الشعب الجزائري ذاته، ولكنها تستطيع بدهيا الاعتماد على ما تتلقاه من دعم الشعب المصري وشعوب المغرب خاصة. ولكن، حتى لو استطاع الإفرنسيون إغلاق جميع الحدود الجزائرية، وهذا أمر من المحال تحقيقه، فإن الثورة الجزائرية لن تتوقف وستستمر. كما أن فكرة إدخال الجزائر في (كومنولث إفرنسي) على غرار النظام البريطاني - هي فكرة قد تجاوزها الزمن، ولن تعود عجلة الزمن إلى الوراء. إن شمال أفريقيا هو داخل النطاق الاستراتيجي لمنظمة حلف شمال الأطلسي - شئنا ذلك أم أبينا - ولا يمكن أن نتعاون مع فرنسا ودول الغرب إلا بقدر مساعدتها لنا من أجل الوصول إلى الاستقلال (؟) وأن انتصار الحرية في أفريقيا الشمالية سوف يضع حدا لكل الخلافات القائمة بين فرنسا والعالم العربي. ويجب أن لا تنسوا إمكانية تحويل أفريقيا الشمالية إلى ساحة إنشاء وبناء للعالم الغربي. لأنها سوق هائلة تضم أكثر من ثلاثين مليون عربي) (*). ... ومقارنة مضمون التصريحين - أو البيانين - تغني عن كل تعليق

_ (*) صحيفة لومرند 3/ 16/ 1956.

الحزب الشيوعي

5 - الحزب الشيوعي تأسس الحزب الشيوعي في الجزائر سنة 1924، وظل خمسة عشر عاما، فرعا من الحزب الشيوعي الإفرنسي. وحصلت المجموعة الجزائرية في مؤتمر (فيليربان) الذي عقد في فرنسا سنة 1935 على الحق في إنشاء حزب مستقل، وإن ظل هذا الحزب يتلقى تعليماته من موسكو عن طريق فرنسا. ومر الحزب الشيوعي في الجزائر منذ العام 1935 بسلسلة من التقلبات والتناقضات. ففي العام 1936، أيد الحزب المطالب التي تضمنها الميثاق الذي وضعه (المؤتمر الإسلامي) في الوقت الذي كان يؤيد فيه مقترحات (بلوم - فيوليت). وأعلن (موريس توريز) الزعيم الشيوعي الإفرنسي في المؤتمر السابع للحزب الإفرنسي في سنة 1938: (أنه لن تكون هناك سلامة لشعوب المستعمرات خارج نطاق الاتحاد الذي لا مناص منه مع الديموقراطية الإفرنسية). وبالطبع كان هذا الموقف انعكاسا لاشتراك الحزب في حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا - والتي ضمت كل الأحزاب اليسارية - وانتقل الحزب الشيوعي الجزائري من موقعه المناوىء للنازية في عام 1938، مع غيره من الأحزاب الشيوعية في العالم، إلى موقف المناوىء للاستعمار

بعد توقيع المعاهدة (الميثاق النازي - السوفيتي) في عام 1939. وصدر قرار في العام نفسه باعتبار الحزب غير مشروع، في نفس الوقت الذي صدر الأمر بحل (حزب الشعب الجزائري)، الذي يتزعمه (مصالي الحاج) وشرع يعمل سرا. عندما انتهت الحرب، وأطلق سراح الشيوعيين المسجونين أو الموجودين في معسكرات الاعتقال في الجزائر (في العام 1944). واستأنفوا حياتهم السياسية من جديد. احتل الشيوعيون في فرنسا مكانتهم في ذروة القوة التي وصلوا إليها بعد الحرب بفضل الدور الذي مارسوه في حركة المقاومة السرية ضد الاحتلال النازي. وكان الحزب الشيوعي الإفرنسي لا يزال مركزا جهده الأساسي ضد النازية. وفي حزيران - يونيو - عام 1944. كتب (أتيين فاجون) العضو الأوروبي في المكتب السياسي للحزب الجزائري في مجلة (الحرية) لسان حال الحزب، ما يلي: (يحاول هتلر، رغبة منه في إضعاف العون الذي يبذل للشعب الإفرنسي في هذه الدقيقة الحرجة، تقوية حملته الإذاعية العربية، داعيا الجزائريين، وأهل شمال أفريقيا إلى الانفصال عن فرنسا. ويقوم عملاء العدو هنا بالدعوة إلى الانفصالية في نفس الوقت الذي يثيرون فيه الأحقاد بين الأوربيين والجزائريين - وليست جماهير الشعب هي التي تنادي الآن بالاستقلال الذاتي بل جماعات الإقطاعيين وكبار أصحاب الملايين ورجال الاحتكارات) (*).

_ (*) الجزائر الثائرة - غيلسبي - ترجة حماد ص 84 - 86.

الأمر الواضح هو أن الحزب الشيوعي قد انساق لتيار الانتهازية السياسية، مما جعل مواقفه العملية مناقضة لمنطلقاته النظرية (الماركسية - اللينينية). ولتغطية هذا التناقض، تبنت الشيوعية الإفرنسية النظرية الاستعمارية ذاتها. فقالت بأن (الهدف النهائي للحزب الشيوعي هو تصفية الاستعمار) غير أن الوصول إلى هذا الهدف يتطلب قبل كل شيء الارتفاع بمستوى الشعوب حتى تصبح قادرة على حكم نفسها (نظرية الانتداب والوصاية) وحتى تصل إلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي الذي يضمن لها الاستقلال الحقيقي. وهذا ما عبرت عنه المقولة التالية: (إذا كان من حق الشعوب الانفصال عن فرنسا، فإن انفصال الشعوب الخاضعة للاستعمار في اللحظة الراهة سيكون ضد مصلحة هذه الشعوب ذاتها. ويرغب الشيوعيون الإفرنسيون بصدق وإخلاص التعبير عن وجهة نظرهم الواقعية وهي أن شعوب أفريقيا الشمالية، لم تندمج بالأمة الإفرنسية على النحو الذي حددناه وأردناه، غير أن من مصلحة هذه الشعوب ربط مصيرها بمصير فرنسا الجديدة) (*). ومن هذا المنطلق ذاته - منطلق الانتهازية السياسية - وقف الاشتراكيون والشيوعيون لدعم مركزية الاتحاد الإفرنسي مع دول ما كانوا يطلقون عليها اسم (دول ما وراء البحار) وعارضوا بقوة انفصال

_ (*) Cours de l'école élémentaire du (Partie communiste Français (P.C.F.: La nation française, Paris 1944. P.12

الشعوب. واشترطوا لمثل هذا الانفصال، وفقا لما تضمنه دستور 1946، حدوث تفاهم واتفاق بين الحكومة الإفرنسية، في المستقبل، وبين الزعماء المؤهلين في البلاد الخاضعة للاستعمار. وهو ما نصت عليه الفقرة التالية: (لا يمكن للروابط التي تربط بين فرنسا من جهة وبين كل بلد من بلدان ما وراء البحار من جهة ثانية، إلا أن تكون نتيجة اتفاق تعاقدي ومفاوضات بين الحكومة الإفرنسية وبين ممثل هذه البلاد المؤهلين. ويجب أن يكون هذه الاتفاق الذي نعنيه، اتفاقا شاملا لكل الروابط السياسية منها والاقتصادية والثقافية الخ ... وستجد شعوب ما وراء البحار نفسها مرغمة منذ تحررها على مجابهة المشكلات الكثيرة وأبرزها المشكلات الثقافية والاقتصادية مما يدفعها إلى التفاهم مع فرنسا لتسوية هذه الأمور وتبادل المساعدات ضمن أفضل الشروط؟) (*). دبرت فرنسا بعد ذلك مذبحة (8 أيار - مايو - 1945) في قسنطينة وقالما وسطيف، وكان وزير الطيران الشيوعي هو الذي أصدر أوامره لقصف المدن الجزائرية وتدميرها وإبادة العرب المسلمين فيها. وبينما كان الشعب الجزائري يعاني أقسى ظروف المحنة المأساة، وجهت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإفرنسي، نداء في يوم 12 - أيار - مايو (أي بعد أربعة أيام فقط من المذبحة) إلى شمال أفريقيا اتهمت فيه زعماء الجزائر (مصالي الحاج زعيم حزب الشعب - وسواه من الزعماء

_ (*) La décolonisation (1919 - 1963) H.Grimal . P.147

الآخرين) بتهمة الجاسوسية، وحملتهم مسؤولية المذبحة. وبعد مضي شهر تقريبا، ذكر مندوبو الحزب الجزائري في المؤتمر العاشر للحزب الإفرنسي: (بأن الذين يطالبون باستقلال الجزائر هم عن وعي أو غير وعي، عملاء لدولة استعمارية أخرى ... ويعمل الحزب الشيوعي الجزائري، ويناضل، لتقوية أواصر الوحدة بين الشعب الجزائري والشعب الإفرنسي). وأعلن رئيس قسم المستعمرات في الحزب الإفرنسي - في المؤتمر نفسه -: (بأن من الواجب استنكار مؤامرة أولئك الراغبين في فصل الجزائر، وفي خلق الشكوك بينهم وبين فرنسا الديموقراطية؟). وكان الحزب الشيوعي الجزائري يؤيد بقاء السادة الإفرنسية وسياسة الدمج في الفترة الأولى التي سبقت الحرب العالمية الثانية، لأن الشيوعية السوفيتية كانت تأمل في أن تكسب فرنسا وجميع مستعمراتها في العالم كتلة واحدة عن طريق ثورة بروليتارية شاملة. ولكن انتخابات عامي 1945 و1946 في الجزائر أثبتت أن جماهير الشعب الجزائري لا تؤيد أولئك الذين يطالبون بدمج بلادهم مع فرنسا. وإذا كان الشيوعيون يرغبون في أن يكسبوا لهم مكانة بين الجزائريين، فإن عليهم أن يجروا تعديلا في موقفهم هذا. وقد حدث هذا التعديل فعلا في أواخر عام 1946. غير أن هذا التعديل لم يكن جذريا وإنما كان إصلاحيا، وتأكد ذلك بنتيجة حوادث القمع التي تعرض لها الوطنيون الجزائريون، حيث عاد الحزب الشيوعي ليعلن في أيلول (سبتمبر) 1947 موقفه الذي عبر عنه بالتالي: (يعارض الحزب الشيوعي فكرة استقلال الجزائر، وهي الفكرة التي

يطرحها حزب الشعب الجزائري - مصالي - ويدافع عنها. ولا يمكن للشيوعيين دعم تجزئة الحركة الجزائرية الوطنية التي تطالب بالاستقلال الفوري للجزائر، ذلك لأن مثل هذه المطالب لا تخدم المصالح الجزائرية، ولا تخدم المصالح الإفرنسية) (*). وأمام هذه المواقف، اتضحت للوطنيين الجزائريين أوهام المخطط الشيوعي، والطبيعة الانتهازية التي سار عليها الحزب في سياسته. وتأكد لهم بأن الأحزاب الأوروبية قد انتهجت في الحملات الانتخابية التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية في الجزائر، سياسة مماثلة تماما لتلك التي كان يتم انتهاجها في فرنسا. ولو أن الحزبين الاشتراكي والشيوعي قد حاولا في دوائر انتخاب الدرجتين منافسة الأحزاب الجزائرية الوطنية للحصول على أصوات الجزائريين، الأمر الذي دفعهما إلى طلاء برامجهما بطلاء خادع، لم تلبث مسيرة الأحداث أن كشفته وعملت على تعريته. لكن ذلك لا يمنع من القول أن الاشتراكيين قد حققوا بعض المكاسب في الفترة من سنة 1945، إلى سنة 1948 بفضل دعم الحاكم العام الاشتراكي لهم، الأمر الذي ساعدهم على اجتذاب بعض المثقفين ممن كانوا يأملون في إقامة تعاون مثمر بين فرنسا والجزائر. ومقابل ذلك، فقد حقق الحزب الشيوعي نجاحا أكبر في التوغل بين طبقات العمال، حيث أمكن له ضم عدد لا بأس به إلى صفوفه. غير أن هذا العدد - في الجزائر - بقي محدودا ولم يكن له ثقله في التأثير على مسيرة

_ (*) Cahier du communisme, septembre 1947. P.851.

الأحداث. وعلى هذا لم يكن من الغريب أن يباغت انفجار الثورة (سنة 1954) الحزب الشيوعي - قدر مباغتته لكل الأحزاب الإفرنسية سواء بسواء. وكان رد فعل الحزب الشيوعي معروفا. فقد اعتقد هذا الحزب في البداية، أن الثورة ليست أكثر من حركة ضعيفة قام بها بعض قطاع الطرق أو العصاة (الفلاقة). وأعلن الحزب الشيوعي شجبها والوقوف ضدها بقوله: (إن الحزب لا يوافق على دعم الحركات الفردية والمشبوهة والتي تحاول لعب الدور السيء في الحركة الاستعمارية). وعندما تبين له رسوخ قدم الثورة، وثباتها، وعمق جذورها، تبنى قضية إجراء مفاوضات مع الجزائريين للخروج من المأزق، وعلى أساس أن تضمن هذه المفاوضات إبقاء الروابط القائمة بين فرنسا والجزائر، ومن هذا المنطلق، ألقى الحزب الشيوعي بثقله في معركة انتخاب فرنسا سنة 1956 - لمصلحة (غي موليه). وتضمن بيان الحزب الشيوعي ما يلي: (إننا نعلن موقفنا إلى جانب إبقاء الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية القائمة بين فرنسا والجزائر. واضعين في اعتبارنا أن هذا الموقف يتوافق مع مصالح الشعب الإفرنسي قدر توافقه مع مصالح الشعب الجزائري ومع مصالح القسم الأكبر من الأوروبيين المستوطنين في الجزائر). لقد منع الحزب الشيوغي أعضاءه من الالتحاق بالثورة أو الانضمام إليها ودعمها. لكن عددا كبيرا منهم مزق (هويته الشيوعية) وانضم إلى صفوف الثوار - بصورة فردية - وفتحت الثورة (ممثلة بجبهة التحرير وجيش التحرير) المجال الواسع لكل

جزائري من أجل الإسهام ببناء جزائر المستقبل. لكن ذلك لم يمنع قيادة الثورة من الرد على موقف الشيوعيين (الشوفينيين) ردا مناسبا. سواء في بيان مؤتمر الصومام، أو في البيانات والمواقف التالية - وفقا لما سيرد ذكره في حينه - ورفضت قيادة الثورة الدخول في المساومات التي تحرف الثورة عن أهدافها الأساسية.

الفصل الثاني الكفاح الوطني المسلح

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} الفصل الثاني الكفاح الوطني المسلح 1 - نقطة التحول - مذبحة 8 أيار - مايو - 1945. (أ) من وثائق الحدث التاريخي. (ب) شهادة الوزير الإفرنسي (آلان سافاري). (ج) (اليوم الرهيب) في ذكريات أحمد توفيق المدني. (د) للمجزرة تتمة. (د) في ذمة التاريخ. 2 - العمل السياسي السري. (أ) (الشرف العسكري) أو (التنظيم الخاص). (ب) اللجنة الثورية للوحدة والعمل. (ج) القادة التاريخيون. 1 - مصطفى بن بولعيد. 2 - محمد العربي بن مهيدي. 3 - أحمد بن بللا. 4 - كريم بلقاسم. 5 - رمضان عبان.

نقطة التحول مذبحة 8 أيار (مايو) 1945

1 - نقطة التحول مذبحة 8 أيار (مايو) 1945 أحدثت الحرب العالمية الثانية تغيرات كثيرة في علاقات دول العالم بعضها ببعض، كما حدثت تبدلات كثيرة في موازين القوى، ولم تعد الدول العظمى التي كانت قبل الحرب، هي ذاتها الدول العظمى في عالم ما بعد الحرب، لا سيما عندما تكون إحدى هذه الدول العظمى قد تعرضت للإحلال والقهر - وأبرز نموذج لها فرنسا ثم بلجيكا. كما لم تعد الشعوب المقهورة في عالم ما قبل الحرب، هي ذاتها عندما انتهت الحرب العالمية الثانية. فقد مست العصا السحرية شعوب العالم الخاضع للاستعمار، فعرفت هذه الشعوب قدراتها وإمكاناتها، وكشفت وهم (تفوق الرجل الأبيض - الأوروبي) وعرفت حقيقة القوة الوهمية للاستعمار. وجاء تكوين هيئة الأمم المتحدة، وبيان حقوق الإنسان والدول وتعهدات أمريكا والاتحاد السوفييتي لتحدد معالم عالم جديد في علاقاته يختلف عن ذلك العالم عالم الاستعمار - الذي عاش طوال القرن التاسع عشر، بكل ضراوته ووحشيته، وزاده عنفا ما حققه من مكاسب طوال النصف الأول من القرن العشرين. غير أن الاستعمار الإفرنسي - على وجه التحديد - لم يدرك عمق هذه التحولات، ولم يحاول التعرف على أبعادها، فمضى في طريقه محاولا إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.

لقد ظنت فرنسا أنها تستطيع بقواتها العسكرية (إعادة فتح البلاد التي كانت خاضعة لاستعمارها) فمضت في الإعداد لاستخدام هذه القوة. وجاء عيد الأول من أيار - مايو - 1945 موعدا احتفل فيه العالم كله بانتصار الحلفاء. وحدث في هذا اليوم، أن ارتفعت الأعلام السورية - في الملعب البلدي - بدمشق، وارتفع العلم الجزائري - علم الأمير عبد القادر - في شوارع الجزائر، وكان سلوك السلطات الإفرنسية واحدا في البلدين، فقد دفعت هذه السلطات جنودها المرتزقة لتفريق المتظاهرين. وسقط بعض الشهداء في البلدين، دمشق والجزائر. تلك كانت البداية. ثم بدأت الأحداث بالتطور. أرسلت فرنسا يوم 4 أيار - مايو - 1945 نجدة إلى قواتها في سوريا ولبنان تضم (800) جندي. وفي يوم 17 أيار - مايو - وصل الطراد (جان دارك) إلى بيروت يحمل قوة دعم جديدة تضم (5100) جندي بكامل أسلحتهم. وخلال ذلك كانت أعمال الاستفزاز تتعاظم، في دمشق خاصة وفي سائر المدن السورية عامة. حتى إذا ما جاء يوم 29 أيار - مايو - قامت القوات الإفرنسية بقصف دمشق بالقنابل، ودفعت جندها لإبادة حرس المجلس النيابي - البرلمان - وكانت مذبحة رهيبة، غير أن المقاومة استمرت، واستطاعت معظم المحافظات السورية السيطرة على الموقف وعزل القوات الإفرنسية وتطويقها. وأصبح الموقف خطيرا يتهدد فرنسا بأكثر مما يتهدد سوريا. وتدخلت إنكلترا كوسيط. واتخذ قرار في مجلس الأمن بإجلاء القوات الأجنبية عن سوريا (وتم ذلك في 17 نيسان - أبريل - 1946

(أ) من وثائق الحدث التاريخي

عيد الجلاء). غير أن الأحداث في الجزائر تطورت بصورة عكسية لأسبارب كثيرة أبرزها: 1 - قرب فرنسا من الجزائر وتوافر الإمكانات لزج قوات ضخمة في المعركة. 2 - وجود طابور خامس قوي يشكله المستوطنون الإفرنسيون - بالدرجة الأولى -. 3 - وجود قواعد برية وجوية وبحرية خاصة بالإفرنسيين. وكان من نتيجة ذلك، شعور فرنسا بقدرتها على الإمساك بالمبادأة العسكرية. وإجراء المذبحة الرهيبة المعروفة بمذبحة 8 أيار. وقد يكون من المناسب عرض الموقف بالدقة التي عرضتها فيها باحثة جزائرية، عالجت هذا الحدث التاريحي بالتالي: (أ) من وثائق الحدث التاريخي (*): كان من جملة ما أسفرت عنه الحرب العالمية الثانية، وبلادنا - الجزائر - كانت مسرحا من مسارحها، ذلك الوعي السياسي الذي تفجر فيها، كما تفجر في كثير من الشعوب المحكومة، فقامت تسارع للحرية والتحرر، لا تبتغي عنها ردا، ولا عدولا، ولا ترضى بغيرهما بديلا. وكان لا بد لهذا الاتجاه الشعبي العارم من منظمة سياسية تحتويه صقلا، وتسعه تنظيما، وتستوعبه توجيها، وتعده ثورة جامعة تحقق تلك الأهداف السامية التي طالما تطلبتها الأمة، ونشدها الشعب، وتغنت بها الجماهير.

_ (*) البحث هنا منقول كما ورد في (مجلة التاريخ) الصادرة عن المركز الوطني للدراسات التاريخية - الجزائر رقم 4 أبريل - 1977، ص161 - 175 للباحثة السيدة نادية حرز الله تحت عنوان (حول حوادث 8 ماي 1945).

ولم تكن في الجزائر، آنذاك منظمة أخرى من هذا الوزن، إلا منظمة حزب الشعب الجزائري، سليل حزب (نجم شمال أفريقيا) الذي يرجع تأسيسه إلى سنة 1924. ولكن هذا الحزب كان منحلا إداريا، مطاردا بوليسيا، غير معترف به قانونيا، تتعقبه السلطات الاستعمارية بالقمع والتهديد والوعيد. وكانت الكثرة الكثيرة من أعضائه في غياهب السجون، ومن هنا لازم السرية، واتخذ له العمل في الخفاء والظلام سياسة مخططة، وهذا من حملة ما أعطاه ثقة. الجماهير، وألبسه شيئا غير قليل من القوة في العمل، والبأس في المبادرة، والتضحية في تحمل المسؤولية وأفكار الذات في القيام بأعباء الرسالة القومية التحريرية الوطنية) ومن أعماله الجريئة، اتصاله بممثلي الحلفاء: روسيا، وأمريكا، وإنكلترا، بمجرد نزول الحلفاء في الجزائر يوم 8 تشرين الثاني - نوفمبر - 1942. بل والأصح أن الاتصال بهؤلاء تم قبل نزول الحلفاء في بلادنا - الجزائرية - بعدة أشهر. ومذكرة (حزب الشعب الجزائري) لممثلي الحلفاء هي التي أصبحت في العاشر من شهر شباط - فبراير - 1943، وبعد تحوير وحذف وبتر، تدعى (بيان للشعب الجزائري) الذي قدم بدوره في 31 آذار - مارس - من نفس السنة إلى (الجنرال كاترو) االحاكم العام الإفرنسي في الجزائر، والجلاد المعروف في سوريا ببطشه وجبروته وتعطشه للدماء، وممثل لجنة التحرير الإفرنسية التي كان يتزعمها الجنرال ديغول عامئذ. جاء إنزال الحلفاء في الجزائر ليقطع الروابط بينها وبين فرنسا. فكان هذا حافزا، يضاف إلى حافز هزيمة فرنسا أمام

الألمان سنة 1940، وذلك من أجل دفع جماهير الشعب الجزائري للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الذين كانت تفيض بهم السجون والمعتقلات. وهذا ما كانت تصوره المعلقات والمنشورات السرية التي كانت تنشر وتعلق مطالبة بحق تقرير المصير، وفقا لما جاء في المادة الثالثة من (ميثاق الأطلسي) بين روزفلت وتشرشل سنة 1941. وجاء الجنرال ديغول من (برازافيل) إلى (قسنطينة) يوم 12 كانون الأول - ديسمبر - 1943. واتخذ من الجزائر، مركزا له ولقيادة أركان حربه، حتى يكون كما قال: (في وسط المعركة). وألقى خطابه المعروف يوم وصوله إلى (قسنطينة). وهو الخطاب الذي حاول فيه خداع الجزائريين من جهة، وكسب الوقت مع الحلفاء من ناحية أخرى، ولكنه بخطابه ذلك خسر الناحيتين. ولما أسقط في يديه، ورأى أنه قد ضل السبيل، أمر بتكوين لجنة الإصلاحات الإسلامية والتي ضمت ثمانية عشر شخصا، ستة من فرنسيي فرنسا وستة من فرنسيي الجزائر، وستة من الجزائريين، وفي كانون الثاني - يناير - 1944. استمعت اللجنة بأعضائها الثمانية عشر، التي شملت ممثلي جميع الأحزاب القاتمة آنذاك، مثل (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين)، و (حزب الشعب الجزائري) و (أصدقاء البيان والحرية) و (ممثل وادي ميزاب). وأسفرت أعمال هذه اللجنة الإصلاحية عن قرار 7 آذار - مارس - سنة 1944، الذي (تكرم) فيه الجنرال ديغول على حوالي أربعين أو خمسين ألفا من المسلمين الجزائريين بإخراجهم من الجنسية الجزائرية العربية - الإسلامية، وإدماجهم في

الجنسية الإفرنسية مع إعطائهم حق التمتع بحقوق المواطن الإفرنسي، حتى لكأن الجزائري لا يرقى إلى درجة المتمتعين بالحقوق والحريات إلا إذا تخلى عن جنسيته وأصالته، وإلا إذا تنكر لعروبته وإسلامه، وإلا إذا تحلل من كل ما يربطه بثقافته وتاريخه وأمجاده، فقلب ظهر المجن لشخصيته، ولتراث آبائه وأجداده، وأصبح إفرنسيا عدوا لقومه وماضيه وحاضره ومستقبله. وكان الجزائريون يحسبون أن مشاريع الإدماج والإلحاق ومحاولات محو الشخصية الجزائرية قد ماتت إلى الأبد، منذ أن تم دفن مشروع (بلوم - فيوليت) سنة 1936، غير أن الاستعمار لا يبرأ من أمراضه المزمنة، ولا يعرف الشفاء إليها سبيلا. ومن ثم، فها هو الجنرال ديغول يبعث المشروع الدفين تحت التراب من جديد، جاعلا من سياسته التي رمى بها بلا مبالاة في وجه شعب عريق، شهدت له الدنيا قديما وحديثا بعراقته وأصالته، وبمحافظته واستماتته في التمسك بتلك العراقة، وبتلك الأصالة، كلفه ذلك ما كلفه. وأمام هذه الخطة الديغولية الشريرة، اجتمع قادة (حزب الشعب الجرائري) وتدارسوا الموقف، وقرروا الاتصال (بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين) و (بحزب أصدقاء البيان والحرية) - وهو التنطيم الوحيد الذي كان معترفا به من جانب السلطات الإفرنسية. وتم الاتفاق على العمل المشترك ضد المخططات الجديدة القديمة. أدى تعاون (حزب الشعب الجزائري) مع منظمتي العلماء والبيان، إلى زيادة نشاط العمل السري، وهو العمل الذي اعتمد على خلايا حزب الشعب الجزائري المنحل والمطارد من طرف السلطات الاستعمارية، والذي ما زاده القهر والاضطهاد

إلا تدعيما وتثبيتا وانتشارا وامتدادا وعمقا في أوساط الجماهير. وها هي الخلايا السرية الآن قد انطلقت للعمل وقد جعلت من انخراط أفراد حزب الشعب بالجملة في حزب (أصدقاء البيان والحرية) ستارا لها، تتذرع به، وتحتمي خلفه، للقيام بالاتصالات العلنية مع الجماهير. الأمر الذي ساعد - أولا - على بسط اليد ووضعها على خلايا أصدقاء البيان والحرية وتنظيماتها. وثانيا - إحكام الاتصال بالخلايا السرية ودعمها، وإمدادها بالموجهين والتعليمات والعدد والمعدات، وبهذه الوسيلة، أمكن التوسع بإصدار المنشورات، وتوزيع الجريدة السرية لحزب الشعب. أصبح (العمل الجزائري). (*) في متناول الخلايا، التي نشرت قاعدتها عبر القطر من أقصاه إلى أدناه، ومن شماله إلى جنوبه. ولم تكد سنة 1945 تستهل حتى عقد أول اجتماع تحضيري باسم (أصدقاء البيان والحرية) بمقره المطل على (مسجد كتشاوة). وفي هذا الاجتماع، تم وضع الأسس الرئيسية لمؤتمر عام 1945، لتنظيم خلايا هذا الحزب وفروعه وتشكيلاته على المستوى الوطني. وعقد هذا المؤتمر أيام 2 و3 و4 آذار - مارس - 1945 بمقر نادي المولودية، بميدان شارت بالعاصمة (نهج عمار القامة حاليا). وأسفرت أعماله عن لائحة سياسية نشرت في الصحف، ووزعت على وكالات الأنباء، وعلى ممثلي الحلفاء، وقدمت للسلطات الإفرنسية (في الولاية العامة،

_ (*) العمل الجزائري: (Action Algérienne).

الجزائر). وتضمن البيان - فيما تضمنه - ما يلي: (... إن أصدقاء البيان والحرية، المجتمعين أيام 2 و3 و4 آذار - مارس - سنة 1945. يؤكدون بأن بيان الشعب الجزائري المؤرخ في العاشر من شهر شباط - فبراير - سنة 1943، والمقدم للسلطات الإفرنسية يوم 31 آذار - مارس - 1943، يبقى هو القاعدة الأساسية لأعمالهم السياسية. وإنهم ليذكرون بأن البيان قد جعل من مبادئه الاعتراف بالجنسية الجزائرية، ووضع دستور جزائري ديموقراطي جمهوري. ويأسف المؤتمرون على أن هذه المبادىء، بعدما وافقت عليها السلطات الإفرنسية في ذلك الوقت ورطبت بها، لم تحترمها، وراحت تتمادى في اتباع سياسة مخالفة لتطلعات الشعب الجزائري، محاولة بذلك إرغامه على الخضوع لسياسة الدمج. ويقر المؤتمرون بأن السياسة الوحيدة الرشيدة هي التي تقام على احترام إرادة الشعوب. ومن هنا، فمن غير المعقول أن يخاطر بمستقبل شعب بكامله، دون استشارته، وبغير نيل رضاه ... ولذلك، وعملا بما يفرضه الضمير، وتحديدا للمسؤولية، ورغبة في المشاركة بصنع سياسة قائمة على حسن التفاهم، يطالب المؤتمرون بإنجاز المطالب المستعجلة التالية، كقاعدة أساسية يبنى عليها في الغد القريب صرح الأمة الجزائرية: أولا: استبدال المجالس الجزائرية المعروفة بمجلس النواب (برلمان). ثانيا: استبدال الولاية العامة بحكومة جزائرية تكون مسؤولة أمام مجلس النواب الجزائري (البرلمان).

ثالثا: الاعتراف بالعلم الجزائري ... الخ ... وبدلا من استجابة السلطات الإفرنسية لمطالب الشعب الجزائري، فقد مضت في تصعيد إجراءاتها التعسفية وزيادة استفزازاتها العدوانية، والمضي قدما في سياسة القمع والإرهاب والتقتيل والتشريد. الأمر الذي أدى إلى تظاهرات الفاتح من أيار - مايو - السلمية، والتي استرعت انتباه الروس والأمريكيين والإنكليز الذين كانت لهم اتصالاتهم بممثلي أصدقاء البيان .. وكانوا حتى ذلك اليوم لا يصدقون بأن جماهير الشعب تقف معه، وتنقاد لأوامره، وتستجيب لنداءاته، وتدعم مطالبه بالاستقلال والحرية والانفصال عن فرنسا. منصرفة في ذلك عن سياسة المعتدلين، كافرة بسياسة الإصلاحات والداعين لها والمنادين بها .. وعقد الشعب الجزائري العزم من جديد على أن يجعل من يوم استسلام ألمانيا للحلفاء بعد أن أسلمت عاصمتها في يوم الثلاثاء، غرة أيار - مايو - سنة 1945. أن يجعل منه يوم استفتاء شعبي تقول فيه الأمة كلمتها من جديد، وتعلن فيه مطالبها، وفقا لما شاركت به الجزائر من جهد حربي تحت راية الحلفاء طوال الحرب العالمية الثانية، واغتنمت الإدارة الإفرنسية الإستعمارية هذه المناسبة لتنفيذ مخططها (فكانت المذبحة الرهيبة) (*) التي تعرضت لها الوثائق الإفرنسية ذاتها بما يلي:

_ (*) اعتمدت الباحثة السيدة نادية حرز الله في النصوص الوثائقية التي سيرد ذكرها، على ما نشرته الجريدة الرسيمة للجمهورية الإفرنسية - مناقشات الجمعية الاستشارية في العددين 6 و7 الصادرين =

(على أثر فاجعة الجزائر، أنشئت الميليشيات المسلحة وألغيت كل الحريات الديمرقراطية، وتقلدت السلطة العسكرية أمور الشرطة، وأعلنت حالة الطوارىء، وصدرت القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية، وسلح كل الأوروبيين، ومنع الجزائريين من مغادرة دورهم إلا إذا كانوا يحملون شارات على سواعدهم أذنت لهم بها السلطة بعد تحقيق دقيق يثبت أن لهم أعمالا في المؤسسات العامة ... لقد كان الانتقام فظيعا، فقتل بعض الأوروبيين أدى إلى إعدام جماعات من المسلمين بمجرد الشك فيهم ... ففي الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الإثنين 14 أيار - مايو - 1945، فتحت الزنزانات في سجن مدينة (قالما) وبعد أن نودي على تسعة وأربعين سجينا، قيل يلزم أيضا أحد عشرة - حتى يصل العدد إلى الستين .. هكذا أرادت القيادة ... وأخذ هؤلاء من صفوف المعتقلين ثم حكم على الجميع من طرف (اللجنة العسكرية) التي عقدت جلسة لها لهذه المهمة، وقامت (الميليشيا) بإعدامهم رميا بالرصاص. وقد أجاب الحاكم العام في الجزائر على سؤال وجهناه إليه في الاجتماع المشترك للجان الداخلية - لتنسيق الأعمال للشؤون الإسلامية - فقال: بأن إحدى وأربعين قرية دمرت بالطائرات والوحدات البحرية، فلم يبق فيها دار واحدة. وبما أن معدل سكان القرية الواحدة هو ألف نسمة،

_ = يومي الأربعاء والخميس 11 و12 تموز - يوليو - سنة 1945. وكذلك ما نشرته الصحافة غير الرسمية مثل جريدة (ليبرتي) و (كومبا) و (آلجي ريبليكان) وسواها من الصحف الإفرنسية.

إن لم يكن ألفا وخمسمائة أو ألفين، فلا مغالاة أن يقدر العدد الحقيقي لمن قتل من المسلمين، يتراوح بين (15) و (20) ألفا - هذا إذا افترضنا أن نصف السكان قد تمكنوا من الفرار، والاعتصام بالجبال) - ا. هـ. (كان الانتقام الذي قمنا به، دونما ريب، ضربة قاضية لصداقة الشعب الجزائري والأمة الإفرنسية، أو بالأحرى على مصالح بلادنا في الجزائر ... هذا على أني لا أتكلم على بقية الأحكام الجائرة ... إن ذلك يستدعي وقتا طويلا ...). ا. هـ. (... أعلنت حالة الطوارىء في مدينة سطيف ودوائرها! وبجاية وأحوازها، وقالمة وضواحيها، وقررت الإدارة الإفرنسية فرض الأحكام العرفية في كامل القطر. وحجرت على المواطنين الخروج من دورهم إلا بإذن خاص ... وأن أي وطني لا يحمل على ذراعيه الشارة المخصصة - وهي شارة لا تعطى بسهولة - يقتل دونما إنذار إذا وجد في الشارع بعد الساعة السابعة مساء، ومن هنا لزم المسلمون دورهم، أياما عديدة، دون أن يكون لديهم ما يقتاتون به من الأطعمة ... فكانوا من جراء ذلك في جحيمين، جحيم التهديد بالقتل، وجحيم الموت جوعا. لقد وزع السلاح على جميع الأوروبيين، وبصورة خاصة منها الأسلحة الخفيفة، إلى حد أن النساء كن مسلحات ... وفي إحدى المدن، وبينما كان طفل مسلم صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره، يمر في الحديقة العامة، فإذا بضابط فرنسي برتبة

نقيب - كابتن - يطلق عليه النار فيرديه قتيلا ... إن الأهالي الذين لم يعرف عنهم قط أنهم انخرطوا في حركات سياسية أو في منظمات اجتماعية، قد نالهم أيضا من القمع والإرهاب الشيء الكثير ... وفي إحدى المناظر المؤلمة، رأينا رضيعا ملوثا بالدماء، يبحث عن ثدي أمه المقطوعة الرأس، دون أن تستجيب الضحية لصراخ ابنها. وإنه لمنظر مؤلم حزين اختلطت فيه مسكنة الرضيع بمصيبة الأم الذبيح) ا. هـ. (رأينا في مقبرة - قالمة - عربات نقل الجيش الإفرنسي، وهي تقذف على الأرض بأكياس كبيرة ولقد هالنا أن لا تحدث هذه الأكياس أي صدى لحظة ارتطامها بالأرض، فاقتربنا من العربات، فإذا بداخل الأكياس جثثا ممزقة، منهوشة، مزقها الرصاص، وشوهها الخراب ونهشتها الغربان ...). (... كان يتم تنفيذ حكم الإعدام بالضحايا في كثير من الأحيان، أمام ذويهم وأقاربهم نكالا وتعذيبا ولقد صرع أبناء السيد حنون محمد وأعراب، وهو مساعد طبيب بخراطة - صرع أبناؤه الأربعة أمامه، وهو ينظر- ... وعندما جاء دوره طلب منه أن يهتف بحياة فرنسا، فأبى، فقطعت يداه ورجلاه، ثم أعدم) ا. هـ. (... انقضت ليلة 9 أيار - مايو - 1945 في توزيع الأسلحة على الأوروبيين - بمدينة الجزائر - وفي إلقاء الخطب عليهم لإثارة حماسهم. ولم تطلع شمس يوم 9 أيار - مايو - حتى أعدم أكثر من ثمانمائة من الأهلين - المسلمين - هذا في

المدينة، أما في ضواحيها، فقد تركت عملية القمع الإرهابي للفرقة الأجنبية التي لم يكن أفرادها يسألون عما يفعلون. وكذلك كان الحال في (جيجل) و (الطهير) وضواحيها، فكنت لا ترى إلا القتل والنهب والنيران التي لا تبقي ولا تذر) ا. هـ. (... زار والي عمالة قسنطينة (ليستراد كاربونيل) (*) مدينة (الطهير) وبعد أن خطب في جموع الأوروبيين مهنئا ومشجعا ومستشيرا - وقال: (لقد أمر جنودنا بحفظ النظام، واستتباب الأمن، وهم يعرفون كيف يقومون بمهامهم، وكيف ينفذون واجباتهم) ا. هـ. وأدى الحمق الاستعماري بالحاضرين إلى الهتاف: (هذا اليوم هو يوم النصر). (إننا بهليوبوليس القريبة من مدينة (قالمة) ولقد مضى على الجثث الملقاة على قارعة الطريق أكثر من خمسة أيام، دون أن يهتم أولو الأمر بدفنها، وذلك تفننا في إلقاء الرعب في قلوب المواطنين، الذين لم يزدهم، بكل أسف، هذا العمل إلا كرها فينا، وبغضا لنا. ا. هـ. (... كانت القوات المسلحة البرية والجوية والفرقة الأجنبية تقوم بالقمع والإرهاب، في نفس الوقت، ما بين , (سطيف) وبين البحر شمالا. وكان الجميع يعيشون فسادا في المدن والقرى، وفي الأموال والأنفس والثمرات، وينبهون كل

_ (*) ليستراد كاربونيل: (Lestrade-Carbonel) .

ما يقع تحت أيديهم ... ثم هم بعد ذلك يقتلون ويحرقون ... ولقد استعانت القوات العسكرية بالوحدات البحرية، فجاء الطراد (ديجي تروان) (*) الذي أبحر من مدينة عنابة، وقد ألحق هذا الطراد بضواحي مدينة خراطة خسائر لا تقدر ... ولقد حدا الأمر بالأوروبيين، من مدنيين وعسكريين، إلى أن يطلقوا نيران بنادقهم بمجرد أن يروا برنوسا - الرداء الوطني المغربي - وزيادة على هذا، كانت الطائرات تلقي قذائفها، وتمطر الأهلين بوابل رشاشاتها ... وقد وصلت المأساة ذروتها في مدينة (قالمة) وضواحيها حيث بلغ الجنون الجماعي حده هناك. وكانت موجة الانتقام من المسلمين، والبغض العنصري قد هيمنا على كل الأوساط الإفرنسية، إلى حد أن أعمال القمع لم تقتصر على الفرقة الأجنبية فحسب، بل وحتى أنصار فرنسا المكافحة والشيوعيين أيضا ... وقامت الإدارة الإفرنسية بحل المنظمات السياسية وغير السياسية، وإغلاق المدارس التعليمية الحرة للمسلمين، والأندية الأدبية والرياضية. وعطلت الصحافة التي كانت تصدر باللغة العربية، وأعلنت حالة الطوارىء، وطبقت القوانين الاستثنائية العرفية في كامل البلاد. وأطلقت يد الشرطة - البوليس - فراح رجال هذه المنظمة يمارسون عملهم بأساليب وحشية بربرية لترويع الأبرياء. وإنزال الفجائع بالعائلات صباح مساء. وتفتيش الدور والمخازن والمتاجر، ونهب كل ما تقع عليه الأيدي ولا سيما الجواهر والحلي والزرابي والأموال، مع إلقاء

_ (*) الطراد ديجي - تروان: (Duguay Trouin).

القبض على كل إنسان حتى أولئك الذين لم يثبت قط أنهم انخرطوا في أية حركة سياسية كانت أو غير سياسية. وتعطلت من جراء الإرهاب البوليسي، وبسبب القوانين العرفية، كل حركة للانتقال من بلد إلى بلد آخر. وشلت الحركة الاقتصادية. ورصدت السلطة الإفرنسية مبالغ ضخمة مكافأة لمن يرشدها إلى الوطنيين الذين لم تصل إليهم قبضة القمع، فاختفوا بغية تغذية الحركة التحريرية حتى لا يلحقها الفشل بسبب ما فقدته من عشرات الألوف من الضحايا والمعتقلين. وفصلت الإدارة الإفرنسية أيضا مئات الموظفين المسلمين من مناصبهم، وشددت الرقابة على الحدود الجزائرية شرقا وغربا حتى لا يهرب المواطنون الجزائريون إلى المغرب أو إلى تونس أو طرابلس). (لقد بات أصغر الإفرنسيين شأنا في السلطة وهو يملك ما يجعله حق إعدام هذا أو تشريع ذلك، وأنه لمن الصعب تحديد عدد الذين اعتقلوا في هذه الحوادث الدامية. فمن قائل، أنه بلغ عشرة آلاف سجين، ومن قائل: أنه تجاوز هذا الرقم بكثير، وغير هؤلاء يقول: إنه بلغ الستين ألفا. غير أن وزير الداخلية الإفرنسي - في تلك الفترة وهو (ادريان تكسييه (*) أعلن أمام الجمعية الاستشارية المؤقتة، (بأن عدد المعتقلين لا يتجاوز الألفي وخمسمائة مسلم) ا. هـ. قصارى ما يمكن قوله عن المعتقلين: لقد ضاقت السجون

_ (*) ادريان تكسييه: (Adrien Texier) .

الجزائرية بهم إلى حد أن السلطة الإفرنسية أفرجت عن المجرمين حتى توفر أماكنهم للأحرار الوطنيين، ولما لم تؤد هذه العملية إلى المبتغى، ضاعفت السلطات الإفرنسية ميادين المعتقلات ومعسكرات الحشد والاعتقال، والتي كانت قد أنشأتها في أوائل الحرب العالمية الثانية. وساقت إليها الوطنيين أفواجا إثر أفواج. أما الوسائل التي كان البوليس السياسي يقوم بها لحمل الوطنينن على الإقرار بجرائم أو أعمال لم يقوموا بها، والاعتراف بما أراد أن ينسبه إليهم، وعلى أن يشهد البعض على البعض الآخر، فهي وسائل مرعبة يقشعر لها جسم الإنسان. (لقد اقتنع الإفرنسي، بأن ما يقال عن استسلام الجزائريين للحكم الإفرنسي، إنما هو أسطورة حاكتها يد الإدارة الاستعمارية العليا في الجزائر. وجاءت هذه الدماء الغزيرة لتكذبها. ولهذا فالواجب يقضي على فرنسا أن تستعمل كل ما لديها من القوة، إن هي أرادت الاحتفاظ بالجزائر) ا. هـ. وإلى هذا أشار - م. بيشير - في جريدة (صدى الجزائر) الإفرنسية (*) ما يلي: (... لا جدوى من مضي الأسابيع والشهور على القضية الجزائرية، طالما أنه لا يمكن البت بشيء فيها وطالما أنه لا يمكن الوصول إلى حل لها بسبب إهمال الوقائع المادية والضرورات

_ (*) م. بيشير (M.BEUSCHER) (في جريدة صدى الجزائر) تاريخ 8 حزيران - يونيو 1945.

الناجمة عنها. وها هي ذي الوقائع الوحشية المذهلة .. لقد سالت الدماء الغزيرة مرة أخرى في الجزائر، كما سبق لها أن سالت من قبل مرات عديدة. إن المفكرين والمعمرين الذين يختارون العبارات الأنيقة، وينسقون التعابير والجمل في مراسلاتهم مع فرنسا بغية حل (القضية الجزائرية) لا يفقهون ولا يدركون أن المريض الذي يعالجونه بالمسكنات عن طريق الإذاعة، قد بات يستعصي على العلاج. ... ولقد تجاهل الإفرنسيون على اختلاف نزعاتهم، وعلى تباين تنظيماتهم السياسية، وبرامجهم الحزبية، الأسباب الرئيسية للحوادث، وتعاموا عن المطالب الجوهرية والقومية للشعب الجزائري. فراحوا قصد تضليل الرأي العام الدولي يعزون الحوادث إلى أيد خفية أجنبية حركت الجزائريين ضد فرنسا. وشاءت عبقرية الحاكم العام الاشتراكي الإفرنسي في الجزائر (شاتينيو) (*) عامئذ في بلاغه الذي أذاعه بنفسه على أمواج الأثير، أن يصف أعضاء حزب الشعب الجزائري باسم (نازيون) وبأن (منظمتهم نازية). أما عبقرية جماعة اليسار وأنصارهم، فقد قالوا في خطبهم، وذكروا في صحفهم: بأن الحوادث أشعلت نيرانها أيد إنكليزية وأمريكية. أما الحقيقة فهي أننا لسنا من أحزاب اليمين في شيء حتى نتهم بالفاشية أو النازية. ولسنا أيضا من أحزاب اليسار حتى نتهم بالشيوعية. وإنما نحن أمة وسطا لا ينبغي لنا أن نتغنى بمباديء هؤلاء،

_ (*) شاتينيو: (Chataigneau).

أو نعمل في ركابهم. ولا بنظم أولئك، أو نقبل أن نكون عندما تنشب النار، وتندلع في بيت. وعندما تكون الباخرة على شفا الغرق. فإنه لا يستغاث بالطاهي، ولا بمدير المقرص، إذا الساعة حينئذ فيما يخص البيت، وفيما يخص الباخرة، لأصحاب المطافىء وأصحاب النجدة والإسعاف. وإنه لكذلك الأمر في أفريقيا الشمالية عامة، وفي الجزائر خاصة، فالساعة يجب أن تكون للجندرمة (الدرك) والبوليس (الشرطة) إ. هـ. بمثل هذه الروح العدوانية، وبمثل ذلك الحقد وتلك الكراهية، تلقت كل الأوساط الإفرنسية (اليمينية واليسارية على حد سواء، حوادث 8 أيار - مايو - 1945: (حتى لكأن فيالق الفرقة الأجنبية، وطوابير - ارتال - الدرك والشرطة قد قصرت في المهمة التي أوكلت إليها، مهمة سفك الدماء، وقتل الأبرياء، وحرق المداشر والقرى. أو حتى لكأن الخمسة والأربعين ألف شهيد من المواطنين الذين قاموا يردون الظلم ويدافعون عن الشر، لم يكفوا للأخذ بثأر ثمانية وثمانين قتيلا ومائة وخمسين جريحا من الغزاة المستعمرين. على أن الرصاصات الأولى التي أطلقت على المتظاهرين في هذه الحوادث، في كل من سطيف وقالمة وعنابة وغيرها. قد أطلقتها رجال الشرطة والدرك. والبرق هو شبيه بالجراح الذي يجيل مشرطه في لحم الجريح). وانتهت المذبحة، وجلس الجزارون يندبون: (... فكروا ثانية فيما آلت إليه علاقاتنا بالجزائريين، في العمل وفي دواوين

(ب) شهادة الوزير الإفرنسي - آلان سافاري

الحكومة، وفي كل الأوساط التي نجتمع فيها بهم: في المقاهي وفي المخازن وفي الدكاكين، وفي وسائط النقل المشترك، تجدوا أننا في الوقت الذي لا نضمر للجزائريين شرا يقابلوننا هم بالعكس (؟). إن الجرائريين والإفرنسيين الذين كانوا في الأماكن الخاصة وفي المزارع، يعملون معا جنبا إلى جنب بكل صداقة (؟) أصبحوا اليوم حذرين، يراقب البعض منهم البعض الآخر، ويزنون الألفاط، ويسجلون ما يسمعون، ثم هم بعد ذلك يستنتجون حسب ما تمليه عليهم عواطفهم وأهواؤهم. فلهذه الحالة الثقيلة وغير المحتملة، ولهذه الأذية التي ليس لها انتهاء، ولهذا العذاب المرهق للأعصاب، يجب أن يوضع حد وبكل سرعة. إن أفريقيا الشمالية تضمر لنا شرا خطيرا مستطيرا وعاجلا، يوجب علينا حماية تكون أكثر عجلة. إنني أعلم أن أعوان الأمن العام الذين يقدرون واجباتهم حق التقدير، يعملون لضمان هذه الحماية. ولذلك، يتحتم علينا أن لا نصدهم عن هذا الواجب حتى لا تتفرق جهودهم). (ب) شهادة الوزير الإفرنسي - آلان سافاري (*): أصدر حزب الشعب الجزائري تعليماته إلى أعضائه برفع

_ (*) المرجع: ثورة الجزائر (آلان سافاري) ترجمة نخلة كلاس. إدارة الشؤون العامة والتوجيه المعنوي. دمشق 1381 هـ - 1961 م ص 41 - 44. والمؤلف آلان سافاري. كان وزيرا في حكومة (غي مولية.) الاشتراكية، وكان معنيا بشؤون المغرب العربي - الإسلامي (أو شمال أفريقيا كما كانوا يسمونها أيام الاستعمار) وهو عضو بارز =

العلم الوطني الجزائري أثناء العرض الذي سيشترك فيه الحزب بمناسبة اليوم الأول من أيار - مايو - عام 1945. فأدى ذلك إلى إطلاق النار على الجزائريين فقتل أحدهم في مدينة الجزائر. وتعددت الاعتقالات في الجزائر كلها. وفي يوم 8 أيار - مايو - وبينما كان مفتش الشرطة (لافون) خارجا من مقهى اسمه (مقهى فرنسا) في (سطيف) رأى أحد المتظاهرين سائرا؛ وقد حمل لوحة كتب عليها: عاش انتصار الحلفاء. ولما كانت الأوامر إلى رجال الشرطة شديدة ومركزة، فقد المفتش المذكور أعصابه، وأطلق النار على الشاب الجزائري الذي كتب على لوحته: عاش انتصار الحلفاء. ووقع شاب جزائري آخر مضرجا بدمائه، وأعلنت الأحكام العرفية. وقام المستوطنون باغتيال عدد من الأوروبيين، منهم عمدة سطيف (دولوكا) لأنه كان يتمتع بثقة الجزائريين. وقام الجنرال (دوفا) بحملة إرهاب هائلة، استخدمت فيها الفرقة الأجنبية والرماة السنغال، ووحدات الميليشيا، حتى أن الجنرال المذكور، أطلق سراح أسرى الحرب الإيطاليين ليشركهم في المجزرة التي أسهمت فيها أيضا أسلحة الطيران والمدرعات والبحرية، وقذف أحد الطرادات الإفرنسية بالقنابل منطقة (كرارتا) وفي 16 أيار - مايو - وكانت المجزرة في نهايتها. عندما وصل لواء المشاة السابع إلى مدينة الجزائر، بعد

_ = في الحزب الاشتراكي الإفرنسي. وقد انشق عن حزبه، واستقال من منصبه الوزاري بسبب خلافه مع الحزب والحكومة تجاه قضية الجزائر واحتجاجا على عملية القرصنة التي تم بواسطتها اختطاف أحمد بن بللا ورفاقه من زعماء الثورة.

اشتراكه في معارك الألزاس. وجاء في نشرة رسمية صادرة عن القيادة الإفرنسية أن عدد الضحايا الجزائريين ألف وخمسمائة فقط، وعدد الأوروبيين مائة. هذا في حين ذكر تقرير اللجنة الثلاثية التي يرأسها الجنرال توبير، والتي تشكلت لإحصاء قتلى المجزرة المذكورة، بأن مجموع عدد قتلى الجزائريين المسلمين بلغ خمسة وأربعين ألفا. إنه حدث نموذجي في دلالته على حالة الإفرنسيين العقلية والمعنوية في الجزائر، فقد شوهد على رأس قطعات الميليشيا الأوروبية الزاحفة ضد الجزائريين العزل، مستوطنون هم من المسؤولين الإفرنسيين في الحزب الشيوعي الجزائري ... هل أتابع سرد هذه الوقائع التاريخية الثابتة والحديثة، وهل أقول بأن قسما كبيرا من المستوطنين الإفرنسيين، وبينهم عدد كبير من العمال الإفرنسيين - بروليتاريا الثورة - قد استقبلوا أحد رؤساء الوزراء بمظاهر العداء والنفور لأنه ذكر في برنامجه الانتخابي (السلم في الجزائر) وقال بضرورة إحلال السلام فيها. وإنهم فعلوا ذلك لأنهم يدركون بأنه لا سبيل إلى السلام في الجزائر، إلا بحصول الجزائريين على حقوقهم السياسية. ولقد قلنا أن منح الجزائريين حقوقهم السياسية، يعني بالنسبة إلى المستوطنين الإفرنسيين طرح موضوع حقوقهم المالية وقوتهم وسيطرتهم الاقتصادية على بساط البحث. وأن الحصول على هذه الحقوق يساعد الجزائريين على منافستهم، هذه المنافسة التي تخشاها وترهبها الأكثرية الساحقة من المستوطنين الإفرنسيين في الجزائر

(ج) (اليوم الرهيب) في ذكريات أحمد توفيق المدني

الذين يتضاءلون كأقلية يوما بعد يوم أمام ازدياد عدد الجزائريين وتكاثرهم. (ج) (اليوم الرهيب) في ذكريات أحمد توفيق المدني (*): كان الزعيم، الشيخ أحمد توفيق المدني (مسافرا بالقطار من الجزائر إلى تونس، يوم وقعت المذبحة - المأساة - وقد سجل انطباعه ومشاهداته - بما يلى): (تجهزت للسفر وأخذت بطاقتي، وامتطيت القطار يوم 7 أيار - مايو - 1945، في الثامنة مساء. وكنت عندما أصبح الصباح، أشعر كلما تقدم القطار نحو الشرق بحركة غير عادية في المحطات، تزداد شدة وحدة، بين حين وآخر، حتى إذا وصلنا مدينة (الخروب) وغيرنا القطار، وجدنا في المحطة مختلف فرق الجيش، وبينها طائفة من الشبان المتحمسين المتهيجين وهم يحملون ما توافر لهم حمله من مختلف الأسلحة. وكانوا يصعدون إلى مزجيات الرتل وينزلون من بها من الجزائريين واحدا واحدا، في شدة وعنف، ورأيتهم تحت نافذتي يفتشون بدويا عربيا بشكل مهين، وقد وجدوا في قفته سكينا صغيرا لقطع الخبز طبعا، فانهالوا عليه ضربا بالأيدي ورفسا بالأرجل، ثم اقتادوه بقوة إلى ما وراء القطار، وسمعت طلقات نارية، وتأوها خافتا، وانتهى كل شيء.

_ (*) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 2/ 380 - 383.

كنت حاسر الرأس بين أربعة من الأوروبيين لم يعرفوا هويتي، ودخل علينا شاب متهيج يصيح هل يوجد أهالي هنا؟ فأجابه الجالس قرب الباب: كلنا فرنسيون. فذهب إلى الغرفة التي تلينا، وكنت منهمكا في قراءة جريدة (صدى الجزائر - إيكو دالجي) للمرة الثانية، متظاهرا بعدم فهم ما يجري حولي، ثم ركب معنا أحد المستعمرين، وأخذ يقص علينا أنباء الصباح الرهيب (بسطيف) وما حواليها، وأن مذبحة شرسة اشتعلت بكامل الناحية، وأن الإفرنسيين قد سيطروا على الموقف بعد التخلص من أكبر عدد من الأعداد، وأن البقية سيتم القضاء عليها حتما حتى يعلم هؤلاء (البيكو) أن الجزائر فرنسية إلى الأبد. لم أكن أتوقع هذا أصلا، إلى أن وصلنا مدينة (قالمة) التي كانت تعيش حالة حرب حقيقية. كان الجيش يحتل المحطة، وكان جنوده يحيطون بجمع كبير من الرجال والشيوخ الذين جلسوا على الأرض، يحيط بهم الزبانية من كل مكان. وكنا نسمع أصوات الاستغاثة وصراخ العويل ممتزجا بأنين الألم، يأتينا من ناحية المدينة. ومكث القطار هنالك نحوا من الساعتين، كنت أرى خلالها من شباك المزجية، الطائرات الحربية وهي تلقي بقنابلها المحرقة على امتداد الأفق. وكنت أشاهد ألسنة اللهب وهي تتصاعد إثر انفجار كل قنبلة. كما كنت أسمع من بعيد أصوات الاستغاثة والبكاء والنحيب، وأرى من بعيد سائمة أدمية غفيرة العدد، تغدو وتروح، مفتشة عن ملجأ، فلم تجده، وما من رجل أو امرأة استطاع النجاة، إلا وحصدته بعد

(د) للمجزرة تتمة

ذلك رصاصات بنادق القناصة ومسدساتهم ... وقد أعدم الجنود في مدينة (قالمة) كل الشبان الذين كانوا يحملون الشهادة الابتدائية، بعد أن جمعوهم في مكان فسيح وأمروهم بحفر أخدود طويل، ثم أعدموهم بكل برودة، وتخلصوا من عدو محتمل. ثم إنني كنت أرى فيما بين (قالمة) والحدود التونسية جموعا غفيرة من البدو، يهيمون على وجوههم، وكان أكثرهم مثخنا بالجراح، والدماء الغزيرة تكسوه، فيما كان بعض الرجال والنساء قد افترشوا الأرض وهم لا يستطيعون حراكا بعد أن نال منهم الجوع والظمأ كل منال، وأنهك قواهم ما سال من دمائهم. وعلمت بعد ذلك أن القتلى لم يكونوا يدفنون في الأغلب، لكثرتهم، بل يتركون فريسة للذئاب والضباع والجوارح الكاسرة. (د) للمجزرة تتمة (*): كانت مجزرة 8 أيار مايو 1945 مذبحة رهيبة، شابت لهولها الأطفال، واقشعرت الأبدان. لقد كان جنود فرنسا يقتحمون البيوت عنوة، يبقرون بطون الحبالى، ويذبحون الأطفال والنساء والشيوخ، ويغتصبون شرف العذارى بعنف ووحشية. وكانوا يوقفون بعض الجزائريين من سكان المدن في الساحات العامة ويبيدونهم بالرصاص. ويجمعون بعضهم الآخر دون تمييز السن والجنس داخل أكواخ ويشعلون النار فيها - وكانوا يدخلون الشبان أفرانا شديدة الحرارة تخرج منها الجثة

_ (*) الثورة الجزائرية (أحمد الخطيب) 164 - 167.

رمادا. أما القرى، فكان نصيبها من التقتيل والإبادة أفظع وأشنع بحيث أن الجنود الإفرنسيين، كان يرغمون الأهالي على الدخول إلى أكواخهم الطينية المبنية باللبن ويوصدون الأبواب عليهم ثم تمر الدبابات الثقيلة على الأكواخ فتسحقها بمن فيها، وتحيل الأرض عجينا من طين ودم. وقد دمر الطيران الإفرنسي أربعين قرية ومحاها من الوجود، فيما نسف الأسطول البحري مدينة (مثل مدينة خراطة في عمالي قسنطينة) بسكانها العرب وحولها إلى أنقاض. وتبع مجزرة 1945 حملة 1947 في بلاد القبائل، حملة سنة 1948 في - برقية - و - دشمية - وحملة سنة 1949 في دوار سيدي علي بوناب - وحملة سنة 1952 في منطقة الأوراس. وقتلت فرنسا كثيرا من المهاجرين الجزائريين إلى فرنسا وذلك في حوادث 23 أيار - ماريو - عام 1952. وفي 14 تموز - يوليو سنة 1953. هذه بعض ملامح حرب الإبادة التي شنتها فرنسا على الشعب العربي في الجزائر قبل الثورة. فبين يوم وليلة قتل (45) ألف جزائري، دون ذنب أو سبب، اللهم إلا مطالبتهم بالحرية والسلام. أما في مجال الإرهاب والتعذيب والقهر، فقد كانت أجهزة الشرطة - البوليس - تمارسه على نطاق واسع - لا ضد المجرمين والأشقياء والمنحرفين، وإنما ضد الوطنيين الجزائريين، وكل من يقوم بنشاط سياسي تحرري، أو يعبر عن أفكار وطنية استقلالية. وعلى الرغم من تحديد صلاحيات التعذيب البوليسي في العالم، فإن البوليس الإفرنسي، قد منح صلاحيات مطلقة لقتل وتعذيب من يشاء من الجزائريين، دونما خوف من حساب أو حتى عتاب. وقد دفعت هذه الصلاحيات البوليس إلى

استخدام أشنع الوسائل وأفظع الطرائق الإرهابية. وها هو نموذج واقعي ومعروف، في جملة نماذج لا نهاية لها، يبرز ما كان يتعرض له أحرار الجزائر من تنكيل، وتعذيب على أيدي الشرطة الإفرنسية (البوليس). اعتقلت السلطات الإفرنسية شابا عربيا ادعت أنه مناضل في إحدى الخلايا السرية التابعة لحزب الشعب الجزائري (المنحل). واتهمت الشرطة الفرنسية (البوليس) الشاب بإخفائه سرا خطيرا عن الثورة المسلحة التي كان يعد لها حزب الشعب، والتي بالرغم من اكتشافها لم تستوف المعلومات الكافية عن اختفاء الأسلحة الكثيرة التي كان يتدرب عليها رجال (الشرف العسكري) وسرعان ما شرعوا في استجوابه. فجردوه من ثيابه وبللوا جسمه بالماء، وألهبوه لسعا بالسياط ولما يئسوا من هذه المحاولة في استجوابه، ملؤوا جوفه ماء بواسطة أنبوب أدخلوه في فمه حتى كاد بطنه ينفجر. ولما لم تنفع هذه الوسيلة، انتقلوا به إلى الكهرباء. وبعد أن عجزت الكهرباء في حمل الشاب على الاعتراف بسر يجهله، أهملوه داخل غرفة مظلمة ملؤها الذباب والحشرات والجراثيم. إلى أن حضرت بعثة بوليسية - من عاصمة النور باريس - مختصة بفنون التعذيب. فشدوا وثاقه، وتناول رئيس البعثة كماشة. وأمسك إبهام الشاب. وأدخل الظفر بين طرفي فك الكماشة، وقال: أليس لك بعد أن تعترف؟ ولم يدع المفتش الشاب يتم حديثه لكي ينفي عنه هذه التهمة، بل عاجله بانتزاع أظافر يديه ورجليه بوحشية فائقة. وما كاد ينتهي حتى فتح الشاب فمه، وعيناه مغرورقتان بدموع الألم،

(هـ) في ذمة التاريخ

وسأل المفتش؛ هل من طريقة أخرى؟ وأجاب المفتش الإفرنسي بغلظة وفظاظة: نعم. وسرعان ما ألقى الشاب على بطنه، والدم ينزف من أصابعه. وتناول المفتش حديدا كان قد احمر على النار وأخذ يشوه به جسم الشاب الضحية. وفقد الشاب وعيه، وما كاد يفتح عينيه - في اليوم التالي، حتى سأل المفش: هل من طريقة أخرى؟ ... وأحضرت في الحال زجاجة كبيرة - قنينة طليت جوانبها بالزيت. وجرد الشاب من ثيابه كلها وهو يئن من الألم. وسرعان ما رفعه مفتشان بين أيديهما، وأقعداه بقوة على الزجاجة وتمزق اللحم. ودوت صرخة ألم حادة كافية لترويع أقسى القلوب المتحجرة، واستثارة أعمق العواطف والانفعالات الإنسانية، إلا قلوب هؤلاء المخلوقات من أعداء الإنسانية، والذين جردتهم حضارتهم من كل القيم والفضائل. وجدير بالذكر، أن طريقة الإقعاد على الزجاجة والقارورة، هي طريقة من إبداع العبقرية الإفرنسية، ظهرت أول ما ظهرت في الجزائر، وعنها أخذتها بعض المدارس الاستعمارية الأخرى. (هـ) في ذمة التاريخ (*): لم تكن الأحدات التي وقعت في الجزائر - يوم النصر - عام 1945، دون مقدمات، ودون نذر سابقة ففي نهاية شهر نيسان - أبريل - بعث ستة أعضاء من الأوروبيين في المجلس العام رسالة إلى محافظ إقليم (قسنطينة) - الحاكم - يطلبون فيها اتخاذ إجراءات (فورية) يمكن لها أن تؤدي إلى إعادة فرض

_ (*) الجزائر الثائرة (جوان غيلسبي) ترجمة خيري حماد - ص 76 - 79.

النظام والطمأنينة (في الأرض الإفرنسية الواقعة إلى الجنوب من البحر المتوسط). وفي نفس الشهر، نقل مصالي الحاج من داره التي كان معتقلا فيها جنوب الجزائر، إلى مدينة برازافيل في أواسط أفريقيا (الكونغو الإفرنسي سابقا).كعمل وقائي لتجنب الاضطرابات. وعملت الإدارة الافرنسية على تزوير الانتخابات البلدية حتى لا تنجح العناصر المتطرفة. وبعث الحاكم العام للجزائر (شاتينيو) تعميما على جميع موظفي الإدارة في البلاد، أشار فيه إلى توقع حدوث اضطرابات بمناسبة عيد النصر وما يرافقه من احتفالات وقد أقيمت استعراضات وطنية في اليوم الأول من أيار - مايو - في عدد من مدن الجزائر دون وقوع حوادث تذكر. واستعرض الوطنيون في شوارع (سطيف) في الثامن من أيار - مايو - احتفالا بانتصار الحلفاء. وحاولت الشرطة المحلية مصادرة الأعلام واللافتات التي حملتها الجماهير، وهو عمل لم يجر مثيلا له في الاستعراضات الشبيهة التي جرت في المدن الأخرى. وأطلقت العيارات النارية، وتفرقت الجماهير، ولكنها سرعان ما عادت إلى التظاهر، وهاجمت رجال الشرطة بالحجارة. وعاد هؤلاء إلى إطلاق النار. وانتشرت الاضطرابات بسرعة البرق إلى أنحاء أخرى في الجزائر، ولاسيما في المناطق المأهولة بالسكان في إقليم قسنطينة. ووقعت حوادث عنف في بعض الأماكن. ولكن عدد قتلى الأوروبيين لم يتجاوز المائة شخص. وسرعان ما قام الإفرنسيون بأقسى ما عرفه تاريخ الجزائر من أعمال الإرهاب والبطش. فقد قام سلاح الجو الإفرنسي الذي كان يشرف عليه آنذاك وزير الطيران الشيوعي (تيون) بقصف الكثير

من القرى الجزائرية وإزالتها من الوجود. ووصلت الطرادات الفرنسية إلى الساحل الجزائري، تضربه من البحر بمدفعيتها. وحالت الإدارة الإفرنسية بين الصحافة العالمية وبين الوصول إلى الحقائق المتعلقة بهذه الإجراءات الوحشية. وعهد الحاكم العام إلى لجنة تحقيق، ولكن عملها سرعان ما بتر. وذكرت اللجنة في تقريرها غير الكامل عددا من أسباب هذه الأحداث: منها هزيمة فرنسا وضعقها، وقوة الحلفاء، ودعاية المحور، والمقارنة التي رددها الجزائريون من الجنود بين أوروبا التي عرفوها أثناء الحرب، وبين الأوضاع التي يعيشون فيها في الجزائر، والحماسة التي أثارها مؤتمر سان فرانسيسكو، وسوء تفسير شرعة الأطلسي (ميثاق هيئة الأمم المتحدة) والتحريض الناجم عن قيام الجامعة العربية، بالإضافة إلى تحريض حلفاء فرنسا، والأعمال المخزية التي تنزلها الإدارة الإفرنسية بالجزائريين. لم تتوقف ممارسات الإدارة الفرنسية في الجزائر عند حدود أعمال العنف العسكري، بل تجاوزتها إلى اعتقال عدد من الوطنيين ورؤساء النقابات ورجال الدين، وإلقائهم في المعتقلات والسجون. فقد اعتقل (عباس فرحات) عندما كان في طريقه للتشاور مع بعض موظفي الحاكم العام، وصدر الأمر بحل جماعة أصدقاء البيان والحرية. وجرت محاكمات مثيرة جدا لعدد من مناضلي حزب الشعب الذين قدر لهم أن يشتركوا فيما بعد في ثورة عام 1954. ولم تكف أعمال البطش والتنكيل التي قامت بها الإدارة الإفرنسية، بل زاد عليها ما قام به المستوطنون من أعمال وحشية وجرائم لا إنسانية في إطار ما أطلقوا عليه اسم

(أعمال انتقامية ثأرية). وبرزت الحقيقة وهي أن أجهزة الشرطة لم تكن مكلفة بتأمين الحماية للمسلمين الجزائريين ضد أعمال جماعات (حرس المستوطنين) الذين يسارعون إلى العمل دائما عندما تتوتر العلاقات بين المستوطنين الجزائريين. وكان ذلك سببا من أسباب المرارة الدائمة التي كان يشعر بها الوطنيون الجزائريون. تعتبر أحداث سنة 1945، نقطة تحول في تاريخ الجزائر بالنسبة إلى الجزائريين وإلى المستوطنين. فقد كانت بالنسبة إلى المستوطنين قمة الوحشية التي كان يلصقون تهمتها دائما بالجزائريين، كما كانت تجربة مرعبة. ولكنها في الوقت نفسه كانت بالنسبة إليهم بداية الانحطاط في نفوذهم، إذ ظهر كثيرون في فرنسا لا يشاركونهم الرأي في أن خير حل لمشكلة الجزائر هو (إبقاء الجزائريين مستعبدين). وحاول الحاكم العام (شاتينيو) تغطية سوءات الاستعمار وبشاعته، بمجموعة من الإجراءات التي زعم أنها (ليبيرالية) في الفترة من سنة 1945 - 1947، مثل السماح للمثقفين الجزائريين بالإسهام إسهاما أوسع بإدارة شؤونهم الخاصة. ومع ذلك فقد تمكن المستوطنون بعد عام 1947، وعلى الرغم من هزيمتهم في نص الدستور الجزائري الجديد، من إزالة ما أطلقوا عليه اسم (النصوص الليبيرالية). أما بالنسبة إلى الجزائريين الذين كانوا ضحية مؤامرة 8 أيار - مايو - 1945. فإن هذه المؤامرة كشفت لهم نقاط ضعفهم في مجابهة تحالف فرنسا مع مستوطنيها - والذين يشكلون

في الحقيقة جبهة واحدة وزالت أوهام إمكانية الوصول إلى الحقوق بواسطة المساومات والطرائق السلمية - فكان لابد من الاحتكام للسلاح. لكن تجربة مذبحة أيار - مايو - أكدت ضرورة العمل السري تحت غطاء العمل العلني. فكانت جذور ثورة 1954 وثيقة الصلة بمذبحة 8 أيار. وهكذا وبينما كانت فرنسا تمارس أشد ظواهر القوة، كان بنيانها الداخلي (بنيان الكيان الاستعماري) يسير نحو الضعف، في حين كان الشعب الجزائري وهو يعاني أقسى ظروف المأساة الناجمة عن الضعف، كانت هناك البدايات لأشد ظواهر القوة. وبقي السلاح هو الحكم لاختبار القوتين الهابطة والصاعدة في جولة قادمة.

العمل السياسي السري

2 - العمل السياسي السري يظهر العمل السياسي السري، على ما هو معروف، في ظروف القمع القهري، والحرمان من ممارسة العمل السياسي بصورة علنية. وقد تعرضت التنظيمات السياسية في الجزائر، منذ ظهورها، للمطاردة المستمرة، وعمليات القمع المتتالية، والاضطهاد لزعمائها والأعضاء العاملين فيها - على نحو ما سبق عرضه في التنطيمين الرئيسيين (حزب الشعب الجزائري) و (أصدقاء البيان الجزائري). ومن المعروف أن البدايات المبكرة للتنظيم السري قد بدأت منذ حل حزب (نجم شمال أفريقيا) غير أن ذلك التنظيم السري فقد قوته تدريجيا. وعلى هذا فإنه بالإمكان القول أن تاريخ النظام السري السياسي في الجزائر يرتبط ارتباطا وثيقا بتنظيم حزب الشعب الجزائري في سنة 1937. فعندما تم حل هذا الحزب، كان للتنظيم السري دوره الكبير في إعادة تنظيم (حركة انتصار الحريات الديمقراطية). حيث عمل هذا التنظيم على الاستمرار في حمل مبادىء الحزب، والتأكيد على صموده بالرغم من قرار الحل الرسمي. وعندما أعيد تنظيم حزب الشعب تحت عنوان الواجهة الجديدة (حركة انتصار الحريات الديمقراطية). قسم العمل فيه على مستويين:

مستوى العمل العلني - الرسمي - ومستوى العمل السري وكان المستوى الأول يضم الأشخاص الذين يعملون بصفة علنية ورسمية (في إطار قانون عمل الأحزاب) وهم المسؤولون عن حركة الحزب. أما المستوى الثاني، فهو الذي يعمل بموجب نظام سري ويضم عناصر حزب الشعب المنحل التي جعلت الثورة وسيلتها الوحيدة للتحرير. وكان التنظيم السري ينطلق متشعبا (كالشجرة) بدءا من الخلية التي تضم بضعة أفراد فقط، ثم مجموعة الخلايا المرتبطة بقيادة ترتبط بدورها (بالدائرة). وكان لكل دائرة مفتشها المسؤول عنها والذي يرتبط بدوره بالقيادة المركزية للمنطقة. وكانت القيادات المركزية للمناطق تتصل (بالقيادة العامة) المسؤولة عن كامل التنظيم في جميع أنحاء البلاد. وقد حقق التنظيم نجاحا رائعا في نشر شبكة خلاياه إلى كل قرية وكل موطن من مواطن القبائل القاصية والتي يطلق عليها اسم (الدوار) علاوة على تلك الخلايا السرية الكثيرة في المدن. ... كانت قيادة التنظيم السري تعتمد في نجاحها - وبالدرجة الأولى - على نوعية عناصرها وفضائلهم. فكان يتم اختيار الشاب لضمه إلى هذه الخلايا من بين خيرة الشبان خلقا وأدبا، وأكثرهم التزاما وتمسكا بدينه الإسلامي، وأوفرهم حماسة ونشاطا، ولم يكن يسمح بضم العناصر التي تدين بالمبادىء الفوضوية أو تعتنق المذاهب الإلحادية. كما لم يكن بالمستطاع ضم أي عنصر إلى خلية من الخلايا، إلا بعد أن يقوم قلم المخابرات

الخاص بهذه الخلية بالتحري عن ماضيه وأعماله، وعما إذا كان له اتصال بالسلطات الاستعمارية. فإذا وجد فيه الشاب المؤمن الوطني، ضم إلى الخلية بسريه تامة، بحيث لا يعرف أحد من أهله أو إخوانه ورفاقه أو حتى أخلص الناس إليه بانضمامه إلى تنظيم الجهاز السري. ويطلق على الشاب، بعد انضمامه إلى الخلية لقب (المجاهد). وكثيرا ما يدهش بعض المجاهدين حين يجتمعون لأول مرة في الخلايا، بإخوانهم، فيجد الواحد منهم شقيقا أو صديقا أو قريبا قد سبقه إلى التنظيم، دون أدنى علم منه. وتضم الخلية - عادة - أحد عشر مجاهدا بينهم رئيس الخلية، ويتم اختيار المجاهدين في الخلية الواحدة، وفي معظم الأحيان، من أبناء حي واحد، حتى لا يثير اجتماعهم أدنى شك أو شبهة. ولا يعرف المجاهد غير أفراد خليته، سواء في دائرته أو في القطر كله. ولذلك لم يكن من الغريب رؤية شقيقين أو صديقين منظمين في الجهاز السري، ولا يعرف الواحد منهما عن الآخر شيئا، لوجود كل واحد منهما في خلية منفردة. يجتمع رئيس الخلية مع بعض رؤساء الخلايا الأخرى حيث يشكل هؤلاء (المجموع) ولهذا المجموع رئيس يجتمع بدوره مع رؤساء المجموعات الأخرى التي يضمها الدوار - القرية - أو الناحية أو المدينة. فيشكلون القيادة المحلية للدائرة. ويجتمع بالقيادة المحلية ورئيسها مفتش عن القيادة المركزية للمنطقة أو الولاية (العمالة). ويكون المفتش في أغلب الأحيان غريبا عن المنطقة، لأنه يكون عنصر

الاتصال من القيادة المركزية في المنطقة وبقية دوائرها. وتتلقى قيادة المنطقة المركزية تعليماتها من القيادة العامة بواسطة ضباط اتصال سريين، وتصدر القيادة المركزية بدورها التعليمات بعد دراستها جيدا، إلى الدوائر التابعة لها. وهناك تدرس هذه التعليمات والأوامر، لتنقذ قدر المستطاع. والجدير بالذكر أنه من المحال التعرف على الاسم الحقيقي للمفتش، أو ضابط الاتصال، أو أن تعثر على تذكرة هويتهم الصحيحة، فهم مجهولون حتى من كبار زملائهم المفتشين والقادة، ولا يعرف بهم إلا الرئيس المختص بنشاطهم. وإذا حدث أن افتضح التنظيم السري في مدينة من المدن، فسرعان ما ينقل المفتش من الولاية (العمالة) كلها. ويبدل بآخر لإعادة تنظيم الجهاز مرة أخرى. ومن المؤكد أن جهاز التنظيم السري لم يكشف قط منذ إنشائه. وسرعان ما كان يتم نقل المجاهدين الذين تحوم حولهم شبهات الشرطة الإفرنسية، من تنظيم الأجهزة السرية إلى تنظيم الحزب العلني، حيث تنتظرهم الأعمال غير السرية، ويقطعون كل صلة لهم بالتنظيم السري ومجاهديه. وتتلخص مهمة (التنظيم السري)؛ بضم أكبر عدد ممكن من الشبان المسلمين إلى أجهزته. وبث روح الجهاد والثورة والفداء في نفوسهم، وتدريبهم على أساليب الدعاية السرية المنظمة. بحيث يمهدون السبيل في أوساط الشعب لقبول الثورة واحتضانها وحمايتها. وقد كان لهذا التنظيم اليد الطولى في إنجاح ثورة التحرير الكبرى (1954)، وتعريف جماهير الشعب بمضمون الثورة وأهدافها القريبة والبعيدة. أما الوسائل التي كان

(أ) (الشرف العسكري) أو (التنظيم الخاص)

يستخدمها التنظيم السري السياسي لبث الدعاية، ودفع الشعب إلى التكتل حول الحركة الوطنية، وإعداده للمعركة الحاسمة، فهي: البيانات - المنشورات - السرية، ولصق الإعلانات والقيام بطرح الشعارات الجماهيرية في مناطق تجمعات الشعب، وإصدار كتيبات عن أعمال الاستعمار الوحشية. وكثيرا ما كانت هذه الكتيبات تتضمن لمحة عن تاريخ الجزائر المستقلة - قبل الاستعمار الإفرنسي - وذلك بهدف ربط الجهاد بالأصالة الثورية للجزائر. وكان التنظيم السري يحرص كل الحرص على فضح جميع المؤامرات الاستعمارية التي كانت تحاك ضد الشعب الجزائري. كما كان ينظم التظاهرات والإضرابات الاجتماعية. فهو الساهر على مصلحة الشعب الجزائري، وهو طلائع التضحية والجهاد. لقد شعرت الإدارة الإفرنسية في الجزائر - والمستوطنون الإفرنسيون - بأرض الجزائر وهي تميد من تحت أقدامهم. غير أنهم لم يتمكنوا من إمساك الخيوط المحركة لهياج الجماهير، فكانت مذبحة 8 أيار - مايو - وسيلة للقضاء على (المجهول). ولم تكن أعمال إبادة الأطفال والشبان في سطيف وقالمة وسواهما سوى محاولة لإجهاض ثورة المستقل، غير أن هذه المحاولة، على قسوتها، وعلى وحشيتها، لم تزيد النار إلا ضراما. إذ أنها قدمت للتنظيم السري الشواهد الثابتة على صحة المنطلقات النظرية التي كان يطرحها على الجماهير. (أ) (الشرف العسكري) أو (التنظيم الخاص): تأكدت القيادة العليا للتنظيم السري السياسي، بعد

أحداث (مذبحة أيار - مايو) أنه من المحال تحقيق أهداف الشعب الجزائري وتطلعاته بوسائل الصراع السلمي. فقررت تكوين جهاز عسكري أطلقت عليه اسم (الشرف العسكري) وترجمته الإدارة الإفرنسية بعد ذلك باسم (التنظيم الخاص) (*) وحددت واجبه (بالعمل لانتزاع الاستقلال بالقوة، الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الاستعمار) وبذلت الجهود لإعداد جهاز هذا التنظيم حتى يعمل بدقة متناهية، مع مراعاة كل شروط الحيطة والكتمان. وكان يتم اختيار المجاهد للدخول في تنظيم (الشرف العسكري) من بين مجاهدي التنظيم السري السياسي، وممن أتموا السنة الثانية في هذا التنظيم وأثبتوا كفاءتهم العالية، وبقي سجلهم بظيفا ومشرقا، وكان يفضل منهم الأعزب الذي تجاوز في عمره العشرين سنة، بجيث يكون قد اكتمل في قوته الجسدية، وتوافر له الوعي الجيد لما سيضطلع به من أعباء وواجبات. ويقسم على حفظ السر - وهو الشرط الأساسي لقبول المجاهد في هذا التنظيم - وتجدر الإشارة إلى أن مجاهدي (التنظيم السري السياسي) لم يكونوا يعرفون بوجود (تنظيم الشرف العسكري). وكانت الخلية التي ينقل منها المجاهد المثالي إلى (الشرف العسكري) تعتقد أنه قد أخرج من التنظيم السري إلى مجال العمل السياسي أو العلني، أو أنه قد نقل إلى خلية أخرى، وعلى كل حال، فإنها لا تسأل عن سبب تغيبه، ولا يحق لأحد من أفرادها مناقشة المجاهد عن سبب اختفائه. ...

_ (*) التنظيم أو المنظمة الخاصة: (Organisation Speciale).

هكذا، تدعم العمل السري، وظنت الحكومة الإفرنسية أنه من الحنكة أن تسمح بعودة (حزب الشعب الجزائري) إلى العمل العلني (تشرين الثاني - نوفمبر - 1946) حتى تجهض النشاط السري الذي لم تتمكن من متابعته، وحتى تجابه به (الاتحاد الديمقراطي لأصدقاء البيان الجزائري) من جهة ثانية. ولا ريب أنها كانت تجهل بأنه في اللحظة التي عاد فيها حزب الشعب الجزائري للعمل العلني (تحت اسم حركة انتصار الحريات والديمقراطية). كانت هناك مجموعة من المجاهدين قد مضت قدما، ودون أي تفكير بالتراجع، للعمل في تنظيم المقاومة الأولى السرية. وغني عن البيان أن كثيرا من الجنود الجزائريين، بعد أن ساهموا بشجاعة في معارك إيطاليا وفرنسا وألمانيا، عادوا في صيف عام 1945 إلى الجزائر، فلم يجدوا في وطنهم إلا الحداد والخراب في حين كان أبناء المستوطنين ينعمون بخيرات الجزائر ويعملون على اضطهاد شعبها (*) وبينما كانوا يقاتلون لتحرير فرنسا، ويؤمنون انتصار الحلفاء، كانت فرنسا تسلم أسرهم إلى فظائع جنودها وبعض المستوطنين. لهذا انصرف عدد كبير من هؤلاء الجنود إلى صفوف الثوار - ومن الأمثلة على ذلك الرقيب عمران - ترى أين كان باستطاعة هؤلاء الجنود أن يتوجهوا، حيال مثل هذه النكبات الهائلة،

_ (*) لقد أشاد عدد كبير من قادة فرنسا بجهود الجزائريين في تحرير فرنسا، غير أنهم تجنبوا ذكر نسبة المسلمين الجزائريين الذين اشتركوا في الحرب وهي 90 بالمائة. في حين كان أبناء المستوطنين من أنصار حكومة فيشي ينتحلون الأعذار للبقاء في مزارعهم ووظائفهم.

والمظالم الشاملة، اللهم سوى نحو أولئك الذين يهيؤون لمعركة الحرية الكبرى؟ وهكذا، أخذت تبرز في صفوف الشعب إرادة هائلة نحو التحرير، وأخذ الشعب الجزائري يؤكد بجميع الوسائل تصميمه على تحقيق حياة وطنية صحيحة. وقد تأثر عدد من موظفي أجهزة الإدارة الإفرنسية بالحركة، وانضموا إليها. ويمكن - على سبيل المثال - التعرض لقصة , (محمد بن ازداد) الموظف الشاب لدى حكومة الجزائر، والذي تخلى عن وظيفته لدى الحكومة العامة، ليقف نفسه على خدمة الحزب. فكان عقائديا ومنظما من الدرجة الأولى، بقدر ما كان مثاليا في تواضعه وإنكاره لذاته. وقد أدى شظف الحياة السرية وصعوباتها إلى تدمير صحته، فأرسل إلى فرنسا تحت اسم مستعار للاستشفاء، غير أنه مات في أحد المصحات هناك سنة 1949. ومهما يكن من أمر، فإنه في الوقت الذي كانت فيه الحركة من أجل انتصار الحريات والديمقراطية تقوم بعمل علني مشروع، كانت تنشىء وتطور منظمة (الشرف العسكري - أو - التنظيم الخاص) لتكون جهازا عسكريا يمارس عمله بسرية مطلقة. ويضطلع بواجبه في إعداد الحركة الثورية. وأخذت النفسية الثورية تصبح عملا مشخصا، فقد ولد الرجال الجدد في فترة ما بين الحربين العالميتين، وتكونت معهم مفاهيمهم الخاصة ببطلان التصريحات في الساحات العامة، وبطلان الاتجاهات السياسية المتناقضة، وما يرافقها من أساليب غوغائية ديماغوجية تعبر عن العقلية الحزبية الضيقة والمحدودة. وكفر هؤلاء بكل الأساليب الشرعية التي

يحدد الاستعمار ذاته شرعيتها وقانونيتها. فالعمل الثوري وحده هو الذي يمكنه وضع حد حاسم للسيطرة والاستغلال المديدين. بدأت منظمة (الشرف العسكري) إلى العمل الميداني المباشر معتمدة على الأصالة الثورية لشعب الجزائر، غير أن هذه الأصالة، والتي عبرت عنها الجزائر بثوراتها المتتالية طوال عهد الاستعمار، كانت تفتقر إلى التنظيم الصحيح. وكان لا بد من استلهام خبرات الحروب الثورية في العالم من حيث التنظيم (وأبرزها حرب الهند الصينية). وأخذ المجاهدون شبانا وشيوخا يلتحقون بالجبال - بسرية تامة - حيث يتدربون على السلاح، ومن الأمثلة على ذلك قيام شاب جزائري بتنظيم أول مركز حربي مجهز بمحطة لاسلكية للإرسال والاستقبال. وكان النظام صارما، والتدريب حسب منهاج منطم، وكان كل شيء يعد لحرب عصابات طويلة الأمد. وكانت هناك ثلاث قطاعات تتقاسم نشاط التجنيد وهي (قطاع الارتباط وقطاع الإمداد وقطاع المغاوير الفدائيين). وكانت إجراءات الأمن تسدل حجبا كثيفة بين مختلف الفرق. وكان تسيير المجاهدين محددا بأفضل العناصر وأكثرها تجربة. وكانت مدة التعبئة غير محدودة. وانطلاقا من هذا التنظيم الذي بدأ منذ مؤتمر شباط - فبراير - 1947. أخذ الحزب يجابه السلطات الإفرنسية على جبهتين، جبهة الشرعية، وجبهة العمل السري. فمن الوجهة الشرعية كان (لحركة انتصار الحريات والديمقراطية) خمسة نواب في المجلس النيابي الإفرنسي - البرلمان - وكان يمسك بعدة

بلديات، منها بلديات الجزائر ووهران وقسنطينة وعنابة (بونة) وسكيكدة (فيليب فيل) وبليدة وتلمسان. وكان النشاط العلني للحركة يتركز على قضية استقلال الجزائر والمطالبة بإطلاق سراح زعيم الحزب (مصالي الحاج) والتنسيق مع الجامعة العربية. وكانت الإدارة الإفرنسية تجابه هذا النشاط العلني بأسلحتها التقليدية، مثل تزوير الانتخابات والملاحقات القضائية القانونية - وإصدار الأحكام الجائرة التعسفية، وفرض الغرامات، وزرع بذور التفرقة بين التكتلات والأحزاب وضرب بعضها ببعض، وتمويل الأجهزة للتفريق بين المسلمين من عرب وبربر بإثارة القضية القومية، وتطوير الحرب ضد العروبة واللغة العربية - لغة القرآن الكريم - وكان الحزب في تنظيمه ويقظته يقوم بهجمات مضادة، ويتغلب على كل العقبات. أما في مجال العمل السري، فقد كانت المعركة عنيفة مظلمة، كانت مبارزة حتى الموت بين الوطنيين والشرطة الاستعمارية. وكانت كل الوسائل صالحة عند قوى الأمن. فبحجة مطاردة اللصوص، كان رجال الشرطة يتسللون إلى كل مكان، ويقتحمون المنازل وينتهكون حرماتها ويحاصرونها. ويخربون القرى، وينفذون أبشع أعمال العنف ضد الأهلين. وعندما كانوا يعتقلون الوطنيين - ويعثرون على ضالتهم - يخضعونهم لأقسى أنواع التعذيب. ولما كان نشاط العمل السري يتطلب تمويلا ضخما يزيد على قدرات الحزب وإمكاناته، فقد قام عدد من مجاهدي المنظمة السرية (الشرف العسكري) بمهاجمة دائرة البريد في وهران، واستولوا على مليون دولار تقريبا.

وضمنت المنظمة بذلك الأموال اللازمة لدعم حركاتها المقبلة، وأمكن لها تطوير التدريب العسكري وتحسينه يوما بعد يوم. وهكذا قضت المنظمة السنوات التي انصرمت بين عام 1947 وعام 1950 في جمع الأسلحة وتدريب المتطوعين، ووضع الخطط للاستيلاء على الجزائر. وعلى الرغم من أن قادة المنظمة الشبان من أمثال (آية أحمد) و (أحمد بن بيللا) و (محمد العربي بن مهيدي) و (محمد بوضياف) و (عبان) و (الأخضر بن طوبال) و (عبد الحفيظ بوصوف) وسواهم. قد نالوا رضى (مصالي الحاج) منذ البداية، إلا أنهم لم يفلحوا في إقناع زعيم الحركة بأن اللحظة غدت مؤاتية للبدء بالهجوم، وإشعال نار الثورة. كانت (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) تتعرض تلك الفترة لأزمة حادة، فقد تعرضت تنظيماتها السرية لأعمال عنف بالغة الشدة من جانب السلطة الإفرنسية، في (هوسون فير) في عام 1948. وفي (سيدي علي أبو ناب) في عام 1949 وفي غيرهما من الأماكن في جبال الأوراس وقسنطينة. وأدت هذه الإجراءات التي تناولت عددا من مجاهدي الحزب المحليين، إلى إعادة تنظيم القيادات المحلية بصورة مستمرة. وغدت سياسة الحركة الانتخابية هي محور الخلاف الداخلي. فقد رشحت الحركة عددا من رجالها للانتخابات في حين كانت تطور نشاطها السري. واعتبر بعض المجاهدين الشبان أن اشتراك الحركة في المجالس الإفرنسية التشريعية هو خيانة، بينما رأى مناضلون آخرون في هذا الاشتراك الطريقة الوحيدة للحصول على مكاسب قصيرة الأمد، ولتغطية النشاط السري. وعلى كل حال، فقد لاحظ قادة التنظيم السري بأن التأخير في انطلاقة الثورة، وعدم

(ب) اللجنة الثورية للوحدة والعمل

الانتقال إلى العمل، من شأنه التأثير على الروح المعنوية لأفراد التنظيم، وسيضعف من قدرة التنظيم، ويعرضه لضربات الإدارة الاستعمارية. وهكذا وبينما كان التنظيم السري (الشرف العسكري) يستعد للانطلاق بالثورة، وقع حادث في قسنطينة سنة 1950 أدى إلى كشف هذا التنظيم، وتمكن رجال الشرطة الإفرنسية من وضع قبضتهم على شبكة التنظيم. فاعتقلوا المئات من الأعضاء. غير أن الإدارة الإفرنسية لم تكتشف شبكة التنظيم في منطقة (القبيلة) فبقي هذا التنظيم سليما حتى جاءت الثورة (1954). واجتمعت اللجنة المركزية لحركة انتصار الحريات الديموقراطية بعد هذا الحادث، وقررت حل المنظمة الخاصة مؤقتا، لأنها رأت أنه ليس من المجدي الاحتفاط بجيش قائم في فترة انتظار طويلة. وأضافت أنها ترى أن الحاجة تدعو فقط إلى تدريب هيئة قيادة وبعض الخبراء الفنيين، قبل بضعة أشهر من بدء الحركة الفعلية. وأدى حل المنظمة إلى نوع من شعور الجفاء بين (مصالي الحاج) و (مجموعة الشبان) قادة التنظيم السري الذي جهدوا كثيرا في إنشاء هذا الجيش. وقد برهنت تنظيمات الجيش السري وأسلحته، على أنها ذات فائدة لا تقدر بثمن، وذلك عندما تفجرت الثورة الكبرى سنة 1954. (ب) اللجنة الثورية للوحدة والعمل: أدى اكتشاف منظمة (الشرف العسكري) في قسنطنية، إلى قيام الإدارة الإفرنسية بهجمة إرهابية شرسة، تمت خلالها مطاردة زعماء التنظيم واعتقال بعضهم، وهكذا اختفى من على المسرح (بن بللا) و (عبان) و (بوضياف) و (بن طوبال) و (بوصوف)

التنظيمات الحزبية والتكتلات السياسية التي عرفتها الجزائر خلال مرحلة التحرك القومي 1914 - 1954 نجم شمال أفريقيا (مصالي الحاج) 1925 >> حزب الشعب الجزائري (مصالي الحاج) 1937 >>حركة انتصار الحريات الديمقراطية (مصالي الحاج) > (المصاليون فريق القيادة الفردية) > فريق المركزية أو القيادة الجماعية الأحول وبن خدة 1954 >> التنطيم السري 1947 >> اللجنة الثورية للوحدة والعمل 1950 جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (ابن باديس) 1931 الحزب الشيوعي 1924 الاتحاد الديمقراطي لأصدقاء البيان (عباس فرحات) 1943 كتلة المسلمين الجزائريين المنتخبين جيش التحرير وجبهة التحرير 1954

الدائرة المجموع .......... المجموع .......... المجموع خلية ..... خلية ..... خلية ..... خلية ..... خلية ..... خلية ..... خلية ..... خلية ..... خلية 1 - تشعب الخلايا السرية في دائرة من الدوائر القيادة المركزية للمنطقة مفتش ..... مفتش ..... مفتش دائرة ..... دائرة ..... دائرة 2 - كريقة اتصال الدوائر بالقيادة المركزية لإحدى المناطق القيادة العامة القيادة المركزية للمنطقة ..... القيادة المركزية للمنطقة ..... القيادة المركزية للمنطقة 3 - اتصال القيادة المركزية للمنطقة بالقيادة العامة

وغيرهم من القائمة الطويلة. وبقي (محمد خيضر) حرا بفضل حصانته النيابية، ثم التحق بالقاهرة في نهاية ولايته النيابية - بعد الانتخابات التشريعية. وأدى اكتشاف المنظمة الخاصة وتدميرها إلى تأخير موعد قيام الثورة. ولكن الحركة ستجد فيما بعد الوقت الكافي لالتقاط أنفاسها، وإعادة تجميع قواها، والانتقال إلى العمل. كانت (حركة انتصار الحريات والديموقراطية) خلال ذلك غارقة في مناقشاتها، منصرفة إلى صراعاتها العقيمة. ووراء تلك المناقشات والصراعات كان الخزان العظيم للشعب الجزائري يتعرض لمجاعة حقيقية، وكان الهدوء الظاهر المخيم على خزان الشعب كافيا لإخفاء ما كان يتفاعل في النفوس من الغضب الناجم عن ذلك الفارق الكبير بين العيش الغارق في الترف للمستوطنين الأجانب، وبين عيش البؤس والفقر المدقع مما كان يعيشه أبناء البلاد. وجاءت الهزة الأرضية في الأصنام (أورليا نزفيل) في صيف 1954، لتسجل للإدارة الإفرنسية أسوأ مظاهر التمييز العنصري في معاملة ضحايا الزلزال. وغدا الشعب الجزائري، من فلاحيه إلى أصحاب المهن من أبنائه، على استعداد للقيام بأي شيء للتخلص من هذا الوقع الغريب. وكان زعماء الجزائر - الشبان - يراقبون بدقة تطورات الأوضاع في الأفق الدولي. وأخذ الشعب يسمع ويتابع أخبار الشعوب الجديدة التي حصلت حديثا على استقلالها بجهودها وتضحياتها مؤكدة بذلك حقيقة أنه باستطاعة الشعوب الضعيفة مقارعة

الشعوب الاستعمارية القوية والانتصار عليها، بالرغم من كل تفوق في موازين القوى. وجاءت أحداث تونس في عام 1954 لتبرهن من جديد، أن القوة، حتى ولو مارستها بضع مئات من محاربي الجبال، قد تؤدي إلى نتائح عظيمة. وإلى الغرب - في مراكش - واصل المغاربة استعمال الإرهاب لإظهار غضبهم على الطغيان الإفرنسي، وعلى نفي سلطانهم من البلاد. وظهر أن الوطن الإسلامي - العربي كله يتأجج بنار الثورة. وهكذا لم يعد توجيه هذه التيارات الجزائرية العميقة من الغضب باتجاه الثورة في حاجة إلى أي شيء آخر غير القادة والأسلحة. وصل التمزق في (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) منتهاه وغايته مع بداية عام 1954، وتمركز الصراع بين مركزي القوى الرئيسيين - على نحو ما سبق عرضه - مركز (مصالي الحاج) وأنصاره، ومركز (اللجنة المركزية) بقيادة بن يوسف بن خدة وعبد الرحمن كيوان وحسين الأحول، وأنصارهم. غير أن اتجاها ثالثا نشأ بين هذين المركزين المتصارعين على متسوى القمة، وكان هذا الاتجاه الثالث هو الأكثر التصاقا بقواعد الحزب والأشد تلاحما معها. وقد ضم هذا الاتجاه العنامر القيادية من المنظمة السياسية، ومن المنظمة الخاصة (الشرف العسكري) وكان لهذا الاتجاه رأيه الخاص تجاه الأزمة التي كانت تهز القومية الجزائرية. وقد عبر هذا الاتجاه عن رأيه بما يلي: أولا: إن الأزمة باعتبارها أزمة على مستوى القيادة، تضع على بساط البحث مسؤولية جميع القادة بما في ذلك (مصالي الحاج)

ثانيا: يجب البحث في وسائل المحافظة على وحدة الحزب، من خلال طرح أسباب الصراع على القاعدة وأعضائها، وتوضيح الموقف الذي بات مشوشا وغامضا إثر حملات السباب وتبادل الإدانات والاتهامات. ومن هنا فقد أصبح لزاما على فروع الحزب الانفصال عن القيادتين المتصارعتين وإجراء مداولات نزيهة وموضوعية توفر الضمانات الديموقراطية لجميع الأعضاء دون تمييز في الاتجاهات. وقد رفض هذا الاتجاه الأخذ بقرارات المجالس التي عقدها كل من أنصار اللجنة المركزية وأنصار مصالي الحاج. ثالثا، إن أفضل طريقة لتسوية الخلاف، على المستوى السياسي، تكمن في استعادة المبادأة في الكفاح ضد الإمبريالية، لأن استعادة المبادأة تعني تصلب الكفاح، والانتقال إلى العمل المباشر مع أخذ ظروف شمال أفريقيا بعين الاعتبار. استطاع هذا الاتجاه أن يجمع حوله غالبية المجاهدين القوميين في الجزائر، الذين لم يكن باستطاعتهم وقد تخرجوا من المدرسة الثورية، إلا أن يدعموا بكل قواهم (نظرية تجمع الحرص على المحافظة على وحدة الحزب، والرغبة في دفع القضية الوطنية على طريق الصراع المصيري الحاسم) في وقت كانت فيه الحاجة ملحة إلى وضع القضية الجزائرية على ذات المستوى الذي بلغته القضيتان المغربية والتونسية. ولقد ظهر لأصحاب هذه النظرية، أن الأزمة، قبل أن تكون أزمة قيادة وأشخاص،

هي أزمة جيلين: جيل صنع طويلا الأداة الثورية في ظل نظريه قومية. وجيل كان يريد الانتقال فورا إلى العمل المباشر. ونادرا ما اجتمعت النظرية والعمل لدى رجل واحد. ... أعلن على أثر ذلك تنظيم (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) تعبيرا عن هذا الاتجاه الثالث. وتشكلت لجنة تضم إثني وعشرين عضوا فرضته سلطاتها إلى (محمد بوضياف) لتعيين القيادة. وعمل بوضياف على تشكيل لجنة من تسعة أعضاء، أوكل إليهم قضية (الانطلاق بالتنظيم نحو الثورة). وانتقل بعض هؤلاء للعمل في مناطقهم بينما توجه آخرون إلى خارج الجزائر لتأمين متطلبات الثورة. واتصلت (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) ضمن نطاق اتصالاتها بحزب الدستور الجديد في تونس، وبحزب الاستقلال في المغرب لتنسيق عمل الثورة على مستوى المغرب العربي - الإسلامي، ولدعم الصراع المشترك ضد الاستعمار الإفرنسي. وفي القاهرة، قام مكتب , (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) بجمع نشاط المنظمات الافريقية، وضمن دعم رؤساء البلاد العربية. وهكذا كانت (قيادة اللجة الثورية للوحدة والعمل) في صيف 1954، على رأس العمل. وكانت المنظمة السرية شبه العسكرية بأسرها جاهزة بانتظار ساعة الصفر. وكان من الضروري الاسراع بالعمل، فلدى العدو وسائله القوية، التي يتهدد بها الجهاز الثوري والذي لم يتشكل إلا بعد جهد كبير وصبر طويل.

قام في موقع (سوق باب عزون القديم، حيث كان جنود الحملة الافرنسية يبيعون في نيسان - ابريل - عام 1832. أساور الحرائر الجزائريات التي كانت ما تزال معلقة بالمعاصم المقطوعة. قام في هذا الموقع حي غني هو حي المصارف، حيث تجد أبنية الشركة الجزائرية والبنك العقاري وبنك الجزائر، والشركة العمومية الخ ... وفي الحي ذاته، بين شارع الحرية، وشارع كارنو، يرتفع بخيلاء قصر المفوضيات المالية الذي تحول عام 1948 - إلى (مقر الجمعية الجزائرية). فهنا، وخلال أجيال تحت ظل شعارات الثورة الإفرنسية (حرية، مساواة، إخاء) تكون بعض كبار الملاكين الزراعيين، ثم ظلوا أسياد المال والميزانية. ومارسوا سيادتهم على البلاد بأسرها، فصنعوا وأقالوا حكومات، ونقلوا موظفين كبارا، ووزعوا المكافآت، وعينوا وراقبوا ملاكات الموظفين الوطنيين - الكادرات - ونظموا اقتصاد الجزائر لمصلحتهم. وسخروا شعبا بكامله لخدمتهم بعد أن أخضعوه بالقوة، وأسلموه إلى القوانين العنصرية، وجمعوا ثروات فاضحة، بل أنهم عطلوا القوانين الإفرنسية، عندما كانت مثل هذه القوانين لا تستجيب تماما لمصالحهم. هناك، في هذا الحي نفسه، وفي منتصف حزيران - يونيو - من عام 1954، اجتمع ستة جزائريين، ستة وطنيين، من أصل متواضع مغمور ينتسبون إلى جمهور الشعب الكبير، اجتمعوا في جلسات عمل، وعقدوا في منزل عامل متواضع جلسات متعددة. كانوا يؤدون مهمة تنفيذ قرار صادر عن (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) لإقامة جهاز مقدر له أن

يدمر بالسلاح النظام الاستعماري ويحرر البلاد. لقد انتهت بالنسبة لمنظمتهم هذه عهود الدعاية الدعوية العلنية فغدت الثورة الوطنية الحل الوحيد ضد نظام وصلت به صفاقته إلى حد كان يخرق معه القوانين التي يضعها هو بنفسه. ولم يكن يتوافر لهؤلاء الجزائريين وسائل ضخمة، فكل ما كان بحوزتهم بعض الأسلحة الرشاشة وبنادق الصيد، وبعض الالوف من الفرنكات. ولكن كان لديهم الشيء الكثير من الجرأة والايمان والوطنية. أما هؤلاء الرجال فكانوا: مصطفى بن بولعيد القادم من الأوراس ومحمد العربي بن مهيدي من عين مليلا، ورابح بيطاط من عين كرمة في مقاطعة قسنطينة، ومحمد بوضياف سليل أسرة كبيرة في مسيلا وموظف مالي سابق في برج بوعريرج، وديدوش مراد من ضواحي الجزائر العاصمة وكريم بلقاسم الذي هبط من جبال القبائل الكبرى. وكانوا على ارتباط بثلاثة من الوطنيين الآخرين الذين كانوا في القاهرة لمهمات أخرى وهم حسين آية أحمد - ابن أحد الأشراف في منطقة القبائل. وأحمد بن بللا من مغنية على الحدود المغربية ومحمد خيضر - نائب سابق. تابع أعضاء القيادة الستة اجتماعاتهم في مدينة الجزائر بصورة دورية. فعملوا على تعيين القادة المسؤولين عن المناطق والنواحي، ثم وزعت بعض الأسلحة الرشاشة. مع تأمين التموين للمجاهدين، ضمن الامكانات المتوافرة، وتبعا لما كان يتطلبه نشاط الأنصار. وكان كل واحد من القادة الستة يزور المنطقة الخاصة به بين فترة وأخرى لتفقد الاستعدادات

القتالية، وتعيين مواقع المجاهدين. وكان مصطفى بن بولعيد مسؤولا عن المنطقة الأولى (منطقة الأوراس) في حين كان ديدوش مراد مسؤولا عن المنطقة الثانية (منطقة قسنطينة). وكان كريم بلقاسم مسؤولا عن المنطقة الثالثة (منطقة القبائل) أما محمد العربي ابن مهيدي فكان مسؤولا عن منطقة وهران. وتكفل رابح بيطاط بمسؤولية العمل في العاصمة الجزائر. ورأى قادة (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) أنه من الضرورة بعد تنظيم المربعات العسكرية، إنشاء تشكيل سياسي جديد تتوافر له القدرة عل تعبئة جماهير الشعب حول اللجنة. فتم الاتفاق على تشكيل (جبهة التحربر الوطني الجزائرية) التي انضم إليها أشهر المجاهدين، وانصهرت فيها المنظمات الوطنية القديمة، وكان يبدو لهم أن اتحاد القوى الفعالة في الشعب الجزائري هو الضمانة الأولى لانتصار الثورة. ولهذا تم تأخير الاعلان عن تشكيل الجبهة حتى صبيحة يوم انفجار الثورة. لقد أوكلت إلى السيد (محمد بوضياف) مهمة تنظيم جبهة التحرير السياسي والاداري، والتنسيق بين المناطق. وكان بوضياف قد قام بدور أساسي وحاسم في تشكيل (المنظمة الخاصة - الشرف العسكري). لم يكن العمل سهلا، فالمخاطرة كبيرة، والعقبات ضخمة والمسؤوليات الثقيلة مرهقة. ولم تكن تصفية احتلال استعماري وحشي امتد قرنا وربع القرن لتتم في يوم وليلة - فمنذ عام 1830، كان للنظام الاستعماري القائم على الاستيطان

الافرنسي الهائل، الوقت الكافي ليمد جذوره، وليضمن عملاء له بين شعب مغلوب على أمره. أما الاوروبيون، فكان من المؤكد أنهم سيدافعون عن النظام الاستعماري الذي يضمن لهم السيطرة والامتيازات. وفي فرنسا لن تكون البورجوازية عاجزة عن تعبئة جميع قواها من أجل إعادة إحكام قبضتها على الجزائر، فلا مكان لدى الاستعماريين للعواطف عندما تصبح مصالحهم معرضة للخطر. ولكن حماسة الشباب، ومرارة شعب بأسره، كانتا في حالة يصبح معها كل شيء ممكنا، ولقد عرف التاريخ في كل زمان ومكان - إيمان المضطهدين وقد أمكن له الانتصار دائما على كل العقبات التي يصنعها الطغاة. ولهذا اتجهت قيادة (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) نحو المركزيين والمصاليين، لتحاشي كل سوء تفاهم، ولتبديد كل التباس أو غموض، ووجهت إليهم الأسئلة الثلاثة التالية: أولا: هل تؤيدون العمل المباشر؟ ثانيا: في حال الايجاب ماذا تضعون تحت تصرفه؟ ثالثا: إذا بدأ هذا العمل دون مشاركتكم، فما هو موقفكم؟. وقد رد أنصار (مصالي الحاج) بالرفض المطلق، فلم يكونوا يعترفون بأية منظمة وطنية خارج المنظمة التي يرأسها مصالي الحاج، وهو وحده الذي يمكن أن يصدر إليهم أمرا مجديا. أما المركزيون، فقد تحفظوا دون أن يبدوا الخصومة.

وفيما يختص (بالحركة الديموقراطية للبيان الجزائري - فرحات عباس) فقد قبلت الاشتراك في العمل. لم يبق بعد ذلك، إلا موعد تحديد إطلاق رصاصة الثورة الأولى، ومن أجل ذلك عقد قادة (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) اجتماعهم التاريخي في العاشر من تشرين الأول - اكتوبر - واتخذوا قرارهم الخطير، بالبدء بالثورة في يوم عيد جميع القديسين - أي في الساعة الواحدة من صباح اليوم الأول من تشرين الثاني - نوفمبر - 1954. واجتمع في غضون ذلك زعماء لجنة الثورة الموجودون في الخارج - في مراكز الاصطياف في سويسرا - لتنظيم عمليات شراء الأسلحة، وحشد تأييد الوطنيين الآخرين. وانضم عدد من أنصار اللجنة المركزية إلى الحركة. لقد أزفت اللحظة الحاسمة التي طال انتظارها، ولم يعد هناك مجال للتردد أو النكوص. فمضت القيادة التاريخية للعمل مخلفة وراءها المتمهلين والمترددين، لكنها لم تتخل عن أملها في امكانية توحيد كل الصفوف والقرى الوطنية من خلال العمل الثوري ذاته. ومضت الأيام التي سبقت الثورة في عمل متصل، وجهد مستمر، لقد صمم القادة التاريخيون على اطلاق رصاصتهم الأولى في مناخ يستثير المشاعر، ويلهب حماسة الجماهير. وأخذت الاستعدادات تصل إلى ذروة كمالها مع اقتراب موعد الانفجار. وفي الموعد، وقف القادة التاريخيون في وسط المعركة وهم يراقبون الحدث الذي صنعوه، ويتابعون تأثيره ونتائجه.

(ج) القادة التاريخيون

(ج) القادة التاريخيون: لقد مضى ربع قرن على انطلاقة الثورة، وبات بالامكان معرفة بعض أسرارها، والتعرف على بعض القادة التاريخيين الذين أطلقوا شرارتها. ولم يكن هذا الأمر ممكنا في ظروف الثورة. فقد حرص أولئك القادة على تجنب كل ما يكشف عن شخصياتهم، واعتصموا بقواعد الثورة، وحاولوا البقاء في الظل، ولم يشتركوا في أي مؤتمر عام - خارج القطر الجزائري إلا بعد انتهاء الثورة. ولقد أسهم في الثورة جميع الجزائريين الذين فازوا بممارسة بعض الأعمال الادارية أو القيادة، واكتسبوا بذلك خبرة كافية تؤهلهم لممارسة أعمالهم في ظلال الثورة وتحت رايتها، سواء كانت خبرة هؤلاء ناجمة عن عملهم في القطاع المدني - خلال الفترة الأخيرة التي سبقت الثورة - أو في الجيش الإفرنسي ذاته. وكان معظم جيل القادة من الذين ولدوا في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولهذا لم يروا في فرنسا إلا بلدا ممزقا في اتجاهاته منحلا في قيمه الأخلاقية، متحررا من الفضائل المثلى، وجاءت هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية (سنة 1940) واشتراك الجزائريين في الحرب لتؤكد لهؤلاء سقوط هالة (الرجل الأبيض المتفوق). وعلى الرغم من أن أبناء هذا الجيل قد تلقوا الثقافة الافرنسية، إلا أنهم لم يعرفوا شيئا عن التعاون مع فرنسا - بخلاف جيل مصالي الحاج وفرحات عباس وبن جلول وأضرابهم من كان مثلهم الأعلى في شبابهم توثيق التعاون مع فرنسا. وهنا

يبرز فضل (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) التي مارست دورها خلال هذه الفترة في تكوين تيار إسلامي - عربي، وبناء قاعدة صلبة للثورة، لم تلبث أن أسهمت في ربط الدورة بأصالتها التاريخية، وبالتراث النضالي للبلاد. وبقي الشيء المهم في قيادة الثورة الجزائرية، وهو ليس الافتقار إلى الزعيم الفرد، بل وجود القيادة التي تمتد إلى مسافات عميقة داخل صفوف المجاهدين. ولعل العزوف عن تنصيب قائد فرد في موقع القمة هو الذي يفسر إحباط المحاولات التي قام بها (مصالي الحاج) للسيطرة على الحركة الوطنية الجزائرية وهي الوسيلة التي كانت تكمن وراءها رغبة الزعماء الجزائريين في عدم السماح لفرد واحد لاتخاذ قرارات قد تكون مهلكة وقاتلة، عندما يتخذها هذا الفرد، متأثرا بحوافز وانفعالات شخصية، هذا بالاضافة إلى صعوبة التأكد من قدرة الفرد، أي فرد - على الاستمرار في مواجهة قتال العصابات ومصاعبها ومتطلباتها في حرب طويلة الأمد. ولا يعني هذا أن بعض القادة السياسيين (في قيادة جبهة التحرير الوطني) والقادة العسكريين في (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) والتي تحولت إلى (جيش التحرير الوطني) لم تستهوهم وتستميلهم فكرة الوصول إلى مرتبة القيادة الانفرادية المعترف بها. ولا ريب في أن عددا من العسكريين قد أرادوا ممارسة السلطة المطلقة على نطاق ضيق - استجابة لمتطلبات حرية العمل العسكري وظروف حرب العصابات -. ولا ريب في أن بعضهم قد تمكن من تحقيقها لنفسه في وقت معين وفي إطار ظروف محددة وقاهرة. ولكن المقاومة التي أبداها الزعماء

مصطفى بن بولعيد

الآخرون، والاخلاص المطلق لقضية الجهاد والقضية الوطنية، قد وضعا حدا لكل انحراف نحو انتحال السلطة الفردية. ... عند هذه النقطة يمكن الوقوف لحظة أمام أولئك الرواد التاريحيين الذين أشعلوا فتيل الثورة. وعند هذه النقطة أيضا، تنكس الرايات، لا رايات الجزائر المجاهدة فحسب، بل رايات الحرية في العالم إجلالا لأرواح تلك الطليعة التي ستبقى أسماء أبطالها نماذج للتضحية وإنكار الذات، والدفاع عن الإسلام والعروبة في جزائر المسلمين. لقد مضى مصطفى بن بولعيد ومحمد العربي بن مهيدي وباجي مختار وبن عبد المالك رمضان وبشير شيهاني ومراد ديدوش وراشد ملا ويوسف زيروت وسودازي بوجمه، وسواهم كثير من جيل الرواد، وستبقى أسماؤهم الساحرة منارات تضيء سماء الجزائر وتشرق لها سماء الحرية. وإذا كانت الشهادة من نصيب هؤلاء، فقد كان الاستمرار في الجهاد من نصيب بقية القافلة الريادية. والتي ضمت على سبيل المثال، من سبق ذكرهم من أعضاء (اللجنة الثورية للوحدة والعمل). ... 1 - مصطفى بن بولعيد: هبط من جبال الاوراس وهو يحمل معه كل شمم الجبال وشموخها، وانصرف للعمل الدؤوب، يصل الليل بالنهار حتى أمكن له جمع ثروة مالية كافية لتأسيس شركة نقل (أريس - بطنا). وظن أن الحياة قد

ابتسمت له بعد تجهم، وأنه بات يستطيع التمتع بالحياة بعد بؤس وشقاء. غير أن طبيعة عمله جعلته باحتكاك دائم مع مواطنيه، فكان من المحال عليه الانفصال عن آلام مواطنيه، أو الابتعاد عن معاناتهم. وجاء عيد المولد النبوي الشريف من سنة 1951 واستنارت منارات ما بقي من مساجد الإسلام في الجزائر احتفالا بهذه المناسة العظيمة. واجتمع في فناء (مسجد شممرا) الكبير أكثر من خمسمائة مجاهد، كان بينهم مصطفى ابن بولعيد، ورابح بيطاط والأخضر بن طوبال، ثم انقطع (مصطفى بن بولعيد) عن عمله، ولم يعد يراه أحد تقريبا. غير أن قدامى المجاهدين يذكرون أنه نظم اجتماعا كبيرا مماثلا، ضم المجاهدين من مختلف الطبقات، فيهم من عانى أشد أنواع البؤس والفقر وفيهم من عرف بعضا من الثراء واليسر، فيهم ابن المدينة، وفيهم ابن القرية الذي لم يعرف المدينة. واختار النخبة منهم، ووجههم للتدريب العسكري، فيما نظم البقية في خلايا سرايا كلفها بأعمال مختلفة. وكان (مصطفى بن بولعيد) خلال ذلك يتابع اتصالاته السرية، وينظم قواعد الثورة في الاوراس ويتابع تنسيق العمل مع اخوانه في (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) حتى إذا ما أزف موعد الثورة، ذهب مودعا لمسقط رأسه (أريس)، وودع فيها ذكريات عمره، ونظر إلى أولاده النظرة الأخيرة، وهجر شركه النقل التي طالما أودع فيها كل آماله، ومضى مخلفا وراءه منزله ومكاتب شركته وما تضمه الشركة من مركبات واليات، لم يلبث أن قدمها مع كل ثروته للثورة. ووقف (مصطفى بن بولعيد)، مع الثوار وهم يطلقون

الرصاصات الأولى في خنشلة وسواها، ثم مضى بجمع الثوار والمجاهدين إلى القواعد المأمونة في الاوراس. وأخذ في بذل كل جهد مستطاع لتطوير الأعمال القتالية. غير أنه شعر بالحاجة للمؤن والأعتدة والأسلحة، فمضى للبحث عنها في مطلع سنة 1955؛ إذ ذاك وقع في قبضة القوات الافرنسية عندما كان قريبا من الحدود الليبية. ولكنه تمكن من الفرار من سجنة بطريقة رائعة في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - وعاد إلى ولايته ليستأنف فيها جهاده، بعد أن نجح في تأمين فرار (19) مجاهدا من المحكوم عليهم بالاعدام، ورافقهم من سجن قسنطينة إلى قاعدته في الاوراس. غير أن مرحلة جهاده لم تستمر طويلا، فقد استشهد قائد الولاية الأولى مصطفى بن بولعيد - في شهر آب - أغطس - 1956. لقد مضى بطل الاوراس شهيدا للقاء ربه. غير أنه سيبقى أبدا البطل الرابع في نظر مجاهدي جبال الاوراس، وتظل صورته ماثلة أبدا ومعلقة دائما في كل مكان من قلب هذه الجبال، معقل الثورة الأول. ولقد منح هذا البطل للثورة كل الثروة التي جهد لجمعها طوال حياته، ووهبها كل امكاناته التنظيمية، وبدون هذه التضحيات التي قدمها مصطفى بن بوليد واخوانه، ما كان ليقدر للثورة أن تكلل بالنجاح في منطقة مثل مطقة الاوراس المهمة، والدائمة الاضطراب. وجاد (مصطفى ابن بولعيد) بعد ذلك بالروح - في سبيل قضية الإسلام والوطن - والجود بالروح أغلى غاية الجود.

محمد العربي بن مهيدي

2 - محمد العربي بن مهيدي: منظم ولاية وهران، وعضو (اللجنة المركزية في حركة انتصار الحريات الديموقراطية) وعضو , (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) وعضو (لجنة التنسيق والتنفيذ) بعد انفجار الثورة. اشتهر بقدرته التنظيمية الرائعة، وبثقافته العالية، وسعة أفقه، وتحليله السليم للأمور. وهو من واضعي (نظرية الثورة) والتي عبر عنها بما يلي: (إن ثورة غرة نوفمبر 1954 التي انطلقت بقيادة جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني هي التعبير عن إرادة الشعب للحرية والاستقلال. ومرة أخرى، يجمل الشعب الجزائري السلاح ليطرد المحتل الامبريالي، ويقيم جمهورية ديموقراطية اجتماعية، وتطبيق نظام اشتراكي، يتضمن بالخصوص إصلاحات زراعية عميقة وثورية، ومن أجل حياة كريمة، ومن أجل السلام في المغرب العربي، إن الشعب الجزائري مصمم كل التصميم، على ضوء تجاربه الماضية، أن يتخلص نهائيا من كل أنواع عبادة الشخصية والمصلحة هي احدى أنواعها الأكثر بدائية ورجمعية. فالشعب الجزائري عازم كل العزم على أن يجعل من القيادة الجماعية، في إطار المركزية الديموقراطية، قانونا يسير كل واحد في انضباط، وأن يجعل من حزب جبهة التحرير الوطني الأداة التي تقوي وحدة الشعب، وبناء مستقبل زاهر لجميع الجزائريين والجزائريات في ظل العدالة والمساواة. إن الشعب الجزائري يعتمد في كفاحه من أجل التحرر والرقي على مساندة شعوب المغرب العربي الشقيقة، وعلى التضامن الفعال لكل العرب، وعلى صداقة الشعوب

الأفرو - آسيوية، وعلى تعاطف الشعب الافرنسي والديموقراطيين في العالم. فانتصار شعوب المغرب العربي، ذلك الانتصار الذي يضمن المساواة بين جميع أبنائها بدون تمييز، يعد عاملا قويا للتوازن والسلم في حوض البحر الأبيض المتوسط، وهذا الانتصار سيسمح بإقامة روابط وثيقة، ولا سيما مع الشعب الافرنسي في الكفاح ضد الفاشية، ومن أجل الديموقراطية. كما أنها تشكل علاوة على ذلك حصنا منيعا ضد الامبريالية في أفريقيا. إن الشعب الجزائري، تحت القيادة المظفرة لجبهة التحرير الوطني، وجيش التحرير الوطني، ستواصل زحفها الظافر من أجل الاسقلال. ومن أجل القضاء نهائيا على الاستعمار. ومن أجل انتصار حريات الانسان في ظل العدل والتآخي العالميين) (*). بات (محمد العربي بن مهيدي) شخصة أسطورية في تاريخ الثورة، نتيجة ما أظهره من كفاءة عالية في تنظيم القوات، وإدارة الصراع، وجاءت نهايته المأساة لتتوج سيرته الرائعة، فقد اعتقلته السلطات الافرنسية يوم 20 شباط - فبراير - 1957، وأخضعته للتعذيب الرهيب، وإذ ذاك، وقف في مواجهة العقيد - الكولونيل - الافرنسي، من قوات المظليين، وقال له برجولة المحارب: (اسمع أيها العقيد، إننا، أنا وأنت، من السادة المهذبين لأننا نحتقر الموت. ولكنكم

_ (*) نشرت في مجلة المجاهد الجزائرية العدد 2 في سنة 1956 (ملفات وثائقية - 24 - وزارة الاعلام والثقافة الجزائر - 1976 ص 61).

أحمد بن بللا

أنتم ستهزمون، لأنكم لا تؤمنون بأي شيء. أجل، إن إفرنسيين لم يعودوا يؤمنون بفرنسا. لقد غدوتم الماضي. فأنتم مجزؤون، ولا تعرفون ما تريديون. أما نحن، فنمثل المستقبل، لأننا نؤمن بالجمهورية الجزائرية. وإذا قدر لي أن أموت، فسيأتي بعدي الألوف ليواصلوا القتال) (*). ومات (محمد العربي بن مهيدي) تحت التعذيب، وانضم إلى قافلة الشهداء الأبرار. وبقيت كلماته اغنية حلوة على شفاه المجاهدين، وتحققت آماله، وارتفعت رايات الجمهورية الجزائرية. 3 - أحمد بن بللا: من مواليد وهران في غرب الجزائر، من أبويين مغربيين - مراكشيين وخدم جنديا في الجيش الإفرنسي قبل أن ينتقل للعمل في المجال الوطني - الساسي - وقد منح وسام الاستحقاق لشجاعته في حملتي شمال أفريقيا وايطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد عاد في عام 1946 إلى الجزائر حيث تم انتخابه عضوا في المجلس البلدي في مدينة وهران. وسرعان ما أصبح عضوا عاملا في نشاط الحركة الديمرقراطية لأنصار الحرية في وهران. وخلف في عام 1949 حسين آية أحمد في رئاسة المنظمة الخاصة (الشرف العسكري). وعندما اكتشف الافرنسيون أمر المنظمة في عام 1950، اعتقل بن بللا، ولكنه تمكن من الفرار من سجنه في عام 1952،

_ (*) صحيفة الاكسبرس 24 تشرين الأول - اكتوبر - 1957.

فمضى إلى القاهرة، حيث أقام مقر قيادة الحركة فيها. وتعاون مع لجنة تحرير المغرب العربي. وعندما حدث الانشقاق الخطير (الحركة الديموقراطية) انتاب القلق بن بللا وأمكن له تأمين الاتصال مع قادة التنظيم السري في الجزائر - عن طريق محمد بوضياف - ووضعوا معا خطة الثورة. وأظهر بن بللا خلال ذلك كله، قدرا كبيرا من الكفاءة التنظيمية، والقدرة على التأثير على الآخرين. وإليه يعزى الفضل في الحصول على شحنات كبيرة من الأسلحة من بعض الحكومات المترددة، ونقلها إلى المجاهدين في داخل الجزائر بمختلف الطرق والأساليب. وكانت البعثة الخارجية في العام 1956، قد قطعت شوطا بعيدا في طريق الوصول إلى حل عن طريق التفاوض مع فرنسا، عندما اعتقل فجأة. فقد كانت طائرة مغربية تقل أعضاء البعثة إلى تونس لإجراء مشاورات نهائية في موضوع شمال أفريقيا، عندما أرغمت الطائرة - في عملية قرصنة جوية نظمتها المخابرات الإفرنسية - على تغيير خط سيرها، والتوجه إلى الجزائر حيث تم اعتقال (بن بللا) يوم 22 - تشرين الاول - اكتوبر - 1956. واعتقل معه المجاهدين حسين آية أحمد ومحمد بوضياف ومحمد خيضر، وقد استثارت عملية القرصنة الإفرنسية أحرار العالم، وبصورة خاصة دولتي تونس والمغرب. وعلى الرغم من كل الاحتجاجات، فقد مضت فرنسا في مخططاتها العدوانية، وظنت أن اعتقال زعماء الثورة، سيتيح الفرصة أمامها لتدمير الثورة ذاتها. غير أن قيادة جبهة التحرير وجيش التحرير عملتا على تصعيد الصراع. وعندما عقدت قيادة الثورة مؤتمر الصومام،

وتم تشكيل المجلس الوطني للثورة الجزائرية، كان هذا المجلس يضم الزعماء الأربعة المختطفين (بالاضافة إلى (رابح بيطاط) الذي سجنته فرنسا منذ شباط - فبراير - 1955) وعندما تشكلت الحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة فرحات عباس في 19 أيلول - سبتمبر - 1958 ضمت هذه الحكومة في عضويتها القادة المختطفين والمسجونين في سجون فرنسا، ولم يكن ذلك مجرد تقدير لجهاد القادة وتضحياتهم بقدر ما كان إمعانا في تحدي السلطة الاستعمارية. وعندما طلبت فرنسا - ديغول - التفاوض مع الحكومة الجزائرية المؤقتة، ردت على ذلك بأن الزعماء المعتقلين لديها هم وفدها للمفاوضات. ورفضت فرنسا ذلك، وبقي المعتقلون في السجون الافرنسية حتى تم تحرير الجزائر. ودخل بن بللا العاصمة (الجزائر) يوم 14 أيلول - سبتمبر - 1962. ثم أجريت الانتخابات للمجلس التأسيسي الذي وافق على تعيين أحمد بن بللا رئيسا للحكومة. وفي 10 أيلول - سبتمبر - 1963 أجري استفتاء في الجزائر، أسفر عن انتخاب (احمد بن بللا) أول رئيس للجمهررية الجزائرية الديموقراطية الشعبية. غير أنه لم يستمر في رئاسته، فقد قاد (هواري بومدين) الانقلاب ضده يوم 19 حزيران - يونيو - 1965. واختفى بن بللا عن المسرح السياسي، إلى ما بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، حتى عمل الرئيس (الشاذلي بن جديدا) على رفع القيود التي كانت مفروضة على بن بللا، الذي أعلن عن رغبته في التوجه للحج وزيارة الأماكن المقدسة. وكان تصرف الرئيس الشاذلي بن جديد هو إعادة الاعتبار من مجاهد إلى مجاهد.

كريم بلقاسم

4 - كريم بلقاسم: من مواليد منطقة (قبيلة). ونشأ في حمى التيار الديني - الوطني - شأن معظم أبناء جيله، وخدم مثلهم في الجيش الافرنسي. وفي عام 1945، أظهر تعلقه الشديد، وحماسته، بالعقيدة الاتحادية التي رفع لواءها (أصدقاء البيان الجزائري). كما كان معجبا أشد الاعجاب بما كانت تتميز به مواقف (حركة انتصار الحريات الديموتمراطية وزعيمها مصالي الحاج) من ضروب الصمود والشجاعة في مقاومة الطغيان الافرنسي. وسرعان ما أصبح قائدا من قادة الحركة الديموقراطية لأنصار الحرية في قبيلة. ولجأ إلى أعمال المقاومة السرية في العام 1947 لينجو من الاعتقال. وقاد كريم من مخبئه في الجبال الغارات على الإفرنسيين والمتعاونين معهم من الجزائريين. وكان دائم الحركة والتنقل ما بين القرى لنشر أفكاره الثورية وتنظيم المقاومة. وعندما وقع الخلاف بين مصالي الحاج واللجنة المركزية اتخذ كغيره من مجاهدي الحزب موقف الحياد - عندما استحال التوفيق بيىنهما. ومارس دورا قياديا في تكوين القوة الثالثة التي تمثلت (باللجنة الثورية للوحدة والعمل) وكان أحد الأعضاء الستة الذين قرروا انطلاقة الثورة. كما كان هو المسؤول عن تنظيم الثورة في منطقة القبائل الكبرى. وظل (كريم بلقاسم) بعد نشوب الثورة قائدا في ولاية القبائل ثم تولى قيادة المجهود الحربي بكامله. وأظهر خلال هذه المرحلة شجاعة فائقة وتصميما ثابتا في اتخاذ قراراته، مع حزم صارم في تنفيذها. وأمكن له بذلك الحصول على دعم جيش التحرير وتأييد القبائل بصورة رائعة. وكان رجاله يحبون فيه صفاته ويحترمون فيه رجولته،

رمضان عبان

ويعتبرونه مثلهم الأعلى في حرب المقاومة بعد أن شهدوا معه مفازع هذه الحرب وانتصاراتها. وعندما تشكلت لجنة التنسيق والتنفيذ في حزيران - يونيو - 1958، لتوثيق التعاون مع تونس والمغرب، كان (كريم بلقاسم) هو المسؤول عن الشؤون العسكرية (وكان قد أقام مقر قيادته في تونس منذ سنة 1957) وعندما تثشكلت الحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة فرحات عباس، تولى كريم بلقاسم منصب وزير الدفاع ونائب رئيس الونراء. وبقي في منصبه هذا حتى التحرير والاستقلال. وعندما تولى أحمد بن بللا رئاسة الجمهورية. وعباس فرحات رئاسة الوزراء - الحكومة - حدث خلاف على سياسة الحكومة بين عباس فرحات وكريم بلقاسم. وحاول (كريم) قيادة حركة تمرد في العام 1963، غير أنه أمكن القضاء عليها. وأدى ذلك إلى استقالة فرحات عباس من رئاسة الجمعية الوطنية في 13 آب - أغسطس - 1963، وزال من على المسرح السياسي للجزائر رجلين أحدهما ينتمي إلى الجيل القديم، وثانيها من أبناء الجيل الجديد. 5 - رمضان عبان: من رجال القبائل أيضا، فرض نفسه كأقوى شخصيات الثورة الجزائرية بفضل ما بذله من جهد في إدارة الأعمال القتالية، وبفضل ما أظهره من شجاعة وحزم في مواجهة المواقف الصعبة والخطرة وكان يفرض حيويته وتصميمه الذي يأبى الهوادة واللين على الثورة، بيد من حديد. ولقد كان ثوريا يؤمن بقيمة العمل الارهابي في مدينة كبيرة. ولقد قال ذات مرة: (إن فرض حظر

التجول في مدينة الجزائر، يعادل في قيمته ونتائجه قتل مائتي إفرنسي في الجبال) وكان عبان رجلا واسع الدهاء، عميق الموهبة التنظيمية الفائقة. وكان يرتحل في كل مكان في الجزائر يصل بين جماعات المناضلين، ويعمل على تحسين وسائل كفاحهم. وينسق التعاون بين أعمالهم القتالية. وعندما تشكل المجلس الوطني للثورة الجزائرية في العشرين من آب - أغسطس - 1956. كان رمضان عبان هو الشخصية الثالثة فيه (بعد حسين آية أحمد وفرحات عباس) غير أنه لم يستمر طويلا في ممارسة دوره. إذ أن تنقله الدائم، وتعرضه للمخاطر، أوقعه في كمين نصه له الافرسون في شهر شباط - فبراير - 1958. فاستشهد على الفور، وخسرت الثورة مناضلا من أفضل مناضليها. ... تلك هي بعض نماذج العناصر القيادية التي مارست دورها في إشعال نار الثورة وتطوير لهيبها، والقصة بعد ذلك ليست قصة أشخاص، وإنما هي قصة الثورة، ولقد بذلت محاولات لتمييز انتساب القيادة الجزائرية، وتقسيمها إلى سياسية مقابل عسكرية، وصلبة الشكيمة مقابل متساهلة، وبربرية من قبيلة مقابل عربية، وبورجوازية مقابل بروليتارية (أو ماركسية) غير أن مثل هذا التقسيم لم يكن يحمل أي مضمون حقيقي، فعلى الرغم من بعد المسافات الفاصلة بين مواطن القادة. وعلى الرغم من تباين وجهات نظرهم تباينا واضحا. إلا أن وحدة الصراع المشترك ضد طغيان فرنسا قد صهرهم في بوتقة واحدة، وضمن

لهم قوة جامعة موحدة. جعلتهم جميعا - باستثناء قلة معدودة على أصابع اليد، يلتفون حول القرارات التي تتخذها الأغلبية. فالقيادة الجزائرية إذن كانت جماعية، وهذا ما ساعدها على اطلاق شرارة الثورة، وساعدها على مجابهة مختلف الظروف، وتجاوز كل العقبات بفضل توافر القدرة الجماعية على التبدل والاستخلاف. وهذا مما ضمن للثورة القدرة على الصمود والاستمرار. لقد كانوا رجالا ظلموا، فثاروا على الظلم وانتصروا. {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (*).

_ (*) سورة الحج - الآية 38 - 39 الجزء السابع عشر.

قراءات

قراءات 1 - مقررات حزب (نجم شمال افريقيا) 1933 2 - البيان الجزائري

(1) مقررات حزب (نجم شمال افريقيا) 1933

(1) مقررات حزب (نجم شمال افريقيا) 1933 عقد حزب (نجم شمال افريقيا) بزعامة (مصالي الحاج) مؤتمرا له، في باريس، سنة 1933 واتخذ مجموعة من المقررات. تتعلق بالاجراءات التي يجب اتخاذها قبل استقلال الجزائر وبعده. وكانت مواد هذه المقررات كالتالي: 1 - إلغاء القوانين الاستثنائية وفي مقدمتها قانون السكان الأصليين. 2 - العفو عن جميع المعتقلين السياسيين. 3 - حرية التنقل لأبناء المغرب العربي في فرنسا وخارجها. 4 - حرية الصحافة والاجتماع وتأليف الاحزاب ونقابات العمال. 5 - الاستعاضة عن (اللجان المالية) ببرلمان جزائري منتخب على أساس الاقتراع العام. 6 - إلغاء الكومونات المختلطة والمناطق العسكرية المحظورة. 7 - المساواة في توظيف الجزائريين والمستوطنين.

8 - فرض التعليم الالزامي باللغة العربية، وإفساح المجال للطلاب لدخول المدارس على جميع المستويات، وجعل اللغة العربية لغة رسمية في الدوائر الحكومية (المعاملات). 9 - احترام تعاليم القرآن بأن لا يحارب المسلم أخاه. 10 - تطبيق قوانين العمل على الجزائريين، وحقوق التعويض على البطالة. 11 - زيادة القروض الزراعية إلى صغار المزارعين الجزائريين، وتنظيم وسائل الري، وتحسين طرق المواصلات. أما الشطر الثاني من القرارات فنص على المطالبة بالاستقلال الكامل، وسحب القوات الإفرنسية من البلاد، وتنظيم جيش وطني، وقيام حكومة ثورية وطنية تتولى تنفيذ الاجراءات التالية: 1 - إبجاد جمعية تأسيسية تنتخب على أساس الاقتراع العام. 2 - الاقتراع العام على جميع المستويات لجميع المجالس. 3 - استخدام اللغة العربية. 4 - تملك الدولة الجزائرية لجميع المؤسسات بما فيها المصارف والمناجم والسكك الحديدية والموانيء والخدمات العامة. 5 - مصادرة الاملاك الكبيرة وإعادتها إلى الفلاحين، مع إعادة أملاك الدولة والغابات إلى الجزائريين. 6 - التعليم الالزامي المجاني باللغة العربية على جميع المستويات.

7 - اعتراف الدولة الجزائرية بحق النقابات في تأليف الاتحادات والأحزاب وإبداء الآراء في القوانين الاجتماعية. 8 - مساعدة المزارعين فورا عن طريق تقديم القروض إليهم بلا فائدة لشراء الآلات والبذار والسماد، وتنظيم وسائل الري وتحسين طرق المواصلات. ملاحظة: وردت جميع هذه المطالب في النشرة الصادرة يوم 11 آذار - مارس - 1950 في مجلة (الجزائر الحرة) وهي لسان حال (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) التي خلقت (حزب النجمة).

(2) البيان الجزائري

(2) البيان الجزائري عندما نزلت قوات الحلفاء بالجزائر في 8 تشرين الثاني - نوفمبر - 1942 - تداعى القادة السياسيون لعقد اجتماع من أجل تحديد الشروط التي يمكن على أساسها التعاون مع الحلفاء، ودعم مجهودهم الحزبي. وتم تكليف (فرحات عباس) بصياغة هذا البيان الذي عرف باسم (بيان الشعب الجزائري) والذي نال موافقة القادة لسياسيين للبلاد، وحظي بدعم الشعب الجزائري وجاءت صيغة البيان كالتالي (*): (... لقد أعطى الرئيس الامريكي روزفلت، تأكيدا في تصريح أدلى به باسم الحلفاء، بأن حقوق جميع الشعوب، الكبيرة منها والصغيرة، ستكون محترمة في تنظيم العالم الجديد. إن الشعب الجزائري الذي يجد له قوة في هذا التصريح يطلب منذ اليوم، كي يتجنب كل سوء تفاهم، وكي يقطع الطريق على الغايات والمطامع التي يمكن أن تنشأ غدا، يطالب بما يلي: 1 - إلغاء النظام الاستعماري الذي هو في حقيقة أمره استثمار شعب لشعب آخر. إن هذا الاستعمار ليس إلا

شكلا جماعيا للرق الفربي في العصور القديمة، والقنانة في العصور الوسطى. وهو بالاضافة إلى ذلك، أحد الأسباب الرئيسية في المنازعات والخصومات بين الدول الكبرى. 2 - تطبيق حق تقرير المصير على جميع البلدان الصغيرة معها والكبيرة على حد سواء. 3 - إعلان دستور جزائري يضمن: (أ) الحرية والمساواة المطلقة بين جميع سكانها دون تمييز في العنصر والدين. (ب) إلغاء الملكية الاقطاعية بتطبيق إصلاح زراعي شامل، وإعلان حق الفلاحين بالرفاهية. (ج) الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية على نفس المستوى الذي تتمتع به اللغة الافرنسية. (د) حرية الصحافة وحق الاجتماع. (هـ) التعليم الالزامي والمجاني للأطفال من الجنسين. (و) حرية العبادة بالنسبة لجميع السكان، وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة بالنسبة للدين الإسلامي. (ز) اشتراك عرب الجزائر بشكل فعال وفوري في حكم بلادهم، على غرار ما أعلنته الحكومة البريطانية والجنرال كاترو في سوريا، لأن مثل هذه الحكومة هي وحدها التي يمكنها أن تحقق في جو تسوده الوحدة المعنوية التامة مساهمة الشعب الجزائري في المعركة المشتركة.

(ح) إطلاق سراح جميع المحكومين والمعتقلين السياسيين، مهما كان الحزب الذي ينتمون إليه. اجتمع المندوبون الشرعيون الممثلون للشعب الجزائري - الذين كانوا في مدينة الجزائر. وأقروا بالاجماع صياغة البيان في شباط - فبراير - 1943. وقام وفد جزائري يضم الدكتور بن جلول وصياح عبد القادر، والدكتور تمزالي وأورباح وبن علي شريف والدكتور الأخضري وفرحات عباس. بمقابلة الحاكم العام - مارسيل بارتان - يوم 21 آذار - مارس - 1943، وسلمه نص البيان. وفي اليوم التالي سلم الوفد البيان المذكور إلى ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي. كما تم إيصال البيان إلى لندن والجنرال ديغول والقاهرة - الحكومة المصرية - وقد قبل الحاكم العام للجزائر أن يأخذ بعين الاعتبار الميثاق الجديد كأساس لنظام الجزائر القادم. ووعد بتشكيل لجنة تضع مشروعا للإصلاحات القابلة للتحقيق بشكل فوري. وصدر قرار في 3 نيسان - أبريل - عين فيه ممثل فرنسا (لجنة الدراسة الاقتصادية والاجتماعية الإسلامية). وقد اجتمعت هذه اللجة مرتين، المرة الأولى من 14 إلى 17 نيسان - ابريل - والمرة الثانية من 23، لى 26 حزيران. فأقرت بحضور مفوض الحكومة (السيد بيرك) وهو المدير العام للشؤون الإسلامية مسودة إصلاحات عرفت باسم (ملحق البيان). وكان هذا الملحق يتضمن جزئين. كان الجزء الأول مخصصا للإصلاحات التي يناسب تأجيلها إلى نهاية النزاع. وكان هذا الجزء بالصيغة التالية:

(عند إنتهاء المنازعات تتشكل في الجزائر دولة جزائرية، لها دستورها الخاص الذي تضعه جمعية تأسيسية جزائرية، تنتخب بالاقتراع العام من قبل جميع سكان الجزائر). أما الجزء الثاني، فكان يبحث بالاصلاحات التي يطلبها الشعب الجزائري، مع أخذ الظروف الحالية بعين الاعتبار لتوجيه مستقبل البلاد. وكان من أبرز الإصلاحات ذات الصفة السياسية حسبما جاءت في (ملحق البيان): (أ) اشتراك الممثلين العرب بشكل فوري وفعال في حكم الجزائر وإدارتها: 1 - تحويل حكومة عموم الجزائر إلى حكومة جزائرية، تتألف من وزراء موزعين بالتساوي بين الافرنسيين والجزائريين، وتصبح الادارات الحالية إدارات وزارية، كما يصبح رئيس الحكومة حاكما عاما، ويلقب بالسفير المفوض السامي لفرنسا في الجزائر. 2 - التمثيل المتساوي للافرنسيين والجزائريين في صفوف المجالس المنتخبة والأجهزة الاستشارية (مجلس الحكومة الأعلى، المفوضيات المالية للمجالس العامة، مجلس البلديات غرف التجارة والزراعة، مجلس الحكماء، وجميع المصالح والمجالس واللجان والهيئات والنقابات، يدعى بالتوالي لأجل تكملة تمثيل العرب في هذه المجالس المنتخبون، والمنتخبون السابقون، بدءا بالمندوبين الماليين، حتى ممتلي النقابات العمالية.

3 - تصبح إدارة الدوار المستقلة في المديريات المختلطة حسب قانون 1884، البلدة والجمعية ورئيسها مجلسا بلديا وعمدة الدوار (رئيس الدوار). 4 - السماح للعرب بتولي جميع الوظائف العامة، ومن بينها سلطات الحاكم، ضمن الشروط ذاتها السارية في التوظيف والترفع والتقاعد على الموظفين إفرنسيين، والاعتراف بمبدأ التوزيع المتساوي لهذه الوظائف بين إفرنسين والعرب. 5 - إلغاء جميع القوانين والاجراءات الاستثنائية وتطبيق الحق العام، ضمن نطاق التشريع الجزائري. (ب) المساواة أمام ضريبة الدم. 1 - إلغاء القيود المفروضة على المواطنيين والخدمة العسكرية المسماة (تسخير الوطنيين) ووضع صيغ موحدة للتعبئة والمساواة في العدل والسلف ومعاشات التقاعد والمكافآت، والحق بالترفيع إلى جميع الرتب. 2 - تسليم الاعلام الجزائرية إلى أفواج من جيش الحملة الافريقية، لأن هذه باشتراكها مع الاعلام الإفرنسية، ترفع من الروح المعنوية لجنودنا (*).

_ (*) ليل الاستعمار (فرحات عباس) ترجةة وليم خوري ص183 - 185، 189 - 192 وحياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 369/ 2 - 370 و374 - 370.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب

_ الموضوع ............................................................................. الصفحة

_ (ب) شهادة الوزير الفرنسي (آلان سافاري) ................... 149 (ج) (اليوم الرهيب) في ذكريات أحمد توفيق المدني .......... 153 (د) للمجزرة تتمة ............................................ 154 (د) في ذمة التاريخ ......................................... 157 2 - العمل السياسي السري ................................. 162 (أ) (الشرف العسكري) أو (التنظيم الخاص) ................. 166 (ب) (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) ......................... 173 (ج) القادة التاريخيون ....................................... 185 1 - مصطفى بن بولعيد .................................... 187 2 - محمد العربي بن مهيدي ................................ 190 3 - أحمد بن بيللا .......................................... 192 4 - كريم بلقاسم ............................................ 190 5 - رمضان عبان .......................................... 196 قراءات: 1 - مقررات (حزب نجم شمال افريقيا) 1933 ............... 201 2 - البيان الجزائري ........................................ 204 محتوى الكتاب .............................................. 209

9 - الله أكبر وإنطلقت ثورة الجزائر

الله أكبر .. وانطلقت ثورة الجزائر

بسم الله الرحمن الرحيم

الله أكبر .. وانطلقت ثورة الجزائر بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1402 هـ - 1982 م الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م

الإهداء إلى روح الشهيد مصطفى بن بولعيد بطل الأوراس الأسطوري وإلى روح الشهيد محمد العربي بن مهيدي بطل المقاومة في الجزائر، وإلى أرواح إخوانهما من الشهداء الأبرار الذين أضاؤوا مشعل النور أمام شعب الجزائر المجاهد، وإلى إخوانهم المجاهدين الذين تابعوا حمل رسالة الاسلام وأمانة العروبة وانتصروا بها، ونصرها الله بهم. إلى هؤلاء وأولئك الذين لا يزيد من مضى منهم على من بقي حيا إلا بشرف الشهادة.

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب ويطول ليل الاستعمار حتى لتكاد النفوس الظامئة للحرية تيأس من بزوغ الفجر. وتشتد وطأة الاستعمار حتى لتكاد النفوس المعذبة تفقد الأمل من عدالة الحياة. وللفجر موعده، وللحياة نواميسها وقوانينها المحكمة. وكما يقع البرق في الليلة الظلماء الداكنة السواد، وكما ينبع الماء من الصخر الأصم. انطلقت صيحة (الله أكبر) في ليل عيد جميع القديسين، وترددت في كل مكان من الجزائر صيحات (خالد) و (عقبة). إنهما كلمتا السر والتعارف اللتان اتفق عليهما الثوار للتعارف فيما بينهم. (الله أكبر) - خالد - عقبة - وتردد جبال الأوراس أصداء الصيحات المنطلقة في السهول. (الله أكبر) خالد - عقبة - لقد آن للفجر أن ينبلج، وللنفوس العطشى أن تنهل من مورد الحرية العذب ومن منهل الكرامة الصافي. وأفاق الشعب الجزائري على فجر يوم جديد، إنه فجر المستقبل الذي طال انتظاره. وقليل هم الذين وصلتهم أصوات الانفجارات الأولى، وأزيز الرصاصات المبكرة التي أطلقتها حفنة من الثوار؛ معلنة بها بدء جولة جديدة من جولات الاحتكام للسلاح. غير أن من فاتهم

سماع صوت مؤذن الفجر، لم يفتهم قراءة البيان الذي أعلنه ثوار الفجر. (أيها الشعب الجزائري) (أيها المناضلون من أجل القضية الوطنية). إنها منظمة ولدت مع الفجر، تحمل اسم (جبهة التحرير الوطني)، و (جيش التحرير الوطني)؛ وقد بدأت هذه المنظمة تأكيد وجودها بالنار وبالتوجه إلى (الشعب الجزائري). ولكن من هم هؤلاء الذين يختفون وراء (التسمية الرمزية) أو ل (الشخصية الاعتبارية). لقد عرف شعب الجزائر أسماء لامعة، وقادة بارزين، تولوا الصراع وقادوا الجهاد بأسمائهم العلنية الصريحة. ولم يحدث قبل اليوم أن تعامل الجزائريون مع (مجهولين). ذلك لغز يجب حله؟. وينظر الاستعمار بكثير من اللامبالاة إلى تلك الظواهر المتفجرة التي برزت في ليل عيد جميع القديسين. لقد تعودت الاستعمارية الإفرنسية عل قمع ثورات أضخم، وحروب أكبر، فكيف اليوم، وفرنسا تمتلك من وسائط القدرة العسكرية ما لم تمتلكه من قبل. ويصرح الحاكم بأمره في الجزائر (إنهم مجموعة من العصاة المتمردين - الفلاقة - وسيتم سحقهم قريبا). وتخرج الحملات العسكرية وتعود، دون أن تتمكن من سحق (الفلاقة). وبدأ (شعب الجزائر) في التعرف على تلك الفئة المختارة من المجاهدين، الذين أنكروا وجودهم ليقدموه هدية لشعبهم. وتوثقت عرى التعارف من خلال ما كان يقدمه المجاهدون من تضحية وفداء. فأقبل على حاملي لواء الجهاد، يحتنهم ويحميهم ويدعمهم ويفتديهم بكل ما يملك، ويشاطرهم آلامهم وبؤسهم

وشطف عيشهم. ويقاسمهم تضحياتهم. ويجن جنون الاستعمار، فيقذف بكل أسلحته للمعركة، ويقذف الشعب الجزائري بالمقابل بكل قدراته وإمكاناته. ويتطور الصراع المصيري بين قوتين: قوة هابطة تمتلك كل القوى ما عدا الإيمان، وقوة صاعدة لا تمتلك شيئا إلا الإيمان. وتأتي تجربة التاريخ لتؤكد من جديد انتصار (قضية الإيمان). تلك هي بإيجاز (بداية الثورة، وتلك هي قصتها). إنها قصة (القادة التاريخيون) الذين عرفوا قدرات شعبهم وإمكاناته، وما يتفاعل فيه من انفعالات، وهي قصة (أصالة الشعب) الذي فقد كل شيء إلا إيمانه بالله وإسلامه وعروبته، وهي أيضا قصة تيار الأحداث وتطوراته في العالم وهو ما أدركه شعب الجزائر المجاهد وقادته التاريخيون وتجاهله دهاقنة الاستعماريين المتعلمين والمتحضرين والعقلانيين. بضع مئات من الثوار، تسليحهم بواريد الصيد وبعض الأسلحة الحديثة وقيادة تضم بضعة أشخاص مغمورين تقريبا. وكلهم نصيبهم من العلم الحديث قليل، ونصيبهم من الإيمان كبير. لم يلبثوا أن شكلوا تيارا جارفا قفز إلى الآلاف وإلى عشرات الألوف ثم إلى الشعب الجزائري كله خلال فترة قياسية من عمر الزمن، ولم يكن ذلك ليتحقق أبدا لولا التقاء العوامل الثلاثة: القيادة والشعب وتيار الأحداث في فجر عيد جميع القديسين. ولم يكن من العبث - أو بمحض الصدفة - اختيار فجر عيد القدسيين موعدا لانطلاقة الثورة. ولم يكن من العبث أيضا، تحديد شعار انطلاقة الثورة بكلمة الجهاد الخالدة (الله أكبر) واتخاذ كلمتي

(خالد وعقبة) رمزا للسر والتعارف بين الثوار التاريخيين. لقد أعد كل شيء بإحكام رائع، وبدقة متناهية، فكان ذلك التنظيم هو السلاح الأول في عدة الثورة. لقد ربطت الثورة، ومنذ انطلاقتها الأولى، خطوات الثورة بالأصالة التاريخية للشعب الجزائري المسلم المجاهد. وأعادت الثورة، ومنذ انطلاقتها الأولى، ارتباط الشعب المجاهد بمحيطه التاريخي والجغرافي الطبيعيين (المغرب وتونس والعالم الاسلامي - العربي) فكان في ذلك أيضا بعض عدة الثورة في الانتصار على أعداء الثورة لفي الداخل والخارج. وتبقى قصة الثورة الجزائرية، أكبر من الكلمات، وأعظم من كل وصف. إنها قصة الحياة لشعب رفض الموت، وانتصرت الحياة على الموت. وهي قصة شعب أحب الموت فوهب الله له الحياة. بسام العسلي

الله أكبر - وانطلقت الثورة.

اللهُ أَكْبَرُ - وَانْطَلَقَتِ الثَّوْرَةُ. هَاتِ الْبَشَائِرَ لِلجَزَائِرِ هَاتِهَا إِنَّ الجَزَائِرَ أَبْصَرَتْ غَايَاتِهَا عَقَّدَتْ لَهَا عَزَمَاتُهَا فَمَنِ الَّذِي غَيْرَ الإِلَهِ يَحِلُّ مِنْ عَزَمَاتِهَا اللهُ أَكْبَرُ هَؤُلَاءِ جُنُودُهَا لَبُّوا لِدَعْوَتِهَا نِدَاءَ دُعَاتِهَا.

التقسيمات الإدارية - العسكرية للجزائر يوم 1/ 11/ 1954

الفصل الأول

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}. الفصل الأول 1 - الوضع العام في الجزائر عشية الثورة. أ - اغتصاب الأرض. ب - الموقف السكاني (الديموغرافي). ج - النهب الاستعماري. د - البترول والغاز الطبيعي. هـ - الموقف التعليمي (الثقافي). 2 - الموقع الجيواستراتيجي والطبوغرافي. أ - 1 - إقليم الشراطىء. أ - 2 - إقليم الأطلس التلي.

أ - 3 - إقليم النجود. أ - 4 - الأطلس الصحراوي. أ - 5 - إقليم الصحراء. ب - وديان الجزائر. ب - 1 - الأودية الشمالية. ب - 2 أودية النجود. ب - 3 الأودية الصحراوية. ج - النطاقات المناخية. د - الغطاء النباتي. د - 1 - إقليم البحر الأبيض المتوسط. د - 2 - إقليم الاستبس. د - 3 - الإقليم الصحراوي.

الوضع العام في الجزائر عشية الثورة

1 - الوضع العام في الجزائر عشية الثورة لم تكن الثورة التي انفجرت في الجزائر في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 مجرد رد فعل على سياسة معينة، أو نتيجة إجراء استعماري محدد. فلقد كان نسيج الثورة متصلا بعرى وثيقة ومتلاحمة مع مجموعة الحروب، والثورات والانتفاضات، وأعمال المقاومة التي اضطلع بها شعب الجزائر، طوال ليل الاستعمار الذي بدأ بالغزو الإفرنسي البربري للجزائر المحروسة في سنة 1830، والذي انتهى بانفجار الثورة التحررية الكبرى في سنة 1954. قرن وربع القرن؛ وشعب الجزائر المجاهد يحمل السلاح ضد الغزاة البرابرة .. لم يهن له عزم، ولم تلن له قناة، وهو يدفع بقوافل الشهداء، القافلة في إثر القافلة، والموجة تلو الموجة، حتى حقق أهدافه. ولقد تحمل الشعب الجزائري من عنت المستعمرين، وجور أجهزة الاستعمار؛ ما لم يحتمله شعب من شعوب العالم، دونما تحيز أو مبالغة، وعلى الرغم من ذلك فقد استمر في مقاومته، وأتعب فرنسا ولم يتعب، غير أن هذه الحرب طويلة الأمد، عملت على تغيير مجمل أوضاع الجزائر تغييرا كبيرا؛ لا في مجال الاقتصاد وحده، ولا في مجال التكون

الاجتماعي والثقافي أيضا. وإنما في مجموع الأوضاع التي يعيشها المواطن الجزائري والوطن الجزائري. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية - وعلى نحو ما سجق عرضه في الكتب السابقة من هذه المجموعة. فقد جاءت الثورة الرائعة ثمرة إعداد طويل .. بدأ على وجه التحديد بالنشاط السياسي الذي قام به الأمير (خالد الهاشمي) في العشرينيات من هذا القرن، واستمر بعد ذلك عبر (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) من جهة، والتنظيمات السياسية من جهة ثانية، وعلى هذا فإن الثورة الجزائرية الكبرى تتصل بمجموعة الأوضاع الناجمة عن الوجود الاستعماري ذاته، والذي دفع البلاد ومواطنيها إلى أوضاع لا يمكن معالجتها إلا بإجراء تغيير جذري وشامل، ومضاد بالضرورة للاستعمار الاستيطاني. وقد جاءت مذبحة أيار - مايو - 1945، وأعمال القمع التالية لتشكل الحافز المباشر للثورة. ومن هنا قد يكون من الضروري استقراء بعض ملامح الوضع العام للجزائر عشية ثورتها المباركة. ... لقد عرفت الجزائر، منذ أقدم العصور، بغنى ثروتها الطبيعية، شأنها في ذلك شأن كل أقطار المغرب العربي - الاسلامي. ولقد أقام الفينيقيون على شواطئها عددا من المراكز (الزراعية - التجارية) التي سميت فيما بعد باسم (أهراء روما) قبل أن يطلق عليها اسم (افريقيا ذات الأرض الخصبة). وقد عاشت الجزائر قبل أن تجتاحها جحافل الغزو الاستعماري الافرسي في سنة (1830) حالة ازدهار حقيقي، وعرفت رغد العيش. فالزراعة فيها كانت متطورة،

والتجارة البحرية ناشطة ومزدهرة .. . فكانت تمون بالحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى كثيرا من بلدان الغرب الأوروبي؛ وتموين حملة نابليون دليل على ما كان يتوافر للجزائر من الثروة الزراعية؛ كما كانت تصدر أدوات فنية ذات شهرة واسعة. وبعد مرور قرن على استعمار هذه البلاد، لم تتوقف الجزائر عن التقدم في المضمار الاقتصادي فحسب، بل إنها شهدت تقهقرا وتراجعا في مستوى حياة معظم المواطين الجزائريين، بالمقارنة مع مستوى حياة أسلافهم. هذا بينما كان العالم يتطور في هذا القرن، ويتقدم بقفزات واسعة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. وقد ظهر في الواقع أن ازدهار المواطن الافرنسي، وارتفاع مستوى دخله، إنما هو ازدهار اصطناعي على حساب المواطن الخاضع للاستعمار. والأمر مماثل بالنسبة لفرنسا - كمجموع - والتي طورت تقدمها على حساب الشعوب التي أخضعتها لنير عبوديتها. ولم تكن مثل هذه المقارنة بعيدة عن أنظار المواطن الجزائري الذي كان يعيش حياة البؤس والشقاء فوق أرضه الخيرة المعطاء, وزاد الأمر سوءا بمحاولات السلطات الاستعمارية تغطية نهبها واستنزافها بالحاق سبب التخلف بأنظمة الجزائر قبل الاستعمار (النظام العثماني -الاسلامي). ولقد اعتاد القائمون على حكم الجزائر أن يبرزوا - في كل مناسبة - ما حققه الاستعمار الافرسني من إنجازات في البلاد، معددين الطرق الكثيرة التي أنشأوها، والخطوط الحديدية التي نظموها، والمراكز الكهربائية التي شيدوها، وما أقاموه من سدود ومستشفيات ومدارس وكنائس (منارات الحضارة الغربية بزعمهم) والمدن الحديثة ذات العمارات المتعددة الطوابق.

ولم يكن هذا الأسلوب الدعائي ليخدع الجزائريين أو يضللهم .. فقد كانوا يعرفون بأن معظم ما يطلق عليه اسم (منجزات) إنما هو لخدمة أهداف الاستعمار الاستيطاني، وتطوير عملية النهب الاستعماري للموارد والثروات. وأن المواطن الجزائري لم يفد من هذه (المنجزات) شيئا، وإنما على النقيض أيضا، فقد جاءت (المنجزات) لتضيف إلى بؤسه بؤسا، وإلى شقائه مزيدا من الشقاء. وقد ترك ذلك آثاره السيئة التي لم تقتصر أضرارها على جيل جزائري واحد. ومما لا ريب فيه هو أن الجزائر ذات وضع خاص كبلاد مستعمرة ... فالحركة العمرانية بقيت امتيازا - حكرا - للأقلية الأوروبية، ولمصلحتها. والمدارس، إنما أقيمت للمستوطنين بالدرجة الأولى، ولخدمة أهداف استعمارية محددة وواضحة. كما أن طرق المواصلات إنما أقيمت لتحقيق هدفين مزدوجين أولهما: تسهيل التحركات العسكرية، وثانيها الوصول إلى مواطن الثروة السطحية والباطنية (المناجم). كما أن المستشفيات والخدمات الصحية لم تتجاوز فائدتها المستوطنيين إلا في حدود ضيقة. وبقي سواد الشعب الجزائري المسلم نهبا للأمية والفقر المدقع، والأمراض الفتاكة. ولقد كان هذا التناقض الفاضح بين حياة أقلية مترفة وأكثرية ساحقة محرومة هو الصورة الغريبة والمثيرة لما كانت عليه الجزائر طوال فترة الاستعمار. وإن مستوى المواطنين الجزائريين المسلمين في حياتهم ودخلهم هو الذي يجسد بصورة حقيقية وواقعية الصورة البشعة لقذارة الاستعمار. ولقد تطور الاقصاد الاستعماري تطورا سريعا ومذهلا، ولكن هذا التطور إنما كان على حساب الملكية الوطنية الجزائرية

أ - اغتصاب الأرض

باستمرار. فكانت خطة الاستعمار الثابتة هي في تهديم وتدمير ثروات الوطنيين وملكياتهم، من أجل بناء ثروات الاستعمار وأجهزته، وفقا لقوانين الاستعمار ومبادئه المحكمة. لقد بقيت (المسألة الاقتصادية) هي العمود الفقري في سياسة فرنسا الاستعمارية في الجزائر. فالاقتصاد الجزائري هو السبب الأول الذي دفع فرنسا لاحتلال الجزائر. ولقد كانت سياسة فرنسا الاقتصادية في الجزائر عملية اغتصاب ونهب عبر عنها الجنرال (بيجو، يوم 14 - أيار- مايو - 1840 بقوله: (يجب أن يقيم الافرنسيون المستوطنون حيثما وجدت المياه الغزيرة والأراضي الخصبة، بدون أي اهتمام بحق ملكية الأرض التي يجب توزيعها على المستعمرين المستوطنين، وأن تصبح هذه الأراضي الخصبة من أملاكهم الشخصية). وكان المارشال (سولت) في السنة ذاتها قد صرح بما يلي: (إن استيطان الافرنسيين في الجزائر هو العامل الأول للبقاء فيها، وهذا الاستيطان قمين بتهيئة الوسائل خلال سنوات قليلة، للتمكن من الدفاع عن الجزائر، دون أن نستخدم أكثر مما يلزم من قوى البلد - فرنسا - وأمواله). أ - اغتصاب الأرض: سارت عملية الاستعمار الاستيطاني في الجزائر، متباطئة أحيانا، متسارعة في أحيان أخرى، وفقا لما كانت تفرضه الظروف الدولية والجزائرية. وكثيرا ما أفتعلت فرنسا الظروف لتطوير هذه العملية، (مثل أزمة احتلال الألمان - بروسيا - للألزاس واللورين - سنة 1870، والأزمة الاقصادية الايطالية في بداية القرن العشرين).

ولقد بدأ المستوطنون في الاستقرار على أرض السهول الساحلية، ثم لم يلبثوا أن أخذوا في التوغل نحو السهول الداخلية، ونحو مناطق المناجم الصحراوية، ويظهر الجدول التالي تطور الملكيات الأوروبية في الجزائر: السنة ..... المساحة بالهكتار ..... السنة ..... المساحة بالهكتار ..... ملاحظات 1850 ..... 150،000 ..... 1920 ..... 2،581،000 ..... جدول بياني 1870 ..... 765،000 ..... 1940 ...... 3،045،000 ..... بتطور الملكيات 1880 .......... ..... 1،245،000 ..... 1954 ..... 3،028،000 ..... الأوروبية بالجزائر 1890 .......... ..... 1،635،000 ..... 1963 صفر ..... من سنة 1850 1900 .......... ...... 1،912،000 ..... ..... حتى الاستقلال. المرجع: جغرافية الجزائر - حليمي عبد القادر علي - ص 143 عملت الحكومة الافرنسية - وكل حكومة إفرنسية - على تشجيع الأفراد الإفرنسيين خاصة، والأفراد الأوروبيين عامة على الهجرة والاستيطان في الجزائر. وكذلك فعلت مع الشركات. وكان من أهم هذه الشركات: (الجمعية الجزائرية) التي منحتها سلطة الاحتلال قرابة المائة ألف هكتار في شرق (قسنطينة)، وجمعية (المقطع والهبرة) التي تصدقت عليها بأكثر من 25 ألف هكتار من أجود الأراضي الوهرانية سنة 1865، و (شركة جنوه الايطالية) التي وهبت لها سنة 1863 مساحة عشرين ألف هكتار في إقليم سطيف، وطلبت منها مقابل ذلك جلب الإيطاليين إلى الجزائر. لقد كان القطاع الزراعي هو المورد الرئيسي والتقليدي للبلاد، ولقد عمل النظام الاستعماري على جمع أكثر الأراضي خصبا وتركيزها في قبضة الاقطاع الاستعماري. وأدى ذلك بصورة طبيعية

إلى بؤس المواطن الجزائري كنتيجة حتمية لانتزاع الأراضي الخصبة منه وتقديمها للأوروبي. ونجم عن ذلك تفاوت هائل بين الملاك الأوروبيين والملاك الجزائريين. وهكذا أصبح هناك 25 ألفا من الملاكين الأوروبيين - من أصل 800 ألف نسمة - وهم يملكون (3،028،000) هكتارا من أكثر الأراضي الزراعية خصبا والتي تقدر مساحتها بـ (20،830،000) هكتارا. - أي أن كل ملاك من هؤلاء يملك أكثر من 120 هكتارا نسبيا منها 75 هكتارا منتجا. أما الملاك الجزائريون والبالغ عددهم (532) ألفا من أصل عشرة ملايين. فكانوا يملكون (7،672،000) هكتارا، أي بمعدل 14 هكتارا منها خمسة هكتارات منتجة فقط. أما الباقي وهو (1،408،000) هكتارا، فهي معتبرة كأملاك عامة تتصرف بها الادارة الاستعمارية على هواها. ويظهر هنا الموقف بصورته الخطيرة عند معرفة أن هذه الأراضي الزراعية قد خصصت لزراعة المنتجات المعدة للتصدير. في حين كان يجب تخصيصها لتأمين المواد الزراعية التي يحتاجها أبناء البلاد. وأبرز مثال على ذلك هو توزيع الكرمة التي كانت الحافز الأول للمشروع الاستعماري، فهي تشغل مساحة (238) ألف هكتار، من أجود الأراضي. وكلها ملك للأوروبيين بدون اسثناء. وتنتج هذه الكروم (22،318،000) هكتوليتر من الخمور التي تصدر أربعة أخماسها إلى الخارج (¬1) وتبلغ قيمة هذه الصادرات (140) مليون فرنك - بحسب إحصاء سنة 1935 وهي ¬

_ (¬1) ورد في جغرافية الجزائر - حليمي عبد القادر- ص 192. أن مساحة الأراض المخصصة لزراعة الكرمة هي 362 ألف هكتار مرزعة كما يلي: (250) الف هكتار في إقليم وهران، و (87) ألف هكتار في إقليم مدينة الجزائر. و (25) ألف هكتار- وهي تشكل (7) بالمائة من مجموع الأراضي الزراعية - في القطر الجزائري ..

السنة التي ارتفع فيها تصدير الخمور الى أعلى مستوياته ثم استمر محافظا على معدله-. أما الحمضيات والتبغ وغيرهما من المنتجات الزراعية الثمينة فهي تشغل (170) ألف هكتار، يشغل الأوروبيون تسعة أعشارها. وعلاوة على ذلك، فهناك عامل كان يزيد الوضع سوءا، وهو أن أملاك الأوروبيين كانت محمية ومتصلة، في حين كانت أملاك الوطنيين متفرقة ومتباعدة. فكانت أملاك الأوروبيين منتظمة كالتالي: 1 - ملكيات متوسطة: 24،72 بالمائة. 2 - ملكيات كبيرة: 73،48 بالمائة. في حين كانت ملكيات الوطنيين منتظمة كالتالي: 1 - ملكيات صغرى: 60 بالمائة. 2 - ملكيات متوسطة: 38 بالمائة. 3 - ملكيات كبرى: 2 بالمائة. وجدير بالذكر أن الزراعة كانت بالنسبة إلى صغار الملاكين الأوروبيين ومتوسطيهم، مجرد عمل إضافي (حالة ترف). أما كبار الملاكين، فثمة مستعمرون أوروبيون أو شركات تمتلك ما بين 10 و70 ألف هكتار. هذا بالإضافة إلى أن الملاك الأوروبيين هم الذين يستفيدون من القروض والميزات الزراعية الأخرى التي تسهل لهم استخدام الرسائل الزراعية الحديثة، في الوقت الذي يستثمرون أيضا اليد العاملة الجزائرية بأجور منخفضة - بخسة. وبذلك فرض على الفلاح الجزائري عدم الاضطلاع بدور يذكر في الاقتصاد الوطني، حتى أصبح إنتاجه في معظم الحالات لا يكاد يكفي لتأمين متطلباته الأساسية للعيش البسيط، وبقي السواد الأعظم من سكان الريف الجزائري، وهم الذين يشكلون الكتلة الضخمة

ب - الموقف السكاني - الديموغرافي

للشعب الجزائري، يعيشون في بؤس مدقع أو في بطالة مستمرة أو استغلال مجحف. وتعد هذه الطبقة حوالي (800) ألف عائلة - أي حوالي أربعة ملايين مواطن جزائري. وكانت الجزائر- حتى الثورة -تصدر في كل سنة (86) بالمائة من إنتاجها الزراعي إلى الخارج، في حين كان معظم السكان الريفيين يعيشون على تغذية ناقصة مستديمة. وقد لا تكون هناك حاجة لاستقراء ملامح (القوانين الاستعمارية) والمبادىء التي تم وضعها طوال فترة الاستعمار؛ والتي أدت إلى هذه النتيجة المأساة. ويكفي التذكير بذلك القانون الذي أقرته الحكومة الافرنسية خلال مناقشاتها من 3 - 10 تشرين الثاني - نوفمبر - 1856. وتم على أساسه تحديد الشروط التي تتشكل بموجبها - أملاك الدولة الافرنسية في الجزائر - وكان نص القانون بحرفيته - كالتالي: (إن سكان البلاد الأصليين الذين لا يقدمون البرهان على جدارتهم بملكية الأرض، يعتبرون أمام القانون مشتثمرين أو مستأجرين تستطيع السلطات تهجيرهم لتصبح أراضيهم ملكا للمستوطنين). وليس من الصعب بعدها على الإدارة الافرنسية التي تمتلك القوة، أن تحدد (من هم غير الجديرين بملكية الأرض من الوطنيين الجزائريين وتعمل على تهجيرهم نحو الصحراء المقفرة). ب - الموقف السكاني - الديموغرافي لقد تداخلت مجموعة من العوامل لتشكل في الجزائر موقفا سكانيا -ديموغرافيا - شاذا وغريبا. ومن أبرز هذه العوامل: 1 - اغتصاب

الأرض الجزائرية الخصبة من أصحابها الشرعيين. 2 - فتح باب الهجرة أمام الأوروبيين ومنحهم امتيازات كبيرة على حساب المواطنين الجزائريين.3 - عدم توافر مجالات العمل الزراعي أو الصناعي، واضطرار أبناء الريف (الجزائريين المسلمين) للزحف نحو المدن، أو حتى الهجرة من البلاد. 4 - التفجر السكاني في الجزائر، والذي يعتبر استجابة طبيعية ومضادة لمحاولات القضاء على العنصر المسلم (عربي وبربري). ويشير الاحصاء الرسمي الأول الذي جرى في الجزائر في تشرين الثاني - نوفمبر - 1948، وهو الأول من نوعه الذي جرى في الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية، إلى أن عدد سكان البلاد بلغ (8،682،000) نسمة، منهم (7،708،000) من الجزائريين و (974) ألفا من الأوروبيين. وأشارت إحصاءات عام 1954 الرسمية إلى أن عدد السكان بلغ (9،528،000) منهم (8،486،000) من الجرائريين و (1،042،000) من الأوروبيين. ولكن المفهوم أن عدد السكان الجزائريين قد خفض في هذا الاحصاء لأسباب سياسية. ويحتشد معظم السكان في المنطقة الساحلية الخصبة التي تؤلف نحوا من عشر مساحة البلاد فحسب .. وكانت أعلى نسبة في كثافة السكان في مقاطعة الجزائر الوسطى، بينما أخفضها في مقاطعة وهران الغربية ولا تتجاوز نسبة كثافة السكان في مناطق الصحراء الجنوبية الشاسعة شخصا واحدا لكل ميل مربع. وتبلغ نسبة الجزاريين للأورويين في منطقة قسنطينة الشرقية أعلى النسب إذا ما أمكن مقارنتها بالمقاطعات الأخرى، إذ تباغ نسبة- الجزائرية الجبلية، وإذا ما وضع بالحسبان أيضا تقاليد أصالة الثورة في قسنطينة (من أيام

أحمد باي قسنطينة وحتى الشيخ عبد الحميد بن باديس) فسيظهر بوضوح سبب اختيار الجزائر الشرقية لتكون القاعدة الأولى للثورة، أما في منطقة وهران التي ظلت هادئة عدة أشهر بعد نشوب الثورة؛ فتبلغ نسبة الجزائريين إلى الأوروبيين نسبة الخمسة إلى الواحد. وعلى كل حال، فقد يكون من المناسب ملاحظة تطور الانفجار السكاني قبل مرحلة الثورة، وهو الانفجار الذي كان عاملا مساعدا في انفجار الثورة، وتطورها، وإمدادها بالقدرة القتالية: السنة ..... عدد السكان ..... السنة ..... عدد السكان ..... ملاحظات 1856 .......... ..... 2،307،049 ..... 1911 ..... 4،711،276 ..... 1 - المرجع: جغرافية الجزائر- 1861 ..... 2،732،851 ..... 1921 ..... 4،890،756 ..... حليمي عبد القادر علي - 1866 ..... 2،652،072 ..... 1926 ..... 5،115،918 ..... ص 127 1872 ..... 2،462،936 ..... 1931 ..... 5،548،236 ..... 2 - إن التراجع السكاني 1881 ..... 2،842،497 ..... 1936 ..... 6،160،930 ..... في سنة 1866 قد نجم 1886 ..... 3،264،879 ..... 1948 ..... 7،611،930 ..... عن الأوبئة. 1891 ..... 3،55،686 ..... 1954 ..... 8،364،652 ..... 3 - إن التراجع السكاني في سنة 1896 ..... 3،764،072 ..... 1960 ..... 9،300،000 ..... 1872 قد جاء نتيجة فشل ثورة 1901 ..... 4،063،060 ..... 1966 ..... 12،101،994 ..... المقرني والحداد، وما حدث من 1906 ..... 4،447،149 ..... ..... هجرة إجماعية. وأعمالإبادة ضد الجزائريين. لقد ترافق الانفجار السكاني خلال المرحلة التي سبقت الثورة، بهجرة واسعة النطاق، سواء داخل الجزائر ذاتها- من الريف إلى المدينة، أو من الجزائر إلى فرنسا، وعلى الرغم من بقاء الجزائر بلدا زراعيا بالدرجة الأولى، إلا إن عدد سكان المدن بلغ في عام 1954، أربعة أضعاف ما كان عليه هذا العدد في عام 1886. في حين لم يتزايد

عدد السكان في المناطق الريفية خلال المدة نفسها إلا بنسبة الضعف. وقد وجد هذا الاتجاه في الانتقال من حياة الأرياف إلى حياة المدن، بين الجزائريين والأوروبيين على حد سواء، لكنه كان أكثر وضوحا بين الأوروبيين الذين أصبح ثمانون بالمائة منهم يعيشون في المدن في عام 1954، بينما كان 64 في المائة منهم يعيشون فيها في عام 1886. وقد اتجه الجزائريون أيضا في القرن الماضي إلى المدن. وكان سبعة في المائة من الجزائريين يعيشون في المدن في عام 1886، بينما ارتفعت هذه النسبة إلى ثمانية عشر في المائة في عام 1954. وليس بالإمكان القول أن جميع هؤلاء الجزائريين يساهمون في حياة المدن مثلهم مثل الأوربيين. فبعضهم أقام له بيوتا من الصفيح هي أشبه بالأكواخ منها بالمنازل الشرعية. وهكذا، فقد كانت الحياة الحضرية في عهد الاستعمار من نصيب الأوروبيين بالجزائر، في حين بقيت الحياة البدوية والريفية من نصيب المواطنين الجزائريين وفقا لما يبرزه الجدول التالي: السنة ..... المسلمون ..... غير المسلمين ..... المجموع ..... نسبة المسلمين في المدن 1886 .......... ..... 240،000 ... 323،000 ... 563،000 ..... 6،9 % 1906 .......... ..... 342،000 ... 441،000 ... 783،000 ..... 8،5 % 1926 .......... .... 508،000 ... 592،000 ...... 1،100،000 ...... 11،5 % 1948 .......... ... 1،129،000 .......... ..... 709،000 ... 1،838،000 ..... 16،4 % 1904 .......... ... 1،624،000 .......... ... 792،000 ... 2،416،000 ..... 25 % 1960 .......... ... 2،072،000 ..... 853،000 ... 2،929،000 ...... 30 % وإذا ما تم الأخذ بنموذج لهذا التطور في المدن، ولتكن مدينة

الجزائر - العاصمة - على سبيل المثال، فيظهر بأن عدد سكانها في سنة 1886 لم يكن يتجاوز (65) ألف نسمة منهم (52) ألف أوروبي والباقون جزائريون. وفي سنة 1906، ارتفع عدد سكان مدينة الجزائر إلى (174) ألفا، منهم (134) ألف أوروبي، ثم وصل هذا العدد في سنة 1954 إلى (570) ألفا منهم (172) ألف أوروبي، ثم إلى المليون بعد الاستقلال، منهم أقل من (50) ألف أوروبي. ولعل تأثير هجرة الجزائريين إلى المدن الرئيسية في بلادهم من الأمور المثيرة. وعلى الرغم من أن عدد الجزائريين كان متفوقا دائما على الأوروبيين في مدينة قسنطينة، إلا أن هذا التفوق لم يكن يتجاوز الستة آلاف في عام 1886، بينما بلغ في عام 1954 - اثنين وستين ألفا- وفي عنابة، المدينة الرئيسية الثانية في شرق الجزائر وذات الميناء الهام، كان عدد الأوروبيين متفوقا على الجزائريين حتى عام 1948 فقط، ثم تفوق عدد المسلمين الجزائريين. وبقيت وهران هي المدينة الوحيدة التي كان الأوروبيون يتفوقون في عددهم فيها على المسلمين، وإن كان عدد هؤلاء قد ارتفع بنسبة عالية خلال المرحلة التي سبقت الثورة. وهكذا كان عدد الأوروبيين متفوقا على عدد المسلمين في ثلاث أو أربع من المدن الرئيسية في الجزائر عام 1886. ولكن هذا الوضع انعكس تماما في عام 1954. ولم يحتفظ الأوروبيون بتفوقهم العددي إلا في مدينة وهران فقط. ولقد كان لهذه الظاهرة أهميتها الكبرى خلال مرحلة الصراع الحاسمة، وخلال المحاولات التي لجأت إليها فرنسا لتقسيم الجزائر- على نحو ما تم في فلسطين-. وتبقى الظاهرة الأكثر أهمية في التركيب السكاني - الديموغرافي -

للجزائر، هي في فتوة مجتمعها الشاب. ففي عام 1954، لم تكن نسبة من يزيد عمرهم على الستين، بأكثر من خمسة بالمائة. وكان هذا المجتمع يضم نسبة خمسين بالمائة من الذين تنقص أعمارهم عن العشرين عاما. أما النسبة الباقية وهي خمسة وأربعون بالمائة فتشير إلى من تتراوح أعمارهم بين العشرين والستين. وكانت نسبة الزيادة الطبيعية للسكان عند الأوروبيين واحدا بالمائة في السنة - وهي ناجمة عن زيادة ثابتة نسبيا في معدل المواليد اتخذت هذا الشكل منذ عام 1939، وهبوط ثابت في معدل الوفيات. وبينها يميل تركيب السكان بين الأوربيين في الجزائر إلى الفتوة - إلى حد ما - فإن مسلمي الجزائر يعتبرون من أكثر الشعوب فتوة، وأكثرها تكاثرا في العالم. ففي عام 1954،كان معدل زيادة الجزائريين المسلمين في حدود اثنين ونصف بالمائة. وقد اعتبر هذا التزايد السريع بعد الحرب العالمية الثانية، في طليعة العوامل الاقتصادية التي سببت أزمة حادة أدت إلى إفقار الفلاح الجزائري إلى حد أكبر مما كان عليه من الفقر في عام 1939. ووجد الفلاح الجزائري المسلم نفسه محصورا بين موارده المحدودة جدا، وكثرة عدد الأفواه التي يجب تأمين الطعام لها. وكان لا بد من أن يتجه القادرون من الشباب نحو باب الهجرة إلى فرنسا بحثا عن المأوى والطعام، وهكذا بلغ عدد الجزائريين المهاجرين إلى فرنسا سنة 1948 نحوا من مائة وستين ألفا. ثم ارتفع هذا الرقم إلى نحو أربعمائة ألف مع بداية الثورة. وقد استطاع هؤلاء المهاجرون الجزائريون - تأمين الطعام لحوالي مليونين من مواطنيهم، بإرسال أجور عملهم إلى أهلهم وذويهم، ولو كان ذلك على حساب حرمانهم

هم أنفسهم من كثير من ضرورات الحياة ومتطلباتها. كما أن هذا التفجر السكاني قد أدى إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل - في الجزائر نفسها، وبالتالي إلى زيادة التذمر، وإلى توافر عدد كبير من الرجال القادرين على الانضمام إلى جيش الثورة ودعمه. وعندما انفجرت الثورة، أجرت السلطات الافرنسية بحثا إحصائيا، كشف عن وجود أربعة وخمسين ألف عامل عاطل عن العمل. ولكن هذا التقدير لم يكشف عن حقيقة مدى البطالة، أو نصف البطالة بين مسلمي الجزائر. حيث كان عدد العاطلين في القطاع الزراعي يتجاوز ثمانمائة ألف. كما أن عدد العاطلين وأنصاف العاطلين في جميع القطاعات قد تجاوز تسعمائة ألف من مجموع ثلاثة ملايين ونصف المليون، أي ما يعادل ربع المجموع الإجمالي للقوة العاملة. ولم يكن فقر الغالبية العظمى للجزائريين ناجما عن النسبة العالية للعاطلين عن العمل بصورة دائمة فحسب، بل عن تركيز الأراضي والثروة الصناعية في أيدي المستوطنين أيضا، بالإضافة إلى التوزيع غير العادل في فرض الضرائب. وبالإضافة أيضا إلى الأجور المنخفضة - والمجحفة - التي كانت تقدم لمسلمي الجزائر لقاء أعمالهم. وعلى سبيل المثال، فقد أجريت دراسة (في حزيران - يونيو- 1955) أبرزت أن معدل الدخل الفردي عند أغلبية الجزائريين المسلمين، لا تزيد على (45) دولارا في السنة. وهناك نسبة ضئيلة من مسلمي الجزائر لا تزيد على الخمسين ألفا يبلغ معدل دخل الفرد منها (502) دولار في السنة. هذا في حين كان متوسط دخل الفرد

ج - النهب الاستعماري

الأوروبي لا يقل عن (240) دولار في السنة. وكان هناك (15) ألفا من الأوروبيين يزيد دخل الفرد فيهم على (3181) دولارا في السنة. أما في مجال التشريع المجحف في فرض الضرائب؛ فيكفي القول بأن الضريبة التي كانت مفروضة على المسلم الجزائري في المدينة، والذي لا يتجاوز دخله (121) دولارا في السنة، قد بلغت (20،4) بالمائة -اعتبارا من سنة 1951 وما بعدها - وهي عين النسبة المفروضة على الأوروبي من أبناء الطبقة الوسطى الذي يبلغ دخله (502) دولارا في السنة. ج - النهب الاستعماري اعتمد النهب الاستعماري - على ما هو معروف - على مبدئين أساسيين 1 - الحصول على المواد الأولية التي تفتقر إليها الصناعة الغربية، بدون أي ثمن، أو في حدود الحد الأدنى من التكاليف. 2 - تصنيع هذه المواد الأولية وإعادة تصديرها إلى البلاد التي يتم استعمارها - فتح الأسواق في وجه الصناعات الغربية. وكان من المتوقع على هذا الأساس أن تعمل الإدارة الاستعمارية في الجزائر على تدمير الصناعات اليدوية القائمة، وعدم إفساح المجال لها للتطور. وكان في الجزائر صناعات تقليدية بسيطة ورائعة توارثها الأبناء عن الأجداد جيلا بعد جيل، وهذه الصناعات تقوم على الورش الصغيرة، أو في المنازل، وتعتمد في الغالب على اليد العاملة الماهرة والابداع الفردي، وهي إلى ذلك لا تتطلب رؤوس أموال ضخمة، ولا إلى شركات لتموينها، مثل صناعة الفخار، والزرابي، والسجاد، والحبال، والحصر، والأدوات المنزلية، والحلي، والصناعات الخشبية، ودباغة الجلود وصناعتها الخ ...

ولم يكن باستطاعة هذه الصناعات أن تصمد في وجه الصناعات التي اشتهرت باريس في إنتاجها، لا سيما وأن أسعار هذه الصناعات الغربية- الافرنسية - طرحت لتكون منافسة لأسعار الصناعات التقليدية. فأخذت هذه الصناعات في الانحدار والتقهقر ومن ثم الانقراض. وتخلى الصناع عن ورشاتهم ومحلاتهم وأغلقوها. فزالت الأسواق الوطنية الجميلة، لتحل محلها مراكز البيع العصرية التي يديرها الأوروبيون. وقد شكل القضاء على الصناعة الوطنية التقليدية عاملا إضافيا زاد من صعوبة الأزمة الاقتصادية التي فرضها النظام الاستعماري على الوطن الجزائري والمواطن الجزائري. ولم تحاول الإدارة الاستعمارية بالمقابل إقامة صناعة حديثة في الجزائر، بالرغم من توافر المواد الأولية (الحديد، والفوسفات، والجبس، والفحم، والطاقة الهيدروليكية - ثم الطاقة البترولية في الفترة الأخيرة)، وحتى الصناعات الغذائية احتكرتها فرنسا، ولم تسمح بإقامتها في الجزائر. وعندما وقعت الحرب العالمية الثانية، شعرت فرنسا بالحاجة لإقامة صناعات في مستعمراتها لدعم مجهودها الحربي، فأقامت في الجزائر بعض المصانع الصغرى التابعة للمؤسسات الصناعية الضخمة في فرنسا، وذلك حتى لا يكون هناك تناقض مع المبدأ الذي تبنته فرنسا وهو: (أن فتح مصنع بالجزائر معناه إغلاق آخر في فرنسا والقضاء بالتالي على الاقتصاد الافرنسي) فكانت المصانع التي أقيمت، في معظمها، فروعا للمعامل الافرنسية. ولقيت إقامة هذه الصناعات تشجيعا حيث يتوافر في الجزائر السوق المربحة، والمواد الأولية واليد العاملة الرخيصة.

وارتفع بذلك عدد العمال حتى (38) ألف عامل. وكان من أبرز الصناعات التي تمت إقامتها صناعات: النسيج، والمواد الكيماوية، والفلزات، والخشب، والفلين، والجلود، والمواد الغذائية، وتكرير البترول، والمعادن. وأقيم فرع لصناعات السيارات (رينو) بالقرب من الجزائر العاصمة - يعمل فيه 500 عامل - وينتج سنويا (12) ألف سيارة. وهو مصنع تجميع. بالإضافة إلى مصنع (بيرلييه) شرق الجزائر العاصمة ويعمل فيه 600 عامل. وكفاءته الإنتاجية 1800 سيارة سنويا. ولم تكن إقامة مثل هذه الصناعات في كل الأحوال متناقضة مع مبادىء النهب الاستعماري، فبقي الحصول على المواد الأولية، وتصديرها في حالتها الخام إلى فرنسا، هو الأساس في تعامل فرنسا مع الجزائر، وبقيت المواد الأولية تصدر بكاملها تقريبا إلى فرنسا. وكانت الشركات التي تقوم باستخراج المعادن هي شركات إفرنسية، وها هو نموذج عن استخراج المعادن من المناجم الجزائرية والمصدرة الى فرنسا - وفقا للإحصاءات الرسمية لتصدير المعادن في سنة 1953: الحديد: الإنتاج (3،332،000) طن يصدر منها (3،031،000) طن. الرصاص: الإنتاج (11،800) طن يصدر منها (9100) طن. الفوسفات: الإنتاج (702،600) طن يصدر منها (562،000) طن. الفحم: الإنتاج (295،000) طن يصدر منخا (9000) طن. تجدر الإشارة إلى أن إقامة هذه المصانع وتطويرها قد اصطدم بمقاومة المستوطنين ومعارضتهم. ومثال ذلك رد فعل منتجي الشوندر

السكري من الافرنسيين ضد إقامة مصنع للسكر في الجزائر. وكان من نتيجة هذه المقاومة بقاء حركة التصنيع في طور بدائي جدا. وبقيت البلاد زراعية بالدرجة الأولى، ولم تجاوز الصناعة الجزائرية حتى عشية الثورة أكثر من (28) بالمائة من الإنتاج العام. وكانت بأوضاعها تلك لا تستطيع أن تستوعب أكثر من 7 بالمائة من اليد العاملة الوطنية. وبقيت الجزائر بلادا متخلفة اقتصاديا. ويذكر أن بعض الشركات الدولية الكبرى قد حاولت إقامة مصانع لها في الجزائر - مثل شركة سولفاي لإنتاج المواد الكيميائية - غير أن قبضة المعمرين القوية نجحت في إحباط هذه المحاولات وذلك (حتى لا تعمل هذه الصناعات على انتزاع قسم من اليد العاملة التي يستغلونها بثمن بخس. وحتى لا تتشكل طبقة العمال - البروليتاريا - وتنتظم، الأمر الذي يتناقض مع مصالحهم الاستعمارية). ... وتحكمت قبضة فرنسا الاستعمارية بالتجارة بمثل تحكمها بالزراعة والصناعة، وكانت معظم الصادرات الجزائرية من المنتجات التي يحتاجها النظام الاستعماري من المواد الأولية. أما الواردات فكان (80) بالمائة منها من المواد المصنعة، والبافي من المواد الغذائية (مثل القهوة والشاي والسكر) وهي المواد التي تستهلك على نطاق واسع في البلاد المتخلفة غذائيا، وتشكل هذه المواد نسبة (59) بالمائة مما يستهلكه الجزائريون. وتشير طبيعة هذا التبادل إلى أن الصادرات الجزائرية تفوق بحجمها الواردات. أما من ناحية القيمة، فالأمر على النقيض من ذلك. وها هي الإحصائية الرسمية التي نشرت سنة 1953 والتي تؤكد هذه الحقيقة:

صادرات الجزائر (6،671،191) طن قيمتها (138،820) مليار فرنك فرنسي. ما تستورده الجزائر (2،665،617) طن قيمتها (202،694) مليار فرنك فرنسي. أما في سنة 1959، فكان الميزان التجاري كما يلي: صادرات الجزائر (9،260،000) طن قيمتها (180,470) مليار فرنك فرنسي (قديم) ما تستورده الجزائر (5،466،000) طن قيمتها (563،110) مليار فرنك فرنسي (قديم). ويظهر بذلك أن العجز في سنة 1959 - قد وصل حتى (382،640) مليار فرنك (قديم). وكانت أعباء هذا العجز ونتائجه تقع على عاتق المسلم الجزائري. ويجب أن يضاف إلى ذلك أن التنظيم التجاري الذي فرضته فرنسا على الجزائر، كان يحتم نقل جميع هذه البضائع على البواخر الإفرنسية، الأمر الذي كان يزيد من الأرباح الافرنسية، ويضاعف من الكسب لمصلحة الاقتصاد الاستعماري. كما كان الاتحاد الجمركي مع فرنسا يفرض على الجزائر العزلة التامة عن العالم أجمع، ويستبعد كل منافسة أجنبية. وبقي المواطنون الجزائريون المسلمون معزولون عن العمل في المجالات التجارية. فكان كل تبادل تجاري يتم مع الخارج عن طريق العملاء الأوروبيين (الوسطاء). وكان من نتيجة هذا التنظيم الاقتصادي للجزائر زيادة الأعباء على المواطن الجزائري (المستهلك). لقد احتكرت الإدارة الإفرنسية تجارة الجملة (التصدير والاستيراد) وأسندتها الى اليهود والإفرسيين، وحاول بعض

المسلمين الجزائريين اقتحام هذا المجال، غير أنهم صدموا بمقاومة الإدارة الإفرنسية من جهة ومقاومة الوسطاء (اليهود والإفرنسيين) من جهة ثانية. وكانت مقاومة الإدارة الإفرنسية عن طريق رفض العملات - القطع النادر- التي طلبها المسلمون لاستيراد البضائع الأجنبية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت عملية التصدير والاستيراد تتطلب رؤوس أموال ضخمة، وكانت المصارف - البنوك - في قبضة الإفرنسيين. وهذا ما كان يمنع المسلمين من ممارسة الأعمال التجارية الخارجية - إلا إذا وقعوا في قبضة الرأسماليين من اليهود والافرنسيين، وبما أن عدد الأوروبيين بقي يتزايد بصورة مستمرة، فقد أخد عدد من هؤلاء أيضا يمارس تجارة التجزئة (المفرق). وباتوا وهم يملكون أجل الحوانيت في المدن والقرى الجزائرية الصغيرة، وبات أكبر تاجر جزائري لا تتعدى إمكانياته المادية ورخصة عمله الحكومية فتح دكان لبيع المواد التجارية بالجملة أو المفرق. وبقيت القروض ورخص الاستيراد والتصدير مرفوضة للصناع والتجار المسلمين من الجزائريين الذين لا يبرهنون على ولائهم للاستعمار، وهي ممنوحة لأولئك الذين يخنعون للذل والعبودية. وبموجب سياسة الاستغلال هذه، يتوجب على الجزائري الذي يرغب في فتح دكان أو مطعم أو مقهى أن يسير حسب تعاليم الشرطة الإفرنسية - البولس - الذي يعد المرجع الأول والأخير لدى الإدارة الاستعمارية التي تمنح الرخص الرسمية. فإذا ما تبين أن المتقدم بطلب الرخصة يتمتع بآراء وطنية، أو ظهرت آراؤه هذه بعد أن يكون قد حصل على الرخصة، فسرعان ما تسحب الرخصة ويغلق محله،

د - البترول والغاز الطبيعي

ويسجل اسمه بالمداد الأحمر، علامة العصيان، ونذيرا لما سيلاقيه هو وعائلته من تعسف واضطهاد. وبقيت الضرائب الفادحة، وإغلاق المقاهي الإسلامية، وتشجيع الصناعات المماثلة التي استطاع المسلمون أن يبرزوا فيها (مثال ذلك: الكوكاكولا ضد مصانع الليموناضة الجزائرية). واستصفاء الأموال، والمحاكمات والمصادرات وعزل العمال والموظفين المسلمين المتهمين بجريمة (الغيرة الوطنية) كل هذه وسائل عادية في جملة الوسائل الاستعمارية لقمع الشعب الجزائري من الناحية الاقتصادية. أما فكرة إنشاء المصانع والشركات، أو تعاطي تجارة كبرى كالتصدير والاستيراد، فيجب على الجزائري أن يستبعدها عن تفكيره، لأنه من المحال عليه بلوغها. ولم يكن ذلك غريبا بعد أن أصبحت هناك حفنة من المعمرين الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، وهم يتحكمون بكل اقصاديات الجزائر، من أمثال (هنري بورجو) و (جورج بلانشات) و (لوران شيامنينو) الذين أحكموا سيطرتهم على كافة المصانع والشركات والبنوك والمناجم، واستولوا على أطيب الأراضي الزراعية في الجزائر وأخصبها. د - البترول والغاز الطبيعي لقد ظهرت مشكلة الطاقة الممثلة (بالطاقة البترولية بالدرجة الأولى) في ظروف حرب العاشر من رمضان (تشرين الأول-أكتوبر- 1973)، وأخذت أبعادها الحادة والخطيرة. غير أن جذور هذه المشكلة تمتد في الواقع إلى أيام الحرب العالمية الثانية. وقد كان لهذه المشكلة أبعادها الاقتصادية الهامة والحاسمة في التأثير على مجموعة

المواقف خلال مسيرة الصراع الافرنسي - الجزائري، وحتى خلال المرحلة التالية لحرب التحرير. وقد كان هذا التأثير نتيجة لما تم اكتشافه في الجنوب الجزائري وبقية مناطق الصحراء من الثروة البترولية والغاز الطبيعي. ذلك أن اكتشاف البترول في الجزائر، أحدث تغييرا واضحا في مجموع الأوضاع الاقتصادية للجزائر خاصة، وأقطار المغرب العربي الإسلامي بصورة عامة. وعلى الرغم من أن عمليات التنقيب خلال مرحلة ما قبل الثورة، لم تكن إلا عمليات جزئية ومحدودة في المناطق الصحراوية، الا أن الأبحاث قد أكدت في تلك الفترة أن الإنتاج السنوي سيصل حتى (13) مليون طن في العام 1960، وأن هذا الإنتاج سيرتفع حتى (25) مليون طن في العام 1970. وظهر أن هذه الثروة الكامنة ستفتح آفاقا جديدة ومجالات رحبة أمام المستقبل الاقتصادي للجزائر. وتستطيع الجزائر بنتيجة ذلك احتلال مركز ممتاز يتيح لها أن تتصنع، وأن تنهض بسرعة لرفع مستواها الاقتصادي الأمر الذي سيساعدها على تجاوز مرحلة التخلف التي جهدت فرنسا طويلا لتكوينها خلال ليل الاستعمار. لقد أدى ذلك الى زيادة تمسك فرنسا بمواقعها في الجزائر، وزاد من ضراوتها (أو استماتتها) للاحتفاط بالجزائر وبترولها، ما كان يحدث من تحولات مستمرة، واضطرابات متوقعة في السوق البترولي للعالم العربي (الذي ما زالوا يطلقون عليه اسم الشرق الأوسط) نتيجة التطور المستمر في الصراع العربي - الاسرائيلي. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان من المتوقع أن ينفرد البترول الجزائري والغاز الطبيعي المستخرج من الجزائر في ميزتها الخاصة، وهي قربهما من السوق

الاستهلاكي في الغرب - المستورد الأول في العالم للطاقة البترولية. ولقد وطدت فرنسا نفسها، وعزمت عزمها، على بذل المستطاع، وأكثر مما هو مستطاع، من أجل الاحتفاظ ببترول الجزائر واستثماره ونهبه ... ولهذا أعلنت أن الصحراء الكبرى هي أرض فرنسية منفصلة عن الجزائر، وأقامت للصحراء حدودها المصطنعة، وشكلت لها حكومة خاصة ووزارة جديدة. وعملت في الوقت ذاته على تصعيد الصراع في حربها الشاملة ضد شعب الجزائر بهدف تأمين طريق بترولي، بينما راحت تبحث عن مخارج سياسية تبادلية تضمن لها إحكام قبضتها على الجزائر وعلى أقطار المغرب العربي الاسلامي كافة. وقد ركزت فرنسا جهدها أيضا - في إطار صراعها السياسي - على مضاعفة اتصالاتها بالشركات البترولية العالمية، بهدف إثارة اهتمام هذه الشركات ببترول الجزائر، ومحاولة إغراء رؤوس الأموال الأجنبية التي تعمل في التنقيب عن هذا البترول. وكانت فرنسا تعرف أن مشاريع البترول الجزائري تتطلب إمكانات مالية وتقنية تزيد كثيرا على ما كان متوافرا لها في تلك الفترات. ولهذا فقد أثارت اهتمام الدول الأوروبية الأخرى - ولا سيما دول السوق الأوروبية المشتركة - بهذا البترول، وعادت إلى طرح مشاريعها الاستعمارية القديمة بأثواب جديدة عن طريق ما أطلقت عليه اسم (إقامة المنظمة الأوروبية -الأفريقية - أوروفريقيا) مع إعطاء هذه المنظمة المقترحة صيغة تجميلية مبكرة. غير أن الجزائر الثائرة لم تقف جامدة تجاه هذا التحرك الافرنسي المكشوف لها في وسائله وأهدافه. فعملت على إحباط كافة المشاريع المطروحة. وجدير بالذكر أن (لجنة التنسيق والتنفيذ) التابعة لجبهة التحرير

الوطني الجزائري قد تنبهت منذ البداية لهذه الأخطار الجديدة المحدقة بالبلاد. فعملت على تحذير جميع البلدان المؤيدة لأطماع فرنسا الاستعمارية أو المناهضة لها من مغبة الاستجابة للمشاريع الافرنسية. وعندما أعلنت فرنسا في سنة 1957 عن إصدارها لقانون استثمار البترول. ردت لجنة التنسيق والتنفيذ الجزائرية بما يلي: (إن حق استثمار البترول هو أمر منوط بحكومة وطنية جزائرية ذات سيادة. وعلى هذا فإن الجزائر لن تكون ملزمة بأية معاهدة أو أي اتفاق أو التزام قامت به فرسا أو تقوم به باسم الجزائر). وفي الوقت ذاته قام جيش التحرير الوطني الجزائري بشن مجموعة من المعارك الظافرة في الصحراء، وضاعف من حملاته على الحاميات الافرنسية فيها، وبهذا أصبح من المحال متابعة نقل البترول بواسطة الحاملات أو الناقلات الخاصة، والتي أرادت فرنسا من خلالها إعطاء عملية النقل قيمة رمزية. أمام هذا الموقف، لجأت فرنسا الى استخدام سلاح جديد - قديم -وهو سلاح التفرقة بين أقطار المغرب العربي - الإسلامي؛ ففي تلك الفترة، عقدت لجنة (التنسيق والتنفيذ الجزائرية) (مؤتمر طنجة) مع ممثل المغرب وتونس، بهدف (تشكيل الجبهة المغربية) لمقاومة المخططات الإفرنسية وتنسيق الجهد العربي ضدها. فما كان من فرسا إلا أن عقدت اتفاقا مع تونس (سنة 1907) يسمح لشركة فرنسية بمد أنابيب البترول من (أدجيليه) في الجزائر الى البحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي التونسية، وأقدمت تونس على عقد هذا الاتفاق مدفوعة بقلق غامض على مصير وحدة أقطار المغرب العربي -الإسلامي، ولاعتبارات أخرى تتعلق بمستقبل هذا المغرب. وكان رد

هـ - الموقف التعليمي (الثقافي)

الفعل المباشر والفوري (للجنة التنسيق والتنفيذ) إصدار بيان أعلنت فيه: (بأنها تعتبر توقيع هذه الاتفاقية خرقا لمقررات مؤتمر طنجة، واعترافا ضمنيا من تونس بحق فرنسا في بترول الجزائر. وأن الشعب الجزائري لن يقبل بأن تغذى الحرب التي تشن ضده لمدة طويلة أو قصيرة، ببترول ينقل عبر أراضي بلاد المغرب. كما أن مد الأنابيب المتفق عليه، يفقد الشعب الجزائري الفوائد المرجوة من معركته في الصحراء. وهي المعركة التي يخوضها آلاف المواطنين الجزائريين ... إن الاتفاقات الحقيقية لا يمكن أن تبرم إلا في مغرب متحرر، وبعد أن تبنى في كل بلد سياسة اقتصادية موحدة، أما مساهمة الدول الأجنبية في استثمار هذا البترول، فليست أمرا ثانويا، بل أوليا لا مناص منه، بيد أن هذه المساهمة لا يمكن أن تتم الا مع مراعاة المصالح المغربية. وعلى أساس الحرية التامة بين المتعاقدين، والحقوق المشروعة للطرفين المتعاقدين). وعلى أثر ذلك أعلنت الحكومة التونسية أنها لن تسمح بضخ البترول الجزائري إلا بعد انتهاء الحرب الجزائرية - الإفرنسية. وأمكن تجاوز الأزمة في ظروف الحرب. لتبرز بعد ذلك عند عقد اتفاقية (ايفيان) ولتبرز بشكل أخطر في (مشكلة الصحراء). هـ - الموقف التعليمي (الثقافي) كان السلاح الثقافي هو السلاح الرئيسي الذي استخدمته فرنسا لتدمير الجزائر، وفصلها عن أصالتها وماضيها وتراثها الحضاري ومستقبلها، وبالتالي عزلها عن محيطها الاسلامي - العربي. فانتشر في

الجزائر، وعلى نطاق واسع، أدب استعماري هدفه تمجيد فرنسا وعظمتها وتفوقها وما تقيمه من مشاريع في الجزائر (لتحضيرها وتمدينها وإخراجها من الظلمات الى النور). واذا ما تمت العودة الى ما تم طرحه باسم (التقاليد الثقافية الإفرنسية) فسيظهر أن فرنسا قد خلقت خرافة باسم (البعثات الثقافية الاستعمارية). غير أن تجربة أكثر من قرن قد برهنت على أن الوجود الاستعماري في الجزائر كان سببا في تقهقر الجزائر تعليميا وثقافيا، وتوقفها عن كل تطوير طبيعي للثقافة الجزائرية الأصيلة. ولم يكن حملة لواء تلك (البعثات الثقافية الاستعمارية) في الواقع سوى نفر من المهاجرين المضطربين فكريا، والفقراء عقليا، والمفلسين ماديا. جاءوا من وراء البحار يدفعهم حب المغامرة والرغبة في جمع المال، فكان همهم الوحيد وهم يهبطون أرضا تم إخضاعهم حديثا بقوة السلاح، أن يعيشوا بيسر وسهولة، وأن يجمعوا بسرعة ثروة كافية. ولقد وجد هذا النفر نفسه حيال الشعب الجزائري المتقدم في ظل الحضارة العربية والثقافة الإسلامية. وهو بالتالي لم يكن شعبا جاهلا أو بربريا كما أرادت تصويره روايات (الأدب الاستعماري) والذي يعتمد على مجموعة من الأساطير القديمة والمرتبطة في تاريخها بأيام الحروب الصليبية القديمة وأحداثها. كان يوجد في الجزائر قبل احتلال فرنسا سنة 1830، جمعية ثقافية إسلامية كبرى، إلى جانب جمعيات صغرى كثيرة. فكان التعليم منتشرا حتى في أقصى المناطق النائية، وفي أصغر القرى - والدواوير - فكان المرء يرى المدارس الكثيرة التي تضم الشبيبة الناشطة. كما كانت الجامعات منتشرة في كافة أصقاع العالم الإسلامي - العربي. وقد سجل (الجنرال هوتبول) في مذكرة بعث بها سنة 1850 الى رئيس

الجمهورية الثانية ما يلي: (كانت الثقاقة الاسلامية قبل الاحتلال واسعة الانتشار. وشاملة للفروع الآتية: 1 - التعليم الابتدائي الذي يشمل الأطفال بين الثالثة والعاشرة. 2 - التعليم الثانوي ويشمل الأحداث بين العاشرة والخامسة عشرة. 3 - التعليم العالي: للشباب، ويشمل الفقه والحقوق والرياضيات وعلم الفلك والجغرافيا والتاريخ والطب. وكان التعلم الثانوي والعالي مجانيا كالتعلم الابتدائي. وكان يوجد في الجزائر أيضا جامعات أهمها: جامعة قسنطينة، وجامعة مدينة الجزائر، وجامعة تلمسان، وجامعة مازونا وبسكرة, وكانت هذه الجامعات من مستوى جامعة القاهرة وجامعة تونس وجامعة فاس، وكانت تضم آلاف الطلبة المسلمين). وجاء الاستعمار الافرنسي ليبذل كل ما يستطيعه من أجل تدمير المجتمع الجزائري وتكوينه تكوينا جديدا يستجيب لأهدافه ويحوله نحو وجهة جديدة. واعتمد خطة هدامة ذات اتجاهين: أولهما تعميم الجهل. وثانيها: نشر ثقافة فرنسية استعمارية. والهدف من الخطة هو القضاء على الثقافة الاسلامية واجتثاثها من جذورها. وتجريد الجزائريين المسلمين بالتالي من تراثهم القومي بغية القضاء على كل وعي وطني أو شعور بانتمائهم الى شعب عظيم له ثقافته الرائعة وحضارته المميزة. وفي إطار هذه الخطة، عمل الاستعمار الإفرنسي على إغلاق المدارس وتشتيت الطلاب، وحل المنظمات الخيرية - الدينية التي كانت تشرف على حركة التعليم، ومصادرة أموالها (الأوقاف)، والقضاء على قواعد التعليم (المساجد). واعتبار اللغة العربية التي هي اللغة القومية -لغة أجنبية - بموجب القانون وتحريم تدريسها. ولقد طبق في

الجزائر نظام تدريس أشبه ما يكون بالنظام المطبق في فرنسا، وهو نظام لم يطبق في أي مستتعمرة أخرى غير الجزائر. كما أنه حرم على الجزائريين المسلمين اتباع أي نظام تعليمي آخر. وحظر تعليم اللغة العربية أو التاريخ الوطني أو الاطلاع على الحضارة العربية - الاسلامية؛ هذه الحضارة التي ترتبط بها الثقافة الجزائرية ارتباطا وثيقا. وظل التعليم بين سنة 1830 - 1944 بالنسبة للطلاب الجزائريين معدوما أو شبه معدوم، بينما كان عاما بالنسبة للأوروبيين. فالمدارس لا تقبل سوى عدد محدد جدا من الطلاب الجزائريين، وعلى شكل امتياز في معظم الأحيان لمن ترضى عنهم الادارة الإفرنسية. غير أن هذه الأقلية الضئيلة جدا قد روع وجودها في المدارس السكان الأوروبيين، كما تثبته هذه الوثيقة التي تبناها مؤتمر المستعمرين في الجزائر سنة 1908. وتضمنت الوثيقة ما يلي: (... اعتقادا منا بأن تعليم الوطنيين في الجزائر إنما ينطوي على محاذير حقيقية، سواء في المضمار الاقتصادي، أو بالنسبة للمستوطنين الأوروبيين - الافرنسيين -فإن المؤتمر قد أعرب عن رغبته في إلغاء التعليم الابتدائي لهؤلاء الوطنيين إلغاء نهائيا). وتجدر الإشارة إلى أن عدد الطلاب المسلمين الجزائريين المقبولين في المدارس خلال تلك الفترة، لم يكن يتجاوز (41) ألف طفل من اصل (1،781،000) طفل كانوا في عمر الدراسة. لم يستسلم مسلمو الجزائر لهذه المخططات، وقاموا بالرغم من كل الضغوط والظروف السيئة ببذل كل جهد ممكن للمحافظة على وجودهم من خلال تمسكهم بكتاب الله وإقبالهم على التعليم

التعليم الابتدائي

الإسلامي العربي. وقام شيوح المسلمين في الأغواط وميزاب وقسنطينة بنشر التعليم، كما عملت جمعية علماء مسلمي الجزائر -عبد الحميد بن باديس وإخوانه في الله - على إرساء القواعد الإسلامية الثابتة ونشر التعليم الإسلامي والثقافة العربية، وأخذت محصلة هذه الجهود في إعطاء ثمارها على شكل نهضة ثورية شاملة. وشعرت فرنسا بخطورة الموقف، فأخذت منذ سنة 1944 ببذل محاولات جديدة لاستعادة المبادأة، والقضاء على المدارس الخاصة، وذلك بفتح أبواب المدارس للتعليم الابتدائي في المدارس الرسمية - الإفرنسية -. وزاد عدد الطلاب الجزائريين في هذه المدارس، غير أن عدد الطلاب الذين لم تتسع المدارس لقبولهم بقي كبيرا. وذلك لأن الإدارة الإفرنسية لم تعمل على زيادة عدد المدارس أو بناء مدارس جديدة، وكل ما فعلته هو أنها اخترعت نظام المدارس التي تعمل بنصف دوام (الدوام النصفي) الذي يحقق هدفا مزدوجا - الأول: تخفيض مستوى التعليم -تعميم الجهل بالتعليم. والثاني: استيعاب أكبر عدد من الطلاب لمقاومة جهد المدارس الاسلامية الخاصة وحرمانها من التطور. أما المدارس الابتدائية التي كان يتم افتتاحها جديدا فكانت تخصص لأطفال الأوروبيين، وهذا مما تؤكده الاحصاءات الرسمية التي أعلنت سنة 1953. وجاء فيها ما يلي: 1 - التعليم الابتدائي: - الطلاب الجزائريون (269) ألف طفل سجلوا من أصل (1،969،000) طفل في سن القبول، أي أن نسبة الذين بقوا خارج المدارس من هؤلاء الأطفال هي (86،5) بالمائة.

التعليم الثانوي

- الطلاب الأوربيون (135) ألف طفل، هم جميع أولاد الأوربيين. 2 - التعليم الثانوي: الطلاب الجزائريون (4159) طالبا من أصل 12 مليون نسمة. الطلاب الأوربيون (24) ألف طالب من أصل (800) ألف أو حتى (900) ألف نسمة. 3 - جامعة الجزائر: الطلاب الجزائريون (507) طلاب. الطلاب الأوربيون (5132) طالبا. وفي مجال التعليم الفني (المهني) فقد أنشئت معاهد عالية للتعليم الزراعي، ومعاهد متوسطة ومدارس ابتدائية. ولم يكن المعهد الزراعي العالي يضم ولو جزائريا واحدا في عداد طلابه. وكان عدد الطلاب في بقية المعاهد - من الجزائريين والإفرنسيين على النحو التالي: المدارس الزراعية ...... الجزائريون ........ الإفرنسيون مدرسة فيليب فيل ..... 2 ..... 33 مدرسة عين تيموشنت ..... 3 ..... 44 مدرسة سيدي بالعباس ..... 2 ..... 82 مدرسة الجلم ..... 37 ..... 55 مدرسة المختراس ..... 30 ..... 30 المعهد العالي الزراعي ..... - ..... 138 المجموع ..... 74 ..... 382

وتتكرر هذه الظاهرة في التعليم الصناعي، حيث يلاحظ تنافص عدد الجزائريين كلما ارتفع المستوى التعليمي وفقا لما تشير اليه دراسة إحصائية للسنة الدراسية 1954 - 1955 وهي كالتالي: المدارس الصناعية ..... الجزائريون ..... الإفرنسيون مركز التدريب ..... 3600 ..... 3000 فروع التعليم المهني ..... 300 ..... 660 الثانوية الصناعية ..... 300 ...... 1550 المعهد العالي الصناعي ..... 11 ..... 314 المجموع ..... 4211 ..... 5524 لقد كانت شرعة محاربة التعليم في الجزائر؛ مجسدة بما أعلنه المستوطنون الإفرنسيون، في مجابهة الحكومة الإفرنسية سنة 1894، عندما فكرت هذه الأخيرة في تطوير التعليم في الجزائر، فطرح المستوطنون مقولتهم التالية: (لا حاجة لبناء المدارس وإنشائها للبرهان على قوتنا وقدرتنا، فالكرم لا نفع منه في بلاد تنكر الجميل). وبقيت هذه المقولة هي الشرعة السائدة في الجزائر طوال عهد الاستعمار. ... لقد أخذت الأقلام الاستعمارية في الدفاع عن فرنسا الاستعمارية، وتحميل كل سوءات الاستعمار وعيوبه للمستوطنين غير أن مثل هذه المحاولات لتبرئة الاستعمار الإفرنسي ومحاولة منحه (شهادة حسن سلوك) هي محاولات فاشلة. ذلك أن كل البراهين والشواهد تؤكد حقيقة واحدة وهي أن الاستعمار الاستيطاني في

الجزائر لم يكن إلا وسيلة لضمان السيطرة الاستعمارية، وتأمينا للنهب الاستعماري. وقد قام هذا الاستعمار الاستيطاني بواجبه على أكمل وجه في تنفيذ المخططات الاستعمارية الإفرنسية. وكان لا بد للمستوطنين من امتيازات مقابل الخدمات التي كانوا يقدمونها للوطن الأم. وعلى هذا فمن المحال فصل الاستعمار الإفرنسي عن أجهزته التنفيذية والممثلة بالاستعمار الاستيطاني. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد تعاقب على حكم فرنسا منذ استعمارها للجزائر سنة 1830 وحتى الثورة المباركة للجزائر في سنة 1954 أنظمة امبراطورية وملكية وجمهورية، يمينية، يسارية، وكلها سلكت خطا ثابتا تجاه الجزائر، أليس في ذلك ما يدين فرنسا الاستعمار وفرنسا الدولة؟ علاوة على ذلك، فقد حاول الجزائريون منذ استعمار فرنسا لبلادهم أن يعملوا على إصلاح المفاسد بالتوجه الى الحكم الافرنسي - في باريس مباشرة. وكانت هذه المحاولات تصطدم داما بمدافع فرنسا الطويلة. ولقد بقي هذا الحلم الخادع، والسراب المضلل، أمل أولئك الذين نشأوا في أحضان (المدرسة الإفرنسية) ونادوا بدمج الجزائر بفرنسا. وهم يفصلون في محاولاتهم تلك بين الاستعمار الإفرنسي وجهازه التنفيذي (الاستعمار الاستيطاني) حتى تبين لهم في النهاية صعوبة إجراء مثل هذا الفصل، ولم يجدوا أمامهم في النهاية غير طريق الثورة. وبعد، قد يكون من الصعب في هذه العجالة، عرض كل ملامح الجزائر عشية ثورتها، سواء في مجال التمييز العنصري بين المسلمين الجزائريين، والعنصريين الإفرنسيين، أو في مجال التمييز في الوظائف والخدمات - وحتى الخدمة في الجيش - أو في مجال الرعاية الصحية.

ولعل ما سبق طرحه، هو أمر كاف لإيضاح صورة الموقف وتعميمها على كل مرافق الحياة العامة والخاصة، وعندئذ يمكن القول: كم احتمل شعب الجزائر من عنت الاستعمار وظلمه؟ ولرب قائل بأن البيانات السابقة، والمعلومات الواردة، قد تجاوزها الزمن، وأصبحت في ذمة التاريخ. وكان بالمستطاع تناسي تلك الآلام والمآسي لو توقفت الحرب فعلا، وانتهى الصراع حقيقة. غير أن الصراع لم يتوقف ولو أن وسائله قد تطورت. وعلى هذا يجب ألا ننسى أبدا، ويحب أن نتذكر دائما. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن جيل الأبناء يجب عليه أن يعرف ما هو الاستعمار؟ وكم عانى الآباء والأجداد من قسوة الاستعمار ووحشيته، وعندئذ سيحرص جيل الأبناء على استقلاليته بقدر ما يتناسب مع جهود السلف وتضحياتهم.

الموقع الجيواسراتيجي والطبوغراي

2 - الموقع الجيواسراتيجي والطبوغراي (¬1) ليس هدف البحث في هذا القسم إجراء دراسة عامة وشاملة للجفرافية الجزائرية. إذ أن بلوغ هذا المطمح أمر عسير في بحث يتركز بالدرجة الأولى على الثورة الجزائرية، وظروف انطلاقها، ولكن إذا كان من الصعب تحقيق ذلك، فلا أقل من إعطاء فكرة وجيزة قدر المستطاع عن طبيعة مسرح الأعمال القتالية الذي شهد أحداثا مثيرة في حرب ضارية استمرت سبع سنوات. تشكل الجزائر، على ما هو معروف، القسم المتوسط من المغرب الإسلامي - العربي والذي أطلق عليه العرب قديما اسم (جزيرة المغرب)، ذلك أن البحر المائي يحد هذه الجزيرة من الشرق والشمال والغرب ويحدها البحر الرملي من الجنوب. وتمتد الجزائر فوق مساحة تزيد على المليونين من الكيلو مترات المربعة، وتتصل في حدودها الشرقية مع تونس وليبيا، وفي حدودها الغربية مع المغرب وموريتانيا وفي الجنوب مع النيجر ومالي. وتتميز الظواهر الطبوغرافية للجزائر بمظهرين أساسيين هما: سلاسل جبلية في الشمال. متقطعة، تنحصر ¬

_ (¬1) تم الاعتماد في هذا القسم، وبالدرجة الأولى، على كتاب (جغرافية الجزائر) للأستاذ: حليمي عبد القادر علي.

بين فكيها أراض مرتفعة تمىس بالنجود. وفي الجنوب قاعدة عظيمة متسعة الأرجاء، فيها سهول حقية، وجبال بركانية، وكثبان رملية وهضاب صخرية. والانحدار العام لإقليم الشمال الجزائري يتجه من الجنوب إلى الشمال في أغلب الأجزاء. ويظهر ذلك بوضوح إذا ما تم أخد مقاطع مختلفة تمتد من الساحل حتى جبال الأطلس الصحراوي. ثم أجريت المقارنة فيما بينها. وعلى سبيل المثال، فإذا ما أخذ مقطع يبدأ من وهران إلى العين الصفراء، مارا بجبال الضاية فجبال عنتر، (انظر المقطع أ) حيث يظهر أن منطقة العين الصفراء يزيد فيها الارتفاع على الألفي متر (جبل عيسى بالقرب من العين الضفراء ارتفاعه 2236 مترا) بينما جبال تاسالا بالقرب من وهران لا يزيد ارتفاعها عن الألف متر إلا قليلا، أي أن الارتفاع في الجنوب يفوق الارتفاع في الشمال بالضعف. ولهذا كانت الأودية في الشمال الغربي من الجزائر تنحدر من الجنوب إلى الشمال، مثل وادي الشلف الذي يأخذ منابعه من جبال عمور. وكذلك الأمر بالنسبة للإنحدار العام في إقليم شمال شرق الجزائر، حيث يتجه هذا الانحدار من الجنوب الى الشمال (كما يظهره المقطع ج) الذي يبدأ من رأس بوقرعون؛ وينتهي عند أقدام السفوح الجنوبية من جبال أوراس، مارا من الشمال الى الجنوب بجبال القبائل الصغرى (نوميدية) التي يقل ارتفاعها عن الألف متر، ثم الوادي الكبير، ثم شطابه، ويزيد ارتفاعها عن الألف متر، ثم هضاب البحيرات التي لا يزيد ارتفاعها على الألف متر، ثم جبال الأوراس. وهنا يتم الوصول الى منطقة يشتد فيها الارتفاع، اذ يزيد على الألفي متر. ويظهر ذلك الشبه الشديد بين هذا المقطع وبين

المقطع الوهراني في انحداره العام. أما المقطع الثالث الذي يبينه الشكل (ب) والذي يبدأ من (دلس) الى (بسكره) مارا بوسط الجزائر، فلا يشبه المقطعين السابقين في انحداره العام. إذ بدل أن يكون من الجنوب إلى الشمال، فهو يتجه من الشمال الى الجنوب، فمثلا في جبال جرجره التي يزيد ارتفاعها على الألفي متر، ثم جبال البيبان (1862 م) ثم جبال ونوغة (1417 م)، ثم إقليم الحضنة الذي يقل ارتفاعه عن (500 م)، وهذا الاتجاه في الانحدار هو الذي جعل الأودية التي تصرف جبال الأطلس الصحراوي في هذه المنطقة، والتي تنحدر من جبال الحضنة، تصب في شط الحضنة، وأغلبها متجهة من الشمال إلى الجنوب، بعكس أغلب أودية الجزائر الشمالية. ولقد ساعد هذا الانخفاض في إقليم بسكرة على جعل مدينة بسكرة بوابة الصحراء، منها كانت تمر القوافل التجارية التي تربط بين الشمال والجنوب. ومن الملاحظ على جبال الجزائر أنها غير متصلة بعضها ببعض، وغير متقاربة في الارتفاع، ولهذا كان إطلاق اسم سلسلة جبلية عليها ضربا من التسامح، إذ هي جبال متقطعه، أو أرداف دائرية الشكل تتماشىمع خط مستقيم، أو قباب تفصل بينها جروف نحتتها مياه الأمطار الغزيرة. وأفضل منظفة تظهر بها هذه الجروف هي منطقة الأخضرية (بالسترو) حيث يظهر وادي يسر وقد شق طريقه في جبال الأخضرية الشاهقة، ونحتت مياه الوادي التكوينات السطحية اللينة ثم تعمقت إلى أن بلغت الصخور الغرانيتية التي أخدت في إزالتها أيضا. وبدلا من أن يأخذ النهر في توسيع مجراه، راح يعمقه، حتى كأنه سيف انصب على الجبل فشطره الى شطرين شديدي الانحدار. وتظهر هذه الحالة ذاتها مرة أخرى

آ - 1 - إقليم الشواطىء

بوادي الرمل في مدينة (قسنطينة) الذي يشق طريقه بين حافتين شديدتي الانحدار من صخور جيرية صلبة. وكذلك وادي اقريو -بشعبة الآخرة. يختلف الانحدار العام في شمال إقليم الصحراء عنه في جنوبه. ففي المنطقة المتاخمة للسفوح الجنوبية لسلسلة الأطلس الصحراوي، يأخذ الانحدار العام من الشمال إلى الجنوب، وأما في الجهات الجنوبية الشرقية، فالانحدار العام من الجنوب الى الشمال، كما يبينه وادي (إيغارغار) الذي يأخذ منابعه من جبال الهوقار، ويتجه نحو الشمال. ويمكن تقسيم الجزائر الى خمسة أقاليم تضاريسية متباينة هي من الشمال إلى الجنوب: 1 - إقليم الشوطىء. 2 - إقليم الأطلس التلي. 3 - إقليم النجود. 4 - إقليم جبال الأطلس الصحراوي. 5 - إقليم الصحراء. آ - 1 - إقليم الشواطىء: وهو الإقليم الفاصل بين الير والبحر، أو ما يسمى (بسيف البحر). ويمتد الشاطىء الجزائري على شكل خط متعرج يبلغ طوله من غرب الغزوات حتى شرق القاله مسافة (1200) كيلو متر تقريبا. ويتميز الشاطىء الجزائري بكونه صخريا صلبا يمتد على طول الساحل موازيا للاتجاه العام لسلسلة الأطلس التلي من الغرب إلى الشرق بصفة عامة. ولا تسمح طبيعة هذا الشاطىء الصخري بظهور الموانىء الطبيعية التي تحمي البواخر طبيعيا من تحرك المياه البحرية. ولهذا كان من الضروري بناء كاسرات الأمراج التي تتحطم عليها الأمواج بدلا من تحطيمها على جدران البواخر، كما هو الحال في ميناء الجزائر الذي تحيط به سدود تفصل بين مياه عرض البحر المتحركة والمياه الساكنة للميناء. ويظهر الجدار الصخري المتمثل في خط الالتقاء بين البر والبحر، وهو يختفي

في معظم الأحيان فجأة داخل الماء. أو هو يرق الى أن يتحول الى حاشية دقيقة لا تزيد عن كيلومترات قليلة. ولهذا نجد إقليم الرصيف القاري - وهو إقليم الحياة الحيوانية والنباتية المائية ضيقا للغاية في الجزائر بخلاف ما هو عليه هذا الرصيف في إقليم الشاطىء التونسي أو المغربي - المراكشي -. فخط عمق (200) م بالبحر لا يزيد بعده عن الساحل الجزائري بأكثر من خمسين كيلومرا. بينما هو يبعد بأكثر من هذا في الإقليمين الآخرين من المغرب العربي. فالرصيف القاري التونسي واسع جدا. ولو كان طول الإنسان (50) مترا، لاستطاع أن يخوض البحر راجلا من جزيرة جربة الى جزيرة قرقنة في وسط البحر. ولو كان طوله ألف متر لاستطاع أن يسافر من رأس بونه الى جزيرة صقلية راجلا دون أن يحتاج الى ركوب سفينة. أما في الجزائر، فلا بد أن يزيد طول الإنسان الذي يريد قطع البحر راجلا من الجزائر الى مرسيليا على الألفي متر. وتتوقف الثروة الحيوانية والنباتية البحرية على اتساع الرصيف القاري (أو المنطقة البحرية التي يقل عمقها عن مائتي متر). وهذا هو السبب في أن البلاد التونسية أغنى من الجزائر في صيد الأسماك. وتتخلل الشاطىء الجزائري ظاهرة الخلجان التي تشبه أنصاف الدوائر، مثل خليح وهران، وخليج أرزيو، والجزائر، وبجاية، وسكيكدة وعنابة. وكل هذه الخلجان مفتوحة أمام الرياح الغربية؛ وتيار البحر الأبيض المتوسط القادم من جبل طارق، الذي يحمل بين طياته رواسب يلقي بها على الحافات الشرقية أو الجنوبية للخلجان. ولذلك، فمن الملاحظ أن الموانىء الجزائرية تقوم على الحافات الشرقية أو الجنوية للخلجان حتى تكون بعيدة عن رواسب التيار البحري. ولا تتعمق هذه الخلجان إلا قليلا داخل اليابس

آ - 2 - إقليم الأطلس التلي

(البر) ما عدا خليج بجاية الذي يعتبر أكبر خليج في الجزائر. والى جانب الخلجان تظهر الرؤوس المتعمقة داخل البحر، والمنتشرة من الغرب الى الشرق على طول الساحل، ومن أهمها: رأس ملوية عند الحدود الجزائرية المغربية، ثم رأس فالكون غرب المرسى الكبير، ورأس فرات وكربون بالقرب من أرزيو. ورأس تنس والعموشي قرب مدينة شرشال، ورأس البرج البحري الى الشرق من مدينة الجزائر، وكافالو إلى الشرق من بجاية، وكاربون الى الغرب من بجاية. أما خليج سكيكدة فينحصر بين رأسين، أحدهما في الشرق وهو رأس الحديد والثاني في الغرب وهو رأس بوقرعون , واذا تقدمنا الى الشرق نجد رأس الحارس بالقرب من عنابة. وروزا وروكس بالغرب من الحدود الجزائرية - التونسية. وبهذه الرؤوس الممتدة من الغرب الى الشرق منارات لإرشاد السفن. وتزدهر فيها الحياة النباتية. وقد بنيت عليها المدن، واستصلحت أراضيها، وزرعت بها أشجار الفواكه والخضار، وأصبحت مكتظة بالسكان. وهي تمثل مواقع جيو -استراتيجية هامة، تتم منها مراقبة التحركات البحرية في البحر الأبيض المتوسط. وبها أقيمت مراكز المراقبة لحراسة الشواطىء الجزائرية. وتمثل بعض هذه الرؤوس فوهات بركانية: مثل رأس الحديد، ورأس بوقرعون ورأس كافالو؛ ورأس البرج البحري. آ - 2 - إقليم الأطلس التلي: وهو إقليم يضم سلاسل جبلية ممتدة من الغراب إلى الشرق موازية لشاطىء الجزائري، ويضم أيضا السهول والتي تقسم إلى سهول ساحلية منحفضة وسهول داخلية مرتفعة وهي سهول متقطعة محصورة بين الجبال. وأشهر السهول الساحلية: آ - سهل وهران: ويمتد إلى الجنوب من مدينة وهران، بادئا من عين

ب- سهل متيجة (متوجة)

(تيموشنت) غربا، إلى منعطف نهر الشلف ومليانة شرقا. وهو سهل طويل ممتد من الشرق الى الغرب، تجري به أودية كثيرة. وتحده من جنوبه جبال تاسالا وبوقرين والونشريس، وفي الشمال جبال الظهرة وزكار. ويتسع السهل في الوسط، كما يمتد شمالا حتى شاطىء البحر بالقرب من مستغانم. أما من الجهات الشرقية فتعترض امتداده هضبة الأطلس البليدي. ويضم سهل وهران مجموعة من الأحواض المائية العذبة (الدايات)، ومجموعة من الأحواض المائية المالحة (السبخات). ب- سهل متيجة (متوجة)، ويعتبر امتدادا طبيعيا لسهل وهران، لا يفصل بين السهلين الا منطقة جبلية ضيقة بالقربة من مليانة. ويحد سهل متيجة من الجنوبة أطلس البليدة (الذي يسمى أيضا بالأطلس المتيجي)، ويمتد من غرب حجوط حتى جبل (بوزقزه). ويحد سهل متيجة من الشمال جبل بوزريعة، أو الحافة الجبلية المرتفعة والممتدة على شاطىء البحر من مدينة الجزائر حتى شرشال. هذا في الجهات الغربية، أما إلى الشرق من مدينة الجزائر، فيكاد السهل المتيجي يشرف على البحر، لولا ظهور روابي رملية ضيقة تفصل بين البحر والسهل. ويطلق على الحاشية الرملية من الروابي اسم (الساحل) ابتداء من الحراش حتى وادي (بودواو) والسهل المتيجي ضيق لا يزيد عرضه على ثلاثين كيلوترا، أما طوله فيزيد على مائة كيلومتر. ج - سهل عنابة: ويحده شمالا جبال أيدوغ والبحر الأبيض المتوسط وغربا جبال القبائل الصغرى (نوميديا) وجنوبا جبال سوق

آ - سهل تلمسان

أهراس. وشرقا جبال مجرده. وتنتشر به البحيرات. ويجري به وادي السيبوس. هذه هي أهم السهول الساحلية المنخفضة المشهورة بالغلال والخضر والبساتين والكروم. أما السهول الداخلية المرتفعة فهي للحبوب. ومن أهمها: آ - سهل تلمسان: يرتفع (737) مترا عن سطح البحر. يقع عند أقدام السفوح الشمالية لجبال تلمسان. وهو سهل كثير الخيرات بسبب وفرة مياهه، وخصوبة تربته (المارنية). ب - سهل بلعباس: ويرتفع (583) مترا من سطح البحر. ويشتهر بالحبوب وزراعة الكروم. ج - سهل تيارت (أو السرسو): المنحصر بين جبال الونشريس شمالا وجبال فرندة والشلالة جنوبا. د - سهل عين بسام: وينحصر بين جبال تيطري جنوبا والبليدة شمالا. هـ - سهل قسنطينة: ويمتد من غرب مدينة سطيف - غربا - حتى جبال سوق أهراس شرقا، وهو أعظم سهل داخلي تكثر به زراعة الحبوب والقمح الصلب بصورة خاصة. وتقع هذه السهول كلها على ارتفاع يزيد على خمسمائة متر وهي أقرب الى النجود منها الى السهول. ... أما بالنسبة لسلسلة الجبال التلية، فهي تمتد من الغرب إلى الشرق، بادئة من جبال تلمسان بالحدود الجزائرية - المغربية. ومنتهية

بجبال سوق أهراسى بالحدود الجزائرية - التونسية. ويمكن تقسيمها إلى كتلة جبال غربية وكتلة جبال شرقية، تفصل بينها جبال مليانة (أوزكار). وهذا التقسيم على أساس النضج والتطور والاتساع. ذلك أن كتلة الأطلس التلي الشرقي أكثر اتساعا من كتلة الأطلس التلي الغربي. ثم إن قمم الكتل الجبلية الشرقية أخذت تتسطح، والأودية تسير بها في شكل عرضاني. والأحواض الداخلية مصروفة للغاية، كما هو الحال في حوض (قالمة). وتدل هذه الظواهر الطبيعية كلها على أن تطور التضاريس في الجهات الشرقية أكثر وضوحا مما هو عليه في الجهات الغربية التي ما زالت تظهر بها القمم العالية ذات الأطراف الحادة، والأحواض المعلقة التي لم تصرف بعد ولم تملأ بالرواسب. ويعود سبب تطور التضاريس في الشرق، أكثر منها في الغرب إلى الأمطار التي تنزل في الإقليم الشرقي أكثر منها في الإقليم الغربي، وليس السبب في أن جبال الإقليم الشرقي أقدم في تكوينها وظهورها من جبال الإقليم الغربي. تبدأ الكتلة الجبلية الغربية بجبال تلمسان، وهي الحد الفاصل بين جبال الريف بالمغراب، وجبال الأطلس التلي بالجزائر، ويبلغ ارتفاعها (1824م) وتتكون في معظمها من صخور جيرية. ثم إذا تقدمنا شرقا اعترضتنا جبال تاسالا (1601 م) وهي التي تحد شمالا سهل بلعباس المرتفع، أما جنوبا فتحده جبال الضاية (1417 م) ثم تعترضنا شرقا جبال سعيدة (1288م) وهي الحد الجنوبي لسهل معسكر المرتفع. وإلى الشرق من الجبال السابقة نجد جبال فرنده (1132 م) ثم جبال الونشريس (1985م) والظهرة (1071م) وجبال زكار (1579 م) ويتكون أغلب هذه الكتل الجبلية من

آ - 3 إقليم النجود

صخور جيرية، متميزة شدة التوائها، وظهورها أحيانا في شكل أسفاط أو قشور الأسماك. وإلى الشرق من جبال زكار تبدأ كتلة الجبال الشرقية - التي تبدأ بجبال البليدة (أو الأطلس المتيجي) الذي يبزغ ارتفاعه (1972م). وهو من صخور الشيست والمارن، تكثر به ظاهرة الأسفاط من شدة الالتواء الذي تعرضت له المنطقة. وإلى الشرق من جبال البليدة يرتفع جبل بوزقرة الى ألف متر، وهو من صخور جيرية. ثم تأتي جبال جرجرة وهي من صخور جيرية مشققة أو هضاب قديمة تبلغ أعلى قمة بها (وهي قمة لاله خديحة -2328 م)، ثم جبال البابور (2004م)، وهي كذلك من صخور جيرية. ثم هضبة القل (1090م) وجبال إيدوغ (1068 م) الذي يتكون من صخور قديمة جدا، مثله كمثل منطقة أربعاء بني راتن بهضبة جرجرة، وجبل بوزريعه الذي تقوم عليه مدينة الجزائر العاصمة. تظهر إلى الجنوب من كتل الأطلس التلي الشرقي مجموعة من الكتل الجبلية الأخرى التي تسير موازية للجبال السابقة، وتتكون من طبقة رسوبية سميكة من الشيست، تتخللها تكوينات حصوية أو طينية أو مارنية، من أهمها جبال تيطري (1238م) التي تتصل بجبال البيبان (1417 م) وهذه الأخيرة تظهر بقللها الصخور الجيرية والكوارتزية. ثم جبال فرجيوه، بالقرب من فج مزالة، ثم جبال نوميدية (أو جبال قسنطينة - 1469 م) الى الشمال من مدينة قسنطينة، وجبال سوق أهراس أو مجردة (وتتكون جبال فرجيوه وقسنطينة من صخور جيرية مشققة) آ - 3 إقليم النجود: وهو يشمل المنطقة الممتدة من جبال التندارة غربا الى منخفض الحضنة شرقا. حيث يتسع الأطلس التلي ويمتد إلى

الجنوب ليلتقي مع الأطلس الصحراوي. وتمتد أراضي النجود في شكل طولاني بين السلسلتين الأطلستين الشمالية والجنوبية. وهي أقل ارتفاعا منهما، تسير من الجنوب الغربي نحو الشمال الشرقي على طول (700) كيلو متر. متبعة في ذلك الاتجاه العام لسلسلة جبال الأطلسي الصحراوي (وتشبه في وضعها هذا ساحة البيت العربي حيث يشكل الأطلس التلي جدارها الشمالي، ويشكل الأطلس الصحراوي جدارها الجنوبي) وبذلك فهي منطقة ذات صرف داخلي، أوديتها تصب في الشطوط ما عدا الوادي الطويل. ويتجه الانحدار العام لإقليم النجود من الغرب الى الشرق متبعا في ذلك سلسلة الأطلس الصحراوي ويتبين ذلك في المقارنة بين الشط الغربي والمناطق الواقعة الى الشرق منه. فالجهات الغربية من النجود يتراوح ارتفاعها بين الألف والألف ومائتي متر، في حين يتراوح ارتفاع الجهات الوسطى بين سبعمائة وثمانمائة متر. أما شط الحضنة فيقل ارتفاعه عن أربعمائة متر. وكما أن الجهات الغربية أكثر ارتفاعا من الجهات الشرقية فإنها أكثر اتساعا. فالمسافة بين الأطلس التلي والصحراوي في الجهة الغربية تزيد عن مائة وخمسين كيلومترا. وأما من الناحية الشرقية فتقل عن خمسين كيلومترا. وبحسب هذا الوصف تكون أرض النجود أشبه بمثلث قاعدته الحدود الجزائرية المغربية، وقمته شط الحضنة، وهو عبارة عن سرج عظيم، أو هضبة واسعة تتخللها الانكسارات التي أصابت اللإقليم في فترة تعرضت فيها جبال الأطلس للالتواء. ذلك أن صلابة الصخور التي تتكون منها أراضي النجود أدت الى انكسارها عندما تعرضت للضغط. ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة خلال الشقوق

وسطوح الانكسارات التي لم تمتلء بعد بالرواسب، مثل فالق غار الروبان الذي يستخرج منه الرصاص بالقرب من الحدود الجزائرية - المغربية. يقطع أرض النجود في شكل طولي من الجنوب الغربي، نحو الشمال الشرقي، كل من جبال عنتر التي يصل ارتفاعها الى (1508م) وجبل سبع رؤوس (1411 م)، وهو يفصل بين منخفض بوقزول في الجهات الشمالية، وارتفاعه (650 م) ومنخفض الزاغز الغربي في الجنوب، وارتفاعه (800 م). وما عدا هذه الجبال والانكسارات، يظهر سطح أرض النجود في شكل انتفاخ واسع تتخلله روابي تكونت نتيجة لتزحزح المنطقة نحو الجنوب الغربي، وتظهر أحواض مغلقة وشطوط واسعة، وزواعز ضيقة في النجود أيضا. أما الأحواض المغلقة فتكسوها طبقة صماء كتيمة، تملؤها مياه الأمطار في فصل الشتاء ثم تتبخر في فصل الصيف، تاركة وراءها نسبة قليلة من الرطوبة، عليها تقوم الحياة العشبية، والشطوط الواسعة أو الضيقة، وهي أحواض مغلقة أيضا، تتجمع فيها مياه الأمطار المحملة بالجزئيات الملحية والطينية الواردة من المناطق المجاورة لها في فصل الشتاء. وهو الفصل الذي تحتل فيه السبخة أكبر مساحة ممكنة. أما في فصل الصيف، فيشتد التبخر، ويقل سطح الماء؛ وتضيق بالتالي مساحة الشط، وتشتد ملوحة السبخة التي تبقى محافظة على نسبة من الماء المختلط بالملح والطين، يشبه الحمأة، ويعلوه الزبد الذي هو ندير الخطر، يعطي للناظر من بعيد مظهر البحيرة العذبة، حتى إذا جاءها لم يجدها، بل وجد فخا طبيعيا تعرفه غزلان النجود التي لا تقترب منه مهما أضناها الضمأ. وأهم هذه الشطوط التي تنتشر

آ -4 - الأطلس الصحراوي

هنا وهناك على سطح إقليم النجود، هي: شط الحضنة، وتنصرف إليه مياه أوديت وجبال تيطري وونوغة والحضنة من الشمال، ومياه أودية أولاد نايل والزاب من الجنوب، والشط الشرقي، وتنصرف إليه مياه السفوح الجنوبية لجبال الضاية، والسفوح الشمالية لجبال قطارة، ثم الشط الغربي، ويقع بالحدود الجزائرية - المغربية. وتنصرف إليه مياه جبال التندرارة من الجنوب الغربي، ومياه سفوح جبال سدي العابد من الشمال. آ -4 - الأطلس الصحراوي: تمتد جبال الأطلس الصحراوي على طول سبعمائة كيلومر، من فجيج غربا حتى إقليم الزاب شرقا. وتتجه سلسلة الأطلس الصحراوي من الجنوب الغربي الى الشمال الشرقي، فاصلة بين أراضي النجود في الشمال والكتلة الصحراوية القديمة في الجنوب. وهي حاجز للرمال الصحراوية، ولولاها لاكتسحت الرمال مناطق النجود، وربما وصلت الى ساحل البحر الأبيض المتوسط، كما هو الحال في الصحراء الليبية التي تصل رمالها في بعض الأجزاء حتى شاطىء البحر الأبيض المتوسط. وتتخلل جبال الأطلس الصحراوي ممرات ودروب، تتبعها الأودية المنحدرة نحو الصحراء، وقد كانت هذه الدروب، وما زالت، تمثل الممرات الطبيعية للقوافل التجارية القادمة من الصحراء إلى إقيلم التل أو العكس. ونجد الطرق المعبدة الحالية والخطوط الحديدية كثيرا ما تسلك هذه الممرات الطبيعية لتصل بين الشمال والجنوب. أو بين إقليم التل وإقليم الصحراء. ويزيد الأطلس الصحراوي في ارتفاعه، عل ارتفاع الأطلس التلي - بصورة عامة - رغم قدمه في تاريخ تكوينه. ويعود السبب في ذلك الى أن الأمطار في الإقليم التلي أكثر منها في

جبال العين الصفراء

الإقليم الجنوبي، وبالتالي، فإن عملية النحت المائي والترسيب ونقل المواد المفتتة في إقليم الأطلس التلي هي أنشط منها في الأطلس الصحراوي، الذي كثيرا ما نجد عند سفوح جباله المفتتات الصخرية المتراكمة التي تنتظر سيلا جارفا أو أمطارا كافية لنقلها. أما الانحدار العام في هذا الإقليم الجنوبي فهو يتجه من الغرب الى الشرق، كما تبينه ارتفاعات الجبال التالية: 1 - جبال العين الصفراء، وأعلى قلة (قمة) بها تصل إلى (2236م) وهي قمة جبل عيسى. 2 - جبال عمور، وبها قلة (قمة) جبل الطويلة؛ التي يصل ارتفاعها الى (1937م)، وبوبرقة (1959م). 3 - جبال أولاد نايل: ويصل ارتفاعها حتى (1500 م) بالقرب من الجلفة. ويظهر ذلك بوضوح أن الانحدار يأخذ في التناقص، وتأخذ الجبال في الضمور، وهي تتجه من الغرب الى الشرق، حتى تكاد تختفي عند (بسكرة) التي تسمى عتبة الصحراء، أو الممر الطبيعي بين الشمال والجنوب. ولهذا مدت السكة الحديدية التي تربط بين (توقرت) و (قسنطينة) بهذه المدينة. وخلال هذا الممر الطبيعي، الى الشرق من مدينة بسكرة، يعود الارتفاع مرة أخرى بصورة مباغتة، ويشتد الانحدار، وتظهر جبال الأوراس الشامخة التي يبلغ ارتفاع أعلى قمة بها (وهي قمة أم كلثوم- 2329م) وهي بذلك أعلى قمة جبلية في شمال الجزائر، لافي الجزائر كلها، حيث أن جبل تاهت بالهوقار يبلغ ارتفاعه (2918م) وهو بذلك أعلى جبل في الجزائر كلها. وتتكون جبال الأوراس الواسعة من صخور جيرية شديدة الارتفاع، تتلقى

إقليم الصحراء

كمية كبيرة من الأمطار، اذا ما قورنت بجبال العين الصفراء. وتتخلل جبال الاوراس أودية متجهة نحو الجنوب، تحمل معها المفتتات الصخرية، وتتبع في سيرها الالتواءات المقعرة، مثل وادي عبدي ووادي الأبيض، اللذين يجريان في الأطراف المحدبة لجبلي أحمر خدو والأزرق. وتمثل جبال الأوراس بارتفاعها الشاهق، كتلة جبلية حاجزة بين الصحراء ونوميدية. ويأخذ عامل الارتفاع في التناقص مرة أخرى كلما توغلت هذه الكتلة شرقا. فجبال النمامشة لا يزيد ارتفاعها على ألف وخمسمائة متر. وكذلك جبال تبسة. وينعكس عند جبال الأوراس الاتجاه العام لسلسلة الأطلس الصحراوي التي تأخذ في الاندماج مع الأطلس التلي بالتدريج، إلى أن تقضي عليها عند منطقة (القالة) وترمي بها عرض البحر. ويتحول اسمها الى (جبال خمير) في الأراضي التونسيه، ثم جبال (مقعد) الواقعة في أقصى الشرق. ومن الملاحظ على سلسلة الأطلس الصحراوي، أنها ترتفع فجأة عند التقائها بالصحراء. أما عند خط التقاء الأطلس الصحراوي بأراضي النجود، فيبدأ الارتفاع بالتدرج من الشمال الى الجنوب، متمثلا أولا في الراوبي، ثم الجبيلات، ثم الجبال الشاهقة. وتتميز الجهات الشرقية من الجزائر، بالجبال المعقدة القصيرة الامتداد. كما تتميز بعدم الثبات في الاتجاه العام. وظاهرة الانتقال من الروابي إلى الجبال، ومن الالتواءات المحدبة الى الالتواءات المقعرة. ومن الأحواض المغلقة الى السهول المفتوحة، وهذه هي الصفة السائدة في إقليم هضبة الأوراس وجبال مجردة. 5 - إقليم الصحراء: تبلغ مساحة الصحراء الجزائرية (1،987،600) كيلو متر مربع، وبذلك تحتل مساحة قدرها

تسعون بالمائة تقريبا من المساحة الإجمالية للقطر كله، والبالغة (2،195،100) كيلومتر مربع. والتركيب الجغرافي للصحراء أبسط من تركيب المنطقة التلية. إذ لا تظهر فيها الجبال المتقطعة، ولا المرتفعات المعقدة، ولا السهول الضيقة المحصورة، ولا الالتواءات الحديثة. ولكن الصحراء تضم بالمقابل السهول التحاتية الواسعة والأحواض المغلفة، والجبال بحافاتها الشديدة الانحدار، والعروق الرملية المتنقلة، ويمكن تفسيم الصحراء إلى أربع مناطق متباينة: أولا: منخفض في الركن الشمالي الشرقي، تظهر به بعض الشطوط. مثل شط ملغيغ، الذي يقع دون مستوى سطح البحر بحوالي واحد وثلاثين مترا. فهو أخفض مكان بالجزائر كلها. ثانيا: منطعة هضابية صخرية على الأطراف الشمالية وفي الوسط، مثل هضبة تادمايت، إلى الشمال من عين صالح. ثالثا: سهول تحاتية تغطيها الرمال. وهي التي تحتل أكبر مساحة في الصحراء. رابعا: كتل جبلية مرتفعة في الركن الجنوبي الشرقي، وهي جبال الهوقار التي تبلغ أعلى قمة جبلية بها (2918م) وهي قمة تاهت بمرتفعات أتاكور إلى الشمال من مدينة (تامنراست). وأغلب جبال الهوقار ناتجة عن اضطرابات بركانية ما زالت فوهاتها بارزة للعيان. والجبال هنا لا تأخد أشكال السلاسل الممتدة، ولكن الأشكال المخروطية. ولقد أصابت حركة التوائية قديمة جدا إقليم الصحراء، وأدت هذه إلى التواء سلاسل جبلية من

الشمال الى الجنوب، ثم تعرضت الجبال لعملية النحت مدة زمنية كانت كافية لتحويل هذه الجبال القديمة إلى هضاب وسهول تحاتية، تغطيها رواسب حديثة من رمال أو صخور، أتت بها الرياح في أغلب الأحيان. ذلك أن عملية التجوية الآلية- الميكانيكية- الناجمة عن الفوارق الحرارية الشديدة بين الليل والنهار، أدت إلى تفكيك الصخور في منطقة الصحراء، وتحويلها الى جزئيات دقيقة يسهل على الرياح نقلها من هنا وهناك، وتحريكها من مكان لآخر، لتبني بها أشكالا هندسية من براخين وأهلة. وتبرز في الصحراء ثلاث ظواهر تضاريسية متباينة هي: 1 - الحمادة. 2 - الرق. 3 - العرق. فالحمادة: هي الهضبة الصخرية التي تغطيها صخور جيرية ممتدة في شكل صفائح طباقية. ومن أهم الحمادات في الجهة الجنوبية الغربية (حمادة الذراع) على الحدود الجزائرية- المغربية. و (حمادة القلاب) على الحدود الجزائرية - الموريتانية. و (حمادة تادمايت) إلى الشمال من (عين صالح). أما الرق: فهو سهل صخري، أو حوض منخفض ملأته السيول الجارفة بالرواسب الصخرية. وأخيرا - العرق: وهو يختلف عن الحمادة والرق في أنه سطح واسع الأطراف، تغطيه كثبان رملية تشبه أمواج البحر، جاءت بها الرياح من الحمادة أو الرق، وبهذا تكون رواسب العرق هوائية، والرق فيضمة. وتحتل العروق مساحة كبيرة من الصحراء الجزائرية حيث تنتشر في كل من الجهات الشرقية والغربية. ففي الجهات الشرقية، يظهر العرق الشرقي الكبير الذي يمتد من وراء الحدود الجزائرية - التونسية الى المنخفض الذي يفصل بين هضبة (تادمايت) و (المنيعة). ثم العرق الغربي الكبير الذي

ب - وديان الجزائر

يبدأ من (بني عباس) غربا حتى هضبة (المنيعة) شرقا. و (عرق الشيخ) و (عرق ايحيدي) على الحدود الجزائرية - الموريتانية. ب - وديان الجزائر الوديان - كما هو معروف - هي المجاري المائية التي تتحكم فيها أربعة عوامل أساسية هي المناخ والتضاريس والتربة والنباتات. وعلى ضوء هذه العوامل تتميز المجاري المائية الجزائرية بعدم انتظامها في تصريف المياه. ويعود سبب ذلك الى فصيلة الأطار. ففي فصل الشتاء تنزل الأمطار في المناطق التي تأخذ الأودية منها ينابيعها. وهي أمطار غزيرة تتغذى منها الأودية، وتكثر مياهها، وترتفع حمولتها حتى تصبح سيولا جارفة كثيرا ما تخرب الجسور وتعطل المواصلات. وفي فصل الصيف تنعدم الأمطار وتجف الأودية، وتظهر بأسرتها الرمال والحصى والجلاميد وقليل من الماء، إن كان بالوادي ينابيع. ولا تصل هذه المياه القليلة الى المصبات إلا بعد مشقة، نظرا لشدة التبخر التي ترتفع في فصل الصيف، ولعملية التسرب الجانبي للمياه في التكوينات الرملية المنفذة في مناطق جريانها. وتسير معظم أودية الجزائر في مناطق شديدة الانحدار، قريبة من مصباتها. ولهذا كانت أقرب الى السيول منها الى الأنهار، حتى كأن إطلاق كلمة أودية ينطبق عليها تماما، لأنها تفيض وتزيد يوما، وتهدأ شهورا بسبب شدة الانحدار الذي يزيد من سرعة المياه الجارفة، ورقة الغطاء النباتي وانعدامه في بعض الأحيان. مما يساعد المياه على تشكيل السيول الجارفة للتربة وما بها. وتنقسم الأودية الجزائرية حسب الأماكن التي

أودية إقليم وهران الانحدار العام لجبال الجزائر

ب -1 - الأودية الشمالية

تفرغ فيها شحنتها إلى أودية تصب في البحر المتوسط، وأودية تصب في أحواض مغلقة بمنطقة النجود، وأودية تصب في الصحراء: ب -1 - الأودية الشمالية: وهي الأودية التي تصب في البحر الأبيض المتوسط (وتسمى بالأودية التلية) وهي تتميز بما يلي: * متجهة منالجنوب إلى الشمال في أغلب قطاعاتها. * - تأخذ منابعها من سلسلة الأطلس التلي - ما عدا وادي الشلف. * - مناطق صرفها أوفر مطرا وأغنى نباتا. * - يأخذ الوادي أسماء مختلفة باختلاف المناطق التي يمر بها. مثال ذلك وادي الشلف الذي يسمى بالوادي الطويل عند مروره بالنجود، ويسمى (بوادي الملاح) عند انحداره من (جبال عمور) ووادي السيق الذي يسمى مجراه الأعلى (بوادي مكاره). ووادي يسر الذي يسمى مجراه الأعلى (بوادي الملاح). وأهم هذه الأودية من الغرب الى الشرق: 1 - وادي تفنة (أو تافنه). وهو ينحدر من جبال تلمسان، ومن مرتفعات تزيد على ألف وخسمائة متر. ويرفده من الجهة اليمنى وادي يسر، ومن الجهة اليسرى وادي أسلي. ويصب وادي تافنه الى الغرب من مدينة بني صاف، بعد أن يخترق جبال أترارة، ويبلغ طوله (170) كيلومترا. 2 - وادي السيق والحمام. ويسمى الأول بوادي مكارة عند انحداره من جبال الضاية على ارتفاع ألف ومائتي متر عند رأس الماء. ويتصل

وادي الشلف

بوادي الحمام في منطقة تكثر بها المستنقعات تسمى بمنطقة المقطع. وينطلق وادي الحبرة أو الحمام من (بوسي) على ارتفاع ألف ومائتي متر أيضا بجبل سعيدة. ولا تصل مياه السيق والحمام الى البحر الا بعد مشقة، نظرا لانخفاض المنطقة بالقرب من مصبهما. وكانت هذه المنطقة تمثل خليجا بحريا، وما زالت الرواسب القارية لم تعمل على ملئه وتسوية سطحه. ويبلغ طول كل من وادي الحمام والسيق (250) كيلومترا. 3 - وادي الشلف: وهو أطول واد بالجزائر، يبلغ طوله (70) كيلو متر، ويمد لسانه حتى سلسلة الأطلس الصحراوي، ليأخذ منابعه بالقرب من مدينة (آفلو) - بالوادي الطويل عند مروره بإقليم النجود، من الجنوب الى الشمال، ويحول اتجاهه من الشرق إلى الغرب عند اصطدامه بجبال زكار، فاصلا بذلك بين جبال الونشريس في الجنورب وجبال الظهرة في الشمال. ولما كانت المنطقة التي يصرفها وادي الشلف واسعة، فإن المياه لا تنقطع من سريره، وترفده عدة أودية ثانوية من الجنوب والشمال، ومن أهمها في الجنوب (النهر الواصل) الذي يصرف هضبة السرسو، ووادي دردر والفضة، وسلى، وريو، ومينا، وكلها تنحدر من جبال الونشريس، ما عدا وادي مينا الذي يأخذ منابعه من جبال فرنده. ولما كان وادي الشلق أوفر ماء من بقية أودية الجزائر، فقد بنيت عليه سدود كثيرة لري سهول الشلف، الممتدة من منطقة مليانة حتى مستغانم. ومن أهم هذه السدود (سد الغريب) وهو أعظم سد في القطر الجزائري، حيث يمكنه أن يخزن (280) مليون متر مكعب. 4 - وادي الشفة: وينحدر من جبال الأطلس المتيجي، كما يبلغ

خطوط المواصلات في الجزائر

أودية مدينة الجزائر وإقليمها

وادي يسر

طوله (202) كيلومتر. وهو واد انطباعي بالقرب من مصبه الى الغرب مدينة (سيدي فرج) ويرفده من الجهة اليسرى (وادي دجر) الذي ينحدر من جبال زكار. ويلتقي الواديان بالقرب من مدينة وادي العلايق في سهل متيجة. ومن هنا يتحول اسم الوادي الى وادي مازفران، يشق طريقه خلال الحافة الجبلية الساحلية التي تفصل البحر عن سهل متيجة. وهي حافة ذات التواء محدب، تسير وشاطىء البحر من شرشال حتى الجزائر العاصمة. 5 - وادي يسر: وينبع من جبال تيطري على ارتفاع (1200 م) بالقرب من البروقية، ويصب بالقرب من مدينة (دلس) ويبلغ طوله (230) كيلومترا. ويشق طريقه في خط قائم الزاوية مع اتجاه جبال التل. وهو واد انطباعي في أكثر أجزائه، ويظهر هذا الانطباع بصورة خاصة في منطقة الأخضرية، حيث يجري الوادي وسط الصخور الصلبة من نايس وغرانيت. ولولا غزارة الأمطار التي يزيد متوسطها على (800م م) في منطقة حوض الصرف لما استطاع هذا الوادي أن يشق طريقه وسط الجبال، وأن ينحت بها جدرانا يزيد ارتفاعها على المائة متر في خانق الأخضرية. ومن السهل ملاحظة عملية التوازن عند مصب وادي يسر، حيث انخفضت الأرض مسافة مائتي متر تقريبا منذ عصر البلايوسين، بسبب تراكم الرواسب التي يلقي بها وادي يسر عند مرفضه، فازداد بذلك الثقل على طبقة السيما واختل توازنها، فخسف فيها الجزء الأسفل من قاعدة المصب، وقد أدى هذا الى ارتفاع مناطق أخرى مجاورة لها لإعادة التوازن.

وادي الصومام

6 - وادي الصومام: (ويسمى بوادي الساحل أيضا): وهو ينبع من جبال البيبان، ويرفده من الجهة اليمنى - وفي أقسامه العليا -وادي بوسلام الذي يلتقي به بالقرب من مدينة (أقبو) ويشتد انحدار وادي الصومام من منبعه الى مدينة البويره، ثم يأخذ الانحدار في القلة حتى مصبه في هليح بجاية. ويجري وادي الصومام في سهل ضيق للغاية، ويبلغ طول الوادي (210) كم. 7 - الوادي الكبير، ويسمى بوادي الرمل (وقديما وادي امبزاغة) ويبلغ طوله حوالي (250) كيلومترا. ويأخذ منابعه من جبال فرجيوه بالقراب من جميلة. ويصرف السفوح الجنوبية لجبال البابور، ثم يتجه من الغرب الى الشرق حتى يصل الى إقليم قسنطينة، فيتحول اتجاهه من الجنوب الى الشمال، ثم يخترق جبال نوميدية الجيرية، ليصب الى الشرق من مدينة جيجل بحوالي (45) كيلو مترا. 8 - وادي الصفصاف: ويبلغ طوله مائة كيلومتر، يصب في خليج سكيكدة، وينبع من منطقة (سمندو). 9 - وادي السيبوس: ويمد لسانه حتى الجبل الأزرق الواقع على ارتفاع (1195م) بالقرب من (عين البيضاء) ويسمى مجراه الأعلى بوادي الشرق يرفده من جهاته اليمنى واليسرى عدة روافد من أهمها: وادي زناتي الذي ينحدر من جبل (أم سطاس) بالغرب من (عين عبيد). ويروي وادي السيبوس سهل عنابة، وهو لم يأخذ مجراه النهائي في هذا السهل حتى الآن، حيث يظهر وقد هجر مجراه القديم وانخرق الى الغرب مسافة سبعة كيلومترات، بدليل الأذرع الميتة أو المجاري المهجورة التي تنتشر بالقرب من مجراه الأدنى الحالي. ويبلغ

وادي مجردة

طول وادي السيوس (232) كيلو مترا. 10 - وادي مجردة: وينحدر من جبال مجردة بالجزائر، ثم يمر بالأراضي التونسية، ليصب في خليح قرطاجنة بتونس. تلك هي أهم أودية الشمال، وهي كلها تصب في البحر الأبيض المتوسط. وقد بني على معظمها سدود لخزن المياه وري السهول الفيضية التي تجري بها. ... ب - 2 - أودية النجود: وهي أودية الأحواض الداخلية، وتتميز بقصرها. وشدة ذبذبة جريانها، وقلة مياهها عن الأودية السابقة، لأنها تصرف مناطق أقل مطرا من مناطق صرف الأودية التلية. وتسير أودية النجود في اتجاهات مختلفة، حاملة معها في فصل الأمطار رواسب كثيرة بها نسبة عالية من الأملاح التي تقذف بها في الأحواض المغلقة (أي في الشطوط أو الزواغز). وتشتد عملية التبخر في المنطقة خلال فصل الصيف، وتقل مياه الأحواض التي تتبخر تاركة وراءها رواسب ملحية تزيد من ملوحة مياه الشطوط. وتجف أغلب أسرة الأودية تماما ولا تبقى بها قطرة ماء في فصل الصيف. ومن بين الأودية الحوضية تلك التي تنصرف الى شط الحضنة، قادمة من جبال تيطري وأولاد نائل والحضنة. ونذكر منها وادي بوسعادة وحام ومسيلة أو القصب وبومدو وبريكة. وكل هذه الأودية تصب في شط الحضنة الذي يقع على ارتفاع (400م) فوق مستوى سطح البحر. ويغطي مساحة تزيد على (27) ألف هكتار. وشط الحضنة أكثر ماء من بقية شطوط النجود، لأن الأودية التي تمده بالمياه كثيرة وطويلة نسبيا، ومنها ما تجري بها المياه طوال السنة. أما بقية الشطوط

البداية - إتقان استخدام السلاح

ب - 3 - الأودية الصحراوية

فأوديتها قصيرة جدا. وهي جافة في أغلب أيام السنة. ولهذا كان الشط الشرقي والغربي يمثلان حلقات منفصلة من السبخ يجف أغلبها في فصل الصيف، وتظهر بقاعها الحمأة والرواسب الملحية الطينية اذا اشتدت عملية التبخر. ... ب - 3 - الأودية الصحراوية: وهي التي تجري الى الجنوب من سلسلة الأطلس الصحراوي، تصب في بعض الأحيان في الشطوط، وتختفي أحيانا وسط الرمال، وتتميز بالآتي: أولا: ليس لها جوانب مضبوطة ولا حدود معينة. ثانيا: عديمة الانتظام وفجائية الفيضان، خلاف ما يحدث كل سنة في أودية المنطقة التلية والشمالية بصفة عامة. إذ أن الفيضان لا يحدث إلا مرة واحدة في كل عدة سنوات في الأودية الصحراوية. ثالثا: أنها من نوع الأودية المهاجرة، ولهذا يمكن أن يطلق عليها تجاوزا اسم الأودية. رابعا: أنها رحمة إلهية لما تخزنه من مياه فيما تحت التربة، ونقمة طبيعية لما تسببه من أضرار إذا فاضت، حيث إنها تأتي على المنازل والخيام. وفي بعض الأحيان على القطعان والمزروعات. وتنقسم الأودية الصحراوية حسب مناطق منابعها إلى أودية السفوح الجنوبية للأطلس الصحراوي، (وأودية الهوقار). فأما الأولى، فتنحدر من السفوح الجنوبية لسلسلة الأطلس الصحراوي،

وتتجه من الشمال الى الجنوب، ما عدا وادي جدي الذي يسير على طول أودية السفوح الجنوبية لجبال الأطلس الصحراوي. ومياه أودية السفوح الجنوبية لجبال الأطلس الصحراوي، تغوص في الرمال الصحراوية، لتنبجس مرة أخرى في شكل عيون طبيعية، أو آبار ارتوازية عليها قامت واحات النخيل في إقليم بني مزاب والهوامش الشمالية الصحراوية. ومن أهم هذه الأودية (وادي جدي) الذي يأخذ منابعه بالقرب من مدينة (أفلو) بجبال عمور. وهذه الجبال تعتبر منطقة تقسيم المياه بين (وادي جدي) الى الجنوب، والوادي الطويل الى الشمال، ويجري (وادي جدي) في منطقة إنكسارية نتيجة للحركة الالتوائية الي أصابت سلسلة الأطلس الصحراوي، متجها من الجنوب الغربي نحو الشمال الشرقي مارا بمدينة (الأغواط) و (أولاد جلال) الى أن يصل الى (شط ملغيغ) الواقع دون مستوى البحر بـ (31 مترا). ويضاهي وادي جدي فى طوله وادي الشلف، كما يصرف جزءا كبيرا من مياه السفوح الجنوبية لسلسلة الأطلس الصحراوي. وبذلك فهو أوفر الأودية الصحراوية ماء. ومن الأودية الصحراوية القادمة من الشمال الى الجنوب نجد (وادي العرب) و (الوادي الأبيض) المنحدر من جبال الأوراس. ويصبان في منخفض (ملغيغ) وهو شط واسع الأرجاء، تحيط به الكثبان الرملية، وتظهر على حوافه النباتات الصحراوية المتنوعة، وتغمره المياه في فصل الشتاء. وينحدر من الجهات الجنوبية الغربية لجبال الأطلس الصحراوي وادي زرقون وسوقر والخبيز والناموس. وأهمها وادي الساورة الذي يرفده وادي زوسغانة من الجهات اليمنى، وأودية (غير) من الجهات اليسرى. ويسمى (وادي الساورة) بطريق النخيل، حيث قامت

ج - النطاقات المناخية

عليه حضارات قديمة، ما زالت تشهد بها تلك الآثار المنتشرة هنا وهناك على طول الوادي، من كولومب بيشار حتى مصبه بسبخة (المخرقن) الى الجنوب من عين صالح في قلب الصحراء. ويعتبر وادي الساورة في الوقت الحالي شريان الحياة، تنتشر على امتداده واحات النخيل والمدن التي تعتبر محطات للمسافرين. وستزداد أهمية هذا الوادي بعد مد الخط الحديدي. وإتمام بناء سد (غير) لري منطقة (عبادلة). أما القسم الثاني من الأودية الصحراوية، فهي المنحدرة من جبال (الهوقار) وتظهر على شكل شبكة منحدرة في كل الاتجاهات، من أهمها: (وادي تمنراست) الذي ينبع من مدينة (تمنراست) عاصمة (الهوقار). ووادي تافاست، الذي يربط بين قلب الهوقار وجمهورية النيجر. ووادي جارات الذي يصرف مياه السفوح الشمالية العربية لجبال أفتيس بهضبة الهوقار، ويلفظ ما يجمعه من مياه في سبخة (المخرقن). وتتميز أودية (الهوقار) بفيضانها في فصل الصيف، لأن الأمطار تنزل في الإقليم في فصل الصيف. ... ج - النطاقات المناخية: لما كانت الجزائر تمتد على ساحة واسعة، فإن عناصر المناخ من رياح وأمطار وحرارة، تظهر بها متباينة ومختلفة من الشمال الى الجنوب، ومن مدينة الجزائر بالساحل حتى مدينة (تامنراست - بالهوقار). ويمكن تقسيم الجزائر الى ثلاثة أقاليم مناخية متباينة، ممتدة على شكل نطاقات من الغرب الى الشرق، ومترتبة من الشمال الى الجنوب كالآتي: مناخ البحر الأبيض المتوسط، ومناخ الاستبس، ومناخ الصحراء

مناخ البحر الأبيض المتوسط

1 - مناخ البحر الأبيض المتوسط: ويسود في المنطقة الشمالية، وفوق سلسلة الأطلس التل من تلمسان حتى مدينة سوق أهراس، بل يتوغل في الأراضي التونسية حتى مدينة تونس، وفي الأراضي المغربية حتى مدينة طنجة. ويحده جنوبا خط (لانزوفيتس 350 مم) وهو الخط الفاصل بين مناخ الاستبس في الجنوب، ومناخ البحر الأبيض في الشمال. ويتميز هذا الأخير بفصلين متباينين، أحدهما مطير دافىء طويل، وهو فصل الشتاء، والثاني فصل جاف حار قصير وهو فصل الصيف. ويكاد الجو يكون صافيا طول السنة مع اعتدال في الطقس مما جعل من هذه المنطقة مشكاة سحرية وروضة غناء، ذات غابات خضرة، وأشجار صنوان وغير صنوان من بلوط وصنوبر وعرعار وأرز وريحان. وقد ساعدت هذه البيئة الطبيعة الجميلة منذ القديم على ظهور حضارات عريقة كانت ممتدة على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط (الحضارة الفينيقية) حيث صفاء الجو ونور الشمس وسكون الطبيعة، كل ذلك مما ساعد الانسان على التفكير والابداع وإنتاج حضارة رائعة لا زالت ترسل بظلالها حتى اليوم. 2 - مناخ الاستبس: تتراوح أمطاره بين (350مم) و (200 مم) ويمتد الى الجهات الجنوبية من المناخ السابق، ويشمل أراضي النجود والأطلس الصحراوي. ويلاحظ هنا المناخ القاري بوضوح من فوارق حرارية يومية وشهرية متطرفة، وأمطار قليلة، ورطوبة نسبية منخفضة. ويعتبر المناخ الاستبسي مناخا انتقاليا بين مناخ الصحراء في الجنوب، ومناخ البحر الأبيض المتوسط في الشمال، وتسود به الحشائش القصيرة والفقيرة، تتخللها في بعض الأحيان الشجيرات المتباعدة بعضها عن بعض. وأهم هذه الحشائش: الشيح ونباتات الحلفاء التي تعتبر مصدرا من مصادر الثروة الجزائرية، إذ منها يصنع

مناخ الصحراء

أجود أنواع الورق، كما تدخل في صناعة بعض الأقمشة والصناعات المحلية. 3 - مناخ الصحراء: ويحتل أكبر مساحة في القطر الجزائري، إذ يمتد من جبال الأطلس الصحراوي شمالا حتى هضاب الهوقار جنوبا. وبذلك يشمل مساحة تزيد على التسعين بالمائة من المساحة الاجمالية للبلاد. وخط الايزوفيتس (200 مم)، هو الحد الفاصل بين المناخ الصحراوي ومناخ الاستبس. فأمطار الصحراء تقل في أكثر مناطقها عن 200 مم، وتنزل في فصل الصيف على هضاب الهوقار والهوامش الجنوبية، وفي فصل الشتاء على الهوامش الشمالية. والرطوبة النسبية منخفضة جدا، والفوارق الحرارية مرتفعة جدا. وكذلك الحرارة اليومية التي تصل الى (56) درجة مئوية في بعض الأحيان، وهو أعلى رقم في العالم سجله مرصد (تندوف). ونتيجة لهذه الظروف الطبيعية القاسية، كانت الصحراء بلاد الغلاة والبيداء والمليع، تكاد تختفي فيها الحياة النباتية تماما، وبايحاز، مناخها متطرف للغاية. د - الغطاء النباتي: تغطي الغابات والحراج مساحة كبيرة بالجزائر تقرب من السبعة ملايين هكتار، أغلبها في الإقليم الشمالي. ويوجد بالجزائر حوالي ثلاثة آلاف نوع من النباتات، أغلبها أصلية، والقليل منها مستورد من الخارج، مثل أشجار الكافور المستوردة من أستراليا، والهندي أو التيين الشوكي المستوردة من المكسيك. وتنقسم السنة النباتية الى فصلين: أحدهما فصل الصيف أو (فصل الجفاف) تسقط الأشجار فيه أوراقها، وتختفي فيه النباتات الصغيرة. ولهذا يعتبر فصل النوم أو الراحة، يتوقف فيه النشاط النباتي. أما الفصل الثاني، فهو فصل الشتاء، تسقط فيه الأمطار، وفيه تورق الأشجار، وتخضر

الحشائش، وتزهر الأغصان، وتخرج البراعيم، ولهذا يسمى فصل النمو أو فصل الإنبات. ويخضع الغطاء النباتي لشروط طبيعية معينة تتحكم في وجوده وكثافته ونوعيته، ومن أهم هذه الشروط: المطر، والحرارة، والتربة، والضوء، والرياح، والموقع، والتضاريس، فلهذا تظهر النباتات في الجزائر وهي مختلفة من مكان لآخر تبعا لاختلاف الظروف المناخية السابقة الذكر. ففي الإقليم الشمالي تظهر الحراج من ضرو، وريحان، وحمايرة، وعلانق، ودوم، عند حضيض الجبال. وفي المناطق القليلة الأمطار والارتفاع، تظهر غابات الفلين على السفوح التي يقل ارتفاعها عن (1200 مم) والتي تظهر بها التربة الرملية بالخصوص. أما إذا اشتد الارتفاع، وزادت البرودة، وتنوعت التربة، فتظهر غابات الصنوبر والأرز والعرعار. والسفوح المقابلة للرياح الممطرة أوفر نباتا وأشجارا من السفوح الواقعة في ظل الرياح الممطرة. وفي إقليم الاستبس، أو النجود، الذي تقل أمطاره عن (350 مم) سنويا، نجد الحياة النباتية فقيرة، وتختفي الغابات الكثيفة لتحل محلها الحراج والمراعي الواسعة. أما في الجنوب، حيث تكاد تنعدم الأمطار، فيكاد يختفي الغطاء النباني تماما. وكثيرا ما يقطع المسافر مئات الكيلومترات دون أن يقع بصره على نبتة عشب أو قطرة ماء. تظهر بعد ذلك العلاقة الوثيقة بين المطر والنباتات عند الأخذ بمخطط بياني مقارن لأطوال النباتات الطبيعية، ومعدلات سقوط الأمطار، حيث يظهر أن ارتفاع النباتات (طولها) يصل الى عشرين مترا أو أكثر في الإقليم الذي تزيد أمطاره السنوية على (350 مم). بينما لا يزيد ارتفاع هذه النباتات (طولها) على بضعة أمتار في الإقليم

د - 1 - إقليم البحر الأبيض المتوسط

الذي تتراوح أمطاره بين (350مم) و (200مم) سنويا. أما الإقليم الذي تتراوح أمطاره بين (200مم) و (50مم) سونيا، فلا تظهر فيه إلا النباتات الشوكية القصيرة جدا. وعلى هذا الأساس، يمكن تقسيم الجزائر الى ثلاثة أقاليم نباتية ممتدة من الغرب، الى الشرق، على شكل نطاقات، ومرتبة من الشمال الى الجنوب، وهي: إقليم البحر الأبيض المتوسط، إقليم الاستبس، إقليم الصحراء. د - 1 - إقليم البحر الأبيض المتوسط: وتحده جنوبا السفوح الجنوبية لسلسلة الأطلس التلي، وشمالا مياه البحر الأبيض المتوسط، ويتميز هذا الإقليم بفصل حار وجاف وقصير نسبيا، يمتد من شهر حزيران - يونيو- حتى شهر تشرين الأول - أكتوبر - وفصل رطب دافىء طويل، يدوم من تشرين الأول - أكتوبر- حتى أيار-مايو-. وتتراوح أمطاره السنوية بين (1000 مم) و (350مم) وتربته جيدة، وهو أوفر المناطق نباتا، وأغناها نوعا، وأهم غاباته هي: * - غابات أشجار (الفلين) (¬1) التي يتراوح ارتفاعها (طولها) بين الستة والاثني عشر مترا. وتظهر أشجار الفلين فوق التربة الرملية، كما لا تتحمل البرودة المتطرفة. ولذا تقتصر على المناطق التي لا يزيد ارتفاعها على (1200) م. وهي تظهر على جبال الظهرة وزكار والسفوح الشمالية لجبال تلمسان، والونشريس والأطلس المتيجي وبالقرب من بجاية. وأهم غابات الفلين بالجزائر هي الممتدة من جيجيل غربا حتى القالة شرقا على طول الساحل. وتمتاز أشجار الفلين بعروقها الطويلة التي تغوص عمودية في الأرض، وأغصانها المتشعبة ¬

_ (¬1) أشجار الفلين: (CHENES - LIEGES)

وغير المستقيمة، وأوراقها الدائرية الشكل والمغلوقة. وتزهر شجرة الفلين بعد أن تبلغ من العمر الستين سنة، وتعمر القرون العديدة حتى ينهار وسط جذعها، وتظل القشرة الخارجية محافظة على حياة الشجرة، الى أن تهب ريح قوية تأتي عليها، إن لم تسقطها يد الانسان. وتقل مساحات غابات الفلين في الجزائر حاليا عن (440) ألف هكتار، ذلك أن الاستعمار الإفرنسي عمل خلال حرب التحرير على إحراق مساحات واسعة من الغابات الساحلية. وكانت الجزائر قبل هذه الحرب، ثاني دولا عالمية في مساحة غابات الفلين، لا تفوقها الا البرتغال. * - غابات أشجار الصنوبر: وتتميز بأوراقها الابرية وثمارها المخروطية الشكل. وهي تغطي مساحة واسعة من شمال الجزائر تزيد على (700) ألف هكتار. وتظهر في جبال التل والأطلس الصحراوي، وهي على أنواع، منها غابات الصنوبر البحري التي تتطلب أمطارا كثيرة ومرتفعات متوسطة. ولهذا يظهر الصنوبر البحري على الساحل الشرقي، وبالخصوص في منطقة (جيجل) و (رأس بوقرعون) وهي تغطي مساحة لا بأس بها. ومن غابات أشجار الصنوبر هناك نوع (الصنوبر الحلبي) فوق المرتفعات التي تزيد على (1300 م) فوق جبال الساحل وجبال الأطلس الصحراوي، ويغطي مساحة واسعة من الجبال التي يصل ارتفاعها حت (2200 م) ويتحمل الصنوبر الحلبي الظروف المناخية القاسية، من أمطار يقل متوسطها السنوي من (300 مم) سنويا، وتربة جيرية أو رملية أو مختلطة، ولهذا فإننا نجده في غرب الجزائر أكثر منه في شرقها، لأن غرب الجزائر أقل مطرا من شرقها. وتتميز أشجار

(الصنوبر الحلبي) بأوراقها الابرية الطويلة التي تخرج في فصل الشتاء، ولا تسقط الا بعد أربع سنوات، وثمارها بطيئة النضح، وجذوعها مستقيمة، واذا شقت خرج منها سائل كثيف يتجمد بعد مدة (هو الصمغ) الذي يدخل في صناعة الصباغة، وأخشاب الصنوبر معروفة بجودتها واستخداماتها الكثيرة. *- غابات أشجار (البلوط) (¬1) ويبدأ ظهورها على ارتفاع (400 م) وتمتد حتى ارتفاع (1700 م) فوق الأطلس التلي. أما في جبال الأوراس فتظهر على ارتفاع (1900 م). وتتطلب أشجار البلوط أمطارا كثيرة، وتربة رطببة، وهي تظهر على جبال تلمسان والونشريس وديرة وبابور ونوميديا. وتغطي مساحة تقرب من (500) ألف هكتار. *- غابات أشجار (الأرز) (¬2) أو غابات الجبال الشاهقة، لأن أشجار الأرز لا توجد الا في المناطق التي يتراوح ارتفاعها بين (1300 م) و (2200 م) كجبال الونشريس وثنية الأحد والبليدة وجرجرة والأوراس وبوطالب. وتغطي مساحة تزيدعلى (30) ألف هكتار. وأشجار الأرز أضخم وأطول أشجار الغابات الجزائرية، تعمر السنين الطوال، وتتطلب أمطارا وفيرة، وشتاء باردا، وصيفا معتدلا. وهذه الظروف المناخية جعلت أشجار الأرز تهجر الجبال الغربية بوهران وجبال الأطلس الصحراوي. * - غابات أشجار الزيتون: وتحتل السفوح القليلة الارتفاع، بين الألف والمائة متر، فوق التربة الرملية، التي تلائم بالخصوص ¬

_ (¬1) البلوط: (CHENES VERTS). (¬2) الأرز: (CEDRES)

د - 2 - إقليم الاستبس

أشجار الزيتون المختلطة بشجيرات الضرو، والعلائق، والحمايرة وبوحداد، وسيسنو، والريحان، والدوم. وبهذا الاختلاط تكون غابات أشجار الزيتون غطاء نباتيا متشابكا يصعب اختراقه، لكن رائحة أشجاره المتنوعة تنعش الألباب، وتذكي القرائح، وتبعث بالراحة والسرور في الأنفس، في كل فصل من فصول السنة، وبالخصوص في فصل الربيع الذي تزهر فيه الأشجار والشجيرات، وتتوالد فيه الطيور، وتكثر فيه الينابيع المتدفقة. وتمتاز أشجار الزيتون بأوراقها القصيرة السميكة، وتكون في اتجاه مائل بالنسبة للشمس، وهي صلبة ذات لون أخضر فاتح بالجهة العلوية، وفضية بالجهة السفلية المقابلة لسطح الأرض، ومغطاة بطبقية شمعية تقيها شدة التبخر في فصل الصيف. ولعل أهم ما يميز مناخ البحر الأبيض المتوسط هو أشجار الزيتون التي تظهر حيث يظهر هذا المناخ، ولهذا يمكن اعتبارها الحد الفاصل لإقليم نباتات البحر الأبيض المتوسط. د - 2 - إقليم الاستبس: ويمتد الى الجنوب من إقليم البحر الأبيض المتوسط، وهو إقليم انتقالي بين الصحراء في الجنوب، والتل في الشمال. وجكم موقعه، فإن آثار الانتقال ظاهرة بوضوح على تخومه الشمالية والجنوبية، إذ تظهر أشجار الزيتون عند تخومه الشمالية، وشجيرات الدرين عند تخومه الجنوبية. تقل الأمطار نسبيا في إقليم الاستبس ويزداد الجفاف، وتأخذ الفوارق اليومية والفصلية في الارتفاع، كما تتزايد الذبذبات المطرية وضوحا، وبذلك يأخذ المناخ القاري في الظهور، وقد أثر هذا المناخ المتطرف في الحياة النباتية. فبدل الغابات التلية، تظهر بأرض النجود الشجيرات المتباعدة بعضها عن بعض، وتظهر الحشائش القصيرة ال تي

د - 3 - الإقليم الصحراوي

تنبت في فصل دون آخر، ولا يرجع فقر المنطقة بتاتا الى قلة الأمطار فقط، ولكن إلى فقر التربة أيضا، حيث تكثر السبخ في هذا الإقليم، وتسود به التربة الملحية التي لا تساعد على الحياة النباتية، والأشجار بالخصوص. وأهم نباتات إقليم النجود: الحلفاء، والسدرة، والبطوم والشيح، والدرين، والكرار، والطرفة أو الثل. أما الحلفاء فهي أشهر نباتات النجود، يبلغ ارتفاعها (طولها) حوالي المتر، ولا تحتمل الرطوبة الكثيرة، وتقنع بما يقرب من (300 مم) من الأمطار سنويا، واذا زادت الأمطار على (500 مم) أضرت بالحلفاء التي تختفي ليحل محلها (الديس) الذي يزيد طوله على المتر، وله أوراق إبرية الشكل، حرشاء، تخدش لامسها، ويظهر فوق جبال النجود والتل على السواء. ومن نباتات النجود (الدرين) الذي يظهر فوق التربة الرملية. و (الشيح) فوق السهول الفيضية. و (السنار) فوق التربة الطينية. وأنواع أخرى من النباتات تظهر فوق التربة الملحية الشطية، وتظهر على حافات المنخفضات من السبخ , والكثير منها تعافه حتى المواشي نظرا لشدة حموضتها وملوحتها أو مرارتها. أما على ظهر سلسلة الأطلس الصحراوي، حيث يزداد المتوسط السنوي للأمطار عن (300 مم) فإننا نجد غابات الصنوبر الحلبي، مع غابات فقيزة فوق جبال الجلفة والعين الصفراء. د - 3 - الإقليم الصحراوي: ويمتد الى الجنوب من سلسلة الأطلس الصحراوي، بحده شمالا إقليم الاستبس، أما جنوبا فيتجاوز حدود الصحراء الجزائرية. وهو فقير بالحياة النباتية بحكم موقعه بعيدا عن الأمطار وأسبابها - اذ لا تزيد أمطاره السنوية على (200 مم) - ويظهر في الصحراء إقليمان متباينان نباتيا، أحدهما هو

إقليم (تنزروف) أو (المليع) الخالي من النباتات تماما حيث لا يظهر لها فيه أي أثر. والثاني إقليم (الفقر النباتي) الذي تظهر في أوديته شجيرات (الثل) و (البطوم) و (الطلح) و (السنط) و (الصمغ) و (السدرة) التي تكتفي بالرطوبة القليلة المخزونة بين جزئيات التربة. أما فوق الهضاب الصخرية، فتظهر نباتات قصيرة جدا، مثل الضمران، والعجرم، والعلندة، والقرندل. كما تظهر فوق الكثبان الرملية نباتات الدرين، وهو الكلأ المفضل لدى الجمال. وتتميز النباتات الصحراوية بالآتي: آ - أنها سريعة الظهور والاختفاء، نتيجة للأمطار التي تصلها من بعيد، وهي أمطار مباغتة غير منتظمة، تدوم وقتا قصيرا، فتؤثر بذلك في النباتات التي تظل بذورها مختفية تحت التربة عدة سنوات الى أن تنزل عليها أقل كمية من الأمطار، فتنمو بشكل غريب، وتدوم حياتها أياما معدودة، ثم تنام عدة سنوات قبل أن تظهر مرة أخرى، إذا ما نزلت الأمطار، وعاودنا نوبة الرطوبة. ب - ان أغصانها غالبا ما تكون مجردة من الأوراق، وجذوعها قصيرة ودقيقة، وكثيرا ما كانت مسلحة بالأشواك لتدرأ عن نفسها هجمات الحيوانات، وتقلل من عملية التبخر في هذا الإقليم الذي تشتد فيه الحرارة وعملية التبخر، ويقل فيه الأثر الفعلي للأمطار. ج - أن عروقها كثيرة ومتشبعة، حيث أنها ممتدة في اتجاهات مختلفة الى أعماق بعيدة حتى تصل الى المياه. وأغنى المناطق الصحراوية نباتا هي بطون الأودية، لأن طبقة اختزان المياه بها غير بعيدة عن سطح الأرض، وبذلك يسهل على النباتات المعتمدة على المياه الباطنية أن ترسل شبكة عروقها الى امتصاص حاجتها من الماء بسهولة.

الفصل الثاني

{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. الفصل الثاني 1 - في فلسفة الثورة. 2 - البيان الأول للثورة. 3 - مكتب جبهة التحرير في القاهرة يصدر بيانه عن الثورة. 4 - بدايات العمل الثوري. 5 - انطلاقة الثورة في كتابة قائد إفرنسي. 6 - عقبات على طريق الثورة. 7 - الثورة في وثائق ثوارها. آ - الإعداد للثورة. ب - الله أكبر - خالد - عقبة. ج - لهيب الثورة في أريس. د - فجر يوم الثورة المسلحة. هـ - إندلاع الثورة في متوجة (متيجة). و- الولاية الأولى في معركة التحرير. ز - الثورة في ولاية وهران.

غضب وبؤس وتصميم .. تلك هي ملامح المجاهدين

في فلسفة الثورة

1 - في فلسفة الثورة يقول (جول مونيرو) في وصفه الكلاسيكي لطبيعة الثورة وتطورها ما يلي: [تفقد جميع مظاهر النشاط الاجتماعي وفئاتها بصورة تدريجية اسقلالها في الثورات. ففي الحروب الخارجية والداخلية على حد سواء، ينعدم الاسقلال في السياسات الخارجية والداخلية، وفي الشؤون الاقتصادية والدينية، وتصبح كلها مترابطة متشابكة. ويتجه كل شيء تدريجيا، نحو التوافق والاتصال، وهذا يشمل الأمور المتعلقة بالأفراد والجماعات على حد سواء، ويسبب لهم ولها الكثير من الجهد والمشقة .... وأخيرا فإن العالم بأسره يغدو منطقة حساسة واسعة من الاحتكاك، والاحتكاك المقابل ويغدو التفاعل بين العالم الأكبر والإنسان، وبين الفرد والمجتمع، وبين الكيان الصغير والكيان لكبير الضخم، حركة سريعة متلاحقة، تجرف معها الإنسان دون أن يفهم شيئا، ولا هناك مجال لتحليل القيم والأهداف - الذي يمكن كل مجموعة بشرية وكل فرد، من أن يجد أو تجد (المكان اللائق لكل شيء)، وتتجزأ العقائد الدينية الى مجموعات من الواجبات المتنافرة، و (تصطرع القيم المنفصلة والمجزأة) متنافسة على الفرد وفي داخله. وفي وسع المؤرخ أن يجزىء

الأزمة العامة الى سلسلة من الأزمات الخاصة في أوقات وأماكن معينة، ولكن هذه الأزمات تظل تعدل بعضها البعض، وتقرر مصير بعضها البعض، وهذا الترابط، يكون مكانيا وزمانيا. فالنفس القديمة تندفع الى التغير، ولما يظهر بعد أي شيء ليملأ الفراغ الذي خلفته الأمور التي قذفتها هذه النفس وطرحتها جانبا. وتسيء الحاجات بتشكيل صورها، وتكتفي بما تستطيع تحقيقه من أين؟ وكيف؟ وتتوقف العقائد التي قام عليها المجتمع، عن السيطرة على الاستجابات العضوية، ولكنها تتعرض للهجمات على أساس المصالح. وتدافع عن نفسها، على هذا الأساس أيضا، وتتهدم الحوافز الاجتماعية العظيمة في النفس، التي تمثلها هذه العقائد عن طريق النقد ... في مثل هذه الفترات، وعندما تصبح القواعد القديمة للمجتمع واهية ومائعة ومنهارة أمام حالة من الانتقال، وتفقد الانتقادات الموجهة الى كل الأوضاع القديمة، التي لم تعد مرضية، والى كل ما تقوم عليه من أسس، دون كابح أو زاجر .... وكتتمة طبيعية لانتشار الشكية، تنبعث هناك (باطنية) غير ناضجة .... هي: (وليدة التحالف بين الشكية والحنين الى الوطن) والى جانب العدمية (النهلستية) - وهي حالة من توافر الصلاحية النفسية التي تعني أن يكون الانسان حاضرا للفائدة لكل عمل - يظهر نوع من الحنين في أشكال متعددة، للإجماع العام الاجتماعي، وفي هذا التوق الى الوحدة، تعيش النفس، على أضخم صورة مقلدة لها، وهي صورة العصر الذهبي، واليوم المجيد .... ولا ريب في أن المفاهيم الجديدة. للعالم، التي تحاول أن تحتل مكان النطام الاجتماعي القديم، تحمل طابع الجدة.

والثورة - وهي الأزمة الطويلة التي تحيل التنافر إلى وحدة - لا تستطيع الوقوع في (وعاء مقفل) في جزء واحد من العالم، حتى ولا في قارة بأسرها، فارتباط الاضطرابات ارتباط عالمي .... والثورة -عملية تاريخية، لا تقود إلى أبواب الفردوس، بل إلى أبواب عالم شبيه بالعالم الذي نعرفه، باستثناء أن كل ما فيه قد تبدل. حتى (النفس) أيضا تغيرت. فأية فئات يمكن لها أن تقتسم المنافع والخدمات وتتوزعها، ومم تتألف هذه الفئات؟ ولمنفعة من سيجري هذا التوزيع؟ وأية علاقات بشرية يمكن لها ان تتبدل فعلا؟ وما هي الأهمية الحضارية لهذا التبدل؟ وما هو نوع النظام الجديد الذي سيوجد والذي سيقبل فيه الناس أوضاعهم؟ وكيف يمكن لهذا النظام أن يضع الخطة لإبراز الطبقة المختارة؟ هذه هي الاسئلة التي تبرز ما يتعرض للخطر في المعركة. وليس من الصعب تسمية كل عصره (بالعصر الثوري) إذا كان الاصطدام المتزايد في المشاكل يقترب من نقطة الإشباع. فالتباين والخلاف يصلان الى أقصى امتدادهما ... وترفض الغالبية العظمى تقبل المجتمع. ويأخذ عدد الرجال الذين فقدوا الاحساس بالانتماء الى النظام الاجتماعي او النظام العالمي يزداد ... ويصبح المجتمع الى حد كبير، وأخيرا الى حد نهائي، ترتيبا استبداديا، أو إذا شئنا تعبيرا أصدق، قلنا إنه يصبح سلسلة من الترتيبات التي لم تعد تستحق اسم (المجتمع) .... وتأخذ الظروف دورها في تكييف سلوك الإنسان أو تشويهه، ويتعاظم دور هذه الظروف، بينما ينقص دور المسؤولية. وفي مثل هذه الأوقات يكون الرجل العظيم هو ذلك الذي يملك، بالإضافة الى مواهبه الأخرى، موهبة تمييز (اللخطة

المؤاتية) .... وللرجال العظام في مثل هذه الظروف بالإضافة الى فضائلهم الأخرى فضيلة المعرفة التامة وموهبة المخر في عباب المجتمع .... وعندما لا يشعر الفرد بأنه جزء مكمل لنظام اجتماعي، يحاول البحث عن حلول مؤقتة، كالحصول على ملجأ في فتنة، أو في أي مكان أمين آخر .... ولكن هذا الوضع، يسري على روح المغامرة بقدر ما يسري على روح الحذر. وهناك فرص جديدة، وعن طريق التصميم والشعاعة والاحتمال والحظ، يمكن الوصول في هذا العصر إلى نتائج أكثر من تلك التي كان بالمستطاع الوصول اليها في العصر السابق] (¬1). ... المهم في الأمر، هو أن إرادة التغيير الشامل باتت متوافرة لدى معظم مسلمي الجزائر، وتوافرت (قيادة تاريخية) عرفت أهمية (اللحظة التاريخية). وأفاق العالم صبيحة اليوم الأول من تشرين الثاني - نوفمبر-1954، على نداء يحمل الإعلان عن بداية الثورة. وليس في وسع أي ثوري - أو أية فئة ثورية، أن تحكم مسبقا على مدى ما يحققه النداء الأول من استجابة في نفوس الجماهير. غير أن (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) والتي تحولت في تلك الليلة الى (جبهة التحرير الوطني الجزائري) كانت على ثقة مطلقة من أن النداء الذي وزعته مع الطلقات الأولى التي أعلنت قيام الثورة، سيلقى استجابة عامة تساعد الثورة على يطوير أعمالها وتصعيد صراعها. وهذا ما تحقق فعلا. وقد تضمن البيان التاريخي ما يلي: ¬

_ (¬1) علم لاجتماع في الشيوعية (جول مونيرو) ص 302 - 308 عن الجزائر الثائرة - جوان غيلسبي - ترجمة خيري حماد - ص 117 - 119.

البيان الأول للثورة: (بيان فاتح نوفمبر 1954)

2 - البيان الأول للثورة: (بيان فاتح نوفمبر 1954) (¬1) أيها الشعب الجزائري أيها المناضلون من أجل القضية الوطنية أنتم الذين ستصدرون حكمكم بشأننا، نعني الشعب بصورة عامة، والمناضلين بصفة خاصة، نعلمكم أن غرضنا من نشر هذا الإعلان هو أن نوضح لكم الأسباب العميقة التي دفعتنا الى العمل. أن نوضح لكم مشروعنا والهدف من عملنا ومقومات وجهة نظرنا الأساسية التي دفعتنا إلى الاستقلال الوطني في إطار الشمال الأفريقي، ورغبتنا أيضا هو أن نجنبكم الالتباس الذي يمكن أن توقعكم فيه الامبريالية وعملاؤها الإداريون، وبعض محترفي السياسة الانتهازية فنحن نعتبر قبل كل شيء أن الحركة الوطنية، بعد مراحل من الكفاح، قد أدركت مرحلة التحقيق النهائية. فإذا كان هدف أي حركة ثورية، في الواقع، هو خلق جميع الظروف الثورية للقيام بعملية تحريرية، فإننا نعتبر أن الشعب الجزائري، في أوضاعه الداخلية متحد حولة قضية لاستقلال والعمل. أما الأوضاع الخارجية، فإن الانفراج الدولي مناسب لتسوية بعض المشاكل الثانوية التي من بينها قضيتنا التي ¬

_ (¬1) المرجع: ملفات وثائقية 24. نشر وزارة الاعلام والثقافة - الجزائر - أوت 1976 ص 7 و8.

تجد سندها الدبلوماسي، وخاصة من طرف، إخواننا العرب والمسلمين. إن أحداث المغرب وتونس لها دلالتها في هذا الصدد، فهي تمثل بعمق مراحل الكفاح التحرري في شمال أفريقيا. ومما يلاحظ في هذا الميدان، أننا منذ مدة طويلة، أول الداعين إلى الوحدة في العمل. إن هذه الوحدة التي لم يتح لها مع الأسف التحقق أبدا بين الأقطار الثلاثة. وقد اندفع كل واحد منها اليوم في هذا السبيل، أما نحن الذين بقينا في مؤخرة الركب، فإننا نتعرض إلى مصير من تجاوزته الأحداث. وهكذا فإن حركتنا الوطنية قد وجدت، نفسها محطمة، نيجة لسنوات طويلة من الجمود والروتين. توجيهها سيء، ومحرومة من سند الرأي العام العالمي الضروري، وقد تجاوزتها الأحداث، الأمر الذي جعل الاستعمار يطير فرحا ظنا منه أنه قد أحرز أضخم انتصاراته في صراعه ضد الطليعة الجزائرية. إن المرحلة خطيرا أمام هذه الوضعية التي يخشى أن يصبح من المحال علاجها، رأت مجموعة من الشبان المسؤولين المناضلين الواعين، التي جمعت حولها أغلب العناصر التي لا تزال سليمة ومصممة، أن الوقت قد حان لإخراج الحركة الوطنية من المأزق الذي أوقعها فيه صراع الأشخاص، والتأثيرات، لدفعها إلى المعركة الثورية الحقيقية، إلى جانب إخواننا المغاربة والتونسيين. وبهذا الصدد، فإننا نوضح بأننا مستقلون عن الطرفين اللذين يتنازعان السلطة. إن حركتنا قد وضعت المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات التافهة والمغلوطة لقضية

الهدف

الأشخاص والسمعة، ولذلك فهي موجهة فقط ضد الاستعمار الذي هو العدو الوحيد الأعمى، الذي رفض أمام وسائل الكفاح السلمي، أن يمنح أدنى حرية. ونظن أن هذه أسباب كافية لجعل حركتنا التجديدية تظهر تحت اسم (جبهة التحرير الوطني) وهكذا نتخلص من جميع التنازلات المحتملة، ونتيح الفرصة لجميع المواطنين الجزائريين من جميع الطبقات الاجتماعية، وجميع الأحزاب والحركات الجزائرية الوطنية الفرصة أن تنضم إلى الكفاح التحريري دون أي اعتبار آخر. ولكي نبين بوضوح هدفنا فإننا نسطر فيما يلي الخطوط العريضة لبرنامجنا السياسي: الهدف: هو الاستقلال الوطني بواسطة: 1 - إقامة الدولة الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية، ذات السيادة، ضمن إطار المبادىء الإسلامية. 2 - احترام جميع الحريات الأساسية بدون تمييز عرقي أو ديني. الأهداف الداخلية: 1 - التطهير السياسي - بإعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي؛ والقضاء على جميع مخلفات الفساد، وروح الاصلاح التي كانت عاملا هاما في تخلفنا الحالي. 2 - تجميع وتنظيم جميع الطبقات السليمة لدى الشعب الجزائري، لتصفية النظام الاستعماري.

الأهداف الخارجية

الأهداف الخارجية 1 - تدويل القضية الجزائرية. 2 - تحقيق وحدة شمال أفريفيا في داخل إطارها العربي والإسلامي. 3 - في إطار ميثاق الأمم المتحدة: نؤكد عطفنا الفعال تجاه جميع الأمم النتي تساند قضيتنا التحريرية .. وسائل الكفاح إنسجاما مع المبادىء الثورية واعتبارا للأوضاع الداخلية والخارجية، فإننا سنواصل الكفاح بجميع الوسائل حتى تحقيق هدفنا. ولكي تحقق (جبهة التحرير الوطني) هدفها، فإنه يحب عليها إيجاز مهمتين أساسيتين في وقت واحد هما: العمل الداخلي، سواء في الميدان السياسي أو في ميدان العمل المحض. والعمل في الخارج لجعل القضية الجزائرية حقيقة واقعة في العالم كله، وذلك بمساندة كل حلفائنا الطبيعيين؛ وهذه مهمة شاقة ثقيلة العبء وتتطلب كل القوى، وتعبئة كل الموارد الوطنية. وحقيقة أن الكفاح سيكون طويلا ولكن النصر محققا. وفي الأخير، وتحاشيا لتأويلات الخاطئة، وللتدليل على رغبتنا الحقيقية في السلم، وتحديدا للخسائر البشرية وإراقة الدماء، فقد قدمنا للسلطات الافرنسية وثيقة مشرفة للمناقشة، إذا كانت هذه السلطات تحدوها النية الطيبة لتعترف نهائيا للشعوب التي تستعمرها بحقها في تقرير مصيرها بنفسها

وفي المقابل

1 - الاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية، ملغية بذلك كل الأقاويل والقرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضا إفرنسية - التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري. 2 - فتح باب المفاوضات مع الممثلين المفاوضين من طرف الشعب الجزائري على أسس الاعتراف بالسيادة الجزائرية وحدة لا تتجزأ. 3 - خلق جو من الثقة وذلك بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، ورفع كل الاجراءات الخاصة، وإيقاف كل مطاردة ضد القوات المكافحة. وفي المقابل 1 - فإن المصالح الإفرنسية، ثقافية كانت أو اقتصادية، والمتحصل عليها بنزاهة، ستحترم، وكذلك الأمر بالنسبة للأشخاص والعائلات. 2 - جميع الافرنسيين الذين يرغبون في البقاء بالجزائر، يكون لهم الاختيار بين جنسيتهم الأصلية ويعتبرون بذلك كأجانب أمام القوانين السارية، أو يختارون الجنسية الجزائرية، وفي هذه الحالة يعتبرون كجزائريين بما لهم من حقوق، وما عليهم من واجبات. 3 - تحدد الروابط بين فرنسا والجزائر، وتكون موضوع اتفاق بين القوتين الاثنتين على أساس المساواة والاحترام المتبادل. أيها الجزائري! إننا ندعوك لتبارك هذه الوثيقة، وواجبك هو أن تنضم إليها لإنقاذ بلادنا، والعمل على أن نسترجع لها حريتها. إن

بيان من جيش التحرير الوطني في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954

جبهة التحرير الوطني هي جبهتك، وانتصارها هو انتصارك أما نحن، العازمين على مواصلة الكفاح، الواثقين من مشاعرك المناهضة للامبرياليين، فإننا نقدم للوطن أغلى - وأنفس - ما نملك. فاتح نوفمبر 1954. الأمانة العامة. ... ومع بيان (جبهة التحرير الوطني) أصدرت قيادة (جيش التحرير الوطني) التي ولدت ليلة الثورة من تنظيم (اللجنة الثوريه للوحدة والعمل) بيانا تم توزيعه مع توزيع بيان (جبهة التحرير الوطني) ولم يكن توزيع البيانين في وقت واحد دليل وجود انقسام، قدر ما كان تأكيدا على ولادة التنظيمين السياسي والعسكري للثورة، وانطلاق التنظيمين من العمل الصامت الى المجابهة المسلحة. وتضمن بيان (جيش التحرير الوطني) ما يلي: بيان من جيش التحرير الوطني في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954 أيها الشعب الجزائري! فكر بالموقف الشائن للاستعمار، حيث العدالة والديموتراطية والمساواة ليست أكثر من واجهات خداعية، يستخدمها المستعمرون. ومع كل هذه الشرور، يجب عدم نسيان قصور الأحزاب عن الدفاع لضمان مصلحتك. فهيا بنا لنمسك يدا بيد، ومعنا إخوتنا في المشرق والمغرب، والذين يموتون لتعيش أوطانهم. إننا ندعوك لاستعادة

شاب هجر مدرسته والتحق بقواعد الثوار

حريتك ولو كان دمك ثمنا لها. نظم عملك إلى جانب قوات التحرير التي تطلب مساعدتك. وعليك واجب حمايتها وتقديم العون لها. إن عدم المبالاة والتخلي عن الصراع أصبح جريمة. أما الخيانة فهي في مقاومة الثورة. إن الله مع المجاهدين المدافعين عن قضيتهم العادلة، ولسيت هناك قوة يمكن لها إيقافهم منذ اليوم. فإما الموت بفخار، وإما تحرير الوطن. عاش جيش التحرير. وعاشت الجزائر مستقلة. ... عندما صدرت هذه البيانات، كان لهيب الثورة قد انطلق منذ ساعات قيلة في (آريس) و (خنشلة) و (فم الطوب). وفي عدد كبير من المواقع ضمن إطار (العمليات الصغرى) غير أن تنوع هذه العمليات ووفرة عددها كان أمرا مثيرا لقلق السلطات الاستعمارية. لقد كان إعلان الثورة مجرد تظاهرة للقوة، غير أنها تظاهرة صممت بطريقة رائعة. وانسجاما مع برنامج الثورة في ربط (الصراع السياسي) بالصراع المسلح، لقام مكتب جبهة التحرير الوطني في القارة - والذي كان يرأسه أحمد بن بللا - بإصدار بيان يعلن فيه انطلاقة الثورة وذلك يوم 15 تشرين الثاني - نوفمبر - 1954 (أي بعد مضي 15 يوما على إنطلاقة الثورة) وتضمن البيان ما يلي:

مكتب جبهة التحرير في القارة، يصدر بيانه عن الثورة

3 - مكتب جبهة التحرير في القارة، يصدر بيانه عن الثورة. (... لقد بوغت المستعمرون في ليلة الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - الحالي، بمجموعة من الهجمات، بين الساعة الواحدة والساعة الثانية صباحا، شملت جميع أنحاء الجزائر. وهذه الحوادث التي تجلى تنظيمها. لجميع المراقبين، كانت تشمل بوجه خاص هجمات على مراكز الجيش، والشرطة (البوليس) ومستودعات الأسلحة، ونسف أهداف استراتيجية واقتصادية حيوية، ولم تستهدف الأشخاص في أي مكان. أما القتلى الذين ورد ذكرهم، فقد قتلوا في اصطدامات بين البوليس والوطنيين الجزائريين. ولقد اتخذت حركة الوطنيين الجزائريين أشكالا تختلف حسب المناطق. ففي شرق الجزائر، أي في منطقة جبال الأوراس، اعتصم الوطنيون بالجبال، بعد أن هاجموا المراكز العسكرية في (باتنة) و (خنشلة) وبعدما احتلوا مركز (آريس). وعند انسحابهم، نسفوا الجسور وسدوا المنافذ والطرقات. وهؤلاء الوطنيون الذين تحصنوا بجبال الأوراس، هم الذين احتشدت لمقاومتهم معظم القوات العسكرية الافرنسية في الجزائر،

تلك القوات التي جاءت نجدات هامة من فرنسا وألمانيا لتعزيزها. وهنا يجدر بنا أن نلاحظ أن استخدام القوات التي كانت تعسكر في ألمانيا، لم يتم الا بعد موافقة هيئة أركان حرب منظمة شمال حلف الأطلسي. وكانت الأنباء قد ذكرت، في أوائل شهر تشرين الثاني - نوفمبر - أن مباحثات سرية تجري بين الجنرال (غليوم) الافرنسي، والجنرال (غرونتر) قائد قوات حلف الأطلسي. وبعد المباحثات بأيام، سحبت فرنسا فرقتين كاملتين مجهزتين بمعدات الحلف العسكرية. - وتقدر الفرق الافرنسية التي حشدت في جبال الأوراس والتي تعززها المدرعات والطائرات بفيلقين - ويبلغ عدد المقاومين الجزائريين في تلك المنطقة عدة آلاف، مسلحين بالبنادق والرشاشات، وقد التحق بهم حوالي مائتي رجل، من جيش التحرير التونسي، بعد اجتياز الحدود. ويستطرد البيان قائلا: ويقوم الوطنيون في بقية أنحاء إقليم قسنطينة بعمليات يومية، تهدف إلى إرهاق القوات الافرنسية، وذلك بمهاجمة المراكز العسكرية والمناجم ونسف الجسور وقطع الخطوط الهاتفية والسكك الحديدية، وتقع هذه الحوادث قرب (قالمة) و (سوق أهراس) و (سكيكدة). وفي جنوب المنطقة، تسلحت بعض القبائل، واتجهت الى الشمال لدعم الوطنيين في جبال الأوراس. وفي إقليم الجزائر، حيث وقعت هجمات في مدينة الجزائر، وفي أهم المدن. وقد تركز النشاط في الجهات الجبلية من منطقة القبائل بأسرها، وضواحي مدينة (بليدة). ويقوم الوطنيون المعتصمون بالجبال، بهجمات عديدة على القوات الافرنسة، وأصبح الوطنيون وهم يسيطرون على منطقة القبائل كلها، بحيث لم يعد

باستطاعة الإفرنسيين المرور إلا في قوافل السيارات المصفحة، وقد قطعت جميع المواصلات السلكية. أما في غرب الجزائر - أي في إقليم وهران - ونظرا لأن المنطقة لا تسمح الا باستعمال أساليب المطاردة والارهاق، فقد وقعت حوادث نسف وتخريب في كل الأنحاء. وحدثت إلى جانب ذلك اشتباكات عديدة استخدت فيها الرشاشات في (مستغانم) بينما قطعت الخطوط الهاتفية المدفونة تحت الأرض والتي تصل بين الجزائر والغرب - مراكش - وذلك في نقطة في الطريق بين (مغنية) و (صبرة). كما قطعت الخطوط الحديدية في نقاط مختلفة. وأصبح الافرنسيون، يعتبرون الجنوب، على حدود الصحراء، منطقة غير آمنة) (¬1) ¬

_ (¬1) الثورة الجزائرية- أحمد الخطيب. ص 170 - 171.

بدايات العمل الثوري

4 - بدايات العمل الثوري بهذه الحركات الخفيفة المنظمة، تمكن جيش التحرير من بث الذعر والفوضى في صفوف العدو الذي فقد صوابه. وقد تمكنت قوات جيش التحرير من حصار (فم الطوب) و (آريس) وقطع جميع المواصلات الهاتفية والبرقية بينهما وبين بقية المدن، ودام الحصار ثلاثة أيام كاملة، كانت تصل خلالها النجدات والمؤن لحاميتي المركزين بواسطة الطائرات العمودية. وسيطر جيش التحرير على منطقة الأوراس التي تبلغ مساحتها (12) ألف كيلو متر مربع سيطرة مطلقة وقضى على جميع المراكز الاستعمارية في هذه المنطقة. أما في جبال (جرجرة) - القبائل، فقد ظهرت فيها القوات الوطنية فجأة، واستولت عليها، وأحاطت بـ (تيزي أوزو) أكبر مدينة فيها. وأسرعت الإدارة الإفرنسية في الجزائر بطلب النجدات من فرنسا. وفي 3 تشرين الثاني - نوفمبر - (أي في اليوم الثالث لاندلاع الثورة) نزلت في ميناء عنابة ثلاث كتائب من المظليين تم استقدامهم من فرنسا بأمر من رئاسة الحكومة. وكانت القوات الافرنسية بالجزائر يوم انفجار الثورة، تضم (49,700) مقاتل. وعلى الرغم من ضخامة هذه القوات، فإنها ظلت عاجزة حتى عن حماية نفسها، ولم يتسن لها

التحرك والتجمع إلا بعد وصول نجدات كبيرة من فرنسا. وقد صرح سكرتير الدولة الافرنسية للشؤون الحربية آنذاك (جاك شوفالييه) بما يلي: (إن منطقة الأوراس هي في حالة ثورة حقيقية. وعدد الثوار فيها بين أربعمائة وأربعمائة وخمسون رجلا، وهم يستخدمون الأسلحة الآلية - الأوتوماتيكية، والأجهزة اللاسلكية للارسال والالتقاط، وهم يحوبون أعالي البلاد). وكان لا بد للقوات الاستعمارية، أن تقوم بعمل يرد لها بعض (الكبرياء المجروح) و (الهيبة المفقودة). ولو بواسطة الدعاية المزورة - الملفقة - التي لا بد منها لحفظ سمعة الجيش الإفرنسي. وقد تجمعت القوات الإفرنسية في (باتنة). وانطلق منها فيلقان يوم 5 تشرين الثاني - نوفمبر - الى الأوراس، بزعم القيام بعملية تطهير، ولم تكن هذه العمليات في الواقع سوى استعراض لعضلات الاستعمار الإفرنسي، ومناورات قمع واضطهاد. وبعدها بيومين، انطلقت ثلاثة فيالق عسكرية في عملية إرهابية داخل البلاد - في اتجاه القبائل الكبرى وجبل (أشمول). وقد عادت هاتان الحملتان دون أن تصادفا أية قوة لجيش التحرير، ولكنها اعتقلت بضع مئات من - المشبوهين -. لقد أدت عمليات فدائيي المقاومة السرية في شن الهجمات الصاعقة، سواء بطريقة الزي المزيف أو الانقاض المباغت، الى تحطيم أعصاب الجنود الافرنسيين، وعلى الخصوص الدوريات المتجولة، وحراس الثكنات والمستودعات الحربية، الذين يفقدون السيطرة على أعصابهم نهائيا مع اختفاء ضوء النهار. فحين يهجم الليل بسواده الداكن، يخضعون لمشاعر الفزع، ويتصورون كل شبح في الطريق

فدائيا. ويعتقدون كل لمعة هي مدية موجهة لأعناقهم، وكل صوت هو صوت قعقعة سلاح. ويظن الواحد منهم أن كل دورية تبديل إنما هي جماعة من الفدائيين، فلا يلبث أن يطلق النار عليها، وعلى كل شبح أو شجرة أو حركة. ومن القصص المثيرة والمعروفة، ما حدث في مدينة (معسكر) خلال الأيام الأولى للثورة، حيث كان السكون يخيم على المدينة، لا يعكر صفوه سوى سير الدوريات المسلحة. وكان عقربا الساعة يلتقيان عند شارة منتصف الليل، عندما صدرت عن الجهة الغربية للمدينة - قرب محطة الحط الحديدي - نيران رشاشة بغزارة عالية. وعند الصباح تبين أن جنود اللفيف الأجنبي - ليجيون ايترانجيه - الذين يحرسون مستودعات النفط قرب محطة الخط الحديدي، سمعوا صوت حركة بن الأعشاب، ففتحوا نيرانهم الرشاشة في اتجاه مصدر الصوت. ولم تكن الضحية أكثر من حمار شارد! كان إعدام الخونة، والمتعاونين مع العدو، هو الهدف الأول للمقاومة السرية وجيش التحرير على السواء. فالخائن في العرف الوطني هو عين الاستعمار، وهو الجرثومة الخطرة التي ببتلي بها الوطن. وكما أن الجسم العليل لا يمكن أن يستعيد نشاطه، أو يبرأ من مرضه إلا اذا قضى قضاء تاما على جرثومة العلة .. فكذلك الشعب العربي وشعوب العالم، لا تستطيع أن تحرر أو أن تنطلق على درب الحرية والسيادة، إلا إذا تم لها استئصال عناصر الفساد، وقتل جراثيم العلة والبلاء فيها. وقد نجحت المقاومة السرية في القضاء على الخونة المارقين، أذناب الاستعمار، وعبيد ماله. وأراحت الشعب العربي في الجزائر من لسعاتهم السامة. وكان آخر من سقط منهم مضرجا بدم

الخيانة والفساد (عدة شنتوف) و (علي شكال) الذي نفذ فيه حكم الإعدام في قلب فرنسا. وهذان الجاسوسان ينتميان الى المجلس الجزائري المزيف. (وابن التكوك) شيخ الطريقة السنوسية في (مستغانم). وتتم عملية الاعدام، بعد محاكمة المتهم حضوريا أو غيابيا، وتبحث في هذه المحاكمة الأدلة والبراهين القاطعة التي تثبت إدانة المتهم، وبعد ذلك، يعلن رئيس المحكمة الحكم النهائي. وينفذ هذا الحكم فورا. وبانتهاء حياة الخونة، أصبح جلاء المستعمر عن الوطن الجزائري حتميا، فبفقدانه عيونه - جواسيسه - أصبح بدون مساعدة أو معين، فكيفما اتجه،، يجد حرابا مسنونة تدميه. وسيوفا مسلولة تقض مضاجعه. ولقد أظهرت عمليات إبادة الخونة أهميتها بسرعة مذهلة، فقد ظهرت الإدارة الإفرنسية في الجزائر، وقيادتها العسكرية، أنها باتت غارقة في الظلام، ولم يعد باستطاعتها تقويم القوات الحقيقية للثورة، أو معرفة أي شيء عن نوايا الثوار ومخططاتهم، فراحت تنعت رجال جيش التحرير بأنهم قطاع طرق (فلاقة) وذلك لتغطية ما ترتكبه القوات الافرنسية من جرائم التقتيل والابادة والتدمير. وقدرت عدد رجال (الفلاقة) ببضع مئات من الرجال، وأحيانا تزيد عددهم الى بضعة ألوف - ثم إلى (15 ألفا). وبقي جيش التحرير محتفظا بسرية عدده وعدته. وكان يعلن في كل المناسبات بأن: عدده هو مجموعة الشعب، وأن مخازن الجيش الافرنسي هي مصدر سلاحه. وكان جيش التحرير عندما بدأ عملياته. قد قسم البلاد الى ست مناطق عسكرية، وزع قواته عليها توزيعا محكما؛ وجعل على رأس كل منطقة قيادة مهمتها إدارة الحرب

وتنظيم أعمال المقاومة السرية. وحتى تتوافر لعمليات جيش التحرير المرونة وخفة الحركة والقدرة على المباغتة، فقد قسمت القوات الى مجموعات صغيرة، تضم كل واحدة منها حوالي العشرين جنديا؛ مسلحين بالبنادق الرشاشة والقنابل اليدوية، ولدى كل مجموعة جهاز لا سلكي للاتصال بالقيادة وبالمجموعات الأخرى. ولقد أعيى توزيع القوات الجزائرية، على هذا النمط، الجيوش الافرنسية المجتمعة التي كانت تنطلق بين الفينة والفينة، في عملياتها العسكرية ضد الثوار الجزائريين. ولم تعثر هذه الجيوش خلال عملياتها الواسعة على أي أثر لأفراد جيش التحرير، الذين كانوا يراقبون تحركات العدو عن كثب. وبحذر تام. وحين يأتي الظلام، تشرع الدوريات الجزائرية في العمل، بينما تحتفي القوات الافرنسية الضخمة داخل مراكزها الحصينة. وقد وصف مندوب وكالة الصحافة الافرنسية الحالة في الأوراس خلال الشهر الأول للثورة بقوله: (تحافظ الجماعات المسلحة على وجودها مختفية، ففي النهار، لا يظهر أحد منهم. وأثناء الليل، تشعل النيران في الجبال، نيران توقد وتخبو كأنها إشارات، وقد تصادف في وقت متأخر من الليل جرارات بأوضاع غير عادية تأكلها النيران وهي مصطفة على جوانب الطريق). ولكن ومع اقتراب الشهر الأول للثورة من نهايته، بدأت القوات الجزائرية بالتحرك نهارا، وأخذت تنشر الرعب في صفوف العدو. وكانت الى جانب أعمال قطع أسلاك الهاتف والبرق، تقوم بهجمات خاطفة على مراكز الجيوش الافرنسية، وقوافل التموين، وأصبحت خطط جيش التحرير تعتمد على مبدئين أساسيين من مبادىء الحرب: الضرب

بشدة وبصورة مباغتة، ثم الانسحاب بسرعة. وقد أذهلت هذه الخطط القادة الإفرنسيين، فوضعوا مخططاتهم المضادة التي تعتمد على الإبادة التامة والتدمير الشامل لقواعد الثورة. وضمن هذا الإطار قامت طائرات سلاح الجو الإفرنسي مساء السبت (20 تشرين الثاني - نوفمبر - 1954) بإلقاء خمسين ألف منشور - بيان - على منطقة الأوراس. وتضمن المنشور المذكور ما يلي: نداء إلى السكان المسلمين! (إن بعض المحرضين المدفوعين من جهة أجنبية، أثاروا حوادث دامية في - بلادنا - وهم يتمركزون بصورة خاصة في منطقتكم، ويعيشون على خيراتكم. إنهم يلزمونكم بمساعدتهم، ويسعون الى اقتياد رجالكم في مغامرات إجرامية. أيها المسلمون! إنكم لن تتبعوهم، وستجمعون عاجلا قبل الساعة السادسة من مساء يوم الأحد 21 تشرين الثاني - نوفمبر - في مناطق الأمان التي سترشدكم إليها القوات الافرنسية الضاربة في منطقتكم مع موظفي الادارة والدواوين. أيها الرجال الذين خرجتم على القانون بغير تفكير، إذا كنتم لم تقترفوا جرما يعاقبكم، التحقوا حالا بمناطق الأمان مع أسلحتكم فلن يصيبكم أي أذى. وستنزل المصيبة الهائلة على رؤوس العصاة. ويسود السلام الافرنسي من جديد). لم يستجب أحد من أبناء الأوراس لهذا النداء، ولم ينزل أحد الى (باتفة) أو سواها من مراكز الأمان التي حددتها القيادة الافرنسية،

فما كان من هذه القيادة الا أن مددت مهلة الالتحاق بمراكز الأمان لمدة خمسة أيام (حتى 26 تشرين الثاني - نوفمبر -) وأطلقت قواتها لإرغام المواطنين الجزائريين على مغادرة قراهم ومراكزهم. ونجحت في النهاية بحمل (280) عائلة من قرية (أشمول) التي يزيد عدد العائلات فيها على الألف عائلة، بالنزول الى (مراكز الأمان). وقد لوحظ خلو الرجال والاشداء والشبان، من بين الذين حملتهم القوات الافرنسية الى (المعتقلات الاجبارية التي حملت اسم معسكرات الأمان) وجدير بالذكر ان عدد سكان الأوراس كان يتراوح بين (120) و (150) الف مواطن. بعد انتهاء أجل الانذار، خرجت خمسة فيالق فرنسية في اتجاه القرى التي رفضت الانذار الافرنسي، وقامت بعمليات اعتقال وإبادة واسعة النطاق، اشترك فيها سلاح الجو الافرنسي وقذف فيها قرى الأوراس بقنابل النابالم الحارقة. ولم تؤثر هذه العمليات الوحشية في نفسية الشعب. فظل صامدا يدعم قوات جيش التحرير في المنطقة، إلى أن ظهرت المجموعات الجزائرية فجأة في جبال (جرجرة)، وكان لظهور هذه المجموعات في هذه المنطقة من ولاية (عمالة) الجزائر، وقع الصاعقة على رؤوس الاستعماريين، إذ اعتبروه بداية التطوير لعمليات جيش التحرير المنظمة. وأخذت تحركات قوات الثورة تتوالى في منطقة الاوراس مع انتهاء الشهر الأول لبداية الثورة. وحدثت اشتباكات عنيفة مع القوات الافرنسية أدت الى مصرع عدد كبير من الافرنسيين. وكانت خسائر الثوار محدودة جدا، نظرا لافادة هؤلاء من عامل المباغتة في توجيه الضربات. وحاولت الادارة الافرنسية وقياداتها العسكرية قلب الحقائق، واتباع الأساليب الاعلامية الخادعة،

فأخذت تزعم أنها قتلت عشرات ومئات الثوار، بينما كانت البلاغات الافرنسية تكاد تخلو من ذكر القتلى الافرنسيين. غير أن هذا الأسلوب من الكذب والخداع، لا يلبث أن يكشف ذاته بسرعة، ليفضح الأساليب التضليلية. وقد ظهر ذلك واضحا في عملية حدثت في بداية شهر كانون الأول - ديسمبر - 1954. ففي هذا التاريخ كانت قوة فرنسية تضم (150) جنديا تقوم بعملية (التطهير) في الأوراس. وقد أوغلت هذه القوة في تقدمها حتى وصلت الى منطقة مكشوفة، وكانت إحدى المجموعات الجزائرية العاملة في هذه المنطقة تتابع تحركات القوة الافرنسية عن كثب، وتحكم الخناق عليها، حتى إذا ما وصلت الى المنطقة المكشوفة، انقضت عليها بالنيران والالتحام، وأبادتها إبادة تامة. وفي الغد، جاء تصريح القيادة الافرنسية بالصيغة التالية: (بينما كانت إحدى فرقنا تقوم بعملية تطهير في الأوراس، هاجمتها عصابة مسلحة من - الخارجين على القانون - وتمكنت قواتنا من قتل (49) ثائرا، أما خسائرنا فلم تتجاوز قتل جندي واحد وإصابة آخر بجراح). قامت قوات فرنسية كبيرة بعمليات حصار وتفتيش في بلاد القبائل، يوم 14 كانون الأول - ديسمبر - 1954، وكان هدفها الأول هو إرهاب المواطنين، لا سيما بعد ظهور قوات الثورة الجزائرية في هذه المنطقة. وقد تلتها في 30 كانون الأول - ديسمبر - حملة أخرى تضم (4) آلاف جندي للبحث عن الجماعات المسلحة، ولم تصادف هاتان الحملتان أحدا من رجال جيش التحرير، الذين كانوا كعادتهم يراقبون تحركات العدو، وينتظرون انسلاخ قوات صغيرة عن القوات الكبيرة ليهاجموها. غير أن الافرنسيين كانوا شديدي الحذر، فلم

يجرأوا على تقسيم قواتهم. بل أبقوها مجتمعة تعمل كتلة واحدة، وهذا ما سبب لهم الفشل، لأن تحرك مثل هذه القوات التي ترافقها الدبابات والمدرعات الخفيفة، وتحرسها الطائرات من الجو، لا بد وأن تكون بطيئة عبر الدروب المتفرقة في المنطقة والخفيفة الحركة. وكان الافرنسيون يعتقدون أنهم بحملاتهم الضخمة هذه يستطيعون إيقاف الثورة وخنقها وهي في مهدها. غير أن الثورة نجحت في نشر قواتها وزيادة نشاطها .. فبعد أن كانت عمليات الجيش محصورة في الأوراس إذا بقوات الثورة تنتشر في بقية ولاية (عمالة) قسنطينة. ثم تمتد إلى بلاد القبائل (جبال جرجرة)، ومن هناك بدأ انتشار الثورة داخل ولاية (عمالة) الجزائر ذاتها. استمرت القيادة الافرنسية في محاولاتها بالرغم مما أصابها من الفشل، فوجهت يوم 19 كانون الثاني - يناير - 1955 قوة مكونة من خمسة آلاف جندي مدعمة بالمدرعات والطائرات للبحث عن مجموعات جند جيش التحرير في الأوراس. ثم أتبعتها بقوة ثانية تضم أربعة آلاف جندي لتطوير عمليات البحث في شمال الأوراس. وعادت الحملتان بعد أيام دون تحقيق نتيجة تذكر. وخلال ذلك كان جيش التحرير قد وسع دائرة نشاطه حتى أمكن له السيطرة على منطقة الجنوب كلها , ووقعت مجموعة من الاشتباكات الضارية في (كولون بشار) و (عين الصفراء) و (بوسعادة) واختفى رجال جيش التحرير بعدها ليعاودوا ظهورهم في منطقة (وهران). وأصيبت الادارة الاستعمارية وقيادتها العسكرية بحمى الغضب لهذا التطور، إذ كانت تعتقد حتى تلك المرحلة بأن ولاية (عمالة) وهران مسالمة، لأن طبيعة وهران وتكونها الديمغرافي لا يساعدان جيش التحرير عل ى

التحرك والعمل في منطقتها. وعلى أثر امتداد نفوذ جيش التحرير، وتعاظم نشاطه في كل أنحاء القطر الجزائري، عملت فرنسا على إقالة الحاكم العام (ليونارد) وخلفه في منصبه (جاك سوستيل). وفي أول نيسان - أبريل - 1950 أقرت الجمعية الافرنسية لمدة سنة العمل (بقانون الطوارىء) وهو قانون يمنح القوات الافرنسية حرية العمل العسكري بالجزائر، وتطورت بنتيجة ذلك أعمال القتل والسلب واقتحام مساكن المسلمين الجزائريين عنوة في الليل والنهار بحجة البحث من الثائرين، مع فرض رقابة صارمة على الصحف والاعلانات ومحطات الاذاعة والافلام السينمائية والمسرحيات وكل أنواع النشاطات الاجتماعية الأخرى. وقد أدى ذلك الى انتشار الفوضى، وازدياد أعمال الاضطهاد، وانتشار الرعب. فما كان من القوات الجزائرية الثائرة في منطقة الأوراس. إلا أن زادت من هجماتها على القوات الافرنسية، وعملت على تصعيد الصراع، بزيادة الكمائن والهجمات على مخازن حلفاء الافرنسيين الاستعماريين. ووقعت في هذا الشهر (نيسان - أبريل) حوادث تدميرية هامة في مدينة الجزائر، حيث دمر فدائيو المقاومة السرية معامل (باسطوس) للسجائر، ومصنعا للفلين. جابهت الادارة الاستعمارية في الجزائر، والقوات الافرنسية المسلحة، ثورة شعب الجزائري بأساليبها التقليدية التي طالما مارستها منذ أن وطئت قواتها أرض الجزائر. ولقد صرح رئيس بلدية الجزائر، وكاتب الدولة السابق للقوات المسلحة (جاك شوفالييه) بقوله: (إننا لن نحارب بوسائل عادلة ضد - الخارجين على القانون - إننا نحاربهم وفقا لقانون الثأر، إنه الدفاع الشرعي من أجل مصلحة البلاد).

وهكذا، وانتقاما من هجمات الثوار الجريئة في شهر أيار - مايو -وبداية شهر حزيران - يونيو - 1955، قام سلاحا الطيران والبحرية وفرق المغاوير والمظليين بعمل ثأري، فدروا القرى العربية المحيطة بمدينة (سكيكدة) الساحلية ومحوها وسكانها من الوجود، وأصبحت هذه القرى أثرا بعد عين. وفي أواخر شهر تموز - يوليو - وافقت الجمعية الوطنية الافرنسية على تمديد العمل (بقانون الطوارىء) بأغلبية (382) صوتا ضد (233) صوتا لمدة ستة أشهر. وقد أعلن النائب الافرنسي (لويس فالون) الهدف من فرض قانون الطوارىء بقوله: (إنني أؤكد بأن طلب الحكومة القاضي بتجديد - حالة الطوارىء - هو اعتراف ظاهر بفشل سياستها المبنية على القمع والاضطهاد، وليس على الكفاح ضد الأسباب الحقيقية للثورة). وانطلاقا من هذه الحقيقة وقعت مذبحة (سكيكدة) التي يمكن تلخيص مأساتها بالتالي: قامت قوات الثورة بمهاجة (سكيكدة) في العشرين من شهر آب - اغطس - وحاصرتها حصارا محكما، واشتبكت في معارك ضارية مع حامية المطار الحربي فيها، وقتل خلال هذه المعارك (60) جنديا فرنسيا. وعلى أثر هذا الهجوم الصاعق، قامت القوات الاستعمارية بعدوان انتقامي من سكان (الحي العربي) في المدينة والقرى المحيطة بها. وبما أن الرجال كانوا قد غادروا منازلهم والتحقوا بجيش التحرير، فقد وقعت أعباء المذبحة الرهيبة على النساء والأطفال والشيوخ العجز. واعترفت السلطات الإفرنسية بمقتل النساء والأطفال، وجاء في هذا الاعتراف: (بأن قتل النساء والأطفال كان نتيجة اشتراكهم في المعارك الحربية). ولكن المعارك حدثت يوم

تلاحم قوى الشعب في المعركة - الفلاح والجندي يتبادلان العون والدعم

هجوم الوطنيين على سكيكدة - أي السبت 20 آب - أغطس - في حين وقعت مذبحة النساء والأطفال يوم الثلاثاء 23 آب - أغسطس - وعلى هذا فإن اعتراف المسؤولين الافرنسيين لم يكن إلا ستارا لتمويه الحقائق وإخفاء الجرائم الوحشية. وقد نقلت الصحيفة الافرنسية (لومند) صورة عن هذه المذبحة، بالكلمات التالية: (إنني أكرر ما شاهدت، فقد رأيت كلبا مشدودا الى وتد، جعل يزأر حين شاهدنا، وآخر ينبح من الجهة الأخرى للطريق، ورأيت دجاجا ينقر بين الجثث بكل هدوء ... لقد ميزت بين الضحايا بكل سهولة كثيرا من الأطفال الذين لم يبلغوا العاشرة من عمرهم؛ كما أنني لا أذكر أن شاهدت رجالا كهولا بينهم. وإنني أرى جيدا لأعطي بعض الأمثلة: فتاة جاتية على ركبتيها، ورأسها بين يديها ... وأرى شيخا ومجموعة مكونة من ثلاث نسوة، لم يزلن يحملن أطفالهن بين أيديهن، أما بقية السكان، فإنهم عبارة عن جثث هامدة مبعثرة بين الأكواخ ... الحقيقة أنه لم تكن تنبعث أية رائحة من هذه المنطقة مما يبعث على الدهشة إذا صح أن المجزرة حدثت يوم السبت، أي يوم المعركة، ولقد تحققت كذلك أن الدماء المتجدة لم تزل حمراء ... لقد كانت الفوضى عامة، مما يفسر بأن الأهالي كانوا يفرون في كل اتجاه أثناء المذبحة ... وبإمكاني التأكيد: بأنه إذا لم تكن المذبحة قد حدثت صباح الثلاثاء كما تبين لي من كل شيء، فإنه ليس من المعقول أن تكون قد حدثت يوم السبت). كانت مذبحة وحشية، أكدت للحزائريين مرة أخرى - بعد الألفين - طبيعة الاستعمار الافرنسي، وما تميز به من القسوة والتطرف، وبرهنت من جديد أيضا للجزائريين المسلمين أن الطريق

الوحيد لبناء مستقبلهم هو طريق طرد الاستعمار الصليبي الافرنسي مرة واحدة وإلى الأبد، مهما بلغ حجم التضحيات. وعلى هذا فقد زادت المأساة من تصميم المجاهدين على تطوير الجهاد؛ فقامت قوات جيش التحرير بحصار مدينتي (سكيكدة) و (كولو) وقطعت عنهما سبل الاتصال بداخل القطر، وحرمتها من الماء والكهرباء. واستحال الساحل القسنطيني إلى جحيم لا يطاق، لا سيما بعد تدخل الاسطول الإفرنسي في العركة، مما حمل المسلمين في المدن الى الفرار بأنفسهم نحو قواعد الثورة للخلاص من الارهاب الاستعماري. ولم تلبث قوات جيش التحرير أن انسحبت تنفيذا لخططها الحربية، وعادت لممارسة عملياتها الصغرى في نطاق - الاغارات والكمائن -. وما كادت الحالة تهدء نسبيا في عمالة (ولاية) (قسنطينة) حتى اشتدت في مدينة وهران. كما برزت قوات جيش التحرير بصورة مباغتة في دائرة (تلمسان) والتحمت بالقوات الافرنسية التي كانت مركزة جهدها على الساحل القسنطيني، والتي لم تكن تتوقع وجود مثل هذا العدد من الثوار في (تلمسان). وأسفرت المعارك عن انتصار قوات الثورة انتصارا رائعا، أرغم الافرنسيين على التقوقع في ثكناتهم ومعسكراتهم.

انطلاقة الثورة في كتابة قائد فرنسي

5 - انطلاقة الثورة في كتابة قائد فرنسي الجنرال (بوفر) من الضباط الاستعماريين المعروفين، اشترك في حملة السويس، وكان في سنة 1956 قائدا لمنطقة قسنطينة، وقد انصرف بعد تقاعده للكتابة العسكرية، وقد جاء في كتابه (الحروب الثورية - فصل الحرب الثورية المعاصرة في البلدان الاسلامية - الحرب الجزائرية -) ما يلي: (تعطي الحرب الجزائرية مثلا هاما بصورة خاصة، لأنها نجمت عن موقف متطرف: ففي بداية الأمر لم يكن الثورويون سوى حفنة من الرجال، ليس بحوزتهم سوى وسائط مضحكة. وجابهوا فرنسا التي كانت تبدو قوتها في تلك الفترة قوة ساحقة. وبالاضافة الى هذا، كان الشعب الجزائري بالرغم من خيبات أمله المتعددة، لم ينضج بعد للثورة (؟) ورغم هذا، فقد قرر الثوار التاريخيون، للجنة الثورية للوحدة والعمل، الذين شجعتهم هزيمة - الافرنسيين - في ديان بيان - فو، والنتائج التي حققها العصيان التونسي (الاستقلال الذاتي الداخلي) بالانتقال الى العمل. وكانت فكرتهم في هذا الوقت هي إيقاظ الجماهير الجزائرية من غفوتها بتظاهرة عنيفة، تثبت إرادة الاستقلال لدى الشعب الجزائري , وكانت هذه التظاهرة قد صممت

بصورة رائعة، لأنها استهدفت الروعة في إثارة الخيالات والتصورات، وبالإضافة إلى هذا، رسمت اللجنة الثورية للوحدة والعمل، منذ البداية، خطا سياسيا واضحا جدا استهدف في الوقت ذاته الاعتماد على التقاليد الاسلامية - منع شرب الخمر والتدخين -ومارست إرهابا شديدا كمم بسرعة كبيرة أفواه الشعب أمام السلطات الافرنسية (قطع الانف - اغتيال عملاء الادارة الافرنسية من المسلمين - الذبح أمام شهود (¬1) وتجنبت اللجنة بذكاء حاد كل مجابهة مباشرة مع القطعات الافرنسية - باستثناء اللجوء الى الكمائن والاغتيالات على مختلف أشكالها. كان من حظ الثوار - التاريخيين - في هذا الوقت أنهم هاجوا عملاقا ذا قدمين من صلصال: فقد كانت الادارة الإفرنسية في الجزائر متكلسة، متصلبة، وغير كافية للاشراف الكامل على البلاد. وبالإضافة الى هذا، شلت مجموعة القوانين الشرعية - التي تعتبر ¬

_ (¬1) جدير بالذكر أن قيادة منظمة التحرير، وقيادة جيش التحرير، لم تلبثا أن حرمتا (الذبح أمام شهود) بسبب تناقضه مع الشريعة الاسلامية. أما في موضوع الارهاب -المشار إليه - فقد كان هو الوسيلة الوحيدة لمجابهة الارهاب الاستعماري، وحماية الثورة ورجالها. ويذكر أبناء ثورة الجزائر، أن هذا الارهاب قد وجه بصورة محدودة ضد الخونة المتعاونين مع الادارة الاستعمارية (من المعمرين). وقد حفظت وثائق الثورة الجزائرية نماذج كثيرة وطرائق مختلفة لتنفيذ هذه العمليات في الجزائر - وفي فرنسا ذاتها - ومنها على سبيل المثال: توجيه بطاقات إنذارية تحمل رسوما معينة (جمجمة) مع تحديد وقت التنفيذ. وكاب هذا التنفيد يتم في موعده مهما كانت الظروف. ومن ذلك القصة المعروفة بلجوء أحد العملاء الى الادارة الافرنسية طالبا حمايتها عندما تلقى الانذار بإصدار حكم الثورة عليه بالاعدام. وكان أن أودعته السلطات الافرنسية السجن لحمايته. وتقدم رجل آخر - جزائري - يحمل الشارة ذاتها، فأودعته السلطات الافرنسية السجن الى جوار من سبقه. ومضت فترة الانذار، وفتح باب السجن، وخرج الجزائري المهدد. وتفقدت السلطة الرجل الآخر، فوجدته مقتولا، وعرفت أن المنفذ هو الرجل الآخر.

الجزائر فرنسية وتطبق فيها القوانين الافرنسية لزمن السلم - عمليا كل قمع فوري للثوار. وعلى سبيل المثال: فقد كانت القوانين المطبقة في عام 1945 في قسنطينة، مختلفة كل الاختلاف عن القوانين الموجودة في المنطقة ذاتها في سنة 1954. ففي عام 1945، كانت الأحكام العرفية والمحاكم العسكرية العرفية قائمة. وفي عام 1954 كان استخدام القطعات مرتبطا بالسلطة المدنية، وكان على قوات الدرك - الجندرمة - أن تحقق في كل المعارك مع محضر ضبط وشهود. وهكذا جنت فرنسا على نفسها بالقوانين التي وضعتها (¬1). وفضلا عن هذا، كانت الوسائط العسكرية الافرنسية في الجزائر مثيرة للضحك (49) ألف رجل أكثر من نصفهم من الجزائريين. ولهذا السبب، وبسبب وجود رجال في السلطة (مثل ميتران في الداخلية، وليونارد في حكومة عموم الجزائر، والجنرال شيريير. في الفيلق التاسع عشر التابع للجزائر العاصمة، والجنرال سبيلمان في فرقة قسنطينة) كانت عملية القمع الأولية تدعو ال الهزء والسخرية، بالرغم من ضربة ناجحة وجهها العقيد دوكورنو للثوار في الاوراس. وأضاعت فرنسا فرصة وحيدة كان بالمستطاع استغلالها لتخنق في المهد، تلك الثورة التي قام بها بضع مئات من الرجال، في الوقت ¬

_ (¬1) هذه الذرائعية للدفاع عن أسباب فشل خنق الثورة غير صحيحة وغير دقيقة تماما، فلقد برهنت مسيرة، الأحداث على تحرك فرنسا الفوري، واستخدام كل وسائل القوة المتوافرة والتي كانت أكبر بكثير من قدرة الثوار عند انطلاقهم بثورتهم. فلم تكن فرنسا هي الضعيفة في هذا الموقف، وإنما كان الثوار هم الأقوياء. وكذلك الأمر بالنسبة لمقولة بوفر - من أن الشعب الجزائري كان مرتبطا بفرنسا. ولو كان الأمر كذلك؛ لما قامت الثورة أصلا، ولما حققت ما أنجزته من الانتصارات.

الذي كان فيه الشعب الجزائري بكامله مرتبطا الى حد كبير بفرنسا (؟). ونحصل هنا على أحد أكثر الدروس وضوحا في هذه التجربة: في الوضع الحالي، لا تكون الثورة معرضة للخنق والخطر إلا في مرحلة قيامها. ولكن للإفادة من حساسية الثورة، واحتمال تعرضها للخطر والخنق في بدايتها، ينبغي أن تتمكن قوى الأمن من الحصول فورا على الوسائل المادية والشرعية الضرورية لعملية القمع. ولم يكن هذا هو الحال ضمن إطار التشريع الافرنسي في ذلك الوقت، والذي شل مرارا، بنوايا جديرة بالثناء، ولكنها نوايا ساذجة. شرع الثوار الجزائريون، بعد أن نجحوا في الظهرر بشكل بارز على المسرح بتوسيع بقعة الزيت التي شكلها مناخ عدم الأمن، وهم يملكون إحساسا صائبا جدا بالاستراتيجية الملائمة لثورتهم، وكان قطبا الاضطراب هما قلعتا البربر: الاوراس ومنطقة القبائل. ومن الاوراس انتقلت الثورة تدريجيا حتى شملت قسنطينة كلها، في حين نشرت القبائل نفوذها على محافظة الجزائر والجزائر العاصمة. وإزاء هذا الموقف الذي كان يتفاقم يوما بعد يوم، قامت حكومة (ادارفرر، بإرسال (سوستيل) الى الجزائر في شباط - فبراير - 1955 كحاكم عام. ويعتبر سوستيل رجلا ليبيراليا كان يأمل أن يستطيع تطبيق سياسة إصلاحية، وفي انتظار قيامه بهذه الاصلاحات طلب نجدات من العاصمة - باريس - فارتفع عدد القوات الافرنسية في الجزائر الى (83) ألف رجل. في غضون ذلك، وفي تموز - يوليو - وجدت منظمة التحرير الوطني نفسها قوية بدرجة كافية لشن عصيان شامل في كل محافظة قسنطينة. وكان هذا العصيان لهيبا من المذابح الشرسة،

نجم عنها إحجام (سوستيل) عن اللجوء الى التسويات التي كان يفكر فيها. فتشددت فرنسا في موقفها، وأرسلت نجدات جديدة من فرنسا والهند الصينية الى الجزائر، واحتلت محافظة قسنطينة بالقوة. غير أن حمى الثورة انتقلت الى وهران، وعم الفساد محافظة الجزائر، واستشرت الفوضى بصورة عامة.

عقبات على طريق الثورة

6 - عقبات على طريق الثورة أطلق الثوار التاريخيون شرارة الثورة بالهجوم على أكثر من ثلاثين موقعا في مختلف أنحاء الجزائر ثم أخذ الثوار بالانسحاب، إلى قواعدهم الحصينة في جبال الاوراس. وتلقت القوات الافرنسية دعما عسكريا لمتابعة الأعمال التي أطلقت عليها اسم (إجراءات الأمن) أو (تدابير التهدئة)، وانطلق (الجنرال جيل) بعمليات التطهير، التي تم خلالها اعتقال أكثر من ألفي جزائري. وفي هذا الشهر ذاته - الأول من قيام الثورة - أطلق الجنرال جيل على المجاهدين اسم (الفلاق) كما أطلق هذا الاسم ذاته على عملياته الحربية. وفي الشهر الثاني من قيام الثورة، قامت القوات الافرنسية بعملياتها في قلعتي الثورة: الأوراس ومنطقة القبائل. وأعلن المستوطنون الاوربيون سخطهم على الحكومة ومعارضتهم لسياستها - المتهاونة على حد زعمهم - ولكن الادارة الاستعمارية كانت ماضية في تطوير أعمال القتال، وزيادة حجم الاعتقالات، لا سيما بعد أن عملت على حل (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) بالرغم من إعلان السيد قاره، وابن جلول، نائب قسنطينة، معارضتهم لفكرة استقلال الجزائر التي طرحتها الثورة.

ويظهر ذلك أن طريق الثورة لم يكن ممهدا، فقد كانت هناك عقبات كثيرة - داخلية وخارجية - تعترض مسيرة الثوار الذين مضوا بعزيمة لا تفتر، وإرادة لا تلين على تذليل تلك العقبات، واحدة بعد أخرى، حتى استقام درب الثورة، وتلاحم الشعب مع ثورته. كانت المشكلة الأولى بالنسبة للثورة خلال مرحلة انطلاقها، هي: مشكلة التنظيم والتجهيز، فبعد الهجمات الأولى، أقام جيش التحرير قواعده في الكهوف والمغاور الجبلية في قبيلة والأوراس وشمال قسنطينة، وهي أماكن رائعة ممتازة، تصلح لحرب العصابات، وركز الافرنسيون هجومهم المضاد في الأوراس، حيث استخدموا الطائرات والدبابات، وعملوا على عزل جيش الثورة عن المواطنين بواسطة (تجميع القرى الموالية لهم) و (إبادة القرى الأخرى التي يشكون بولائها لهم). وكان يتولى قيادة جيش التحرير في الأوراس قائدان ممتازان هما مصطفى بن بولعيد وبشير شيحاني، وكانت المنطقة التي يعملان فيها جبلية وعرة المسالك تقيم فيها عدة قبائل من البربر، أدى اختلافها العنيف في ولائها للأجانب، أو معارضتها لهم الى جعل الجهود المشترك أمرا صعبا للغاية. وبعد استشهاد عدد من القادة العسكريين المحليين على التعاقب، وخلال فترة قصيرة، لم يعد من السهل على قائد واحد أن يتولى السلطة الكاملة (وقد استمر ذلك حتى سنة 1957). ولكن على الرغم من ضعف التنسيق الداخلي، في هذه المنطقة، فقد ظل عدد أفراد جيش التحرير في ارتفاع مستمر. أما المجاهدون في منطقة قبيلة، فقد نموا بصورة أكثر تدرجا وبطئا. وكانوا تحت إشراف قادة أكفاء أيضا، من أمثال: كريم بلقاسم ورمضان عبانة وعمارنة وناصر. وركز المجاهدون جهدهم، بعد

الهجمات الاولى، على إزالة الخونة، وهي مهمة استغرقت منهم تسعة أشهر على أقل تقدير. أما في شمال قسنطينة، فقد تمكن يوسف زيروت - وهو من القادة الأكفاء بدوره - من تنظيم الحدود الجزائرية - التونسية بنجاح، وسرعان ما حقق الاتصال مع البعثة الخارجية لتأمين الأسلحة للثورة. ولم يتأثر الثائرون في الولايات الثلاث تأثرا خطيرا من حل (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) ومن اعتقال عدد كبير من القادة الوطنيين. ذلك أن عمليات الانتقام العمياء التي مارستها القوات الافرنسية، وإبادة القرى، قد أسهمت في توسيع صفوف الثورة، وتطوير جيوشها. وبذلك تكون فرنسا قد خدمت قضية الثورة على غير إرادة منها، وخلافا لما كانت تريده. كانت المشكلة الحادة الثانية، هي مشكلة الحصول على السلاح ووسائط القتال. فقد وجدت الثورة نفسها وهي تجابه القوات الافرنسية المتفوقة، وليس لديها إلا القليل من السلاح، الأمر الذي كثيرا ما دفع الثائرين الى اقتحام المخاطر، ومهاجمة المواقع العسكرية الافرنسية، للحصول على السلاح فقط. وكثيرا ما كانت مثل هذه العمليات ترتدي طابع المغامرة الخطرة وغير المأمونة. وهكذا، لم تمض أكثر من أشهر ثلاثة على بداية الثورة، حتى أصبح مجاهدو الأوراس بدون عتاد تقريبا, فمضى العقيد مصطفى بن بولعيد في مهمة للحصول على بعض العتاد، عندما اعتقل على الحدود الليبية. وأدت مشكلة النقص في الذخائر والاعتدة الى ظهور بعض الخلافات - وحتى الحزازات. بين المجاهدين فوق أرض المعركة من جهة، وبين رفاقهم من أعضاء البعثة الخارجية (وزال هذا السخط بصورة طبيعة في سنة 1957 عندما تمكن القادة في الخارج من شحن كميات ضخمة من

السلاح والعتاد الى الثورة). كانت المشكلة الاستراتيجية الأساسية التي واجهتها الثورة في الأشهر الأولى، هي توسيع نطاق الثورة من الجبال الواقعة في شرق الجزائر إلى سهول قسنطينة وغيرها. وكان من الضروري، والملح جدا، توسيع هذا النطاق، لا سيما وأن المفاوضات الطويلة بين تونس وفرنسا حول الحكم الذاتي المحدود، كانت قد وصلت الى نهايتها. ووقف الجزائريون، الذين كانوا يعتمدون الى حد كبير على مرور الأسلحة والرجال اليهم عبر تونس، الى جانب زعيم حزب الدستور التونسي الجديد، صالح بن يوسف، في معارضته لسياسة الحبيب بورقيبة الرامية الى - الاستقلال على مراحل -. ولكن بعد توقيع اتفاقية الحكم الذاتي التونسي، ومحاكمة صالح بن يوسف وصدور الحكم يإعدامه، أعادت جبهة التحرير الوطني الجزائري تقويم مواقفها السياسية، وأخذت في التعاون مع - بورقيبة - في قضية نقل الأسلحة والعتاد، وفي المهام الدبلوماسية. ولكن عددا كبيرا من زعماء الجبهة آنذاك، كان يؤثر لو استمر التونسيون في القتال، إلى أن تنال كل من تونس والجزائر استقلالهما الكامل. ... تلك هي السطور الأولى في الملحمة الرائعة لثورة شعب الجزائر المجاهد. وهي سطور تقصر عن وصف المعاناة التي عرضت لها الثورة في أيامها الأولى. وتبقى القصة المثيرة في ملحمة الثورة هي تلك التي نسج الثوار خيوطها، بجرأتهم وإقدامهم، ببطولتهم وإيمانهم، بمعاناتهم وتضحياتهم. هناك، فوق ميادين الجهاد، حيث تختلط كل المشاعر الإنساسية لتتفجر عن إبداع تفجر الحياة ذاتها عن

إبراز كل معالمه وأبعاده. هناك فوق ميادين الجهاد، حيث تنصهر كل الانفعالات في بوتقة واحدة، بوتقة الإيمان والحب، الإيمان بالله، والحب للوطن وأهل الوطن.

الثورة في وثائق ثوارها

7 - الثورة في وثائق ثوارها أ - الإعداد للثورة (لقد بدأ تاريخنا بتفجير الثورة في خنشلة) هذا ما قاله أحد الأبطال ممن عايشوا مرحلة مخاض الثورة، وشاركوا في تفجيرها (1) ولكن الوصول الى هذه البداية، بداية الثورة - يتطلب العودة لاسقراء ملامح تلك المراحل المختلفة للأنشطة الوطنية التي قامت بها مجموعة من الطلاب الشباب الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية إيقاط الوعي الوطني، بعد ما أدركوه من الأعباء المرهقة التي تلقي بكل ثقلها على الحياة اليومية للشعب الجزائري، والمواطن الجزائري، وقد بدأت مسيرة الأحداث بالتحرك، عندما قامت خلية من الطلاب المجاهدين فأمسكت زمام المبادأة، وأخذت في توجيه الأحداث من خلال الإمساك بقيادة الحزب، لا سيما بعد أن تمت إقالة عدد من المسؤولين فيه. ومن ثم اتخاذ الموقف الحيادي، وانتهاج سياسة استقلالية بعد تمزق (الهيئة الثورية للوحدة والعمل) تحت ضربات الاستعماريين. (1) REF: RECITS DE FEU (SNED ALGER) P.P. 1 29 وكاتب البحث هو (سالم بوباكور) وهو من قدامى المجاهدين في حركة انتصار الحريات الديموقراطية، ثم في التنظيم السري (للحركة الثورية للوحدة والعمل) وقد اشترك الباحث في مرحلة الإعداد للثورة وفي تنفيذ عملياتها، وهو هنا يعرض تفجير الثورة في (خنشلة) بصورتها الواقعية.

وأخيرا، مرحلة الإعداد لثورة الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954. والعمل على تفجيرها. وقد تم ذلك في (خنشلة) على الرغم من كل العوائق التي لم يكن أقلها - على سبيل المثال - عدم توافر أكثر من سبع قطع أسلحة في أيدي المنفذين، بينما كان من المقرر وفقا للمخطط الأساسي الذي أشرف على وضعه (مصطفى بن بولعيد) تأمين ما لا يقل عن أربعين قطعة سلاح وإشراكها في المعركة. لقد بدأت القصة على كل حال - إلى عام 1950 - حيث تم الاتصال بالوطنيين في خنشلة، وكان هؤلاء يثقون ثقة مطلقة بضرورة وجود - حزب وطني ثوري منظم - يتولى قيادة الصراع المسلح من أجل استقلال الجزائر. وكان مناخ هؤلاء الشبيبة كافيا لإثارة الحماسة في أوساط الطلاب وتنظيمهم وإعدادهم للعمل الذي سيفجر في الليلة التاريخية. وكان يتم ضم المتطوع بصفة (مجاهد عادي) حتى إذا ما برهن على كفاءته، أصبح مسؤولا عن إحدى الخلايا. وكانت الخلية تضم المجاهدين من مختلف الفئات الاجتماعية للشعب، وأولهم بدهيا فئة الفقراء البائسين. وكان المبدأ الثابت هو: (أن خدمة الوطن ليست حكرا لأحد). وتعرف المجاهدون الشباب من خلال تنظيمهم على تاريخ الجزائر. وجهاد الشعب الجزانري ضد الاستعماريين، وهو الجهاد الذي لا بد من استمراره حتى يستعيد الوطن حريته، وحتى يتم له استقلاله. وكان هؤلاء الطلاب الشبيبة يترجمون عقيدة الحزب بالحماسة للقضية الوطنية، وبالإرادة الطوعية للعمل، وكذلك بالانضباط الذاتي واحترام التوجيهات العامة للقيادة. وقد ساعد التكون السياسي للحزب على تغيير مفاهيم هؤلاء الشباب ومواقفهم تغييرا تاما. وظهر هذا التغيير في علاقات الشبيبة

بعضهم ببعض وعلاقتهم مع جماهير الشعب. فبالأمس القريب، كان هؤلاء الشبيبة يعيشون حياة اللامبالاة في عالم غامض مضطرب، يحيط بهم الفراغ السياسي، ويخيفهم غياب القيادة التي ترى الأمور بوضوح تام. وها هم بعد أن انضموا لتنظيم الحزب وهم يعرفون أهدافهم، ولديهم الاستعداد للتضحية بحياتهم من أجل حياة وطنهم، ويعيشون حياة التضامن، ويشعرون بالأخوة الحقيقية لكل إنسان جزائري. ولم يعد الجهاد بالنسبة لهم مجرد شعار يرفعونه. لقد أصبح مضمون الجهاد يفرض عليهم العمل الدؤوب والجهاد، ومناقشة المواقف السياسية بعقلية متحررة، من أجل تحويل النظرية الى ممارسة عملية. وأصبح كل فرد من الطلاب، على الرغم من حداثة سنه وصغر عمره الزمني، وهو يتمتع بقدر كاف من النضج الذي يمكنه من تحمل المسؤولية، واكتشاف الحقائق السياسية والاجتماعية التي تتطلبها بلاده: (لقد أصبح حب الجزائر هو كل شيء في حياة هؤلاء الشبيبة). انحصرمت أنشطة الشبيبة في الحزب طوال الفترة ما بين العام 1950 والعام 1954 بالأعمال الرتيبة - الروتينية- والتي كانت تمارسها كل الأحزاب السياسية، ومنها: تنظيم الخلايا والاجتماعات، وإجراء المقابلات، وخوض المعارك الخطابية، وبيع الصحف والنشرات التي يضعها الحزب، وجمع الاشتراكات، ووضع البيانات التي تتضمن الشعارات المعادية للاستعمار، وكتابة الشعارات الوطنية على الجدران، والتركيز بصورة خاصة على ما يضمن للناس التعاطف مع أهداف الحزب، من خلال شرح المذكرة الشهيرة التي قدمتها (حركة انتصار الحريات والديموقراطية) إلى

مجلس الأمن، والتي تطالب بإقامة دولة جزائرية تعمل في إطار الحياد الإيجابي بين الدولتين العظميين: الامبريالية والاشتراكية. وأخيرا، البحث عن الوسائل لدعم الروابط مع الكتلة العربية - الإسلامية، وتحقيق اتحاد دول المغرب العربي. الإسلامي (شمال أفريقيا). ولم يكن باستطاعة الحزب وهو يمارس هذه الفعاليات كلها المحافظة على سرية تنظيمه. وخلال هذه الفترة، وبنتيجة عملية تزوير الانتخابات، أصبحت كل التنظيمات الحزبية مكشوفة، مما جعلها عرضة لضربات الإدارة الافرنسية. ولم يحدث أن بدأت بعض الحركات الوطنية بالتنظيم السري، إلا بعد عمليات الاعتقال الجماعي للمناضلين، في إثر المؤامرة الإفرنسية ضد حركة (انتصار الحريات الديموقراطية) في نيسان - أبريل - سنة 1950، وما أعقب ذلك من عمليات انتقامية ضد مواطني الأوراس ومواطني سيدي علي بونبي ونيدورما وماغنيا. لا سيما وقد أصبح أعضاء الحزب دريئة لسهام السلطة، مما دفع الكثيرين للانسحاب منه، وهكذا أخذ الحزب في الانتقال إلى العمل - نصف السري - مع إعادة تنظيم الخلايا بسبب انسحاب بعض المسؤولين القدامى في الحزب. ووجدبت هيئة الحزب في (قسما) أنها باتت مكونة من خمسة أعضاء يمثلون (حركة انتصار الحريات الديموقراطية)، وأصبح لزاما على هؤلاء عقد اجتماعاتهم الدورية - كل أسبوعين - في مكان سري، وبقي الأمر كذلك حتى شهر آذار - مارس - 1954. حيث تم الانفصال عن حركة انتصار الحريات الديمويراطية. فاتخذت مجموعة (قسما) التابعة لمركز (خنشلة) موقف الحياد الايجابي والمستقل عن الكتلتين الأساسيتين

المتصارعتين على مستوى القمة، واللتين كانت إحداهما رفع شعار (اللجنة المركزية) والثانية ترفع شعار (التكتل - خلف مصالي الحاج). وكان الهدف من اتخاذ موقف الحياد برئاسة (عباس لغرور) وتوجيه (بشير شيحاني) هو محاولة توحيد كل القوى في أوساط الحزب ودعمه وتجديده. لقد كان هذا الحزب الوطني الجزائري، هو أقرب الأحزاب لتطلعات كتلة الجماهير الشعبية، وهو أملها الوحيد، وقد جاءت هذه الأزمة الداخلية مناسبة لبعض أعضاء الحزب - الذين أتعبهم النضال - فقرروا الإعلان عن انسحابهم من دائرة الصراع، وتخليهم عن النضال المضاد للاستعمار. ورافق ذلك حالة من اليأس - من انتصار القضية - علاوة على ما كان يثيره الغموض في الموقف السياسي، والاتجاه الخاطىء الذي أثاره تحلل الحزب الوطني، وهو الذي بقي طويلا في طليعة الأحزاب الوطنية حماسة واندفاعا في مجال العمل لاسترجاع الحقوق الوطنية. وظهر بأن الآمال كلها قد ضاعت وتمزقت يوم قررت حفنة من المجاهدين متابعة الصراع حتى تحقيق النصر النهائي. ويعني ذلك - انتزاع الاستقلال باللجوء إلى وسيلة الصراع المسلح، واستخدام العنف المباشر، وإحياء لهيب الثورة التي بدأت جذوتها بالخمود في نفس المناضلين - فتم طرح فكرة (الثورة الشاملة) باعتبارها المخرج الوحيد لتحرير الجزائر. وكانت هذه الحفنة من الرجال تمتلك إيمانا راسخا لا يتزعزع، وخلقا كريما، واستعدادا للتضحية بكل شيء من أجل قضية الوطن .

عقدت جماعة التكتل (خلف مصالي الحاج) مؤتمرا لها في 10 تموز - يوليو- 1954 بمدينة (هورنو) ببلجيكا، ومثل (خنشلة) في هذا الاجتماع - الحاج عبد الله مراد - وفي 15 - آب أغسطس - 1954 عقدت جماعة (اللجة المركزية) مؤتمرا لها في مدينة الجزائر، اشترك فيه عن خنشلة كل من (لغرور وشيحاني) بصفتهما مراقبين، لا يحق لهما الاشتراك في المناقشات، نظرا لما هو معروف من مواقفهما الموصوفة (بالثورة المتطرفة). وكانت فائدة المؤتمرين كبيرة من حيث نتائجهما التي دعمت مبدأ ضرورة الانتقال مباشرة للعمل العسكري، وأصبح هذا الانتقال هو الفكرة المهيمنة على تفكير معظم المجاهدين الذين خابت آمالهم نتيجة انقسام الحزب وتمزقه. والمهم هو أن هذا التمزق بقي محصورا على مستوى القيادات، أما قواعد الحزب فقد بقيت سليمة ومخلصة لفكرة الثورة ومبادئها، ولم تظهر أي نكوص أو تراجع عن خط الثورة. كما لم تظهر أي اهتمام بتلك الصراعات المحتدمة في القمة والتي كانت ذات صفة حزبية أو شخصية، أو من أجل النفوذ والسلطة على المستوى الداخلي للأحزاب. وقد انتهت تلك الصراعات بإكساب المجاهدين المزيد من التصميم والمزيد من التصلب في مواجهة ما كانت تظهره قيادة الكتلتين المتصارعتين من عناد وتصلب، وهما متجاهلتان ما كانت تطرحه العناصر النقية والطاهرة في الحزب من أن (حرب التحرير) قد باتت هي المخرج الوحيد لما أنزلته الكتلتان المتصارعتان بالحزب، فانحدرتا به الى المستنقع. وتابعت العناصر المخلصة طريقها وهي تطالب

بالحاح تكوين حركة ثوروية صلبة، لديها التصميم للانتقال الى العمل العسكري المباشر - طريق الثورة -. مرت الفترة من شهر آذار - مارس - الى حزيران - يونيو - من العام 1954، وخلايا المجاهدين في (خنشلة) تمارس نشاطها وسط مناخ من الشكوك، وترفض إجراء أي اتصال مع قيادة الكتلتين المتصارعتين. لقد كان عملها مركزا على قواعد الحزب، حيث وجهتها نحو شراء الأسلحة. وأثناء ذلك كان بعض المناضلين في المدن يصدمون بعضهم ببعض، ويتنافسون فيما بينهم، هؤلاء الذين يريدون بيع (صحيفة الجزائر الحرة) الصادرة عن جماعة التكتل، وأولئك الذين يريدون بيع (صحيفة الأمة الجزائرية) الصادرة عن جماعة اللجة المركزية. وكان الصراع بين الكتلتين كثيرا ما يعيق مشاريع (تنظيم خنشلة) خلال مرحلة الإعداد لانطلاقه الثورة، لا سيما في مجال تجنيد الرجال وتنظيم وشراء الأسلحة، إذ أن هذا الصراع كان يزيد من غموض الموقف في تفكير الجماهير، وكان من أهم نتائج الصراع بين الكتلتين، إحباط مخطط للحصول على أسلحة حربية من (نيميشا). وإجهاض محاولة للاتصال بالفرنسان الصبايحية - السباهيين - الجزائريين، الذين كانوا يتمركزون في (خنشلة). وكان المخطط يعتمد على اشتراك هؤلاء الفرسان في اليوم الأول لانطلاقه الثورة (يوم - ي) والقيام بالعمل من داخل الثكنة العسكرية. وعلاوة على ذلك كله، فقد اضطر عدد من المجاهدين - بسبب انقسام الحزب الى كتلتيين متصارعتيين - الى الخروج من دائرة الظل، ومغادرة مواقع العمل السري، لتنظيم

(اللجنة الثورية للوحدة والعمل). وكان هؤلاء من المغمورين الذين لم تتردد أسماؤهم على ألسنة الجماهير. وقد حرصوا على تنظيم حركتهم الجديدة في إطار من السرية المطلقة. وضموا إليهم كل الأنصار المؤمنين بقضية (الصراع المسلح) سواء كان هؤلاء من العناصر القديمة في التنظيم السري (المنظمة الخاصة أو الشرف العسكري) أو كانوا من المجاهدين الحياديين في الكتلتين المتصارعتين. وقرروا الانتقال الى العمل العسكري في أقرب فرصة ممكنة. كما قرروا أن تتبع عملية تفجير الثورة نشر المجموعات المسلحة في كل الأقاليم لتنفيذ الأعمال الثورية. وفي يوم 24 حزيران - يونيو - 1954؛ كان (عباس لغرور) يتصل بالمجاهدين في (خنشلة) واحدا بعد واحد، ليطلعهم على تطورات الموقف. ويذكر المجاهد (سالم بوبكر) ما حدث له في ذلك اليوم بالكلمات التالية: (... دخلت على عباس لغرور، وكان أول ما أثار انتباهي هو عدم وجود صورة مصالي الحاج في المكان الذي كانت تتصدره. ولاحظ عباس لغرور دهشتي فقال لي مبادرا: لقد حطمتها، ودمرت صاحبها لأنه خان القضية، يجب علينا نسيان الحزب القديم الذي لم يثمر غير الروتين. إن الجزائر لن تصل الى استقلالها بتلك الأساليب البيروقراطية والبرامج الاصلاحية، فكيف لنا خوض الصراع على جبهتين؟ .. هل عن طريق الشرعية - الافرنسية - أم عن طريق لعبة البيانات الخطابية، أم عن طريق العمل السري للثورة؟ ... إنه أمر من المحال تحقيقه، يجب اللجوء الى خيار وحيد للعمل. لقد أصبح الضعف

في حزبنا واضحا كل الوضوح. وجاءت الأزمة الأخيرة لتمزقه ثمزقا تاما. يجب الخروج من أزمة الانقسام الى العمل المباشر) ثم كشف لي النقاب عن وجود مجموعة ثورية تعالج قضية البدء قريبا بالصراع المسلح في الجزائر. وفي نهاية المقابلة قال لي: ها نحن يا أخي العزيز سنبدأ بالعمل المباشر. وواجبك هو أن تكون في عداد التنظيم الجديد الذي سيوجه ضربته الى العدو. وسيفرض وحدة شعب الجزائر من خلال شعار الاستقلال، وهو ما نعمل لتحقيقه منذ سنوات. ثم طلب إلي (عباس لغرور) أن أقسم على القرآن الكريم بألا أخون الحزب، وأن أخدم أهدافه حتى آخر لحظة من حياتي. وبعد ذلك طلب إلي شراء قميص متين وبنطال وسترة من اللون الخاكي، وزوج من الأحذية المطاطية، ومصباح يدوي، مع الحصول على أكبر كمية ممكنة من أدوات وأدوية الاسعاف، والمواد الطبية والبقاء على اتصال دائم معه. نظمت (الهيئة الثورية للوحدة والعمل) قيادة (خنشلة) في نهاية شهر حزيران - يونيو - 1954 وضمت هذه القيادة أربعة أعضاء واجبهم الإعداد للهجوم على مواقع الإفرنسيين في مدينة (خنشلة) وألقيت مسؤولية هذا الهجوم على عاتق: (عباس لغرور وغزالي بن عبيس وصلاح أوغيد وسالم بوبكر). ومضت الفترة بين أوائل تموز - يوليو - ويوم 31 تشرين الأول - أكتوبر - في عمل مستمر، وجهد متواصل، لإجراء التدريب، وتطوير مخططات الهجوم على الأهداف الهامة في المدينة. وشراء الأسلحة والذخائر والألبسة العسكرية والتجهيزات الطبية والاجهزة اللاسلكية - الراديوات - وتنظيم وحدات الفدائيين - شبه العسكرية - وانتقاء

عناصر المنفذين من الموثوقين، والتدريب على استخدام المتفجرات، ووضع الصواعق المفجرة، وإلقاء المحاضرات النظرية عن قتال العصابات وأساليب الإغارات والكمائن، مع إعداد مراكز تجمع الثوار والملاجيء وتجهيزها بالمواد التموينية. وكانت الغابات هي المراكز المفضلة للاجتماعات، والتدريب على استخدام الأسلحة ورمي القنابل - حيث كان يتم استخدام الحجارة للتمرين نظرا لعدم توافر كمية من قنابل التمرين أو القنابل الحقيقية - وتم اختيار (النبع الدافىء) على بعد خمسة كيلومترات من (خنشله) في شهر أيلول - سبتمبر - 1954 للاجتماع والتدريب، عوضا عن (عين سيلين) وذلك بسبب وجود غابة كثيفة يغطيها السياج، وتكثر فيها الوهاد والوديان، فكانت بمميزاتها الطبيعية من أفضل الأمكنة للاجتماعات والتدريب وإجراء الرمي. وفي أعقاب التمرين الأول، قام (عباس لغرور) بتقديم الثوار المجاهدين الى (مصطفى بن بولعيد وبشير شيحاني) اللذين قدما للتفتيش في منطقة (خنشلة). ووقف (بن بولعيد) ليقول: (ستحمل الجزائر السلاح قريبا لخوض الصراع ضد فرنسا. من أجل انتزاع حقوقها، والتحرر من ربقة الاستعمار). ثم طلب إلى الثوار الحصول على أكبر كمية ممكنة من الأسلحة، لأن الساعة قد اقتربت، كما أصدر أوامره (باتخاذ أقصى أسباب الحذر، ومراعاة قواعد الأمن والسرية ضد عناصر الشرطة والمخبرين ورجال الادارة الاستعمارية، والامتناع عن أي اتصال ما بين المجموعات بصورة

مكشوفة أو بالطرائق العادية، واختيار العناصر الأكفاء الشجعان والعناية بهم)، ثم تولى الحديث بعد ذلك (بشير شيحاني) فشرح الوقائع التي هيمنت على المواقف السياسية للجزائر منذ احتلالها في سنة 1830، الى أن قال: (لم تحقق الوسائل السياسية العادية أي نتيجة إيجابية، وعلى الشعب الجزائري، وبعد أن استنزف كل إمكانات الصراع السياسي أن ينتقل الى العمل المباشر، وذلك بمهاجمة المراكز العسكرية، ومراكز الشرطة، وكل المنشآت العسكرية والادارية التي تتوافر فيها الأسلحة). لم يحدد (بشير شيحاني) في حديثه الى المجاهدين موعد البدء بالأعمال القتالية، ولم يحدد لهذه الأعمال أهدافها، أو تفاصيل تنفيذها، غير أن ما كان واضحا هو أنه يجب الانتهاء خلال أيام قليلة من وضع مخطط تفصيلي للهجوم على المدينة. وانصرفت الهيئة الثورية في (خنشلة) لوضع مخطط الهجوم وإعداد العناصر لتنفيذه، وجرى نقاش طويل بهذا الشأن، انتهى بالاتفاق على ما يلي: (1 - الإغارة على مركز الشرطة - كوميسير البوليس - 2 - مهاجمة المجمع المشترك - كومون ميكست - 3 - الإغارة على الثكنة العسكرية 4 - الإغارة على مركز الدرك - الجندرمة - 5 - تفجير المحولات الكهربائية التي تغذي المدينة بالطاقة، وتدميرها. 6 - قطع الخطوط الهاتفية التي تصل (خنشلة) بمدينتي (عين البيضاء) و (باتنة) لعزل المدينة عن كل اتصال خارجي) وبعد ذلك تم وضع لائحة تتضمن أسماء عناصر المنفذين الذين بلغ

عددهم 40 - رجلا (¬1) وصدرت بعد ذلك تعليمات صارمة بشأن طرائق التنفيذ، تضمنت ما يلي: (يجب العمل من اليوم الأول للثورة على احترام الأطفال والنساء والشيوخ من المدنيين، أن لا يكون عملنا ضربا من اليأس أو تعبيرا عنه، بل يجب أن يكون عملا واعيا وعقلانيا ومنظما. فقد تؤدي أقل خطوة خاطئة الى تدمير البناء الثوري الذي تم إنجازه بعد صبر طويل، وبجهود جبارة وتضحيات كبيرة) وقد تم الاعتماد - عند التخطيط - على إعطاء العمل بالدرجة الأولى شكل تظاهرة نفسية واسعة النطاق - قدر المستطاع - بهدف إثارة انتباه الجماهير والرأي العام الداخلي والدولي إلى قضية الجزائر، والتي هي قبل كل شيء قضية سياسية. عقد اجتماع نهائي في الجزائر - العاصمة - يومي 23 و24 تشرين الاول - اكتوبر - 1954، حدد فيه المؤتمرون وبصورة نهائية موعد انطلاقة الثورة (يوم - ي) ليكون في اليوم الأول من تشرين الثاني - نوفمبر - وقسمت البلاد إلى خمس مناطق عسكرية للعمليات، وهي: وهران والجزائر والقبائل وشمال قسنطينة والأوراس. وبقي أمر تنظيم المنطقة السادسة (منطقة الصحراء) مؤجلا الى ما بعد انطلاقة الثورة. غير أنه تم اختيار العضوين ¬

_ (¬1) قتل منهم عند التنفيذ 23 مجاهدا وبقي 17 على قيد الحياة، وتجدر الإشارة إلى أن قيادة الثورة في (خنشلة) استعانت ببعض العناصر من غير رجالها، ولكن من المتعاطفين مع الثورة. مثل (السائق مهناوي العياشي) الذي تم تكليفه بنقل وسائط الاتصال والامدادات بسيارته - الاجرة - فتم اعتقاله، ولم تفرج عنه فرنسا الا عندما تم استقلال البلاد، حيث خرج وهو يعاني من الشلل، نتيجة ما تعرض له من التعذيب في سجنه، علاوة على إصابته بأمراض مستعصية. فلم يعش نعمة الاستقلال طويلا بعد أن تم تحريره، وقضى نحبه .

اللذين سيقع عليهما عبء مسؤولية قيادة المنطقة وتنظيمها، وإدارة الأعمال القتالية فيها، وهذان المسؤولان هما: (عبد القادر المهدي) الذي أحجم في اللحظة الأخيرة عن الاشتراك في الثورة. و (الرقيب سليمان) الذي اختفى من دائرة العمل، منذ الأيام الأولى لاندلاع لهيب الثورة (¬1) وعند ذلك اتخذ (مصطفى بولعيد) قراره بضم منطقة الصحراء الواسعة الى منطقة الأوراس. وذلك ريثما يتم تنظيمها من جديد، وهو التنظيم الذي لم يظهر إلى الوجود الا في العام 1956، بفضل الجهود المستمرة التي بذلها (سي أحمد بن عبد الرزاق المعروف باسم (الكولونيل هاويس). وصل (عباس لغرور) الى (باتنه - أو - بطنه) يوم 29 تشرين الأول - اكتوبر - للاشتراك في مؤتمر تقرر عقده برئاسة (مصطفى بن بولعيد وبشير شيحاني). وقد تم عقد هذا المؤتمر في منزل (سالم بو بكر) نظرا لكونه منزلا وبعيدا عن المراقبة - وذلك في الساعة 2100 وبعد افتتاح الجلسة، تمت قراءة نصين كتبا باللغة ¬

_ (¬1) قامت قيادة الثورة بالبحث عن هذين العنصرين اللذين انقطعت أخبارهما بصورة مباغتة، وعلى الرغم من التحريات الواسعة التي قام بها - بن بو لعيد وشيحاني - والتي استمرت طوال الشهرين الاخيرين من العام 1954، من أجل إعادة الاتصال بهما، وبعث الثورة في منطقة الصحراء. الا أن الجهود فشلت في العثور على أي أثر لهما. وتبين بعد ذلك أن (عبد القادر المهدي) قد بقي معتزلا في بسكرة. أما (الرقيب سليمان) فقد التحق بفرنسا، ليكون بعد ذلك سببا في اعتقال (رابح بيطاط) في الجزائر، ونظرا لغياب هذين العنصرين، وبعد انتظار طويل، نتح عن غياب المسؤولين والموجهين في (منطقة الصحراء) تم تكليف زمرة من الوطنيين للهجوم على الوادي الصحراوي في شهر كانون الأول - ديسمبر - 1954. وقد توجهت هذه الزمرة الى الصحراء - من قوة الجنوب - بقيادة: الأخضر حماه ومبروك عماره).

ب - الله أكبر - خالد - عقبة

الافرنسية، وكان قد تم إعداداهما من قبل، وكان النص الأول موجها باسم (جبهة التحرير الوطني) إلى الشعب الجزائري. وهو يحدد بوضوح الأهداف السياسية للثورة؛ اما النص الثاني فكان موجها باسم (جيش التحرير الوطني) وقد حملت الورقتان علم الجزائر: (الابيض والأخضر والهلال والنجمة في الوسط باللون الأحمر). وكانت هذه هي المرة الاولى التي يتم فيها الإعلان عن وجود الحركة الثورية. ب - الله أكبر - خالد - عقبة. (... جلس المؤتمرون بصمت، وهم يستمعون إلى - بيانات الثورة - تتلى عليهم، ولم ينبس (لغرور) ببنت شفة، وإنما راح غارقا في تفكير عميق، في حين كانت دموع .. أوغاد (تنساب على وجنتيه، أما (بن عباس) نقد كان يردد بلا انقطاع: الله أكبر! لقد أقبل أخيرا فجر اليوم العظيم. وخرج (لغرور) عن صمته ليقول بلهجة هادئة لقد حدد يوم (ي) بصورة نهائية، ليكون ليل 31 تشرين الأول - اكتوبر - المصادف لليلة يوم الأحد، وليبدأ العمل في الساعة الواحدة من صباح الاثنين الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر -. وسيقوم الثوار بهجماتهم في وقت واحد، وفي كل أنحاء الجزائر. وستكون كلمة السر للعمليات في هذه الليلة هي (خالد) أما كلمة الإجابة فهي (عقبة) , وطلب (لغرور) من المؤتمرين الاحتفاظ بموعد يوم الهجوم وساعته. وعدم إعطائه للمجاهدين المنفذين قبل يوم الأحد. ثم بدأ القادة المؤتمرون ببحث الاستعدادات الأخيرة قبل البدء بالهجوم.

تم بعد ذلك توزيع الأعمال على القادة، فكانت واجباتهم كالتالي: 1 - (لغرور) وواجبه تنسيق التعاون بين مختلف زمر الهجوم، والاتصال مع (مصطفى بن بوالعيد) لنقل الأسلحة وتلقي التعليمات الأخيرة. 2 - (أوغاد) وواجبه جمع الزمر في (عين سيلين) وتنظيمها، مساء السبت 54/ 10/30 هو حتى 31/ 10/1954 (وتقع عين سيلين بدورها على بعد خمسة كيلو مترات من خنشلة). 3 - (بن عباس) وواجبه الإشراف العام، والاتصال بالمجاهدين بصورة إفرادية لإعلامهم بالموقف وتكليفهم بواجباتهم، حيث كان لزاما على كل واحد من هؤلاء التوجه بوسائله الخاصة الى المكان المحدد للاجتماع. 4 - (سليم بو بكر) وواجبه نقل بقية الأسلحة التي ستستخدم في الهجوم، والتي كانت مخزونة في منزله، وتضم بعض قطع الأسلحة والذخائر، وقنابل كوكتيل مولوتوف وقنابل حارقة ومواد طبية وألبسة وأطعمة (¬1). ¬

_ (¬1) تم توزيع الزمر على الأهداف بإشراف هؤلاء المسؤولين الأربعة عن القيادة، فجاء التنظيم للعمل كالتالي: 1 - زمرة الإغارة على مركز الشرطة: وهي برئاسة (غزالي بن عباس) و (معاونه (صلاح أوغاد) ومعهما عبد الكريم بنكوت وشعبان لغرور والشامي لارغات، وراشد لحمين، وحمودي عقابا. 2 - زمرة الهجوم على المجمع المشترك: برئاسة (عباس لغرور) وتضم محمد شامي، وعبد القادر بورماده وقدور بورماده، ومحمد سمور، وإبراهيم بوعطيل، ومحمد ليموشي. =

انصرفت كل زمرة من الزمر، بعد التوزيع وتحديد الأهداف، لمعاودة دراسة مهمتها مرات متتالية مع إجراء استطلاع دقيق للأهداف، ومحاور الاقتراب منها والوصول اليها. وكان مركز الشرطة هو أفضل مركز تمت دراسته، وكذلك المجمع المشترك -كومرن ميكست - إذ كانت محاور الوصول إليهما سهلة بالنسبة للمنفذين الذين أتيحت لهم فرصة استطلاع الأهداف مرات عديدة قبل بدء الهجوم. وقد اشترك (لغرور) في كافة الاستعدادات. ونسق التعاون بين كافة الزمر بصورة دقيقة. ثم طلب الى (سليم بو بكر) عدم الاشتراك في الهجوم على (خنشلة) تنفيذا لأوامر (مصطفى بن بو العيد). التي نصت على إعفائه من مهمة قيادة زمرة من الفدائيين كان من المقرر لها الهجوم على المجمع المشترك - كومون ميكست - حيث يقيم المزارع الأوروبي الوحيد في منطقة الأوراس. وأمام هذا التعديل، تولى (لغرور) قيادة زمرة (سليم بو بكر) للاغارة على المجمع المشترك. وتم تعيين (عمور سعدي) ليحل محل لغرور في قيادة الهجوم على المعسكر. ثم حددت مهمة (سليم بو بكر) لتكون

_ = 3 - زمرة الإغارة على مركز الدرك: برئاسة (على خشرور، وتضم علي غرياني، وربيع الأعور، ومحمد شاكر، وعمار حمام، وكامل مخلوفي، وعلي حفتاري. 4 - زمرة الهجوم على الثكنة العسكرية: برئاسة (عمور سعدي)، وتضم مسعد ناصر صوفي، وعبد الحميد زيروالي، والحسين مارير، وادجال، وفرحات عريف، وحسين عريف، وعمر زايدي، وسليمان زايدي، ورمضان بن زيدان، وعبد الرحمن نواصرية، ومحمد بوهلالا، وصلاح حفتري، وأحمد زايدي. 5 - زمرة قطع الأسلاك الهاتفية، وتدمير مركز التحويل الكهربائي، وتتكون من: إبراهيم عثماني الملقب بالتيجاني، يعاونه كيلاني لارغات.

على النحو التالي: (البقاء في القاعدة الخلفية مع اثنين من الأخوة المجاهدين. بمهمة اتخاذ الاجراءات الضرورية لمتابعة تنفيذ العمل في حال تعرض جميع الذين يقومون بالهجوم على (خنشلة) للقتل. وعليه الاحتفاظ بكافة الوثائق والوسائط المادية من أجل إكمال المهمة. وبعد ذلك، يتوجه من بقي على قيد الحياة الى (دوار يابوس) وهو الذي كان يحمل اسم - لهريج - حيث تلتقي كافة زمر المجاهدين العاملين في خنشلة - وتكون هذه النقطة أول نقطة تجمع - ازدلاق - قبل الانسحاب للقواعد الخلفية). كان من المقرر دعم زمر التنفيذ في الهجوم على خنشلة، بعشرين رجلا مسلحا من (دواريابوس) ممن كان بعضهم قد انضم لتنظيم الثوار منذ وقت طويل، وكان يجب أن يتولى قيادة هؤلاء (مسعود معاشي) وهو ثائر قديم ومن رفاق (غرين بلقاسم)، بالإضافة إلى (موسى الرضى) - الذي لم يلتحق أبدا بالثورة -. ولهذا السبب نقص عدد المنفذين من ستين رجلا الى أربعين رجلا. ومقابل ذلك، تلقى المجاهدون في خنشلة بعض الدعم في الأسبوعين الأخيرين اللذين سبقا اندلاع الثورة، وذلك بانضمام بعض المقاتلين إليهم (الزمرة الثانية من كتيبة المدفعية الرابعة). غير أن ذلك حذر الإفرنسيين الذين اتخذوا إجراءات أمن جديدة: مثل إقامة الحواجز من قبل رجال الدرك - الجندرمة - وتفتيش العربات والمركبات بدقة، والتأكد من هوية السافرين على الطرقات. أصدرت قيادة الثورة تعليماتها الأخيرة، وطلبت الى (لغرور) الاتصال مع (بن بولعيد) في الأوراس، للحصول على أسلحة

إضافية، إذ كانت الأسلحة المتوافرة للمهاجرين في خنشلة غير كافية للقيام بهجوم واسع النطاق. وفي يوم الأحد، 31 تشرين الأول - أكتوبر - كان على (سليم بو بكر) نقل الأسلحة والذخائر المخزونة في منزله، وإخراجها إلى ظاهر المدينة. وتصادف في هذا اليوم حدوث مباراة بكرة القدم بين فريق من (قسنطينة) وفريق محلي من (خنشلة) وكانت السلطات الإفرنسية على حذر، فدعمت جهاز الشرطة في الملعب. غير أن سليم بو بكر، وجد في ذلك فرصة مناسبة لتنفيذ المهمة، والوصول بالأسلحة إلى (النبع الدافىء) وهو المكان المحدد للالتقاء مع المنفذين المجاهدين (على بعد 7 كيلومترات من خنشلة) وأمكن تنفيذ هذه المهمة بنجاح، وبعد ذلك، تركزت مراقبة الثوار على ما كان يحدث في المدينة. لقد انتهت المباراة الكبرى بكرة القدم، والتي أثارت في المدينة صخبا كثيرا. وانصرف الناس بعدها إلى المقاهي - كعادتهم - وكان الوضع في الساعة 2130 طبيعيا جدا. لقد سارت الأمور - حتى الآن - على خير ما يرام. وها هم رجال الشرطة والدرك من الافرنسيين يتجولون كعادتهم، وقد ارتدت المدينة ثياب العيد - عيد حميع القدسيين -. وليس هناك من يشعر بوجود هؤلاء الذين يراقبون بيقظة كل ما يجري في المدينة. ثم غادرت زمرة المراقبين خنشلة متجهة الى ما وراء الحديقة العامة، حيث كان (بن عباس) يحفر الأرض ليدفن فيها أنبوبا معدنيا يحمل لغما متفجرا - حشوه مستطيلة - كان قد أحضره معه لاستخدامه في تدمير الباب المعدني للمحول الكهربائي. ووصلت زمرة المراقبين بعد ذلك مباشرة الى الغابة الواقعة على بعد خمسة كيلو مترات من المدينة ,

وهنا أوقفهم رجل مسلح كان يرتدي ثيابه العسكرية، وصرخ فيهم (خالد) وأجابه رئيس زمرة المراقبة (عقبة) لقد كانت كلمة (خالد - عقبة) تتردد الآن في كل أنحاء الجزائر. فتعمل عمل السحر في نفوس المجاهدين وتضمن تعارف بعضهم على بعض. وصلت زمرة المراقبين إلى مكان الاجتماع، في الوقت المحدد بدقة، وشاركت المنفذين استعداداتهم حيث كان بعضهم على وشك ارتداء الثياب العسكرية، في حين كان آخرون يختبرون أسلحتهم للمرة الأخيرة. وكانوا جميعا يتيهون فخارا بما يفعلون. وبعد ذلك تجمع المنفذون كلهم، ومعهم أسلحتهم ووسائطهم القتالية. ووصل (لغرور) في الساعة 2240 وهو يحمل سلاحه، ويرتدي ثياب الميدان. وانتظر الجميع وصول العشرين - أوراس - الذين كان يجب التحاقهم، وانطلق المجاهدون للبحث عنهم في الغابة كلها، مستخدمين في بحثهم الشارات الضوئية يطلقونها من مصابيحهم اليدوية، غير أن جهود البحث ضاعت سدى، ولم يظهر أي أثر للأوراسيين. ووقف (لغرور) عندها ليقول لرجاله: (إخوتي المجاهدين الأعزاء! ها نحن قد أدركنا يوم الثورا العظيم الذي يجب أن يقود الجزائر إلى الاستقلال، إن علينا القيام بالهجوم على الأهداف كلها، وذلك على الرغم من عدم وصول الأسلحة التي كان من المفروض لها أن تصلنا مع زمرة العشرين رجلا من دوار يابوس.

وعلى كل واحد منا بذل قصارى جهده لضمان النجاح على أفضل صورة ممكنة. إنني أعرف بأننا سنجابه العدو وأيدينا فارغة عمليا. وليس لدينا إلا الإيمان الذي يعمر قلوبنا. غير أن ما نعتمد عليه في هذه الليلة التاريخية هو إشعال الفتيل المفجر للثورة. وإنني على ثقة تامة بأن الشعب الجزائري بكامله، سيتبع مسيرتنا على هذا الدرب. ويحمل كل فرد منا في شخصه الآن، وفي هذه اللحظة بالذات قسما كبيرا من المسؤولية عن نجاح الهجوم ضد الأهداف المحددة. وجمع الأسلحة المتوافرة لدى العدو. إنني أثق بكم وبشجاعتكم وتصميمكم. انطلقوا، واضربوا العدو بقوة، ودون أدنى رحمة أو شفقة. وعودوا ظافرين. ذلك لأن الله مع المجاهدين، ومع القضية العادلة. الله أكبر!). ما إن فرغ (لغرور) من إلقاء كلمته المثيرة والصادقة، حتى أصدر أمره إلى الزمرة المكلفة بقطع الاتصالات الهاتفية وعزل المدينة بالتوجه الى (خنشلة). ثم تبعتها الزمرة المكلفة بالصاق بياني جبهة التحرير وجيش التحرير على كل منازل خنشلة. وتتابع انطلاق الزمر إلى اهدافها، ولم تبق إلا زمرة من ثلاثة رجال واجبها حماية قاعدة الانطلاق. ووصلت إلى أسماع أفراد هذه الزمرة في الساعة (11) من صباح الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر - أصوات الانفجارات الأولى. لقد انطلقت شرارة الثورة. وأثناء ذلك، كان أفراد هذه الزمرة يعملون على نقل ما لديهم من الاعتدة والتجهيزات، حتى إذا ما أزفت الساعة الثانية صباحا، بدأ المجاهدون المغاوير بالعودة إلى قاعدة تجمعهم، واحدا بعد

الآخر، إلى أن وصل الجميع، وبينهم اثنان أصيبا بجراح غير خطرة. وأثار النجاح الذي حققته زمر التنفيذ موجة من الفرح الغامر الذي شمل الجميع. ولكن (لغرور) تخلف عن اللحاق بنقطة التجمع، وأخذت حماسة المجاهدين بالفتور، فقرروا الانتقال من مركزهم. وفي النهاية، وصل (لغرور) مع الخيوط الأولى للفجر، وابتسامة السعادة تغمر وجهه. كانت فرحة الجميع لا توصف، وفخرهم لاشتراكهم بتفجير الثورة لا يضاهيه فخر ولا ينافسه زهو واعتزاز. وانطلق الجميع بعد ذلك وهم يخترقون غابات الأوراس، للبدء بمرحلة جديدة من التنظيم والعمل. صادف المجاهدون، أول ما صادفوه في طريقهم، رجلا يحتطب في الغابة، وهو يغني، واقترب منه الرجال المقاتلون، وبادروه بقوله: (السلام عليكم) وأجابهم (وعليكم السلام). وخاطبه أحد المجاهدين بقوله: (لن يزعجك الإفرنسيون بعد اليوم). وسألهم الحطاب ببساطة: (ولكن من أنتم؟) وجاءته الإجابة: (نحن محررو البلاد). فقال لهم الحطاب مستغربا: (إنني لا افهم شيئا، وماذا تعني كلمة محرري البلاد؟ إنكم جزائريون، وزيادة على ذلك فأنتم تحملون السلاح!) وجاءته مرة أخرى الإجابة: (نحن مجاهدون. نقاتل حتى يصبح بإمكانك العيش حياة أفضل) وعاد الحطاب للتساؤل: (وكيف تكون الحياة الأفضل؟) عند ذلك راح أحد المجاهدين يشرح للحطاب الفلاح - ولآلاف الفلاحين من بعد ذلك - الأسباب التي دفعت المجاهدين لحمل السلاح، وأهدافهم من ذلك، وما يطمحون لتحقيقه. وأشرق وجه الفلاح بسعادة غامرة، فدعا المجاهدين

لمشاركته طعامه البسيط. تلقت الهيبة الاستعمارية لطمة مذهلة لم تكن تتوقعها، سواء في قوة هذه السلطمة أو اتساعها، وما أن أشرقت شمس صبيحة انفجار الثورة، حتى انطلقت السلطات الاستعمارية للانتقام، فاعتقلت مئات وآلاف المسلمين الجزائريين، وقذفت بهم في ظلمات المعتقلات وغياهب السجون. وكان من بين المعتقلين بعض أقارب وأهل الذين قاموا بالهجوم على (خنشلة) وتم إطلاق سراح بعض المعتقلين بعد تعذيبهم واستجوابهم. في حين بقي الآخرون وراء قضبان المعتقلات. وفرضت الإقامة الاجبارية في معسكرات الاعتقال على عدد كبير من المواطنيين. ووقعت نساء بعض المجاهدين في قبضة السلطات الاستعمارية، فقذفت بهن في السجون، حيث تعرضن لسوء المعاملة والتعذيب لمدد طويلة. وقد يكون من المناسب هنا استعراض مسيرة الاغارات في خنشلة، وما تم حدوثه خلال التنفيذ. 1 - الإغارة على المحول الكهربائي وشبكة الاتصال الهاتفي: قام بتنفيذ المهمة (ابراهيم عثماني - التيجاني) ومعه (الأرقط كيلاني). وبدأت العملية عندما قطع إبراهيم عثماني الأسلاك الهاتفية التي تصل خنشلة بكل من عين البيضاء وبطنة، وكانت هناك زمرة تقوم باشغال الدرك - الجندرمة - وحماية المنفذين، واستخدمت حشوة مستطيلة بعد ذلك لتدمير الباب المعدني الذي يحمي مدخل (المحوال الكهربائي). كما استخدم مقص معدني للتعامل مع القاطع الكهربائي الرئيسي. مما ساعد على قطع التيار الكهربائي عن المدينة كلها، فباتت تسبح في ظلام دامس. وتم بعدئذ وضع الشحنات المتفجرة والقنابل، وأشعل الفتيل البطيء،

وتطاير البناء بكامله في الفضاء. وكان إطفاء النور في المدينة هو شارة بدء التنفيذ بالنسبة لزمر الهجوم الأخرى. وكانت النتيجة تدمير المحول الكهربائي وإلحاق أضرار كبيرة بالمنشآت والتجهيزات. 2 - الإغارة على مركز الدرك - الجندرمة - كان مركز الدرك قد تلقى إنذارا من قيادته باحتمال قيام بعض المسلحين بالهجوم على المركز الذي عمل على استنفار عناصره. وهكذا فقد بدأت العملية بتبادل إطلاق النار بين المجاهدين ورجال الدرك الذين أطلقوا كلابهم البوليسية. غير أنه تم تنفيذ المهمة، وانسحب المجاهدون ولما يصب أحد منهم بأذى. 3 - الإغارة على مركز الشرطة - البوليس -. أفاد (بن عباس) من الظلمة الحالكة، فتسلق الحاجز الشبكي المحيط بالمركز. وأخذت بقية عناصر الإغارة مواقعها المحددة لها داخل المركز، واقتحم رئيس الزمرة (بن عباس) باب مكتب الشرطة، حيث كان يرند الشرطي المناوب. وصرخ .. بن عباس بالشرطي: قف، وسلم سلاحك. فقال الشرطي: ولكن ما الأمر؟ وماذا يحدث؟ وأجابه: (بن عباس) بقوله: نحن جند جيش التحرير الوطني، نبحث عن السلاح، أين هم بقية رجال المركز؟ وأجاب الشرطي المناوب: إنهم يقومون بأعمال الدورية في المدينة. وأشار الشرطي إلى المجاهدين نحو مكان البنادق التي كانت مرتبطة بعضها ببعض بواسطة سلسلة معدنية غليظة تنتهي بقفل. وبعد أن تم قطع السلسلة تبين أن البواريد هي من الأنواع القديمة والتي لا تصلح للقتال. فقذف بها المجاهدون في ساحة

المركز. وأثناء ذلك كان (بن عباس) يتابع مع الشرطي المناوب، فقال له: إن جيش التحرير الوطني قد بدأ منذ هذه اللحظة بخوض صراع مسلح هدفه تحرير البلاد. وليست العمليات هنا معزولة أو مستقلة عن العمليات الأخرى. فالجزائر كلها تشهد في هذه اللحظة عمليات مماثلة. ثم أصدر (بن عباس) أمره إلى رجاله بوضع الشرطي في زنزانة السجن. ومضت عشر دقائق قبل أن يظهر رجلان من الشرطة ما أن دخلا المركز حتى قال أحدهما: ماذا يجري؟ لقد ترددت أصوات إطلاق الرصاص في المدينة التي أصبحت مظلمة بسبب انقطاع التيار، فماذا يحدث؟ وعندها وجه (بن عباس) ضوء مصباحه اليدوي، فبهر عيون الشرطيين، وقال لهما بلهجته الحازمة: تقدما وارفعا أيديكما عاليا. لا تتحركا أبدا، وسلما سلاحكما! ... وأصيب الشرطيان بذهول المباغتة، غير أنهما ترددا لحظة قصيرة في إطاعة الأمر. وعندها قفز (أوغاد) فصرع الأول بضربة من عقب بندقيته، وطعن الثاني بضربة مدية. لقد كان (صلاح أوغاد) رياضيا هاويا، مصارعا، ومحبا لقراءة الروايات الرومانسية، والكتب البوليسية، مغامرا ومندفعا حتى التهور عندما يكون الأمر متعلقا بمقاومة الافرنسيين. لقد نشأ يتيما، واحتمل منذ نعومة أظافره مسؤولية إطعام عائلته وتأمين متطلباتها الحياتية. غير أن ذلك لم يمنعه من متابعة دراسته، فكان يعمل في الليل لتشغيل أجهزة عرض الأفلام في دور الصور المتحركة - السينما - ويتابع تعلمه في النهار، وكان يقوم بدعوة إخوانه ورفاقه الى السينما في كل مناسبة يتم فيها عرض فيلم ثوري

مثل: (فيفازاباتا) أو (بانكوليبرتا) والتي تمثل وقائعها تلك الحركات الثورية التي عرفتها بلدان أمريكا الجنوبية في القرن التاسع عشر (¬1). ألقى الثوار بالشرطيين في الزنزانة، إلى جانب زميلهما الذي سبقهما، ووصل شرطي رابع، فتمت السيطرة عليه بسرعة، وجرد من سلاحه، ليلحق بدوره أيضا بمن سبقوه الى الزنزانة. وفي هذه اللحظة، رن جرس الهاتف في مكتب مدير المركز، إذن فالشبكة الداخلية للهاتف لا زالت عاملة ولم تقطع اتصالاتها بعد. ورفع (بن عباس) السماعة، والتقط الصوت الذي حمل له الكلمات التالية الو! هنا مدير الشرطة، نحن مطوقون، ونتعرض لهجوم رجال مسلحين، ابذلوا ما تستطيعونه لانقاذنا وأخبر فورا السيد المفتش - الكوميسير - بالوضع. وأجابه (بن عباس) بقوله: هنا أيضا، نحن الذين نمسك بالمبادأة. وسأل متحدث الشرطة: ولكن من أنتم؟ وأجابه بن عباس: نحن جند جيش التحرير الوطني، جئنا ننتزع حقوقنا بقوة السلاح. واجتاحت (بن عباس) موجة من الغضب، فقذف بالهاتف ودمره. وحمل أفراد الزمرة المسدسامت الأربعة التي انتزعوها من رجال الشرطة. وحملوا أحد المجاهدين بسبب إصابته بجرح في ¬

_ (¬1) كلف صلاح أوغاد بمرافقة بن عباس بعد ذلك للالتحاق بأحد مراكز تدريب المقاتلين الجزائريين التي أفيمت في البلاد العربية. ليعودا بعدها إلى عنابة بمهمة مرافقة زورق كان من المقرر له أن ينقلهما الى المشرق (ومن المحتمل الى جزيرة آثوس اليونانية). ولكن السلطات الأفرنسية استولت على زورق الأسلحة، وصادرت ما يحمله، في تشرين الاول - اكتوبر- 1956. وكان الزورق يحمل عند الاستيلاء عليه في (وهران) ذخائر وأسلحة وأعتدة مرسلة إلى جيش التحرير الوطني الجزائري.

فخذه. وانسحبوا بسرعة من مركز الشرطة، والتحقوا بمركز التجمع. 4 - الإغارة على المجمع المشترك - كومون ميكست - كانت الظلمة حالكة السواد عندما قفز (شامي) من فوق بوابة المجمع المشترك، وتبعته زمرة المجاهدين، إلى داخل المناطق السكنية. وتكفل (لغرور) بالفارسين اللذين كانا يحرسان البرج، وأصدر إليهما الأمر عبر الباب بقوله: اقتربا! إننا لن نلحق بكما ضررا أو أذى. ألقيا أسلحتكما من النافذة وسلماها إلينا. إننا مسلمون جزائريون نريد تحرير البلاد من الاستعمار الإفرنسي. ولكن في هذه اللحظة، ظهر مدير المجمع على الشرفة وأخذ في الصراخ. يا عسس! يا عسس! دافعوا عني، إنهم يريدون قتلي. من هم هؤلاء الرجال الذين يقفون في الساحة؟ وردا على الصراخ، أخذت مجموعة من المجاهدين في إنشاد نشيد وطني بصوت مرتفع. وتكرر بلا انقطاع: الجهاد - الله أكبر واختلطت مشاعر الفزع بحمى الجنون لدى المدير عند سماعه ذلك، على ما يظهر، فعاد للصراخ طالبا نجدة الحرسين الفارسين يا عسس! يا عسس! دافعوا عني، إنهم يريدون قتلي وقتل عائلتي - ومضى المدير في إطلاق نار مسدس رشاش كان يحمله، على ما يتراءى له من ظلال المجاهدين. وعندما تكرر طلبه - بالنجدة - أجابه الفارسان: لا نستطيع أن نفعل شيئا، بعد أن سدت المنافذ علينا ونحن في داخل المحرس. فرد عليهم المدير بقوله - وهو يتابع الرمي -: يا عسس، ارموهم بالنيران، لا تتركوهم ينفذون ما يريدون. وعندها حاول الفارسان تلقيم سلاحهما وهما داخل

المحرس، وما أن سمع (لغرور) صوت المغلاق في الداخل، حتى تدخل، فأغرقها بالنيران التي أطلقها عليهما عبر النافذة، وسقط أحدهما مصابا بجراح خطرة. وكان المجاهدون أثناء ذلك يشعلون النار في المكاتب، وهم يرددون شعارهم دونما توقف: الجهاد - الله أكبر! واستمر تبادل إطلاق النار مع المدير لمدة عشرين دقيقة، أوقفت زمرة الاغارة بعدها الاشتباك، وانسحب أفرادها إلى الغابة المجاورة. 5 - الهجوم على الثكنة العسكرية: تقرب المجاهدون في ظلمة الليل، ووصلوا بدون عناء الى حارس الثكنة، وقتلوه. واحتل أحد المجاهدين مكانه. ومضت فترة قصيرة بعدها وأخذت الحشوات المتفجرة بالانفجار على امتداد الجدار المحيط بالثكنة العسكرية. وانهمرت القنابل، واشتعلت النار بالاسطبلات نتيجة استخدام القنابل الحارقة، وعندما وصلت النيران إلى الخيول، أخدت هذه في الصهيل المذعور وهي تمزق صمت الليل. وهب الجنود لافرنسيون من مهاجعهم مذعورين. وتوجه اللواء (كانوا) قائد الثكنة الى المحرس، فوجد الخفير مقتولا. ومضت فترة الذهول التي أعقبت المباغتة، وأخد الجند بالتجمع في ساحة الثكنة. وبدأوا بإطلاق نيران رشاشاتهم على المجاهدين الذين كانوا يحتمون بجدران أبنية الثكنة، وأعقب ذلك فترة قصيرة من الهدوء والتهدئة. ثم انطلق الجند الافرنسيون في تحركهم وسط اضطراب ظاهر عبرت عنه الأوامر المتناقضة والتعليمات المتضاربة التي كانت تصدر من كل مكان في الثكنة. وكان المجاهدون يستمعون صراخ أعدائهم: (اشعلوا النور! افلنور مطفأ، لقد دمروه! ادفعوا المدافع الرشاشة والمصفحات نحو

ج - لهيب الثورة في أريس

الأمام! انتبهوا واحذروا، انهم مسلحون! فليبق كل فرد في مكانه!) وفي هذه اللحظة، ظهر الملازم الأول (جيراردارنو) قائد فصيلة الصبايحيه - السباهيين - الجزائريين في خنشلة. ولم يكن من عادة (جيرار) النوم في الثكنة، إذ كان يقيم مع فرسانه في بناء مجاور - مقابل - ويظهر أنه أراد الالتحاق بمركز فصيلته، فتوجه إلى باب الثكنة الذي كان يحتله المجاهدون. وعندما وصله، قال: انتبهوا، لا تطلقوا النار، أنا قائد المركز الملازم جيرار، ماذا يحدث هنا حتى تطلقوا النار. ولم يرد عليه أحد. فتقدم حذرا حتى عاجلته رصاصة أطلقها عليه أحد المجاهدين من مسدسه فأرداه قتيلا على الفور. وانسحب المجاهدون بعد أن نفذوا مهمتهم بنجاح رائع، وبدون أن يصاب أحد منهم بأذى. ج - لهيب الثورة في أريس (1) بدأ العمل السياسي والعسكري للثورة في أريس، طوال الفترة من سنة 1951 وحتى سنة 1954. ففي سنة 1951، وفي أعقاب الاضطرابات التي سببها احتلال مكاتب الانتخابات - الاقتراع - وتدمير صناديق الانتخابات، وقتل كان في خدمة الادارة الافريسة. قامت الادارة المشتركة للمجمع في (أريس) بعملية قمع واسعة في (دوار كامل). وتمركزت قوة من الحرس المتحرك RECITS DE FEU (S.N.E.D.) MOHAMED CHAMRI«P.P. 30«36 (1)

مدعمة بخمسة وستين رجلا من الجزائريين (القوم) (¬1) في مشتى تيجين. وبدأت من هناك عملياتها القمعية. وكان ذلك بداية الهيجان. فقد كان المواطنون جميعهم يعارضون إقامة هذه القوة بينهم. وانضم عدد كبير من الأفراد إلى قوات المقاومة السرية - الماكي - وأصبحوا في تعريف السلطة الافرنسية (خارجين على القانون). لقد كانت فترة مناسبة لعمل أعضاء التنظيم السري الذين كانوا قد أفلتوا من الاعتقال في كل مدن الجزائر. وأخذوا في العمل في وسط الفلاحين، وشرعوا في تنظيم الخلايا المستقلة. وكان أفراد هذه الخلايا يحملون تطلعات جديدة تتوافق مع طبيعتهم الفروسية وأفكارهم الاستقلالية. وعلى الرغم من أن معطم هؤلاء كانوا من الأميين، إلا أن العناصر الوطنية التي لم يتعبها الجهاد، نجحت في صهرهم وتكوين نظرياتهم وأفكارهم بمفاهيم اجتماعية تملأ عليهم ما كانوا يعانونه من قصور المعرفة، وتستجيب لطموحهم في الاستقلال والحرية. هكذا! ومن خلال حب الوطن، ولدت هنا خلايا سرية كثيرة، لا يعرف بعضها بعضا، وأصبحت هذه الخلايا العاملة بصمت، والملتزمة بقواعد الانضباط الصارم، وهي تغطي صفحة الأوراس بكاملها. وكان الفلاحون يتلقون خلال فترة الإعداد ¬

_ (¬1) القوم GOUME) كان الافرنسيون يقصدون بها عرب افريقيا. وكان للكلمة معناها الخاص في الجزائر؛ حيث كانت وحدة (القوم) وهي الوحدة العسكرية الجزائرية التي تعمل - غالبا - تحت قيادة قائد افرنسي، بمهمة أساسية هي الاستطلاع وجمع المعلومات وتوجيه القوات الرئيسية (الرائدة).

العسكري ما هو ضروري من توجيهات خلقية وسياسية، إلى جانب الإعداد النفسي، وفقا لكل قواعد السرية ومبادىء الأمن والحيطة التي أمر بها القرآن الكريم. وبدأ التحول في مواقف هؤلاء الرجال الذين يعيشون - حياتهم بعيدا عن المدينة، وهم معزولون في وسط عدائي يتربص بهم، وفوق أرض جدباء مقفرة تقريبا. ولم يكن حدوث هذا التحول ممكنا لولا تلك الجهود الجبارة التي بذلها رجال (المنظمة السرية - الشرف العسكري). فتراجعت بنتيجة ذلك النزاعات العدوانية - غير الهادفة -. وأخذ الرجال في السيطرة على أنفسهم، والتحكم بانفعالاتهم السلبية. ولم تمض أكثر من فترة قصيرة حتى توافرت للرجال الثائرين القدرة على العمل بفاعلية وقوة ضد كل قوة مهما كان رصيدها المادي قويا، ومهما كان نوع التسلح الحديث الذي تمتلكه. ولم يكن ذلك إلا بفضل ما اكتسبه هؤلاء الفلاحون الموصوفون من قبل الاستعماريين (بالخارجين على القانون) من معرفة سياسية جيدة، وتدريب مستمر ومنظم دعم من روحهم المعنوية العالية، وزاد من ثقتهم بأنفسهم. لقد ولدوا عمالقة من جديد، ولكنهم عمالقة فيهم كل صفات النبل والطيبة، يعملون في السر من أجل تطوير تنظيمهم الجديد، واحترام قواعده وأسسه، والالتزام بمبادئه وأهدافه. لقد عاد (مصطفى بن بولعيد) الى الجزائر من جديد في العام 1954، ومعه (بشير شيحاني) وتم اتخاذ قرار في (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) يقضي بمتابعة التدريب وتطوير الاستعداد. وتم تعيين (عجول) الذي كان يستقر في (وادي

سرحا) للاضطلاع بمسؤولية القيادة العسكرية. فكان عليه توجيه التدريب العسكري، والحصول على الأسلحة والتجهيزات وتخزينها. وأصبح التدريب منتظما ومستمرا تقريبا. وكان معظم (الخارجين على القانون) في هذه المنطقة هم من الذين هربوا من الجيش الافرنسي، فكانت لديهم معرفة أكثر من سواهم ممن التحقوا حديثا في صفوف المجاهدين - في مجال التعامل مع الأسلحة. وانصرف (غرين بلقاسم) وآخرون لممارسة أعمالهم السرية، والاضطلاع بأدوارهم بثقة وتفاؤل. شملت عملية تدريب الثوار (الماكي) كل ما هو ضروري لتأهيلهم من أجل احتمال المصاعب مثل: السير الطويل، والأعمال القتالية، وحتى التدريب على التحكم بالانفعالات والعواطف، وتركز التدريب على منح الرجال الفرصة لاستخدام خيالهم المبدع من أجل اتخاذ القرارات الصحيحة، وإظهار روح الأخوة والاستعداد للتضحية. وأصبح الرجال بعد ثلاثة أشهر من التدريب تقريبا - وهم على استعداد لتنفيذ أية مهمة قتالية. ونظرا لاقتراب موعد تفجير الثورة (يوم - ي) فقد تم توزيع الرجال على منطقتي عمل، الأولى وتشمل: أشمول، والأحمر خدو، وزيلاتو، وبسكرة. أما الثانية فتشمل: الشليا، ووادي فم الطوب، ومروانا، وبطنه، وباريكا. وانصرف رجال المنطقة الثانية للتجمع على حدود (فم الطوب) حيث الوادي الخصب الذي تنتشر فوقه المستوطنات، وأخذوا في العمل تحت قيادة (غرين بلقاسم ولغرور عباس). أما رجال المنطقة الأولى، فقد تسللوا خفية في الليل إلى (الطيبي كاوين) و (ضهرات ولد موسى) بالقرب من

(الحجاج) وليس بعيدا عن (أريس) حيث المركز الرئيسي للمجمع المشترك في (الأوراس). واحتل هؤلاء منزل (علي بن شيبا) الذي يضم إحدى عشرة غرفة، انتشر فيها المجاهدون، وحرم عليهم أي اتصال أو التعريف بأنفسهم أو مغادرة المنزل. واستقر الجميع هنا ثلاثة أيام، تلقوا خلالها محاضرات عن قتال الثوار (المغاوير) ونظفوا أسلحتهم، وتفقدوها، وتدربوا على استخدام الألغام والمتفجرات والأجهزة اللاسلكية. وفي يوم 30 تشرين الأول - اكتوبر - وصل مبعوثان من قبل (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) واتصلا بالزعيمين (مصطفى بن بولعيد وبشير شيحاني) وأبلغاهما آخر التعليمات. لقد أصبحت (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) تثق ثقة تامة بالكفاءة القتالية المتوافرة في وسط الشعب الجزائري، قدر ثقتها بنضجه الثوري - الفكري - ومعرفته بالطريق المؤدي الى الحل الحاسم. فأصدرت أوامرها التي كان ينتظرها رجال الأوراس بصبر نافذ. إذا ضم تاريخ الجزائر يوما له أهميته الخاصة، فذلك هو يوم 31 تشرين الأول - اكتوبر - 1954؛ ذلك لأن هذا اليوم هو الذي تم فيه اتخاذ أخطر القرارات التاريخية - يقينا - وهي القرارات التي ستزج الشعب الجزائري كله في حرب ضروس لا يستطيع أحد - في ذلك التاريخ - معرفة مدتها أو مدى اتساعها. وفي ذلك اليوم، خرجت الأسلحة والذخائر من مخابئها في الكهوف ومن مدافنها تحت التراب، لتحسد بعضها بعضا على ما ستقوم به من الأعمال.

وهكذا، وبينما كان بعض الرجال يتسلمون أسلحتهم، والحماسة تهز كيانهم، كان هناك آخرون واجبهم مرافقة ونقل (60) بارودة و (200) كيلو غرام من الذخائر بواسطة شاحنة اسأجرها لهم (بو شمال) لتصل هذه الإرسالية في المساء إلى منطقة القبائل، ويتسلمها الرجال الشجعان في هذا الإقليم، ممن كانوا يستعدون بدورهم للعمل (من أمثال عميروش). واعتبارا من تلك اللحظة، سيأخذ المجتمعون في (الطيبي كاوين) و (ضهرات ولدموسى) و (فم الطوب) كل ملامح المستقبل وفضائله. ولم يكن من السهل أبدا تجميع مثل هؤلاء الرجال الذين طالما مزقتهم السياسة الاستعمارية، ورجالها من الحكام الإداريين، وطالما فرقت بينهم القيادات والزعامات، لولا الاعتماد على أصالة الجزائر الثورية، وقاعدتها الدينية الصلبة التي توحد ولا تفرق، تجمع ولا تبدد. ولحسن الحظ أن توافر للثورة رجال يمتلكون من الارادة الصلبة ما يزيد على كل الصعاب والعقبات، من أمثال (مصطفى بن بولعيد وبشير شيحاني وعجول وبللا ولغرور عباس وبوستة) ممن يعود لهم دونما ريب فضل توحيد الجهود وتوجيه الطاقات نحو هدف التحرير. وقد كان نجاحهم رائعا في الاوراس إذ استطاعوا إقناع رجال المنطقة الأشداء بتوجهاتهم وأهدافهم، وحملهم على الاضطلاع بدورهم التاريخي. قسم الرجال الذين جمعوا عند (الحجاج) وعددهم (270) رجلا الى مجموعات وزمر يتولى قيادة كل واحدة منها قائد مسؤول. وغالبا ما كان يتم الاضطلاع بدور القيادة طوعا من قبل

الرجال الثوار (¬1) وتلقى الجميع التعليمات النهائية، وأصبحوا وهم يعرفون أهدافهم جيدا. وضبطوا ساعاتهم على ساعة الصفر (س). وأخذوا في مغادرة (ضهرات ولدموسى) بعضهم يستخدمون الشاحنات، وبعضهم السيارات الصغيرة، أما الباقون ففضلوا التوجه سيرا على الأقدام. هذا في حين كان رجال (بلقاسم) ينطلقون بصمت وجرأة في اتجاه بطنة ومروانا. وفي الساءة ذاتها كان رجال (عباس لغرور) يبتعدون عن حمام الصالحين في اتجاه (خنشلة). وما أن غربت شمس يوم 31 تشرين الأول - اكتوبر - حتى كان هناك أكثر من ستمائة مقاتل قد انطلقوا للاغارة على الحاميات العسكرية ومراكز الشرطة والأبراج، وكانت كلمات السر والاجابة: (خالد - عقبة) تتردد في كل مكان لتمزق سكون الليل، ولتثير حماسة المقاتلين. وكانت مجموعة (أشمول) قد أخذت في إقامة السدود الأولى من الحجارة على الطرقات، وذلك لقطع كل محاور الاتصالات. هذا فيما كانت الشاحنات والمركبات تتحرك في اتجاه (بسكرة وبطنة) ¬

_ (¬1) كان الرجال الذين تم اختيارهم للقيادة هم: 1 - أحمد نواوره لقيادة المغاوير - الكوماندو - في أريس. 2 - عباس لغرور لقيادة المغاوير في خنشلة. 3 - غرين بلقاسم لقيادة المغاوير في بطنه ومروانا. 4 - حسين بن رحيل لقيادة المغاوير في بسكرة. 5 - طاهر نويشي لقيادة المغاوير في عين القصر. 6 - أما الأشخاص الذين أسندت إليهم مهمة توجيه زمر المغاوير في المراكز المدنية، فكانوا: - رشيد بوشمال بعمليات مدينة بطنة. - طيب خراز للعمليات في مدينة بسكرة. وبقي هناك رجال واجبهم الاضطلاع بمسؤولية متابعة العمليات، وتوسيع مجالاتها وآفاقها في كل اتجاهات مسارح العمليات (انطلاقا من مبدأ تفشي بقعة الزيت) ومنهم (سي مكي) لتوجيه ثوار تكوت. و (سي محمد ناجي) لتوجيه ثوار فم الطوب و (سي عبد الوهاب عسوفي) لتوجيه ثوار شرق الميزاب. و (سي محمد قنطرة) لتوجيه ثوار باريكا.

لتصل في موعدها المحدد بدقة، ولتقوم بتنفيذ عملياتها على النحو التالي: في بسكرة: خرج الفدائيون المغاوير من دار الحجاج بقيادة حسين بن رحيل، ووصلوا في اليوم ذاته إلى بسكرة، وفي الساعة التي كان فيها المواطنون المسلمون يغلقون نوافذ شرفات منازلهم، ويحكمون إيصالها بالقضبان الحديدية. أما المدينة الأوروبية فكانت تتألق بأنوار المصابيح فيما كانت الأحياء العربية غارقة في ظلام حالك. وكانت أجراس الكنائس والأديرة تقرع داعية الأوروبيين للصلاة، وانطلق المغاوير لتنفيذ أوامر (اللجة الثورية للوحدة والعمل) بضرب النقطة الحساسة في الجهاز العصبي للعدو والمتمثل بثكنة (سان جرمان) التي كان يقيم فيها لواء (الرماة السنغاليين). وانطلقت النيران، وأصيب حارس مدخل الثكنة بجراح. كما أصيب المفتش - الكوميسير - وهو برتبة لواء برصاصة في فخذه. وألقيت قنبلة حارقة على مركز النجارة، فأشعلت فيه النيران، وانسحب رجال جيش التحرير الوطني بسرعة مخلفين وراءهم الفوضى والدمار. وتوقفت أجراس الكنائس عن الرنين. وفي بطنة: تميز البناء في المدينة بقوته وشدة تحصينه حتى كأنه قلعة منيعة من تلك القلاع التي كانت تقام أيام الرومانيين في وسط تجمعات السكان الوطنيين - وكان هذا البناء الضخم يضم مجموعة من الثكنات العسكرية التي أطلقوا عليها اسم (المعسكر)، والتي كانت تحميها جدران شاهقة الارتفاع. ووضع المجاهدون في اعتبارهم أهمية الهدف من الناحيتين الاستراتيجية والنفسية، فقرر قادة المجموعات إرسال الكتلة الرئيسية من القوة

رمز الاستعمار. دمرته الثورة واقتلعته من قاعدته

الضاربة بعد تقسيمها الى أربع مجموعات تقوم بالإغارة على الأهداف العسكرية في وقت واحد، ولكن بصورة مستقلة؛ كل عن المجموعات الباقية. وكان المجاهدون يرتدون جميعا الألبسة العسكرية، ويحملون أسلحتهم الآلية (الاوتوماتيكية) من المسدسات الرشاشة (ستاتي) من نماذج أميركية الصنع أو إنكليزية. أو ألمانية. وكانت مجموعتان من هذه القوة قد وصلتا من قبل (الحجاج)، في حين جاءت المجموعتان الباقيتان من (فم الطوب). وكان الهدوء المطلق يخيم على المدينة في ساعة بدء الهجوم (الساعة - س). ولم تصل المجموعة الأولى إلا في الساعة الثانية صباحا. (وقد تأخرت مجموعة - الحاج - عن موعدها بسبب اعتذار رئيسها عن تنفيذ المهمة في اللحظة الأخيرة، فتم تكليف علي بن أخضر طاولي - على الفور- بقيادة المجموعة) وعملت هذه المجموعة فور وصولها على وضع حارسين- خفيرين - في (ود زمالا) ثم اخترقت المدينة العسكرية، ومرت من أمام ثكنة الفرسان الجزائريين الصبايحية (السباهين). وهي الثكنة التي كانت هدف المجموعة الثانية ثم وصلت المجموعة إلى هدفها - وهو الثكنة التالية - التي كان يقيم فيها (الرماة). وكان من المفروض أن يقوم أحد الحرس الرماة من الجزائريين بمساعدة الثوار، وفتح باب الثكنة لهم عندما يتبادلون معه كلمة السر والإجابة (خالد -عقبة). ولكن نظرا لتأخر المجموعة في الوصول إلى الهدف، فقد ظن الحارس بأن موعد الهجوم قد تم تأجيله، وجاء تبيدل الحرس، فجاء حارس جديد للبوابة. ولم يبق أمام مجموعة الاقتحام الا استخدام المبادأة، واقتحام الثكنة عنوة، وتم تنفيذ الإغارة بسرعة مذهلة، فأصيب الحارس،

وحاولت المجموعة التوغل الى داخل الثكنة غير أنها عجزت عن ذلك، فاكتفت بما حققته من الدمار والذعر، وانسحبت عبر الطريق المحدد لها. وكان لا بد لها من التعرض لثكنة الفرسان الصبايحية (السباهين) نظرا لاضطرارها من المرور من أمامها، فهاجتها بعنف، ثم انسحبت بعد ذلك في اتجاه جبل (تبغيراسين) حيث وصلته، ولما يصب أحد من مجاهديها بأذى. وكان المنفذون في هذه المجموعة كلهم من (دوار كامل). وكانوا جميعا أيضا ممن اتبعوا دورة عسكرية وتلقوا إعدادا نفسيا خلال فترة طويلة. وصلت بعد ذلك المجموعة الثانية بقيادة (محمد بن ناجي) قادمة من (فم الطوب). وكان وصولها في موعد متأخر أيضا، ولم يبق لها ما تفعله بعد أن علمت بأن المجموعة الأولى، قد هاجمت -بالنيابة عنها - ثكنة الفرسان الصبايحية. فانسحبت بعد أن أطلقت بعض الصليات النارية على أبواب الثكنة وجدرانها. ووصلت المجموعة الثالثة في الوقت ذاته، بقيادة (ابراهيم بوستة) فأغارت على مخزن الذخيرة، وتبادلت إطلاق النار مع رجال الحرس والحامية، ثم انسحبت في اتجاه مجنبات التل، والتحقت بنقطة الازدلاف (التجمع) في المنتجع المحدد للالتقاء من قبل. وقامت المجموعة الرابعة بقيادة (بلقاسم) باقتحام ثكنة الحرس المتحرك، وكانت هذه المجموعة تضم ثلاثين مجاهدا. ودارت معركة قاسية استمرت ساعتين، انسحبت بعدها المجموعة نحو (جبل عطيل) فوصلته مع شروق الشمس، وقد حملت على كواهل أفرادها أكاليل الغار .

وفي خنشلة، جمع (عباس لغرور) رجاله الثلاثين في (حمام الصالحين) ثم قام بالهجوم (على نحو ما سبق ذكره). وفي تكوت: قام (جغروري) بقيادة مجموعة المجاهدين بمهاجة مركز الدرك الذي كان أفراده قد تلقوا إنذارا مسبقا واستعدوا للمجابهة. وقامت المجموعة بتدمير الجسر، وأتبعت ذلك بنصب كمين في (تيجان أمين). وفي باريكا: دمر المجاهدون خطوط المواصلات، كما دمروا أيضا مركز الاتصالات الهاتفية التي تصل (باريكا) بمدينة (سطيف). وفي أريس، كان يجب أن يقوم أربعون رجلا مسلحا في الساعة صفر (الساعة - س). وقام (مصطفى بن بولعيد) بإعطاء تعليماته شخصيا للمنفذين. وكان يجب أن يتم الالتقاء عند برج المجمع المشترك كومون ميكست -. ولكن لم يحضر في الموعد المحدد سوى (أحمد نواوره). وهكذا خان (39) رجلا القسم الذي أقسموه أمام (الحجاج). وترك ذلك جرحا عميقا في قلب (بن بولعيد). أما في تيجان أمين: فكانت كل الاعمال التي تم تنفيذها في الليل هي بمثابة الإعلان عن بدء الحرب ضد النظام الاستعماري، غير أن العملية التي تم تنفيذها في صجبيحة يوم إعلان الثورة (يوم الاثنين) كانت بداية لنوع من الأعمال القتالية الخاصة (قتال العصابات)، وقد نفذت هذه العملية باعتراض عربة لتفتيشها عند مضيق (تيجان أمين). وكان في العربة

د - فجر يوم الثورة المسلحة

رجلان إفرنسيان يرافقهما دليل معروف بولائه للافرنسيين. وقد رفض هؤلاء الاذعان لأوامر رجال الكمين من المجاهدين. وكان لا بد من تفتيش العربة تنفيذا لتعليمات القيادة الصادرة عشية الثورة والتي اعتبرت منطقة الأوراس بكاملها من المناطق المحررة. وعندما رفض ركاب العربة الخضوع للتفتيش، حاولوا استخدام أسلحتهم، جرى بادل إطلاق النار، وسقط الإفرنسيان ودليلهما قتلى على الفور. د - فجر يوم الثورة المسلحة (¬1) كانت ليلة رطبة ومظلمة، غير أن ظلمتها كانت أشد قسوة على المستعمرين، لأنها توافقت مع احتفالات النصارى بعيد (جميع القديسين) (¬2) ولم يكن المستعمرون، وهم غارقون في ظلمة تلك الليلة يعرفون يقينا، أو يراودهم الشك، بأن ذكرى الليلة الحزينة ستبقى أبدا مرتبطة بأسوأ ما في تاريخهم. ذلك لأنها تسجيل لانهيار اسطورة من أضخم الأساطير الاستعمارية. كانت ليلة رطبة ومظلمة، وهناك، هبت على جبال الاوراس نسمة منعشة، صفقت لها أشجار الغابات الكثيفة. ووسط تلك الظلمة، كانت الأشباح تتحرك دونما ضجيج، وتتسلق المرتفعات ¬

_ (¬1) كاتب هذه الفقرة هو (جلول بوقفة) في كتاب (قصص من النار - افرنسي) إصدار سنيد - المجاهد - الجزائر - 1977 ص 37 - 42. واعتمد الكاتب في كتابته على استجواب المجاهدين الذين اشتركوا في (الحدث التاريخي). (¬2) عيد جميع القديسين (TOUSSAINT) وهو عيد يحتفل به المسيحيون، ويصادف اليوم الأول من تشرين الثاني - نوفمبر -.

بخطوات سريعة وثابتة، إنها أشباح سكان الجبال (أو الجبليون) الذين اعتادوا على السير الطويل فوق الصخور، وفي الغياض الشائكة. لقد قدموا من كل مكان، من المدن والقرى، من الاوراس ومن مناطق بعيدة عنها. كانت تلك المنطقة هي منطقة قبيلة (توبيس) الشهيرة ببأسها، والمنتشرة على حدود: اشمول وحجاج وأريس. أما (البوسليمانيون) المشهورون بإبائهم وشحمهم فكانوا على حدود- أريس - (وقد عرف عنهم حبهم الشديد لتربية الصقور). ويبقى (الغسيريون العنيدون) هم حراس أبواب الجنوب، وسيكون من نصيبهم الفخر لقيامهم بنصب أول كمين في مضيق - نفق - تيجان أمين - على بعد ثمانية عشر كيلو مترا الى الجنوب، وذلك في صبيحة اليوم الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954. وكانت هناك أيضا قبائل أبناء العمومة من (الأشراف والسراهناس) والذين يتحدثون اللغة العربية بطلاقة، كما يتحدثون بلهجة البداوة - الشوايا - باتقان غريب. وقد عزف أبناء هذه القبائل بشدة بأسهم وصعوبة مراسهم. غير أن عائلاتهم ستتعرض للانتقام الوحشي وأعمال الانتقام من قبل الافرنسسين، وذلك كرد فعل منهم على الاشتباك الأول مع قوات الثورة. وستكون هذه العائلات أول من يعاني الاضطهاد، وأول من يتعرض للتعذيب بسبب قصة الكمين التي تتلخص بالتالي: قام ثمانون مجاهدا بقيادة بشير ورطان - الملقب بسيدي هاني - بنصب كمين لقافلة فرنسية تضم كتيبتين، واشتبكوا مع القوة الإفرنسية لمدة (24) ساعة، سقط خلالها (300) جندي بين

قتيل وجريح - بحسب ما ذكره سائقو سيارات الأجرة، التاكسي، التي استخدمها الإفرنسيون لنقل قتلاهم وجرحاهم - ومقابل ذلك سقط من المجاهدين (7) شهداء و (25) جريحا. وعلى أثر هذه المعركة أرسلت قيادة العدو، برقية، أبرزت فيها الأسلوب الذي ستعمل على تطويره للتضليل والخداع، فذكرت بأن القوات الإفرنسية لم تتكبد من الخسائر إلا بعض القتلى وبعض الجرحى فقط. تجدر الإشارة بعد ذلك إلى أن القبائل البعيدة من (النمامشة والعامريين) لم تكن آخر من وصلت في الموعد المحدد إلى جبال الأوراس. وكان رجال منه القبائل قد انطلقوا، ومعهم آخرون، من ضهرة (ولدموسى) ليصلوا الاوراس، وليجدوا فيها إخوانا لهم قد حشدوا (350) مجاهدا من المقاتلين الأشداء. وكان (مصطفى بن بولعيد) هو أول من وافى المكان، الذي ضم المجاهدين من مختلف المستويات الاجتماعية، ومن كل المستويات الثقافية، ومن جميع العناصر الوطنية، فكان ذلك برهانا ساطعا على فشل الجهود الاستعمارية التي طالما جهدت لخلق الانقسام بين المسلمين، من عرب وبربر، وبين أبناء المدن والقبائل، كل ذلك بهدف تكوين مراكز قوى متصارعة تسمح لفرنسا باختيار نخبة منهم وتدريبهم لمحاربة إخوانهم في الدين والوطن. فكان هذا التجمع أول انتصار للثورة. وها هم الآن (350) رجلا، كلهم رجل واحد، لا تفاوت بينهم ولا تنافر. إنهم على وشك البدء في إطلاق شرارة ثورتهم المسلحة، ولم يبق بينهم وبين الشروع في التنفيذ أكثر من ساعات قليلة. إنهم يمثلون ولادة الثورة التي

تستمد لتطهر أعماق الشعب الجزائري، وتصهره، لتوجهه نحو الهدف الواحد، وهو هدف الحصول على حقوق لم يعرفها الجزائريون أبدا منذ اجتاحت جحافل الغزو الإفرنسي بلادهم. هنا، في الأوراس أيضا، التقت (المجموعات الخاصة) وقد ضمت رجالا ملؤهم الثقة، حملوا السلاح الذي استخرجوه من مخابئه الكثيرة والتي لم يعرف أحد مكامنها سواهم، وكان النجاح حليفهم عندما جاءوا بها من جنوب الأوراس، ومن (واد سوف) ومن (ليبيا). ودفنوها في انتظار اللحظة الحاسمة. وكان (مصطفى بو ستة) هو أول من عمل لتنسيق التعاون بين مختلف القوى في القطاع (تكوت): وكان يعيش في عالم الخفاء منذ سنة 1952. ولم تنجح عمليات التفتيش في العثور عليه، أو اقتفاء أثره، بالرغم من كل الجهود التي بذلتها قوة (الحرس المتحرك) والتي ضمت ثلاثة آلاف مقاتل، جاءت بناء على طلب (حاكم أريس) للبحث عما أطلق عليه اسم (المجرمين) و (الخارجين على القانون). وقامت هذه القوة الافرنسية بتمشيط المنطقة مرات عديدة، غير أن (مصطفى بو ستة) ومعه (الخارجون على القانون). استطاعوا البقاء بعيدا وبصورة مستمرة عن قبضة القوات الاستعمارية. وها هم الآن يستعدون لمرحلة جديدة من العمل الثوري، ومعهم (حسين بن رحيل) الذي بدأ العمل السري - متخفيا - منذ سنة 1943، وكذلك (صادق سبشوب) الذي اكتسب شهرة اسطورية باعتباره قناصا من مهرة الرماة. و (مكي عيسى) الذي طالما تعرض للمطاردة، والذي اشتهر منذ قتل أحد

رجال الدرك برصاصة واحدة في جبهته، عندما كان هذا يطارده في وضح النهار. وكذلك أيضا (مسعود مختار) و (غرين بلقاسم) الذي ستتحدث عنه البرقية المرسلة من قبل السلطة الحاكمة، بما يلي: (لقد قتل واحد من كبار قادة المتمردين)، غير أن البرقية تجاهلت العدد الكبير الذين صرعهم غرين بلقاسم - من جند العدو - قبل أن ينال شرف إحدى الحسنيين. ثم هناك (أحمد الجدعا) الذي اشترك في الثورة منذ بدايتها، ولما يتجاوز الرابعة عشرة من عمره (¬1) وتبقى الظاهرة المثيرة في تجمع هؤلاء المجاهدين، انصهار كافة الفوارق الناجمة عن المنشأ، لقد وقفوا صفا واحدا - كالبنيان المرصوص-فبات من العسير التمييز بين الجبلي وابن المدينة، أو من عرف بؤس الحياة وفقرها، ومن عاش رغدها وبحبوحتها. وها هو الجبلي (ابن - اوولدالغولة) بهامته الضخمة ولونه البرونزي وملامحه القاسية التي تنطق بها قسمات وجهه، وتعبر عنها شفتاه وهما تقذفان الكلمات بطريقته البدائية (الموصوفة بالوحشية) فيدخل بها الرعب إلى قلوب أعدائه. لقد كان يمتلك قوة جبارة طالما كانت له عونا لإنقاد عدد كبير من رفاقه الجرحى أثناء اشتباكاتهم الدموية الرهيبة، غير أن جهله (أميته) كانت تضعه باستمرار في مؤخرة إخوانه، وكان شأنه في ذلك شأن الكثيرين من رفاق طفولته الذين ما عرفوا في الحياة سوى حراثة الأرض الصخرية وزراعة الأرض المجدبة تقريبا، والتي كانت الشيء الوحيد الذي تركه لهم الاستعمار الاستطاني. وقد خضع هؤلاء البؤساء المحرومون، الى حين، لأساليب الدعاية الاستعمارية الافرنسية، حتى ¬

_ (¬1) وهو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من أفراد مجموعته، وانصرف بعد انتصار الثورة للعمل في الإشراف على مزرعة بناحية بطنة.

أنقذتهم منها جهود دعاة الثورة (الحركيين). ومالبثوا أن استردوا الشعور بعظمة أمتهم، فأقبلوا تباعا - الواحد بعد الآخر - وانضموا لقوات جيش التحرير الوطني الذي جسد لهم أهداف وجودهم. وإذا كان (ولد الغوله) يمثل هذه الفئة، فقد كان (جيلاني حداد) يمثل الفئة المقابلة، فقد نشأ جيلاني في المدينة، وعاش بيسر وبحبوحة، وتميز منذ أيامه الأولى في الحياة بذكائه الحاد، فكان من السهل عليه أن يؤمن بضرورة استخدام العنف الثوري، وبحاجة لخوض الصراع المسلح. وكان يعيش في وسط جماهير المدينة فأمكن له الاتصال بمنظمات الثوار (الماكي). وكان هذا الاتصال خطرا في حد ذاته، لا سيما وأن جيلاني كان معروفا بأفكاره الثورية ونزعاته التحررية. وسيمضي عام على موقفه مع رفاقه في الأوراس، عشية الثورة، قبل أن يودعه هؤلاء الرفاق الوداع الأخير بعد أن حملوه من ميدان المعركة، وصعدوا به لمواراته إلى جانب رفيق له سبقه الى قبر مهجور. لقد سقط (جيلاني) وهو يحمل سلاحه يرد به العدوان الإفرنسي عند مدخل القرية التي لم يتجاوز حدودها ولم يغادرها أبدا منذ بدأت حرب التحرير، وكثيرا ما كان أخوانه المجاهدون يتحدثون عنه بعد ذلك وهم يستعيدون ذكريات الحضارة الإفرنسية، التي لم يعرفوا منها إلا أعمال الإبادة ضد الوطنيين المسلمين الذين كانت تصفهم فرنسا (بالمتوحشين). يبقى هناك مجال للحديث عن (بو عيسى) أو (رجل المستنقع) الذي لم يكن قد عرف طائرة في حياته - قبل الثورة - شأنه في ذلك شأن معظم مواطنيه، ولكن ذلك لم يمنعه من توجيه

نيرانه في معركة (تكوت) ليسقط طائرة فرنسية فوق أرض المعركة. وكان من المرغوب فيه التعرض لذكر كل أولئك الأبطال الذين اشتركوا في معركة (ضهر ولدموسى) الشهيرة والتي وقعت في اليوم الأول من تشرين الثاني - نوفمبر - 1954. وهو اليوم التاريخي الذي انطلقت فيه مجموعات كثيرة، تضم الواحدة منها أحد عشر رجلا، لتنتشر في وهاد جبال الأوراس وشعابه، وهي تتعارف بعضها على بعض بكلمتي السر والتعارف السحريتين (سيدي خالد) و (سيدي عقبة). ففي تلك الساعة (س-صفر) قام الثوار بتدمير (جرس تكوت) وتم بذلك عزل رجال الدرك الذين كانوا يستقرون في القرية. وهناك، على بعد مائة كيلو متر من تكوت، اجتاح الثوار (فم الطوب) حيث كانت أرتال المجاهدين قد غادرتها على عجل وهي متجهة الى (بطنة). وعلى مسافة أكثر بعدا، كان الثوار يهاجمون مراكز الجيش والدرك والشرطة في (خنشلة). وفي اليوم التالي، كانت أخبار الفرحة التي طال انتظارها وقد ملأت كل بيت جزائري، في الشمال كما في الجنوب، وفي الشرق كما في الغرب. لقد انبعث ضياء الأمل من قلب الظلمة الحالكة. وإذا كانت طلقات النيران قد ألهبت القرى والمدن في السهل والجبل، فإن أصداءها القوية قد ترددت عالية في جبال القبائل والأوراس. بل وفي كل مكان، فكانت زغاريد نساء القبائل (يويو) هي أصداء زغاريد أخواتهن من نساء الأوراس، ومعهن جميعا كانت نسوة المدن وصحارى الجنوب يرددن (يويو) الفرحة.

لقد ارتبطت الأسماء السابقة كلها بالعملية التي اشتهرت باسم (عملية تاغيت) أو (كمين تيجان أمين) والتي كانت أول عملية من نوعها سقط فيها: الدليل معونيش، والمدرس الافرنسي مونروت). واستشهد بعد ذلك كل أبطالها، ولم يبق منهم على قيد الحياة سوى المجاهد (طغروري المبارك) وهو رجل كما يقال عنه (لا ماضي له قبل الثورة، وأن كل قصة ماضيه قد بدأت في هذه العملية) ... .. حيث تقدم مع جماعته التي ضمت أحد عشر رجلا لنصب كمين (تيجان أمين) في المضيق الذي يفصل شمال أريس عن الجنوب، والذي تغطيه من الجنوب سلسلة من الجبال المكسوة بأشجار النخيل. وكان هدف العملية، وفقا للتعليمات التي أصدرها رئيسهم وصديقهم - مصطفى بن بو العيد - هو منع رجال الدرك - الجندرمة - من التحرك، وعزلهم، وتدمير روحهم المعنوية، وإرغامهم على البقاء في مراكزهم وثكناتهم لا يبرحونها. وتم نصب الكمين، ولم تقترب أية مركبة من موقع الكمين حتى الساعة الثامنة صباحا، عندما وصل باص (بسكرة - أريس) وفي داخله الدليل - القائد - معونيش، عميل الافرنسيين، والى جانبه المدرس مونروت ومدرس آخر، بالإضافة الى الركاب من المواطنين الجزائريين المسلمين. وظن الدليل أن العملية تتعلق بجماعة (خارجين على القانون) كما كانت تسميهم السلطة الاستعمارية، وأراد (معونيش) على ما يظهر إضافة خدمة جديدة لسجله في الاخلاص لسادته، فأشهر مسدسه، محاولا إطلاق النار على المجاهد الثائر الذي أوقف الحافلة (الباص) والذي كان خلف

النافذة تماما حيث كان يجلس الدليل والمدرس الإفرنسي. ورأى اثنان من أفراد الكمين هذه الحركة وهما في موقعهما المرتفع بين الصخور، فأطلقا عليه النار وأردياه قتيلا، وأصابت رصاصة المدرس (مرنروت) فقتلته. كما أصيبت زوجة المدرس برصاصة ثالثة لم تقتلها. وصعد (طغروري المبارك) إلى الحافلة، فأوضح لركابها مهمة الكمين، وشرح لهم ما كان يحدث خلال تلك اللحظة من أعمال ثوروية، لا في المنطقة وحدها وإنما في كل أنحاء الجزائر. واستأنفت الحافلة رحلتها، وأوصلت الجريحة الى مستشفى أريس في الساعة الحادية عشرة، ولم تلبث أن أقبلت طائرة عمودية - هيليكوبتر - فنقلت الجريحة الافرنسية من مستشفى بسكرة إلى مستشفى بطنة. ولقد أثار وصول هذه الطائرة العمودية كثيرا من الصخب والضجيج، حيث حاول رجال الدرك وأعوان السلطة الإفرنسية تصنيع قصة تراجيدية للبرهان على العظمة الافرنسية والقوة الإفرنسية، ولم يعرف رجال الدرك في حينه أن هؤلاء الذين لم تقع أنظارهم قبل ذلك اليوم على (طائرة عمودية) سيعتادون عما قريب على التعامل مع كل أنواع الطائرات، وتركها طعمة للنيران. كان الافرنسيون جميعهم من مدنيين وعسكريين مسلحون تسليحا حديثا وجيدا، وبصورة خاصة منهم المدرسون الذين يختلطون أكثر من سواهم بالمواطنين المسلمين. قامت القوات الإفرنسية بحمة مشتركة ضمت كل صنوف

الأسلحة، وذلك بعد كمين (تيجان أمين) بثلاثة أيام، واقتحمت هذه القوات - أريس - وتوجهت بعدها الى موقع الكمين الذي تعرض للقصف طوال ساعات عديدة بنيران المدفعية والطيران. وانتقلت قوات الحملة بعدها الى تكوت، وأصلحت الجسر الذي يقع عند مدخل القرية. وفي اليوم التالي (4 تشرين الثاني - نوفمبر) طوقت القرية والأكواخ المنتشرة حولها، وبدأت بعملية اعتقال المواطنين واستجوابهم وتهديدهم بالحرق. كما أخذت بقتل أهالي الثوار وأفراد عائلاتهم وذلك بعد الاحتفاظ بهم كرهن لمدة خمسة عشر يوما على أمل أن يقوم الثوار خلالها بتسليم رقابهم للجلادين. ورفع المحققون الى رؤسائهم خلال الأيام الثلاثة الأولى قوائم - لوائح - تتضمن أسماء (الخارجين على القانون). وكانت السلطات الاستعمارية وهي تمارس أعمال الإرهاب، تعتقد أنها قادرة بهذه الأساليب على عزل الثوار وحرمانهم من كل دعم. فأقدمت على تعذيب المعتقلين وقتل بعضهم، معتقدة أن ما تم تنفيذه من أعمال ثورية لا يتجاوز نطاق (الهيجان المحلي) مما يجعلها قادرة على إخماد الهيجان الجماهيري بسهولة، بنفس الأساليب التي سبق استخدامها في سنة 1945 لإخماد هيجان سطيف، وجيرالدا، وأعلن الضباط الافرنسيون أنهم تلقوا تعليمات تقضي بإعادة تنفيذ فصول القصة البائسة، كما أعلن هؤلاء الضباط عن استعدادهم لإعادة تنفيذ مثل تلك العملية، غير أن ذلك لم يزد المجاهدين الجزائريين، إلا تصميما. ولم يزد الشعب الجزائري إلا عنادا لاحتضان الثورة، حديثة العهد بالولادة، ودعمها ورعايتها. وأصبح جيش التحرير الوطني

الجزائري هو الملاذ الوحيد من أجل حمل السلاح. وخوض الصراع ضد الظلم والظالمين، إذ أنه على الرغم من كل التهديدات والممارسات الإرهابية، فقد استطاع المواطنون الجزائريون إحاطة القوات الإفرنسية، في كل مكان، بمناخ من التهديد وفقدان الأمن، وقام الأنصار الجزائريون (المسلمون) الشجعان، بتأمين الاتصال بين المواطنين وبين جيش التحرير الوطني في كل مكان من البلاد. ونظرا لمنع الرجال في (تكوت) من مغادرة المدينة - تحت طائلة التهديد بالقتل - الا بعد الحصول على تصريح - إجازة - من السلطات الرسمية، فقد وقع على النساء واجب تأمين هذه الاتصالات. واضطلعت النسوة المجاهدات بكل ما كان يطلب إليهن تنفيذه من الأعمال الشاقة والخطيرة. فكانت جهودهن وأعمالهن ذات أهمية لا تقل من زوجة البطل (بلقيس ولد الغولة) التي لم تكن زغاريدها (اليويو) وزغاريد أخوتها، في المعركة الا لهيبا يرتفع على صخب القتال وضجيح الأسلحة، مما كان يثير حماسة المجاهدين ويدخل الرعب في قلوب جند الأعداء. وقد كان صوت (العمة الغولة) دونما مبالغة أشد وقعا وأعمق تأثيرا من كل وصف. وكانت العمة الغولة ضخمة الجثة، قوية البنية، سوداء اللون تقريبا، ذات شجاعة لا تطالها مقاييس اختبارات الشجاعة، إنها لم تتذمر في يوم من الأيام، ولم ينل منها التعب أبدا وهي تجوب الجبال باستمرار، لتنقل الأخبار إلى المجاهدين. ولتؤمن لهم الاتصالات الضرورية، طوال سنوات الحرب. فنسجت بذلك - للتاريخ - أسطورة ملحمة طويلة جدا

هـ - اندلاع الثورة في متيجة (متوجة)

بحيث يصعب الإلمام بها أو الإحاطة بفصولها. وكانت مدرسة للصبر والجلد واحتمال كره القتال والاستعداد الدائم للتضحية والفداء. بمثل هذه النماذج الأسطورية اقتحم الثوار التاريخيون أبواب التاريخ. هـ - اندلاع الثورة في متيجة (متوجة) (¬1). اختار رئيس (قسمة) في (برج المنيل) أربعة شبان من بين مجموعة كان أفرادها يتحرقون شوقا ويتقدون حماسة لخوض الصراع المسلح ضد الاستعمار الافرنسي الجاثم على صدر بلادهم. ولم يكن الحافز لاختيار هؤلاء الأربعة من دون سواهم - في شهر تموز - يوليو - 1954 - إلا نتيجة طبيعية لما عرف عنهم من نشاط ومن فاعلية علاوة على صغر سنهم. لقد كانوا يشكلون قسما من خلية تابعة لتنظيم (اللجنة الثورية للوحدة والعمل). وكان واجبهم آنذاك العمل مع العشرات من إخوانهم المجاهدين لنشر الدعاية وجمع المعلومات عن المجمعات المشتركة - كومون ميكست - وكان هذا الواجب من أصعب الأعمال في تلك الفترة، نظرا لما كانت تتعرض له الجزائر وشعبها المجاهد من ضغوط ¬

_ (¬1) كاتب هذه الفقرة هو (أحمد جنان) في (قصص من النار - أفرنسي) إصدار سنيد - الجزائر. ص 43 - 48. والكاتب أحمد جنان من قدامى المجاهدين في (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) وقد عمل في منطقة (برج المنايل) ولم يكن عمره أكثر من تسعة عشر عاما يوم اشترك مع إخوانه المجاهدين في الهجوم على الثكنات العسكرية في (بليدا) و (بوفاريك).

استعمارية قاسية. وفي بداية الأمر، فصل الأربعة عن رفاقهم المجاهدين في الخلايا القديمة، واتخذت قيادتهم كل ما هو ضروري من الإجراءات لإبعاد الشبهات والشكوك عنهم، ولحماية الأعمال التي كان يتم تنفيذها استعدادا لتفجير الثورة. واستمر التعامل معهم أقصى درجات الحذر، من قبل كل إخوانهم، ذلك لأنهم كانوا حتى تلك الفترة من العناصر الضعيفة إذا ما تمت مقارنتهم بقدامى الثائرين. وكان هناك خوف من ضعفهم تجاه الانقسامات التي كان يصطنعها النظام الاستعماري في قلب الحركة الوطنية. ولهذا، بقي اتصال هؤلاء الأربعة، خلال مرحلة الإعداد، مقتصرا ومحددا بواحد من رجال التنظيم السري، كانت السلطات الاستعمارية تبحث عنه منذ أحداث سنة 1947. وكان واجبه تدريب الشباب الأربعة على استخدام الأسلحة وأساليب القتال. غير أن هذه المرحلة لم تستمرأكثر من أشهر قليلة، إذ كان قادة التنظيم قد تساحوا بالخبرة التي استخلصوها من تجربتهم الحية في سنة 1951 والتي عايشوها في قلب التنظيم السري. وكانت هذه الخبرة المستخلصة تفرض على رجال التنظيم السري (التحرك بسرعة حتى لا تتوافر للعدو مهلة زمنية كافية تساعده على اكتشاف التنظيم ومعرفة أهدافه). ومن أجل ذلك، احتفظ القادة بموعد بدء الثورة سرا، ولم يعلنوه حتى اللحظة الأخيرة، ولم يكن اختيار موعد بدء الثورة اقتراحا عشوائيا، أو اتفاقيا مصادفا، وإنما كان عملا مدروسا، فتحديد هذا الموعد ليصادف الأول من تشرين الثاني - نوفمبر - حيث (عيد جميع القديسين) هو مناسبة اعتاد الرجال الاستعماريون على الاحتفال بها.

ففي الساعة الواحدة من منتصف الليل، وهو توقيت القيام بالعمل - ينصرف رجال الإدارة الاستعمارية الى احتفالاتهم المعتادة، وتكون الإدارة في حالة عطالة تقريبا، الأمر الذي يضمن للثوار فترة زمنية كافية لتوجيه ضربتهم، والانسحاب بعد ذلك، الى قواعدهم المأمونة دونما تهديد مباشر بالمطاردة. وهكذا تم اتخاذ كافة التدابير التي تؤمن انطلاقة الثورة لتكون عامة وشاملة منذ اللحظة الأولى. لقد تم اختيار الشبان الأربعة، للاشتراك في عمليات تفجير الثورة في إقليم (بوفاريك) في حين تم اختيار سواهم للاشتراك في تفجير الثورة في إقليم (بليدا)، وعرف هؤلاء باسم (خلية عقيل عمولا) - وتم إعلامهم بمهمتهم يوم 29 تشرين الأول - اكتوبر - أثناء قيامهم بالتدريب على المسير الطويل. وتولى إبلاغهم ذلك رئيس قسم التنظيم شبه العسكري في (قسمة) والمشهور بلقب (السيد الشارب) - نسبة إلى شاربه الضخم الذي كان يغطي وجهه - وهو من (عين سكونا - مجمع برج المنايل). وقد استمر في أداء دوره الثوري حتى سقوطه في ميدان الشرف سنة 1959. المهم في الأمر، هو أن السيد الشارب أعطى أوامره إلى الشبان الأربعة بالتوجه إلى الجزائر للاتصال (بالسيد الطاهر) الذي كان من واجبه مرافقتهم لمقابلة مسؤول كبير (لم يكن غير العقيد عمران بحسب ما أصبح معروفا بعد ذلك). وكان من المفروض أن يتم هذا اللقاء في الجزائر العاصمة. وقام (السيد الطاهر) بتحديد موعد اللقاء ومكانه: (في الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم التالي - في ساحة بورسعيد). وما أن

وصل الشباب الأربعة في الموعد المحدد إلى المكان المعين، حتى تبين لهم بأن موعد المقابلة ومكانها هو مجرد تدبير احترازي، إذ قابلهم هناك مرة أخرى (السيد الطاهر) ورافقهم إلى مقهى يقع في (بيرجبة) من مرتفعات (حي القصبة). وكان هذا المكان هو مركز الالتقاء بكافة المجاهدين القادمين من القبائل للإسهام في العمل المشترك الذي كان يتقرر في اجتماعات الجزائر. قد يكون من المناسب هنا التوقف قليلا عند ظاهرة - تدابير الحيطه المشددة - التي رافقت اتساع أفق العمل وتطوره. إذ أن هذه الظاهرة، لم تكن في الواقع إلا نتيجة من نتائج انقسام الحزب وتمزقه، وقد حرص القادة على الإفادة من هذا الانقسام، واستخدامه رداء خارجيا، وستارا لحماية الحركة السرية. ولفهم هذا الانقسام وانعكاساته لا بد مرة أخرى من العودة إلى المراحل الأولى لتنظيم (اللجة الثورية للوحدة والعمل) التي ضمت الأجنحة المتطرفة والحيادية كرد على صراع المركزيين والمصاليين في (حزب انتصار الحرية والديمرقراطية). وقد ضمت أجنحة (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) معظم الثوار السريين - الماكي - والذين كانوا يميلون إلى استخدام وسائط الصراع المسلح، وكانوا في الوقت ذاته يمثلون كل أقاليم الجزائر - من قسنطينة حتى منطقة القبائل، ومن أقصى الغرب إلى وهران وأقصى الشرق -. وقد جاء الانقسام في قلب الحزب ليترك شعورا لدى المتطرفين والحياديين بأنهم في النهاية هم (ضحايا هذا الانقسام) وكان انتقالهم لممارسة العمل الثوري في سنة 1947، نتيجة قناعتهم بأنهم وهم يحملون السلاح، سيعيشون معارك حرب التحرير حتى

نهايتها. غير أن قادتهم تخلوا عنهم، وخلفوهم وراءهم، وقطعوا الجسور التي تصلهم بهم، ولم يبق أمامهم إلا البحث عن الوسائل المناسبة للتخلص منهم. وكان من نتيجة ذلك أن وقع عدد كبير منهم في شباك أجهزة الشرطة (البوليس) الإفرنسية. ومن هنا يمكن اعتبار كل تدابير الحيطة وإجراءات الأمن، هي عمل شرعي وضروري، لا سيما وأن الحاجة كانت تفرض تطوير النشاط السري ليشمل كل الصفحة الجغرافية للقطر الجزائري. وكان ذلك بدقة هو سبب استدعاء الشباب المنظم في الخلايا الى الجزائر التي لم تكن أبدا المحطة النهائية في رحلة تفجير الثورة. ففي الساعة (1600) من اليوم ذاته (29 تشرين الأول-اكتوبر) صعد عشرون مجاهدا تقريبا، إلى شاحنة كبيرة كانت تنتظرهم في الممر الواقع بين (الاوبرا) و (نادي الضباط) لتنقلهم الى (الصومعة في ولد عايش). حيث كان على هؤلاء المجاهدين الانتظار لمدة ساعة أخرى في مزرعة يملكها (ابن طوطه)، وهي المزرعة التي عاد المجاهدون للاقامة فيها فترة (24) ساعة. حيث أعلموا بموعد انفجار الثورة. وكانت الظاهرة المثيرة هي أن هؤلاء العشرين الذين نقلتهم الشاحنة. لم يكونوا أبدا على معرفة بأمر وجود مجموعات أخرى كانت تقيم معهم في المزرعة ذاتها، أو تنتشر في المزارع القريبة الأخرى. كما أنهم لم يعرفوا أن هناك منازل أخرى تجاور المنزل الذي أقاموا فيه. وكل ما أمكن لهم معرفته هو أنهم نقلوا الى كوخ يستخدم لحفظ علف الحيوانات، وطلب إليهم عدم مغادرته طوال اليوم، إلا لقضاء حاجاتهم الضرورية جدا. ولكنهم عرفوا بعد ذلك، أن الذين

حضروا قد تجاوز عددهم الخمسين رجلا، جاءوا كلهم من القبائل. كان الهدف هو الهجوم على ثكنة (بليدا) وثكنة (بوفاريك) , وكان على المجاهدين المحليين، وعددهم قليل نسبيا في تلك الفترة، الإغارة على مكتبة (علي بابا) وتدميرها. ولقد كان لكل عملية من هذه العمليات قصتها، غير أنه من المناسب هنا انتقاء قصة واحدة منها، هي قصة الإغارة على ثكنة (بوفاريك). ولقد كان الهجوم على هذه الثكنة (وعلى ثكنة بليدا أيضا) نتيجة أبحاث طويلة، ودراسات مستفيضة، وإعداد دقيق. وكان الهجوم على ثكنة (بوفاريك) يعتمد في أساسه على الرقيب (سعيد بن طوبال - وهو شقيق الأخضر بن طوبال عضو المجلس الوطني للثورة الجزائرية). أما الهجوم على ثكنة (بليدا) فكان يعتمد على (سعيد قودي) من مواليد برج المنايل، وكلاهما كانا يخدمان تحت العلم الإفرنسي، وكان الهدف من الهجوم على الثكنات هو الاستيلاء على ما يمكن الحصول عليه من الأسلحة، والتي كان الثوار أحوج ما يكونون إليها. وكان (الأخ سعيد) في هذه الليلة هو رئيس الحرس، وعليه تقع مسؤولية تبديل الخفراء طوال مدة (24) ساعة. وهذا يعني أن مفتاح الدخول الى الثكنة كان في قبضته. وعلى هذا، غادرت مجموعة (الكوخ) مقرها في الساعة (00، 22) تقريبا. وسارت لمدة ساعة تقريبا قبل أن تلتقي بمجموعة أخرى في كرم من كروم العنب، غير بعيد عن الثكنة. وهنا فقط ظهر العقيد (عمران) في وسط المجاهدين وهو يحمل مسدسا ألمانيا. فيما كان مرافقاه يحملان مسدسات رشاشة انكليزية (طراز ستين) وكانت تلك هي كل الأسلحة التي توافرت لإفراد المجموعة.

مكثت مجموعة الفدائيين المجاهدين في كرم العنب فترة قصيرة من الوقت، حتى إذا ما حان موعد التنفيذ، تحركت نحو هدفها، ووصلت إلى جسر كان يقع على مقربة من الثكنة، وتوقفت عنده، وانتشر الأفراد على أطراف الجسر، وتحته، بينما توجه اثنان من الفدائيين إلى الثكنة ودخلاها برفقة رئيس الحرس (الرقيب بن طوبال). وتوجه الثلاثة إلى مستودع الأسلحة، وشرعوا بقطع السلاسل الحديدية الغليظة التي كانت تقيد الأسلحة وتثبتها. وعندما انطلقت المجموعة لاقتحام الثكنة، تنبه أحد رجال الحرس، وأعطى شارة الإنذار. وفشلت العملية في تحقيق هدفها (وبالطريقة ذاتها أصاب الفشل عملية الإغارة على ثكنة بليدا). لقد كان بالمستطاع تحقيق النجاح في عمليتي الهجوم على الثكنتين، لو أمكن اتخاذ المزيد من تدابير الحيطة عند التنفيذ، وكان النجاح في تنفيذهما - لو تحقق - سيدعم من قدرة الثوار، خلال المرحلة الأولى من عمر الثورة. وإذا كان هدف العمليات الأخرى التي نفذت في كل أنحاء البلاد هو الإعلان عن بدء الصراع المسلح، فقد كان هدف العمليتين هو الحصول على الأسلحة التي يتطلبها هذا الصراع. وكان من نتيجة هذا الفشل أن تعرض ثوار القبائل وثوار الجروة للمعاناة المريرة من نقص الأسلحة في أيديهم، منذ الأيام الأولى لانطلاقة الثورة. وليس بالإمكان القول أن فشل العمليتين قد غير من مسار انتشار الثورة وتطورها وفقا لما كان يرغبه قادة الثورة ورجالها. وبات لزاما على قادة الثورة توسيع أفق ثورتهم بضم المناطق وتنظيمها على مهل، وبصورة بطيئة، دوارا بعد دوار، وقرية بعد قرية. وقد أفاد الثوار

السريون - الماكي - من مجموعة الظروف، لضم المجاهدين الى صفوفهم بصورة انتقائية، وتنظيمهم، حتى امتد تنظيم جبهة التحرير الوطني وجيشها ليغطي كل تراب الوطن. وعلى كل حال، فإن (الجروة) لم تتأخر كثيرا عن اللحاق بركب الثورة، على الرغم من هذا الفشل، وأمكن لها الاضطلاع بدورها، حتى إذا ما جاء مؤتمر الصومام (في 20 آب - أغسطس - 1956) كانت (الجروة) قد نجحت في تصحيح الأوضاع، ووضع الأمور في نصابها الصحيح. أما بالنسبة للمجموعة التي أغارت على ثكنة (بوفاريك) فقد أصبح لزاما عليها بعد فشلها في تنفيذ مهمتها، السير طوال الليل للابتعاد عن مسرح العملية. وكان السير شاقا عبر الحقول وفي الأراضي الوعرة، كما كان أفراد المجموعة يجهلون الطريق المؤدي الى نقطة الإزدلاف (الاجتماع). وهكذا فإنهم لم يصلوا الى (الصومعة) حتى شروق الفجر، ومن هناك، استقل أفراد المجموعة مركبة نقلتهم الى (برج المنايل). وتعرض أفراد المجموعة في بعض مراحل الطريق لخطر الوقوع في قبضة الدرك الذين أقاموا الحواجز على الطرق للتأكد من هوية المسافرين، وإلقاء القبض على (الخارجين على القانون) وقبل الوصول الى (برج المنايل) بما يعادل ساعتين من السير، نزل أفراد المجموعة من مركبتهم، وتوجهوا سيرا على الأقدام نحو منزل (العم أحمد) الذي كان يشرف على تدريبهم خلال مرحلة ما قبل الثورة. وقد عمل (العم أحمد) على تكليف أحد رجاله (واسمه لونس عمروني - وهو يعيش حياة الثورة منذ سنة 1947) بمرافقة رجال

و - الولاية الأولى في معركة التحرير

المجموعة، والسير بهم فورا وبدون إعطائهم أية فترة للراحة، حتى الوصول معهم إلى (قروشة الأربعاء) حيث الغابة الكثيفة التي أظلت الثوار، وهناك، التقت المجموعات كلها، لتبدأ مرحلة جديدة من العمل الثوروي. و- الولاية الأولى في معركة التحرير (¬1) بدأت الاستعدادات العسكرية للثورة منذ أوائل ربيع سنة 1954 حيث كان القائد (مصطفى بن بولعيد) يقوم بالاتصالات مع أعضاء المنظمة الثورية في بقية أنحاء الجزائر، يعاونه في جهوده (بشير شيحاني)، في حين كان الحاج الأخضر ورشيد بو شمال) يعملان على تجنيد الشبان المناضلين الذين عرفوا بماضيهم المشرف. فكان يتم قبول هؤلاء المناضلين وتنظيمهم في خلايا عسكرية، بعد وضعهم تحت امتحان دقيق للتأكد من تصميمهم على الجهاد، وصلابة إيمانهم، وقوة إرادتهم. وكان من مهمة (الحاج الأخضر وبو شمال) نشر الوعي الثوري في أوساط الشعب، واختبار مدى استعداد الرأي العام لقبول الثورة، وتنمية الاتجاه الثوري الذي أخد في النمو والانتشار بين جماهير الشعب على أثر قيام الصراع المسلح في تونس والمغرب. وقد استقبلت مناطق الجزائر كلها استقبالا حماسيا مشجعا زيارات ¬

_ (¬1) المرجع: مجلة (المجاهد) الجزائرية. العدد 2، تاريخ 1959/ 5/18. وكاتب البحث هو الحاج الأخضر، والذي عرف في الثورة باسم (الكومندان الحاج الأخضر). وقد تم الاعتماد في البحث على وثائق مركز البحوث في الجزائر - وعلى معرفته الشخصية بمسيرة الأحداث.

(الحاج الأخضر وبو شمال) مما كان يزيد من عزيمتهما ويشد من أزرهما ويدفعهما لتطوير العمل الثوري. ويذكر الحاج الأخضر ذلك فيقول: (كنا نتحدث مع المجاهدين عن مستقبل الجزائر، ونتعرض للظروف المتوافرة والمناسبة لقيام الثورة، ولم نكن نصرح لهم بدهيا بأننا نستعد للقيام بالثورة، ولكننا نشير إشارات بعيدة، فيها من الغموض أكثر مما فيها من الوضوح. فنجد الناس يتساءلون عن سبب عدم إندلاع نار الثورة، ويطالبوننا بالعمل المباشر. وكنا نقدم التقارير الى الأخ- الشهيد- مصطفى بن بو العيد - نؤكد فيها استعداد الشعب للجهاد، وتأييده للعمل الثوري). توافر بنتيجة الجهود المبذولة عدد من خيرة المقاتلين الأشداء، فتم عقد اجتماع للقادة في شهر تموز - يوليو - 1954. تقرر فيه توزيع الخلايا العسكرية على جهات معينة من منطقة الاوراس. وطلب الى كل مجاهد انضم الى جيش التحرير الوطني تقديم مبلغ (16) ألف فرنك من أجل شراء بندقية له. وكانت القيادة قد بدأت بجمع السلاح، غير أنه لم يتم توزيعه على المقاتلين، وإنما كان يتم نقله الى جبال الأوراس حيث الغابات الكثيفة تؤمن غطاء جيدا لممارسة التدريب العسكري، وإتقان الرمي واستخدام السلاح. وبينما كانت عمليات نقل الأسلحة مستمرة بفترات متباعدة الى الأوراس، كانت المناورات العسكرية وأعمال التدريب مستمرة أيضا، حتى جاءت ليلة الثورة. وكان المسؤولون في التنظيم قد أعلموا بالموعد قبل أيام قليلة، وعندما تم إعلام المجاهدين بالوقت المحدد للبدء بالأعمال القتالية، اجتاحتهم

الحماسة، وأظهروا استعداد كبيرا لتقديم التضحيات بالغة ما بلغت. كما أظهروا إدراكا عميقا لأهمية اللحظات الحاسمة التي كانوا يعيشونها. فكانوا يلتزمون بالتعليمات والأوامر وينفذونها بسرية تامة. لقد وهبوا أنفسهم لقضية وطنية مقدسة، ووضعوا ثقتهم في قادتهم المؤمنين الصادقين، وتركوا لهم مهمة الإعداد السري للثورة، وقبلوا تنفيذ كل ما يطلب إليهم تنفيذه بدون مناقشة، ومن غير أن يسألوا عن الهدف أو القصد منه، أو عن موعد العمل المباشر، أو غير ذلك من الأسئلة التي قد تحرج المسؤولين أو تعرض الثورة لخطر مدمر- والثورة لا زالت في بداياتها الأولى. انطلقت الخلايا الثورية الأولى نحو أهدافها المحددة، وهي مسلحة بالإيمان العميق ومحاطة بجو من التنظيم الدقيق والسرية المطلقة والتصميم العنيد. وكان المجاهدون قد وزعوا على الجهات المختلفة، فاتجه ثمانون منهم الى (فم الطوب)، وذهب خمسون الى ناحية (أريس)، واستقر سبعون آخرون في (غابة كامل). وقام خمسة وثلاثون بالهجوم على (بطنة)، وكان النجاح حليفا لهذا الهجوم، حيث قتل للعدو سبعة جنود وأصيب ثلاثة آخرون بجروح. ونجح هجوم (فم الطوب) أيضا حيث احتلتها قوات الثورة لمدة ستة أيام وغنمت منها تسعة بنادق حربية. وفي الوقت ذاته، وهوجمت أريس وخنشلة وتازولت وقلس وغيرها من جهات أوراس الشاسعة. وواجهت قيادة الثورة منذ البداية مجموعة من الصعوبات الضخمة.

فقد بدأت الثورة مع بداية فصل الشتاء. ولم تكن الظروف المناخية تسمح للمجاهدين بتوسيع آفاق الثورة، غير أن هذه الظروف المناخية كانت بدورها عاملا مساعدا على نجاح الثورة؛ ذلك لأنها أعاقت تحرك الأرتال الضخمة للقوات الإفرنسية، وأعطت لقادة الثورة متسعا كافيا من الوقت لإعداد والتنظيم. لقد كان الشك يراود جماهير الشعب في بداية الأمر بقدرة الثورة على الصمود والاستمرار، فإذا ما استطاعت الثورة المحافظة على وجودها لأكثر من ثلاثة أشهر، وتمكنت في الوقت ذاته من تطوير صراعها ضد الإفرنسيين طوال هذه المدة، فعندئذ ستقتنع جماهير الشعب بالقوة الحقيقية للثورة، وستتوافر لديها القناعة والثقة بقدرتها على النجاح. وعلى هذا الأساس، فقد كانت الظروف الطبيعية والمناخية أفضل عامل مساعد على إحباط كل المحاولات والمشاريع التي وضعتها السلطات الاستعمارية لتدمير الثورة، والقضاء عليها وهي لا زالت غضة العود في مهدها. أصبحت الثورة مع بداية العام 1955، راسخة الجذور في قلب الشعب، وتعاظم عدد المجاهدين في صفوف الثورة. وأقبل المواطنون على التطوع بوفرة هائلة في (جيش التحرير الوطني) ودعمه بالأسلحة والذخائر والأموال والتبرع له بكل ما يمتلكونه. وكان من نتيجة ذلك أن أصدر القائد (مصطفى بن بولعيد) أوامره إلى المجاهدين بتوسيع مناطق العمليات، والاتصال بالأخوة المجاهدين في الولايتين الثانية والثالثة. وتم تأمين الإتصال فعلا، وتنسيق التعاون، بين (ولايات الجهاد الثلاث). وانتشر جند الثورة في جميع أنحاء الولاية الأولى، وأرسل ثلاثون مجاهدا الى

منطقة الجنوب الصحراوي فوصلوا الى (وادي سوف) واستقبلتهم جماهير الشعب بحماسة رائعة، وانطلق الدعاة في الأسواق العامة ومناطق التجمع، يحرضون الناس ويدعونهم للجهاد في سبيل الله. وحدثت اشتباكات مع القوات الافرنسية عند حدود الصحراء، تكبد فيها العدو خسائر فادحة تزيد على خمسماية جندي. واستطاعت قيادة الثورة في الشمال تنظيم خلايا ثورية قوية ومتينة (في مدن: العيون وباريكا ومدوكال) وساها من المدن الواقعة على أطراف الولاية، وأصبح الإتصال بالولايات المجاورة منتظما ومستمرا، كما تم الوصول شرقا الى الحدود التونسية. بذلك، ومع بداية العام 1955، بلغت الولاية حدودها الحالية التي تتبع شمالا خط السكة الحديدية القادمة من سوق أهراس الى سطيف، وتنزل غربا نحو (برج بو عريريج - المسيلة) المتقاطعة مع طريق (بو سعادة) وتوازي شرقا الحدود التونسية، وتمتد جنوبا الى أطراف الصحراء الكبرى. وقد أصبحت هذه المنطقة تحمل اسم (الولاية الأولى) منذ أن تم استخدام أسماء الولايات بدلا من المناطق، في أثر مؤتمر الصومام (في 20 آب - أغسطس - 1956)، وقسمت الولاية الأولى إلى ست مناطق رئيسية. من بينها منطقة كبرى محررة تحريرا تاما هي المنطقة الثانية الواقعة الى الغرب من (جبل شيليا) والتي تمتد فيها غابة كامل (كمبل) على مساحة مربعة طول ضلعها ثمانون كيلو مترا. وهذه المنطقة محرمة على القوات الإفرنسية التي لم تكن قادرة على الاقتراب منها إلا بعمليات ضخمة، وبقوات كبيرة يزيد عدد أفرادها على عشرين أو ثلاثين ألف جندي. (الأمر الذي دفع القيادة الإفرنسية لتنظيم

حملة مرة في كل سنة لتمشيط هذه المنطقة). وقد بقيت المنطقة باستمرار قاعدة صلبة للثورة، تنتشر فيها القوات العسكرية للثورة، ويلجأ إليها أعداد المدنيين الكبيرة ليعيشوا فيها ضمن إطار ظروف صعبة بسبب الهجمات المستمرة للطائرات الإفرنسية على أماكنهم، وبسبب فقر المنطقة في الموارد الاقتصادية، وإن كانوا قد نجحوا في حراثة الأرض - بمساعدة جند جيش التحرير وزراعتها ببعض الحبوب والخضار. لقد هرب هؤلاء المدنيون من جحيم القمع الوحشي للإفرنسيين والتجأوا الى قواعد الثورة بالرغم من كل المصاعب التي كانت تعانيها حياة هذه القواعد. وكانت فرحتهم لا توصف وهم يعيشون حياة النظام التي صنعها لهم جند جيش التحرير في تلك المناطق البائسة. فقد عمل جيش التحرير على بناء المنازل لإيواء اللاجئين، ونظم لهم مدارس الأطفال، وأمن لهم تنظيما صحيا يضمن العلاج للجميع. وفي بقية المناطق الأخرى التي تتمركز فيها القوات العسكرية الافرنسية (وخاصة في منطقة بطنة) نظم الثوار أعمالهم للقيام بهجمات مستمرة بلغ معدلها الوسطي خمسة عشر هجوما في الشهر، مع تنفيذ هذه الهجمات. بمجموعات صغرى من الأفراد واجبهم الاشتباك مع قوات العدو بالنيران - مناوشة - ووضعها دائما تحت شعور التهديد بالخطر، وحرمانها من الراحة والأمن. وشجعت هذه الأعمال الناجحة قوات الثورة، فتعاظم حجم أفواج الفدائيين، وتزايد عدد زمر التدمير، التي استطاعت تنفيذ عمليات رائعة بتسلسلها إلى قلب المدن والمراكز الإفرنسية، وتدميرها لموارد العدو الاقتصادية، وإعدامها للخونة وعملاء

السلطة الإفرنسية وقادة الاستعماريين. ولم تمض فترة طويلة حتى بات الشعب كله وهو منظم في خلايا وأفواج تنظيما سياسيا وعسكريا، يتوافق مع متطلبات جبهة التحرير الوطني، ويستجيب لتنظيم جيش التحرير الوطني. وأصبح هناك مجالس للشعب في كل دشرة (أو دسكرة) وفي كل قرية ومدينة. وأظهرت جماهير الشعب حماسة لا نظير للتطوع في الجيش، غير أن النقص في الأسلحة أعاق عملية تطويع كل الراغبين في حمل السلاح. لقد نضج الشعب على لهيب الحرب، وأصبح أكثر استعدادا لاحتمال أعظم التضحيات، ورافق ذلك تعاظم في مستوى الوعي الثوري، وبلغ هذا الوعي، من العمق والقوة، ما جعله قادرا على مجابهة التحديات مهما عظمت، وتجاوز الصعوبات مهما اشتدت. وكان دليل ذلك هو فشل كل وسائل الضغط والارهاب في إضعاف مقاومة الشعب الجزائري، وكذلك فشل محاولات فصل جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني عن الشعب. لقد استخدمت أجهزة الاستعمار الافرنسي وسائل كثيرة، وطبقت أساليب متنوعة، تلتقي كلها عند هدف واحد هو إبادة الشعب الجزائري بطرائق منهجية. وكان في جملة ما طبقته للوصول الى هذا الهدف، حشد الشعب في معسكرات اعتقال أطلق عليها اسم (مراكز التجمع). ويمكن تقسيم هذه المراكز الى قسمين رئيسيين، قسم قريب من الطرق العامة والأراضي المنبسطة (السهلية). وهذا القسم هو الذي كان يتم عرضه على رجال الصحافة والمحققين والباحثين من الأجانب وغيرهم، ولذلك بذل

الجيش الإفرنسي عناية خاصة بنزلاء هذا القسم من المراكز، فأمن للنزلاء المساكن المقبولة، وحدا أدنى من متطلبات الحياة، ليتظاهر بأنه لا يرمي من إقامة هذه المراكز إلى إبادة الشعب الجزائري. أما القسم الآخر، فيشمل المراكز البعيدة، وهي تشكل الأكثرية المطلقة لهذه المراكز، وتمثل الحياة فيها أشد أنواع البؤس، وأقسى صنوف الشقاء، مما يصعب وصفه أو الإحاطة به. ومثال ذلك، أن السلطات الاستعمارية كانت تحشر في المركز خمس عشرة أو ست عشرة عائلة كبيرة في غرفة واحدة؛ هي عبارة عن كوخ؛ لا يضمن لساكنيه ونزلائه أي وقاية ضد البرد والمطر. وانتهى الأمر بمعظم هؤلاء الى الإصابة بمختلف الأمراضا المستعصية، علاوة على ما كان يعانيه المعتقلون من الجوع. والتعذيب، وانتهاك الأعراض، وكل أنواع الضغوط المادية والمعنوية، التي سلطها عليهم جند الجيش الافرنسي. ولم تتوقف السلطات الاستعمارية عند هذا الحد، بل تجاوزته الى تعميم عمليات (تعقيم) الشباب من ذكور وإناث، لمنع الشعب الجزائري من التكاثر والتناسل، كوسيلة في جملة وسائل إبادة الشعب الجزائري. لم تضعف مقاومة الشعب الجزائري بالرغم من كل هذا العذاب المسلط على رقابهم، فأخذ المواطنون في حض الجيش على المزيد من المقاومة، وتحريضه على الصبر والثبات. وكانت النسوة في مراكز التجمع يرفضن التحدث الى نساء (القوم). ولا يقبلن زيارتهن أو الذهاب معهن لجلب الماء. كما كان الأطفال ينشدون الأناشيد الوطنية، ويغنون الأغاني الحماسية، على الرغم من الأمراض التي كانت تنخر في أجسامهم الغضة الطرية. وكان

هؤلاء الأطفال - البؤساء الجياع- يقلدون في ألعابهم مجاهدي جيش التحرير، فينظمون الكتاب والسرايا، ويسخرون من الجنود الإفرنسيين ويتوعدونهم بالموت على أيدي جنود جيش التحرير الوطني - كان من نتيجة هذه المعاملة الإفرنسية، أن أخد المواطنون في البحث، من داخل هذه المراكز، عن كل وسيلة للفرار نحو الجبال، وكانوا يفضلون أن يهيموا على وجوههم بلا مأوى، وبدون طعام، على أن يبقوا في مراكز التجمع، معرضين للموت البطيء، ولكل أنواع العذاب والذل والهوان مما كان يسلط عليهم جند الاستعمار. ولم يقف جيش التحرير مكتوف الأيدي أمام خطة الاستعمار لإبادة الشعب الجزائري. فكونت الولاية الأولى على سبيل المثال: تنظيما صحيا لتأمين علاج أفراد الشعب يشرف عليه ثلاثة أطباء. كونوا بدورهم جهازا ضم عددا كبيرا من الممرضين والممرضات. وكان جيش التحرير يلتقط الفارين من هذه المراكز، ويبعث بهم الى المناطق المحررة حيث يجدون فيها ما يحتاجونه من العناية الصحية والرعاية الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، كانت مجالس الشعب في القرى والمدن توزع المساعدات على المحتاجين، وضحايا القمع الاستعماري. وإذا كانت خطة الجيش الإفرنسي هي إبادة الشعب الجزائري، فقد جاءت خطة جبهة التحرير لتعمل على صيانة الشعب وحمايته وتنظيم حياته الاجتماعية، وإذكاء روح الصمود والمقاومة في صفوفه. وأصبحت السلطة الحقيقية في الجزائر كلها وهي محكمة في قبضة جبهة التحرير، حتى أن عددا كبيرا من المعمرين

ز - الثورة في ولاية وهران

(الكولون) كانوا يدفعون للجبهة الاشتراكات والتبرعات، ويقدمون المواد التموينية للجيش. وبصورة عامة، فإن الشعب الجزائري، قد عاش تجربة الجهاد التي كونته تكوينا جديدا، فأصبح مؤمنا بمصيره الحر وبمستقبله المشرق. ز - الثورة في ولاية وهران (¬1) ولاية وهران، أو الولاية الخامسة، وهي تمتد من البحر الأبيض المتوسط شمالا، إلى أقصى جنوب الجزائر، وتمتد من حدود المغرب الأقصى الى الحدود الإدارية لعمالة الجزائر شرقا. وهي تمثل ثلث مساحة القطر الجزائري. وتشمل ثماني مناطق عسكرية. وقد نظمها المجاهد الشهيد (محمد العربي بن مهيدي) بمعاونة (بوصوف) وبعض المجاهدين الآخرين الذين استشهد بعضهم وسجن بعضهم الآخر. وكانت الولايات حينذاك تدعى (بالمناطق). ولم يبدأ العمل في منطقة وهران، منذ أول تشرين الثاني - نوفمبر - 1954. إذ استطاع العدو، مع بداية الثورة، تدمير الفرق الصغيرة والخلايا التي كانت منظمة حينذاك. ومضت فترة بعد ذلك من إعادة تنظيم الخلايا، والاستعداد السري، وتجنيد الشباب ممن عرف عنهم الصدق في وطنيتهم والإخلاص لمبادئهم، وبماضيهم المشرف في الصراع ضد الاستعمار، وبعملهم الدؤوب في نشر الوعي الوطني والثوروي في وسط جماهير الشعب. وقد أظهرت جماهير (وهران) في هذه الفترة حماسة رائعة للقيام ¬

_ (¬1) المرجع: مجلة (المجاهد) الجزائرية 1/ 5/1959.

بالعمل العظيم الذي سيبقى خالدا في تاريخ الثورة الجزائرية، وهو العمل المعروف باسم (معركة جبل عمور). ... وقعت (معركة جبل عمور) يوم 2 تشرين الأول - أكتوبر - 1956. وشارك فيها خمسمائة جندي من جيش التحرير الوطني، في حين كانت القوات الإفرنسية تضم آلاف المقاتلين. وقد استمرت المعركة أسبوعا كاملا، وكانت نتيجتها قتل 1375 جنديا افرنسيا، من يينهم 92 ضابطا، دفنوا في (تاهرت) وإحراق 82 سيارة (ج. م. س) وجيب. وحصل الثوار على أسلحة وفيرة وبكميات هائلة، حتى كان كل جندي من جنود جيش التحرير يحمل معه أربعا أو خمسا من البنادق. كما أسقطت عدة طائرات حربية فرنسية. ولم يخسر المجاهدون في المعركة سوى أربعين شهيدا. وذلك لأن المجاهدين أفادوا من عنصر المباغتة، بقدر ما أفادوا أيضا من الموقع الطبيعي لميدان القتال، حيث الجبال المنيعة والأراضي الوعرة. ... لقد بدأت قصة هذه المعركة عندما مرت كتيبة من كتائب جيش التحرير بقرية بدوية، وعلمت من سكانها أن قوات فرنسية ضخمة كانت تسير نحو القرية، فانسحبت الكتيبة نحو الجبل القريب من القرية. ووصلت القوات الإفرنسية، وعاثت فسادا في القرية المحرومة من كل وسائل الدفاع. وارتكبت فيها أنواع الفظائع والمنكرات والمحرمات، ونكلت بالمواطنين، فقررت الكتيبة

الانتقام للضحايا البريئة. وأقامت كمينا للقوة الافرنسية في الطريق وأبادتها إبادة تامة، بحيث لم ينج منها إلا ضابط برتبة صغيرة، فر بسيارته لينقل الى قيادته مصير القوة وما تعرضت له من الدمار الكامل. وأثناء ذلك، قامت كتيبة جيش التحرير الوطني بجمع الأسلحة والغنائم، والتحقت بثلاث كتائب أخرى من قوات جيش التحرير، ولم يتمكن الإفرنسيون من القيام برد فعل مباشر في اليوم ذاته، فانتظروا حتى اليوم التالي، حيث دفعوا بقافلة تضم مائة وخمس مركبات عسكرية، للانتقام من هزيمة اليوم السابق، وكانت قوة كتائب جيش التحرير الأربع لا تزيد على خمسمائة مقاتل، تم توزيعهم على امتداد سبعة كيلومترات في كمين محكم يجاور الطريق. ومكث المجاهدون في مراكزهم وأماكينهم ينتظرون وصول القافلة الإفرنسية الى منطقة القتل لينقضوا عليها. ووصلت القافلة، وأخذت في المرور من أمام قوة الكمين، وعلى مدى نار أسلحة المجاهدين، الذين لم يظهروا أي حركة واحدة، حتى أصبحت القافلة كلها محاصرة داخل دائرة الكمين. وفتح المجاهدون نيران أسلحتهم بصورة مباغتة، أذهلت القوات الإفرنسية ونشرت الذعر والفوضى بين أفرادها، والتهمت النار سياراتها العسكرية، وتساقط جنود القوة الإفرنسية وضباطها قتلى بالمئات. وتوالت النجدات الافرنسية، بعد أن وصلتها أخبار المعركة، وما نزل بالقوة من نكبة مدمرة. فتوزعت كتائب المجاهدين الى زمر ووحدات صغرى، وتابعت الاشتباك بالنيران مع القوات الإفرنسية، مع الانقضاض عليها كلما رأت الظروف

مناسبة لها. واستمرت الاشتباكات لمدة أسبوع كامل. وكان معظم الجنود الإفرنسيين الذين لقوا حتفهم بالجملة في هذه المعركة، هم من المجندين الذين وصلوا حديثا من فرنسا. انتشرت أخبار هذا الانتصار الرائع في كل أرجاء البلاد، وتركت أثرا عميقا في أهالي الجنوب الجزائري بصورة خاصة، لأنهم لم يكونوا من قبل على اتصال بثوار ولاية وهران - أو الولاية الخامسة - وأصبحوا وهم يتحدثون بإعجاب وتقدير عن المصير الذي آل إليه (جيش آفلو) على أيدي الثوار الوهرانيين. وهم ينظرون الى المستقبل نظرة الأمل والتفاؤل والإيمان بحتمية النصر. وتغنى الشعراء الشعبيون - وما أكثرهم وأروعهم في جنوب البلاد - في أشعارهم وأزجالم بهذا النصر الكبير الذي أعاد إلى أذهانهم ذكريات الأجداد الأبطال وملاحمهم الخالدة على الزمان. ومقابل ذلك، تأثرت القوات الإفرنسية الى حد كبير بنتيجة هذه المعركة، وانهارت روحها المعنوية. وأصبحت نظرتها إلى الثوار مرتبطة بمشاعر الرعب والهلع. وتزعزعت صفوف (بن يونس) أو (بليونس) الذي حاول الافرنسيون استخدامه ضد أمته وشعبه فجندوا له جيشا هزيلا معظم أفراده من المستوطنين للعمل ضد جيش التحرير وقوات الثورة. وهكذا، ومع حلول شهر تشرين الأول- أكتوبر- 1956، انتشرت آفاق العمليات إلى كل المناطق. ووصلت وحدات من (معسكر غليزان) إلى ناحية (تاهرت) وبذلك تم تعميم العمل الثوري العسكري في كل أنحاء الولاية. ودخلت الثورة الجزائرية مرحلة جديدة في جميع

الميادين الاجتماعية والسياسية والعسكرية. وأصبحت منطقة وهران بمقتضى التنظيم الجديد تحمل اسم (الولاية الخامسة)، وتعمل تحت قيادة (عبد الحفيظ بوصوف)، وقسمت الولاية بدورها إلى ثماني مناطق، مقسمة الى نواح وأقسام، وحددت المسؤوليات تحديدا دقيقا. وأدخلت الرتب العسكرية. وأصبح الجيش منظما تنظيما حديثا. ومدربا تدريبا عسكريا جيدا. وكان لهذا التنظيم الجديد صداه الكبير في الداخل والخارج. وتدعمت الثورة بخروج الشباب المثقف لميدان العمل بعد إعلان الإضراب العام عن الدراسة في المدن، وتطوعهم في جيش التحرير، حيث قدموا خدمات كبيرة في ميدان نشر الوعي الاجتماعي والسياسي في صفوف الشعب. وأسهموا بإطلاق طاقاته الكامنة، وتنظيمها لبناء الجزائر الجديدة. تبع ذلك تغيير في الحالة النفسية للشعب، فقد انتشرت الفكرة الثورية بجانبيها الاجتماعي والسياسي. وكانت المنشورات والصحف الصادرة عن الولاية، توضح للشعب مبادىء الثورة وأهدافها، وتتحدث عن نشاط الثورة في الداخل والخارج. ونظم الموجهون السياسيون الخلايا الثورية في كل مكان من القرى والمدن. كما تكونت (المجالس الشعبية التي ينتخبها الشعب بالاقتراع العام المباشر. وكانت الانتخابات تجري في الليل، ويقبل أفراد الشعب على الاشتراك فيها بحماسة رائعة. وتقوم هذه المجالس، الى جانب اللجان الثلاثية، بكل الأعباء الإدارية والاجتماعية، من تعليم وقضاء وجمع للتبرعات، وإشراف على الخدمات الصحية، وإسعاف للمنكوبين من ضحايا

القمع الاستعماري. فيحصل المحتاجون والأيتام وعائلات المعتقلين والمجاهدين على الإعانات اللازمة لهم. وكثيرا ما كان يحدث أن تجد أسرة تعرضت للقمع الاستعماري وفقدت منزلها، خلال ساعة واحدة، بيتا جديدا يؤويها، مع تقديم كل المساعدات من مأكل وثياب، وسوى ذلك من متطلبات الحياة الضرورية. وفي مجال الخدمات الصحية، أصبح في ولاية وهران - اعتبارا من عام 1957 على وجه التحديد - عدد كبير من الأطباء والطلاب الذين درسوا في كليات الطب، والممرضين (وكان يتم من قبل تكليف الممرضين بتعليم المجاهدين مبادىء الإسعاف الأولية) وأدى توافر الأطباء الى دعم التنظيم الصحي. فأقيمت مراكز طبية ومستوصفات تعمل تحت الأرض - في الملاجىء - يعمل فيها الممرضون ويتردد عليها الأطباء. ونظمت مدرسة لإعداد الممرضين. ونجح أحد الأطباء بإقامة مستشفى كامل الأجهزة والمختبرات، تحت الأرض، وبه أجهزة لإجراء التحاليل، والقيام بالتجارب الطبية، مع وجود أسرة كافية لمعالجة الحالات الخطيرة. ودرب عددا من الممرضات الاختصاصيات لمعالجة النساء والمدنيين الذين أصبحوا بعد المقاطعة التامة للإدارة الإفرنسية وأجهزتها، يمتنعون عن الذهاب للأطباء الإفرنسيين. فكان من الضروري الاهتمام بمعالجتهم. وكان الطبيب يقوم بنفسه بجولات على القرى لمعالجة المرضى المدنيين - غير المقاتلين. وقد انتشر هذا التنظيم الصحي في جميع أنحاء الولاية، فكان يوجد في كل منطقة طبيبان أو ثلاثة أطباء، ومستشفى للجراحة العامة، الى جانب

المستوصفات - مراكز التمريض - في كل النواحي والأقسام. ... تلك هي سطور قليلة في قصة بداية الثورة وفي عرض فصول هذه البداية من الإيجاز قدر ما فيها من التفصيل، وفيها من التشابه قدر ما فيها من الإضافات المثيرة والمفيدة في آن واحد. وقد كان بالمستطاع دمج تلك الفصول (الأقاصيص) في رواية واحدة لحذف ما ورد فيها من تشابه أو تكرار، غير أنها والحالة هذه ستفقد كثيرا من صورها الجمالية، كما ستفقد طبيعتها الطوعية في سرد الأحداث. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التكرار المقبول في بعض الأحيان هو مما يساعد على تركيز بعض النقاط الهامة والحاسمة في (قصة بداية الثورة). لقد بدأت الثورة بعد مرحلة طويلة من المخاض العسير، ولو أن الإعداد في المرحلة الأخيرة لم يتجاوز الشهور القليلة. ويعتبر ذلك برهانا حاسما، لا يقبل الجدل والنقاش، على قوة قاعدة الثورة في الوطن الجزائري وصلابتها، وهي القاعدة التي استمر العمل لبنائها ودعمها عشرات السنين. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن انطلاقة الثورة من المنطقة الشرقية، وثبات قاعدتها فيها، لا يعود إلى العامل الجيواستراتيجي فقط، أي الى صعوبة منطقتي الأوراس والقبائل من الناحية الجغرافية، بقدر ما يعود الى طبيعة العامل البشري (الديموغرافي). فقد استطاع المسلمون في هذه القاعدة المحافظة على أصالتهم، والتمسك بعناصر قوتهم (الإسلام والعروبة)، فكان في ذلك الأساس الثابت للبناء الثوري الضخم.

وبعد، فقد انطلقت الثورة، وخاضت معاركها في إطار (حروب الإيمان). الإيمان بالله وبقضية الوطن والمواطن المسلم والعربي. ولم يكن اختيار كلمتي السر والإجابة (خالد - عقبة) لإطلاق شرارة الثورة، إلا تأكيدا على ربط الثورة بأرضيتها الصلبة. وكان لفرنسا وأجهزتها الاستعمارية دور لا ينكر في مساعدة الثورة على الانطلاق والتطور. فأساليب القمع الوحشية، ووسائل القهر والإذلال، قد تنجح لفترة مؤقتة، وقد تنتصر ضد شعب محروم الجذور (كالهنود الحمر مثلا) غير أنه من المحال لها أن تنجح بصورة نهائية أو تنتصر بصورة حاسمة ضد شعب يضرب في أصالته الى أعماق التاريخ. وذلك هو الدرس الذي استوعبته جيدا مراكز القوى المضادة للعالم الإسلامي فمضت في أساليبها المتطورة لضرب هذه الأصالة (في المسجد الاسلامي والمدرسة الاسلامية)، وذلك هو الدرس الذي يجب على العالم الاسلامي - العربي استيعابه في فلسطين، وفي غير فلسطين من أقطار العالم الاسلامي. لمجابهة الحملات الضارية التي لا زالت تفتك بكيان الأمة الخالدة. لقد نسج الثوار التاريخيون قصة بداية الثورة، يتضحياتهم وجمودهم ودمائهم، فدفعوا من أموالهم ثمن أسلحتهم، ووصلوا الليل بالنهار والأيام بالشهور في جهد مستمر لا يعرف التعب، ولا يتطرق إليه الوهن أو اليأس، وسط صعوبات لا توصف، حتى أمكن تسجيل بداية الحدث التاريخي، ثم مضى عدد كبير من رواد الثورة، شهداء إلى الملأ الأعلى، تاركين لإخوانهم في الله والوطن متابعة المسيرة على الطريق الذي رسموه بتضحياتهم

وأرواحهم. فكان هؤلاء الرواد نماذج حقيقية للثوار الحقيقيين والأحرار الأصلاء. لقد خرجوا على الدنيا، ووهبوها وجودهم وما يملكونه فكان في ذلك انتصارهم الحاسم (على النفس والهوى). وكان في هذا النصر العدة الحقيقية للنصر على الأعداء.

المراجع

المراجع

_ 1 - ثورة الجزائر (آلان سافاري) ترجمة نخلة كلاس. إدارة الشؤون العامة والتوجيه المعنوي - دمشق عام 1381 هـ 1961 م. 2 - ثورة الجزائر (جوان جليسبي) ترجمة عبد الرحمن صدقي أبو طالب - الدار المصرية للتأليف والترجمة - القاهرة -1966. 3 - ليل الاستعمار (فرحات عباس) ترجمة وليم خوري - دمشق - 1964. 4 - أضواء على القضية الجزائرية (إبراهيم كبه) بغداد - 1956. 5 - الاستعمار وآثاره في الجزائر- الجمهورية الجزائرية - مكتب دمشق - قسم الدعاية - 1958. 6 - جغرافية الجزائر (حلمي عبد القادر علي). دمشق -1968. 1 - RECITS DE FEU (PRESENTATION DE MAHFOUD K. ADDACHE) SNED - S.N. EL MOUDJAHID - AL GER - 1977.

الفهرس

الفهرس

_ الموضوع .......................................... الصفحة

_ ب - 3 - الأودية الصحراوية ...................................... 76 ج - النطاقات المناخية ............................................ 78 د - الغطاء النباتي ................................................ 80 د - 1 - إقليم البحر الأبيض المتوسط ............................. 82 د - 2 - إقليم الاستبس ............................................ 85 د - 3 - الإقليم الصحراوي ......................................... 86 الفصل الثاني ....................................................... 89 1 - في فلسفة الثورة ................................................ 91 2 - البيان الأول للثورة ............................................. 55 3 - مكتب جبهة التحرير في القاهرة يصدر بيانه عن الثورة .......... 103 4 - بدايات العمل الثوري ........................................... 106 5 - انطلاقة الثورة في كتابة قائد فرنسي ............................. 120 6 - عقبات على طريق الثورة ....................................... 120 7 - الثورة في وثائق ثوارها .......................................... 130 آ - الإعداد للثورة ................................................... 130 ب - الله أكبر - خالد - عقبة ...................................... 143 ج - لهيب الثورة في أريس .......................................... 157 د - فجر يوم الثورة المسلحة ......................................... 169 د - إندلاع الثورة في متوجة (متيجة) ................................. 180 و- الولاية الأولى في معركة التحرير ................................ 188 ز - الثورة في ولاية وهران ........................................... 197 المراجع ............................................................. 206

10 - جيش التحرير الوطني الجزائري

جيش التحرير الوطني الجزائري

بسم الله الرحمن الرحيم

بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1404 هـ - 1984 م الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986م

الإهداء

الإهداء إلى أرواح الشهداء: مختار، وعميروش، وعيسات إيدير، وأحمد نصيب، وأحمد بن عبد الرزاق، وعبان رمضان، وزيغوت يوسف، وديدوش مراد .. وإلى أرواح مليون ونصف المليون من الشهداء المجاهدين الذين ماتوا لتعيش أمتهم من بعدهم، على طريق الحرية والكرامة والعزة. {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}

المقدمة

المقدمة تلك هي قصة (جيش التحرير الوطني الجزائري) في ولادته ونشأته وتطوره ولقد ولد هذا الجيش وتطور من خلال الصراع المرير وعبر التضحيات والآلام التي لا تقدر ولا توصف. ولقد كان هذا التطور مثيرا بحق لاتساعه وشموله. فقد انتقل جيش التحرير من عصر (الأسلحة الفردية وبواريد الصيد) إلى عصر (الجيوش الحديثة) خلال سنوات قليلة، وزاد في حجمه عشرات الأضعاف عما كان عليه في يوم انفجار الثورة، ورافق هذا التطور (الكمي) تطور (نوعي) مماثل، رافقه، تطور في التنظيم وإدارة الحرب على مستوى القيادات، فكانت تجربة (بناء جيش التحرير الوطني) تجربة مثيرة وفريدة في العصر الحديث. لقد نشأت جيوش كثيرة وتطورت من خلال الحرب، فجيش الولايات المتحدة كان وليد ثورة الاستقلال، وجيش نابليون كان وليد لثورة الافرنسية أيضا، وحتى الجيش الأحمر لم يكن إلا وليدا للثورة الشيوعية (أكتوبر - 1917)، وحتى جيش الهند الصينية (الفييتنامي) ولد من خلال الثورة وتطور بتطورها ... ولكن، وعلى الرغم من هذا التشابه في ظروف الولادة والنشأة والتطور؛

فهناك فوارق جذرية لا يمكن إسقاطها أو تجاوزها، وهذه الفوارق هي التي تعطي (جيش التحرير الوطني الجزائري) خصائصه المميزة، والتي كان من أهمها: 1 - أنه لم ينشأ على أنقاض جيش سابق، فجيش جورج واشنطن نهض على أنقاض الجيش الإنكليزي، والجيش الروسي قام على أنقاض الجيش القيصري، حتى جيش نابليون وجيش الثورة الإفرنسية، قد نهضا على أنقاض الجيش الملكي. وكانت أجهزة الجيوش السابقة وحتى قادتها وأسلحتها هي عماد الجيوش الجديدة. في حين لم يكن لدى الجزائر إلا بعض الأفراد الذين اكتسبوا خبرات محدودة أثناء خدمتهم في الجيش الإفرنسي، وهي خبرة تكتيكية وتقنية لا تصل أبدا إلى مستوى العمليات أو إدارة الحرب. 2 - إن جيش التحرير الجزائري كان يفتقر للخبرات القتالية، وللتقاليد العسكرية. وقد كان في حاجة لمثل هذه الخبرات وتلك التقاليد وهو يواجه جيشا له تقاليده العريقة وتجاربه الوفيرة، وهو إلى ذلك مجهز بأحدث الأسلحة القتالية التي وصل إليها التطور التقني حتى تلك الحقبة التاريخية. 3 - لقد تطور جيش التحرير بسرعة مذهلة تجاوزات كل الحدود. وكان مثل هذا التطور قمينا بإثارة الاضطراب في أكثر الجيوش أصالة، وأعمقها التزاما بالتقاليد الموروثة، فكيف الأمر بالنسبة لجيش ولد وتطور من خلال الصراع. ليست هذه كل الفوارق، وإن كانت من أبرزها. ولكن، وإذا كان جيش التحرير في ولادته وتطوره يفتقر إلى الخبرات المتوافرة للجيوش الحديثة، فقد كان لجيش التحرير

تقاليده الثورية التي تمتد بجذورها إلى أعماق تاريخ العرب المسلمين في المغرب العربي - الإسلامي. وكانت تجارب الحروب الثورية الحديثة (عبد القادر، والمقراني، والحداد، وأحمد باي قسنطينة، وسواهم) كافية لتشكيل قاعدة ثابتة وصلبة. وإذا كان لكافة الجيوش قادتها - جنرالاتها - فقد كان لجيش التحرير قادته المتخرجون من صفوف الشعب الجزائري؛ والذين يمثلون فيه كل الطموحات والمثل العليا والفضائل الحربية. وكان الإيمان العميق بالله والشعب هما المعاوض الطبيعي، ومصدر الإلهام للقادة في سلوكهم وممارساتهم. لقد كانت (حرب الجزائر) مدرسة حقيقية صقلت مواهب القادة وأكسبتهم خبرة غير محدودة في إدارة الحرب وقيادة الأعمال القتالية. وكانت (حرب الجزائر) مدرسة حقيقية أعدت الشعب الجزائري كله لاحتمال أهوال الحرب بقدر ما دفعت مجاهديه لتطوير خبراتهم القتالية، واكتساب المهارات الضرورية للحرب. ومن (مدرسة الحرب الجزائرية) ظهرت قدرة (جيش التحرير الوطني الجزائري) الذي أمكن له في النهاية أن ينتصب عملاقا في مواجهة أحدث جيوش العالم وأفضلها تلسحا وأوفرها خبرة، علاوة على ما كان يتلقاه الجيش الإفرنسي من دعم عالمي حشدت له الدوائر الإمبريالية والإستعمارية كل قدراتها وإمكاناتها. وخاض (جيش التحرير الوطني الجزائري) حروبه ومعاركه منطلقا من قاعدة الإيمان الصلبة والإسلام المتينة، فكانت حروبه نموذجا (لحروب الإيمان) وتبقى قصة (جيش التحرير الوطني الجزائري) قصة (التجربة التاريخية الفردة) التي لا تبلى جدتها مع

تقادم الزمن، إنها تجربة الحياة، ما دامت الحياة متدفقة في مسيرتها على أرض العرب المسلمين عامة، وعلى أرض (الجزائر المجاهدة) بصورة خاصة. وستبقى هذه التجربة التاريخية خالدة في القلوب، يعتز بها كل من عاشها وكل من عرفها وكل من انتسب إليها؛ ولو لم يكن له شرف الإسهام بمنعها، من أمة العرب المسلمين بسام العسلي

التقسيمات الإدارية - العسكرية للجزائر يوم 11/ 1/ 1954

الفصل الأول

{وعد الله الذين آمنبوا منكم وعملوا الصالحات ............... هم الفاسقون}. (سورة النور - الآية 55) الفصل الأول 1 - الوجيز في أحداث الثورة. 2 - سنوات الصراع. 3 - جيش التحرير الوطني الجزائري. 4 - تطوير الصراع المسلح 5 - صراع مسلح في وهران، وصراع سياسي في الأمم المتحدة. 6 - الفدائيون في المدن، وحل مشكلة التسلح. 7 - هجوم الخريف وجبهة الصحراء (1957). 8 - مجزرة قرية ميلوزة. 9 - الصراع على الحدود.

الوجيز في أحداث الثورة

1 - الوجيز في أحداث الثورة 11 نوفمبر (تشرين الثاني). وقع في ليلة الفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني) نحو من ثلاثين هجوما قامت بتنفيذها الوحدات الثورية الأولى، وذلك في أكثر من ثلاثين نقطة في مختلف أنحاء الجزائر، وخاصة في شمال ولاية قسنطينة، وفي ولاية (الأوراس)، واستخدم الثوار في هجماتهم القنابل المحرقة. ثم أخذوا في الانسحاب إلى قواعدهم في الجبال. وأخذت القوات الإفرنسية باتخاذ ما أطلقت عليه اسم (إجراءات الأمن)، وكانت قوات الثوار تقدر آنذاك ببضعة آلاف. وبدأت القوات الإفرنسية تتلقى تعزيزات عسكرية، كما بدأ الجنرال (جيل) بتنفيذ العمليات التي أطلق عليها اسم (عمليات التطهير). وأصدرت القيادة الإفرنسية في نهاية شهر نوفمبر، بلاغا أعلنت فيه أنها قتلت (42) رجلا من رجال المقاومة. أما عمليات الاعتقال فقد تجاوزت الألفين في هذا الشهر، وأطلق (الجنرال جيل) على عملياته الحربية - كعادة الإفرنسيين - اسم (عملية الغلاقة - العصاة). عندما اندلعت الثورة - كان (مانديس فرانس) هو الذي يترأس

الحكومة الإفرنسية وكان (فرانسوا ميتران) وزير الداخلية، وكانت شؤون الجزائر بكاملها تابعة له. وقد صرح (ميتران) أمام المجلس الوطني: (بأن الجزائر هي فرنسا، وأن الأراضي الممتدة من حدود فرنسا الشمالية إلى إقليم الكونغو جنوب خط الاستواء، تخضع كلها لقانون واحد ولبرلمان واحد وتشكل أمة واحدة، ذلك هو دستورنا. وتلك هي إرادتنا وأن المفاوضة الوحيدة هي الحرب، وعلى أثر ذلك، أصدرت الولاية العامة بالجزائر أوامرها بإلقاء القبض على الزعماء الوطنيين المعروفين، وحل (حركة انتصار الحريات الديموقراطية)، ومنع صحفها من الصدور. 12 ديسمبر (كانون الأول). قامت القوات الإفرنسية بعمليات قمع في (جبال الأوراس) و (بلاد القبائل). وأعلن الأوروبيون معارضتهم للحكومة (لأنها متهاونة في مقاومة الثورة)، على حد زعمهم. وأعلن النواب المسلمون معارضتهم لعمليات (القمع الجماعي) غير أن ذلك لم يمنع السلطالت الإفرنسية من تطوير عملياتها القمعية، وألقت القبض على جميع القادة السابقين (لحركة انتصار الحريات والديموقراطية) وزجت بهم في السجون، ومعهم عدد كبير من المواطنين المسلمين. وظهرت الملفات الأولى التي تشهد بالتعذيب المسلط على المعتقلين السياسيين أثناء التحقيق معهم. وأثناء ذلك جرت مناقشة في (المجلس الجزائري) رفض فيها كل من السيدين (قارة) و (بن جلون) فكرة استقلال الجزائر.

1955 - 1955 1 - جانفي - كانون الثاني. في يوم 5 منه: قدم (ميتران) مشروعا لتطبيق قانون (1947) وذلك للإسراع بدمج الجزائر في فرنسا، وأبدى المعمرون في الجزائر معارضتهم لهذا المشروع. في يوم 19 منه: قامت القوات الإفرنسية بعمليات واسعة النطاق في جبال الأوراس، شارك فيها أكثر من خمسة آلاف جندي، مدعمين بالمدرعات والطائرات. في يوم 20 منه: طالب (46) نائبا من المجلس الجزائري بتطبيق برنامج (ميتران) بسرعة لتحقيق المساواة أمام القانون الإفرنسي في الحقوق والواجبات في نطاق الديموقراطية الإفرنسية. في يوم 25 منه: عين (جاك سوستيل) واليا عاما بالجزائر. فقابله الإفرنسيون بتخوف شديد، وطالب رؤساء البلديات بالجزائر بإرسال إمدادات عسكرية صخمة، وخاصة من فرق اللفيف الأجنبي - الليجيون ايترانجير-وعارضوا في إجراء أي إصلاح. 2 - فيفري - ثباط. * أوقفت السلطات الإفرنسية القائد الأول لولاية (الأوراس - النمامشة) الزعيم مصطفى بن بو العيد، على الحدود التونسية - الليبية، ونقلته إلى سجن قسنطينة. * بلغت القوات الإفرنسية العاملة بالجزائر (80) ألف جندي، بعد أن كانت (49,700) جندي يوم انفجار الثورة. * وصل الى عاصمة الجزائر الحاكم العام الجديد (جاك سوستيل) الذي عينه (مانديس فرانس) بدلا من الحاكم السابق

(روجيه ليونارد) الذي أعيد إلى فرنسا. وقد ألقى (سوستيل) خطابا أمام المجلس الجزائري جاء فيه: (إن فرنسا لن تغادر الجزائر، ومن المحال عليها مغادرتها مثلما هو محال مغادرة مقاطعة - بروفانس - أو - بريتانيا - أو سواهما من الأقاليم الإفرنسية. لقد اختارلت فرنسا سياستها وهذه السياسة هي الدمج). * - عقد المؤتمر الافرو - آسيوي الأول - عدم الانحياز - بباندونغ، وأعلن عن تءييده لحق شعوب الجزائر والمغرب وتونس في الاستقلال وتقرير المصير (في إبريل - نيسان). 3 - وفي 31 آذار: صادق البرلمان الإفرنسي على قانون (حالة الطواريء في الجزائر) وهو القانون الذي يخول السلطات الإفرنسية حق اتخاذ إجراءات الإبعاد (النفي) والإقامة الجبرية وإغلاق المحلات العامة - الخ ... وقد حددت المدة بستة أشهر. 4 - افريل - نيسان. أيضا: شرع في تطبيق (حالة الطواريء) في نواحي القبائل الكبرى والأوراس وشرقي مقاطعة قسنطينة. وتشكلت الوحدات الأولى من الميليشيا وهي تضم الأوروبيين المسلحين الذين يمارسون عمليات القمع ضد مسلمي الجزائر لحسابهم الخاص. وأصبحت حالة (الطواريء تشمل مع نهاية شهر نيسان - أبريل - نواحي بسكره، والواد. 5 - ماي - أيار - أفرج بصورة مؤقتة عن (14) فردا من قادة (حركة انتصار الحريات والديموقراطية). * - قررت الحكومة الإفرنسية رفع عدد جنودها بالجزائر إلى (100) ألف جندي. ودعمت الحكومة هذه القوات بنجدات جديدة من الطائرات المقاتلة والطائرات العمودية.

* - أصبحت (حالة الطواريء) عامة في كل مقاطعة قسنطينة، كما شملت بعض نواحي مقاطعتي الجزائر ووهران. في 26 منه: وجه (بورجيس مونوري) وزير الداخلية الجديد في حكومة (ادغارفور) والتي خلفت حكومة (مانديس فرانس) بيانا أعلن فيه: (لا يوجد من يمكن التفاوض معهم لا داخل الجزائر ولا خارجها). 6 جوان - حزيران: عرف الرأي العام لأول مرة منذ قيام الثورة، بأن قادة الثورة قد قسموا الجزائر إلى (6) مناطق حربية، تحمل كل منطقة منها اسم (ولاية). * - أقامت الحكومة الإفرنسية مقاطعتين جديدتين هما: (عنابة) و (تيزي أوزو). 7 - تموز - جويليه -: إضراب تجار العاصمة بمناسبة ذكرى احتلال فرنسا للجزائر (يوم 5 جويليه). * - كشف بعض النواب - أثناء مناقشة طويلة داخل المجلس الوطني الإفرنسي (البرلمان) حول تطبيق (حالة الطواريء) - كشفوا النقاب عن أساليب التعذيب المستخدمة ضد المعتقلين الجزائريين، وبرهنوا على تعميم عمليات القمع الجماعية والاغتيالات التي تجري من غير محاكمة. * - (لجنة التنسيق الإفرنسية لشؤون شمال افريقيا) - في باريس - تعالج الموقف العام في الجزائر، وتسجل تصريحا لسوستيل يؤكد فيه (تقهقر الأعمال الإرهابية). * - المجلس الوطني الإفرنسي (البرلمان) يقرر تمديد حالة الطواريء لمدة ستة أشهر أخرى. * - أعلن الجنرال ديغول عن تصميمه بشأن عدم التدخل في

الأمور العامة، غير أنه اقترح اتباع سياسة إصلاحية تجاه أفريقيا الشمالية، وأوصى بإقامة علاقة فيديرالية (اتحادية) بين فرنسا من جهة وبين المغرب وتونس من جهة أخرى، أما بالنسبة للجزائر فقد اقترح دمجها بمجموعة أكبر من فرنسا. كما اقترح السماح للجزائريين بالمشاركة السياسة والإدارية لإدارة الأمور المتعلقة بهذا الدمج عندما يكون صادقا. * - عقد الطلاب المسلمون الجزائريون مؤتمرا تأسيسيا في باريس. 8 أوت - آب -. هجوم جيش التحرير الوطني الجزائري، وقيام القوات الإفرنسية بعمليات انتقامية من المواطنين المسلمين. * (جاك سوستيل) يقرر تطبيق (حالة الطواريء) في كامل القطر الجزائري. * (جاك سوستيل) يقوم بجولة في شمال (قسنطينة) و (جبال الأوراس) ثم يعلن (بأن تغييرا عميقا سيظهر قريبا، وأن الثقة ستعود من جديد). 9 سبتمبر - أيلول - المجندون الإفرنسيون يتظاهرون في باريس احتجاجا على إرسالهم إلى الجزائر. * تعاظم العمليات القتالية، وظهور جند جيش التحرير الوطني في ثيابهم العسكرية النظامية. * فرنسا ترسل قوة جديدة من (120) ألف جندي لدعم قواتها في الجزائر. * - الإدارة الإفرنسية في الجزائر تنظم مكاتب الشؤون الأهلية (الساس) في كل عمالة قسنطينة.

* سوستيل يطالب بتطبيق قانون (1947) لدمج الجزائر بفرنسا. * (ادغار فور) يعلن أن سياسه قائمة على الدمج مما يثير غضب النواب المسلمين في (المجلس الجزائري) والمجلس الإفرنسية الأخرى، فيشكلون جماعة (الواحد والستين نائبا -61) ويعلنون رفضهم لسياسة الدمج، ويؤكدون تعلقهم بسيادتهم الوطنية. * - هيئة الأمم المتحدة تناقش تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمالها، وتقرر تسجيلها بأغلبية (28) صوتا، وامتناع (5) عن التصويت. ووزير الخارجية الإفرنسي (بيني) يغادر قاعة اجتماعات هيئة الأمم المتحدة احتجاجا على هذا القرار. * - إضراب جديد لتجار العاصمة (الجزائر) بمناسبة افتتاح دورة هيئة الأمم المتحدة. * - نشرت صحيفة (أوبسرفاتور) تحقيقا للصحافي (روبير بار) عن نظام جيش التحرير وأساليب الصراع المسلح، وحياة الثوار في جبال الجزائر، كما نشر كاتب التحقيق الأحاديث التي أجراها خلال مقابلاته لقادة الثورة. ومنها قول القادة: (إننا نطلب إيقاف عمليات القمع والعمليات العسكرية وإطلاق سراح المعتقلين في معسكرات الحشد. كما نطلب من الحكومة الإفرنسية الإعلان عن تخليها عن خرافة - الجزائر الإفرنسية - والاعتراف بمبدأ حق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال - ... إننا واقعيون، ونعتقد أن الاستقلال يجب أن يتحقق على مراحل وبطريقة ديموقراطية) وعلى أثر ذلك، صادرت السلطات الأفرنسية عدد هذه الصحيفة، واعتقلت كاتب المقال، وألقت به في السجن.

10 - أكتوبر - تشرين الأول - امتداد الثورة إلى عمالة (وهران). وقيام مظاهرة قوية في (تلمسان)، والاتصال مع جيش التحرير المغربي الذي كان يقوده (علال الفاسي) في الريف. وإعلان علال الفاسي عن تشكيل (جيش التحرير المغربي الموحد). 11 - نوفمبر - تشرين الثاني - (26 منه) - سحب القضية الجزائرية من جدول أعمال هيئة الأمم المتحدة، بعد أن وعدت فرنسا بتسويتها. * - القائد (مصطفى بن بو العيد) يفر منسجبن قسنطينة، ومعه (19) من المحكوم عليهم بالإعدام. 12 - ديسمبر - كانون الأول -. اعترفت الحكومة الإفرنسية بأنه من المحال إجراء الانتخابات التشريعية في الجزائر. * - بلغ عدد الجنود الإفرنسيين بالجزائر (190) ألف جندي. * - استقال الأعضاء الجزائريون (التابعون للاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري) من جميع المجالس الإفرنسية، وأعلنوا عن أملهم في تكوين (جمهورية جزائرية ديموقراطية واجتماعية). كما أعلنوا استنكارهم لأساليب القمع الوحشية (في 23 ديسمبر). * - بدأت الحملة الانتخابية لانتخاب أعضاء المجلس الوطني الإفرنسي - البرلمان - وكانت الجزائر هي محور الصراع وكان في جملة ما صرح به - لاكوست - خلال هذه الحملة: (يجب أن تتوقف هذه الحرب وعلينا أن نختار بين حل القوة العسكرية مع كل ما يتطلبه من تضحيات وآلام ودماء. وبين حل مسلمي شريف عادل عن طريق التفاوض)

1956 - 1956 1 - جانفي - يناير في 13 منه: سوستيل يدافع عن (سياسة الدمج). (غي موليه) يصرح في حملته الانتخابية: (لم يعد بالمستطاع ترك الحالة في الجزائر لتتزايد خطورة). * وصرح أيضا: (بأن حكومته تعترف بالشخصية الجزائرية، وهي تقترح إجراء انتخابات حرة). في 17 منه طالبت جمعية العلماء المسلمين الجزائرين رسميا: (بالاعتراف صراحة بوجود الأمة الجزائرية وبشخصيتها الذاتية وبحكومتها الوطنية وبمجلسها التشريعي). * فيما بين 17 و 31 منه (نصف الشهر للتضامن مع ضحايا القمع) والذي نظمه (الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين). * - صرح الأستاذ عباس فرحات - في القاهرة -: (إنني، أنا وحزبي، نؤكد وبصورة واضحة عزمنا على دعم قضية جبهة التحرير الوطني الجزائري). 2 فيفري - شباط - (في 3 منه) أعلنت جبهة التحرير استعدادها للتفاوض من أجل وقف القتال وحل المشكلة الجزائرية. * في 6 منه - انهار (غي موليه) أمام مظاهرات الأوروبيين المستوطنين بالجزائر، ووافق على إخراج (كاترو) من حكومته. * في 9 منه - تعيين (روبيرلا كوست) وزيرا مقيما في الجزائر، وقد صرح هذا فور تعيينه: (إن فرنسا ستحارب من أجل البقاء في الجزائر، وستبقى هناك). وبينما كان (لاكومست) يصرح في الجزائر: (أن الوضعية العسكرية خطيرة، وأن المتطرفين سيعلمون

أن ضربات فرنسا قوية وشديدة) - كان (غي موليه) يصرح في فرنسا: (يجب إسكات البنادق). * - الطلاب الجزائريون المسلمون يقيمون مهرجانا خطابيا في قلب باريس، ويرفعون العلم الجزائري. وذلك في يوم (23 - فيفري). * في 24 منه - تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين. * في 27 منه - (غي موليه) يعلن ثلاثيته: إيقاف القتال، فالانتخابات، فالمفاوصات. 3 - مارس - آذار - (في 2 منه) فرنسا تعلن استقلال المغرب. * في 12 منه - المجلس الوطني الإفرنسي يوافق على منح الحكومة سلطات خاصة. * - في 17 منه - السلطات الإفرنسية تعترف بتدهور وضعيتها العسكرية، وبامتداد الثورة إلى ثلثي الجهات الآهلة من الجزائر. والإعلان عن قرارات جديدة تتعلق بإعادة تنظيم القيادة العسكرية. * - في 20 منه - فرنسا تعلن استقلال تونس. وفي هذا اليوم ذاته، يعلن سفير أمريكا في باريس (ديللون) مساندة أمريكا الكاملة للسياسة الإفرنسية في الجزائر. * - الاتحاد العام (للطلاب الجزائريين المسلمين) يعقد مؤتمره الثاني، ويعلن أن: (كفاح الشعب الجزائري هو كفاح عادل وشرعي يساير تيار التاريخ). * - بلغت القوات الإفرنسية العاملة في الجزائر (250) ألف جندي. 4 أفريل - نيسان - وزعت جبهة التحرير بيانا - (دعت فيه شعب الجزائر بكامله للتجند ومواصلة الحرب.

* - في 11 منه - إلغاء المجلس الجزائري - والحكومة الإفرنسية تصدر قرارا بإرسال سبعين ألف مجند جدد للجزائر. * - استقالة كتلة النواب الجزائريين (61 نائبا) من كل المناصب النيابية التي كانوا يشغلونها. * عقد السادة فرحات عباس وأحمد فرنسيس وتوفيق المدني مؤتمرا صحفيا في القاهرة. وأعلنوا انضمامهم إلى جبهة التحرير الوطني الجزائري. 5 - ماي - أيار - (في الأول منه) فشل الاتصالات السرية بين جبهة التحرير الوطني وبين فرنسا، وتقدم ممثل الجبهة في القاهرة (سعد دحلب) بعرض للحكومة الإفرنسية من أجل التفاوض لإحلال السلام. وقد جاء في التصريح الذي أعلنه سعد دحلب (بأن الحل الوحيد لا يمكن إيجاده إلا في نطاق الاعتراف الرسمي بحق الشعب الجزائري في الاستقلال، ومباشرة السيادة الوطنية من قبل كافة الشعب - من غير تمييز ديني أو عنصري) وقيام القوات الإفرنسية باعتقال عدد كبير من مسيري (الاتحاد العام للعمال الجزائريين). 6 - جوان - حزيران - (في 9 منه) ظهور أول عدد من صحيفة (الأمل الجزائر - بالإفرنسية) وهي الناطقة باسم الإفرنسيين التقدميين بالجزائر. 7 - جويليه - تموز - (في 2 منه) الاتحاد العام للعمال الجزائريين، يقبل عضوا في الرابطة العالمية للنقابات الحرة، وذلك بالرغم من معارضة النقابات الإفرنسية. * - أعلن السيد (فرحات عباس) عن استعداد الجبهة للتفاوض مع فرنسا بشأن وقف إطلاق النار، وذلك تنفيذا للتوصيات التي أقرها

(مؤتمر الحزب الإفرنسي) والتي تطلب من (غي موليه) التفاوض مع جبهة التحرير لإيقاف القتال عوضا عن متابعة الحرب. غير أن (غي موليه) تجاهل تلك التوصيات، كما رفض (الاقتراح الجزائري) وذلك بتأثير أوروبيي الجزائر وزعيمهم (لاكوست). * - انعقاد ندوة بريوني (من 17 إلى 19 جويليه) والتي ضمت زعماء الحياد الإيجابي (نهرو وعبد الناصر وتيتو). وقد وجهت جبهة التحرير مذكرة عن القضية الجزائرية إلى - زعماء الحياد - الذين عبروا عن تعاطفهم (مع قضية الشعب الجزائري الراغب في السلام). * في 26 منه - جمال عبد الناصر يعلن (تأميم القناة) فيتخذ (لاكوست) و (مجرمو الحرب) هذا التأميم ذريعة لإعلان الحرب على مصر، بحجة أن مصر (هي مفتاح المشكلة الجزائرية) وأن تحطيم القاهرة قمين بالقضاء على الثورة الجزائرية. 8 - أوت - اغطس -. (في 20 منه) انعقاد المؤثمر التاريخي الأول لقادة الثورة في (وادي الصومام) ووضع أول ميثاق تفصيلي للجبهة، وتعيين أعضاء (لجنة التنسيق والتنفيذ - من خمسة أعضاء) وتكوين (المجلس الوطني للثورة الجزائرية من 34 عضوا). * - استشهاد قائد الولاية الأولى (المرحوم مصطفى بن بوالعيد). 9 - سبتمبر - أيلول -. (غي موليه) يزور الجزائر، ويدرس مع (روبير لاكوست) نظاما سياسيا جديدا للجزائر. وظهر في فرنسا والجزائر. مشروع إفرنسي جديد لتسووية المشكلة الجزائرية يحمل اسم (مشروع باي) إلا إنه دفن قبل ظهوره إلى الوجود. * - أعلنت جبهة التحرير، في تصريح جديد إلى صحيفة لوموند، عن استعدادها لوقف القتال والتفاوض لإيجاد حل سلمي.

* - المؤتمر العالمي السادس للطلاب، يعترف (بالاتحاد العام للطلاب المسلمين الجزائريين) كاتحاد وطني. * - ميلاد (الاتحاد العام للتجار الجزائريين) الذي طالب بالتفاوض مع جبهة التحرير باعتبارها (الممثل الوحيد للشعب الجزائري). وصرح السيد (عبد الرحمن فارس) الرئيس السابق للمجلس الجزائري بأن (الجبهة) هي المفاوض الوحيد باسم الشعب الجزائري. * - الكتلة الأفريقية - الآسوية تطلب من الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة تسجيل القضية الجزائرية على جدول أعمالها. * - في 20 منه - استشهاد قائد ولاية الشمال القسنطيني (البطل يوسف زيغوت). * - البحرية الإفرنسية تحتجز الباخرة (لاتوس) وهي في عرض البحر الأبيض المتوسط. 10 - اكتوبر - تشرين الأول - الجمعية الوطنية الإفرنسية تمنح حكومة (غي - موليه) الثقة بأغلبية (330) صوتا ضد (140) صوتا. وقد قال غي - موليه في نهاية المناقشة: (إننا لن نقبل أبدا بأي وسيط). وينادي بوقف القتال، ويرفع الستار عن محادثات روما السرية. * - انضمام النائب الاشتراكي (السيد بنبا أحمد) إلى صفوف جبهة التحرير، وانتقاله من فرنسا إلى سويسرا ومنها الى مصر. * اقتراح الرئيس التونسي (الحبيب بورقيبة) تكوين مجموعة مغربية من أقطار شمال أفريقيا الثلاثة (تونس والجزائر ومراكش - المغرب). * في 20 منه: استقبل جلالة محمد الخامس عددا من زعماء

الجزائر في قصره بالرباط. * في 22 منه: (لاكوست) يأمر باختطاف الطائرة المغرية التي كانت تحمل إلى تونس زعماء الثورة: أحمد بن بيللا، وخيضر، وآيت أحمد، وبوضياف-، والأشرف. * في 23 منه: إضرابات عامة وهيجان يجتاح المغرب وتونس وبقية أنحاء العالم العربي احتجاجا على عملية القرصنة الإفرنسية. * في 23 منه أيضا: غي - موليه يعلن: (ستبقى فرنسا بالجزائر مهما حدث). * في 31 منه: العدوان الثلاثي (البريطاني - الإفرنسي - الإسرائيلي) في مصر. 11 - نوفمبر - تشرين الثاني -: - الإضراب العام بالجزائر، يمناسبة ذكرى الثورة، بأمر من الجبهة، وبمساهمة (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) و (الاتحاد العام للتجار الجزائريين). * في 20 منه: الوزير المقيم بالجزائر - روبير لاكوست - يعلن: (أننا في الربع الساعة الأخيرة، لذلك فإنه من الأفضل لنا ألا نسرع في عرض إصلاحات سياسية). وأخذت الدعاية الإفرنسية اعتبارا من هذا التاريخ بخداع الرأي العام، والقول: (بأن جبهة التحرير هي على وشك الإنهيار، وأن الحزب الشيوعي يريد أن يحتل مكانها). 12 - ديسمبر - كانون الأول: إلقاء القبض على مسيري (الاتحاد العام للتجار الجزائريين). * - حل (المجالس البلدية) بكامل القطر الجزائري، تمهيدا لإجراء الانتخابات. ونظرا لتعذر إجراء هذه الانتخابات، فقد أمر (لاكوست) بتعيين ممثلين عن الأهالي لدى المجالس البلدية

الخاصة. ولما تعذر تنفيذ هذا الإجراء أيضا، شنت القوات الإفرنسية حملة قمع جديدة، وقامت بحصار عدد من النواحي (الدواوير). * - الفدائيون يعدمون (فروجي) رئيس مشايخ المدن الجزائرية، وأحد كبار (المعمرين). * - جمعيات الطلاب لتونس والمغرب والممتلكات الإفرنسية تقطع علاقاتها مع (اتحاد الطلاب الإفرنسي) احتجاجا على موقفه من (الاتحاد العام للطلاب المسلمين الجزائريين). * - تعيين قائد المظليين (الجنرال ماسو) مسؤولا عن الأمن في العاصمة وضواحيها. * - الشعب الجزائري يعلن الإضراب العام لمدة أسبوع، بمناسبة عرض القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة - وتعاظم الأعمال القتالية وأعمال الفدائيين في عمالة (قسنطينة) و (بلاد القبائل) ووهران. 1957 - 1957 1 - جانفي - كانون الثاني - * - شرعت الإذاعة الوطنية السرية (صوت الجزائر الحرة المجاهدة) في تحضير الإضراب الأسبوعي العظيم. * - تكليف (الجنرال ماسو) بإحباط الإضراب. 2 - فيفري - شباط: * - استمرار المناقشات لقضية الجزائر في هيئة الأمم المتحدة طوال أحد عشر يوما. وتم التصديق بالإجماع على توصية (تعرب عن الأمل في إيجاد حل سلمي وعادل للمشكلة الجزائرية). ورافق ذلك

قيام السلطات الإفرنسية بالجزائر (المظليين) بأعمال قمع وحشية، وتعذيب التجار والمواطنين الجزائريين المعتقلين. * - في 25 منه - اعتقال (العربي بن المهيدي) عضز لجنة التنسيق والتنفيذ بالجزائر. وتعذيبه على أيدي المظليين - وبإشراف الكولونيل بيجار حتى لفظ الزعيم الجزائري أنفاسه. * - السلطة الإفرنسية تنظم فرق الميليشيا وتسلحها وقد بلغ عدد أفراد هذه الفرق بعاصمة الجزائر وحدها (15) ألف مقاتل. * - الحكومة الإفرنسية تلقي في السجن (20) ضابطا جزائريا من الذين يخدمون في الجيش الإفرنسي، وذلك لأنهم طالبوا رئيس الجمهورية الإفرنسية بالتفاوض مع جبهة التحرير. 3 - مارس - آذار - * - عقد (الدكتور الأمين دباغين) والسيد (فرحات عباس) مؤتمرا صحفيا بتونس، وأعلنت الجبهة (تمسكها بشرط الاعتراف بالاستقلال، ورفضها للانتخابات التي اقترحها غي موليه). * في 24 منه: المحامي (علي بو منجل) يلقي حتفه في سجون الجزائر بسبب ما تعرض له من التعذيب. * - ظهور مجموعة من الوثائق التي تبرهن على انتشار التعذيب والقمع بالجزائر. وقد نشر (جاك شرايبير - جان) مجموعة من المقالات في مجلة (الاكسبرس). كما نشر (موليير) ملف (الجندي الإفرنسي الذي قتل في معركة)، كما نشر كتابا (ضد التعذيب). وأعلن الأستاذ (كابتان) أستاذ القانون بجامعة باريس، أنه يوقف دروسه احتجاجا على (اغتيال علي بومنجل)، ونشر أخيرا كراس (المجندون يشهدون).

4 - افريل - نيسان: * - في 3 منه: (ماكس لوجان) يصرح: (تجتاز الحدود التونسية - الجزائرية في كل يوم ألف قطعة سلاح، وهي في طريقها إلى الثوار. * - بيان (مجلس الأساقفة والكرادلة الإفرنسيين) وفيه يعبر المجلس عن حيرته تجاه موجة التعذيب والقمع في الجزائر. * - حكومة (غي موليه) تعين (لجنة إنقاذ الحقوق والحريات الفردية) في محاولة لإيقاف الإحتجاجات ضد أعمال التعذيب. 5 - ماي - أيار: * - في 20 منه- الحكومة الإفرنسية توقف إعانتها المالية (لتونس). * - في 26 منه - إعدام الخائن (علي شكال). * - المظليون الإفرنسيون يعودون إلى العاصمة الجزائرية لاستئناف عمليات القمع والتعذيب والإرهاب. * - (غي موليه) يقدم استقالة حكومته (منذ يوم 21 أيار - ماي). * - استشهاد قائد الولاية السادسة (الصحراء) - المرحوم (علي ملاح). 6 - جوان - حزيران: * - في أوائل الشهر - وجه مندوب الحزب الاشتراكي في باريس (سيكالدي) رسالة إلى (غي - موليه) أكد فيها ما يتم ارتكابه تحت إشراف (لاكوست) من أعمال التعذيب والقمع والاغتيال والقتل من غير محاكمة

* - في 4 منه - هجوم فدائي على (تلمسان). * - في 10 منه - انفجار قنبلة في (كازينو الكورنيش) في العاصمة. 7 - جويليه - تموز: * - أعلنت جبهة التحرير أن كل مفاوضة مع الحكومة الإفرنسية، لا بد لها وأن تجري على أساس (الاعتراف المسبق باستقلال الجزائر). * - في 5 منه - الإضراب العام في الجزائر استجابة لأوامر (جبهة التحرير الوطني). * - في 13 منه - الفدائيون يدمرون المركز الكهربائي في مدينة (الأغواط). * - في 15 منه - مؤتمر النقابات العالمية الحرة يطالب فرنسا بالاعتراف (بالأمة الجزائرية). * - بلاغ رسمي في المغرب: (يؤكد أن المغرب ملكا وحكومة وشعبا متضامن مع الشعب الجزائري). 8 - أوت - أغسطس -. * - صدر أول عدد من مجلة (المجاهد) خارج الوطن الجزائري، بعد أن صدرت أعداده السبعة الأولى داخل الجزائر على شكل نشرات صغيرة. * - عقد في القاهرة من (20) إلى (28) أوت - اغسطس - أول مؤتمر يضم قادة الثورة، الذين جاءوا من الداخل، والقادة الذين يعملون بالخارج. وقرر هذا المؤتمر زيادة أعضاء (لجنة التنسيق والتنفيذ) من 5 الى 8 أعضاء. كما أذيعت أسماؤهم لأول

مرة. أما مجلس الثورة فقد زيد عدد أعضائه أيضا من (34) الى (54) عضوا. 9 - سبتمبر - أيلول -. * - وقوع عدد من حوادث الاعتداء على الحدود التونسية - الجزائرية - (في يوم 6 منه وقع حادث عين الدراهم) وذلك تنفيذا لما أعلنه وزير الدفاع الإفرنسي (أندريه موريس) عن (حق المطاردة - التتبع) لمطاردة الثوار الجزائريين حتى لو لجأوا إلى حدود البلاد المجاورة. * - في 15 منه - الإعلان عن إنهاء بناء (خط موريس المكهرب) لعزل الجزائر عن المغرب. * - إنتهاء إضراب الطلاب الذي أمر به (الاتحاد العام للطلاب المسلمين الجزائريين) منذ شهر جوان - حزيران - 1956. * - إعتقال (ياسف سعدي) قائد الفدائيين بعاصمة الجزائر. * - في 30 منه - مؤتمر حزب التجمع الديموقراطي الأفريقي في (باماكو) يطالب بإيقاف القتال في الجزائر. 10 - اكتوبر - تشرين الأول - * - في الأول منه - عدوان إفرنسي على الحدود التونسية قرب (ساقية سيدي يوسف). * - في الرابع منه - مظاهرات شعبية في تونس، تطالب بجلاء القوات الإفرنسية. * - إستقالة ثلاثة أعضاء من (لجنة المحافظة على الحريات). * - في 8 منه - الإفرنسيون يفجرون بعض القنابل في (حي القصبة) بالجزائر، فيقتلون (24) مواطنا جزائريا من بينهم (علي

لابوانت) أحد أعضاء تنظيم (ياسف سعدي). * - (حزب ميتران) يؤيد قيام دولة جزائرية متحدة مع الجمهورية الإفرنسية * - في 31 منه - لجنة التنسيق والتنفيذ تعيد التأكيد على شرط (الاعتراف باستقلال الجزائر) قبل كل محاولة للتفاوض. 11 - نوفمبر - تشرين الثاني - * - في 6 منه - (ابن لونيس) يعلن تعاونه مع فرنسا واشتراكه معها في الحرب ضد جيش التحرير الوطني. * - في يوم 13 منه - حكومة (غايار) تصادق على المشروع الجديد (للقانون الاطاري). * - في 14 و15 منه - تسليم الأسلحة الانكليزية والأمريكية الى (تونس) يتسبب في إثارة غضب فرنسا التي ترد على ذلك بسحب وفدها من المؤتمر البريطاني لحلف شمال الأطلسي. * - في 22 منه - ندوة تونسية - مغربية بين رئيس جمهورية تونس - الحبيب بورقيبة - وملك المغرب - محمد الخامس - يتقرر فيها قيام الزعيمين العربيين بالوساطة مع فرنسا لحل (القضية الجزائرية) على أساس (الاعتراف بالسيادة الجزائرية). وفي اليوم ذاته تعلن الجبهة موافقتها على هذه الوساطة. * - في 29 منه - رئيس الوزارة الأفرنسية (غايار) يرفض الوساطة التونسية - المغربية. 12 - ديسمبر - كانون الأول - * - الجمعية العامة للأمم المتحدة تصادق على التوصية بتسجيل (عرض الوساطة التونسية المغربية) وتدعو (إلى حل سلمي ديموقراطي وعادل للمشكلة الجزائرية).

1958 - 1958 1 - جانفي - كانون الثاني - * - في 23 منه - حل (الاتحاد العام للطلاب المسلمين الجزائريين. وقيام مظاهرات احتجاجية في باريس. 2 - فيفري - شباط -. * - في 8 منه - عدوان إفرنسي على ساقية سيدي يوسف - بتونس (72 قتيلا و 87 جريحا). وصدور احتجاجات عالمية على هذا العدوان السافر. وحدوث هيجان عالمي. * - في 11 منه - طرحت قضية العدوان الإفرنسي على تونس، في البرلمان الإفرنسي وأعلن (غايار) أن الحكومة لا علم لها بالحادث الذي دبره العسكريون في الجزائر، ولكنه أكد على تضامنه معهم معهم. * - في 19 منه - الحكومة الإفرنسية تقرر إقامة منطقة محرمة على امتداد الحدود التونسية الجزائرية - وبعمق سبعين كيلومترا. * - في 26 منه - أمريكا وبريطانيا تعرضان مساعدتهما لتسوية الخلاف بين فرنسا وتونس. وظهور خلاف أساسي في موضوع الوساطة بين فرنسا وتونس فبينما كانت فرنسا ترى أن مهمة الوساطة هي فتح باب المفاوضات المباشرة بين باريس وتونس من غير التعرض لمشكلة (بنزرت) أو (الجلاء التام عن تونس) أو (مشكلة الجزائر). كانت تونس ترى أنه لا فائدة من الوساطة إن هي لم تتعرض الى (مشكلة الجزائر) لأن الحرب هي سبب حادث الساقية

المنطقة الحرام التي فرضها الاستعمار الفرنسي

3 - مارس - آذار -. * في 6 منه: ملك المغرب ورئيس الجمهورية التونسية يدعوان إلى إقامة اتحاد (فيديرالي) وإلى حل للمشكلة الجزائرية على أساس (تحقيق المطامح الوطنية) من شأنه إن يفتح آفاق التعاون بين فرنسا والمغرب العربي، وبين فرنسا وأفريقيا. * - في 7 منه: (فيليكس غايار) يقترح مشروعا دفاعيا يضم دول البحر الأبيض المتوسط. * - في 24 منه: تصريح آخر (للاكوست) يقول فيه: (لن تمنعنا الأحلاف والوساطة، ولا أي أحد، من بناء الجزائر الجديدة). 4 - افريل - نيسان - * - من 27 الى 30 منه: عقد مؤتمر طنجة، الذي ضم جبهة التحرير وحزب الاستقلال المغربي وحزب الدستور التونسي، والذي تم فيه بحث مواضيع: (حرب الجزائر، تصفية مخلفات الاستعمار بتونس والمغرب، وإقامة وحدة المغرب العربي)، وأوصى البيان الختامي للمؤتمر بإقامة (اتحاد المغرب العربي (فيديرال) وبتنظيم مكتب دائم للمؤتمر. * - سقوط حكومة (فيليكس غايار) بعد أن وقعت اتفاقا مع الحكومة التونسية بشأن الجلاء عن القواعد العسكرية - باستثناء بنزرت - وذلك في نطاق (الوساطة البريطانية - الأمريكية). * - من 16 الى 22 منه: عقد مؤتمر الدول الأفريقية المستقلة في (أكرا)، وأعلن أن الجبهة هي (الممثل الوحيد للشعب الجزائري). وقد شكل المؤتمر ثلاثة وفود للقيام بجولة في أوروبا

الشمالية وأمريكا اللاتينية وآسيا للدعوة من أجل دعم القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة. كما طلب البيان الختامي للمؤتمر من فرنسا الجلاء عن أرض الوطن الجزائري. 5 - ماي - أيار -. * - الجنرال ديغول يتولى سلطات رئيس الجمهورية، ويقبل بتشكيل الحكومة. 6 - جوان - حزيران -. * - في 4 منه - ديغول يزور الجزائر، ويلقي خطابا في ساحة (الفوروم) يعلن فيه عن القسم الانتخابي الموحد، ثم يزور قسنطينة، ويحاول الحصول على دعم الجيش لمخططاته. * - مجلس الأمن يناقش شكوى تونس ضد فرنسا. * - تعاظم نشاط الفدائيين الجزائريين. 7 - جويليه - تموز -. * - ديغول يعود لزيارة الجزائر، في أول الشهر، ويجري مجموعة من الاتصالات مع الجيش الإفرنسي. 8 - أوت - أغسطس. في 20 منه: الحكومة الإفرنسية تصدر قرارا بحل (الرابطة العامة للعمال الجزائريين - الودادية) والتي كانت تابعة (للاتحاد العام للعمال الجزائريين بفرنسا). * - في 25 منه: قيام الفدائيين الجزائريين - من جبهة التحرير - بعملياتهم في فرنسا، وذلك بهدف تدمير المنشآت الاقصادية والعسكرية. * - الوفود الديبلوماسية التي شكلها (مؤتمر أكرا) تبدأ جولتها في أوروبا الشمالية وأمريكا اللاتينية وذلك بهدف دعم (القضية

الجزائرية) عند عرضها على هيئة الأمم المتحدة. 9 - سبتمبر - ايلول - * - في 19 منه - الاعلان عن تشكيل (الحكومة الجزائرية المؤقتة) في كل من القاهرة وتونس والرباط. * - في 26 منه - الحكومة الجزائرية المؤقتة تعلن أول بيان سياسي لها، وتعرض فيه بصورة علنية فتح باب المفاوضات مع فرنسا. * - القيادة الإفرنسية بالجزائر، تشن حملة عسكرية واسعة النطاق في (ناحية القبائل) يشترك فيها (35) ألف جندي إفرنسي. * - جيش التحرير الوطني يطور أعماله القتالية في (جبال الهوقار - بالصحراء الكبرى). 10 - اكتوبر - تشرين الأول -. * في 3 منه - الجنرال ديغول يعلن في (قسنطينة) عن مشروعه الاقتصادي لتنمية الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر. * - الحكومة الجزائرية تعلن العفو عن (أسرى الحرب الإفرنسيين) وتطلق سراح المساجين والأسرى. * - في 16 منه - القوات الإفرنسية بقيادة (14) جنرالا تقوم بتنفيذ (عملية بريمير). وهي العملية الكبرى التي شملت جبال (اكفادور) و (وادي الصومام) وجبال (قرقور) بناحية (سطيف). وقيام قوة من (10) آلاف جندي إفرنسي بقيادة (الجنرال فور) بمحاولة محاصرة (الكولونيل عميروش). * - في 23 منه - الجنرال ديغول - يعرض في مؤتمره الصحفي بباريس - على جبهة التحرير ما أطلق عليه اسم (سلم الشجعان - أو

سلم الأبطال) ويدعو (قادة المنظمة الخارجة على القانون) بالمجيء إلى باريس. * - في 25 منه - الحكومة الجزائرية ترفض عرض (سلم الأبطال) ولكنها تترك الباب مفتوحا أمام كل مفاوضة جديدة. 11 - نوفمبر - تشرين الثاني - * في 3 منه - جيش التحرير يشن هجوما عاما على الخط المكهرب (على الحدود التونسية). * في 7 منه - هيئة الأمم المتحدة تقرر مساعدة اللاجئين الجزائريين بتونس والمغرب. * في 17 منه - المارشال (جوان) يعلن: (أن الحرب على وشك الانتهاء). * في 26 منه - القائد عز الدين - كومندان - يقع في أسر القوات الإفرنسية بناحية (بني عمران - الأخضرية) -. 12 - ديسمبر - كانون الأول - * - في 5 منه - القوات الإفرنسية تهاجم مخيما للاجئين الجزائريين - فوق التراب المغربي. * في 7 منه - الجنرال ديغول يلقي خطابا في عاصمة الجزائر، يشير فيه (الى الشخصية الجزائرية). * في 8 منه - الأمم المتحدة تفتتح مناقشة القضية الجزائرية. * في 8 منه - أيضا - افتتاح مؤتمر الشعوب الافريقية في (أكرا). واشتراك جبهة التحرير الوطني في هذا المؤتمر بإرسال وفد هام لتمثيلها.

* في 10 منه - كتلة الدول الأفريقية - الآسوية، تتقدم بنص ختام مناقشة القضية الجزائرية، أوصت فيه (بالاعتراف بحق الشعب الجزائري في الاستقلال. وطلبت بإلحاح فتح باب المفاوضات بين الطرفين) وحصل هذا النص على (30) صوتا. وامتنعت أمريكا عن التصويت. 1959 - 1959 1 - جانفي - يناير -. * في الثالث منه - معركة عنيفة بين جيش التحرير وقوات المظليين (الجنرال ماسو) في البرواقية، على بعد خمسين كيلو مترا من العاصمة - الجزائر -. * قيام (11) كتيبة يدعمها الطيران بهجوم تحت قيادة (الجنرال فور) ضد نواحي (تيزي اوزو) و (منايل) و (ذراع الميزان). * في 15 منه - لبنان يعترف بالحكومة الجزائرية. * الجنرال ديغول، يرسل (غيوما) و (الجنرال ايلي) الى الجزائر، لدراسة الموقف في الجيش الإفرنسي على أثر تطور الأعمال القتالية. * من 27 الى 29 جانفي - معارك عنيفة في جبال (الظهرة) قرب (الونزة). * نصب كمائن في (الميليه) و (سان شارل) و (العزازقة) يقتل فيها (26) جنديا إفرنسيا من بينهم (الكولونيل ماري). 2 - فيفري - شباط -. * - في 12 منه - المحكمة العسكرية بوهران تصدر أحكاما

بإعدام (24) مواطنا جزائريا. * في 22 منه - قائد الأمن بالعاصمة (الكولونيل غودار) يصرح: (إننا قادرون على خنق الثورة في الأشهر القادمة، وقبل موفي السنة الحالية على كل حال). 3 - مارس - آذار في 29 منه - القائدان (عميروش) و (أحمد بن عبد الرزاق - سي الحواس) يستشهدان في معركة بجبل تامر جنوب بو سعادة). 4 - افريل - نيسان -. * - جيش التحرير يمارس نشاطا واسعا في (ناحية الأغواط) بالصحراء (في 13 - افريل). * - في 21 منه - (الجنرال شال) يصرح لصحيفة (لوموند): (إنه في الإمكان إيجاد حل عسكري للمشكلة الجزائرية). 5 - ماي - ايار -. * - الأوروبيون يحتفلون بذكرى تمردهم في جو من الحزن. احتجاجا على عدم تحقيق أهدافهم، وذلك في (يوم 13 - ماي). * - إلقاء القبض على (14) مجاهدا جزائريا في (حاسي مسعود). 6 - جوان - حزيران - * في 4 منه - مؤتمر الشعوب الأفريقية بتونس .

* في 24 منه - معركة حامية في (عنابة) وضواحيها. 7 - جويليه - تموز - * في اليوم الأول منه - تنفيذ حكم الإعدام في الضابطين الجزائريين (رزقي بغدادي) و (مولاي محمد). * وقوع معارك عديدة (في الأطلس الصحراوي) وفي عمالتي (الجزائر) و (قسنطينة)، واعتراف فرنسا بخسائرها الفادحة في هذه المعارك. * في 6 منه - اكتشاف خلايا لجبهة التحرير في المراكز الاجتماعية التي تشرف عليها السلطات الإفرنسية، وإقالة رئيسها الإفرنسي من منصه. * في 9 منه - غانا تعترف بالحكومة الجزائرية. * في 10 منه - الكتلة الأفريقية - الآسوية، تقدم بيانا إلى الأمم المتحدة عن (تطور المشكلة الجزائرية). * في 11 منه - (الجنرال شال) يشن الهجوم على جبال (الحضنة) تنفيذا للمخطط الذي حمل اسم (عملية الشرارة). * في 20 منه - جيش التحرير ينظم هجوما قويا على (عين الزانة) وعدة مراكز إفرنسية أخرى في (خط موريس). * في 22 منه - (الجنرال شال) يشرع في تنفيد (عملية جوميل) ببلاد القبائل، ويشترك فيها أكثر من (20) ألف جندي إفرنسي. * قيام عدد من الشخصيات البريطانية بتكوين لجنة في لندن مهمتها (إغاثة اللاجئين الجزائريين).

* في 29 منه - الزعيم النقابي (عيسات ايدير) يلقى حتفه بالمستشفى إثر التعذيب الذي تعرض له طوال أشهر عديدة. 8 - أوت - اغسطس -. * في 3 منه: احتراق (54) جنديا إفرنسيا في غابة (بجبال الأوراس). * - اشتراك الحكومة الجزائرية المؤقتة في مؤتمر (مونروفيا) للدول الأفريقية المستقلة، ورفع العلم الجزائري بهذه المناسبة الى جانب أعلام الدول المستقلة الأخرى. * غينيا تعترف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. * في 8 منه: قيام (16) نائبا ديموقراطيا بالكونغرس الأمريكي، بمطالبة حكومتهم للتدخل لدى فرنسا للتفاوض مع الحكومة الجزائرية. * - في 25 منه - الممثلون الديبلوماسيون العشرة للدول العربية يطلبون من وزير خارجية أمريكا بذل جهود أخرى لتسوية المشكلة الجزائرية. 9 - سبتمبر - ايلول -. * الجامعة العربية تعقد جلساتها (بالدار البيضاء) وتتخذ عددا من القرارات بشأن الجزائر. * نقابات (أفريقيا السوداء) تطالب الأمم المتحدة بإرسال لجنة تحقيق الى الجزائر. * في 16 منه - (الجنرال ديغول) يعلن اعتراف فرنسا (بحق الجزائر في تقرير مصيرها).

* في 19 منه - الحكومة الهندية تعلن أنها تؤيد كل اقتراح تتقدم به الأقطار الأفريقية - الآسوية بشأن الجزائر إلى هيئة الأمم المتحدة. * في 28 منه - رئيس الحكومة المؤقتة يلقي في تونس بيانا على الصحفيين، يتضمن جواب الحكومة الجزائرية على خطاب الجنرال ديغول. ويعلن عن قبولها لمبدأ تقرير المصير، واستعدادها للتفاوض المباشر في الشروط السياسية والعسكرية لوقف القتال، وفي الضمانات الضرورية لتطبيق مبدأ (حق تقرير المصير). 10 - اكتوبر - تشرين الأول -. * في 12 منه - رئيس الوزراء الإفرنسي - كوف دي مورفيل - يدلي ببيان أمام التلفزة الأمريكية، يعلن فيه أن حكومته مستعدة للتفاوض مع جبهة التحرير بشأن وقف القتال. * في 13 منه - وزير الخارجية الإفرنسي - دوبريه - يلقي بيانه بشأن الجزائر أمام البرلمان الإفرنسي. * في 10 منه - المجلس الوطني الإفرنسي - البرلمان - يمنح الثقة لبرنامح ديغول بأكثرية (441) صوتا ضد (23) صوتا. 11 - نوفمبر - تشرين الثاني -. * جيش التحرير الوطني يطور ضغطه المتعاظم ضد قوات الاحتلال الإفرنسي، وتزايد نشاط جميع المناطق العسكرية في وسط البلاد، مع تركيز نشاط خاص في الولاية الخامسة (حيث جبال الونشريس وجبال سيدي بلعباس) والتي دارت فيها معارك طاحنة تكبد فيها الجيش الإفرنسي خسائر فادحة - لاسيما في يوم 10 نوفمبر ثم في يوم 15 نوفمبر - 1959. كما بقيت منطقة (الونشريس) قلعة

قوية لجيش التحرير الوطني وذلك على الرغم من (عملية كورون). وكانت فيالق الولايتين الرابعة والخامسة تكبد كل أسبوع قوات العدو أفدح الخسائر. وكذلك فقد بقيت (منطقة القبائل) بالرغم من (عملية جوميل) مسرحا لاشتباكات كثيرة لا سيما في نواحي (اكفادو) والمثلث (مايو، وتازمالت، وأقبو). كما كانت الولاية السادسة مسرحا لاشتباكات كبيرة في شمال الأغواط. وحول (بو سعادة) وجنوب (بخارى) وقرب (توقرت). * في 10 منه - الجنرال ديغول يعلن في ندوة صحفية: (ليأتي ممثلو المنظمة الخارجة على القانون والمتمردون الى فرنسا). * في 20 منه - الحكومة الجزائرية المؤقتة تكلف الزعماء الجزائريين الخمسة (ابن بيللا ورفاقه) والمعتقلين في سجون فرنسا، بإجراء المفاوضات حول (تقرير المصير). ورفض الجنرال ديغول الدخول في مفاوضات مع هؤلاء، وقال: (إنه يتوجه من جديد الى المقاتلين). 12 - ديسمبر - كانون الأول - * تطور كبير في عمليات الفدائيين بالمدن الكبرى. * - فرنسا تحشد (10) آلاف جندي لتنفيذ عملية (الأحجار الكريمة) ومسح الشمال القسنطيني. ووقوع عدد من الاشتباكات العنيفة في ناحية وهران (جبال فرندة وسعيدة) وفي شمال شرق (بشار). مع استمرار إزعاج المراكز الإفرنسية على الحدود الشرقية، وعبور الخط المكهرب - وكذلك تخريب الخطوط المكهربة في (الغرب) عدة مرات. واصطدام الوحدات الإفرنسية بقوات جيش التحرير الوطني التي أخذت في الظهور وهي على درجة

عالية من الكفاءة القتالية، والتسلح الحديث. * من 1 الى 10 ديسمبر - إعتقال عدد من مناضلي جبهة التحرير في فرنسا. * في 16 منه - اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية بطرابلس. * في 19 منه - الاتحاد العام للعمال الجزائريين يرفض نتائج التحقيق الذي قامت به السلطات الإفرنسية حول اغتيال (عيسات ايدير). 1960 - 1960 1 - جانفي - يناير -. * في 4 منه - نشر تقرير الهلال الأحمر حول المحتشدات في الجزائر. * في 20 منه - تصريح المجلس الوطني للثورة الجزائرية في ختام اجتماعه بطرابلس، حيث أكد موقف الحكومة المؤقتة المعلن في 28 سبتمبر - أيلول - 1958 حول (حق تقرير المصير) واعتبار هذا الحق هو وسيلة الشعب الجزائري لنيل استقلاله. * - في 24 منه - مظاهرات صاخبة في الجزائر احتجاجا على الأعمال الوحشية لجيش الاحتلال. * في 25 منه - برقية للجنرال ديغول، يقول فيها: (إن المظاهرات التي بدأت في الجزائر قد ألحقت ضربة مشينة بفرنسا). * - قامت الوحدات الخاصة لجيش التحرير الوطني بتدمير 9 قطارات خلال هذا الشهر.

2 - فيفري - شباط -. * - صرح الناطق باسم قيادة الجيش الإفرنسي بالجزائر، أمام مراسل الصحف الأجنبية بقوله: (نأسف لأن أجهزتنا ومؤسساتنا لن تنشر بعد الآن نتائج العمليات، نظرا لاستغلال الصحافة الأجنبية لهذه النتائج، واستثمارها بشكل غير لائق). * في 13 منه - فرنسا تفجر أول قنبلة ذرية لها في (رقان) رغم احتجاج دول العالم بأسره. * في 17 منه - اشتباكات دموية عنيفة في (قطاع الأخضرية). * في 27 منه - إدارة أمن الجزائر - تعلن عن اكتشاف شبكة للتضامن مع جبهة التحرير الوطني، وتتكون من إفرنسيين. 3 - مارس - آذار -. * في 3 منه - (الجنرال ديغول) يزور الشمال القسنطيني. * في 14 منه - صرحت الحكومة المؤقتة: (بأن خطاب ديغول بالشمال القسنطيني قد أوصد الطريق أمام مفاوضات السلام). 4 - افريل - نيسان -. * - فرنسا تفجر قنبلتها الذرية الثانية في الصحراء. * - الحكومة المؤقتة تقرر الانضمام الى اتفاقات جنيف، وتعلن عن قبول المتطوعين الأجانب دون تمييز (في 11 نيسان - افريل - 1960) * في 12 منه - ندوة الشعوب الأفريقية في (كونا كري). * - ماي - أيار -. * - الجيش الإفرنسي يستخدم قنابل النابالم في جنوب (عين

الصفراء) وشرق (فيقيق) بجبال (أمزي). وتطور الهجمات اليومية في الشرق على المراكز والدوريات العسكرية الإفرنسية، وإسقاط (9) طائرات. * في 4 منه - بيان من الحكومة المؤقتة يدين المساعدات المادية التي تقدمها أمريكا الى فرنسا. 6 - جوان - حزيران -. * من 25 الى 29 جوان - محادثات مولان. 7 - جويليه - تموز -. * في الخامس منه - الحكومة المؤقتة تعلن - على أثر فشل (مفاوضات مولان) أنها لن تتفاوض في المستقبل إلا على أساس اتفاق مشترك. 8 - أوت - اغسطس -. * - في 22 منه - الحكومة المؤقتة تطلب استفتاء الشعب الجزائري (بشأن مصيره) على أن يتم هذا الاستفتاء تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة. * - افتتاح ندوة وزراء الخارجية العرب في لبنان، حيث أدرجت القضية الجزائرية على رأس القضايا المطروحة للبحث من قبل الوفود العربية. 9 - سبتمبر - ايلول -. * في 5 منه - (الجنرال ديغول) يعلن في مؤتمر صحفي: (بأنه ليس من حق الأمم المتحدة أن تتدخل في شؤون هي من اختصاص فرنسا وحدها).

* في 16 منه - الحكومة المؤقتة تصدر مذكرة تدين فيها (دمج الجزائر في حلف شمال الأطلسي). * في 22 منه - مكتب هيئة الأمم المتحدة يوصي بتسجيل (القضية الجزائرية) وتم التسجيل من غير اعتراض أو مناقشة. 10 - اكتوبر - تشرين الأول -. * - في 23 منه - الفدائيون يهاجمون (5) مراكز للحراسة في باريس. * - في 25 منه - فرار (6) أفراد من أعضاء جبهة التحرير الوطني من سجن (سانت - بيار - بفرساي). 12 - ديسمبر - كانون الأول -. * في 11 منه - مظاهرات شعبية تجتاح القطر الجزائري بكامله. * من 24 الى 27 - ديسمبر - المؤتمر الثاني لاتحاد طلاب المغرب العربي بالرباط. 1961 - 1961. 1 - جانفي - كانون الثاني -. في 11 منه - استشهاد (سي الزبير) قائد منطقة الجزائر -العاصمة -. 2 - فيفري - شباط -. * في 18 منه - مالي تعترف بالحكومة الجزائرية المؤقتة.

* في 21 منه - عمليات عسكرية عنيفة على الحدود الجزائرية - التونسية. 3 - مارس - آذار - * من 25 الى 31 منه - اجتماع الندوة الثالثة للشعوب الأفريقية - بالقاهرة -. * من 26 الى 30 منه- المؤتمر الاستثنائي للكتاب الآفرو - آسيويين ينعقد بطوكيو. 4 - افريل - نيسان -. * - عمليات عسكرية فدائية ضد مراكز الشرطة بباريس. * - من 13 الى 15 منه - مظاهرات شعبية في الجزائر. * 22 منه - تمرد عسكري في الجزائر، وتصريح قادة التمرد -الجنرالات - بإذاعة الجزائر. * - في 23 منه - التحاق الجنرالان (صالون) و (قورو) بقادة التمرد. * في 25 منه - تفجير قنبلة ذرية ثالثة (برقان). * في 26 منه - مظاهرات عنيفة بالجزائر. 5 - ماي - أيار -. * في 10 منه - الحكومة الجزائرية المؤقتة، والحكومة الإفرنسية، تعلنان في وقت واحد عن الشروع في (محادثات ايفيان). * في 20 منه - بدء محادثات (ايفيان).

6 - جوان - حزيران - * - ايفيان - مواصلة دراسة (مشكلة الصحراء). * في 13 منه - تأجيل ندوة ايفيان. * في 20 منه - الحكومة المؤقتة تعلن عن رغبتها في استئناف محادثات ايفيان. 7 - جويليه - تموز - * في 1 - منه - الاضراب العام في العاصمة. * في 2 حتى 5 منه - مظاهرات كبيرة في وسط البلاد، وأحداث دامية في شرقيها. * في 19 منه - اضطرابات دموية في (بنزرت). * في 20 منه - استئناف المحادثات بين جبهة التحرير الوطني وفرنسا في (لوقران). * في 23 منه - إيقاف القتال في (بنزرت). 8 - اوت - آب - * - فرنسا تعترف بحق الجزائر في الصحراء. * - في 11 منه - المجموعة (الأفرو- آسيوية) تطالب بطرح قضية الجزائر على المناقشة في هيئة الأمم المتحدة-. * في 27 منه - تعديل الحكومة الموقتة للجمهورية الجزائرية 9 - سبتمبر - ايلول - * في 17 حتى 20 منه - مظاهرات للجزائريين بباريس. * في 18 منه - إضراب عام عن الطعام للمعتقلين الجزائريين في سجن (بومات) بمرسيليا.

* في 22 منه - مظاهرات في الجزائر. 10 - اكتوبر - تشرين الأول -. * في الخامس منه - حظر التجول على الجزائريين بباريس - ابتداء من الساعة الثامنة مساء. 11 - نوفمبر - تشرين الثاني -. * في اليوم الأول منه - مظاهرات شعبية بمناسبة اليوم الوطني للمطالبة بالاستقلال. * في 2 منه - إضراب عام للمناضلين الجزائريين المعتقلين في جميع سجون فرنسا. * في 18 منه - مظاهرات صاخبة ضد منظمة الجيش السري الإرهابي - اوس - 12 - ديسمبر - كانون الأول -. * في 11 منه - إحياء ذكرى مظاهرات (11 ديسمبر -1960) في العاصمة وقسنطينة وعنابة. * - من 19 حتى 23 منه - حركة إضراب عامة ضد منظمة الجيش السري الإرهابي. * - في 31 منه- الحكومة المؤقتة تطلق سراح سجينين إفرنسيين. 1962 - 1962 1 - جانفي - كانون الثاني -. * في 2 منه - بيان الشخصيات الأدبية والسياسية والصحافية الإفرنسية، في موضوع (احترام حقوق الإنسان في الجزائر).

* في 5 منه - خمس منظمات إفرنسية تتخذ مواقف ضد الأعمال الإجرامية لمنظمة الجيش السري الإفرنسي، تلبية لنداء منظمة حقوق الإنسان. * - المحادثات بين جبهة التحرير الوطني وفرنسا تجابه مأزقا جديدا. * - في 12 منه - الحكومة المؤقتة تؤكد رغبتها في التفاوض على أساس تقرير المصير. * في 15 منه - اجتماع سري للغاية في (قصر الاليزيه) بهدف اتخاذ إجراءات لحفظ النظام في كل من فرنسا والجزائر. * في 16 منه - إضراب المعلمين بالجزائر. 3 - مارس - آذار -. * 7 منه - بدء جولة جديدة من مفاوضات (ايفيان). * 18 منه - التوقيع على اتفاقية (وقف القتال). * 19 منه - إيقاف الاقتتال. 4 - جويليه - تموز في اليوم الأول منه - الاستفتاء على استقلال الجزائر، وظهور النتيجة بنسبة (97،3) بالمائة لصالح الاستقلال. في 5 منه - إعلان استقلال الجزائر (*).

_ (*) المرجع للوجيز في الصفحات السابقة: 1 - نشرة صادرة عن وزارة الإعلام الجزائرية. 2 - صحيفة (الشعب) الجزائرية - الخميس 5 جويليه 1979 ص 5. 3 - جريدة (المجاهد) الجزائرية - 1/ 11/ 1958 ص 4 و5 و10.

سنوات الصراع

2 - سنوات الصراع استمرت الثورة الجزائرية منذ أن انطلقت رصاصاتها الأولى وحتى جلاء القوات الاستعمارية عن الأرض الطهور، أرض الجزائر المحروسة، زهاء سبعة أعوام وثمانية أشهر وخمسة أيام (أو 91 شهرا وخمسة أيام، أو 2803 يوما تقريبا) ودفع شعب الجزائر خلال هذا الصراع المرير حياة مليون ونصف من مواطنيه، أو ما يعادل 535 فردا مع شروق شمس كل يوم. طوال (2803) يوما والشعب الجزائري المجاهد يقدم كل يوم على مذبح حريته وكرامته وسيادته زهاء (535) فردا. أي ما يعادل 26 حتى 27 شهيدا في كل ساعة من ساعات النهار والليل، تقريبا. وهو ثمن فادح ربما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض في مثل ظروف الصراع الذي عاشه شعب الجزائر عبر محنته الرهيبة. فإذا ما أضيف إلى ذلك ما قدمه شعب الجزائر طوال سنوات الصراع الذي رافق الاستعمار الإفرنسي طوال مائة واثني وثلاثين عاما، سيظهر بوضوح قدر تلك التضحيات الضخمة التي دفعها شعب الجزائر المجاهد، مع ما رافق هذه التضحيات من معاناة مريرة، وآلام دفينة. وتعجز الكلمات عن وصف جوانب المأساة التي عاشها

الشعب المجاهد طوال ليل الاستعمار. يظهر من خلال هذه الصورة القاتمة أن كل ساعة من ساعات عمر الثورة الجزائرية الأخيرة - ثورة التحرير- كانت حافلة بالأحداث المثيرة، ومن هنا، فالوجيز الذي سبق عرضه لا يمثل أكثر من صورة عامة لأحداث الثورة، غير أن هذا الوجيز- على قصره - يبرز الملامح الرئيسية لمسيرة الصراع وتطوره. وهي الملامح التي تعطي للثورة الجزائرية، خصوصيتها، ولعل من أهم هذه الملامح: 1 - تحديد الهدف بوضوح منذ بداية الثورة وحتى نهايتها وهو (حق تقرير المصير المؤدي إلى الاستقلال الكامل)، والثبات عند الهدف في كل الظروف. 2 - التكامل في استخدام طرائق الصراع السياسي والمسلح، من غير إهمال لإحدى الطريقتين، أو الاعتماد على إحداهما على حساب الأخرى. 3 - التوازن في توجيه الصراع على المستويات الداخلية والعربية والدولية. والاعتماد على جناحي الجزائر - الجغرافيين - المغرب وتونس، والاستناد بصورة طبيعية إلى الأرضية الصلبة والثابتة (الأرضية العربية - الإسلامية) من غير إهمال للظروف الدولية. 4 - تطوير الصراع المسلح وتصعيده بصورة مستمرة بما يتناسب وثقل الهجمة التي كانت تعمل فرنسا الاستعمارية على تطويرها بصورة ثابتة. 5 - البدء قبل كل شيء بدعم أرضية الثورة، وذلك بالقضاء على أعداء الثورة في الداخل وتدمير المتعاونين مع فرنسا، وعزل النظام الاستعماري وتطويقه.

6 - نقل الحرب بكل أبعادها السياسية والعسكرية إلى فرنسا ذاتها وتوجيه التهديد الى قلب فرنسا الأمر الذي خلق في فرنسا انقساما خطيرا. وهكذا وبينما كانت الجبهة الجزائرية تتزايد تلاحما يوما بعد يوم، كان استمرار الصراع يمزق الجبهة الداخلية لفرنسا بصورة متزايدة، وكان ذلك هو العامل الحاسم في تقرير مصير الصراع. 7 - الافادة من الأخطاء السياسية والعسكرية للاستعماريين الإفرنسيين - وهي أخطاء متلاحمة في صلب النظام الاستعماري ذاته - واستثمار هذه الأخطاء الى أبعد الحدود. 8 - تطبيق استراتيجية رائعة من قبل (القادة التاريخيين للثورة) وتجنب الوقوع في الأخطاء الخطيرة، والتحرك بحذر شديد على كافة مستويات الصراع. تلك هي أبرز الملامح - لا كلها - وعودة إلى قصة الثورة. استطاع الثوار التاريخيون إثبات وجودهم على المسرح القتالي، وتمكنوا من تجاوز مرحلة الخطر طوال السنة الأولى من الصراع المسلح، وامتد لهيب الثورة مع بداية سنة 1956 ليشمل كامل تراب الوطن الجزائري تقريبا. وتحرك المغرب العربي (مراكش) وحصلت تونس على استقلالها الذاتي، وخاضت فرنسا معركة الانتخابات التي فاز فيها الاشتراكيون، وأصبح (غي موليه) رئيسا للوزراء، وبات لزاما عليه تنفيذ وعده لناخبيه بتحقيق (السلم في الجزائر). غير أنه لم يكن يعرف ما يتضمنه هذا السلم، ولا ما يعنيه. وعند وصوله إلى السلطة سافر إلى الجزائر العاصمة. فاستقبله الأوروبيون بنفور ظاهر، وهاجموه بالطماطم الفاسدة (البندورة). ثم قام بزيارته للجزائر كلها، واستشار العسكريين

فيها. وكان كل ما عرفه أو تعرف عليه، جديدا بالنسبة إليه. فالمسألة مختلفة كل الاختلاف عما كان يتصوره. وفجأة، غير (غي موليه) سياسته، وعين (لاكوست) وزيرا مقيما في الجزائر، وأعطى للإدارة الإفرنسية في الجزائر سلطات خاصة، واستدعى قرعات جديدة من الجنود، ودعم قوات حفظ الأمن (الجندرمة والبوليس) في الجزائر حتى بلغ تعداد أفراد القوات المقاتلة (400) ألف رجل. لقد زجت هذه الإجراءات فرنسا في طريق لا نكوص عنها ولا تراجع فيها: فإما الانتصار السريع والحاسم وإما التخلي عن الجزائر. وكان هذا الجهد العسكري بمثابة السد الذي لا يسمح بأية تسوية سياسية .................... هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فقد كان من المحال على فرنسا الاستمرار في تقديم مثل هذا الجهد العسكري لمدة طويلة جدا، في حين ظهر بوضوح أن عملية إخماد الثورة في الجزائر - عسكريا - حتى من وجهة نظر الإفرنسيين تتطلب مهلة زمنية لا تقل عن العشر سنوات. حاول (لاكوست) ومعه (الجنرال لوريو) استخدام التعزيزات الضخمة في محاولة لانتزاع المبادرة من قبضة قيادة جبهة التحرير. ونفذ في محافظة قسنطينة منهجا للقضاء على الثورة، والسيطرة على مناطق متميزة بصورة قوية. وفي منطقة القبائل، حاول الجنرال (أوليه) القيام بعمل سياسي على مستوى (الكومونات البربرية) وتطويره وردت جبهة التحرير على ذلك بعنف، فوقعت مذبحة (باليسترو) الرهيبة. ثم دعمت جبهة التحرير وحدتها ومناهج عملها بالمؤتمر الذي عقدته في (وادي الصومام) وطورت الإرهاب المضاد للإرهاب الإفرنسي في العاصمة (الجزائر) حتى بات المناخ

المعادي لفرنسا صعبا للغاية. أعد (غى موليه) عملية الهجوم على قناة السويس، وأوصى بالقيام بها ضد مصر، معتقدا بأن هذه العملية ستصيب الثورة الجزائرية في جذورها وأصولها. ولكن العملية الإفرنسية - البريطانية - الإسرائيلية كانت سيئة الإعداد جدا من الناحية السياسية، كما أخضعتها القيادة البريطانية من الناحية العسكرية لخطة بطيئة جدا، وانتهت هذه المغامرة على ما هو معروف بسبب تدخل الأمريكيين والسوفييت معا، وكانت فشلا سياسيا مثيرا، انعكس على صفحة الثورة الجزائرية بصورة فورية، فزال التوتر الذي سيطر على الموقف خلال اليوم الأول للإنزال في السويس، وانطلت الثورة بقوة دفع جديدة، بعد أن اكتسبت هيبة مؤكدة. بدأت الثورة مرحلة جديدة مع بداية سنة 1957، فقد عرفت قيادة جبهة التحرير الوطني ما تتمتع به ثورتها من أهمية دولية. كما أدركت بعمق ضعف السياسة الإفرنسية في قلب العاصمة الإفرنسية. فتابعت نشر عملها السياسي على امتداد الصفحة الجغرافية للجزائر؛ وأخذ جهدها يتركز الآن على ثلاثة اتجاهات: 1 - استخدام الجزائر العاصمة ميدانا للإثارة، فضاعفت أعمال الإرهاب المضاد للإرهاب الإفرنسي. 2 - إبراز الكيان السياسي للجزائر على المسرح الدولي، واتخاذ جبهة التحرير صفة الحكومة الشرعية. 3 - ممارسة العمل السياسي والعسكري في فرنسا بهدف إحداث انقسام في الرأي العام الإفرنسي تجاه قضية (الحرب الجزائرية). وإزاء هذا العمل، حاولت الحكومة الإفرنسية التي عينت (الجنرال سالان) في الجزائر، حل المسألة الجزائرية بالوسائل العسكرية، وبإعطاء العسكريين السلطات التي تتمتع بها قوات الأمن. وتلقت فرقة

المظليين العاشرة التي عادت من عملية السويس مهمة إعادة الأمن في الجزائر العاصمة، وقسمت البلاد إلى مربعات، وجمعت المسلمين في القرى. وقد برهنت هذه التدابير على عقمها وعدم جدواها. إذ تزايدت الصعوبات أمام الفلاحين ودفعتهم أعمال الإرهاب لتطوير جهادهم وكفاحهم. وكان هذا العمل غير الكامل، غير كاف بنفس المقدار أيضا، لأنه أهمل الطابع الدولي للصراع إهمالا تاما. وكان الوهم السياسي الذي أصرت عليه فرنسا هو: (أن الجزائر جزء لا يتجزأ من الأرض الوطنية الإفرنسية) وأن منظمة الأمم المتحدة، أو أية منظمة دولية أخرى لا علاقة لها بهذه الحرب (باعتبارها مشكلة داخلية تخص فرنسا وحدها). وبذلك لم تجد فرنسا من يدافع عنها في الخارج. واستثمرت قيادة جبهة التحرير الوطني هذا الموقف إلى أبعد الحدود، فانفردت بكل الامتيازات التي يتطلبها التحرك على المستوى الدولي. في هذا الوقت بالذات تركز الاهتمام السياسي على الجزائر العاصمة حيث نشبت معركة قاسية بين مجاهدي جبهة التحرير ومظليي (ماسو). وأعطى وجود الصحافة الدولية في الجزائر لكل ما جرى أصداء دولية واسعة، إذ كان لا بد لأساليب التعذيب الوحشية، وطرائق القمع البربرية من أن تستنفر الرأي العام العالمي وتستفزه، وقد وصلت الاستثارة حدا قسمت فيه الرأي العام الإفرنسي ذاته. واعتبارا من هذه اللحظة، أصبح لجبهة التحرير الوطني أنصارها ومؤيدوها في الأوساط الإفرنسية. وتمزقت الوحدة الوطنية الإفرنسية تمزقا رهيبا لم يلتئم حتى بعد انتهاء الحرب. ومع هذا فقد ربح المظليون معركة الجزائر العاصمة، وأعادت عمليات (سالان) بوسائله التي عززت في ذلك الوقت درجة معينة من الأمن في الريف.

وظهر بعض الاضطراب في عمل جبهة التحرير، فظن الافرنسيون أن ذلك بداية الهزيمة للثورة. لكن الجبهة كانت في هذه المفترة قد أخذت في تطوير عملها في تونس والمغرب. وسمحت لها معونة الحكومتين المستقلتين لهذين البلدين الشقيقين، بأن تشكل نواة جيش نظام - هو جيش التحرير الوطني - والعمل على تطويره بفضل الأسلحة التي تسلمتها الجبهة من تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي. وانتقل الاهتمام العسكري من جديد إلى الحدود التي حاولت فرنسا تحويلها إلى حدود مغلقة بإحكام بواسطة تجهيزات دفاعية تجمع بين الشبكات الكهربائية ورادارات الكشف. وتم إنشاء خط موريس في الشرق، وخط آخر لم تطلق عليه أية تسمية في الغرب، كانا يقومان بتحديد تسلل قوات جيش التحرير الوطني. وأصبح هذان الخطان مسرحين لمعارك دموية ضارية. وكان الإغراء يدفع الإفرنسيين للتحرك الى تونس والمغرب لتدمير قوات جيش التحرير الوطني. ولكن ضغط الرأي العام الدولي منعهم من القيام بهذا العمل. وتطور جيش التحرير في حمى هذه المحرمات إلى أن شكل قوة هامة أصبحت فيما بعد أداة سيطرة جبهة التحرير الوطني على الجزائر، ومصدر سلطة العقيد (الهواري بومدين). وفي الوقت ذاته، شكلت جبهة التحرير الوطني حسب سياق (نقلته عنها الفيتكونغ فيما بعد) حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية. وهكذا حصلت جبهة التحرير على كل الواجهة الدولية للثورة - كما حصلت على الجهاز الضروري لإدارة البلاد. خلق هذا التدهور في الموقف، بالرغم من النجاحات الواضحة جدا في المجال العسكري، استياء متزايدا في وسط الجيش الإفرنسي الذي أحس بحرمانه من جهوده التي بذلها. ووقعت في

غضون ذلك حوادث خطيرة، مثل حادثة (بازوكا الجزائر) (*) و (قضية فور) (**) فكشفت عن وجود شر يستفحل أمره. وفي (أفريل - نيسان - 1958) أدت بعض الرمايات التي قام بها جيش التحرير الوطني من الأراضي التونسية - على حد زعم السلطات الإفرنسية - إلى قيام القوات الإفرنسية بإغارة جوية على (ساقية سيدي يوسف) الواقعة على الحدود التونسية. وأثارت هذه القضية، التي أثيرت بصورة رائعة، انفعالا خطيرا في منظمة الأمم المتحدة وفي فرنسا ذاتها. وتقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بعرض وساطتها (للتدخل الودي والمصالحة) وأرسلت سفيرها (مورفي) إلى تونس. فهب الجيش الإفرنسي، وثار الرأي العام الأوروبي في الجزائر، وتحولت الجزائر العاصمة الى مسرح للتظاهرات الشعبية العنيفة. ولم يتمكن الجيش من السيطرة عليها إلا بعد جهد مضن. وفي العاصمة الإفرنسية، تحركت الحكومة بلا خطة أو هدف، وهي على ما هي

_ (*) وقع هذا الحادث في 16 جانفي - كانون الثاني - 1958، إذ أطلق الإفرنسيون المستوطنون في الجزائر قنبلة بازوكا من أحد السطوح في ميدان (ايسلي) على مكتب (الجنرال سالان) فقتل أحد مساعديه (المقدم روديه) وجرح العقيد (بوسيه). وقد اتهمت جبهة التحرير الوطني بالحادث في بداية الأمر، غير أن تحقيقات الشرطة الإفرنسية أثبتت ان العمل هو من صنع الإفرنسيين المسوطنين. (**) قضية (الجنرال فور) هي قضية مشهورة في الصحافة الإفرنسية. وتتلخص بإقدام (الجنرال فور) على مفاتحة (تيتجن) مفتش بوليس محافظة الجزائر بانقلاب يعتزم القادة - الجنرالات - الإفرسنيون القيام به في الجزائر. وأعلم (تيتجن) رئيسه (شوساد) الذي أخبر بدوره (لاكوست) الوزير الإفرنسي المقيم في الجزائر. وتم تسجيل حديث (فور) ثم استدعي الى فرنسا واعتقل. وتسرب الحادث إلى الصحافة الإفرنسية، فهاجم بعضها (تيتجن) واعتبره بعضها بطلا وطنيا.

عليه من احتمال تدخل الجيش الإفرنسي في الجزائر ضدها. وانهارت الجمهورية الرابعة. ... تم استدعاء الجنرال ديغول لاستلام السلطة في الجمهورية الخامسة، وكان (ديغول) يظن أن باستطاعته حل (القضية الجزائرية) بتسوية ليبيرالية مشرفة. غير أنه كان يمتلك من الإحساس السياسي ما حمله على رفض الصيغة التي ختمت (13 ماي - أيار) بصورة عفوية وتلك الصيغة هي أن (الجزائر إفرنسية). وكان (ديغول) يعرف أن (هضم الجزائر وتمثلها) الذي ربما كان ممكنا قبل عشرين عاما، قد تجاوزته الأحداث الآن، وأن على فرنسا أن تقدم تنازلات واسعة؛ ولكي يحصل على التسوية التي يتصورها، فإنه اعتمد على الضغط العسكري للعمليات، فعاد من جديد لممارسة الاستراتيجية السابقة. إلا أن (13 ماي - أيار) قد أعطى كل السلطات المدنية لجيش الجزائر. وكانت نتيجة هذا الموقف الجديد بالنسبة لمعظم القادة - الجنرالات - هي تحول عملهم عن المهام العسكرية. عين ديغول (الجنرال شال) مكان (الجنرال سالان) على أمل الحصول على نصر عسكري حاسم، يسمح له بتنفيذ التسوية السياسية. وأعلن عن هذه التسوية بتصريحات واضحة جدا عن (حق تقرير المصير الذاتي) و (سلم الشجعان) وذلك في (سبتمبر - أيلول - وأكتوبر - تشرين الأول 1958). وبدأ الجنرال شال سلسلة من العمليات العسكرية الكبرى، التي طارد فيها الفلاحين حتى مخابئهم وملاجئهم. ووجدت قيادة جبهة التحرير

صعوبة كبرى في المحافظة على قواعدها، والاحتفاظ بقوات ضخمة، فقسمت قواتها إلى مجموعات صغرى انتشرت في كل الولايات. وظن ديغول أنه بات يسيطر على (95) بالمائة من الجزائر. ووقف ينتظر استسلام الحكومة المؤقتة لإرادته وكان انتظاره هذا مشابها تماما لانتظار نابليون على أبواب موسكو سنة 1812. فقد رفضت حكومة الجزائر الخضوع لمنطق القوة، واستمرت في إصرارها التام على رفض عروض ديغول. ووقف الرأي العام العالمي إلى جانبها، يدعمها ويشد أزرها. وهكذا حصل ديغول على النصر العسكري غير أنه لم يحقق أبدا هدفه السياسي. لقد أدى هذا التطور إلى وضع ديغول أمام مأزق حرج، فقد بدأ القلق ينتاب الرأي العام الإفرنسي في الجزائر، وجزءا من الجيش الإفرنسي، بسبب السياسة الليبيرالية التي حاول ديغول تحقيقها بطرائق ملتوية لإخراج فرنسا من الوحل على حد زعمه. ونجم عن هذا الوضع سلسلة من الحوادث التي تفاقت حدتها وخطورتها: فالحواجز أو المتاريس التي أقيمت في العاصمة - الجزائر - تشير إلى طلاق (الجزائر الإفرنسية) من الحكومة. ووجدت الحكومة الإفرنسية نفسها وهي مرغمة على مهادنة جبهة التحرير الوطني، أو حتى دعمها، للقضاء على التظاهرات التي اجتاحت المدن، الأمر الذي عزز من هيبة الجبهة ودعم من مكانتها. وأعيد (الجنرال شال) إلى فرنسا بعد أن انتهب مهمته العسكرية. وسمحت هذه الضمانات أخيرا بالبدء في مفاوضات (مولان) وأعقبها خطاب ألقاه (ديغول) تحدث فيه عن (الجمهورية الجزائرية). وكان التطور قد أصبح الآن تاما. بيد أن ديغول لا زال يأمل أيضا بأن تسمح التسوية السياسية

النهائية بإنقاذ ما يمكن إنقاذه لتحقيق بعض المكاسب، والمحافظة على المصالح الإفرنسية كما كانت من قبل. كانت هذه السياسة ليبيرالية بأكثر مما كان يتوقعه الإفرنسيون من ديغول، ولهذا فقد خابت آمالهم في الجزائر، كما خابت آمال الجيش الذي جعل من جبهة التحرير الوطني وجيشها الهدف الأساسي لعدائه، واشتد التوتر في الجزائر. وانفجر المأزق عن الانقلاب الذي دبره القادة - الجنرالات في الجزائر العاصمة. وكانت عملية هذا الانقلاب قد أعدت بصورة سيئة. ونفذت باستخفاف ورعونة، فكان الفشل الحتمي مصيرها. غير أنها نجحت في شيء واحد، وهو تمزيق الجيش الإفرنسي تمزيقا لم يعرفه من قبل. وزاد الموقف سوءا بظهور حركة (منظمة الجيش السري) التي لم تكن في واقعها إلا ترجمة سيئة ورديئة لطرائق الحرب الثورية. وقد شنت هذه الحركة حملة إرهاب عنيفة وحمقاء، زادت من تدهور الموقف بين الإفرنسيين والمسلمين الجزائريين. ووجدت حكومة ديغول نفسها مرغمة على وضع حد نهائي للفوضى والاضطراب، فعادت إلى استئناف المفاوضات (في إيفيان). واعترفت باستقلال الجزائر، وسيطر جيش التحرير الوطني على البلاد، وتجمعت القوات الإفرنسية في الموانيء والمطارات، وبدأت بتنفيذ عملية الجلاء. كما غادر الإفرنسيون المقيمون في الجزائر البلاد، على أمل إرباك البلاد الجزائرية وهي في فجر استقلالها. غير أن حكومة الجزائر تمكنت من تجاوز العقبات. وانهار البناء الذي عملت فرنسا على إقامته طوال (132 عاما). وباشر أبناء الجزائر في تضميد جراحهم وبناء حياتهم

الجديدة. وعادت المآذن مضيئة ترتفع فيها دعوات الخير - والله أكبر. ... لقد حاول الكتاب الغربيون - والافرنسيون منهم خاصة - تحليل التجربة الجزائرية، وتعليل أسباب (الفشل الإفرنسي) وجاؤوا بافتراضات كثيرة، منها - على حد زعمهم - ضعف القوات الإفرنسية في بداية الثورة، وسوء إدارة الحرب، وفشل القيادات السياسية في معالجة المواقف المتتالية، ولكن الحقيقة الأولى التي كانت سبب الفشل في الواقع هي أن (الاستعمار ذاته هو الذي يحمل في جوف نظامه بذور مصرعه) أما الحقيقة الثانية والتي لا تقل في أهميتها عن الأولى فهي (تصميم شعب مؤمن بالله الواحد القهار، وبحقه في الحرية والكرامة والسيادة واستعداده لتقديم التضحيات مهما بلغت للدفاع عن دينه والذود عن حياضه؛ فكان في ذلك نصره وهزيمة أعدائه).

جيش التحرير الوطني الجزائري

3 - جيش التحرير الوطني الجزائري لقد ولد جيش التحرير الوطني الجزائري مع ولادة الثورة، وتطور مع تطورها، واكتسب قوته من قوتها. فصلب عوده من خلال الصراع المسلح. وبقي هو العمود الفقري للثورة، فلولاه لما كان لأي مجهود سياسي جدواه أو فائدته. وقد بدأ جيش التحرير عمله في بداية الثورة على شكل مجموعات منعزلة، لا تنسيق بين عملياتها، وكانت تفتقر إلى الأسلحة والذخائر والأعتدة القتالية، الأمر الذي دفعها إلى تركيز هجماتها ضد القوات الإفرنسية بحثا عن الأسلحة والذخائر، وقد دفعت ثمن ذلك غاليا من دماء مجاهديها وأرواحهم. وبقي الأمر على ذلك حتى شهر آب (أغسطس) 1956 حيث أعيد تنظيم الجيش وفقا لمقررات موتمر (وادي الصومام). فقسمت الجزائر إلى ست ولايات، طبقا لتقسيماتها الإدارية السابقة، مع بعض الاختلاف في الحدود أحيانا بين التقسيمين، وتبعا لاختلاف النشاط في كل منطقة. وقد ضمت إلى الولايات الخمس الأصلية، ولاية الصحراء الجديدة. كما اعتبرت مدينة الجزائر منطقة مستقلة ضمن الولاية الرابعة، بسبب وضعها الخاص. وتم في العام 1957 تنظيم قاعدتي الشرق والغرب على كل من الحدود التونسية

والمغربية، بهدف تأمين وصول الأسلحة والرجال من المنطقتين وإليهما. قضى مؤتمر الصومام بتقسيم كل ولاية إلى مناطق، والمنطقة إلى أقاليم، والإقليم إلى قطاعات. وفي كل مركز قيادة للجيش (قائد سياسي - عسكري) يعاونه ثلاثة مساعدين، أحدهم للشؤون السياسية والثاني للعسكرية والثالث للمخابرات والارتباط. ويكون القائد على صعيد الولاية برتبة عقيد (كولونيل) (*). وهي أعلى الرتب العسكرية التي سيستخدمها الجيش حتى الاستقلال. وتم في مؤتمر وادي الصومام تقسيم وحدات الجيش إلى أفواج يضم الواحد منها أحد عشر جنديا، وفرقا تضم الواحدة منها خمسة وثلاثين جنديا، وكتائب تضم الواحدة مائة وعشرة جنود، وفيالق تضم ثلاثمائة وخمسين جنديا. وقرر المؤتمر أن يتبنى الجيش نظام الدرجات العشر الموجودة بين المجاهدين في القبيلة، وهي تبدأ بالعريف وتنتهي بالعقيد. وتم تنظيم الرواتب على درجات تبدأ بألف فرنك في الشهر للجندي العادي، وتنتهي بخمسة آلاف للعقيد. ولكن ثمة كثيرين من المجاهدين لا يتقاضون رواتب. وقرر المؤتمر أيضا، تخصيص علاوات للعائلات، ومنح رواتب لأسر الشهداء، أو في حالات الأسر. كتبت صحيفة 5 المجاهد، في نوفمبر - تشرين الثاني - 1957

_ (*) بقي هذا النظام متبعا طوال ربع قرن بعد الاستقلال، ولم يحمل الرئيس هواري بومدين أكثر من رتبة عقيد. وفي 1979/ 7/1، أصدر الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد مرسوما رفع بموجبه وزير الدفاع (القاصدي مرباح) إلى رتبة عميد. فأفسح بذلك المجال أمام ترفيع القادة الى رتب أعلى تتناسب مع حجم التشكيلات التي يقودونها والأعمال التي يمارسونها أسوة ببقية جيوش العالم.

(وهي الناطقة باسم جبهة التحرير، عن الجيش، فأكدت المخطط العام الذي وضعه مؤتمر (وادي الصومام) ثم قالت: (إن جيش التحرير هو جيش منظم ومسلح على أحدث طراز. لكن سر قوة الجيش وفعاليته، تقوم بصورة رئيسية في العون غير المشروط الذي يتلقاه من الشعب). وهناك ثلاث فئات من المتطوعين في الجيش وهم: 1 - المجاهدون. 2 - المسبلون (*). 3 - الفدائيون وهم الذين يحاربون في المدن. وهناك في بعض المناطق فئات (المغاوير، أو فدائيو الموت) ويعمل هؤلاء بصفة مستقلة عن القيادات المحلية ويتولون القيام بمهام خطرة. وكان الجيش قد أقام في العام 1957، عددا من الخدمات المركزية، كالخدمة الطبية بما تشتمل عليه من عيادات ومستشفيات وخدمات الاتصال مع القيادات الأخرى، والخدمات الاجتماعية لأسر الضحايا والشهداء، والدعاية والإعلام والثقافة، كما وسع نشاط المفوضين السياسيين. وفي غضون العام 1958، تحول جيش التحرير الجزائري بصورة طبيعية وتدريجية إلى جيش نظامي عامل، من غير أن يفقد روحه الثورية.

_ (*) المسبلون (جمع مسبل - بضم الميم وتسكين السين وكسر الباء وإسكان اللام) والمسبلون هو اصطلاح جزائري يقصد به الأنصار الذين يتطوعون للعمل في مناطقهم، فيقومون بتدمير طرق المواصلات، وتفجير أعمدة الهاتف والقدرة الكهربائية، وينقلون المعلومات لجيش التحرير عن تحركات العدو وقواته، كما يعملون على نقل الذخائر والأسلحة ومساعدة الجرحى وإخلائهم من ميادين القتال، ويستدرجون العدو إلى الكمائن المنصوبة. ويؤمنون حراسة قطعات جيش التحرير خلال توقفها، ويعملون أدلاء لها في تحركها، الخ ...

كانت القيادة تقبل في صفوف الجيش، عند بداية الثورة، كل من يقبل على التطوع، ولكن هذه الفئات الأولى لم تلبث أن اختفت تحت وطأة ما تكبدته من الخسائر الفادحة. وغدا التطوع يقوم على أساس الانتقاء، مع إعطاء الأفضلية لمن اكتسبوا من قبل خبرة قتالية - عسكرية -. وكان التدريب العادي على أساليب القتال والنظام يجري ضمن الوحدات نفسها. أما الإعداد العسكري العالي للضباط والجنود، فكان يتم في المسعكرات الخاصة بذلك في القطرين المجاورين (تونس والمغرب). وكان يتم إرسال بعض الشبان للتدريب على الأعمال الخاصة (كأعمال الفدائيين، أو قيادة الطائرات النفاثة، أو الهندسة العسكرية، أو قيادة القطع البحرية) إلى القاهرة أو بغداد أو ألمانيا الشرقية أو دمشق. كان من أبرز مظاهر (تنظيم الجيش) وضع القوانين العسكرية للانضباط والقضاء العسكري التي أصبحت سارية المفعول في الولايات اعتبارا من شهر (أفريل - نيسان - 1958) وحدد القانون الجديد العقوبات للجنح والجرائم (أنظر قراءات 1 و2 في آخر الكتاب). شهد عام 1958 تحسنا أيضا في وسائل المواصلات، على الرغم من أن التنقلات ظلت على الغالب مقصورة على السير (المشي)، أو امتطاء البغال، أو ركوب السيارات المدنية في المناطق الأمينة. وتم تنظيم شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية، وأصبح بإمكان القيادة في كل ولاية أن تتصل في كل يوم اتصالا مباشرا، عن طريق اللاسلكي، مع القيادة العامة خارج الجزائر. وغدا الجيش في الداخل غير مفتقر إلى صحفه الداخلية

ووسائله الترفيهية. وكانت الصحف المحلية توزع يوميا لتنقل إلى الجنود وصف الضباط، صورة عن المعارك في كافة الأقاليم ممتزجة بالأحداث الطريفة والمثيرة. تطور جيش التحرير الوطني الجزائري تطورا مستمرا من خلال الصراع المسلح، ولهذا فقد بقي من الصعب تحديد حجمه بدقة، وكذلك الأمر بالنسبة لتسلحه. وتشير أرقام الجيش ذاته إلى أنه بدأ في العام 1954، بمئات من المتطوعين، ثم أصبح يضم ثلاثة آلاف مع بداية منة 1955. وارتفع عدده إلى (40) ألفا في سنة 1956، ثم إلى (100) ألف في سنة 1958 ووصل إلى (130) ألفا في سنة 1959. أما الإفرسيون فقد قدروا عدد أفراد جيش التحرير في سنة 1956 بـ (15) ألفا من الجنود النظاميين و (10) آلاف من المتطوعين الإضافيين - وفي سنة 957 1 كانت تقديراتهم تشير إلى أن جيش التحرير بات يضم (35) ألفا من النظاميين و (30) ألفا من المتطوعين الإضافيين. وعلى كل حال، فإن السبب في بقاء الجيش محدود العدد، يعود إلى قلة السلاح وليس إلى عدم توافر الرجال. وكانت أسلحة الجيش الأولى في مستهل الثورة، عبارة عن بنادق الصيد والمدي والأسلحة البدائية الأخرى التي كان الجزائريون من أبناء الجبال يملكونها. وقد سقطت بعض مخابىء الأسلحة التي كانت مطمورة (مدفونة) منذ أيام الحرب العالمية الثانية في أيدي جيش التحرير. وقد تمكن جيش التحرير في السنة الأولى من القتال، من الحصول على بعض الأسلحة الحديثة التي جاءته من الخارج، أو من الاغارات على المستودعات العسكرية للافرنسيين. وتحسنت وسائل تسلح الجيش قبيل نهاية العام 1955، ووصلت إلى الجزائريين بعض المدافع من الأنواع التي استخدمت في الحرب

العالمية الثانية، إما من بعض الدول العربية (مثل سورية) وإما من أسواق السلاح الأوروبية. وكان الجيش حتى (نوفمبر - تشرين الثاني - 1957) يؤكد أن ثلاثة أرباع سلاحه، جاءت من الإغارات التي كان يقوم بها على مستودعات الإفرنسيين. وأصبحت بنادق الصيد التي استخدمت في الأيام الأولى للثورة مجرد ذكرى من الذكريات القديمة، واستعيض عنها ببنادق ومدافع رشاشة خفيفة وثقيلة ومدافع البازوكا والهاون. وانتشرت أقوال في سنة 1958 تؤكد أن جيش التحرير سيحصل على بعض الطائرات الخفيفة لتأمين الارتباط والاستطلاع. ولكن هذه الطائرات لم تظهر حتى مطلع العام (1959). واستمر السلاح في التدفق على جيش التحرير، عن طريق البر والبحر، من تونس ومراكش (المغرب). وكانت البلاد العربية هي المصدر الرئيسي للأسلحة، كما وصلت أسلحة أخرى من أوروبا، أما الأموال فمن بلاد عديدة. ولم يعثر في الجزائر على أسلحة من صنع الكتلة الوفييتية منذ عام 1954، وإن عثر فيها على أسلحة تشيكية من إنتاج الحرب العالمية الثانية، اشتراها الجزائريون من الأسواق الأوروبية وإذا قدر لشحنات من الأسلحة الشيوعية أن تصل إلى البلاد، فإنها ستأتي حتما من الصين الشيوعية. اعتمدت الثورة الجزائرية في أساليبها الاستراتيجية وطرائقها التكتيكية على أصالتها الثورية وتجاربها القتالية الخاصة في مختلف الثورات التي سبقتها. غير أن قادة الثورة حاولوا الإفادة من تجارب الآخرين - مثل تلك التي طبقها (ماوتسي - تونغ - الزعيم الصيني) وشرحها في كتبه. وقد زودت حرب المقاومة الإفرنسية ضد الاحتلال النازي، الثورة الجزائرية بالكثير من تعابيرها واصطلاحاتها. ويظهر أن التجربة السوفييتية لم تفد الجزائر ولم تطبق في الجزائر.

أما حروب العصابات اليوغوسلافية إبان الحرب العالمية الثانية، فقد أوحت للجزائريين الثوار بالكثير من الدروس. ولعل السبب في ذلك هو التشابه في الطبيعة الجغرافية والتماثل في موقف (القوى المتصارعة). كما أن قادة الثورة استوحوا من أعمال الجيش الجمهوري الإيرلندي، على ما يظهر، الكثير من وجهات النظر العسكرية والآراء السياسة. غير أن معظم الأساليب التي تم اتباعها هي تلك التي سار عليها المجاهدون الجزائريون طوال السنوات التي سبقت الثورة، والتي تعتمد على أصالتهم الثورية الذاتية وتجاربهم القتالية الخاصة، وتطوير تلك الأساليب وفق مبادرات القادة. ولقد اعتمدت الخطة الاستراتيجية العامة للجيش على تصعيد الصراع المسلح بصورة منتظمة وبمعدل متزايد. وقد تحدث العسكريون - من وقت إلى آخر - عن معركة من نموذج معركة (ديان بيان فو) ينوون شنها ضد الإفرنسيين، ولكن ما لم تظهر الأسلحة الجديدة، وتحدث تبدلا أساسيا في قوة النار، فستظل الخطة العامة مرتكزة على بث الشعور بعدم الطمأنينة للإفرسيين في كل موقع، وفي أي مكان، من أرض الجزائر. ولا ريب في أن الظروف المحلية وقوة الجيوش الإفرنسية العاملة في الجزائر، واحتمالات التموين، قد احتكلت كلها المكان الأول في الاعتبارات المتعلقة بهذا الموضوع. يظهر ذلك، أن جيش التحرير الوطني الجزائري قد اكتسب منذ بداية عهده الشكل الحقيقي والمضمون العملي للجيش النظامى المحارب، ولم يكن أبدا، لا في انضباطه، ولا في أساليب عمله ولا في طريقة عمله، مجموعة من العصابات (أو الفلاقة) أو (العصاة) كما أطلقت عليهم فرنسا حتى آخر عهدها بالجزائر. ولم

يكن هذا الانكار لحقيقة وجود جيش التحرير، إلا من أجل ممارسة الإرهاب، وإهدار دم الثوار، وتطوير أعمال الابادة باعتبارهم (خارجين على القوانين - الإفرنسية) فوق أرض (الجزائر الإفرنسية) كما كان يزعم دهاقنة الاستعمار ورجاله وأجهزته. لعل من أدعى خصائص جيش التحرير الجزائري، المدهشة، هي أنه تكون في بداية عهده بمنتهى التواضع من بضع مئات من الرجال، فلم يلبث أن تطور بسرعة تكاد تكون خيالية. ولقد وطن هذا الجيش نفسه على مستلزمات النضال التحرري، وأخصها حرب العصابات، فكان بذلك جيشا ثوريا من الأنصار، وجيشا نظاميا في آن واحد. وقد ظهر ذلك واضحا من خلال تنظيمه وكيانه الحقوقي. فتقسيم البلاد، إلى ولايات ومناطق، وتعيين المسؤولين العسكريين والمدنيين في كل منطقة ومديرية وقسمة، ونظام التسلسل العسكري، ونظام التجنيد، وصدور قانون للجيش (المجاهد). وظهور المصالح المتخصصة في الجيش (كالخدمات الصحية والإدارية والتعليمية الخ ...). كل ذلك ينفي عن جيش التحرير صفة (العصابات) ويؤكد صفة جنوده كمحاربين، نظاميين، لهم هويتهم الوطنية والقومية، ولهم قيادتهم المسؤولة، ولهم شاراتهم المميزة، وهم يحملون السلاح علنا، ويتقيدون في حروبهم ومعاركهم بالقوانين والأعراف الدولية.

تطوير الصراع المسلح

4 - تطوير الصراع المسلح وقعت في يوم (20 - أوت - آب - 1955) معركة حاسمة كانت نقطة تحول في حياة الثورة. فعلى الرغم من وصول إمدادات إفرنسية كبيرة، وعلى الرغم أيضا من إعلان (حالة الطوارىء) فقد تابع جيش التحرير الوطني الجزائري تطوير أعماله الثورية. وخلق حالة من الفزع وعدم الطمأنينة في المزارع الفردية وفي مخازن الغلال، وفي قطع طرق المواصلات. ونجحت مقاطعة المنتجات الإفرنسية نجاحا منقطع النظير (مثل مقاطعة الأطباق أو الصحون). وجاءت معركة العشرين من أوت - آب - 1955 تتويجا لهذه المجهودات كلها، فبعد أشهر طويلة من الإعداد، قام جيش التحرير بمجموعة من الهجمات المنسقة والتي تم تنفيذها في وقت واحد، ضد أهداف محددة في منطقة قسنطينة. وكان القتال أشد ما يكون في (كولو) و (سكيكدة - أو فيليب فيل كما كان يسميها الإفرنسيون) و (غويلمة) و (قسنطينة). وفي هذا الوقت ذاته، قام المغاربة (المراكشيون) بالهجوم على قرية (وادي زم) في المغرب، وقامت اضطرابات أخرى في أماكن أخرى بمناسبة الذكرى الثانية لقيام السلطات الإفرنسية بخلع السلطان (مولاي محمد الخامس). وفي

الجزائر أوقع جيش التحرير بالمستوطنين الإفرنسيين خسائر فادحة. وقام الجيش الإفرنسي، تدعمه القوات الجوية، بمجموعة من الإجراءات الانتقامية الرهيبة. وقد كتبت (جبهة التحرير) عن هذه المعركة - ما يلي: (لقد تحطمت قبضة العدو، وتنفس الشعب الصعداء، وعادت الثقة إلى النفوس. وقد ربحنا معركة الولاية بصورة مؤكدة. وأقمنا الدليل على الصعيد القومي بأن في استطاعتنا، عندما نريد، أن نهز إرادة العدو وجهازه العسكري، ونعرضه للخطر). (وفي واشنطن، حيث عرضت القضية الجزائرية للمرة الأولى، تمكن العالم من أن يكون لنفسه صورة عن إمكانياتنا وتصميمنا) (*). كان لهجمات العشرين من (أوت - آب) نتائج كثيرة، فقد شن الإفرنسيون هجمات عنيفة على قوات جيش التحرير، وارتفعت الأصوات وهي تطلب النجدات من فرنسا. وأخذت الصحافة الإفرنسية في توجيه النقد العنيف ضد الأساليب التي يستخدمها الجيش في محاولاته للقضاء على الثورة. وشجع ذلك (الإمعات) أو (المترددين) من الجزائريين الذين كانوا من أنصار التعاون مع فرنسا في الجمعية الجزائرية، دراسة الاصلاحات التي اقترحها (سوستيل) لدمج الجزائر بفرنسا. وقد استنكر هؤلاء الجزائريون، المذعنون عادة لإرادة الإفرنسيين، أعمال العنف العمياء، وحملوا على مبدأ المسؤولية الجماعية، وأجبروا على القول: (بأن سياسة التكامل التي لم تطبق أبدا بإخلاص، قد غدت عتيقة لا تصلح. وأن الغالبية العظمى للشعب باتت متعلقة بالفكرة القومية). وفجأة أمرت

_ (*) سيرد في القسم الثاني من هذا الكتاب صورة حية عن هذه المعركة وسواها

السلطات الإفرنسية بتعليق جلسات الدورة الطارئة للجمعية الجزائرية. وكان لانتصار (20 أوت - آب - 1955) دوره في تشجيع جبهة التحرير على قبول أول اتصال مع الصحافة الإفرنسية الليبيرالية. فقد أجرى (عمارنة) القائد الثوري في منطقة القبائل، مقابلة صحفية مع صحيفة (فرانس أوبزرفاتور) اليسارية نشرت في الخامس عشر من سبتمبر - أيلول - 1955، أكد فيها: (مواقف جبهة التحرير المعروفة الواضحة تجاه الطبيعة الوطنية وغير الشيوعية وغير الأجنبية للثورة. وأكد عدم وجود أية قوة لمصالي الحاج وحركته الوطنية في الجزائر، وتمسك الجبهة تمسكا صادقا بقوانين الحرب). وقال: (إن الجبهة تتلقى طلبات تطوع كثيرة، وقد بدأت في قبول أولئك الذين سبق لهم أن مروا بفترات من التدريب العسكري. وقد نشأت قوة جيش التحرير عن طبيعة الأرض المؤاتية، ومن الحقيقة الواقعة بأن الجيش يعمل في أرضه، ويحظى بتأييد الشعب. ومع ذلك، فقد أدرك جيش التحرير أنه لا يستطيع الانتصار في الحرب بهذه الوسائل وحدها)، وقد أكد (عمارنة) أن جيش التحرير كان يضم في سنة 1954 ما لا يزيد عن ثلاثة آلاف مقاتل، فأصبح يضم الآن اثني عشر ألفا، وسيصبح بعد بضعة أشهر مائة ألف بكل سهولة. وحدد عمارنة الشروط التي لا محيص عنها لوقف إطلاق النار، وهي: إنهاء جميع الحركات العسكرية، ووضع حد لأعمال العنف، وإصلاق سراح المعتقلين السياسيين، وصدور بيان إفرنسي يعترف بحق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال، ثم مضى يقول: (لقد تحدثنا عن مبدإ الحق في الاسقلال. إننا واقعيون،

وأصبح جيش التحرير جيشا حديثا

فالاستقلال يمكن تحقيقه على مراحل وبصورة ديموقراطية، ومن الضروري والحالة هذه، أن ننظم بعد بضعة شهور من عودة الهدوء، انتخابات حرة لجمعية تأسيسية تنبثق عنها حكومة جزائرية تتفاوض مع الحكومة الإفرنسية حول الوضع السياسي المقبل للجزائر، والعلاقات الجديدة التي ستربط الجزائر بفرنسا). وأكد (عمارنة) أن جبهة التحرير الوطني لا تضم أحدا من المصابين بعقدة (كره الأجانب) وأضاف قائلا: (وعليك أن تفهم أننا لن نقبل أبدا الدمج أو التكامل - مع فرنسا- فنحن جزائريون. وهذه قضية كرامة بالنسبة لنا. والخطيئة الكبرى التي يقع فيها معظم الساسة عندكم، هي محاولة تفسير - المأساة الجزائرية - على أنها نتيجة الجوع والشقاء والافتقار إلى المدارس، بينما تقوم جذورها على التعطش إلى الشرف وإلى العدالة والحرية. ونحن نعرف أنه لا أمل لنا في المجلس الوطني الإفرنسي الحالي - البرلمان - لأنه لا يستمع إلينا، ولذا فنحن نعد أنفسنا لصراع طويل وشاق. وقد حققنا حتى الآن الكثير من أهدافنا العسكرية. فبعد مرحلة الثورة العامة المدهشة في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954. وبعد مرحلة نشر عدم الطمأنينة في المنطقة (يوم 20 أوت - آب - 1955) سنبدأ حالما تسمح لنا ظروفنا المادية بذلك، في تنفيذ المرحلة الثالثة، وهي تكوين منطقة محررة في منطقة كاملة من البلاد، نعلن فيها استقلالنا، ونقيم حكومة مؤقتة تطلب مساعدة من الخارج، وتعمل على تدويل القضية الجزائرية. أما متى سيتحقق هذا؟ فنحن أنفسنا لا نعرف ... ولكننا نأمل أيضا في أن يتطور الشعب الإفرنسي - سياسيا - أيضا). ***

ووردت في مقابلة صحافية تالية، مع زعيم آخر من زعماء جبهة التحرير في الواحد والعشرين من سبتمبر - أيلول - 1955، تفاصيل أخرى، وإيضاحات إضافية. فقد أوضح هذا الزعيم إيضاحا كاملا أن الشروط التي ذكرها (عمارنة) هي (لوقف إطلاق النار، لا لوضع السلاح، إذ أن جبهة التحرير لن تلقي سلاحها إلا إلى حكومة جزائرية) وقد علق الزعيم الجزائري على التدريب السياسي والعسكري لجنود جيش التحرير فقال: (لا يسمح لأي فرد بالتطوع في جيش التحرير الوطني إلا بعد أن يكون قد تطوع في الجبهة نفسها، وهو يتطوع في الجبهة على الصعيد السياسي. ويقوم التدريب السياسي على أسس فريدة من العقائدية القومية، فنحن قبل كل شيء جزائريون. وليس في وسع الاسلام أن يزدهر بالتأكيد في ظل الاستعمار. وهذا ما يشكل حافزا للعمل. ولكننا لا نسأل أي عضو من أعضائنا عن دينه، وعما إذا كان مسلما ... وقد حارب الطلاب والفلاحون والعمال جنبا إلى جنب في جيش التحرير). وتحدث الزعيم الجزائري عن الشيوعية، فقال: (لن يشترك الشيوعيون كحزب في الحرب التحررية. أما إذا أراد شيوعي أن يشترك في جبهة التحرير كأي مناضل سياسي، فعليه أن يستقيل من حزبه أولا، وأن يتبنى برنامج الجبهة) وسيتعرض أنصار (مصالي الحاج) وحدهم للهجوم المباشر، أما الوطنيون المعتدلون، فلن يساء إليهم ما داموا يسهمون في النضال ضد الاستعمار، على الرغم من استخدامهم وسائل غير صالحة. وأشار الزعيم الجزائري إلى أبطال الجزائر في الماضي (كالشيخ الحداد والمقراني في ثورة عام 1871 وقال عنهم: إنهم مصدر إيحاء للثورة). ثم رسم خطا يفصل بين ثورتي الصين والجزائر فقال:

(إن المشكلة التي تواجهنا ليست مشابهة للمشكلة التي واجهت الصين، فقد حمل الصينيون لواء المقاومة الوطنية والثورة الاشتراكية معا أما نحن فنقف في نصف الطريق بالنسبة إليهم. فالمشكلة الثانية لا تعرض لنا في الوقت الحاضر. لقد حملنا السلاح لتحقيق غرض محدد بدقة وهو: التحرر الوطني). ... لا ريب أن هذا الاعتدال الذي يظهر في موقف جبهة التحرير من خلال الحديثين الصحفيين، هو أمر مدهش للغاية. لا سيما وأن موقفها العسكري في سبتمبر - أيلول - عام 1955. كان لا يزال في منتهى الضعف. فأين تكمن القدرة على إجراء تسوية سياسية؟ إنها في مكان ما بين الدمج والتكامل، وهما أمران مرفوضان رفضا كاملا من قبل الثوار الجزائريين. ومقابل ذلك فقد اشترطت الجبهة لمثل هذه التسوية (إعلان الحكومة الإفرنسية اعترافها بمبدإ - حق تقرير المصير واستقلال الشعب الجزائري) وهو الأمر الذي كانت ترفضه السياسة الإفرنسية. ولقد كان الوضع - إذا ما تم استثناء هذا الشرط (بالإعلان) الذي لم تحدد مدته - قابلا للتفاوض بين الحكومة الإفرنسية وبين حكومة جزائرية تنبثق عن انتخابات حرة تجري في ظل الحكم الإفرنسي. ولا شك في أن هذا الاعتدال مذهل أيضا، عند تذكر مضمونه الدولي. فقد كانت تونس والمغرب على وشك الاستقلال الذي تحقق فعلا بعد بضعة أشهر. ويظهر أن (عمارنة) قد شعر بأن جبهة التحرير لم تكن آنذاك على ثقة تامة من قدرتها على رفض السيادة إذا ما قررت فرنسا منحها لها. لكن هذه هي المرة الأخيرة التي قبلت فيها جبهة التحرير إجراء انتخابات تحت الإشراف الإفرنسي، وكانت المرة الأخيرة أيضا التي أظهرت فيها الجبهة

تفاؤلا بصدد التفاهم مع فرنسا. وقد بلغ هذا الأمل في الاتفاق مع فرنسا ذروته عند زعماء جبهة التحرير من ذوي الإدراك السياسي، إبان الحملة الانتخابية الإفرنسية في جانفي (كانون الثاني) 1956، عندما تكاتف الاشتراكيون الإفرنسيون والراديكاليون في الدعوة إلى برنامج (لإقامة السلام في الجزائر). ولكن ما إن وصل زعيم الاشتراكيين (غي موليه) إلى السلطة، وأخذ في ممارسة دوره على المسرح السياسي، حتى انهارت كل احتمالات التسويات السلمية

صراع مسلح في وهران وصراع سياسي في الأمم المتحدة

5 - صراع مسلح في وهران وصراع سياسي في الأمم المتحدة اقترن الصراع المسلح للثورة الجزائرية بالصراع السياسي، وبطريقة مثيرة ومدهشة، وقد ظهر ذلك واضحا تماما في أعقاب انتصار (أوت - اغسطس -1955) حيث وظفت قيادة جبهة التحرير هذا النصر لدعم صراعها السياسي في هيئة الأمم المتحدة. ونجحت في الثلاثين من (سبتمبر - أيلول) بإحراز أول انتصار لها على (مستوى تدويل قضيتها)، إذ رفضت الجمعية العامة للأمم المتحدة التوصية السلبية التي قدمتها لجنتها التوجيهية، وقررت إدراج موضوع الجزائر في جدول أعمالها - ولو كان ذلك بأغلبية ضئيلة -. ثم قامت الجبهة في شهر (أكتوبر - تشرين الأول) وبعد أشهر من الإعداد الدقيق، بفتح جبهة جديدة لها في (وهران). وقد تولى القيادة في هذه الولاية التي تعتبر أكبر الولايات الشمالية الخمس، القائد (محمد العربي بن مهيدي) في بداية الأمر، ثم خلفه القائد (عبد الحفيظ بوصوف). وقد قام هذان القائدان بتنظيم الكثير من جنودهما، وتزويدهما بالعتاد في (ناضور) في المغرب (الذي كانت تحتله اسبانيا، حيث تكون فيه أيضا جيش التحرير المغربي - المراكشي). وانتقلت القيادة بعد ذلك الى (أوغده - أو وجده) في ولاية وهران، حيث ظلت جبهة التحرير

تفيد من طبيعة المنطقة الجبلية، ومن حصانة الحدود المغربية (المراكشية) وقد بدأ الهجوم في أواخر سبتمبر - أيلول - ومطلع شهر تشرين الأول - اكتوبر - في منطقة (تلمسان) أولا. وبامتداد القتال الى جبهة وهران، بقيت منطقة الجزائر الوسطى والجنوبية فقط، خالية من النشاط الثوري الواسع النطاق. أدى اتساع النشاط القتالي وتعاظمه (في شهر أكتوبر - تشرين الثاني) إلى إضفاء الكثير من المرارة على مناقشات الأمم المتحدة للقضية الجزائرية. فقد رفض الوفد الإفرنسي الاشتراك في المناقشات، وغادر قاعة الجمعية العامة. وتمسكت الحكومة الإفرنسية بزعمها الذي طرحته من قبل وهو (أن المشكلة الجزائرية قضية داخلية صرفة). وبعد أن رفضت الجمعية العامة مشروع القرار الذي تقدمت به دول أمريكا الجنوبية، والذي كان من المقدر له لو قبل أن يحذف القضية من جدول الأعمال كلية، أمكن الوصول إلى قرار وسط، قبل بالإجماع، وينص على أن الجمعية العامة: (تقرر عدم الاستمرار في مناقشة هذا البند في جدول أعمالها، ولهذا فهي تتوقف عن مناقشته) وقد شعر الجزائريون الذين كانوا قد أوفدوا أحد أعضاء بعثتهم الخارجية الى نيويورك، للاشتراك في المناقشات وعرض وجهة نظرهم بالكثير من خيبة الأمل لهذا التطور، ولكنهم أعربوا عن أملهم في أن تؤدي هذه المهلة المعطاة الى فرنسا إلى تسوية سلمية، ولا سيما على ضوء نتائج الانتخابات الإفرنسية القادمة. شهدت نهاية العام الأول من الثورة الجزائرية، تفوق القضايا العسكرية على السياسية، كما شهدت تزايد قوة وأهمية زعماء الداخل على أعضاء البعثة الخارجية. إذ لم تكن هذه البعثة قد

تمكنت بعد من توسيع برنامج عملها السياسي، كما لم تتمكن من تذليل العقبات الكثيرة التي واجهتها للحصول على الأسلحة، وتزويد الداخل بها. جرت الانتخابات للجمعية الوطنية الإفرنسبة - البرلمان - في جانفي (كانون الثاني) 1956 وجاءت نتائج هذه الانتخابات لتشكل نقطة أخرى في تحول العلاقات الإفرنسية - الجزائرية. فقد فاز في الانتخابات - على نحو ما سبق ذكره - الاشتراكيون والراديكاليون الذين أعلنوا في برنامجهم الانتخابي المشترك: (أنهم يؤيدون تسوية سلمية للجزائر). وقد عين رئيس الوزارة - غي موليه - (الجنرال كاترو) ليكون مقيما عاما في الجزائر. وقرر - غي موليه - أن يذهب شخصيا الى الجزائر ليعالج هناك المشكلة بنفسه - وعلى الطبيعة -. وقد ظهر عجز غى موليه وقصوره في إدراك أبعاد القضية، الأمر الذي دفع قيادة جبهة التحرير لتعدل موقفها أيضا، وفي مقابلة صحافية جرت مع جبهة التحرير (يوم 3 فيفري - شباط - 1956) مع مراسل صحيفة (لوموند) الإفرنسية، برز هذا التحول من قضية التسوية مع فرنسا. حيث أدخلت تعديلات عكست نوعا من التصلب في آراء الجبهة وموقفها. فعندما طرح على الناطق باسم الجبهة سؤال: (عما إذا كان موقفها السابق لا يزال على حاله؟) حدد الشروط التي تضعها الجبهة لوقف إطلاق النار على النحو التالي: أ - أن تصدر الحكومة الإفرنسية إعلانا رسميا باعترافها باستقلال الجزائر. ب - إطلاق سراح المسجونين والمعتقلين والمحكوم عليهم بجرائم سياسية منذ العام 1930، وإعادة المبعدين السياسيين، ووقف العمليات الحربية من جانب الجيش الإفرنسي، وإيقاف

الإجراءات المتخذة ضد الوطنيين الجزائريين، وإصدار عفو عام عن جميع الأحكام الغيابية التي صدرت تحت اسم - الجرائم والجنح السياسية. ج - تأليف حكومة جزائرية للتفاوض. وأضاف: (إن قضية الانتخابات هي مسألة جزائرية صرفة. وإن من شأن الحكومة الجزائرية وحدها أن تقرر موعد الانتخابات ووسائلها). ثم انتهى الى القول: (وسيكون من واجب الحكومة الجزائرية التي يجب أن تتشكل قبل وقف إطلاق النار، تقرير نوع الادارة، وجهاز الشرطة على الأرض الجزائرية). إن شروط جبهة التحرير هذه المرة لوقف إطلاق النار، تحتل جانبا كبيرا من الأهمية. ذلك لأنها تؤكد على (وجوب اعتراف فرنسا باستقلال الجزائر) بدلا من (مبدأ الاستقلال) أو (حق تقرير المصير) أو (الحق في الاستقلال). وقد بدت جبهة التحرير في هذه المرة، بعد أن دعمت موقفها بانتصاراتها العسكرية، وهي أكثر تصميما على أن تنتزع من فرنسا - بالقوة - حق السيادة المباشرة على بلادها. قام (غي موليه) بزيارته للجزائر في (6 فيفري - شباط - 1956). فعزل (كاترو) بضغط من المستوطنين، وعين مكانه الاشتراكي (روبير لاكوست) وأعلن في (16 فيفري - شباط) عن (التحديد بلا مواربة للشكل التنظيمي الذي سيقوم عليه كيان الجزائر المقبل، على أساس علاقات لا تنفصم مع فرنسا، مع الاعتراف بالشخصية الجزائرية). وكان - غي موليه - قد أعلن قبل أيام: (بأن الحكومة ستناضل في سبيل البقاء في الجزائر، وستبقى فيها، فلا مستقبل للجزائر إلا بالبقاء مع فرنسا). وكان رد فعل جبهة التحرير -

واضحا في تصريحها التالي: (إن إعلان - غي موليه - لا يخرج عن نطاق السياسة الاستعمارية الإفرنسية التقليدية) وقد أكد الناطق باسم جبهة التحرير، بأن (جبهة التحرير تمثل الآن جميع الوطنيين الصادقين والمخلصين - وأن الحكومة الجزائرية المقبلة ستتألف من جبهة التحرير ليس إلا).

الفدائيون في المدن وحل مشكلة التسلح

6 - الفدائيون في المدن وحل مشكلة التسلح من واجب الثورات أن تسير قدما، وإلى الأمام دائما، وإلا فإنها تبدو في طريق التخاذل والضعف، فعلى الصعيد العسكري، كان من الضروري أن يتسع نطاق الصراع في العام 1956 على غرار الهجمات التي وقعت في العشرين من أوت - آب - 1955. والتي تركت بعض الآثار النفسية الرائعة. وكان النشاط العسكري قد استمر في جميع الولايات طوال الأشهر التي سبقت مؤتمر (وادي الصومام) وتلته، ولكنه لم يترك أثرا ملحوظا في فرنسا نفسها. وفكرت الجبهة بأنها لو تمكنت من القيام بنوع من العمل في قلب المدينة (العاصمة) فإن تبدلا ملحوظا قد يطرأ على الرأي العام الإفرنسي والسلطات العسكرية بالنسبة إلى تقديراتها لقوة جبهة التحرير. وترى الجبهة أن الثورة الجزائرية، حققت أكبر انتصار لها، كما منيت بأكبر هزيمة في - معركة مدينة الجزائر، ولعل من أروع ما قامت به الجبهة من أعمال تنظيمية، هو أنها جعلت من العاصمة منطقة مستقلة، تضم بالإضافة إلى الضباط العاديين المختصين بالنشاط السياسي والعسكري والاعلامي وتأمين الارتباط، جهازا خاصا لإلقاء القنابل، ولجانا للمثقفين والتجار والعمال الفنيين. وكانت هذه اللجان تتولى

بالإضافة إلى أعمالها الخاصة جمع الضرائب للجبهة التي بلغت أحيانا (300) ألف دولار في الشهر الواحد. ولم يكن تنظيم الجبهة في نطاقه الخارجي في العاصمة يضم أكثر من (4500) شخص في مدينة يسكنها نحو من أربعمائة ألف من الجزائريين وثلاثمائة ألف من الأوروبيين. ولم يكن الجهاز العسكري الفعال وجماعات قاذفي القنابل، تضم أكثر من مائتي شخص، بينما كان مجموع الجهاز العامل في مختلف الحقول والميادين لا يزيد على الألف والخمسمائة. ولعل من أبرز مظاهر الثورة، أن هذا العدد الضئيل تمكن من أن يستمر في إلقاء الرعب في العاصمة أكثر من سنة كاملة. وقد استخدمت جبهة التحرير في الهجمات التي شنتها في مدينة الجزائر كل طريق ممكن، وكان الاتحاد العمالي، التابع للجبهة، يتولى تأمين التأييد السياسي والدعم المالي. وقد بدأت المعركة في (20 سبتمبر - أيلول - 1956) بانفجار قنبلة في مشرب، وأخرى في مطعم في شارع (ميشيليه) مما أدى الى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ستة وأربعين بجراح. وفي هذه الأثناء سيطرت الجبهة على (حي القصبة)؛ وأقامت مصنعا صغيرا للقنابل اليدوية والقنابل الحارقة. استمرت عمليات إلقاء القنابل في العاصمة عدة أشهر، وخلقت جوا من الرعب وعدم الاطمئنان فيها. وفزعت السلطابت الإفرنسية من الحالة المرعبة، فأوفدت (الجنرال جاك ماسو) على رأس قواته من فرقة المظليين العاشرة إلى المدينة في جانفي - كانون الثاني - 1957. وأسفرت المعركة أخيرا عن سيطرة القوات الإفرنسية. فقد عثرت على مخابيء القنابل في العاصمة، واعتقلت المجاهدين، وبينهم عدد من القادة الاكفاء، (من أمثال محمد العربي بن مهيدي -

عضو لجنة التنسيق والتنفيذ) الذي حوكم وأعدم. وعلى الرغم من عدم وجود أي خلاف منذ البداية على موضوع ممارسة أعمال الإرهاب في المدن، واستخدام هذا الإرهاب سلاحا مضادا للارهاب الاستعماري بهدف دعم الثورة. إلا أن مفعول هذا السلاح ينتهي عادة عندما تبدأ الثورة الحقيقية ولقد اعتبر بعض زعماء الجبهة بأن (عملية الجزائر) هي خطيئة عسكرية. فقد تمكن الإفرنسيون في الأشهر الأخيرة من المعركة، من عزل (حي القصبة) تماما عن بقية المدينة بالأسلاك الشائكة. وفرض دوريات نهارية وليلية عليه. وكان الثمن الذي تكبدته الجبهة في الأرواح البشرية باهظا للغاية، فقد وجدت أنه ليس بإمكانها تأمين الدفاع عن السكان المدنيين أمام إجراءات الإفرنسيين الانتقامية العنيفة، ولكن مما لا شك فيه أيضا أن معركة مدينة الجزائر، قد لفتت أنظار العالم الى الثورة الجزائرية بصورة بارزة الى أبعد الحدود. وأدت عمليات إلقاء القنابل في كل مكان الى وقوع أعداد كبيرة من المدنيين بين الضحايا، مما زاد في أرقام الاصابات، وبرهن على قوة جبهة التحرير. كما أن أعمال التعذيب التي لجأ اليها المظليون الإفرنسيون للحصول على المعلومات، عن نشاط الجبهة في المدينة، أثارت أزمة أخلاقية في فرنسا ذاتها. ولا ريب في أن نقمة الجيش الإفرنسي التي تبدت في شهر (ماي - أيار - 1958) لم تنجم فقط عن اضطرار لخوض معارك مضنية مع المجاهدين الجزائريين وفقا للأوضاع التي يقررونها هم، وعن قيامه بأعمال حقيرة، وممارسته لواجبات الشرطة العادية فحسب، بل نجمت أيضا عن الشعور الضمني بالذنب، وعذاب الضمير من الأساليب الوحشية التي لجأ اليها في محاولاته للقضاء على الثورة. ***

التدريب على السلاح في كل مكان

أدى تطوير الصراع وتصعيده مع توسيع دوائره الى ظهور أزمة حادة تتعلق بالتسلح وذلك مع نهاية السنة الثانية للثورة (1956). وزاد الأمر سوءا بسبب الفوضى النسبية التي سيطرت على شريط الحدود الجزائري - التونسي. فقد أسفر اعتقال زعماء البعثة الخارجية (ابن بيللا ورفاقه) عن ضياع التنظيم السابق في عملية تأمين الأسلحة والمواد التموينية من الخارج. وأصدرت لجنة التنسيق والتنفيذ أمرها الى (محمد الأمين دباغين) بالتوجه من القاهرة الى تونس بمهمة علاج الموقف، ووضع حد لهذا الاضطراب. وفي الوقت ذاته، انتقل (عمارنة) من الداخل الى (تونس) على نحو ما فعل (ابن بيللا) من قبل، من أجل تنظيم عملية نقل الأسلحة الى داخل البلاد. ولم يكن قد مضى على استقلال الحكومة التونسية التي يرأسها (الحبيب بورقيبة) أكثر - من ستة أشهر، وكانت لا تزال تجاهد لحل بعض المشاكل الداخلية، عندما رأت هذا السيل الكبير من اللاجئين والمحاربين وهو يتدفق عبر الحدود مطالبا دعمه ومساعدته. ولم يكن باستطاعة تونس رغم كل أوضاعها الحرجة التقصير في واجها تجاه أخوتها. وكان من مصلحتها ومن مصلحة جهة التحرير أيضا الوصول الى نوع من الاتفاق لتنسيق التعاون. وقد تم هذا الاتفاق فعلا في شهر (فيفري - شباط - 1975) بين الرئيس الحبيب بورقيبة وممثل جبهة التحرير (*) أدى هذا الاتفاق مع بعض

_ (*) ظهر بعض التباس في نصوص هذا الاتفاق وقد ذكر (برومبر غرسيرج) في كتابه (الثوار الجزائريون - 1958) هذا الاتفاق كالتالي: (1 - يكون الحرس الوطني التونيي وحده مسؤولا عن نقل الأسلحة والمعدات على الأرض التونسية الى المناطق المعينة على الحدود. 2 - تتولى لجنة فرعية من جبهة التحرير الوطني في تونس إعداد الترتيبات الخاصة لشحن الأسلحة وتسليمها. 3 - تعطى إجازات - رخص - خاصة لهؤلاء الذين يتولون إيصال المؤن والأسلحة الى قوات جيش التحرير. 4 - يسمح للمحاربين الجزائريين =

الاجراءات العسكرية الى عودة فرض السيطرة المباشرة للجبهة، عن طريق لجنة التنسيق والتنفيذ على مناطق الحدود المهمة للغاية وعينت الجبهة في مطلع العام (1957) المجاهد (محمود شريف) ليكون قائدا لجبهة الأوراس، وهي من الولايات التي كانت الفوضى لا تزال تعمها. وأخذ (عمارنة) يعمل جادا في سبيل الحصول على السلاح من الخارج. وكان (ابن بللا) قد بعث برسالة إلى لجنة (التنسيق والتنفيذ) ضمنها قائمة بشحنات الأسلحة التي تم التعاقد عليها حتى وقت اعتقاله. وكان هناك نحو من ثمانية آلاف قطعة سلاح، قد نقلت، أو أنها في طريق النقل، إلى المجاهدين، ولا تزال إما في (ليبيا) أو في (تونس) أو في (وهران). والتقط (عمارنة) خيوط شبكة الإمداد التي كان (ابن بيللا) قد نظمها، وتابع السير فيها، فانتقل من تونس إلى بعض بلاد الشرق الأوسط الأخرى وأوروبا. ويبدو أنه تعامل في هذه الفترة بموازنة تبلغ عدة مليارات من الفرنكات، كما أنه تلقى في فترة من الفترات، أثناء أزمة السويس وبعدها، العون من بعض الجماعات الاسلامية في المغربي العربي الاسلامي. ... تجدر الاشارة إلى أن نشاط الفدائيين داخل المدن - وخارجها - لم يتوقف، بالرغم من الظروف العسيرة التي مرت بها قضية (الامداد بالسلاح). فقد آلى المجاهدون الفدائيون على أنفسهم الاستمرار في العمل - في الليل والنهار - لارهاق القوات الاستعمارية،

_ = بالتنقل بحرية في المناطق العسكرية على الحدود فقط.) أما الرواية التونسية لنص الاتفاقية فقد جاء كالتالي: (1 - تحترم جبهة التحرير الوطني الجزائري سيادة تونس، ولا تقوم بأية معركة أو اشتباكات على الأراضي التونسية. 2 - تقوم جبهة التحرير بإبلاغ الحرس الوطني التونسي الذي يعد القوافل اللازمة لنقل جميع الأسلحة، بقصد تجنب الاشتباك مع القوات الإفرنسية المرابطة في تونس).

ووضعها باستمرار في حالة من الاستنفار المرهق للأعصاب، في انتظار ضربة لا يمكن توقع مصدرها أو وقتها. وفي هذا المناخ، نشطت زمر التدمير التابعة لجيش التحرير، فأحرقت مستودعات النفط التابعة للجيش الافرنسي قرب مدينة (تلمسان) والتي كانت تضم (150) ألف صفيحة بنزين. كما هاجمت قوات جيش التحرير مصنعا للمتفجرات قرب (لافونتين) غربي منطقة القبائل، واشتبكت مع حراس المصنع في معركة دموية رهيبة. وما كاد يحل شهر (ماي - أيار - 1956) حاملا معه ذكرى مذبحة سنة 1945، والتي ذبح الافرسيون فيها (45) ألف مسلم جزائري، حتى أظهر الثوار تصميمهم للانتقام ثأرا لتلك الضحايا البريئة. فوضعوا خطة لحصار (تلمسان) و (الغزوات). وأخذت القوات تتحرك بمجموعات صغيرة لتلتقي عند حدود مدينتي (تلمسان -و -الغزوات) بقوة تزيد على خمسة آلاف مقاتل. وقد حاول الافرنسيون فك الحصار، فتكبدوا خسائر فادحة. ثم تفرقت قوة المجاهدين بعد أن نفذت مهمتها بنجاح. وتابعت عملها في نصب الكمائن، والاغارات، التي غنم فيها الثوار المجاهدون كميات كبرى من الأسلحة والذخائر التي عوضت لهم بعض ما كانوا يحتاجونه في تلك الفترة الحرجة وهكذا، وبينما كانت هذه العمليات تجري في منطقة وهران، كانت مناطق الجزائر وشمالي قسنطينة والأوراس مسرحا لاشتباكات عنيفة وحوادث تدميرية. فكانت قوات الثورة تجد في عملياتها بعض ما يساعدها على تأمين متطلباتها، وتعمل في الوقت ذاته على حرمان قوات العدو من موارده الحياتية (بإحراق الحقول والمزارع التي يمتلكها الأجانب) ومن موارده القتالية، فتتزايد قوة على حساب ضعفه.

هجوم الخريف وجبهة الصحراء (1957)

7 - هجوم الخريف وجبهة الصحراء (1957) كان من المتوقع أن تبدأ السنة الثالثة للثورة (1957) بتحولات سياسية وعسكرية. وفي الواقع، فقد أخذت الصحافة الأجنبية -والافرنسية منها بصورة خاصة - بالاكثار من الحديث عن حملة سيشنها جيش التحرير خلال فصل الربيع واتخذت الصحافة من عمليات (تلمسان) و (الغزوات) برهانا للتأكيد على ما كانت تتوقعه. ولم يكن جيش التحرير يعتزم في الحقيقة شن حملة شاملة على المواقع الإفرنسية في وقت محدد ومعين، وإنما كان يخطط للقيام بهجمات كثيفة ومركزة على بعض المواقع والأهداف التي تم اختيارها بدقة، لا سيما وأن فصل الربيع لم يكن يتيح للمجاهدين فرص العمل التي يقدمها فصل الشتاء باعتباره الفصل المناسب لحرب العصابات. وكان الأمر الواضح - لقادة الثورة - أن تركيز أجهزة الاعلام المعادية على موضوع (حملة الربيع المزعومة) هو وسيلة لاغراء جيش التحرير على شن هجوم عام في فصل تكون فيه جميع أسلحة الجيش الإفرنسي على استعداد للعمل، الأمر الذي يساعد السلطة الاستعمارية على ضرب الكتلة الرئيسية لقوات جيش التحرير وتدميرها. ولهذا لم يؤخذ جيش التحرير بأساليب الدعاية الإفرنسية

المنظمة، وظل يعمل وفقا لمخططاته وفي حدود إمكاناته لتوجيه الضربات في الزمان والمكان اللذين يختارهما. على كل حال، فقد وقعت في فصل الربيع مجموعة من العمليات الهامة التي يمكن وصفها (بحملة ربيعية) إلا أنها لم تتخذ طابع الهجوم العام، وإن اتسمت ببعض الهجمات الجريئة، على مناطق لم تكن القيادة الإفرنسية تتوقع إمكانية مهاجمتها من قبل قوات جيش التحرير. ومن تلك الهجمات - على سبيل المثال - ذلك الهجوم الصاعق الذي شنته القوات الجزائرية يوم (10 ماي - أيار) على مدينة قسنطينة، واحتلت بعده ضواحي المدينة والقسم الشرقي منها، وحاصرت الحي الأوروبي مدة ست ساعات، وجرت بين المجاهدين الجزائريين والإفرنسيين معارك في الشوارع، أدت الى قتل مائة إفرنسي، واسشتهد من الجزائريين ثلاثون مجاهدا. ثم انسحبت قوات جيش التحرير من المواقع التي كانته تحتلها في المدينة، مدمرة وراءها المراكز الإفرنسية، وحاملة معها ما أمكن الاستيلاء عليه من كميات الأسلحة الكبيرة والذخائر. يمكن الاشارة بعد ذلك إلى تلك المحاولة التي قامت بها قوات الافرسنيين لتطويق فرقتين من فرق جيش التحرير على بعد (14 كيلومترا من العاصمة (الجزائر) في يوم (11 ماي - أيار) غير أن المجاهدين تمكنوا من خرق الحصار، وقاموا بهجوم مضاد على قوات الإفرنسيين التي أخذت في الفرار تحت ثقل ضربات المجاهدين المحكمة والقوية. ولم يلبث المجاهدون أن انطلقوا في مطاردة فلول القوات الممزقة، وأوغلوا في مطاردتهم حتى ضواحي العاصمة.

لم تكن هذه العمليات إلا صورة عن الأعمال البطولية الرائعة التي ساعدت جيش التحرير على فرض سيطرته التامة في كل المناطق العسكرية الست. ولم يبق أمام جيش التحرير إلا أن يفتح المدن التي تعتصم فيها قوات العدو وراء تحصيناتها المنيعة. ثم يزحف على الصحراء الكبرى لاكمال عملية تحرير البلاد، وهذا ما فعله فيما يطلق عليه اسم (حملة الخريف). كان من نتيجة تطور عمليات المجاهدين حدوث هياج في الأوساط الاستعمارية، فأسرعت القيادة الافرنسية في طلب النجدات من حلفائها. وأخذت قوات الدعم ووسائط القتال في التدفق من فرنسا وأمريكا وحلف شمال الأطلسي إلى الجزائر. وكان من بين هذه النجدات (379) مدرعة خفيفة مسلحة بمدفع من عيار (27 مم) - من عربات الاستطلاع المدرعة - التي برهنت على فاعليتها في الحرب ضد الثوار بسبب مرونتها وخفة حركتها وتسطيحها الجيد وقوة تصفيحها. جابهت قيادة جيش التحرير هذا الموقف بالمزيد من التصميم والعناد، فأعلنت التعبئة العامة (في 19 افريل - نيسان - 1957) ووجهت الدعوة الى الشبان من سن 18 الى من 20 عاما. من أجل حمل السلاح. وحملت الدعوة طابع الفورية والإجبارية، وتعرض من يخالفها للعقاب القانوني. وفي الواقع، فإن قيادة جبهة التحرير لم تجد حاجة لفرض العقوبات، فقد وجد هذا النداء صداه العميق في نفوس المواطنين الذين أقبلوا على التطوع بحماسة، والإلحاق بمراكز التدريب. وصلت كتلة الإمدادات الأمريكية للجيش الافرنسي في الجزائر خلال شهر (جوان - حزيران - 1957) وجابه جيش التحرير ذلك بتصعيد أعماله القتالية، وأمكن له إحراز النصر تلو النصر، وما فتئت

في الثلج، في الليل، وفي كل وقت حركة دائمة وقتال مستمر

الرقع المحررة تتزايد اتساعا، حتى أن اللجنة البرلمانية التي أوفدتها فرنسا للتحقيق في الجزائر، لم يسعها إلا الاقرار بالواقع، وجاء في تقرير لها بتاريخ (22 جوليه - تموز) ما يلي. (يينما يظهر الثوار الوطنيون وهم أكثر تنظيما وأقوى مما كانوا عليه في العام الماضي، فإن الموقف العسكري للقوات الافرنسية هو أسوأ مما كان عليه ... وتبلغ القوة الحالية للثوار 25 ألف رجل ولديهم من الأسلحة ما يكفي لتجهيز (15) ألفا منهم فقط. وقد تحسنت أسلحة الثوار كثيرا بالمقارنة مع ما كانت عليه في السنة الماضية، ويتلقى الثوار ما بين (700) و (800) قطعة سلاح حديثة في الشهر، منها حوالي 500 من تونس والباقي من المغرب - مراكش - ولا تزال تونس تساعد الثوار علنا). تطلبت هذه التطورات من قيادة جيش التحرير العمل باستمرار من أجل إعادة تنظيم قواتها، بهدف تجاوز الصعوبات التي كانت تجابهها قوات جيش التحرير، ومن أجل تصعيد الصراع للتأكيد على قدرة المجاهدين في مجابهة القوات الافرنسية وما تتلقاه من دعم ومساعدة. وقد انتقلت لجنة التنسيق والتنفيذ في أواسط العام الى تونس بنتيجة معركة العاصمة (الجزائر). وأدى ذلك إلى تعاظم الحاجة للتنسيق وتنظيم الاتصالات. وتضمنت الإجراءات التنظيمية القيام ببعض التبدلات في حجم وحدات الجيش وطريقة تكوينها، وإجراء المزيد من التدريب على أعمال المواصلات. مع التوسع في استخدام مناطق الحدود التونسية والمغربية (المراكشية). لم تكن هذه الاجراءات بعيدة تماما عن مراقبة الاختصاصيين من الضباط الافرنسيين الذين أخذوا في الاعلان (منذ يوم 2 أوت -

آب): (بأن الجزائريين يحشدون قواتهم للقيام بهجوم كبير في الخريف). ولم يكن هذا (الاعلان الافرنسي) بريئا على كل حال، فقد أراد الافرنسيون استثمار الموقف لاقناع الرأي العام العالمي بأن الجزائريين لا يحاربون إلا حين يقترب موعد انعقاد الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، ويتجاهلون أن الصراع المسلح في الجزائر هو حرب حقيقية غير مرتبطة بمكان معين أو وقت محدد. وعلى كل حال، فقد أخذ المجاهدون الجزائريون بتوسيع نطاق عملياتهم اعتبارا من شهر (أوت - آب - 1957) بهدف تحرير الجنوب الجزائري والصحراء الكبرى، وقد نفذ المجاهدون في هذا المضمار خطتين متصلتين ومتكاملتين: الخطة الأولى: القيام بهجوم عام على القوات الإفرنسية في الشمال بهدف محاصرة هذه القوات في قواعدها ومناطق تمركزها، وإرغامها بالتالي على استدعاء قواتها المنتشرة في الجنوب والصحراء. وفي هذا الوقت تشرع قوات جزائرية أخرى في التجمع على حدود الصحراء وفي الجنوب لاجتياح هذه المناطق. الخطة الثانية: إحراق حقول النفط الاستعمارية في الصحراء، وتدمير مراكز التنقيب عن البترول، والقيام بعمليات إزعاج ضد الافرنسيين يكون من نتيجتها - بصورة حتمية - بسط السيطرة العربية على هذه المناطق. وقد بديء فعلا بتنفيذ الخطة الأولى؛ وجاء تسلسل الأحداث على النحو التالي: في 15 أوت - آب - قام (800) مجاهد من رجال جيش التحرير - متنكرين بالزي الافرنسي - بالهجوم على مقر القيادة العامة الإفرنسية الواقع على بعد ثلاثين كيلومترا من مدينة الجزائر. وقد

أحدثوا في القيادة حرائق كبيرة، وأنزلوا فيها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات. في 16 أوت - آب - صرح الأستاذ (أحمد توفيق المدني) رئيس وفد جبهة التحرير في القاهرة (بأن جيش التحرير يقوم الآن بهجوم عام على المراكز الإفرنسية) وقال: (إن المستعمرين دهشوا لما رأوا الجيش الجزائري يستخدم الأسلحة الثقيلة). في 22 أوت - آب - صرح السفاح (لاكوست) بأن (معركة الحدود ستكون المعركة الفاصلة في الجزائر). وأشار السفاح في هذا التصريح إلى المعارك الدامية التي اشتدت في الآونة الأخيرة على الحدود التونسية والمراكشية (المغربية) وعلى امتداد الحدود الصحراوية بين ليبيا والجزائر. في 23 أوت - آب - عقد القادة الافرنسيون مؤتمرا عسكريا هاما في مدينة (وهران) للبحث في الهجوم الخريفي المتوقع شنه من قبل قوات جيش التحرير. وقد حضر الاجتماع السفاح (روبير لاكوست) ووزير الدفاع الافرنسي (آندريه موريس) والجنرال (ايلي) القائد العام للقوات الإفرنسية، والجنرال (سالان) قائد القوات الاستعمارية في الجزائر. في 24 أوت - آب - هجوم عنيف للقوات الجزائرية، على المواقع العسكرية والبوليسية في مدينتي (معسكر) و (تيارت - أو تيهرت). في 2 سبتمبر - أيلول - هجوم خاطف تقوم به قوات جيش التحرير على ثكنات اللفيف الأجنبي في مدينة (سيدي بلعباس). وقد اعترف الضباط الافرنسيون بدقة مخطط الهجوم وكفاءة

المجاهدين، مما أدى إلى إصابة عدد كبير من الجنود الافرنسيين بجراح خطيرة. في 21 سبتمبر - أيلول - أعطت الخطة الأولى ثمارها، وأظهرت فائدتها، ودخلت الخطة الثانية في حيز التنفيذ، وسرعان ما بدأت تبشر بنتيجة ناجحة. فقد تمكنت القوات الجزائرية العاملة في الصحراء من إحراق حقول النفط، خاصة في الجهة الغربية من الصحراء. وحررت هذه القوات بلاد (الهقار) (*) وقد صرح مصدر مسؤول في جبهة التحرير الوطني هذا اليوم: (بأن الجزائريين استولوا على مناطق عديدة في (الهقار) ولم يبق للافرنسيين أي نفوذ هناك. وقد دمر الجزائريون كثيرا من آبار البترول الموجودة في الصحراء الغربية، ولم يعد للافرنسيين وجود إلا في بعض المراكز العسكرية). في 26 سبتمبر - أيلول - هاجم المجاهدون مدينة (قسنطينة) هجوما خاطفا استخدموا فيه الرشاشات. في 7 اكتوبر - تشرين الأول - هاجم المجاهدون للمرة الثانية في هذه المرحلة مدينة (بلعباس). في 13 اكتوبر - تشرين الأول - صرحت القيادة الاستعمارية: بأن قوات الجزائريين تتجمع على الحدود الجنوبية، وأن قواتهم تبلغ

_ (*) الهقار: هي موطن (الطوارق - الملثمين) ويقع في أقصى الصحراء الجزائرية، يتكلم الطوارق اللغة البربرية ويدينون جميعا بالإسلام. أما نظامهم الاجتماعي فهو إقطاعي تحت إشراف الادارة العسكرية - الاستعمارية. وتسمى طبقة الأسياد فيهم (ايهقار) وكان معظم هؤلاء يتزلفون للسلطات الاستعمارية. أما طبقة الشعب فيطلق عليها اسم (ايمراد) وقد مارست هذه الطبقة التي يبلغ عدد أفرادها نصف مليون نسمة تقريبا، دورا كبيرا في تحرير المنطقة، والتعاون مع إخوانهم المجاهدين.

حوالي مائة مجموعة مسلحة. وأضافت القيادة الاستعمارية في تصريحها: (بأن معدل قتلى الافرنسيين قد ارتفع إلى حوالي مائتي جندي في الأسبوع، هذا عدا عن الهجمات الشديدة التي يسقط فيها عادة كثير من الافرنسيين). كان جيش التحرير في هذه الفترة قد حصل على أسلحة حديثة بكميات كبيرة. منها مدافع رشاشة مضادة للطائرات، ومدافع بازوكا مضادة للمدرعات ومدافع هاون. وقد أمكن الحصول على معظم هذه الأسلحة من المصانع الإفرنسية (*) ومن مخازن الجيش الافرنسي التي كان المجاهدون يستولون عليها في هجماتهم. هذا بالإضافة إلى ما كان المجاهدون يحصلون عليها عن طريق الغنائم، إذ كانت القوات الإفرنسية تترك في ميادين القتال كثيرا من وسائطها القتالية إلى جانب القتلى والأسرى. وتطورت أسلحة جيش التحرير حتى صارت كلها ذات فعالية، وأخذت أجزاؤها في التناسق والتكامل (التوحيد في العيارات والذخائر) بحيث لم يعد من الصعب على المجاهد استخدام أي قطعة منها. في 20 اكتوبر - تشرين الأول - شرع جيش التحرير مساء هذا اليوم في عمليات واسعة النطاق بمناسبة انتهاء السنة الثالثة لانفجار الثورة، وبدأت العمليات الكبرى في جميع أنحاء الجزائر.

_ (*) علمت السلطات الإفرنسية خلال سنة 1956، أن بعض المصانع في فرنسا تقوم بصنع الأسلحة وتهريبها للثوار الجزائريين. وقد شكلت لجنة برلمانية للتحقيق في هذا الحادث، إلا أن هذه المصانع سارعت بدفع رشوة إلى أعضاء اللجنة، وشلت بذلك مهمتهم (الثورة الجزائرية - أحمد الخطيب 212).

كما أصبح تحت تصرف قيادة جيش التحرير أسلحة ومعدات ثقيلة (كالدبابات والمصفحات ومدافع الميدان والطائرات النفاثة) غير أن قلة أعداد هذه الأسلحة بالمقارنة مع ما كانت تمتلكه القوات الافرنسية، منع قيادة جيش التحرير من المغامرة بزج كل رصيدها في القتال. وعلاوة على ذلك، فقد كان مخطط عمليات جيش التحرير يفرض على القوات عدم التمركز في منطقة ثابتة تتحول الى بؤرة لالتقاء ثقل قوات العدو عندها، الأمر الذي يساعد العدو على الافادة من تفوقه في القوى والوسائط لسحق الثورة. وهكذا بقيت الأسلحة الثقيلة في مخابئها ومستودعاتها السرية، ولم تظهر الا في المرحلة الأخيرة من الثورة. ويظهر ذلك مقدرة قيادة جيش التحرير على التخطيط بعيد المدى، لا من أجل مجابهة متطلبات الصراع اليومية، وإنما من أجل تأمين القدرة الذاتية وتصعيدها حتى تتمكن من مجابهة كل احتمالات الصراع في المستقبل. مهما كان عليه الموقف، فقد نقلت قيادة جيش التحرير مسرح عملياتها إلى الصحراء، وعلى الرغم من أن عمليات الصحراء لم تتجاوز حدود بعض الاشتباكات العنيفة، الا أن هذه العمليات كانت ذات أهمية كبرى من الناحية السياسية إذ أكدت تصميم جبهة التحرير على الاحتفاظ بحق الجزائر في صحرائها، وامتلاكها للمناطق التي تم اكتشاف آبار البترول فيها حديثا. وكانت الحكومة الافرنسية، لأسباب سياسية واقتصادية معا، قد عملت على إقامة خط مؤقت للأنابيب يصل ببترول الصحراء إلى السوق الإفرنسية (وقد قطع الخط المذكور سنة 1958 - على الرغم من أن الكميات التي وصلت إلى فرنسا عن طريقه كانت محدودة للغاية).

مجزرة قرية ميلوزة

8 - مجزرة قرية ميلوزة تقع في كل حرب من الحروب - التقليدية أو الثورية - بعض الأحداث المثيرة والغريبة، وهي أحداث قد لا تكون ذات أهمية من الناحية العسكرية، إلا أنها تحمل مضمونا كبيرا من حيث تأثيرها في الرأي العام المحلي أو العالمي. وقد وقع مثل هذا الحدث في قرية (ميلوزة) في أواخر (ماي - أيار - 1957) حيث زعم أن الذكور من أهل هذه القرية الواقعة في وسط الجزائر، والذين يبلغ عددهم ثلاثمائة وثلاثة أشخاص، قد قتلوا في ليلة واحدة بسبب ولائهم للحركة الوطنية الجزائرية التي كان يتزعمها (مصالي الحاج). وقد أعلن رئيس الجمهورية الافرنسية (كوتي) عن تأثره الشديد لهذا الحادث، فناشد الضمير العالمي أن يحمل على هذا العمل وأن يستنكره. وقد أحيط الحادث بالكثير من الغموض، ولم تسمح السلطات الإفرنسية لأي مراقب خارجي محايد بإجراء تحقيق في الموضوع، أو إحصاء عدد القتلى، والظاهر أن هذا الحادث لم يقع في قرية (ميلوزة) ذاتها وإنما في قرية مجاورة لها. وأكد الأمين العام للحركة الوطنية الجزائرية بأن للإفرنسيين علاقة بالحادث، وقد اتهمت جبهة

التحرير الوطني الجزائرية القوات الافرنسية بالحادث، وطلبت إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة أن يطلب من فرنسا الموافقة على إرسال لجنة دولية للتحقيق في القضية. ولكن الحكومة الافرنسية رفضت الطلب، وبعد حوار طويل في الصحافة العالمية، انتهى البحث في موضوع هذه المجزرة. وسواء أكان الصراع بين جبهة التحرير وبين حركة مصالي الحاج وراء هذه المجزرة أو لم يكن، فإن الوضع في وسط الجزائر، خلال منتصف العام 1957، يشرح ما يمكن أن تحدثه أي حرب استعمارية من انقسامات في وسط الشعب الواحد، وما تحدثه من اضطراب في العلاقات الاجتماعية بسبب الاختلاف بين مراكز القوى، وبنتيجة تباين الولاء لها. وكانت هذه المنطقة مركزا (للجنرال بيلونس) وهو عضو سابق في اللجنة المركزية لحركة انتصار الحريات والديموقراطية. وقد عملت الادارة الافرنسية الاستعمارية على دعمه، وإمداده بالقوات والأسلحة، حتى يتصدى لقوات الثورة بحجة (الولاء لمصالي الحاج وحركته الوطنية). ولما شعر (بيلونس) بضعفه، وبعجزه عن مقاومة ضغط جبهة التحرير وقواتها العسكرية، عقد اتفاقا مع الجيش الإفرنسي يقضي بالحصول على السلاح من الإفرنسيين، وترك حرية العمل له من أجل مقاومة نشاط الجبهة وأعمالها وأدى هذا الأسلوب الذي سبق للافرنسيين استخدامه بنجاح في (فييتنام) إلى غضب جبهة التحرير. ومن المحتمل أن يكون هذا الصراع هو الذي مهد السبيل للاصطدام العنيف بين الجبهة الوطنية الجزائرية، وحركة (مصالي الحاج). وعلى كل حال، فإن الجبهة لم تحاول إلقاء كل ثقلها في هذه المعركة الهامشية المصطنعة، وتركت (للجنرال بيلونس)

حريته دون أن تعمل على تصفيته. حتى إذا ما جاء عام 1958، تقدمت إليه الادارة الاستعمارية الإفرنسية بطلب من أجل الانضمام إلى الحركة التي تبناها الجيش الافرنسي، بالدعوة إلى التعاون بين الجزائريين والافرنسيين في البلاد (حركة 13 أيار - مايو - 1958). ولكن (بيلونس) رفض هذه الدعوة. فوقع صدام بينه وبين جماعة الانقلاب من رجال الجيش الافرنسي والمستوطنين وسقط (بيلونس) قتيلا في الثالث عشر من أيار - مايو - (يوم الانقلاب)، ثم زعم الافرنسون فيما بعد أنهم أعدموه. ووقع حادث غريب آخر في الصراع الجزائري - الافرنسي، أظهر بوضوح مدى الانقسام الواقع بين الاستعماريين ومسلمي الجزائر، وأكد طبيعة الحرب التي أخذت أبعادها الدينية كرد فعل طبيعي ضد الظاهرة الصليبية التي اتسمت بها حرب الاستعمار منذ بدايتها. كان جميع الحكام العامين الإفرنسيين في الجزائر، تواقين دائما، ومنذ نشوب الثورة، إلى إظهار وجود تأييد جزائري إسلامي إلى جانبهم، وضمن هذا الإطار عمل الحاكم العام (سوستيل) وهو من دعاة (سياسة التكامل) على تنظيم جماعات مسلحة من مسلمي القبائل (البربر) تحت ستار (الدفاع عن النفس) لتتصدى لمقاومة جيش التحرير (سنة 1955) وكان بين الجزائريين الذين طلبت إليهم السلطات الإفرنسية الانضمام الى هذه الجماعات، عدد غير قليل من مجاهدي جيش التحرير، وقد انضموا الى المشروع الجديد بعد أن حصلوا على موافقة قائدهم. وقد ظهرت المشكلة الأولى للجبهة، عندما صدر الأمر لهذه الجماعات، بعد أن اجتازت مرحلة

من التدريب، بالخروج الى الجبال لقتال جيش التحرير الوطني. وعقد قادة القبائل مؤتمرا سريا لمناقشة الموقف، وقرروا تمثيل معارك صورية مع إخوانهم المجاهدين، وأن يتركوا على أرض المعركة (جثث الخونة) الذين يتم إعدامهم عادة. وقد طبق هذا النظام بصورة دقيقة بضعة أشهر، كان فيها السلاح والمدافع والذخيرة، تتسرب كلها من هذه المجموعات الى المجاهدين في (منطقة القبائل). ومن السخرية حقا - بالكفاءة الافرنسية - ألا يكتشف القادة الاستعماريون سر هذه العملية، إلا عندما أعلنها مباشرة القائد (عبانة) أبرز قادة منطقة القبائل، ولكن وقبل أن يسمح (عبانة) لنفسه يكشف السر، وقبل أن يتمكن الافرنسيون أيضا من القيام بأية عملية انتقامية ضد هذه الجماعات، كان أفرادها قد قتلوا ضباطهم الافرنسيين، وعادوا إلى الالتحاق بقواعدهم لخوض الصراع مع إخوانهم المجاهدين. لقد حملت هذه العملية اسم (الطائر الأزرق). وما من أحد يعرف سبب هذه التسمية. غير أن الأمر الثابت والمؤكد هو أن هذه العملية لم تكن الفريدة في نوعها. ويضم التاريخ - غير الرسمي وغير المعلن - للثورة الجزائرية، كثيرا من القصص المماثلة، والأحداث المثيرة وقد عرف عن بعض الضباط الافرنسيين - من رجال الخدمات الادارية الخاصة - أنهم تعاونوا أحيانا مع قادة جبهة التحرير الوطني - المحليين - أحيانا عن قصد، وأحيانا بدون قصد، في مشاريع مفيدة للجانبين. وكثيرا ما كان بعض الأثرياء من المستوطنين يجدون أنفسهم مرغمين على دفع الجزية إلى جبهة التحرير، مقابل سلامة ممتلكاتهم والمحافظة على أرواحهم.

وكثيرا أيضا ما قيل من أن عددا منهم كان يقدم الملجأ والمأوى لقادة الثورة، ويضمن حمايتهم من الجيش الافرنسي. ... وتبقى هذه الظاهرة من أبرز الظواهر التي حملت في مضمونها العامل الحاسم لانتصار الثورة. لقد جهدت فرنسا طوال (130) عاما على خلق هوة بين مسلمي الجزائر (عربهم وبربرهم) وكانت الوحدة الاسلامية تحت راية الجهاد في سبيل الله هي العامل الأقوى من كل محاولات التجزئة.

الصراع على الحدود

9 - الصراع على الحدود كان الصراع على الحدود، أهم تطور عسكري وقع في العام (1957). وقد نجح (عمارنة) في أن يأتي لتونس بكميات كبيرة من الأسلحة التي اجتازت حدود الجزائر في النصف الأول من العام. وأعلنت الحكومة الإفرنسية في شهر - أوت - آب - حقها في مطاردة الثوار الجزائريين إلى داخل الأراض التونسية، وهو حق زعمت أن القانون الدولي يخونها إياه، لتمنع مرور الأسلحة عبر الحدود. وهكذا شرعت بإقامة حاجز من الأسلاك الشائكة المكهربة (أطلق عليه اسم خط موريس نسبة الى وزير دفاعها) يمتد مائة ميل على طول الحدود التونسية - الجزائرية. وقد أقيمت فيه نقاط مسلحة بالمدفعية وأجهزة الرادار. وهذا الخط المكهرب يشبه ذاك الذي أقيم على الحدود الجزائرية - المغربية أيضا وقد بدأ العمل به في شهر سبتمبر - أيلول - وكان جيش التحرير، يستخدم لقطع هذه الأسلاك الحشوات المستطيلة (بنغالور) لإحداث ثغرات فيها، ثم يقوم رجاله بقطع الأسلاك بواسطة المقصات الخشبية. وكان جنود جيش التحرير يدفعون أمامهم أحيانا قطعانا من الماشية لتفجير الألغام الافرنسية، ويصبح باستطاعة الجنود عندئذ المرور مع البغال

المحملة بالامدادات من أسلحة وذخائر. وقد تعلم الجيش الإفرنسي مؤخرا اسخدام المحولات الكهربائية لمنع انقطاغ التيار. وقد كلف (خط موريس) قوات جيش التحرير الوطني الكثير من أيام العمل الإضافية، وخسارة كبيرة في الأرواح. وأدى إلى إبطاء وصول شحنات الأسلحة إلى مجاهدي الداخل، ولكنه لم يمنع وصولها بصورة نهائية. ولعل وجوده هو الذي أدى الى تطور الصراع، والتوسع بالهجمات التي كان يقوم بها المجاهدون في الداخل، للحصول على السلاح من الافرنسيين، وأدى كذلك إلى بقاء كمية أكبر من الوسائط القتالية برفقة المجاهدين المدربين تمام التدرب، على الأرض التونسية، فشكلوا بذلك الاحتياط العام لقوات الثورة الجزائرية. لقد أرادت القيادة الاستعمارية الافرنسية عزل مسرح العمليات الجزائري عن محيطه الجغرافي والتاريخي، على نحو ما فعلته من قبل عند احتلال الجزائر، وعلى نحو ما فعلته أيضا عند القضاء على الثورات الجزائرية المتتالية. وقد أدرك قادة الجزائر، ومعهم قادة المغرب العربي - الاسلامي (تونس والمغرب) هذه الحقيقة، فتم العمل منذ البداية وحتى انتصار الثورة على تنسيق التعاون فيما بين الأقطار الثلاثة. ولم تكن إقامة (الحواجز) وتكوين (المناطق المحرمة) إلا محاولات لتمزيق وحدة أقطار المغرب العربي - والاسلامي. وفي الواقع، فقد تعرضت عملية تنسيق التعاون بين الأقطار الثلاثة إلى إحباطات كثيرة، تركت مرارة عميقة في نفوس المجاهدين الجزائريين. وكانت تلك الاحباطات من صنع فرنسا، أو ناجمة عن وجود الاستعمار ذاته. ولكن قيادة جبهة التحرير استطاعت تجاوز العقبات المصطنعة. وأمكن لها باستمرار أن تجد طريقة مناسبة لتنسيق التعاون مع جارتيها الشقيقتين ..

وحدة من جيش التحرير في الحدود التونسية - الجزائرية.

الفصل الثاني

الفصل الثاني 1 - جيش التحرير في وثائق الثورة. 2 - معركة الجرف. 3 - القيم الأخلاقية عند جيش التحرير. 4 - مع يوميات القتال في سنة (1958). 5 - معركة القلاب (1958). 6 - ماذا وقع بعد الكمين (1958). 7 - معركة (عين الزانة 1959). 8 - معركة الحوض (1959). 9 - معركة عنابة (1959). 10 - عام الانتصارات (1960). 11 - الصراع في قلب مراكز العدو (1960).

جيش التحرير في وثائق الثورة

1 - جيش التحرير في وثائق الثورة قد يكون من الممتع والمفيد في آن واحد، استقراء ملامح جيش التحرير وتطوره وأعماله القتالية من خلال المنشورات والوثائق التي صدرت خلال مرحلة الثورة. ذلك أن هذه الوثائق والمنشورات مميزة بمجموعة من الخصائص، لعل من أبرزها صدقها في تصوير الأحداث، ومعالجتها للمواقف المختلفة بصورة موضوعية هذا علاوة على ما تفيض به من صدق العاطفة. وفي الواقع، فقد اعتمدت قيادة جيش التحرير على النشرات الدورية من أجل شرح حقائق الموقف للمقاتلين، ومعالجة مشكلاتهم، والرد على أساليب الحرب النفسية للقوات الاستعمارية. وكان من بين هذه النشرات الدورية - وفي طليعتها أيضا - (مجلة المجاهد) ثم جريدة (الشباب) وجريدة (المقاومة) التي دمجت فيما بعد بمجلة المجاهد. وكذلك (صدى الجبال). هذا بالإضافة الى تلك النشرات الرسمية التي كانت تصدر عن القيادة العامة، سواء في مجال التنظيم، أو من أجل توجيه مجاهدي جيش التحرير وتثقيفهم في أمور معينة (مثل أعمال الاستطلاع ومحاربة الجاسوسية الخ ..). وفي الواقع، ربما كان من الصعب إعطاء صورة واضحة وكاملة

عن كل ما تتضمنه تلك المنشورات والوثائق، إذ من الصعب الإحاطة بها لوفرتها، وإذن فلا بد من انتقاء بعض هذه الوثائق، بقدر ما هو ضروري لإبراز تطور جيش التحرير وأعماله. وعلى سبيل المثال - لا الحصر - وفي مجال (إقامة السدود) ومحاولة عزل الجزائر، كتبت نشرة جزائرية ما يلي: (كان الجيش الأفرنسي يحاول عزل الجزائر عن بقية العالم ببناء السد المكهرب الغربي، خلال شتاء 1956، والسد الشرقي المسمى بخط موريس، أثناء النصف الثاني من سنة 1957. وكانت معركة الحدود هذه تعتمد بالنسبة للقوات الاستعمارية على طرد (280) ألف جزائري من ديارهم وقراهم وأرضهم وتكوين سد مجمد على جهتي الحدود. وبلغ عدد اللاجئين الجزائريين حده الأقصى خلال شتاء (1957 - 1958). ورد جيش التحرير على ذلك بالتمركز في الأماكن الواقعة على حدود البلاد والسد المكهرب الذي أقيم حول الخطوط الحديدية. لكن هذا السد الذي كان من المقرر أن يستخدم (لخنق الجزائر) لم يكن في الواقع إلا عملا باهظ التكاليف وقليل الفاعلية، جندت فرنسا من أجله جهازا حربيا صخما، وألقى جيش التحرير لتجميد هذا الجهاز بجزء من قواته فقط، كما أفاد من هذه العطالة لتطوير تدريبه وتسلحه، ثم قام بهجمات محلية أو عامة بداية من جويليه - تموز - 1958. ولم ينفك جيش التحرير الوطني من متابعة حربه ضد السد المكهرب (في إطار العصابات) مع تأمين إرسال الأسلحة الحديثة وزيادة عدته وعتاده.

ففي هذه الفترة بالذات تألفت شبكة استعلامات على المستوى الوطني، شملت تأمين الاتصال بين الولايات ولجنة التنسيق والتنفيذ، وبين المناطق في كل ولاية) (*) إن مطالعة النص السابق وحده يبرز مجموعة من الحقائق: أولها - إدراك القيادة الجزائرية لأهداف العدو والكامنة وراء كل إجراء من إجراءاته. وثانيها -مجابهة كل موقف بالحلول المناسبة له، وثالثها - الإفادة من أخطاء العدو لإضعافه وتدميره - ماديا ومعنويا - مع زيادة القدرة الذاتية لقوات الثورة. وهذا ما يبرز أهمية العودة لوثائق الثورة.

_ (*) المرجع: الجمهورية الجزائرية - وزارة الداخلية، نشرية داخلية (رقم 13) مارس 1962 ص 8 - 9.

معركة الجرف

2 - معركة الجرف لا جرم أن الاستعمار الافرنسي قد خاب أيما خيبة (بالجرف) واعتبره موقعا مشؤوما عليه ففي شهر سبتمبر (أيلول) سنة 1955 هزمت جيوشه المرتزقة في ذلك المكان الموجود في جبال (النمنشة) أشنع هزيمة، حيث استطاع مجاهدو جيش التحرير الوطني قتل أربعمائة جندي وإسقاط ثماني طائرات وإصابة ثلاث مصفحات، وقتل ثمانية عشر بغلا، وغنم مدفعين من نوع (بازوكا) وأربعين بندقية، وجهازا لاسلكيا (مرسل لاقط). وفي السادس من شهر ابريل (نيسان) 1956. وقعت في المكان ذاته معركة أخرى انتصر فيها جيش التحرير انتصارا رائعا على فيالق ضخمة من القوات الاستعمارية، مدعمة بسرب من الطائرات المقاتلة وبعض الطائرات العمودية (الهيليكوبتر) وعدد وافر من رجال المظلات. وقد روى بعض أبطال هذه الأيام المجيدة تفاصيل المعركة بقولهم: (تصوروا ناحية كلها جبال شاهقة وصخور عالية ومغاور عميقة

وشعاب ملتوية يشقها واد بعيد الغور، وبها مكامن يتعذر الوصول إليها. ولقد وردتنا معلومات أكيدة بأن فرقة كبيرة من جيوش الأعداء تضم الجنود الشبان الذين قدموا حديثا من مدينة (نانت) قد كلفت باقامة مراكز للمراقبة فى تلك الناحية (المشكوك فيها). وكانت تلك المعلومات الواردة من مصلحة (استعلاماتنا) دقيقة جدا، إذ مكنتنا من معرفة المسالك التي ستمر بها الفرقة المذكورة، وكذلك أوقات تحركها، ومواعيد توقفها في كل مرحلة من المراحل، وحتى عدد جنودها ونوع أسلحتها وأسماء ضباطها. ولم يبق علينا إلا التهيؤ لاستقبالها والاستعداد للقضاء عليها. وعلى هذا، فما انبثق فجر يوم 6 ابريل (نيسان) حتى كان جميع رجالنا على علم بتفاصيل العملية التي سيتم تنفيذها، إذ أن من مبادىء جيشنا الفتي أن يعرف المجاهدون دائما هدفهم، والى أين هم قاصدون، وماذا يريد قادتهم منهم، وكثيرا ما تدرس مخططات العملية، ويتم الاعداد لها بحضورهم ومشاركتهم الفعلية. قام الضباط والموجهون السياسيون بتزويد المجاهدين بتعليماتهم الأخيرة والتحق كل رجل بمركزه المحدد له، ونصبت الرشاشات الثقيلة منها والخفيفة في المراكز المناسبة، وانتشرت البنادق الرشاشة والمدافع الصغيرة في أماكنها، كما اختار (مهرة الرماة) أفضل المواقع المناسبة لهم بأعلى الجبال وبين الصخور. وكمن الجميع بانتظار العدو الذي بات من المتوقع ظهوره بين فترة وأخرى. ولم يطل الانتظار، فما هي إلا فترة وجيزة حتى بدأت جنبات الوادي العميق والعاري من كل نبات، في ترديد أصداء هدير المحركات. وأيقن المجاهدون، وهم ينتظرون بصمت وخشوع، أن عددهم بات قريبا منهم، ففيم كانوا يفكرون في تلك

اللحظة؟ ... هل كانوا يفكرون في وطنهم المكبل بالقيود منذ مائة وخمس وعشرين سنة؟ أم كانوا يفكرون فيما لحق بهم من ضروب الذل والهوان وهم في وطنهم؟ أم كانوا يفكرون في آبائهم ونسائهم وأطفالهم الذين خلفوهم وراءهم في المدن والقرى؟ لقد اعترف الكثيرون من أولئك الأبطال الذين خاضوا المعركة، فيما بعد، بأنهم ما فكروا إلا في إخوانهم المجاهدين الذين تصدوا في القرن الماضي للهجمات الافرنسية، خصوصا وأن أحد المندوبين كان قد حدثهم في الليلة السابقة عن أولئك (المسبلين) الأماجد الذين كبلوا أنفسهم في القيود تأكيدا على تصميمهم على الثبات أمام الجيوش الإفرنسية، ومنعها من احتلال قريتهم أو الموت دونها. هذا بينما كان آخرون يفكرون في أصدقائهم ورفاقهم الذين سبقوهم الى الشهادة في المعارك السابقة. على كل حال، وبينما المجاهدون في صمتهم وترقبهم، تناهى إلى سمعهم صوت أيقظ انتباههم، ووجه أبصارهم نحو العدو وقد بدت طلائعه. لقد سمعوا آذانا وتكبيرا صادرا عن أعلى الربوة، وأخذوا في انتظار سماع صوت المؤذن وهو يرسل تكبيراته من التل المقابل ليطلقوا نيرانهم. وما هي الا لحظة حتى ترددت صيحة (الله أكبر). ودوت في الجبال طلقات الرماة الأحرار. وانهمر الرصاص على الأعداء، فتوقفت سياراتهم وشبت فيها النيران من كل جانب، وانتشرت الفوضى، وهيمن الاضطراب على قوات العدو، وما هي إلا ربع ساعة حتى تكدست الجثث، ولم ينج من الموت إلا بعض الجرحى، فخرج إذ ذاك المجاهدون من مكامنهم، واستولوا على كميات مذهلة من الأسلحة والذخائر.

لم يثمل المجاهدون بما أحرزوه من نصر، فقد كانوا على ثقة بأن العدو سيرسل نجدات عاجلة لإنقاذ قواته ودعمها، فكان لزاما عليهم التربص لهذه القوات، وفي الحقيقة، فإنه لم تمض فترة طويلة حتى ظهرت قوات جديدة وهي تقترب من مسالك الجبال، بالإضافة إلى تلك القوات من المظليين التي أخذت في الهبوط من الطائرات العمودية. وكانت الامدادات تتدفق من كل مكان. ولاحظ المجاهدون أن هناك بعض مفارز المظليين (ذوي القبعات الحمراء) قد جاؤوا من (تبسة) ذاتها. واستمر تقاطر القوات طوال فترة المساء، واستؤنف في اليوم التالي. فعرف المجاهدون أن في انتظارهم موقعة ستكون من أقسى المعارك التي دارت رحاها بين المجاهدين وبين قوات الاستعمار الإفرنسي، منذ أن اندلعت نار الثورة. كان الرماة المجاهدون، وهم في مكامنهم العالية المنيعة، يطلقون النيران الكثيفة من رشاشاتهم على الطائرات المقاتلة والطائرات العمودية حتى يمنعوها من الهبوط وكانت الطائرات المقاتلة مختلفة في نوعها، منها قاذفات القنابل ومنها المطاردة - الاعتراضية .. استمرت الاشتباكات العنيفة طوال الليل، على ضوء الشهب المنيرة التي كانت تطلقها الطائرات الإفرنسية فتحيل ليل المعركة نهارا وتجددت الاشتباكات بوتيرة متصاعدة في الساعة الخامسة والنصف من صباح الغد. وأظهر المجاهدون من الإقدام والثبات بقدر ما أظهروه في معركة اليوم السابق، ما وهن لهم عزم، ولا ضعفت منهم إرادة، ولم يفتر تصميمهم في وقت من الأوقات عن طلب النصر أو الشهادة. ولهذا لم يكن يهمهم الإسراع لملاقاة عدو يتفوق عليهم بكثرة عدده ووفرة عتاده وتفوق أسلحته

وجدير بالذكر أن المجاهدين أفادوا في معركتهم من الأسلحة والذخائر التي غنموها في معركتهم الأولى، فكبدوا العدو خسائر فادحة، وكانت رمايات المجاهدين مميزة بدقتها وإحكامها، بحيث أنه قلما انطلقت رصاصة إلا وأصابت معتقلا من جند العدو. وأثناء ذلك، كان سيل قوات العدو مستمرا في تدفقه، وقد تمكنت هذه القوات من تشكيل سياج أحاط بميدان المعركة على مساحة قدرها خمسون كيلومترا مربعا. واشتركت في تشكيل السياج ومحاصرة قوات المجاهدين قوة ضمت آلاف الجنود الافرنسيين المدعومين بست طائرات مطاردة، واثنتي عشرة طائرة عمودية (هيليكوبتر) وثلاث طائرات استطلاع (بيبركاب)، وعدد من جنود المغاوير البحرية (ذوي القبعات الخضراء - المظليين أيضا) والذين استمر إنزالهم خلف قوات المجاهدين طوال ساعات عديدة. وظهرت للمجاهدين خطة العدو واضحة تماما: إنه يريد تدميرهم وإبادتهم. غير أن ذلك لم ينل من روحهم المعنوية، فرفعوا أصواتهم بالنشيد الوطني (وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر) ذلك النشيد الذي بات لحنا حلوا على لسان الجزائريين، رجالهم ونسائهم وأطفالهم، والذي باتت تردد أصداءه الجبال والوديان وجدران السجون والمعتقلات والمحتشدات. قرر المجاهدون الخروج من دائرة الحصار، ووضعوا خطتهم، وأعادوا تنظيم قوتهم، واختاروا النقطة التي سيفتحون فيها ثغرتهم، وقاموا بالانقضاض مستخدمين كل قوة نيرانهم، وأمكن لهم شق طريقهم، وخلفوا العدو وراءهم. غير أنهم لم ينسوا في مأزقهم، وبالرغم من سرعة انسحابهم، أن يحملوا معهم ما غنموه من السلاح، بقدر ما تسمح لهم قدرتهم على الحمل، فكان في

غنائمهم: (25 رشاشة، و7 بندقيات رشاشة، ومدفعان من عيار - 60 - و7 بندقيات من نوع - ماس 49 - و4 بنادق من نوع - ماس 36 - علاوة على كمية وفيرة من المسدسات والعتاد وأربعة أجهزة لاسلكية (مرسلة آخذة) راديوفون). لقد تناقضت البلاغات الإفرنسية التي صدرت بصدد هذه المعركة، وحاولت الصحافة الإفرنسية والأجهزة الإعلامية التابعة لها، التخفيف من حجم الخسائر. غير أن أحد كبار الضباط الإفرنسيين ذكر بأن (معركة الجرف) قد أسفرت عن مصرع (374) رجلا بينهم عدد من الضباط، هذا بالإضافة إلى مئات الجرحى. وخسر المجاهدون مقابل ذلك ثمانية قتلى و (21) جريحا. وتمكن المجاهدون من إسقاط (6) طائرات عمودية (نموذج سكورسكي)، وطائرة مطاردة (نموذج تندربلت)، وإصابة طائرة (بيبركاب) مع إحراق (7) سيارات كبيرة من سيارات نقل الجند، علاوة على تدمير كميات من أعتدة العدو وتجهيزاته القتالية. ***

القيم الأخلاقية عند جيش التحرير

3 - القيم الأخلاقية عند جيش التحرير (*) عندما بدأت الثورة الجزائرية زحفها المظفر، بجماعات قليلة من الشباب الثائر، تلقاها الشعب الجزائري كله بالفرح والتأييد، فكثرت فرق المجاهدين، وتوسعت مناطق النفوذ، وبدأت النظم التي كانت حتى الأمس أملا في الصدور، وفكرة في العقول، تبرز حقيقة ساطعة وواقعا حيا. لقد استطاعت الثورة الجزائرية أن تتقدم نحو النصر، بسبب ذلك التجاوب العميق الذي كان بين الرأس الموجه للثورة، وبين الشعب الذي وجه إليه النداء. وكان ذلك التجاوب نفسه هو الذي أعطى للجماعات المجاهدة من اليوم الأول للثورة، ذلك الطابع القوي من الخلق الفاضل، والسلوك المثالي، لقد تطهر الشعر الجزائري من أدرانه بعد سنوات الاحتلال الافرنسي الغاشم، وبعدما أنزله الاستعمار من محن ونوائب بهذا الشعب الذي عاد للظهور وهو يحمل كل فضائله الدينية والأخلاقية التي بقيت كامنة طوال أكثر من

_ (*) المرجع: مجلة (المجاهد) العدد 9 - (20 أوت - آب - 1957).

قرن من الزمن، تنتظر الفرصة المناسبة وتتحين الظرف الملائم الذي أوجدته ثورة الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر - 1954. فكانت هي الإيذان لتلك القيم بالظهور، على طبيعتها، فبهرت الدنيا وأدهشت العالم. ... كان جيش التحرير الوطني هو التنظيم الذي مكن تلك القيم التي كانت حتى الأمس كامنة، بالظهور. وكان جيش التحرير هو الذي آلت إليه تلك القيم، فأعطاها النظام الملائم. لقد بدأت فرق جيش التحرير، في أول الأمر، قليلة لا تملك إلا التوجيهات العامة، ثم جاء مؤتمر (20 أوت - آب - 1956) الذي أعطى بعد ذلك نظاما موحدا لجيش التحرير في كامل ولايات الكفاح في القطر الجزائري، والذي سن قوانين محددة لا يتعداها المجاهد، ويرجع إليها جميع القادة. وهكذا أصدر ذلك المؤتمر قرارا بتحريم الإعدام ذبحا، وتحريم جميع أنواع التمثيل بالشخص أو التشويه بخلقته. كما نص على أن كل من يتعدى على عرض فتاة أو امرأة محكم عليه بالإعدام. وعلى أن تنفيذ الإعدام لا يتم إلا بعد محاكمة شرعية قانونية، يتمكن فيها المتهم من الدفاع عن نفسه، كما أمر بوجوب العناية بالأسرى. وانصرف قادة الجيش بعد المؤتمر إلى مختلف ولاياتهم يطبقون نظاما واحدا، ويرجعون إلى قانون واحد، وتقودهم إلى الهدف الواحد أخلاق واحدة، وسلوك مثالي مشترك. وبذلك تكون الثورة قد أقامت الدليل عل أنها تمثل القيم الأخلاقية للشعب الجزائري. لم تكن تلك النظم برنامجا من وضع شخص بمفرده، ولكنها كانت

الإعداد النفسي، محاضرة في معاقل الثوار

نظاما يتجاوب مع ما يشعر به كل جزائري في أعماقه من إحساس عميق، وما يؤمن به داخل نفسه من سلوك، وما يطبقه في حياته من أخلاق. ولذلك لم يجد قادة جيش التحرير، عندما رجعوا الى مراكز عملهم، صعوبة في تطبيق تلك النظم، ولذلك أيضا لم تبق تلك النظم مجرد عبادة مكتوبة أو قاعدة محفوظة، ولكنها صارت حقيقة ثابتة يعيشها المجاهد في وحدته ويطبقها في حياته اليومية، ويؤيدها الشعب كله، وهذا هو ما مكن جيش التحرير من إحراز انتصاراته بالرغم من قلة عدده. وقد اعترف الأعداء ذاتهم بهذه الحقيقة التي كانت سببا في إحباط جميع الدعايات الاستعمارية التي حاولت أن تبرز مجاهدي الثورة في صورة قطاع الطرق، الذين لا يقيمون وزنا لأي مثل أخلاقي أعلى ولقد شاهد الصحافيون الأجانب بأنفسهم ما يتمتع به المجاهدون الجزائريون من سلوك فاضل وروح عالية وانضباط رائع. لقد كتب صحافي إفرنسي زار ولاية وهران في السنة الماضية (1956) يقول: (ومما لاحظته أثناء مقامي في المناطق التي زرتها، أن جنود جيش التحرير يحترمون بكل دقة قوانين الحرب. وقد شاهدت بعيني أسيرين إفرنسيين يعيشان بين الجنود، ويأكلان مما يأكلون، ويطالعون الصحف، ولسنا في حاجة إلى أن نورد أسماء الأسرى الذين أطلقت قيادة جيش التحرير سراحهم فعادوا الى أهلهم يعيشون في سلام. أولئك الأسرى الذين تعمدت الصحف الإفرنسية أن تصمت عنهم، فلم تشر إليهم بأكثر من إشارة غامضة، إلا أن ذلك لم يمنع الحقيقة من أن تنتصر في النهاية. وها هم اليوم مبعوثو الصحف الكبرى والمجلات الأجنبية، التي لها صدى كبير في العالم أجمع، يزورون معاقل جيش التحرير، في جبال الجزائر، فيرون عن كثب أن ما تنشره قيادة جيش التحرير ليس دعاية مبالغا فيها ولكنه الواقع المحض).

إن جيش التحرير الوطني هو جيش ثوري تتألف أغلبيته من شبان ملأ الإيمان قلوبهم، ودفعهم الهدف النبيل الى الكفاح الشاق والمرير، ومن ذلك، أن الشباب الطامح يتخرج منه الضباط والمسؤولون العسكريون الذين يشرفون على توجيه الثورة وقيادة فرق جيش التحرير. ولنرجع إلى شهادة الإفرنسي الذي زار ولاية (وهران) فقد كتب يقول: (لقد لمست هذا الإيمان في محادثة أجريتها مع أحد المجاهدين، إذ قال لي: هل يحسب المستعمرون أن أولئك الذين صمدوا إلى الجبال سوف ينزلون منها دون أن يحصلوا على الاستقلال؟ فلو فرضنا أنه لم يبق في الجزائر إلا امرأة عمياء، فإنها لن تتردد في حمل السلاح وفي الكفاح من أجل وطنها. ولو فرضنا أن تلك المرأة تسقط بدورها شهيدة الواجب، فإن الجزائر بأكملها - الجزائر التي أحرقت غاباتها وأبيد أهلها - سوف تثور حجارتها على المستعمر الطاغية). ... يجمع المجاهدون الجزائريون، إلى هذا الإيمان العميق، إقداما عجيبا على الموت وطلب الشهادة، لا تردهم عن غايتهم رغبة في حياة، أو تعلق بملذة من ملاذ الحياة. إنهم واجهوا العدو، في ثبات منقطع النظر، واستطاعوا أن ينسجوا بتفانيهم في أداء الواجب، أروع قصص البطولة والتضحية. ومن من الناس يجهل اليوم أحاديث تلك المعارك الرهيبة التي خاضها جيشنا في كل مكان. فأظهر من صنوف الإقدام والثبات ما بهر العدو، وزعزع معنوياته، وجعله يتأكد أنه لن ينتصر على جيش التحرير الوطني؟. إن جيش التحرير في مواجهته للعدو الإفرنسي لا يعتمد إلا على الشعب، ولذلك تراه يعتني بالمدنيين، ويجنبهم هجمات العدو،

ويبذل قصارى جهده لحماية المدنيين العزل من ضربات (وحوش التهدئة) ليس هذا فقط، بل إن جيش التحرير قد وضع في كامل (ولايات الكفاح) منظمات اجتماعية وصحية للعناية بعلاج المرضى والجرحى. بل كثيرا ما ساهم المجاهد الجزائري في حراثة الأرض، وتقديم العون للفلاح على أداء عمله الشاق. وتلك هي خطوط عامة ولمحات وجيزة عما يمتاز به جيش التحرير من فضائل خلقية، فهو رؤوف بالمدنيين. شجاع في مقابلة العدو، إنسان في احترام قوانين الحرب. ولذلك فليس من تجاوز للحقيقة عندما يوصف جيش التحرير الوطني بأنه الممثل الوحيد للقيم الأخلاقية العليا التي يتصف بها شعب الجزائري. ... والآن لننظر ما هو نصيب الجيش الافرنسي من الأخذ بتلك الأخلاق والفضائل، وما هو أسلوب الجيش الافرنسي في حربه ضد شعب الجزائر المجاهد؟ - إن الجيش الافرنسي لا يخوض حربا بالمعنى المعهود للكلمة، لأن جنده وقادته وموجهيه تحولوا كلهم الى وحوش تنشر الدمار والخراب، وتحرق الغابات والمنازل، وتقتل الأبرياء والمدنيين، إنهم يحاولون إبادة الشعب الجزائري. إن فرسا في حربها ضد الجزائر المجاهدة قد حشدت جميع قوى البغي والطغيان والشر، وراحت تحاول بشتى الوسائل، في المدن كما في القرى، في الجبال كما في السهول، القضاء على المقاومة المسلحة وتدميرها. وأخبار الفظائع الافرنسية باتت بارزة على صفحات معظم المجالات والصحف في العالم، ولم تعد خافية على أحد. بل ان الافرنسيين ذاتهم قد تعرضوا لبعض صور (حرب الابادة) التي جعلت من الافرنسيين أمة من أكثر أمم الأرض وحشية

ونذالة، وهل هناك من بات يجهل قصص (فظائع التهدئة) التي عمت الجزائر؟ ... وهل من الناس من لم يعرف ما نظمته فرنسا في سنة (1956) من إحراق للغابات، مع من يقيم فيها من المواطنين، وبما فيها من خيرات؟ وهل في الناس من يجهل اليوم (أخبار المشوهين) الذين يموتون تحب التعذيب، لا لسبب إلا بسبب حظهم العاثر الذي جعلهم يصادفون جنديا إفرنسيا في الطريق؟ ومن يجهل أيضا حوادث الإعدام بدون ذنب ومن غير محاكمة؟ ومن من الناس يجهل حوادث المشبوهين الذين تقذف بهم الطائرات الإفرنسية، فيقضون أجلهم في الفضاء قبل أن يتحطموا على الأرض كتلا آدمية، وقطعا متداخلة من لحم وعظام؟ وهل هناك من لم يعرف بتلك المجازر الاجماعية التي لم يتردد الافرنسيون المتحضرون في أن يستعملوا الفؤوس لتهشيم الرؤوس وقطع الرقاب، ليصدق الناس - حسب توهمهم - أنها من فعل الثوار؟ ... لم يقف جند فرنسا - المتحضرة - عند حدود تقتيل المدنيين والأبرياء، بل تجاوزوا ذلك الى ذبح النساء والشيوخ والأطفال، وبقر بطون الحوامل ليروا ما تحمله من ذكر أو أنثى، بعد أن يكونوا قد قامروا عليها فيما بينهم بزجاجة خمر أو حتى علبة لفافات تبغ (سجاير). وكأن ذلك كله لم يكف السلطة الاستعمارية الإفرنسية، فراحت تقتل في وضح النهار باسم القانون، وتعلن للدنيا قاطبة، وكأنها تتحدى العالم أجمع، تقتيلاتها تلك، فنصبت المقصلة تقطع رؤوس المجاهدين الجزائريين الذين يعتبرون في نظر الاتفاقيات الدولية أسرى حرب، لا حق لفرنسا في أن تحاكمهم، فضلا عن أن تنفذ فيهم أحكام الإعدام.

إن الافرنسيين، لما توالت هزائمهم في البوادي أثناء الاشتباكات والمكامن يوقعهم فيها (جيش التحرير الوطني) ولما فشلوا في المدن أمام أعمال الفدائيين، لم يسلكوا طريق الحرب وقوانينها. وإنما لجأوا إلى الأساليب التي تعبر عن الجبن والنذالة، وأملهم في ذلك قمع الثورة، وتدمير الروح المعنوية للشعب الجزائري حتى يتراجع عن طريق الجهاد. غير أن ذلك ما نال شيئا من إيمان الشعب، وما أضعف أبدا من الروح المعنوية للمجاهدين الجزائريين الذين تعاظم تصميمهم، وتزايد عنادهم - لدى رؤيتهم لتلك المجازر الوحشية. فمضوا على طريق الجهاد للقضاء على ذلك الوجه الاستعماري الذي ما كانوا يعرفون عنه إلا القليل. ذلك هو أسلوب المستعمرين الذي قادهم إلى الهزيمة، وذلك هو أسلوب الثوار الذي قادهم إلى النصر.

مع يوميات القتال في سنة 1957

4 - مع يوميات القتال في سنة 1957 (*) سبقت الاشارة إلى تطور الأعمال القتالية في سنة 1957 وكانت قيادة (جيش التحرير الوطني) تصدر، بلاغاتها على شكل نشرة يتم تعميمها في كافة (ولايات الكفاح) حتى يتعرف المجاهدون على ما يقوم به إخوانهم في الولايات الأخرى. وقد حملت إحدى النشرات (المقاومة) في مقدمتها ما يلي: (معارك رهيبة منيت فيها قوات الاحتلال بخسائر ذريعة في الأروح والعتاد الحربي: (748) قتلى و (54 1) جرحى و (6) أسرى و (36) ينضمون إلى جيش التحرير بأسلحتهم. وإسقاط (7) طائرات، وإحراق (3) سيارات، وغنم (15) رشاشة و (5) مدافع هاون و (1) قنبلة) وقد يكون من المناسب الوقوف لحظة عند مضمون تلك البلاغات ونصوصها بمثل ما ظهرت فيها - عبر لهيب الثورة -. ولاية الشمال (القاعدة الشرقية) 1 - في يوم 27 مارس - آذار- قامت قوات الاحتلال الإفرنسية

_ (*) جريدة المقاومة (22 نيسان - افريل - 1957).

التي يبلغ عدد أفرادها خمسة آلاف جندي بتطويق إحدى كتائبنا في المكان المسمى (العلمة) على بعد سبعة كيلومترات شرقي قرية (فاستو). واستمر تبادل إطلاق النار بين الجانبين حتى الساعة الثانية عشرة ليلا. وبلغت خسائر العدو في الأرواح واحدا وخمسين قتيلا. ولم يعرف عدد الجرحى. واستشهد جندي واحد من جند جيش التحرير وجرح أربعة آخرون. 2 - في يوم 28 مارس - آذار - صباحا، وعلى بعد (4 كيلومترات) من (هنشير السعيدي - قالياني) اصطدم أحد أفواجنا بدورية استعمارية تتألف من (15) جنديا إفرنسيا، فتبادلوا إطلاق النار طوال ما يقارب من نصف ساعة. ثم فرت الدورية تاركة وراءها (5) من القتلى وجريحين استطاعا اللحاق بهما، وسلم المجاهدون من كل أذى. 3 - وفي يوم 3 أفريل - نيسان - 1957 - وقعت قافلة عسكرية مؤلفة من (4) سيارات حربية وسيارة خفيفة (جيب) في كمين نصبه لها المجاهدون في الطريق الواصل بين (القالة) و (عنابة)، وألحقت بالعدو خسائر جسيمة، فقد انقلبت سيارتان على حافة الطريق وتحطمتا وألحقت أيضا خسائر بالسيارتين الباقيتين وبسيارة - الجيب - وقد قتل من قوات العدو (15) جنديا وجرح أكثر من (15) جنديا آخر، هذا ولم تلحق بقواتنا أية خسارة. 4 - وفي يوم 6 أريل - نيسان - 1957 - هاجم فوج من المجاهدين في الساعة الخامسة مساء مركزا عسكريا للعدو على بعد (10 كيلومترات) من (هنشير السعيدي) بالمكان المسمى (قلعة سيدي السعيد). واستمر تبادل إطلاق النار لمدة ساعة، وأسفر عن

قتل (15) جنديا إفرنسيا - منهم الحارس - وانسحب جنودنا سالمين. 5 - وفي ليلة 8/ 4/ 1954 - احرقت فرقة من رجالنا مدرسة (بني خيار) الإفرنسية التي استخدمها العدو مقرا لفرقة له حتى يشن منها غاراته على المدنيين العزل. ولاية الأوراس (ناحية بريكة) 1 - في يوم 1957/ 3/12. وقع اشتباك بين الجنود الافرنسيين وفرق من رجال جيش التحرير الوطني في الساعة الرابعة بعد الظهر بجبل (أولاد سلطان - ضواحي بريش) قتل أثناءه (87) جنديا إفرنسيا وجرح عدد كبير كما أصيب أحد المجاهدين بجراح خفيفة هذا وقد استولى المجاهدون على صندوق كبير فيه (50) قنبلة من قنابل مدافع الهاوين ورشاشة وكمية من الأدوية تقدر قيمتها بمبلغ (60) ألف فرنك تقريبا. 2 - في 13/ 3/ 1957. هاجم المجاهدون مركزا عسكريا ببلدة (بريكة) فقتلوا (3) جنود إفرنسيين، وجرحوا (7) آخرين ورجعوا سالمين. 3 - في ليلة 1957/ 3/23. قام رجال جيش التحرير الوطني بتطويق بلدة (بريكة) ووجهوا نيران بنادقهم الرشاشة الى المراكز العسكرية، فقتلوا (6) افرنسيين وجرحوا (11) آخرين بجراح مختلفة، واختطفوا من وسط القرية دورية عسكرية افرنسية تتكون من (6) جنود حاملين أربعة بنادق حربية من نوع (ماس) ورشاشتين من نوع (ماط) ثم انسحبوا بسرعة سالمين غانمين. 4 - في 1957/ 3/24 - ليلا - هوجمت المراكز العسكرية

الافرنسية التالية: (بوطالب - أولاد نجاح - مقاوس - روس العيون). ونجحت فرقنا المسلحة في قتل حارس مركز (روس العيون العسكري) و (15) جنديا من جند اللفيف الأجنبي، وإتلاف جميع أسلاك الكهرباء التي تمد بلدة (بريكة) بالقدرة الكهربائية. فعاشت المدينةكلها ليلة من الظلام الدامس. وأصيب مجاهدان اثنان بجراح خفيفة (ناحية سطيف). 1 - في 1957/ 3/25 - وقع اشتباك في جبل (المعاضيد) قتل أثناءه (20) جنديا افرنسيا من بينهم ضابطان (أحدهم برتبة نقيب - كابتن - والآخر برتبة ملازم أول - ليوتنان). وجرح عدد كبير من الجنود الإفرنسيين. وغنم المجاهدون رشاشتين وبندقية حربية (نوع كارابين). 2 - في 1957/ 3/26. انضم الى صفوف جيشنا (30) جنديا إفرنسيا كانوا قد فروا من أحد المراكز العسكرية المجاورة لمدينة (سطيف) مزودين بأسلحتهم الآلية (الأوتوماتيكية) الحديثة. من بينها (3) مدافع هاون (عيار 60 مم). 3 - في يوم 27/ 3/ 1957. اشتبكت فرق من جيش التحرير الوطني مع قوات الاحتلال بجبل (المعاضيد) واستمر القتال في شدة وعنف مدة (9) ساعات، وأسفر عن مقتل (150) جنديا افرنسيا وجرح عدد كبير. ومقابل ذلك، استشهد (7) مجاهدين وجرح أربعة آخرون بجراح بالغة. 4 - في يوم 28/ 3/ 1957. نصبت دورية من جيش التحرير الوطني كمينا لسيارة عسكرية من نوع (جيب) على بعد ثلاثة أميال من

قرية (راس الوادي - توكفيل) فقتلت جميع ركابها ومن بينهم ضابطان (الأول برتبة نقيب - كابتن - والثاني برتبة رائد - كومندان - يعمل في شركة الطيران الافرنسية - ايرفرانس). وأخذت جميع أسلحتهم، وأحرقت السيارة. 5 - في يوم 1957/ 3/29. هرب ثلاثة جنود إفرنسيين من اللفيف الأجنبي من مركز (برج الغدير) بناحية (سطيف) والتحقوا بصفوف جيش التحرير، وقد حملوا معهم أسلحتهم ومدفعين رشاشين انتزعوهما من سيارة نصف مدرعة (هاف تراك) كانوا قد استخدموها عند فرارهم وأحرقوها على بعد عشرة كيلومترات من (برج الغدير). 6 - في يوم 30/ 3 / 1957 - وقعت بناحية (بوسعادة) بجبل (أم حارقة) معركة عنيفة لمدة عشرين ساعة، نجح المجاهدون فيها بقتل (320) جنديا افرنسيا، وجرحوا (50) آخرين كما أسقطوا طائرة مقاتلة، وأحرقوا عربة مدرعة، وغنموا (4 - مدافع هاون) و (8 - بنادق رشاشة من نوع 24) و (35 بندقية حربية) وكمية كبيرة من الطلقات والأدوية. 7 - في 12/ 4 / 1957 - إشتبكت كتيبة من كتائب جيش التحرير الوطني المرابطة (بجبل سويلان) الواقع بالقرب من (سوق أهراس) مع القوات الإفرنسية المدعمة بنيران المدفعية الثقيلة، والعربات المدرعة والطائرات المقاتلة. واستمرت المعركة لمدة ثلاث ساعات أسفرت عن إسقاط طائرتين (من نوع ت- 26) وإصابة طائرة استطلاع أخرى مع تدمير عربتين مدرعتين وعربة خفيفة (جيب) - وقد أصيب ستة من رجالنا بجراح خفيفة.

ولاية الشمال. 1 - في 17/ 3/ 1957. وقع اشتباك بين قواتنا وبين ثلاث فرق للعدو، دام ساعتين، وقتل أثناءه للعدو (4) قتلى وجرح (7) جنود، وغنمت قواتنا كمية من القنابل ولم يصب أحد منها. 2 - في 1957/ 3/18. قامت قوات العدو بعملية (تطهيرية) في الجهات الواقعة على بعد عشرة كيلومترات من (قالمة) واصطدمت بإحدى فرقنا فوقع اشتباك لمدة عشر ساعات ونصف بصورة مستمرة، وشاركت فيه مدفعية العدو وثماني طائرات - من بينها طائرتان نفاثتان - وأسفر الاشتباك في النهاية عن قتل (34) وجرح (40) من جند العدو، وإسقاط طائرة وإصابة ثانية، كما غنمنا جهازا لاسلكيا (للاذاعة بقوة 300) وناقلتين استعملناهما لنقل الأسلحة الثقيلة التي غنمناها من العدو ومعها كمية كبيرة من الذخائر الحربية. وكان من بين قتلى العدو ضابطان برتبة ملازم (ليوتنان) ورقيب أول (سرجان شيف). واستشهد من المجاهدين رجلان وجرح ثالث. 3 - في 1957/ 3/21. اشتبكت دورية عسكرية افرنسية مع إحدى فرقنا في المكان المسمى (وادي العار) على بعد ثلاثين كيلومترا إلى الجنوب - الشرقي من (وادي الزناتي) فقتل من قوة العدو - (8) جنود وجرح ثلاثة، ولم يصب أحد من المجاهدين بأذى. 4 - في 24/ 3/ 1957. وقع اشتباك في (دوار عزابة) مع فرقة من العدو ويبلغ عدد أفرادها (250) جنديا، وشاركت في هذا الاشتباك ثلاث طائرات، واستمر تبادل إطلاق النار لفترة خمس ساعات، أسفر عن قتل (10) جنديا للعدو من بينهم ضابط برتبة ملازم، كما جرح للعدو (8) جنود. وغنم المجاهدون (4) قنابل

مسيلة للدموع وقنبلة مضيئة. واستشهد اثنان من المجاهدين وأصيب مجاهد ثالث بجرح خفيفة. 5 - في 1957/ 3/31 - هاجم الفدائيون قرية (روبيرتسو) الواقعة على بعد عشرة كيلومترات الى الجنوب من (عزابة) وقتلوا الخائن (معطى الله رجم - القائد). ولاية الجزائر. آ - معارك واشتبكات. 1 - وقعت معركة دامية بين القوات الوطنية وقوات إفرنسية ضخمة بناحية (تابلاط) واستمر القتال لمدة (6) ساعات متواصلة استخدم فيها الافرنسيون سلاح الطيران والمدفعية الثقيلة والغازات، وأسفرت المعركة عن قتل (37) جنديا افرنسيا وجرح (20) آخرين - ثم أسر بعضهم. وغنم المجاهدون كمية كبيرة من الطلقات (الخرطوش) واستشهد مجاهد وجرح مجاهد آخر. 2 - هجمت مجموعة من المقاومين على معسكر افرنسي بناحية (سور الغزلان) فقتلوا فيه حارسا، وجرحوا (3) آخرين، وأضرموا النار في سيارة نقل كبيرة (شاحنة) وقتلوا سائقها الافرنسي، وأصابوا رئيس الحظيرة (المرآب) بجراح بالغة. 3 - وقع اشتباك عنيف بشمال (ماسكارى) بجنوب (مهلمة) ولم تذكر خسائر الافرنسيين. 4 - وقعت قافلة عسكرية افرنسية في كمين نصبه لها رجال المقاومة بناحية (بالسترو) فقتل (11) جنديا افرنسيا، وجرح عدد كبير من بينهم ضباط. واستولى رجال المقاومة على كمية وافرة من الأسلحة الآلية - الأوتوماتيكية - وأحرقوا سيارة من نوع (ج. م. س) وأخرى من نوع (جيب).

ب - أعمال الفدائيين: - أطلق فدائي النار على موظف أوروبي، فأصابه بجراح قاتلة، وتمكن الفدائي من النجاة. 2 - ألقى فدائي قنبلة يدوية على مقهى أوروبي بمدينة الجزائر، فأحدنث القنبلة أضرارا جسيمة. 3 - أطلق فدائي النار على موظف أوروبي بمدينة (البليدة) فأصابه بجراح قاتلة. ج - إتلاف وتخريب: أضرم رجال المقاومة النار في (3) مزارع أوروبية بين (البليدة) و (المليانة) ودمروا فيها كل آلات الحراثة. ولاية القبائل أ - معارك واشتباكات. 1 - هاجم فريق من مجاهدي جيش التحرير مركز حراسة المطار بمدينة (بجاية) واستمر اطلاق النار عدة ساعات، ولم تذكر وكالة الأنباء شيئا عن خسائر الجنود الإفرنسيين. 2 - اصطدمت قوة من مجاهدي جيش التحرير مع دورية عسكرية افرنسية في (سيدي عيش) فألحقوا بها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. 3 - وقعت دورية عسكرية في كمين نصبه لها رجال المقاومة بمكان يدعى {لعزيب آيو) قرب (تيزي - أوزو) فقتل (13) جنديا وأسر ثلاثة. 4 - اشتبكت قوة من المجاهدين مع قوات الأحتلال بناحية

(تيزي - غنيف) واستمر الاشتباك بعنف وقوة عدة ساعات، تكبدت القوات الإفرنسية فيه خسائر فادحة. ب - أعمال الفدائيين: 1 - أطلق فدائي النار على سيارة مدنية قرب (تيزي - أوزو) فأصاب موظفا افرنسيا بجراح بالغة. 2 - أطلق فدائي النار على ضابط من الشرطة (كومسير) في (تيزي - أوزو) فأرداه قتيلا. ولاية شمال قسنطينة. آ - معارك واشتباكات: 1 - وقع اشتباك عنيف بناحية (طاهر) وجنوب (جيجل) خسرت فيه قوات الاستعمار قتيلا، وغنم المجاهدون كمية ضخمة من الأسلحة والذخائر الحربية. 2 - وقعت قوة من (الجنود السنيغاليين) في كمين نصبه لها رجال المقاومة بناحية (القالة) فقتل (515) جنديا، ودمرت سيارة مدرعة. ب - أعمال الفدائيين: ألقى فدائي قنبلة يدوية داخل مركز عسكري ببلدة (فج مزالة) فأصيب ستة من الجنود الإفرنسيين بجراح بالغة. كما قتل فدائي أوروبيا بمدينة (عنابة) وتمكن من النجاة. ولاية أوراس آ - معارك واشتباكات: 1 - هاجم فريق من مجاهدي جيش التحرير معسكرا لقوات

الاحتلال قرب (الجبل الأبيض) واستمر القتال طوال الليل، وأسفر عن مقتل (45) جنديا فرنسيا وجرح (5) منهم. وغنم المجاهدون رشاشا ثقيلا (عيار 24) وكذلك غنموا (37) بندقية حربية وكمية كبيرة من الذخائر، واستشهد مجاهد وجرح خمسة. 2 - وقع اشتباك عنيف بين قوة من مجاهدي جيش التحرير والقوات الإفرنسية المدعومة بنيران المدافع الثقيلة والطائرات - بجبال أوراس - تكبدت فيه القوات الافرنسية خسائر كبيرة، وغنم المجاهدون (30) بندقية. 3 - وقعت معركة (بدوار المائدة - شرقي مدينة سدراته) واستمرت طوال ثلاثة أيام بين فريق من مجاهدي جيش التحرير وقوات كبيرة من الافرنسيين المدعومين بالمدفعية والطائرات، وأسفرت المعركة عن قتل (25) جنديا إفرنسيا وإصابة عدد كبير بجراح مختلفة، وأسقطت (4) طائرات إثنتان منها من نوع (موران) واثنتان من نوع (ب - 26). وأرغمت ثلاث طائرات أخرى على الهبوط اضطراريا في الملعب البلدي لمدينة (سدراته) وغنم رجال جيش التحرير كمية من المواد الطبية. 4 - وقعت قافلة عسكرية في كمين نصبه لها المجاهدون بمكان يدعى (الزيتونة) فقتل (25 جنديا إفرنسيا ودمرت (3) سيارات). 5 - وقع اشتباك قرب (بقرزة) إحدى نواحي (باتنة) فقتل فيه (7) جنود إفرنسيين وجرح (15) جنديا. ودمرت (3) سيارات نقل كبيرة (ج. م. س). 6 - نصب المجاهدون كمينا لدورية عساكرية تحملها (3)

سيارات بين (وادي الطاقة) و (تازملت) فدمرت السيارات وقتل كل من كان فيها. ب - أعمال الفدائيين: 1 - خرج قطار عن الخط الحديدي بين (سوق هراس) و (تبسة) بسبب تخريب قام به رجال المقاومة الذين لم يلبثوا أن أمطروا القطار بنيران رشاثاتهم لمدة (40) دقيقة، ولم تذكر الخسائر. 2 - هاجمت قوة من الفدائيين قرية (مسكيانة) واختطفوا (5) من جنود (القوم). ولاية وهران أ - معارك واشتباكات: 1 - نشبت معركة طاحنة بناحية (ندرومة) دامت ساعتين وأسفرت عن مقتل (25) جنديا إفرنسيا وجرح (5) آخرين. وغنم رجال جيش التحرير (3) بنادق رشاشة و (13) بندقية حربية (نوع 24). 2 - أخبرت محطة (طنجة) عن معركة دامية وقعت (بجبال تلمسان) دام فيها القتال عدة ساعات وقتل فيها (5) من الجنود الإفرسنيين، وجرح (30). 3 - وقع إشتباك بين مجاهدي جيش التحرير، وقوة عسكرية إفرنسية، بالقرب من قرية (فم الحصان) على حدود (موريتانيا) فقتل أثناءه عدد كبير من الجنود الافرنسيين. 4 - نشبت معركة قاسية بجبال (أولاد ميمون) بين قوات من مجاهدي جيش التحرير، وبين قوة إفرنسية كبرى مدعومة بالمدفعية

الثقيلة والطائرات. ونجح المجاهدون في إسقاط طائرة عمودية (هيليكوبتر) مات فيها (12) جنديا من جنود المظلات. 5 - وقع إشتباكان عنيفان غربي مدينة (تلمسان) قتل فيهما (8) جنود إفرنسيين، وأسر ثلاثة آخرون، وتحطمت لهم سيارة نقل كبيرة. ب - أعمال الفدائيين: 1 - ألقى الفدائيون قنابل يدوية داخل مقهى أوروبى بمدينة تلمسان، فقتل (27) أوروبيا، وجرح (24). 2 - هاجمت قوة من الفدائيين قرية (المشرية) وأضرموا النار في عدد من المتاجر الإفرنسية الكبيرة كما أحرقوا محطة لتوزيع البترول. وألقوا قنبلتين أمام (برج الحاكم العسكري). كما قذفوا داخل منزل موظف إفرنسي كبير، بقارورة من النفط، فتسبب كل ذلك بخسائر فادحة جدا لم يتم تقديرها. 3 - اختفى بعض الفدائيين في مزرعة أوروبية في إحدى ضواحي (وهران) بهدف إغتيال صاحب المزرعة، وعندما أقبل بصحبة الإفرنسيين، أطلقوا عليهم النار فقتل إثنان وجرح ثالث. 4 - ألقى فدائي قنبلة يدوية أمام صيدلية أوروبية (بوهران) فقتل الصيدلي وجرح ستة من الأوروبيين. وفي (وهران) أيضا قام فدائي بقتل جندي إفرنسي وجرح آخر. 5 - أطلق الفدائيون النار على (3) سيارات أوروبية قرب مدينة (بيريقو) فقتل معمران أوروبيان، وأصيب ثالث بجراح بالغة. كما قام فدائي بإطلاق النار على أوروبي في مدينة (وهران) فأصابه بجراح بالغة.

ج - إتلاف وتخريب: أضرم رجال المقاومة النار في ثلاث مزارع (بوهران) وفي مستودع (للحلفا) يميناء الغزوات فكانت الخسائر فادحة. كما أحرقوا مزارع أوروبية قرب (سيدي بلعباس). تبرز الصفحات القليلة السابقة إستراتيجية (المجاهدين الجزائريين) بكل أبعادها، فالعمليات التي تم عرض لمحة عنها تمثل نشاطا عاما، يمتد على الصفحة الجزائية للقطر الجزائري بكامله. وهي عمليات صغرى في معظم الأحيان، غير أن كثرتها كافية لإرهاق العدو، ووضعه تحت الحذر الدائم (إنها إستراتيجية وخز الإبر) التي تستنزف من قدرة العدو وروحه المعنوية بأكثر مما تحدثه العمليات الكبرى، وهي على صغرها أيضا تستنزف قوة العدو المادية، فقتل جندي أو عشرة جنود لا يشكل شيئا بالنسبة لحجم القوات الإفرنسية المضخمة، غير أن قتل جندي في كل مكان يشكل في المجموع العام رقما كبيرا لا يستهان به. وبهذه الإستراتيجيات المتداخلة والمعقدة (وخز الإبر) و (الاستنزاف) و (العزل) وقع (الثور الجريح) في حالة من الهياج، فراح يضرب ضرب عشراء، والأمر الذي زاد من موقفه سوءا. فعندما يتساوى الموت مع الحياة، يهرب الإنسان من الموت الأدنى إلى الموت الأعلى، من الموت من دون غاية أو هدف إلى السعي للموت من أجل غاية نبيلة وهدف شريف. وكان جيش التحرير (يمثل بمجاهديه وفدائيه ومسبليه) الغاية النبيلة والهدف الشريف فلا غرابة في أن تتعاظم قوات جيش التحرير الوطني باستمرار. وقد كان لهياج الثور الجريح (الإستعمار الإفرنسي) دور لا ينكر في دعم هذا التطور (على غير إرادة من الإستعماريين دونما شك أو ريبة).

معركة القلاب (1958)

5 - معركة القلاب (1958) (*) كان يوما من أيام شهر (أوت - آب - 1958)، وفي مكان يدعى (القلاب) على مقربة من مدينة (باتنة) حيث نصب المجاهدون كمينا لقافلة تموين عسكرية تحرسها دبابتان ونصف مزنجرة - هاف تراك - وقد إحتل كل مجاهد موقعه المحدد له وفقا للمخطط الموضوع: المدفع الرشاش (24) لإقتناص الدبابة الأمامية وقد تم تمركزه في موقع مرتفع يهيمن على الطريق الذي تسلكه القافلة، كما تمركز مجاهدان مسلحان ببندقيتين من نوع (قاران) لإقتناص الدبابة الخلفية. وانتشرت بقية قوة المجاهدين على حافتي الطريق، ومعظمهم يحمل الرشاشات القصيرة، وبما أن القوافل الإفرنسية لم تكن تتحرك إلا تحت حماية الطائرات، فقد أتقن المجاهدون تمركزهم، في الخنادق، ووراء الأشجار، وأجادوا عملية التمويه حتى كان من الصعب على أي مراقب ملاحظة أي شيء غير عادي في منطقة الكمين. وبينما المجاهدون في صمتهم وتحفزهم، دوى من فوقهم هدير

_ (*) المرجع: مجلة (المجاهد) 25/ 2 / 1959 بعنوان (معارك وأحداث).

طائرات الاستطلاع التي كانت تسبق دائما القوافل، واختلط ذلك بزمجرة محركات السيارات مؤذنة باقتراب قافلة العدو من موقع المجاهدين. وتوترت أعصاب الرجال الذين وضعوا أصابعهم على الزناد، وحبسوا أنفاسهم بانتظار اللحظة الحاسمة التي تنطلق فيها طلقات الأسلحة الآلية (الأوتوماتيكية) المكلفة بعزل الدبابتين الأمامية والخلفية. وفجأة، ارتفع صوت رامي الرشاش مجلجلا في وسط السكون المطبق (الله أكبر) وفي الوقت ذاته، انطلقت الطلقات من الرشاش (24) وهي تصفر بصوت حاد، وتنفست الرشاشات الصامتة الصعداء بعد طول انتظار ورافقتها كل الأسلحة مشكلة جوقة موسيقية متكاملة: نيران البنادق المختلفة، والقنابل اليدوية وهي تنهمر على سيارات العدو. وبوغت الجنود الإفرنسيون مباغتة كاملة، فارتفعت منهم صرخات الرعب وصيحات الاستغاثة بينما كانت سياراتهم قد تحولت إلى مشاعل ملتهبة. تقدم المجاهدون بعد ذلك فجمعوا الأسلحة التي رميت على الأرض، أو رقدت فوق جثث القتلى، وكانت دهشة المجاهدين مذهلة عندما بوغتوا وهم يجمعون الأسلحة بظهور أربع فتيات إفرنسيات خرجن من خندق وراء الطريق، لقد كن في القافلة، وليس هناك من يعرف كيف نجون من الرصاص والحريق. وتقدمت إثنتان منهن مرتعشات وصاحتا (لا تقتلونا! نحن نسوة! ..) وأجابهن مجاهد: (لا عليكن! نحن ثرنا لنحارب الرجال لا النساء!) هذا فيما كان مجاهد آخر يأخذ منهن السلاح الذي كن يحملنه عندها، وعندها فقط، لاحظ المجاهدون أن الدبابتين اللتين كانتا في مقدمة القافلة قد لاذتا بالفرار، متوجهتين إلى بلدة - سريانة - فحمل المجاهدون غنائمهم وانسحبوا مسرعين.

ولم تمض ساعة أو بضع ساعة، حتى زحفت إلى مكان الحادث قوات برية ضخمة تدعمها القوات الجوية واكتفت من المعركة بالانسحاب حاملة معها جثث القتلى الإفرنسيين الذين شوههم الحريق، واختلط رماد بعضهم بحطام السيارات. وأفسح المجال للطيران والمدفعية الثقيلة للانتقام، فصبت هذه الأسلحة حممها على الجبال والمداشر (القرى) القريبة من (القلاب). وقذفت عليها آلاف القنابل طوال ساعات من غير توقف. وترددت أصداء الإنفجارات بقوة حتى حسب المجاهدون أن كثيرا من القرى قد أبيدت وسكانها من عالم الوجود ولشد دهشتهم عندما اكتشفوا أن أضرار القصف لم تتجاوز حدود قتل بعض الحيوانات. تجمعت فئة من معمري بلدة (سريانة) في صباح اليوم التالي، وقامت بتظاهرة أمام مركز ضابط الناحية احتجاجا على مقتل جنودهم، ومقتل بعض المعمرين في الكمين (ولم يكن المجاهدون يعرفون حتى تلك اللحظة بأن القافلة كانت تحمل معها بعض المعمرين). وطالب المتظاهرون بالانتقام من المدنيين، فأذن لهم الضابط في أخذ الثأر من المدنيين الجزائريين العزل. ووعدهم بأنه سيعمل وجنوده على مطاردة (فرقة الفلاقة) التي تتجول في الناحية، وإلقاء القبض عليهم. أما المجاهدون، فقد ساروا طوال الليل حتى نزلوا بجبل (مستوى) الواقع إلى جنوب (باتنة) حيث توجد مواقعهم الحصينة وقواعدهم القوية. ومن هناك أرسل المجاهدون دورية إلى إحدى القرى المجاورة للاتصال هناك مع (موزع البريد) واستلام الرسائل التي كان من بينها رسالة بعث بها المسؤول في قسم الاتصال والأخبار

بتلك الناحية، يقول فيها: (علمت من مصدر مشتبه فيه بأن القوات الاستعمارية تستعد للقيام بعملية تفتيش واسعة النطاق بجبل -كاسرو - ويظهر لي أن هذه خدعة استعمارية قصد بها تضليلنا حتى لا نكون على استعداد، خذوا حذركم وكونوا على أهبة ...). شرع المجاهدون من فورهم بالعمل، فتزودوا بالماء والمواد التموينية وتنظيف الأسلحة وإعداد الذخائر، وكانت الريح في تلك الليلة شديدة عاصفة حتى كان من العسير أن يتحدث المجاهدون بعضهم إلى بعض، إلا بالصراخ وبالصوت المرتفع. وما أن أزفت الساعة الثالثة صباحا حتى كان كل مجاهد قد احتل مكانه، ونظمت الحراسة. وانصرف الآخرون لأخذ قسط من النوم والراحة. فكانوا يرقدون كالذئاب - عين مغمضة وعين ساهرة - واستلقى بعضهم على التربة الكريمة الطيبة وقد ضموا أسلحتهم الغالية إلى صدورهم. في تلك الليلة ذاتها، جمع الإفرنسيون كل ما قدروا على حشده من القوى والوسائط القتالية. فحشدوا عشرة آلاف جندي أرسلوهم تباعا بفرق صغيرة إلى الجبل لتنظيم حصار محكم حول (جبل مستوى) الذي اعتصم فيه المجاهدون. ولكن، وفي الوقت ذاته، قامت قيادة العدو بتنفيذ عملية خداعية، حيث أرسلت عشر دبابات نحو جبل (كاسرو) وتحركت هذه الدبابات بشكل علني مثيرة الكثير من الضجيح حتى تخدع المجاهدين وتقنعهم أن الإفرنسيين يوجهون حملتهم إلى جبل (كاسرو). وإمعانا في الخداع، فقد أرسلت القيادة الإفرنسية رتلا طويلا من عربات النقل الكبيرة التي سارت على طريق الدبابات ذاته، وأحصى مراقب المجاهدين عددها فكان (ثلاثمائة سيارة). غير أن المجاهدين اكتشفوا بسرعة أن تلك العربات كانت خالية فارغة، إلا

من سائقيها. وتأكد المجاهدون من حقيقة مناورة العدو الخداعية .... لقد كان من الصعب على العبقرية الافرنسية خداع هؤلاء المجاهدين الذين عمر الإيمان قلوبهم، وملأت الخبرة بأساليب العدو عقولهم. جمع قائد المجاهدين في (جبل مستوى) لمناقشة الموقف، وتم الاتفاق على خطة الدفاع، وعين لكل مجموعة من المجاهدين مواقعها، وأصدر للمجاهدين توصياته وتعليماته الأخيرة: (الاقتصاد بالذخيرة) ثم أعطاهم كلمة السر لليلة القادمة. بدأت خيوط الفجر الأولى في ملامسة رؤوس الجبال. وكانت أفواج المجاهدين الأربعة قد أنهت تمركزها. ولم تأزف الساعة السادسة صباحا حتى أقبلت الطائرات المقاتلة وهي تحلق فوق المجاهدين على ارتفاع منخفض حتى لتكاد تلامس رؤوس الأشجار، واستمرت طائرات الاستطلاع في جولاتها فيما كانت القوات الإفرسية تتابع تقدمها نحو المجاهدين وقد اتخذت تشكيل القتال: رماة الرشاشات القصيرة في النسق الأول، وخلفهم المشاة يحملون بنادقهم المتنوعة، ويأتي في النسق الثالث زمر المدافع الرشاشة وإلى جانبها زمر مدافع الهاون. كان لزاما على المجاهدين الامتناع عن إطلاق رصاصهم حتى اقتراب أعدائهم منهم لمسافة لا تزيد على الخمسين مترا. وكانت القوات الإفرنسية تتقدم بوجل وخطوات مترددة، تدفعها كالسياط أصوات القادة الإفرنسيين - إلى الأمام، تقدم (آفانس) وذلك بالرغم من حجم القوة الإفرنسية الكبير الذي ضم أكثر من عشرة آلاف مقاتل تدعمهم الدبابات والمدفعية الثقيلة والطائرات المقاتلة الحديثة.

وكان المجاهدون وهم في صياصيهم، يحبسون أنفاسهم في متابعة المشهد الذي يرتسم على الأرض، تحت سمعهم وبصرهم، وينتظرون اللحظة المناسبة .. ولم يكن من الصعب عليهم ملاحظة الحالة النفسية المتدهورة لقوات العدو، والتي عبرت عنها تحركاتهم المضطربة وأيديهم المرتعشة التي كادت تفلت الأسلحة وتتركها لتسقط على الأرض. دقت لحظة فتح النار، وانطلقت أصوات المجاهدين بالتهليل والتكبير (الله أكبر) و (العزة لله والمسلمين) و (لتحيا الجزائر) واختلطت أصوات المجاهدين بأزيز رصاصهم ودوي إنفجار قنابلهم، وسقط النسق الأول من القوات الإفرنسية بين قتلى وجرحى - وهم حملة الرشاشات القصيرة، وهيمن الذعر على الآخرين، فانبطحوا أرضا، حاول أحد الضباط تحريض جنوده على الصمود، ودفعهم إلى الزحف. فأردته رصاصة من رصاصات المجاهدين قتيلا على الفور. وكان في مواجهة أحد المجاهدين جندي من جنود اللفيف الأجنبي ومعه جندي آخر من أصل جزائري يعمل (ملقما - شارجور) وقد ألح هذا الجندي بإطلاق النار على المجاهدين، فكان لا بد لهؤلاء من الإهتمام بأمره. فعمل مجاهد على مشاغلته بالنار. بينما زحف مجاهد ثان من وراء الأشجار لتحديد موقع هذا الرامي، ولم يكن من الصعب إكتشاف مكانه بفضل النار المتدفقة من فوهة رشاشته، وما أن خر جندي اللفيف صريعا مقطع الحشى، حتى أخذ معاونه الجزائري (الملقم) في رفع يديه والتلويح بهما طالبا الإستسلام. ومنحه المجاهدون ما يريده من الأمان. وساد السكون بضع دقائق، حمل

أثناءها الجندي الجزائري سلاح رفيقه (الرشاش) وما تبقى من مخازن الذخيرة ومضى نحو إخوانه المجاهدين. غير أنه لم يكد يمضي لمنتصف المسافة القصيرة التي تفصله عن المواقع الحصينة للثوار المجاهدين، حتى إرتفعت أصوات بعض جنود اللفيف الأجنبي الكامنين قريبا منه وهم يصيحون به: (قف! قف! - آديت). وإلتفت الجندي الجزائري إلى مصدر الصوت، وأفرغ رصاصه، فعاد السكون من جديد، وصمتت الأصوات. ولكن لم يكد الجندي الجزائري يفرغ من عمله، حتى كانت طائرة استطلاع تمر من فوق رأسه، فرماها برصاص خزان كامل من رشاشه. إلا أنها قذفته بقنبلة - روكيت - مزقت جسمه وحطمت الرشاش الذي كان في يده. رأى المجاهدون قطع السلاح المتناثرة على الأرض، أو الراقدة على جثث قتلى الإفرسيين. فخرجوا من مكامنهم، وأسرعوا نحوها لالتقاطها، وكانوا خمسة من المجاهدين رغبوا في استبدال بنادقهم القديمة، بأسلحة حديثة، غير أنهم لقوا مصرعهم جميعا، وكانوا يعرفون مدى الخطر الذي سيتعرضون له عندما يغادرون تحصيناتهم، ويتقدمون إلى منطقة باتت حتما تحت مراقبة العدو، وتحت رحمة نيرانه. غير أن الرغبة في الحصول على سلاح أحدث وأقوى دفعتهم إلى التضحية بوجودهم في محاولتهم الخطيرة. وساد السكون بعد ذلك برهة من الزمن، أخذت بعدها قوات العدو في الإنسحاب، وإعادة تنظيم صفوفها، مفسحة المجال أمام الطيران والمدفعية الثقيلة الإفرنسية للاضطلاع بدورها في تدمير قوات المجاهدين وإنصب على الجبل سيل منهمر من القنابل المتنوعة.

قنابل محرقة وأخرى متفجرة وقنابل الغازات. فكان لا بد من الإنسحاب، وأخذ المجاهدون في الإستعداد لمغادرة هذا الجو الجهنمي، لاسيما بعد أن نفد الماء من المجاهدين، وتناقصت كمية الذخائر من بين أيديهم. وكان المجاهدون يعرفون أن قوات العدو قد شكلت سياجا أحاط بمنطقة القتال كلها. فكان لزاما تنظيم عملية إختراق لفتح ثغرة بين قوات العدو، والمرور منها. كلف الفوج الثاني بقيادة (سي بلخير) ليكون رأس الحربة في عملية إختراق خط النار، واصطدم الفوج بوحدة إفرنسية كانت تحرس الجهة التي إختارها (سي بلخير) للمرور منها. وجاءت بعد ذلك قوة الفوج الأول الذي كلف بنقل الجرحى وإخلائهم من أرض المعركة، وجاءت بعدهم بقية قوة المجاهدين الذين كثيرا ما اضطروا للاشتباك مع جند العدو بالسلاح الأبيض. وقد ذهل المجاهدون لحجم الخسائر التي تكبدها العدو، إذ كانت كل خطوة من خطواتهم تصطدم بجثة قتيل من قتلى الأعداء. ولما أظلم الليل، تجمعت أفواج المجاهدين في نقطة الازدلاف (مكان الإتصال) الذي تم الإتفاق عليه في الليلة الماضية. أخذ المجاهدون قسطا قليلا من الراحة، ثم عادوا أدراجهم إلى ميدان المعركة، للتعرف على الشهداء الأبرار، وأداء الواجب تجاههم بمواراتهم التراب. مضت على المعركة تسعة أيام عندما وصل إلى مقر قيادة مجموعة المجاهدين إثنان من المجاهدين وهما يحملان بندقيتين (من نوع ماص) وبارودة أمريكية (كارابين)، وأخبرا القائد بأن طائرة عمودية (هيليكوبتر) قد سقطت محترقة غربي جبل (مستون)

وأن ربانها - قائدها - ما زال حيا. فتوجهت دورية على الفور نحو المكان، ووجدت الطيار الإفرنسي وهو في حالة غيبوبة بعد أن نزفت دماؤه. وأركبه أحد المجاهدين بغلا، وقفل به راجعا، ولكن لم يبلغ الطيار مركز المجاهدين إلا وفارقته الحياة. ***

ماذا وقع بعد الكمين

6 - ماذا وقع بعد الكمين ... (*) وقع اشتباك عنيف بين ثلاث فصائل من جيش التحرير الوطني، وبين قوة صخمة من الوحدات الافرنسية المدعمة بالدبابات والمدفعية الثقيلة والطائرات قاذفات القنابل والطائرات العمودية (الهيليكوبر) وذلك على قمم جبال (ميمونة) غير بعيد من (بو سعادة). وعلى الرغم من إشتعال الأرض بنيران القنابل البكتريولوجية (الميكروبية) السامة التي لم يتورع أعداء الإنسانية عن إلقائها على المجاهدين، فقد إستطاعت قوات جيش التحرير أن تتفادى ضربات العدو، وأن تنزل به أفدح الخسائر، حيث سقط في ميدان المعركة مئات من جنود الإستعمار بين قتلى وجرحى، وفيهم عدد كبير من الضباط على رأسهم النقيب - الكابتن - (سينكا) كما تحطمت ثلاث قاذفات قنابل وطائرتان عموديتان، واحترقت جميعها في الجو بمن فيها. وقد استمرت هذه المعركة الرهيبة من طلوع الشمس إلى الساعة التاسعة مساء، حيث عاد الهدوء إلى ميدان المعركة، وساد

_ (*) المرجع: مجلة (المجاهد) 20/ 3 / 1959.

الصمت، إلا من الصراخ والأنين والأصوات الحزينة الشاكية تنبعث من جرحى الأعداء وهي تائهة مختنقة، وبينما كانت قوات المجاهدين تنسحب مبتعدة عن ميدان المعركة ظهرت الطائرات وهي تدوي بهديرها في وحشة الليل لترسل أنوارها الكشافة فتضيء السماء، وتساعد قوات العدو على إخلاء جرحاه وإحصاء قتلاه. وكان منظرا مثيرا قيام قادة الوحدات الاستعمارية بصب النفط على الجثث المبعثرة والرؤوس المتناثرة لقتلاهم ثم إشعال النار فيها، وكان باستطاعة المراقب البعيد أن يرى سفوح جبال (ميمونة) وهي تحترق بجثث الأعداء، في محاولة لإخفاء آثار الهزيمة المنكرة التي نزلت بهم. ... لم تقف قصة الكمين عند هذه النهاية، فإذا ما عجزت قوات الاستعمار عن مجابهة المجاهدين المسلحين فلا أقل من أن تنتقم من المدنيين العزل. وهكذا إتجهت وحدات العدو للبحث عن ضحايا بريئة تصب عليها نقمتها، وتثأر منها لهزيمتها، فوصلت عند العاشرة مساء إلى مضارب بعض البدو الرحل من قبيلة (أولاد سليمان) وهناك، جمع الرجال الموجودون في الخيام، وكانوا تسعة عشر رجلا، بينهم شيوخ عجز لا يستطيعون رفع أيديهم في الهواء، وبعض الشبان ثم طفلان عمرهما (14) و (15) عاما. وأراد جند الإستعمار أن يظهروا أمام هؤلاء المدنيين العزل شجاعتهم التي فقدوها في ميدان المعركة، فأخذوا يضربونهم بمقدم بنادقهم ويصيحون فيهم (أنتم فلاقة - عصاة) ثم أجبروهم على المبيت عراة طوال الليل، والبرد القارص يعضهم بنابه، ثم إقتادوهم

في الصباح إلى المركز العسكري في (دوسان) وهناك قسموهم إلى فئتين: فئة تضم الشبان الأقوياء وعدد أفرادها ستة شبان، وفئة تضم الباقين وعددهم أحد عشر رجلا. وبدأت عملية التعذيب بالوسائل التقليدية، حيث تعرضت الفئة الأولى (فئة الشبان) لكل أنواع التعذيب، من كهرباء وماء مضغوط وجلد وضرب مبرح، إلخ ... ثم أرغموهم على ارتداء الملابس العسكرية التي تظهرهم بمظهر جنود التحرير، وعين أقواهم بنية ليكون رئيسا لهم، ثم أمروهم برفع أيديهم في الهواء، وأخذت لهم الصور (التذكارية) على هذا الوضع. وكان الهدف من ذلك تغذية أجهزة الإعلام والدعاية الإستعمارية، والترفيه عن أرملة (الكابتن سينكا) التي كانت تشهد المنظر لتشفي غليل إنتقامها. ثم أخذوهم بعد ذلك، وطافوا بهم على سكان القرية - إمعانا في الإرهاب ونشر سياسة الرعب - ولم يتمكن مواطنو القرية المسلمون من إخفاء مشاعر السخط والإشمئزاز، لهذه الأساليب القذرة. وفي المساء، جمعوهم في ساحة مركز (دوسان) العسكري، حيث قيدت أيديهم وأرجلهم، وأطلق ثلاثة من الجلادين الإفرنسيين نار رشاشاتهم عليهم، ثم أفرغوا رصاص مسدساتهم في رؤوس هؤلاء الأبرياء. لم ينج أفراد الفئة الثانية (الشيوخ) من وحشية الإستعماريين الذين قذفوا بهم جميعا في حفرة ملؤها الماء الآسن الذي يصل حتى مستوى بطونهم. وراح جند الاستعمار بالترفيه عن أنفسهم وذلك بقذف هؤلاء الشيوخ بالحجارة، أو بغمر رؤوسهم بماء الحفرة، حتى إذا ما أشبعوا رغبة التعذيب الجنونية في نفوسهم المريضة. غيروا طريقتهم، وأخرجوهم إلى شمس الجنوب المحرقة، وأمروهم بجمع المعاول والرفوش المتناثرة في ساحة المركز، وطلبوا

(ليل الانتقام - كما تظهر في زاوية الصورة- بالافرنسية -)

إليهم حفر حفرة كبيرة. وكان صوت الحديد المرتطم بالأرض يختلط بأنين الشيوخ العجز الضعفاء، فيشكل لحنا حزينا يثير الأسى ويبعث الألم وعندما تجرأ أحد الشيوخ، وقد خارت قواه، فطلب جرعة ماء، يطفيء بها نار أحشائه، بادره جندي شجاع بلكمة قوية في بطنه قذفت به كالكرة وهو يتدحرج على أقدام إخوانه. وكلما نال الإعياء من هؤلاء الضحايا المعذبين، صاح بهم الجنود يأمرونهم بالإسراع في العمل وهم يوجهون إليهم الكلمات بالأيدي والرفس بالأرجل حتى نال الإعياء أخيرا من هؤلاء الجنود ذاتهم، فذهبوا للراحة، وأسلموا ضحاياهم إلى بعض الجنود (السنيغاليين) الذين أظهروا سخطهم على عمل زملائهم. وأبدوا نحو هؤلاء المستضعفين كثيرا من الرأفة والشفقة - باعتبارهم مسلمين مثلهم، وباعتبارهم خاضعين للاستعمار أيضا، فمكنوهم من الاستراحة، وقدموا لهم بعض الماء، وهذا كل ما كان باستطاعتهم عمله. جاء اليوم التالي، وسلك جنود الاستعمار طريقا جديدة للتعذيب، فحزموا ضحاياهم بأربطة من الأسلاك الشائكة على ظهورهم، وأمروهم بالسير (أمام أرملة - سينكا) وكانت الجراحات العميقة تخطط جلودهم. وقام أحد الجنود بإشعال النار في ذقن (لحية) شيخ وقور فيما وقف رفاقه المجرمون يقهقهون ضحكا على هذا المشهد الغريب ويطلقون تعليقاتهم الساخرة. وأعيد بعد ذلك الشيخ إلى حفرة الماء، حيث إلتهب جراحهم، واستمر تعذيبهم على هذه الصورة طوال خمسة أيام - لم يقدم لهم خلالها أي طعام ولا ماء. ولم تعرف لهذه القصة الحزينة نهاية.

معركة (عين الزانة - 1959)

7 - معركة (عين الزانة - 1959) يقع مركز (عين الزانة) على ارتفاع ألف وأربعمائة متر من سطح البحر. وقد اعتبر، لهذا السبب، أهم مركز على الجهة الشرقية، إذ يشرف على مساحة شاسعة تمتد من سهول (عنابة) إلى الحدود التونسية - الجزائرية. وقد نظم الإفرنسيون هذا المركز وكان يضم أربعة مبان أساسية هي: 1 - مبنى المنارة - الميرادور -. 2 - مبنى وحدة المغاوير (الكوماندوس) وفيه يقيم معظم الجند الإفرنسي بالمركز. وأغلبهم من اللفيف الأجنبي (الليجيون ايترانجير). 3 - مبنى القيادة، وهو عبارة عن مكتب قديم أقامه الإفرنسيون. 4 - مبنى ضباط الشؤون الأهلية (الساس)، وهو مزرعة إفرنسية كان يملكها المعمر (غراسيس) ونظرا لأهمية هذا المركز فقد قررت قيادة جبهة التحرير في المنطقة مهاجمته في الساعة (21و30د.)

_ (*) المرجع: مجلة (المجاهد) الجزائرية - 27/ 7 / 1959.

من ليل (13 جويليه - تموز - 1959). ويروي أحد منفذي العملية قصة المعركة بقوله: (ليس بوسعي أن أذكر أكثر من جانب واحد من جوانب العملية وهو الهجوم على المنارة. فقد توجهت إليها، وكان إلى جانبها خيمة فيها جنود إفرنسيون، وكنت أحمل معي مدفعا رشاشا عيار (12،7) وكانت المسافة الفاصلة بيني وبين الميرادور - المنارة - تبلغ نحوا من ثمانين مترا. وما أن حانت الساعة التاسعة والنصف ليلا، حتى كنا قد أخذنا مواقعنا، وكانت زمرة الهجوم تنتشر من أمامي وورائي ومعها مدفعان بازوكا وعلى جنبيهما مدفع عيار (57 مم). وما أن أخذنا مواقعنا حتى كانت بقية زمرنا قد حاصرت بقية المراكز حصارا محكما. وبقينا في مراكزنا ننتظر شارة بدء الهجوم. وما إن صدر الأمر حتى أطلقت نيران مدفعي الرشاش وانطلقت في الوقت ذاته قنابل المدفع (57) لتصب أهدافها في البناء. ولدى انطلاق النار، ظنت دوريات الحراسة الإفرنسية أن الأمر قد لا يكون أكثر من هجوم عابر بأسلحة لا يمكن أن تنال من قوة تحصينات البناء وقوته. وأنه لا يمكن لهذا الهجوم أن يصل إلى الملاجىء المحصنة والتي حفرت تحت الأرض. ودعمت بالجدران السميكة التي أحكم بناؤها بالاسمنت المسلح، وزودت بدفاع متين من المدفعية والدبابات وغيرها. ولذلك سمعنا أحد الجنود الإفرنسيين يقول لنا ساخرا: (تعالوا!! تعالوا!! وتقدمت بعد ذلك في اتجاهي دبابة ضخمة من الدبابات الحديثة والمسلحة بستة مدافع: (إثنان عيار - 12،7، ومدفع أمريكي عيار - 30 - ومدح 57 ومدفع عيار 75) فأشعل سائقها الضوء في وجهي على أمل أن يبهرني. ثم تقدم في اتجاهي حتى لم يبق بينه وبيني إلا خمسون مترا، ثم قال لي

بصوت تبينته بوضوح: (تعال يا بني، لا تضرب واصعد فوق الدبابة). فكان جوابي الوحيد هو أن أطلقت عليه 250 طلقة من مدفعي الرشاش دفعة واحدة - هي كل ما يحتويه شريط التلقيم -. وما أن توققت عن الرمي، حتى شاهدت الحريق يندلع في الدبابة، بسبب انفجار ما فيها من الذخيرة. وجاءت في أثر الدبابة المشتعلة مصفحة، فأحرقها مدفع (57). وأعقبتها سيارة - جيب - فيها أربعة جنود إفرنسيين فروا من فرقة حراسة (المنارة) فرميتها برصاص مدفعي الرشاش، فقتلوا جميعا على الفور، واشتعلت النار في السيارة، وسمعنا صوت سيارة أخرى، تبيناها فإذا هي سيارة (ج م. س) كانت تحاول الخروج من الحصار، فوجه إليها أحد المجاهدين طلقات مدفع عيار (30) وأصاب عجلاتها. ثم وجهت لها طلقات مدفعي الرشاش حتى أصبحت كلها طعمة للنيران، وآنذاك، وجهت الرمي إلى المنارة (الميرادور). فخرج منه جندي إفرنسي حاملا مدفعه الرشاش وهو يبحث عن موقع ممتاز، فبادرته بطلقات مدفعي، وحطمته مع مدفعه. ثم هجمت قواتنا على المخيم، فأسرع الجنود الإفرنسيون إلى التحصين بالملاجىء الأرضية، لكننا طاردناهم إلى تلك الملاجىء ودمرناها فوقهم، وماتوا من آخرهم. وإلى هنا، لم يسجل أي رد فعل من طرف العدو، ولعل قوة المباغتة هي التي شلت قدرتهم. ولكن ذلك لم يمنعنا من متابعة تنفيذ المهمة بحذر، وفي الواقع، فإنه لم تمض فترة طويلة حتى وجهت إلينا نيران مدفع رشاش (من نوع هوتشكيس) من نافذة بالمبنى الواقع فوق مخزن الأسلحة، فهاجمناه بالقنابل اليدوية، وقتلنا الجندي الإفرنسي، واستولينا على

ما كان معه من الذخيرة، ولما رأى العدو أن الرشاش (هوتشكيس) قد توقف عن الرمي، شرع بضربنا بقذائف مدفع هاون من عيار (40 مم) كان متربصا في أحد الملاجىء الأرضية التي لم نصل إليها بعد، فهاجمه جنودنا بالقنابل اليدوية، ودمروا الملجأ ومدفع الهاون. وعندما أراد مدفع هاون آخر أن يتابع الرمي ضدنا، دمرناه بقذيفة من مدفع (بازوكا). ما أن تم للمجاهدين - في هذا القطاع - تدمير الجهاز الدفاعي للعدو، حتى عثروا على ثلاثة مدافع كبيرة: واحد عيار (155 مم) وإثنان عيار (105 مم). ولما لم يكن باستطاعة المجاهدين أخذ هذه المدافع معهم، فقد عملوا على تدميرها بقذائف البازوكا، وبقنابل المدفع (57 مم). وبعد هذا وجهوا قذائف (الانيركا) إلى المخيم، فاشتعلت النار في كل شيء - ما عدا خيمة كان بها عدد كبير من الجنود الإفرنسيين - فأنذرهم المجاهدون بالخروج، ولما رفضوا الامتثال للأمر، قذفهم المجاهدون بقنابل (الإنيركا) أيضا، فاشتعلت فيهم النار مع الخيمة، وانفجرت جميع الذخائر التي كانت هناك. وعلى أثر هذا، أقبلت طائرتان قاذفتان (ب 26) وأطلقت الصواريخ المضيئة، فاغتنم قائد مجاهدي الهجوم على المنارة هذه الفرصة، وأمر بالهجوم العام على المخيم الذي ظهر واضحا كل الوضوح. ودخل المجاهدون إلى المبنى حيث عثروا على جثتي ضابطين (نقيب وملازم أول - كابتن وليوتنان). انتهى تنفيذ العملية في الساعة (00, 3) من صباح (14 جويليه - تموز) واستغرق تنفيذ المهمة فترة ساعتين تقريبا. وقد كان من العسير تقدير الخسائر التي نزلت بهذا القطاع من قطاعات

الهجوم. ولكن تكفي الإشارة إلى ما تكبده العدو أثناء عرض سير المعركة (تدمير الدبابة والمصفحة والسيارات والأسلحة) لتكوين فكرة عامة عن مبلغ الخسائر. ... عندما كانت زمرة الهجوم على المنارة (الميرادور) تنفذ عمليتها بنجاح، كانت هناك زمرة أخرى تقوم بالهجوم على مركز المغاوير (الكوماندوس). وقد وصف أحد المجاهدين الذين اشتركوا في التنفيذ ما قام به وزمرته بقوله: (أخذنا مواقعنا تجاه مركز المغاوير (الكوماندوس) وانتظرنا حتى تبدأ المدافع والرشاشات، رماياتها لنقوم بدورنا في توجيه نيراننا على أهدافها في معسكر العدو. وكان المركز محاطا بسياج من الأسلاك الشائكة. وما أن بدأت المدافع والرشاشات والبازوكا بضرب أهدافها حتى إشتعلت النيران فى المركز، وزحفنا هاجمين بعد أن فتحنا ثغرات في سياج الأسلاك الشائكة بواسطة الحشوات المتفجرة المستطيلة (البانغالور). وبالقرب من مدخل المركز، وجدنا الجندي الإفرنسي الذي كان يستعد لإطلاق نار المدفع، وهو جثة هامدة. كما وجدنا عددا كبيرا من الجنود القتلى، باغتتهم نيراننا عندما كانوا فارين في طريقهم إلى الملاجيء الأرضية المحصنة. ولم نسجل أي رد فعل من طرف العدو، باستثناء طلقة واحدة من مدفع رشاش، ما أن سمعنا مصدره حتى قضينا عليه فورا ولما اقتربنا من المدخل، أعطينا شارة إلى البازوكا، وانبطحنا أرضا، فهدمت قذائف البازوكا البناء القائم أمامنا. وتابعنا زحفنا وسط الدخان وألسنة اللهب، إلى أن دخلنا المركز. وقد تمكن بعض جند

العدو من الوصول إلى الملاجيء الأرضية المحصنة، فطاردناهم هناك بالمتفجرات ودمرنا الملاجيء فوقهم بقذائف الإنيركا. وهنا فاجأتنا طلقة من العدو، وجهت لنا من مدفع رشاش كان في أحد الملاجىء. وتمكنا من إسكاته على الفور. ثم حملنا معنا ما وجدناه من العتاد. واستمر تفتيش المركز وتدمير منشآته حتى الساعة الثالثة وعشر دقائق. ولم يغادر المجاهدون المركز - في هذا القطاع أيضا - إلا بعد أن تم لهم تدمير الجهاز الدفاعي للعدو. والقضاء على كل مقاومة فيه). ... وتحدث قائد الكتيبة عن هجوم زمرته على مبنى ضباط الشؤون الأهلية (الساس) بقوله: (في الواقع، إن الهجوم على مركز- الساس - قد كلل بنجاح كبير. ويعود السبب في ذلك - إلى حد ما - إلى أننا استصحبنا معنا أربعة من رجال - القوم - كانوا قد انضموا إلينا بعد أن فروا من هذا المركز بالذات، فهم من ثم يعرفون المركز ومواقعه ونقاط ضعفه بدقة تامة. وقد قالوا لنا، إن قائدهم الإفرنسي سبق أن قال لهم ذات يوم: لئن تمكن الثوار من الوصول إلى الملاجىء الأرضية فما علينا إلا أن نستسلم بدون دفاع. على هذا، بدأت بتنظيم قوة الهجوم منذ الساعة التاسعة مساء، فوضعت الزمر في مواقع مختلفة، وكانت المسافة التي تفصل بين المركز وبين أبعد زمر الانقضاض لا تزيد على الخمسين مترا. وهناك زمرة لم تكن تبعد عن المركز بأكثر من خمسة عشر مترا - حيث منارة المركز وهي غير المنارة التي سبق الحديث عنها -.

وضعت أمام المركز خمسة مدافع (بازوكا) على بعد خمسة عشر مترا من منارة (مركز الساس) ومدفعي هاون عيار (50) ومدفعين عيار (57) على بعد مائة وخمسين مترا. ووضعت النسق الأول من قوات الهجوم على بعد خمسة وعشرين متر وراء البازوكا، والنسق الثاني على بعد خمسين مترا والصف أو النسق الثالث على بعد مائة وخمسين مترا لمواجهة أي طارىء قد يظهر من الخلف. وبقيت أنتظر الأمر ببدء الهجوم. وعلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل بالضبط أعطيت الإشارة. فبدأت المدافع الرشاشة تقذف نيرانها طوال عشر دقائق، ثم بدأ الهجوم يتقدمه (حاملو الرشاشات - الرماة). كان أول رد فعل صدر عن العدو، هو إطلاق النار من رشاش (هوتشكيس) ومدفعين (عيار 24) مع قذف القنابل اليدوية وإطلاق نار البنادق، واستمر تبادل إطلاق النار حتى الساعة الثالثة إلا الربع، وإذ ذاك قمنا بالانقضاض عليهم، وكنا نفجر قنابلنا اليدوية في وجوههم. وأمكن لنا تدمير دفاع العدو بواسطة قذائف (البازوكا) ولم يبق إلا مدفع واحد (نموذج هوتشكيس) كان الرامي عليه مختفيا وراء نافذة، كان لا بد من تدمير الرشاش قبل كل شيء، ويقول قائد الكتيبة وهو يتابع حديثه: أصدرت أمري إلى أحد المجاهدين (واسمه علي) بحماية جنبي بمدفعه الرشاش، بينما أقوم أنا بمهاجمته، وأعطيت الأمر إلى الجنود بالإنبطاح أرضا، ثم تقدمت نحو النافذة، وأخرجت قنبلة يدوية، ونزعت عنها مسمار الأمان، وقذفتها عليه، فانفجرت في صدره. ثم قلت لجندي آخر (واسمه مسعود) أن يقتحم بناء المركز- من الباب - بينما كنت أنا أنظر من النافذة، وأفتش داخل

الغرف مستضيئا بمصباح يدوي - ولما تأكد لي عدم وجود أية مقاومة، أصدرت الأمر إلى النسق الثاني بأن يقطع السلك، ويتقدم زحفا نحو المركز، إلى أن يحتله، ودخلت أنا، ثم لحق بي المجاهدون الذين حاصروا المبنى من جميع الجهات، ووقفوا عند جميع نوافذ المركز، فطلبت أن يتبعني ثلاثة ويبقى الآخرون في الحراسة. في حين يبقى النسق الأول متمركزا في مواقعه. انتهت عملية احتلال المركز في الساعة (3,10) صباحا. وبدأت عملية جمع الوثائق، وحمل الذخيرة والعتاد. فحمل المجاهدون من مركز المنارة الصغيرة (الميرادور) التابعة لمركز (الساس) مدفع رشاش (هوتشكيس) وصندوق ذخيرة وثماني سلاسل من ذخيرة رشاشات (24).وعثر على مدفع 24 إلا أنه كان مدمرا بقذيفة بازوكا. كما كانت جميع الأسلحة وقد صهرت بتأثير الحرارة الشديدة الارتفاع. وحصل المجاهدون من مكتب ضابط (الساس) على وثائق هامة وبكمية جيدة. كما حصلوا على جهاز راديو ومسدس وبندقيتين حربيتين وكمية كبيرة من الألبسة. وكانت الأشلاء الممزقة في كل مكان كثيرا ما تعيق عملية البحث والتفتيش عبر الأنقاض المتهدمة، وقبل أن يغادر المجاهدون المبنى، أنزلوا العلم الإفرنسي، ورفعوا مكانه علم الجزائر، كما عملوا على إحراق سيارتين (ج. م. س) وسيارة جيب) .. ... بقيت بعد ذلك قصة الهجوم على مركز القيادة التي تتلخص بالتالي: (عندما أطلقت مجموعة المجاهدين المكلفة بالهجوم على هذا

المركز نيرانها وقنابل أسلحتها، التهمت النار مبنى القيادة، فلم يتمكن المجاهدون من اقتحامه , كما لم يقم العدو بأي رد فعل مباشر، واغتنم المجاهدون الفرصة، فعملوا على تدمير الملاجىء الأرضية المحصنة، ودمروا مدرعتين نصف مزنجرتين (هاف تراك) مسلحة كل واحدة فيها ثمانية مدافع رشاشة. كما التهمت النار مستودعات الذخيرة والوقود، مع تدمير مدفع هاون (120) مم. وكان عدد أفراد العدو في هذا المركز (620) جنديا تمت إبادتهم عن آخرهم. ... كان المواطنون الجزائريون - المدنيون - في قرية (عين الزانة) يتابعون باهتمام كبير المعركة. وما أن شاهدوا المركز وقد تحول إلى أنقاض وأكوام من التراب والحجارة والرماد حتى أقبلوا على مجاهدي جيش التحرير الوطني، يساعدونهم، ويعملون على إخلاء الجرحى والعناية بهم وعلاجهم، فأقاموا لهم المآدب في جو من الفرحة، بل أن فلاحا لا يملك إلا بقرتين، أبى إلا أن يذبحهما تكريما للمجاهدين في سبيل الله والوطن. لقد كلل الهجوم على (عين الزانة) بهذا النجاح الرائع، لأن قيادة جيش التحرير نظمت في الوقت ذاته مجموعة من الهجمات المنسقة على جميع المراكز القريبة منه: مثل (بوحجار) و (بوسردوك) و (عين كرمة) و (الساقية) و (لاكروا) و (غيران) الخ ... وبهذه الطريقة لم تتمكن هذه المراكز من التدخل أو دعم مركز (عين الزانة) الذي كان هو الهدف الأساسي من عملية هجوم يوم (14 - جويليه - تموز - 1959).

برهن مجاهدو جيش التحرير في عملية (عين الزانة) على حسن استيعابهم لتقنيات الأسلحة الجديدة واستخدامها بفاعلية ومهارة عالية، أما شجاعتهم في الهجوم فإنها لم تكن بالأمر الجديد عليهم، ولو أن سلوكهم الرائع في القتال، انتزع إعجاب قادتهم الذين أثنوا على مجاهديهم بما هم أهل له. ولقد بوغت الإفرنسيون مباغتة تامة لظهور الأسلحة الحديثة في قبضة الثوار وكانت المباغتة الأكبر لهم هي في استخدام هذه الأسلحة بمثل تلك الكفاءة. وقد ظهر ذهول المباغتة فورا على الافرنسيين الذي كانوا قد نشروا عشر دبابات على طول عشرة كيلومترات بالقرب من عين الزانة. وقد حاولت هذه الدبابات التدخل في بداية الأمر، لكنها ما أن سمعت أنواع الأسلحة المستخدمة، حتى أطفأت أنوارها، ولازمت جانب الصمت. كانت القيادة الإفرنسية تعرف أن مجاهدي جيش التحرير الوطني قد حصلوا على أسلحة حديثة، غير أن هذه القيادة لم تعترف بقدرة المجاهدين على استيعابها وحتى استخدامها، وجاءت عملية (عين الزانة) لتنذر القيادة الإفرنسية بالتطور الجديد، لا في مجال التسلح فقط، وإنما في مجال التخطيط للعمليات وتنفيذها وإدارة الحرب بصورة عامة. وشعرت القيادة الإفرنسية بخطورة التحول الذي ظهر في (عين الزانة) والتي تم تنفيذ عملياتها في منتصف فصل الصيف، حيث يقصر الليل، وحيث تكون كل الظروف الجوية والبرية مناسبة لتحرك القوات الإفرسية بأكثر مما تسمح به ظروف فصل الشتاء، حيث تقف الدبابات والمركبات عاجزة عن التحرك في المناطق الصعبة. لقد كانت معركة (عين الزانة) أكثر من مجرد هجوم ناجح:

إنها بداية مرحلة جديدة في حرب التحرير الجزائرية. فعلى مجال العمليات، تم استخدام طريقة (الحرب التشتيتية) وذلك بشن مجموعة من الهجمات الثانوية لعزل الهدف الذي يشكل (الهجوم الرئيسي) وحرمانه من كل دعم خارجي - وعلى المستوى التكتيكي، أظهر المجاهدون كفاءة عالية في استخدام الأسلحة والتعامل مع الأهداف المناسبة في الوقت المناسب وتحقيق التناسق بين حركة القوات، وعمل الأسلحة. وكان لا بد لفرنسا من أن تضع كل ذلك في تقديرها للمواقف الجديدة.

معركة الحوض 1959

8 - معركة الحوض (*) 1959 كانت مجموعة المجاهدين تسير في طريقها إلى (جبل الحوض) تحت سيل المطر المنهمر بغزارة، والليل مظلم موحش، وشعر المجاهدون بالتعب وهم يخوضون في الوحل الكثيف، ويحملون فوق أعبائهم ثقل ثيابهم المبللة. ولاح لهم أن موعد الفجر بات قريبا عندما وصلوا إلى مكان في الجبل، تغطيه الأشجار الكثيفة. فنظموا الحراسة من كل جانب، وعلى كل اتجاه، وانصرف من لا عمل لهم لأخذ قسط من الراحة والنوم. غير أنه لم تمض أكثر من فترة وجيزة حتى ارتفع صوت مجاهد من الحرس وهو يعطي أمره بالوقوف لرجل ظهر أمامه. وأسرع قائد المجموعة نحو مصدر الصوت ليستوضح جلية الأمر. فإذا به أمام رجل الحرس وقد أصدر هذا أوامره إلى رجل يقف أمامه: قف، ارفع يديك! وامتثل الرجل للأمر، وعاد رجل الحرس ينادي طالبا رئيس الحرس الذي قدم بدوره مسرعا. وتقدم قائد المجموعة ورئيس الحرس من الرجل الغريب، فوجدوه مدنيا - مواطنا جزائريا -

_ (*) المرجع - العدد 42 من مجلة (المجاهد) الجزائرية1/ 11/ 1959. (بتصرف) .

وعرفوه ... إنه أيضا من مجاهدي الناحية، وممن يعملون في عمل إداري في صفوف جبهة التحرير الوطني. وكان مع (الرجل الغريب) صبي يحمل في يده إبريقا من القهوة، وسلة (قفة) صغيرة يغطيها منديل. وسرعان ما اكتشف (الرجل الغريب) أنه يعرف رئيس مجموعة المجاهدين، فأقبل عليه يعانقه بدفء وحرارة، ومضى رئيس المجموعة وبرففته (الرجل الغريب) والصبي حامل القهوة إلى حيث ينتشر المجاهدون. طلع النهار، وجلس الجميع تحت شجرة كثيفة، يرتشفون جرعات القهوة الساخنة. ووجه رئيس المجموعة سؤاله إلى هذا الغريب - الذي لم يعد غريبا - وقال له: كيف حال الأخوان هنا؟ وأجابه الرجل: إننا والحمد لله بأحسن حال! وسكت قليلا، ثم أردف قائلا: لقد لمحتكم وأنتم تجتازون السهل الذي بجانبنا، فعرفتكم. وأظن أن حرس المراكز المجاورة لناحيتنا (دوارنا) من الناحية الشرقية قد شعر بكم أيضا، لأن هذا الحرس قد أسرع بالتحول عن مراكزه، واتجه نحو مركز (يوكس الحمامات). ولهذا فقد أسرعت أنا بدوري للقدوم عليكم وإعلامكم بذلك لتكونوا على استعداد للطوارىء. فشكره رئيس المجموعة على يقظته وحزمه. ثم استدعى على الفور ثلاثة جنود وجندي أول، وشكل منهم دورية أمرها بالتوجه إلى الناحية المشرفة على مركز (يوكس الحمامات). ثم أرسل دورية ثانية إلى ناحية (مسكيانة). وأتبع ذلك بإصدار مجموعة من التعليمات لتشديد الحراسة في عدد من النقاط الأخرى. وكان هذا المجاهد - المدني - ينظر بإعجاب إلى الجنود وهم ينفذون الأوامر بسرعة، رغم ما هم عليه من التعب الذي

حل بهم بعد عناء المسير الشاق، فالتفت نحو الصبي الذي كان يرافقه، وقال له: أرأيت يا بني! ما رأيك؟ قد تصبح جنديا، تدافع عن وطنك مع أبطال جيش التحرير الوطني؟ لا بأس. أنه عندما يكبر سيصبح جنديا يدافع عن حرية الجزائر. وهنا تدخل قائد المجاهدين وقال للرجل: (والآن يا أخى، يجب أن تذهب - مع الصبي - لأن المكان سيصبح هنا خطيرا. ولا ندري ما ستتمخض عنه الأحداث) وانصرف الرجل وابنه بعد وداع حار ومؤثر حمل كل صفاء المجاهدين وإخلاص الثوار الأحرار. لم تمض فترة طويلة على ذلك حتى عادت الدورية الأولى لتعلم القائد بأنها شاهدت أضواء خافتة لرتل طويل من المركبات يسير على طريق (يوكس الحمامات) وهو يتجه إلى حيث موقع المجاهدين. ولم يكن من الصعب عندها رؤية أضواء المركبات على البعد وهي تسير في وسط الضباب. وأسرع القائد، فأصدر أمره إلى المجاهدين باحتلال مواقعهم على القمم الأمامية المشرفة على الطريق، ولم يكن عدد المجاهدين يزيد على سبعين رجلا. احتل المجاهدون مواقعهم على الشكل التالي: رشاش خفيف (24) في الجناح الأيمن ومعه رشاشتان قصيرتان وخمس بنادق (موزير). وفي الجناح الأيسر احتل مجاهدو الفصيلة الثالثة مواقعهم بمثل هذا الترتيب. وتمركز الرشاش الثقيل (هوتشكيس) في الوسط. استمرت القوات الافرنسية في تقدمها تحت مراقبة المجاهدين الذين يتابعون تحرك أعدادهم بهدوء وصمت، فيما كان الضباط يتنقلون بين المجاهدين يزودوهم بأوامرهم وتوجيهاتهم وأهمها: عدم التحرك من المواقع إلا إذا صدرت أوامر مضادة، وعدم إطلاق النار إلا عند صدور الأمر بذلك.

أرسلت الشمس خيوطها الدقيقة من خلال سحب الضباب الرقيقة. وظهرت في الوقت ذاته ثلاث طائرات استطلاع قامت بالتحليق فوق رؤوس المجاهدين مرات متتالية، ويظهر أنها اكتشفت وجود بعض المجاهدين فأرسلت الشهب الدخانية نحوهم، موجهة بذلك رتل القوات الاستعمارية الذي كان يمعن في توغله مهتديا بتوجيه الطائرات له. حافظ المجاهدون على هدوئهم، ومكثوا في صمت تام ينتظرون الأمر بإطلاق النار. هذا فيما كانت قوات الإفرنسيين تتابع تقدمها نحو المجاهدين بحذر كبير حتى إذا لم يبق من مسافة تفصل بين المجاهدين وأعدائهم تزيد على عشرات الأمتار، صدر الأمر بفتح النار، وانطلقت النار دفعة واحدة من كل الأسلحة، وبوغت العدو بكثافة النار العالية الموجهة إليه، فبدأ بالتقهقر إلى الوراء تاركا فوق أرض المعركة عددا من القتلى والجرحى. وكان المجاهدون يتوقعون أن يعود العدو للهجوم بعد أن يعيد تنظيم قواته، غير أنه ذهب بعيدا في انسحابه، فأدرك المجاهدون على الفور بأن العدو يريد من انسحابه إفساح المجال أمام مدفعيته لتدمير قوة المجاهدين، بعد أن تأكد أن خسائره ستكون كبيرة إذا ما عاد إلى الهجوم وذلك بفضل الأسلحة الحديثة التي ظهرت مع المجاهدين، والتي لم يكن العدو يتوقع وجودها معهم. وهكذا، وبينما كانت قوات الافرنسيين تسرع في انسحابها، كان المجاهدون يسرعون بدورهم أيضا لتبديل مواقعهم. ولم تمض أكثر من دقائق قليلة حتى شرعت المدفعية فعلا في قصف المواقع التي كان يحتلها المجاهدون قبل قليل. ثم عادت القوات الافرنسية الى التقدم والزحف من جديد تحت حماية المدفعية، حتى كادت تقتحم على

المجاهدين مواقعهم. وهنا أصدر القائد أمره الى الجناح الأيسر بالتحرك إلى الناحية الغربية، كما أمر الجناح الأيمن بالتحرك الى الناحية الشرقية، ثم أصدر أمره إلى الفصيلة الوسطى بالتقدم قليلا نحو الأمام، وبذلك أصبحت قوات العدو مطوقة بشبه دائرة. وفي هذه اللحظة توقفت المدفعية الإفرنسية حتى لا تصيب بقذائفها جنود مشاتها. واقترب جند الطرفين بعضهم من بعض. وعاد المجاهدون ففتحوا نيرانهم الكثيفة بصورة مباغتة من الجناح الأيمن، فحاول الجنود الافرنسيون التراجع قليلا نحو اليسار فاسقبلتهم نار الفصيلة التي كانت تنتظرهم. وعندما حاولوا التقدم نحو الأمام، صدمتهم نيران فصيلة قلب الدفاع التي كانت لهم بالمرصاد. واستمر إطلاق النار من الجناحين ومن قلب الدفاع في وقت واحد. وأظهر المجاهدون خلال ذلك مهارة رائعة في تنقلهم، وسرعة مذهلة في تحركهم، وهم يقومون بحركات الالتفاف والانقضاض على أعدائهم. وأصيب الجنود الافرنسيون بالذعر لكثافة النار التي تنصب عليهم من كل جانب، فهيمنت الفوضى على تحركاتهم، وسيطرت الفوضى على مواقفهم وتنقلهم. إلا أن نجدات أخرى للعدو أخذت في التدفق من عدة جهات، (وخاصة من مسكيانة والعاتر وتبسه) واستطاعت هذه القوات الضخمة ضرب نطاق محكم من الحصار حول ميدان المعركة، فأصدر قائد المجاهدين أمره بتقسيم قوة المجاهدين إلى مجموعتين، تتولى مجموعة منهما الاضطلاع بواجب مجابهة النجدات وإعاقة تقدمها نحو مواقع المجاهدين، بينما تتابع المجموعة الثانية معركتها ضد قوات العدو التي تشتبك معها، واتسعت رقعة القتال، وامتد زمن المعركة على هذا المنوال

حتى أشرفت الشمس على المغيب وعندئذ بدأ المجاهدون في التخفيف من قواتهم المهاجمة لدعم القوات المدافعة والتي باتت محاصرة. وما إن أطبق الظلام حتى كانت قوة المجاهدين بكاملها موجهة نحو هدف واحد، هو فك الحصار المضروب على بعض المجاهدين، والخروج من أرض المعركة. وللوصول إلى هذا الهدف، دفع المجاهدون الرشاشات أمامهم، وانتشروا خلفها، ثم انطلقوا بانقضاض مباغت على العدو الذي كان يحكم الحصار، وكان الصدام دمويا عنيفا بحيث كان لهيب المعركة يزيد في قوته على كل الاشتباكات التي استمرت النهار بطوله. وبعد ساعة كاملة استطاع المجاهدون شق طريقهم بنيرانهم وبقوة حرابهم، وكبدوا العدو خلال ذلك خسائر فادحة لم يتمكنوا من إجراء إحصاء لها، بسبب الظلام الشديد. ما إن ابتعد المجاهدون عن خط النار حتى توجهوا إلى (جبل بو خضرة) الذي لم يبلغوه إلا عندما طلع النهار. وارتفع قرص الشمس في السماء حتى إذا ما بلغ وقت الضحى، أقبل المواطنون - المدنيون - يحملون إلى المجاهدين الطعام والماء، ويعملون على مساعدتهم في تضميد جراح الذين أصيبوا بها - خاصة - أثناء فك الحصار. وهنا واجهت المجاهدين مشكلة كان من الصعب عليهم حلها، فقد حملوا معهم أثناء انسحابهم الأسلحة التي غنموها، وكانوا يرغبون في توزيعها على هؤلاء - المدنيين - الذين كانوا يطلبون بإلحاح تجنيدهم وتسليحهم إلا أن عدد المتطوعين كان أكبر من عدد الأسلحة. وكان من يحرم من السلاح يشعر بأن مجاهدي جيش التحرير يفضلون عليه من يقبلون تطوعه لقد كانوا جميعا بشوق لحمل السلاح، وكلهم تملؤه الحماسة للجهاد، غير أن قلة

الأسلحة لا زالت مشكلة تعيق تطور جيش التحرير الوطني. جلس الجميع لتناول الطعام. وقال القائد لمجاهديه: (أرأيتم أيها الإخوان؟ إن الشعب كله يريد التطوع، وهو يغبطكم على شرف حمل هذا السلاح الذي تمسكونه بأيديكم. وهذا هو والله -النصر الحقيقي!).

معركة عنابة 1959

9 - معركة عنابة (*) 1959 وقعت معركة عنابة يوم (24 جوان - حزيران - 1959) وما إن ظهرت تفاصيلها الأولى حتى تناقلتها وكالات الأنباء العالمية، واطلع عليها العالم أجمع في دهشة وإعجاب. ولم تتمكن القيادة الإفرنسية، هذه المرة، أن تتستر على هذه المعركة لأنها وقعت في ضاحية من ضواحي (عنابة) ولأن المدنيين من جزائريين وإفرنسيين، كانوا يتابعون بأبصارهم نيران اللهب والطائرات المتساقطة والفوضى التي هيمنت على القوات الإفرنسية بسبب ما أصابها من ذعر. كما كانوا يسمعون ضجيج المعركة الصاخب طوال اثنتي عشرة ساعة وكان من بين الذين شاهدوا المعركة من ميناء (عنابة) ضابط بحرية بريطاني، ولما شاهد عنف المعركة، ووفرة عدد الجنود الإفرنسيين، والاستعدادات الضخمة سأل شخصا كان بجانبه: كم عدد الثوار الذين تحاربونهم الآن؟ فأجابه الآخر: يقال أن عددهم حوالي السبعين، فابتسم الضابط البريطاني ابتسامة سخرية، وقال معلقا: إذن فإن باستطاعة حلف شمال الأطلسي

_ (*) المرجع: مجلة (المجاهد) الجزائرية -العدد 46 - 13/ 7/ 1959.

الاعتماد على الجيش الإفرنسي - ضد الاتحاد السوفييتي. وتلك هي بعض ملامح المعركة كما وردت في تقرير أحد الأبطال الذين عاشوا تجربتها: (هي فرقة من مغاوير (كوماندوس) جيش التحرير الوطني، لا يزيد عدد أفرادها على الستين رجلا، كلفتها قيادة جيش التحرير بتنفيذ مهمة في (عنابة)، غير أن العدو اكتشفها قبل أن تصل إلى هدفها، وذلك عندما وصلت إلى مسافة تبعد ثلاثين كيلومترا عن مدينة (عنابة) وكانت الساعة (10 , 19) مساء وما أن اكتشف الافرنسيون أمر هذه القوة حتى أخذوا في تنظيم حصار محكم حولها، ودفعوا لهذه الغاية (فرق القوم والحركة) و (فرق اللفيف الأجنبي) و (فرق المظليين - أصحاب القبعات الحمر والخضر) و (الفرقة الرابعة عشر للمصفحات) و (وحدات أخرى مختلفة من الشرطة - البوليس) و (س. ر. س) وقد اسقدمت هذه الفرق من (قالمة) و (سوق السبت) و (قسنطينة) و (سطيف) و (سكيكده) و (واد العنف)، بل إن بعضها استقدم من جنوب ولاية وهران بواسطة الطائرات. وقد عمل الإفرنسيون طوال الليل من أجل إعداد هذه القوات وزجها بأعدادها الضخمة والتي بلغ مجموعها ثلاثة وعشرين ألف جندي تقريبا، كل ذلك لتنظيم حصار حول ستين رجلا. لم تبق فرقة المغاوير - الكوماندوس - متوقفة عن كل نشاط طوال الليل، فواصلت سيرها داخل دائرة الحصار المضروب حولها، متوجهة إلى مدينة (عنابة) وكلها عزم وتصميم على تنفيذ واجبها مهما كان الثمن، ولم تحاول الرجوع إلى الوراء بالرغم من أنه كان باستطاعتها الإفادة من ظلمة الليل لاختراق الحصار والعودة إلى

قواعدها. وفي الساعة الرابعة من صباح يوم 24 جوان - حزيران - وصلت إلى ضاحية (سيدي سالم) من ضواحي مدينة (عنابة) وأشرقت عليها الشمس قبل أن تدخل المدينة، فتمركزت في مزرعة مشجرة محصنة يقع (وادي سيبوس) من ورائها. ثم نظمت مواقعها الدفاعية، ووضعت خطة خروجها من الميدان، وحفرت الخنادق لأنها كانت تعرف جيدا ما - يواجهها من عتاد حربي وتنوع، ومن أسلحة مختلفة (طيران، مدفعية ثقيلة، مدرعات، الخ ...) واستعدت فرقة المغاوير - الكوماندوس - لمواجهة العدو استعدادا كاملا. انصرف العدو، بعد شروق الشمس، الى البحث عن آثار فرقة المغاوير - الكوماندوس - حتى أمكن له تحديد موقعها في الساعة السادسة صباحا. وحدث أول اشتباك بالنيران، وسقط النسق الأول من القوات الإفرنسية، ومعظم أفراده قتلوا، ثم تراجع الباقون على أعقابهم. وتأكدت القيادة الافرنسية من مكان تمركز المغاوير، فراحت تقذفه بقنابل المدفعية الثقيلة طوال ساعتين (من الثامنة حتى العاشرة) توقف القصف بعدها. وشرعت القيادة الإفرنسية في توجيه الهجوم ضد مواقع المغاوير الجزائريين. وكانت القوات الإفرنسية المهاجمة قد انتظمت على شكل أنساق متتالية: النسق الأول ويضم (فرق القوم والحركة). والنسق الثاني ويضم (فرق اللفيف الأجنبي). ثم النسق الثالث، ويضم (جنود المظلات). وبعدها تأتي أنساق بقية القوى. كانت فرقة مغاوير جيش التحرير الوطني تملك من الأسلحة ما يساعدها على مواجهة مثل هذا الهجوم بقوة وفاعلية، فقد كان معها

(24) رشاشة. ومدفع هاون وبازوكا و (4) مدافع رشاشة، والباقي بنادق حديثة. وكانت القيادة الافرنسية تعرف أن جنودها قد يترددون في مواجهة نيران جيش التحرير، ولهذا راحت تضرب مؤخرتهم بقنابل المدفعية الثقيلة حتى تجبرهم على التقدم والهجوم، وحتى لا يجدوا أمامهم مجالا للفرار. وكان كلما تقدم نسق من أنساق القوات الافرنسية حصدته نيران مغاوير جيش التحرير، وأبادت معظم أفراده. فتناثرت جثث القتلى في كل مكان. ولم يجد الجنود القلائل الذين نجوا من الموت في أنفسهم ما يكفي من الجرأة لمتابعة الهجوم، فانبطحوا أرضا، وتظاهروا بالموت، لأنهم لم يكونوا قادرين على الانسحاب نحو الخلف حيث كانت قنابل المدفعية الإفرنسية تحاصرهم وتمنعهم من التراجع. واستمرت موجات الهجوم في التتابع طوال ساعتين كاملتين، وتأكدت القيادة الإفرنسية عندها من عقم الهجوم، وعدم الفائدة من متابعته أو تطويره. فأخذوا في الإعداد لقصف موقع المغاوير الجزائريين بقنابل الطائرات، ولكنهم عملوا قبل زج الطيران، على إرغام المدنيين الجزائريين على إخلاء قتلى الإفرنسيين وجرحاهم وذلك حتى لا تضربهم نيران المغاوير الجزائريين. تدخل الطيران بعد ذلك، وراحت قنابله الثقيلة تدق الأرض دقا عنيفا، ومع ذلك، استطاع المغاوير إسقاط ثلاث طائرات (واحدة من نوع ب - 26 والثانية من نوع ت - 6 والثالثة طائرة استطلاع) وقد شاهد جميع المدنيين - جزائريين وإفرنسيين - الطائرات الافرنسية وهي تتهاوى طعمة للنيران. وبعد هذه الموجة من الهجوم الجوي، عادت القيادة الافرنسية الى تنظيم هجوم جديد بقواتها البرية. لكن

جنود اللفيف الأجنبي التابعين للفيلق الأجنبي المتمركز في (شابو جاندارم) رفضوا القتال، وألقوا بأسلحتهم أرضا، فقتل قادتهم الإفرنسيون أربعة منهم لإرغامهم على القتال. وبالرغم من ذلك فقد أصروا على الرفض، ولما تأكدت القيادة الإفرنسية أن الفشل قد نزل بقواتها، وأن الذعر قد هيمن على جنودها، وأنها لم تعد قادرة على إرغامهم - بأي حال من الأحوال - على خوض المعركة من جديد، قررت استئناف عملية القصف الجوي، إلا أنها استخدمت في هذه المرة الغازات الخانقة، فبلغ مجموع من استشهد من مغاوير جيش التحرير ثلاثة وثلاثون مجاهدا. أما الباقون، فقد تمكنوا من الانسحاب بعد أن عم الاضطراب صفوف القوات الإفرنسية. كان من الصعب جدا إحصاء خسائر الإفرنسيين ومعرفة عدد قتلاهم بدقة، وقد أكد المدنيون الجزائريون الذين أرغموا على نقل جثث القتلى أن عدد هؤلاء يزيد على بضع مئات (ما بين قتلى وجرحى). ولعل ما يؤكد الحجم الكبير للخسائر الإفرنسية في الأرواح، هو إقدام القيادة الإفرنسية على تخصيص أربع عشرة سيارة من سيارات الاسعاف لاخلاء الجرحى (عشر منها عسكرية وأربع مدنية) بالإضافة إلى تخصيص ثلاث طائرات عمودية (هيليكوبتر) لإخلاء الجرحى. وكذلك تخصيص ست مركبات كبيرة (من نوع ج. م. س) لإخلاء القتلى. أما في مجال الخسائر المادية، فبالإضافة إلى الطائرات الثلاث التي أسقطت محترقة، تمكن المغاوير من تدمير دبابة بنيران البازوكا - في بداية المعركة. ***

تلك هي بعض ملامح معركة (عنابة). وقد كانت هذه المعركة البطولية الرائعة، مناسبة جديدة، أكد فيها جيش التحرير الوطني الجزائري تفوقه في ميدان الصراع المسلح، كما برهن فيها المجاهدون على قدرتهم في استيعاب الأسلحة الحديثة وكفاءتهم العالية في استخدامها. واكتسبت معركة عنابة أهمية خاصة بسبب وقوعها في فترة كانت أجهزة الجمهورية الخامسة (حكومة ديغول) العسكرية منها والإعلامية والسياسية تزعم أنها في سبيلها إلى (تهدئة البلاد). فظهر للعالم أجمع أن الجزائر الثائرة هي أبعد ما تكون عن التهدئة بالوسائل القمعية. واكتسبت معركة عنابة أهمية خاصة أيضا لأنها وقعت في فترة حرجة كانت فيها حكومة ديغول تحاول الاعتماد على مراكز قوى تبادلية يمكن لفرنسا الاستعمارية أن تتفاهم معها - ضد جبهة التحرير الوطني - المتصلبة - على حد زعم الافرنسيين، فجاءت معركة عنابة لتبرهن للجميع بأن جبهة التحرير الوطني (وجيش التحرير الوطني - الجهاز التنفيذي للجبهة) هي القوة الوحيدة التي يمكن لها تقرير حق الجزائر في مستقبلها - بالحرب أوبالسلام -. وكان لمعركة عنابة أهميتها الخاصة أيضا لأنها جاءت في فترة، حاولت فيها حكومة ديغول التنكر لكل العوامل التي أدت الى الثورة، ودفعت شعب الجزائر المجاهد لحمل السلاح، فظن ديغول - وحكومته - أنه يستطيع عن (طريق إقامة بعض المشاريع الصناعية والاقصادية) امتصاص نقمة الشعب الجزائري، فراح يشجع رؤوس الأموال الإيطالية على المساهمة في إقامة (معمل عنابة)، وانصرف إلى وضع مشروع (قسنطينة) لتطوير الولاية التي كانت

مهدا للثورة. وجاءت معركة عنابة لتحبط كل المشاريع الوهمية، ولتسقطها دفعة واحدة. وكان المدنيون الإفرنسيون - المستوطنون - وسواهم من الأوروبيين - يعتقدون حتى ذلك اليوم أن باستطاعة الجيش الافرنسي فرض وجوده والسيطرة على الموقف - إذا ما أراد ذلك - ولكن هؤلاء شاهدوا بأعينهم البرهان على ضعف الجيش الافرنسي المتفوق ماديا بالقوى والوسائط، وتأكدوا من تفوق جيش التحرير الوطني معنويا والذي بات يمتلك من الوسائط ما يؤهله ليكون متفوقا ماديا أيضا. وباتت قضية حسم الصراع لمصلحة الثائر الجزائري قضية زمن لا أكثر. وكانت معركة عنابة نقطة من نقاط الانعطاف الحاسمة في تطور (جيش التحرير الوطني الجزائري).

عام الانتصارات (1960)

10 - عام الانتصارات (1960) (*) مضت خمسة أعوام على بداية الثورة وهي تسير قدما، بتصميم وثبات، نحو النماء والتعاظم، حتى إذا ما بدأت السنة السادسة من عمر الثورة، مع بداية سنة 1960، أصبح باستطاعة جبهة التحرير الوطني وجهازها التنفيذي (جيش التحرير الوطني) السير بخطوات أوسع نحو النهاية الحتمية لخط الثورة. فكانت سنة (1960) بحق (سنة الانتصارات) على كل الصعد والمستويات. وبصورة خاصة منها صعيد (الصراع المسلح). وقد يكون من العسير رسم لوحة شاملة لهذا التطور. إلا أنه ليس من الصعب تكوين فكرة عامة من خلال استقراء ملامح بعض المعارك الذي جرت في ناحية محدودة (من نواحي بني صالح) خلال مدة وجيزة لا تزيد على الشهر وبضعة أيام. ... في صبيحة يوم 31 - اكتوبر - تشرين الأول - 1959. قامت

_ (*) المرجع: مجلة (المجاهد) الجزائرية، العدد 59 - 11/ 1 / 1960.

كتيبة من كتائب جيش التحرير كانت مقيمة بنواحي (بني صالح) بإرسال دورية استطلاع، وعندما عادت الدورية أفادت بأن هناك وحدة من الجيش الافرنسي تضم ثلاثين جنديا تقريبا، قد توقفت في الجبل المقابل، فسار مجاهدو الكتيبة على الفور، سالكين الشعاب الضيقة والدروب الصعبة حتى لا يشعر العدو بحركتهم. وعندما وصلوا إلى مسافة قريبة من العدو، نظموا قوتهم، وضربوا نطاقا حوله. ويظهر أن العدو لم يكن يتوقع ظهور المجاهدين في تلك الناحية، ولهذا أهمل ترتيبات الأمن، وانتشر أفراده فوق الأرض وقد ربطوا خيولهم إلى جانبهم. وبعد أن أحكم المجاهدون الحصار حول أعدائهم. أطلقوا نيرانهم كلها دفعة واحدة، فلم يتمكن الجنود الافرنسيون من إبداء أية مقاومة، وحاول بعضهم الفرار فصرعتهم رصاصات المجاهدين المحكمة. وما هي إلا ربع ساعة حتى كان المجاهدون يغادرون أرض المعركة التي امتلأت بجثث المرتزقة الاستعماريين، ومعهم خيول العدو وأسلحته. وبعد فترة قصيرة، بدأت نجدات العدو بتطويق الناحية من كل جانب، وامتلأت السماء بالطائرات المتعددة الأشكال (من ب 26 وموران والطائرات المطاردة وطائرات الاستطلاع) كما أخذت (18) طائرة عمودية (هيليكوبتر) بإنزال قوات إفرنسية فوق قمم الجبال، في حين كانت الأرض تهتز بالقنابل المتساقطة من كل مكان، واشتعلت الغابة بقنابل النابالم التي كانت الطائرات تلقيها من غير توقف حتى أصبح الجبل كله مشعلا من اللهب الحارق، ولكن المجاهدين الذين كانوا يعرفون شعاب الجبل الخفية ودروبه السرية، لم يعبأوا كثيرا بما يحيط بهم، وأمكن لهم الخروج من دائرة الحصار بعد أن خاضوا اشتباكا رهيبا مع إحدى وحدات العدو كبدوها فيه (65) قتيلا، بحسب اعتراف

الضباط الافرنسيين ذاتهم. واستطاع المجاهدون فتح الثغرة، والمرور بين قوات العدو، واستشهد منهم (7) مجاهدين خلال عملية فتح الثغرة كما أصيب خمسة آخرون بجروح مختلفة. ... وفي يوم 6 تشرين الثاني - نوفمبر - 1959. وقعت معركة أخرى في (بوغنبوز) حيث كانت فرقة من فدائيي جيش التحرير الوطني مدعم بفوج من المجاهدين - جند جيش التحرير - ومعهم م فع هاون ومدفع رشاش ثقيل، وهم يتمركزون جميعا في المنطقة. ولاحظت عناصر استطلاع هذه القوة أن هناك دورية استعمارية تنتقل في المنطقة دون أن تلاحظ هذه وجود قوة جيش التحرير. فانتظر المجاهدون حتى الساعة السادسة مساء (1800) وبدأوا تحركهم في اقتفاء أثر الدورية الافرنسية. وكان تحرك المجاهدين بصمت تام وحذر شديد حتى وصلوا إلى منطقة مكشوفة (عارية من الأشجار) يحيط بها الجبل من كل جهاتها، وفيها بركة ماء توقفت عندها الدورية الإفرنسية، وانصرف أفرادها للراحة من عناء السير المستمر طوال النهار، وأخذ جند الدورية بغسل وجوههم، دون الالتفات إلى ما حولهم، حيث كان المجاهدون يتابعون تقدمهم حتى وصلوا إلى مسافة لا تبعد عن أفراد الدورية بأكثر من ثمانين مترا تقريبا. وفجأة، فتحوا عليهم نار أسلحتهم الآلية - الأوتوماتيكية، وقذفوهم بقنابل الهاون والقنابل اليدوية، فأصيب أفراد الدورية الإفرنسية بالهلع، وتعالت صرخاتهم مختلطة بدوي الانفجارات ولعلعة الرصاص وأنين الجرحى واستغاثات المصابين، وكان الجرحى يتوسلون إلى رفاقهم بألا يتخلوا عنهم، أو يهربوا ويتركوهم. وعندما حاولت المدفعية الإفرنسية التدخل لدعمهم، وقعت قنابلها على القوات الإفرنسية

دراسة مخطط المعركة - تصميم وفكر وعمل.

التي كانت قادمة لنجدة الدورية المحاصرة. وتابع المجاهدون مهمتهم، وحملوا الأسلحة الكبيرة التي غنموها من معركتهم، وانسحبوا بعد أن كبدوا العدو (23) قتيلا و (12) جريحا. ولم يصب أحد منهم بأذى، وأمكن لهم النجاة سالمين بالرغم من وفرة قوات العدو التي أخدت في البحث عنهم. ... وفي يوم 23 تشرين الثاني - نوفمبر - 1959. خاض المجاهدون معركتين (في عين القصبة) و (تافر) وكان النصر حليفهم في المعركتين. سارت قوة من المجاهدين متوجهة نحو هدفها حتى وصلت الى مرتفع (القروم الأكحل) وصعد مراقب من هذه القوة إلى صخرة مرتفعة عالية تشرف على المنطقة كلها، وأخذ ينظر باحثا من خلال عدسات منظاره المقرب على أمل العثور على ضالته المنشودة، والتي أخبرته عن وجودها في المنطقة مصلحة الاستعلامات في قيادته، ولم يطل البحث به كثيرا فقد كشف له المنظار عن وجود تحركات للعدو فوق مرتفع (عين القصة) والذي كان يبعد عن نقطة مراقبته مسافة لا تزيد على الميلين فقط. ولما كان وجود العدو فوق هذا المرتفع يعيق مجموعة المجاهدين عن تنفيذ المهمة المحددة لها. فقد عمل قائد قوة المجاهدين على تقسيم قوته إلى وحدتين وكلفهما السير على اتجاهين مختلفين للوصول إلى المرتفع وعند الاقتراب منه، تابع المجاهدون تقربهم زحفا وبوثبات قصيرة، حتى لا تكتشف وجودهم وحدة معادية أخرى، كانوا قد مروا بها في طريقهم قبل ذلك. وكان الوقت ظهرا عندما وقع الاشتباك القصير والحاسم، والذي أسفر عن قتل ثمانية جنود للعدو، وجرح أربعة

آخرين، وأصيب مجاهد بجرح بسيط. وانسحبت قوة المجاهدين بسرعة قبل قدوم النجدات الإفرنسية التي لم تكن بعيدة عن موقع الاشتباك (في عين القصبة). وسار المجاهدون على الطريق المؤدي إلى (تافر). وقبل الوصول إلى مفترق الطرق هناك، لاحظ المجاهدون آثارأ تشير إلى وجود قوة إفرنسية، وأدرك المجاهدون على الفور أن هذه القوة قد نصبت لهم كمينا عند مفترق الطرق. وأفاد المجاهدون من معرفتهم الدقيقة لكل شبر من الأرض بقدر ما أفادوا أيضا من معلوماتهم الدقيقة عن قوات العدو في المنطقة وتحركاتها، ولهذا انسحبت قوة المجاهدين إلى الخلف قليلا، تحت حماية الرشاشات التي اختارت مواقع مناسبة لها للعمل ضد قوات الكمين فيما إذا حاولت التدخل. وأقام المجاهدون بدورهم كمينا غير بعيد عن المنطقة، ولم يطل بهم الانتظار فقد أقبلت قوة إفرنسية من الاتجاه المقابل نحو موقع الكمين وفتح عليهم المجاهدون نيرانهم الكثيفة والمركزة، فأسقطوا الأنساق الأولى منهم وأرغموهم على التراجع بعد أن دمروا بنيرانهم أيضا قوة الكمين الإفرنسي. وانسحب المجاهدون تاركين وراءهم عشرات القتلى والجرحى، وعادوا الى مركزهم الأصلي من غير أن يصاب أحدهم بأذى .. ... وكانت قد وقعت معركة كبيرة في أوائل شهر تشرين الثاني - نوفمبر- 1959 عند الجهة الغربية من (واد - سودان) وقد يكون من المناسب الإشارة إليها باعتبارها من أهم المعارك التي وقعت في هذه الناحية خلال تلك الفترة. وقد اشتركت في المعركة فرق متعددة من جيش التحرير وكانت بداية المعركة عندما نصبت كتيبة من

كتائب جيش التحرير كمينا لقوة إفرنسية، وأسفر الكمين عن قتل أربعين جنديا إفرنسيا، ثم بدأت القوات الإفرنسية في التدفق من كل مكان حتى بلغ عدد أفرادها نحوا من أربعة آلاف جندي، تدعمهم الدبابات ونيران المدفعية الثقيلة وتحميهم الطائرات. وقد استطاعت فرق جيش التحرير تجنب الاشتباك في معارك كبرى مع قوات العدو الضخمة، كما أمكن لها تفادي قنابل المدفعية وضربات الطيران بفضل ما توافر لها من الخبرة في تعاملها مع العدو وأساليبه، واكتفت فرق جيش التحرير بتوجيه ضرباتها إلى الجوانب الضعيفة من تنظيم العدو، ونصب الكمائن لوحداته المنعزلة، ثم الاختفاء بسرعة مذهلة عند قدوم نجدات كبيرة من قوات الافرنسيين. واستطاعت بذلك قتل خمسين جنديا افرنسيا - آخرين - من بينهم ضابط برتبة نقيب (كابتن). هذا ولم تتجاوز خسائر المجاهدين حدود استشهاد مجاهد واحد، وإصابة أربعة مجاهدين آخرين بجراح متفاوتة. ونجحت كافة فرق المجاهدين في التسلل من بين قوات العدو التي اندفعت كلها نحو جبل (واد - سودان) ولشد ما كان ذهولها عندما وجدت أنها وقعت على (فراغ) فلم تعثر على أحد من المجاهدين الذين ما كان لهم أن ينجزوا ما حققوه من انتصارات، وأن يبلغوا ما حصلوا عليه من نجاح، لولا ذلك الدعم الذي كان يقدمه لهم الشعب، وهو يرافقهم في كل خطوة من خطواتهم، ويقدم لهم المساعدة في كل أمر كانوا يحتاجون فيه للمساعدة. وبذلك استطاع المجاهدون العودة إلى مراكزهم المحصنة وقواعدهم المأمونة، سالمين ومحملين بالغنائم.

ومن المعارك التي تجدر الإشارة إليها - في هذا المجال - معركة جبل (بوزيد) التي وقعت في يوم 12/ 12 / 1959.ففي فجر هذا اليوم، أفاقت قوة من مجاهدي جيش التحرير كانت تقيم في (جبل بوزيد) وقد أقبل إليها المواطنون ينذرونها بتقدم قوات افرنسية كبيرة نحو الجبل. وأسرع المجاهدون فاحتلوا مواقعهم الحصينة ومراكزهم المموهة باتقان ورابطوا هناك وهم على استعداد كامل لإبادة قوات العدو التي قد تقترب من مواقعهم، غير أن القوات الافرنسية كانت تتحرك بحذر فلم تتوغل كثيرا في تقدمها ولم تقترب من مواقع المجاهدين الذين مكثوا ينتظرون طوال اليوم وقد أتعبهم الانتظار بأكثر مما تتعبهم المعارك والاشتباكات، ومع اقتراب المساء، تم توزيع قوة المجاهدين، وتقسيمها إلى زمر صغيرة مهمتها نصب الكمائن لقوات العدو. وهنا أيضا أفاد المجاهدون من ظلمة الليل ومن معرفتهم لشعاب الجبال ودروبها؛ فمضوا نحو أهدافهم. وتوجه الفوج الأول على المسالك الوعرة المؤدية الى الطريق العام من جانب مستور (خفي) لا يتوقعه العدو. وأمكن لهذا الفوج أن يباغت دورية افرنسية كانت على جانب الطريق ولم تشعر باقتراب المجاهدين من خلفها إلا عندما فتح المجاهدون نيرانهم وقذفوا قنابلهم اليدوية. وعندما حاول بعض أفراد الدورية الفرار، طاردتهم نيران المسدسات الرشاشة واستولى المجاهدون على أسلحة الدورية التي أبيد أفرادها، وانسحبوا آمنين. أعقب ذلك اشتباك آخر، في ناحية تغطيها الصخور المنيعة التي احتمى بها المجاهدون وراحوا يوجهون إلى العدو نيرانهم الكثيفة من أسلحتهم الحديثة، وأفاد المجاهدون من وجود العدو في منطقة مكشوفة، فأوقعوا به خسائر فادمحة لا تقل عن خمسين قتيلا

وجريحا، واستشهد من المجاهدين رجل واحد، وأصيب ثلاثة بجراح خفيفة. وقبل أن ينسحب المجاهدون، قاموا بزرع لغم مضاد للدبابات فوق أرض الطريق العام، ثم انسحبوا إلى ملاجئهم المأمونة. وفي صباح اليوم التالي جاءت قافلة كبيرة من سيارات العدو متجهة نحو مكان الاشتباك، فانفجر اللغم تحت سيارة نقل عسكرية كبيرة (ج 0 م. س) كانت تحمل عشرين جنديا. وتطايرات أجزاؤها مع أشلاء الجنود الأعداء فوق مساحة تبعد عشرات الأمتار عن الطريق. وتوقفت القافلة بكاملها لمدة تزيد على الثلاث يساعات. ولشد ما كانت فرحة مجاهدي جيش التحرير والمواطنين الذين وقفوا معهم وهم يتابعون العدو من خلال عدسات المناظير المقربة. ولقد انطلق المواطنون والحماسة تملأ نفوسهم، يعانقون هؤلاء المجاهدين الذين انتقموا لهم عما أنزلته بهم القوات الاستعمارية من ضربات وحشية. خلال هذه الفترة ذاتها، كان الفدائيون يعملون على تصعيد عملياتهم في المدن حتى بلغ معدل هذه العمليات حدود (36) عملية في كل (24) ساعة. وارتفع صوت المتطرفين الاستعماريين مطالبا بفرض حالة الحصار الكامل على المسلمين. وأعلن (المعمرون) سخطهم على السلطة الإفرنسية التي لم تتمكن من حمايتهم - من ضربات الفدائيين - وشكلوا وفدا لمقابلة قائد المظليين- سفاح مدينة الجزائر الجنرال ماسو - لبحث هذا الموضوع. أما القيادة الإفرنسية فقد كان لديها ما يكفيها من المتاعب بسبب وفرة الكمائن التي ينصبها الفدائيون ضد القوات

الإفرنسية، وزاد من حيرة القيادة الافرنسية واضطرابها كثرة ضربات الفدائيين للأجهزة الاقتصادية والعسكرية الإفرنسية. الأمر الذي دفع الناطق الرسمي باسم القيادة الإفرنسية للاعتراف بأن معدل العمليات الفدائية قد بلغ في الأشهر الثلاث الأخيرة - من سنة 1959 - ما يقارب (3240) عملية. هذا مع العلم أن القيادة الافرنسية لم تكن تعترف في بلاغاتها الرسمية بوقوع أكثر من خمس أو ست عمليات في اليوم. تلك هي الوضعية التي كانت عليها الجزائر يوم كان الجنرال شال: (يحدد موعدا قريبا للانتصار النهائي على ثورة الجزائر). وقد يكون من المناسب هنا العودة لمتابعة شريط الأحداث: ... عقدت المنظمة الإفرنسية التي كانت تحمل اسم (لجنة الدفاع عن التجار والصناع) اجتماعا لها في مدينة الجزائر يوم 26 ديسمبر - كانون الأول - 1959. صادقت فيه على بيان يعترف بتفاقم خطورة الاضطرابات، وانعدام الأمن الذي بات مهيمنا على المدن الجزائرية. وكثرة عمليات الفدائيين، ووجهت المنظمة المذكورة في بيانها احتجاجا شديد اللهجة الى السلطات العامة بسبب ما وصفته: فقدان التدابير الحاسمة التي عادة ما تطبق في كل بلد يعيش حالة (الحرب الثورية). وطالبت: بفرض حالة الحصار، وقتل كل شخص يثبت أنه قام بعمل إرهابي، أو شارك فيه، وإعدامه فورا مع عرض جثته على العموم. وفي يوم (4 جانفي - كانون الثاني - 1960) صادق أربعون معمرا من معمري (المتيجة - أو المتوجة) على بيان (استنكروا فيه تهاون السلطات الحكومية وعدم اهتمام البرلمانيين، وطالبوا:

(بتعزيز الجهاز الدفاعي - وتطبيق تدابير ناجحة، وأكثر فاعلية ضد الارهاب) وهي تدابير معروفة للجميع وتقضي (بالعقاب الفوري - لكل مشتبه به) وقرروا (بأن يجتمع كل المزارعين في منظمة واحدة تقدم للسلطات المسؤولة التدابير اللازمة - لضمان حياتنا). وبعد ثلاثة أيام (في 7 جانفي - كانون الثاني - 1960) اجتمع أربعمائه معمر (*) تقريبا في (الحراش). وقرروا الاستعاثة - بالجنرال ماسو - وأكدوا ما جاء في بيان 4 جانفي). لقد جاءت هذه البيانات الصادرة عن أوروبيي الجزائر، لتؤكد حقيقة واحدة وهي: وقوع المعمرين تحت هيمنة الرعب. وإذن، فأين ذهبت أفراح الأوروبيين وابتهاجهم قبل سنة عندما أعلن عن برنامج (شال) للقضاء على الثورة؟. وأين ذهبت تلك الآمال الضخمة التي علقها الأوروبيون على مشجب (عملية جوميل) لتهدئة البلاد؟ وأين هي الانتصارات التي طالما بشر بها وأعلنها القادة العسكريون من أمثال: (شال) و (ماسو) و (غامبير) وسواهم؟ ثم أين هي التأكيدات الرسمية التي تقول أن (برنامج شال) قد نجح في تطهير المناطق الجبلية من الثوار، وقضى على الخلايا الإرهابية في المدن؟ ... لقدظهر فشل (برنامج شال) بوضوح تام، وأكثر من أي يوم مضى، فالاشتباكات المظفرة، والكمائن الناجحة، وتدمير

_ (*) المعمر - حفيد الاستعماري القديم - والذي ولد في الجزائر وعاش فيها، فشكل مع المعمرين الطبقة الجديدة من القاعدة الاستعمارية.

الخطوط الحديدية، وإغارات الفدائيين الرائعة والمثيرة، باتت تجتاح جميع المناطق التي طبق فيها (برنامج شال). بل إن الاشتباكات والكمائن والمعارك لم تعد محجوزة في حدود المناطق الجبلية البعيدة عن العمران، بل إنها صارت تقتحم أبواب المدن الكبرى، وتمتد الى سهول متيجة (متوجة) وإلى ضواحي العاصمة (الجزائر). هذا بالإضافة إلى العمليات الكبرى التي تصطدم بها الفرق الافرنسية في الجبال، وبالإضافة أيضا إلى ما كان يقوم به الفدائيون داخل المدن الكبرى - بما فيها العاصمة ذاتها -من مضاعفة لنشاطاتهم، وزيادة في حجم عملياتهم وعددها. وقد اعترفت المصادر الإفرنسية ذاتها بهذا النشاط العسكري الكثيف، ونشرت وكالات الأنباء الأجنبية تفاصيل وقائعه. وكان ذلك اعترافا رسميا بفشل (برنامج شال) الذي علقت عليه القيادة الافرنسية أكبر الآمال في القضاء على الثورة، حتى أن الجنرال (ديغول) نفسه، اعتز به، فكان أن وجه في افريل -نيسان - 1959 رسالة الى (شال) يهنئه فيها على نجاح المرحلة الأولى من برنامجه في تهدئة (جبال الونشريس). والراقع أن الجنرال (شال) جاء بأسلوب جديد، وغير تكتيكي معروف، لكنه لم يتمكن من التغلب على المصاعب التي كانت تواجه أسلافه وما انفكت تواجهه، لقد كانت الوضعية قبل (برنامج شال) تتمثل في اللوحة التالية: كانت الوحدات الكبرى من جيش التحرير الوطني متجمعة في مناطق محصنة، وكان الجيش الافرنسي موزعا على مراكز الكادرياج - المربعات - أما شال فقد أراد تجميع قوات افرنسية ضخمة ليضرب بها مراكز جيش التحرير الوطني ويقضي عليها،

لكنه لم يحسب حسابا للسرعة التي يتكيف بها جيش التحرير مع المواقف المستجدة على ساحة الصراع. وكانت النتيجة أن أصبحت القوات الافرنسية متجمعة في جهات معينة بعد أن جلت عن مناطق شاسعة، وأصبح جيش التحرير الوطني منتشرا على شكل فرق صغيرة حتى يسهل عليها الاختفاء من جهة، ويسهل عليها في الوقت نفسه مهاجمة المراكز المنزلة، وتوجيه الضربات الخاطفة الى الدوريات والقوافل الافرنسية. وهكذا انعكست الوضعية، فأصبح الجيش الافرنسي هو المتجمع في وحدات ضخمة، وجيش التحرير هو المتوزع في كل مكان، مع فارق أساسي، وهو أن جيوش الاحتلال المتجمعة تجد نفسها أمام ثلاثة أعداء الأرض والمكان وجيش التحرير، بينما يجد جيش التحرير، أينما اتجه، وحيثما حل، تأييدا حارا من المواطنين، ودعما حقيقيا وفعالا باستمرار. وقد اعترف (الجنرال -ديكورنو) المشرف على تنفيذ عمليات (الأحجار الكريمة) في الشمال القسنطيني، بهذه الحقيقة، فقال: (إن مكان هذه المناطق صورة عن الأرض التي يقيمون عليها: إنهم شديدو المراس، غلاظ الطباع، غير متشربين لأفكار فرنسا. لقد كنا في الأوراس نواجه عدوين: الجبال الصعبة والغابات، وكنا في بلاد القبائل نواجه عدوين أيضا وهما: الجبال الصعبة والسكان أما هنا فإننا نواجه ثلاثة أعداء في آن واحد: الجبال الصعبة والغابات والسكان). لقد تطورت أساليب جيش التحرير بسرعة مذهلة، وهو مما ضاعف من عوامل الفشل العسكري الافرنسي، فما أن اصطدم جيش التحرير بالتكتيك الافرنسي الجديد في ناحية (الونشريس) الواقعة في الولاية الخامسة حتى أسرعت قيادة الولاية الخامسة بإعلام

القيادة العامة عن التكتيك الإفرنسي الجديد، وبادرت القيادة العامة فوجهت تعليمات عسكرية جديدة إلى مجالس جميع الولايات حتى تعمل بمقتضاها، وتستعد على ضوئها لمواجهة البرنامج الافرنسي الجديد. وأفاد جيش التحرير من تجربة الولاية الخامسة في مواجهة (برنامج شال)، ولما انتقل هذا البرنامج إلى الولاية الرابعة ثم الثالثة، كان جيش التحرير في كل مرحلة من تلك المراحل يزيد من إحكام أساليبه وتطويرها وإتقانها، بحيث لم يصل (برنامج شال) الى نهايته - وهي عمليات الشمال القسنطيني - حتى بات جيش التحرير وهو على استعداد كامل لمواجهته. وهذا ما يفسر مقدرة جيش التحرير في هذه المنطقة على توجيه ضربات حاسمة الى القوات الاستعمارية، في الوقت الذي ظهر فيه عجز الاستعماريين الإفرنسيين عن إلحاق خسائر حقيقية بقوات جيش التحرير الوطني. وهذا ما عبرت عنه عمليات جيش التحرير الناجحة في المعارك والاشتباكات والكمائن التي كان مسرحها (مليلة) و (القل) و (جيجل) و (تاكسانة) و (سيدي زروق) و (تامسقيدة) و (فح مزالة) وهذا أيضا ما يفسر ارتباك القيادة الإفرنسية واضطرابها في إدارة عمليات الشمال القسنطيني. المهم في الأمر، هو أن (برنامج شال) لم يتمكن من القضاء على المصاعب القديمة بقدر ما عمل على زيادة شدتها وتعقيدها، فبات الجيش الافرنسي وهو يواجه في آن واحد ثلاث جبهات: جبهة (بلاد القبائل) حيث فرضت عليه (عملية جوفيل) التمركز هناك. وجبهة (الخطوط المكهربة) في شرق الجزائر وغربها. وجبهة عملية (الأحجار الكريمة) التي بدأت القوات الافرنسية في تنفيذها مع بداية شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1959 - في الشمال القسنطيني.

وكان لا بد من أن يضاف الى ذلك صعوبة جديدة نجمت عن تمديد أنبوب البترول (من حاسي مسعود) الى (بجاية) وقد أدركت القيادة الافرنسية أن هذا الأنبوب معرض لهجمات (فرق التدمير) التابعة لجيش التحرير، وخصوصا في المناطق الجبلية التي يمر بها مثل (جبال الحضنة) و (جهة البيبان). واعتبرت أن أي تدمير للأنبوب في أي نقطة هو ضربة قاصية، ليس فقط للجيش الافرنسي، وإنما للاقتصاد الاستعماري بكامله والسياسة الديغولية بمجموعها، ولا سيما المشروع القسنطيني الذي اعتبر أن بترول الصحراء وغازها هو عموده الفقري. وقد توقح قائد افرنسي كبير المصاعب الناتجة عن الموقف الجديد. فقال لجنوده - قبل الانتهاء من تمديد الأنبوب - ما يلي: ................... (ستصبحون عما قريب حراسا للأنابيب) وقد تأكدت هذه الحقيقة في التعليمات التي وجهها وزير الجيوش الافرنسية (غيوما) الى (الجنرال شال) والتي جاء فيها: (وبما أن البترول قد وصل الى بجاية، فيجب ألا يتوقف عن التدفق مهما كانت الظروف. إن حماية البترول أمر أساسي نظرا للأهمية السياسية والنفسية التي تعلقها فرنسا على استثماره، وهو أمر ضروري أيضا لأن التزاماتنا أمام الشركات البترولية يقضي بضمان وصول البترول). وهكذا بات لزاما على الجيش الإفرنسي أن يحتمل عبئا جديدا هو حماية أنبوب يمتد على طول (660) كيلومترا. وقد تم توزيع قوات هذا الجيش فكان منها (50) ألف جندي لممارسة الأعمال الإدارية، و (60) ألفا على المدارس. و (50) ألفا لحماية الخطوط المكهربة - هذا عدا الامتدادات التي تستنجد بها هذه القوة كلما شدد جيش التحرير هجماته على هذه الخطوط المكهربة، لا سيما في الفترة التي بدأت في 26 تشرين الثاني - نوفمبر - 1959. وهناك

(30) ألفا لحراسة الجسور والمعامل الخ .. و (130) ألفا في مراكز التربيعات (الكادرياج). ويبقى هناك (200) ألف وهو عدد لا يكفي للتمركز في المناطق التي يمر بها أنبوب البترول. ويظهر ذلك سبب عجز (برنامج شال) عن بلوغ أهدافه. فقد اضطر الجيش الافرنسي للجلاء عن معظم الولايات، مما أتاح لجيش التحرير الفرصة للعمل بحرية من أجل تنظيم أمور الولايات وتجنيد المتطوعين، وإقامة الأجهزة الأدارية الخ .. لقد خاض جيش التحرير حروبه بطرائقه وأساليبه، وخاض الجيش الافرنسي حروبه بطرائقه وأساليبه، فكان لا بد من انتصار جيش التحرير على جيش الاستعمار في عصر (زوال الاستعمار).

إحدى عمليات رصد العدو وتحركاته

الصراع في قلب مراكز العدو - 1960 -

11 - الصراع في قلب مراكز العدو - 1960 - (*) قامت وحدات من جيش التحرير الوطني الجزائرى بشن هجوم عام على المراكز العسكرية الافرنسية القريبة من الحدود الجزائرية - التونسية في ليل 28 تشرين الثاني - نوفمبر - 1960. وتميز الهجوم بقوته وعنفه فأمكن له تدمير عدد من المراكز العسكرية الافرنسية واحتلال بعضها والسيطرة عليها سيطرة كاملة. وقد حاولت القيادة الافرنسية - كعادتها - أن تنتقص من أهمية هذا الهجوم. غير أن الوثائق والصور والمقابلات - مع الأسرى والمواطنين الذين تم تحريرهم - دحضت المزاعم الافرنسية وأكدت حقيقة باتت ثابتة وأكيدة: صدق أجهزة إعلام جيش التحرير، وكذب أجهزة إعلام الاستعمار الافرنسي ولقد كان من بين أبرز المراكز التي تعرضت لهجوم مجاهدي جيش التحرير (مركز برج أمراو) و (مركز القوارد) و (مركز عين الزرقة). وتلك هي الملامح العامة لعملية الهجوم. ...

_ (*) المرجع: من وثائق (المتحف الوطني للمجاهد).

يقع مركز الحمدي (أو برج أمراو) فوق أرض منبسطة، عارية من كل الأشجار، ومكشوفة من كل جهاتها، ما عدا جهة الشمال التي تتخللها شعاب صغيرة تنبت فيها نباتات (الدفلة) وتجري فيها بعض الجداول الصغيرة. وعلى بعد كيلومترين في اتجاه الشرق، ترتفع الجبال التي تكسوها غابات البلوط والصنوبر، ويضم المركز مجموعة من الأبنية وأبراج الحراسة - المراقبة - والملاجىء المحصنة، بالإضافة إلى ثكنة كبيرة، ومجموعة من الأكواخ التي أقيمت في وسط المركز من أجل حشر المدنيين الجزائريين المسلمين ممن أرغموا على الإقامة في المركز، والعيش فيه، وراء سياج من الأسلاك الشائكة المحيطة بالمركز من كل جهاته. كانت قوة من مجاهدي جيش التحرير تسير تحت ضوء القمر في ليل 28 تشرين الثاني - نوفمبر - 1960. وهي متجهة نحو هدفها، فوصلت في الساعة الواحدة صباحا الى مسافة قريبة من المركز، وتابعت زحفها بصمت حتى وصلت إلى سياج الأسلاك الشائكة والبالغ من العمق - العرض - عشرة أمتار تقريبا. وأعطيت شارة الانقضاض، ففتحت الأسلحة نيرانها من كل جهة نحو المركز، وفجرت الحشوات المستطيلة (البنغالور) تحت سياج الأسلاك الشائكة، فانفتحت الثغرات، واندفع المجاهدون بحماسة وهم يرددون صيحة الحرب: (الله أكبر! الجهاد! الجهاد!) وبلغت الحماسة ببعض المجاهدين أشدها فدفعتهم لاجتياز الأسلاك الشائكة التي لم تمزقها المتفجرات بصدمة أجسامهم، دون أن يحاولوا التمهل لقطعها بالمقصات التي كانوا يحملونها. وهدفهم الوصول بسرعة والقضاء على العدو قبل أن يستفيق من هول الصدمة، وقبل أن يلتقط أنفاسه من ذهول المباغتة. وقد حاول

بعض أفراد العدو إبداء بعض المقاومة، فوجهوا نار مدفع رشاش كان متمركزا في أحد الملاجىء المحصنة. غير أن مدافع البازوكا للمجاهدين أسكتته بسرعة ودمرت الملجأ الحصين. كانت المدفعية الثقيلة للمجاهدين قد دمرت الثكنة العسكرية وبرج المراقبة (الحراسة) وكثيرا من الأبنية العسكرية التي اشتعلت فيها النيران، وتوالت بداخلها الانفجارات التي اختلطت بأصوات الجنود الافرنسيين وهم يتصايحون ويتركون مواقعهم للالتجاء إلى الملاجىء السرية. وعلى الرغم من تقدم المجاهدين من الاتجاه المكشوف نسبيا، فقد كان رد فعل العدو ضعيفا نسبيا، وفي الواقع فقد اكتشف حارس برج المراقبة (الميرادور) حركة المجاهدين، وحاول إطلاق شارة الإنذار، غير أنه لشدة هلعه وجه شهاب الإنذار نحو الأرض عوضا عن توجيهه نحو السماء. فاحترق الشهاب من غير أن يشعر به أحد. دمر المجاهدون مراكز الحراسة، وانطلقوا بعدها في هجوم عاصف على الثكنة وبقية المنشآت العسكرية المجاورة لها. وكانت قد تهدمت كثيرا من جوانبها، فدخلها المجاهدون، فتعثرت خطواتهم بجثث القتلى من الجنود الافرنسيين المتناثرة في كل مكان. ولما حاول بعض من بقي حيا الفرار، عاجلته نيران رشاشات المجاهدين فصرعته فورا. وفي هذه الأثناء، اتجهت إحدى وحدات المجاهدين نحو الأكواخ التي حشر فيها الجزائريون المسلمون وتحدث إليهم قائد الوحدة بقوله: (يا أبناء الجزائر! اخرجوا ولا تبقوا تحت ذل الاستعمار الافرنسي).

وتدافع المواطنون - المدنيون - نحو جيش التحرير بحماسة مثيرة، وعواطف متفجرة طالما تم كبتها وجاءت فرصتها لتنطلق من عقالها، فكانت صيحات هؤلاء المواطنين تتردد في جنبات المركز قوية مجلجلة: (عاش جيش التحرير الوطني! ولتحيا جمهورية الجزائر حرة كريمة!) - ومر شيخ كهل وهو يحمل على كتفيه شقاء السنين فيحدث صاحبه، وتلتقط أذن أحد المجاهدين ما يقوله: (هل رأيت؟ لقد أمرنا ضابط الشؤون الأهلية - الساس - ابن الكلب - بألا نفتح الأبواب غدا قبل الساعة التاسعة صباحا. وها هم إخواننا الأبطال وقد جاءوا يفتحوا لنا أبواب الحرية والعزة على مصراعيها). وخرجت النساء من معتقلاتهن، وهن يزغردن - اليويو - ويهتفن بحياة جيش التحرير ومجاهديه. وانقلبت المعركة إلى عرس التقى فيه أبناء الشعب بجيش الشعب وارتفع صوت امرأة وهي تتحدث إلى صاحبتها (لقد تركت أربعين ألف فرنك، فهل أعود لجلبها؟) وتجيبها المرأة الثانية (أتركيها، إن الوقت يستعجلنا، غدا، عندما تستقل الجزائر سيكون لديك الملاين لا الآلاف). وأقبل طفل صغير راكضا وهو يجر كلبه الصغير، وسأل قائد المكلفة بتحرير المعتقلين بكل براءة الطفولة: أين طريق الحرية؟ ووجهه قائد الوحدة الى الاتجاه الذي يجب عليه أن يسلكه. ثم أقبل طفل آخر مسرعا وهو يحمل على كتفيه دثاره. وسأل أيضا عن الطريق الذي يجب عليه أن يسير فيه، غير أنه رفض متابعة السير قبل أن يقبل مجاهدي جيش التحرير الذين أطلقوه من معتقله، وأعادوا إليه حريته المسلوبة. وجاءت مجموعة من النسوة إلى قائد الوحدة، فقالت له إحداهن: (إن زوجي مجاهد في جيش التحرير، وقد حررتموني لأعود وألتقي

به) وقالت أخرى: (إن زوجي خائن يعمل مع قوات - القوم - وأنا أتركه مسرورة سعيدة، لأني لا أقبل العيش مع رجل يعمل مع أعداء وطنه وقومه. ولم أبق معه من قبل إلا تحت الضغط والإكراه). أكملت قوة المجاهدين عملها في تدمير المراكز والأبنية والأبراج واللاجىء، وحررت المعتقلين، فانتهت بذلك المهمة، وبدأت عملية الانسحاب، وظهرت بعض الدبابات الافرنسية التي وصلت من مراكز أخرى، فجابهتها مدافع البازوكا بنيرانها المحكمة ودمرت اثنتين منها، فأخذت بقية الدبابات بالانسحاب والفرار. وجاء رد فعل العدو التالي بقصف مدفعي حيث عملت المدفعية الإفرنسية الثقيلة على قصف ساكن المدنيين قصفا كثيفا ومركزا، فقتل عدد كبير من المواطنين الجزائريين. وانتقم العدو بنذالة من المدنيين العزل، بعد أن عجز عن مجابهة المسلحين من مجاهدي جيش التحرير. عندما كانت وحدة مجاهدي جيش التحرير تنفذ عملياتها في مركز (امراو) كانت هناك زمرة منها تنفذ مهمة مستقلة - تقريبا -وهي: الهجوم على المركز الشمالي ببرج أمراو. كان المركز الشمالي لبرج (أمراو) يقع على رابية قريبة من الشعاب الصغيرة التي تتخلل الأرض الجرداء المحيطة (ببرج أمراو). وقد وصل المجاهدون هنا إلى المركز في الساعة الواحدة صباحا. وكشف المراقب - الحارس - أمرهم، ولكنه بدلا من إطلاق شارة الانذار، قفز من مكانه، ولاذ بالفرار. وبدأ المجاهدون عمليتهم بفتح الثغرات عبر سياج الأسلاك الشائكة التي ترتفع مترا عن سطح الأرض وتمتد بالعمق - العرض - هنا حتى إثني عشر مترا. وأمكن فتح الثغرات بالحشوات المستطيلة (البنغالور). وما إن تم تنفيذ ذلك

بنجاح حتى اندفعت قوات المجاهدين كالسيل الجارف، مدمرة في طريقها أبراج الحراسة (الميرادور) والملاجىء المحصنة (بواسطة مدافع البازوكا ومدافع عيار 57 مم). ولم تكن الأسلاك والملاجىء تبعد عن البناء الرئيسي للمركز بأكثر من مسافة لا تتجاوز العشرين مترا. وهكذا لم تمض إلا ثوان قليلة على تدمير الملاجىء المحصنة، حتى كان المجاهدون قد اندفعوا نحو البناء للقضاء على المقاومة المتمركزة فيه بالقنابل اليدوية ونيران المسدسات الرشاشة التي راحت تطارد الجنود الافرنسيين وهم يحاولون الفرار في كل اتجاه، فترديهم النيران فورا، وتسقطهم، وهم يصيحون برفاقهم بألا يتركوهم، وأن يحملوهم معهم إلى الملاجىء. وكان الضباط هم أول من وصل الى الملاجىء المحصنة، فانطلق المجاهدون في بحثهم عن الافرنسيين المختبئين في الملاجىء، وكانوا كثيرا ما يتعثرون أثناء بحثهم، بجثث القتلى المتناثرة والممزقة في كل مكان. وبينما هم كذلك، سمعوا أصواتا تناديهم باللغة العربية من أحد الملاجىء، فتوجهوا نحو مصدر الصوت، وإذ ذاك عثروا على ثلاثة من المجندين الذين أرغمتهم السلطات الإفرنسية على العمل في صفوف قواتها، فتم تحريرهم، وانضموا إلى المجاهدين، ووجهوهم نحو مستودعات ومراكز المدافع الرشاشة والرشاشات - الخفيفة منها والقصيرة - والقنابل اليدوية والوثائق والذخائر المخزونة في الملاجىء. وكان بقايا الجنود الافرنسيين أثناء ذلك، يتابعون محاولاتهم للفرار من جحيم المعركة، وهم يطلقون صيحات الذعر والفزع. ولم يصمد منهم للمقاومة سوى جماعة التجأت إلى ملجإ حصين،

وأخذت في إطلاق النار على المجاهدين من مدفع رشاش - هوتشكيس - ومن بندقية رشاشة أمريكية، فتم التعامل مع هذه الجماعة بالقنابل اليدوية حتى تم إسكاتها والقضاء على رجالها. وحين انطلق المجاهدون للبحث بين الأنقاض، عثروا على سبعة جثث ممزقة، ووجدوا الأسلحة وقد صهرتها حرارة الانفجارات. ثم تابع المجاهدون بحثهم، وأحرقوا مهاجع الجنود، ودمروا المولد الكهربائي. وعندما أكملوا مهمتهم انسحبوا حاملين معهم ما حصلوا عليه من الغنائم: (الوثائق والأسلحة والذخائر والألبسة العسكرية والأجهزة اللاسلكية). في الليلة ذاتها - ليلة 28 تشرين الثاني - نوفمبر - 1960،كانت قوة من مجاهدي جيش التحرير تشق طريقها عبر الشعاب الجبلية، مستفيدة في تحركها من ضوء القمر، حتى إذا ما تجاوزت الجبال الواقعة غربي (القوارد) سارت في أرض مكشوفة، إلا من بعض الأشجار المتفرقة، متجهة نحو المركز المحصن الذي شيدت جدرانه بالصخور الضخمة والتي يسميها الجزائريون باسم (حجر الجهال) لأنها من بقايا الآثار الرومانية. وبدأ المجاهدون تنفيذ مهمتهم بتدمير برج المراقبة - الحراسة - والجدار الغربي من المركز العسكري (المقابل لمحور تقدم المجاهدين) ثم اندفعت قوة الهجوم، فدمرت في طريقها سياج الأسلاك الشائكة، واجتازته بسرعة مذهلة، غير مبالية بنيران العدو التي لم تستمر كثيرا، فبعد أن رأى الجنود الافرنسيون قوة الهجوم وشدة اندفاعه، لجأوا إلى الفرار، فتركوا مواقعهم، وتوجهوا إلى الملاجىء الحصينة. وعند

مدخل المركز، اصطدم المجاهدون بدبابة افرنسية، فوجهوا إليها طلقات مدفع البازوكا، وأشعلوا النار فيها. وأثناء ذلك، أمكن تدمير أربعة ملاجىء محصنة، وقتل فيها عشرات الجنود الافرنسيين. ثم تابع المجاهدون تطوير هجومهم، فأحرقوا في ساحة المركز أربع سيارات نقل كبيرة (ج0 م. س) ودبابة وسيارة خفيفة (جيب). وكان ضباط جيش التحرير يتقدمون قواتهم، مستأثرين بمواقع الخطر، ضاربين المثل الأعلى في التضحية والفداء، في حين كان ضباط الإفرنسيين هم أول من لاذ بالفرار. ولم تمض فترة طويلة على بدء المعركة حتى أقبلت الطائرات الافرنسية (من طراز - ب - 26) غير أنها لم تتمكن من التدخل في المعركة، فقد أرغمتها نيران المدافع الرشاشة على البقاء بعيدا عن ميدان القتال. كما أقبلت مجموعة كبيرة من الدبابات، فوجدت مدافع البازوكا وهي لها بالمرصاد، واشتعلت النار بسرعة فأحرقت دبابتين. وأصابت دبابة ثالثة، ولم يبق أمام الجيش الافرنسي إلا أن يشارك في تدمير مركزه العسكري بعد أن عجز عن حمايته والدفاع عنه. فبدأت المدفعية الثقيلة (من عيار 105 و 155 مم) بقصف (مركز القوارد) وسقط كثير من قنابل المدفعية الافرنسية داخل مساكن المدنيين الجزائريين العزل، فقتل وجرح عدد كبير منهم. وأصابت هذه القنابل بعض المجاهدين بجراح مختلفة، فتم إخلاؤهم إلى مراكز الاسعاف وكانت خسائر المجاهدين لا تكاد تذكر، أمام ما تكبده العدو من خسائر فادحة. وعند الهجوم على مركز (عين الزرقة) اكتشف الحرس

الافرنسي أن شيئا غريبا يحدث حولهم، فأطلقوا شارة الانذار، وكان المجاهدون أثناء ذلك يتقدمون بسرعة نحو المركز الذي استمر في إطلاق الشهب المضيئة وقنابل المدفعية، الأمر الذي كان يرغم المجاهدين على تكييف حركاتهم - في الركض والسير والزحف والتوقف - مع انطلاقات الشهب وإيقاع رمي المدفعية. وإذ تبين للمجاهدين أن قنابل المدفعية باتت تسقط متناثرة وبعيدة عنهم، عرفوا أن هذه الرمايات لا تعبر عن شيء إلا عن خوف الافرنسيين من احتمالات حدوث هجوم. فاندفع المجاهدون نحو هدفهم، وما هي إلا فترة قصيرة حتى أصبح المركز الافرنسي شعلة من الحرائق وبركانا من الانفجارات. وكان المجاهدون يتابعون الجنود الافرنسيين الذين نزل بهم الفزع الأكبر فانطلقوا يجرون على غير هدى، وهم يصرخون ويحاولون الفرار، فتصلهم رصاصات رشاشات المجاهدين فتسكت أصواتهم. وتم للمجاهدين أثناء ذلك فتح الثغرات في السياج الشائك، واندفعوا نحو المركز بعد أن انقسموا إلى مجموعات صغيرة للتعامل مع الأبنية العسكرية في وقت واحد. ولم يكن العدو يبدي مقاومة من داخل المركز بعد وصول المجاهدين إليه، غير أنه لم يستسلم أيضا، وإنما التجأ الى مخابئه وملاجئه السرية والمحصنة. ووجه المجاهدون النداء تلو النداء إلى الجنود في ملاجئهم، طالبين إليهم الخروج والاستسلام من غير مقاومة. وعندما رفض هؤلاء الاستجابة للنداء، كان لا بد من تدمير الملاجىء على رؤوس المحتمين بها، الواثقين بقوتها ومنعتها. وكانت تنبعث من تحت الأنقاض صيحات الفزع وأنات الألم وحشرجات الاحتضار. ورمى بعضى المجاهدين قنابل يدوية داخل مباني المركز الذي تهدمت

جدرانه في كثير من جنباتها واقتحموا المبنى فلم يجدوا فيه إلا الجثث الممزقة والمتناثرة بين حطام الأثاث. وألقت قذائف البازوكا على أحد البيوت، فأحدث انفجارها دويا هائلا، وارتفعت ألسنة اللهب تشق عنان السماء، فعرف المجاهدون أنه كان مستودعا للذخيرة، وعلى نور القمر والضوء الساطع الذي أحدثته النيران المشتعلة في المركز، أصبح باستطاعة المجاهدين رؤية جماعات الجنود الافرنسيين بوضوح تام. وكان هؤلاء يحاولون الفرار فتسبقهم رصاصات المجاهدين وترديهم فورا. واستيقظ المدنيون الجزائريون الذين أرغموا على الاقامة في (مركز عين الزرقة) وقد تحول الليل نهارا، واندفعوا بفرح لم يشعروا بمثله منذ سنوات طويلة، وهم يحملون معهم أطفالهم، لينطلقوا إلى خارج المعسكر، بانتظار انتهاء مجاهدي جيش التحرير من تنفيذ واجباتهم، والانتقال معهم بعيدا عن جو الذل والهوان. وفي الوقت الذي كانت فيه إحدى وحدات المجاهدين توجه المدنيين نحو الطريق الذي يجب اتباعه، كانت وحدة أخرى تتابع تنفيذ مهمتها في جمع الغنائم التي خلفها العدو، وكانت هناك وحدة تواجه بمدافعها ورشاشاتها رتلا من الدبابات الإفرنسية التي جاءت لنجدة المركز، فأرغمت على الفرار بعد أن تركت فوق أرض المعركة دبابتين محترقتين. وهكذا سيطر مجاهدو جيش التحرير سيطرة كاملة على مركز (عين زرفة) ثم غادروه مع مطلع النهار حاملين أسلحتهم وذخائرهم التي غنموها من العدو، وبرففتهم المدنيون الذين تحرروا ليبدأوا حياة جديدة.

تلك هي بعض ملامح الصراع المسلح الذي خاضه مجاهدو جيش التحرير الوطني الجزائري. وتلك هي أيضا الخطوط العامة لتطور جيش التحرير الوطني الجزائري عبر الصراع المرير. وتضيق صفحات (الكتيب) عن استيعاب الوجيز في قصة جيش التحرير وتطوره وإذن فلا بد من استكمال البحث في (كتيب) آخر يتابع مضمون القصة ويحاول إبراز أكثر ملامحها فائدة ومتعة وأهمية.

قراءات

قراءات 1 - القانون الأساسي لجيش التحرير الوطني الجزائري (1958). 2 - المبادىء العشرة لجيش التحرير الوطني .

القانون الأساسي لجيش التحرير الوطني الجزائري

1 - القانون الأساسي لجيش التحرير الوطني الجزائري قررت لجنة التنسيق والتنفيذ، أثناء اجتماعها المنعقد بتاريخ 12 افريل - نيسان - 1958، بأن التوجيهات الآتية المتعلقة بحفظ النظام العام والتشريع القضائي العسكري، يقع تطبيقها في جميع صفوف جيش التحرير الوطني فور نشرها. الباب الأول دليل المجاهد الفصل الأول حقيقة المجاهد: يعتبر مجاهدا كل جزائري التحق بمحض إرادته في صفوف الوحدات النظامية لجيش التحرير الوطني، للمساهمة في تحرير التراب الوطني بواسطة السلاح. يعتبر كل مجاهد متطوعا طوال مدة الحرب التحريرية. يتمتع المجاهد في صفوف جيش التحرير الوطني بحقوق، كما أنه ملزم بواجبات.

يجب أن يكون سلوك المجاهد قويما وبعيدا عن كل خدش أو مؤاخذة، ثم زيادة على الصفات الفكرية والجسدية التي تتماشى مع مهمته التحريرية، فإن المجاهد لا يقبل مبدئيا، في صفوف (جيش التحرير الوطني) إلا اذا بلغ عمره (18) عاما على الأقل و (40) عاما على الأكثر. الفصل الثاني واجب المجاهد نحو وطنه: يتحتم على المجاهد أن يكون قد ركز حب الوطن في نفسه، كما يجب عليه أن يقدم الدليل على التفاني الكامل الذي يصل به إلى حد التضحية بحياته في سبيل تحرير بلاده والدفاع عنها. ويجب على المجاهد أن يكون كله عطف ومراعاة نحو شعبه الذي منه نشأ ومن أجله يجاهد. يجب أن تكون علاقات المجاهد مع الشعب مميزة بطابع الاحترام والتقدير. كما يجب على المجاهد أن يحمل في قلبه حبا عميقا للسكان، وأن لا يتردد في التضحية بنفسه لدفع كل أذى عنهم. فاستمالة الشعب بالمجاملة، وبذل الذات، يتحتم أن تكون من صفات المجاهد الذي يجب عليه أيضا أن يربي في نفسه على الدوام، إكبار الشهداء، وإجلال العلم. واجب المجاهد مع نفسه: على المجاهد أن يحترم نفسه، وأول ما يحترم به المجاهد نفسه هو النظافة البدنية. وعليه أن يمحو من نفسه كل شعور أناني. كما يجب أن يركز فيها بصورة عالية وراسخة، صوت الضمير والإحساس بالواجب، ويجب ألا يتساهل المجاهد مع نفسه، بل عليه أن يحاسبها كل يوم في كل شيء.

على المجاهد أن يرفض كل اعتبار يؤدي إلى الانفعال أو التأثر نتيجة حب الذات، بل عليه أن يكون طاهرا وصريحا ومخلصا. يطلب إلى كل مجاهد القيام بشعائره الدينية الاسلامية، كما يطلب منه أن يحب رؤساءه ورفاقه وسلاحه. إن مصلحة الوطن يجب أن تكون رائده في الحياة. واجب المجاهد نحو إخوانه: على المجاهد أن يكون متفانيا في خدمة إخوانه، وأن يشاطر كلا منهم آلامه. كما يطلب منه أن يحاول التخفيف. عن كل من أصيب منهم بنائبة وعلى المجاهد أن يكون مثالا للسيرة الحميدة والشجاعة لجميع إخوانه. وإن مساعدته لهم فرض عليه، خاصة في أحلك أوقات الكفاح المشترك. واجب المجاهد نحو رؤسائه: احترام الرؤساء والامتثال لهم واجب على كل مجاهد، إذ يتحتم عليه أن يولي ثقته الكاملة لرؤسائه، وأن يطيعهم في جميع الظروف، وفي كل مكان. التحية هي العلامة الظاهرة التي تدل على الاحترام، ولذا وجبت تحية كل ضابط في جيش التحرير الوطني. على المجاهد أن لا يحيد عن الهيئة العسكرية أمام قادته، وليس له أن يناقش أي أمر. كما لا حق له في الاعتراض على الأوامر إلا بعد تنفيذها. واجب الرئيس نحو مرؤوسيه: يجب أن يكون الرئيس أو القائد مثالا للتضحية والشجاعة والعدل

والتفاني في خدمة مرؤوسيه. يجب عليه أن يكون صارما وأبويا في وقت واحد، كما يجب أن يكون قادرا كل القدرة على الابتكار والاضطلاع بالمسؤوليات. وإن السهر على راحة مرؤوسيه المادية والمعنوية فرض عليه في كل الظروف والأحوال. ويجب عليه كذلك أن يصغي بكل اهتمام وتعقل لمطالب مرؤوسيه، وأن ينزل عند رغباتهم إذا كانت جديرة بالاعتبار. الفصل الثالث حقوق المجاهد المادة الأولى: يتكفل جيش التحرير الوطني بالقيام بشؤون المجاهد كلها. المادة الثانية: تعطى لعائلة المجاهد منحة بحسب إمكانيات الجيش. المادة الثالثة: إذا استشهد مجاهد، فإن الجيش يستمر في دفع المنحة لعائلته حتى اليوم الذي تحدد فيه الحكومة الجزائرية إعطاءها منحة دائمة. المادة الرابعة: يحصل المجاهد على مرتب لإنفاقه في شؤونه الخاصة. المادة الخامسة: إذا جرح المجاهد أو مرض أو حكم عليه بأنه أصبح غير قادر على متابعة الخدمة العسكرية، فإن الجيش يستمر في دفع مرتبه له. المادة السادسة: يتكفل جيش التحرير الوطني بالعلاج الطبي للمجاهدين الجرحى أو المرض. المادة السابعة: المجاهدون الذين يفقدون أهليتهم للخدمة

العسكرية بسبب إصابتهم بجراح أو مرض، لهم الأولوية بالحصول على المناصب التي تناسب معلوماتهم وكفاءاتهم. المادة الثامنة: لا يجوز للمجاهد أن يتزوج إلا بعد إذن كتابي من طرف السلطات العليا. الباب الثاني حفظ النظام العام الفصل الأول حفظ النظام العام: بما أن النظام هو الدعامة الأساسية والقوة الأولية للجيوش، فإن على كل مسؤول أن يحصل من مرؤوسيه على طاعة تتسم بالدقة والكمال. كما أن على المجاهد تنفيذ أوامر قادته بدون تردد، ولا تذمر. وإن السلطة التي أصدرت الأوامر هي وحدها المسؤولة عنها. ولا يخول الاعتراض على الأوامر إلا بعد تنفيذها. أما الاعتراضات الجماعية فهي ممنوعة بصورة باتة. الفصل الثاني المكافآت: المكافأة هي شهادة استحسان (تقدير) على ما قام به المجاهد من أعمال بطولية، أو على سيرة قويمة. والمكافآت التي يمكن للمجاهد الحصول عليها هي: أ - الرخص (الاجازات). ب - الثناء (الشكر) والتهاني قولا أو كتابة.

ج - الشهادة الكتابية (التعميم) والتي تقرأ على ملأ من الجنود. د - الأوسمة (¬1). هـ - ترفيع الرتبة العسكرية (*). الفصل الثالث العقوبات: العقوبة قصاص على الأخطاء المرتكبة، وغايتها تقويم ما اعوج من سيرة المجاهد، ومنعه من نسيان واجباته. وتقسم أنواع الأخطاء في جيش التحرير الوطني إلى ثلاثة أقسام هي: أ - الأخطاء البسيطة: 1 - الطبع الرديء. 2 - كل شيء يدل على عدم احترام رفيق ما. 3 - قلة التبصر (التسرع). 4 - تأخير العمل أو إهماله. 5 - القذارة. 6 - التكاسل. 7 - الخصام. 8 - لباس مشوش (غير نظامي). 9 - عدم الاعتناء بالمواد المحفوظة. ¬

_ (¬1) لم تحدد الأوسمة، أو طريقة منحها، الا عندما صدر قرار عن مجلس الوزراء - الحكومة المؤقتة - بتاريخ 17 جانفي - كانون الثاني - 1959. (*) حدد مؤتمر وادي الصومام تسلسل الرتب العسكرية في جيش الجزائر على النحو التالي: جندي - جندي أول - عريف - عريف أول - مساعد - ملازم - ملازم ثان - ضابط أول - ضابط ثان - صاغ أول - صاغ ثان - مقدم - عقيد .

ب - الأخطاء الخطيرة: 1 - محاولة الاغتيال. 2 - العبث بحفظ النظام. 3 - تضييع السلاح. 4 - إفساد الذخائر عن عمد (بصورة اختيارية). 5 - الغش في المحاسبات، واختلاس الأموال. 6 - التزوير واستعماله. 7 - تضييع رسالة أو عدم تسليمها. 8 - التأخير في تنفيذ الأوامر. 9 - السرقة. 10 - التعدي على السلم النظامي العسكري (التسلسل). 11 - التغيب في المناداة (الاجتماع). 12 - السكر. 13 - الحط العلني من جيش التحرير الوطني أو من القادة. 14 - التجاوز في السلطة. 15 - الامتناع عن أداء التحية. 16 - التنفل بدون إذن (إجازة). ج - الأخطاء الفاحشة: 1 - القتل المتعمد. 2 - الفرار من صفوف الجيش. 3 - التواطؤ مع العدو والخيانة. 4 - تعمد كشف السر 5 - بث روح الهزيمة. 6 - الانشقاق والتألب.

7 - نشر الدعاية الطائفية. 8 - شق عصا الطاعة. 9 - الاعتداء على الحرمات. 10 - اللواط. 11 - تبذير الأموال. 12 - إخفاء أرزاق الثورة. 13 - التخلي عن المركز. 14 - الجبن أمام العدو. 15 - العمل على حط معنويات الجيش. 16 - جريمة الزنا. تحديد العقوبات أ - الأخطاء البسيطة: (ويحدد المعاقبة عليها الجنود الأولون أو ضباط الصف) يقتص من الأخطاء البسيطة بما يلي: * الإنذار. * تسخير المخطىء للقيام بأعمال متعبة. * تعيينه للحراسة لوقت إضافي. * اللوم. * قطع المرتب. ب - الأخطاء الخطيرة: (ويحدد المعاقبة عليها الضباط). * نزع السلاح. * نقل الجندي.

* إلغاء الرخص (الاجازات). * خفض الرتبة. * نزع الرتب كلها. ج - الأخطاء الفاحشة: تجر الأخطاء الفاحشة الذين ارتكبوها أمام المحاكم العسكرية، ويقتص من المخطئين بعقوبات تبتدىء من السجن ونزع الرتبة العسكرية، وخلع الجنسية الوطنية، إلى حكم الإعدام. لا يصدر حكم الإعدام إلا في الجرائم التي ثبت اقترافها، وكل شك - مهما كان ضئيلا - يكفي ليتوقف صدور هذا الحكم. تصدر المحاكم العسكرية أحكامها على كل جزائري ارتكب خطأ فاحشا، سواء كان ذلك الجزائري مقيما على التراب الوطني أو خارجه. تنظر محكمة الولاية في جريمة الزنا والاعتداء على الحرمات، مهما كانت رتبة المتهم. الباب الثالث القضاء العسكري 1 - المحاكم العسكرية: تصدر المحاكم العسكرية أحكامها على الذين اقترفوا الأخطاء الخطيرة جدا. 2 - المحاكم المختلطة: أ - المحكمة القضائية العليا (لمحاكمة الضباط الساميين - القادة).

ب - محكمة الولاية (لمحاكمة الضباط - الأعوان). ج - محكمة المنطقة (لمحاكمة ضباط الصف والجنود). 3 - كيفية تشكيل المحاكم: أ - المحكمة القضائية العليا: (تتكون بقرار من هيئة القيادة بعد الحصول على إذن من لجنة التنسيق والتنفيذ) وتتشكل من: * رئيس (برتبة صاغ ثان - رائد). * ضابطان ساميان (كلاهما عضو في المجلس الوطني للثورة الجزائرية). * ثلاثة حكام مساعدين (تكون لكل منهم رتبة ضابط). * مفوض عن الجيش. * كاتب قضائي. * محام (مدافع) يختاره المتهم، أو يعين بدون استشارة. ب - محكمة الولاية: (تتكون بقرار من مجلس الولاية، بعد موافقة هيئة القيادة) وتتشكل محكمة الولاية من: * رئيس (برتبة صاغ أول - نقيب). * ضابطان. * ثلاثة حكام مساعدين (أحدهم ضابط والآخر صف ضابط والثالث جندي). * مفوض عن الجيش. * كاتب قضائي. * مدافع (محام). ج - محكمة المنطقة: (وتتكون من): * ضابط أول، أو ملازم ثان للمنطقة.

* ضابطان (ملازم ثاني - أو ملازم). * ثلاثة حكام مساعدين (ضابط وصف ضابط وجندي). * مفوض عن الجيش. * كاتب. * مدافع (محام). 4 - شكوى للاحالة أمام المحكمة العسكرية: إذا اقترف الجندي خطأ خطيرا، يجب على رئيسه المباشر أو السلطة التي اكتشفت الخطأ (عاينته) أن ترسل بأسرع ما يمكن إلى المسؤول الذي له حق تعيين أعضاء المحكمة العسكرية، شكوى ترمي إلى إحالة المتهم على المحكمة العسكرية. (أنموذج الشكوى (رقم - 1) موجود مع هذه النسخة). وتكون الشكوى مصحوبة بتعزيز مفصل عن الخطأ، أو الأخطاء، المرتكبة. وفيما إذا انعدم ذلك، تصطحب الشكوى بوثائق مؤيدة للتهمة. ومن المتحتم أن يحتوي التقرير على المسائل التالية: * الأعمال المؤاخذ عليها، أو الخطأ الخطير الذي ارتكب. * سوابق المتهم. * ملاحظة حول كيفية قيام المتهم عادة بواجباته. * تضاف الى التقرير مجموع العقوبات التي تعرض لها المتهم في السابق، وكذلك خلاصة عن شهادة مدة الخدمة (قدمه - أوسمته - الشهادات التي يحملها). 5 - البحث: فور وصول شكوى إحالة أمام المحكمة العسكرية الى السلطة التي يهمها الأمر، يعين ضابط بحث يساعده كاتب قضائي لدراسة

القضية. وتسلم القضية والتقرير الخاص بالمتهم أو المتهمين الى ضابط البحث (التحقيق) الذي يتولى استجوابهم (استنطاقهم) طول المدة التي يراها ضرورية لتثبيت الحقيقة. وستوزع أوراق مطبوعة خاصة في كيفية استنطاق المتهمين والشهود، الذين يوقعون على تلك الأوراق. كما يوقع عليها (ضابط البحث - التحقيق) والجندي الذي قام بمهمة كاتب قضائي. ويحمل محضر البحث، حتما، ملاحظات ضابط البحث حول ثبات التهمة، أو براءة المتهم. يجب أن يكون الاستنطاق خاليا من كل ضغط حسي أو معنوي. وأن التعذيب بجميع أنواعه محرم بتاتا. ويرسل كل ملف انتهى بحثه (درسه) الى المسؤول الذي أمر ببحث القضية، وهو يسلمه بدوره الى الضابط المعين لرئاسة المحكمة. ويتصل أيضا بالملف كل من الضابط المعين كمفوض عن الجيش، ولسان الدفاع (المحامي) الذي اختاره المتهمون. المحكمة العسكرية: تتولى السلطة التي يدخل في اختصاصها تعيين المحاكم العسكرية - بتقرير كتابي - تعيين أعضاء المحكمة، لمحاكمة المتهم أو المتهمين، وموضوع الشكوى (نموذج التعيين - رقم 2 - يوجد مع هذه النسخة). ويستدعى المتهم أمام المحكمة العسكرية في التاريخ الذي تحدده السلطة التي عينت المحكمة المذكورة. وبعد فتح الجلسة من طرف رئيس المحكمة، يؤتى بالمتهم محاطا بجنديين اثنين، ثم يقرأ الكاتب القضائي على مسمعه قرار الاتهام، وبعد ذلك تلقى عليه الأسئلة من طرف رئيس المحكمة أو مساعديه إذا وجدوا. كما تلقى الأسئلة على الشهود إذا كان هناك شهود. ثم

تحال الكلمة إلى المفوض عن الجيش فتتلوه مرافعة لسان الدفاع. كيفية القضاء: بعد سماع المتهمين والشهود ولسان الاتهام ولسان الدفاع، ينفرد رئيس المحكمة بمساعديه فيتشاورون، ثم يصرحون بإدانة المتهم أو براءته. وفي الحالتين يحاط من يهمهم الأمر علما - في الحال - ويكونون قد عادوا إلى مقر المحكمة. كل حكم صدر عن المحاكم العسكرية لا إعادة فيه. المحكوم عليهم بالإعدام، لا يجوز ذبحهم، بل ينفذ فيهم الحكم رميا بالرصاص. لا حق لكل محكمة عسكرية قد تتكون بصورة مخالفة للترتيبات والتوجيهات المنصوص عليها آنفا، في الانعقاد، ولا في إصدار أي حكم. الأحكام. يسلم المحكوم عليهم إلى مركز حراسة المساجين حالا لتنفيذ الأحكام التي صدرت ضدهم. وإذا كان في هؤلاء من حكم عليه بالإعدام. فعلى الضابط المكلف بتنفيذ الحكم أن يقدم محضرا متعلقا بتنفيذ حكم الإعدام. المحاضر: والخلاصة، يجب أن تحتوي ملفات القضاء العسكري على: الشكوى: أ - شكوى تقدم على ورق عادي. ب - الوثائق المؤيدة للتهمة إن كانت هناك وثائق. ج - شهادة عن مدة الخدمة (تاريخ التحاقه - انخراطه - بجيش

التحرير أو بالجبهة، الجراح التي أصيب بها في ميدان الشرف، الأوسمه أو الشهادات التي يحملها). د - تقرير عن كيفية قيام المتهم بواجباته في الماضي، وكذلك عن سوابقه. 2 - طلب باحالة أمام محكمة عسكرية. (نموذج رقم 1). 3 - محضر تعيين محكمة عسكرية. (نموذج رقم 2). 4 - محضر تعيين ضابط بحث - تحقيق -. (نموذج رقم 3). 5 - محضر استنطاق - استجواب - الشهود. (نموذج رقم 4). 6 - محضر استنطاق المتهم. (نموذج رقم 4 - مكرر). 7 - محضر الجلسة. (نموذج رقم 5). 8 - محضر تنفيذ حكم الإعدام - إن وقع ذلك - (نموذج رقم 6). يجب تنظيم هذه المحاضر على ثلاث نسخ، تحفظ إحداها في خزانة المحفوظات، وترسل الأخريان إلى القيادة العسكرية، وإلى لجنة التنسيق والتنفيذ. في 12 - افريل - نيسان - 1958 عن لجنة التنسيق والتنفيذ، المسؤول عن دائرة الشؤون العسكرية. التوقيع: كريم بلقاسم.

المبادىء العشرة لجيش التحرير الوطني

2 - المبادىء العشرة لجيش التحرير الوطني (*) أولا: مواصلة الكفاح الى أن تتحرر البلاد ويتحقق استقلالها التام. ثانيا: مواصلة تحطيم قوات العدو، والاستيلاء على الموارد والأدوات الى أقصى حد ممكن. ثالثا: تنمية المقدرة المادية والمعنوية والفنية في وحدات جيش التحرير الوطني. رابعا: الجنوح بأقصى ما يمكن إلى الحركة والخفة، والى التفرق ثم الاجتماع بعد ذلك والهجوم. خامسا: تقوية الاتصالات ما بين مراكز القيادة ومختلف الوحدات. سادسا: توسيع شبكة الاستخبارات في وسط العدو، ووسط السكان. سابعا: توسع الشبكة العاملة على إقرار وتعزيز نفوذ جبهة التحرير الوطني لدى الشعب، لتجعل منه سدا أمنيا وثابتا. ثامنا: تقوية روح الامتثال للأوامر، والملازمة للنظام في صفوف جيش التحرير الوطني. تاسعا: تقوية روح الأخوة والتضحية والعمل المشترك في نفوس المجاهدين. عاشرا: مراعاة المبادىء الاسلامية والقوانين الدولية في تحطيم قوات العدو.

_ (*) وثائق الثورة الجزائرية - الأرشيف.

مراجع البحث الرئيسية

مراجع البحث الرئيسية

_ 1 - الثورة الجزائرية - أحمد الخطيب - دار العلم للملايين - بيروت - 58 19. 2 - ثورة الجزائر - جوان جليبي - ترجمة عبد الرحمن صدقي أبو طالب. الدار المصرية للتأليف والترجمة - 1966. 3 - الثورة الجزائرية والقانون - محمد البجاوي - دار اليقظة العربية -. 4 - الجهاد الأفضل - عمار أوزيغان - دار الطليعة - بيروت - 1964. 5 - مجلة (المجاهد) الجزائرية ووثائق المحافظة السياسية والمتحف الوطني للمجاهد.

الفهرس

الفهرس

_ الموضوع .............................................................. الصفحة

_ الفصل الثاني: ............................................. 113 1 - جيش التحرير في وثائق الثورة ......................... 115 2 - معركة الجرف ......................................... 118 3 - القيم الأخلاقية عند جيش التحرير ...................... 124 4 - مع يوميات القتال في (1957) ........................ 132 5 - معركة القلاب (1958) ................................ 145 6 - ماذا وقع بعد الكمين ... ................................ 154 7 - معركة (عين الزانة - 1959) .......................... 159 8 - معركة الحوض 1959 ................................. 170 9 - معركة عنابة 1959 .................................... 177 10 - عام الانتصارات (1960) ............................. 184 11 - الصراع في قلب مراكز العدو - 1960 - .............. 201 قراءات: ...................................................... 213 1 - القانون الأساسي لجيش التحرير الوطني الجزائري ......... 215 2 - المبادى العشرة لجيش التحرير الوطني الجزائري ........... 229

11 - أيام جزائرية خالدة

أيام جزائرية خالدة

بسم الله الرحمن الرحيم

أيام جزائرية خالدة بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1404 هـ - 1984 م الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م

الإهداء إلى روح كل مجاهد في سبيل الله. إلى كل من ضحى ابتغاء مرضاة الله. وإلى كل من كان جهاده خالصا من أجل رفعة الإسلام وعز المسلمين فوق ثرى الجزائر الطهور وفي كل أرض من ديار المسلمين بسام

عودة إلى الأصالة العربية التعليم والتوجيه في خدمة المعركة

المقدمة

المقدمة إنها أيام جزائرية خالدة، والخلود لله وحده، ولكن في حياة الأفراد كما في حياة الشعوب أحداث تترك أثرا عميقا يبقى ثابتا ما دامت الحياة متدفقة في مسيرتها التي لا تتوقف، إلا أن يشاء الله ويبقى ذلك الأثر الثابت قويا، حيا، نابضا، لأنه يمثل ذروة الصراع في الحياة الإنسانية حيث تلتقي الحياة والموت عند نقطة المصير. تلك هي أحداث الثورة الجزائرية بكل ما حفلت به أيامها ولياليها طوال السنوات التي فصلت بين ليل الاستعمار وفجر الجزائر الجديد -فجر الاستقلال. و (الأيام) كلمة استخدمها العرب منذ القديم للدلالة على أحداث بارزة في حياتهم، كان لها دورها في حياتهم، فكان (يوم الفجار) و (يوم ذي قار) و (يوم داحس والغبراء)، وجاء الإسلام فحافظ العرب المسلمون على تراثهم وتقاليدهم، فكات لهم: أيام العراق، وأيام القادسية، ويوم الجسر (المروحة)، ويوم نهاوند (فتح الفتوح)، ويوم اليرموك. وتمضي الأيام، ويسجل العرب المسلمون تاريخهم على صفحة التاريخ، لا يمضي جيل إلا ويضيف يوما جديدا إلى سجل المجد والخلود، حتى لتكاد صفحات التاريخ تفيق بما تحتويه. ويأتي على الأمة العربية والإسلام حين من

الدهر، تكاد تنسى فيه - لشدة ما أصابها ولقوة ما نزل بها - أيامها الخالدات، لكن ذاكرة الشعوب تبقى قوية، جبارة، متعاظمة، ترتفع على الأحداث مهما عظمت، وتكبر على النوائب مهما قست واشتدت. هكذا كان شعب الجزائر المجاهد، ومن قلب المحن، ظهرت الأيام التي ربطت بين صفحات الماضي بصفحات المستقبل، فكان الأجداد الصيد من أمثال: الأمير عبد القادر، والحداد، والمقراني، وبو معزة، ولالا فاطمة، وآخرون لا زالت أيامهم ذكرا على شفة التاريخ ولسان الأجيال. ثم تأتي الثورة الحاسمة، فتكون أيامها ولياليها، ساعاتها ودقائقها، كلها نسيج متصل من البطولات الخارقة والأعمال الرائعة حتى لتكاد تشكل بمجموعها يوما واحدا، غير أنه يوم لا يقاس بعمر الزمان. لقد تمثلت (أيام الجزائر الخالدة) بما قام به رجال جيش التحرير الوطني الجزائري، من مجاهدين ومسبلين وفدائيين، وبما اضطلعوا بتنفيذه من جلائل الأعمال. وسبق في الكتاب رقم (10) من هذ5 المجموعة، التعرض لأعمال الجيش وتطوره، غير أن البحث أوسع من أن يأخذ حقه في كتاب أو عدد من الكتب، وإذن فلا بد من التعرض للحد الأدنى والضروري حتى تكون الفكرة أكثر وضوحا، وحتى يكون البحث أكثر شمولا واتساعا. وقد يظهر من غير المهم - للحظة من اللحظات - الإسهاب في بحث حادثة معينة، أو تضمين الكتاب وثيقة من الوثائق، تجاوزها الزمن، وحدث عليها كثير أو قليل من التغيير، غير أن قضية البحث

هنا هي قضية تسجيل تاريخي لمرحلة معينة قد يكون من الضروري جدا - لأمانة البحث من جهة، ولإجراء المقارنة مع التطور اللاحق من جهة ثانية، عدم إسقاط تلك الأحداث أو إجمال تلك الوثائق - وهنا أيضا، وإذا كان من المحال ذكر كل ما هو متوافر من الوثاثق فلا أقل من التعرض لبعضها وتحقيق نوع من التوازن الذي يحقق الهدف، وهو: لا إيجاز يخل بالموضوع ولا إسهاب يبتعد بالبحث عن غرضه. تبقى هناك نقطة لا بد من ذكرها: لقد سقط في حرب التحرير مليون ونصف المليون من الشهداء الأبرا ر، ولكل شهيد قصة تستحق التسجيل، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد تعرضت كل قرية وكل ضاحية وكل مدينة لأحداث لا يمكن حصرها وكلها تستحق النسجيل، لأنها تراث تاريخي وتجارب هامة تشكل بمجموعها قصة التجربة التاريخية للجزائر في معاناتها مع الاستعمار. غير أن الإحاطة بكل تلك الأحداث هي من الأمور التي يصعب بلوغها وهنا أيضا كان لا بد من الاختيار والانتقاء. وهذا الاختيار والانتقاء لا يعني أهمية هذه الأحداث أكثر من سواها. ولا يعني إعطاءها الأفضلية على غيرها. ولعل من المناسب الإشارة إلى أن المتحف الوطني للمجاهد - مركز الوثائق - والمركز التاريخي للبحوث في الجزائر، يعكف حاليا على جمع ما يستطيع جمعه من (قصص المجاهدين) وقد تكون لدى هذه المراكز نتاج ضخم - وقد يفتقر إلى الوثائقية الدقيقة، غير أنه يضم يقينا تراثا ضخما قد يظهر في المستقبل صورة أكمل وفكرة أفضل عن دور المجاهدين في الثورة، ويساعد على إغناء مادة (البحث التاريخي).

وبعد، وعلى الرغم من كل ما كتب، وكل ما سيكتب عن (أضخم ثورة عربية إسلامية في العصر الحديث)، فإن تراث الثورة وأمجادها لا زالا في حاجة للمزيد من البحث والدراسة حتى تأخذ هذه الثورة الرائدة حجمها الطبيعي في الإطار التاريخي. وحتى يتم الإفادة من التجربة التاريخية للجزائر، لا في الحدود الجغرافية للجزائر فحسب، وإنما في كل أرجاء العالم العربي - الإسلامي. والله أسأله التوفيق. بسام العسلي

الفصل الأول

الفصل الأول 1 - قصة الثورة الجزائرية. آ - المخاض العسير. ب - البداية الشاقة. ج - التوازن الإستراتيجي - (1956 - 1960). د - من التوازن إلى الهجوم الإستراتيجي. 2 - لاكوست - والثورة المضادة للثورة -. 3 - شال - على خطى (نافار). 4 - ذريعة (أوروبيي) الجزائر. آ - دراسة عن الأقليات الأوروبية في الجزائر. ب - رسالة جبهة التحرير الوطني إلى الفرنسيين. ج - رسالة جبهة التحرير الوطني إلى اليهود. 5 - ثورة الجزائر تنتقل إلى فرسا. آ - تقرير الصحافة عن الحرب في فرنسا. ب - قصة المعركة في كتابة الثوار. 6 - مع المجاهدين في معاقلهم. 7 - ومع قائد من المجاهدين.

حضارة فرنسية تتحدث عن نفسها

قصة الثورة الجزائرية

1 - قصة الثورة الجزائرية يتفق الشعب الجزائري المجاهد، على حقيقة ثابتة، وهي أن ثورته التي فجرها في الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر - 1954 - لم تكن وليدة ظروف عابرة أو طارئة، ولا هي صراع مع الاستعماريين من أجل مصالح مادية أو مكاسب اقتصادية ومنافع مالية - على نحو ما يميز الصراعات المتفجرة في عالمنا المعاصر، وإلا لما اكتسبت صفتها (الثورية الأصيلة). وعلى هذا، فإن هذه الثورة هي امتداد متطور لمقاومة الشعب الجزائري التي لم تتوقف أو تنقطع طوال فترة الحكم الاستعماري الجائر. وهي تعبير جديد لما يشعر به الشعب الجزائري منذ حلول الفرنسيين في بلده، من امتهان لكرامته، وجرح لعزته القومية، وهضم لحقه في حياته الحرة الكريمة على أرض آبائه وأجداده. فجاءت الثورة لتفجر في الشعب طاقته المكبوتة للتعبير عن أصالته الذاتية، ولتضمن له انطلاقته نحو آفاق التطور ومسايرة ركب الإنسانية المتقدمة دوما نحو الأمام. وإذا كان الشعب الجزائري المجاهد لم يتوقف أبدا عن مقاومة الاستعمار وسيطرته بمختلف الوسائل الحربية والسلمية، فإن عوامل كثيرة منعت مقاومته من بلوغ ذروتها في الاتساع والشمول والارتفاع، على نحو ما بلغتها في ثورة

أ - المخاض العسير

الفاتح من نوفمبر، منها الشدة المتناهية لأساليب القمع الاستعماري، ومنها مجموعة الظروف العربية والإسلامية والدولية - القريبة والبعيدة - والتي لم تكن مساعدة. فجاءت ثورة الفاتح من نوفمبر، فغيرت بحكم تنظيمها وعمقها بعض هذه الظروف، وجاءت الظروف الأخرى فساعدت على نجاح الثورة وتطورها والوصول بها إلى أهدافها. وقد يكون من المحال، إعطاء هذه الثورة العظيمة حقها من البحث التاريخي بالرغم من كل ما كتب وسيكتب عنها، إلا أن ذلك لا يمنع من التعرض باستمرار إلى مقدماتها ومراحل تطورها وما حققته من منجزات ضخمة على جميع المستويات والصعد خلال مسيرتها الشاقة الطويلة. وقد جرت محاولات كثيرة لتقسيم الثورة - زمنيا - إلى مراحل مميزة، غير أن الاختلاف على حدود هذه المراحل بقي ظاهرا ومتباينا. ذلك أن النسيج التاريخي للثورة هو نسيج شديد التلاحم مما يجعل من الصعب وضع حدود مميزة عند مراحل معينة. وإذا اجتهد المجتهدون، وبحث الباحثون على حدود واضحة يمكن الإستناد إليها بهدف الدراسة - لا أكثر ولا أقل - فإن ذلك لا يعني أن الحدود المفروضة هي حدود لها وجود. ولو بصورة نظرية. وتبقى شدة تماسك نسيج الثورة أقوى من كل القيود أو الحدود. أ - المخاض العسير عرفت الجزار في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية (1919 - 1945) نهضة فكرية تفتحت عن وعي ثوري حقيقي، حيث انطلقت النخبة المتعلمة لدراسة التجربة الثورية الجزائرية منذ بداية استعمار فرنسا للجزائر (5 - تموز - يوليو - 1830) مع ربط ذلك بظروف العالم العربي - الإسلامي والظروف

الأولية، وما حدث في العالم العربي - خاصة - من ثورات واضطرابات ضد القمع الاستعماري وتأسست في الجزائر الجمعيات الثقافية والنوادي، وصدرت الصحف التي باتت منابر لمناقشات المثقفين بشأن واقع الجزائر وحاضرها ومستقبلها. وكانت أصداء هذه المناقشات تصل إلى قلوب الشعب فتهزها بعنف، وتوقظ فيها كوامن الغضب ضد الممارسات الاستعمارية من كبت للحريات واضطهاد للوطنيين وإلقائهم في السجون والمعتقلات، وانتهاك للحرمات والمقدسات. وانتهى ذلك إلى تحقيق نتيجتين أساسيتين: أولاهما: دعم الروابط الدينية والقومية والوطنية بين فئات الشعب المختلفة. وثانيتهما: اكتساب القدرة التنظيمية في الأحزاب والمنظمات والهيئات المختلفة، وتطوير العمل السياسي العلني منه والسري. انتهت الحرب العالمية الثانية، وجاءت مذبحة (8 - أيار - مايو - 1945) لتفرض على الجزائر المجاهدة موقفا جديدا. فقد سقط في هذه المذبحة (45) ألفا من شهداء الجزائر الأبرياء. وكان ذلك تحولا حاسما، إذ أدرك الجزائريون أنه من المحال عليهم بلوغ أهدافهم إلا بوسائط الصراع المسلح. وجاءت أحداث القمع التالية لتؤكد هذا المفهوم ولتترجمه إلى قناعة ثابتة، وأظهرت الأحزاب السياسية عجزها وقصورها، فكان البديل الطبيعي هو تطوير التنظيم السري من خلال (المنظمة الخاصة) في حزب الشعب الجزائري. وانصرف الجهد إلى جمع الأسلحة وإعداد الخلايا الثورية حتى يحين الوقت المناسب لتفجير الصراع المسلح. ورغم أن السلطات الاستعمارية قد اكتشفت بعض خلايا الجهاز السري، وألقت بقادته وموجهيه في السجون والمعتقلات، وحكمت على بعضهم

ب - البداية الشاقة

بالإعدام. غير أن عملية القمع هذه لم تدمر قاعدة التنظيم على ما يظهر، ولو أنها أخرت من موعد تفجير الثورة. فتابع بعض القادة والموجهين نشاطهم السري، واعتصموا بالجبال، وابتعدوا عن الحياة المدنية منذ سنة 1948. وأمكن لبعض الرواد الثائرين الهرب من معتقلات العدو، واللجوء إلى الجبال، أو الانتقال للعمل خارج البلاد. وفي صيف سنة 1954، ظهر للرواد التاريخيين أن موعد فجر الثورة بات قريبا. ففي الخارج كانت حركات التحرر الوطني تحقق النصر تلو النصر، وفي الحدود الشرقية والغربية كانت ثورة القطرين الشقيقين (تونس) و (المغرب) تلهب مشاعر جماهير الشعب الجزائري، وتدفعها لحمل السلاح والسير على طريق الثورة المسلحة. وفي داخل الجزائر، كانت الممارسات الاستعمارية تزيد من احتمالات تفجير (برميل البارود). وكان الاجتماع التاريخي في (10 تشرين الأول - اكتوبر - 1954) في العاصمة الجزائر. حيث تقرر إطلاق رصاصة الثورة، ووضعت اللمسات الأخيرة على مخططات انطلاقة الثورة. ونظمت (اللجنة الثورية للوحدة والعمل). وانطلقت ثورة الفاتح من نوفمبر (في ليل عيد جميع القديسين). ب - البداية الشاقة: فوجئت السلطات الاستعمارية، وبوغت العالم كله، بوقوع سلسلة من الهجمات المسلحة التي شنها المجاهدون الجزائريون على المنشآت والمراكز العسكرية الإفرنسية في كامل أنحاء الجزائر، وعلى الأخص في جبال الأوراس، والشمال القسنطيني، والقبائل الكبرى، ونواحي الجزائر وتلمسان. وكان ذلك إيذانا ببداية الحرب طويلة الأمد والتي استغرقت مدة سبع سنوات ونصف.

كان رد الفعل الأولي لفرنسا ممثلا بموقف رئيس الوزراء الفرسي آنذاك (مانديس فراس) الذي أعلن: (بأن جواب فرنسا على هذه العمليات التمردية هو الحرب) وبادر بإرسال قوات المظليين في 2 تشرين الثاني - نوفمبر - 1954. وكان هذا الإجراء هو بداية تاريخ المظليين الفرنسيين في الجزائر، وهو التاريبخ الذي يشكل صفحة سوداء في جملة صفحات الاستعمار الإفرنسي المميز بجرائمه القذرة، وأساليبه الوحشية الشائنة: فقد بدأ هؤلاء - أصحاب القبعات الحمر - على إجلاء المواطنين المسلمين بناحية أوريس، ودمروا القرى والمداشر بقنابل الطائرات. ومارسوا أعمال الإبادة الإجماعية والتعذيب اللاإنساني، والاعتقالات الرهيبة. وبدأت المعارك الطاحنة بين القوات الإفرنسية ومجاهدي جيش التحرير الوطني الذين أظهروا في صراعهم المرير وغير المتكافيء بطولات أثارت إعجاب العالم. كانت ردود فعل الجماهير الجزائرية مختلفة، متباينة - كما كان متوقعا - إذ أنه من المحال تدمير هيبة الاستعمار بضربة واحدة بعد تلك الهيمنة الطويلة التي رافقت عمر الاستعمار. وكان لا بد من إقناع الجماهير بمجموعة من الحقائق لإجراء التحول المطلوب، وأبرز هذه الحقائق: أولا - قدرة الإنسان الجزائري المسلم، على تحدي الإنسان الأوروبي - الإفرنسي - الذي شكل عقدة (تفوق الرجل الأبيض) وذلك بصرف النظر عن التشابه باللون إن كان هناك ثمة تفوق عنصري - أو عرقي - يرتبط بلون البشرة. ثانيا - قدرة الإنسان الجزائري المسلم، على خوض الصراع المسلح في حرب طويلة الأمد. إذ كان صمود الثورة واستمرارها

شرطا أساسيا لإجراء التحويلات المطلوبة في وسط الشعب الجزائري: وعلى هذا، فقد كانت فئات الشعب فى الريف والجبال، أكثر استعدادا لاحتضان الثورة منذ بداياتها المبكرة، بحكم عمق مشاعرها الدينية، وبحكم ظروفها الاجتماعية السيئة، فلم يكن لهذه الفئات ما تخافه أو تخشاه، وهي المؤمنة بمفهوم الجهاد، كما لم يكن لديها ما تخاف عليه وهي لا تمتلك من حطام الدنيا إلا قيودها وأغلالها التي كبلها بها الاستعماريون. أما سكان المدن، والمثقفون فيهم بصورة خاصة، والمحافظون التقليديون من أتباع السلطة (بني وي وي - الإمعات) فقد أيدوا - في معظمهم انطلاقة الثورة في بداياتها الأولى، غير أنه كان من المحال عليهم التخلص من رواسبهم دفعة واحدة، ولهذا أظهروا ترددا أمام منح الثقة لقدرة الثورة على الصمود والاستمرار. ولكن تعاظم قدرة الثورة، وظهور تنظيمات المهجاهدين والفدائيين والمسبلين (الأنصار) وما كانت تحققه هذه التنظيمات من أعمال مثيرة وبطولات رائعة، أقنعت المتشككين والمترددين بطرح ترددهم، وهكذا فعندما طرح رئيس الوزراء الإفرنسي - إدغارفور - والذي خلف منديس فرانس بسبب حرب الجزائر - طرح قضيه الدمج. اصطدم بالنواب الجزائريين الذين كانت تعتبرهم فرنسا (ورقتها المضمونة) وشكل هؤلاء (جماعة الواحد والستين) الرافضة للدمج. سجلت هذه المرحلة (من العام 1955) تطورا كبيرا في نشاط الثورة التي امتد لهيبها إلى كل أنحاء الجزائر. فلم تصل هذه السنة إلى نهايتها حتى تم تأمين الاتصال بين كل (ولايات الكفاح) - بما

ج - التوازن الاستراتيجي (1956 - 1960)

في ذلك وهران. وشهد صيف 1955 معارك طاحنة في أوراس والشمال القسنطيني؛ حيث شن جيش التحرير الوطني هجوما شاملا - في يوم 20 آب - أغسطس - أعدم أثناءه مئات من الإفرنسيين - الاستعماريين والمستوطنين - وأعوانهم من الخونة والعملاء. وكثرت أعمال القتل والإبادة الجماعية من قبل الاستعماريين، الأمر الذي ساعد على خلق جدار قوي من العزلة بين قوى الاستعمار والقوى الوطنية. وخلال هذه الفترة كانت جبهة التحرير الوطني تتابع تطوير تنظيمها (داخليا وعربيا ودوليا). وعلى سبيل المثال: فقد أمكن لها في الفترة (1955 - 1958) تنظيم الطلاب والشباب في جامعات فرنسا ومدنها ضمن إطار (جبهة التحرير الوطني) وقد أثمرت هذه الجهود التنظيمية في آب - أغسطس - 1958، عندما أخذت الجبهة في نقل الصراع إلى فرنسا حيث قامت الفرق المسلحة الجزائرية بتدمير عدد من المنشآت الاقتصادية في فرنسا. وعلى المستوى الدولي - اكتسبت الثورة تأييدا متعاظما انطلق من العالم العربي - الإسلامي وامتد إلى عواصم العالم. وبرز ذلك في مقررات (مؤتمر باندونغ - 1956) وفي هيئة الأمم المتحدة حيث طرحت للمرة الأولى قضية (حق الشعب الجزائري في تقرير المصير. ج - التوازن الاستراتيجي (1956 - 1960). بدأت الثورة الجزائرية بمجموعة قليلة من الثوار التاريخيين، لا يمتلكون من وسائط الصراع إلا القليل، وكان التوازن في القوى مفقودا على ساحات الصراع، وزاد الأمر سوءا. عندما أخدت فرنسا بإرسال موجات متتالية من قوات الدعم المجهزة بأحدث وسائط

الصراع. ومقابل ذلك أخذت الثورة في زيادة رصدها بفضل ما كان يقدمه لها خزان الشعب الهائل من دعم مادي ومعنوي. غير أن ميزان القوى بقي مضطربا في غير مصلحة الثورة. وبدأ الصراع في استنزاف قدرة العدو المادية والمعنوية، ومع هذا الاستنزاف كانت قوات الثورة تتعاظم باستمرار - ماديا ومعنويا-. وفي نهاية السنة الخامسة للثورة (1959) ظهر بوضوح أن فرنسا قد استنزفت كل إمكاناتها للصراع. في حين ظهر أن الثورة لا زالت قادرة على حشد المزيد من القدرات (في القوى والوسائط) حيث انتظمت جماهير الشعب الجزائري في أعمال الصراع المختلفة، وحيث ظهر أن تأمين التمويل للثورة وإمدادها باحتياجاتها من الأسلحة لم تعد مشكلة على طريق الثورة. ووصلت الثورة بذلك إلى مرحلة (التوازن الاستراتيجي). غير أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن سهلا ولا يسيرا. كان الثوار - القادة التاريخيون - قد تواعدوا عندما أطلقوا شرارة الثورة، على الالتقاء بعد ستة أشهر من انطلاقة الثورة بهدف إعادة تقويم المرحلة السابقة، والإعداد لمتطلبات المرحلة التالية. ولكن سرعة تطور الأحداث، وعنف المد الثوري الجارف، وإنهماك القادة في العمل لم تسمح بعقد هذا اللقاء إلا بعد سنة وعشرة أشهر. وهكذا انعقد مؤتمر الصومام يوم 20 آب - أغسطس - 1956. الذي يعتبر - إلى حد ما - نقطة تحول حاسمة على طريق الثورة. لقد حضر هذا المؤتمر - لأول مرة - مندوبون عن مناطق الكفاح المختلفة، وتخلف عنه بعض القادة الذين استشهدوا أو اعتقلوا مثل المرحومين (ديدوش مراد) و (مصطفى بن بو العيد) اللذين استشهدا قبل انعقاد المؤتمر و (رابح بيطاط) الذي اعتقل يوم

(23 - أيار - مايو - 1955) ولم يتمكن من الحضور أيضا (أحمد بن بيللا) ورفاقه الذين كانوا يمثلون الثورة في الخارج. وقد أسفرت اجتماعات المؤتمر عن نتائح هامة، مثل شرح وتأكيد المبادىء الأساسية التي عبر عنها منشور الثورة الأول، وتنسيق التعاون بين مختلف (ولايات الكفاح)، وتنظيم جيش التحرير، وتوحيد ظواهره وأساليبه وطرائق إدارته، وتعزيز قوته. وإنشاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي يعتبر بمثابة السلطة العليا للثورة، ثم لجنة التنسيق والتنفيذ التي هي بمثابة السلطة التنفيذية. امتازت هذه الفترة بزيادة أعداد جيش التحرير الوطني وتعزيز إطاراته بالشباب المثقف الذي ترك الدراسة والتحق بصفوف الثوار في الجبال، بعد إعلان الإضراب العام من طرف (الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين)، ولقد حل هذا الاتحاد الذي كان في إضراب منذ أيار - مايو - 1956 من قبل الإدارة الإفرنسية سنة 1958. كما كانت قد حلت من قبل (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) و (الاتحاد العام للتجار الجزائريين) سنة 1957 وحينذاك إنضم عدد من أجهزة هذه التنظيمات إلى (جبهة التحرير الوطني) و (جيش التحرير الوطني) فدعموا قدراته بالعناصر القيادية والمقاتلين، كما إنضم عدد كبير إلى صفوف المجاهدين بصورة سرية (داخل البلاد أو خارجها). تطورت في هذه الفترة الوسائط القتالية لجيش التحرير الوطني عن طريق الغنائم الضخمة التي كان ينتزعها المجاهدون من أعدائهم، وعن طريق الإمدادات التي أخذت في الوصول إلى القواعد المحررة من الخارج - عن طريق تونس بالدرجة الأولى وامتازت هذه الفترة من جهة أخرى بتعاظم أعمال الفدائيين في المدن

ضد الاستعماريين والخونة. وكذلك تخريب مرافق العدو ووسائل مواصلاته، وبرز تضامن الشعب الجزائري مع مجاهديه بشكل مثير وواضح عبر تلك الإضرابات والتظاهرات التي كانت تدعو إليها جبهة التحرير الوطني، ومنها على سبيل المثال: إضراب 5 تموز - يوليو - 1956، بمناسبة ذكرى إحتلال فرنسا للجزائر العاصمة (*) وكذلك في إضراب غرة نوفمبر - تشرين الثاني - 1956 إحياء للذكرى الثانية لاندلاع الثورة، والتي نشر (المجاهد) بمناسبتها القانون الأساسي الذي تمخض عنه مؤتمر (وادي الصومام) وكذلك أيضا الاضراب الوطني الكبير الذي إستمر لمدة ثمانية أيام (من 28 كانون الثاني - يناير - حتى 4 شباط - فبراير - 1957) وهو عبارة عن تضامن وطني لا عنف فيه، في وقت مناقشة القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة ... أساءت فرنسا لنفسها عندما رفضت (وهي الدولة العقلانية - العلمانية على ما تزعم) الإصغاء لصوت العقل، فتابعت عنادها الأحمق، متنكرة لكل ما كان يقع تحت بصرها من تطورات، وعلى الرغم من أن الاشتراكيين (غي موليه) و (لا كوست) قد خاضا المعركة الانتخابية تحت شعار السلم في الجزائر، فإن (غي موليه) سرعان ما تنكر (لشعاره) وطرح ثلاثيته المعروفة (إيقاف القتال، فالانتخابات، فالمفاوضات). وقد قيل كثيرا أن سبب هذا

_ (*) وكان قد سبقه الإضراب التاريخي في شهر أيار (مايو) 1956 بنداء صادر عن الطلبة الجزائريين بعاصمة الجزائر (انظر قراءات - 1) في نهاية الكتاب لمطالعة نص النداء المذكور.

(التنكر) هو ما تعرض له (غي موليه) من مقاومة ضارية نظمها المستوطنون الأوروبيون في الجزائر، حتى أنهم رموه بالطماطم الفاسدة (البندورة) عند زيارته الأولى للجزائر، غير أن مقاومة هؤلاء المستوطنين لم تكن أكثر من لعبة إستعماريه لمتابعة النهج الاستعماري. وقد كان (غي موليه) في حاجة لمثل هذه الذرائعيه لتعطية انحرافه. المهم في الأمر هو أن (غي موليه) أقال (كاترو) المعتدل من وجهة نظر الاستعماريين، وعين زميله السفاح المشهور (روبير لاكوست) صاحب (الأرباع الساعة الأخيرة التي لا تنتهي). وأخذت فرنسا في إرسال قوات الأمم حتى بلغ عدد أفراد الجيش الاستعماري في الجزائر أكثر من نصف مليود مقاتل، علاوة على (الميليشيات المحلية)، وعلاوة على قوات الدرك (الجندرمة) وتبع ذلك أعمال قمع وحشية لم تفلح في قمع الثورة، الأمر الذي أدى إلى سقوط حكومة (غي موليه) وقيام الجمهورية الخامسة برئاسة (ديغول). وقد حاول هذا بدوره قمع الثورة وهو يطرح (سلم الأبطال). فبرزت للوجود مجموعة من المخططات العسكرية، عرفت بأسماء اصطلاحية - من أبرزها: 1 - عملية (لوبروميير) في منطقة القبائل الكبرى (اكتوبر - نوفمبر = تشرين الأول والثاني 1958). 2 - عملية (التاج) في جبال القبائل والأكفاد (جويليه - نوفمبر - تموز - تشرين الثاني 1959). 3 - عملية (كوروا - وايتانسيل) شمال قسنطينة والقبائل الصغرى بداية من نوفمبر (تشرين الثاني - 1959). 4 - عملية (جوميل) التي امتدت حتى جبال الجزائري في (الحضنة) في تموز - يوليو - 1959.

5 - عملية (برنامج شال) (*) التي حشد لها من (50) إلى (100) ألف جندي. وطبق البرنامج في البداية في جبال (الونشريس) من شباط - فبراير - حتى تموز - يوليو - 1959. ثم استأنف (شال) هجماته الكبرى في النصف الثاني من عام 1959 وطوال عام 1960. 6 - عملية (تونتاكيل) في ولاية (وهران) وبالقرب من (السد الغربي) وفي جبل دايه (نيسان - أيار = افريل - ماي) 1960. 7 - عملية (بروقيتي) جنوب (وهران) من أيار (مايو) إلى أيلول (سبتمر) 1960. 8 - عملية (سيغال) في (الونشريس) تموز (يوليو) إلى آب (أغسطس) 1960. 9 - عملية (جوميل) وعملية (الأحجار الكريمة) - للمرة الثانية في منطقة القبائل والشمال القسنطيني. في سنة 1960. 10 - عملية (آربييج) بداية من ربيع 1960 وحتى تشرين الأول - اكتوبر - وتشرين الثاني - نوفمبر 1960 - وشملت المناطق المحيطة بالأوراس.

_ (*) ويسمى (مشروع شال) ويتلخص في نقطتين: أولاهما عزل جيش التحرير عن المواطنين في الريف. ولذلك عمدت القوات الاستعمارية إلى إجلاء السكان عن مساكنهم، وحشدهم في معسكرات الحشد حيث يصبحون تحت المراقبة الدائمة لجيش الاحتلال. أما النقطة الثانية، فهي القيام بعملية عسكرية واسعة النطاق، ذات مراحل، يقع مركز الثقل في كل مرحلة منها على منطقة من المناطق التي يرتكز فيها جيش التحرير، حيث تحشد قوات هائلة من مختلف الأسلحة، يستمر عملها أسابيع أو شهورا متتالية لسحق القوات الوطنية في تلك المنطقة، ثم تنتقل إلى غيرها. وهكذا ....

11 - عملية (ماراتون) لدعم السد الشرقي (خط موريس) في محاولة للقضاء على جيش التحرير في نيسان - إبريل - 1960. ... أحد عشر هجوما واسع النطاق بها أسماؤها الضخمة، وبعضها أعيد مرات. عديدة، ومثلها أضعافا من الهجمات التي لم تحمل أسماء إصطلاحية، وكلها فشلت على صخرة صمود المجاهدين وتحطمت. فماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك ببساطة أن مرحلة التوازن الاستراتيجي على مستوى العمليات قد تحققت بالرغم من كل العناد الافرنسي. ومضى جيش التحرير الوطني وسط العقبات والمصاعب، وهو يزيد من قوته، حتى بلغ عدد أفراده (120 ألفا). وأنشئت المدارس العسكرية، وأرسلت البعثات إلى الخارج لتكوين الإطارات (الكادرات) الفنية، وتغيرت خطط المقاومة للإفلات بنجاح من عمليات (مشروع شال)، وامتدت العمليات الحربية إلى أقصى الصحراء بل وإلى فرنسا ذاتها، حيث تم تدمير مستودعات بترولية ضخمة، وأعيد تنظيم المقاومة في المدن، وتعرضت الثورة في هذه الأثناء إلى خطرين جسيمين، قدم الشعب المجاهد في مواجهتهما أعدادا كبيرة من الضحايا البريئة أولهما: معركة العاصمة (سنة 1957) حيث أسندت إدارة الأمن في العاصمة وضواحيها إلى قائد المظليين (الجنرال ماسو) الذي أخذ على عاتقه تدمير منظمات الفدائيين في (الجزائر) فأطلق جنوده، يرتكبون أفظع أعمال التقتيل وأبشع طرائق التعذيب والسلب. وقد ذهب ضحية التعذيب والاغتيال كثير من الشهداء الأبرار، منهم بصورة خاصة (الشهيد العربي بن المهيدي) عضو لجنة التنسيق والتنفيذ، و (علي بومنجل) المحامي، اللذان اغتيلا في

السجن بطريقة قذرة. كما ظهررت قضايا التعذيب (جميلة بوحيرد) فثار الرأي العام العربي - الإسلامي والعالمي، وتعاظمت موجة السخط والاحتجاج. وقد وقعت عمليات مماثلة في كافة المدن الجزائرية، مما أفقد الثورة كثيرا من إطاراتها النشيطة، وأضعف الحركة الفدائية في المدن. واضطر الأحياء من أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ إلى مغادرة الوطن، بعد أن كانوا قد جعلوا من العاصمة (الجزائر) مقرا لهم. أما الخطر الثاني، فيتجسم في تلك الفتنة التي أثارها عميل فرنسا (بن لونيس) والذي جمع حوله بعض البسطاء المغرورين، وقد شغلت هذه الفتنة جانبا غير قليل من جهود جيش التحرير الوطني. وذهب ضحيتها كثير من الشهداء إلى أن أمكن القضاء عليها (في نيسان - إبريل - 1958) بعد إعدام رأس الحركة والتحاق جنوده بمجاهدي جيش التحرير الوطني. وقد أمكن التغلب على كل هذه الصعوبات بفضل التنظيم المحكم للثورة، والكفاءة العالية في سرعة تبديل الخطط حتى تتكيف مع أساليب العدو المتبدلة، ومع ظروف الصراع المتحولة. كما أن التفاف الشعب حول الثورة ودعمه لها، قد ضمن لها الحماية من كل خطر. رافق ذلك تطور على مستوى القيادة، فقد اجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الثانية من (20) إلى (28) آب - أغسطس - 1957 في القاهرة. وغيرت لجنة التنسيق والتنفيذ، ووسع نطاقها، فأصبحت تضم (7) أعضاء نشرت أسماؤهم للمرة الأولى كما أصبح المجلس الوطني يضم (54) عضوا. واتخذ عدة مقررات سياسية هامة، ففوض بالخصوص جزءا من سلطته إلى لجنة التنسيق والتنفيذ. وفي السنة التالية تقرر تشكيل الحكومة

المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وأعلن عن تشكيلها يوم (19 - أيلول سبتمبر - 1958) فاكتمل بذلك الكيان الرسمي للدولة الجزائرية، بوجود حكومة، وجيش وأجهزة إدارية لإدارة البلاد. أصبحت (القضية الجزائرية) معضلة من أضخم المشكلات الدولية ولقد سجلت وبوقشت في دورات الأمم المتحدة المتتالية، وكانت في كل مرة تكتسب المزيد من الدعم والتأييد الدولي. وبات مصير السكان المدنيين الجزائريين (مليونا نسمه من المرحلين) يقلق العالم بأكمله. وأثار التعذيب والاغتيالات، واستمرار فرنسا في ممارساتها الوحشية - ومنها اغتيال عيسى ايدير - استنكارا عالميا. وباتت فرنسا في حاله مفزعة من العزلة الدولية، حيث أخد حلفاؤها في انتهاج سياسة مستقلة عنها (وظهر ذلك في أزمة ساقية سيدق يوسف عند ما اعتدت فرنسا على الحدود التونسية، الأمر الذي مهد لسقوط الجمهورية الرابعة وقيام جمهورية (ديغول) الخامسة. ومقابل هذا التآكل (والاهتراء) في (الهيبة الإفرنسية) عسكريا وسياسيا واقتصاديا، كانت حكومة الثورة وجيش الثورة، وشعب الثورة، تكتسب هيبة متعاظمة، أبرزها التأييد المتزايد لشرعية الحكومية الجزائرية، بقدر ما أبرزتها الزيارات الرسمية التي قام بها القادة الجزائريون لبعض دول العالم (زيارة ابن خدة لأمريكا اللاتينية - آب - أغسطس - 1960) وزيارة نائب رئيس الحكومة المؤقتة (كريم بلقاسم) لهيئة الأمم المتحدة وكذلك زيارة الرئيس فرحات عباس إلى بكين وموسكو في تشرين الأول - أكتوبر - 1960. هذا بالإطافة إلى التأييد المتعاظم في المؤتمرات الإقليمية (الشعوب الإفريقية - الآسيوية). لقضية (الثورة الجزائرية).

د - من التوازن إلى الهجوم الاستراتيجي

د - من التوازن إلى الهجوم الاستراتيجي: عقد المجلس الوطني للثورة الجزائرية دورته الثالثة في طرابلس - ليبيا - من 16 كانون الأول - ديسمبر - 1959 إلى 20 كانون الثاني - يناير 1960. وسجل الاعتراف بحق تقرير المصير، وأكد ثقته بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لفتح باب المفاوضات مع فرنسا. وحدث تعديل في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كما حدث تعديل في قيادة جيش التحرير الوطني، حيث أسندت القيادة العليا العامة إلى (العقيد - الكولونيل - هواري بومدين) (*) يعاونه ثلاثة من القادة. وخلال هذه الفترة، كانت إدارة العمليات قد أخذت شكلها الثابت - تقريبا -. فقد تفرقت الوحدات الكبرى، ونقلت الفرق المسلحة المتنقلة حرب العصابات إلى جميع القطاعات، وكانت هذه الفرق مدربة أحسن تدريب. وكان نشاطها مسلطا ضد القوات الافرنسية التي تقوم بعملياتها الكبرى فكانت قوات جيش التحرير توجه ضرباتها المحكمة إلى مؤخرة القوات الافرنسية وأرتال إمدادها وتموينها، ومفارزها المنعزلة، وكان جيش التحرير حاضرا في كل مكان، في المدن والبوادي وحتى في أمكنة عمليات التفتيش (التمشيط والكادرياج). وكان ينظم الكمائن الناجحة. وفرض جيش التحرير سيطرته على الأطلس الصحراوي، بالإضافة إلى تمركزه على الحدود الجزائرية - المغربية وعلى الحدود الجزائرية - التونسية، حيث ساعدت الدولتان الشقيقتان على دعم

_ (*) أصدر العقيد (هواري بومدين) فور تسلمه السلطة، مجموعة من القرارات التنظيمية التي يمكن مطالعتها في آخر هذا الكتاب (قراءات 2).

جيش التحرير الوطني، وزيادة قوته، ورفع مستوى تدريبه على الأسلحة الحديثة والأساليب التعبوية - التكتيكية -. وكانت السدود التي أقامتها فرنسا (خط موريس) تحطم جزئيا وفي مرات متعددة، أثناء مرور وحدات كاملة، أو بمناسبة الهجمات العامة المنظمة التي كانت توجهها القيادة العليا وتوطدت هذه الانتصارات العسكرية، بظهور عامل جديد، وهو تعاظم دور جماهير الشعب المجاهد، وبروز الإرادة الشعبية الموحدة في تلك التظاهرات التي بدأت منذ (11 - كانون الأول - ديسمبر - 1960) في المدن الجزائرية الكبرى. حيث عبرت جماهير الشعب عن إيمانها (بالجزائر المستقلة) وثقتها (بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية). ففي الجزائر العاصمة ووهران والبليدة ومستغانم وجيجل، رفع العلم الجزائري، وهتفت له حناجر عشرات الآلاف من المتظاهرين. وبداية من اليوم ذاته، شرع (15) ألف معتقل جزائري في سجون فرنسا في إضراب الجوع غير المحدد، حتى يعترف لهم بالنظام السياسي، واعتبارهم (أسرى حرب). ودعم الرأي العام الجزائري هذا الإضراب، كما سانده الرأي العام العالمي، وحقق هذا الإضراب انتصارا كاملا يوم (22 - تشرين الثاني - نوفمبر - 1961). كانت المفاوصات والاتصالات التي بدأت منذ عام 1956، تسير بتعثر. ولكن السياسة الإفرنسية نحو الجزائر أخذت في التطور بصورة حاسمة تحت تأثير محصلة الصراع العسكري والسياسي، ولو أن هذا التطور سار بخطوات بطيئة استمرت أربع سنوات - منذ وصول الجنرال (ديغول) إلى الحكم، وذلك بسبب المقاومة الضارية التي كانت تقودها وتوجهها الدوائر الاستعمارية في الجزائر، وقوات

الجيش الفرنسي لإحباط أي محاولة لحل القضية الجزائرية. وهكذا بدأت مجموعة من العروض الغامضة، ثم التراجع والمراوغة. فكان أن عرض - ديغول - ما أطلق عليه (اسم سلم الأبطال) في (23 تشرين الأول - اكتوبر - 1958) الذي رفضته الحكومة الجزائرية بسبب غموضه، وبسبب رفض الحكومة الإفرنسية التفاوض مع الزعماء الجزائريين المعتقلين في فرنسا (ابن بيللا ورفاقه). وجاءت بعد ذلك المحاولة الفاشلة التي قامت بها حكومة ديغول لإجراء انتخابات وتشكيل مجلس للنواب الجزائريين بهدف خلق بديل للتفاوض عوضا عن (جبهة التحرير الوطني). وأخذت فرنسا - ديغول - في التهديد بفصل الصحراء عن الجزائر إذا ما أصرت الجبهة على قضية (حق تقرير المصير - والاستقلال) وجرى اتصال مع الجبهة في (مولان) بتاريخ 20 حزيران - يونيو - 1960. أكدت فيه فرنسا اسمرارها بأساليب الخداع والتضليل ومحاولة كسب الوقت، ففشلت محاولة المفاوضات من جديد. وهنا حداث التطور الخطير الذي كان له التأثير الحاسم في وضع حد لعملية الخداع الإفرنسي. فقد اندلعت التظاهرات العنيفة في مدن الجزائر (في كانون الأول - ديسمبر - 1960) وسقط فيها مئات الشهداء. ويظهر أن فرنا قد استخلصت العبرة. فكانت مفاوضات (ايفيان) الأولى، ومفاوضات (لوغران) في صيف (1961). ولكن ظهر أن باريس لا تزال متمسكة بالصحراء) ففشلت المفاوضات واستمرت المظاهرات الجماهيرية التي برهنت على أنه ليس هناك حل للمشكل إلا بالتفاهم مع الحكومة الجزائرية. ثم اجتمع المجلس الوطني للمرة الرابعة، وشكل حكومة جديدة (هي حكومة السيد يوسف بن خدة) والتي أعلن رئيسها يوم 24 - تشرين الأول - اكتوبر - 1961 أنه يفتح

الباب الواسع أمام المفاوضات. واقترح طريقا أكثر واقعية للوصول إلى نهاية الحرب وتحقيق الاستقلال عبر أقصر الطرق. واستمرت الاتصالات السرية طوال أربعة أشهر، وأسفرت عن المفاوضات الأخيرة التي جرت على الحدود السويسرية - الإفرنسية (من 11 إلى 21 شباط - فبراير - 1962) وبعد مصادقة المجلس الوطني للثورة الجزائرية، ومجلس الوزراء الفرنسي، تم التوقيع على معاهدة (إيفيان) بتاريخ 18 آذار - مارس - 1962 وتوقف القتال في منتصف نهار 19 - آذار - مارس. على أساس الاستقلال وضمانات تقرير المصير الذي سوف يجري في فترة لا تتجاوز ستة شهور، وبذلك تستقل الجزائر استقلالا ناجرا كاملا (*). ... وجلت القوات الاستعمارية عن تراب الجزائر المجاهدة، وعاد الثرى طهورا بما ارتوى من دماء الشهداء الأبرار. غير أن العرض السابق يتطلب وقفة قصيرة عند بعض المواقف التي مر العرض عليها بسرعة، مثل (موقف لاكوست من محاولة تنظيم قوة جزائرية لمجابهة الثورة) ومثل (مضمون برنامج شال - من وجهة نظر الجزائريين). وكذلك (إحدى ظواهر نقل الصراع إلى فرنسا) و (فضائل الثوار - المجاهدين) وذلك قبل استقراء بعض ملامح الأعمال القتالية التي تكمل صورة الموقف، وتلونها، - وفقا للمصطلحات الأدبية الحديثة -.

_ (*) تم الاعتماد في هذا القسم من البحث - بالدرجة الأولى - على (النشرية الداخلية - وزارة الداخلية - الجمهورية الجزائرية - رقم 13 - مارس 1962). وكذلك (نشرة الثور الجزائرية - إعداد بلقاسم بنعيمي - وثائق متحف المجاهد).

لاكوست - والثورة المضادة للثورة -

2 - لاكوست - والثورة المضادة للثورة - وصف الشعب الجزائري الاشتراكي (روبير لاكوست) - الحاكم العام للجزائر - بصفة (سفاح الجزائر). نظرا لما ارتكبه بحق الشعب الجزائري من جرائم وآثام، ونظرا لما طبق في عهد إدارته من أساليب وحشية وطرائق خبيثة شريرة. وكان في جملة وسائله محاولة إثارة الاقتتال بين الجزائريين من خلال تكوين قوات جزائرية تعمل تحت قيادة ضباط أفرنسيين (أو تنظيم ثورة مضادة للثورة) وتعرض كاتب جزائري لمعالجة هذا الموقف تحت عنوان (كيف اهتدى روبير لاكوست إلى تسليح الثوار) وتضمن البحث ما يلي: (لكل عاقل أن يتساءل عن الأمر الذي يبعث لاكوست على التفاؤل إزاء تطور الحالة في الجزائر. لقد توالت على أذنيه أخبار العمليات، وما تتركه في صفوفا الجيش الفرنسي ومسيري الاستعمار من فراغ، وتعاقب انتصارات جبهة التحرير الوطني، حتى أصبحت الصحف عاجزة عن عدها وإحصائها. وظهر عجز (600) ألف جندي مسلح بأقوى الأسلحة وأحدثها، حتى اضطر الوزير المفوض إلى الكذب والاحتيال على طريقة (المكتب النفساني) والتصريحات الكاذبة. ولكن الأمر يفتضح اليوم، فقد كان (سوستيل) خلف له (سلاحا سريا) يقضي به على الثورة

الجزائرية - على ما يزعم -.وقد تعاون على اكتشاف هذا السلاح كل من السادة: لاكوست وسوستيل وموليه واوليه ولوجون اولي وبانتال ولونشان، وغيرهم من الدواهي السياسية والعسكرية والبوليسية. لقد وقع الاختيار لتنفيذ هذا المشروع السري على ثلاثة من رجال جبهة التحرير كانت إدارة (سوستيل) تعتبرهم من الموالين لها، والأوفياء في خدمتها، وهؤلاء الثلاثة هم: (أحمد زيدات) و (الطاهر عشيش) و (محمد يازورن). فكلفوا بتجنيد أفراد من (القبائل الخلص) في جماعات تضم خمسة عشر إلى عشرين شخصا (وهو نفس الأسلوب الجاري في جيش التحرير الوطني)، وكانت تريد أن تجعل على رأسهم ضباطا استعماريين لتحارب بهم الثوار. وقد جاء الاخوان المذكورون. إلى (كريم بلقاسم) و (سعيد محمدي) بالخبر، فأمرهم بتلبية دعوة الولاية العامة، وهكذا تم التجنيد، وتم تسليح الرجال بأسرع ما يمكن، ومن الملاحظ أن الاختيار كان يقع على أحسن العاملين في جبهة التحرير الوطني، وعندما تسلم (لاكوست) الحكم من سابقه (سوستيل) همس له هذا الأخير بالخطة التي سماها إذ ذاك (القضبة الهامة) وفي الاجتماع الأخير الذي عقده قادة الثورة الجزائرية لمناطق (وهران) و (الجزائر) وفسنطينة) تقرر أن تدرج هذه الجماعات المسلحة في صفوف جيش التحرير الوطني، وأن تشارك في هجوم الخريف العام الذي نفذ في كافة أنحاء القطر الجزائري، مساء يوم 30 أيلول - سبتمبر - 1956. ... ليست القضية الجزائرية (يا مسيو لاكوسمت) هي قضية خيال. إنك بعيد كل البعد عن الحقيقة وعن الكفاءة معا. إن القضية

الجزائرية تتطلب معرفة الشعب الجزائري معرفة حقيقية. وهذا الشعب نحن نعرفه لأننا نحن الشعب. ولقد كان ينقصك لإنجاز هذه التمثيلية التي هيأتها شيء واحد: هو معرفة المسرح والممثلين، وذلك قبل الشروع في العمل. لكن المسرح هو بلادنا، والممثلون نحن. إنك سلحت مجاهدين حقيقيين لجبهة التحرير الوطني. فكيف تبلغ الغفلة بالإنسان أن يصدق هذا الحلم؟ آكنت تعتقد أننا من البلاهة والغرور بحيث تعيب أنظارنا عما تصنعه؟ ها هو الواقع يخبرك، ولعلك ستدرك أخيرا ما هي ثورتنا، وتشعر بعقم أساليبك. ولا شك أنك ستستخلص الدرس الكافي من هذه التجربة. وهو درس يساوي ما قدمته لنا مجانا من مئات الأسلحة. وكن على يقين أننا سنقدر هذه الهدية حق قدرها. وسنعرف كيف نستخدمها أفضل استخدام لدعم قضيتنا الوطنية. ولعل الشعب الفرنسي الذي يقتل أبناؤه كل يوم، سيقدر صنيعك بدوره. ولعله يطالبك بمحاسبة يعسر عليك شرحها بعدما خدعته بثباتك المصطنع. وهذه تفاصيل لا تهمنا. أما ما يهمنا نحن، فإن التجربة واضحة بالنسبة لنا، إن بلاد القبائل (الولاية الثالثة - أو العمالة الثالثة) ستكون مثالا لباقي البلاد. وسيبوء (نشر السلام) في كل ناحية منها بنفس الفشل، وإذا ما أرادت الحكومة الفرنسية أن تجد الحل للمشكلة الجزائرية - في يوم من الأيام؛ فعليها أن تختار لها طريقا آخر. ... ولمزيد من التعريف بهذا الاستعماري (روبير لاكوست) قد يكون من المناسب العودة إلى بعض تصريحاته، التي يجب لها أن تبقى معروفة، لأنها تمثل مرحلة تاريخية من مراحل الإستعمار الإفرنسي

للجزائر. فقد جاء في تصريح له: (لا مفاوضات مع الجزائريين، ولا استقلال للجزائر. وإن رئيس الوزراء - غي موليه - مثلي في هذا الصدد - إذ أدرك أن مسألة المفاوضات مع العصاة لا يمكن أن تخطر على بال أحد، إذا كانت تستهدف اعتبار الفرنسيين الذين يعيشون في الجزائر - أجانب - إن مثل هذه الفكرة لا يمكن أن يكتب لها الوجود) (¬1). وفي تصريح آخر له جاء ما يلي: (إن سياستنا في الجزائر هي سياسة تهدئة عامة - بالوسائل العسكرية - وسنعمل كل جهدنا لإعادة الطمأنينة لنفوس الجميع، ولملأ الفجوة السحيقة التي تفصل الآن بين عناصر المجتمع الجزائري، ولتحقيق المفاوضات اللازمة التي تفكر بها الحكومة بعد إجراءات الإنتخابات الحرة لوضع نظام الجزائر في المستقبل على أن هذه السياسة تتطلب أسسا عسكرية ثابتة. وبالرغم من أن المسألة ليست مسألة (إعادة فتح الجزائر) أو (القيام بأعمال العنف؟) ولكنني رأيت من الضروري أن أطلب إلى الحكومة الفرنسية إرسال قوات إضافية عسكرية للجزائر، وأسلحة جوية جديدة ... الخ ... بالإضافة إلى ضرورة إعادة النظر في وسائل وتنظيم الوحدات المسلحة، للاستفادة من أحسن إمكانياتها للقتال في الجزائر. ولتكييف قوانا المتوافرة وفق الأحوال الخاصة المحيطة بذلك البلد. كذلك فإنه من مستلزمات سياسة التهدئة العامة، الاحتكام إلى وسيط عادل بين العناصر الفرنسية التي تنحدر من أصول أوروبية - المعمرين - والعناصر الفرنسية من المسلمين؟. كذلك تقضي السياسة المذكورة المبادرة إلى تطبيق الإصلاحات الأساسية في ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 1956/ 4/30.

الميادين الزراعية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية، لمنح العنصر الإسلامي الثقة واليقين بأننا عازمون حقا على الاستجابة لرغبته في التحرر. إن جميع ذلك يتطلب سلطة ثابتة وقوية وعادلة. ولهذا السبب ذاته، طلبت منح الحكومة - سلطات مهمة وواسعة (حسب نص المادة الخامسة من المشروع القانوني المقدم، والقاضي بمنح الحكومة أوسع السلطات المختلفة، واتخاذ أي إجراء استثنائي نراه ضروريا. وليس يخفى عليكم بأن الحاكم العام في الجزائر هو شخصية مدنية وعسكرية في وقت واحد. وسيطبق النص المذكور على العصاة وغيرهم من مثيري الاضطرابات على السواء) (¬2). ¬

_ (¬2) صحيفة (لوموند) الفرنسية 3/ 5/ 1956.

شاب - على خطى (نافار)

3 - شاب - على خطى (نافار) (*) نشرت صحيفة صدى الجزائر (ليكودالجي) الاستعمارية المعروفة، في عددها الصادر يوم 17 نيسان - أفريل - 1959 عنوانا ضخما بالأحرف الغليظة في الصفحة الأولى: (الجنرال ديغول يهنىء القادة العسكريين وفرقهم على عملياتهم الأخيرة في ولاية وهران). وكتبت تحت هذا العنوان ما يلي (وجه الجنرال ديغول إلى الجنرال (شال) الرسالة التالية: إن العمليات العسكرية الأخيرة التي جرت في وهران تحت إشرافكم، قد سارت سيرا حسنا، ونفذت تنفيذا رائعا، وأرجو أن تبلغوا - الجنرال غامبيز - وبقية القادة والفرق الموجودة تحت قيادته ابتهاجي بعملهم. أما فيما يخص التطورات القادمة لبرنامجكم الذي سطرتموه لتحقيق التهدئة، فأرجو أن تتأكدوا من ثقني الكاملة بكم). ثم أوردت صحيفة (ليكودالجي) ما قاله المسيو (ديلوفري) للجنرال (شال) وهو يسلمه رسالة التهنئة التي حمله إياها الجنرال - ديغول -: (إنني أسلم لكم بابتهاج عظيم رسالة رئيس الجمهورية وأقدم تهاني لكم ولجميع القوات العسكرية بالجزائر التي تمكنت

_ (*) مجلة (المجاهد) الجزائرية 1/ 5/ 1959 والبحث تحت عنوان (برنامج شال دليل على العجز لا على القوة).

بفضل نشاطها خلال هذين الشهرين من اجتياز مرحلة جديدة على طريق التهدئة). وبعد هذا أدلى الجنرال (شال) إلى صحيفة إسبانية بتصريح، أعقبه بتصريح ثان إلى صحيفة - لوموند - الفرنسية أكد فيه: (بأن الانتصار العسكري على الثورة هو أمر ممكن. وأنه آخد بزمام الموقف). ليس المجال هنا هو مجال التعرض بالتحليل للأسباب والعوامل التي حملت - الجنرال ديغول - على توجيه تهانيه إلى الجنرال شال والقادة العسكريين الفرنسيين بالجزائر - مغتنما من أجل ذلك كل مناسبة وأحيانا من غير مناسبة -. والمهم في الأمر - بالنسبة للثورة - هو تقديم البرهان على أن برنامج شال الجديد، لن ينجح، ولا يمكن له أن ينجح في القضاء على الثورة الجزائرية، كما لم تنجح جميع البرامج التي سطرها الفرنسيون منذ بداية الثورة في سنة 1954. ... إن القيادة الفرنسية - في الحقيقة - رغم انتصاراتها المزعومة التي تزخر بها بلاغاتها في كل يوم، ورغم تظاهرها بأن البرنامج الجديد سيقودها حتما إلى الانتصار العسكري، لم تعرف أي طريق تسلك للقضاء على فرق جيش التحرير الوطني، فقد جربت القيادة العسكرية الفرنسية مجموعة من الطرائق والأساليب، ووضعت جملة برامج، فشلت كلها أمام تصميم جيش التحرير الوطني وإرادته الصلبة. لقد عمد العسكريون الفرنسيون في بداية الأمر إلى سلوك الطريقة التقليدية المعهودة في الحروب، وهي محاولة القضاء على العدو بقتله أو بأسره. لكن هذه الطريقة فشلت. وظن الفرنسيون

أول ما لمسوا فشلهم أن المسألة هي مسألة زيادة في عدد الجنود والعتاد، فتواردت الإمدادات الضخمة والأجهزة الحربية العصرية على الجزائر، طوال أربع سنوات، ولكن من غير فائدة ولا جدوى. وقد اعترفت مجلة (الدفاع الوطني الفرنسي) في عدد لها: (بأن البارود لم يكن كافيا للقضاء على جيش التحرير الوطني). وبعد هذا الفشل، توهم بعض قادة الجيش وأجهزته (إطاراته) أن الفشل يرجع فقط إلى أسلوب الحرب لا إلى طبيعتها، والذي عزز هذا الشعور عند أولئك الضباط هو تجربتهم في الهند الصينية: فقد شاهدوا هناك كيف انهزم الجيش الفرنسي هزيمة نكراء، لكنهم عوض أن يستخلصوا العبرة من تلك الهزيمة، وعوض أن يفهموا أن هزيمتهم كانت أمرا حتميا يقتضيه التطور الطبيعي للشعوب، ويفرضه منطق الأشياء وطبيعتها، وعوض أن يبنوا على أساس هذا الفهم سلوكهم في الجزائر عوض ذلك كله، توهموا أن انتصار شعب الهند الصينية، إنما يرجع إلى أساليب الحرب الثورية. والدعاية النفسية التي طبقها (هوشي مينه) بعد أن اقتبسها من (ماوتسي تونغ). وبنوا على هذا الوهم أنهم لو طبقوا بدورهم ذلك الأسلوب، لكانوا قد نجحوا في الهند الصينية. وأن تطبيقه في الجزائر سيمكنهم من الانتصار على الثورة. وكان أصحاب هذه النظرية هم الذين مهدوا فيما بعد لانقلاب 23 - أيار - مايو - وهم الذين نظموا مظاهرات التآخي، وعمليات رفع الحجاب، وهم الذين تزعموا دعوة دمج الجزائر بفرنسا الخ .... وظنوا أن هذه السلسلة فن العمليات (النفسية) هي التي ستقضي على الثورة، وتمكنهم من الانتصار بالجزائر، إلا أن عدم تصور العسكريين الفرنسيين لمجموع العوامل التي أدت الى انتصار

(ماوتسي تونغ) و (هوشي مينه) من جهة. وفصلهم بين الهدف الذي عمل له (ماوتسي تونغ) وبين الأسلوب الذي استعمله لتحقيق ذلك الهدف من جهة أخرى. وجهلهم بطبيعة وضرورات التيار التحرري الذي غمر البلدان المستعمرة، وجهلهم بعقلية الشعب الجزائري من جهة ثالثة، إن كل هذا جعل مخيلة العسكريين الفرنسيين تتفتق عن أساليب مضحكة قد تصلح لكل شيء، إلا أن تكون ذات فائدة لأهدافهم الاستعمارية ودعايتهم. وقد يكون من المناسب التعرض لبعض عينات (نماذج) تلك الأساليب النفسية التي يتوهم أصحابها من العسكريين الفرنسيين بأنها هي التي تقودهم إلى النصر. ... كان هناك ضابط كبير يشغل منصبا هاما في مكتب الحرب النفسية، يفتخر بأنه وفق أثناء انتخابات تشرين الثاني - نوفمبر - 1958 إلى إيجاد طريقة رائعة لدعوة الجزائريين إلى الانتخابات وترغيبهم في المساهمة فيها وهي نشر لافتات فيها صورة فلاح وحمار وصندوق الانتخاب، وقد كتب تحت الصورة (أنت تصوت وحمارك لا يصوت). وفي المحتشدات، من بين الأساليب التي يستعملها ضباط الحرب النفسية لجعل الجرائريين يؤمنون بأنهم فرنسيون، أنهم يأمرون الموقوفين الجزائريين بأن يستديروا على شكل حلقة، ويدورون - كالأطفال - وهم يرددون: (إني فرنسي! إني فرنسي!) لمدة ساعات طويلة. ومن هذين المثالين، وغيرهما من عديد الأمثلة، يتبين أن الفرنسيين أخذوا أساليب الحرب النفسية، لكن هذه الأساليب صارت بين أيديهم أساليب فارغة جوفاء، ليس فيها أي محتوى

سياسي يجذب إليها الجماهير الجزائرية ويستميلها. إن الجماهير تستجيب لقياداتها الثورية لأنها تعمل معها من أجل التحرر من الاستعمار الكريه، ولأنها تسير على طريق الحرية والاستقلال. فكيف يطمع الافرنسيون أن يجتذبوا إليهم الجزائريين بدعوتهم إلى الادماج و (التفرنس). وهو بالضبط ما ثاروا لمحاربته. لقد أدى فشل المخططات الفرنسية إلى ظهور اختلاف حاد بين القادة العسكريين بشأن أنجح الوسائل للقضاء على الثورة الجزائرية فهناك أنصار مدرسة (الحرب التقليدية) التي يتزعمها (بيجار). وهناك أنصار مدرسة (الحرب النفسية) وفي مقدمتهم (لاشو روا). وبين هذين الجناحين يجري خلاف عنيف، وتبادل للانتقادات والاتهامات، الأمر الذي زاد من ارتباك القيادة الافرنسية. وجاء الجنرال (شال) فوضع برنامجه على أساس (الحرب التقليدية، وحاول أن يعزز ذلك بقادة اكفاء لهم شهرتهم وخبراتهم (مثل بيجار). ونظم وحدات خاصة مهمتها مطاردة قوات جيش التحرير في الجبال. وتبع ذلك بالضرورة، اختفاء الحديث عن أساليب (الحرب النفسية) في الولاية العامة - الجزائر - وكثر الحديث عن (تطوير وسائل الحرب التقليدية ومخططاتها) غير أن هذا الحديث لم يتجنب توجيه النقد لبرنامح (شال) منذ بداية ظهوره، وقد يكون من الضروري التعرض لبعض ما قاله العسكريون الفرنسيون أنفسهم بهذا الشأن، مما أكد فشل (برنامج شال) حتى من قبل أن يبدأ تطبيقه. لقد قال عقيد افرنسي - في قسنطينة - ما يلي: (إن المسألة بسيطة، فنحن نسير بمعدل أربعة كيلومترات في الساعة، والجزائريون يسيرون بمعدل سبعة كيلومترات في الساعة، فكيف يمكن أن نلحق بهم إن دامت الحال على هذا؟). وقال - بيجار -:

(يوجد في الجيش الفرنسي من الجنرالات أكثر من اللازم، مع أن المعارك تربح في الميدان لا في مكاتب القادة - الجنرالات - ثم إن كثرة السيارات والدبابات تعرقل الجيش عن خفة الحركة وتعوقه عن سرعة التنقل). ويؤكد ضابط آخر: (من بين أربعمائة ألف جندي، يوجد ثمانون ألفا مخصصون لحراسة السيارات العسكرية) وهذا عقيد آخر - كولونيل - يصرخ يائسا: (ما فائدة الطائرات والدبابات في محاربة مقاومين مدربين على حرب العصابات، ويختفون في الحراج ووراء الصخور في الجبال؟ هذا مع العلم أن الطيران الفرنسي يقوم في كل يوم بثلاثمائة عملية). وإلى هذا يجب أن يضاف بأن معدل عمر الضباط الفرنسيين برتبة نقيب - كابتن - هو (42) سنة، وهو عمر لا يسمح لصاحبه بأن يجري في الجبال، في حين أن أغلب إطارات جيش التحرير الوطني من الشباب الناشط. هذه بعض العوامل التي تبرهن - وبرهنت فيما بعد - على أن الجيش الفرنسي عاجز عن أن يواجه جيش التحرير مواجهة منتصرة، وهي عوامل لا تستطيع قوات فرنسا إزالتها لأنها تحمل في مضمونها الأصالة الثورية التي تضرب جذورها في أعماق المجتمع الجزائري لأكثر من عشرات الذين كما لا تستطيع فرنسا تقليدها، حتى لو أمكن للحكومة الفرنسية تغيير هذ االواقع ودعم قواتها بإطارات (كادرات) من الشباب، إذ أن تنفيذ مثل هذا الإجراء يتطلب سنوات كثيرة. هذا مع ملاحظة أن حرب الجزائر قد جعلت الإطارات الفرنسية ناقصة جدا، وما تزال في كل يوم تزيد في فداحة هذا النقص، وهذا كله يدل دلالة قاطعة على أن برنامج شال - لن يكون مصيره أحسن من مصير البرامج السابقة

أما الجنرال (شال) فيكفي تذكيره، بأن (الجنرال نافار) كان هو الآخر قد أعد برنامجا عسكريا، وكان هو الآخر مقتنعا بأنه: سيقضي على ثورة الهند الصينية (فييتنام فيما بعد) بوسائطه العسكرية، وأنه (ماسك بزمام الموقف). ولا حاجة إلى التذكير بنهاية نافار في الهند الصينية - حيث اقتحم عليه الثوار أمنع حصونه في (ديان - بيان - فو). ... جاءت الأحداث بعد ذلك فأكدت صحة تحليل الثوار، وبرهنت على حتمية انتصار الثورة، وسقط (شال) ودهاقنة الاستعمار ومخططوه ومنفذوه ومستمروه. والقصة بعد ذلك وقبله ليست قضية نبوءة أو تكهن بقدر ما هي تحليل سليم لمسيرة تيار التاريخ الذي التقى في موعد التاريخ مع الثوار التاريخيين، فكان في ذلك انتصار (الحدث التاريخي). وكانت مسيرة الاستعمار مضادة للتاريخ وقد حاول الاستعماريون التشبث بالماضي وإيقاف عجلة الزمن، فسحقهم تيار التاريخ، وقذف بهم إلى ركام الماضي المهمل، والذي ليس له نصيب من الذكر في صنع التاريخ وتلك هي الحقيقة الخالدة التي يمكن التوقف عندها.

ذريعة (أوروبيي) الجزائر

4 - ذريعة (أوروبيي) الجزائر طرحت فرنسا منذ انفجار ثورة التحرير (في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954) قضية الأقليات الأوروبية في الجزائر. واعتبرت فرنسا أن هذه الأقليات هي (الجزائر). وانطلاقا من هذه الفرضية الاستعمارية عممت فرنسا قضية (الجزائر الافرنسية). وقد سبقت الإشارة إلى هذه القضية في العرض السابق، باعتبارها ذريعة تذرعت بها السياسة الافرنسية (لرفض أي اتصال مع جبهة التحرير الوطني). وعلى هذا الأساس أيضا تعاملت فرنسا مع مجاهدي جيش التحرير باعتبارهم (عصاة - فلاقة). ولم تكن هذه الذريعة هي السلاح الوحيد في (ترسانة الاستعماريين)؛ فقد كان لديها مجموعة من الأسلحة الذرائعية المختلفة مثل: 1 - قضية الاختلاف بين البربر والعرب. باعتبار أن الأولين - من وجهة نظر الاستعمار - هم أصحاب البلاد الأصليون، وأنهم يتصلون مع الغاليين القدامى - أصل الافرنسيين - في لغتهم ودينهم. وانتصر العرب والبربر - بوحدة الاسلام - على هذه الحجة الذرائعية. 2 - قضية الصحراء، التي اعتبرتها فرنسا جزءا لا يرتبط (جغرافيا) بالجزائر، وكانت هذه الحجة الذرائعية محاولة يائسة لإبقاء النفوذ الإفرنسي في المنطقة التي تعاظمت أهميتها بعد اكتشاف آبار البترول فيها.

آ - الأقليات الأوروية في الجزائر

3 - قضية التمثيل - إذ اعتبرت فرنسا أن لها مراكز القوى التابعة لها، والتي لها الحق بالتمثيل (من وجهة نظر فرنسا) ومن هذه المراكز (حزب الشعب) و (الجزائريون المقيمون في فرنسا - العمال والطلبة -) و (بعض مراكز القوى التي حاولت فرنسا تجميعها مثل بن لونيس)، وكذلك الاتصال مع بعض زعماء القبائل لتكوين قوات مضادة للثورة (أحمد زيدات ورفاقه)، وفشلت ذرائعية الاستعمار الافرنسي عبر هذه المحاولات كلها. لم تقف (جبهة التحرير الوطني) وما وقف (جيش التحرير الوطني) صامتين أمام ذرائعية الاستعمار إذ لم يكن السلاح الذي حمله الثوار التاريخيون إلا إحدى وسائلهم في الصراع ضد الاستعمار وأجهزته ووسائطه، واستخدمت القيادة الثورية ذات السلاح ولكن بمنطق الثوار وتعقل الأحرار، وكان لا بد (للذرائعية الضعيفة المخادعة) من السقوط أمام وهج المنطق السليم المدعم بالايمان وبقوة السلاح. وقد يكون من المناسب التوقف عند ثلاث ظواهر - تشكل مواقف مبدئية - من قضية الذرائعية الفرنسية: آ - الأقليات الأوروية في الجزائر: نشرت وزارة الأخبار - في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية - دراسة عن الأقليات الأوروبية في نشرتها الصادرة بالفرنسية. وتضمنت هذه الدراسة ما يلي: ليست هناك أقلية واحدة بل عدة أقليات. وقد اعتادت الاحصائيات والنصوص الادارية الفرنسية حشرهم في عبارة (الفرنسيون من الأصل الأوروبي) أو (غير المسلمين) وقابل (الفرنسيين المسلمين) - على حد زعمها -. والحقيقة أنه يجب اعتبار ثلاث أقليات أوروبية عنلى الأقل في الجزائر، نشأت بسببها

مشاكل سياسية واقتصادية مختلفة. ففي سنة 1954، كان عدد أوروبي الجزائر الذين يسمون (بغير المسلمين) هو: مليون وثلاثة وثلاثون ألفا (1،033،000) خلافا لما يزعمه ويردده (سوستيل) وغيره أمثال (فوستردالس - وزير الخارجية الأمريكى آنذاك) فقد ادعى الأول، أن عدد الطبقة الأوروبية التي تعيش في الجزائر يبلغ مليونا ومائتي ألف (1،200،000)، وادعى الثاني أن مليونا ونصف المليون هو عدد الطبقة الأوروبية التي تعيش في الجزائر. ومن بين هذه الأقليات، يجب اعتبار الأقسام الآتية: أ - الأجانب الذين يرجعون إلى قناصلهم الخاصة. ومن هؤلاء الايطاليون والاسبان والمالطيون غير المتجنسين، وبعض اليونانيين والسويسريين والألمان والاسكندينافيين، ويبلغ مجموع هؤلاء ستين ألف شخص (60 - ألف). ب - اليهود الجزائريون: وقد اختلطوا نظريا بالفرنسيين وبالأوروبيين بصفة عامة منذ صدور قانون كريميو (سنة 1871) لكنهم ليسوا من فرنسيين في الحقيقة، ولا هم من الأوروبيين بل هم من سكان الجزائر الأصليين. ويرجعون في الغالب إلى العنصر البربري. إنهم من المجتمع الجزائري، ورغم مواقفهم السياسية والعنصرية المؤيدة لأوروبيي الجزائر. وهذا من العوامل منحت للأقلية اليهودية مكانة ممتازة. فهم أقلية على حدة، لا يمكن عدها من بين الأقليات الأوروبية. وكان عدد أفراد هذه الأقلية اليهودية في الجزائر سنة (1954) حوالي مائة وخمسين ألفا (150 - ألفا)، وهي تعيش في المدن، وتشتغل بالصناعات التقليدية وفي الوظائف العامة. ويحتل إلى جانب ذلك اليهود في الجزائر مكانا مرموقا في ميداني المهن الحرة والتجارة، وإذا كانت هناك طبقة بورجوازية

محظوظة من اليهود، سكان (تلمسان) و (الجزائر) العاصمة، وجهة (الشلف) فإن هناك كذلك طبقة تعيش في مستوى منحط. كما هو حال يهود (قسنطينة) والجنوب (الجزائري) فهؤلاء يشاطرون المسلمين عيشهم المميز بالبؤس والفقر والحرمان. ماذا بقي من العدد الذي تردده الإحصائيات الافرنسية؟ لم يبق إلا ثمانمائة ألف (800 - ألف) نسمة التي تؤلف ما يعرف بفرنسيي الجزائر. وحتى بالنسبة لهذا العدد فمن المبالغة في التقدير أن يتكلم عنهم بصفتهم فرنسيين لأن نسبة خمسين بالمائة إلى ستين بالمائة من تلك المجموعة تتألف من عناصر أوروبية غير فرنسية الأصل ولكن اكتسبت الجنسية الفرنسية بالولادة في الجزائر على مقتضى قانون (1889)، وفي هذا الصدد تجدر الملاحظة بأن الأوروبيين المنحدرين من أصل فرنسي لا يتجاوز عددهم أربعمائة ألف (400 ألف) في الجزائر، ينحدرون من المغامرين والمضاربين الذين نزحوا مع الاحتلال، ومن هؤلاء الذين أبعدوا عن منطقة باريس لأسباب سياسية في سني الاضطراب (ما بين 1848 و1852)، ومن مقاطعتي (الالزاس واللورين) اللتين احتلهما الألمان في الحرب الألمانية - الافرنسية (1871) حيث نزح عدد كبير من المقاطعتين المذكورتين إلى الجزائر، على أن أكبر عدد هاجر إلى الجزائر هو ذلك الذي جاء في فترات الأزمات الاقتصادية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين - بالاصافة إلى أولئك الذين هاجروا بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. هؤلاء الأربعمائة ألف (أو حتى الثمانمائة ألف) هم الذين أرادت فرنسا استخدامهم ذريعة للاحتفاظ (بالجزائر الفرنسية) التي كان عدد سكانها المسلمين يزيدون على تسعة ملايين. ويذكر أنه كان في

ب - رسالة من جبهة التحرير الوطني إلى الفرنسيين

فرنسا (200) ألف جزائري خلال تلك الفترة - من العمال - وعلى كل حال - فقد كان رد (الثورة) على ذرائعية الاستعمار الفرنسي، واضحا في البيان التالي: ب - رسالة من جبهة التحرير الوطني إلى الفرنسيين: رغم التحديات والمراهنات المتتالية للسيدين (غي موليه) و (لاكوست). ورغم انتصار واقعية الرأي العام الفرنسي وانضمامه إلى جانب الشعب الجزائري، فإن حرب الجزائر تزداد تأزما. ونحن الآن على عتبة اللامفهوم، وقبيل حدوث ما لا تحمد عقباه ولذا فإن الذين يحاربون باسمكم - الذين ضدهم تسفك دماء أوليائكم وأقاربكم - هؤلاء الناطقون باسم شعب واع بأنه مضطهد، واضطهاده ثمن خديعة أنتم ضحيتها، هؤلاء الرجال يريدون اليوم أن يتوجهوا إليكم رسميا من أجل أن تكف هذه الفضيحة، فضيحة القلب والعقل. وما من شك أن أبشع شيء في هذه المأساة الدامية هو هذا الجو من اللامعقول، واللاشعور الذي تجري فيه، لماذا هذه المجازر؟ كيف تم الوصول إلى ذلك؟ ما هي القيم الحقيقية والعميقة التي هي موضوع الخلاف؟ إلى أين هم متجهون؟ إن هذا الجهل الذي تعانيه أغلبية الرأي العام الفرنسي وعدم قدرتها على إعطاء معنى للمغامرة الجزائرية، تلك هي نتيجة دعاية طويلة أبرزها تلك الكذبة التي ترمي إلى وصف الثورة الحالية كعاصغفة في يوم صحو أو كحدث غير متوقع، واللامعقول في تاريخ هذه المقاطعات الثلاث، وظاهرة لا تمت للواقع بأية صلة. إنه يجدر بكم رفض هذا الكذب، فإن ما يدفع للضحك اليوم وإلى السخرية هو إنكار اندفاع الشعب الجزائري بكامله في هذه

الثورة التحريرية. إن الجزائر، قمة وقاعدة، لم تقبل في أي وقت كان السياسة التي فرضتها عليها الحكومات الفرنسية المتتالية منذ الاحتلال وحتى اليوم. وكانت طلباتها الأساسية تجد تعبيرا لها في المنظمات السياسية، تلك المنظمات التي كانت تحلها الإدارة الفرنسية الواحدة تلو الأخرى، لأنها كانت الصوت المتجدد باستمرار على أشكال مختلفة لأنه الصوت العميق لشعب بكامله من أجل الكرامة والحرية. فتاريخ الحوار الديموقراطي الذي حاول الشعب الجزائري إقامته مع فرنسا، في إطار الأنظمة التي فرضتها هذه الأخيرة عليه، لم تكن سوى سلسلة طويلة من الرفض المهيمن والاضطهاد العنيف. إنكم لن تستطيعوا تصور الشعور الذي تركه في نفوس الجزائريين منذ سنة (1948). بتزوير الانتخابات كان شعورا بالكرامة المداسة المسحوقة - فكانت تلك الحرية المزعومة أمر وأقسى في كثير من الحالات من الحرمان من الحرية. إن أبواب الثورة تفتح تدريجيا عند عدم احترام إرادة الشعب، وهكذا عزم الشعب الجزائري على حمل السلام بعد أن فشلت جميع الوسائل التي استعملها للتعبير عن مطامحه. لقد فهم أن كل ثقة لم تكن إلا خدعة فالثورة التي أشعل نارها في الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر - 1954 حزبه - وهو جبهة التحرير الوطني - التي كانت الوسيلة الأخيرة لفرض الحوار، ولإسماع صوته للرأي العام العالمي. إن الثورة الجزائرية تندرج في إطار الحركة العالمية من أجل رقي جميع الأمم الواعية بشخصيتها، والواعية كذلك بأنه لا كرامة بدون استقلال. لا! إن الثورة الجزائرية التي عجز عن خنقها ما يقرب من نصف مليون جندي من جيش عصري، لا يمكن أن تكون من صنع بعض

قطاع الطرق، لا يتمتعون بثقة الشعب، سلاحهم الوحيد هو الإرهاب، كما أرادوا أن يوهموا الناس بذلك، إنها ثورة لا تمت بأية صلة للصورة القبيحة التي أعطوها إياها. والتي يكون التعصب الديني الاسلامي البحت قد ازداد شدة بحكم حب القوة، والأمل في أن تخرج الجزائر من تحت السيطرة الغربية، واندماجها في امبراطورة عربية غازية. لا! إن الثورة الجزائرية ليست حربا دينية، بل ثورة تحريرية. إنها ليست مبنية على الحقد، بل هي كفاح ضد نظام تعسفي، وهذا هو ما يريدون أن يجعلوكم تجهلونه. كما أنهم نجحوا جزئيا في جعلكم تنسون أن الاعتداءات الموجهة ضد المدنيين الأوروبيين، والتي عرفت المقاومة الجزائرية كيف تتجنبها منذ الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954 وحتى غاية 20 أوت - آب - 1955. لم تبدأ إلا بعد عمليات الإبادة التي ذهب ضحيتها الآلاف من المدنيين الجزائريين، هناك حقا منطق الحرب، غير أنه يجب الاعتراف هنا بأن تزايد الاعتداءات كان النتيجة الحتمية والمباشرة لشراسة عمليات التهدئة. وإذا كانت هناك اعتداءات فإنها لم تكن إلا بعد أن سقطت النساء والأطفال والشيوخ تحت الرصاص والقنابل الفرنسية، بعد أن أحرقت بيوت وقرى بكاملها، وبعد أن أصبح العديد من الأبرياء يقتلون. هؤلاء الذين يعلنون لكم عن موتهم يوميا والذين يسمونهم المتمردين. أنتم الذين لازلتم تتذكرون ضحايا (أورادور سورغلين) (*). إعلموا أن

_ (*) أورادور - سورغلين: (ORADOUR - SUR GLANE)- بلدة في أعالي فيينا دائرة (روشوشوارت: (ROCHECHOUART) - وقد أباد الألمان يوم (10 - حزيران - يونيو - 1944) سكانها البالغ عددهم (1100) شخص بسبب المقاومة. واعتبرت هذه العملية، من أعمال الإبادة الوحشية التي أدين بها النازيون.

الشعب الجزائري عاش ألف (أورادور). إنه لأمر ضروري معرفة هذه الحقائق، وترويجها، وعدم التأثر بأكاذيب أغلبية الصحافة، والبحث عن معرفة ما يكمن وراء كلمتي (الأمن) و (التهدئة). ويجدر بكم أن تنظروا إلى حقيقة الوضع في الجزائر، وألا تنخدعوا باسم الواجب الوطني فهل حقيقة يقاتل الشعب الفرنسي ويموت في الجزائر من أجل مصلحة وطنه وسمعته؟ أم من أجل المحافظة على الامتيازات الهائلة التي يتمنع بها (بورجو) و (بلاشين) وأمثالهم؟ وهل يقبل الشعب الفرنسي التضحيات الجسيمة التي تتطلبها هذه الحرب الجائرة والتي سيخسرها مسبقا؟. إننا نعلم بأننا لن نغلب، وهذا لا يعني أن جيشا مكون من خمسمائة ألف أو مليون جندي كالذي تستطيع فرنسا حشده، لا يستطيع أن يخنق بالحديد والنار التعبير الحالي عن إرادة الشعب الجزائري، غير أن التحدث بالنسبة للجزائر عن حل عسكري يعتبر تلاعبا بالألفاظ، لأنه ليس هناك حل عسكري إلا لقضية عسكرية، فتحرير شعب يعد عشرة ملايين نسمة ليس مسألة عسكرية. جزائر مخربة، وفرنسا مخنوقة، في الوقت الذي تتطلب فيه الظروف، وأغلبية شعبها العمل على النهوض: تلكم هي الآفاق التي يعملون يوميا على جعلكم تقبلونها باستعمال أبشع الأكاذيب. أما سمعة فرنسا فإنها ليست في انتصار عسكري، أو في سياسة الإبادة لشعب بكامله، على نحو ما يطبقها المسؤولون الفرنسيون. إن هذه الأعمال - بالعكس - تضر به، ففي نظر شعوب أفريقيا وآسيا، وفي نظر جميع الشعوب الحرة والمسالمة، فإن هذه المجازر الجماعية، وهذه الأحزان، وهذه الدماء التي تهدر، وباختصار

مؤسسة التهدئة، هذه التي لم تجرأ بعد على تسمية نفسها باسم مدرسة (إعادة الاحتلال) أو مدرسة (حرب تجديد الاحتلال). وهي تدفع كل يوم الى الشك في القيم الأكثر رسوخا في القارة القديمة وخاصة في فرنسا. إن سمعة فرنسا تكمن في مبادىء الحرية والمساواة والأخوة التي تعلمنا حبها، إنها تكمن في تقاليد تنكر لها اليوم أولئك الذين بين أيديهم مصير بلدكم. إن سمعة فرنسا ستزداد قوة بإيجاب حل عاجل عن طريق المفاوضات للقضية الجزائرية، لأنها بذلك تؤكد وفاءها لمبادئها الثورية والديموقراطية. كما سيسمح لها ذلك بالمحافظة - في العالم الإسلامي - على سمعة قد تفقدها نهائيا من جراء سياسة القوة التي تطبقها في الجزائر. لقد تضاعف عدد الجنود الفرنسيون في الجزائر منذ أن أخذ زمام السلطة رجال انتخبتموهم من أجل إحلال السلام، وتوسعت رقعة المناطق المراقبة من طرف جبهة التحرير الوطني، وتزايد (انعدام الأمن). والتحقت آخر العناصر الموصوفة (بالمعتدلة) من الرأي العام الجزائري بصفوف (جبهة التحرير الوطني). فبأي انتفاضة للضمير الفرنسي - ليس باسم تعلقه التقليدي بالحرية فحسب، ولكن باسم الواقعية أيضا - وبأي ضغط من طرف الرأي العام أيضا ستجد حكومة الجبهة الجمهورية نفسها مضطرة لفتح عيونها للسير في طريق التسوية الواضحة والنزيهة بواسطة المفاوضات؟ وعلى عكس ما تزعمه بعض الأكاذيب الفاضحة، فإن الثورة الجزائرية ليست موجهة ضد الشعب الفرنسي الذي تريد الجزائر أن ترتبط معه بأحسن العلاقات، وذلك في نفس الوقت الذي تطمح فيه

إلى الحرية والاستقلال وتعمل لتحقيقهما بكل ما أوتيت من قوة. كما أنه يمكن الاحتفاظ بروابط صداقة وتعاون نزيه خصوصا في الميادين الاقتصادية والثقافية بين بلدينا ذوي السيادة. إن الجزائر - وهي الأمة الفتية والمسالمة - مهتمة أساسا بتجهيزها عندما تكون قد عادت إلى نفسها، ستضمن الممارسة الحرة لحقوق المواطنة وواجباتها لكل الفرنسيين الذين سيختارون الجنسية الجزائرية ويتخلون عن وضع الأجنبي، الذي سيكون على كل حال متمتعا بنفس الوضع الذي تضمنه كل الديموقراطيات لضيوفها. والجزائر الواعية لوجهتها الاقتصادية والثقافية والسياسية، ستكون دولة ديموقراطية، تقبل ضمنها وفي صفوفها تنوع الأجناس والأديان والآراء. ولا يمكنها بالتالي إلا أن تقيم علاقات ودية مع القطرين الأخوين في المغرب العربي، وبلدان المشرق الشقيقة للشعب الجزائري في تقاليد. العربية - الاسلامية. إن من واجب الأمة الفرنسية ألا تخاف من ذلك، وعليها أن تدرك الدور الذي يمكنها أن تمارسه بفضل تعاونها مع شمال أفريقيا، في هذا العالم الذي يعيش أوج ازدهاره وتنميته، وذلك بأن تنضم قبل فوات الأوان إلى سياسة الصداقة والتعاون الحر. ذلك أنه انطلاقا من هنا يجب أن تنطلق شرارة الاتصال بين حضارتين، وهذا بكل وضوح، وبعيدا عن كل لبس وغموض. هو ما يتطلع إليه المغرب العربي كهمزة وصل بين ثقافتين، وبين عالمين. ولتحقيق ذلك، لا بد من وقف هذه المجزرة التي لا مبرر لها قبل أن يصبح الجرح أعمق، وقبل أن تصبح القضية لا رجعة فيها. إن حرب الجزائر (علاوة على الدم الذي يراق كل يوم) هي هذان العالمان اللذان يرفضان الحوار، رغم ما يحمله هذا الحوار من آمال عريضة. إنكم

ج - رسالة جبهة التحرير الوطني إلى اليهود

إلى جانب كل الوطنيين، وكل الشعوب المحبة للحرية، ونحن كذلك (*). 20 ماي - أيار - 1956. ج - رسالة جبهة التحرير الوطني إلى اليهود: إلى السيد الحاخام إلى السادة أعضاء المجلس الديني الأعلى للاسرائيليين. إلى جميع النواب والمسؤولين عن طائفة الاسرائيليين بالجزائر. سيدي الحاخام، معشر السادة والمواطنين الأعزاء. إن جبهة التحرير الوطني التي تتحمل عبء قيادة الثورة ضد الاستعمار منذ سنتين بقصد تحرير الوطن الجزائري لترى أنه قد حان الوقت على كل جزائري إسرائيلي ليفرض على نفسه، وبناء على ضوء تجربته الخاصة، تحديد موقفه دون غموض أو إبهام في هذه المعركة التاريخية العظيمة. إنه من المعلوم اليوم أن حرب (تجديد الاحتلال) التي أرغم عليها الشعب الجزائري، قد أتت نهائيا بفشل مزدوج في الميدانين العسكري والسياسي. ويعترف القادة الفرنسيون اليوم، وعلى رأسهم (الماريشال جوان) بعدم إمكانية القضاء على الثورة الجزائرية الظافرة. وإن الحكومة الفرنسية الآن في بحثها عن حل سياسي لا مفر

_ (*) ملفات وثائقية (24) وزارة الاعلام والثقافة. أوت - آب - 1976 ص 62 - 63 (الجزائر).

منه، لتريد الاستسلام إلى أمانيها في سلب الشعب الجزائري انتصاره بتماديها في الأعمال السفيهة والمناورات الدنيئة التي لن يكون نصيبها، ومنذ الآن، إلا الفشل الذريع. وأهم ما في هذه المناورات أنها تحاول عزل جبهة التحرير الوطني عن الشعب، ولو بكيفية جزئية، وذلك بحملها على إجماع الوطن إجماعا حصينا في قيامه ضد الاستعمار. إنكم لا تجهلون يا معشر المواطنين الأعزاء أن جبهة التحرير الوطني التي جعلت رائدها إيمانا وطنيا رفيعا بينا، قد قضت على السياسة الشيطانية التي كانت تحاول بث التفرقة؛ إذ برزت أخيرا في مقاطعة إخواننا التجار (الميزابيين) التي كادت تتعداهم إلى كافة التجار الإسرائيليين - ان هذه المحاولة التي قضينا عليها قبل استفحالها، كانت كأخواتها السابقات من صنع الإدارة الافرنسية العليا، وقد قامت بتطبيقها شرذمة من المغامرين والمخادعين التابعين لمصلحة البوليس. - إن رجال الشرطة والخونة والوشاة ورجال الإرهاب السفاكين - قد قتل من قتل منهم لا باعتبار ملته ودينه، ولكن قتلوا باعتبارهم أعداء للشعب. إن جبهة التحرير الوطني التي هي الممثل الحقيقي الوحيد للشعب الجزائري لترى اليوم أنه من الواجب عليها أن تتوجه رأسا إلى جماعة الإسرائيليين؛ لتطلب منهم أن يصرحوا علنا بانتمائهم إلى الأمة الجزائرية، وإن هذا الاختيار إن وقع التعبير عنه بكل وضوح لمما يبيد الشكوك والخلافات وينتزع بذور الحقد التي غرسها الاستعمار الفرنسي في القلوب. وإنه من ناحية أخرى لخير معين على خلق الأخوة الجزائرية خلقا جديدا، بعد أن حطمها الاستعمار الفرنسي يوم أن فجعنا به. إن جماعة الإسرائيليين بالجزائر في

تخوفها من سوء مصيرها ومستقبلها كانت منذ ثورة فاتح نوفمبر - تشرين الثاني - 1954 محل اضطرابات وتغييرات سياسية مختلفة. إن المندوبين الجزائريين في المؤتمر اليهودي العالمي الأخير، الذي انعقد بلندن، قد أظهروا تعلقهم بالجنسية الفرنسية خلافا لإخوانهم التونسيين والمغاربة ونحن على هذا الموقف متأسفون. ولم تتجه الجماعة الاسرائيلية نحو اتخاذ موقف محايد إلا بعد أن ظهرت قلاقل السادس من فبراير - شباط - ذات الصبغة الاستعمارية الفاشستية. وظهرت فيها من جديد تلك العبارات المعادية لليهود ثم ظهرت من بعد جماعة من الإسرائيليين تنتمي إلى جميع الطبقات، وظهرت خصوصا بعاصمة الجزائر، وأدت بها شجاعتها إلى القيام بعمل مضاد للاستعمار. بكيفية واضحة، إذ صرحت باختيارها الحكيم النهائي للجنسية الجزائرية إن هؤلاء لم ينسوا تلك القلاقل المعادية لليهود سواء منها الاستعمارية والعنصرية. إذ تتابعت بكيفية طاحنة سفاكة إلى نظام (فيشي) الدنيء. فعلى الجماعة الإسرائيلية أن تفكر في الحظ القاسي الذي حازه إليها (بيتان) وكبار المستعمرين من نزع للجنسية الفرنسية، وإصدار قوانين وقرارات استثنائية، واغتصاب وإذلال واعتقال ورمي في النيران. وبعدما ظهرت حركة (بوجاد) وظهر انبعاث الفاشستية، فإنه يمكن اليهود أن يعرفوا من جديد رغم جنسيتهم الفرنسية ذلك الحظ الذي عرفوه أثناء نظام (فيشي). إننا لا نريد تتبع مجرى التاريخ القديم، ولكنه يجدينا نفعا أن نذكر بالعهد الذي كان فيه اليهود بفرنسا أقل اعتبارا من الحيوان. وكان ممنوعا عليهم دفن موتاهم، وكانوا يضعون الأموات تحت

التراب اختلاسا في الليل، في أي مكان، لأنه كان ممنوعا عليهم منعا كليا أن يملكوا أدنى مقبرة من المقابر. وقد كانت الجزائر في ذلك الوقت - ذاته - مأوى لجميع الإسرائيليين، وأرض حرية لهم يفرون إليها من القمع والاضطهاد الديني. وهذا ما جعل الجماعة الاسرائيلية تفخر بأن تقدم إلى وطنها الجزائري الشعراء والفنانين والتجار وأهل القانون بل حتى القناصل والوزراء. إن يكن الشعب الجزائري قد أبدى أسفه لسكوتكم وصمتكم، فإنه أخذ بعين الاعتبار أيضا الموقف المعادي للاستعمار الذي أبداه الرهبان الكاثوليكيون، مثل أولئك الذين كانوا في مناطق الحرب (كالرمشي) و (سوف اهراس). وإنه ليرى بعين الاعتبار حتى موقف كبير الأساقفة الآن؛ رغم أنه كان في الماضي القريب يتصف بصفات القمع الاستعماري. إن جبهة التحرير الوطني لترجو من قادة الجماعة اليهودية (الطائفة) أن تؤدي بهم الحكمة إلى المشاركة في بناء الجزائر الحرة ذات الإخاء الحقيقي، وما هذا الرجاء منها إلا لأنها تعتبر الاسرائيليين الجزائريين من أبناء وطنها. إن جبهة التحرير الوطني واثقة من أن المسؤولين سيفهمون أن من واجبهم، ومن المصلحة الرشيدة لجماعتهم الإسرائيلية، أن لا تبقى بعيدة عن الغوغاء، وأن تحكم بدون تحفظ على النظام الاستعماري المحتضر، وأن تصرح باعتناقها الجنسية الجزائرية. وتقبلوا تحياتنا الوطنية. حرر بمكان ما بالجزائر - في فاتح اكتوبر - بتشرين الأول 1956 جبهة التحرير الوطني

ثورة الجزائر تنتقل إلى فرنسا

5 - ثورة الجزائر تنتقل إلى فرنسا استيقظ العالم صباح يوم (20 - اب - أغسطس - 1958) على أخبار مثيرة. فقد تناقلت وكالات الأنباء، وصدرت الصحافة، وهي تستنفر المشاعر، وتشد الأعصاب بما حدث من تطورات جديدة على ساحة الصراع الجزائري - الفرنسي. فكانت معظم صحافة العالم تبرز على صفحاتها الأولى - بالألوان المختلفة - وبالأحرف الكبيرة، عناوين ضخمة مثل: (الجزائر تنقل الحرب إلى فرنسا) و (الجزائر تدمر مصافي البترول في فرنسا) و (الثوار الجزائريون يهاجمون قيادة الشرطة - البوليس - في قلب باريس) و (الحرائق تشتعل بكل مكان من فرنسا) و (المقاومة الجزائرية تدمر نصف مخزون البترول الفرنسي) و (مصرع عشرين قتيلا من رجال الإطفاء بمرسيليا أثناء انفجار مصفاتها) و (رجال الشرطة - البوليس - في باريس، يصابون بالذعر) و (قوات البوليس تجوب شوارع باريس بخوذها الفولاذية). وإلخ ... كان ذلك تطورا مثيرا في الصراع الجزائري الفرنسي، غير أنه لم يكن تطورا مباغتا، فقد ردد قادة الثورة والمسؤولون فيها، مرات عديدة من قبل، إنذارهم إلى الحكومة الإفرنسية بنقل رحى الحرب

إلى فرنسا ذاتها إن هي تابعت قمعها الوحشي واستمرت في أساليبها اللاإنسانية في التعامل مع الجزائر (ثورة وشعبا) غير أن فرنسا لم تحمل إنذار الثورة الجزائرية على محمل الجد، فمضت في التعرض لمدنيي الجزائر، لا تمييز بين شيوخ ونساء وأطفال، ولا تفريق بين مجاهدين يحملون السلاح ومواطنين عزل لا يملكون الوسائط للدفاع عن أنفسهم، أو حماية حياتهم. ولقد تطلب هذا التطور في الواقع جهدا كبيرا من قادة الثورة الذين عكفوا على دراسة قرارهم مرات عديدة قبل نقل الحرب من أرض الجزائر الطيبة إلى قلب فرنسا، وكانوا يرون أن فتح هذه الجبهة هو أمر ممكن، وأن نتائجه ستكون بعيدة المدى، ولكنهم لم ينفذوا خطتهم قبل ذلك لأنهم رغبوا تجنب إستثارة الاستعماريين والرجعيين في فرنسا للشعب الفرنسي، وحشده ضد الجزائر المجاهدة بحجة أن الثورة الجزائرية تتحدى القدرة الفرنسية في وطنها وأرضها، بعد أن تحدت فرنسا وشعبها - من المستوطنين - على أرض الجزائر ذاتها. وأن الثورة الجزائرية استهترت بالدم الفرنسي، فأخذت في إزهاق أرواح الفرنسيين في فرنسا. ولكن عندما تألبت الرجعية الفرنسية في فرنسا ذاتها وفي الجزائر، وأوصلت ديغول إلى الحكم ليتابع المحاولات الفرنسية في قمع ثورة الجزائر، وإعاقة شعبها عن بلوغ أهدافه في الحرية والاستقلال، لم يبق أمام الثورة الجزائرية من خيار إلا تطوير الصراع ونقل الحرب إلى فرنسا. ولكن، حتى في هذه الحالة، فإن ضربات الثورة الجزائرية لم تستهدف (المدنيين الفرنسيين) وإنما تركزت على (آلة الحرب الفرنسية) والموارد الاقتصادية التي تغذي (آلة الحرب) وترفدها بالقدرة والقوة.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن قيادة الثورة لم تسقط من حسابها ما قد يتعرض له الفدائيون في فرنسا من التنكيل والتعذيب وهم تحت رحمة العدو، غير أنها أدركت أن تضحية هؤلاء لن تتجاوز في كل الأحوال ما كان يتعرض له أهلهم وذووهم في معتقلات العدو وسجونه في الجزائر ذاتها. كما أنه ليس باستطاعة فرنسا حجز الجزائريين في فرنسا وهم الذين يضطلعون بالخدمات وتقديم اليد العاملة الرخيصة للصناعة الفرنسية، إذ أن مثل هذا الإجراء سيدمر الصناعة الفرنسية وسيصيبها بالشلل. يظهر من خلال ذلك، أن قيادة الثورة الجزائرية لم تسقط من حسابها أي عامل من العوامل وهي تعد مخططاتها لتطوير الصراع الشامل. وجاءت بعد ذلك مرحلة التحضير لتنفيذ العمليات التدميرية بحيث تأخذ شكل تظاهرة عنيفة وقوية تستنفر الرأي العام الإفرنسي خاصة والرأي العام العالمي بصورة عامة للحصول على تأثير معنوي معادل للتأثير المادي، ولهذا تم اختيار عدد من الأهداف في أنحاء مختلفة، وليس هدفا واحدا في منطقة واحدة. وكان لا بد في مرحلة التحضير هذه من اختيار العناصر المنفذة (الفدائيين) اختيارا دقيقا، ثم تجهيز هذه العناصر بما تحتاجه من أسلحة ومتفجرات، وإذا لم يكن من الصعب اختيار العناصر المنفذة وسط جمهور الجزائريين المقيمين في فرنسا - وكلهم ثوار مجاهدون على استعداد لتنفيذ أصعب الواجبات وأخطرها، إلا أن تجهيز هؤلاء بما تحتاجه عملياتهم لم يكن من الأمور السهلة. غير أن التصميم العنيد والإرادة الصلبة، استطاعت تذليل كافة العقبات، فأمكن تطوير الصراع في الوقت المناسب، والانتقال من مرحلة الإنذار والتهديد، إلى مرحلة التنفيذ العملي

أ - تقرير الصحافة عن الحرب في فرنسا

أ - تقرير الصحافة عن الحرب في فرنسا: لقد تشابهت التقارير الصحافية - في شكلها ومضمونها - وهي تنقل للعالم خبر الحدث المثير. وإذن، فإنه يكفي اختيار ما ذكرته (وكالة اليونايتد برس) (*) في تقريرها الذي جاء فيه: قام الوطنيون الجزائريون بحملة شاملة في فرنسا - للمرة الأولى -منذ أن بدأت الثورة الجزائرية قبل أربعة أعوام. وقد وجه الوطنيون الجزائريون ضربات منسقة ساحقة في باريس وفي جنوب فرنسا حيث أشعلوا النيران في ثلاثة مخازن ضخمة للبترول وقتلوا أربعة من رجال الشرطة الفرنسية. وتجدر الإشارة إلى أن الوطنيين الجزائريين لم يقوموا من قبل بتوجيه مثل هذه الضربات البالغة العنف داخل فرنسا. وتخشى الشرطة الفردية أن يكون هذا العمل هو البداية لحملة من الإرهاب المتعاظم باستمرار، حتى يوم 28 أيلول - سبتمبر - القادم حين يجري (ديغول) استفتاءه على الدستور الفرنسي الجديد. ومن المعروف أن الوطنيين الجزائريين يعارضون بشدة هذا الدستور. وقد وقعت الحرائق الهائلة الثلاث في آن واحد في مدن (تولوز) و (فريون) و (مرسيليا) في أعقاب انفجارات قوية وقعت بالمصافي والخزانات البترولية. ووصفت وكالتا (رويتر) و (الصحافة الفرنسية) حريق (مرسيليا) بأن انفجارا سريعا وقع في أحد الخزانات التي تشكل مستودعا للبترول في (موربيان) قرب (مرسيليا). وقد امتدت ألسنة النيران فورا إلى أربعة خزانات أخرى. وقام رجال إطفاء البحرية

_ (*) الرأي العام - الدمشقية - صباح الأربعاء - 27 - اب - أغسطس - 1958 (الموافق 12 صفر - 1378هـ) العدد: 1257 ص 1 و4.

باستخدام أجهزة قوية للغاية من أجل السيطرة على الحريق. ولم تمض سوى فترة قصيرة جدا حتى أصيب (15) منهم بجراح مختلفة، ومن بينهم أربعة فدائيين تعتبر حالتهم خطرة، ثم جاءت أنباء بعد منتصف الليل؛ فأكدت أن فرنسا فقدت عشرين آخرين من رجال مطافئها في (مرسيليا)، وذلك عندما وقع انفجار في مصفاة البترول أثناء مكافحة حرائق الخزانات المحيطة بالمصفاة. وفي تمام الساعة الثالثة من صباح 25 آب - أغسطس - اندلعت ألسنة اللهيب في خزان آخر، وقد أسفر هذا الحريق - حتى تلك الساعة عن تخريب خزانين تخريبا كاملا واندلاع النيران في أربعة خزانات أخرى. وقد تركزت جهود رجال الإطفاء على منع النار من الامتداد إلى (14) صهريجا - خزانا - في المنطقة. وفي الوقت ذاته يخوض رجال الإطفاء الفرنسيون، صراعا ضد النيران التي زاد ارتفاعها على مائة متر بعد حدوث انفجار في مستودعين للبترول قرب (تولون). ويحتوي أحد المستودعين على (900) ألف ليتر من البنزين، بينما يحتوي الآخر على (300) ألف ليتر، وتقدر الخسائر بنحو (150) مليون فرنك. وذكرت سلطات الشرطة - البوليس - أنها اكتشفت قنبلة بلاستيكية في مستودع (مارتيغ - لاميزا) بالقرب من (مرسيليا). ولم يكتف الثوار الجزائريون بتوجيه هذه الضربات الحاسمة التي وجهوها إلى المصافي والخزانات البترولية الفرنسية؛ بل إنهم هاجموا أيضا مراكز الشرطة الفرنسية - البوليس - في وسط العاصمة الفرنسية. ووصفت وكالة (رويتر) الهجوم فقالت: توجهت جماعة من الجزائريين بالسيارة إلى كراج للشرطة - البوليس - وما كاد أفرادها يصلون إليه، حتى قفزوا من السيارة، وأصلوا رجال الشرطة الذين

يقفون أمام المرآب - الكراج - بنيران مدافعهم الرشاشة ومسدساتهم، فقتلوا ثلاثة منهم، وأصابوا رابعا بجراح. ثم عمدوا إلى إلقاء زجاجات من البنزين المشتعل أدت إلى نشوب حريق. وقد تمكن المهاجمون من الفرار. وفي منطقة (فانسين) أطلقت جماعة من الجزائريين النار على شرطي فيما كان يخرج من سيارة للشرطة في كراج آخر، فأصيب بجروح ونقل إلى المستشفى حيث ما لبث أن فارق الحياة. وعلى الأثر قامت قوات الشرطة بحملة إرهاب عنيفة على الجزائريين في فرنسا، وقد قتل ثلاثة منهم برصاص الشرطة عندما احتجوا على اعتقالهم وتعذيبهم. وذكر مراسل الإذاعة البريطانية في - لندن - بأن إحدى هذه الهجمات حدثت على المقر الرئيسي لإدارة الشرطة في باريس، وأضاف - المراسل - أن دوريات من الشرطة المسلحين قد انطلقت إلى الشوارع. ولبس أفرادها خوذهم الفولاذية على رؤوسهم، وأقيمت المتاريس عند مداخل باريس. وقد ارتبطت حملة الإرهاب ضد الجزائريين في فرنسا بحملة الإرهاب في الجزائر داتها، حيث أفادت أنباء الجزائر بأن القوات الفرنسية تمارس عملياتها الإرهابية في مختلف مناطق الجزائر، وخاصة في المدن، وذلك بهدف إرغام الجزائريين على تسجيل أسمائهم في قوائم الانتخاب، وبالتالي الإشتراك في الاستفتاء على دستور (الجنرال ديغول) الجديد. وتفيد هذه التقارير بأن السلطات الفرنسية قد لجأت من أجل تنفيذ أغراضها، إلى تعذيب المعارضين، وتجويع قرى بأسرها حتى ترغم المواطنين على الإدلاء برأيهم في هذا الاستفتاء. وصرح السيد (أحمد توفيق المدني) مدير مكتب جبهة التحرير

الوطني في القاهرة، بأن الشعب الجزائري كله مجمع على رفض الاشتراك في الاستفتاء، ولذلك يلجأ الفرنسيون إلى عمليات القمع والإرهاب بصورة لم يسبق لها مثيل. فهل يستطيع (ديغول أن يعلن أن الجزائر هي جزء من فرنسا بدليل استغتاء الجزائر؟ .. وقال (الأستاذ المدني): إن جبهة التحرير الوطني أبلغت الأمم المتحدة، وكذلك جميع ممثلي الدول في نيويورك بما تقوم به فرنسا من أعمال إرهابية. وأضاف: إن الجبهة لا تعترف بهذا الاستفتاء، كما ترفض الاعتراف بكل ما يسفر عنه من نتائج، نظرا لما تتسم به عملية الاقتراع - التصويت - من تهديد وإرهاب. وذكر في معرض التعليق على حملة الإرهاب الجديدة، أنه قد تم بالأمس تنفيذ حكم الإعدام في اثنين من الجزائريين في السجن المدني في مدينة الجزائر، وهذا أول حكم إعدام ينفذ في الجزائر منذ ثلاثة أشهر ونصف الشهر. وجاء في نبأ (لوكالة اليونايتد برس) أن الجنرال ديغول رئيس وزراء فرنسا الذي يقوم حاليا بجولة في المناطق الإفريقية التي تستعمرها فرنسا بغية الدعوة للدستور الفرنسي الذي سيجري الاستفتاء عليه في الشهر القادم قد أخفق فيما أراد أن يحققه من وراء هذه الجولة. وتقول الوكالة: إن (ديغول) الذي يمكن أن يكون قد حقق نصرا سياسيا شخصيا في جولته، لم ينجح في إقناع زعماء المناطق الإفريقية التي تحكمها فرنسا بالبقاء تحت الحكم الفرنسي، لأن معظمهم أصر على الإستقلال التام، ومعنى ذلك أن هؤلاء الزعماء سيطلبون من مؤيديهم أن يصوتوا ضد الدستور الفرنسي الجديد عندما يجري الاستفتاء عليه في الثامن والعشرين من أيلول - سبتمبر - 1958.

يظهر ذلك أن قيادة جبهة التحرير الوطني قد ربطت بين تطوير الصراع المسلح ونقل الحرب إلى فرنسا، بالصراع السياسي مع الحكومة الفرنسية، وكان من أبرز نتائج هذا التطوير: 1 - إحداث انفجار هز مرسيليا التي تقع قريبا من معمل تكرير البترول. وقد ساد الرعب على الأماكن المجاورة لهذا الانفجار، حيث ارتفعت ألسنة اللهب وسحب الدخان قاتمة في سماء هذه لمدينة، حتى أنها كادت تخنق أنفاس السكان في منطقة تبعد خمسة أميال عن مركز الانفجار. 2 - إن فرنسا خسرت نصف مخزونها على الأقل من الوقود الاحتياطي. 3 - إن هذه التظاهرة (السياسية - العسكرية) لم تكن إلا البداية لصراع متطور باستمرار، فقد استمر الصراع في فرنسا، الأمر الذي أقلق السلطة الفرنسية، وأحدث شرخا في الرأي العام الفرنسي. وتجدر الإشارة إلى أن أعمال الفدائيين الجزائريين قد تركزت باستمرار على الموارد الاقتصادية والعسكرية، وتجنبت بذكاء حاد إلحاق الأذى بالمواطنين الفرنسيين - قدر المستطاع - ومن ذلك - - على سبيل المثال - ما أعلن فيما بعد: (من أن رجال الشرطة الفرنسية قد اعتقلوا خمسة من المغاربة، وصادروا منهم مدفعا رشاشا وسبعة مسدسات وكمية كبيرة من مواد صنع القنابل وذكرت السلطة الفرنسية بأن المعتقلين قد نجحوا في تدمير محطة للبنزين ومخزنا للذخيرة في مدينة - غرونوبل) (*).

_ (*) صحيفة (المنار) الدمشقية - العدد (1840) ص 3 - صباح الاثنين 18 رمضان (1377هـ) الموافق 7 نيسان (ابريل) 1958.

ب - قصة المعركة في كتابة الثوار

ب - قصة المعركة في كتابة الثوار (*): مضت أيام ثلاثة، والسيارات الثلاث التي وضعتها المنظمة السياسية - الإدارية لجبهة التحرير الوطني في إقليم (مارسيليا) هذه السيارات الثلاث متوقفة في ساحة (البورصة). لم أكن قد عاينت هذه السيارات أو رأيتها، وكنت أشعر بالقلق عندما تنتابني فكرة ألا تكون قوة دفع المحرك الميكانيكية كافية وصلبة، أو الأخطر من ذلك: ألا يكون المحرك عاملا وبحالة جيدة. وكنت أتأكد - ما بين فترة وأخرى - من الرقم الخاص بعمال المناجم الذي بحوزتي، والمسجل على البطاقة الرمادية - الميكانيك - للسيارة التي خصصت لي. وعلى كل حال، فالسيارتان الباقيتان قد غادرتا المرآب. وهذا يعني أن الأخوين اللذين سيستخدمانهما قد انطلاقا لتنفيذ المهام الموكولة إليهما في هذه الليلة. وكانت أوراق السيارة مطابقة تماما لأوصافها وأرقامها ولم تكن هناك مشكلة أو تعقيد في هذا الأمر. كانت عقارب ساعتي تشير إلى الثامنة مساء (20). وامتطيت السيارة، ووضع مفتاح المحرك في مكانه (التماس) وأقلعت بالسيارة بعد قليل من التردد، وسرت بها بصورة بطيئة. ولم أكن في حاجة للسير بالسيارة أكثر من مئات الأمتار حتى أتكيف معها وأتعرف عليها، وعندئد اندفعت في طريق (ميليير) وهي مزرعة صغيرة استأجرناها، لنقيم فيها (مقر قيادة) مؤقت. وكانت هذه المزرعة مريحة، تصلح في غير هذه الظروف لقضاء الإجازات، والاستراحة، والصيد وإطلاق الخيال للأحلام الجميلة. وما هي إلا

_ (*) المرحع:. (RECITS DE FEU SNED S.N. EL MOUDJAHID. ALGER 1977 P.223 - 232 والكاتب هو (محمد حمدي) والبحث تحت عنوان: - موربيان تحترق: ET MOUREPIANE BRULA

ربع ساعة حتى وصلت مزرعة (ميليير) حيث شاهدت للوهلة الأولى سيارة سوداء تقف أمام المدخل. فأوقفت السيارة على بعد مسافة كافية، وإلى جوار الرصيف، ثم ترجلت منها، وتوجهت إلى المزرعة سيرا على الأقدام. وقد شاهدت في وسط الظلمة شبح رجل يجلس وراء مقود سيارته، وتملكني شعور بالخوف، غير أنني حاولت التظاهر بالهدوء، فتقدمت مباشرة نحو باب القضبان الحديدي الذي يحرس المدخل، ودفعته بقوة. وناداني صوت أعرفه وهو يقول لي (أهذا أنت يا عليوه؟) وأطلقت زفرة عميقة بددت فيها ما كنت أشعره من الخوف. ودعوت (عمار) إلى دخول المزرعة. وتبادلنا بعض الكلمات عن حرارة هذا اليوم القائظ من أيام شهر آب - أغسطس - ونحن نخترق الممر الذي يقودنا إلى الكوخ الصغير (الشاليه) حيث أقامت فيه طوال ثلاثة أيام زمرة الفدائيين التي ستقوم بتنفيذ عملية هذه الليلة. كان باب المدخل يتصل مباشرة بالغرفة الرئيسية للمبنى. وهنا كان يجتمع سبعة من الفدائيين الشجعان حول (محمد أوزناني). وغمز لي (عمار) بعينه ففهمت من نظرته كل ما كان يريد قوله بشأن الحالة النفسية والروح المعنوية التي يتمتع بها هؤلاء المتطوعين الفدائيين. وفي الحقيقة، فإنه ما من أحد تنبه إلى دخولنا الحجرة، فقد كان انتباه الفدائيين السبعة مشدودا بكليته لدراسة الأجهزة المتفجرة التي صنعها وأعدها (محمد أوزناني) وذلك من أجل معرفة طريقة التعامل معها، واستخدامها، وأسلوب تفجيرها. وأرسلت سعالا انتزع الفدائيين من استغراقهم، فأداروا جميعهم برؤوسهم نحوي. وصدمتني نظراتهم الباردة، وتعبيرات وجوههم الساكنة، الهادئة. وأمكن لنا أن نستنتج من مواقفهم بأنهم لم ينتهوا بعد من

إعداد المواد المطلوبة لتنفيذ أعمالهم. غير أنه كان يكفي عد الأجهزة الموضوعة في الزاوية والتي انتهى (أوزناني) من تجهيزها لنعرف أنهم كانوا على وشك الانتهاء من عملهم، وأنهم في سبيلهم لتصنيع القنبلة الأخيرة. وكنت أجد صعوبة في إيجاد أية كلمة مناسبة للبدء بالحديث. فالتزمت بالصمت. كنت أعيش منذ حين على هاجس الانفجارات وأعمال التدمير التي سنقوم بتنفيذها الآن. ولم تكن أفكاري تفسح المجال للعواطف الإنسانية. وكنت، وأنا في موقفي هذا أطمئن نفسي بأن الساعة التي تم تحديدها لإعداد العملية وتنفيذها، ستكون في وقت متأخر جدا، بحيث لن يكون هناك خطر كبير في تعريض حياة عدد من المخلوقات البشرية للكارثة وبهذه المناسبة، فقد كانت تعليمات قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية واضحة ودقيقة: اختيار أهداف في فرنسا وتدميرها على أن تكون هذه الأهداف عسكرية أو صناعية بحيث يؤدي تدميرها طبيعيا لإضعاف القدرة القتالية للعدو. وكان هذا العدو من وجهة نظر قيادة جبهة التحرير الوطني ومن وجهة نظر الشعب الجزائري ممثلا بهذه الأجهزة الصناعية الضخمة، والأجهزة العسكرية، والتي يجب تدميرها لأنها هي التي مكنت الاستعماريين الفرنسيين من إحكام قبضتهم على وطننا الجزائري منذ النصف الأول للقرن التاسع عشر. أما عمليات التصفيات الجسدية ضد الأشخاص والأفراد فإنها لم تقرر، ولم تنفذ، إلا في الحالات التي كان فيها هؤلاء الأفراد يشكلون خطرا حقيقيا على شعبنا الذي كان يخوض صراعه المرير من أجل تحرره الوطني واستقلاله. وكان الأمر يزداد دقة في فرنسا حيث كانت كتلة العمال الفرنسيين تتعاطف تعاطفا واضحا مع جبهة التحرير الوطني وأهدافها.

كانت مجموعتنا تشكل فرعا خاصا من فروع جبهة التحرير الوطني العاملة في فرنسا. وكانت هذه الفروع هي (منظمات خاصة) واجبها العمل في فرنسا لتنفيذ كافة الأعمال والواجبات التي يضطلع بتنفيذها (جنود جيش التحرير الوطني الجزائري ومجاهديه) على ثرى الجزائر المجاهدة. وكانت (تنظيمات الوحدات الخاصة) وتكوينها، تتشابه مع تنظيمات جيش التحرير الوطني تشابها كبيرا، وكانت تحمل أيضا فصائل مجاهدي جيش التحرير الوطني، وأبرزها: الانضباط وروح التضحية. وهكذا كان (التنظيم الخاص) يشكل جيشا من المتطوعين الفدائيين الذين قبلوا التضحية بحياتهم عن رغبة ثابتة من أجل قضة وطنهم، والذين أخذوا في العيش بصورة سرية، وفي عزلة عن بقية فروع (التنظيم الخاص) التابعة لجبهة التحرير الوطني والعاملة في فرنسا. كان السكون المطبق يخيم على مزرعة (ميليير) في هذا المساء. ولما كان لا بد من الانتظار قليلا حتى نتسلم المتفجرات، فقد خرجت إلى فناء المزرعة، وتبعني (عمار) مباشرة، وسرنا معا من غير أن نتبادل الحديث ولو بكلمة واحدة، وقام بيننا جدار سميك من الصمت. لقد ناقشنا كل متطلبات التحضير والإعداد وطريقة التنفيذ مرات عديدة، حتى تحقق العملية نجاحها الكامل. غير أنه كانت هناك رغبة تدفعني للتفكير في إعداد التعليمات والتوصيات الأخيرة - وإعادتها - قبل الانطلاق للتنفيذ. وسرت مع (عمار) جنبا إلى جنب، حتى وصلنا إلى باب القضبان الحديدي الذي يحرس المدخل، وكان (عمار) يشابك يديه وراء ظهره، أما أنا فكنت أدس يداي في جيبي البنطال. واستدرنا على أعقابنا في وقت واحد، وكلانا سابح في صمته وتأملاته.

ثم ... انطلقنا في وقت واحد، ونحن نتحدث في موضوع (المناورة التشتيتية) التي يجب أن تضطلع بتنفيذها زمرة الحماية حتى تضمن لنا العمل بحرية تامة، ومن غير خوف أو قلق. وقال لي (عمار) بأن عقارب الساعة قد أشارت إلى التاسعة مساة (21،00) وهذا هو الموعد المحدد لإشعال الحرائق في (غابات ايستريل). ولم أجبه بأية كلمة، غير أنني كنت أحاول إقناع نفسي بأن المغاوير - الكوماندو - هم الآن على وشك البدء بتنفيذ مهمتهم، وأن النجاح سيكون حليفهم، لا سيما وأن الحرارة اللاهبة في هذه الأيام القائظة. والجفاف الذي سيطر على (منطقة الميدي) في الفترة الأخيرة سيساعدهم كثيرا في تنفيذ المهمة. وانفرج الباب قليلا بقدر ما يسمح للفدائي (عبد القادر) بالخروج من الغرفة، وأعلمنا بأن (أوزناني) قد فرغ للتو من عمله. قال ذلك بلهجة طبيعية تماما، واستدار فورا، من غير انتظار، ليلحق بالآخرين. وانتظرت قليلا حتى يتخذ (عمار) قراره، غير أنه لم يفعل شيئا، فدعوته عندها للدخول. وقد جرت العادة في مثل هذه الظروف الخطيرة والحرجة، أن يقول المسؤول بضع كلمات ليذكر المنفذين بهدف هذا الاجتماع، وأهميته، ويشجعهم على المضي في تنفيذ مهمتهم المقدسة والخطيرة، ويضع القطار على الخط الحديدي - كما يقولون -. وكان الرجال جميعهم على أهبة العمل، غير أنه ما من حركة صدرت عن أحدهم تنم عن التوتر أو العصبية. كان من طبيعتي الإقلال من الحديث، إذ كنت - كما يقولون - رجل عمل. وقد أرغمت على ممارسة دور (الموجه السياسي) فكنت أجد صعوبة كبرى في العثور على تعبيرات تتجاوز كلمات (إفعل هذا) أو (قم بتلك المهمة)، أو (تعال إلى هنا)، أو

(إذهب إلى هناك). وألقى علي (عمار) نظرة متسائلة - استفهامية - عما ساقوله أو أفعله. والوقت يمضي سراعا، وأنا لم أتمكن بعد من السيطرة على أفكاري - ومضت ثوان وذهني خاضع لحالة من الاضطراب والتشتت. وكان لا بد من مجابهة الموقف السلبي - الجامد - الذي وقفناه جميعا، فطلبت إلى (أوزناني) أن يقوم بمراجعة عامة للحركات الذي يجب تنفيذها لإكمال سير عمل الأجهزة المتفجرة (آلية التفجير) وذلك عندما سنطلق كل فدائي وحده لتنفيذ مهمته على الهدف المحدد له. وكانت هذه العملية بالنسبة لي (مناورة تأخيرية) تسمح لي بفسحة من الوقت لإعادة تنظيم أفكاري. نفذ (محمد أوزناني) ما طلبته إليه بسرعة، وانصرف الفدائيون - بصمت كصمت المتعبدين في صلواتهم - وهم يتابعون بكل يقظتهم وانتباههم ما كان (أوزناني) يقوله من إيضاحات وتوجيهات وتحذيرات. ولما كان هؤلاء الفدائيون جميعا ممن نفذوا مهمات مختلفة، فإنه لم تكن بهم حاجة لمثل هذه البيانات التفصيلية من أجل وضع قنبلة فى مكان محدد. وعلى الرغم من ذلك، فقد أظهروا اهتماما كبيرا بما يتم تقديمه لهم من بيانات، ولعل مرجع ذلك إلى ما عرف عنهم من الانضباط الصارم في تنفيذ كل ما يطلب إليهم تنفيذه، أو لعله الحافز للتذكير بما هو معروف من معلومات. دق جرس باب المدخل في هذه اللحظة، فذهبت بنفسي لفتحه. وعندئذ شاهدت عميلتنا المسؤولة عن تأمين الاتصالات (ناديا) التي وصلت لاهثة؛ لقد جاءت راكضة من الطريق العام إلى المزرعة، بعد أن أوصلتها شاحنة عامة (باص) إلى الموقف الكائن على الطريق العام. وأخذت (ناديا) في الحديث بكلمات متقطعة، فطلب إليها التزام الصمت حتى تستعيد أنفاسها ورافقتها إلى

الحجرة حيث طالعتها وجوه لم تكن قد تعرفت عليها من قبل. غير أنها لم تشعر بضيق أو حرج وهي تشهد مناخ القتال الذي كان مخيما على المزرعة. ثم أخذت في الحديث وهي تقتحم الموضوع مباشرة بشأن (المناورة التشتيتية) فذكرت بأن الحريق قد أندلع في (غابات ايستريل) من كل جهاتها. وأن عربات إطفاء الحريق قد انطلقت في هذه اللحظة عبر شوارع (مارسيليا) كلها وهي متجهة لإخماد الحريق الهائل. ظهر لي بأن (أوزناني) قد مضى سريعا في شرحه وبياناته، أو لعلي لم أشعر بمضي الوقت إذ فقدت الإحساس بانقضائه. وقد جاءت الأخبار الجيدة التي حملتها معها (ناديا) فاستشارتني، وأهاجت انفعالاتي، وبت متفائلا، وحاولت نقل هذا الإحساس بالتفاؤل إلى إخوتي الفدائيين، فألقت بنكتة ساخرة انفجر لها الجميع ضاحكين. واغتنمت هذه اللحظة من المرح لأعلن بلهجة جادة، صارمة، بأن عملية (العاصمة) قد أخذت طريقها إلى التنفيذ. وأوضحت أن الاسم الاصطلاحي (لعملية العاصفة) يشمل كل العمليات التي سيتم تنفيذها في هذه الليلة، فوق الأرض الفرنسية، وفقا للتعليمات التي أصدرتها القيادة العامة لعمليات جبهة التحرير الوطني. وقلت لهم بأنهم لن يكونوا الوحيدين الذين سينفذون في هذه الساعة الأعمال التدميرية، بل إن هناك زمرا أخرى من الفدائيين التابعين (للمنظمة الخاصة) ينتشرون في كل أنحاء فرنسا، وهم يستعدون مثلنا للهجوم على الأهداف المعادية وتدميرها. وعلى هذا فإن عملياتنا ليست منعزلة بعضها عن بعض. وغدا! سيستيقظ الشعب الفرنسي ليجد نفسه أنه بات مضطرا للعيش في

مناخ الحرب. غدا! سيردد الرأي العام العالمي، ويقول: بأن الشعب الجزائري قد نقل الحرب إلى قلب بلاد العدو. غدا! .. وخرج (عمار) وتبعته (ناديا) وقلت للفدائي (أوزناني) بأن ينطلق معهما، وأشرت إليه: (بأن - ناديا - سترشدك إلى مكان التقائنا في المدينة). وتملكني مباغتة شعور إنسان متهم يقف أمام قضاته أو حكامه، أو بالأحرى شعور محكوم أمام جلاديه. غير أنني تمالكت نفسي بسرعة، وأنا أردد في سري بأنها ليست اللحظة المناسبة الآن - للاستسلام لمثل هذا النوع من العواطف ... فغدا! ستصدر الجزائر حكمها علينا جميعا. ولا يهمني أبدا أن أفكر بحقوقي وواجباتي. إن كل ما يهمني هو أن أنفذ واجبي، وأن أحمل الآخرين على تنفيذه. وسلمت كل واحد من الفدائيين السبعة مبلغا من المال حتى يتدبر به أمره، ويضمن به الوصول إلى ملجأ أمين يختاره بنفسه، وذلك بعد الانتهاء من تنفيذ عمله. على أن يتم الاجتماع في اليوم التالي عند (كريبي). ثم وزعت الأسلحة، وأوصيت الفدائيين بعدم اللجوء إلى استخدامها، الا في حالة الضرورة القصوى. وكانت تدابير الأمن والحيطة تفرض علينا إخفاء المتفجرات المصنعة في خزانات الحليب الصغرى (بيدونات) يتسع الواحد منها الى خمسة أو عشرة كيلوغرامات. وأخذ كل واحد من الفدائيين خزانا - بحسب مهمته المكلف بتنفيذها - وخرج أفراد زمرة - موريبيان - المكونة من (مصباح) و (كريبي) و (عبد القادر) قبل سواهم - وبعد خمس دقائق لحق بهم (حنش) و (ملياني) ومعهما حمولتهما من المتفجر ات المخصصة للعمل في (آيغلادس). وغادرت المزرعة في آخر الجميع ومعي (مختار) و (قطوش). وانفصلت عنهما لدى الوصول إلى باب مدخل المزرعة، حيث كان

لزاما عليهما التوجه إلى (كاب - بينيد). ونظرت إليهما وهما يبتعدان وسط الظلمة وأنا أفكر بأنه من المحتمل ألا يكتب لي رؤيتهما مرة ثانية. وأصابتني رعدة وقشعريرة عندما راودتني هذه الفكرة. واتجهت إلى عربتي - سيارتي - ووضعت مفتاح التماس - كونتاك - في موضعه. وانطلقت بالعربة مسافة لا تتجاوز ثلاثمائة متر أو حتى أربعمائة متر، وهنا وقع عطل مباغت قبل أن أصل إلى الطريق العام. ولم أحاول معرفة سبب العطل أو أجرب إصلاحه. فوضعت العربة إلى جانب الطريق، وتابعت طريقي سيرا على الأقدام حتى وصلت الطريق العام - الرئيسي -. وهنا، وأثناء سيري، عاودني الشعور بثقل الحرارة الخارجية، فالمناخ لم يعتدل في الليل عما كان عليه أمر القيظ الشديد في النهار، بل إن ما حدث هو القيض تماما، فقد شعرت بالحرارة تتزايد وطأة، وبالمناخ يتزايد ثقلا، وكان ذلك أمرا طبيعيا بعد أن أخذ نطاق النيران يحيط بمدينة (مرسيليا) من كل اتجاه. مضت ربع ساعة وأنا أركض خببا، وأشارت عقارب الساعة إلى الحادية عشرة ليلا (23،00) ولا زالت حافلات النقل العامة (الباصات) التي تصل إلى الضواحي مستمرة في عملها الآن. وجلست على قارعة الطريق وأنا أنتظر وصول الحافلة بصبر نافذ، مستغرقا في تفكيري بعملية (موريبيان). ولا أدري بدقة السبب الذي حملني على الاهتمام بتدمير هذا المستودع الضخم من مستودعات الوقود، أكثر من كل العمليات الأخرى التي سيتم تنفيذها في هذه الليلة. لقد استأثر هذا الهدف بأكبر قسط من اهتمامي، واستحوذ على أكبر قدر من وقني، خلال مرحلة التحضير للعملية، فعملت على

دراسة المنشآت وأجهزتها بصورة تفصيلية ودقيقة. غير أن تفكيري الآن قد امتد إلى أفق العمليات الأخرى في: (بير) و (لافيرا) و (اليس) و (بوردو) و (ليون) و (بيربينيان) و (تولوز) و (كاب - بينيد) و (ليزا يغلادس) ... وهنا وصلت حافلة نقل (أوتوكار) متوجهة إلى (مارسيليا). فقفزت من مكاني، وأشرت إليها ملوحا بكلتا يدي. فتوقفت، وتسلقت درجتي الباب، واشتريت بطاقة الرحلة. وكان هناك أربعة من الركاب قد احتلوا المقاعد الأولى من الحافلة، فتطلعوا إلي جميعا بنظرات فضولية، غريبة، فتعمدت أن أتجاهل نظراتهم. وتوجهت للجلوس على مقعد بعيد الى الخلف منهم، بحيث أضعهم باستمرار تحت مراقبتي. ولقد تمكنت حتى الآن من الاضطلاع بدوري بجدية تامة، مما عزز قناعتي وثقتي: بكل ما قمت بتنفيذه. ولكن ها أنا وقد أخذت أشك بكل من حولي، فأقف موقف الحذر من ركاب الحافلة، وأراقب كل حركة من حركاتهم. إنني أشعر بالقلق، بل إن هذا القلق قد وصل إلى حد الخوف، ووصل بي الأمر في لحظة من اللحظات إلى حد بروز رغبة للتقدم من سائق الحافلة والطلب إليه برجاء أن يتوقف حتى أغادر المركبة. غير أنني سرعان ما استعدت في ذهني ذكريات المخاطر التي سبق لي أن تعرضت لها، والمجازفات التي اقتحمتها، والعقبات التي أمكن لي التغلب عليها وتجاوزها ... دخلنا المدينة، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، ولم أكن أفكر بأنني سأجد الشوارع مكتظة بحشود الناس في مثل هذا الوقت. ويظهر أن معظم هؤلاء قد فروا من مساكنهم الخانقة. بحثا عن نسمات من الهواء العليل المنعش. وكانت المقاهي عند الميناء

القديم حافلة بروادها. وهنا اخترت النزول من الحافلة. كان هواء الريف قد اعتصرني، فشعرت بالجوع، وأخذت في البحث على مكان لي في المقهى. لقد كان اقتحام هذا المكان مغامرة حقيقية، فالناس يتدافعون في هذه المقاهي والمطاعم التي تنتشر على امتداد جبهة البحر. ثم ما حاجتي لاقتحام هذا المكان وكل ما أحتاجه هو قطعة من الجبن وقطعتان أو ثلاث قطع من (البسكويت) وقدح من الحليب البارد، وهذا متوافر في منزلي الذي لم يعد بعيدا؟ ... كانت (ناديا) تنتظرني أمام المبنى، وكانت مباغتة لي أن أجدها واقفة في انتظاري، وقالت لي بأن عربتهم - مركبتهم - قد توقفت بسبب نفاد الوقود. وأن (عمارا) قد أرسلها لتصل بسرعة وتعلمني بجلية الأمر. وضحكت، فذهلت (ناديا) لهذا الضحك - في وقت غير مناسب - وإذ ذاك أعلمتها بأن عربتي قد توقفت بدورها، وأنني اضطررت إلى تركها على قارعة الطريق، عند نقطة لا تبعد كثيرا عن المزرعة، وصعدنا إلى شقتي، وعقارب الساعة لم تصل بعد إلى منتصف الليل. أعددت لنفسي بعض الشرائح (ساندويتشات) وقدحا من الحليب، وكذلك فعلت (ناديا). وفتحت باب الشرفة، وخرجت إليها. وكان القمر قد ارتفع عاليا في قبة السماء. وأرسل أشعته لترسم لوحات رائعة الجمال فوق سطح البحر الذي يمتد منبسطا أمامي حتى الأفق وفي هذه اللحظة، قرع جرس الباب. وفتحت (ناديا) الباب، فدخلت عميلتنا الثانية المسؤولة بدورها عن الاتصالات (واسمها حليمة). وكان وجهها يضج بابتسامة عريضة، تفضح ما كان يعتمل في نفسها من سعادة غامرة. وكانت ملامح وجهها، ومزاجها المرح يعبران أصدق تعبير عما تشعره من الرضى

عن الذات. وكان ذلك يعني أن الأمور تسير - في الجهة الأخرى - على خير ما يرام. وانطلقت (حليمة) لتعلمنا بأن جميع الفدائيين قد غادروا مراكزهم، واتجهوا لتنفيذ واجباتهم المحددة لهم. وتابعت حديثها في ذكر تفاصيل لم تكن تهمني، إذ لم تكن بي رغبة لا للحديث ولا للاصغاء. فابتلعت ما تبقى من الحليب في الكوب، وخرجت من المنزل متعجلا، تاركا فيه الحرية للفتاتين حتى تتبادلا الحديث كما تشاءان مضيت متسكعا في الأزقة والطرقات، مستلما إلى حيث تقودني قدماي. كانت (مرسيليا) تذكرني في بعض أماكنها ببلدتي (عنابة). وفكرت بأمر هذه المدينة التي يجب لها أن تنام نوما قلقا، مضطربا. فهناك تبدأ الليالي مبكرة، وتنتهي متأخرة. ثم إن الليالي وفترات النهار تتعاقب هناك مختلطة بعضها ببعض بسبب ما يعانيه أهل المدينة (عنابة) من الضغوط والإرهاب والظلم. هناك يوجد أناس أيضا، ولكن لا توجد حياة. ... الناس هنا، من حولي، يعيشون في يسر، من غير قلق ولا هموم أو مخاوف. وشعرت بالغيرة وأحاسيس العنف تجتاحني: فلتحترق (موريبيان، وبير، وبوردو، وليون، وبيربينيان، وتولوز) إنها ليست أفضل أبدا من عشرات القرى التي أحرقتها قنابل النابالم وأزالتها من عالم الوجود. ولتدمر (مرسيليا)! إنها لا تساوي أبدا حياة مئات الآلاف من ضحايا الاستعمار الفرنسي. وهذه الحرية التي تزيل كل الهموم والمخاوف، هذه الحرية التي تغلف حياة الآخرين وتحيط بها، هي الحرية التي حرم منها الشعب

الجزائري منذ أكثر من قرن. ومن هنا، فإنه يجب على الشعب الفرنسي، سواء شاء أو أبى، أن يدرك ذلك، وسيدركه غدا عندما تعلن له صحافته، وبالعناوين العريضة، توسع أعمال الإرهاب وانتقالها إلى فرنسا. وعندئذ سيعيش كل فرنسي على هاجس احتمال وقوعه ضحية الصراع التحرري التي يخوضه الجزائر وعندئذ أيضا سيضطرب مناخ الحرية الذي يعيشه كل فرنسي وسيشعر كل فرنسي بالمعاناة التي يعيشها أقرانه في الجزائر. لقد مضت بي هذه الأفكار والتأملات إلى اتجاه لا أريده ولا أرغب في السير إليه، إنني أحب منطقة (الميناء القديم) وكنت أريد التوجه إليها، غير أني وصلت إلى الاتجاه المعاكس تماما من المدينة، وهو المكان المقابل للبحر والبعيد عنه واستدرت على عقبي، وعدت من حيث أتيت لقد كانت الحرارة اللاهبة تخنق الأنفاس. وانتابتني رغبة في خلع حذائي والسير وأنا عاري القدمين. وأخيرا، قررت التوقف عن التسكع وقد وصلت في سيري إلى أمام المبنى الذي أسكن فيه. فلماذا لا أدخل إلى المنزل وأنام على سريري؟ ولكن هل سأتمكن من النوم؟ إن هناك شيئا في داخلي أكثر قوة مما أصابني من التعب هو الذي يدفعني إلى البقاء خارج المنزل. ودقت ساعة محطة القطار معلنة الثانية صباحا. ولما لم يبق إلا ساعة من الزمن حتى يبرز الحدث العظيم، فقد شجعني ذلك على الانتظار، والمضي في التسكع. بدأت منطقة (الميناء القديم) في الإقفار من روادها. وأخذت المقاهي في إسدال ستائرها وإقفال أبوابها تباعا. وكان هناك زوجان يجلسان على الأرض، يستمعان إلى المذياع الصغير - الترانزيستور- ويتناقشان بحدة في موضوع الحرائق التي اندلعت في المساء. ويظهر

أن كل وحدات المطافىء في الأقليم قد تحركت للصراع ضد النيران المندلعة في الغابات. ومضيت في تسكعي جيئة وذهابا، وكنت أبطىء الخطى عندما أصل إلى جوار أحد التجمعات حتى أسترق السمع إلى ما يدور بين أفرادها من أحاديث وتعليقات على ما كان يذيعه المذياع المحلي (محطة البث الداخلية). وكنت أشعر بالبهجة والعادة وأنا أتابع انفعالاتهم وهياجهم لما حدث، وتصورت ما سيدور في رؤوسهم بعد هنيهة عندما .. ووصلت حتى نهاية الشارع وأنا أسحب قدماي سحبا، ثم رجعت على (وقع الخطى ذاتها. وهنا رأيت الزوجين اللذين كانا جالسين أرضا وهما يقفان ويستعدان للمضي نحو منزلهما. وهنا دوى انفجار مرعب بلغت قوته حدا أشعرنا أنه وقع إلى جوارنا تماما. وشعرت بأنفاسي وقد توقفت، ورفعت رأسي فشاهدت على البعد وهجا متصاعدا كأنه البركان لقد ارتفعت ألسنة اللهيب عاليا، لقد مرت (مور يبيان) وكانت عقارب ساعتي تشير إلى الثالثة وعشر دقائق صباحا (10، 3) لقد حانت ساعة النوم، لا سيما وقد أصبحت في حاجة ملحة للاستراحة والنوم. ... دخلت شقتي محاولا قدر استطاعتي ألا أثير شيئا من الضجيج. كانت (حليمة) و (ناديا) تنامان في غرفة النوم ذات الباب الموصد، فتمددت على أريكة (ديوان) في الردهة وأنا أرتدي كامل ثيابي، ورحت في نوم عميق لم أستيقظ منه إلا بعد ساعات، حيث أيقظني (عمار) من سبات خيل إلي أنه استمر عدة ليال متتالية وكانت نظرات (عمار) الباردة لا تشير إلى أي شيء. واستدعيت (ناديا) حتى أكلفها الذهاب وشراء بعض الصحف الصباحية. غير أن (عمار)

سرعان ما أعلمني بأن صحافة الصباح لم تحمل على صفحاتها أي نبأ هام يتعلق بالعملية. واكتفيت بهذا الوجيز من الأخبار، وأرسلت (ناديا) لإعداد شيء من الطعام. وبعد الإفطار، تعجلت بمغادرة الشقة حتى أرى على الطبيعة نتائج العملية التي نفذت في الليل. كان الشارع يضيق بسابلته وعابريه، خلافا لما هو معهود، حيث كان المارة يتحلقون، وأجهزة الالتقاط الإذاعية - الترانزيسور - تتأرجح على سواعدهم. لم يكن سلوك الناس عاديا هذا اليوم أو طبيعيا: فالضيق والقلق يرتسم على تصرفاتهم وتعابيرهم، بعضهم حزين، وبعضهم متصلب مشدود الأعصاب بقسوة، وجميعهم في هياج. اشتريت صحيفة على كل حال، ونبأ صغير يبرز على الصفحة الأولى يصور ما حدث عند آخر دقيقة قبل صدور الصحيفة وإلى جواره صور العارضات الجميلات لأزياء فصل الشتاء سنة (1958 - 1959). وهي تمثل آخر صرعات الثياب (المودة). ولم يكن في الصحيفة ما يجيب بصورة كافية على التساؤلات التي كان يتناقلها أهل مرسيليا) في موضوع الحرائق والانفجارات التي هزت المدينة ولهذا لم يكن هناك من يعرف ما حدث بدقة، فتوجه اهتمام الناس إلى أجهزة الالتقاط الصغيرة (الترايزيستور). غير أن محطات البث - الإذاعة - لم تكن تذيع غير النداءات التي كانت تطلب إلى السكان الالتزام (بالهدوء) ما بين فترة وأخرى، مع التزام الصمت التام تجاه ما حدث، ولم يكن ذلك كافيا لإرواء تعطش الأهلين لمعرفة الحقيقة. بل إن الأمر على النقيض من ذلك، فقد واجه رجل الشارع ما هو أسوأ، إذ باتت رياح الرعب هي المهيمنة على المدينة وسكانها. كانت ملامح وجهي وتكويني تتشابه مع الأوروبيين، وكانت أوراق

إثبات شخصيتي المزورة (الهوية) تحمل اسم (ديدييه - جان - لويس) وكان ذلك يسهل مروري من نقاط المراقبة التي أقامها رجمال الشرطة , ولم أكن أشعر بالخوف أو القلق من الاشتراك مع الجمهور في مناقشة رجال الشرطة بشأن ما حدث. وكان هؤلاء يعترضون كل شخص أسمر اللون تحمل ملامحه طابع الإنسان العربي في الشمال الافريقي، ويطلبون أوراق إثبات الشخصية لاعتقال كل (مسلم فرنسي؟). وقد رأيتهم بعيني وهم يعتقلون إخواني الجزاريين، ويعاملونهم بقوة وهم يدفعونهم لركوب الشاحنات الكبيرة (سيارات النقل العسكرية). وقلت في نفسي: لا بأس، فكلما زاد الضغط والظلم، كلما زادت جبهة التحرير الوطني قوة، وتعاظمت قدرة وعددا. كان هناك حشد كبير من الناس الذين تجمعوا عند موقف حافلات النقل في (كانوبيير) وصعدت أول حافلة (باص) تتجه نحو الغرب. وكان الطريق إلى الميناء مغلقا بنطاق من رجال الشرطة، الذين حولوا خط سير الحافلات نحو الشمال - الغربي. ونزلت عند أول موقف. وتوغلت في الشارع الذي ينتهي بساحة تطل على الميناء. واختلطت بالجموع التي كانت تتدافع بالمناكب لرؤية ما كان يحدث في الجهة المقابلة. وعلمت أنه حدثت انفجارات جديدة في هذا الصباح. وعلى كل حال، فقد كانت ألسنة اللهيب تتصاعد عاليا لأكثر من مائتي متر أو حتى ثلاثمائة متر، حتى أنها كانت تظهر واضحة من على بعد كيلومترات عديدة. وقد تم إخلاء المساكن المحيطة بالمنطقة كلها، وأرغم عشرات الآلاف من سكان مرسيليا على الجلاء عن المنطقة المعرضة لخطر الانفجارات. وأوقفت كافة المعامل القريبة من المنطقة إنتاجها، وصرفت عمالها.

وحظر المرور من شوارع الساحل ضمن دائرة تزيد على أربعمائة متر. استمرت الحرائق في (موريبيان) طوال عشرة أيام، وذلك على الرغم من كل الوسائط الضخمة التي تم حشدها للحد من الخسائر، والسيطرة على الحريق. صدرت صحف المساء وهي تحمل على صفحاتها الأولى، وبالعناوين البارزة، أنباء الهجوم الذي شنته جبهة التحرير الوطني الجزائري في فرنسا. وتحت هذه العناوين كانت تندرج التعليقات اللاذعة التي تختلف في شدتها وقسوتها تبعا لما تمثله تلك الصحافة من اتجاهات. فكان في جملة العناوين المثيرة - على سبيل المثال (الليلة الحمراء) أو (الكارثة الوطنية). ومضت التعليقات وهي تعالج (الحدث) وفقا لمنطلقاتها (الايديولوجية) أو وجهات نظرها السياسية. وحتى الصحافة اليسارية - الشيوعية - لم تحاول المحافظة على الحد الأدنى من التعاطف مع (الحركة الوطنية الجزائرية)، فوصفت أحداث يوم 25 آب - أغسطس - 1958 بأنها (ضرب من اليأس). أصدرت جبهة التحرير الوطني الجزائري في مساء ذلك اليوم بيانا، أوردت فيه الأهداف التي يخوض من أجلها الشعب الجزائري صراعه، منذ أربعة أعوام.

مع المجاهدين في معاقلهم

6 - مع المجاهدين في معاقلهم (*) مضت سنوات الخوف على الثورة، وأصبحت القواعد المحررة حصونا منيعة للثوار، تجتذب إليها الباحثين ورجال الصحافة والأحرار من كل العالم. لقد أذهلت (فصائل الثوار الجزائريين) كل المفكرين والأحرار - لا سيما في العالم العربي - الاسلامي، وكانت بطولات ثوار الأوراس والقبائل مصدرا لإطلاق كل الخيالات الفروسية التي اندثرت منذ القرون الوسطى، أي منذ تراجع نفوذ المسلمين وتغلبت عليه (الحضارة الغربية) ثم جاءت الثورة العملاقة لتبعث فضائل الفروسية من مرقدها. وأقبلت وفود الباحثين والفضوليين وهي تحاول استطلاع أبعاد هذه الظاهرة المثيرة. وقد يكون من الصعب حصر كافة التحقيقات والأبحاث التي تعرضت لمختلف الجوانب التي حفلت بها حياة الثورة. وقد يكون من المناسب هنا التعرض لواحد منها، وفقا لما أورده مراسل عسكري عربي:

_ (*) المرجع: صحيفة (المنار) الدمشقية. العدد (1839) ص 8 - صباح السبت 16 رمضان - 1377 م المصادف 5 نيسان (أبريل) 1958 وكذلك العدد (1840) ص 4 - صباح الاثنين 18 رمضان 1377 هـ - المصادف 7 نيسان (ابريل) 1958 .

لقد شهدت محاكمة الأسرى الفرنسيين الأربعة، وحصلت على خطابات بخط يدهم. رأيت المعاملة الكريمة التي عاملهم بها جيش التحرير في الوقت الذي تعذب فيه فرنسا المجاهدين الجزائريين وتشردهم. إنه درس في الإنسانية من أبطال جيش التحرير، درس في الأخلاق والشرف لفرنسا وللعالم الغربي الاستعماري، في الوقت الذي كان فيه زبانية فرنسا يحطمون أضلاع المجاهدة (جميلة) وأخواتها، وفي هذا الوقت، حيث يتساقط عدد من جنود فرنسا بين يدي الأبطال الجزائريين. فما الذي حدث للأسرى الفرنسيين في أيدي جيش التحرير؟ والذين اعتبرناهم أسرى مع أنهم قتلة في مذبحة، وسفاحون بلا شرف؟ أبدلوا ثيابهم الممزقة بثياب جديدة، وكانوا يرتجفون - كالفئران المذعورة، لشعورهم بأشباح ضحاياهم الجزائريين تحيط بهم. لم يصدق الأسرى الفرنسيون ما تراه عيونهم، وهم يجدون مقاعد لجلوسهم في مكان ما من الجزائر. لم يحطم أحد ضلوعهم، ولم يبصق أحد في وجوههم، ولم يفقأ أحد عيونهم، ولم يكوهم أحد بالنار، ولم يقتلع أحد أظافرهم. كل الذي حدث هو أنهم قوبلوا بإنسانية. وقدم لهم الطعام والكاء، وحوكموا في محكمة عسكرية جزائرية منظمة. وأكثر من هذا إن ضابطا جزائريا من أعضاء المحكمة شاهد أحد الأسرى أمامه وهو يرتجف من البرد، فنهض من مكانه، وخلع معطفه، وذهب بنفسه إلى الأسير الفرنسي وألبسه إياه. هل شهد أحد مثل هذه الإنسانية؟ ومع من؟ مع الفرنسيين الذين ينتهكون كل المحرمات، ولا يتورعون عن تعذيب النساء والشيوخ والأطفال. واستمرت المحاكمة. القضاة من ضباط جيش التحرير الوطني الجزائري، وأمامهم

جلس أربعة من الأسرى الفرنسيين، والتهمة الموجهة إليهم هي قتل الأبرياء من أهل الجزائر، واستخدام أساليب وحشية في تعذيب المواطنين الجزائريين، وتدمير البيوت وسفك الدماء بلا سبب ولا دافع إلا التنكيل والارهاب. وقبل أن تبدأ المحاكمة، سأل الضابط الجزائري الذي يرأس المحكمة، الأسرى عن طلباتهم، فطلب بعضهم قهوة، وبعضهم لفافات تبغ (سكائر). فأجيبت طلباتهم فورا وأمر الضابط الجزائري بتغيير ثيابهم الممزقة بثياب جديدة من ملابس جيش التحرير الوطني، وكان حذاء أحد الأسرى الفرنسيين باليا بشكل واضح، فأعطوه بدلا منه حذاء جديدا. وأكثر من هذا، ففي أثناء الطريق، لم يقو (جاكوب) وهو أحد الأسرى الأربعة على السير في الطريق الصاعد إلى واحد من الجبال المرتفعة، فساعده جنديان من جيش التحرير حتى كادا أن يحملاه حملا لمعاونته. أقبل الرائد - الكومندان - (سي موسى) على الأسرى الأربعة يسألهم عن نوع الطعام الذي يفضلونه، فردوا عليه في صوت واحد، وهم لا يصدقون أنفسهم: (أي شيء تسمحون به!). وعاد بعض المجاهدين من جيش التحرير وهم يحملون معهم (خبز - عيش - فينو، ولحم مقلي، وجبنة نستله، وبرتقال) فاختطفها الأسرى، وجلسوا يأكلون بشراهة، وينظر بعضهم إلى بعض، وإلى الطعام، وإلى المجاهدين المحيطين بهم، وهم لا يصدقون أنهم أحياء، وأن هذه المعاملة قد صدرت عن الجزائريين الذين تسومهم فرنسا سوء العذاب. وبعد أن انتهى الأسرى من طعامهم، ودخنوا لفافات التبغ (السكائر) التي قدمت لهم، دعوا إلى فناء واسع، وضعت في وسطه طاولة، وحولها كراسي لأعضاء المحكمة العسكرية ولهم. وبوغت الأسرى الفرنسيون بدعوة قائد المعسكر

لهم بالجلوس. وكانت مباغتتهم أكبر، عندما أخذ رئيس المحكمة يوجه إليهم الأسئلة بطريقة مؤدبة، وبكلمات مهذبة غير نابية، وكانت إجاباتهم تسجل كما هي - بدقة وأمانة وأمام عيونهم. كان الأسرى طوال الوقت يتبادلون النظرات المتسائلة عن هذه المعاملة الإنسانية، حتى أن واحدا منهم سأل رئيس المحكمة: هل ستتركونا أحياء ولن تقتلونا؟ فرد الضابط الجزائري: (إن ذبح الأسرى وتعذيبهم وتشويه أجسادهم مهمة نتنازل عنها لجيش فرنسا!) فرد عليه أحد الأسرى: (لقد أفهمونا في الجيش الفرنسي أن أي أسير يقع في أيدي الجزائريين سيذبح فورا). وبعد انتهاء التحقيق تحدث الأسرى: * - قال الأسير (فيالاروف - جان) في ألم والدموع تملأ عينيه (أتمنى أن تنتهي الحرب في أقرب فرصة. فأنا متزوج ولي طفل صغير وأم عجوز. وقد مضت ثلاث سنوات لم أزهم خلالها إلا مرة واحدة). * - واعترف الأسير (مورالي فالو) بأنه لم يصدق أنه سيعيش، لأن الحصار كان من كل جانب، وكان الهجوم عنيفا، والنيران مركزة ودقيقة التصويب. ورأى قائده وزملاءه وهم يتساقطون من حوله، والنار تحيط به من كل جانب، فلم يشعر إلا ويداه مرفوعتان في الهواء - إشارة التسليم - وكان مما قاله: (عندما أسرت، كان طيف خطيبتي التي عاهدتها على الزواج منذ عامين، يلوح, أمامي، لقد اتفقنا على إتمام الزواج في أول إجازة أعود فيها إلى بلادي ..). * - أما الأسير (ريليا - هني) فقال: (أنا لم أسمع إلا صوت ضابط جزائري، وهو يأمرنا بالاستسلام، وشعرت بأنني لا أقوى

على مقاومة اللهجة الحازمة لهذا الصوت فألقيت سلاحي، واستسلمت). * - وأبدى الأسير (جاكوب - جان) دهشته الشديدة من حسن المعاملة التي لقوها من مجاهدي جيش التحرير. وقال لقد خجلنا من أنفسنا ونحن الذين نسمي أنفسنا جيشا نظاميا، ومع هذا فلا نتورع عن تعذيب الأهالي، والتنكيل بهم. لقد علمنا الجزائريون بطريقة معاملتهم هذه، درسا كبيرا في الأخلاق. ... ويرافق (المراسل العسكري العربي) وحدات جيش التحرير الوطني، فيقول: شهدت بيوت الجزائريين وهي تنساب نسفا بالقنابل الفرنسية، وشهدت أرتال اللاجئين الجزائريين الذين طردوا من دورهم وأرضهم. شهدت الزوجة العجوز وطفلتها جالستين تبكيان في حزن وصمت إلى جوار جثة الزوج الذي قتله الفرنسيون أمامهما وتحت بصرهما. شهدت الأسرى الفرنسيين يقعون مذعورين في قبضة مجاهدي جيش التحرير شهدت الشعب يخوض معركة (تحرير ورأيت قوات العدوان وهي تندحر في حالة من الرعب، رغم ما يتوافر لها من دعم الدبابات والطائرات والقوات الضخمة ... إنك إذا دخلت الجزائر مع قوات جيش التحرير، فلن تستخدم في تحركاتك إلا قدميك مهما كانت المسافة بعيدة، وستصعد عشرات الجبال وتهبط منها، وكل هذا طوال الليل حتى لا يكشف العدو مكان وجودك. ولن تستطيع أن تشعل لفافة تبغ واحدة (سيكارة) وإلا دفعت حياتك ثمنا لها. إن أعصاب الفرنسيين متوترة باستمرار، وهم: طلقون النار على أي محصدر للصوت أو الضوء ينم عن وجود حركة ما ...

بدأنا الرحلة من على الحدود، وانضممت إلى إحدى كتائب جيش التحرير، وارتديت ثيابهم العسكرية. ولم يمر الأمر بسهولة، ذلك أن ثلاثة من قادة كتائب جيش التحرير، رفضوا أن يسمحوا لأحد بالدخول معهم إلى قلب الجزائر، حرصا منهم على حياته - وتدخل القائد (سي عماره)، وأخيرا! وافق قائد إحدى الكتائب أن يصحبني معه، غير أنه حذرني بقوله: إن طريقنا خطر جدا، وسنمر بأخطر منطقة في الجزائر كلها إنها قد تكلفك حياتك وأجبته: (حياتي ليست أفضل من حياتك!). بدأنا سيرنا في الساعة الخامسة مساء، حيث بدأت ظلمة الليل، وصعدنا جبالا، وهبطنا أودية، لم يحاول أحد خلال ذلك كله أن ينطق ولو بكلمة واحدة، أو يحدث صوتا، حتى انقضى معظم الليل، ونال منا التعب مبلغا لا يوصف حتى شعرنا بأننا فقدنا أقدامنا، وأن عظامنا تكاد تخرج عن مواضعها. وهنا صدر الأمر إلينا بالتوقف في غابة كثيفة، تأتي بعدها منطقة مكشوفة يتطلب السير فيها وقتا طويلا ولذا كان لا بد من إرجاء السير حتى أول الليلة التالية. كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية والنصف صباحا. وانتشر المجاهدون يفترشون الثرى ويلتحفون السماء، بالرغم من قسوة البرد وشدته. ولما كنا قد خضنا خلال مسيرنا عشرات السواقي والقنوات، وابتلت ثيابنا حتى نصف أجسامنا، فقد أخدت هذه الثياب في التجلد. وبدأت أرتجف من البرد، وخلعت حذائي لأفرغ ما به من الماء وأجففه، وباغتني أحد المجاهدين بقوله: (ماذا تصنع يا سيد؟ هل سيكون لديك متسع من الوقت للبس حذائك إذا فاجأنا العدو بالهجوم؟ لا تخلعه مهما كانت الأسباب!) وحذرني من القيام بأية حركة لأن معسكرات الإفرنسيين

تحيط بنا. قال هذا، وأسند ظهره إلى جذع شجرة، واحتضن بندقيته، وراح في إغفاءة عميقة. أما أنا، فقد جفاني النوم من شدة التوتر والبرد. وكان حولي مجاهدو جيش التحرير، وقد نام معظمهم، وحولهم الحراسة متنبهة يقظة. وعندما طلع الصباح، أخذ المجاهدون يستيقظون تباعا. وكان أول ما يفعله كل واحد منهم، هو أن يتفقد سلاحه، وينظفه، ثم يخفيه بين الأشجار. وتلفت حولي، فلم أجد إلا غابة كثيفة، وقد انتشر فيها مجاهدو جيش التحرير. ومضى وقت طويل، حضر بعده عدد من الجزائريين المقيمين في القرية القريبة منا، وهم يحملون (الكسرة) واللحوم والشاي الساخن. كيف عرفوا بوجودنا؟ وكيف أمكن لهم التسلل إلى مركزنا وهم يحملون الطعام لإخوانهم المجاهدين؟ إن هذا يحدث في كل مكان من أرض الجزائر. أبطال جيش التحرير يجاهدون، والشعب الأعزل يضطلع بأعباء تأمين الإمداد والتموين، وإعداد المسكن والعلاج، وتحذير المجاهدين وإنذارهم من كل خطر يتهددهم، وتقديم المعلومات لهم عن قوات العدو، وعن الوحدات الصديقية إن وجدت. قضينا النهار كله في الغابة، وقد تخللته فترات من التوجيه والتدريب وإعطاء بعض المعلومات، ونام البعض استعدادا لاستئناف الرحلة الشاقة في الليل. وقبل الغروب بقليل، حضرت بعض نساء القرية تتقدمهن سيدة عجوز قتل ابنها منذ سنتين في إحدى معارك جيش التحرير، وهن يحملن الطعام (من اللحم) وقبل أن يفرغ المجاهدون من طعامهم، تردد صوت الضابط المسؤول عن المجموعة، وهو يقول:

(أتقعد؟ أتقعد؟) وفي ثانية واحدة، انتظم المجاهدون صفا واحدا. وقال لهم الضابط: (سنهاجم الليلة معسكر الهميس، وسندقه بالهاونات والمدافع الرشاشة). كنت أعتقد أن هذا المعسكر قريب منا، ولكننا سرنا وسط الجبال أكثر من ساعتين. وتوقفنا عندما تقدم منا أحد جنود الاستطلاع - الكشافين - ليعلمنا بأنه لم يبق بيننا وبين المعسكر أكثر من مائتي متر. وصعدنا فوق ربوة مرتفعة، ونظر القائد (سي بن علالة) إلى الأفق، وأشار بيده إلى حيث ينبعث نور ضعيف، وقال: (هذا هو معسكر الهميس، إن أبطال جيش التحرير يعرفون كل شبر من أرض بلادهم، ويميزونه سواء بالليل أو النهار). واقتربنا بحذر من كل ناحية. وتمركزت مدافع الهاون في مرابض تم انتقاؤها بعناية ومهارة. ونصب المجاهدون مدافعهم الرشاشة، وانتشر الباقون خلف الصخور والأشجار. وران صمت رهيب. لقد أحاط المجاهدون بالمعسكر الفرنسي إحاطة محكمة وفجأة، أضاءت السماء بطلقة إشارة حمراء اللون. وأعقبتها مباشرة انفجارات قنابل مدافع الهاون وأزيز آلاف الطلقات، وغمرت النيران معسكر الأعداء. ويظهر أن المباغتة كانت كاملة، فلم يصدر عن العدو أي رد فعل منظم، ولم يرتفع في المعسكر إلا صوت العويل والصراخ والصخب - واشتعلت النار في أركان المعسكر، ومضت فترة سبع دقائق، ولم يرد الفرنيسون بشيء، كما هي عادتهم التي بات يعرفها المجاهدون جيدا. كما باتوا يعرفون أن الفرنسيين المذعورين في الليل، ينتقمون لرعبهم وفزعهم من المدنيين العزل في النهار.

أمر القائد بعودة المهاجمين بسرعة، وحرك الجنود مدافعهم وصناديق ذخيرتهم الفارغة، وانسحبوا سالمين، لم يصب أحد منهم بأذى. لأن من عادة الفرنسيين ألا يحاربوا إلا في وضح النهار، وتحت حماية طائراتهم ودباباتهم. تجمع المجاهدون، وأخذوا في اقتحام الغابة القريبة، ومضى ربع ساعة عندما أخذت المدفعية الفرنسية في ممارسة دورها، حيث أخذت في إطلاق قذائفها أكثر من نصف ساعة، على غير هدى، وفي كل اتجاه. أقبل المراقبون في صباح اليوم التالي وهم يحملون للمجاهدين نتائج إغارتهم: تدمير مهجع نوم الجنود تدميرا كاملا. وتدمير جزء من مخزن التموين، وقتل (13) جنديا، وإصابة (18) جنديا آخرين بجراح مختلفة، نقلوا على أثرها إلى المستشفى المركزي. لم يعد الارهاب يرعب الجزائريين الأحرار

مع قائد من المجاهدين

7 - مع قائد من المجاهدين وفي معاقل الثوار، تم لقاء بين الصحفي المصري - إلهامي حسين - والقائد (عمران) في أواخر سنة (1956) حيث قام (إلهامي حسين) بتحقيق داخل خطوط النار في الجزائر، وتعرض خلال الاثني عشر يوما التي أمضاها هناك لأخطار كادت تؤدي بحياته. وفي تلك الفترة، كان (القائد عمران) قد حل محل (بن بللا) الذي اختطفته فرنسا مع أربعة من رفاقه المجاهدين. وطرح (إلهامي حسين) على القائد مجموعة من الأسئلة، كانت إجاباتها صادقة وواضحة وصريحة، وهي تمثل الموقف العسكري خلال تلك الفترة التاريخية: * - ما هي حقيقة الموقف الآن في الجزائر؟ - تتعاظم قوة جيش التحرير الجزائري يوما بعد يوم، وإن تنظيمنا وجهادنا يحققان الانتصار العسكري على العدو. وقد أصبح الشعب الجزائري اليوم كله مجندا للقيام بواجبه العسكري. وفي الوقت نفسه، يتأكد جند الاستعمار الفرنسي من عدم جدوى تلك الحرب التي يشنونها علينا بدون وجه حق. ويتأكد المسؤولون الفرنسيون أيضا من فداحة الخسائر المالية والمادية التي يبذلونها من غير أمل بتحقيق نصر حاسم على الثورة.

* - باعتبارك مسؤولا عسكريا، ما هي المناطق التي يسيطر عليها جيش التحرير الوطني الجزائري؟ - للإجابة على هذا السؤال أعطيك مثلا قدمه الفرنسيون أنفسهم، لقد استطاعت المخابرات الجزائرية أن تحصل على خريطة وزعتها القيادة الفرنسية على ضباطها، وفيها توضح مناطق الجزائر وتقسها بحسب درجة خطورتها على الفرنسيين. وقد اتضح أن نصف الجزائر مناطق خطيرة جدا، غير مسموح للفرنسيين بارتيادها إلا في مجموعات مدعمة بالدبابات والطائرات. والربع في الجبال، وهو ممنوع ارتياده نهائيا. وأما الربع الباقي فهو المدن ذاتها، والنشاط فيها متروك للمقاومة السرية، ويسيطر جيش التحرير الوطني الجزائري سيطرة تامة على مناطق بأكملها: وهي منطقة: وهران، وشمال قسنطينة كلها، ومنطقة جبال وارسنيس، وجبال بوزجرة، والأوراس، وسيدي ناجي، ومنطقة وادي الصومام، وجبال جرجره. وكل هذه المناطق يسيطر عليها جيش التحرير الجزائري سيطرة تامة، حيث يقوم جيش التحرير بأعمال الشؤون الصحية والإجتماعية وجباية الضرائب، ورعاية الأهالي، وشؤون الزراعة والتموين. * - تردد الصحافة الفرنسية في هذه الأيام بأنكم ستقومون بهجوم عام وشامل، فما هي الحقيقة؟ إن فرنسا تقول ذلك حتى تثبت للعالم أننا لا نحارب إلا قبل انعقاد الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة. ولكنني أقول للعالم: أننا في حرب دائمة منذ الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني (1954) وحتى اليوم. حقيقة أن الحرب بدأت على نطاق محدود، ولكنها بلغت من التنظيم والدقة من ناحيتنا الآن حدا جعل الفرنسيين

يعتقدون أن كل هجوم قوي يقوم به جيش التحرير إنما هو هجوم هائل عام، المقصود به التأثير على الجمعية العامة لهيئة الأمم. ومن ناحية أخرى، تأمر السلطات الفرنسية بنشر هذه الشائعات، حتى ترغم جنودها على البقاء في مرحلة استعداد دائم للقتال، لا سيما بعد أن أظهر هؤلاء الجنود في مرات عديدة تمردهم على قياداتهم، وأعلنوا رغبتهم في العودة إلى وطنهم - فرنسا - بنتيجة الهلع والذعر الذي بات مهيمنا عليهم. وأقولها صريحة: لقد بلغ تنظيم الجيش الجزائري مرحلة متقدمة، وأصبحت لدينا الوسائل الهائلة التي تمكننا من نيل استقلالنا بدماء شهدائنا وأقول للفرنسيين: لا تنتظروا هجوما واحدا، وعليكم أن تتوقعوا دائما هجماتنا المتكررة. * - أنت قائد عسكري، تعرف قوة الفرنسيين قدر معرفتك لقوة جيش التحرير، فما هو رأيك في هذا الصراع، وهل تستطيع تحديد مدة استمرار القتال؟ - هذا شيء يعلمه الله وحده، غير أنني أستطيع القول، جازما، بأننا سوف نحارب حتى ننال حريتنا. وإننا لن نضيق بالاستشهاد في سبيل الجزائر أبدا، بل سنحارب، وسنحارب حتى الاستقلال. ولديا كل الإمكانات. * - ما هي الخطة العسكرية الفرنسية في الجزائر؟ - لقد تطورت الخطة الفرنسية الآن بعد تقوية الجيش الجزائري. فحشدت فرنسا قواتها كلها والمكونة من (600) ألف جندي و (175) ألف شرطي - بوليس - و (60) ألف من (ميليشيات المعمرين) الذين جندتهم فرنسا، أي أنها حشدت مليون مقاتل تقريبا ليضغطوا على الشعب الجزائري، حتى يوقف جيش التحرير عملياته، وحتى يقف الشعب ضد جيشه. ولكن

الشعب الذي ذاق مرارة الاستعمار وعرف وحشية قواته يعمل معا حتى النساء والشيوخ والأطفال. وكل له دوره الذي لن يتزحزح عنه حتى نخرج الفرنسيين من بلادنا. لقد اشتشهد حتى الآن (500) ألف جزائري خلال ثلاث سنوات. استشهدوا وهم يحاربون في سبيل الاستقلال. وبعد كل هذا يظن الفرنسيون أننا سنتوقف عن القتال. ليس هناك جزائري واحد، لم ينله شرف استشهاد أخ له أو أخت أو أب أو أم أو ابن. ثم قال: إن الجرح عميق .. عميق جدا. لن يغسله إلا الدم ثم الاستقلال (*). ... وكانت (دمشق) على موعد مع القائد (عمر عمران) في ربيع سنة (1958) حيث جرى لقاء صحفي آخر دار فيه الحوار التالي: * - ما هي قوة جيش التحرير الوطني الجزائري حاليا؟ - ارتفع عدد أفراد جيشنا الآن حتى (150) ألف جندي، مزودين بأحدث أنواع الأسلحة الحديثة، الخفيفة منها والثقيلة، فعندنا المدافع، ومدافع الهاون والمدافع المضادة للطائرات، والمدافع المضادة للدبابات، والمدافع الرشاشة إلخ .. * - تردد الصحافة الأمريكية أن حماسة جيش التحرير الجزائري قد (فترت) هذا العام كثيرا إذا ما قورنت بما كانت عليه حماسته في العام الماضي. فما هو نصيب هذه المقولة من الصحة؟

_ (*) المرجع: الثورة الجزائرية (أحمد الخطيب) دار العلم للملايين - بيروت - نوار (1958) ص 213 - 216.

- إن هذا الكلام تدحضه وتكذبه الأرقام في سلسلة المعارك الناشبة في مختلف أنحاء الجزائر في هذه الأيام. * - وتزعم الصحافة الأمريكية أيضا أن بعض قادة الثورة الجزائرية قد اجتمعوا ببعض المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية بهدف إيجاد حل للثورة الجزائرية - فما هي الحقيقة؟ - لم تعهد قيادة جيش التحرير الوطني لأحد بالتفاوض مع رجال وزارة الخارجية الأمريكية وليس في نيتها إطلاقا إجراء أي نوع من المفاوضات، أو الاتصال معهم مستقبلا. فلقد كفرنا بالغرب، ولا يمكن أن نأمن جانبه، أو نمد يدنا إليه. في هذه الأثناء، دخل أحد أقطاب جبهة التحرير الجزائري - التي تقود الصراع السياسي في ثورة الجزائر. وهو السيد (محمد الغسيري) وكان يحمل في يده كشفا دفع به الى القائد (عمر عمران). وقرأ القائد الكشف، ثم قال: هل تعرف خسائر فرنسا في الأسبوع الماضي؟ * - (219) قتيلا، و (302) جريحا، وطائرتان، ومجموعة ضخمة من الأسلحة، وكميات كبيرة من الذخيرة. * - ما هي المدة المتوقعة لنجاح الثورة الجزائرية وانتصارها؟ وأجاب (عمران): إن الثورة الجزائرية المؤيدة من الشعب الجزائري جميعه، تستطيع أن تثبت عشر سنوات كاملة، هذا إذا كانت فرنسا قادرة على مواصلة هذه الحرب الإجرامية. وسننتصر في النهاية بإدن الله (*).

_ (*) صحيفة (المنار) الدمشقية. العدد (1845) - صباح الأحد 24 - رمضان 1377 هـ الموافق 13 نيسان - ابريل - 1958. ص 3.

الفصل الثاني

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: (سورة الأنفال - 26). الفصل الثاني 1 - ولادة سرية ومصرعها. 2 - ضباب الفجر. 3 - المهمة الأولى. 4 - معارك (تيغرين) في (جبل منصور). 5 - معركة جبل (منون). 6 - المقاومة في (بوهتدس). 7 - معركة (الأوراس). 8 - معركة في الجنوب. 9 - إعدام (فروجي).

ولادة سرية ومصرعها

1 - ولادة سرية ومصرعها (*) كانت كتائب جيش التحرير الوطني، كثيرا ما تتعرض للموت والإبادة، فطريق الجهاد شاق عسير، والعدو خصم شديد الضراوة، قوي البأس. غير أنه ما كانت كتيبة تموت إلا لتبعث من جديد. فالمتطوعون أكثر من قدرة جيش التحرير على استيعابهم، فكان لا بد من اللجوء إلى الاختيار والانتقاء. وظهرت الصعوبة في انتقاء المتطوعين وضمهم إلى تلك الكتائب لمنحها الحياة بصورة مستمرة وبات على المتطوع اجتياز اختبار عسير حتى يكتسب شرف الانضمام إلى جيش التحرير. وقصص هؤلاء المتطوعين أكثر من أن تعد أو تحصى، وهذه واحدة منها. كنا أحد عشر مجاهدا يوم 24 - تشرين الثاني - نوفمبر - 1956 وكنا نقيم في (ولد حمود) على بعد (35) كيلو مترا من (تلمسان) ما بين (ترني) و (صبره). ويظهر أن القوات الإفرنسية اكتشفت وجودنا

_ (*) للكاتب الجزائري (محمد بوشاور) وهو مجاهد قديم، حكم عليه الافرنسيون بالموت غير أنه عاش بالرغم من إرادة أعدائه، ليكتب تجربة من التجارب التي عاشها، والمرجع: RECITS DE FEU(SNED) S . N. EL MOUDJAHED . ALGER 1977 - P . P. 51 - 54,

فبدأت بمطاردتنا طوال ثلاثة أيام، ولما جاء اليوم الرابع، اتخذنا قرارنا بمغادرة الجبل، والهبوط إلى السهل، وشرعنا بتنفيذ القرار على الفور. فتجاوزنا الطريق العام (تلمسان - مغنيا) في الساعة الواحدة صباحا. وأمضينا الليل في (بني ميستير). وحوالي الساعة السادسة صباحا وصلتنا صرخات امرأة وهي ترسل نداء الاستغاثة، فأصابنا نوع من القلق، غير أن مضيفنا، صاحب البيت الذي قبل إيواءنا، طمأننا بقوله إن هذه المرأة هي قريبة له، أصابها مس من الجنون - لما عاينته من الأهوال التي لم تقدر على احتمالها -. وفي اليوم التالي، أخبرنا عامل الاتصال بأن كافة المسؤولين عن المنطقة الأولى قد اسشتهدوا، أو وقعوا في الأسر - وباتوا في قبضة العدو -. ولم يبق على قيد الحياة أحد ممن اشتركوا في عملية حي (شعبة اليهودي) الواقع على بعد عشرة كيلومترات من (تلمسان). وإذن، فقد انتهت المنطقة الأولى، وانتهينا نحن معها، وبتنا ونحن في عزلة تامة عن كل اتصال، ولم يعد هناك مسؤول نرجع إليه. وبقي علينا الاعتماد على أنفسنا وعلى ما بقي في قبضتنا من ذخيرة قليلة. وقررنا على الفور القيام بمحاولة لتأمين الاتصال مع الجنود المعزولين - مثلنا - وإعادة تنظيم شبكة الاتصالات مع خلايا الناحية (الدوار). فتوجهنا في الساعة الثامنة من مساء يوم (2 - كانون الأول - ديسمبر) نحو دوار يقع على بعد خمسة أو ستة كيلومترات من (ضايا). وأعد لنا رجال الدوار القهوة، وقبلوا استضافتنا لتلك الليلة. وفي الساعة السادسة صباحا، ذهبنا للاختباء في ملجأ يقع تحت الأرض (قبو). وقام الرجال في الساعة الثامنة بإخفاء كان أثر لنا عن طريق استخدام جرار (تراكتور) كما سدوا كافة الثقوب والفتحات، ومن هنا بدأت محنتنا، إذ لم تكد تأزف

الساعة (1600) حتى شعرنا بأنفاسنا تضيق حتى نكاد نختنق، وقررنا الخروج مفضلين الاشتباك في معركة مع العدو، والموت في القتال، من أن نموت مختنقين في قبو مظلم. وفي الساعة (1800) جاء رجال الدوار للبحث عنا وإخراجنا، وفي الساعة (2000) كنا نسير على طريق (تلمسان) وأمضينا الليل في مسير شاق، ولكن لم يحدث شيء بفضل الله وعونه، فوصلنا في الفجر إلى دوار (فحولة) سالمين. ولما لم يكن أهل هذا الدوار قد تعرفوا من قبل على (المجاهدين) أو اتصلوا بهم اتصالا مباشرا، فقد أظهروا فرحتهم لرؤيتنا، واستقبلونا كما لو كنا ملائكة هبطت عليهم من السماء. وأقمنا بينهم أسبوعا، عملنا خلاله على تنظيم الدوار (الناحية) وتم اختيار شاب تميز بنشاطه وحماسته وخلقه القويم، وذلك ليكون مسؤولا عن تأمين الإتصالات بالخلايا التي تم تنظيمها، فكان يجمع لنا المعلومات عن العدو. وأعلمنا بعد ستة أيام عن قيام المجاهدين بإحراق أربع مزارع للإفرنسيين وأعوانهم، تقع بين (لامور يسير) و (الجسر الأيسر). وكم كانت سعادتنا لا توصف ونحن نعلم بوجود إخوان لنا في المنطقة. قام المسؤول عن الاتصال مع المجاهدين (السيد الفلاح) بمرافقتنا بناء على طلبنا، إلى دوار يبتعد عن تلك المزارع الأربع التي تم إحراقها في الليل. ووصلنا إلى (الزقاق) وهو دوار هادىء وجميل، لم يصل إليه الجنود الفرنسيون أبدا. وابتهجنا إذ عرفنا هناك بوجود زمرة أخرى من المجاهدين، هي زمرة زيتونة المسؤول عن العمل في المنطقة). وتقابلنا في المساء حيث أمضينا الليل في مناقشة زمرتينا وموقفهما بعد مركة (شعبة اليهودي) التي دمرت الكتلة الرئيسية من قوتنا في المنطقة.

وفي الصباح، جمعنا زمريتنا، وشكلنا الفصيل الأول الذي ضم (24) مجاهدا. وفي اليوم التالي، سلكنا طريق (اوزيدان) و (عين الحوت) حيث أمضينا شهرا في تطويع المجاهدين وتنظيمهم وتدريبهم بالإضافة إلى جمع الأسلحة والذخائر وصنع زجاجات (كوكتيل مولوتوف). ونجحنا في ضم (12) مجاهدا ممن هجروا (تلمسان) بسبب مطاردة الشرطة الفرنسية لهم. وأصبح تنظيم قوتنا يضم ثلاث جماعات تتكون من (35) مجاهدا. وكنا نقوم بالتدريب النظري في ملجأ تحت الأرض (قبو) يقع عند مدخل (وادي عين الحوت). وانطلقنا للعمل بعد ذلك بشهر، فهاجمنا مراكز الشرطة الفرنسية، وأحرقنا المزارع، ودمرنا مجرى الماء الذي يصل إلى (بني بهدل) و (وهران). وتزايد عدد أفراد جماعاتنا باستمرار، بفضل انضمام الفارين من الجيش الفرنسي، والتحاق المدنيين ممن كانت تطاردهم الشرطة الفرنسية وتبحث عنهم فأصبحت قوتنا تضم (56) مجاهدا. وتشكلت بذلك سريتنا، وأخذت هيئة أركان الولاية بتجهيزنا وإرسال الثياب العسكرية وخوذ الرأس والأسلحة. وتم تعميد السرية في كانون الثاني - يناير - 1958 في قرية (الزقاق) حيث تمت تسمية (زيتونة) قائدا للسرية - برتبة رتيب أول ثم مساعد - كما تمت تسمية رقيبين لقيادة الفصائل، يعاونهم أربعة من العرفاء، مع تعيين (محمد بوشاور) ليعمل معاونا لقائد السرية. وتعيين (روستان) ممرضا للسرية. وأصبح باستطاعة السرية تطوير عملياتها، والقيام بعدد أكبر من الإغارات والكمائن. وبات مسرح عمليات السرية يشمل (تلمسان) و (ضايا) و (الزفاف) و (بني الوزان) و (سيدي العبدلي) و (قصر

حنون) و (وغابة بن ديمريد). وقد تم اتخاذ (اوزيدان) قاعدة لعمليات السرية، ومركزا لاستراحتها، ومقرا للرعاية الطبية التي كان يشرف عليها (الطبيب غوار). أعلمنا أحد المتطوعين الجدد في يوم من أيام رمضان (سنة 1958) بإعادة تنظيم المنطقة الأولى، وتعيين عناصر جديدة من القادة والموجهين. وأعلمنا أيضا بأن القائد المسؤول (النقيب سي جبور) سيأتي لزيارتنا وتفقد أمورا. وفرحنا لهذا التطور، فقررا القيام بإغارة على (تلمان) احتفالا بهذه المناسة. وتم تحديد يوم 27 رمضان المكرم موعدا لتنفيذ العملية. وكانت عملية ناجحة جاء (سي جبور) لزيارتنا بعد شهر رمضان المبارك. والتقطت السرية الصور التذكارية. وأقيم حفل استقبال بسيط في (غابة بن ديمريد) وعلمنا عندها بتفاصيل إعادة تنظيم المنطقة الأولى، وتقسيمها إلى قطاعات، وتكليف سريتنا بالعمل في حدود القطاع الرابع. وأصبح (زيتونة) هو قائد القطاع، وتم تعيين قائد جديد لقيادة السرية. ومضت فترة شهرين على ذلك، أمكن خلالها تنظيم أول فصيل في (الزقاق) - وذلك في حزيران - يونيو - 1958. ولم نكن نعرف ونحن نحتفل بولادة الفصيلة في (الزقاق) أن هذا المكان ذاته سيشهد عما قريب مصرع السرية في المعركة المعروفة (بمعركة الزقاق). ذهب قائد سريتنا بمهمة إلى (قصر حنون) وكان علينا الالتحاق به غير أنه وصلنا أمر إنذاري في الساعة الرابعة صباحا عن تحرك رتل ضخم من الآليات والمركبات العسكرية للقوات الإفرنسية، على محرر (تلمسان) و (جسر الأيسر) و (رمشي). وهي قادمة من تلمسان بمهمة إجراء عملية مسح كبرى للمنطقة (تمشيطها).

وإذن، فقد وقعنا في شرك محكم. وأسرعنا إلى العمل، فقسمنا قوتنا إلى أربع مجموعات، وتفرقنا مبتعدين عن الناحية (الدوار). حتى إذا ما أزفت الساعة السادسة، وصلتنا أصوات الطلقات الأولى لتعلن عن أول اشتباك مكشوف تخوضه قوتنا في السهل، وفي وضح النهار. وانطلقت النيران الغزيرة من كل مكان. وشاركت في المعركة كل أنواع الأسلحة؛ من عربات مدرعة ودبابات وطائرات عمودية (هيليكوبتر) وطائرات مقاتلة، حتى المدفعية ومدفعية الهاون التي كان لها دورها الكبير في المعركة. وانتشرت سحب الدخان الكثيف، لقد التهب الدوار بكامله. ولم يطل أمد المعركة بسبب عدم التكافؤ في القوى والوسائط، وأطبق الصمت على ميدان المعركة في الساعة (1000) وبعد اشتباك استمر ساعتين فقط. ونتج عن الاشتباك سقوط طائرة إفرنسية واحتراق دبابتين بالقنابل الحارقة (كوكتيل مولوتوف) علاوة على سقوط عدد من أفراد قوات العدو بين قتيل وجريح. وخسر مجاهدونا سبعة شهداء وعشرة جرحى. لقد ساد الاعتقاد بأن المعركة قد انتهت، غير أن الطائرات عاودت هجومها في الساعة (1130) واستمرت أعمال القصف بالصواريخ وقنابل الغاز والمدافع الرشاشة لمدة ساعتين كاملتين. وفي الساعة (1300) لم يكن قد بقي على قيد الحياة من قوة السرية، سوى ثلاثة من المجاهدين. أما بقية أفرادها فكانوا قد استشهدوا في ميدان الشرف. أما الثلاثة الذين فاتهم شرف الشهادة فهم (الأخضر) و (مولود) و (محمد بوشاور) فتوجهوا إلى (ودسكيكة) واختفوا في غدير من الماء تغطيه أعواد القصب الكثيف. وكمنوا هناك حتى الساعة (2000) وهو الوقت الذي كان يصل فيه المدنيون

لنجدة الدوار، وتقديم المساعدة للمجاهدين. ووصل قائد القطاع (زيتونة). وشرع الجميع في حفر القبور لمواراة الشهداء ووداعهم، بعد معانقتهم واحدا بعد الآخر. لقد ماتت السرية. غير أنها لن تلبث حتى تعود للحياة مرة أخرى، بدم جديد .. استراحة في الغابة. لقاء الشعب مع جيشه وقادته

ضباب الفجر

2 - ضباب الفجر (*) أقبل الشتاء قاسيا على بلاد القبائل، وبدأ المطر يتدفق بغزارة، ومن غير توقف أو انقطاع، منذ ساعات الفجر المبكر، ففاضت السواقي الكثيرة بما تحمله، واجتاحتها السيول التي فاضت مسرعة لتجتاح الطريق، وتصدم السدود بصوت هادر يصم الآذان، هذا فيما كان صخب المياه يتردد قويا وهو يتساقط كالشلال ليغمر الحقول ويكنسها، حتى لم يعد يظهر منها إلا تلك التلال المسودة التي تفصل فيما بين حقول السهل الفسيح. وباتت هذه التلال مطوقة بدوامات طينية مما حمله السيل الجارف وقذف به نحو النهر ليزيد من فيضانه. وكانت الأشجار العارية تنتصب قائمة، بلونها البني، فوق الأرض المغمورة بالمياه. فتشكل رسما نموذجيا للطبيعة الجامدة جمود الموت. حتى أنه ما من طائر وجد في نفسه الجرأة للطيران، واقتحام العاصفة، من أجل البحث عن ملجأ أكثر أمنا، بالرغم من المخاوف التي تكون قد انتابته من برودة الهواء الجليدي، ومن الضباب

_ (*) للكاتب الجزائري (طاهر جاويد) طالب في كلية العلوم، ومن قدامى المجاهدين. والمرجع RECITS DE FEU (SNED) S.N. MOUDJAHED . ALGER , 1977 .P . P 55 - 63

المحيط به. وكانت ريح عاصفة تجتاح السهل المقفر، غير حاملة ولو لورقة ميتة واحدة من أوراق الأشجار. لقد عجزت الريح عن التقاط ورقة تعزف عليها لحن الشتاء، فلم يكن هناك إلا الأغصان العارية التي تنتصب كالأذرع السود ترفع أصابعها نحو السماء، أو هي كالهياكل المشوهة الممزقة. فهنا وهناك، تظهر جذوع الأشجار المبتورة. وإلى جانبها القذائف الصدئة، تذكر كل من يمر بها أنه يعبر منطقة حربية. ولعل يد الطبيعة لم تكن كافية وحدها لتشويه هذا المنظر الطبيعي - الشتوي - فجاءت يد الانسان لتزيد في قسوتها على قسوة الطبيعة، ولتبرز معالم التشوه في الحياة الميتة. وفي هذه المرة حمل الإنسان بنفسه قدرة التشويه بقذف قنابله المدمرة. ... ارتسم شبح أسود، كان يسير على الطريق الرئيسي الواصل من (بورت - غويدون) إلى (غيط شفة) على بعد كيلومتر واحد من وادي (سيدي خليفة) وذلك في الساعة الواحدة من بعد الظهر. ولم يكن ذلك الشبح سوى خيال رجل يسير متمهلا وهو يصارع الريح، غير مهتم بأمر السيول المتدفقة من السماء والتي كانت تتمزق على ثيابه الملتصقة بجسده. ولم تكن الثياب في حقيقتها أكثر من ملابس خلقة تنم عن بؤس صاحبها. وكانت المياه التي تسيل متصلة فوق أرض الطريق، تمر عبر الحذاء الممزق المهتريء، تدخل إليه وتخرج منه، مع كل خطوة يخطوها الرجل الشاب، وهو يتقدم على الطريق المقفر. وكان الرجل الشاب، يلبس بنطالا من نسيج أزرق اللون، يلتصق بصورة ضيقة على ساقيه، مع سترة سوداء مهترئة عند مرفقيها (جاكيت). أما الوجه الذي لم يعرف الحلاقة منذ مدة على ما يظهر، فإنه لم يكن هناك ما يحميه من لسعات المطر القاسية. المحيط به. وكانت ريح عاصفة تجتاح السهل المقفر، غير حاملة ولو لورقة ميتة واحدة من أوراق الأشجار. لقد عجزت الريح عن التقاط ورقة تعزف عليها لحن الشتاء، فلم يكن هناك إلا الأغصان العارية التي تنتصب كالأذرع السود ترفع أصابعها نحو السماء، أو هي كالهياكل المشوهة الممزقة. فهنا وهناك، تظهر جذوع الأشجار المبتورة. وإلى جانبها القذائف الصدئة، تذكر كل من يمر بها أنه يعبر منطقة حربية. ولعل يد الطبيعة لم تكن كافية وحدها لتشويه هذا المنظر الطبيعي - الشتوي - فجاءت يد الانسان لتزيد في قسوتها على قسوة الطبيعة، ولتبرز معالم التشوه في الحياة الميتة. وفي هذه المرة حمل الإنسان بنفسه قدرة التشويه بقذف قنابله المدمرة. ... ارتسم شبح أسود، كان يسير على الطريق الرئيسي الواصل من (بورت - غويدون) إلى (غيط شفة) على بعد كيلومتر واحد من وادي (سيدي خليفة) وذلك في الساعة الواحدة من بعد الظهر. ولم يكن ذلك الشبح سوى خيال رجل يسير متمهلا وهو يصارع الريح، غير مهتم بأمر السيول المتدفقة من السماء والتي كانت تتمزق على ثيابه الملتصقة بجسده. ولم تكن الثياب في حقيقتها أكثر من ملابس خلقة تنم عن بؤس صاحبها. وكانت المياه التي تسيل متصلة فوق أرض الطريق، تمر عبر الحذاء الممزق المهتريء، تدخل إليه وتخرج منه، مع كل خطوة يخطوها الرجل الشاب، وهو يتقدم على الطريق المقفر. وكان الرجل الشاب، يلبس بنطالا من نسيج أزرق اللون، يلتصق بصورة ضيقة على ساقيه، مع سترة سوداء مهترئة عند مرفقيها (جاكيت). أما الوجه الذي لم يعرف الحلاقة منذ مدة على ما يظهر، فإنه لم يكن هناك ما يحميه من لسعات المطر القاسية.

وبالرغم من ذلك كله، فقد تابع - الرجل الشاب - سيره باستمرار، وبخطوات هادئة متزنة؛ وكان كل ما يفعله عندما تشتد المطر قوة وعنفا، هو أن يضم إليه أطراف سترته، ويثبتها بالشد عليها بمرفقيه. كانت هناك بعض الشجيرات دائمة الخضرة، تقف بأغصانها المرنة الضعيفة، ثم تنحني وتنهض على التتابع، وتترنح يمنة ويسرة، حتى كأنها ترقص على نغمات الريح العاصفة. وأثناء ذلك، كانت سيول الأمطار المتدفقة بقوة، قد حملت معها المزيد من الكتل الطينية، وقذفت بها على أرض الطريق. مما زاد من عناء المسير ومشقته، فلم يصل - الفتى الشاب إلى وادي (سيدي خليفة) إلا وقد استنزفت قوته، فمضى يستريح تحت أغصان شجرة زيتون هرمة، وأمله هو أن تتيح له هذه الاستراحة القصيرة فرصة لاستعادة أنفاسه، واستعادة بعض ما فقده من قوته، استعدادا للحظة اللقاء الذي سينسيه ما تعرض له من معاناة، وما احتمله جسده من سياط العدو اللاهبة. نظر الرجل الشاب فيما حوله بعين حذرة، وهو يستعيد صور هذه المشاهد الطبيعية، فأنكرها، حتى كأنه لم يشاهدها منذ وقت بعيد، أو حتى كأنه لم يرها من قبل أبدا. وفي الحقيقة، فإن هذا - الرجل الشاب - لم يطأ بقدميه أرض منطقته، ومسقط رأسه، منذ أربعة أعوام. لقد تم اعتقاله في كانون الأول - ديسمبر - 1954 ومعه خمسة رجال من قريته (ولكحو) بالإضافة إلى عدد من شبان القرى المجاورة. وأعدم الافرنسيون شابين من المعتقلين في اليوم التالي لاعتقالهما (في معسكر غيط شفة). بينما تم إلقاء الآخرين في معتقل (بورت غويدون).

بقايا قنابل النابالم

أما الرجل الشاب (واسمه سليمان عرودكي) فقد تم نقله بعد سنة من اعتقاله إلى سجن (تيزي - اوزو) ليقضي فيه ثلاث سنوات أخرى. وفي النهاية، قرروا إطلاق سراحه، فنقلوه صباح هذا اليوم مع قافلة عسكرية إلى (بورت - غويدون) وأنزلوه هناك، وبقي عليه أن يسير على قدميه، تحت هذه الأمطار الغزيرة، حتى يصل إلى قريته (ولكحو). خلال هذه الفترة، أخذت سيول الأمطار في التخفيف من حدة هبوطها الجامح، وها هي الآن قطرات المياه تتساقط بحبات صغيرة، أشبه ما تكون بالرذاذ، محدثة موجات خفيفة تتلاطم على جنبات الحاجزين القائمين على طرفي الطريق. ونهض (سليمان) وقد التصقت ثيابه بجسمه، واستأنف سيره على طريق الوادي الذي تضخم تحت بصره بطريقة عجيبة. وبقيت المياه الطينية تتدفق بهدير صاخب وهي تتكسر على أقواس الجسر المعدني، الذي ما كاد (سليمان) يعبره حتى سار على الطريق الرئيسي الذي يصل إلى قريته. وأحنى رأسه مطرقا وهو يتأمل بنظرة مشفقة أصابع قدميه الحمراء وقد برزت من فتحات حذائه المطاطي الممزق، المهترىء. غير أنه لم يلبث أن رفع رأسه بصورة آلية، وركز نظره على كوخ مجاور كانت تفوح منه رائحة الشواء المدخن. وشعر (سليمان) بغتة بحاجة مسلحة للدفء، واهتز جسده كله إذ اجتاحته رعدة طويلة. وقال في نفسه: (إنهم، لا بد، يطهون الطعام هناك!) ثم انتقل بنظره إلى سحب الدخان المتصاعدة من مداخن المنازل وشعر عندها بتقلص حاد في معدته، وتذكر أنه جائع، فهو لم يطعم شيئا هذا النهار، غير أن اقترابه من قريته صرف عنه الشعور بالجوع ليحل محله شعور بالهيجان، وأخذ وجيب قلبه

يتردد في أذنيه بدقات متسارعة. فزاد من نشاط خطوه، وتركز نظره على المعسكر القائم فوق القمة، والذي كان لا بد من المرور فيه، قبل التوجه إلى القرية. عادت الأمطار إلى التدفق بمثل معدلها السابق. وأسرع (سليمان) في سيره مدفوعا بحافزين: أولهما - المطر المنهمر، وثانيهما - الشوق للقاء الأهل. وعلى هذا فما أن غادر الثكنة العسكرية - المعسكر - وابتعد مائة خطوة، حتى انبسطت القرية أمام بصره بوضوح تام. ... وقف (سليمان) ذاهلا، وقد فغر فاه لهول ما يرى، فلشد ما تغيرت قريته التي كان يعرفها، وبات لزاما عليه بذل جهد كبير لقراءة ملامح المشهد الذي يقابله. لقد تحولت معظم المنازل التي كان (سليمان) يتوقع رؤيتها، وأصبحت كومة من الأنقاض، أو اختفت بصورة تامة من ظهر الوجود، لتترك في مكانها أشرطة أرضية ضيقة، كما برزت منازل أخرى، معظمها من التوتياء، قامت على مقربة من أنقاض المنازل القديمة، أو فوق الأماكن التي كانت بيوتا وزالت. وقادته قدماه غريزيا إلى حيث مسقط رأسه ومرتع صباه، فلم يجد إلا كومة من الأنقاض. وجمد في مكانه، ووقف برهة طويلة ينظر بعين غاضبة إلى هذه الحجارة التي طالما سحرته، ولم يعد يشعر بالأمطار المنسابة على وجهه. غير أن صوت رجل كهل انتزعه من شروده، وهو يخاطبه بقوله: (ألست أنت ابن سليمان ايدير؟!) وأقبل الكهل على معانقة (سليمان) من غير أن ينتظر الإجابة على سؤاله - ثم قال له: (حمدا لله على عودتك سالما - إنك تجهل يقينا السكن الجديد لأهلك! هيا

اتبعني وسأرشدك إليه). سار (سليمان) عشرات الخطوات، وقف بعدها أمام كوخ خشبي، وابتعد الرجل الكهل، ووقف (سليمان) برهة تحت المطر، أقدم بعدها على دفع الباب المهتز دفعا يسيرا، وبرفق. كانت أمه جالسة بالقرب من الموقد، وما أن سمعت صرير الباب حتى استدارت، وندت عنها صرخة اختلط فيها الذعر بالفرح. إنه حلم وقد تحول إلى حقيقة، فها هو ابنها يقف أمامها. أما (سليمان) فقد وقف برهة، زائغ النظرات، باسط الذراعين، ثم لم يلبث أن طرح عنه ثوب الجمود وهو يرى أمه تسير مندفعة نحوه لتعانقه وهي تجهش بالبكاء، وتدمدم بكلمات الشكر لله. وفي الوقت ذاته، كان والد سليمان وأخته يندفعان نحوه، وعانقه الثلاثة في وقت واحد. وجلس (سليمان) بعد هذا اللقاء العاطفي المثير يتأمل والديه. كانت والدته شديدة الشحوب، وقد أحاطت بعينيها هالة زرقاء. وفزع (سليمان) وهو يرى وجه أمه على مثل هذا الشحوب الذي يحاكي شحوب وجوه الموتى. وسألها: (ما بك يا أماه؟ هل تشكين مرضا؟) وانتزعت المرأة العجوز ابتسامة في محاولة منها لتطمئن من قلق ابنها غير أن هذه الابتسامة لم تلبث أن ماتت على شفتيها وهي تهمس بكلمات لم تصل سمع ابنها الذي أخد يتجول بنظره دوريا وهو يتأمل وجوه أبيه وأخته وأمه. وها هو يثبت نظرته على وجه والده الذي لم يبق منه إلا جلد يلتصق بالعظم. أما أخته فقد تركها وليس لها من العمر إلا ثلاثة عشر عاما، وها هي أمامه الآن وقد نضجت وأصبحت صبية حلوة، غير أنه لم يكن يستر جسدها الغض أكثر من خرق بالية وأثمال عتيقة. وشعر (سليمان) بألم يعتصر كيانه، وضيق شديد في صدره، وهو يرى

بؤس الحياة من خلال رؤيته لثياب أخته، ونسي أن ثيابه لم تكن أفضل من ثياب أخته. ومضى (سليمان) في صمت عميق. كما لو كان ينتظر أحدا، وأخيرا عيل صبره، فسأل أمه: (وأين هو أخي - عقلي -؟). وتبدلت ملامح الأم بغتة، فارتسمت إمارات الذعر على وجهها، وتقلص فمها، وأجهشت بالبكاء، ولحقت بها ابنتها فشاركتها بكاءها ونحيبها. وشعر (سليمان) وكأن خنجرا حادا يمزق صدره، وأحس بعبء ثقيل وقد سقط فوقه وسحق جسده، وتطلع ببصره إلى الوجوه حوله، متسائلا، مستعطفا، ملحا على إجابة لم يجدها إلا على شفتي أبيه، اللتين ارتجفتا وهما تنطقان صوتا مخنوقا: (أجل! استشهد! لقد قتلوه!). وانتاب (سليمان) إحساس بالضياع، ووجد نفسه ذاهلا، وسقط رأسه بين يديه عاد المطر إلى تدفقه الصاخب، وأخذت قطرات من المياه بالتسلل عبر ثقوب السقف. وهبت ريح عاصفة مزمجرة وهي تصدم الأغصان، لتنساب بعد ذلك على شكل نسمات حلوة رقيقة، انتعشت لها نفوس من في الكوخ، وكأنها الصوت الوحيد الذي أراد أن يشارك في ذكرى البائس (عقلي) بعزف تعبيرات حزينة شجية. كان مصباح البترول (الفانوس) يرسل أشعة متراقصة ضعيفة، ترتسم على الجدران في أشكال أشباح ميتة. ونظرا لشدة البرد، فقد التف أفراد العائلة حول نار الموقد، بينما كانت ريح الإعصار في الخارج تعزف باستمرار (اللحن الحزين). وهيمن الصمت الجنائزي على الجميع. لم تكن بهم حاجة للحديث، إذ كان كل واحد منهم يعرف ما يفكر به الآخرون. وتركز المنزل جميعه، وبمن

فيه على ذكرى الراحل الذي لا زال قبره رطبا نديا، وجاءت الأمطار الآن لترويه. ولعل روح (عقلي) كانت ترفرف في تلك اللحظة فوق المنزل المهتز، وخرق (سليمان) جدار الصمت، وهو يقول بلهجة حازمة: (أبتاه! أريد أن أخرج أنا أيضا). كان الأب يعرف يقينا ما تعنيه كلمة (الخروج). ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد جاءت هذه الجملة بمثابة ضربة مباغتة أذهلته، ونظر في وجه ابنه مستوضحا متسائلا، ولم يتركه (سليمان) في حيرته، فعاد يلفظ كلماته بلهجة أكثر تصميما، وأكثر ثباتا، وهو يقول: (نعم! سأخرج لألتحق بالثوار - الماكي -). كانت الأم منطوية على ذاتها وهي أقرب ما تكون إلى الموقد، فانتفضت من غفوتها، وكأن صاعقة نزلت على رأسها لدى سماع الكلمات التي لفظها ابنها (الثوار - الماكي). فهل أراد لها الله أن تفجع بإبنها هذا أيضا، والذي سيلقى ذات المصير الذي نزل بإبنها الآخر؟ لا! إنها لن تسمح بأن يأخذوا منها هذا! كلا، إنها لن تسمح له بالخروج. هل يجب عليها أن تجاهد وحدها ضد هذا العالم؟ غير أن هذا الهيجان لم يلبث أن تلاشى بغتة - كما ظهر -. فلماذا تعترض سبيل ابنها وتمنعه من الخروج؟ قد يكون الخطر الذي يتهدد القرية، ويجتاحها باستمرار، أكبر من ذلك الخطر الذي يتعرض له الثوار. وعند هذه الفكرة، تركت رأسها يسقط بين يديها، وعادت إلى غفوتها، وما لبثت أن راحت في نوم عميق. وتبعها ابنها (سليمان) الذي ما لبث طويلا حتى راح غارقا في نوم عميق. غير أن حلما مفزعا هز كيانه: (لقد رأى فيما يراه النائم، بأنه يسير في غابة كبيرة - إنها الغابة التي عرفها جيدا منذ أيام مراهقته - يرعى فيها الماعز، عندما ظهر له أخوه (عقلي) بغتة وهو يقترب

منه، بوجه أصفر، وبصدر تنزف منه الدماء. ورأى (سليمان) بأنه أسرع إلى إخيه يسأله عما به بإلحاح. غير أن هذا لم ينظر إليه، وبقي صامتا كعادته، وهو ينظر إلى الأفق البعيد. واحتفظ بصمته متجاهلا إلحاح أخيه وتوسلاته. وبغتة حرك شفتيه لينطق بكلمة، غير أنه لم يقلها، وترك جسده يتهاوى على قدمي أخيه (سليمان). وعند هذه النهاية، استيقظ سليمان من نومه، وقفز من مضجعه) نظر (سليمان) فيما حوله، فرأى أن مصباح البترول (الفانوس) لا يزال يرسل أشعته ورأى على ضوء المصباح أن أباه هو الوحيد الذي لا زال يقاوم النعاس، فقال لابنه بصوته الجبلي الخشن وهو يراه ينهض مذعورا: (هل انتابك هاجس؟ كابوس؟). تردد (سليمان) قليلا قبل أن يجيب، ثم قال بصوت متعب - كلا -! غير أن صوته اكتسب بغتة لهجة التصميم والحزم. وهو يقول: سأخرج. ثم تابع حديثه، من غير أن يتوقف لسماع كلمات والده، فقال: (من المحال الاستمرار في مثل هذه الحياة: احتقار في النهار، وخجل في الليل، وتوقع الموت في كل دقيقة، والوقوف موقف العجز ونحن نرى جند الافرنسيين ينتزعون منا زوجاتنا وأخواتنا. ما هذا العيش كأنصاف الرجال؟ وما هذه الحياة التي سيزهقها الافرنسيون إن عاجلا أو آجلا. يجب أن يعيش الانسان حياة السجن حتى يعرف قدر ما يعانيه شعبنا من صنوف الاذلال والاهانات والتحقير والحرمان والضرب والتعذيب والتشويه. هناك، عندما يطلب المرء أن يشرب، يضعون رأسه في طبق يطفح بالبولة ... تعذيب .. وتشويه وحشي.

لقد تعرفت في بداية فترة اعتقالي على شاب صغير، يفيض رجولة وشجاعة، شعره كستنائي، لا تفارق الابتسامة العذبة وجهه بالرغم من كل ما كان يتعرض له من آلام التعذيب. وفي يوم، أخذه الافرنسيون، وأشبعوه ضربا طوال فترة الصباح، وليس بإمكان أحد أن يعرف كيف تحول هذا الشاب الوديع إلى إنسان شرير يكره العالم كله اعتبارا من تلك اللحظة ... وعاد الافرنسيون فأخذوه مرة أخرى بعد أسبوع لتعذيبه من جديد، واقتلعوا في هذه المرة إحدى عينيه، وقطعوا له نصف أذنه. وفي الغد سمعناه يضحك ويغني وهو في زنزانته بصوت فقد كل الصفات الانسانية. لقد جن المسكين وفقد عقله. وهناك المئات، والآلاف، من أبناء الجزائر الذين يتعرضون لهذا المصير ذاته. وفي السنة الماضية أراد رجلان - كنت قد تعرفت عليهما -الهرب من السجن، فعملا على حفر دهليز - نفق - من زنزانتهما، واستمرا في الحفر طويلا خلال الليل، أما في النهار فكانا يضعان التراب الذي يستخرجانه تحت الدف الخشبي الذي يستخدمانه فراشا لهما، ويموهان الفتحة بغطاء أيضا. وفي يوم، ظنا أنهما قد أوغلا في الحفر إلى درجة كافية. فدخلا الدهليز - النفق - الذي كان ينتهي لسوء الحظ بفتحة ضيقة (بالوعة). وظن الجميع أنهما تمكنا من الهرب. ولكن لم تمض سوى أيام قليلة، حتى انتشرت في السجن رائحة نتنة لا يمكن احتمالها. وأسرع حرس السجن لتوسيع الدهليز الذي حفره الرجلان بأيديهما، حتى إذا ما وصلوا إليهما، وجدوهما مختنقين، وقد أخذت جثتاهما بالتفسخ والتعفن ...). توقف (سليمان) عن متابعة حديثه، وارتجف صوته، وانحدرت دموعه سخية على وجنتيه. ولم يعرف والده بماذا يحدثه،

وقد بلغ منه التأثر غايته. وحرك فكيه كما لو كان يرغب في الحديث، غير أن الكلمات خانته، وأخيرا تمكن من النطق فقال لابنه: (أرى بأن أفضل ما يمكن عمله الآن هو أن تحاول العودة للنوم. إن ضوء الفجر سيبزغ عما قريب، وعليك أن تستريح). تمدد (سليمان) على الأرض، بعد أن التحف الغطاء. وعاوده الحلم المزعج من جديد. غير أنه رأى نفسه في هذه المرة وهو في السجن، وفي موقف لم يتمكن من فهمه. لقد رأى نفسه وقد خان إخوانه المعتقلين المجاهدين، وارتبط بالافرنسيين الذين قذفوا به في زنزانة مظلمة، بالرغم من خيانته لقومه. وانصرف عنه إخوانه المعتقلون وهم يشيرون إليه بايماءات الاحتقار، ويتوعدونه بالانتقام. أو ينظرون إليه بعيون غاضبة ملؤها التهديد. ووقع (سليمان) تحت هاجس الرعب، فحاول أن يشرح لهم الذرائع التي دفعته لاتخاذ موقفه. ولكن ما من أحد حاول الاستماع إليه، أو الاهتمام بذرائعه. فاقترب عندها، في ذلة، وعلى مهل من الشاب المجنون - والذي قص حكايته قبل قليل على والده - ووضع يده على كتفه في محاولة للتقرب منه والتحبب إليه. يا لحسن الحظ، لقد وجد أخيرا من يسمعه أو ربما يفهمه. وشرع في الاستعداد للتحدث إليه. غير أنه استيقظ من حلمه - في هذه اللحظة - على صياح ديك من المنزل المجاور. لقد طلع النهار، وتسللت إلى الكوخ بعض أشعة الشمس التي بددت ظلمته. كان أفراد العائلة قد استيقظوا جميعا. وكانوا يتحركون بصمت في محاولة منهم لعدم إيقاظ (سليمان) وتركه نائما حتى يستريح من عناء ما بذله من الجهد في اليوم السابق…غير أن صياح الديك أفسد كل شيء، وشرب (سليمان) قدحا من القهوة، وخرج إلى القرية، وكانت الأمطار

التي استمرت في تدفقها طوال الليل، قد توقفت الآن. وجاءت أشعة الشمس الضعيفة لتغمر ذرى الجبال. لم يصادف (سليمان) خلال جولته في القرية إلا ثلاثة من الشبان، وقلة من الكهول يظهر أنهم هربوا بدورهم من الحياة، فلجأوا إلى فناء الجامع (صحن المسجد) يعتصمون به. أما بقية الشبان، فكانوا إما قد أصبحوا مجاهدين في صفوف الثوار، أو قتلوا برصاص الافرنسيين: المنازل مدمرة مهدمة، ومجموعة من الأطفال البؤساء يتعثرون بين الأنقاض، ليؤكدوا أنه لا زال للحياة وجود على أرض هذه القرية. وعاد لسليمان شعوره بالعجز، هذا العجز الذي لازمه مرة وهو في السجن، ويلازمه الآن مرة أخرى وهو إلى جوار والديه وأخته. ومضى صامتا على طريق العودة إلى منزله. ومرت ساعات النهار. ونام (سليمان) بعد أن تناول طعام العشاء المتواضع. ... استيقظ (سليمان) من نومه في منتصف الليل، وهو يشعر بإرهماق مزعج. لقد كانت قطرات العرق البارد تتصبب غزيرة من جبهته، وارتجف كما لو كان مصابا بالحمى غير أنه لم يلبث طويلا، حتى عاد واستغرق في نوم عميق. وعندما أفاق، كانت الظلمة المحيطة بالمنزل قد تبددت. فرأى والده جالسا في مواجهته، وهو يتأمله بعينيه الكليلتين. فشعر (سليمان) بالضيق لقد كان يفضل مغادرة المنزل، من غير أن يراه أحد. وها هو والده يقترب منه، ويمسك بيديه وهو يقول له: (إذن! فقد اتخذت قرارك! وهل ستخرج اليوم؟). وسيطرت على (سليمان) رغبة مباغتة للبكاء، فانحنى على

رأس أبيه، غير أنه عاد فتجلد فورا، وتحامل على نفسه: إنها ليست اللحظة المناسبة للانفعال وتفجر العاطفة. ووقف، وبقفزة واحدة وصل إلى الباب. كانت الأم لا تزال نائمة، ولم تشعر بخروج إبنها. أفاد (سليمان) من بقايا عتمة الفجر لاجتياز سياج الأسلاك الشائكة الذي أقامه الافرنسيون لتطويق القرية وعزلها. وما هي إلا فترة قصيرة حتى كان في الغابة. وكان وصوله إليها، ووجوده فيها، كافيان لإثارة كل مشاعر البهجة في نفسه. ثارت في نفس (سليمان) مجموعة من العواطف والانفعالات التي لا يمكن وصفها. وانتابته موجة من الحماسة الدافقة، فأخذت دقات قلبه في التسارع. وتوقف عن السير حتى يفسح لأفكاره الفرصة للانطلاق، فكانت كل حركة في هذا الصمت الرائع كافية لإفساد خلوته مع نفسه، وقطع تسلسل أفكاره. إنه يشعر بقوة جديدة تهز كيانه، قوة كلها رغبة في العمل. إنه يدرك تماما بأنه أصبح رجلا. وها هي نظراته التي يمتزج فيها الغضب والتحدي بالتقزز والنفور، وهي تتجه إلى الثكنة العسكرية التي لا زالت نائمة. وفي وسطها الظلام الحالك. كان شعوره بالفرحة يتعاظم بصورة نسبية مع تعاظم أفكاره، حتى بلغت البهجة درجة من القوة بات من الصعب عليه البقاء ساكنا، فانطلق يثير الصخب في الغابة الصامتة، يركض تارة، ويتمهل في مشيه مرة أخرى، ويرسل صوته عاليا ليستمع إلى صداه. لقد شعر أنه يستمتع بحريته إلى أبعد الحدود. وملأ رئتيه بهواء الجبال النقي المنعش، فالهواء هنا يعبق بشذي (الراتنج) ورائحة الشجيرات دائمة الخضرة. ومر في خاطره طيف سجن (تيزي - أوزو) كومضة البرق. فأغمض جفنيه، وأخفى عينيه، وكأنهما تعبتا

من مجرد الذكرى التي جاءت لتفسد عليه متعة الحرية. وانتابه دوار في رأسه، فتركه يستند إلى يديه. واستراح قليلا. وعندما نهض من جديد، كانت نظراته تحمل بريقا جديدا، وشعر بتيار الحياة يحيط به، ويحمله إلى آفاق لا نهاية لها. إنها آفاق تعبق بكل شذى الغابة. فهنا الحرية، وهنا الانتقام. الانتقام لأخيه، والانتقام للمعتقلين في سجن (تيزي - أوزو). وارتفعت الشمس فوق ذرى الجبال الشماء، مرسلة الدفء إلى الأرض، وهي تسبح في زرقة السماء الصافية. هنا، الشمس، والنور، والحياة. لقد تبدد (ضباب الفجر) ووصل إلى نهايته. لم يستمتع (سليمان) بهذه الحرية أكثر من يوم واحد، ففي اليوم التالي شعر برصاصات تمزق صدره آثناء أول اشتباك له مع العدو. وحمله الافرنسيون إلى القرية، ووضعوه في فناء المسجد - الجامع - وقد أحاطت بجثته غلالة أرجوانية قانية تحميه من الخضوع للأعداء. وتكفيه مؤونة الانتقام القريب. وهناك، في جوف كوخ حمل تجاوزا اسم - منزل - انطلقت صرخة حادة طويلة، إنها صرخة انطلقت من قلب خرج عن موضعه وقد انغرست فيه الأظافر. لقد كان ذلك القلب هو قلب امرأة، أم، أصابها الجنون.

المهمة الأولى

3 - المهمة الأولى (*) تقع قرية (بورقيقة) الصغيرة على بعد (90) كيلو مترا من العاصمة (الجزائر) وإلى الغرب منها. وكان يعيش فيها (في شهر شباط - فبراير - سنة 1958) مواطنوها الذين كان من بينهم أربعة شبان تتراوح أعمارهم بين السابعة عشرة، والثلاثين عاما وكان هؤلاء - شأنهم شأن بقية سكان القرى - يعملون في زراعة الحقول وتربية المواشي. وكان يظهر للوهلة الأولى، أن الحياة في هذه القرية هادئة، وخالية من كل إثارة، باستثناء ما كان يحدث بين فترة وأخرى من مرور عربات نقل الجند الكبيرة للقوات الافرنسية، وهي تتسلق الدروب الضيقة، والممرات الملتوية المتعرجة، في طريقها إلى الجبال المجاورة: هذا في النهار، أما في الليل، فكان الصراخ والعويل هو مما يعكر صفو سكونه ويمزق هدوءه. وفي الحقيقة، فقد كانت صرخات النساء وصيحاتهن تتردد في

_ (*) الموضوع بقلم الكاتب الجزائري (مروان شايب) وهو مدرس في (بليد). يتعرض هنا لقصة الانضمام إلى صفوف الثورة، وأسلوب العمل تحت عنوان (الشرط: LA CONDITION) والمرجع: RECITS DE FEU(SNED)S N . ELMOUDJAHED .ALGER .1977 . P P . 64 - 69.

كل ليلة. وهي تنطلق من الدواوير (النواحي) المجاورة والقريبة. وفي الصباح المبكر، تسير الهمسات والوشوشات من بيت إلى بيت لتنقل ما حدث: فهنا تم اعتقال (قدور) عند منتصف الليل، وهناك، تعرض (صلاح) للضرب والتعذيب، أمام زوجته الباكية وأطفاله المنتحبين، ثم اعتقلوه. وفي وسط هذا المناخ، قرر الشبان الأربعة الانضمام إلى المجاهدين، والسير على طريق الثورة. فهل كان حب المغامرة الذي يلازم هذه المرحلة من عمر الشباب هو الحافز الأقوى الذي دفعهم لاتخاذ قرارهم؟ أم هو حب الحرية والتعطش إليها كان حافزهم الأقوى؟ لقد كان الفلاحون في حقولهم يتهامسون بصوت خافت عن إمكانية الاتصال بالمجاهدين الذين ينتشرون في الجبال القريبة جدا. وعلى هذا تم تكليف (أحمد بوفان) بإجراء الاتصال مع الثوار، إذ كان يقطن في دوار منعزل، وكان عمه من مجاهدي جيش التحرير الوطني. انتظر الشبان الأربعة طوال عشرة أيام، وكانت فترة انتظارهم كئيبة ومديدة. وأخيرا، أقبل اليوم العظيم، فقد أعلمهم (بوفان) أنه تم تحديد مكان الالتقاء - عند النهر الذي كان يحمل اسم، جيرمين -. واستعد الشبان الأربعة لهذا اللقاء، وهم حمدي - أكبرهم سنا، وأحمد مصراوي، وتومي، وأنا - مروان شايب -. وعلمنا أن اللقاء سيتم مع الموجه السياسي (سي جلالي) الذي كان سيقابلنا في كرم زيتون (سيدي بودروه) وذلك في الساعة (2300) تقريبا. لقد جاء خبر اللقاء ليترك الشبان الأربعة في حالة من الدهشة والذهول، إذ أنهم سيتعرفون على واحد من هؤلاء المجاهدين

الأسطوريين، وسيكون باستطاعتهم التحدث إليه، ومصافحته، إنه شيء لا يكاد يصدق. ولما كان الموعد في اليوم الثالث من رمضان، فقد تساءل الشبان عما يجب عليهم عمله: الاستمرار في الصيام أم الإفطار؟ غير أنه ما من أحد منهم تجرأ على اتخاذ القرار بانتهاك حرمة الشهر الفضيل. وأخيرا طرق الموضوع أكبرهم سنا (حمدي) وقال لهم: (تعرفون يا إخوتي أن الطريق شاق وطويل، وستكون مثقلين بما نحمله من المتاع، ولا بد لنا من الإفطار حتى نسد رمقنا بشيء من الطعام والماء). وعاد الجميع إلى منزل (حمدي) ودخلوه واحدا بعد الآخر، بفواصل زمنية، حتى لا يثير دخولهم انتباه أحد من الجوار. وكانت هناك مائدة في غرفة من الغرف، عليها الخبز والسردين وعلبة جبن. ونظر بعضهم إلى بعض بظرات الفزع قبل أن يفطروا. وعند أول لقمة شعر كل واحد منهم بغصة في حلقه، وتضخمت اللقمة حتى كادت تستعصي على البلع. وكانت عقارب الساعة تقترب من الخامسة مساء (1700) عندما استعد الشبان الأربعة للخروج. ففي هذه الساعة تقفر الشوارع من السابلة، وعتمة الغروب تكاد تكون مظلمة، وانطلق الشبان واحدا بعد الآخر - من المنزل -. وسلكوا طريق المدينة الذي سيصل بهم إلى الجبل الواقع على بعد سبعة كيلومترات تقريبا. ولدى مرورهم بأحد منازل المدينة، وصلتهم ضحكات عائلة جلس أفرادها إلى طاولة الطعام؛ وأثار ذلك في قلوبهم شيئا من المشاعر المتناقضة - إذ كان سكان منازل المدينة من الأوروبيين -. باتت الظلمة قاتمة، وهناك، على البعد موعدنا، حيث كتلة الجبل القاتمة، والتي يقع على منحدرها كرم أشجار الزيتون .

والتصق كل واحد منا بإخوانه، ونحن نتقدم بخطوات نشطة (والخوف يمسك بقلوبنا). ووصلنا إلى مكان الموعد - تحت الأشجار - وبوغتنا مباغتة لم نكن نتوقعها، فما من أحد ينتظر وصولنا! وكان لزاما أن (يكونوا) هنا. ولم نتمكن من إيجاد تفسير لهذا الحظ العاثر. وكان لا بد من اتخاذ قرار عاجل: ذلك أننا إذا بقينا هنا، فقد نقع في قبضة (الحركيين) الذين يقودهم (مراد) والذين اشتهروا في كل مكان بقوتهم ووحشيتهم. وسرعان ما تسلق كل واحد منا شجرة من الأشجار، ومكثنا ننتظر، ومرت نصف ساعة ونحن على ذلك، عندما ارتسم على خط الذرى، وبصورة مباغتة، هياكل متحركة تحمل بواريدها. وبلغ منا الخوف غايته فهل هؤلاء من المجاهدين الجنود أم هم من الحركيين - الأعداء -؟ وهل يجب أن ننزل إليهم من مخابئنا، أم يجب البقاء على الأشجار؟ .. ماذا نفعل؟ وكان لا بد من اتخاذ قرار فوري. فقفزت من على غصن شجرتي. وطلبت إلى الآخرين بألا يتحركوا عن أماكنهم. واتجهت نحو تلك الهياكل، وتوقفت على بعد خمسين مترا منها، وصحت بصوت قوي: - من أنتم؟ - تونس، وأنت؟ - القمر! كانت تلك هي كلمات التعارف المتفق عليها. وقفز قلبي من موضعه. وسمع إخواني الكلمات المتبادلة، فقفزوا على الأرض، وأحيط بنا من كل جانب. وطلب إلينا الجنود المجاهدون إعطاءهم معلومات عن أهلهم وأصدقائهم، وتناقشنا، وضحكنا، وأكلنا الكعك. وأعطانا (سي جلالي) قنبلتين يدويتين ومسدسا. وكلفنا

بإلقاء قنبلة في (مقهى باريس) وهذه هي المهمة الأولى التي لا بد من تنفيذها - كاختبار - وذلك قبل الانضمام إلى قوات جيش التحرير الوطني. ... رجعنا على طريق القرية، وكان المطر ينهمر كالسيل، فالتصقت ثيابنا بأجسادنا، وأخذت أقدامنا تغوص في الوحل. وكان الناس لا يزالون نياما. فالساعة لم تتجاوز بعد الرابعة صباحا. وخشيا أن تصادفنا دورية عسكرية افرنسية، فقررنا التوقف، بانتظار صعود شمس النهار، ولجأنا إلى شجرة زيتون كبيرة، نحتمي بها. وأخذ (تومي) على عاتقه القيام بالنوبة الأولى من الحراسة، فصعد إلى الشجرة، بينما جلسنا نحن الثلاثة عند أسفل جذعها. ننتظر موعدنا مع اليوم الجديد، وننظر إلى المطر المنهمر كالطوفان، والبرد يخترق أجسادنا بقوة. وفجأة انبعثت ضجة قوية، وهوى جسم ثقيل على أقدامنا. إنه جسم (تومي) الذي استسلم للنوم وهو على غصن الشجرة، فسقط على الأرض. ومن ذهول المباغتة، وانفجرنا ضاحكين، وأجسادنا تهتز لفرط انفعالنا، حتى أن (تومي) ذاته لم يتمكن من منع نفسه عن مشاركتنا ضحكنا، بالرغم من سقطته الأليمة. وعلى كل حال، فقد أشرقت شمس النهار، وأمكن لنا الوصول إلى منزل (حمدي) بجهد كبير. فكان أول عمل هو قيام (حمدي) بإخفاء القنابل في مدخنة الموقد. وجاء يوم تنفيذ العملية (يوم - ي) وتقرر إلقاء القنبلة في لحظة الإفطار - أي مع أذان المغرب - ففي هذه اللحظة يقفر الشارع من المارة المسلمين. ولجأنا إلى القرعة حتى لا نختصم على تنفيذ العملية، فجاءت القرعة على (بوفان) لإلقاء القنبلة. وكان على (حمدي)

و (تومي) تأمين الحماية له. أما أنا، فقد تم تكليفي بالبقاء على مقربة من المكان لمراقبة ما يحدث، ورصد ردود الفعل، والحصول على بعض المواد التموينية، والالتحاق في اليوم التالي بالدوار الماكي -. وضع (بوفان) على رأسه قبعة تخفي نصف وجهه (بيريه). ووضع القنبلة اليدوية في جيبه، وأمضى طوال النهار وهو يسير جيئة وذهابا من أمام المقهى، حتى يدرس بصورة دقيقة طريقة تنفيذه لمهمته، وطريق انسحابه بعد ذلك. وفي الساعة (1700) تماما. سار بحزم نحو الباب الذي تحميه شبكة القضبان الحديدية، وانتزع مسمار الأمان من القنبلة، وقذف بها إلى الداخل، وبوغت من في المقهى مباغتة كاملة. وتدحرجت القنبلة حتى وصلت إلى أسفل طاولة لعب (البلياردو). الأمر الذي أنقذ رواد المقهى ودوى الانفجار قويا. وتطايرت الطاولة مزقا في الهواء، وأصيب الخباز - ابن راح - ببعض الجراح. وأفاد (بوفان) من فترة الرعب التي أحدثها الانفجار، فاندفع بسرعة نحو الساحة، حيث كان ينتظره (حمدي) وهو يحمل مسدسه (الموزر). وجرت الأمور كما هو مخطط لها، وكما كان متوقعا فقد اندفع العسكريون الافرنسيون في اتجاه الآثار الخداعية، وأخذوا في اعتقال الأشخاص ممن قادهم حظهم العاثر للوقوع في قبضة رجال الجيش! وبقيت أنا وحدي في القرية؛ أستمع إلى الناس وهم يتناقلون الخبر - خبر الانفجار - بسرعة كسرعة البرق، وأصيب المستوطنون الافرسيون بالذعر، فدفعوا رجال الدرك (الجندرمة) للانتقام من العرب المسلمين، وذبحهم. ***

عندما رجعت إلى المنزل، وجدت أمام بابه سيارة عسكرية خفيفة (جيب). وتجمد الدم في عروقي. فكيف وصلوا إلى هنا؟ وتابعت طريقي، فاتجهت مباشرة إلى مزرعة (سوفتون) حيث يمكن لي القيام بالاتصالات. واختبأت في المزرعة لمدة ثلاثة أيام. ثم جاءت الليلة التالية، وارتفع فيها ضجيج عربات نقل الجند الكبيرة (الكميونات) فملأت الساحة؛ وانتشر رجال الدرك في كل مكان. وحاولت الهرب عبر غيضة من شجيرات الورد الشائكة، الأمر الذي أعاقني عن رؤية الرجل المتوقف هنا للحراسة، وقد أخذ هذا في مطاردتي، وأطلق رصاصة أخطأتني. غير أنني أصبت بالذعر، فلم أعد أعرف إلى أين أتجه، ولا أين أسير، وتم اعتقالي. ونقلت ليلا إلى ثكنة الدرك، وبدأ التحقيق على الفور. ولشد ما كانت دهشتي عندما أطلعني رقيب الدرك - المحقق - على ملف سجلت فيه كافة اجتماعاتنا ولقاءاتنا: (كل شيء - ما عدا شيئا واحدا لم يضمه الملف بالتأكيد، وهو - من الذي قام بتنفيذ عملية إلقاء القنبلة في المقهى؟ وما هو دوري فيها؟) ولما كنت أعرف بأن عقوبة - العدوان على الأماكن العامة - هي العقوبة القصوى، فقد قررت الالتزام بالصمت، مهما كلفني ذلك من مشاق. وأمسك إثنان من رجال الدرك بذراعي، وأثبتاهما خلف ظهري، ووجه الرقيب لكمة قوية بجمع يده إلى بطني، ثم استمر في توجيه ضرباته، وهو يقول لي (أقسم لك، أنك ستنتهي بالاعتراف بكل شيء!) ترى كم استمرت نوبة التعذيب هذه؟ إني لست أدري! غير أنني أذكر ما قاله لي في النهاية: (بما أنك مستمر في عنادك، فسنرسلك إلى مزرعة سانت جان)! وكانت مزرعة (سانت جان) تبعد مسافة عشرة كيلومترات عن (بورقيقة) وقد اشتهرت بغرفها المجهزة للتعذيب،

وما تحتويه من وسائل التشويه. وتوقفت سيارة خفيفة (جيب) مباغتة أمام مركز الدرك. وقفز رجل (حركي) من داخل السيارة، وفتح الباب، وقال: (أين هو هذا القذر - يا حضرة الرقيب -. لا تزعجوا أنفسكم بأمره، إننا سنحمله على الغناء!) واستدار هذا - الحركي - نحوي، ووجه إلى سيلا من السباب والشتائم - باللغة العربية. قيدوني في العربة الخفيفة (الجيب) بالرغم من إحاطتي باثنين من رجال الدرك. ووصلنا إلى المزرعة مع هبوط ظلام الليل. فدفعوني إلى غرفة كان أول ما لاحظته فيها وجود بركة من الدم، وشعرت بشعر رأسي وهو ينتصب واقفا لهول هذا المنظر، لقد سبقني إذن موقوف آخر إلى هذه الغرفة! وأصدر إلي (الحركي) أمرا بخلع كل ثيابي. وتم تثبيت القيود والأغلال على رسغي يدي وقدمي، بالإضافة إلى سلسلة ضخمة كانت تصل بين القيود المثبتة على الجدار، فلم يعد باستطاعتي القيام بأي حركة، أما رأسي فترك معلقا على مسند يشبه (البالوعة) في أعلاها صنبور ماء. وقال لي رقيب: (قد يكون من الأفضل لك، أن تقول لي من قذف القنبلة، قبل أن نبدأ عملنا!) وأجبته: (أنكم تخطئون بحقي يا حضرة الرقيب. إنني لم أكن مع الزمرة التي ذكرتم أنها ألقت القنبلة، ولا أعرف شيئا عن أمرها. كل ما أعرفه أن هناك قنبلة قد انفجرت) وقال الرقيب: (حسنا أيها القذر؛ سنرى صحة قولك خلال لحظة واحدة، هيا يا عمر!) وأقبل الحركي - عمر - فوضع كتلة من الخيش في فمي، وفتح الحنفية حتى آخرها، وتدفق الماء فملأ فمي، وحاولت التنفس، غير أنني لم أتمكن من ذلك، وانقضت ثوان قليلة عندما سمعت بصورة مشوشة الكلمات التالية: (من ألقى القنبلة؟). وبقيت صامتا. فتكررت عملية التعذيب

بالماء مرات متتالية، وإعادة السؤال ذاته، والتزام الصمت من جانبي باستمرار. ولما أدركوا أن هذه الوسيلة لن تصل بهم الى ما يريدون. قرروا تغيير الأسلوب. وقال لي الرقيب: (قف أيها الخنزير، ستذوق الآن طعم الحلوى التي سنقدمها لك!). وكان صوت الرقب يصلني وأنا في شبه إغماءة، إذ كان بطني المنتفخ بالماء يؤلمني، وكانت لدي رغبة بالتقيؤ، غير أنني لم أتمكن من ذلك. وكان الماء ينضح من كل مسام جلدي. وتم تثبيت أطراف السلك الكهربائي على رسغي، وفي فتحتي أنفي، وانتابني ألم مرعب وأنا أتلقى الصدمة الأولى من الشحنة الكهربائية، وسالت دموعي غزيرة على غير إرادة مني ... وكان لزاما علي الصمود قليلا في هذه اللحظة، وإلا فإنهم سيسمرون في تعذيبي طوال الليل؛ إنني أعرف طريقتهم؛ تعريض المشتبه به لصدمة عنيفة منذ اللحظات الأولى لتعذيبه حتى يتم تدميره: هكذا كان يقول لنا (سي جلالي) ويكررها على مسامعنا باستمرار. وقال لي الرقيب: - هل تعرف المغربي؟ ذلك الذي يعمل رئيسا للإمداد والتموين في (بورقيقة)؟ ... وتظاهرت أنني: لا أسمع شيئا، ولا أرى شيئا، ولا أشعر بشيء. وأمام عنادي، قذفوا بي أرضا، وقدماي ويداي مثبتة بالقيود، وأقبل الحركي ليلهب جسدي بسوطه وهو يقول في: (هل تعترف أم لا؟) ودخل جندي ومعه كلب ضخم (بول دوغ). وتحفز الكلب للقفز على ضحيته، ثم قفز علي عندما أعطيت له الشارة بذلك، وشعرت بعظام رسغي تنسحق تحت فكيه، وانتابني ألم جنوني، وسيطر علي الغضب لعجزي عن المقاومة، وحاولت الدفاع عن نفسي، غير أنني لم أتمكن من ذلك، وأمسكني أحد

رجال الدرك، وثبتني، حتى يتمكن الكلب من الهش في جسمي، بكامل حريته، ومن غير إزعاج. واستمرت اللعبة الجهنمية بوحشية تعجز الكلمات عن وصفها. وبدأ الدم يسيل من رسغي، ومن جراح قدمي حيث نهشني الكلب بأسنانه. ولم يعد يهمني شيء، وانتظرت الموت بفرحة كبيرة ... وأخيرا، انتهت مرحلة تعذيبي لهذه الليلة، ووصلت آلامي إلى نهايتها. ورأى الرقيب بأن جلسة التعذيب قد استمرت من غير الوصول إلى النتيجة التي يرغبها. فأوقفني وقال لي: (ما عليك إلا الانتظار، غدا سنستأنف محادثتنا، وصدقني بأنك ستبوح بأسماء رفاقك الثوار - الفلاقة - واحدا بعد الآخر). بذلت جهدا كبيرا حتى أستطيع البقاء واقفا على قدمي، ومضيت أسحب قدماي سحبا وأنا أسير عبر الساحة لأصل إلى زنزانتي. وبات باستطاعتي العيش مع آلامي بصمت، في وسط هذا السجن، ومع ظلمة الليل الحالكة. وقيدوني واقفا وأنا مثبت إلى الجدار. كان أنفي يؤلمني ألما لا يوصف، وكنت أشعر بعطش شديد، وإلى درجة لا تصدق، بالرغم من كل الماء الذي أرغموني على شربه وخلال اجتيازي للساحة. ناداني شاب اسمه (افرنسي) وقال لي: (خذ حذرك، لن نقفل عليك باب زنزانتك بالمفتاح، فلا تحاول الهرب، إذ أن رصاصنا سيصرعك على الفور). أمضيت الليل واقفا، وأنا مقيد إلى حلق مثبت بالجدار. وكانت رسغاي المنتفختان تؤلماني أشد الألم وأقساه. ولشد ما كانت فرحتي عندما أقبل هذا العسكري ذاته في منتصف الليل، وعمل على فك قيودي، وإرخائها قليلا.

استأنف الجلادون تعذيبي في الصباح المبكر، ولكن بقسوة تزيد كثيرا على ما عرفته: الماء، والكهرباء، والجلد بالسياط. وحدث شيء لا يمكن تصديقه لقد رفض الكلب الضخم - البول - ذوغ - رفضا قاطعا الانقضاض علي، بالرغم من كل الجهود التي بذلها العسكريون لدفعه نحوي. ويظهر أنه عقد معاهدة صداقة مع الثوار - الفلاقة. وإلا فلماذا امتنع الكلب عن عضي والنهش بلحمي؟ سر غريب! كنت أشعر بالجوع والعطش: وأصدر عميل - حركي - الأمر إلي بالخروج لتناول الطعام في الساحة، حيث كان يتناول الكلب طعامه - وهو نوع من الحساء - في طبق عميق. وقال لي (بما أنك والكلب من عائلة واحدة، فما عليك إلا أن تشاركه طعامه!). ودفعني برفسة من قدمه أوقعتني أرضا. ومددت يدي نحو الطبق، ونبح الكلب نباحا يصم الآذان، ففزعت وسحبت يدي بسرعة. وعاد الحركي يقول: (أتأكل أم لا؟) وعدت قبسطت يدي المرتجفة من الخوف. وفي هذه المرة، انقضى الكلب الضخم - البول دوغ - فأمسك رصغي بين فكيه، وحاولت استخدام كل قوتي لانتزاع يدي والتخلص منه. وسال الدم غزيرا على يدي. وانفجرت ضحكات الجند من ورائي. ويظهر أن منظري كان كافيا للترفيه عنهم وتسليتهم - فأعادوني إلى زنزانتي - وبقيت في هذا الجحيم طوال ثلاثة عشر يوما. وجاء رقيب الدرك الذي استقبلني في بداية الأمر، فحملني في عربة خفيفة (جيب) إلى معسكر (شينو) في (بليده). وهناك، وجدت بقية الأخوة، وهم على حال مثل حالي. أطلق الافرنسيون سراحنا في شهر كانون الأول - ديسمبر -

1960. وفرضوا علينا الذهاب في كل يوم إلى (ثكنة الدرك) من أجل التوقيع على (سجل الحضور). أمكن لي إعادة الاتصال مع (سي جلالي). واستطعت بعد شهر واحد الانضمام إلى قوة جيش التحرير الوطني في الولاية الرابعة وقد التقيت هناك - كما كنت أتوقع - الإخوة (تومي) و (أحمد بوفان). أما (حمدي) فكان قد استشهد على ساحة الشرف. واستمر الصراع.

معارك (تيفرين) في (جبل منصور)

4 - معارك (تيفرين) في (جبل منصور) (*) وصلنا إلى قرية (تيفرين) في الساعة (2200) - العاشرة ليلا - من يوم (23 - تشرين الأول - اكتوبر - 57 19). وكانت هذه القرية تضم في هذا اليوم كتيبة من كتائب جيش التحرير الوطني الجزائري بقيادة الرقيب (سالم). بالإضافة إلى عدد كبير من المفارز المستقلة والفارين من وجه السلطة الفرنسية والمسبلين. وكانت هناك قرية (بني وحدان) الواقعة على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الشمال من (تيفرين) حيث كانت تتمركز فيها كتيبة ثانية من كتائب جيش التحرير الوطني بقيادة الرقيب (العباسي). كما كانت هناك قرية (حمدة) الواقعة على بعد كيلومترين إلى الجنوب - الغربي من (بني وحدان) والتي كانت بدورها تضم كتيبة من كتائب جيش التحرير الوطني. وكانت هذه القرى الثلاث تحتل مساحة جغرافية تبعد عشرين كيلومترا من (بني منصور) وإلى الشرق منها، وهي تبعد في الوقت ذاته مسافة (6) إلى (7) كيلومترات إلى الغرب من (علي ايفيل) المربطة

_ (*) للكاتب الجزائري (علي سراج) وهو مجاهد قديم، وممن اشتركوا في المعارك التي اشترك في تسجيل أحداثها - والمرجع: RECITS DE FEU(SNED) S. N. EL MODJAHED, ALGER, 1977. P. P. 81 - 92.

إداريا بمركز قيادة (بو جليل) في (ضهرة أقبو) من ولاية (بجاية). كان المجاهدون رجالا اشتهروا بفضائلهم: إيمان ديني عميق، وحب للوطن لا حدود له، واستعداد دائم للتضحية، وشجاعة لا نظير لها، واحتقار للخطر، وإقدام على اقتحامه؛ ولعل الإسلام لم يعرف مثل هؤلاء الرجال منذ أيام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا ما اتفق عليه، وعرفه، كل من عاش مع المجاهدين خلال أيام حرب التحرير. انفجرت بعض قنابل المدفعية في الساعة (2200) وقد تساقطت في مقبرة (تيفرين). وتطايرت في الهواء ثم تناثرت في كل مكان كميات من الحجارة، وجذور الأشجار، مختلطة بقطع من الهياكل البشرية. وقال الرقيب: (إنها قنابل مدفعية من عيار - 105 مم - تطلقها بطاريات العدو المتربصة في معسكر الاستعماريين في ثكنة (علي ايفيل). توجهت إلى المسجد (الجامع) الواقع في وسط القرية، ومعي (عزوز) رفيق دراستي في السابق، والذي كان يكبرني ثلاثة أعوام، ويعمل مسبلا - نصيرا - لقوات جيش التحرير وقلت وأنا أخاطب (عزوز): (لقد طلب إلي الجرحى تزويدهم بالكتب، لإملاء وقت فراغهم، ذلك لأنهم يعانون كثيرا من الملل والضجر خلال إقامتهم في المستوصف) ووعدني (عزوز) بأن يقدم لي كل ما لديه من الكتب والمجلات. وفجأة، عاد القصف المدفعي العنيف ليقطع علينا حديثنا، فقفزنا خارجا لنستوضح جلية الأمر. وتبين لنا بأنه ما من قذيفة سقطت على المنازل، وما من أحد أصيب بضرر أو أذى. وكل ما حدث هو سقوط حوالي أربعين قنبلة في المقبرة، حفرت قبور المقبرة حتى الأعماق، وقال لي (عزوز): (يظهر أن الدور قد جاء

في هذه الليلة على الأموات!) وأجبته: (لعل الأفرنسيين قد أرادوا أن يعرف الأموات بدورهم ما يحدث على سطح الأرض). وسألني (عزوز): (ماذا يعني هذا القصف في اعتقادك؟). وأجبته: (لعله خطأ فى الرمي!). - (هل تريد القول بأنهم اكتشفوا شيئا آخر، فوجهوا نيرانهم إليه؟). - (في رأي - إنه من غير الطبيعي، ومن غير المحتمل، أن يوجه الافرنسيون قنابلهم إلى المقبرة). - (هذا يعني بأن قواتهم ستأتي غدا لملاقاتنا) قالها (عزوز) بنبرات ثابتة تنم عن ثقته بصحة استنتاجه. وقلت له: (هيا بنا إلى الملجأ لمعرفة ما إذا كانت قد وصلتهم معلومات جديدة). صادفتنا خلال انتقالنا من المسجد - الجامع - إلى الملجأ، وخلال عبور الشارع الرئيسي للقرية، مجموعة من دوريات المجاهدين المتتالية، وكنا في كل مرة نضطر لتبادل كلمات التعارف. كان بيت (المجاهدين) يقع عند مدخل القرية. وهو عبارة عن دار ذات جدران حجرية مرتفعة قليلا، مع سقف خشبي يغطيه القرميد، ويعود بناؤه إلى أقدم من مائة سنة. وكانت هذه الدار تتشابه مع بقية دور القرية، والتي تشبه بدورها دور القرى الأخرى المنتشرة في هذا الإقليم. ولدى الوصول إلى أمام باب الدار، اعترضنا الخفير بقوله: (من تكونان؟). وأجابه (عزوز): الإسلام. ورد عليه الخفير: ديني. كانت كلمات التعارف لهذه الليلة هي: (الإسلام - ديني). عندما دخلنا الدار، وجدنا أن المجاهدين كانوا على وشك الخروج إلى جهة ما. وصافحت العريفين (إسماعيل) و (محمد

عرب) اللذين كنت أعرفهما معرفة جيدة، وقلت للعريف، (إسماعيل): - (كنت أعتقد بأنكم ستقضون الليل معنا). وأجابني (إسماعيل) بقوله: - (تعرف بأن البقاء أو الخروج في ظروف الحرب التي نعيشها غير مرتبط برغبتنا، وإنما هو مرتبط بالظروف - ولم يعد حتى الأموات - الآن - على ثقة بأنهم سيبقون في أماكنهم). كان الاستعماريون مشغولين بالقتال العنيف الذي مضت عليه ثلاثة أيام في منطقة (عز اليقين). وقد أمكن لمجاهدي (تيفرين) في هذا اليوم إحصاء وعد أكثر من ستين طائرة مقاتلة حلقت فوق ميدان المعركة، واشتركت فيها. وقيل لي بأن قواتهم قد اشتبكت مع عدد من كتائب المجاهدين الذين وصلوا حديثا من تونس، والذين كان تدريبهم جيدا وتسليحهم جيدا. هذا ما قلته للعريف (إسماعيل) والذي أجابني (أجل، هذا صحيح، ويفرض الموقف بصورة حتمية فتح المجال أمام معركة أخرى في أي مكان لتشتيت قوات الاستعماريين المشتبكين في (عز اليقين) وتخفيف الضغط الذي تلقيه القوات الاستعمارية بثقلها على المجاهدين هناك). كان العريف (سالم) في هذه اللحظة يعقد اجتماعا مع العريف (عياشي) ومع قائد الكتيبة الثالثة. فتابعنا حديثنا. وكان العريف (إسماعيل) يحمل رشاشا خفيفا أمريكي الصنع (تومسون). وقلت له: (إنه سلاح رائع - هذا الرشاش) ثم تابعت مستوضحا وأنا أشير إلى سلاح كان يستريح أرضا مستندا إلى قائمتين - ساقين -

وقلت له: (وما اسم هذا السلاح؟) وأجابني (محمد عرب) بقوله: (هذا رشاش روسي - 30، وهو يعمل بمخزن أسطواني يتسع لخمسين طلقة. ويمكن بواسطته التعامل مع الطائرات المحلقة على ارتفاع منخفض). وقال (عزوز) متابعا الحديث: (إن التعامل مع الطائرات بات أمرا ضروريا، فلولا الدعم الجوي لما استطاع الاستعماريون الوصول إلى هذه الجبال). وكان (محمد عرب) يحمل رشاشا خفيفا إيطالي الصنع، من نموذج (بريتا). وقلت متسائلا: (وما هو الفارق المميز بين التومسون و - البريتا -؟). وقال إسماعيل: (إنه كالفارق المميز بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا). وانفجر الجميع ضاحكين لهذه المقارنة. وقال (حسين) معلقا: (أما أنا، فأفضل قتال الافرنسيين بأسلحتهم الخاصة). وسألته: (وما هو نوع البارودة التي تحملها؟) فأجابني: (إنها بارودة - ماس 49 - 56 - أرسلها الاستعماريون إلى الجزائر لقتل الجزائريين. غير أن هذه البارودة انتقلت - مع غيرها من الأسلحة - إلى معسكرنا منذ شهور عديدة. ولكن قل لي: هل جئت للتعرف على أسلحة جيش التحرير الوطني؟، ويظهر لي من أسئلتك أنك جديد على هذه الأمور). وأجبته: (كلا يا أخي! فأنا أعيش مع المجاهدين منذ شهر شباط - فبراير - 1955، غير أنني لم أتعرف إلا على أولئك المسلحين ببواريد الصيد، وبعض المسدسات الرشاشة. وكم هو ممتع لنا أن نرى المجموعات الصغرى التي كانت مسلحة ببواريد الصيد وقد تحولت إلى كتائب مسلحة بالبواريد الحربية والأسلحة الحديثة. وهذا هو سبب طرحي أسئلة كثيرة عن أنواع الأسلحة الحربية. وبالمناسة، فهل تفضل أنت هذه البارودة على أي سلاح حربي آخر؟).

وقال لي: (إنها سلاح رائع، ثم إن هناك شعورا بالارتياح والرضى، وأنا أرمي الاستعماريين الفرنسيين واسقطهم بأسلحتهم وبرصاصهم. ولهذه البارودة بالذات ذكرى عزيزة جدا على نفسي، فلقد التقطتها من فوق جثة ضابط افرنسي، خلال الهجوم العام الذي جرى في 8 أيار - مايو 1957). كان المجاهدون، خلال حرب التحرير الوطنية، ينظمون هجمات عامة ضد مواقع الأعداء وقواتهم في الذكرى السنوية لبعض الأحداث التاريخية الهامة في حياة الجزائر، مثل: (ذكرى 5 تموز - يوليو - 1930 - احتلال فرنسا للجزائر) و (8 أيار - مايو 1945 ذكرى المذبحة الرهيبة التي نفذها الافرسيون وذهب ضحيتها 45 ألف مواطن جزائري) و (الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954 - ذكرى تفجير حرب التحرير) وكانت كتائب جيش التحرير الثلاث - هنا - قد أعادت تسلحها بأسلحة حديثة وصلتها من تونس. شأنها في ذلك شأن كل كتائب جيش التحرير. ونظرا لتنوع مصادر التسلح، فلم يكن من الغريب أن تجد في أيدي المجاهدين بواريد انكليزية، اصطلحوا على تسميتها (بالاعشاري). وبواريد أمريكية من نوع (غاراس) - وكذلك رشاشات (ف. م. بارت). بالإصافة إلى أسلحة ألمانية من نوع (الموزر) التي كان المجاهدون يستخدمونها على نطاق واسع، ويفضلونها على سواها. وكان لدى كل كتيبة من هذه الكتائب مدفع (هاون 60 مم)، كما كان لدى كل فصيلة رشاش خفيف (ف. م). ولنتذكر أن كل كتيبة من كتائب جيش التحرير كانت مكونة من (120) مجاهدا - أي ما يعادل سرية من سرايا تنظيمات الجيوش الأخرى -. انتهى اجتماع قادة الكتائب الثلاث، وتوجه كل واحد منهم إلى

مركزه. واجتمع الرقيب (سالم) على الفور بمسبلي القرية في (تيفرين) ووجه إليهم نصائحه وتعليماته: (إجمعوا النساء والأطفال في مكان مأمون، وليكن منزلا قوي البنيان من المنازل الواقعة في وسط القرية. وأبلغوا الشبان والرجال ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والخمسين سنة بأن يغادروا القطاع قبل الساعة الثانية فجرا. وخذوا معكم مواد تموينية كافية، واخرجوا معهم). وأعطيت هذه التعليمات ذاتها إلى القرويين في قريتي (بني ودان) و (حمدة). علمنا بعد ذلك بأن منظمات الاستخبارات في جبهة التحرير الوطني، أرسلت إنذارا إلى قادة القوات في جيش التحرير الوطني، أعلمتهم فيه أن القوات الاستعمارية المتمركزة في (علي أيفيل) ستقوم بإحدى عملياتها الرتيبة - الروتينية - لتمشيط (منطقة تيفرين) في يوم 24 - تشرين الأول - أكتوبر -. فأسرع القادة لاتخاذ الترتيبات الضرورية لمجابهة قوات هذه العملية. قال لي (عزوز) ونحن نخرج من الاجتماع: هل تعرف؟ وأجبته: أعرف ماذا؟ فقال لي: (ستطير الزنابير غدا بالخلايا) وأجبته: (ولكنني لم أفهم شيئا مما قلته). فعاد، وقال لى: (غدا ستفهم كل شيء. أما الآن، فتعال لأعطيك الكتب، فالوقت ضيق، وليس أمامنا متسع لإضاعته). رافقت (عزوز) إلى منزله، وسلمني الكتب. وكانت الساعة تشير إلى الواحدة صباحا، فعدت إلى منزلي، فوجدت في انتظاري عمي - والد زوجي، وهو شيخ من خريجي جامع الزيتونة، ويعمل مسبلا - نصيرا - من مسبلي الثورة. وسألني: أين كنت؟ لقد بحثت عنك في كل مكان؟. فأجبته: لقد كنت فى الملجأ. وعندها

أعطاني قطعة من الخبز وقليلا من التين المجفف. وزجاجة من زيت الزيتون. وزجاجة من الماء فوضعت الجميع في مزودتي. ومضينا في طريقنا لمغادرة قرية (تيفرين). وفي هذا الوقت ذاته كان المجاهدون يتجهون نحو تلال (تيزي - غمدان). وتسلقنا دربا ضيقا - لا يسلكه إلا الماعز - يصل إلى قمة جبل (برشيش) المرتفع. وكان باستطاعتنا من هذا المكان الاشراف على القطاع بكامله. فإذا ما بقي الموقف هادئا، كان بإمكاننا العودة إلى القرية، أما إذا ما كان الأمر على العكس من ذلك، فإنه باستطاعتنا البحث عن ملجأ مأمون في الغابة يضمن لنا إنقاذ حياتنا. وكان جبل (برشيش) يقع على بعد أربعة كيلومترات تقريبا، إلى الجنوب من (تيزي - غمدان). وكان قادة الكتائب قد تدارسوا أثناء اجتماعهم، ردود فعل العدو المحتملة تجاه كمين (تيزي - عمدان) وفقا للمعطيات التالية: أ - إذا جاءت قوة الاستعماريين من (علي إيفيل) فإنها ستصطدم بكمين (تيزي - غمدان) وستكون القوة المتمركزة في (بوجليل) هي أول قوة يجب عليها أن تسرع لنجدة القوة الاستعمارية وعلى هذا يجب على كتيبة المجاهدين المتمركزة في (بني وحدان) إقامة كمين لقوات (النجدة) عند أبواب مركز (بو جليل). ب - إذا جاءت قوة الاستعماريين من (بوجليل) فإنها ستصطدم بقوة الكمين الذي ينتظرها. وستكون أقرب قوة ستهرع لنجدتها هي القوة الافرنسية المتمركزة في محطة (بني منصور). وهنا سيكون من واجب كتيبة المجاهدين المتمركزة في (حمدة) التصدي لها، وإقفال الطريق في وجهها. وذلك بتنظيم كمين على الطريق الممتد بين (بني منصور) و (بو جليل).

ودارت المعارك طبقا لما تم توقعه، وافتراضه. تميز موقع (تيزي - غمدان) بطبيعته الصعبة، حيث الأرض المتضرسة والصخرية والمكسوة بالغابات. ويمر الطريق هنا بين هضبة، وبين مجنبة جبل مقابل للهضبة، مما يشكل مضيقا أشبه بالبوابة، ولهذا السبب أطلق عليه اسم (تيزي - غمدان) وكان الطرف الجبلي يرتفع مجاورا للطريق على شكل جدار قائم من الصخور التي استخدمها الفلاحون لإقامة تخم يحمون به حقول التين وكروم الزيتون. احتل الرقيب (سالم) وجنده المجاهدون مواقعهم القتالية على امتداد هذا الجدار الطويل، وتمركزوا في الحفر، وحول الذرى المجاورة له. وقد تجنبوا التمركز على الهضبة المقابلة لأنها كانت محرومة من المؤخرة المستورة والتي يمكن لها تأمين الانسحاب وحمايته، إذا ما تطلب الأمر ذلك. بدأت طيور الحجل تغريدها، وهذا يعني أن الموعد مع الفجر بات قريبا. كانت السماء صافية تزينها النجوم المتلالئة، وظلمة الليل لا زالت قاتمة. ونظر أحد المجاهدين الى ميناء ساعته المضيء، فوجد أن عقاربها تشير إلى الرابعة صباحا. وفي هذه اللحظة، تمزق السكون بهدير القافلة الافرنسية التي ضمت عربات نقل الجند الكبيرة (ج. م. س) والعربات نصف المزنجرة (هاف - تراك) والمدرعات، والتي كانت تقترب من (تيزي - غمدان). وكان المجاهدون قد انتهوا من حفر الحفر على أرض الطريق، وزرعها بالألغام. وقد وضعت هذه الألغمام بطريقة تسمح بتدمير عدد من الآليات، والتي يعتبر تدميرها هو الشارة المتفق عليها للبدء بالهجوم. وانفجرت الألغام عندما دخلت آخر مركبة من

مركبات العدو منطقة الكمين. وعندها فتحت كافة الأسلحة نيرانها - من كل العيارات - على قوات العدو. لقد كان المجاهدون يمسكون بقنابلهم، ويضعون أصابعهم على الزناد، فما إن بدأت المعركة حتى أفرغ المجاهدون كافة ما تحتويه مخازن أسلحتهم، وقذفوا قنابلهم دفعة واحدة على قافلة العدو. بوغت جند العدو مباغتة كاملة، وأخذوا في القفز من مركباتهم، أو الوقوع منها، والانبطاح أرضا لاستخدام أسلحتهم ضد المجاهدين، وكان بعضهم قد تملكه الرعب، فتوجه على غير هدى نحو الغابة حيث كان ينتظرهم الموت المؤكد. ولجأ عدد من الجنود إلى أسفل عرباتهم يحتمون بها، ومنهم من أخذ في العدو، في كل اتجاه. وكان المجاهدون يسمعون من مواقعهم، الأوامر التي كان يصدرها الرتباء والضباط والتي كان يختلط بعضها ببعض. كما كانوا يسمعون الشتائم البذيئة والقدرة والتي كان يتبادلها جند العدو. وحاول بعض جند العدو، الرجوع على أعقابهم، وأخذوا في العدو والقفز من فوق الجثث المتراكمة فوق أرض الطريق، غير أن رشات جديدة من الأسلحة كانت تسقطهم وتحصدهم حصدا. وساد الذعر والهلع على جند العدو، فأخذوا في البحث عن أي ملجأ يحميهم، ولم يكن هناك غير الغابة طريقا لهم. ولكن الغابة لم تكن في قبضتهم. فكانت مجزرة حقيقية، خيم فيها الموت الزؤام وهرب عدد من جند العدو في اتجاه (علي إيفيل). دفع المجاهدون مجموعات صغرى لاجتياح ميدان المعركة، بهدف جمع الغنائم، وأمكن جمع كمية ضخمة من الأسلحة والذخائر والتجهيزات العسكرية. وترك الاستعماريون فوق أرض المعركة قتلاهم وجرحاهم الذين باتوا عاجزين عن التحرك، فكانوا

يصرخون من الألم، ويستعطفون المجاهدين ويتوسلون إليهم حتى لا يجهزوا عليهم. فكان المجاهدون يردون عليهم: (نحن لسنا جبناء حتى نجهز على الجرحى المحرومين من كل وسائل الدفاع. كما أننا نفتقر إلى التجهيزات الطبية التي تمكننا من إجراء الاسعافات الأولية لكم. لكن قوات دعمكم لن تتأخر عن الوصول إليكم لانقاذكم). وصرخ أحد الجرحى: (أبـ ... تاه، أمـ ... ا5، لا أريد أن أموت). فيما كان جريح آخر يصرخ: (عاش الثوار). أفاد المجاهدون من فترة الهدوء التي أعقبت المعركة، لإخلاء جرحاهم الثلاثة، ودفن أول شهيد سقط في معركة هذا اليوم. ... كانت القوات الاستعمارية المتمركزة في (بوجليل) قد غادرت قلاعها الحصينة في هذه الفترة، بهدف الهجوم على مؤخرة المجاهدين في (تيزي - غمدان). غير أن هذه القوات الاستعمارية لم تبتعد عن قاعدتها أكثر من مئات الأمتار حتى وقعت في كمين أكثر عنفا، وأكثر قتلا من كمين (تيزي - غمدان) ولم تكتف كتيبة (العياشي) هنا بجمع الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية فقط وإنما أخذت أيضا ثلاثة أسرى من بينهم ضابط برتبة ملازم يعمل في الاستخبارات - وفي مكتب اشتهر بتعذيب المواطنين الجزائريين والتنكيل بهم هو مكتب بو جليل - وقد قام المجاهدون بعرضه في المساء. وبعد انتهاء القتال، على مواطني الاقليم وهو معصوب العينين، ومقيد اليدين وراء ظهره. ... تلقت القوات الاستعمارية المتمركزة في محطة (بني منصور)

أمرا بالتوجه إلى ميدان، فوقعت هذه القوات بدورها في كمين - في ضواحي مقطع الحجارة الكلسية. وكان حظ القوات الاستعمارية هنا أفضل من حظ القوات السابقة، إذ تمكنت من المحافظة على مواقعها، ومنعت المجاهدين من جمع الأسلحة، ولكن خسائرها في الأرواح بقيت، بالرغم من ذلك، كبيرة وفادحة. ... أصبح الوقت على الحد الفاصل بين الليل والنهار، فكان الشرق أقرب إلى ضوء النهار، في حين بقي الغرب أقرب إلى ظلمة الليل، ووصلت قوات دعم ضخمة من جهة (علي إيفيل) فاستؤنف الرمي في (تيزي - غمدان) بوتيرة متصاعدة. ووصلت في الوقت ذاته أربع طائرات من طراز (ت - 6) مجهزة بمضخمات للصوت (مكبرات) حتى تثير ضجيجا مرعبا. وقال بعض الجنود من الذين اشتركوا في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) بأن طائرة (ت - 6) تهدر صاخبة مثلها كمثل طائرات (الشتوكا) الألمانية وكان ضوء النهار قد ارتفع ساطعا الآن، وامتد القتال على مسافة خمسة عشر كيلومترا من الشرق إلى الغرب. كان بعض المدنيين والمسبلين قد انتشروا على قمة جبل (برشيش) وأمامهم، غير بعيد عنهم، تمركزت فصيلة مسلحة برشاش (برن) علاوة على البواريد الفردية. واقترب أحد مجاهدي الفصيلة من المدنيين، ونصحهم بمغادرة مركزهم، وقال لهم: (قد يكون من الأفضل لكم الخروج من هنا، إذ من المحتمل جدا أن يحاول جند العدو احتلال هذه القمة حتى يستطيع تطويق منطقة القتال). وقام هؤلاء المدنيون بتقديم الخبز والتين المجفف والزيت والماء وكل ما يحملونه من الطعام، لمجاهديهم البواسل، وهم

يبتهلون الله لهم: لينصركم الله، كان الله معكم. وأجابهم المجاهدون: شكرا! شكرا! صحة! صحة!. قرر المدنيون والمسبلون الانتقال إلى قمة (غارمالا) التي تتربع في أعلى جبل يقع على بعد ثلاثة كيلومترات - خط مستقيم - من (برشيش). وعلى بعد (7 - 8) كيلو مترات من (تيزي - غمدان). زجت القيادة الاستعمارية في هجومها المضاد بقوات صخمة، شاركت فيها (3) طائرات من نموذج (بوسارد). و (12) طائرة من نموذج (ب - 47) و (12) طائرة من نموذج (ب - 26) - وقد وصلت هذه الطائرات كلها في وقت واحد. وكانت طائرات (ب - 26) مسلحة بالرشاشات الثقيلة والقنابل، فأخذت في استخدام رشاشاتها وقذف قنابلها على مواقع المجاهدين المنتشرين على مقربة من (بو جليل) ومقطع الحجارة الكلسية، ومواقع المجاهدين على مرتفعات (تيزي - غمدان). وبلغ مجموع عدد الطائرات (30) طائرة. بالإضافة إلى عشر طائرات عمودية - هيليكوبتر - منها (6) طائرات نموذج (بانانا) كانت تعمل جيئة وذهابا بين مواقع القتال، وبين القواعد العسكرية في الاقليم. وكانت (تيزي - غمدان) منيعة على نيران العدو بسبب طبيعة أرضها الصخرية، وبسبب ما يتوافر لها من الغابات. كانت معركة اليوم من المعارك الصعبة، القاسية. صعبة، لأنه لم يكن باستطاعة المجاهدين الإسراف في استخدام الذخائر على نحو ما كان يفعل أعداؤهم الذين كانوا ينفقون ذخائرهم دون حدود أو قيود.

وصعبة، لأنه كان على المجاهدين الذين لا يتجاوز عددهم (350) مجاهدا، مجابهة قوات متفوقة بعددها وبوسائطها القتالية تفوقا لا يمكن مقارنته. فمقابل الهاون (60 مم) ورشاش (برن) و (30) رشاشا روسيا. كانت هناك طائرات (ب 470) و (ب - 26) ومدرعات ومدفعية، وكل ما كانت تحفل به ترسانة حلف شمال الأطلسي من ضروب الأسلحة المتنوعة ووسائط القتال المتباينة. وبالرغم من ذلك، فقد بقي المجاهدون هم الأقوى، لأنهم يمتلكون الأسلحة الأكثر فاعلية من تلك التي يمتلكها الاستعماريون: كان المجاهدون يحملون سلاح النصر، والإيمان العميق، وحب الوطن. ولذلك كانوا هم الذين يحبطون باستمرار كل المخططات الجهنمية - الشيطانية - التي يضعها دهاقنة الاستعماريين، وأفضل قادتهم الإستراتيجيين. كان من عادة الاستعماريين الافرنسيين افتتاح عملياتهم بقصف عنيف تقوم به الطائرات ضد مواقع المجاهدين، وذلك قبل زج القوات البرية من مشاة ومدرعات ومدفعية. وقد قال لنا المجاهدون بأن طائرات (ب - 47) وطائرات (الميسترال) لا تميز في قصفها بين الرجال الذين يرتدون الألبسة القاتمة وبين جذوع الأشجار، أو الغياض المتفرقة، وذلك بسبب السرعة الكبيرة التي تحلق بها هذه الطائرات. ولهذا، فقد كان من المحال عليها إجراء قصف دقيق لمواقع المجاهدين المنتشرين فوق أرض شديدة التضاريس، وبمسافات كافية تفصل كل مجاهد عن إخوته بقية المجاهدين، وهو يتمركز في ملجأ تحت الأشجار، أو بين الصخور. وكانت طائرات (بوسارد) هي التي ترمي الشهب الدخانية لتحدد لتلك الطائرات أهدافها. ولكن طائرات (بوسارد) هذه باتت

مرغمة على التحليق وهي مرتفعة فوق سطح الأرض بمسافات عالية، منذ أن امتلك المجاهدون الرشاشات (الخفيفة منها والثقيلة) والتي برهنت على فاعليتها في إسقاط هذه الطائرات. ومقابل ذلك كانت طائرات (ب - 26) و (ت - 6) شديدة التأثير، كبيرة الخطر، على مجاهدي الجيش الذين يفتقرون للأسلحة المضادة للطائرات والقادرة على التعامل مع الطائرات الأقل سرعة، والتي كان باستطاعتها إحكام رماياتها على مجموعات الرجال أثناء تحركهم. باختصار، استمر دوي القصف كالرعد، واستمر المي برشاشات الطائرات، فشمل كل الإقليم الذي بات يهتز بعنف، حتى وصلت تلك الاهتزازات إلى أولئك الذين وقفوا على جبل (غار - مالا) والذين شعروا بالأرض وهي تميد من تحتهم. وكانت قنابل النابالم الضخمة التي قذفتها طائرات (ب - 26) هي التي أثارت هذا النوع من الاهتزازات القوية. بلغت الساعة الحادية عشرة صباحا (1100) ولا زال المجاهدون يحتفظون بمواقعهم على هضاب (تيزي - غمدان) وفي كافة المواقع الأخرى. وهبط ضباب أبيض كثيف على قمم جبل (جرجرة) فغطى منطقة القتال، وغلفها بحجاب سميك. وكان الواقفون على جبل غار مالا) ينظرون إلى سحب الغيوم التي تهبط من تحت أقدامهم بيضاء كالثلج، وهتف كل سكان الإقليم لقدرة الله التي أرسلت الغيم أمنا وسلاما على المجاهدين، ليحميهم من قصف طيران أعدائهم. لم يعد باستطاعة طائرات (ب 47) و (ت 6) متابعة تنفيذ عملياتها، فاضطرت للعودة إلى قواعدها. بينما تابعت طائرات (ب

26) تحليقها فوق الضباب. واستمرت في قذف قنابلها بصورة عمياء، وعلى غير هدى. أفاد المجاهدون كثيرا من هذا الضباب، فنظموا هجمات ضد مجموعات العدو المتفرقة والمنعزلة. واستعادوا المبادأة التي كانوا يمسكون بها في الصباح، ثم جاء القصف الجوي فكاد ينتزعها منهم: وخسر العدو كافة المميزات التي حصل عليها بفضل النيران الكثيفة للطائرات. وجال في خاطر الرقيب (محمد) سؤال لم يلبث أن طرحه ببراءة: (لماذا يهرب جند العدو بالرغم من أنهم هم الأكثر عددا، والأفضل تسليحا وتجهيزا؟). وأجابه الرقيب (العياشي): (لأننا مجاهدون في سبيل الله، نؤمن به وعليه نتوكل، ولأننا نقاتل على أرضنا، ولأننا على استعداد لبذل دمنا عن طيب خاطر، فوق هذه الأرض الطيبة، أرض وطننا الأم. لأننا نقاتل ونحن على قناعة بأنه ليس لحياتنا أية قيمة إلا إذا تحررت بلادنا تحررا كاملا، وخاليا من كل قيد أو شرط. ومقابل ذلك، فإنهم يخوضون معاركهم تنفيذا للأوامر التي يخطها لهم قادتهم العميان. إنهم يعرفون أنهم يقاتلون من أجل قضية خاسرة، محكوم عليها مسبقا بالفشل. ولهذا السبب فإنهم سرعان ما يبحثون عن طريق الفرار. إنهم يختارون باستمرار أضخم الوسائط وأقواها من أجل مجابهتنا، ويزجون ضدنا بالأسلحة التي لا نمتلك الوسائط ضدها .. غير أنهم وهم يفرون من ميادين القتال، يحاولون الظهور بمظهر الأبطال عندما يواجهون المدنيين المحرومين من كل وسائط الدفاع، فيعملون على التضحية بهم، وإبادتهم، في كافة القرى التي يمرون بها. آه يا أخي محمد، كم هو أمر مخجل أن يترك هؤلاء على هواهم ليسحقوا شعبنا طوال (127) عاما) هيا إلى الأمام!.

وأصدر الرقيب (العياشي) أمره إلى عدد من الجماعات بالانقضاض على أقرب القوات الاستعمارية إليهم. وأطلق المجاهدون صيحتهم بصوت واحد (الله أكبر). وأسندوا مسدساتهم الرشاشة إلى (الورك) وضغطت أصابعهم على الزناد، فأفرغوا محتوى مخازن أسلحتهم، وهم يوجهون نيرانهم بدقة وإحكام. واختلط الأمر في وسط الضباب، فكان من المحال التمييز بين المجاهد وبين عدوه الإفرنسي. وارتفع صوت المجاهدين وهم ينشدون نشيدهم الوطني (جزائرنا). ورددت الوهاد والمنحدرات، السهول والجبال، مع المجاهدين (جزائرنا). وغنت معهم نشيدهم. عاد القتال عنيفا، ضاربا، في الساعة (1430) - الثانية والنصف من بعد الظهر -. فقد أخذ الضباب في الاضمحلال شيئا فشيئا. وعادت الطائرات وهي تحلق كالعقبان تبحث عن طرائدها. وقد حلت طائرات (الميسترال) في هذه المرة محل طائرات (ب - 47) وهي طائرات مسلحة بالمدافع وبالرشاشات الثقيلة. وكانت قنابل مدافع هذه الطائرات شديدة الحساسية من أي احتكاك، حتى لو كان هذا الاحتكاك بأوراق الأشجار. ولما كانت الوحدات المتصارعة على أرض المعركة قريبة بعضها جدا من بعض. وقد نزلت القنابل على الوحدات الإفرنسية ذاتها. (وعلى سبيل المثال فقد جرح المجاهد ساقي شعبان وهو من قرية - ولاساصي - بينما كان أسيرا في قبضة الإفرنسيين، وقد أصابته شظية في فخذه من إحدى رمايات طائرة ب - 26 أثناء وجوده بين الجنود الإفرنسيين في (تيزي غمدان) وأصابت معه عددا من الإفرنسيين). شاهد المدنيون والمسبلون. من أماكنهم في قمة (غار مالا)

شدة القتال وضراوته، فقرروا التوجه إلى (سيدي مسعود) حيث توجد (زاوية) في وسط الغابة. أقيم بجوارها مركز للعناية بالجرحى الذين يتم إخلاؤهم، وذلك لمديد العون، ومساعدة المجاهدين فيما قد يحتاجونه وعلى هذا، غادر المدنيون والمسبلون (غار مالا) وأخذوا في التنقل من شجرة إلى شجرة تنفيذا لتعليمات المجاهدين، وذلك فرارا من طائرات (ت 6) التي كانت تحلق فوق رؤوسهم، وهي تعرف تماما أن كل هذه الجبال مأهولة بأعدائها. وقد استغرقت الرحلة إلى (سيدي مسعود) زهاء نصف ساعة. وهناك، تم اللقاء بين الجميع. تمدد عشرات الجرحى تحت الأشجار - على مقربة من الزاوية - بعضهم يئن من الألم، وآخرون يصلون أو يقرؤون القرآن. في حين كان آخرون يصنعون محفات - ناقلات - لحمل الجرحى مستخدمين في ذلك أغصان الأشجار، حتى يتم لهم بواسطتها إخلاء الجرحى وحملهم عندما يهبط ظلام الليل، لنقلهم إلى المستوصفات السرية في الإقليم. تسلح بعض المواطنين والمجاهدين والمسبلين بأسلحة الصيد، وانتظموا في مجموعات مقاتلة انتشرت على هضاب (ميت شيخ) ووزعوا الحراسة على مؤخرة المجاهدين لإجراء مراقبة حذرة هدفها الحيطة من أي تدخل قد يصدر عن معسكر الاستعماريين في (ولا سيدي إبراهيم) ضد مجاهدي (تيزي - غمدان). غير أن القوات الإفرنسية في هذا المعسكر لم تقم بأي تحرك. لم يكن في (سيدي مسعود) إلا ممرضان اثنان محرومين من كل الأدوية، باستثناء بعض أنابيب حبوب الأسبيرين وزجاجات صغيرة من مادة الميكروكروم. ولم يكن هناك طبيب في (سيدي

مسعود) أو في الإقليم كله. وكان المجاهد (بلقاسم) مصابا بتمزق في أضلاعه نجم عن انفجار قنبلة بعض الطائرات، مما كان يتسبب له بآلام مفزعة. وكان لا بد من إيقاف النزف بأية طريقة، فتم تقليم سيقان من نبات طبي يعرف باسم (أم الزير) يعرفه الفلاحون الجبليون جيدا، ويتواصون باستخدامه منذ القدم - ويتناقلون معرفته جيلا عن جيل في هذا الإقليم. وما أن تم تجريف الجروح بتلك العيدان حتى تم وضع أوراق النبات ذاته بإحكام على الجراح. ولم يبق إلا تضميد تلك الجراح بمساعدة قطع من النسيج من تلك المستخدمة في تغطية الأسرة (شرشف). وصل بعض المجاهدين من ميدان المعركة يحملون معهم الأخبار السيئة عن استشهاد المجاهد الرقيب (سالم) في الساعة (1600) إثر إصابته بقنبلة طائرة (ب - 26) بينما كان يقف على مرتفع يحمل اسم (الخطيبة من الصابون - إيسلي ناصابون) وبكى إخوان الشهيد موته، فما عرفوه إلا بطلا شجاعا، ووطنيا متحمسا، الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة في وسط قوات جيش التحرير الوطني. زالت مخاوف المجاهدين وأنصارهم - مسبليهم، إذ لم تحاول القوات الاستعمارية نقل المعارك من (تيزي غمدان) والقيام بتمشيط الإقليم، أو محاولة تطويق المجاهدين. وانتهت المعارك في الساعة (1900) - وعادت القوات الاستعمارية إلى ثكناتها مع غروب الشمس. وتجمعت كتائب المجاهدين في (سيدي مسعود). ولم يكن المجاهدون قد طعموا شيئا طوال النهار، ولم يكن هناك في (سيدي مسعود) ما يسد رمقهم، وكل ما كان هناك هو بعض أباريق القهوة التي تحتفظ بالحرارة (ترمس) وقليلا من زجاجات حليب الماعز التي احتجزت للجرحى.

بلغت خسائر المجاهدين في معارك اليوم (33) شهيدا و (57) جريحا، كانت جراح (13) منهم خطيرة تمنعهم من الحركة. أما الآخرون فكان باستطاعتهم مرافقة المجاهدين والسير على أقدامهم. تكبدت القوات الاستعمارية خسائر فادحة في الأرواح والأعتدة والتجهيزات القتالية. غير أنه كان من الصعب معرفة العدد الدقيق لقتلى العدو وجرحاه. وقتل ثمانية مدنيين في (تيفرين) بنتيجة القصف الجوي. قامت نساء (تيفرين) بدفن شهداء المجاهدين الذين استشهدوا فوق ساحة الشرف، وذلك في اليوم التالي للمعركة (يوم 25 تشرين الأول - اكتوبر 1957). وكانت المجاهدة (حماني عادادا) في طليعة تلك النسوة، ومعروف أن السلطات الاستعمارية قد اعتقلت بعد ذلك المجاهدة (حماني) وبقيت في السجن حتى نهاية الحرب. حمل الرجال جرحاهم على أكتافهم، وغادروا (سيدي مسعود). وتوجهوا إلى قرية تبعد ثلاثين كيلومترا عن (تيفرين).

معركة جبل (منور)

5 - معركة جبل (منور) (*) هجر المستوطنون الافرنسيون مزارعهم ليحولوها إلى مراكز عسكرية تنفيذا للسياسة التي وضعها (لاكوست) في إطار تمشيط البلاد - مسحها، وتقسيمها إلى مربعات (كادرياج) يتم التفتيش فيها مربعا بعد الآخر. واتفقت قيادة المجاهدين في المركزين المتجاورين: (مسكرة) و (المحمدية) - أي المنطقة السادسة والمنطقة الرابعة من الولاية الخامسة - على تنسيق عملياتهما القتالية - العسكرية - والقيام بهجوم عام على المدن والقرى في المنطقتين، في يوم واحد وهو يوم الأحد، وذلك بهدف إثارة الذعر، ونشر الرعب، في وسط الاستعماريين، حتى وهم في عقر ملاجئهم، وكذلك إزعاج الاستعماريين في منتجعاتهم ومراكز لهوهم وعبثهم وأماكن الترفيه في وقت فراغهم مثل (المسارح ودور السينما والمسابح والدوائر الرسمية). وتنفيذا لهذه العملية، كان على الكتيبة الثالثة - في المنطقة

_ (*) للكاتب الجزائري (عبد القادر نهاري) وكان نقيبا - كابتن - في الولاية الخامسة خلال هذه المعركة، ثم أصبح بعد الاستقلال مديرا لمستشفى (مسكرة). والمرجع: RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOUDJAHED, ALGER, 1977, P.P. 93 - 98.

السادسة - بقيادة الملازم (سي محمود) أن تقوم بمجموعة من الهجمات في (مسكرة) وضواحيها: (تيغنيف) و (سونيس) و (البرج) و (هاشم) و (كاشرو). وكان على السرية الثانية من المنطقة المذكورة القيام بالهجوم على (بوحنيفة) و (السيدة) و (شارييه) و (فرانشيتي). أما في المنطقة الرابعة فكان على الملازم (سي رضوان) الهجوم على مدن (سيغ) و (المحمدية) و (روليزاذا) وبقية القرى في الإقليم. واستطاعت قيادة التنسيق في جيش التحرير الوطني إنهاء الاستعدادات والتحضيرات خلال أسبوع واحد، وتم التنفيذ يوم (26 - آب - أوت - 1957) في المنطقتين معا. وخاض المجاهدون معركتهم في (مسكرة) ضد عناصر الفرقة المدرعة الخامسة، ودارت رحى الاشتباكات العنيفة في شوارع المدينة، ولقي المجاهدون دعما قويا من الفدائيين المحليين، في حين كانت النساء الجزائريات من أمهات المجاهدين وإخوتهن تطلقن الزغاريد - اليويو - من شرف منازلهن أو من فوق الأسطحة فتستثرن بزغاريدهن حماسة المجاهدين الذين أمكن لهم تكبيد قوات العدو خسائر فادحة. وقتل عدد كبير من عسكرييه ورجال شرطته. وأكدوا له أنه ما من قوة يمكن لها أن تنال من تصميم الشعب الجزائري وجيش تحريره الوطني. قرر القادة الافرنسيون القيام بمحاولة تحدي جرأة جيش التحرير الوطني، والقيام بهجوم على نطاق واسع. وجرت عملية المسح الأولى في (بني الشقران) في وقت كانت فيه قوات كتيبتي جيش التحرير (لا يزيد مجموع أفرادهما عن 220 مجاهدا) قد اتفقتا على اللقاء في دوار (حبوشة) بجوار (جباى منور) عند (سي عبد القادر ولد سي الحاج) والذي مات ميتة بطولية، إذ أحرقه الافرنسيون حيا في

ملجئه بعد أن رفض نداء القوات الافرنسية التي كانت تطلب إليه - بمكبرات الصوات - أن يلقي سلاحه ويستسلم لها. ... قامت قوات العدو بتنفيذ عملياتها الانتقامية الثانية في (جبل منور) وفي منطقة ملاصقة لأماكن تجمع المجاهدين وذلك في يوم (5 أيلول - سبتمبر - 1957) حيث استطاعت قوات العدو تطويق المجاهدين. وهنا أظهر القائدان المسؤولان عن الكتيبتين (الملازم سي محمود) و (الملازم سي رضوان) كفاءتهما العالية، وشجاعتهما النادرة في مواجهة خطر التطويق، فقررا تلقين قوات العدو الاستعمارية درسا لا ينسى. لم تكن طبيعة الأرض صالحة لعمل المجاهدين، إذ كانت تشكل سهلا من (حبوشة) و (غريس) و (روليزانا). ولم يكن أمام المجاهدين إلا خيار واحد هو الوصول بأي ثمن إلى الذروة المربعة الشكل في جبل منور. وأسندت قيادة الكتيبتين إلى (سي رضوان) نظرا لما يتوافر له من الخبرة القتالية حيث سبق له أن عمل ضابطا في الجيش الافرنسي، وتخرج من كلية فرنسا الحربية، وخدم مرتين في الهند - الصينية، عندما كانت الحرب على أشدها في ذلك الاقليم. وأصدر (سي رضوان) أمره إلى كافة المجاهدين بالانقضاض على قوات العدو، والاستيلاء على خط الذرى في (جبل منور). حتى يصبح بالإمكان السيطرة على الموقف، والهيمنة على القوات الإفرنسية. وأمكن تحقيق هذا الجزء من العملية بنجاح رائع. واحتل المجاهدون مواقعهم على خط الذرى في الليل. وانتشر الخفراء والحرس، واتخذت تدابير الحيطة الضرورية.

تردد في الصباح المبكر صوت أحد الخفراء - المراقبين - وهو يرسل إنذاره (إنذار! قافلة ضخمة من المدرعات تتقدم من اتجاه الغرب - اتجاه مسكرة). ولم يخلص هذا الخفير من أداء واجبه، حتى تردد صوت خفير آخر - فى الاتجاه المقابل - وهو ينادي: (إنذار! قافلة أخرى تتقدم من اتجاه الشرق - اتجاه روليزانا،. ومضت دقائق فقط، وبدأت طائرات (ت - 6) برمي نيران رشاشاتها على الجبل في محاولة للقضاء على المقاومة في بعض المناطق تمهيدا للسماح للطائرات العمودية (هيليكوبتر - بانانا) بانزال قواتها من المظليين واحتلال النقاط الاستراتيجية. وفهم الأخ المجاهد (سي رضوان) مناورة القادة العسكريين الافرنسيين فأصدر أمره إلى المجاهدين بتركيب الحراب، والتقدم صعدا فوق مجنبات الجبل. وتدخل الطيران بسرعة لإعاقة قوة مجاهدي جيش التحرير الوطني عن بلوغ المرتفعات الجبلية. وحدثت اشتباكات قاسية خسر فيها المجاهدون (17) شهيدا. غير أنهم نجحوا في الوصول إلى الخط الذي يريدون بلوغه. ودارت رحى صراع بطولي لمدة ساعتين، غير أن المجاهدين استطاعوا في الساعة (800) أن يسيطروا على الموقف سيطرة تامة، وذلك على الرغم من تدخل الطيران، وعلى الرغم أيضا من القصف المدفعي الشديد وعندئذ أصدر (سي رضوان) أوامره إلى كافة المجاهدين، بحفر الحفر الفردية، والاقتصاد في الذخائر. وعدم الرمي على جند العدو إلا عند اقترابهم لمسافة تنقص عن مائة متر عن مواقع المجاهدين. حدد العدو بدقة مواقع المجاهدين على خط ذرى الجبل، فعمل على إجراء عملية تطويق بعيدة، وأحكم الحصار على كافة نقاط المرور. واستقدم قوات دعم من كافة المراكز العسكرية

القريبة، فجاءت النجدات من: (تيارت) و (سيده) و (روليزانا) و (مسكرة) و (وهران). وأشيع أن قوات لحلف شمال الأطلسي ستقوم بالإنزال فوق السهول المحيطة (تيغنيف) و (روليزانا). قامت المدفعية الثقيلة للعدو بقصف مواقع المجاهدين لمدة ساعتين. وبدأ المشاة بعد ذلك هجومهم، وأخذوا في تسلق مجنبات الجبل، على اتجاه المجاهدين، حيث الأرض مكشوفة وتسمح بقتال الالتحام - جسما لجسم - مع المجاهدين. واستمر الصراع الدموي الرهيب لمدة ساعة كاملة، وتمكن مجاهدو جيش التحرير الوطني من الدفاع عن مواقعهم بحزم، ولم يتمكن ولو فصيل واحد من قوة الأعداء، من الثبات أو الوصول إلى هدفه. وأخذت القوات الافرنسية بالتراجع، وعندها تحولوا إلى أهداف رائعة لنيران رشاشات المجاهدين، كما أخذ مهرة الرماة - القناصة - من المجاهدين، بممارسة مهاراتهم، فقتلوا عددا كبيرا من جند العدو الذين حاولوا البقاء في مواقعهم على مجنبات الجبل وسفوحه. أصيب العدو بالذعر، فطلب إلى مدفعيته الثقيلة بمعاودة قصف مواقع المجاهدين. كما أصدر أوامره إلى قاعدته الجوية (سينيا - في وهران) وقاعدته الأخرى في (تييرسفيل - مسكرة) بالتدخل ضد مواقع المجاهدين. وانصبت حمم القنابل بكثافة رهيبة على الجبل حتى اعتقد الضباط الافرنسيون بأنه لم يبق للمجاهدين وجود فوق المنطقة. فأصدروا أوامرهم، ودفعوا الوحدات للهجوم مرة ثانية. وقاوم المجاهدون مرة ثانية مقاومة ضارية تقدم القوات الافرنسية، وتمسكوا، بعناد مثير، بمواقعهم على خط الذرى، وحافظوا على مواقعهم وخنادقهم. وتوقف هجوم القوات الافرنسية، وأخذ جنود الأعداء يتدافعون في محاولة ليأخذ كل واحد منهم الملجأ الأفضل,

الذي يحميه. وسمع المجاهدون من مراكزهم صوت قائد إفرنسي يصيح بجنوده: (لتنحرف السرية السادسة قليلا نحو اليمين) ويدمدم الجنود الافرنسيون بصوت يسمعه المجاهدون: (أجل! انحرفوا إلى اليمين قليلا، وأنت تبقى دائما في الخلف!). وتأكد المجاهدون - مرة أخرى - بأن العدو قد أصيب بالإحباط على الرغم من تفوقه الساحق بالقوى والأسلحة والتجهيزات القتالية، وأن الروح المعنوية لجنوده قد بلغت الحضيض. المهم في الأمر هو أن قوات العدو قد ابتعدت، ملتجئة إلى الهضاب المجاورة لتلك التي يحتلها المجاهدون. زج العدو الافرنسي سربا من الطيران الذي قصف مواقع المجاهدين بقنابل النابالم. وأدرك الأخ المجاهد (سي رضوان) أن العدو بات يرفض الدخول مع المجاهدين في قتال جبهي، وذلك على الرغم من تفوقه بالقوى والوسائط، وأنه لجأ إلى الطيران حتى يبعد مجاهدي جيش التحرير الوطني عن مواقعهم القتالية. فأصدر (سي رضوان) أوامره إلى معاونيه بجمع المعلومات عن الموقف، كما أمر المجاهدين بالاستعداد للرد على تدخل الطيران بكافة الأسلحة - الفردية - علاوة على الرشاشات الاجماعية. وبقي المجاهدون في حفرهم الفردية، غير أن الحرارة اللاهبة، والغبار الكثيف، أثقلا على المجاهدين تنفسهم إلا بصعوبة كما نفد الماء من المجاهدين. وتبين أن هناك مجاهدين اثنين قد استشهدا، بالاضافة إلى أربعة جرحى، وأضيف هؤلاء إلى السبعة عشر شهيدا الذين قضوا في معركة الصباح. وبقيت الروح المعنوية للمجاهدين عالية فعاد (سي رضوان) وأصدر أمره من جديد بتشكيل سد ناري ضد الطائرات المغيرة

بلغت حمى القتال ذروتها في الساعة (1600) تقريبا. وقاوم المجاهدون ببطولة نادرة رمايات الطائرات، وأمكن لهم إسقاط عدد منها واحتفظ كل مجاهد بموقعه، وحافظ على هدوئه والتحكم بأعصابه على الرغم من إصابة عدد من المجاهدين بقنابل النابالم، واستشهاد بعضهم. كان المستشار السياسي للكتيبة (الشهيد سي بلقاسم) يغادر حفرته في كل مرة ينجح فيها المجاهدون في إسقاط طائرة للعدو، فيركع على ركبتيه، ويتوجه إلى القبلة - الكعبة الشريفة - ويرفع رأسه إلى السماء مبتهلا: الله أكبر. ولتحيا الجزائر، وليسقط الاستعماريون!. استطاع مجاهدو الكتيبتين اختراق دائرة الحصار، بعد نهار طويل من الصراع المرير. وحملوا على ظهورهم الجرحى الذين كان من بينهم البطل (سي رضوان). واتجه رجال كتيبة المنطقة الرابعة نحو جبل (تيميكسي - الى الشرق من مسكره). ورفع الملازم (سي محمود) قائد كتيبة المنطقة السادسة، تقريره عن المعركة الى القيادة العامة لمنطقته. وقد جاء في هذا التقرير (كان لا بد من فك الاشتباك - وتكبدنا خسائر فادحة - غير أن خسائر العدو كانت كبيرة جدا. لقد أمكن تدمير هيبة العدو، وإحباط روحه المعنوية. وإصابة قواته بالذعر. وهو يتابع أعماله الانتقامية، ويقوم بأعمال المسح. وقد زج قواته في هجوم جديد إلى الشرق من الجبل، في محاولة للوصول إلى موقع الكتيبة - جنوب روليزانا - وأسر الجرحى). ومضى يومان على معارك ذلك النهار الظافر، عندما حقق العدو نجاحا في اكتشاف مستوصف للمجاهدين يقع في السهل، عند دوار القنطرة، حيث قرية (سيدي محمد بن عودة) وكان هذا

المستوصف يضم عددا من الجرحى، بينهم المجاهد الملازم (سي رضوان) والذي كان مصابا بحروق من نار قنابل النابالم. ما إن علمت قيادة عمليات العدو بهذا الخبر حتى هتفت لما أحرزته - من نصر: وأسرع ضباط القيادة العليا للجيش الافرنسي نحو المكان لرؤية هذا الملازم الشهير باسم (سي رضوان) والذي أحبط لهم مخططات عملياتهم في مقاطعته، من خلال ما أحرزه من انتصارات عليهم في اشتباك المحمدية (بيريغو قديما) في سنة 1956، وفي معركة (براهما) وكمين (تيارت) ومعركة (أوارسنيس). وكان الملازم (سي رضوان) قد نجح في إدخال المجاهدين إلى معسكر الجنود الافرنسيين في (بيريغو) وهم متنكرون في ثياب مفرزة من رجال الشرطة العسكرية الافرنسية. وبذلك استطاع المجاهدون استخدام نيران رشاشاتهم للرمي على المسرح والسينما وغيرهما. فنشروا الرعب في كل مكان - لاسيما في وسط المستوطنين الافرنسيين (الكولون). كان من بين الضباط القادة الذين جاؤوا لرؤية الملازم (سي رضوان) العقيد (غاسك) قائد الكتيبة (20) من قوات المظليين المغاوير (كوماندو - باراشوتيست) ومعه ملازمه قاتل المدنيين (باسيلي) المكلف بعمل المكتب الثاني (الاستخبارات العسكرية) والذي أطلق على نفسه اسم (ابن عزيز) بهدف خداع المسلمين وتضليلهم. وكان هذا الضابط الافرنسي قد أظهر وحشية في تعامله مع أهالي (تيمازينا) وقتل بلؤم ونذالة (52) مدنيا. وكان خلال خدمته في مركز النقل والفرز (مزرعة شابو قديما) قد عمل على قتل

أكثر من ألف مدني جزائري. ومن أساليبه القذرة أنه كان يأمر المدنيين بالعدو - الركض - أمامه، ثم يرميهم بنيران رشاشه في ظهورهم. ويعلن بعدئذ أنه قتلهم (خلال محاولتهم الفرار). بدأ ظباط الاستخبارات الافرنسيون (المكتب الثاني) باستجواب الأخ (سي رضوان) الذي شعر مرة بالعطش فطلب إعطاءه جرعة ماء من الجندي الإفرنسي الذي كان يقف لحراسته. غير أن العقيد (غاسك) أجاب بلهجة جافة، وبصوت عال: (لا - ولا نقطة ماء) وأدار المجاهد (سي رضوان) رأسه المحترق، ونظر إلى هذا الضابط القائد، وقال له: (ابتعد عني، أيها اللئيم القذر، إنك لا تخجل من نفسك! إنك لست رجلا جديرا بحمل اسم الرجل، بل ولا حتى بحمل رتبة ظابط. بالأمس فقط، وأثناء الاشتباك، كنتم تختبئون بين نسائكم. والآن تجد في نفسك الجرأة لإصدار أوامرك ضد جريح من جرحى الحرب. وكان لزاما عليك قبل كل شيء أن تظهر جرأتك أمام رجالك). وأعقب ذلك تبادل الهمسات المسموعة في وسط الضباط الافرنسيين. توفي المجاهد الملازم (سي رضوان) بعد ذلك بأسبوع، متأثرا بجراحه، ودفن في (روليزانا) إلى جوار قبر القائد (زغلول). من أنه بقي حيا في ذكراه بين إخوانه مجاهدي المنطقتين الرابعة والسادسة، سواء هؤلاء الذين عرفوه عن قرب، أو أولئك الذين لم يعرفوه إلا عن بعد.

المقاومة في (بوهندس)

6 - المقاومة في (بوهندس) (*) عندما أقبل شهر أيلول - سبتمبر - 1957. كان قد مضى على الثورة الجزائرية ثلاث أعوام تقريبا من يوم اندلاعها في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954، ففي ذلك اليوم التاريخي، قررت الطليعة الثورية حمل السلاح من أجل وضع حد لليل الاستعمار المظلم، وتمهيد السبيل أمام الشعب الجزائري لإقامة دولته التي تجسد له سيادته. وفي تلك الفترة من سنة 1957، كانت الثورة قد قطعت شوطا بعيدا عن بداياتها الصعبة. واستجاب الشعب بكل فئاته لنداء الثورة، وأقبل بشكل إجماعي على التطوع لدعم حرب التحرير الوطني. لم تكن (الجروة) في الولاية الرابعة متخلفة عن الركب الثوري الذي سارت فيه شمال - قسنطينة واوريس ووهران ومنطقة القبائل الكبرى. وكان قد مضى عام تقريبا على تطبيق ما تم اتخاذه من مقررات في (مؤتمر الصومام) بنجاح رائع، فأقيمت المجالس

_ (*) للكاتب الجزائري (محمد روبيغا) وهو مجاهد قديم عاش أحداث المقاومة في مشتى (الأطلس البليدي) - والمرجع: RECITS DE FEU. (SNED) S.N. EL MOUDJAHED , ALGER 1977, P P. 99 - 108.

الادارية في الولاية والأقاليم - المناطق - والمقاطعات منذ اجتماع الولاية فى أيلول - سبتمبر - 1956. وأخذت المجالس الشعبية في ممارسة دورها المتعاظم يوما بعد يوم، في التأثير بالحياة اليومية لجماهير الشعب. ونظمت في مناطق (باليسترو) و (بليدا) و (مليانة) قوات من الوحدات المختارة من المغاوير. واستطاعت هذه الوحدات إلحاق الهزائم المتتالية بالقوات الافرنسية في كل أنحاء الولاية. وأكدت الولاية الرابعة بذلك أنها قادرة على منافسة بقية الولايات في تطوير الثورة المسلحة. وهيمنت الحماسة للثورة على كتلة المواطنين جميعهم بمثل ما كانت مهيمنة على المجاهدين في جيش التحرير الوطني. وفي هذه الفترة، نزلت بالقوات الافرنسية خسائر فادحة، فأخذت القيادة الاستعمارية في الاستعداد لإبادة قرية وإزالتها من على الأرض الجزائرية، ووقع الخيار على (دشرة بوهندس) التي تعرضت للإبادة في يوم الجمعة من أيام شهر أيلول - سبتمبر - 1957. لم يكن فصل الخريف قد أطل على الجزائر، غير أن رياحه قد أخذت في حمل بشائر وصوله إلى الجبال: فاصفرت أوراق الأشجار، واضطرت الثمار التي لم تنضج بعد إلى تأخير نضجها حتى وقت متأخر يقع بين فصلي الصيف والخريف (الثمار الرجعية). وكانت (بوهندس) تحتل ضهرة في الأطلس البليدي. وتستند في ظهرها إلى نهر الشريعة الذي يشق طريقه عبر سهل صغير تحيط به الغابات. وهو المنظر الذي كثيرا ما تقع عليه العين في الجزائر، فهنا غابات كثيفة، وهناك منطقة سهلية مفتوحة، تفسح المجال لظهور الشجيرات القصيرة التي تنبت فوق تربة رملية أو أرض صخرية تفتقر إلى الانتظام في استقبال المياه الشتوية.

وقد سكنت في قرية (بوهندس) مئات العائلات التي اعتادت على العيش على الزراعة الموسمية، وزراعة الأشجار المثمرة، ولم تكن (بوهندس) تفتقر إلى الماء، فالماء فيها متوافر. غير أنها أخذت في العيش اعتبارا من سنة 1957 لقضية الثورة، بأكثر من عيشها لأمور حياتها اليومية. فالضهرة كلها تعيش من أجل الجهاد والصراع، وهذا ما أنساها أمورها المادية الثانوية، ولم تعد تظهر تجاهها أي اهتمام، وأدى بها ذلك إلى أن تصبح أكثر يسرا، وأقل معاناة من الصعوبات. وأخذت (الضهرة كلها) تعيش على مثلها الأعلى الذي كانت تعيشه الجزائر. أما (بوهندس) فقد باتت قادرة على تأمين الطعام لا لسكانها فقط، وإنما لقوات جيش التحرير الوطني التي كانت تنزل على ضيافة القرية، عندما تضطرها الظروف إلى اللجوء إليها. ولم تكن قلوب الفلاحين في هذه الفترة منفتحة على الزراعة، بل أصبحت هناك قضية أكثر خطورة، وأكثر أهمية تملأ قلوبهم وتشغلهم. وعلى هذا فقد أخذوا في تنظيم قريتهم (بوهندس) حتى تتكيف مع ظروف الحياة الجديدة. واعتبرت القرية أن الحياة السابقة التي كانت تعيشها هي نموذح من العيش لا يمكن قبوله، في حين يندلع الصراع في كل مكان ضد القمع وضد الضغط، وضد المعتصبين الغرباء الذين أرادوا إخضاع شعب أبي بالقوة، وتجريده من فضائله وشرفه بفرض قوانينهم على أرض الآباء والأجداد وقام أهل (بوهندس) بتنفيذ مجموعة من الأعمال، قدر استطاعتهم؛ مثل حفر الملاجىء وتنظيم مجموعات الأنصار - المسبلين - القادرين على تحويل حياة الغزاة إلى جحيم وبؤس مقيم، مع تأمين الدفاع الداتي عن أنفسهم وتنظيم حرس يقظ باستمرار. وتقديم الأدلاء - الكشافين - لقوات جيش التحرير الوطني

حتى تستطيع توجيه ضرباتها إلى قوات العدو، من غير أن تصاب بضرر أو أذى. هذا بالاضافة إلى استئصال شأفة الخونة والعملاء. وجمع المعلومات الدقيقة عن كل ما يتعلق بالصراع حتى اشتهر أهالي (بوهندس) بأنهم من أكثر الناس كفاءة وقدرة في أعمال الاستطلاع. وكانت هذه القدرة الكامنة في مقاومة العدو تبرز يوما بعد يوم وكان ذلك لسوء الحظ سببا في اتخاذ الاستعماريين قرارهم بشأن مصير (بوهندس). غير أن هذا القرار لم يدخل الخوف إلى قلواب هؤلاء الجزائريين الشجعان، الذين كانوا يحبون أرضهم، وشعبهم، وجيشهم، حبا لم تعرفه إلا قلة من الشعوب المتمسكة بأصالتها وفضائلها. ولم تكن هذه (الدشرة) تخشى أبدا أن تستيقظ يوما على مصير كمصير أختها (قرية الجرة) التي دمرها الاستعماريون في سنة 1956. وتبلورت في وسط القرية خلال هذه الفترة أمنية، وهي أنه إذا كان لا بد من الموت، فيجب مقاومة الاستعماريين حتى لا يأخذوا القرية على حين غرة، ويبيدوا أهلها بنذالة وجبن، وبحيث يستطيع الرجال المقاومة حتى الاستشهاد وأسلحتهم في أيديهم. لقد ماتت (بوهندس) يوم الجمعة من أيام شهر ايلول - سبتمبر -. ولكنها ماتت كما أراد أهلها وتمنوه وكانت ميتتها على أيدي الأنذال الحاقدين من مظليي الفرقة العاشرة لقوات المظليين الافرنسيين والذين اجتاحوا في طريقهم وأزالوا عشرات المشاتي. والتي شيدها أهلها بجهدهم وعرقهم يوما بعد يوم وسنة بعد سنة، حتى أصبحت وافرة الظلال، كثيرة الخيرات والثمرات. ولم يكن تدمير هذه (المشاتي) إلا برهانا جديدا على بربرية الاستعماريين،

وحقدهم الدفين على شعب يعمل على استرجاع حقه الذي لا ينكر في حياة هو جدير بها وأهلا لها. لقد ماتت (بوهندس) يوم الجمعة من أيام شهر أيلول - سبتمبر -. وفي عشية ذلك اليوم، أو بالأحرى في صباحه، كانت قد استقبلت المغاوير الفدائيين الشهيرين (بمغاوير باليسترو) والذين لم يصلوا إلى (بوهندس) إلا بعد مسيرة شاقة. وكانت (الضهرة كلها) قد وقفت على قدم وساق لاستقبال أبنائها المغاوير الذين دفنوا قوات العدو في (زبار بار) و (وادلاكرا) وأماكن أخرى كثيرة - ولم تكن (بو هندس) تتسع لفرحتها قادرة على استيعاب فرحتها أو احتواء بهجتها وهي تستقبل مجاهديها الظافرين لقد كانت سعادتها أكبر من قدرتها على الاحتمال. أخيرا! رأى أهل (بو هندس) عددا من القادة الذين طالما رددوا أسماءهم على شفاههم وتناقلوا أخبارهم، وأحبوهم من غير معرفة بهم. لقد وقف أهل (بو هندس) شيبا وشبابا، رجالا ونساء وكلهم يريد استقبال الأبطال، والاستماع منهم عن قصصهم، والاستيضاح كيف أمكن لهم الانتصار على الافرنسيين في ذلك الاشتباك، أو تلك المعركة، أو ذاك الكمين الخ ... ؟ ... ولم تتعب (بوهندس)، ولم يتعب أهلها، من سماع ما يرغبون معرفته: لم نكن نعرف الخوف أبدا، كان العدو هو الخائف باستمرار لأنه يحارب ويقاتل من أجل قضية جائرة ومعركة خاسرة. اشتهرت (بوهندس) بطبيعتها الجميلة، وكان على قائد الفدائيين المغاوير مشاهدة هذه الطبيعة مع بزوغ فجر اليوم الذي وصل فيه للقيام باستطلاع المنطقة، وكانت (الضهرة) تقع تحت هيمنة المنحدرات الحادة للذرى الواقعة فيما وراء الشريعة. وتقع

(بوهندس) في أسفل السفوح حيث يمر نهر يشق طريقه عبر الوادي الذي يحتضنه. وإلى يمين الضهرة، حيث اتجاه الغرب، يصعد الطريق المتعرج (الاستراتيجي) والذي يصل (الشفة) بمدينة (المدية) ويتفرع عن هذا الطريق عدد من الدروب والسالك التي تصل إلى الذرى المهيمنة على (بوهندس). ... اتخذت كافة ترتيبات الحيطة والأمن: وتمركزت الرشاشات في أماكنها، كما انتشر الفدائيون والمجاهدون يحملون بواريدهم في الأماكن المناسبة لهم. ونظمت الدوريات. وكان لا يزال أمام مجاهدي المغاوير متسع من الوقت للاختلاط برجال (الضهرة). وفي هذا اليوم خصصت النساء وقتهن لسخرة الغسيل، فمضين منذ الصباح المبكر لجمع ما يمكن تنظيفه وغسيله. هذا فيما خصصت فترة بعد ظهر يوم الخميس لعقد اجتماع سياسي يتم فيه الاتفاق ما بين قادة المغاوير، وقادة المجاهدين المحليين وقادة الفدائيين على خطة العمل في الولاية. وفي هذا الاجتماع، تمت عملية تقويم النجاحات التي حققها جيش التحرير الوطني في الولاية الرابعة، مع عرض لإنجازات قوات جيش التحرير الوطني في الولايات الأخرى، وكذلك الموقف السياسي للثورة. ونوقشت الأساليب التعبوية (التكتيكية) للعدو، وما يعانيه هذا العدو من عزلة ديبلوماسية. لقد كان الصراع المسلح لجيش التحرير يحقق كل يوم انتصارات جديدة وكان على المجاهدين طرح بعض المسائل، وعرض الصعوبات التي يصطدمون بها، وتقديم وجيز عن الدروس المستخلصة من تجربتهم القتالية في حربهم الثورية. وتحدث المسؤولون في (بوهندس) عن التحولات التي طرأت على

حياتهم، وعن التدابير التي تم اتخاذها ضد القصف الجوي للعدو (إقامة الملاجيء). وكذلك عن تدابير الحيطة والأمن التي تم اتخاذها، وهجماته المسبلين على مزارع المستوطنين. وقدموا تقريرا عن نشاط الأدلاء والخفراء المراقبين. وانتهى الاجتماع بقراءة تقرير عن الدعم الذي يقدمه الشعب بفئاته المختلفة لقوات الثورة، وتقويم ظاهرة التضامن المثيرة بين كل قوى الشعب للوصول إلى أهدافه في السلام والتقدم. انصرف بعد ذلك كل واحد للقيام بالأعمال التي يتطلبها الموقف. أما قائد المغاوير الفدائيين (علي خوجه) فقد مضى في سبيله لتفتيش المجاهدين القائمين بواجب الحراسة، وتفقد المسبلين - الأنصار - الذين تمركزوا بعيدا عن (الضهرة). واقترب المساء، وغابت الشمس كعادتها وراء الأفق، وهبط الظلام، وكان وجود المغاوير الفدائيين كافيا لتبديد أية مخاوف - إن وجدت - بين سكان الضهرة، وجلب الطمأنينة والسكون إلى نفوسهم. عندما أنهى قائد المغاوير الفدائيين جولته، توجه إلى مشتى المسؤول عن عقد الاجتماع الشعبي للمسؤولين في مجالس الولاية عن المنطقة الثانية والإقليم الثاني ممن كانوا حضورا في (بوهندس). وما أن بدأ النقاش السياسي في الاجتماع حتى وصل أحد الأنصار - المسبلين - فأعلم المساعد: بأن هناك حركة كثيفة لرتل عدو يضم دبابات وعربات مدرعة نصف مزنجرة (هاف تراك) ومركبات كبيرة لنقل الجند (كميونات). وأن هذا الرتل يسير على الطريق المتفرع عن طريق (المدية). وأن كل الآليات تسير وهي مطفأة الأنوار بالرغم من ظلمة الليل. ولم تمض أكثر من دقائق قليلة حتى أقبل مسبلان - نصيران - وقدما تقريرهما عن مشاهدتهما

لتحركات قوات راجلة، لوحدات من المشاة - تسير على امتداد الوادي، وعلى خط ذرى الجبال. وفي هذا الوقت ذاته انفجرت نيران غزيرة على الذرى، فأكدت المعلومات عن قيام العدو بالهجوم. واستعد الفدائيون المغاوير لخوض المعركة خلال دقائق قليلة. واستدعى قائد المغاوير الفدائيين إليه، من كان حاضرا من المسؤولين، وطلب إليهم إبداء وجهات نظرهم في السلوك الواجب اتباعه لمجابهة الموقف. وأثناء ذلك توافرت معلومات أكثر دقة أكدت أن هدف العملية الافرنسية هو تطويق المنطقة المحيطة بقرية (بوهندس). ويظهر أن العدو كان يجهل وجود المغاوير الفدائيين في المنطقة، وأن ما تم تنفيذه في هذه الأمسية - الخميس - هو استعداد لعملية تمشيط - مسح - استعدادا لعملية اليوم التالي -الجمعة -. وكانت الاقتراحات التي قدمها المسؤولون تتركز حول حلين:…الأول هو الإفادة من ظلمة الليل لاختراق دائرة الحصار وتركيز الجهد الرئيسي للهجوم من أجل تحقيق الهدف الرئيسي وهو إحداث ثغرة للوصول إلى النهر. أما الحل الثاني، فهو البقاء في دائرة الحصار، لمجابهة قوة العدو في منتصف اليوم التالي - الجمعة - وتكبيدها أفدح الخسائر. وكان رأي المسؤول في (بوهندس) هو الرأي الحاسم إذ قال: (بأن الإفادة من ظلمة الليل لاجراء الاختراق هو - بالنسبة لجيش التحرير الوطني - بمثابة انسحاب من (الضهرة) وتعريضها لانتقام تجار الحروب. وإذا كان لا بد من الموت، فيجب أن نموت بشرف في ميدان القتال). واتخذ المغوار (علي خوجة) قراره، وذلك بالدخول في معركة مكشوفة مع العدو، وقبول التحدي المفروض، وقام (علي

خوجة) بإملاء أوامر القتال، واتخاذ المواقف القتالية كالتالي: أولا: إذا زج العدو الكتلة الرئيسية من قواته عبر الذرى والمجنبة الغربية، فانه يجب على المغاوير الانتشار على امتداد النهر والمنحدرات الشرقية. ثانيا: يجب على المغاوير قتال العدو فوق كل شبر من الأرض عند تقدمه من خط الذرى نحو الوادي. ثالثا: على المغاوير الانقسام إلى زمر. عند التحرك إلى نقطة الازدلاف - الاجتماع - الكائنة على خط الذرى. والانتقال من هناك إلى النهر، وعلى كل زمرة أن تصطحب معها واحدا من المسبلين - الأنصار - ليعمل دليلا للزمرة. بقيت النقطة الأكثر حساسية في الموقف، وهي التفكير بمصير النساء والأطفال والشيوخ من أهالي (بوهندس).وقد تمسك المسؤولون في (الضهرة) بموقفهم تجاه هذه النقطة ولم يتراجعوا عنه: يبقى العجزة والنساء والأطفال في الملاجىء. أما بقية الرجال من غير العجزة، فيبقون مع رجال جيش التحرير ويتبعونهم، سواء كانوا يحملون أسلحة أو لا يحملونها .. وعندما نوقشوا فيما يتضمنه هذا الموقف من الخطورة، كان جوابهم: بأنه من الأفضل لهم أن يستشهدوا في ميدان الجهاد من أن يقتلوا غيلة وفي مواقف الضعف والجبن. مضت ساعات ليلة الخميس - الجمعة متثاقلة بطيئة، واستسلم كل واحد إلى أفكاره وتأملاته: ترى ماذا سيحل بقرية (بوهندس)؟ ... وهل سينجح العدو في اكتشاف ملاجىء النساء والأطفال؟ ... وهل أن القرار الذي تم اتخاذه هو القرار الأمثل والأفضل، أم هناك حلول أخرى؟ .. إن المغاوير الفدائيين لا

يعرفون الطبيعة الطبوغرافية للمشتى، فهل كان القرار الذي اتخذه قائدهم استجابة لفكرة لم تدرس بصورة جيدة؟ وهكذا كان تفكير كل واحد موجه إلى ما فيه المصلحة العامة. ولم يكن هناك بينهم من فكر في شخصه، أو في أمر يهمه وحده. كان كل جندي يشعر بنوع من القلق قبل خوض المعركة؛ فهل كان المجاهدون يشعرون بهذا القلق وهم جند الثورة؟ لقد خلق الإنسان في الحياة ليعيشها - يقينا - ولكن في ظروف مغايرة لتلك التي تتطلبها التضحية من كل فرد لرفع راية الجهاد المقدس والذي يخوضه شعب بأكمله. لقد كان دور المجاهد هو الريادة والطليعة أمام حركة شاملة. وقد فرض عليه هذا الدور التاريخي احتمال كافة النتائج، ومجابهة أخطرها، بهدوء مطلق ونكران للذات. وكما يحمل كل واحد في ذاته - أو في الأنا - حوافزه للدفاع عن شخصه وعن ذويه. فقد كان لا بد له من ضمان التجاوزات الضرورية لحدود (الأنا) عندما يتطلب الموقف بعث الأمة التي ينتمي إليها. طلع سحر يوم الجمعة أخيرا. وغمر الضباب الكثيف (بوهندس) وحمل السحر معه نسمات رطبة حلوة أنعشت نفوس المجاهدين. لقد مضت ليلة الاستنفار، وحدث نوع من الراحة والاسترخاء. ثم أقبل النهار مضيئا، مشرقا، يحمل معه أملا متجددا هو: إظهار قوة العقيدة والفضائل التي يتحلى بها المجاهدون. ظهرت طائرات الاستطلاع الأولى في سماء (بوهندس). وأخذت في توجيه الرمايات التمهيدية للمدفعية. ومضت ساعة كانت خلالها مدفعية العدو الرابضة في المراكز المحيطة، تصب ثقل قنابلها لسحق (الضهرة الشهيدة). واشتركت مدافع الدبابات في هذا القصف المركز. وكانت طائرات الاستطلاع تتابع بأجهزتها رصد

الرمايات وتوجيهها لتدمير ما بقي من (المشاتي) القائمة في (بوهندس). وأثناء ذلك كان (الاستراتيجيون) الذين قدموا (البرهان) على علمهم ومعرفتهم تحت سماء بلاد أخرى، يستعدون الآن لإطلاق وحداتهم المختارة في الهجوم وهذه الوحدات هي (المظليون). ترى ألم تكن فرقة المظليين العاشرة تخشى من التعرض للسخرية، أو الفشل، وهي الفرقة المختارة في (الحرب ضد العصابات) وهم يزجونها للهجوم على (مشتى)؟ ... لقد كلفت فرقة المظليين العاشرة بالاستيلاء على المناطق المحصنة، فتصورت هذه الفرقة أنها ستهاجم منطقة، مثل منطقة (خط ماجينو الذي لا يقهر). وكانت تلك هي المأساة التي عاشتها الأرض الجزائرية. انتهت فترة التمهيد المدفعي، وأصدرت القيادة الإفرنسية أوامرها بتضييق حلقات الحصار حول مشتى (بوهندس). وأسرع المظليون - أصحاب القبعات الحمراء والثياب المموهة - بالتقدم على منحدرات المشتى من كل الاتجاهات. وأصدر قائد المجاهدين أمرا بعدم الرمي على الأعداء - المظليين - إلا عندما يصل هؤلاء الى مسافة (رمي الحجر) من مواقع المجاهدين. وهكذا بدأت حشود العدو بالتقدم، وفي اللحظة المناسبة، فتح المجاهدون نيران أسلحتهم، فتمزقت صفوف المظليين الذين كانوا يهرولون بخطوات متسارعة، وسقط جنودهم على الأرض، وحاول الأحياء منهم التشبث بمواقفهم التي وصلوا إليها، غير أن قيادتهم أصدرت إليهم الأمر بالتراجع، وذلك لإفساح المجال أمام نوبة جديدة من (التمهيد المدفعي) وأخذت القنابل في التساقط بغزارة، وبشكل أعمى، حتى حرثت المنحدرات حرثا بالقذائف. وكانت مجموعات

الفدائيين المجاهدين تغير ما بين فترة وأخرى مواقعها. وقامت قوات العدو بهجومها الثاني، غير أن الفشل والدمار كانا من نصيب هذا الهجوم أيضا. انقسمت قوة الفدائيين المجاهدين إلى مجموعات صغرى، واحتلت مواقع متباعدة جغرافيا، غير أنها بقيت تعمل كما لوكانت رجلا واحدا، مستخدمة كل قدراتها النارية بكفاءة عالية. فرماة الرشاشات الخفيفة كانوا يستخدمون نيرانهم وكأنهم يعزفون على أسلحتهم لحنا شجيا، تطرب له آذان الرجال الجزائريين. وكان لكل رام من رماة (علي خوجه) طريقته الخاصة في إحكام رماياته، وكان كل واحد يعرف كيف يعزف على أداته الموسيقية الخاصة به، ومتى يجب أن يعزف. ليس ذلك فحسب، بل إن كل مجاهد كان يعرف اللحظة المناسبة التي سيبدأ فيها هذا السلاح أو ذاك في التعامل مع العدو. واكتشف العدو مدى الكارثة التي تنتظره على امتداد الجبهة، وعرف قدرة هذه القوة التي تجابهها قواته والتي تمكت من دفن الانساق الأولى من الهجومين فوق المنحدرات. وإذن، فليست (بوهندس) وحدها في المعركة، فالمنتقمون من مجاهدي جيش التحرير الوطني يقفون سدا بين العدو، وبين الضهرة. وقد أكدوا مرة أخرى أنهم في خدمة شعبهم. اضطرت قيادة فرقة المظليين العاشرة لطلب نجدات جديدة، وقوات دعم إضافية، من أجل مجابهة (مغاوير باليسترو). كما طلبت قيادة قوات العدو أيضا تدخل الطيران، وزج القوات المحمولة جوا. وأظهرت الفرقة العاشرة للمظليين بذلك عجزها عن مجابهة قوة المغاوير التي يقودها (علي خوجة). ارتفع قرص الشمس حتى بلغ السمت تقريبا. وأشارت عقارب

الساعة إلى الحادية عشرة ظهرا (1100). ترى ماذا تخبيء بقية النهار لهؤلاء المدافعين عن كل شبر من أرض وطنهم، ويضحون بحياتهم فوق كل موطىء قدم، وهم على ما هم عليه من البؤس، وماذا يخبىء لهم القدر؟ لم يكن الوقت في هذه الفترة يعمل لمصلحة الجزائر، ولكن مقابل ذلك، فإن المحصلة العامة للجهود المبذولة لم تكن صلبية. ألم تثمر هذه المحصلة العامة عن ولادة الجزائر الحديثة من خلال ذلك التلاحم بين الشعب وجيشه؟ ... كانت النساء الطاعنات في السن - العجائز - قد غادرن الملاجىء في هذه الفترة، فالمجاهدون يحتاجون إلى الطعام - بالتأكيد - إذا ما استمرت المعركة. فهل سيتركن ثمار (بوهاندس) حتى يأتي المغتصبون فيقطفونها ويأكلونها؟ ... لقد احتدمت المعركة، وانطلقت النسوة (العجائز) للعمل، يبحثن عن الشهداء، ويوزعن الخوخ والدراق اليابس الذي تشتهر به أشجار (بوهندس)، ويتعرضن خلال ذلك لخطر الموت. ولكن ماذا يمثل الموت لهن عندما يموت الأبناء. مزقت طائرات (ت - 6) عنان السماء وهي تطلق صواريخها بالعشرات. لكن قدم جيش التحرير الوطني بقيت ثابتة، وأمكن لها خرق بعض الثغرات على المجنبة - الشرقية لطوق العدو. وأمكن الحصول على بعض الغنائم من أسلحة الإفرنسيين. وأعطت (بوهندس) المثل في الشجاعة وحمل السلاح. وكانت كل شجرة، وكل صخرة، تجابه العدو برشقات من الرصاص، فتمزق صفوفه وتكبده الخسائر الفادحة. ولم يكن لقنابل النابالم، أو الصواريخ، أي تأثير في المغاوير المجاهدين الذين يدعمهم شعب مسلح. وتوقف جند العدو عن الهجوم. واكتفوا بممارسة قتال المواقع

والرمايات من مسافات بعيدة. غابت الشمس، وأمكن للمغاوير المجاهدين فتح ثغرة في تنظيم العدو، وأخذت زمر المغاوير في عبور الثغرة وهي تتبادل الحماية بالتناوب ونجحت عملية العبور. ورافق المسلحون من (بوهندس) قوات المغاوير في عبورهم. وانتهت عملية تجميع القوات في الليل. وكان لا بد من الاستدارة حول قوات العدو الذي أخذ في تطوير عملياته، عن طريق استدعاء قوات جديدة. واستمر صراع المغاوير المجاهدين مع العدو طوال عشرة أيام، لم يتوقف خلالها القتال في الليل أو في النهار. وخلال هذه الفترة بقيت ثمار (بوهندس) هي الطعام الوحيد لعدد كبير من المجاهدين الذين كانوا يتناولون الثمار مع بذورها حتى يحافظوا على قوتهم، ويسدوا بها رمقهم. خسر المجاهدون في هذا الصراع المرير عددا من شهدائهم، وأصيب عدد منهم بجراح. وكان المجاهدون يحملون معهم قتلاهم حتى لا تتاح للعدو فرصة تدنيس هذه الأجاد الطاهرة التي سقطت حتى تعيش الجزار. واغتيك (بوهندس) وزالت من الوجود. ولكن (بوهندس) لم تمت في الحقيقة غيلة، وإنما فضلت أن تدمر وهي تقاتل. إن (بوهندس) لم تمت إلا لتعود من جديد مزهرة في ربع الحرية. وتمشي الحرب، وتبت سفوح (بوهندسس) في كل ربع زهور ثقائق النعمان الحمراء. إنها زهور تحمل لون الدم الأحمر القاني. إن هذه الزهور التي تغطي المطقة في الريع شتمد غناءها من دم الأبطال المجاهدين إبناء الشعب.

حطام طائرة أسقطها جيش التحرير

معركة (الأوراس)

7 - معركة (الأوراس) (*) استمرت معركة الأوراس لمدة ثلاثة أشهر، من منتصف شهر آذار - مارس - وحتى شهر حزيران - يونيو - 1959. ويعرف كل مجاهد من قدامى المجاهدين أن ذرى الأوراس كانت تعتبر من المناطق المحررة، والتي كانت الدوريات التابعة لجيش التحرير الوطني، وكذلك القوافل العابرة لهذا الجيش، تجد فيها كل ما هو ضروري للتوقف والاستراحة. واستمر ذلك حتى جاء اليوم الذي قرر فيه ضابط طموح (برتبة عقيد) الاستيلاء عليها. وقد صرح هذا الضابط في بداية سنة 1959، أنه على استعداد لتسليم الأوراس بكل من فيها، إلى فرنسا، بشرط واحد هو: أن تترك له حرية العمل العسكري لإدارة العمليات بطريقته، مع ما يتبع ذلك من مضاعفة للقوات التي سيتم زجها في العمليات. توافرت معلومات لقيادة جيش التحرير الوطني - في بداية شهر آذار - مارس - 1959، أن حكومة (باريس) منحت العقيد (شارل)

_ (*) للكاتب الجزائري (مازاري بن يوسف) وهو مجاهد قديم. وقد اعتمد في بحثه على تقارير ثلاثة من الضباط الذين اشركوا في المعركة. والمرجع: RECITS DE FEU (SNED) S.N. EL MOUDJAHED,ALGER,1977 P P. 119 - 123.

صلاحيات مطلقة لإدارة الحرب في الأوراس. وأن هناك قوات دعم قد تم سحبها من كل أنحاء الجزائر، لتنفيذ العمليات، علاوة على تلك التي كانت متمركزة عند سفوح الأوراس، أو على مقربة منه. ومضت أيام قليلة، وأقبل منتصف شهر آذار - مارس - وأصبح باستطاعة العقيد (شارل) أن يزج بثقل قواته للهجوم على الأوراس. وقد يكون من المؤسف حقا عدم توافر معلومات دقيقة عن حجم هذه القوات، وعلى كل حال، فقد قدرت في حينه بقوة (20) ألفا، وأحيانا ارتفعت إلى (30) ألفا. وزادت على ذلك في بعض التقديرات خلال مراحل معينة. إذ كانت قوات الدعم تتدفق باستمرار طوال المعركة المديدة. ويكفي هنا القول بأن الأوراس لم تكن مقر قيادة عسكرية لجيش التحرير الوطني - فقط - أو مجرد مركز لإمداد قوات جيش التحرير الوطني فحسب، وإنما كانت أيضا القاعدة الصلبة الوحيدة لقوات جيش تحرير الوطني في الشمال الغربي من الجزائر. ويصبح من السهل على هذا الأساس التأكيد بأن حجم القوات الإفرنسية لم تكن أقل أبدا من التقديرات التي سبق ذكرها. كان العقيد (سي محمد بونعمة) هو القائد المسؤول عن العمليات في الأوراس. وكان الأوراسيون يعتبرونه أبا لهم. وينظرون إليه بتقدير واحترام كبيرين، نظرا لما كان يتوافر له من الفضائل وأبرزها عبقريته الكبرى في المجال الاستراتيجي. وقد عمل العقيد (سي محمد بو نعمة) على تقويم قوات العدو، مع مقارنتها بما يتوافر له من القوات، ووصل إلى نتيجة وهي أنه وقوات الحرس التابعة له يجابهون موقفا عسيرا ; وأنه من المحال عليه الصمود بصورة عملية لأكثر من أيام قليلة - لا تتجاوز الأسبوعين في أفضل الظروف -. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار ما كان يتوافر لقوات

جيش التحرير من مميزات، أهمها سيطرتها على المواقع الاستراتيجية الرائعة في ذرى الأوراس المنيعة، والتي تضم إليها عشرات الكهوف والمغاور التي كانت معاقل حصينة للثوار المجاهدين. ولهذا قرر استنفار كافة كتائب جيش التحرير الوطني القريبة منه (والموجودة في الولاية الرابعة) بالإضافة إلى تلك المجاورة له (في الولاية الخامسة). مضى يومان فقط، ووصلت إلى الأوراس ثماني كتائب من قوات جيش التحرير الوطني. وبالرغم من ذلك، فقد بقيت المقامرة في دخول المعركة كبيرة، وكانت الثقة في كسبها غير مؤكدة. لا سيما وأنها كانت بالنسبة للعقيد (شارل) مصيرية. ولهذا فإنه كان مستعدا لزج كل شيء من أجل كسب كل شيء. وكان لديه آلاف الجنود الاستعماريين الذين حقنهم بالمواد الطبية التي تفقدهم أحاسيسهم، وأغرقهم بالمشروبات الروحية القوية، فباتوا كتلا متحركة - ومحرومة من المشاعر والأحاسيس الإنسانية. وعرف المجاهدون ذلك، غير أن هذا الأمر لم يكن يخيفهم، لأنهم كانوا يعتمدون على قوة المواقع التي يمسك بها جيش التحرير الوطني والتي تمكنهم من مجابهة هجمات القوات الأرضية بكل ثقة وارتياح غير أن ما كان يخيفهم بحق هو هجمات القوات الجوية الإفرنسية. لم تكن الكتائب الثماني التي وصلت إلى الأوراس، أكثر من مقدمة للدعم، فقد استمرت الإمدادات والنجدات في التدفق من (بليدا) و (تيارت) و (زكار). كتائب تتبعها كتائب. تتدفق من كل مكان، يدفعها تصميم عنيد على إنقاذ الأوراس أو الموت دونها. كانت تلك الليلة هادئة؛ وكان هذا الهدوء الذي يسبق العاصفة

نذير شؤم: لم تطلق في الليل ولو طلقة واحدة، ولم تظهر حركة كبيرة أو صغيرة تعكر صفو الصمت المطبق. ولكن آلافا من الشعلات الصغرى كانت تندلع هنا وهناك في معسكرات العدو البعيدة عن مواقع المجاهدين بمسافة كيلومترات عديدة، وكانت لهذه المشاعل دلالاتها، إنها تشير بالتأكيد إلى أن الفجر سيكون موعد الهجوم، وليس الفجر ببعيد. وصل إلى المجاهدين، وهم في مواقعهم، هدير يصم الآذان، وظلمة الفجر لا زالت قاتمة، فهل قامت القيامة ووصل العالم إلى نهايته؟ لقد ظهرت في السماء مئات الطائرات - من قاذفة ومطاردة - قادمة من جنوب - غرب الأوراس، فحجبت الأفق، ولم تمض أكثر من ثوان قليلة حتى حجبت سحب الطائرات السماء، ومنعت بواكير ضوء النهار من الوصول إلى الأرض لقد أظلمت الدنيا من حول المجاهدين الذين شاهدوا مئات وآلاف الأطنان من القنابل وهي تتساقط على رؤوسهم، واستمر هذا القصف الوحشي حتى منتصف النهار تقريبا. ومع الساعة الحادية عشرة (1100). بدأت القوات الاستعمارية زحفها وهي واثقة من النصر. لقد كانت هذه القوات تتقدم على شكل موجات متتالية، غير أنها موجات لن تلبث حتى تتكسر على صخرة قوات المجاهدين الصلبة الصامدة. تكبدت قوات العدو خسائر فادحة جدا في هجومها الأول - عشرات القتلى - ولكن ما قيمة هذا العدد بالنسبة لتلك الموجات التي لا زالت تتابع تقدمها بالرغم مما ينزل بها من الخسائر. إنها موجات من الجنود الذين يتقدمون للإنتحار، إنهم جبناء حشوهم بالعقاقير حتى باتوا كالحمام الذي يندفع نحو بارودة الصياد - هذا إذا جاز تشبيههم بطيور الحمام الوديعة -. واستمر الصراع نوبا بين القوات

البرية والقوات الجوية، فكان كل تراجع للقوات الأرضية يعقبه قصف جوي كثيف، يتكبد المجاهدون فيه خسائر فادحة. وعلى هذا النحو انقضى النصف الثاني من شهر آذار - مارس -. وأقبل شهر نيسان - إبريل - 1959. والطرفان المتصارعان يقفان عند النقطة التي بدأ منها الصراع. ومئات القتلى من الأعداء يقابلهم مئات الشهداء من المجاهدين. ولكن شيئا واضحا وأكيدا بات يبرز للوجود، وهو أنه ليس من السهل على الاستعماريين الاستيلاء على الأوراس، لا سيما وأن سيل الإمداد بالمجاهدين والذخائر والإسعافات الطبية، استمر في التدفق على مجاهدي الأوراس، من كل مكان. أصبح موقف المجاهدين حرجا للغاية في شهر أيار - مايو - 1959، فقد ارتفع عدد الشهداء في صفوفهم إلى أكثر من خمسمائة شهيد واستمر المجاهدون في القتال من خنادقهم ومواقعهم الحصينة وهم يرددون: (آه! لو لم يكن هناك طيران. وإننا نعتقد أننا مدينون كثيرا لمواقعنا الاستراتيجية، إذ لولاها لما بقي واحد منا على قيد الحياة). وقد أصبحت الأرض من حول المجاهدين مغطاة بالمحطومات، حتى لم يعد يظهر منها إلا حديد الطائرات التي تم إسقاطها، والآليات التي تم تدميرها. هذا بالإضافة إلى الجثث التي لم يتمكن العدو من إخلائها فباتت تغطي سطح الأرض منذ أسابيع عديدة. وأخذت هذه الجثث النتنة في إفساد رائحة الجو الذي دنسته من قبل طائرات العدو، وما تحمله من أسلحة الإبادة. مضى شهران على هذه المعارك الطاحنة، وفي نهاية شهر أيار - مايو - قرر العقيد الافرنسي (شارل) وضع حد حاسم لهذا القتال المتواصل. فقذف بكل قواته ضد قوات جيش التحرير الوطني في

الأوراس كلها. وبات من المحال على المجاهدين البقاء في خنادقهم، إذ ظهر لهم أنه من الأفضل إيقاف هجمات العدو بهجمات مضادة، وبصورة جبهية في العراء. فكان يحدث في بعض الأحيان قتال الالتحام - جسما لجسم - بطرائق مثيرة ورهيبة. واستخدم الفدائيون المجاهدون أساليب تعبوية - تكتيكية - مبتكرة، إذ كانوا يبتعدون بزمر صغيرة عن كتلة القوات الرئيسية، ويسمحون لقوات العدو بتطويقهم وهي تعتقد أنها ستحصل، أو بإمكانها الحصول، على عدد من الأسرى. وعندها يقع جند العدو في الكمين، وتنطلق رشات الرصاص من كل الأسلحة الخفيفة، وعلى مسافات قريبة جدا فكان قتال الالتحام جسما لجسم هو وسيلة المجاهدين الوحيدة، لإضعاف قدرة العدو العددية، واستنزاف موارده البشرية: لقد كان الهدف بالاستمرار هو الإفادة من كل موقف لقتل أكبر عدد من قوات العدوان الاستعمارية. كانت الأيام الأخيرة من أقسى الأيام وأصعبها. وكثيرا ما تساءل الجميع: لمن يكون النصر؟ وهل سيكون للعقيد (شارل) ورجاله المجرمين السفاكين للدماء؟ أم للعقيد (سي محمد بونعمة) ورجاله المجاهدين الصابرين - من الفدائيين - الذين هجروا أرضهم والعمل فيها، وتنكروا للرفش والمعول فحملوا البواريد للعمل في جيش التحرير الوطني من أجل الدفاع عن الوطن. تقدم تجربة الحياة شواهد كثيرة على قدرته تعالى في تنظيم الكون، بحيث لا بد للخير في النهاية من أن ينتصر على الشر، ولكن ماذا تستطيع العدالة فعله في قضيتنا هذه للنصر على مئات الطائرات (القاذفة منها والمقاتلة) وعلى المدافع الحديثة جدا.

لقد كنا نحن المجاهدين نمثل في المعركة (العدالة) و (الحق). ونحن الذين سنحصل على النصر، بالرغم من ضعفنا في التسلح بالمقارنة مع ما يمتلكه العدو. ذلك أننا نقاتل من أجل الدفاع عن قضية تستحق أن نموت من أجلها. وكان هذا الاعتقاد راسخا في أعماق نفوسا، في حين لم يكن لدى الجنود الاستعماريين مثل هذا الاعتقاد أو القناعة. ومن هنا فقد كنا على استعداد لمجابهة مدافع العدو، حتى لو لم يبق لدينا إلا الحجارة. وقد أدرك العقيد (شارل) ذلك، ولكن بعد فوات الأوان. ولو أدرك ذلك من قبل، وعرفه، لما دفع قواته الاستعمارية إلى الانتحار، حيث سقط من قوتها ما يزيد على ستين بالمائه، فوق ذرى الأوراس الشماء. ولم يقيد لهم بعد ذلك أن يروا نور الشمس أبدا. أجل، عرف العقيد (شارل) ذلك متأخرا، ومتأخرا جدا. ولكنه قبل أن يصل إلى هذه المعرفة الثابتة، حاول أن يقوم بهجوم أخير، مدفوعا إلى ذلك بأنانيته الفردية بالدرجة الأولى، فزج بكل جنده المأجورين الذين أخذوا في التدفق على الأوراس من كل الجهات، وبوسائط متفوقة جدا على تلك التي يمتلكها المجاهدون، واستمرت مدافعهم في قصف متواصل بهدف إضعاف مؤخرات المجاهدين وإعاقتهم عن كل تحرك. وتدخل الطيران بقوة فأعاق المجاهدين عن مجابهة القوات البرية الاستعمارية بكل قوتهم ووسائطهم - المتواضعة على كل حال -. تميز خلال هذه الفترة - بصورة خاصة - مجاهدو (تيارت) الذين كانوا أفضل تسليحا بالأسلحة الثقيلة من سواهم من المهجاهدين وأمكن لهم تكبيد العدو خسائر فادحة في الطيران، غير أنهم لم ينجحوا في دفعه نهائيا، أو منعه من متابعة الطيران فوق المنطقة.

وعاد السؤال المطروح: هل هي نهاية الأوراس بكل من عليها من مواطنين ومجاهدين؟ لم يكن هناك من يستطيع الإجابة على مثل هذا السؤال بصورة موضوعية، والقضية هنا ليست قضية آمال أو تمنيات. غير أن المجاهدين كانت لهم طريقتهم الخاصة في التفكير، إذ أنهم لم يكونوا يفكرون إلا في قضية واحدة، وهي: الموت في المعركة ولا شيء غير ذلك، وكانت آمالهم وتمنياتهم محددة بطلب أولى الحسنيين (الشهادة)، أما قضية النصر فتبقى مرتبطة بإرادة الله. والشواهد على ذلك كثيرة، يكفي هنا الإشارة إلى حادثة واحدة تبرز هذه الحقيقة التي كانت العامل الوحيد لما تميز به المجاهدون من روح معنوية عالية. كان العقيد (سي محمد بو نعمة) في مقدمة الصفوف دائما، وعلى خطوط النار الأولى باستمرار. وفي يوم أصابه تمزق في أربطة القدم (لي أو التواء في الرسغ) بينما كان يعمل على مساعدة مجموعة من المغاوير الذين وقعوا في مأزق حرج نتيجة التقدم العنيف لقوات الاستعماريين. ووقع العقيد (بو نعمة) أرضا، ثم تحامل على نفسه ونهض، إلى أن وجد لنفسه ملجأ أمينا خلف إحدى الصخور التي تضمن له وقاية أفضل من الرصاصات الطائشة. وفجأة ظهر مجاهد لا يعرف أحد من أين أتى، ولا كيف تقدم، ولم يكن هذا المجاهد يعرف العقيد معرفة شخصية، غير أنه لاحظ طريقته في التحرك، فثارت الشبهة في نفسه، وأخذ في مطاردته، حتى إذا ما أمكنت له الفرصة المناسبة، انقض عليه، وجرده من سلاحه، وظنه هاربا من قوات العدو، ولهذا فانه لم يترك له الفرصة للكلام، ووجه اليه فوهة رشيشه القصير. وابتسم العقيد ابتسامة زادت من توتر

أعصاب المجاهد الشاب، فكاد يطلق نيران سلاحه ويضغط على الزناد، عندما سمع صوت أحد جرحى المجاهدين وهو يقول له (احذر! قف! إنه العقيد). وخلال ذلك لم تفارق الابتسامة شفتي العقيد، وهو ينظر إلى المجاهد الشاب بإعجاب، وقال له بلهجة أخوية: (إنني أعرف الآن سبب فشل الاستعماريين في القضاء علينا). وصدرت عنه ضحكة طويلة رددت الصخور أصداءها. فكانت ضحكته تحديا للاستعماريين ولفرنسا كلها. وهي ضحكة أكدت أنه ما من سبب يدعو النصر ليكون فرنسيا، إلا إذا أمكن للقوات الافرنسية أسر العقيد (بو نعمة) ورجاله، وأخذهم أحياء لتقديمهم هدية إلى فرنسا. وقد كان من المحال على فرنسا بلوغ ذلك. أخذت مسيرة الأحداث - على مسرح العمليات - في التحول عبر المنعطف الحاسم، وظهر للعقيد (شارل) أنه بات في موقف لا يحسد عليه، فأخذ اليأس يهيمن عليه، بالرغم مما كان يملكه من تفوق في ميزان القوى - أو حتى بما بقي له من فضلات ميزان القوى - وبالرغم أيضا من دعمه بأحدث الأسلحة المتطورة، وأشد الوسائط القتالية الفتاكة. طور جيش التحرير الوطني في هذه الفترة أساليبه القتالية - التكتيكية - فلم تعد قواته في الاوراس - تقف عند حدود ضد العدو، أو القيام بالهجوم المضاد، ما بين فترة وأخرى. وقد عرفت هذه القوات من خلال تجاربها مع العدو، أن قواته الاستعمارية تجيب على كل هجوم بهجوم مضاد أكثر قوة وعنفا. وكان ذلك يسمح للمغاوير المجاهدين بتدمير قسم من قوات العدو، وإنقاص قوته العددية. ولكن ذلك لم يعد كافيا. ولهذا، فقد لجأ المجاهدون

لأسلوب الهجمات الخداعية المرتبطة بتنظيم الكمائن، فكانوا يقومون بهجومهم، ثم يتراجعرن، تاركين عددا من المقاتلين في مؤخرتهم، حيث يتظاهر هؤلاء بأنهم قتلى، أو أنهم يتمركزون بمواقع مموهة. وسرعان ما ينطلق العدو بهجومه المضاد، غير منتبه وهو يتحرك بسرعة إلى أسر عشرات المجاهدين المغاوير المنتشرين حوله. وتستمر الكتلة الرئيسية من المجاهدين في انسحابها بينما تتابع القوات الاستعمارية مطاردتها الحاسمة، مركزة كل جهذها لملاحظة هؤلاء الذين يتحركون أمامها. ويجد المقاتلون الاستعماريون فجأة أنهم وقعوا في كمين (فخ) محكم. ومن السهل بعد ذلك توقع ما يحدث بعد ذلك. مضت الأشهر الثلاثة على هذا الصراع المرير، وهو الصراع الذي لم يشترك فيه العقيد (شارل) ولو بمعركة واحدة، ولم يصل فيه أبدا إلى قمة الأوراس، ولو لمرة واحدة. وإذا ما أمكن له الوصول مع قواته إلى بعض المرتفعات والذرى، فإنه ما وصلها إلا لينسحب منها بسرعة أكبر من سرعة تحركه إليها، مخلفا وراءه الجثث المتراكمة والممددة على الأرض - إلى الأبد -. لم يتمكن الاستعماريون من البقاء في الأوراس، فكانت في ذلك هزيمتهم. ولم تكن هناك ضرورة لأن تصدر قيادتهم أوامرها بالانسحاب. ففي نهاية شهر حزيران - يونيو - 1959 لم يعد هناك أي وجود للاستعماريين هناك. وضاع العقيد (شارل) ولم يعد له أي ذكر. وبقيت الأوراس منطقة محررة من مناطق جيش التحرير الوطني، وبقيت محررة حتى اسقلال الجزائر كلها وتحريرها تحريرا تاما. وكم كان الثمن فادحا؟ لقد غابت عن ساحة الصراع ثلاثة أفواج تقريبا (أو ما يعادل 1400

مجاهد). ولقد استشهد هؤلاء الألف والأربعمائة من المجاهدين البررة، لا دفاعا عن الأوراس وحدها، وإنما من أجل أن تتحرر الجزائر كلها وتصل إلى سيادتها واستقلالها. وتلك هي القصة الحقيقية لمعركة الأوراس. المجاهدون يتفقدون أرض الكمين

معركة في الجنوب

8 - معركة في الجنوب (*) بلغت الثورة الجزائرية مرحلة متقدمة من تطورها في سنة 1957، وفي هذه المرحلة، وقف الاشتراكي رئيس وزراء فرنسا. غي موليه - ليوجه مواعظه ونصائحه إلى الثوار، وليطلب إليهم الأخذ بثلاثيته الشهيرة: وقف إطلاق النار، فالانتخابات، فالمفاوضات. وفي هذه المرحلة ذاتها أيضا، وقف اشتراكي آخر اشتهر بصفة (سفاح الجزائر) وهو (روبرت لاكوست) فأعلن (بأنه لم يبق إلا ربع ساعة فقط للقضاء على الثورة). والتقطت الصحافة الافرنسية، هذا الإعلان وأخذت في الترويج له. وعلى هذا الأساس، فقد رفضت الحكومة الافرنسية الرابعة التسليم للثوار الجزائريين بمطالبهم، وأخذت في وضع المشاريع لتقسيم الجزائر، وأمعنت في طريقها هذا، ففصلت إقليم الصحراء وعينت له وزيرا افرنسيا (هو ماكس الصغير). وكان إقليم الصحراء هذا قد عرف منذ عام انتفاضة (التحرير)

_ (*) للكاتب الجزائري (عبد الحميد شيران) مجاهد قديم في جيش التحرير الوطني. واشترك في معركة الجنوب التي وقعت يوم 29 حزيران - يونيو - 1957 - والمرجع: RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOUDMHED. ALGER. 1977 P.P.

وأخذ في التفاعل مع الأحداث التي كانت تجري فوق التراب الوطني للجزائر. وفي الحقيقة، فإن الجبهة الصحراوية، قد أخذت منذ نهاية شهر ايلول - سبتمبر - 1956 في تنظيم جبهة التحرير الوطني، وجيش التحرير الوطني. وتبع ذلك ظهور مجموعات من المجاهدين في عدد من النقاط الصحراوية، أو بصورة أكثر تحديدا فيما تم الاتفاق على تسميته بالمنطقة الثامنة من الولاية الخامسة، تحت قيادة (النقيب - الكابتن - لطفي) وهي المنطقة الممتدة من مرتفعات جبل (عمور) في إقليم (آفلو) وحتى (تندوف) على الحدود الجزائرية - المغربية. مرورا (بالبياض - سابقا غيريفيل) و (عين صفرا) و (بيشار) و (تيميمون). شهدت السنة الممتدة من النصف الثاني لعام 1956 والنصف الأول من العام 1957 مجموعة من المعارك العنيفة والتي كانت مسارحها في (القعدة في كينح عبد الرحمن) من إقليم (آفلو) تحت قيادة (النقيب لطفي) حيث دار صراع دموي رهيب استمر سبعة أيام بلياليها، حتى نفدت ذخائر المجاهدين وموادهم التموينية واضطر المجاهدون مرغمين لأكل جذور الأشجار والأفاعي وكل ما يمكن أكله، وشرب ماء بولهم حتى يستطيعوا البقاء على قيد الحياة. ويمكن هنا الإشارة إلى أن قائد الطيران الافرنسي (كلوسترمان) قد اشترك في هذه المعارك، ونشر بعد عودته إلى فرنسا مقالا - في صحيفة الاكسبريس - تحت عنوان (نكبة آفلو) تعرض فيه إلى ما تتكبده القوات الإفرنسية من الخسائر على أيدي المجاهدين الجزائريين. ترددت أصداء انتصار المجاهدين في هذه المعركة التي قادها

(النقيب لطفي) (*). بصورة قوية أثارت حماسة المجاهدين الذين خاضوا مجموعة من المعارك المماثلة، كان من أشهرها معركة (جبل مرقاد - غيريفيل) ومعركة (جبل مزيمير) و (معركة الجبل) و (درمل - عين صفراء) ومعركة (حمدان) ومعركة (ميزيب) ومعركة (عنتر) ومعركة (غيروز - بيشار). وإذا كان من العسير التعرض , لكل هذه المعارك، فلا أقل من اختيار واحدة منها، ويمكن الأخذ بمعركة (غيروز - بيشار) نموذجا لها. بواكير المعركة ومقدماتها: أصبحت كلمات (الثورة) و (جبهة التحرير الوطني) و (جيش التحرير الوطني) و (الاستقلال الوطني) تتردد كالأنشودة الحلوة على كل شفة، فتهتز لها القلوب في كل منزل وفي كل بيت وكوخ على امتداد الصفحة الجغرافية للجزائر، ليس ذلك فحسب، بل إن هذه الكلمات أخذت في اقتحام معسكرات الأعداء، لتصل إلى قلوب أولئك الذين وقفوا إلى جانب الأعداء من الجزائريين - إن طوعا أو كرها - وحملوا السلاح لقتال مواطنيهم وأهلهم وإخوتهم في الدين. وأمام هذا الموقف، أخذت المنظمات الخاصة في جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني ببذل جهودهما الكثيفة - اعتبارا من مطلع سنة 1957 - بهدف الاتصال مع العناصر العسكرية الجزائرية التي تخدم في الوحدات المسماة من قبل الافرنسيين (بالوحدات الصحراوية - للجيش الإفرنسي) ومحاولة إقناعها بالانضمام إلى قوات جيش التحرير الوطني. ولم تلبث هذه الجهود حتى أينعت

_ (*) ترفع النقيب لطفي بعد ذلك الى رتبة عقيد - كولونيل - ومات ميتة بطولية في بداية سنة 1960 في منطقة بيشار - حيث حمل مكان استشهاده اسم (برج لطفي).

ثمارها، وأخذ هؤلاء الجزائريون بالفرار من معسكر العدو والالتحاق بالثورة - بصورة إفرادية - ثم تطورت العملية إلى فرار زمر صغرى، وأخيرا، أخذت فصائل بكاملها في الانضمام إلى قوات الثورة. وكانت الظاهرة الأكثر خطورة بالنسبة للفرنسيين هي فرار العسكريين الجزائريين من معسكر الإفرنسيين والانضمام إلى جيش التحرير الوطني ومعهم كامل أسلحتهم وذخائرهم. وشعرت السلطة الافرنسية بثقل وطأة هذه العملية عندما قام فصيلان من الجنود الجزائريين بقتل ضباطهم الإفرنسيين، وانضما إلى قوات الثورة في شهر أيار - مايو - 1957 ومعهما كمية ضخمة من الأسلحة والذخائر. ورافق ذلك - بصورة طبيعية - تعاظم في هجمات الثوار المجاهدين على المراكز الافرنسية، وزرع الألغام على الطرق، ومعركة الخطوط الحديدية والأسياج الشائكة. الأمر الذي أثار هياج العدو الافرنسي الذي لم يعد باستطاعته ابتلاع هذه المجابهة، فوضع, مخططه لتنفيذ عملية بواسطة قواته المحمولة جوا وهدفها مطاردة الجزائريين الهاربين من المعسكرات الافرنسية: غير أن الفشل الذريع كان حليفا لهذه العملية، لأن الجنود الهاربين كانوا قد وصلوا إلى مسافات بعيدة عن قبضة العدو، واستقروا في مراكز حصينة ومأمونة. عاد العدو لوضع مخطط جديد للعمليات على نطاق واسع، لا يقتصر هدفها على تصحيح الموقف بتأديب الهاربين، وإنما يتجاوز ذلك إلى محاولة الاستيلاء على مركز القيادة الاقليمي الذي قامت عناصره بتأمين جسور الاتصال التي عبرت عليها جموع الهاربين. وكانت الخطوط الرئيسية للعملية تتلخص في تنسيق جهود القوات الافرنسية المتمركزة في (بيشار) و (عين صفرا) وبقية

مناطق الجزائر، وكذلك القوات الافرنسية المتمركزة في المغرب. قامت طائرتا استطلاع من نموذج (ت - 6) بالتحليق فوق قواعد المجاهدين، وذلك قبل يومين اثنين من بدء تنفيذ العملية. وفي الوقت ذاته قامت منظمات الاستخبارات التابعة لجيش التحرير بإنذار قواتها عن وجود هيجان يجتاح معسكرات العدو. وهكذا افتضح أمر العملية، ولم تعد الاستعدادات لتنفيذها سرية. واتخذ المجاهدون استعداداتهم القتالية بصورة سرية، واحتلوا مواقعهم، بوسائطهم المتواضعة. قامت القيادة الفرنسية بنقل ما يزيد على ألفي جندي بواسطة قطارين: القطار الأول انطلق من (بيشار) وانطلق القطار الثاني من (عين صفرا). والتقى القطاران في (الجحايفة) حيث تم نقل القوات بعد ذلك إلى مسرح العمليات بواسطة الطائرات العمودية - الهيليكوبتر -. هذا علاوة على إرسال خمسين عربة نقل جند كبيرة محملة بالمقاتلين وأسلحتهم من القوات الاستعمارية المتمركزة في المغرب. وبالإضافة أيضا إلى سرب طائرات نفاثة، وطائرات نقل جند (جونكر) وطائرات عمودية ... وجدير بالذكر أن جهاز الحرب هذا كان أكبر من قدرة فرنسا، ولهذا فقد كان يعتمد في تموينه ودعمه على قوات (حلف شمال الأطلسي). فما هي القوة التي كان يجب عليها التصدي لهذا الجهاز الضخم؟ كان لدى جيش التحرير الوطني الجزائري في المنطقة قوة لا تزيد على الفصيلين، يتلقيان دعما مناسبا من المواطنين - وبصورة خاصة من أفراد القبيلتين الكبيرتين اللتين تستقران في المنطقة وهما: (قبيلة ولد جرير) و (قبيلة دوى منيح). ويضاف إليهما بعض الأفراد من (شامباس) و (ولد سيدي الشيخ) الذين كانوا ينفردون

بكفاءة قتالية جديرة بالتقدير: إنهم محاربون حقيقيون يتمتعون بخيال حربي متوارث، ولديهم رماة مهرة لا نظير لهم، وهم مسلحون بالبواريد الحربية المتنوعة مثل (الموسكوتون) و (ماس 36) و (ماس 49) و (موزر) ومعظمها مما غنمه المجاهدون من أسلحة العدو الاستعماري. وكان تموين هؤلاء المجاهدين بسيطا: بعض قرب الماء التي يتم إملاؤها من (حاسي أبو الأكحل) وحفنة من البلح (لا تتجاوز ربع كيلو غرام). وشريحة من اللحم وقطعة من الخبز أو الكعك المشوية على رمال الصحراء الساخنة. كانت أكثر المشاكل خطورة مما جابهته عناصر جيش التحرير الوطني في هذه الفترة، مشكلة حماية مركز القيادة الإقليمية الذي بات الهدف الرئيسي لجهد العدو، مع ما يتبع هذا المركز من مصالح وخدمات، وأولها مصلحة الإمداد والتموين، ومصلحة الخدمات الصحية التي كانت تسهر على العناية بأكثر من سبعين جريحا ومريضا عاجزين عن حمل السلاح. علاوة على مشكلة بعض العملاء والخونة الذين كانوا محتجزين في هذه الفترة بانتظار تقديمهم إلى محكمة عسكرية، وبينهم على سبيل المثال: (مدني ولد غدايفه) و (الحبيب شاطري) وخونة افتضح أمرهم وحوكموا ونفذ فيهم حكم الإعدام بعدئذ. وكذلك (هـ. م) الشاب الذي لا يتجاوز السابعة عشرة عاما من عمره، حاول العدو استخدامه وكشفت استخبارات جيش التحرير الوطني أمره، وأخذت المحكمة العسكرية باعتبارها صغر سنه فلم تصدر حكمها عليه، وعفت عنه. ... استطاع المجاهدون استباق المعركة، فقاموا بإخلاء الكهوف والمغاور والأودية، واحتلوا مواقعهم على النقاط ذات الأهمية

الإستراتيجية في الجبل. وقام كل مجاهد بحفر ملجأ له، وأعد موقعه القتالي على مهل، وغير متعجل، حتى يمكن له مجابهة كافة الاحتمالات. واحتل المجاهدون جميعا مواقعهم القتالية في ليلة المعركة، وأمضوا الليل في خنادقهم وملاجئهم. أرسل المراقبون في وقت مبكر من الصباح إنذارا إلى المجاهدين يعلمونهم بتقدم أرتال من الآليات - المركبات - المتجهة من (بو عرفة) إلى (الفجيج) وهي تنتقل عبر مضيق (غروز - لاميز). وظهر واضحا أن هذه الأرتال كانت تنقل وحدات من الجيش الفرنسي الاستعماري المتمركز على تراب المغرب. واستنفرت القوات، واستعد المجاهدون جميعهم للمعركة بعد أن أدوا فرض صلاة الفجر، وابتهلوا إلى الله أن يثبت قلوبهم، ويمنحهم النصر الذي وعد به المجاهدين الصابرين. ظهرت الخيوط الأولى لضوء النهار، وبينما كانت أنظار المجاهدين وأحاسيسهم مشدودة كلها لمتابعة تحرك الأرتال القادمة من المغرب، ارتفع هدير يصم الآذان صادر عن محركات الطائرات، مما أرغم المجاهدين على تحويل أنظارهم نحو السماء: فكان أول مشهد وقعت عليه أبصارهم ثلاث طائرات ضخمة - من قاذفات القنابل - نموذج (ب - 26) قامت بجولة سريعة فوق الإقليم، ثم أخذت بإرسال قنابلها وإطلاق نار مدافعها الرشاسة. متبعة في ذلك طريقتها التقليدية لتطهير الأودية والثنايا، والتمهيد لإنزال القوات المحمولة جوا التي كلفت الهبوط فوق المواقع لقصم ظهر الثوار - الفلاقة-. مضت ساعة والقصف الكثيف لمواقع المجاهدين لم يتوقف أو ينقطع، حتى إذا ما أشارت عقارب الساعة إلى السابعه، ارتفع هدير

وضجيج لا يقل في شدته أو قوته عن الهدير السابق ارتعد له المجاهدون وأجفلوا، وإذ ذاك ظهر سرب من الطائرات المتنوعة النماذج والأشكال، جاءت كلها فحجبت السماء، وأخذت في التحليق فوق رؤوس المجاهدين. وهنا ظهرت بغتة موجة جديدة من الضجيج قادمة من الشرق، فوقف لقدومها شعر المجاهدين، وكانت هذه الموجة صادرة عن سرب الطائرات العمودية (الهيليكوبتر) والتي أخذت في نقل وحدات العدو التي تم نقلها بالقطارات من (بيشار) و (عين صفرا). وهي وحدات كانت تعمل تحت قيادة - الجنرالين -: (فانوكسين) و (كريفكور). واجبها الاتصال مع القوات القادمة من المغرب، وإحكام حلقة الحصار على المجاهدين، بطريقة التطويق والحصار المعروفة. تحركت قيادة المجاهدين للعمل بسرعة من أجل مجابهة هذا الموقف، فقسمت وحداتها إلى مجموعات قتالية، وأعادت تنظيمها في إطار زمر صغرى، تعمل في إطار مجموعتين رئيسيتين: أولاهما بقيادة الأخ المجاهد (غاوطي) وهو محارب قديم اشترك في حرب الهند الصينية ولديه خبرات قتالية جيدة. وحددت مهمة هذه المجموعة بالاستيلاء على النقاط ذات الأهمية الاستراتيجية في مواجهة المحور الذي تتقدم عليه القوات الافرنسية الآتية من المغرب بينما أسندت قيادة المجموعة الثانية للأخ المجاهد (عبد الحميد شيران) ومهمتها التمركز - وظهر أفرادها إلى ظهر أفراد المجموعة الأولى - لمجابهة قوات العدو التي كانت تتقدم من اتجاه الشرق. ونظمت زمر للقيام بمهمة تأمين الاتصال - الارتباط - بين المجموعتين، وتنسيق التعاون فيما بينهما. وأسندت قيادة هذه الزمر إلى المجاهدين (الحاج دوغما) و (محمد بن زيان).

كان المجاهدون يعرفون تماما أن معركتهم مع عدوهم هي (معركة استنزاف) تعتمد في أساسها على تجنب الدخول مع قوات العدو في قتال جبهي - نظامي -. والتركيز على مبدأ المباغتة وما تحدثه من التأثير. وعلى هذا، فقد صدرت الأوامر إلى الرجال بعدم فتح النار على العدو قبل الظهيرة، وأن يتم فتح النار بصورة مباغتة وعندما تصل قوات العدو إلى مسافة قريبة جدا من المجاهدين حتى يكون بالمستطاع إنزال أكبر قدر من الخسائر في قوات العدو. وبذلك تتوافر الفرصة أيضا أمام المجاهدين حتى يقوموا بالانسحاب من مواقعهم ليلا، مستفيدين من ظلمته للوصول إلى نقطة التجمع. غير أنه وقع في هذه الفترة - وحوالي الساعة العاشرة صباحا - حدث غير متوقع قلب مخطط المجاهدين رأسا على عقب. إذ بينما كانت طائرتان (من نموذج ب - 26) تقصفان من غير هوادة المرتفعات والوديان بالقنابل والغازات الخانقة، ظهرت طائرتان (من نموذج الجونكر) وأخذتا في التحليق فوق رؤوس المجاهدين استعدادا لإنزال حمولتهما من رجال المظليين. نفد صبر مهرة الرماة، فأطلقوا نيران أسلحتهم على طائرتي (الجونكر) وأصابوا بالتأكيد مستودع الوقود في إحدى الطائرتين، فاندلعت فيها النيران وهي في السماء، وسقطت على مسافة غير بعيدة عن موقع المجاهدين بأكثر من مائة وخمسين مترا، وتمزقت بانفجار لم يبق على أحد من ركبها الطائر - على قيد الحياة - بمن فيهم قائد الطائرة وملاحوها. وهنا عادت قيادة المجاهدين فأكدت أوامرها السابقة بعدم فتح النار إلا عند وصول قوات العدو إلى مسافة قريبة جدا من مواقع المجاهدين. ولكن حدث بصورة مباغتة أن هبطت طائرة عمودية (هيليكوبتر) محملة بالضباط القادة - الجنرالات - إلى

جوار طائرة (الجونكر) المحترقة والمدمرة. ويظهر أن هؤلاء قد أقبلوا لمعرفة سبب الكارثة. وأخذ قائد المجموعة المقابلة للشرق (المجاهد عبد الحميد شيران) في متابعة ما يجري أمامه، فقد كان الجنرالات - القادة - لا يبعدون عن موقعه بأكثر من مائة وخمسين مترا، وكان باستطاعته أن يميز بمنظاره رتب هؤلاء القادة والأوسمة والشارات التي تلتمع تحت الشمس وهي تزين صدورهم. ولم يتمكن من مقاومة الإغراء الماثل أمامه. وكان جنده يتحفزون مثله لقنص هذا الصيد الثمين، فأخذت الحماسة بالقائد (شيران) وأخذ في تلاوة الآية الكريمة على مسمع مجاهديه - وهي بعد البسملة -: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} - صدق الله العظيم) (*) ثم قال لمجاهديه: (ها هو اليوم الذي هجرتم من أجله كل ما هو عزيز عليكم طلبا لإحدى الحسنيين الشهادة أو النصر فلا تخافوا من كثرة عدد العدو ووفرة عتاده. اصبروا واثبتوا) وانتصب واقفا وصاح بملء صوته، وبكل قوته: (الله أكبر - والنصر لنا). وأصدر أمره بفتح النار، وتمت إبادة مجموعة الضباط القادة بلحظة واحدة فقط. وأعقب ذلك اشتباك عنيف استمر حتى الساعة الخامسة مساء مرت ساعات كان الضجيح خلالها نوبا بين هدير طائرات (ت -

_ (*) سورة الأنفال - الجزء العاشر - الآيتان 65 و66.

6) والطائرات العمودية مرة، ثم هدير طائرات الجونكر وطائرات (ب - 26) مرة أخرى. وكان ذلك مختلطا بدوي انفجارات القنابل والصواريخ وأزيز الرصاص: وكانت كل نوبة من القصف يتبعها هجمات متتابعة من قوات العدو الأرضية لا تلبث حتى تتوقف مباشرة عندما تصطدم بنيران المجاهدين الغزيرة والدقيقة. وخلال ذلك كله، بقي العدو مستمرا في تضييق حلقة الحصار بين فكي قواته لرضع المجاهدين أمام واحد من خيارين لا ثالث لهما: فإما الاشتباك في صراع جسم لجسم، وإما محاولة قيام المجاهدين بخرق الحصار، مما يضع المجاهدين - في الحالين - أمام مأزق حرج، إذ باستطاعة العدو في الحالين استثمار تفوقه الساحق - عدديا - من أجل القضاء على المجاهدين. وعلى كل حال، فقد رفض المجاهدون الاشتباك مع العدو في قتال الالتحام - جسما لجسم - وقرروا القيام بانسحاب تدرجي، وعلى مراحل، وفقا للطريقة التقليدية في التناوب بين النار والحركة: وشرع العدو على الفور بتنظيم المطاردة، وأفاد المجاهدون من تأثير المباغتة، فأوقعوا في قوات العدو خسائر كبيرة بدأت وحدة المجاهدين - المجابهة للمشرق - انسحابها بحادث مؤسف، إذ استطاعت إحدى الطائرات النفاثة تحديد موقع الرشاش الثقيل، فقصفته بصاروخ مزق رامي الرشاش (الشهيد بو عمامة) وأصابت عددا من المجاهدين بجراح مختلفة. ونظرا للمسافة القصيرة التي كانت تفصل بين المجاهدين وأعدائهم، فقد تركز جهد قائد الوحدة (شيران) على سحب الأسلحة والرشاشات الثقيلة بصورة خاصة حتى لا تقع في قبضة العدو. وكانت حلقة الحصار حول هذه المجموعة محكمة جدا. فأعطى قائد الوحدة أمره إلى

قائدي الفصيلتين (تاج) و (جلالي) بالتناوب فيما بينهما لإجراء قفزة جديدة على طريق الانسحاب. وتأبط قائد الوحدة رشاشه، وانحرف لتأمين الجرحى ووضعهم في ملجأ أمين يحميهم من الخطر. وأمكن تنظيم إخلائهم إلى الوادي عن طريق نقلهم واحدا بعد الآخر، وتغطية انسحابهم بالنيران. وهنا حدثت معجزة حقيقية. معجزة أثارت الأمل في النفوس. ففي هذه الفترة كانت الوحدة المتمركزة في اتجاه الغرب - لمواجهة القوات القادمة من المغرب - قد تعرضت لمأزق صعب، وجابهت ضغطا قويا. فأصدر قائدها (غاوطي) أوامره بالانسحاب التدريجي - وبالتناوب - وعندما رأى العدو تحرك القوات المنتظم من جانبين متعاكسين - متضادين - اعتقد بأن المجاهدين يقومون بمناورة لتطويق قواته. واعتقد أيضا أن هذا التحرك - أو المناورة - هي جزء من خطة عامة للمجاهدين الذين افترض وجودهم في كل مكان. فأصدرت القيادة الافرنسية أوامرها إلى قواتها بالتراجع، حتى لا يباغتها الثوار (الفلاقة) بحركة تطويق على مؤخراتها. وهنا انفتحت ثغرة واسعة لم يكن يتوقعها المجاهدون، وأمكن لهم بذلك المرور مع جرحاهم وأسلحتهم الثقيلة وأعتدتهم، والانتقال إلى الجهة المقابلة من الوادي. حيث احتلوا هناك مواقع قتالية جديدة. كان العدو يعتقد أن بإمكانه أخد المجاهدين أسرى بعد إحكام قبضته عليهم، وعندما وصلت قواته إلى الأماكن التي كانوا يحتلونها، لم تجد فيها أحدا. وكانت خيبة أمله كبيرة عندما عرف بأنهم قد انسحبوا بعيدا، وأصبحوا خارج مجال عمل أسلحته الآلية - الأوتوماتيكية - وذلك باحتلالهم المواقع المواجهة له على المنحدرات الجبلية. ولم يبق أمام جند العدو الذين أصيبوا بالإحباط، إلا أن

جنود جيش التحرير الوطني أمام حطام طائرة أسقطوها

يوجهوا شتائمهم وإهاناتهم المقذعة للمجاهدين الذين كان باستطاعتهم الرد بإهانات أقذع ولكن أقل فحشا لأنه ليس بإمكانهم مجاراتهم في مجال الفحش والرذيلة - ولو بكلمات الإهانة. لم يعد للمجاهدين في مواقعهم الجديدة من شغل يشغلهم إلا اتقاء ضربات الطيران، والعمل لمجابهة إغارات الطائرات التي اشتدت وطأة هجماتها وهي تلقي قنابلها المحرقة وقنابل النابالم. غير أن أحدا من المجاهدين لم يصب بأذى - بفضل الله ورعايته - وكان لا بد من احتمال وطأة القتال حتى الليل. ولكن هنا حدثت المعجزة الثانية - وكانت معجزة حقيقية أيضا. فقد هبت عاصفة رعدية يندر هبوبها في مثل هذا الفصل من السنة. وأظلمت سماء الصحراء. فاضطرت حشود العدو للانسحاب، وهي في حالة من الفوضى الشاملة والاضطراب المثير. ولم يدع المجاهدين هذه الفرصة تفوتهم، فأطلقوا على العدو بعض الرمايات التي زادت من فوضاه واضطرابه. تجمعت قوة المجاهدين مع هبوط الظلام، وغادرت مواقعها متجهة إلى قبيلة (مرانيات) التي كانت تضرب خيامها على مسافة غير بعيدة. فوجد المجاهدون عندها ما أنساهم شقاء نهارهم. لقد كانت القبيلة كلها في عيد، فاستقبلت المجاهدين بالاهازيج والهتاف والترحيب والغناء على قرع الطبول وصيحات الفرح. وكانت الموائد قد أعدت مسبقا على شرف المجاهدين، فهل كانت القبيلة واثقة مسبقا من حتمية انتصار المجاهدين؟. مهما كان عليه الأمر، فقد أكدت هذه التظاهرة العفوية ما يتمتع به الإنسان المسلم من تعاطف كبير مع مجاهديه ; وما عرف عنه من الأريحية وكرم الضيافة.

وعاش المجاهدون لحظات لا تنسى، تحوط بهم كل ظواهر العناية الممكنة والرعاية التي لا يمكن تصورها أو تصويرها. واستراح المجاهدون في إغفاءة قصيرة، ثم استأنفوا تحركهم نحو (جبل المعيز) بهدف أخذ قسط من الراحة، لتضميد الجراح، وإخلاء الجرحى والمرضى، وتفقد الأسلحة، والاستعداد لمعارك جديدة، إذ كان كل واحد من المجاهدين يعرف عن قناعة ثابتة، بأن طريق الجهاد لا زال طويلا وشاقا. ويتطلب كثيرا من الجهد حتى يتم بلوغ الهدف. كانت نتيجة المعارك في هذا اليوم التاريخي، كالتالي: خسر العدو طائرة جونكر مع كل ركبها الطائر (120 - 150 قتيلا) وبقي حطامها متناثرا فوق أرض (وادي الثعابين) حتى هذا اليوم. بالإضافة إلى الضباط الذين تمت إبادتهم في بداية الاشتباك. وخسر العدو في معاركه عشرات القتلى والجرحى، بدلالة أن الطائرات العمودية (الهيليكوبتر) التي أنزلت المظليين في الصباح، قد اضطرت للعودة والعمل جيئة وذهابا طوال النهار لإخلاء القتلى والجرحى. ومقابل ذلك، فقد استشهد رامي الرشاش الثقيل (بو عمامة) بالإضافة إلى استشهاد مجاهد كان مريضا ورفض الانسحاب مع إخوانه الجرحى. علاوة على عشرة جرحى كانت جراحهم خفيفة. ذلك هو وجيز المعركة التي وقعت يوم 29 حزيران - جوان - 1957 والمعروفة باسم (معركة الصحراء) أو (معركة الجنوب).

إعدام (فروجي)

9 - إعدام (فروجي) (*) جن جنون الاستعماريين بسبب ما كانت تحققه الثورة الجزائرية من انتصارات متتالية، وأخذوا في البحث عن وسائل ظنوا أنها تصل بهم إلى النصر، وأنها تمكنهم من توجيه ضربة حاسمة للثورة. وعلى هذا زجو ابقواتهم المشتركة (البريطانية - الافرنسية) في العدوان على مصر وإنزال القوات على أرضها، وكان لا بد لقيادة الثورة الجزائرية من القيام بعمل مثير وضخم، للتأكيد على بقاء الثورة، وللبرهان على استمرار وجودها فتقرر إعدام عمدة الجزائر العاصمة (بو فريق أميدي فروجي - الذي كان رئيس اتحاد عمداء الجزائر) والناطق باسم الاستعماريين.…وتم تعيين زمرة من الفدائيين المغاوير الذين عرفوا بنشاطهم، والذين توافرت لهم الخبرة للاضطلاع بتنفيذ مثل هذه المهمة. وقد شملت هذه الزمرة (عبد زيناتي) و (مزيان حجاب) و (رباح جعفور) و (قدور الملقب بـ: العيون الزرقاء). وكان لكل واحد منهم مهمته المحددة بدقة: فقد كان (جعفور) هو الرامي - وكان شابا رياضيا يحمل النطاق الأسود

_ (*) للكاتب الجزائري (جعفور بو عالم) والمرجع: RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOU DJ A H ED. ALGER 1977 P. P- 210 - 212.

في المصارعة اليابانية - الجيدو - أما (العيون الزرقاء) فكان واجبه المراقبة وحماية الرامي. وكان واجب (الحاجب) تأمين انسحاب الرامي. أما واجب (الزيناتي) فهو قيادة السيارة. ... عمد أفراد زمرة الفدائيين المغاوير على مراقبة (فروجي) مراقبة مستمرة في الليل كما في النهار وطوال أيام عديدة، مع متابعة تحركاته في ذهابه ومجيئه، وعاداته. ومواعيد تحركاته. وكان المجاهد (بو جملين الهراش) قد التحق بالثوار - الماكي -. وأخذت الشرطة السرية الافرنسية في مطاردته وتتبع أثره، فترك سيارته (السيتروين) الجديدة لزمرة المغاوير. غير أن أفراد هذه الزمرة استخدموا خلال مرحلة المراقبة عددا من السيارات المختلفة، واستطلعت خلالها أيضا أفضل الطرق التي يمكن اتباعها خلال الأوقات المختلفة، وذلك بهدف اختيار أفضل الطرق بعد تنفيذ المهمة. وفي النهاية، قرر أفراد زمرة المغاوير تنفيذ مهمتهم يوم 28 كانون الأول: ديسمبر - 1956. غادر (فروجي) منزله الواقع في (108 - شارع ميشليه - ديدوش مراد حاليا) وذلك في الساعة (950) ليمتطي سيارته (بيجو - 403) كانت لوحتها تحمل بالأحرف الافرنسية (ن. ر - 76 - د. يو - 91) وكانت متوقفة بصورة ملاصقة للبيت تماما وما إن حاول فتح الباب الأمامي - الأيمن - حتى بادره (جعفور) بطلقة من مسدسه عيار (7،65) أصابته في رقبته، ثم أتبعها بثلاث رصاصات في قلبه. وأسرع الرامي والمراقب والمكلف بالحماية إلى السيارة - الستروين - التي كان محركها يعمل بأقصى سرعته، وانطلقت السيارة كالسهم. ووصل رجال الشرطة إلى مكان الحادث

فورا فأذاعوا باللاسلكي (الراديو) أمرا بإلقاء القبض على (رباح جعفور) و (مزيان حجاب) وإيقاف السيارة الستروين التي أعلن عن رقمها. اتبعت زمرة المغاوير الطريق الذي حددته مسبقا لانسحابها. وتركت أول أثر لها عندما اخترقت أول حاجز عسكري اعترض طريق السيارة في منطقة (الداي حسين). وأتبعته بالحاجز الثاني عند (كريسونيير). ثم سارت على طريق (بير خادم). ومرت من أمام مركز الشرطة، فمركز قيادة الجيش، ثم إلى حي (فوكرو) حيث كان يقع مركز تتجول فيه دورية من الشرطة - البوليس - بصورة ثابتة ونجح أفراد زمرة المغاوير في وضع طرد أسلحتهم ضمن أحد المنازل. وتركت المجارة في مكان قريب من منزل (مزيان حاجب) مع تسليم مفتاح السيارة إلى أخي الرامي (حامد جعفور) ليتولى أمر إخفائها. والتجأ أفراد زمرة المغاوير إلى مخزن يمتلكه (الحاج عواوا). أما (زيناتي) فقد ذهب إلى منزله الذي كان قريبا جدا من مكان إخوانه. لم تمض أكثر من برهة قصيرة حتى تدفق سيل السيارات العسكرية الكبيرة (ناقلات الجند) وأخذ الجنود في تطويق المنطقة وكان (حامد جعفور) أول من رأى جند الفرنسيين. فأسرع لإنذار زمرة المغاوير التي نجح أفرادها في مغادرة المكان عبر قطاع لم يكن قد خضع بعد لمراقبة العدو. وكان باستطاعة (زيناتي) أن يرتدي بسهولة ثياب سائق يعمل في شركة المواصلات العامة، وأن يغادر المكان دون قلق، ومن غير أن يثير أدنى شك أو ريبة. أما (رباح جعفر) و (مزيان حاجب) و (قدور - العيون الزرقاء) فقد لجأوا إلى مخبأ يقع حاليا في شارع (عبد المجيد حطاب) حيث كان

هناك تاجر يبيع الزيوت وبلح البحر، وهو صاحب المخبأ والمسؤول عنه. أثار مقتل (فروجي) موجة من الذعر الشديد في أوساط الاستعماريين. فدفعوا أذنابهم للقيام بالمذابح التي سقط ضحيتها عدد من النساء والأطفال والشيوخ في الجزائر. وفي منطقة (بوفريق). ووضعت قنبلة موقوتة بالقرب من القبر حتى تنفجر في لحظة دفن الجثة. غير أن إحكام القنبلة كان سيئا، فانفجرت قبل وصول الموكب الجنائزي بقليل. ورد الأوروبيون على ذلك، عند خروجهم من المقبرة، فهاجموا كل من صادفوه في طريقهم من المسلمين وقتلوه. كما قذفوا بعدد من المسلمين إلى البحر، وذبحوا كثيرين، وما من أحد يعرف عدد الضحايا البريئة التي أزهق الأوروبيون أرواحها. ... نجح أفراد زمرة المغاوير في مغادرة العاصمة - الجزائر -. وانضموا إلى إخوانهم المجاهدين في صفوف الثوار - الماكي - واشتركوا في تنفيذ عدد من العمليات، وخاضوا مجموعة من المعارك ضد العدو، حتي استشهدوا بشرف وهم يحملون السلاح (في حزيران - يونيو - 1957) وذلك في (جبل بوزغزا).

قراءات

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (سورة الأنفال - الآية 61 - 62) قراءات 1 - نداء الطلاب - والاضراب التاريخي (1956). 2 - تعليمات وأوامر إدارية - بومدين (1960). 3 - بيان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (1962). 4 - أمر يومي من قيادة الأركان العامة (1962).

الاضراب التاريخي للطلاب

1 - الاضراب التاريخي للطلاب الاضراب التاريخي - ماي - 1956 (*). النداء الصادر عن الطلبة الجزائريين بعاصمة الجزائر. أيها الطلبة الجزائريون! بعد اغتيال أخينا (بلقاسم زدور) من طرف البوليس الفرنسي، وبعد مصرع أخينا الدكتور (زراجب) وبعد فاجعة الأخ (إبراهيمي) الطالب بمعهد بجاية الثانوي الذي أحرقته القوات الافرنسية بالنار حيا، عندما أحرقت قريته التي رجع إليها في العطلة الدراسية، وبعد اغتيال كاتبنا (رضا حوحو) الكاتب العام بمعهد (عبد الحميد بن باديس) بقسنطينة، وبعد التعذيب الذي لقيه الإخوان الدكتور (هدام - بقسنطينة) و (بابا أحمد) و (طوبال) في تلمسان. وبعد إلقاء القبض على إخواننا الزملاء (عمارة) و (لوتيس) و (صابر) و (تواتي) و (زروقي) و (المهدي). وبعد إخفاء زميلنا (صبحي)، وبعد الاستفزازات التي شنها البوليس الافرنسي ضد (منظمة الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين). ها هو البوليس الفرنسي ينتزع من بين أيدينا أخينا (فرحات حجاج) الطالب، والناظر بالقسم الداخلي في ثانوية (ليسيه) (ابن عكنون) مع مواصلة ... والتعذيب ما يزيد عن

_ (*) المرجع: مجلة الشباب - العدد (25) - أوت - آب - 1961 ص 20.

عشرة أيام (وما يتبع ذلك من مشاركة القضاء الفرنسي والإدارة العليا بالجزائر التي نظرت في هذه القضية) إلى أن وصلنا خبر اغتياله من طرف البوليس بمدينة (جيجل). إذن! فالانذار الذي سجله إضرابنا يوم 20 جانفي (كانون الثاني) 1956 لم يجد نفعا. إن التحصيل على شهادة زائدة قد يجعل منا جثة حقيقية، لأي شيء تصلح إذن هذه الشهادات العلمية التي تمنح لنا في وقت يكافح فيه شعبنا كفاحا بطوليا، في وقت انتهكت حرمات أمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا، في وقت سقط فيه أطفالنا وشيوخنا تحت رصاص الرشاشات وقنابل النابالم. (ونحن إطارة المستقبل) ماذا تحيط إطاراتنا؟ ومن تحيطهم؟ الخراب وأشلاء الجثث؟ من دون شك جثث قسنطينة وتبسة وسكيكدة وتلمسان وغيرها من الجهات والمدن. إن الوضعية التي نحن عليها لا ترضي ضمائرنا. إن واجبنا ينادينا إلى مهام استعجالية. واجبنا ينادينا إلى التضحية المتواصلة بجانب الذين يكافحون ويستشهدون أحرارا مجابهين العدو. إننا نقرر الإضراب التام، وبصفة عاجلة، ونقرر مقاطعة الدراسة والامتحانات إلى أمد غير معين. يجب مبارحة مقاعد الجامعة للالتحاق بصفوف جيش التحرير. يجب الالتحاق جماعات بجيش التحرير الوطني الجزائري وبجبهة التحرير الوطني الجزائرية. الجزار 19 ماي - أيار - 1956.

تعليمات وأوامر إدارية

2 - تعليمات وأوامر إدارية أعادت الحكومة الجزائرية المؤقتة تنظيم أجهزتها في الجلسة التي عقدتها في طرابلس - ليبيا - سنة (1960). وعينت (بومدين - هواري) مسؤولا عن قيادة جيش التحرير الوطني فأصدر (بومدين) مجموعة من التعليمات والأوامر الادارية. وهي تبرز بعض المشكلات التي كان يجابهها جيش التحرير خلال تلك الحقبة التاريخية. هذا ومن الملاحظ ضعف التركيب اللغوي - في اللغة العربية - ويمكن أن يعزى سبب ذلك إلى كتابته بأسلوب بسيط حتى يفهمه الجميع. ويعكس ذلك بداهة ما تعرضت له اللغة العربية، وما وصلت إليه بسبب التركيز الاستعماري المستمر لتدمير اللغة العربية في الجرائر (*).

_ (*) المرجع (وثائق مركز - المتحف الوطني للمجاهدين) وهناك نسختان من هذه الوثائق نسخة كتبت باليد - ونسخة طبعت على الآله الكاتبة. وكلتاهما تحمل توقيع (بومدين) غير أنهما تختلفان في صياغتهما. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مقارنة (الاعلام) الوارد أعلاه والمطبوع بالآلة الكاتبة مع النص التالي المكتوب باليد - وهو كالتالي: (إعلام) (نعلموكم على القانون اللي خرج في 27 حتى 31 جانفي 1960 انتاع الحكومة المؤقتة =

(اعلام) من الفصل المؤرخ في 27 جانفي إلى 31 منه 1960. للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بعد المواقف التي اختتمها المجلس الوطني للثورة المجتمع في طرابلس. تأسست قيادة عليا عامة، لتمسك بيدها جميع المشاكل العسكرية للثورة. هذه القيادة العليا العامة تتركب كما يلي: الكلونيل: بومدين - مسؤول القيادة العليا العامة. الأعضاء: الكمندان: سليمان. الكمندان: منجلي. الكمندان: عز الدين. ليكن هذا الاعلام في علم كل المصالح والفرق المجاهدة في اجتماع منظم. للجيش 8 فبراير - 1960. الكلونيل، مسؤول القيادة العليا العامة (بومدين) (القرار رقم 1) احتياجات السنة السادسة من الكفاح، جعلت حالة الحكومة

_ = للجمهور ية الجزائرية. بعدما اجتمع المجلس الوطني أنتاع الثورة في طرابلس، تكونت قيادة عامة، باش تكون هذه القيادة تحكم بيدها جميع المسائل العسكرية أنتاع الثورة، وهذه القيادة متركبة من: الكولونيل: بومدين - المسؤول العام أنتاع القيادة ومعه ثلاثة مسؤولين، وهم: الكومندان - سليمان. الكومنان - منجلي. الكومنان - عز الدين. وهذا الخبر يكون في علم الناس! الكل اللي يخدموا في مصالح الثورة في اجتماع منظم. للجيش 8 فبراير - 1960. الكولونيل مسؤول القيادة العليا العامة - بومدين .

المؤقتة للجمهورية الجزائرية، لأن تسرع في تنظيم عجلات مصالح الثورة. القيادة العليا العامة التي تكونت في هذا الإطار قررت بقوة تطبيق السياسة العسكرية التي اختتمتها وجعلتها قرارات الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وعلى هذا العمل، يتوجه نداء إلى جميع الطبقات للعمل الكبير الشريف الذي تنتظره البلاد، ويجعل جميع المسؤولين والجنود يوجهون نظرهم نحو المستقبل، ونحو الجزائر، ويجندون أنفسهم بإرادة، لكل الظروف. وباختصار، جميع المسؤولين الذين هم على رأس كل العجلات الموجودة أن: 1 - يبينوا جميع الحالات التي أظهرتها مقدرتهم، للقيادة العليا العامة. 2 - يبتعدوا على جعل قرارات هامة بدون أن يطلعوا السلطة العليا. إنه يمنع بشدة القيام بالتجنيد. القيادة العليا العامة هي القادرة في اتخاذ القرارات. 3 - يقدموا كل الاقتراحات المفيدة التي يريدونها في إطار التغييرات المنتظرة.

بيان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إلى الشعب الجزائري

3 - بيان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إلى الشعب الجزائري أيها الشعب الجزائري! بعد عدة أشهر من المفاوضات الصعبة والمثمرة، تم التوصل إلى اتفاق عام في مؤتمر إيفيان بين الوفد الجزائري، والوفد الفرنسي، وهذا يعتبر انتصارا كبيرا يحرزه الشعب الجزائري الذي انتزع ضمان حقه في الاستقلال. وبهذه المناسبة نعلن باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، المفوضة من المجلس الوطني للثورة الجزائرية وقف القتال في كافة أنحاء التراب الوطني ابتداء من يوم الاثنين 19 مارس (آذار) 1962 على الساعة التاسعة ليلا، كما نأمر باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كافة القوات وقف جميع العمليات العسكرية والأعمال المسلحة في جميع أنحاء التراب الوطني. أيها الجزائريون! أيتها الجزائريات! لقد مرت سبع سنوات ونصف تقريبا على حمل الشعب الجزائري للسلاح من أجل التحرر من النير الاستعماري وانتزاع استقلاله وسيادته الوطنية، والمجد للشعب الجزائري الذي سجل خلال هذه الفترة في تاريخه الحافل، إحدى أروع ملامحه. والمجد لجميع ضحايا الحرب والشهداء الذين سقطوا ليعيش الشعب

الجزائري، وللجرحى العديدين الذين كانوا رمح المعركة، وللمعتقلين والمساجين الذين طالما قاسوا وعانوا من المعتقلات والمحتشدات الاستعمارية، فإليكم جميعا يكن الشعب عزا أزليا، وستحتفظ - الأجيال بالذكريات الخالدة للمثل الذي أعطيتموه. فبفضلكم وبفضل إخلاصكم وتضحياتكم اللامحدودة أحرز تقدما كبيرا على طريق التحرر. ففي هذا اليوم، وفي هذه اللحظات التاريخية، نوجه تحياتنا باسم الحكومة المؤقته للجمهورية الجزائرية إلى الشعب الجزائري البطل، الذي دفع الفدية الغالية للحرب، وسمح بفضل شجاعته وتفانيه بإنقاذ الوطن المسحوق أكثر من قرن من الاستعمار، وباسترجاع كرامته. أيها الجزائريون! أيتها الجزائريات! لقد واجه الشعب الجزائري طوال سبع سنوات ونصف من الحرب الشرسة، أعتى قوة استعمارية عرفها القرن، جندت ما يزيد على المليون من الجنود الفرنسيين، وكل الأسلحة العصرية من طيران ومدفعية ودبابات وبحرية. وقد دفع ذلك بفرنسا إلى حد إنفاق ثلاثة مليارات من الفرنكات يوميا، إضافة إلى الدعم الجماعي الذي قدمه لها حلف الأطلسي في شتى المجالات: العسكرية والمالية والديبلوماسية والمعنوية، وحاولت بمساعدة قسط كبير من المستوطنين الأوروبيين بالجزائر، العمل دون جدوى للإبقاء على (الجزائر الفرنسية). وقد واجه الشعب الجزائري هذه القوة، قبل كل شيء، بإيمانه بعدالة قضيته، وثقته في نفسه، ومصيره، وإرادته الثابتة في تحطيم أغلال الاستعمار، وخاصة بإجماعه في النضال، وقد نهض

الجزائريون - كل الجزائريين - من رجال ونساء، وشباب وشيوخ، من مدينة الجزائر إلى (تمنراست) ومن (تبسه) إلى (مغنية) كرجل واحد في حرب التحرير. ولم تتمكن محاولات التفرقة، وتسلل المناهضين للثورة والمستفزين في صفوفهم، من أن تنال من عزيمتهم ووحدتهم. وقد شعر الجزائريون بأنهم أعضاء جسم واحد في هذا الكفاح المرير، وكانت جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني أداة المعركة الفعالة في خدمة الشعب، وألحق بفضل عملها المستمر ضربات قاضية بالمستعمر، ونالت الثورة الجزائرية إعجاب الجميع، وتحظى حاليا بسمعة عالمية جلبت لها العديد من التأييدات. فإلى أشقائنا المغاربة والعرب وجميع الأفارقة والاشتراكيين وشعوب العالم الثالث، والديموقراطيين في فرنسا وأوروبا الذين ساعدونا. عرفاننا بالجميل. وكان هذا الكفاح درسا تستلهم به الشعوب الخاضعة للامبريالية، إذ أنه حطم خرافة الامبريالية التي لا تقهر، فبالإضافة إلى مساهمته في تحرير أفريقيا، أبرز أن أي شعب مهما كان صغيرا، وبوسائله القليلة، يستطيع مواجهة أعتى قوة امبريالية، وينتزع حريته. وقد أجبر الكفاح البطولي للشعب الجزائري، والمساندة الدولية للقضية العادلة، أجبر الخصم على التخلي عن مواقفه القائلة (بأن الجزائر فرنسية). وحمله على الرضوخ لاستقلال الجزائر. وقد أرغم الخصم، رغم قوة العتاد الذي وضعه طوال سنوات الكفاح المريرة، على العدول عن الحلم بانتصار عسكري والدخول في مفاوضات مع الحكومة المؤقتة للجمهورية

الجزائرية. ويكمن الانتصار العظيم الذي حققه الشعب الجزائري في تخلي العدو عن مواقفه السابقة التي تربط كل مفاوضات بوقف القتال وقد تجسد هذا الانتصار على الصعيد السياسي باسقلال بلادنا بواسطة تقرير المصير الذي ستكون نهايته المنطقية والحتمية بالاستفتاء. وكان من نتائج المفاوضات بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والحكومة الفرنسية، فتح صفحة جديدة في تاريخ بلادنا، كما كان قرار وقف العمليات العسكرية في كافة أنحاء التراب الوطني، إحدى نتائج الاتفاقيات المبرمة، حول ضمان تقرير المصير ومستقبل بلادنا وكان مضمون هذه الاتفاقيات مطابقا لمبادىء الثورة التي تأكدت في مناسبات عديدة، والتي هي كالآتي: 1 - الوحدة الترابية للجزائر في حدودها الإقليمية الحالية، الأمر الذي يبعد أي محاولة سافرة أو مستترة لتقسيم شمل الجزائر، ويبعد كذلك كل محاولة لتجزئة بلادنا وصحراءها. 2 - استقلال الجزائر: تتمتع الدولة الجزائرية بكل مهام السيادة والدفاع الوطني والديبلوماسية واختيار توجيهها الخاص على الصعيد الداخلي والصعيد الخارجي. 3 - الاعتراف بوحدة الشعب الجزائري، وتخلي فرنسا عن مفهومها القاضي بأن الجزائر خليط من الجاليات المختلفة، والاعتراف بالشخصية الوطنية للشعب الجزائري ذا الثقافة العربية - الإسلامية التي التحمت في لهيب المعركة من أجل الاستقلال. 4 - الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كمفاوض وحيد، وممثلا حقيقيا للشعب الجزائري، فرض نفسه على الواقع. وهكذا تطورت مرحلة المفاوضات التي كانت مرتكزة في البداية

على ضمانات تقرير المصير بصفة واقعية، إلى مفاوضات شاملة حول مستقبل الجزائر. أيها الجزائريون! أيتها الجزائريات! فلنستعد لتحقيق الاستقلال. إن الاستقلال ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة فقط، تسمح بتحويل وضعية بلادنا التي تمر من حالة الركود الاستعماري إلى وضعية بلد حر يخوض معركة البناء الاقتصادي والتحرر الاجتماعي. ان هناك مهاما كبرى تنتظرنا، وهي النهوض ببلد عرف الخراب بسبب ما يزيد على سبع سنوات من الحرب، وتضميد الجراح والقضاء على البطالة ومحاربة التخلف، كما أنه يقع علينا واجب بناء مجتمع جديد يعكس وجهه الجديد الفتي - الجزائر الحرة - التي يقدم فيها كل المواطنين مساهمتهم، وكل هذه المهام تفرض علينا من الآن بذل الجهود أكثر من قبل، وتعبئة جميع الطاقات ودعم الوحدة والتلاحم الكاملين، والالتزام بالانضباط واليقطة لإحباط مناورات الاستفزازيين ودعاة الانقسام والديماغوجية. فعلى كل الجزائريين ملازمة حالة التأهب، وسيتم توطيد تنظيم الجماهير في الجزائر، وتدعيم الروابط السياسية والديبلوماسية التي التحمت في غضون سبع سنوات من الكفاح. أيها الجزائريون! أيتها الجزائريات! إن وقف القتال لا يعني السلم، وإن مرحلة الانتقال ما هي إلا إعداد لحالة الاستقلال، غير أنها لا تعني الاستقلال، وما دام الاستقلال لم يعلن بعد والدولة وحكومة الجزائر الحرة ليستا على التراب الوطني، ينبغي على الشعب والمجاهدين والمناصلين اعتبار

أنفسهم في حالة تجنيد وملازمة اليقظة طوال المرحلة الانتقالية، وينبغي على كل مسؤول مناضل البقاء في منصبه. وسيواصل شعبنا القوي بوحدته أمام العالم، نضاله لبلوغ الأهداف التي سقط من أجلها مئات الآلاف من المواطنين الجزائريين. أيها الجزائريون! أيتها الجزائريات! فلنضاعف الطاقات، ولنستعد لإنشاء دولة جزائرية مستقلة ذات سيادة، تسمح لنا بإرساء أسس لجمهورية جزائرية ديموقراطية اجتماعية. يحيا الشعب الجزائري، يحيا استقلال الجزائر (*).

_ (*) مجلة (المجاهد) الجزائرية. العدد (91) - 19 مارس - آذار - 1962 - والمرجع - ملفات وثائقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - أوت - آب) 1976 ص 75 - 76.

أمر يومي من قيادة الأركان العامة

4 - أمر يومي من قيادة الأركان العامة (19 - آذار - مارس - 1962) أيها الضباط وضباط الصف، أيها المجاهدون والمسبلون والفدائيون! في أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، وبعد (124) سنة من ليل مظلم، ثار الشعب الجزائري، وإنكم لتعرفون آثار ونتائج هذه العملية جميعا لأنكم عشتموها. وطوال قرابة ثماني سنوات، لم يساوم الشعب الجزائري، الذي وقف كرجل واحد، ولم يبخل أبدا بأي شيء للوطن. وإن آلاف الشهداء يشهدون على ضمانة تضحيات هذا الشعب. فالويل والدمار لمن ينسى هذه التضحيات! أيها المكافحون في صفوف جيش التحرير الوطني! اليوم أعلن عن وقف القتال. وإن هذا العمل ليضع حدا لمرحلة من أكثر المراحل التي عرفتها البلاد من حيث الاضطراب والعنف. وكما كان الشأن بالنسبة لعملية أول نوفمبر (1954) فإن هذا العمل ليفتح في الأفق إمكانيات هائلة لبلدنا. وإن نتائج هذه المرحلة الثانية ستوقف علينا نحن فقط، ونحن ما سنكون عليه، إما يقظين حقيقيين، أو لا مبالين وغير مسؤولين. إن وقف القتال ليس هو السلام. وكما أن السلام ليس هو

الاستقلال، فان الاستقلال ليس هو الثورة. أي إن المعركة ما زالت مستمرة، وستكون أكثر ضراوة، وأكثر تعقيدا وأكثر دقة، وذلك أكثر من أي وقت مضى. أيها الضباط وضباط الصف، أيها المجاهدون! إن الطريق الذي سيوصلنا إلى الأهداف الأساسية للثورة ما يزال طويلا، وهو طريق خطير لأنه مزروع بالعراقيل والعقبات المتصدرة. إن الوفاء للقسم الذي أعطيناه لشهدائنا يفرض علينا، ويتطلب منا، طيلة سنوات أخرى التعبئة في كل وقت. وطالما لم يصبح الاسقلال ملموسا ومجسما فإنه لن يسمح لأي كان بأن يخرج عن الصفوف، وأن يضع سلاحه، وأن يستسلم للراحة السهلة. أيها المكافحون الأبطال، ويا أيها الحراس اليقظون، إنكم ستبقون كما كنتم حتى النصر النهائي. أيها المناضلون، والمجاهدون! بعد حوالي ثماني سنوات من الكفاح، ما زال شعبنا مشتتا، وهياكله الاجتماعية مضطربة، وثرواته مخربة. وليس من حق أي واحد منا أن ينسى هذا الحصار المؤلم. وعليه فإنه يتعين، وبكيفية إجماعية، أن يعاد لهذا الشعب إطار الحياة العادية والتوازن الاقتصادي والاجتماعي الذي يكون في مستوى طموحاته وتضحياته. فمن هو أولى وأكثر أمانة منكم بأن يؤمن له عودة كرامته وثرواته وحريته في العمل، ويضمن له سيره السريع نحو التقدم؟ لا أحد! فمنذ الآن، وبالنسبة لكم، فإن الطريق مسطر كله. والمعركة مستمرة. وإذا كانت الأسلحة ستسكت، فإن العمل الثوري يجب أن

يتضاعف أثناء فترة إعادة البناء والتشييد، المردة في أول نوفمبر. لقد تعلمتم أثناء الكفاح أنه ليس ثوريا من يرغب في ذلك أو من يعلنه، ولكن ذلك الذي هو مقتنع بمبادئنا، ويرسم لنفسه خط سير وتصرف دقيق في إطار هذه المبادىء. ويبرهن بالعمل، وبالعمل وحده، على ذلك. أيها الضباط وضباط الصف، أيها المجاهدون والمسبلون والفدائيون! في الوقت الذي نتلقى أمر وقف القتال، لنرجع بأفكارنا إلى شهدائنا الذين يراقبوننا من أضرحتهم، ولنحيي ونترحم بخشوع على أرواحهم وذكراهم الخالدة. أيها المجاهدون! لهؤلاء قدموا سلاحكم! وقدموا لهم التحية والتشريف اللائقين بذكراهم وبمقامهم! ولنؤد لهم مرة أخرى القسم على متابعة المعركة، يقظين، وسلاحنا أمامنا، ولنكن دائما على استعداد! ولنجدد لهم عهدنا بأن نبقى على مستوى تمنياتهم الغالية. روادا وضامنين لطموحات الثورة وأهدافها، ساهرين على إنجازها الكامل. أيها المكافحون في صفوف جيش التحرير الوطني! إن الشعب الجزائري يراقبنا. والأمة تنتظرنا. وإن استعجال وتعقيد المهام يدعونا، كما أن حيل العدو ترصدنا. ولذلك فإن مسؤوليتنا أثقل من أي وقت مضى. ولا تنسوا أيضا أن الشعوب المضطهدة، التي تابعت يوما بعد يوم سير كفاحنا وتقدمه، تنتظر بفارغ الصبر الطريقة التي ستتبلور بها ثورتنا، وطريقة التشييد التي يتعين علينا اختيارها والقيام بها. وبما أن الثورة الجزائرية ذات طابع عالمي، فنحن مدينون بانتصارها

لاتجاه شعبنا فقط، ولكن أيضا تجاه جميع الشعوب التي تتطلع إلينا بأنظارها. فلنعرف كيف نسمو بأنفسنا إلى مستوى هذه الحقيقة السامية، ولنضم الصفوف، ولنبق ثابتين ويقظين. لتحيا الجزائر الثورية (*).

_ (*) المرجع: ملفات وثاثقية (24) وزارة الاعلام والثقافة - الجزائر (آب - أوت - 1976) ص 77.

محتوى الكتاب

(محتوى الكتاب)

_ الموضوع ................................................ الصفحة

_ 6 - مع المجاهدين في معاقلهم ................................... 83 7 - ومع قائد من المجاهدين ..................................... 92 الفصل الثاني 1 - ولادة سرية ومصرعها ........................................ 99 2 - ضباب الفجر ............................................... 106 3 - المهمة الاولى ............................................... 121 4 - معركة (تيفرين) في جبل (منصور) .......................... 133 5 - معركة جبل (منوز) ......................................... 153 6 - المقاومة في (بوهندس) ...................................... 162 7 - معركة (الأوراس) ............................................ 177 8 - معركة في الجنوب .......................................... 188 9 - إعدام (فروجي) ............................................. 203 قراءات 1 - نداء الطلاب - والإضراب التاريخي (1956) ............... 209 2 - تعليمات وأوامر إدارية - بومدين (1960) ................... 211 3 - بيان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (1962) .......... 214 4 - أمر يومي من قيادة الأركان العامة (1962) ................. 220

12 - المجاهدون الجزائريون

المجاهدون الجزائريون

بسم الله الرحمن الرحيم

المجاهدون الجزائريون بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1404 هـ - 1984م الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986م

الإهداء إلى الشعب العظيم شعبنا العربي - المسلم الذي لا زال متمسكا بأصالته في الجزائر المجاهدة وفي كل دنيا العرب المسلمين أهدي هذه التجربة التاريخية بسام

المقدمة

المقدمة ويمضى المجاهدون الجزائريون قدما على طريق الثورة، فيخطون بتضحياتهم ودمائهم أروع آيات الشهادة، ويفوز بعضهم بإحدى الحسنيين- الشهادة- ويبقى لبعضهم إحدى الحسنيين -النصر - يمضي المجاهدون الجزائريون قدما على طريق الثورة، وتتشابه أيامهم ولياليهم، وتتماثل حكاياتهم وقصصهم، لتنسج بتشابهها وتماثلها وتكاملها ملحمة البطولة الخالدة، ملحمة الثورة العملاقة، مفخرة العرب المسلمين في العصر الحديث. وحكاية الثورة، ككل حدث تاريخي، يمكن أن تضيق حتى تقتصر على الخطوط العامة والمبادىء الرئيسية، كما يمكن أن تتسع لتشمل أدق التفاصيل وأصغر الأمور. وتبقى الفائدة من التجربة التاريخية متوافرة في الحالين، تبعا لما يرغبه الباحث في الإفادة من هذه التجربة والتعلم منها. وفي الحقيقة، فلا الإيجاز يغني عن التوسع والشمول، ولا هذا يغني عن الإيجاز في عصر أصبح لعامل الوقت دوره الحاسم في حياة الأفراد والشعوب. وعند هذه النقطة يمكن الوصول إلى ما هو مقصود. لقد تم وضع المخطط الأساسي بحيث يشمل الكتيب العاشر من هذه المجموعة (جيش التحرير الوطني الجزائري والصراع

المسلح) ما هو ضروري لتغطية أعمال القتال. ولكن تبين أنه من المحال تغطية هذه النقطة في كتيب واحد. فجاء الكتيب التالي (أيام جزائرية خالدة) لإكمال قصة الصراع المسلح في الثورة الجزائرية. وكان لا بد أيضا من إعطاء البحث بعض أبعاده في الكتاب الحالي (المجاهدون…الجزائريون وتطور الصراع المسلح). وتبقى هناك نقاط تتطلب المزيد من العرض، وهو هدف الكتاب التالي (المجاهدة الجزائرية والإرهاب الاستعماري) حلقات متماسكة، متكاملة، يمسك بعضها برقاب بعض، وعلى الرغم من ذلك، وإقرارا بالحقيقة، فإن قصة الثورة، وقصة الصراع المسلح فيها، تبقى أكثر غنى، وأكثر شمولا واتساعا من أن تحيط بها بعض الكتيبات. غير أن المأمول هو ألا يكون العرض المقدم في هذه الكتيبات قد قصر عن…الجمع بين متطلبات…الإيجاز ومتطلبات الشمول. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فقد يظهر هناك بعض التشابه في (قصص الثورة) أو في (التحقيقات الواردة عن جهاد المجاهدين، وأيامهم، وأعمال الثورة) وقد يخيل أنه بالمستطاع, الاستغناء عن قسم منها، ولكن التدقيق في تلك القصص والوثائق يظهر أن هناك خيوطا متجددة باستمرار في نسيج الثورة، وهي بتجددها جديرة أن تذكر حتى لو كان فيها بعض التشابه مع ما سبقها. وقد كان بالمستطاع استخلاص تلك الخيوط وحدها. وإبرازها…دون سواها، ولكن ذلك كان من شأنه يقينا تشويه النواحي الإبداعية، الجمالية،…لسرد مسيرة…الأحداث، فيفقد البحث أحد ركنيه (المتعة والجمال). ولما كان هدف هذه المجموعة تحقيق هدفين في وقت واحد وهما (القائدة) ثم

(المتعة) فقد كان لزاما الإبقاء على الفقرات المعروضة، بشكلها ومضمونها، قدر المستطاع، حتى يتحقق المطلوب، والله ولي التوفيق. تبقى هناك كلمة في اصطلاح (المتعة) الذي سبق استخدامه. لقد كانت الثورة الجزائرية، مأساة (تراجيدي) بكل ما تحمله كلمة المأساة من أبعاد ومضامين. حتى بات من المتفق عليه بأنها أكبر مأساة في القرن العشرين، إلى جانب مأساة العرب في فلسطين، فأية (متعة) في استقراء فصول المأساة؟ وهل هناك استمتاع باستقراء بعض ملامح ما عاناه المجاهدون من آلام وشقاء وما أقدموا على التضحية به من أغلى التضحيات وأنبلها؟ أجل! هناك متعة، وهي متعة المجاهد وهو يسير فوق المأساة بإيمان لا حدود له. أجل! هناك متعة، وهي متعة الفدائي وهو يسمو ويرتفع عن الذات ليقدم النموذج الأعلى للإنسان العربي المسلم. أجل! هناك متعة، خوض الصراع المرير في ظروف متناهية القوة، ووسط ضجيج الحرب بوسائط غير متكافئة وبقوى غير خاضعة لما هو معروف من موازين القوى. وبالرغم من ذلك، وفوق كل ذلك، يسير المجاهد والفدائي والمسبل (النصير). الرجل والمرأة، الشيخ والطفل، وكلهم في ركب واحد، وكلهم ثقة لا حدود لها بالنصر، وحتمية الفوز. إنه النموذج الأعلى للإنسان العربي المسلم خاصة ولكل إنسان عامة. فهل هناك ما هو أكثر إمتاعا من مطالعة قصته.

غير أنها ليست في كل الأحوال متعة ما هو معروف من متع الدنيا. إنها متعة الإعجاب بالإنسان المتفوق. وقد كان الجزائري المجاهد هو ذلك الإنسان المتفوق. بسام العسلي

الفصل الأول

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (سوره البقرة - الآية - 214) الفصل الأول 1 - أيام الجهاد. 2 - فضائل الثوار. 3 - الإدارة في مجتمع الثورة. 4 - تنظيم الجاسوسية. 5 - التطور الثوري في الشمال القسنطيني. 6 - صدق الثورة ينتصر على كذب الاسعمار. 7 - مواقف لا تنسى. 8 - الثورة ومسؤولية القيادة. 9 - الفلاح والثورة. 10 - الطفل الجزائري ضحية الاستعمار.

المجاهدون في زيارة لأهلهم على الحدود المغربية

أيام الجهاد

1 - أيام الجهاد لقد حاول الاستعمار الفرنسي، باستمرار، إسدال ستار كثيف على الجزائر لعزلها عما يحيط بها، ولفصلها عن عالمها العربي الإسلامي، ومقابل ذلك، أقام - الاستعمار الفرنسي علاقات جديدة للجزائر تربطها بما كانوا يسمونه (أفريقيا الفرنسية). وقد نجح الاستعمار في ذلك، إلى حين، وكان نجاحه محدودا، إذ بقيت قنوات الاتصال مفتوحة ينقلها إلى العالم العربي -الإسلامي طليعة مجاهدة يحتل عبد الحميد بن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي ورابطة العلماء المرتبة الأولى فيها، ومقابل ذلك، كان العالم العربي- الإسلامي يحاول باستمرار أيضا، اختراق جدار العزلة الافرنسية، وليس هناك من ينسى تلك المناقشات التي كانت تدور في كل مقهى وفي كل مكان من فرنسا ذاتها كلما التقى جزائري بإنسان عربي مسلم من أبناء بلاد العالم العربي ولقد كان هذا التأثير المتبادل محدودا جدا، وكان ذلك يثير نوعا من التشاؤم في نفس الإنسان العربي بشأن مستقبل هذا القطر، العزيز على قلب كل إنسان عربي مسلم. لم يكن من الغريب، بنتيجة ذلك، أن يستقبل العالم أنباء انفجار الثورة في الجزائر صبيحة الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني -

1954 (يوم عيد جميع القديسين) بمزيج متناقض من المشاعر، التقى فيها اليأس بالرجاء، والقنوط بالأمل، فهل يمكن (للجزائر الفرنسية) كما كانوا يسمونها، أن ترفع صوتها بالتذمر والاحتجاج، بعد طول استكانة؟ وأسرع العالم العربي - الإسلامي، بجماهيره الواسعة، يحتضن الثورة بقلوب ملؤها الإيمان والثقة. ويتابع بعيون يقظة ما يحدث على ثرى الجزائر الطهور. وحاولت فرنسا الاستمرار في سياستها لعزل الجزائر المجاهدة، بشتى الأساليب، وبمختلف الوسائل، غير أنه بات من المحال عليها إخفاء وهج الشمس الساطعة. وأخذ العالم، شيئا بفشيئا، يخترق ببصره ستار الكتمان الفرنسي، وأقبل الباحثون عن المعرفة، أو الباحثون حتى عن المغامرة، وهم يستطلعون معالم هذا الأفق الجديد. وكان بعضهم موضوعيا، وحاول بعضهم الآخر تفسير ما يقع تحت بصره بمنظوره الخاص أو على أساس أفكار سلفية، غير أن هؤلاء وأولئك اتفقوا على حقيقة واحدة لم يكن باستطاعتهم إنكارها أو التنكر لها: هنا عالم جديد يظهر للوجود، وهو عالم يناقض كل ما هو معروف مما صنعته الأجهزة الاستعمارية الفرنسية. من هذا العالم الجديد، توافرت المعلومات عن حقيقة المجاهدين، وعن حقيقة ما يتضمنه مفهوم الجهاد، وما تشمله أيام الجهاد من جلائل الأعمال، التى يضيق المجال، مهما كان متسعا، عن احتوائها والإحاطة بها، وإذن، فقد يكون التعرض لبعضها كافيا لتقديم صورة عنها. وقد جاء في (هذا المجال) (¬1) ¬

_ (¬1) المرجع: شهادات حرب الجزائر كما شاهدوها (للكاتب داجنس نيهيتر) في صحيفة =

ما يلي: (مضت ثلاث سنوات والمجاهدون الجزائريون يتابعون حربا ضارية لا هوادة فيها ضد فرنسا، والغاية من هذه الحرب هي تحرير الجزائر. اجتزنا الحدود بعد أن عادت طائرات الاستطلاع الفرنسية إلى قواعدها فوق الشاطىء. كانت الحجارة تصر تحت الأحذية الثقيلة، وكانت البغال تتسلق المرتفعات، وكنا نبذل الجهد في سيرنا الصاعد، عبر الدروب الضيقة التي تسير ملتوية بين القمم المشجرة من الجبال الجزائرية. وكانت آخر أشعة الشمس تصل إلينا عبر الغبار المتعالي من الطريق. وكان يصل مسامعنا دوي المدافع من المراكز العسكرية الفرنسية الموجودة وراء الجبال. وهذا القصف هو الموسيقى الخالدة التي اعتادت أسماع (المجاهدين) (¬1) عليها كل مساء في تلك الجبال المشجرة من شرقي الجزائر. ولم تكن هذه اللوحة خالية مما هو خيالي، مثير، بشكل لا يوصف. إن الشعور بأننا نعيش في حرب، هو شعور لا زال بعيدا عنا، ولا بد من انقضاء أيام عديدة قبل أن نلمس هذا الشعور لمسا، عندما يفرض ذاته بسرعة ووحشية. إننا لن نشعر بذلك الشعور حقا حتى تأخذ القنابل الفرنسية بالانفجار بين صفوفنا ¬

_ = (سفن اوستى) السويد - (دراسات ووثائق عن الجزائر والثورة الجزائرية - مصلحة النشر في جبهة التحرير الوطني) - مطبعة الأديب. وهي مجموعة مقالات في الأصل بدأت في الظهور اعتبارا من يوم 6/ 9/ 1957. (¬1) استخدمت هنا كلمة (المجاهدين) بدلا من كلمة (العصاة) التي كان الكتاب الغربيون يسخدمونها متأثرين بالدعاية الفرنسية التي كانت تطلق على (المجاهدين) أسماء (العصاة) أو (الفلاقة) أو (المتمردين) الخ ...

أثناء الهجوم الذي شنه الجزائريون على إحدى القلاع الفرنسية. ولكن ما إن شرع الملازم الجزائري قائد القافلة الصاعدة عبر القمم، يروي لنا قصة آخر أيام المعركة، حشتى زال كل ما كان في نفوسنا من ذلك الشعور المثير. ولقد راح ذلك الملازم يروي لنا بهدوء، وبصوت متزن، جزءا من العنف والإرهاب والانتقام الفرنسي، من قرى الفلاحين، هذه القصة التي تبدو لا نهاية لها: - لقد سقط أحد رجالنا في ساحة الشرف، أثناء هجومنا على قافلة، غير أن الخسائر الفرنسية كانت أفدح. فما كان من الفرنسيين إلا أن انتقموا من السكان، فدمروا - على عادتهم - دائما، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بمثل هذه التهمة الموجهة إلى الجيش الفرنسي فوق أرض الجزائر، ولقد جاءت أصوات مريرة أخرى، خارجة من الأكواخ التي يقيم فيها الفلاحون في الأودية لتضيف إلى هذه القصة فصولا جديدة كل مساء. أما أشد ما في الأمر فظاعة، فهو سماعك مثل هذه الأقوال، تلقى عليك من غير دعوة مسبقة، فتجعلك تشعر كل يوم بمزيد من الشكوك تدهم نفسك. فهل يمكن أن تقوم القوات الفرنسية بشن مثل هذه الحرب؟! ثم إن موجة الشكوك هذه لا تلبث حتى تتحول إلى قناعة ثابتة تجعلك تؤمن بصدق ما يقولون. ... إن كل ما يسمى تعبا جسديا، وسيرا منهكا، وحرارة مرهقة أثناء النهار، وبردا لاذعا أثناء الليل، وغناء متواضعا، وحشرات تلصق بالجسم، إن كل ذلك لا يرهق النفس بقدر ما يرهقها ذلك الصراع النفساني الذي يدهم المرء ويهيمن على مشاعره. إنه صراع بين الثقة القديمة بفرنسا والعاطفة الجديدة التي يبعثها في

النفس هؤلاء الشهود الجدد، وأقوال (المجاهدين)، التي لا يمكن إهمالها لمجرد الرغبة الحمقاء التي يخلقها في النفس ذلك الصراع العاطفي الذي لا يتوقف يوما. وكيف يمكن أن يصح ما تزعمه الدعاية الفرنسية من أن (المجاهدين) يأتون بالسكان المدنيين ويرغمونهم - قسرا - على مساندة جيش التحرير الوطني؟! وكيف يصح ذلك ونحن نرى الأهلين يشكلون عند مرورنا بهم - عبر الوادي - جماعات تهلل للنصر. أو عندما أطبقت علي امرأة عجوز وراحت توسعني تقبيلا بحماسة لا توصف؟ كيف يصح ذلك ونحن نرى الفلاحين يرافقوننا خطوة خطوة، وقد حملوا جرارهم المليئة بالماء، وكل هدفهم تجديد الدعوة لنا حتى نعود لزيارتهم مرة أخرى؟ وقد يفكر المرء بأن مظاهر الإعجاب والثقة هذه كلها مفتعلة، مهيأة، موعز بها مسبقا، وتحت تأثير التهديد. ولكن الواقع هو أن المرارة التي يعرب بها سكان الأكواخ عن عواطفهم، وهم يتحدثون عن الفرنسيين، لا يمكن إلا أن تكون حجة دامغة صادرة عن عاطفة صادقة، غير مفتعلة. لم يكن في وجه تلك المرأة العجوز - التي سبقت الإشارة إليها - شيء من الكذب أو الخداع، فقد فقدت كل شيء. وكانت دمومعها تنساب بسخاء وهي تتعلق بجواد الرئيس، وتتوسل إليه أن يصحبها معه إلى الجبال الأمينة القريبة من الحدود. فقبل عدة أيام، قامت المصفحات الفرنسية بحملة على المنطقة، وهاجم الجنود الفرنسيون بيتها، فلم يبقوا منه شيئا، وانتهبوا كل ما تملك، ودمروا البيت فبعد أن التحق ولدها بجيش التحرير الوطني، على أثر استياق الفرنسيين لأبيه تعرضت العجوز مرتين خلال أشهر قليلة للنهب والتدمير.

لم يوضع أحد في طريقي حتى يملي علي دعايته ويفرضها فرضا. إذ أن قوات (المجاهدين) لا تعتمد هذه الأساليب المعقدة. وجهاز دعايتها متناه في بساطته، وتقارير الجنود والضباط في موضوع الإرهاب الفرنسي ليست من ذلك النوع المعتاد، المدروس، الذي يهيأ ليلقى على مسامع الزوار، بل هي عبارة عن انفجارات غضب غير مفتعل. وصحيح أن هذا ليس سوى مظهر واحد من مظاهر حرب الجزائر. وأن بلوغ مركز (المجاهدين) أمر ممكن. وكذلك الانتقال من مركز إلى مركز، ما بين الحدود التونسية والمغربية. ولكن هذه العملية تتطلب أشهرا عديدة من مسير ليلي منهك، فضلا عما تنطوي عليه من أخطار. وحتى لو أني لم أزر سوى عشرات الجبال والأودية المجاورة للحدود التونسية، ولو افترضنا أن في الروايات التي سمعتها عن أعمال الخصم كثيرا من المبالغات وعديدا من النقاط القاتمة، وحتى لو أن (المجاهدين) يرتكبون فظائع ضد العرب الذين يخدمون المصالح الفرنسية بنشاط، حتى لو صح كل ذلك، فهل لي أن أشك في أن (المجاهدين) قد نالوا الثقة وهم يمثلون الغالبية العظمى من العرب الجزائريين، أو في أن الجيش الفرنسي يوسع، يوما فيوما، الهوة بين الطرفين المتنازعين ويزيد الحقد بوسائله العسكرية. إذن، فلماذا تكون الجبال والأودية مختلفة عما عداها من أرض الجزائر؟ أما أعمال التجنيد لجيش التحرير الوطني فهي واحدة في كل مكان فأبناء المنطقة يلتحقون بالجبال، ويتدربون على استخدام الأسلحة، ويصبحون جنودا ليلتحقوا بجيش التحرير الوطني. ويعتبر السكان أن جنود الجبل هم (جيش التحرير الحقيقي) أداة

النضال للظفر باسقلال الجزائر، القائمون على الجهاد، وفي المناقشات التي تجري مساء تحت سقوف الأكواخ، ضمن نطاق الأسر، ونهارا في ملاجىء الأودية، تعالج الوضع في الأشهر الستة الأخيرة. وقلما وصل إلى أسماع (المجاهدين) أصداء ما يتردد في فرنسا من احتجاجات أو انتقادات للأساليب الشريرة التي يطبقها الجيش الفرنسي في الجزائر. إن معظم الناس، خارج الجزائر والعالم العربي، يستقون معلوماتهم - عن القتال - عن طريق باريس. والدعاية الفرنسية واسعة وبعيدة المدى، أما دعاية (المجاهدين) فبدائية أو ضعيفة. وإن من يتقبل الدعاية الفرنسية المبتذلة المتطرفة، فإنه لا يجرؤ -طبعا - على الذهاب إلى مناطق الثوار: فهم يتوقعون أن يذبحوا هناك بدافع التعصب العرقي أو الديني، وحتى لو أصم المرء أذنيه عن مثل هذه الأقوال - التي تروج لها الدعاية الفرنسية - فلا يسعه أن يلحظ شيئا من هذا عندما يصل إلى تونس. إن كل ذلك يتبدد في نظره عندما يتخذ طريقه السرية متجها نحو جبهة القتال. إن الفرنسيين يعتقدون أن جهاز جيش التحرير يفتقر إلى إدارة واعية، وتنظيم دقيق محكم، غير أن الذي يستطيع الحصول على رسالة توصية من أحد المفوضين في أوروبا، ثم يصل إلى تونس، ويأخذ بالبحث عن العنوان السري في ضواحي الأحياء العربية، إن من يتاح له ذلك، يقتنع فورا ببطلان الدعاية الرامية إلى الحط من شأن الجهاز الإداري للحركة التحررية الجزائرية. ولحركة التحرير في تونس مركز، قد وافقت الحكومة التونسية ضمنا على إنشائه. وفي هذا المركز ترى طلابا يعملون على آلات كاتبة عربية وأوروبية، يكتبون بمختلف اللغات. وهناك، حيث

رجال الفكر هم قادة الحركة الوطنية، هؤلاء الرجال الذين تبلورت شخصياتهم في السجون الفرنسية خلال سنوات طويلة، يشرفون ويوجهون الحركة، فينقلون الأشخاص والمعدات، ويسيرونهم إلى الجيش في الجزائر. وفي قرية تونسية، بالقرب من الحدود الجزائرية، كانت هناك بعض المنازل التابعة لمنظمة التحرير الوطني الجزائرية. وهنا يلمس المرء أول دليل على كذب الدعاية الفرنسية، فهم يزعمون في باريس، كما يزعم فرنسيو الجزائر، بأن المجاهدين يفتقرون إلى نظام عسكري دائم بحيث لا يمكن تسميتهم منظمات مقاومة، بل عصابات من المتمردين غير النظاميين الذين يسيرون العمليات الحربية في (سبع الأرض الجزائرية). وفي غرفة من غرف هذه المنازل تجد جهازا مرسلا -لاسلكيا - يؤمن الاتصال مع مختلف المراكز الكبيرة الأخرى في الجزائر. وفي مراكز أخرى، أقيمت مستودعات للأسلحة، ونظمت أبنية يمكن للجنود الجرحى والمرضى أن يجدوا فيها جميع وسائل الراحة والعلاج. وفي هذه القرية، يمكن للمرء أن يلمس الدليل القاطع، على أن المجاهدين يملكون جيشا حديثا يضم (20 - 30) ألفا من المقاتلين. ... لقد حصل مراسل صحيفة (سفن أوستي) السويدية، تصريحا بمرافقة قوة كانت متوجهة من (تونس) إلى (الجزائر). وقد وصف هذا المراسل تجربته بقوله: (... اضطررت أن أرتدي ثياب المجاهدين العسكرية، غير أن رغبتي في وضع شارة العلم السويدي على ذراعي - كما نصحوني قبل حضوري - لاقت معارضة شديدة من المسؤولين في

هذا المركز، الذين أكدوا لي بأني لو تجولت في المنطقة بتلك الألوان لكنت هدفا صالحا للفرنسيين، ولوجدوا في ذلك حجة لاتهامنا. ووردت المعلومات قائلة أن الجبهة لم تكن (هادئة)، وأنه من الخطر اجتيازها ذلك المساء .. وفي صبيحة الغد، غادرنا القرية تحت حراسة عدد من الجنود بقيادة (النقيب سالم). وقد خلفنا وراءنا هذه الحرارة القاتلة، وركبنا ظهر مركبة نقل صغيرة -كميون - متجهين نحو الغرب. وبعد الظهيرة، بينما كانت السيارة تتوغل بنا وراء الحدود، طاردتنا طائرة استطلاع فرنسية، لم يكن باستطاعتها مهاجمتنا ما دمنا داخل الحدود التونسية، وكانت الطائرة تنتظر، بوضوح، فرصة مغادرتنا الأراضي التونسية، وتوغلنا عبر الجبال والوهاد المشجرة حتى تمطرنا بوابل من نيرانها. وكانت تلك المطاردة عبارة عن حرب إنهاك خسرتها الطائرة التي لا بد أنها غادرت إلى قاعدتها. وعندما غادرنا السيارة، وتوغلنا في الأرض الجزائرية، استقبلنا، في إحدى الغابات، ملازم قادنا على طول طريق يسير فوق سفح الجبل نحو الروابي الجزائرية العالية التي ترتفع حتى ألف متر. وهذه المنطقة التي تصفها التقارير الفرنسية بكل فخر أنها مناطق هادئة - أي أنها مطهرة من الثوار- ما هي في الواقع إلا منطقة خاضعة لجيش التحرير الوطني، حتى أن القوات الفرنسية لا تجرؤ على المخاطرة بالتوغل فيها إن لم يساندها الطيران وتدعمها المدفعية والقوات المدرعة! وهكذا اجتزنا الحدود التي كانت على زعم الفرنسيين، قلعة (ومقفلة). وفي ساعة متأخرة من المساء بلغنا الأكواخ المغطاة بأوراق الأشجار، وهناك كانت مكبرات الصوت ترسل موسيقى عربية تمتزج بدوي المدافع وراء الجبال. وفجأة، بدد ظلام الليل

نور تعشو له الأبصار، فوق رؤوسنا. ولم تمض ثانية واحدة حتى صم آذاننا صوت انفجار قنبلة يدوية .. وبعد حين كان هجوم المجاهدين قد انتهى وأعطى الرئيس أمره بالانسحاب عبر الروابي، على إيقاع انفجارات القنابل. ولم يكن هجوم المجاهدين على مركز العدو قد استغرق أكثر من خمس دقائق، غير أنها فترة رهيبة على قصرها، كانت القنابل التي ألقيت على القلعة تمزق سكون الليل، بينما شرعت في الرد عليها الأسلحة الآلية الثقيلة للقوات الفرنسية، فترسم بقذائفها أقواسا مضيئة في الليل. ولم يكن يسمع في الأسفل سوى صراخ الفرنسيين ونداءاتهم من الخنادق والتحصينات. كان هجوما كغيره من الهجمات، معركة بلغت خلال دقائق الذروة المرتجاة التي استعد المجاهدون لبلوغها خلال أيام عديدة ولقد بدأت العملية بنشيد السير لجنود تملؤهم الحماسة، ولا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة، ثم انتهت بانسحاب منهك عبر مجاري الأنهار المظلمة، متعثرين بالحجارة، ومتسلقين الروابي الرملية، مع العدو والانبطاح على الأرض، تبعا لإيقاع رمي مدفعية الفرسيين. كان الأمر فوريا، وقد تم إبلاغه من غير إنذار. فقد أدخل ضابط صف رأسه من باب الكوخ وأخبرنا أنه ينبغي لنا مغادرة الجبال والإسراع إلى الأودية .. إن الأمر بالعملية قد صدر ولا ريب، من المقر العام بدقة، وكنا خلال النهار قد تناقشنا حول إمكانية مرافقتهم كمراقب في عملية ليلية أو في كمين ضد قافلة فرنسية في وضح النهار، غير أن الفرص لم تكن كثيرة وكان ضابط مرح من فوج آخر قد دعاني لحضور معركة كبرى حقيقية،

سلسلة من عمليات سوف تضطر الفرنسيين إلى زج (20 - 30) ألف مقاتل ضد جبال الشرق الجزائري، وتعطي للمجاهدين إمكانيات هائلة لشن هجمات مضادة وكمائن. وهذا يعني أني سوف أضطر إلى البقاء بين المقاومين مدة أطول مما كنت أعتقد وأتوقع. ولما كان الأمر غير المنتظر قد وصل، فقد قطع المجال على كل جدل أو نقاش. وغادر القسم الأكبر من الجماعة الأكواخ ليشكلوا حملة طويلة تسير في اتجاه الأودية، عبر الدروب الضيقة. ولم يكن الجنود يحملون معهم إلا الأسلحة والأعتدة الضرورية. مررنا خلال مسيرنا أمام مجموعة من أكواخ الفلاحين، فرأينا جماعة من الصبية في أسمال بالية، أخذوا في تحيتنا تحية عسكرية وأوشكنا أن نسحق من قبل الفلاحين المتكأكئين حولنا في الظلام الذي يوشك أن يدلهم. وتبادل الجميع التحيات .. فكان الفلاحون يصافحون كل جندي بدوره. وكانت الأيدي تلتقي ثم ترفع إلى القلوب، مع تبادل كلمات (السلام عليكم). وأحيانا كان الفلاحون يضعون أيديهم على أكتاف الجنود أو الضباط، ويقبلونهم على الخدين، ويتبادلون معهم بعض الكلمات، ثم ينتقلون إلى الشخص التالي. وتوقف الركب بعد عدة ساعات. وكانت النار تلتمع في أسفل الوادي حيث يتجمع الفلاحون. وكانت تلك غاية المرحلة الأولى. واستخرجت من الأكواخ أغطية ووسائد، كما بسحر ساحر، وسرعان ما تحلق حول الجنود رجال ونساء، وقد حملوا صحافا كبيرة عليها أقداح وأباريق القهوة المحلاة بالسكر. وبين وقت وآخر، كان يظهر قوم آخرون، تحدوهم الحماسة ذاتها، وحب الضيافة ذاته، وهم يحملون القهوة والعنب والتفاح.

استفقنا في الصباح على أزيز أولى طائرات الاستطلاع لهذا اليوم. ومرة أخرى، وجدنا أنفسنا محاطين بالفلاحين ذوي الوجوه التي لوحتها الشمس، وقد حملوا أقداح القهوة وعلب المحفوظات، وظلت الجماعة قابعة في الأكواخ طوال فترة قبل الظهيرة، ولكنهم شرعوا عند العصر، بتحميل الرشاشات على البغال، وفئة بعد فئة، اختفوا وراء الضفة الجافة من النهر، ها قد بدأ المسير نحو الهدف. وبعد ساعات من السير السريع، ابتعدنا عن الأكواخ المنخفضة المعلقة على المنحدر، والروابي الممتدة القاحلة، وأصبحت الأكواخ أندر وجودا - ولكن اهتمام السكان كان متعاظما أبدا، أيد ممدودة تتقدم منا دائما، فوق الروابي، إلى اليمين وإلى اليسار. أما في الأمام، فقد انحدر قرص الشمس إلى ما وراء الأفق، فيما كانت طائرة إفرنسية ترسم في السماء دوائر واسعة. وتوقفت الجماعة الصغيرة من الأنصار (المسبلين) وهي تنتظر هبوط الظلام، واختفاء الطائرة المعادية. وبدد الصمت صوت الضابط: هنالك أمامنا توجد (قلعة لامي) وفيها فوج فرنسي وحامية مؤلفة من (800) رجل، هذا هو هدفنا. لم يبق الآن بيننا وبين القلعة أي شخص مدني، فقد طرد الفرنسيون كل السكان، وأجبروهم على سكنى القرية بدعوى حمايتها من الهجوم. ولم نلبث حتى مضينا إلى المرحلة الأخيرة، ولم يعد أحد يغني أو يتكلم. فكان المرء لا يسمع في الظلام الدامس، سوى لهاث الرجال ووقع أحذيتهم على الأرض أو فوق حصى الجداول. وكانت المدفعية الفرنسية قد صمتت، ولكن أنوار القرية والحصن الفرنسي كانت تبدو وكأنها الضباب الخفيف المنتشر على المرتفعات، واجتزنا الكيلومتر الأخير عبر مرتفعات

تملؤها الحفر والأشواك وتغطيها الصخور الضخمة التي أحرقتها حرارة الشمس. وخرج من الوادي شعاع من نور، وتقدم فوق الروابي، وتوقف الركب متحفزا في الترقب بينما راحت أعمدة النور المنطلق من الكشافات تجوب الأرض على بعد عشرين مترا منا، تدنو تارة وتختفي أخرى. وبعد دقائق قليلة وصلنا إلى القمة، وقد بدت على بعد ستمائة متر تحتنا القلعة والقرية والأنوار. وكان شبح الرئيس يروح ويغدو فوق القمة. وكانت مدافع الهاون والأسلحة الآلية - الأوتوماتيكية - قد اتخذت أماكنها، والجنود المزودون بالبنادق الرشاشة والرشاشات قد تفرقوا فوق قمم الهضاب. كانت الساعة قد أشارت إلى العاشرة عندما انطلقت الرصاصة الأولى، وفتح (المجاهدون) النار من كل أسلحتهم دفعة واحدة، واطفئت الأنوار في القرية والقلعة. ولكن وميض القذائف، وقنابل الهاون، كانت تنير جدران التحصينات، والأسلاك الشائكة. وما هي إلا دقائق مرت بسرعة، حتى أعقب الضجيح صمت غريب. وصدر الأمر بالتراجع والانسحاب. وانطلق الجميع يطوون الأرض ويتسلقون المرتفعات مبتعدين عن القلعة. وهنا بدأت مدفعية العدو في القصف على غير هدى، وحدث انفجار بالقرب منا، وانبطح الجميع على الأرض لينهضوا بعد ثوان قليلة، وتكرر ذلك مرات عديدة. وبدأنا نشعر بالتعب والإعياء. حتى بلغنا نهرا، وأصبحت هناك رابية على الأقل تفصل بيننا وبين العدو، وتحول الركض إلى سير وئيد تحت أوامر الملازم المطمئنة: لا يجرؤ الفرنسيون على الوصول إلى هنا، لذلك فنحن سادة الموقف. وصلنا في الساعة الثانية صباحا إلى إحدى المزارع البيضاء،

وجاءنا القوم يحملون إلينا الماء والخبز وحساء شديد اللذع وفرشا من القش، وأغطية، حملها فلاحون صامتون، ثم حملوا إلينا شايا بدون سكر، كأنه أحضر بسحر ساحر. وجلسوا القرفصاء قربنا بينما كنا نأكل، وكان الصمت يزداد ثقلا لحظة بعد أخرى، وأقام ابن المزارع حراسة حولنا، فكان نور المصباح الزيتي ينير قسمات وجهه الشاحب، والصارم. ... إنهم يتكلمون عن الحرب فقط، ولا يحلمون إلا بالحرب، ولا يستطيعون، أو بالأحرى لا يريدون الابتعاد عن مثل هذا الجو، فذكرياتهم ليست سوى معارك. أما ما كان من أمرهم قبل إطلاق الرصاصة الأولى للثورة، من شؤون عائلية أو حياتية، فلا يتردد على ألسنتهم إلا نادرا. ومعظم مجاهدي الجبال يقيمون دونهم جدرانا، فلا يريدون الاتصال بعائلاتهم، ويتناسون كل شيء عن هذه العائلات، كل هذا يفعلونه حتى لا يخونوا الجهاد الذي يضطلعون به، والذي يعدون أنفسهم للاضطلاع به سنوات وسنوات. وكان يوم آخر، مثله كمثل بقية الأيام، مضى علينا في الجبال المشجرة، كان الجنود جالسين جماعات تحت ظلال الأغصان، بين أشعة الشمس المتسربة منها. وذهبت الدوريات تتفقد الطرق التي مهدتها الأقدام، وجماعات صغيرة أخرى كانت تعود من نوبتها في الحراسة. أما في الليل فكانت جماعات من الجنود تبتعد عن الأكواخ، لتقيم الصلاة، وأكد بعض الجزد أنهم يقومون بواجباتهم الدينية كاملة فيصلون في اليوم خمس مرات. وجاء جنود آحرون يحملون زجاجات وعلب صغيرة فيها ماء من غدير يكاد

يكون جافا. وقد تعلموا بسرعة كيف يضعون منديلا على فوهة الزجاجة لتصفية الماء وتخليصه من القاذورات التي تعطيه طعما أو لونا خاصا. وما أن يفرغون من تسوية أمورهم في الصباح حتى يتجمعوا حول مائدة طويلة مصنوعة من جذوع الأشجار، فلا يجلس أحدهم إلا بعد أن يصافح الآخرين أو يقبلهم على وجوههم. جلس أحدهم يضرب على الآلة الكاتبة تقريرا عن الفوج باللغة الفرنسية إلى القيادة العامة، وكان يجلس في الهواء الطلق، ويتمتم باللغة العربية. ولم يكن من الصعب معرفة اتجاه الحديث، وأنه يدور عن الحرب، ذلك أن الضباط المجاهدين يستعملون الأعداد والشارات للأسلحة الفرنسية وبدأ أحدهم يتكلم الفرنسية، وكان يصف المدفعية العدوة بكثير من الدقة والتفصيل. فلا يترك شاردة إلا ويذكرها. ولا شك أنه درس في مدرسة فرنسية، وكراهيته لمعلميه غير محدودة. قال: لقد حاربت في صفوف الجيش الفرنسي في فيرتنام (الهند الصينية) وكنت في (ديان بيان فو) ولم نكن نحن الجزائريين، في المرحلة الأخيرة من الحرب، لنطلق النار على الأعداء. فجيش (فييت مينه) كان يحارب في سبيل حرية بلاده. وما كان للمعاقل الفرنسية أن تسقط لو أننا استبسلنا في الدفاع عنها. وأخذ ضابط آخر طرف الحديث: لقد قضى خمس سنوات في مزارع الأرز في دلتا الهند الصينية الجنوبية ومع ذلك، فقد احتجز أكثر من ستة أشهر بعد الهدنة، ويؤ كد هذا الضابط أن الفرنسيين رفضوا في البداية السماح له بالعودة إلى وطنه - الجزائر - لعلمهم أن جميع أفراد عائلته قد التحقوا بقوات جيش التحرير، ولكنهم في النهاية اضطروا للسماح له

بالرجوع إلى بلده فهرب بالطبع من الجيش فور وصوله إلى الوطن. وهكذا استمر الحديث ساعات طويلة وهو يدور عن الحرب. وكانوا يتحدثون عن الفرنسيين بمرارة لما يقومون به من تدمير للقرى الآمنة، ولما يمارسونه من تعذيب للسكان المدنيين الذين سقط منها آلاف الضحايا البريئة، علاوة على المعتقلين في معسكرات الأسرى والذين يزيد عددهم في المعتقلات على مائتي ألف، في تلك الفترة، وكانوا يؤكدون لي أن فرنسا سوف تخسر الحرب، وأن الثورة سوف تربحها مهما بلغ حجم الجيوش التي ترسلها حكومة باريس إلى الخطوط الأمامية، وبالرغم من الموقف اللامبالي أو المساعدات التي تقدمها الدول الغربية، فإن ثقة المجاهدين بالنصر هي ثقة راسخة لا تتزعزع. بعد القيلولة، في أيام الانتظار والراحة، كنا ننزل نحو الوادي متخذين طرقات من الوعورة بحيث نضطر إلى التمسك بالشجيرات خشية السقوط. وبلغنا بعض الأكواخ، حيث يقيم اللاجئون الذين جاؤوا من وسط الجزائر باتجاه الشرق نحو الحدود التونسية، حيث يجدون الأمن. وبينما ينصرف الضباط الى توزيع الألبسة والنقود، على الرجال والنساء، يجلس الجنود يتجاذبون أطراف الحديث مع المدنيين، ويبدو أنهم يتجنبون الأطفال، وأخذني جندي ضيق الوجه، عصبي القسمات، نحو شجرة أوتنا بظلها، بحيث لا يسمعنا أحد، وأسر إلي بقوله: أنه كان يعمل قبل اليوم داخل الحدود التونسية، في إحدى القواعد الكائنة في مدينة تونسية، وجاءته ذات يوم امرأة جريح وقالت له إنها فقدت كل شيء، أسرتها وبيتها أثناء غارة فرنسية شنت على القرية. وتابع الجندي: لن أنساها أبدا، وددت لو آخذ بندقية، وأخرج إلى المدينة التونسية،

وأقتل كل من أصدفه من الفرنسيين فيها. ولكن حسنا كنت في تونس، والأوروبيون هناك لم تبق جنسيتهم فرنسية، بل تونسية. وقد يكون بعضهم بريئا مما يرتكبه الفرنسيون في الشمال الأفريقي في السنوات الأخيرة. وصمت الجندي ثم إنه أضاف: هذا ما يصعب احتماله، وتصعب رؤيته، فإن الكثيرين منا يرهقهم أن يتذكروا ما حدث، وما يمكن أن يحدث لعائلاتنا في القرى التي يسيطر عليها الفرنسيون أو يهاجمونها، ولهذا تجدنا نتجنب كل ذكرى، وكل اتصال بعائلاتنا. ولعل هذا هو الذي يحملنا على تجنب الاختلاط بالأطفال هنا واللعب معهم. اتجهنا عند الغسق نحو المرتفعات، حيث توجد أكواخنا المصنوعة من أغصان الشجر. وحملوا إلينا الطعام فوق موائد، وكان مؤلفا من خبز ضخم، وطبق كبير من البصل، وسلطات وبندورة (طماطم) وبطاطا مقلية، وقطع من لحم الدجاج، وماء يمازجه عصير بعض الفواكه. ويمكن للمرء هنا الاحتفاظ بشعوره بالسلم والطمأنينة والفرح، في وسط الطبيعة الخلابة، لو كان باستطاعته أن يصم أذنيه عن هدير عربات نقل الجند الفرنسية (الكميونات) الآتية من وراء الجبل، وعن هدير طائرات الاستطلاع، وإذا عميت عيناه عن رؤية بريق الأسلحة في الخنادق، حيث يرتاح الجنود الجزائريون، وإذا لم يعر المرء سمعه لأحاديث الشهود المريرة، وطلبات العون والنجدة والحماية الصادرة عن الفلاحين ضد الحملة القادمة من الشمال. وقد روت لي المرأة العجوز التي دعتني لتناول قدح من القهوة، فحدثتني بهدوء عما حدث قبل شهر: حيث اجتازت الدبابات الفرنسية مجاري المياه، وبدأت القنابل تتساقط بين

الأكواخ، وعام الرعب القرى المحروقة، وهرب السكان إلى الجبال. ولكن كل الناس لم يستطيعوا الهرب. ولم يتمكن أحد الرجال من النجاة من القنابل، واثنان آخران أخذا أسرين فأعدمهما الفرنسيون رميا بالرصاص. وما أن تبددت سحب الدخان والغبار، وانكفأت الدبابات عائدة إلى الشمال، حتى عاد سكان الوادي ليبحثوا عما كان (بيوتا) لهم من قبل - وشرعوا ينبشون بين الرماد لاستخراج الحجارة، ووضع أساسات جديدة. ولقد اختطف الفرنسيون زوج المرأة العجوز، وانتهبوا كل ما كانت قد ادخرته لأيام العسرة. لم يقدني أحد لسماع شهادة هذه العجوز، فليس ثمة وجود هنا لرجال الدعاية المحتالين. ويبقى أقوى من كل الشهود والخرائب، أيدي أولئك الفلاحين التي تتشبث بأسلحة الجنود: ورد الفعل عند الأطفال. وقد حدث لي أكثر من مرة أني عندما كنت أنزل بين تجمعات أكواخ الفلاحين أن ألتقي بأطفال يصرخون ذعرا وهم يختفون بين ظلام الأكواخ. وعندما يأخذ اليأس مني كل مأخذ، أصحب معي أحد الجنود، وأبحث عنهم لأهدىء من روعهم، وأوضح لهم موقفي. وكان يكفي الطفل أن يراني بصحبة أحد الجنود حتى يتخلى عن كل خوف أو وجل، بل إن خوفه ينقلب إلى حب استطلاع مثير للسلوى. وأما تفسير خوف الأطفال فإنه مبني - يقينا - على تصورهم لأول وهلة أن وجهي الغريب هذا لا بد أن يكون وجها فرنسيا. وهكذا عشنا أياما، قام خلالها المجاهدون بشن هجوم على قلعة فرنسية. قمنا بزيارة كوخ لا يختلف البتة عن بقية الأكواخ المحيطة به ما خلا علما أبيض وأخضر يتوسطه الهلال والنجمة، وهو علم جبهة

التحرير. كان البيت مستطيلا، وهو ذو أسس حجرية مستديرة، وثمة أوتاد متينة تشكل واجهته وحوامل سقفه، وكان السقف مؤلفا من أغصان ضخمة تعلوها أخرى أرق وفوقها طبقة من قشر الشجر. ولم تكن المسامير مستعملة في هذا البناء، إنما حلت الجبال محلها , وكان القسم الأكبر من الأرض مغطى بسجادة ذات ألوان عديدة، واصطفت وسائد ضخمة على طول الجدران. ودخل فلاح يحمل قطعة ضخمة من الخبز، ويبلغ هذا الخبز ضخامة دولاب الطاحون، وهو يؤكل دائما طريا ساخنا. وكان فلاح آخر يتبعه بإبريق فيه حليب، وثالث يحمل سلطة البصل. وأبدا كانت تشع في عيونهم تلك النظرة المرحبة، وتمتد أيديهم بالمصافحة الحارة أو العناق والقبل على الخدين. وهم ينظرون إلى كل غريب نظرتهم إلى (أخ - ضيف) - وفي إحدى زوايا الكوخ كانت تقوم مائدة مطلية باللون الأخضر الفاتح وقد نقشت عليها حروف عربية إنها آيات قرآنية كتبت لتكون درسا لطفل. ولكن أمدا طويلا قد مضى دون أن يستطيع أحد نقل هذا اللوح، ويضعه أمام أي طفل، ويشير إلى الحروف المتداخلة ليلقنه إياها. أما كتاب التمارين فكان مهجورا وقد علاه الغبار. وفي زاوية أخرى من الظل - في الكوخ - كانت بعض النسوة قد جلسن القرفصاء حول القدر، كن يلقين بالدقيق في القدر ويقطعن لحما. وثمة طفل مريض يصرخ وهو يلتصق بظهر أمه، بينما لاذت الأخريات بالصمت، ورحن يلاحقننا بأنظارهن. وهناك أيضا، أربعة أطفال في الخامسة تقريبا يرتدون الثياب البالية، لم أرهم يلعبون أبدا. وهذه - كما أذكر - يسمونها تصرفات ما يسمى - بالأطفال الشيوخ - الذين ينطوون على أنفسهم في صمت ووجوم.

بعد الظهر، غادرنا الوادي بشيوخه ونسائه وأطفاله، وكانت القرية خالية من الشباب، فالجميع قد قصدوا الجبال وحملوا السلاح. وكانت هذه آخر مرحلة في المسير إلى القلعة، وليلة الهجوم قد أزفت. ولم تمض عدة دقائق حتى لحق بنا فتى في الرابعة عشر ورجل آخر متقدم في السن يتبع الفتى باستمرار، وكان الفتى يحمل بندقية آلية - أوتوماتيكية - أغلب الظن أنه غنمها من جندي جريح، وتقدم من الرئيس: انه يريد الذهاب مع المجاهدين الثوار، والانضواء تحت لواء الجيش. وتقدم الرجل المسن هو الآخر، ولا يكاد يشعر به أحد، وصافح الرئيس، وعانق ابنه على الخدين. واستدار، وعاد، من غير أن ينطق ولو بكلمة واحدة. وقد خفضت جميع الأنظار. وران صمت ثقيل، ولحظت أني لم أكن الوحيد الذي ينظر إلى المنحدر والأشجار. ولكني لم أر الفتى أثناء سيرنا الليلي، ولا شك أن الرئيس قد أرسله إلى القاعدة ليتدرب. خاض المجاهدون معركتهم - ضد القلعة الفرنسية - بنجاح رائع، كعادتهم، واتخذوا بعد ذلك طريق العودة عبر أودية أخرى. حتى إذا ما وصل الجميع إلى مجموعة من الأكواخ، وقف الرئيس خطيبا، فألقى كلاما حادا وجه فيه اللوم إلى رجل لأنه لم يرسل ابنه المريض إلى المركز الصحي للمجاهدين، والقريب من الحدود، ومضى (الرئيس) يتدفق كالسيل في حديثه الموجه إلى الفلاحين، وأظهر استجابته لطلباتهم بالمساعدة، كما أنه أرشدهم إلى الملاجىء الأمينة المنظمة في كل المنطقة، ونصحهم باللجوء إليها في حال حدوث حملات فرنسية. وفي قرية ثالثة، قام ضابط من المجاهدين بتوزيع مساعدات عائلية وأقمشة. فكان كل فرد

يوقع على الإيصال، ومعظمهم ببصمة إبهامه على السجل. وكلما بلغنا مجموعة من الأكواخ، انبرى لنا مكانها يحملون الماء في الأوعية والسطول. وكانوا أول ما يسعفون الجنود المرضى، المحمولين على البغال. فيصبون الماء على أعناقهم. ويقدمون لهم الأكواب ليشربوا. وكان كل شيء يسير سيره الطبيعي، من غير ضجة ولا ضوضاء. ثم وصلنا في ساعة متأخرة من الليل إلى مقر القيادة، وكان عبارة عن كوخ غير مكتمل البناء، يقع في سفح الجبل، وأخذنا في الاستعداد للنوم، حيث رقد بجانبي أحد الضباط، وأخذ يحدثني بصوت خافت على الحد بين الحرب والإرهاب: إننا نحصل على الطعام وغير الطعام من السكان. ونحن نمضي النهار في الأكواخ، إنه شعبنا ونحن جيشه، بل إخوته وأولاده أغلب الأحيان. ولكن هل يصح هذا ليكون ذريعة للغارات الجوية والقصف المدفعي والمذابح التي يقوم بها الفرنسيون؟ وهل هذا ما يسميه الفرنسيون (التهدئة)؟ وصمت. وطال الصمت. ورحنا في نوم عميق. ... قال لي ضابط وهو يقدم لي مجموعة أوراق مكتوبة على الآلة الكاتبة: (هذا هو الإنذار الأخير)! ثم استمر في تقليب عدد من المغلفات كانت موضوعة فوق محفظة. وكانت تلك الأوراق عبارة عن رسالة موجهة إلى موظف عربي في مدينة صغيرة تبعد بضعة عشر كيلومترا عن الكوخ الذي كنا نطلب فيه مأوى لنا من حرارة الشمس. وكانت الرسالة تدعو الأخ المواطن بعبارات أنيقة، وبأسلوب فيه لف ودوران أن يدير ظهره إلى الفرنسيين ويغادر مركزه حيث يعمل

لحساب الأعداء. فإذا رفض، عندئذ يحكم عليه بالموت. وخلال عدة أيام تصل الرسالة إلى (الخائن) وسوف يرى شارة (الإنذار الأخير) على الزاوية اليسرى من المغلف (الظرف) فيفهم المقصود رغم لهجة الرسالة المطمئنة وختامها الرقيق، مع الإخلاص والاحترام. وسوف يعلم أنه إذا لم يخضع للتهديد، اجتمعت هيئة من المحلفين تحت علم الثورة، وكلفت ثلاثة رجال بتنفيذ الحكم الذي تصدره، وتكون مهمتهم مطاردة المحكوم عليه ليلا ونهارا. ووضع الضابط ربطة المغلفات بهدوء، وكانت تناهز اثني عشر مغلفا، في محفظته. ثم تابع حديثه مع رئيسه بهدوء - باللغة العربية - وبعد بضع دقائق حمل محفظته واختفى. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الضابط. لقد جاء من السهل ولا شك، من الجانب الآخر للجبل. ونظر إلى الرئيس، وقدم لي النار لأشعل لفافة التبغ (السيكارة) وأجاب على سؤالي: (كلا! إننا لم ننفذ أي حكم في قطاعي، غير أنه سبق لنا أن حاكمنا وصفينا بعض الخونة والجواسيس). وكانت هذه هي المرة الأولى التي أقابل فيها، بشكل مباشر ومؤثر شهود الحرب الأخرى. معركة (المجاهدين) بالقنابل اليدوية والمسدسات والمدي- السكاكين - في المناطق الواقعة تحت المراقبة الفرنسية جزئيا أو كليا. وقلما يتحدثون في المجال عن هذه المعارك - غير أني التقيت برجال آخرين من جيش التحرير الوطني الجزائري ومن أنصاره الذين أعطوا تفصيلات عن (المغاوير -الفدائيين) وعن (فرق الانتحار) وعن (الإرهاب في المدن). وتصف الدعاية الفرنسية الأعمال التي تستخدم فيها القنابل اليدوية بأنها تعبير عن (التعطش إلى الدماء)، وأنها أعمال (وحشية غير

انضباطية) غير أن المجاهدين يدافعون عن ذلك قائلين: إنه تنفيذ لأحكام (محكمة عسكرية). فالعرب الذين يتعاونون مع الأعداء، ويرفضون الإصغاء إلى الإنذارات، يحكمون بالخيانة، والتعاون مع العدو، وهذا يستدعي حكم الموت. وأكد لي رجل سياسي من (المجاهدين): بأنهم لا يطلبون إلى هؤلاء تبديل موقفهم ومساندة منظماتهم، بل مجرد التخلي عن خدماتهم في المؤسسات الفرنسية. والبقاء دون أي نشاط. فإذا كان هذا ما يسمونه -الإرهاب - فليكن. وإن المرء ليجد مثيلا لهذا في تصفية الذين يتعاونون مع الاحتلال الألماني في السويد، وكان يشرف على ذلك عدد من منظمات المقاومة في بلدان عديدة من أوروبا الغربية، خلال الحرب العالمية الثانية. ... تسمى الجماعات التي تعمل في مدنها أو مناطقها (الفدائيين). ويتناقل الناس قصصا فريدة عن معارك هؤلاء الفدائيين. فإذا ما لقي أحد هذه الجماعة حتفه متأثرا بالتعذيب الذي يلقاه على يد الجنود الفرنسيين، تسلل أفراد الجماعة ليلا إلى مراكز العدو، إلى حيث يوجد المسؤول عن قتل زميلهم، ويختفوا بعد أن يذبحوا العشرات من الجنود الفرنسيين. وتطرق الآذان قصص هؤلاء الفدائيين فقد جاء تقرير يقول إن أحد الأسرى من المجاهدين، يكاد أن يتكلم ويبوح بالأسرار تحت وطأة التعذيب الهائل. فما كان من الضابط إلا أن أرسل أحد عشر متطوعا لقتل رفيق السجين. ولم يعد من الأحد عشر سوى واحد فقط. والفدائي جندي نموذجي، والفقرات الأربع الأولى من القسم الذي يلفظه الفداني بالغة الروعة.

1 - إن من يضعف أمام العدو يستحق الموت. 2 - يجب على الفدائي أن يهتم بنظافة جسمه. 3 - لا ينبغي للفدائي إهمال فروض الصلاة. 4 - يجب على الفدائي إطاعة أوامر القيادة العليا إطاعة عمياء. والمعروف أن هؤلاء الفدائيين لا يشهرون السلاح في وجه الخونة العرب فحسب، بل إنهم يتصدون للجنود والشرطة الفرنسيين ممن يمارسون أعمال العنف التي تؤدي إلى موت الجزائريين. وكذلك ضد عشرات ألوف المزارعين الفرنسيين أو من يسمونهم (بالمعمرين). والكراهية التي يكنها المجاهدون (للمعمرين) كراهية عميقة تلمس آثارها ليلا ونهارا في الجبال، ويروي هؤلاء المجاهدون قصصا مريعة عن وحشية المزارعين الفرنسيين (المعمرين) في معاملتهم للعرب الذين يعملون لديهم. وعن الأجور الضئيلة التي يتقاضونها والظلم الذي يتعرضون له. وكان يوجد في الجيش الفرنسي فرق كاملة مؤلفة من أولئك (المعمرين) غير أن السلطات الفرنسية عملت في سنة 1956 على حل هذه الفرق لما لمسته من قوة متناهية تجاه المواطنين المدنيين الجزائريين.

فضائل الثوار

2 - فضائل الثوار في تقرير عن (جيش التحرير الوطني الجزائري ومجاهديه) (¬1) ورد ما يلي: (يتمنع جيش التحرير بنظام محكم، إنه جيش منظم يرتدي جنوده زيا عسكريا موحدا، ولقد أقرت بهذا البلاغات الحكومية، ويحمل كل جندي منهم على كتفه الأيسر شارة تمثل العلم الجزائري، نقشت عليها عبارة: (جيش التحرير الوطني الجزائري) ويحمل على صدره علامة رسم عليها هلال ونجمة، وهذه الشارة تعطى للمتطوع عندما ينضم لصفوف الجيش - ولا ترى إلا قلة ممن يضعون على رؤوسهم (الشملة) أو (الزمالة). ولا يقتصر تنظيم الجيش على اللباس فحسب، بل إن كل جندي من جيش التحرير يتبع وحدة نظامية مرتبة ترتيبا واضحا من الجندي البسيط حتى القائد الأعلى، ومن الواجب أن يتقدم بجميع طلباته إلى رئيسه المباشر، وتهتم المنظمة العسكرية كذلك بكل ما يتعلق بعائلات الجنود، فتسجل جميع المعلومات التي تمكنها من إعانة تلك العائلات. ومن الوجهة الحربية، فإن تنقلات الوحدات وهجماتها لا ¬

_ (¬1) جريدة (المقاومة الجزائرية) 22 نيسان - أبريل -1957 ص 6 - 8 عن كتاب (شهادة ضابط فرنسي) .

تجري إلا حسب التعليمات الواردة من الأعلى، من القيادة، وفقا لبرنامج يتفق عليه داخل المنطقة، أو باتصال مع المناطق الأخرى التي يتكون منها الوطن الجزائري. وأما طاعة الأوامر، فهي أمر مفروغ منه، ولم أر طوال إقامتي في صحبة الجنود من استخدم القيود - الأغلال - إلا على سبيل المزاح. ولا يعني ذلك أنه لا توجد قوانين عسكرية يعمل بها جيش التحرير، بل على العكس من ذلك، فإنه باستطاعة أي جندي أن يشرح بصفة معقولة وطبيعية النظم التي يخضع لها جيش التحرير، ومما يدل على ذلك، أن الحكم بالإعدام، لم ينفذ إلا مرتين في كامل الولاية، لمدة سنة كاملة. وقد نفذ في المرة الأولى بسبب التعدي على حرمة امرأة. وقد حكي لي أن الجندي الذي تفذ حكم الإعدام كان يبكي عندما رماه بالرصاص. ومن ذلك الحين، صار كل مدني يستطيع أن يؤوي الجندي في نفس البيت الذي تنام فيه بناته من غير تحرز أو خوف. أما في المرة الثانية فقد نفذ على جندي أضاع سلاحه: إذ أن الجيش لا يسمح لأي كان أن يفرط في سلاحه، بل يوصيه بتخبئة سلاحه إن هو أصيب بجراح بالغة تمنعه من حمله. هذا، ويتمتع جيش التحرير بمصالح مختلفة، مثل (مصلحة الصحة) فكل وحدة عسكرية تضم ممرضا قادرا على إخراج الرصاص من الجرحى. ولدى كل جهة، أو ناحية، أطباء يعالجون الجرحى والمرضى، ويقومون في الوقت ذاته بتدريب الممرضات والممرضين، ولا يهملون مع ذلك الأهالي بل يأتونهم بأدوية لا تتوافر لدى الجيش الفرنسي. ومن مهام الأطباء، فحص المتطوعين الجدد، واتخاذ القرار بقبولهم ورفضهم، حسب حالتهم الصحية.

كان مما لاحظته أثناء مقامي في المناطق التي زرتها: أن جنود جيش التحرير يحترمون بكل دقة قوانين الحرب، والدليل على ذلك، ما شهد به أسيران من الجيش الفرنسي التقيت بهما، فقالا: خرجنا من مراكزنا لنأتي بالماء على البغال، ولكننا وقعنا في كمين، فيئسنا من الحياة، واعتقدنا أننا لن نرى فرنسا أبد الدهر. واليوم وجدتهما يعيشان بين المجاهدين، ويأكلان مما يأكلون ويطالعان الصحف، ويبعثان بالرسائل إلى عائلتيهما. وقد أكد لي المسؤولين في تلك الناحية أنهم كلما أغاروا على قرية لتدميرها، بادروا قبل كل شيء إلى إبعاد المدنيين. وقد سمعت من أفواه جنود عديدين أن قائد وحدتهم، أمرهم في بعض الكمائن بإيقاف إطلاق النار عندما شاهد سيارة مدنية في وسط قافلة عسكرية، وقال لهم: (لا ترموا المدنيين! لا ترموا المدنيين!). ثم إن جيش التحرير الوطني، يعلم يقينا، أنه جيش وطني يجاهد من أجل الحصول على السيادة الوطنية لبلاده، ولست ترى وحدة لا تحمل العلم الجزائري المحمول على طرف بندقية الجنود. وإن كل وحدة من وحدات جيش التحرير الوطني (بوهران) لتهتز طربا للانتصارات التي تحرزها وحدة أخرى في مناطق (قسنطينة أو الجزائر) وإنها لتتألم أيضا عندما تبلغها ما تتعرض له (قبائل الأوراس) من التعذيب الذي يسلطه عليها الفرنسيون، ذلك أن كل مجاهد من مجاهدي جيش التحرير يدرك أنه لا معنى لجهاده اليومي إلا داخل إطار الجهاد الذي يخوضه مجاهد آخر في الطرف الثاني من القطر الجزائري، ولذلك، يتابع كل مجاهد تفاصيل العمليات التي تقع في الجزائر - العاصمة - أو في بلاد القبائل الكبرى أو في جبال الأوراس. هذا وتعمل معظم

الوحدات في الجهات التي تنتمي إليها، ولكن المجاهد من (بسكرة) أو من (قسنطينة) - على سبيل المثال - والذي فر من الجيش الاستعماري، والتحق أثناء المعارك بالمجاهدين، يجد بطبيعة الحال مكانه بصفوفهم، حتى لو كان ذلك بعيدا عن المنطقة التي ينتمي إليها. ويتغنى المجاهدون بأناشيد وطنية تربط بين كفاحهم من جبال (الأوراس) إلى جبال (تلمسان) ومن ذلك نشيدهم. من بلادنا طلع صوت الأحرار ... ينادينا للاستقلال ينادينا للاستقلال ... الاستقلال لوطننا تضحيتنا للوطن خير من الحياة ... أضحي بحياتي وبمالي عليه يا بلادي يا بلادي ... أنا لا أهوى سواك قد سلا الشوق فؤادي ... وتفانى في هواك من جبالنا نحن سور بك دائر ... وجبال راسيات نحن أباء الجزائر ... أهل عزم وثبات من جبالنا نحن بالأرواح نفدي ... كل جزء من ثراك إننا أشبال أسد ... فاصرفينا لعداك من جبالنا تظهر الوحدة والتلاحم بين الجيش والشعب كل يوم في الأقوال والأعمال، ويؤكد ذلك عمق ما يجمع بينهما من روابط اللغة والدين والأرض والعادات. ورغم جميع الكوارث والنكبات فإن الفلاح الجزائري لم يهمل أخلاقه الطيبة. ولم ينس تقاليده الأصيلة

التي اشتهرت بها الخيمة والمنزل في الجزائر. فصاحب الدار يقدم بنفسه للجنود الماء، ليغسلوا أيديهم ووجوههم في الصباح وقبل الأكل وبعده. ويعرض عليهم كذلك عند نزولهم عنده الشاي والقهوة. ولا يمكن أن تسمع في جيش التحرير كلمة نابية -بذيئة -. والكل ينادي الآخر بعبارة (يا أخي أو - يا صاحبي!). وهم يتذوقون حلاوة النوادر المضحكة ذاتها، ويستمتعون بالأغاني الشعبية التي توحي بها المعارك البطولية، وكثيرا ما يساهم الجنود في حراثة الأرض التي تركوا خدمتها مند ما يقارب السنتين. وبما أن جيش التحرير يضم أغلبية ساحقة من أهالي البادية، فإنه يشتهر بذات الصفات التي اشتهروا بها، وأبرزها: الصبر والصمود والبساطة. ويملك معظم الجنود قطعا صغيرة من الأرض كانوا يعملون فيها بأيديهم، ومنهم من كان يعمل عند المعمرين، من غير أن يكون له مورد رزق آخر. ولذلك، فإن جيش التحرير يضم جماعة ممن تطوعوا للحرب في (الهند الصينية) للحصول على مورد للرزق. وأما سكان المدن، فيمثلهم في جيش التحرير أولئك العمال الذين عاشوا طويلا في فرنسا، وأولئك الطلاب الذين كانوا في معاهد الجزائر أو فرنسا، والتحقوا بالجبال. وكذلك الأطباء الذين هجروا مراكزهم وانضموا الى الجيش كجنود. والحقيقة هي أن العناوين ليست هي المقياس في الاضطلاع بالمسؤوليات، إنما هي الكفاءات، ولذلك فإنه كثيرا ما يكون قائد الوحدة عاملا أو فلاحا بسيطا كونه الكفاح والجهاد. إن جيش التحرير الوطني الجزائري هو جيش ثوري، ومعنى ذلك أنه يتكون في معظمه من الشبان الذين يدفعهم الإيمان،

وتربطهم أواصر الأخوة. ومن هؤلاء الشبان الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين سنة، يتخرج الضباط والقادة العسكريون والمسؤولون الحربيون من بين المئات والألوف من المواطنين الجزائريين الذين تقول فيهم أغنية شعبية: (إن شباب اليوم شابت رؤوسهم) غير أنهم احتفظوا بالرغم من ذلك، بحيويتهم وابتسامتهم وإيمانهم بالمستقبل، وقد لمست عمق هذا الإيمان في مناسبات كثيرة، وهو الأمر الذي تبرزه محادثة أجريتها مع أحد المجاهدين، حيث قال لي ببساطة: هل يحسب المستعمرون أن أولئك الذين صعدوا إلى الجبال سوف ينزلون منها، قبل أن يحصلوا على الاستقلال، ولو فرضنا أنه لم يبق بالجزائر إلا امرأة واحدة، إلا امرأة عمياء، فإنها لن تتردد في حمل السلاح والكفاح من أجل وطننا. ولو فرضنا أن تلك المرأة قد استشهدت بدورها أثناء اضطلاعها بواجبها، فإن الجزائر كلها، الجزائر التي أبيد أهلها وأحرقت غاباتها سوف تثور حجارتها على المستعمر الطاغية). وعندما يتحدث المجاهدون فيما بينهم عن مشاريعهم في المستقبل، فإنهم لا يقولون مثلا: (في اليوم الذي يقف فيه القتال) وإنما يقولون: (في يوم الاستقلال). هذا وإن المسؤولين لا يتم تعيينهم في مواقع المسؤولية تبعا لكفاءتهم العسكرية والقيادية فحسب، وإنما تراعى زيادة على ذلك أقدميتهم في العمل الثوري قبل اندلاع الثورة، ولا يحتمل القائد أثناء التدريب أي تقصير أو تهاون، ولا يقبل أية مخالفة أو تمرد على الأوامر، ولكن شرفه لا يسمح له في الوقت ذاته بإهانة الجندي أو التصغير من شأنه. إذ أنه يعتبر كل واحد نفسه أنه مجاهد يؤدي

واجبه وفقا لعزته وكرامته. وإن أشد ما كانوا يبغضون في الجيش الافرنسي إقدامه على ضربهم وإهانتهم. ولهذا فإن الاحترام يسود علاقاتهم. وتعتمد الأخوة التي تؤلف بين قلوبهم على المساواة التامة فيما بينهم، وعلى الشعور العميق بالصداقة، والبساطة التي تتصف بها علاقة الجندي بقائده، فهم يأكلون من طعام واحد، وينامون على حصير واحد، ويتصدون لأخطار واحدة. وإن أسخف الأكاذيب التي ترددها الدعاية الاستعمارية هي ما يرمون به القادة من التهرب من مواجهة الأخطار، وتعريض الجنود لها. وقد قال لي أحد المسؤولين: (إن حياتي ليست ذات أهمية تفوق أهمية حياة أي مجاهد آخر، طالب مثلي أو فلاح أو عامل). وفعلا فقد استشهد هذا المسؤول في أول معركة، وهذا برهان على صدق قوله، كما يكفي لتأكيد هذا القول ما يردده الجميع، قادة وجنود، بقولهم: (إن الشعب أعز علينا من عيوننا، وإننا لنفتخر به). وأعترف أنني لم أتمكن من التجول في مجموع الجهات التي تقع تحت نفوذ جبهة التحرير الوطني، ولكن شاهدت كثيرا من البراهين والدلائل التي تؤكد أن جبهة التحرير الوطني وجيشها يسيطران على مناطق واسعة جدا من الوطن الجزائري. فهذا مسؤول حضر من منطقة الجزائر أو قسنطينة أو الجنوب، وهذا جرح أوتي به من مكان بعيد، وهذا جندي فر من الجيش الفرنسي من نقطة بعيدة عن النقطة التي يوجد بها الآن. ولاحظت أثناء تنقلاتي بين الدواوير والمداشر أن الجيش حاضر في كل مكان، وأن نفوذ الجبهة موجود في كل موضع، وقد صرح لي مسؤول قائلا: (إننا لا نريد إظهار قوتنا إذا كان في ذلك ضرر للشعب،

ولهذا تجدنا نوصي المواطنين بالامتثال إلى عمليات - إعلان الولاء - التي تنظمها السلطات الفرنسية حتى لا يكونوا عرضة لقمع لا فائدة منه). وهذا ما جعل نظام الجبهة يختفي أحيانا في الظاهر فقط، في جهات كاملة، وبالعكس من ذلك، فإن الإدارة الفرنسية أصبحت معدومة في الواقع. وهكذا، نرى السكان المدنيين يعيشون بصفة سرية في جزائر مستقلة، يديرها جزائريون وفقا لتجاربهم الخاصة، نعم، إن السلطات الاستعمارية لا زالت تفرض الضرائب على الأهالي في الجهات التي تتمركز فيها قواتها، ولكن سجلات الأحوال المدنية فارغة، إذ صار المواطنون يسجلون مواليدهم لدى الإدارة الجزائرية، ويحتكمون إلى محاكمهم الشعبية في جميع المنازعات المتعلقة بالأملاك والإرث والطلاق، الذي لم يعد فيه للزوج التصرف المطلق. كما أن الإدارة الجزائرية تحمع الضرائب، من غير أن تفرض على الأهالي مبالغ باهظة على نحو ما كان يفعله المستعمرون، فكل فرد يدفع ما هو مناسب لوضعه، حتى المعمرون الذين صاروا يعترفون بنفوذ إدارة الجبهة باتوا يقدمون الضرائب لجبهة التحرير الوطني. وتتحمل الإدارة الأهلية مقابل ذلك أعباء نفقات عائلات المجاهدين والمنفيين والمسجونين والمبعدين والشهداء من الجنود والمدنيين وحتى عائلات الخونة الذين أعدموا. وقد قضى جيش التحرير على أبغض ممثل الإدارة الاستعمارية مثل (الشنابط) و (القياد) الذين عوضوا بضباط الشؤون الأهلية. وإذا بقي قائد في منصبه من غير أن يستقيل، فذلك لأنه متفق مع الجبهة ومتعاون معها. إن الجبهة منظمة شعبية، تضم في صفوفها كل مواطن، ولا

المرأة المسلمة - صمود في مواجهة الاستعمار

ترفض من صفوفها إلا أولئك الذين اشتهروا بتواطئهم مع الاستعمار، وهي قبل كل شيء منظمة الشعب التي تعمل لتحقيق التحرير الوطني، ولكل فرد منها مسؤوليته: (إذ إن الشعب هو العين التي يرى بها جيش التحرير، وإن جيش التحرير هو عمدة الشعب). هذا ما قاله لي أحد المجاهدين. وفعلا، فإن وحدات جيش التحرير لا تستطيع العيش بدون تأييد الأهالي لها، فهي تجد عندهم السلامة وحفظ أسرار التنقلات والمأوى والمأكل والمساعدة في تأدية العمليات الضخمة مثل تلك التي سمحت في صيف سنة 1957 بقطع مائة كيلو متر من الأسلاك الشائكة وتدميرها في ليلة واحدة على الحدود المغربية ويشكل المواطنون، بالنسبة إلى جيش التحرير، جيشا آخر من العيون والحرس الذين يراقبون تحركات العدو، ويكشفون عملاء الاستعمار. فتجد مثلا الراعي الصغير الذي لا يتجاوز عمره الخمس سنوات، يرد على كل من يسأله عن حركات المجاهدين بقوله: (إني لا أعرف اللغة العربية) وهو يقول ذلك بالعربية، ثم يمضي لشأنه مرفوع الرأس. وقد تحدث في بعض الأحيان مناقشة بين العسكرين والمدنيين ولكن ذلك لا يؤدي إلى أي اصطدام بين الفريقين، إذ أن لكل منهما أن يحل مشاكله أمام الهيئة المشتركة من الجبهة والجيش. وتقوم الإدارة الجزائرية، باستمرار، بإدخال تطورات عميقة على نظام العيش في البوادي. وهي تكتفي في كل مرحلة، بتطبيق المباديء التي تسمح لها بتكتيل الشعب وتوجيهه نحو هدف واحد. وقد نجحت الجبهة في الوصول إلى هذا الهدف، إذ لم يعد هناك أثر للمنازعات التي كان يغذيها الاستعماريون، وأصبح باستطاعة المجاهد أن يأتي من جهة بعيدة ليأخذ مكانه في خيمة، أو تحت سقف، قبيلة أخرى، ويجلس بين أفرادها، وهو

جالس بين أهله وإخوانه، إنه جزائري. فكيف نسمي هذا الجهاد؟ .. إننا نسميه (ظهور العدالة). إن هذه الحرب هي من نوع الحروب التي تنطوي على معنى أن الانتصار الذي سوف يتحقق، سيكون نتيجة انتصار قوة على أخرى، وسيكون خاتمة تطور وتحسن ثورة عسكرية وسياسية ومادية. والدليل على ذلك أن الثورة التي بدأ بها عشرات المجاهدين لا يمتلكون أكثر من بنادق للصيد. ولم تمض عليهم إلا سنة واحدة حتى صاروا آلافا من المجاهدين، يقاتلون بأسلحة عصرية، ويسيطرون على مناطق واسعة. ولم توجد قبل ذلك إلا بعض الخلايا الثورية السرية التي باتت بعد ذلك تشكل منظمة شعبية تقود الكفاح، وليست هذه النتائج كلها إلا مرحلة من مراحل الثورة. أما النتيجة الأخيرة، فسوف تظهر في المستقبل، وقد عبر عن ذلك مجاهد فلاح في هذه الكلمات: (لقد حرثنا الأرض، وبذرنا، وما تراه اليوم ليس إلا نبتة أولى، أما الحصاد فموعده الغد). ولقد قضى الجزائريون وقتا طويلا لتحقيق وحدتهم، وهذه الوحدة الملموسة هي أساس قوتهم. وهذا ما عبر عنه فلاح مجاهد أيضا بقوله: (كان الشعب ينتظر بلهفة أكثر من لهفة الجائع الذي يترقب نضح الثمار حتى يسد بها رمقه). إن الاستعمار يمثل لنا سلسلة من المصائب التي حملها معه المعمرون والإدارة الفرنسية، ولم يكن لنا حول أمام هذه الإدارة سوى الرشوة نعطيها للموظفين كلما اضطررنا إليها. إني فقير الحال، ولست أملك إلا قطعة صغيرة من الأرض أحرثها وأعيش من زرعها. وكلما أقبل الشناء ذهبت إلى الغابة لأقطع شيئا من الحطب، وأصنع منه كمية من

الفحم، وإذا عثر علي حارس الغابة، فإنه يفتك مني الفحم والبغل، وحينئذ أجد نفسي مضطرا إلى شراء بغلتي ودفع غرامة مالية تتراوح بين الخمسين والمائة ألف فرنك، هكذا كنا نعيش. أما المعمر، فإنه لا يشبع من ضم أراض جديدة الى ممتلكاته وهو لا ينفك يحتال على الفلاحين البؤساء مثلي ليأخذ أراضيهم. وبما أنني أجهل القراءة والكتابة، باللغتين العربية والفرنسية، فإنه تمكن من تغليطي ببعض الأوراق المزيفة، وهكذا سلبت مني أرضي. وبحثت عن أرض أستأجرها - أكتريها - ولكن الأرض باهظة الثمن ولم تبق لي إلا وسيلة واحدة أرتزق منها وهي العمل على الطرقات وتكسير الحجارة. وليس ذلك بالعمل السهل، إذ أن الشرط الأول لتحصل على هذا العمل هو دفع ألف فرنك إلى القائد هذا إن رضي بها وحتى ذلك العمل لم يدم طويلا، فاضطررت عندئذ إلى طلب العمل عند المعمر الذي افتك مني أرضي. والمعمر لا يدفع الأجور إلا حسب مشيئته. وإذا اشتكينا، فإنه يهددنا بالفصل عن العمل، أو يرمي بنا في السجن، وبذلك نضطر للخضوع لشروطه حتى لا تبقى عائلاتنا طعمة للجوع. وفي النهاية، لا يبقي لنا الاستعمار، وأجهزته من إداريين ومعمرين، إلا زوجاتنا وأولادنا. وهذا ما كان يضطر الجزائريين إلى بيع أجسادهم عن طريق الانخراط في القوات الفرنسية العاملة في الهند الصينية. وهكذا فإن الاستعمار وأجهزته ومن يمثله باتوا في نظر الشعب: (أبغض مخلوقات الله على الأرض). إن مجاهدي الجزائر لا يعتبرون في ثورتهم المشاكل المحلية فحسب، وإنما أصبحوا ينظرون إلى وطنهم بجميع ما يشتمل عليه من ثروات معدنية، وأرض خصبة وغابات رائعة، ولهذا فإنهم لا

يهدفون إلا لشيء واحد هو تحرير الوطن بكامله فهم مقتنعون بأن الاستقلال هو الضمان الوحيد لتمكين الشعب من السيطرة على توجيه مصيره. وكثيرا ما سمعت الجزائريين يؤكدون أن اليوم الذي يقبلون فيه إصلاحات (لاكوست) سيكون نهاية الحياة في الجزائر، إذ أن الشعب الجزائري يريد حكومة منبثقة عن الشعب تكون مسؤولة أمامه. وإذا ما أراد المعمرون البقاء في الجزائر، والعيش فيها، فما عليهم إلا أن يخضعوا لسلطة جزائرية. وأكد لي أحد المسؤولين موقف الثورة بقوله: (إننا نحارب من أجل التحرير الوطني، وإن جهادنا لا يقوم على التعصب العرقي - العربي - ضد الأوروبيين، أو التعصب الإسلامي ضد المسيحيين). وقد أكدت مشاهداتي ومحادثاتي صحة هذا التصريح. وما على (السيد سوستيل) إلا أن يزور الثوار إذا ما أراد أن يتحقق من وجود شبح (التعصب العربي). وإذا كان هناك تعصب فإن الفرنسيين هم السبب في تكوينه، إذ أن المجاهدين لم يكونوا أبدا لينشغلوا بظاهرة التعصب لولا العدوان الفرنسي. وليس أدل على عدم تعصب الجزائريين من معاملتهم للأسرى الفرنسيين معاملة طيبة، وكذلك فرار الجنود من الجيش الفرنسي، وهم يعلمون يقينا أن أفرادا أوروبيين، وحتى يهودا، يخوضون الحرب داخل إطار جبهة التحرير من أجل تحقيق هدف واحد. وإذا ما كان يجهل ذلك، فإنه سيجد من يخبره به، وكثيرا ما سمعتهم يقولون لبعضهم: (تذكر يا أخي، أن هناك أجانب يكافحون إلى جانبنا). وإذا تناقش المجاهدون في مسألة الإصلاح الزراعي، فإنهم يتفقون على أن ذلك مبدأ يجب على الحكومة الجزائرية أن تطبقه في

المستقبل على كبار الملاكين سواء كانوا أوروبيين أو مسلمين. لقد لاحظت أن كثيرا من جنود جيش التحرير متأثرون شديد التأثر بالدين الإسلامي. ولهذا فإنك تجدهم متصفين بأخلاق أوصى بها القرآن الكريم، سواء في معاملاتهم للجار أو في معاملتهم للأمير والعدو. فهم يدركون أعمق الإدراك مشاعر التضحية والأخوة والكرامة الإنسانية، واحترام الآخرين والعدالة ... وأخيرا فهذه رسالة، في جملة (وثائق الثورة) تظهر الروح الحقيقية لمجاهدي الثورة: الجمهورية الجزائرية. الولاية (1) - المنطقة (1) الناحية (4) القسمة (2). إخواني الأعزاء رجال لجنة الشعب رقم (2) أحييكم وشعبكم وأرضكم وسماءكم، شاكرا جميلكم على الرسالة التي وجهتموها إلي، مخبرين إياي على حياتكم في تاريخ اليوم، معلنين لي رغبتكم للقيام بزيارتكم، وإني أبتهل الله الكريم أن يمنحني فرصة التقابل معكم، سواء في هذه الدنيا التي نجاهد فيها، أو في الآخرة التي سنحيا مرة أخرى فيها. أيها السادة! إن الاستعمار إذا خرج من مقركم الحالي، بكل قواه، فهو ما زال في وطنكم، وفي بلدان تجاوركم. وعليه يمكنني أن أقول لكم جميعا، اليوم يجب عليكم أن تحتفظوا بأنفسكم من جهته أكثر ولا تغتروا بأنه بعيد عنكم، هو والخونة

الذين يبغضونكم وما زالوا في تتبع آثاركم. فعليكم بهزيمتهم دائما، لتبقوا وشعبكم دائما منتصرين. فإلى الأمام، ولشعبكم مني ومن كل المواطنين هنا أحر التحية وأزكى السلام. (الإمضاء: أخوكم في الجهاد عبد القادر) في 20/ 6/ 1961م.

الإدارة في مجتمع الثورة

3 - الإدارة في مجتمع الثورة لقد عملت الإدارة الفرسية الاستعمارية طوال ليل الاستعمار على تدمير الإنسان الجزائري من أجل إحكام السيطرة على الثرى الجزائري والوطن الجزائري، وأحكمت سيطرتها على الأرض الجزائرية من أجل تدمير الإنسان الجزائري والتحكم بأموره ومصيره، واسترقاقه من غير إعلان عن تطوير نظام الرق. ومن خلال عملية التدمير المتعمد والتعسفي للإنسان الجزائري والأرض الجزائرية، زالت أو كادت تزول شخصية الجزائر المادية والمعنوية. وهكذا فعندما انطلقت شرارة الثورة كان لا بد للقيادة التاريخية من ممارسة عمل مزدوج: تحرير الأرض من جهة، وتحرير الإنسان من جهة ثانية، ولم تكن هذه العملية بالعملية السهلة، إذ كانت أعباء قيادة الجهاد في تلك الظروف العسيرة كافية لإرهاق أقوى القيادات وأصلبها. غير أن الضرورات فرضت وجودها واضطر القادة التاريخيون للقيام بالعمل المزدوج في وقت واحد: بناء المجتمع الجزائري وتنظيم الإدارة الجزائرية. وكان هذا العمل المتكامل هو الذي أعطى الثورة الجزائرية طابعها المدني - العسكري، إذا جاز التعبير، أو مجتمع السلم والحرب، بتعبير آخر. ويفسر ذلك الطابع الذي لا زالت الجزائر تحمل أثره

ذلك التلاحم في العمل العسكري والعمل الإجتماعي. لقد كان على قيادة جيش التحرير بناء العلاقات الاجتماعية من (الصفر) أو من (العدم). وإيجاد الحلول الناجعة والفعالة للمشكلات التي كانت تتركها، أو تخلقها، طبيعة الصراع والتي لم تكن تميز بين المجاهد الجزائري والمجتمع الجزائري. وقد استطاعت القيادة التاريخية للثورة وضع أسس الحلول في مؤتمراتها المتتالية، بهدف توحيد نظم الإدارة للمجتمع الجزائري الجديد - مجتمع المستقبل - وعملت باستمرار على تطوير تلك النظم، وقد يكون من المناسب التوقف قليلا عند أحد الأوامر التنظيمية لولاية مد ولايات الكفاح التي صدرت في بداية سنة (1959) حيث تلقي الضوء على (روح التنظيم) في تلك الحقبة التاريخية. الجمهورية الجزائرية جبهة التحرير الوطني ......... جيش التحرير الوطني الولاية السادسة .......... أركان الحرب التحرير في 58/ 110 رقم 527/ 58 ط. المجالس البلدية إلى أعضاء المجالس البلدية. نوجه إليكم هذه النقاط لتسيروا على ضوئها حتى تنير لكم الطريق لبلوغ ما رسمته لكم حكومتكم الجزائرية. ولتعينكم على تسيير شؤونكم الداخلية من تأسيس وتشييد. بهذا يجب علينا أن نعمل ونسير بنظام مع العزم والحزم في كل عمل حتى نصبح قادرين على تسيير أعمالنا، والله معنا ما دمنا سائرين في سبيل العدل والأخوة. الطاعة لله ولحكومتنا.

تركيب المجالس البلدية: يتكون المجلس من خمسة أعضاء ينتخبون من بينهم رئيسا يسمى (شيخ البلدية) ويحتوي تنظيمه على خمسة مكاتب: أ - مكتب شؤون الأمة: يشرف عليه (شيخ البلدية) كما يشرف على المكاتب الأربعة الأخرى ويتولى رقابتها، وله اتصال مباشر بلجنة الأوقاف المدنية. ب - مكتب الإصلاحات البلدية والحالة الصحية: ويقوم بتوزيع المياه والأراضي والغابات والبناء والتعمير وتسجيل الولادات والوفيات والاصلاحات الحيوية في دائرة السكان. ج - المكتب المالي: ويقوم بتنفيذ مهمتين: 1 - جمع المدخولات من: الزكاة، الاشتراكات، والتبرعات والضرائب، والإعانات الخاصة أو العامة. 2 - توزيع الإعانات على: المكاتب الشعبية المستحقة لها، وللأئمة، وللمعلمين، وللفقراء من أفراد الشعب، للمسجونين، ولعائلات المجاهدين والشهداء والأسرى، وتقديم الإعانات للفلاحين لمؤازرتهم وتشجيعهم على الحرث والزراعة. د - المكتب التجاري: ويتولى الحالة الاقتصادية من صادرات وواردات، وتأمين كل ما يطلبه منه العريف الأول السياسي من شراء. هـ - مكتب الشرطة: يتولى حفظ الأمن، وإقرار السلام، ومراقبة الشعب من ظالم ومظلوم، وكل من ارتكب ما حرم الله، وفي ذلك الامتثال والسير تحت أوامر (شيخ البلدية).

توضيحات: أ - مكتب شؤون الأمة: 1 - كل المسائل الشرعية تتولاها لجنة الأوقاف. 2 - له إبداء الرأي في حل المشاكل، إذا طلبت منه اللجنة المذكورة. 3 - يتولى رقابة كل التسجيلات للمكاتب الأربعة الأخرى. ب - مكتب الإصلاحات البلدية والحالة الصحية: 1 - يتولى تسجيل الولادات والوفيات، فور حدوثها، وبألا تتجاوز مهلة تأخير التسجيل مدة أسبوع. 2 - عليه أن يدرس كل الأراضي الصالحة للتعمير والبناء ويقوم بتقديم تقرير يوضح فيه كل ما يراه صالحا للشعب. ج - المكتب المالي، وواجبه: 1 - الاتصال بكافة أفراد الشعب، وجمع الاشتراكات وغيرها. 2 - تسجيل كل ما حصل عليه من المال. 3 - دفع المال كله إلى العريف الأول السياسي شهريا. 4 - تسجيل كل من فرضت عليه الإعانة وامتنع عن دفعها. 5 - تسجيل اسم كل شحص لم يتمكن من إعلامه بالطلب. 6 - فرض الضرائب وتحصيلها من أصحابها. 7 - تقديم إيصالات رسمية لكل من يقدم مبلغا من المال - من أفراد الشعب - وكذلك استلام إيصال رسمي من العريف الأول السياسي عندما يتم تسليمه المال.

د - المكتب التجاري: 1 - لا يعترف بأي طلب كان، إلا من العريف الأول السياسي. 2 - لا بد أن يكون كل شراء مصحوبا بالحجة - فاتورة الشراء. 3 - إذا احتاج المال، فليطلبه من العريف الأول - الإتصال والإخبار. هـ - مكتب الشرطة: 1 - يجب عليه إطاعة وتنفيذ كل ما يأمره به (شيخ البلدة). 2 - القيام بالسهر الدائم لحماية الشعب والدفاع عن كيانه وشرفه. 3 - التحقيق في كل مشاجرة - نزاع - وبحثها، ورفع تقرير عنها إلى شيخ البلدة. 4 - يمنع من فرض الضرائب، ويكتفي بإبلاغ شيخ البلدة عن كل حادث وقع وهو يتولى تنفيذ واجب تحصيل الضرائب. تعليمات: 1 - يجب على كل فرد من الأعضاء المذكورين أن يحتل مكانه حسب معرفته ومقدرته، لأن الشعب يحاسب كل واحد منا على عمله ومسؤوليته. 2 - يشترط في أعضاء هذا المجلس التحلي بالأخلاق الإسلامية، والتشبع بالروح الوطنية، وأن يكون الإخلاص رائدهم، مع الحرص على إحراز ثقة الشعب، وتقوية الروابط فيما بينهم، متجاوزين الحزازات القديمة، والأغراض الشخصية

التي من طبيعتها زرع روح الانشقاق بين أفراد الشعب وطبقاته. 3 - تكون الأحكام مستمدة من الشريعة الإسلامية، أو العرف السائد - الموجود. 4 - إذا عجز المجلس عن حل مشكلة أو تنفيذها: -…إن كانت من الناحية العسكرية فيقدمها إلى العريف الأول السياسي. - وإذا كانت شرعية فيقدمها إلى لجنة الأوقاف والشؤون الدينية والثقافية. 5 - يمنع على المجالس البلدية إصدار حكم الإعدام، أو التأديب، على أي مدني كان، وعلى هذه المجالس تقديم -المرتكب - إلى العريف الأول السياسي مصحوبا بالحجج والبراهين الدالة على إجرامه، وهو يتولى الحكم في ذلك. 6 - كل نزاع أو خصام أدى إلى قتل أحد الخصمين، فيحجر قبل كل شيء على ما تم النزاع عليه، كما يحجر على القاتل، ويقدم إلى الجيش. 7 - يمنع تقاضي أي أجر عن تسجيل العقود والزواح والطلاق والتركة. 8 - يدفع الشاري الجزائري ثلث المال المشترى به عند شراء الأملاك إذا ما تجاوز مبلغ الشراء الخمسمائة ألف فرنك، هذا إذا كان البيع والشراء بين الجزائريين. كما يرخص للجزائريين بشراء أملاك (المعمرين). 9 - يجب على المكتب الشعبي أن يهتم بالمحافظة على عائلات الشهداء وأولادهم وأملاكهم، وكذلك الأسرى والمعتقلين من عسكريين ومدنيين، وتعيين الكفيل للقاصرين وأملاكهم.

10 - يجب على كل مجلس عقد اجتماعين في كل شهر لدراسة شؤونهم العامة وفحص تقاريرهم الشهرية ويقدم كل مكتب أعماله التي قام بها والتي هو مأمور بتنفيذها. كما يدرسون الأعمال المقبلة وتسييرها وكذلك توزيعها على أقسامها. وبعد الاجتماع، يعقد كل مكتب اجتماعا لأعضائه ليقدم لهم الأعمال التي كلف بتنفيذها. 11 - يجب على (شيخ البلدة) مراقبة عمل المكاتب الخمسة. 12 - تسجيل (القوم) (¬1) ولمن ينتمون، مع ملاحظة عن أسباب انخراطهم. 13 - رفع التقارير الشهرية إلى الجيش في اليوم المعين لاستلام البريد من الجيش وتسليمه إليه. وكذلك الأمر بالنسبة للبريد الأسبوعي بين المجلس والقسمة في يومه المعين من قبل المساعد. 14 - على كل من لم يصله البريد في موعده المعين رفع تقرير إلى مسؤول الناحية أو المنطقة. 15 - التعليم إلزامي للبنين والبنات. 16 - يمنع كل مدني من غير أعضاء هذه المكاتب التدخل في شؤونها أو معارضتها في أعمالها، وإذا صدر عنها ما يخالف القانون، فعليه رفع شكواه إلى العريف الأول السياسي. 17 - يمنع كافة أعضاء المكاتب الشعبية الاطلاع أو التدخل ¬

_ (¬1) القوم تنظيم عسكري من الجزائريين، أقامته السلطات الاستعمارية الفرنسية لمحاربة الثورة، وما لبث هذا التنظيم أن انحل بسبب انضمام أفراده تباعا لقوة الثورة. (المؤلف).

في شؤون بعضهم البعض، وكل فرع مسؤول عن عمله وأسراره. 18 - يمنع كل فرد من أفراد الشعب، أو المجالس البلدية، التدخل أو الاتصال أو رفع الشكوى، عن غير طريق مسؤوله - أي قسمته وناحيته -. 19 - يمنع منعا باتا تأسيس المنظمات أو الأحزاب السياسية أو الانخراط فيها، ويحال إلى المجلس العسكري من يلاحظ عليه مخالفة ذلك. 20 - يحال فورا إلى الجيش، وعن طريق الدرك، كل مجاهد أو مدني يعثر عليه بدون رخصة - تصريح -. محكمة المدنيين: إن للمدنيين أحكاما ينفذها الجيش في مجاله العسكرية، ويحاكمون بالعقوبات التالية: 1 - التأديب. 2 - الغرامة. 3 - الإبعاد. 4 - الإعدام. الفصل الأول - الإعدام: 1 - كل ما يمس أمن الدولة (الحكومة). 2 - اختلاس أموال الجيش. 3 - ارتكاب ما يسمى بمبادىء الإسلام. الفصل الثاني - التأديب: 1 - إفشاء السر. 2 - رفض الأوامر. 3 - التمرد على المكاتب الشعبية ومنها البلدية والدرك والشرطة. الفصل الثالث - الغرامة: 1 - رفض المشاركة في أداء الواجب الوطني. 2 - الاعتداء على ممتلكات الآخرين. 3 - المشاجرة.

الفصل الرابع - الإبعاد: 1 - التهم بدون حجج (الافتراء). 2 - قلة الثقة وفقدانها. 3 - الإساءة إلى الجوار. تأكيد: تلغى من الآن فصاعدا التسميات القديمة، وتكون كالتالي: 1 - اللجان - يسمون (المجالس البلدية). 2 - المسبلون - يسمون (رجال الدرك). 3 - المنظمات الشعبية تسمى (المكاتب الشعبية). 4 - خلايا الجاسوسية تسمى (المكاتب السرية). تنبيه هذا القانون مؤقت، وتلغى جميع القرارات السابقة، ويتم العمل بما ذكر أعلاه، وبما يتم إبلاغكم به في المستقبل. ويعتمد تنفيد هذا القرار على إخلاصكم وتضحيتكم لوطنكم المفدى، وجمهوريتكم الفتية عاشت الجزائر بأبنائها المخلصين لها. الصدور في: فبراير (شباط) 1959 الصاغ الثاني للولاية السادسة أحمد بن عبد الرزاق

تنظيم الجاسوسية

4 - تنظيم الجاسوسية اتبعت قيادة جيش التحرير الوطني كل الطرائق الممكنة لتطوير إمكانات الجيش ماديا ومعنويا، واستخدمت كل الوسائل المتوافرة لرفع مستوى كفاءة المجاهدين القتالية، سواء في مجال التسلح أو في مجال التدريب التعبوي والفني، أو في مجال الإعداد الفكري. وكال في جملة الوسائل المستخدمة تلك النشرات الدورية، مثل (مجلة المجاهد) و (مجلة الشباب) و (جريدة المقاومة) أو عن طريق نشرات تصدرها الولايات ذاتها (مثل صدى الجبال). وكثيرا ما كان يتم الاعتماد على إصدار نشرات خاصة لمعالجة مواقف معينه، وكانت هذه النشرات تصدر إما عن قيادة إحدى الولايات الستة (ولايات الكفاح) أو تصدرها القيادة العامة، ويمكن هنا التوقف عند إحدى تلك النشرات التي تحمل عنوان (التعليمات السوداء) والتي تعالج موضوع (الجاسوسية): الجمهورية الجزائرية جبهة التحرير الوطني الجزائري جيش التحرير الوطني الجزائري الولاية السادسة…أركان الحرب

الفقرة الأولى أهمية الجاسوسية تعتبر (الجاسوسية) من الأركان الأساسية التي تجعل الدول والشعوب في أمن واستقرار، وتصير في المستوى اللائق بها بين الأمم. فالجاسوسية بالنسبة للدولة هي عبارة عن نبراس ينير الطريق، وهي عبارة أيضا عن حارس أمين يوقف العابثين والمتآمرين عند حدودهم، ودرع متين يقي الدولة والشعب من الانهيار، وسد منيع يتعرض للغزاة الطامعين. والدولة الخالية من الجاسوسية هي جسد بلا روح. ولما كان لهذا الفرع من كبير الأهمية، فقد تم استخلاص بعض نقاط الجاسوسية من تجارب الماضي وأحداث الحاضر، بهدف تقديم بعض الفائدة التكميلية التي يمكن للمسؤولين في هذا الفرع الإفادة منها. وقد تم ترتيب هذه النقاط على النحو التالي. الفقرة الثانية صفات الجاسوس: 1 - أن يكون متشبعا بالروح الإسلامية والمبادىء الوطنية، وأن يكون كتوما (صاحب سر). 2 - أن تتوافر لديه الرغبة في أداء مهمته الدقيقة مع ثقته بنفسه في نجاحها، وأن يكون ذا عزيمة صادقة وصبر قوي، قادرا على احتمال أقسى الشدائد، وألا يشعر باليأس أو الملل قبل بلوغ أهدافه المعينة، مهما طال أمد الوصول إليها، وألا يؤخذ بالانفعالات العاطفية أو المشاعر الحساسة.

3 - أن يكون الجاسوس اجتماعيا، بمعنى أن تتوافر له القدرة على الاتصال بكل طبقات الشعب، بما في ذلك الأجانب، وبحيث يستطيع العيش مع الطبقات المذكورة، مهما كانت بيئتها، أكان ذلك في المدن أو البوادي. 4 - يشترط في الجاسوس ألا يكون ذا ميل سياسي، ولا يمنعه ذلك من الانخراط في أية منظمة سياسية بهدف الحصول على المعلومات، مع التظاهر بالمظهر المناسب للوسط الذي يؤدي فيه مهمته حتى لا يلفت إليه الأنظار بأي شكل من الأشكال. 5 - أن يكون الجاسوس متزنا - بعيدا عن النزق والطيش - لا يندفع لأي عارض من العوارض، وهذا ما يفرض عليه أن يكون مستمعا أكثر منه متحدثا، لا سيما في الأوساط التي لا تتوافر له معرفة كافية بها، وعليه ألا يظهر حزنه وقت الهزيمة أو إظهار فرحه وقت النصر. 6 - يشترط في الجاسوس ألا يكون صاحب إعجاب بنفسه، بعيدا عن الغرور والتبجح - الافتخار والفخفخة - لأن صفات كهذه تتنافى وأعماله، وأن يبتعد عن الثرثارين. كثيري الكلام، وألا يستخدمهم في أعماله وأغراضه لأن ضررهم أكثر من نفعهم، وألا يكون للجاسوس أصدقاء ملازمين له، لأنه يصبح بذلك أكثر قدرة على الاحتفاظ بأسراره. 7 - أن يهجر جميع الملاذ الدنيوية، ويبتعد عن الأطماع والأهواء الشخصية التي عادة ما تجعل الإنسان أداة في قبضة الآخرين. 8 - أن تتوافر له القدرة على التكهن - التوقع - غير أن عليه ألا يبني تصرفاته واستنتاجاته على هذا التكهن، بل عليه أن يتوخى الحقيقة

من خلال تحرياته وأبحاثه. 9 - أن تتوافر له الكفاءة والمهارة والفطنة والحيلة والدهاء، حتى يتمكن من الاطلاع على أسرار الآخرين من غير أن يطلع عليها أحدا. 10 - أن يستخدم الجاسوس المناورات الخداعية - التضليلية -لأن ذلك هو سبيله لكشف أسرار العدو وتحطيم مخططاته التي يهدف من خلالها معرفة أهدافنا وكشف جواسيسنا ومخططاتنا في هذا المجال. الفقرة الثالثة تقسيم الجاسوسية: (وهي تنقسم الى قسمين): أولها: ما يسمى (بالمهاجمة) ومعناه جلب أسرار العدو، والاطلاع على برامجه السياسة والعسكرية والإعلامية وغيرها، والتعرف على أهدافه حتى يسهل القضاء عليها. وللوصول إلى هذا الهدف يجب علينا بدل قصارى جهودنا، وأن نضحي من أجله بالرجال والأموال. وعلى هذا، فلنبدأ بشرح الأعمال الأولية التي يقوم بها العدو .. فبمجرد تعيين ضابط للعمل في مكاتب الشؤون الأهلية (الساس) في جهة ما، من مدينة أو قرية أو عرش، يقوم بما يلي: 1 - يبحث عن تاريخ المدينة أو القرية أو العرش قبل سنة (1830) أي قبل دخول فرنسا الى الجزائر، وموقفها من فرنسا بتأييد دخولها أو مقاومته. 2 - يبحث عن موقفها من الثورات التي وقعت بعد سنة (1830).

3 - يبحث عن (الأعراش) الموالية للعرش المؤيد للثورات، والأعراش المضادة له، كما يبحث عن عدد أبنائه الموجودين مع قوات جيش التحرير، وأولئك الموجودين مع القوات الفرنسية، ويقارن النسبة بينهما. كما يطلع على حالة أعيان العرش (وجهائهم وقادتهم)، ودراسة حالاتهم، ومحاولة التقرب منهم بكل وسيلة. 4 - يبحث عن المستوى المعاشي - الحياتي - والثقافي، وعن النظم الاجتماعية، والعادات والتقاليد ويضبط جميع ممتلكات الأهالي. 5 - يبحث عن موقف ذلك العرش، أو تلك المدينة، من ثورة سنة 1954. 6 - يطلب من المسؤول عن مكتب الشؤون الأهلية (الساس) الذي سبقه إلى ذلك العرش، أن يبدي له رأيه، وأن يشرح له شرحا مستفيضا أحوال العرش وعاداته وأخلاقه، ويشرع بعد ذلك في تنفيذ خطته التي تتلخص بما يلي: إعادة تنظيم شبكة الجاسوسية في الأوساط الشعبية، وفي سائر المجتمعات، مثل منظمات الطلاب والمعلمين والأئمة والتجار والموظفين والعمال والرياضيين والأطباء والصيادلة والرعاة والحاطبين وصانعي القطران والنساء، بما في ذلك الممرضات وعمال إدارات البريد والإسعاف (في الهلال الأحمر والصليب الأحمر). وحتى في صفوف العسكريين - المجاهدين في جيش التحرير الوطني - وهو يلبس للظروف لبوسها، متخذا لذلك أساليب خاصة تناسب كل صنف من الأصناف الآتية: العرش: يجعل العدو جاسوسا أو جاسوسين أو ثلاثة في كل لقب أو عائلة، بحسب كثرة عدد أفرادها أو قلتهم، ويختار الذين يثق

فيهم ويعتمد عليهم، وهذا النوع من جواسيس العدو مكلف بمراقبة الطائفة والعائلة التي تحمل ذلك اللقب، والموقف العام من الثورة لكل فرد منها. كما أنه مكلف بتمزيق روابط العائلة، والرفقة، وإضعاف الشعور الوطني، والترويج لشائعات فشل الثورة وعدم فائدتها وجدواها، والإعلان عن هزائم - غير صحيحة - لحقت بالثورة. وإظهار فوائد بقاء فرنسا في الجزائر، وبث هذه الروح -الانهزامية - في قالب إرشادات وتوجيهات، مستفيدا في ذلك من كل الفرص والمناسبات. ويمكن لجاسوس (جيش التحرير الوطني) الاطلاع على هذا النوع من الجواسيس بفضل دراسته للشعب، وفهم جميع أفراده، وميولهم، وأفكارهم ومن كان منهم حتى الأمس منعزلا ومنكمشا في زاوية، ثم بات اليوم وهو يختلط بجميع طبقات المواطنين. التجار: يحاول العدو أن يجعل في كل أربعة تجار جاسوسا، مهمته مراقبة الباعة من المواطنين والتعرف على من كان بالأمس يشتري قنطارا من السميد - على سبيل المثال - في كل شهر وقد أصبح فيما بعد يشتري بالعشرة قناطير مع ملاحظة عدم الزيادة في أفراد عائلته. ويمكن لجواسيس (جبهة التحرير الوطني) معرفة جواسيس العدو، وكشفهم، بالاعتماد على مهارتهم في فنهم ودهائهم وذكائهم وفطنتهم وملاحظتهم الدقيقة ممن كان بالأمس - من التجار - يخاف العدو ويهاب سطوته، ولا يبيع للمواطنين إلا المحدد لهم، وهو يتظاهر اليوم بأنه مستعد لسد كل الحاجات التي يطلبونها من البضائع. وعلى من كان منهم لا يجلب من السلع إلا كمية محدودة، وقد أفسح له المجال بعد ذلك ليستورد كل ما يريده. الأطباء والمبادلة: يسمح لهم إما ببيع أدوية زائدة، أو ببيع

أدوية سامة لجيش التحرير. الممرضون والممرضات والهلال الأحمر والصليب الأحمر: تنحصر مهمتهم في الحصول على المعلومات من النساء والأطفال الصغار، لما تسمح به مهمتهم من التمكن من الاتصال يجمح طبقات الشعب، وإظهار مزايا فرنسا للمواطنين من عطف وشفقة ومعالجة وتوزيع الأدوية مجانا. المعلمون: تنحصر مهمتهم بإضعاف إرادة التلاميذ والطلاب الجزائريين العرب، وتشريبهم كره اللغة العربية، ومحبة اللغة الفرنسية، وإظهار ضعف العرب وقصورهم، والتشهير بالثورة على اعتبارها عملا همجيا، مع إعطاء الشرعية للحرب التدميرية الي تقوم بها فرنسا ضد جزائر الثورة. كما يدخل في مهمتهم، كشف الطلاب العاملين مع الثورة وجبهة التحرير الوطني والسعي باستمرار لإفساد أخلاق الطلاب، بحملهم على تعاطي الخمر وسواه، وإبعادهم عن أداء فرائضهم الدينية. الأئمة: وتنحصر مهمتهم في التنديد - أثناء خطبهم - بالمجاهدين، وأن ما يقومون به لا يعد جهادا، ولا عملا شرعيا، مدعين بأن القوة لا تواجه إلا بقوة مثلها. والعمل على تفسير بعض آيات القرآن الكريم والأحادي النبوية الشريفة تفسيرا معكوسا، والتشهير بأعمال الثورة، وبكل ما من شأنه هدم أسس الدين والعقيدة الإسلامية والوحدة. النساء: يقمن ببث روح الفرقة وسوء التفاهم بين النساء ورجالهن، وحملهن على أن يشتكين ببعولتهن إلى مكتب الشؤون الأهلية (الساس). وأن يقمن بمراقبة زيادة الأطفال والنساء في العائلات، ومن أين طرأت هذه الزيادة؟ وكذلك الاتصال بنساء

المجاهدين وبث فيهن ما من شأنه التأثير عليهن، وإضعاف عقيدتهن الوطنية، والإيحاء لهن بأن أزواجهن قد تزوج البعض منهم بالتونسيات، والآخرون بالمغربيات، وهجرن زوجاتهم الجزائريات. الرعاة والحاطبون وصانعوا القطران: وتنحصر مهمة الجواسيس من هذا النوع بما يلي: 1 - البحث عن آثار جيش التحرير الوطني، ومتابعة تحركاته. 2 - تحديد الطرق التي يتبعها جيش التحرير كثيرا في تنقلاته. 3 - مراقبة الذين يتصلون بالجيش من مسبلين (أنصار) وغيرهم من المواطنين، واكتشاف الطرق إلى مخابيء التموين، ومراكزها، إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ويستطيع جواسيس (جيش التحرير الوطني) كشف هذا النوع من الجواسيس بمراقبة وجودهم مرات كثيرة في أماكن ممنوعة. البطالون (العاطلون عن العمل): يعمل العدو على إقامة المشاريع لفتح المجال أمام العاطلين عن العمل مثل خدمة الطرقات وشقها، وإقامة بعض الأبنية، ثم ينتخب بعد ذلك منهم الجواسيس الذين تنحصر مهمتهم بما يلي -: 1 - حملهم على الاعتراف بفضل فرنسا وجميلها لأنها سهلت لهم طرق العيش، ومحاولة إقناعهم بالنفور من الثورة التي لا تجديهم نفعا. ويمكن لجواسيس (جيش التحرير الوطني) كشف هذا النوع من الجواسيس عن طريق مراقبة الذين يكثرون منهم التردد على الإدارات المكلفة بالعمل (الشغل) ومكاتب النقابة، بعد التعرف على مهماتهم من هذا الغدو والرواح وغيره. ويجب على جواسيسنا (جواسيس جيش التحرير) الاعتماد على العقل والدهاء في كل الأمور لكشف جواسيس العدو

المنظمات العاملة مع الجيش: بعدما يتعرف العدو على عضو من المنظمات الجزائرية الوطنية، أو أحد المسبلين (الأنصار) أو أحد أعضاء المجالس وغيرهم، يحاول الاتصال بهذا العضو العامل من غير إشعاره بأنه على معرفة بنشاطاته وأعماله، ويجرب إقناعه بفائدة بقاء فرنسا في الجزائر، وأهمية التعاون معها، مع مقارنة بعض الأحوال الحاضرة مع ما كانت عليه هذه الأحوال في الماضي، وإبراز نسبة التحسن - المزورة -. ويتعهد له بإعطائه الوظيفية اللائقة به والتي يرغب فيها. وبعد كل هذا الإغراء، يعرض عليه العمل معه، فإذا رضي بذلك انتهت مشكلته وأصبح جاسوسا للعدو. أما إذا رفض، فإنه يترك وشأنه لمدة أيام قليلة، ثم تصدر السلطة - الاستعمارية - أمرها بالقاء القبض عليه، بتهمة العمل مع جيش التحرير الوطني، ويسلط عليه أنواعا من العذاب الوحشي لإرغامه على الاعتراف بمهمته ودوره، ويتظاهر له - أثناء التحقيق - بالشفقة عليه أحيانا، مع الاستمرار في تعذيبه إن لم يعترف. وأما إذا أقر بعمله، فإن مكتب الشؤون الأهلية (الساس) يقتاده فورا إلى مكتبه، مذكرا إياه بكل ما صرح به أثناء استجوابه، وبالأعمال التي قام بها. ويهدده بأن كل ذلك يستوجب قتله. ويقول له: على فرض أني تسامحت معك، فلا بد لي من إلقاء القبض على رفاقك في العمل، الأمر الذي يؤدي إلى إعدامك من قبل جيش التحرير الذي سيتهمك بكشف أمرهم والإقرار عنهم. غير أني أرى من النصيحة لك، ومن الواجب الإنساني، أن أطلق سراحك، حتى ترجع الى عملك كما كنت، ولا ألقي القبض على رفاقك في العمل، وسأشيع بأنك لم تعترف بأي شيء. كل ذلك لتعمل معنا بعد خروجك من السجن. وعليك أن تخبرنا عن تحركات الجيش، وعن أعمالك وأعمال أصحابك

وتنحصر مهمة هذا النوع من الجواسيس بالتالي: 1 - محاولة التعرف على المنظمات الثورية الوطنية العاملة في الأعراش والبلدان المجاورة. 2 - بث روح التفرقة بين الطبقات والمنظمات العاملة مع الثورة. 3 - جمع أسرار الشعب بصورة عامة. 4 - دفع تلك المنظمات لاستخدام وسائل العنف والشدة وسوء المعاملة بطريقة لا يحتملها الشعب ولا يستسيغ قبولها من منظمات يعتبرها مثل أمه الحنون. وهذه الطرق، وأشباهها، تنفر الشعب من الجيش والعاملين في صفوفه، وتسقط من قيمة المنظمات الثورية في أنظار الشعب، وتدفع المواطنين للاقتراب من شيوخ البلديات (الأميار) الاستعماريين، وعملاء العدو، والاقتراب منهم قدر ابتعادهم عن جيش التحرير الوطني والتنظيمات التابعة له. 5 - إعطاء معلومات عن الأموال التي يساهم بها المواطنون في الثورة، من حيث الزيادة أو النقصان، وموقف التموين والذخائر لدى قوات الثورة. والعمل على إضعاف ميزانية الجيش، إما عن طريق الحد من الدخل المالي، وإما عن طريق شراء القليل من المواد التموينية بمبالغ باهظة، مع إبلاغ السلطات الفرنسية عن طرائق تموين جيش التحرير الوطني وأساليب نقلها. وكذلك السعي للحد من النشاط السياسي للثورة عن طريق إبلاغ ونشر أوامر مزورة من جيش التحرير الى المواطنين. ويمكن لشبكة جاسوسية جيش التحرير الوطني كشف جواسيس العدو من هذا النوع وذلك بفضل معرفة حقيقة أعمال المنظمات الوطنية ونشاطاتها ومواقفها، وملاحظة النقاط التي سبق ذكرها. وكذلك من خلال مراقبة أعضاء المنظمات بعد خروجهم من السجن، ومقارنة أعمالهم ومواقفهم مع ما كانت عليه قبل دخولهم السجن.

جواسيس العدو داخل جيش التحرير الوطني: يعمل العدو على تشكيل هذا النوع من الجواسيس وتكوينهم، إما عن طريق بعض المواطنين المزودين بالتعليمات الضرورية والتوجيهات اللازمة، وإما عن طريق الذين يطلبون التطوع في صفوف الجيش الفرنسي وإما عن طريق عساكره (جنوده) الذين يدفعون للانضمام إلى جيش التحرير الوطني بعد تزويدهم بالتعليمات والتوجيهات الضرورية، وكذلك عن طريق الأسرى من مجاهدي جيش التحرير الذين يقعون في قبضة العدو، أو حتى المدنيين الجزائريين الذين يعدهم العدو في السجون والمعتقلات ثم يسهل لهم عملية الفرار. وإما عن طريق النساء. ومهمة هؤلاء الجواسيس، كما مجددها لهم العدو، هي على النحو التالي: 1 - جمع المعلومات السرية عن حالة الجيش (قوات جيش التحرير) مثل: عدد أفراد الجيش، والمساحة الجغرافية التي يحتلها - يشغلها -وأنواع أسلحته ومستوى تدريبه العسكري، ومسؤوليه وأسماءهم وعلاقتهم بعضهم ببعض، وعلاقتهم بجنودهم، والنظام الإداري، والحالة المعنوية للجيش في حياته الجبلية، وموقفه من النظام الثوري. وموقف قواته من غارات القوات الفرنسية وما يظهره هؤلاء من ضروب الشجاعة، أو الحذر، والنسبة المائوية لتكوين القوات وتشكيلها مثل: يوجد من العرش الفلاني عدد كذا، ومن العرش الفلاني عدد كذا، معيشتهم، أكلهم، أعمالهم اليومية، عدالة الجيش، تزوير الأعمال إن وجدت. تمركز أفراد الجيش، سيرتهم، حراستهم الخ .. 2 - القيام بالدعاية لفرنسا في وسط جيش التحرير، وحمل أفراد منه على إفشاء أسراره، كل ذلك مقابل ما يقوم به مكتب الشؤون

الأهلية (الساس) من تموين لعائلات جواسيس فرنسا، وضمان حياتهم ووعدهم بالمستقبل الزاهر قصد التأثير على معنوياتهم، وإضعاف إرادتهم، وحملهم في النهاية على الاستسلام لمخططاته. 3 - بث روح الفرقة في وسط المجاهدين، وإشاعة الروح الانهزامية - الملل من الجهاد واليأس من النصر - مع تقديم الوعود المغرية: مثل ضمان مصير الأسرى، والعفو عن المجاهدين إلخ .. 4 - التظاهر بالحماسة للعمل حتى يحتل الجاسوس مركزا مسؤولا في التنظيمات الثورية، الأمر الذي يساعده على فتح باب التجنيد أمام عملاء العدو وجواسيسه. 5 - النساء: يقمن بالأعمال ذاتها، علاوة على محاولة الزواج من المسؤولين. واتهام المجاهدين بارتكاب الفحشاء معهن. ويستطيع جواسيس جبهة التحرير الوطني كشف هؤلاء الجواسيس من خلال متابعة أعمالهم وأعمالهن، حيث يمكن تقويم الأعمال بذكاء، وإعطاء الأمور حقها من المراقبة، وإجراء دراسة دقيقة لأحوال الأفراد: سيرتهم وتحركهم وأعمالهم وحال العاملين مع العدو. وبذلك يمكن فرز الخائن عن المخلص، كمن كان بالأمس ذو ميل للعدو، أو كان منعزلا عن الثورة، ثم جاء يطلب فجأة التجنيد للتطوع في الجيش من غير أن يطلب منه ذلك، وكذلك من كان في صفوف قوات العدو ومعروفا بعدائه للثورة، وممارسته أعمالا بشعة ضد جمهور المواطنين، ثم جاء يطلب هو الآخر الانضمام لقوات جيش التحرير، من غير القيام بأعمال إيجابية تؤكد صدقه وإخلاصه. أو الأسرى الفارون من العدو، أو الذين يتم إطلاق سراحهم. الأمر الذي يقتضي دراسة حياتهم في

الجيش قبل وقوعهم في الأسر، وكيفية أسرهم، ومعاملة العدو لهم طوال المدة التي قضوها في السجن، وطريقة فرارهم، إذا كانوا قد هربوا من السجن، أو خروجهم منه، إذا كان العدو هو الذي أطلق سراحهم. الاتصال بين العدو وجواسيسه أ - الاتصال المباشر، ويتحقق كما يلي: 1 - مع المواطنين الذين لهم اتصال دائم بالعدو. 2 - مع الجنود الموجودين في صفوف العدو. 3 - مع المساجين الذين أطلق العدو سراحهم، والذين يترددون على الإدارات الاستعمارية مرة في كل أسبوع أو كل ثلاثة أيام، حيث يتظاهر العدو بأنه لا زال يشك في أمر هؤلاء، مستخدما هذه الطريقة للتمويه، وللحصول على المعلومات، وهذا النوع قليل. 4 - يقوم العدو بحملات تفتيشية، يجمع فيها المواطنين، ويتصل بجواسسيه أثناء البحث، ويتلقى منهم المعلومات، بينما هو يتابع في الوقت ذاته استجواب المواطنين بأسئلة لا تمت أحيانا إلى الثورة بأية صلة. ويظهر هذا النوع لجواسيس الثورة، الذين عادة ما يكونون بين المواطنين، من خلال إطالة البحث والتحقيق مع بعض أفراد الشعب، في حين يكون موضوع الاستجواب واحدا للجميع. 5 - ويوجد هذا النوع أيضا بين الذين يتصلون دائما بالإدارات الفرنسية، معتمدين في ذرائعهم على قضاء مهام خاصة بهم. ويسعتطيع جواسيس الشبكات الوطنية فهمهم ومتابعة مراقبتهم،

والتمييز بين ما هو صحيح من هذه الاتصالات، وبين ما هو كاذب مخادع. ب - الاتصال غير المباشر: 1 - ينحصر هذا النوع في أفراد يقدمون معلوماتهم إلى مكتب الشؤون الأهلية (الساس) عن طريق البريد. ويعرف هؤلاء بكثرة أسفارهم إلى بعض المدن والقرى التي يوجد فيها مركز للبريد، ويتم تحرك هؤلاء حسب خطة محددة، وفي وقت معين (مرة في كل أسبوع، أو في كل خمسة عشر يوما، أو حتى كل ثلاثة أشهر). ويمكن لشبكة جاسوسية الثورة كشف هؤلاء عن طريق الجواسيب الثوريين الذين يعملون في مكاتب البريد، حيث يقومون بقراءة الرسائل الموجهة إلى الإدارات الفردية، وتحديد مصدر هذه الرسائل. وخط العنوان، ومكان تحرير الرسالة، والضبط اللازم لهذه الأشكال من الاتصالات المتبادلة. 2 - يكتب بعض الجواسيس من هذا النوع تقاريرهم، ويضعونها في أمكنة معينة متفق عليها مع العدو. وتنقل هذه التقارير عن طريق الدوريات المتجولة العادية التي ينظمها العدو. وتقوم هذه الدوريات بدورها أيضا بوضع تقارير عن ملاحظاتها. ويظهر هذا النوع للأذكياء من جواسيس الثورة، عن طريق مراقبة دوريات العدو المتجولة، وترددها على مكان - أو أمكنة - معينة في أوقات محددة. وعندئذ تنظم جاسوسية الثورة رقابة دقيقة ومستمرة للأمكنة المذكورة حتى يتم إلقاء القبض على الخائن. 3 - قد يقوم العدو بتجهيز بعض جواسيس هذا النوع بالأجهزة اللاسلكية، ويستطيع جواسيس الثورة كشف هؤلاء بفصل ما يتوافر لهم من الفطنة والحكمة.

4 - ويوجد هذا النوع من الجواسيس بين المواطنين الذين لهم اتصال ببعض الإدارات الفرنسية البعيدة، في بلاد أخرى، بحيث لا يكونون معروفين هناك أو يكونون موضعا للشبهات. ولهذا يجب مراقبة كل المسافرين، وخاصة الذين تكون أسفارهم إلى بلد معين، والتعرف على الأسباب الداعية إلى أسفارهم. ومن هنا يستطيع جواسيس الثورة استخلاص النتائج الحقيقية، عن طريق مراقبة جميع الحركات وفهمها، على أن تتخذ بعد ذلك اللإجراءات التالية: 1 - حمل هؤلاء الجواسيس على العمل مع الثورة من غير إشعارهم بمعرفة حقيقتهم على أنهم جواسيس للعدو. 2 - إذا لم تتحقق النتيجة المذكورة، واستمروا في ممارسة عملهم العدواني، فيلزم قتلهم. مناورات العدو أ - بالنسبة لجواسيس الثورة العاملين في إدارات البريد وغيرها، يسلك معهم إحدى طريقتين: يحاول العدو معرفتهم واكتشافهم في الإدارات المذكورة، فإذا ما تمكن من ذلك، فإنه سيحاول استخدامهم لتزويد الثورة بأخبار ومعلومات مضادة وفي صالحه، وذلك إما بالاتفاق معهم بعد تسخيرهم لغرضه وإما من غير علمهم وبحيث لا يشعرون بها، وهي ترمي إلى الغرض ذاته. ب - يحاول العدو تلطيخ سمعة منظماتنا الثورية -الشعبية- العاملة بكل حماستها الوطنية الحقيقية،

والنيل من غيرتها وإخلاصها بكل الوسائل الممكنة، مثل: 1 - بعد معرفتها وكشف أمرها، يعمل على امتداح أفرادها وإزجاء الشكر لهم أمام المواطنين، بهدف دفع الثورة إلى الشك بأمرهم والعمل على تدميرهم والقضاء عليهم. 2 - عندما يكتشف العدو أمر عملاء مخلصين للثورة، ومن النوع الذي لا يرقى لإخلاصهم شك أو ريبة، فإنه يكثر من التردد عليهم وزيارتهم في محلاتهم أو مضاربهم (خيامهم) ويتقرب إليهم في كل المناسبات، وهدفه من ذلك إثارة الشك حولهم، والريبة في أمر إخلاصهم، وحرمانهم من ثقة الثورة ودفعها للقضاء عليهم. 3 - توجيه بعض الرسائل إلى أولئك المخلصين، ووضع إعلانات شكر لهم على الطرق العامة لإقدامهم على إفشاء أسرار أو غير ذلك من افتراءات ومزاعم يلصقها بهم. 4 - قيام العدو بتكليف عملائه غير المعروفين من قبل جاسوسية الثورة - إن وجدوا - للتوجه إلى جيش التحرير الوطني، وإبلاغه بأن (فلانا) يعمل مع العدو. والزعم بأن العميل الفرنسي لم يتقدم بمعلوماته (الكاذبة طبعا) إلى جيش التحرير، إلا بدافع الغيرة الوطنية. مع التظاهر بعدم معرفته للشخص الذي نقل إليه المعلومات بتعاون المتهم مع الفرنسيين - أعداء البلاد -. 5 - يوصي العدو عملاءه: بأنه إذا ما ألقي عليهم القبض من قبل أجهزة الثورة، أن يتهموا بعض المخلصين العاملين مع الثورة.

6 - يلقي العدو القبض على بعض الأفراد المتعاونين مع الثورة، والمتفانين في خدمتها والإخلاص لها، ثم يطلق سراحهم بعد فترة وجيزة، وهدفه من ذلك هو دفع الثورة للقضاء عليهم قبل التروي في أمرهم. 7 - يستخدم العدو هذه المناورات ذاتها مع الفرع العسكري لجيش التحرير - ما عدا طريقة الاتصال لأنها لا تحدث. ج - يستعمل العدو، بالنسبة للعاملين معه، وبهدف تضليل جاسوسية الثورة، المناورات الآتية: * يبعث لهم رسائل يهددهم فيها بالموت، بزعم أنهم يعملون مع (جيش التحرير الوطني). * يزج بهم في سجونه، ثم يطلق سراحهم بعد فترة وجيزة من الزمن. * يعلن أمام المواطنين أن فلانا (جاسوسه) هو عنصر عامل مع جيش التحرير، وأنه في سبيله لإلقاء القبض عليه لا محالة. * يصادر أموالهم، ويهدم ديارهم، ويعوض عليهم خسائرهم خفية، ويلزم بعض عملائه بالتظاهر بعدم الذهاب إلى السوق، وتأمين متطلباته الضرورية إلا خفية وبصورة سرية. * وتستخدم فرنسا هذه المناورات ضد أعراش بكاملها، وحتى ضد قرى أو مدن، حيث تعمل على تمييز عرش على آخر، فتفتح لأحد الأعراش المجال للحصول على كل الموارد، في حين يفرض الحصار الاقتصادي على أخرى. ويقيم المحتشدات في ناحية من النواحي، ويطلق في الوقت ذاته الحرية في ناحية أخرى. ويسجن عددا من أفراد أحد الأعراش، في حين يتجنب اعتقال ولو فرد واحد من أخرى. وإزاء هذا، يجب على جواسيسنا

أن يكونوا متبصرين ومدركين لأهداف هذه المناورات، وما تلحقه من الضرر بالأفراد والجماعات، ومعرفة نوايا كل مواطن ومقدار حبه لنظام الثورة وتعلقه به وإخلاصه له. والتمييز بين هؤلاء الصادقين في إخلاصهم وأولئك الجواسيس المخادعين، لأن الأساليب الاستعمارية شديدة التعقيد، ولا يمكن فصحها وكشفها إلا بانتباه ومهارة وفطنة. وعلى (جواسيس الثورة) استخدام كل الوسائل الممكنة لحمل عملاء العدو وجواسيسه على العمل لمصلحة الثورة، من غير أن يشعروهم بذلك. مع العمل على حمل ضباط الشؤون الأهلية (الساس) وضباط (اللفيف الأجنبي) للعمل على خدمة الثورة، وذلك بدراسة ميولهم وحالاتهم السياسية ومشاعرهم، ومقدار حبهم للمال، لأن معظمهم يحب المادة حبا جما، ويموت من أجلها، إذ هم أشبه ما يكونون بالبهائم، لا هم لهم في هذه الحياة إلا إشباع رغباتهم وإرضاء ميولهم وملذاتهم، وهذا مما يساعد على شراء هؤلاء الضعفاء بالمال للحصول على ما يتوافر لهم من معلومات. والجد كل الجد في تأدية الرسالة على أكمل وجه والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد. ملاحظة: يجب على مسؤولي هذا الفرع أن يعتمدوا بالدرجة الأولى على دهائهم وذكائهم وفطنتهم واعتنائهم ليستطيعوا تأدية مهمتهم كاملة، وإفادة بلادهم وثورتهم. على حامل هذه التعليمات أن يخبر حالا السلطات المسؤولة إذا ضاعت منه. صدر في 15/ 6/ 1961.

التطور الثوري في الشمال القسنطيني

5 - التطور الثوري في الشمال القسنطيني وصلت الثورة الجزائرية بعد انقضاء السنوات الأولى من الصراع المرير، إلى مرحلة متقدمة من التنظيم الشامل، وإذا كانت (الولاية الثانية - أو ولاية الشمال القسنطيني) هي إحدى ولايات الكفاح التي كان لها شرف السبق في التطور الثوري، فإنها بالمقابل قد تعرضت لقسط أكبر من ويلات الحرب. ولكن، وبالرغم من ذلك فقد أمكن للقيادة الثورية فيها، كما في غيرها، تجاوز كل المحن والمصائب، وإجراء التطور الضروري للتكيف مع الظروف المتجددة باستمرار. وقد يكون من المناسب ملاحظة ملامح ذلك التطور عبر ولايات الكفاح كلها، من خلال ما حدث (في الولاية الثانية) (¬1) من تطور. إن تصور مدى ما بلغه جيش التحرير الوطني من التقدم، وما أمكن له إحرازه من انتصارات، هو أمر يتطلب بالضرورة العودة قليلا لاستقراء ملامح الأساليب التعبوية (التكتيكية) والتي طبقها الجيش الفرنسي في سنتي 1955 - 1956، ضمن إطاز محاولة ¬

_ (¬1) من حديث مع قائد الولاية الثانية (علي الكافي - كولونيل) ونشرته مجلة (المجاهد) الجزائرية 16/ 4/ 1959.

القضاء على الثورة. ومن المعروف أن المرحلة الأولى من هذا التكتيك كانت تتمثل في نظام التربيعات (الكادرياج). وهو نظام يتلخص بإقامة مراكز عسكرية متعددة في مختلف الجهات التي انتشرت فيها الثورة، والمقصود من تلك المراكز هو محاصرة تحركات جيش التحرير الوطني، وخنق الجهاز التنظيمي الذي تقوم عليه حياة جيش التحرير في المشاتي والقرى ومحاولة القضاء على جميع العناصر المدنية والعسكرية العاملة في الثورة. وبعد فشل هذه المحاولة، لجأ العدو إلى أسلوب جديد هو أسلوب (التجمعات) الذي يتلخص بإجلاء السكان المدنيين عن المناطق التي تتمركز فيها الثورة، وجميعهم في مراكز قرب الجيش الفرنسي، ومهدوا لهذه العمليات بمسألتين، أولاهما: إعلان المناطق المحرمة التي تشمل ثلثي مساحة (الشمال القسنطيني). وثانيتهما: تنظيم عمليات مسح كبرى (راتيساج) لنقل المدنيين وإجلائهم بالقوة عن مساكنهم، وخلال هذه العمليات كان الجيش الفرنسي يقتل أو يحمل معه جميع الحيوانات التي يصادفها في طريقه، كما يدمر جميع مصادر الحياة. وقد اضطر الجيش الفرنسي إلى اتخاذ هذه الطريقة بعد أن سيطرت الثورة على مناطق شاسعة، أصبح هو عاجزا عن الدخول إليها، وكان مقصوده من ذلك هو عزل جيش التحرير عن السكان، وحرمانه من الاتصال بهم، ومن العون والمؤونة التي يجدها عندهم، ريثما يقضي الطيران شيئا فشيئا على جيش التحرير. وقد توهم العدو أنه بهذه الطريقة قد قسم الأرض تقسيما طبيعيا بفصله الجبال عن السهول. وتوهم أنه وضع بذلك حاجزا حصينا بين جيش التحرير والسكان. لكن الذي غاب عن الجيش الفرنسي هو أن جيش التحرير الوطني

موجود في كل مكان. وأنه رغم إقامة (المناطق المحرمة) فإنه لم ينقطع أبدا عن سيل المعلومات التي كان يحتاج إليها، كما أنه لم يفتأ، رغم التجمعات من البقاء على اتصال دائم بالسكان، بل لقد تبين للجيش الفرنسي أن هذه المناطق المحرمة أصبحت خطرا عليه أكثر مما هي لفائدته، فقد قطعت عليه الاتصال بالمناطق المحرمة، وانقطع عن التزود بالمعلومات عن تحركات جيش التحرير، إذ لم يعد في اسطاعته إرسال جواسيسه وأعوانه إلى مناطق الثورة (المحررة) للتزود منها بالمعلومات عن تنقلات قوات جيش التحرير ونشاطها. لقد أراد العدو فصل الثورة عن قاعدتها الشعبية، فكانت النتيجة أن أصيب هو بالعزلة التامة، ولم يعد يعرف شيئا عن نشاط جيش التحرير، وأصبح من جراء ذلك في خوف دائم من الهجمات المفاجئة والكمائن المباغتة. أدرك قادة الجيش الفرنسي أنهم أصيبوا بخيبة أمل مريرة في الميدان العسكري. وكان شعورهم بالفشل قاسيا، فبحثوا لأنفسهم عن غطاء يسترون به هذه الهزيمة. فكان انقلاب (13 - أيار- مايو- 1958) والذي أزال (الجمهورية الرابعة) وجاء جمهورية ديغول (الخامسة). وحاولوا تصوير هذا الانقلاب على شكل انتصار سياسي كبير. وقد كنا نتوقع حدوث مثل هذا الانقلاب، ليس فقط لأنه يمثل التطور الطبيعي للأحداث منذ (6 شباط -فبراير - 1958) حيث وقع العدوان على الحدود التونسية (حادثة ساقية سيدي يوسف). ولكن لأننا كنا بالإضافة إلى ذلك على علم بالاتصال القائم بين غلاة المستعمرين وبين قادة الجيش الفرنسي. وقد كان هدف غلاة الاستعمار هو تأكيد استعدادهم لقلب كل حكومة تفكر بالتفاوض مع جبهة التحرير الوطني. وقد بدأت هذه

الاتصالات قبل (13 أيار- مايو) بزمن طريل، حيث عرضوا على (الجنرال ماسو) أن يعمل معهم على إعداد الجهاز الذي ينفذ الانقلاب، فرفض، فهددوه بالقتل، فقبل وخضع لهم، وعرضوا المسألة ذاتها على (الجنرال سالان) فرفض بدوره ولذلك حاولوا اغتياله في (حادث البازوكا الشهير- في أول سنة 1957). ورغم أن (سالان) لم يشترك معهم، فإن الاطارات العسكرية الكبيرة قد رضيت بهذا العمل لأن شعورها بمرارة الفشل العسكري جعلها تبحث، كما قلنا، عن تعويض لذلك، وتوجه مسؤولية خيبتها إلى الجهاز السياسي الفرنسي المتمثل في حكومات (الجمهورية الرابعة) والاستعداد لقلب هذا النظام (الفاسد) وهذا هو سر الالتحام الذي وقع في الماضي بين قادة الجيش الفرنسي وغلاة الاستعمار. كما أننا علمنا قبل (أيار مايو- 1958) أن (جاك سوستيل) له ضلع كبير في تهيئة الانقلاب، وأنه ينوي الحضور إلى الجزائر لقيادته وتنفيذه. لقد شعر الجنود الفرنسيون بعد (13 أيار - مايو) بفرحة كبيرة، وراحوا يرقصون ويغنون ويشربون. لقد توهموا أنها نهاية الحرب، وأنه لم يبق أمامهم إلا العودة إلى بلادهم وعائلاتهم وذلك طبيعي. لقد أفهمهم قادتهم أن حكومات الجمهورية الرابعة هي المسؤولة عن هزائمهم، وعن استمرار الثورة، فكان من البدهي أن يتصوروا قرب نهاية الحرب بعد أن أسقطت الجمهورية الرابعة، وتم إبعاد رجالها السياسيين. ولكن لم يروع الجنود الفرنسيين بمثل ما روعوا عندما تسلموا تعليمات جديدة تحذرهم من التمادي بالمرح، وتحثهم على مواجهة جيش التحرير الوطني مرة أخرى، فكانت خيبة أمل الجنود الفرنسيين عاملا جديدا زاد من تدهور

روحهم المعنوية. ولئن زعم جهاز الدولة الفرنسية أن الفرنسيين كانوا كلهم كلمة واحدة يوم (13 أيار - مايو). فقد كنا نحن نعلم خلاف ذلك، إذ كنا على علم بوجود هيئات فرنسية تناهض (13 - أيار - مايو) وتقاوم رجاله. جاءت بعد ذلك (معركة الاستفتاء) لتشكل معركة سياسية كبيرة، استعد لها الفرنسيون عسكريا وسياسيا. وكان هدف الفرنسيين هو جمع الجزائريين بالقوة وإظهارهم في مظهر من رضي بالاستفتاء. لكن جيش التحرير الوطني كان قد استعد بدوره لمواجهة العدو في هذه المعركة، فعبأنا المناضلين في حملة مضادة للحملة الفرنسية، ووزعنا تعليمات خاصة إلى جميع المسؤولين لينسقوا أعمالهم. وأصدرنا نشرات خاصة لإيضاح حقيقة (حركة - 13 أيار - مايو) و (بالجنرال ديغول) و (مجازر 8 أيار- مايو - 1945) التي حدثت في عهد الجنرال (ديغول) وأصدرنا نشرات خاصة بالنساء، مع تكليف النساء المثقفات باللغة العربية، للاتصال بالنساء، وأن يشرحن لهن دور المرأة في مقاومة حملة الاستفتاء الفرنسية. وكنا في الميدان العسكري على استعداد أيضا لمواجهة العدو، ووعدنا جميع المدنيين بأنهم لن ينفذوا أوامر العدو. وحدثت منافسة بين سكان البوادي وسكان المدن، أيهم يكون أكثر التحاما مع الثورة، وتنفيذا لأوامرها، وأفسدنا جميع خطط الجيش الفرنسي الذي كان مقسما إلى فرق لحراسة الصناديق، وأخرى للدعاية بالأبواق، وأخرى لرد الهجمات المتوقعة. وقدر العدو اتساع الحملة التي نظمناها، فحاول مكتب الدعاية الفرنسي (المكتب الخامس) أن يرد علينا في نشرات خاصة، لكنها في الواقع لم تزد على أن أسهمت في نشر حججنا

وأقوالنا، إذ كانت تنقل فقرات من نشراتنا لترد عليها ردا متهافتا ضعيفا. ورغم أن العدو قد أجرى الاستفتاء في البوادي قبل الموعد الذي كان حدده، فإنه لم يجد أمامه إلا الفراغ، إذ أن سكان البوادي كانوا قد لجأوا إلى قواعدنا واحتموا فيها. أما سمكان المدن فقد أظهروا شجاعة كبيرة، رغم ألوان الإرهاب الفرنسي التي سلطت عليهم. وأحرزنا فعلا انتصارات سياسية وعسكرية هامة ; وخرجنا بنتيجة ملموسة، ازداد الشعب الجزائري فيها نضجا ووعيا. لم نكن نتوقع بداهة أن تتحدث الصحافة الفرنسية عن هذه الانتصارات، فقد تعودت تلك الصحافة أن تعمل في خدمة الاستعمار - إلا أقلها - وأن تصمت عن ذكر الحقيقة حتى ولو كانت صارخة، فمن ذلك سكوتها عن الخيبة التي مني بها (ديغول) في زيارته الأولى للجزائر، وخصوصا عند مروره بمدينة (قسنطينة) ولم تتعرض ولو بكلمة واحدة للمظاهرة التي نظمها الجزائريون بعد خطابه، وفي نفس المكان، وهي مظاهرة ضمت الشبان والشابات وهم يهتفون (تحيا الجزائر) و (تحيا جبهة التحرير الوطني) و (يسقط سوستيل) كما صمتت الصحافة الاستعمارية عن الهجوم الذي قام به بعض الفدائيين على الحرس الخاص المرافق للجنرال (ليعود) في قلب مدينة (قسنطينة) أثناء مروره بين الحديقتين الواقعتين بين (ساحة لابريش) و (باب الوادي). وسكت أيضا عن الهجوم الذي قتل فيه ضابط وجرح اثنين من بين الضباط الذين كانوا ذاهبين من (الميلية) لمقابلة (ديغول). لقد تصدى الفرنسيون (المستوطنون) للثورة منذ البداية، غير أن عداء هؤلاء للثورة ليس على درجة واحدة، ومن الممكن تقسيم

الأوروبيين - عامة - إلى قسمين: (الطبقة المتوسطة) وهذه لها موقفها السلبي سواء من حكومتنا أو الحكومة الفرنسية، وكل ما تأمله هذه الطبقة هو أن تحدث معجزة تحل (المشكلة الجزائرية) وقد أبدوا مخاوفهم من مستقبل الاستقلال أن يقضي على مصالحهم لأنهم يريدون البقاء في الجزائر. لكننا أفهمناهم بواسطة نشرات خاصة، وطمأناهم على مستقبلهم في الجزائر المستقلة. وهناك (غلاة الاستعمار) ورؤوس الفتنة الذين يريدون أن يمسكوا بأيديهم زمام الموقف السياسي في الجزائر وفي فرنسا، وهؤلاء تبينوا الآن أن آمالهم في (ديغول) قد تبخرت، وأغضتهم بعض تدابير (الجنرال ديغول) مثل الفصل بين السلطات المدنية والعسكرية، وإبعاد بعض القادة العسكريين المشتغلين بالسياسة، كما أغضبهم صمته عن (قضية الدمج). وقد فهموا من هذه التدابير أن (ديغول) يريد القضاء عليهم، ولذلك فهم يفكرون في انقلاب جديد، وفي مجابهة كل حكومة تريد التفاوض. أما (المعمرون) فيعرف كل واحد، أننا عندما هاجمنا مزارعهم في أول الأمر، جعلوا في كل مزرعة مركزا عسكريا لحمايتهم وحراسة ممتلكاتهم، لكن على أثر انقلاب (13 أيار - مايو) انسحب الجيش الفرنسي من بعض المزارع، ونتج عن ذلك أن فقد المعمرون ثقتهم في جيشهم، ولذلك احتجوا على الجيش والحكومة. وسبب انسحاب الجيش الفرنسي أن جيش التحرير قد تمركز تمركزا قويا وأصبح يشكل خطرا كبيرا على المراكز العسكرية الفرنسية ذاتها، ومما يجدر تسجيله هو أن اتصال المدنيين الفرنسيين بجيش التحرير قد كثر وتعدد في المدة الأخيرة، وأصبحوا يدفعون اشتراكاتهم طوعا كبقية الجزائريين، من غير أن يفرض عليهم أحد

ذلك. وعلى كل حال، فليس المدنيون الفرنسيون هم وحدهم المنقسمون على أنفسهم، بل إن العسكريين بدورهم منقسمون وممزقون أيضا. فهناك العسكريون الخلص - إذا جاز التعبير - وهناك العسكريون الذين يمارسون العمل السياسي. وقد وزعنا منشورات عديدة على الجنود الفرنسيين شرحنا فيها طبيعة المعركة التي نقوم بها. وقد أثرت فيهم تلك المنشورات حتى أن بعض الضباط أظهروا سخطهم وثاروا على قادتهم فزج بهم في السجون. كما وجهنا عنايتنا واهتمامنا الى (فرق القوم والحركة) ووزعنا عليهم منشورات عديدة، حتى صاروا ينضمون إلينا أكثر من ذي قبل، ومن المعروف أن نظام (رجال الحركة) يعتمد على المتطوعين الذين يعملون في دواويرهم، ويتم تسليحهم لمحاربة جيش التحرير، أي أن القيادة الفرنسية لا تنقلهم الى أماكن أخرى عندما تريد، كما تفعل مع بقية الجنود، كما أنها تدفع لهم رواتب وأجورا مرتفعة جدا. لكن لما كثرت عمليات انضمامهم إلينا أجبرتهم القيادة الفرنسية على التنقل من دواويرهم، وصارت تدفع لهم رواتب وأجورا مساوية لبقية الجنود. وأفاد جهاز إعلامنا - دعايتنا - من هذه المعاملة الجديدة (لرجال القوم والحركة) فوجه الدعوة إليهم من أجل الالتحاق بقواتنا. ولقت هذه الدعوة الاستجابة المناسبة. جاءت بعد ذلك مناسبة تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، فكان أول عيد يحتفل به الشعب منذ قيام الثورة، ونظمت الاجتماعات، وأقيمت الأفراح، ورفعت الرايات الجزائرية على رؤوس الجبال، وبقيت هناك أكثر من عشرين يوما. وأطلقتا المدافع إعلانا لهذا الحدث التاريخي. وقد كان تشكيل الحكومة الجزائرية عاملا هاما في تكتل قوى الشعب الجزائري،

والتفافها حول (جبهة التحرير الوطني) و (جيش التحرير الوطني). ومنذ إعلان تشكيل الحكومة ونحن نتلقى البيانات المتعددة من مجالس الشعب، وهي تؤكد لنا ولاء الشعب لحكومته، ومبايعته لها، مع المطالبة بالسلاح وبالطائرات، ومن طرائف ما سجلناه أن إحدى الرسائل التي وصلتنا كانت تقول: (أعطونا طائرات، حتى لو لم يكن لدينا وقود لها، لتسييرها، فإننا مستعدون لدفعها بأيدينا). وخلاصة القول، فإن الثورة الجزائرية ما انفكت تسير في اتجاه تصاعدي، ففي الميدان العسكري تمكنا من تدعيم أجهزتنا العسكرية رغم المحاولات الفرنسية العديدة لإضعافنا، مثل إقامة الخطين المكهربين على الحدود التونسية والمغربية، كما حاول الفرنسيون أن يجرونا إلى المعارك الكبرى دائما، لكننا لم نقع في الفخ، ورحنا نواصل حربنا كما نريد نحن، بأسلوب يجمع بين حرب العصابات والحرب التقليدية، وبذلك تمكنا من المحافظة على قواتنا في نفس الوقت الذي كبدنا فيه العدو خسائر فادحة. واستطعنا في الفترة الأخيرة إقامة معامل خاصة لصنع الألغام ووسائل التدمير في كامل الولاية. وقد أصبحت هذه المصانع تثشكل خطرا جديدا على العدو، إذ أمكن بفضلها تدمير خط مواصلات (قسنطينة - الجزائر) وخط (قسنطينة - سكيكدة - عنابة) كما أمكن لنا بفضل وسائل التدمير هذه، تدمير محاور الاتصال وعزل قسنطينة عن العالم عزلا كاملا طوال ثلاثة أيام وحرمانها من الكهرباء والماء والمخابرات الهاتفية، وهذا ميدان لم يكن العدو متضررا به كثيرا قبل هذه المدة. وبفضل تعاظم هذه القدرة العسكرية، تمكنا من تدعيم بقية

أجهزتنا الثورية، فقد أنشأنا اللجان القضائية المكلفة بالفصل في الخلافات (النزاعات) بين المدنيين على أسس الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وأغلب أعضاء هذه اللجان من ذوي الثقافة العربية وهذه اللجان القضائية تتصل بنشرات خاصة تحدد لها البنود القانونية. كما أنشأنا اللجان الخيرية التي تتولى جمع الأموال وتوزيعها على الفقراء، وتنظيم اللجان الاحتياطية التي تشرف على توجيه المجتمع وإرشاده، ولدينا مستشفيات متعددة، وقد أنشأنا أيضا مدارس لتعليم اللغة العربية في كامل أنحاء الولاية. مع تنظيم مدارس لإعداد الأطر (الكادرات) السياسية والعسكرية. ومدرسة لتخريج الممرضين يشرف عليها دكتور في الطب. ... لقد أدرك الفرنسيون مبلغ إحكام نظامنا، وعرفوا مدى دقته، وعلى هذا الأساس فقد حاولوا التسلل إلينا عن طريق آخر، هو طريق التفرقة بين جيش التحرير وحكومته، فزعموا أن الحكومة الجزائرية لا تسيطر على الداخل، وانطلاقا من هذا الزعم اتصل بنا قائد فرقة من (قسنطينة). وعرض علينا أن نطلق سراح أسيرين فرنسيين كانا بين أيدينا، وأن نعين له أسيرين من أسرانا يطلق سراحهما مقابل ذلك، وأدركنا هدف هذه المحاولة، وهو التمهيد لايجاد اتصالات محلية، وتعزيز فكرتهم القائلة بأن الحكومة الجزائرية لا تسيطر على الموقف داخل الجزائر. ولذلك كان جوابنا ما يلي: (إن لنا مسؤولين سياسيين، ولكم حكومتكم، فما عليكم الا أن تتصلوا بحكومتكم، وتطلبوا منها الاتصال بحكومتنا لتسوية هذه المسألة).

لقد استشهد في الفترة الأخيرة القائدان (عميروش - مارس -آذار- 1959) و (حواس). وعلى اثر ذلك، انطلقت أبواق الدعاية الاستعمارية لتقول بأن غيابهما عن ساحة الصراع سيضعف الثورة في ولاية (قسنطينة). أو (الولاية الثانية). والحقيقة المعروفة هي أن ثورتنا ثورة شعبية، إنها لم تقم أبدا على الأشخاص بل هي ثورة يشارك الشعب كله في صنعها، ولذلك فهي لن تتوقف أبدا باستشهاد أحد أبطالها وقادتها. ولقد استشهد أبطال كثيرون، كان غيابهم عنا خسارة حقيقية لنا، لكن ذلك لم يؤثر أبدا على سير الجهاد، بل إن استشهاد كل واحد من القادة كان يزيد الآخرين حماسة للقيام بالواجب والجد في العمل طلبا لإحدى الحسنيين الشهادة أو النصر. ولا أدل على الطابع الشعبي الذي تتسم به ثورتنا، أننا لم نصطدم حتى الآن بأية مشكلة في تجنيد المجاهدين لدعم قوة جيش التحرير الوطني. مع العلم أننا لا نقبل إلا المتطوعين، وبشرط أن يكونوا قد عملوا في صفوف الثورة من قبل، وبشرط آخر هو أن يكون من المحال عليهم الاستمرار في البقاء ضمن المدن. وإذن، فدع الفرنسيين في ثرثرتهم وهذيهم يغرقون، إذ أن الواقع الجبار بالجزائر أبلغ من كل دعاية، وهذا الواقع نحن الذين نمسك بزمامه، ونحن الذين نوجهه. أجل، إن جيش التحرير الوطني هو الذي يسيطر على الموقف بحق، وهو الذي يختار ميادين المعارك كما يريد هو لا كما يريد الجيش الفرنسي. وتلك هي الحقيقة في بساطتها التي لا تحتاج الى أي تنميق أو تزويق.

تقضي الرجولة أن نمد جسومنا ... جسرا فقل لرفاقنا أن يعبروا

صدق الثورة ينتصر على كذب الاستعمار

6 - صدق الثورة ينتصر على كذب الاستعمار وتستمر الثورة في طريقها، متمسكة بفضائلها، معززة لقيمها، متباهية بأخلاقها، متحلية بإيمانها، لا يردعها عن هدفها رادع، ولا يحرفها عن طريقها عارض، مهما كبر وتعاظم، ويظن الاستعماريون أنهم بافتراءاتهم ومزاعمهم الكاذبة قادرون على حجب وهج الحقيقة الساطعة والمعتمدة على صدق الثوار وعزيمة الأحرار. فلا تلبث المزاعم الكاذبة أن تتهاوى، ولا تلبث الأقنعة المخادعة أن تتساقط. وتصاب الأجهزة الاستعمارية بالإحباط المرة بعد المرة، وتتلاحق عليها الهزائم الكرة بعد الكرة، وتتلقى الضربات الموجعة الصربة في إثر الضربة، وكان من أقسى تلك الهزائم، وأوجع تلك الضربات هي التي جاءت عن طريق (المحايدين) من المراقبين، أو حتى عن طريق الفرنسيين ذاتهم ممن عاشوا حياة الثورة بصفائها ونقائها وطهرها، سواء بسبب وقوعهم في أسر الثوار، أو بسبب معايشتهم لظروف الثورة. وقد تحدث الأسرى الفرنسيون بصراحة أذهلت الاستعماريين، فكان في ذلك نصرا حاسما من انتصارات جيش التحرير على الأكاذيب الفرنسية (¬1). لقد أطلقت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في بداية سنة ¬

_ (¬1) المرجع، مجلة (المجاهد) الجزائرية، العدد 43 تارخ 1/ 1959/6.

(1959) سراح مجموعة مكونة من (16) أسيرا، بينهم أسير سويسري و (6) مدنيين فرنسيين والبقية من العسكريين الفرنسيين. وقد كان لهذا العمل الإنساني صداه البعيد في أوساط (الصليب الأحمر الدولي) الذي نشر بلاغا عبر فيه ارتياحه لموقف جيش التحرير - وقد قام جيش التحرير الوطني بهذا العمل الإنساني في الوقت الذي كان فيه العسكريون الفرنسيون يمارسون أبشع أعمال القمع والعنف والتعذيب ضد المدنيين الجزائريين، وفي ذات الوقت الذي يتعرض فيه أكثر من مليون جزائري في مراكز التجمع الى الموت البطيء والمجاعة المنظمة. وقد صرح أسيران فرنسيان ممن كانوا بالولاية الثالثة، تصريحات عبرا فيها عن المعاملة الطيبة التي يلقاها أسرى جيش التحرير، وكان في أقوالهما ما يلي: (إننا نحب أن نعلن عن المعاملة الطيبة التي لقيناها من الوطنيين الجزائريين، فلم نتعرض أبدا للشتم أو الإهانة، ولم يستعمل ضدنا أي ضغط مادي أو معنوي، وكنا نتناول طعامنا قبل الجميع. وفي غالب الأحيان كنا نخجل من هؤلاء الرجال الذين يعاملوننا بمنتهى الطيبة والروح الإنسانية في الوقت الذي خربت ديار أكثرهم وقتلت عائلاتهم). (لقد كنا نظن أننا وقعنا بين أيدي عصابة من القتلة، ولكننا اكتشفنا جيشا نظاميا، ولقينا رجالا يمتازون بالنظام والحماسة والعزيمة القوية ويجاهدون لتحقيق هدف نبيل يؤمنون به. إن جنود جيش التحرير شبان متفائلون، يستقبلون الحياة بالبهجة والثقة، وهم يضجون حيوية ونشاطا، ويشعر الإنسان معهم أن الحياة تتدفق من نفوسهم الفتية، الشابة، في قوتها وخصب، وأن هذه الصفة هي الميزة الرئيسية لكل من وقفوا حياتهم في جميع

أنحاء العالم من أجل خدمة العدالة والحرية. إن أهم ما لاحظناه كذلك هو الروح الأخوية المهيمنة على علاقات جنود جيش التحرير بعضهم ببعض. فالضباط والجنود يعيشون بطريقة واحدة، ويتناولون طعاما واحدا. ولا تمنع الروح الأخوية من وجود طاعة شاملة ونظام متين يستمد قوته من كونه صادر عن طواعية واختيار. لقد كان ضباطنا يقولون لنا في الثكنات أن جنود جيش التحرير لا يجدون ما يأكلون، ويتغذون من الأعشاب وجذور النباتات، ولكننا وجدنا الأمر على النقيض من ذلك؛ فالطعام متوافر بكميات كافية، وهو جيد في نوعه - في معظم الأحيان - وقد دهشنا للمستوى الرفيع من التنظيم الذي لم يكن لنا أن نتصوره على الإطلاق. ولقد رأينا وحدات عديدة وهي مسلحة بأفضل وأحدث الأسلحة. والتقينا بممرضين أكفياء، وبرجال فنيين يعملون في صناعة الأسلحة وإصلاحها، وبغيرهم من العناصر التي لا يضمها إلا جيش منظم حديث). ... ومقابل ذلك، فإن معنويات الجيش الفرنسي منهارة جدا، فهو لا يحارب في سبيل مثل عليا أو هدف نبيل. ونحن نعلم أن الحرب التي يدفعوننا إليها تقوم على الظلم والاستعمار. ولو كان الجنود الفرنسيون يحاربون دفاعا عن استقلال وطنهم، لأظهروا نفس العناد، وذات الشجامعة التي يبديها مجاهدوا جيش التحرير الوطني الجزائري، ولكنهم يرفضون أن يقتلوا من أجل حفنة من الاستعماريين (الكولون). إن الجندي الفرنسي يؤدي مهمته في

هم وقلق. وفي القلعة الزرقاء أطلق جندي رصاصة على فخذه حتى لا يشترك في العمليات. وفي كل الثكنات والمراكز يرتفع صوت واحد: (اتركونا نرجع إلى أهلنا). وإذا كان الشباب المترف من أبناء الإستعماريين (الكولون) يريد متابعة الحرب، فما عليه إلا أن يحارب ينفسه. إن من السهل على الرجال الاستعماريين أن يتصايحوا في طرقات الجزائر، بعد الرجوع من حفلات الرقص أو السينما، ومن السهل عليهم أن يتابعوا الحرب بدماء غيرهم. فليأتوا بأنفسهم الى المجزرة، وليحتملوا جزءا من غرائم الحرب. إننا نعرف زيف البلاغات الفرنسية وكذبها، ولهذا فإنه ما من أحد منا يصدقها. إنهم لا يعرفون كيف يكذبون، وفي كثير من المرات كنا نعيش بأنفسنا الوقائع الصارخة التي تكذب بلاغات القيادة الفرنسية. فمنذ بضعة شهور، وقع جنود فرنسيون في كمين بناحية (المياه الساخنة) وقتل فيه (12) جنديا من زملائنا. وفي الغد قرأنا في الصحف أن الجيش الفرنسي نصب كمينا في المكان ذاته وقتل عشرات من الثوار. ولم ندهش لهذا الخبر، لأننا لو صدقنا البلاغات العسكرية الفردية، وما تقتله هذه البلاغات كل يوم من جنود جيش التحرير الوطني، لما بقي حتى الآن أي جزائري على قيد الحياة ولكانت الحرب قد انتهت منذ زمن بعيد. أما في مجال علاقة الجنود الفرنسيين بالاستعماريين (الكولون) فيكفي القول بأن رجال الكولون يتظاهرون بالرقة واللطف مع القادة والضباط، ولكنهم يعاملون الجنود بوقاحة سافرة، وباستهتار يتجاوز كل الحدود. ففي الوقت الذي نسهر فيه على حراسة مزارعهم، محتملين قسوة البرد ولهب الحر، ومعرضين للموت المباغت في ظلمة الليل، يعيشون هم حياة

مترفة ناعمة هنيئة. ونفسيتهم هي نفسية محدثي النعمة الذين لا يحترمون إلا القوة المرافقة (للرتب والألقاب). وذات مرة كنا نقضي الليل في حراسة مزرعة (الأخوة صوير) قام هؤلاء بدعوة ضباطنا لتناول القهوة داخل المزرعة. وعندما سألهم أحد زملائنا إذا كان لديهم شيء من القهوة للجنود، أجابوه: بأن أمامهم الماء إن أرادوا شرب شيء. وفي مجال علاقة الجنود الفرنسيين بجنود (القوم والحركة - من الجزائريين) فإنه بالإمكان القول، بأنه لم تكن لنا علاقة وثيقة بهؤلاء المرتزقة الذين لا نثق فيهم. وكنا نحتقر بيعهم لأنفسهم من أجل المال، وهم يعيشون منعزلين، ويتناولون طعامهم وحدهم، وينامون منعزلين، ومما زاد من مضايقاتهم وجود نسائهم معهم في المركز، الأمر الذي أدى في إحدى المرات، بالضابط المسؤول عن المركز، الى طردهم جميعا ما عدا ثلاثة منهم أما فيما يتعلق بقائدهم، المدعو (الشريف بن العيد) والذي سمى نفسه (الكولونيل - العقيد سي الشريف) فإننا لم نلتق به أو نجتمع إليه، ولكننا نعرف أنه تلقى في شهر كانون الثاني - جانفي - 1959: أمرا من الجنرال (ديغول) بأن يحمل رتبة (ملازم ثان - سوليتنان) فقط. وكان هو ينتحل رتبة عقيد (كولونيل) فتألم للأمر، واتخذت الاحتياطات توقعا لأي احتمال يمكن حدوثه، وألغيت إجازاتنا، وأعلنت حالة الطوارىء حتى نشدد الحراسة عليه حتى لا يفر. ولا يحمل ضباطنا أي احترام لهذا الشخص الذي يأخذون عليه رفضه الدائم للمشاركة في المعارك. أما هو، فإنه يتشبث بحمل رتبة عقيد، رغم ابتسامات السخرية التي يلقاها من الضباط الفرنسيين. ***

ما إن تم إطلاق سراح الأسرى حتى أسرع مراسلوا الصحف الفرنسية بالجزائر، لإجراء المقابلات معهم، والاستعلام عن طبيعة حياتهم في الأسر، وعن معاملة جيش التحرير لهم، فكتبت صحيفة (أوران ريبو بليكان) الصادرة يوم 21 أيار - مايو- 1959 ما يلي: (كان من بين الأسرى ثلاثة جنود مكثوا في الأسر مدة خمسة عشر شهرا ونصف وهم: بيير دي غانيدو، وريمون كابل، وبرانجينوا ديفيزا. وقد سردوا قصتهم فقال - دي غانيدو-: بعد وقوعنا في الأسر أخذنا الثوار معهم، ومشينا لمدة خمسة عشر يوما، ثم قدمونا الى الكولونيل - العقيد عميروش - الذي أكد لنا أنه سيطلق سراحنا قريبا، إما عن طريق الصليب الأحمر، أو عند نهاية الحرب. وهنا قاطعه صاحبه كوبل بقوله: ولم يسألنا عميروش أي سؤال، بل قال لنا أنه لا يطلب منا المعلومات لأنه يعرفها أحسن منا، وأخبرنا على سبيل المثال عن عدد الجنود في مراكزنا، مع أننا لم نكن نعرف نحن عددنا بالضبط. ثم استأنف - بيير دي غانيدو- حديثه قائلا: وفي الفترة الاولى من أسرنا حدث أن مكثنا في مكان واحد لمدة خمسة أشهر، وفي الليل، لا يتحدث حراسنا إلا عن حياة الجهاد، أما نحن فلا نتحدث إلا عن الطعام والمأكل، ونحلم بالمآدب الفخمة والأطعمة الفاخرة الشهية). وكتبت صحيفة (صدى الجزائر- ايكو دالجي) الصادرة يوم 21 أيار - مايو- 1959 تحقيقا مع الأسرى جاء فيه: (قال دي غانيدو: لقد سمعت يوما بوضوح تام ضابطا فرنسيا يعطي أوامر السير لفصيلته، ولم يكن الجنود الفرنسيون يبعدون عن مخابئنا بأكثر من ثلاثين مترا، كما كانت الطائرات العمودية - الهيليكوبتر - تحلق فوق تلك المخابىء على مسافة منخفضة، من غير أن تتمكن من اكتشافها

أو رؤيتها. ولم يكن المجاهدون يعتبروننا مسؤولين عن الخسائر التي تصيب المدنيين من جراء قصف الطائرات الفرنسية. وفي المساء يأتوننا بالصحف، ويقرؤون لنا الأخبار، وكان أمين سر الولاية الثالثة - السكرتير - يقرأ لنا ما تحتويه صحيفتي (لوموند) و (الاكسبريس). لقد جاء (ديغول) الى الجزائر، وإذ ذاك راود بعض الجنود أمل بأن تحصل الحكومة الجزائرية على استقلال الجزائر، عن طريق المفاوضات مع (ديغول) ولكن طبيبهم الذي كان يتناقش معهم أقنعهم بأن هذا الأمل بعيد التحقيق. لأن (ديغول) لن يقبل بالتفاوض مع (عباس فرحات) في بلد محايد. ولن يقبل (عباس) كذلك أن يذهب إلى باريس إذا لم يسبق ذلك مفاوضات تمهيدية. وحينئذ قال الجنود - المجاهدون - أنهم سيحاربون حتى النهاية من أجل الحصول على الاستقلال الذي هو مثلهم الأعلى، ولكنهم كانوا يعبرون عن هذا الإصرار من غير حقد ولا ضغينة. وتابع - دي غانيد -قوله: لقد بلغ عدد الأسرى - في بعض الأوقات - وفي المعسكر الذي كنا فيه فقط (25) أسيرا. أما (ديفيزا) صانع الأخشاب في (بوفاريك) و (هرننديز) الذي يعمل طباخا في (بوغني) الذي أسر منذ شهر ونصف عند عودته من إجازته في طريق (شعبة العامر) فقد أكد الاثنان بأن الثوار ليس لهم أي شعور عدائي خاص نحو الأوروبيين القاطنين في الجزائر - وقال (ديفيزا): لقد كانوا يعاملوننا معاملة حسنة، مثل بقية زملائنا الأوروبيين القادمين من فرنسا، وكانوا يتوجهون بالحديث إلينا على الخصوص لأننا نفهم اللهجة العربية. لقد علم الأسرى بموت القائد (سي عميروش) بعد يومين أو

ثلاثة من وقوع الاشتباك في (بو سعادة). وكان الحراس يتناقلون همسا بأن (سي عميروش) قد استشهد. ولكن لم يظهر عليهم أي تخوف من عواقب الحادث، بل كانوا يرددون بأنه (مكتوب). وفي 11 أيار - مايو- جاءنا القائد الذي تولى قيادة الولاية الثالثة بعد (عميروش). وقال لنا: إني أحمل لكم خبرا سعيدا فإننا سنطلق سراحكم يوم 18 أيار - مايو - جميعا، من مدنيين وعسكريين. فقد وصلتنا أوامر من حكومتنا بإطلاق سراحكم. ثم زارنا الطبيب في يوم 16 أيار - مايو - وسلم لنا ملابس نظيفة، وقبل ذهابنا قال لنا أمين سر الولاية الثالثة - سكرتيرها -: إننا لا نطلق سراحكم من أجل الدعاية في الخارج، ولكننا نرجع إليكم حريتكم بدافع إنساني محض. وعند توديعنا صافحنا جنود (جيش التحرير الوطني) بود خالص وقالوا لنا: إنهم مسرورون من أجل إطلاق سراحنا، واسعادتنا لحريتنا. لقد أثارت هذه المقولات عاصفة قوية في غير مصلحة فرنسا، لا سيما وأنها أثارت مجال المقارنة بين هذه المعاملة الإنسانية السمحاء، وبين ما يلقاه مجاهدو جيش التحرير الوطني، ومناضلو جبهة التحرير الوطني، على أيدي الجلادين الفرنسيين عندما يقعون في قبضتهم، لا في الجزائر وحدها، وإنما في فرنسا أيضا. وكان من المفروض أن تتعلم (فرنسا الحضارة) من (جزائر الثورة) أساليب التعامل الإنساني. غير أن الحضارة المجردة من إنسانيتها مضت في وحشيتها، ويكفي التوقف عندما جاء في (نشرة جزائرية) بعد ذلك بمدة سنتين تقريبا، حيث ورد ما يلي (¬1): ¬

_ (¬1) المرجع: نشرة جزائرية تحمل ما يلي (الجمهورية الجزائرية - وزارة الداخلية - نشرة داخلية - نوفمبر - 1961 - الصفحة الأولى).

(صوتت هيئة الأمم المتحدة أخيرا على توصية طلبت فيها إلى الحكومة الفرنسية احترام الأنظمة العالمية، بمنح المعتقلين السياسيين حقوقهم، ويلاحظ أن مظاهرات فرنسية مرت من أمام السجون الفرنسية، فبعد النساء الفرنسيات، طالب جمع من الشبان يقدر بعشرين ألف متظاهر، بوضع حد للظروف المهينة التي يعيشها المعتقلون الجزائريون في سجون فرنسا. ومن الملاحظ عجز فرنسا عن تحقيق التطابق بين أقوالها وأفعالها، فبينما تتحدث الحكومة الفرنسية (الديغولية) عن رغبتها في السلم بواسطة التفاوض مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. تتابع - هذه الحكومة - سياستها المجردة من كل المعاني الانسانية، فتخضع المعتقلين لأقسى أنواع القمع والقهر، وليس ذلك فحسب، بل إن القمع المنظم قد اتسع نطاقه حتى بات يشمل كل الجزائريين المهاجرين في فرنسا، بحيث بالت من الصعب وصف العمل الفرنسي ضد الجزائريين بغير كلمات الوحشية والفظاعة والعنصرية. وبات لا يمضي يوم من الأيام، إلا ويتم فيه التقاط جثث الأخوان الجزائريين الذين عذبوا، واستشهدوا ; وقذف بهم في نهر السين، ولا يمر يوم إلا يتم فيه اكتشاف جثث جديدة، فالشرطة الفرنسية (البوليس) تقتل، وتبيد، وتنهب، وتخفي جرائمها، ولقد التقطت ستين جثة من نهر السين، واكتشفت أيضا ثلاثين جثة في (غابة بولوني). واليوم يعترف القتلة بجرائمهم. ولقد وزع منشور - غير موقع - يحمل عنوان (جمع من رجال الشرطة - البوليس - الجمهوريين) وجاء في هذا المنشور: (من بين آلاف الجزائريين الذين اقتيدوا إلى ساحة المعارض في باب فرساي، قتل عشرات بمؤخرات البنادق - أعقابها - وبالعصي -

الهراوات) فهشمت أعناقهم، أو حطمت أعضاؤهم، أو فتت أكبادهم، وسحقت أجسامهم وديست على مرأى المراقب العام المحترم (السيد باريس). في حين اقتلعت أصابع أو أظافر بعضهم من قبل رجال الأمن والدرك - الجندرمة - المتجولين الذين أطلق عليهم تجاوزا، ظلما وعدوانا، اسم: لجنة الاستقبال. وبالاضافة الى ذلك، فإن ميليشيا (المنظمة السرية المسلحة) تقتل وتنهب في طمأنينة كاملة تحت حماية (ميشيل دوبريه) الذي يشاركهم جرائمهم ويحميهم من المثول أمام العدالة. أما نحن - الثوار - فمثلنا اليوم مثل ما كنا بالأمس، وإن إرادتنا في تحرير بلادنا لن تضعف، لا بالإغراق في مياه السين، ولا في اعتقال إخواننا وإخضاعهم لظروف عنصرية وغير إنسانية - لقد عاهدنا على ذلك، وسنستمر حتى تتحقق تطلعاتنا الوطنية).

مواقف لا تنسى

7 - مواقف لا تنسى (*) تعتبر العدالة الفرنسية في الجزائر، أن كل جزائري هو إنسان (مشبوه) وأن كل مشبوه يجب أن يكون (مجرما). وأن كل مجرم يجب أن (يحاكم) وكل من يحاكم يجب أن (يعدم). وهذه هي المعادلة البسيطة التي سار على نهجها القضاء الفرنسي في الجزائر، طوال ليل الاستعمار عامة، وخلال مرحلة الثورة التحريرية منه بصورة خاصة. كل جزائري مشبوه، هكذا بكل بساطة، ومن ثم فكان شيئا ملازما لهذا المنطق أن يرى أبناء الجزائر في كل يوم أعمال الاعتقالات الجماعية التي لا تفرق بين كبير أو صغير، بين رجل أو امرأة، بين غني وفقير، فكلهم جزائريون. وبمجرد أن يتم اعتقال المشبوه فإنه يقتل فورا، بتهمة محاولة الفرار، وهو إن لم يقتل في الحين، تسلط عليه عمليات التعذيب التي تنتهي (بالانتحار) أو (بالإعدام). هكذا، اخترع رجال الشرطة (البوليس) ورجال الجيش من الفرنسيين ما عرف باسم (الاستجواب الانتحاري) ولم يكن من

_ (*) المرجع: جريدة (المقاومة الجزائرية) 20 أيار - مايو - 1958.

الغريب بعدها أن تسفر تلك التحقيقات - أو الاستنطاقات - عن اكتشاف قتل أربعة أو خمسة من المتهمين بارتكاب حادثة واحدة قام بتنفيذها رجل واحد وعندما يخرج المتهم - حيا - من أيدي المحققين (الشرطة أو الجيش) يحال إلى القضاة الفرنسيين، وقد يتخيل الإنسان أن المظالم قد انتهت عند هذا الحد، غير أن من يعرف (من هم القضاة؟) يدرك أن للقصة بقية. إن القضاة هم فرنسيون قبل كل شيء، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، واجبهم الأول هو الدفاع عن النظام الاستعماري الفرنسي، أو ما يسمونه (الجزائر الفرنسية). فالقضاة يحاربون بأسلوبهم الخاص ضد المجاهدين الجزائريين. وليس هناك أي فارق عملي، من هذه الناحية، بين القاضي الفرنسي والجندي الفرنسي، إنهم جميعا يشكلون ما كان معروفا باسم (الجهاز الاستعماري). وإن الذين يتولون محاكمة الجزائريين (مجاهدين أو مواطنين مدنيين) هم من الفرنسيين الذين ينظرون الى الجزائري نظرتهم إلى عدو قبل كل شيء، لا نظرتهم الى متهم بريء لا تجوز إدانته قبل ثبات التهمة عليه. ويكتفي معظم أولئك القضاة بالتصديق على تقارير تحقيقات الشرطة (البوليس) غير ملتفتين إلى أي احتجاج يصدر عن الجزائريين الأبرياء. وبتطبيق قرار 17 آذار - مارس - 1956، بات من المحال على القاضي إجراء تحقيق أو بحث حقيقي، لأنه لم يعد أمام المتهم فرصة زمنية كافية لتكليف محام من أجل الدفاع عنه. أما في المحاكم العسكرية، فإن ضباط الجيش الفرنسي هم القضاة، أي ذات الضباط الذين يرتكبون الجرائم في كل يوم خلال (عمليات التطهير والتهدئة) حيث يقتلون كل يوم من يقع تحت نظرهم من

دم الثوار تعرفه فرنسا وتعرف أنه نور وحق

النساء والأطفال. وهؤلاء الضباط القضاة يعتبرون عملهم في المحاكم العسكرية - عندما يحاكمون أسراهم - هو استمرار لما يقومون به من أعمال الإبادة والتقتيل في البوادي والجبال والمدن. إن القاضي الذي يحترم إنسانيته، يطلب الأدلة والبراهين، أما قضاة فرنسا فيكتفون باعترافات انتزعت تحت ظروف التعذيب الوحشي، أو بشهادات تفتقر كثيرا إلى الدقة والموضوعية وهي أقرب إلى الشك منها إلى اليقين. ولهذا تراهم يلفظون أحكامهم كأنها طلقات نارية يقذف بها رجل معتوه: (الأشغال الشاقة) (الإعدام) ... لقد تعاون رجال فرنسا وقوانينها على أن يبرزوا محاكمة الجزائريين على شكل انتقام ساقط يغذيه حقد أعمى. وأمام انتشار الجهاد الوطني، صار قانون العقوبات الفرنسي غير كاف. فصدرت قوانين أخرى - خاصة - بهدف القضاء على الكفاح الوطني الجبار. وكانت أبرز ظاهرة تميزت بها التشريعات الفرنسية الصادرة هي (ظاهرة العنصرية البغيضة). فقد حرم شعب كامل من الحرية الفردية، ومن جميع وسائل الدفاع، لأن هدف التشريع الفرنسي لم يكن لمعاقبة المجرمين، وإنما من أجل اعتقال المواطنين وتعذيبهم وإبادتهم بوتيرة متصاعدة يوما بعد يوم. ولهذا وجدنا مشرعي فرنسا قد أصدروا القوانين التي يمكن لأجهزتهم الاستعمارية في الجزائر الاعتماد عليها، والاستناد اليها، لزيادة المظالم، لا من أجل إنقاصها. هكذا، استمرت أحكام الإعدام في الصدور على الوطنيين الجزائريين المسلمين، وهكذا، كان ينفذ فيهم حكم الإعدام ضمن ساحات سجون الجزائر. وإن الذين شاهدوا أولئك الأبطال، وهم

يجاهدون في صفوف جيش التحرير الوطني، وفي تشكيلات الفدائيين، لن ينسوا ما شاهدوه أبدا، إذ احتفظ الأبطال ببطولتهم حتى وهم في سجونهم، وتحت رحمة جلاديهم في مجالس محاكماتهم. لم يكن أولئك الأبطال يفكرون بالدفاع عن أنفسهم، عندما يقعوا أسرى في قبضة عدوهم، بل إنهم كانوا يقفون بكل إباء الثوار، وشمم الأبطال، فيوجهون التهم لأعدائهم، تعبيرا عن إيمانهم العميق بعدالة قضيتهم، ومثال ذلك، موقف المجاهد (ببوش) الذي قدم إلى محكمة القوات المسلحة في عاصمة الجزائر - في شهر آب - اغسطس - 1955. فوجه إلى أعضاء المحكمة الكلمة التالية: (إنني لست متمردا، ولست خارجا على القانون. إنني جزائري، حمل السلاح لتحرير بلاده وتحرير إخوانه من السيطرة ومن الاستعمار الذي أثقل كاهلهم منذ أكثر من قرن، أما الخارجون على القانون، وأما المجرمون، فهم أولئك الذين يضطهدون ويقتلون شعبا يعد عشرة ملايين نسمة، يريد حريته واستقلاله. إن أعداء الشعب هم الذين تحاربهم جهة التحرير الوطني ويحاربهم جيش التحرير الوطني. وبصفتي جنديا في جيش التحرير الوطني فإنني أشعر أن واجبي هو في الجهاد من أجل تحرير الوطن واستقلاله). لقد كانت تلك اللهجة النبيلة والصريحة، هي الطابع الثابت في مواقف جميع الأبطال الذين أعدموا. ومقابل ذلك، كان الطابع الذي اتسم به القضاة الفرنيسون في

مواجهة المجاهدين، لتجسيم الجريمة ضدهم، فهو ترديد تلك النغمة البائسة: (إن فرنسا قد شيدت المدارس وشقت الطرقات، وأقامت المستشفيات الخ ...). ولكن (ببوش) وجميع إخوانه، ممن حكم عليهم بالاعدام في (وهران) وفي العاصمة (الجزائر) وفي (قسنطينة) كانوا يجيبون على تلك النغمة البائسة بذكر الوقائع الثابتة، فيقولون بأن الجزائريين كانوا منذ سنة (1830) يعيشون تحت حكم المظالم والاضطهاد والإرهاب، وينكرون جميع أنواع المهانة التي تسلطها الإدارة الفرنسية على ملايين الرجال - مع الإشارة إلى أن كل ما تزعمه فرنسا من إنجازات لم يكن إلا لمصلحة الاستعماريين (الكولون) ومستوطنيهم، وقلة قليلة من أتباعهم ومأجوريهم -. وفي بعض الأحيان، كان أحد أولئك القضاة، ينهض ليستخدم لغة الوعيد والتهديد، وأعصابه تغلي من الغضب، فيقابله بطل المقاومة، بهدوء واتزان، ويشير اليه بإصبع الاتهام الثابت ضد جهاز الحكم المسلط على الوطن الجزائري بأكمله. وعندما يعجز القاضي عن مقارعة الحجة بالحجة، والرد على البرهان بالبرهان، يضيق صدره، فلا يجد ما يعبر به عن مأزقه إلا بأن يسرع فيصدر حكم الإعدام. لقد كانت أحكام الإعدام تصدر على شكل قائمة، وقائمة في إثر قائمة، وكانت الصحافة الاستعمارية تتباهى وهي تصدر على صفحاتها الأولى تلك القوائم، ومنها على سبيل المثال تلك التي نشرتها (صحيفة فرنسية) (¬1). والتي تم فيها الإعلان عن إعدام ¬

_ (¬1) صحيفة (أوربسرفاتور) 14 شباط - فبراير - 1957.

(16) جزائريا خلال أسبوع واحد. وضمت تلك القائمه (قائمة الشرف) التالية أسماؤهم: اسم الشهيد .......... تاريخ إعدامه .......... مركز إعدامه 1 - أحمد ناصر الدين .......... 13/ 12/ 1956 .......... قسنطينة 2 - حجاج بشير بن شريف .......... 3/ 1/ 1957 .......... قسنطينة 3 - محمد سعايديه .......... 3/ 1/ 1957… .......... قسنطينة 4 - حميدة طرفاية .......... 4/ 2/ 1957… .......... قسنطينة 5 - السعيد لعوبي .......... 4/ 2/ 1957… .......... قسنطينة 6 - حميد بن محمد .......... 4/ 2/ 1957… .......... قسنطينة 7 - محمدالأخنش .......... 12/ 2/ 1957… .......... الجزائر 8 - محمد النوري .......... 12/ 2/ 1957… .......... الجزائر 9 - محمد الصالح العياشي .......... 14/ 2/ 1957 ......... قسنطينة 10 - عمر بن الزائدي .......... 14/ 2/ 1957 .......... قسنطينة 11 - فرحات بن بلقاسم عريف .......... 14/ 2/ 1957 .......... قسنطينة 12 - علاوة بومليحة .......... 14/ 2/ 1957 .......... قسنطينة 13 - أحمد عمور .......... 15/ 2/ 1957… .......... وهران 14 - محمد بن الرزقي مزيرع .......... 20/ 3/ 1957 .......... الجزائر 15 - صالح بو الكروة .......... 22/ 3/ 1957 .......... قسنطينة 16 - بلقاسم مارد .......... 22/ 3/ 1957 .......... قسنطينة 17 - محمد الشوقي .......... 4/ 3/ 1957 .......... قسنطينة 18 - بدجار فرحات بن بلقاسم .......... 12/ 4/ 1957 .......... قسنطينة وبذلك، بقيت السجون المأهولة في الجزائر وفي فرنسا من أكثر مناطق العالم نشاطا وحيوية. ولا يكون المعتقل في هذه السجون وحده أبدا، وإنما يبقى على اتصال دائم بالثورة. وها هي الأخت

المجاهدة (زهراء ظريف) (¬1) المحكوم عليها بعشرين سنة من الأشغال الشاقة، تدلي بشهادة خالدة تصف فيها أعمال الإعدام في سجن (بربروس) فتقول: (إنك لا تسمع في حي المحكوم عليهم بالاعدام إلا نداءات: (الله أكبر) و (النشيد الوطني) و (التضحية من أجل الوطن هي خير من الحياة). وتصدر هذه النداءات عن الذين يقادون الى الموت. كما تصدر عن بقية المعتقلين، فتنتقل من مكان قريب إلى مكان أبعد منه، حتى تعم جميع الأحياء في الساعة الرابعة صباحا. وترافق أصوات النساء في الحي الأقرب، وحتى مكان التضحية، إخواننا الذين يقادون الى الموت. وتستمر هذه الأصوات في مرافقتهم حتى مدافنهم. وفي الوقت الذي يحتل فيه الحرس الجمهوري المعابر والدروب، تتعلق النسوة المعتقلات بحديد النوافذ وترفضن إلا أن تنشدن الأناشيد الوطنية التي نموت من أجلها، وتأبين إلا تسمعنها لضحايا العدوان الاستعماري. وكانت رغبتنا كلها هي إشعار إخواننا بأننا نعيش معهم حتى النهاية - إننا نعيش في (سجن بربروس) ونحن في حالة من الفزع الدائم بنتيجة هذه الإعدامات المتجددة في ليلتين أو ثلاثة من كل شهر، حيث تهوي المقصلة لتبتر أعناق إخواننا، تلك المقصلة التي انتشرت في الجزائر كلها: من العاصمة إلى قسنطينة وإلى وهران - ونحن نحصي برهبة تواريخ عودة استخدام المقصلة في السجن الذي نحن فيه ولم يتغير شيء، على الرغم من الوعود الكثيرة. فإخواننا ما زالوا يستشهدون دائما، لا لشيء إلا لأنهم أرادوا كرامتنا). ¬

_ (¬1) المرجع: نشرة تحمل عنوان: (الجمهورية الجزائرية - وزارة الداخلية - نشرة داخلية - نوفمبر - 1961 ص 14).

الثورة ومسؤولية القيادة

8 - الثورة ومسؤولية القيادة لقد انطلقت الثورة منذ البداية على أساس القيادة الجماعية، تنكرا لمبدأ عبادة الفرد من جهة، واستجابة لمتطلبات الحرب الثورية وظروفها من جهة ثانية؛ غير أن ذلك لم يكن ليتناقض أبدا مع أهمية القائد ودوره الحاسم في إدارة الحرب الثورية وتوجيهها، ومن هنا فقد احتل الرواد التاريخيون الذين اتخذوا قرارهم التاريخي بتفجير الثورة وإدارة عملياتها في أصعب ظروف الجهاد وأقساها، مرتبتهم الخالدة؛ ومن هنا أيضا برزت أهمية النسق الثاني والأنساق التالية التي تتابعت على قيادة الجهاد طوال فترة الحرب الثورية، حيث اضطلع جيل القادة بدور تاريخي لا ينكر. وقد يعجب المرء لتلك الطاقات القيادية، وتلك الكفاءات العالية التي فجرتها الثورة، ما تكاد فئة منها تمضي للقاء ربها بعد أن تكون قد أدت واجبها، حتى تخلفها فئة ثانية، بمثل كفاءتها وبمثل صلابتها، وبمثل تصميمها وعنادها. وأكد الشعب الجزائري بذلك غناه بالكفاءات القيادية. والمهم في الأمر، هو أن هذه القيادات التي تصدت لدور الريادة، قد عملت منذ البداية على إعداد أجيال القادة وتأهيلها، إيمانا منها بأهمية الدور القيادي في الثورة من جهة، وإخلاصا منها لفكرة الثورة

التي يجب لها أن تنمو وأن تتعاظم فوق كل الأفراد الزائلون حتى تبقى جذوة الثورة متأججة ومتقدة ومستمرة، ومتطورة. وهذا هو بدقة ما عبر عنه (توجيه للقيادة) (¬1) حفظته وثائق الثورة وتضمن ما يلي: (إن المسألة التي نتناولها اليوم تهم أفضل - سير وتطور وتقدم - منظمتنا الثورية، ويجب أن تكون هذه الخصائص الثلاثة دائمة. وإن كل منظمة وكل تجمع ينسق نشاطه نحو هدف معين يجب أن يكون لهم مسؤولون يقودونهم ويسيرونهم. فمثلا: إن للجيش إطاراته - كادراته - وهم الضباط وصف الضباط. والباخرة يسيرها ربانها يعاونه في ذلك مساعدوه. وللمؤسسة مديرها وإطاراتها ومراقبوها الخ .. ومنظمتنا لها مسؤولوها. فالشخص أو مجموع الأشخاص الذين يكلفون بالإدارة والتسيير يتحملون مسؤولية القيادة. إن المسؤول في منظمة جبهة التحرير الوطني هو قبل كل شيء مجاهد من أجل القضية الجزائرية، تم تعيينه في المستوى الذي هو فيه، وذلك للاضطلاع بمهام مختلفة ومعقدة، فإذا اختير لهذا المركز فليس ذلك تبعا لهذا الظرف العرضي - الطارىء - أو ذاك، ولا تبعا لهذه التوصية أو تلك، ولا لكونه قد أفاد من هذه العلاقة أو تلك، وإنما يتم اختيار المسؤول فقط لأن جهاده وكفاءته تؤهلانه لهذا التعيين، وتمكنانه من الاضطلاع بمسؤوليته. ومهما تكن مرتبة المسؤول في سلم التسلسل التصاعدي، فإنه يجب أن يكون قائدا جماهيريا ومنظما ومربيا. يقوم بواجبه مثله كمثل بقية مجاهدي ¬

_ (¬1) المرجع: نشرة تحمل: (الجمهورية الجزائرية - وزارة الداخلية - نشرية داخلية - نوفمبر - 1961 ص 5 و6 تحت عنوان - الزاوية النظامية).

الجبهة. وهو مسؤول عن أعماله مثله كمثل جميع مجاهدي الجبهة. وزيادة على ذلك، يجب عليه باعتباره مسؤولا أن يتصدى لحمل مسؤولية كافة الأعمال التي يقوم بتنفيذها جميع العاملين تحت قيادته. وهكذا، فكلما ارتفع مستوى مسؤوليته في السلم التصاعدي، كلما زادت أعباء الواجبات التي يضطلع بها، وكلما اتسع نطاق عمله أكثر من عمل المجاهد العادي. فإذا كان مجاهد القاعدة لا يقوم إلا بالعمل الذي يطلب إليه تنفيذه. فإنه يجب على المسؤول أن يسهر على تنفيذ التعليمات وشرحها بوضوح كامل. ويبقى من واجبه السهر الدائم حتى تصل التعليمات إلى أهدافها، وحتى تحقق النتائج المرجوة منها. ثم يجب عليه أن يراقب ويوجه وينسق نشاط كل المجاهدين العاملين معه. يجب على كل مسؤول أن يفكر باستمرار في المبادرات التي يتخذها لتوجيه المجاهدين في القاعدة، ويجب عليه الاهتمام بتشكيل منظمته وتكوينها، وإعداد هيكلها حتى يجعل منها أداة مستعدة دائما للقيام بدورها في الثورة، وعليه ألا يضع في نظرياته، أو أن يحلق في الخيال، يعني فوق العناصر التي هي تحت مسؤوليته، بل على العكس، يجب عليه أن يعيش وهو على اتصال مستمر بالقاعدة، حتى يلمس الواقع ويدرك أبعاده ومن الواضح، بأنه من المحال على المسؤول أن يتمكن من الاضطلاع بدوره بنجاح، إلا إذا جمع مع المعرفة فصائل الإخلاص وروح المبادرة، ولكن مهما يكن اتساع معارفه، فيجب أن يحذر من الوقوع تحت سيطرة مشاعر التفوق التي تقوده للغرور، ففي ذلك السم القاتل الذي يشكل خطرا على تضامن المنظمة. وعندنا مثل يقول: (إن الإنسان

الشعب والجيش في خندق واحد

الحكيم لا يهمل النصيحة مهما بلغت درجة معارفه). تعترض المسؤول عادة بعض الصعوبات الخاصة التي يجب عليه حسمها بنفسه، إذا كان يمتلك الكفاءة لذلك، أو أن يساعد مرؤوسيه، العاملين تحت قيادته، على إيجاد الحلول المناسبة لها. ويجب عليه ألا يفرض أبدا هذا الحل أو ذاك، إذا لم يحدد مسبقا الضرر، أو الأضرار، المحتملة والمتوقعة. وأن يستعين بوجهات نظر مساعديه المباشرين وآراءهم، في علاج الموقف، ووضع الحلول التي يتطلبها الوضع. وإن وظيفة المسؤول لا تتنافى مع الإدارة الجماعية، فهذا المبدأ الذي وضعته جبهة التحرير الوطني قاعدة لهيكلها التنظيمي هو مبدأ صحيح، سواء كان ذلك على مستوى القسم والناحية أو حتى على أرفع المستويات في قيادة الثورة، وأعلاها مرتبة. ليس المسؤول ممثلا للقاعدة أمام القيادة، ولا هو مندوب نقابي لدى المسؤولين الذين هم أعلى منه رتبة. بل إنه انعكاس القاعدة لدى كبار المسؤولين، ويجب أن يستخلص المسؤولون من تقاريره صورة صحيحة ودقيقة لما هو عليه موقف القاعدة وحالتها فالمسؤول إذن هو الذي يبين لمن هو أعلى منه في المسؤولية حقيقة الموقف على مستواه، وبصورة موضوعية. ويوضح بدقة مقترحات وطلبات القاعدة واحتياجاتها وما تجابهه من صعوبات وما تمارسه من أعمال، وردود فعلها أمام المشاكل التي تجابهها الخ. وعلى هذا، فالمسؤول ليس موزع بريد ولا رجل اتصال، مهما كان موقعه في المسؤولية ما بين القمة والقاعدة. وعلى المسؤول، في الحالات كلها، أن يعمل قبل كل شيء لمصلحة الثورة. وإذن، فإننا نرى أن المسؤول هو أيضا العقل المفكر الذي يهيء في مستواه

التعليمات التي يراها ضرورية في هذا المستوى، ويوضح التعليمات التي تلقاها من المستوى الأعلى. وعلى ضوء البيانات بشأن دور المسؤول، فإننا نعتبر أن المسؤولية في جبهة التحرير الوطني هي وعي الدور الذي يمارسه كل إطار في المستوى الذي هو فيه. من المؤكد، بعد ذلك، أن المسؤولية ثقيلة، غير أن ثقل هذه المسؤولية، وما تتضمنه من مناظر تجعل من الاضطلاع بها شرفا أسمى، إذا ما اعتبرنا أن الأطر (الكادرات) في جميع المستويات هم الذين لهم الشرف الأعظم في قيادة ثورتنا. فالمسؤولية لذلك لا تسند إلا للرجال الذين هم أهل لها، وللوطنيين المخلصين المتجردين الذين لا يرجون جزاء ولا شكورا، وللذين أقروا العزم على التضحية بأعز ما لديهم من أجل انتصار مثلنا العليا في التحرير الوطني. ***

الفلاح والثورة

9 - الفلاح والثورة يبقى هناك سؤال، في جملة الأسئلة، التي لا بد لها وأن تصدم بقوة كل باحث في عمق الثورة الجزائرية، ويتلخص هذا السؤال بالتالي: لقد انطلقت شرارة الثورة في المدينة، فلم تلبث حتى ألهبت السهل والجبل، فهل كان ذلك لأن العشب الجاف، والوقود الصلب، في السهل والجبل، كان أكثر استعدادا للاحتراق بنار الثورة؟. لقد انسحب الرواد التاريخيون بعد أن أيقظوا شعب الجزائر بتظاهرتهم العنيفة، ليستقروا - كالعقبان - في صياصي الجبال، فهل كان ذلك لمجرد الإفادة من منعة الطبيعة الجبلية في الأوراس ومنطقة القبائل، وما توفره هذه المناطق من الحماية الطبيعية؟ ولقد ألقت فرنسا بثقل قواتها لقمع الثورة منذ بداياتها المبكرة، واحتمل سكان السهول والجبال من الضيم والعسف ما لا تحتمله إلا الجبال الراسيات، فلم تضعف لأبناء السهول والجبال قناة، ولم تلن لهم إرادة. وأتعبوا أقوى جيوش الاستعمار ولم يتعبوا، فهل كان ذلك بسبب طبيعة أبناء هذه المناطق؟ ولقد تشكلت المناطق المحررة، أول ما تشكلت، في مناطق الأوراس والقبائل الكبرى، فما هو السر في ذلك؟ إن السر كامن في ذلك التلاحم الخالد بين المواطن الجزائري والأرض الجزائرية، وهو التلاحم الأبدي بين المواطن والوطن - وقد

صدرت أبحاث كثيرة عالجت هذه النقطة بالذات وقد يكون من الأفضل الامتناع عن كل تعليق، وإفساح المجال أمام بحث عن (دور الفلاح الجزائري في الثورة) (¬1) صدر في المراحل الأخيرة من هذه الثورة. (إن أبرز سمات الثورة العربية بالجزائر، ارتباطها بالأرض. فالأرض هي الإطار الذي أبرز النضال، والأرض هي منبع مقاومة جيوش الاحتلال، وهي المصدر لكل الانتفاضات التي تطورت إلى ثورة اعتبرت معجزة في تاريخ نضال الشعوب ضد الاستعمار). وإذا تفحصنا تاريخ الجزائر، بمجهر النزاهة العلمية، والإنصاف الموضوعي. وجدنا أن الفلاح هو العنصر المحرك - الدينامي - الفعال الذي مارس دورا رئيسيا في المقاومة والثورات. فالفلاح هو الذي قاد المقاومة ضد جيوش الاحتلال الفرنسي، والتي استمرت من سنة (1830) حتى سنة (1903). ومن الفلاحين شكل الأمير عبد القادر جيشه الذي قاد المقاومة مدة سبعة عشر عاما (من سنة 1830 حتى سنة 1847). والفلاحون هم الذين قاموا بثورة (أبي بغلة) سنة (1851) وهم قاموا بثورة (بني سناسن) سنة (1859) وهم الذين قاموا بثورة (أولاد سيدي الشيخ الأولى سنة 1864) والفلاحون هم الذين كون منهم البطلان (الشيخ الحداد والمقراني) جيشا ثوريا (سنة 1871) اضطر فرنسا إلى إرسال ربع مليون جندي لإخماد هذه الثورة بعد أن خسرت فيها (60) ألف جندي. والفلاحون هم الذين قاموا بثور أولاد سيدي الشيخ الثانية (سنة 1881) عقب احتلال فرنسا ¬

_ (¬1) المرجع: مجلة (الشباب) الجزائرية. العدد السادس - نوفمبر 1961، و 2 - 6 والبحث للكاتب الجزائري عثمان سعدي.

لتونس مباشرة. والفلاحون مع البدو، هم الذين حاربوا جيوش فرنسا بصحراء الجزائر من سنة (1889) حتى سنة (1892) والفلاحون هم الذين قاموا بثورة (أوراس - سنة 1917). لكن لماذا كان الفلاح بالجزائر عنيفا في مقاومته للاحتلال الفرنسي؟ إن الأرض هي السبب الرئيسي في عنف مقاومة الفلاح بالجزائر للاحتلال. فتوزيع الأرض بالجزائر يكاد يشكل نموذجا فريدا في نوعه، في تاريخ الأقطار الحديث. وإذا ما عدنا إلى العهد التركي فإننا نجد أن إدارة الحكم قد اكتفت بممارسة سلطتها على المدن الكبرى والمناطق القريبة التي لا تتجاوز سدس القطر الجزائري. وتركت للجزائريين حرية إدارة بلادهم. فتشكلت في كل منطقة إدارة أشبه ما تكون (بجمهوريات قبلية) وهكذا فعندما احتلت فرنسا الجزائر وجدت أربعة أنواع من الملكيات العقارية التي تشغل خمسة أسداس الجزائر، وكانت هذه الملكيات كالتالي: 1 - ملكية الدولة (البايليك). 2 - أراضي (الأحباس) الموقوفة للمساجد والجمعيات الخيرية والهيئات الدينية. 3 - أراضي القبيلة أو القرية (أراضي العرش) وهي عبارة عن ملكية جماعية. 4 - أراضي الملاك الأفراد. وتكاد الملكية الفردية تنعدم تماما بالمقارنة مع انتشار الملكية الجماعية. حتى أن القبائل بالجزائر لم تعرف الملكية الفردية إلا بعد دخول الفرنسيين. وقد كان لكل قرية أرضها الخاصة بها، يستثمرها سكانها استثمارا جماعيا. ويعين شيخ القرية في كل سنة، جزءا من الأرض لكل أسرة، وتضم مجموعات من الأسر الأراضي المخصصة لها

بعضها الى بعض، ثم تزرعها، وتتعاون في العناية بها وحصاد محصولها. وللفرد والأسرة حق استثمار الأرض وليس لهما حق الملكية. لم تكن القبائل تعرف بيع الأرض قبل دخول الفرنسيين للجزائر. ولهذا فإن النظام الزراعي الذي كان قائما في العهد التركي لم يسمح بظهور الإقطاعية. وخلق نوعا من الحياة الديمقراطية التي تتخذ العدالة الاجتماعية قاعدة لها. فالأرض ملك للجميع، والفرص متاحة أمام الجميع للعمل. وما على الفرد إلا أن يكد ويعمل حتى يحصل على الانتاج الذي يحفظ لا كرامته الإنسانية. وقد شهد بذلك القادة العسكريون الفرنسيون ذاتهم عندما دخلوا الجزائر، ووجدوا بها حياة ديمقراطية أفضل من الحياة التي كانت سائدة في فرنسا ذاتها - مثل الكونت دي هيرسون - الذي كتب يقول: (إنني أشك في أمر احتلالنا لهذه البلاد. فإن للقبائل حق الأولوية - الذي لا جدال فيه - من العيش بين منازلها على نحو ما كان عليه حالها منذ أجيال مضت. ويبدو لي أن العرب لم يسيؤوا التصرف في معيشتهم، ما داموا يحكمون أنفسهم بقوانين ديمقراطية صالحة ... ونحن نقسو عليهم لا لشيء إلا لأننا أقوى منهم ...). ويقول العقيد - الكولونيل فوري - في ذلك ما يلي: (لم أر قط، ولم أكن أتوقع مثل هذه الكثافة من السكان، ومن ضخامة المراكز التي تجمعهم كما رأيت في جبال - بني بوعايش - وبني مالك - فهنا تجد المساكن المنعزلة كثيرة. ولكن تجد أيضا مداشر وقرى، شبيهة بالتي عندنا في فرنسا، وفوق أحسن وأجمل ما تكون من المواقع. كلها محاطة بالبساتين والجبال المشجرة العالية العظيمة بأشجار الزيتون فيها. ولقد وقفنا كلنا ونحن في دهشة وذهول أمام هذا المجال الطبيعي الذي لا يكاد يحد. ولكن الأوامر هي الأوامر .. وقد كان اعتقادي

أنني أقوم بواجبي كأكمل ما يكون، عندما لا أترك قرية واحدة قائمة، ولا شجرة واقفة على ساقها، ولا حقلا عامرا. وإن الشرور التي اقترفها جنودي كانت لا تعد ولا تحصى. ولكن هل ذلك شر؟ أم هو خير؟ إنني أعتقد أن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لحمل السكان على الاستسلام والهجرة). كان من نتيجة هذه الحياة الجماعية العادلة، أن عاش الفلاح الجزائري بمستوى حياتي جيد ترك أثره في بنيته وصحته. وها هو الجنرال - فالازيه - يشهد بذلك في أحد تقاريره: (كان هؤلاء البدو والسكان في القرى والمداشر، يمارسون بعض الألعاب الرياضة البدنية، التي جعلت منهم، مع ما كانوا يتمتعون به من الهواء الطلق والرخاء الحقيقي في المعيشة، رجالا كاملي الرجولة). لقد جعلت الحياة الديمقراطية، ورخاء العيش، وسلامة البنية، من الفلاح بالجرائر، نموذجا كاملا للاسان الثائر، فهو لا يعرف سوى الحرية، ويجهل كل أنواع العبودية وأشكالها - إلا العبودية لله الواحد القهار - له نفس تأبى الضيم وتعاف الذل، جبار إذا ما شعر أن كرامته قد أهينت، أسد إذا اعتدي عليه. وإذا ثار فهو صامد لا تلين له قناة، له إصرار على الوصول إلى الهدف يبلغ إلى حد العناد. وهذا النموذج الكامل للإنسان الثائر في شخصية الفلاح العربي المسلم بالجزائر هو الذي جعل مؤسس الإستعمار الفرنسي بالجزائر، (الجنرال بوجو) يصيح صيحة ملؤها الإعجاب فيقول: (آه! لو لم يكن هناك عرب في الجزائر، أو لو كان العرب يشبهون تلك الشعوب المائعة التي في الهند ... لما نصحت بلادي جلب جالية لنقيم إلى جانب العنصر العسكري. ولكن وجود هذه الأمة التي بلغت من شدة المراس والاستعداد للحرب حدا أرفع بكثير

مما هو عند الجماهير الأوروبية، يضطرنا اضطرارا إلى أن نضع أمامها وحولها وفي وسطها سكانا يكونون على أوفر ما يمكن من القوة). هذه الصلابة، وهذا الثبات، وهذا الإصرار، وهذه البطولة الأسطورية التي امتاز بها الفلاح الجزائري هي التي دفعت ضابطا فرنسيا آخر (اسمه فيستي) يصرح بإعجاب وهو يروي لقائده -الجنرال - في أحد التقارير حادثة رجلين اتهما بقتل ضابط تركي يعمل في الجيش الفرنسي، وحكمت عليهما السلطة الفرنسية بقطع يديهما. قال الضابط الفرنسي: (حزم ذراع كل منهما عند الزند، وشد على شرايينهما بحبل، ثم وقع جز اليد بتمهل وبطء. ثم رميت اليدان على وجهيهما. ولكن يا سيدي الجنرال، لقد رأيت هذا بعيني؛ إنه لم يظهر على الرجلين أثناء العملية أي شعور بالألم. لقد بقي وجه كل واحد منهما طبيعيا، لا أثر فيه للتوتر أو الانفعال. ثم تناول كل منهما يده الملقاة على الأرض بيده السليمة. وسار الرجلان جنبا إلى جنب وهما يتحادثان بهدوء عجيب إن رجالا من هذا النموذج قادرون على أن يفعلوا شيئا عظيما ورائعا). لقد استخدم جيش الاحتلال كل وسائل الرعب والإبادة والتقتيل الجماعي والتعذيب، وعلى الرغم من ذلك كله، فقد صمد الفلاحون صمودا عجيبا، ولم يستسلموا أبدا. وهذا ما أكده ضابط فرنسي يدعى - كاروبير - في تقرير له: (تجولنا طويلا ونحن نحرق ونتلف ونسحق القبائل بين - البليدة - و - الشلف، وفي ضواحي - شرشال، وبالرغم من أن الرعب الذي نشرناه كان عظيما، فإن الهدف الذي كنا نريد تحقيقه وهو حملهم على الاستسلام، لم يتحقق).

وثورات هؤلاء الفلاحين العزل، الذين أحرقت مزارعهم وقراهم، وقتلت مواشيهم، وهدمت منازلهم، هي التي بقيت مصدر تهديد للجيش الفرنسي ذو الماضي العريق بالأمجاد العسكرية، والتاريخ الطويل بأعمال الإبادة. قال الدوق دورليان - وهو من طليعة الاستعماريين في فترة احتلال الجزائر: (إن هؤلاء الرجال، ذوي الحمية والبأس، أذاقوا الفرنسيين متاعب لم يعرفوها في كامل حروبهم الامبراطورية، وساهموا - أكثر من أي جيش نظامي آخر - في تدمير الجيش الفرنسي ... لقد كانوا يمنعون الجيش الفرنسي أن يذوق للنوم طعما، فكانوا يضطرونه للبقاء على قدم التحفز الذي لا يهدأ ..). لقد فشلت كل الوسائل التي استخدمها الفرنسيون زمن الاحتلال، لإخماد ثورات الفلاحين بالقوة. إذن، فما هو الحل الناجح لإيقاف هذه المقاومة الجبارة؟ لقد توصل الفرسيون أخيرا إلى الحل الذي وصفه - لاموريسيير - وهو من أوائل رجال الاستعمار في الجزائر أيضا - بقوله: (لكي نحقق تلك الغاية، فإنه يجب علينا استيراد مزارعين أوروبيين، لأنه ليس باستطاعتنا أبدا أن نثق بالأهالي ثقة تامة، ذلك أنهم على استعداد دائم للقيام بالثورة عند سماع أول كلمة بإعلان الحرب. فبين الغزو والاحتلال الحقيقي، يكون استسلام العربي مجرد استسلام مرحلي لا بد منه. إن السكان المسيحيين المزارعين - الفرنسيين - هم وحدهم الكفيلون بتحقيق أملنا في الاستقرار يوما من الأيام في الجزائر. يجب علينا إحضار أكبر عدد ممكن من المزارعين المعمرين، ونشجعهم بأن نقتطع لهم الأرض ونملكهم إياها حتى تتزايد أعدادهم). وهكذا، فإن الحل الذي توصل إليه الفرنسيون للقضاء على مقاومة الفلاحين هو في

تجريدهم من مصدر هذه القوة الجبارة. وهذا اللباس السحري هو في حرمانهم من الأرض التي كيفت شخصيتهم وأبرزتها إلى الوجود كشحنات من الطاقات الثورية الرهيبة. وصار العقاب الذي يسلط على القبائل الثائرة من بعد ذلك، هو انتزاع أرض هذه القبائل وطردهم منها، فمثلا فرضت على القبائل التي قامت بثورة سنة (1871) غرامة قدرها (36) مليونا من الفرنكات مع تجريدهم من أملاكهم التي قدرها المؤرخون الفرنسيون بنصف مليون هكتار (والهكتار يساوي فدانين ونصف الفدان في الجزائر). لجأ القادة الفرنسيون أيضا إلى إغراء المجندين في جيش الاحتلال، بمنح كل جندي أو ضابط حصته من أرض القرية المقهورة. وهكذا صارت أرض القرية تقتطع للضباط الذين يخمدون ثورتها، ويجلون أهلها عن ترابها. أما السكان، فكانوا يطردون إلى المناطق النائية عن العمران. وفي ذلك قال أحد الضباط الفرنسيين: (أما وقد عجزنا عن إخضاع الجزائريين، فلنقذف بهم بعيدا كالوحوش الضارية التي تطرد من الأماكن المأهولة. علينا أن ندفع بهم أمامنا مع تقدم العمران حتى نرميهم في الصحراء. ونبقيهم هناك إلى الأبد). انتشرت على أثر ذلك المضاربة بأراضي القبائل السليبة، لا سيما بين الضباط الفرنسيين. قالت زوجة الجنرال (برو) في خطاب أرسلته إلى أحد أصدقائها سنة 1834 ما يلي: (تسألني أيها الصديق عما وصلت إليه أعمال الاستعمار هنا، والحق أنها اقتصرت حتى الآن على الاستيلاء والمضاربة بالممتلكات. الناس يضاربون على الأراضي كما يضاربون في الأسواق على النبيذ واللبن. وقد تدهش إذا قلت لك أن أراضي - بليدة - قد بيعت إلى آلاف من الأفراد قبل

استيلاء جيشنا عليها. ويجد المشترون متعة في تركيب نظاراتهم المقربة، والوقوف على أعلى الهضاب التي تبعد مسافة ثلاثة فراسخ من - بليدة - لتنعم أعينهم بمشاهدة الأراضي التي دفعوا ثمنها، ولما يستولي عليها الجيش بعد. ويتوجه الكثيرون إلى مكان - التوثيق - لشراء مساحات من الأرض على أساس الوعود فقط. وهكذا نجد أن سهل متيجة - أو متوجة - وهو عبارة عن مستنقع - يبلغ طوله خمسة وعشرون فرسخا وعرضه نحو اثني عشر فرسخا، قد بيع عن آخره مقدما، ولم يبق على المشترين الجدد إلا أن يدفعونا للتقدم نحوه، فنقتل أونقتل في سبيل الحصول عليه). اكتشف الفرنسيون بعد مدة أن هذه الوسيلة لم تجد نفعا، مع صلابة الفلاحين، مع هذا العنصر المنتج والفعال - الدينامي - إذ أخذ الفلاحون بعد طردهم من أرضهم، يتجهون إلى مناطق أخرى، يستقرون بها، ويستصلحون بورها، ويستثمرونها بطريقتهم الجماعية التعاونية، ثم سرعان ما يتخذونها قاعدة للهجوم على جيش الاحتلال من جديد. ولقد تحدث (مالارمي) عن جماعات في شرق محافظة (قسنطينة) فرضت عليهم العقوبات من قبل. ثم أعاد (أولاد يحيى) تنظيمهم وجمع شملهم. وقال هذا (المالارمي): (لكننا سنعمل على إفقارهم. ففي ذلك الضمانة الوحيدة للمستقبل). لجأ الفرنسيون إلى حل ثان من أجل القضاء على ثورات الفلاحين وإخمادها. وهذا الحل هو استعمال التشريع (القانون سلاحا يدعم عمليات اغتصاب الأرض من الفلاحين. ففي 31 تموز - يوليو - 1872، صدر أمر بأن يضم إلى أملاك الدولة مجموع الأرض الخالية من العمران، والتي لا يستطيع أصحابها تقديم

سندات تثبت ملكيتهم لها قبل تموز - يوليو - سنة 1830. (السنة التي وقع فيها احتلال فرنسا للجزائر). وبطبيعة الحال، كانت الملكية الجماعية هي السائدة آنذاك، وهي لا تحتاج إلى سندات يحصل عليها الفلاحون لتثبت ملكيتهم للأرض. وما دامت الأرض ملكا للقبيلة، وللفرد حق الاستثمار فقط، وليس له حق البيع، وهو نظام تعاوني يخلق جوا من الانسجام والتعاون بين أفراد القبيلة، ويجعل منهم كتلة قوية متماسكة، ما دام هذا النظام هو السبب الرئيسي في قوة جبهة الفلاحين وصلابتها، فلتصدر القوانين التي تهدف إلى تفتيت هذا النظام الاجتماعي، وتؤدي إلى تمزيق هذا التجمع المتماسك، وتقلب كتلة القبيلة أو القبائل المتلاحمة إلى مجموعة أسر وأفراد متخاصمين متشاحنين، بالقضاء على الملكية الجماعية، وبتوزيع أرض القبائل بين أسرها وأفرادها، ثم إجازة بيعها. وكان نص قانون الاستيلاء على الأرض الجماعية هو التالي: (أليست الأراضي الشائعة التي تملكها القبيلة هي ملكية جماعية، وهي شيء ملك الله قبل كل شيء، وإذن فهي ملك للبايليك أي للدولة، فهي التي تمثل الله على الأرض، أليست القبائل تملك الأرض هذه ملكية جماعية لاستيلاء العرب عليها بالقوة من قبل؟ ومن جهة أخرى، ألا يجب أن تنتج أكثر من انتاجها وهي على هذه الحال؟ إذن، فلتعبر القبائل مستأجرة لهذه الأراضي من الدولة، وليس هناك ما يمنع الدولة من أن تقسمها وتديرها إدارة حسنة، وتصدر فيها سندات ملكية). لقد كان قانون سنة (1872) هو أخطر قانون دمر جبهة الفلاحين، وتظهر فظاعة هذا القانون من خلال تصريح أحد فلاحي قبيله (أولاد أرشاش) عندما قال معلقا على هذا القانون (لقد

تغلب الفرنسيون علينا في حقول السبيخه - وهي الأراضي التي كانت تمتلكها القبيلة التي طردت منها - وقتلوا شبابنا، وفرضوا علينا غرامات ثقيلة وضرائب فادحة، لكن كل هذا هين ولا يعد شيئا، والجراح لا بد لها من أن تلتئم ... لكن إنشاء الممتلكات الفردية الخاصة، والترخيص لكل فرد ببيع الأراضي التي تكون من نصيبه بعد اقتسامها، معناه إصدار قانون بإعدام القبيلة. فبعد عشرين عاما من بدء تنفيذ هذا القانون، سيكون أولاد أرشاش قد انقرصوا عن آخرهم). لم يكن قائل هذه المقولة خبيرا اقتصاديا، ولا باحثا أو فيلسوفا اجتماعيا، وإنما هو فلاح بسيط في الجزائر، عاش حياة الجماعة، وعرف أنها النمط الوحيد الذي يحافظ على وجود الفلاحين ويحميه من الانقراض أمام سياسة الإبادة المنظمة وأساليب الإفقار والتجويع التي اتبعتها فرنسا، وهي وحدها التي تضمن لهم القدرة لاستعادة قواهم، ثم استرجاع أراضيهم من أيدي المغتصبين الفرنسيين وما دام الفرنسيون قد أدركوا سر قوة القبيلة، عملوا على حلها، فقبيلته ستنقرض بعد عشرين سنة، وفقا لتوقعاته. وصل الفرنسيون إلى هدفهم، فحلوا الملكية الجماعية، وبحلهم لهذا النوع من الملكية، توصلوا إلى تفتيت جبهة الفلاحين، وخلقوا منازعات بينهم تطورت إلى حروب بين القبائل من أجل رسم الحدود الفاصلة بين الملكيات. وقد حفظ لنا الأجداد قصصا عن فظاعة تلك الحروب التي وقف الفرنسيون الاستعماريون وراءها، وعملوا على تغذيتها وزيادة عمق الخصومات فيها. وما لبثت مقاومة الفلاح لجيوش الاحتلال أن أخذت في الانحدار والتناقص (بعد ثورة سنة 1871). ولم يكد يحل العقد الأخير من

القرن التاسع عشر حتى كانت هذه المقاومة الإيجابية قد وصلت إلى نهاياتها. ثم جاءت فترة صمت، لم يسمع خلالها صوت يرتفع بالاحتجاج أو يطالب بحق. وقد يتبادر للذهن هذا السؤال: كيف حافظ الفلاح على ثوريته، بعد الضربات المتوالية التي وجهتها السلطات الاستعمارية الى كيانه الاجتماعي ونظامه الاقتصادي؟ .. وكيف يمكن للفلاح أن يبقى ثوريا بعد أن افتكت أرضه منه؟ أليست الأرض هي مصدر هذه الطاقات الثورية المتفجرة؟ .. والجواب هو أن الفلاح الذي تفتت كيانه الاجتماعي على أيدي قادة الاحتلال الفرنسي، لم يعدم بقية من آثار هذا الكيان المرتبط بالأرض، نقلت له في إطار تقاليد توارثها أبا عن جد، من خلال حلقات السلسلة التاريخية التي تربط عهد قيام كيانه الاجتماعي بتاريخه الحديث. إن الفلاح إذا ارتبط بالأرض ارتباطا وثيقا وسليما، وإذا دام هذا الارتباط مدة تمكنه من الإثمار، فقد حمل في نفسه آثارا عميقة لا يمحوها الزمن، ولا يزيلها تعاقب الأحداث. وكانت هذه الآثار شبيهة بما تركته الأشجار الباسقة من آثار في طول عنق الزرافة - بحسب نظرية داروين في النشوء والارتقاء وإن كنا لا نؤمن بها والا نعتقد بصحتها -. وإن الذي يعيش في قرية من قرى الجزائر، ثم تتاح له فرصة التأمل في بنائها الاجتماعي من الخارج، وفي العادات المتوارثة في هذا البناء، سرعان ما يدرك وجود بقية من تقاليد وعادات ترجع إلى عهد الحياة الجماعية للفلاحين. فبالرغم من أن كل فلاح له أرضه التي تفصلها عن أرض جاره حدود معينة، فإن مضمون العلاقات التي تربط بين الفلاحين بقي جماعيا. فنظام (الخماسة والقطاعة والجيارة والمزارعة والتويزة) كلها أنواع من التعاون والتكامل الاجتماعي في مجتمع القرية.

فنظام (الخماسة) يتيح لمن لا يملك أرضا يستثمرها، أن يشارك من يمتلكون أرضا في القرية بجهده، وبتطوعه للعمل فقط، ويسمى الخماس، ويحسب له صاحب الأرض هذا العمل كطرف في شركة. فيقوم الخماس بعملية الحراثة ورعاية الحقول طوال السنة. أما جمع المحصول، فإن طبيعة موسم الحصاد تقتضي التعجيل به. ولهذا فإن جمع المحصول لا يقوم به الخماس وحده، بل يشارك فيه صاحب الأرض. وإذا احتاج الخماس إلى مواد غذائية لأسرته، قبل حلول موسم الحصاد، قدمها له صاحب الأرض. ويتقاضى الخماس حمس المحصول مقابل عمله. ونظام (القطاعة) عبارة عن قيام صاحب العمل بجمع محصول الملاك، مقابل نسبة يتفق عليها الطرفان، وتتراوح بين سبع وثمن المحصول يدفعه صاحب الزرع (للمقاطعي) مقابل عمله. ونظام (الجيارة) عبارة عن علاقة تربط بين صاحب الحقل والعمال الزراعيين، وفي أغلب الأحيان يكون هؤلاء العمال غرباء عن القرية، جاؤوا إليها من مناطق أصيبت بالجفاف. ويقوم (الجيار) بعملية الحصاد فقط، أي حصد الزرع وتكديسه في الحقل، ويأخذ في مقابل هذا العمل عشر الأكداس التي جمعها. ولا تعتبر هذه النظم الثلاثة بأن العامل أجيرا يعمل ليبيع عمله نقدا، وإنما تدخله شبه ثشريك في محصول صاحب الأرض، وتمنحه نسبة معينة من هذا المحصول. أما نظام (التويزة) فإنها نوع من التعاون بين سكان القرية على حرث الحقول أو جمع المحصود. ويدعو الفلاح إلى (تويزة) ويحدد الجميع يوما معينا لذلك. ويتعاون كل سكان القرية على جمع المحصول. أما الفلاح الداعي إلى (التويزة) فيقوم بإحضار

الفطور إلى الحصادين في الصباح بالحقل. ثم يأخذهم إلى منزله عند الظهيرة ليتناولوا وجبة الغداء عنده. ومن شروط (التويزة) أن يتم جمع المحصول على أنغام المزمار، وتوجد ألحان خاصة (بالتويزة) تساعد على تنشيط الحصادين، وخلق جو التنافس بينهم. وقد أجري بحث في إحدى (التوائز) فتبين أن عامل الحصاد في التويزة ينتج أربعة أمثال ما ينتجه في يوم من أيام عمله العادية. وتتكفل القرية أيضا بحرث أراضي الأرامل واليتامى، وأراضي الأوقاف، وجمع محصولها. بل إن التعاون بين الفلاحين امتد حتى شمل الزواج والختان. فالشاب يستطيع أن يختار الفتاة التي تروقه، وإذا وقع الاتفاق بينه وبين ولي أمرها، فإن مسألة المهر لا تقف عائقا في طريقه. فسكان القرية يقومون بجمع المهر وتقديمه لولي أمر العروسة. إن هذه العلاقات التي تربط بين سكان القرية، تعتبر امتدادا للحياة الجماعية التي كان يحياها الفلاحون قبل دخول الفرنسيين للجزائر، وتفتيتهم لهذا النظام الجماعي، وهذه العلاقات الجماعية هي التي مارست دورها الرئيسي والحاسم في إنجاح ثورة الجزائر. وإلى جانب هذه العلاقات الاجتمامعية - وجدت بعض الخصال الأخرى - المتممة لها والناتجة عنها - في نفسية الفلاح، ساعدت على إنجاحه للثورة. وأهم هذه الخصال (الثقة بالنفس) فالمعروف عن الفلاحين في كل أنحاء العالم أنهم مصابون بعقدة (الشعور بالنقص) إزاء ابن المدينة، ينظرون إليه نظرتهم إلى إنسان حصل على مميزات لم تتوافر لهم فرصة الحصول عليها، كالثقافة والمدنية والثروة المستقرة. إلا أن الفلاحين بالجزائر شذوا عن هذه القاعدة، فهم يحتقرون ساكن المدينة، ويسمونه (البلدي).

ومضمون كلمة (البلدي) في ذهن الفلاح هو خليط من الميوعة والبخل والانحلال وضعف الشخصية. لقد كان الفلاحون يحبون الاستماع إلى كلمة (الاستقلال) من هؤلاء (البلديين). ولكنهم كانوا في الوقت ذاته يسخرون من وسائلهم للحصول على هذا الاستقلال، ويؤمنون إيمانا راسخا بأن الاستقلال يأتي على أيدي الفلاحين. والفلاحون وحدهم هم الذين يملكون الوسائل التي تمكنهم من طرد فرنسا وجيشها وشرطتها - بوليسها - من الجزائر. كنت - قبل الثورة - أوزع في إحدى الجولات الانتخابية على الفلاحين، نشرات الدعاية لمرشح وطني، وكنت ألاقي من الفلاحين - في معظم الأحيان - سخرية من الانتخابات، واحتقارا للأحزاب التي شاركت فيها. إلا أنني لن أنسى أبدا حادثة وقعت لي مع فلاح عجوز:1 (ناولته الورقة، وشرحت له كيف يضع هذه الورقة في الظرف ثم يلقيها في صندوق الاقتراع. ثم ألقيت عليه خطبة حول إخلاص المرشح ووطنيته، وكيف سلخ سنوات من عمره في السجن، وعن مواهبه الخارقة وجدارته في تحقيق الاستقلال بسرعة). واستمع إلي الفلاح العجوز في هدوء. لم تتحرك أثناءه عضلة واحدة من عضلات تقاسيم وجهه. ثم رفع إلي عينيه الخضراوين، وقال وهو يضع التبغ في الورقة التي أعطيتها له قبل قليل، ويلفها، ويقول: (إن هذه الورقة لا تصلح إلا للف الشعرة - التبغ -) وأردت أن أثور في وجه هذا الفلاح الذي أهان مرشحي البطل .. لكن الفلاح العجوز أوقفني بإشارة من يده، وقال وهو ينفخ أول خيط دخان من فمه، ويتابعه بنظراته، ويشير إلي بسبابته الخشنة: (إن كل مجهوداتكم هذه تتلاشى مع خيوط هذا الدخان الأزرق في الفضاء الواسع .. إذا أردت الاستقلال،

فأعطني بندقية، وأنا كفيل بأن أحضر لك هذا الاستقلال، وأطرد الفرنسيين من الوطن). ثم انطلق الفلاح العجوز وتركني جامدا في مكاني أتابع ببصري خيوط الدخان المتلاشي في الفضاء الواسع، وأضغط على رزمة المنشورات في يدي بعصبية. إن شهامة الفلاح جعلته ينظر إلى فشل أول جولة في الانتخابات، كصفعة وجهها إليه ساكن المدينة (البلدي). لقد صدق أسطورة الانتخابات في أول الأمر. ولكن سرعان ما تركها واعتبر دعوة ساكن المدينة المستمرة لها سلسلة من العبث غير المجدي والسخرية. وثارت تونس في سنة 1952، أي قبل ثورة الجزائر بسنتين، وتبادرت إلى أسماع الفلاحين حوادثها محاطة بهالة من الأسطورة المحببة لدى الجماهير البسيطة، فانطلقت أفواج هؤلاء الفلاحين تخترق حدود تونس إلى معاقل جيش التحرير التونسي، لتحارب جيش الاستعمار. ويكفي أن نعرف أن (الأزهر شريط) أحد أبطال (معارك الجرف) الخالدة، وقائد منطقة الجبل الأبيض، كان يحارب في صفوف جيش التحرير التونسي قبل غرة نوفمبر - تشرين الثاني - 1954. واعتبر الفلاحون بالجزائر تقاعس شعبهم، في الوقت الذي تثور فيه تونس ومراكش - المغرب - لطخة من العار. وكثيرا ما كان الفلاح يصرخ عند سماعه إذاعة (صوت العرب) عن أنباء تونس والمغرب (ألسنا رجالا؟ هل التونسيون والمراكشيون أرجل منا؟). بدأ شباب جيش التحرير الوطني في الإعداد للثورة، منذ بداية سنة 1954، وانطلقوا في عملهم إلى القرى، فوجدوا الفلاحين يتقدون حماسة للثورة، ويهتاجون كالبراكين، ويترقبوا شارة

الانطلاق ليثبتوا للعالم أن الجزائر ستبقى غنية بأبطالها ومجاهديها. وما إن أعلنت ساعة الصفر حتى انطلق هذا الفلاح البسيط يمنح الفعالية والقوة، لا لثورة الجزائر فحسب، بل وللثورة العربية في كل بقاع العالم العربي. وراح الفلاح يفتح الجبهات الجديدة، من غير أن ينتظر تكليفا أو أمرا من القيادة، وما هي إلا شهور قليلة حتى كانت جبال الأوراس والنمامشة وشمال قسنطينة وجرجرة تنطلق بحسم الثورة ممتزجة بألحان الحرية. ويبقى للفلاح الجزائري الفضل في استمرار الثورة وتجاوزها للصعوبات والعراقيل، واختراقها للستار الحديدي الذي فرضه الاستعمار على الثورة الجزائرية. فلقد صمد الفلاح لسياسة التجويع والتشريد والإبادة. وكانت الروح التعاونية السائدة بين الفلاحين هي التي كفت جيش التحرير الوطني مؤونة البحث عن الملجأ والطعام واللباس. ولم يكن غريبا أن تتعرض المناطق لنقص في التموين والمواد الغذائية، حيث كانت المناطق التي تجتاحها القوات الفرنسية تستيقظ فجأة فتجد أن ما تمتلكه من المواد الغذائية قد نفذ في لحظة واحدة. وهنا كان يسرع الأغنياء، ومن تمكنوا من الحفاظ على احتياطي من الحبوب أو النقود، لتقديم العون، فيتقاسمون مع بقية سكان العربية لقمة العيش، إلى أن طلع عليهم يوم، وأكياس سكان القرية، كل قرية، غنيهم وفقيرهم، ملاكهم ومعدمهم، وهي خالية من الزاد، فارغة من التموين. كان الفلاحون، في الوقت الذي يشاهدون فيه فلذات أكبادهم يتضررون جوعا، يرسلون الوفود إلى قادة جيش التحرير، ليقولوا لهم بالحرف الواحد: (إياكم أن تتوهموا ضعف معنوياتنا فتراودكم نفوسكم على التنازل، استمروا في الكفاح، اثبتوا على الاستقلال

الكامل. والله معنا). حكى أحد الزعماء الجزائريين القصة التالية: (قابلت مرة أحد الفلاحين، وشكا لي حاله، وكيف قتل الفرنسيون كل أبنائه، ودمعت عيناه. فسألته رأيه في الاستقلال الداخلي. فأجابني والدموع تنهمر من عينيه: إن الدموع لا تجففها سوى راية الاستقلال التام). لقد أدى شعب الجزائر واجبه كاملا في ثورة العرب المسلمين بالجزائر. وأبيد منه أكثر من مليون مواطن، ودمرت قراه، وأتلفت ثرواته، واعتدي على شرف بناته، ومثل به أشنع تمثيل، وعلى الرغم من ذلك كله، فإنه لم يضعف، ولم يهن، ولم يتراجع، حتى حقق هدفه (في الاستقلال). ... يبقى هناك تعليق لا بد منه، إن الفلاح الجزائري، مثله كمثل كل فلاح في الوطن العربي - الإسلامي، يمثل أصالة الإنسان العربي المسلم. فالفلاح، بطبيعته المحافظة، وبفضائله التي يمتلكها (كالشرف والإخلاص وصفاء النفس والوفاء) علاوة على ما سبقت الإشارة إليه من فضائل معروفة (الإباء والنزوع إلى الحرية والأخذ بالثأر ورفض الذل والخضوع إلا لله وحده)،كل ذلك مما أسهم في حفاظ الفلاح على أصالته. ولم يكن من الغريب أن تحتفظ (قسنطينة - قاعدة ابن باديس) و (الأغواط) في قلب الصحراء وعلى تخومها، ومناطق القبائل الكبرى، بكل أصالة الإنسان المسلم. وهي الأصالة التي أعطت للثورة زخمها واندفاعتها رغم كل المحاولات لتشويه هذه الحقيقة والتنكر لها.

لقد استطاع الفلاح الجزائري الصمود في وجه التحديات الثقيلة بفضل تمسكه بفضائله الإسلامية، وهي الفضائل التي يحتل (حب الأرض) والدفاع عن (بلاد المسلمين) في طليعتها، وبغير ذلك، لا يمكن فهم اندفاع الفلاح الجزائري لمساندة أخيه المجاهد في تونس والمغرب، وبغير ذلك أيضا، يصبح من المحال فهم الدعم المتبادل الذي استمر طوال الثورة ما بين الجزائر وجارتيها المغرب وتونس، والذي بقي الفلاح هو سدى هذا التعاون ولحمته، وهو العامل الذي سيبقى أبدا وسيلته وغايته. ***

الطفل الجزائري ضحية الاستعمار

10 - الطفل الجزائري ضحية الاستعمار (*) تعرض آلاف الأطفال الجزائريين لآلام مدمرة، من جراء الحرب الاستعمارية القذرة التي فرضتها فرنسا على الجزائر. وكان الطفل أبرأ ضحية أصابتها الوحشية الاستعمارية التي طالما مارسها جيش المجرمين والجلادين الفرنسيين بالجزائر. وكثيرا ما أصبح يتامى هذه الحرب وهم مشردون يجوبون طرقات المدن والقرى الجزائرية على غير هدى. وقد جاء في تقرير نشرته لجنة الدفاع الوطني لمجلس الشيوخ الفرنسي، تحقيقات عن مآسي مرعبه عاشها هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين فقدوا المأوى والملجأ، ورأوا بأعينهم آباءهم يعدمون، فحفرت تلك المناظر المفزعة في مخيلاتهم وقلوبهم، فهم لن ينسوها أبدا. وقد فرت آلاف عديدة من هؤلاء الأطفال مخترقين الحدود التونسية والمغربية؛ هاربين من وحشية الاستعمار الفرنسي. فاهتم الاتحاد العام للعمال الجزائريين بمصيرهم، وأسس دارين بالمغرب تضمان مائتي يتيما، ودارين بالمرسى (تونس) تضمان نحوا من مائتين وستين يتيما وهو مشروع

_ (*) المرجع الأساسي لهذه الفقرة: مجلة (الشبانب) الجزائرية. العدد الخامس - نوفمبر - 1959 ص 10 - 13.

جيش التحرير يحارب بيد ويبني بيد أخرى تعليم اللغة العربية لأبناء المستقبل

اجتماعي إنساني عظيم استحق التشجيع المعنوي والدعم المادي. لأن معظم هؤلاء الأطفال هم أبناء الشهداء الأبرار: شهداء الحرية والاستقلال، وأعمارهم تتراوح بين الرابعة والسابعة عشر. وقد عمل الاتحاد بعد ذلك على إعداد دارين للبنات إحداهما بتونس والأخرى بطنجة. وقامت هذه المدارس بإعداد الأطفال من الناحية التعليمية، باللغتين العربية والفرنسية، وفقا لمنهج التعليم الابتدائي الشامل لجميع المواد: الدين، والحساب، والجغرافيا، والتاريخ، والتربية البدنية والرياضة، والتعليم المهني: البناء والكهرباء والنجارة والدهن والخياطة والفلاحة. كان الأطفال يمارسون تطبيق هذه المهن في المدرسة ذاتها، أو في الحديقة الواسعة المحيطة بها، يشرف عليهم معلمون ومدربون أكفياء. وكان هناك مرشدون - موجهون - يشرفون على توجيه الأطفال وتدريبهم على الحياة العملية حتى أصبحوا يباشرون بأنفسهم العناية بتنظيف دار - المدرمة - وحفظ الأثاث والطبخ والتموين، ويسهر على صحة الأطفال طبيب خاص يساعده ممرض. وفي ميدان الشباب، فإن المكتب العام لاتحاد العمال، عمل على تنظيم جمهرة من الشبان، ووزعهم بحسب إمكاناتهم ومؤهلاتهم على عدد من العواصم الأوروبية لتكوينهم وإعدادهم إعدادا يلبي احتياجات مرحلة ما بعد الثورة، مثل العمل في الخطوط الحديدية والبريد والصحة والطيران المدني والسينما، وتدريب الفتيات على أعمال الخياطة والأعمال الإدارية والكتابة على الآلة الراقنة - الكاتبة - ونحوها. وأظهر الاتحاد حرصه الكامل على إعداد نخبة من الشباب للإطارات النقابية إعدادا تتوافر فيه الصفات الفكرية والنضالية

والمعلومات الواسعة عن الحقائق التاريخية والاقتصادية والاجتماعية للوطن الجزائري وللعالم المعاصر. من ذلك أنه أقام ندوة دراسية ثانية بمركز (بئر الباي) من 19 تموز - يوليو - حتى 2 آب - أغسطس - 1959 حضرها وزير الأخبار للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وكان من أهم موضوعات البرنامج الدراسي لهذه الندوة: (التكوين النقابي الأساسي للنقابات في المغرب العربي، وتاريخ الحركة العمالية الإفريقية، والحركة العمالية الفرنسية وكفاح الطبقة العاملة في العالم، والنظريات الاقتصادية: الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، وكذلك أنظمة التأمين الاجتماعي وحالة العامل الزراعي الجزائري، والتجارب المصرية والصينية واليوغوسلافية للإصلاح الزراعي. وعرضت على المشتركين في الندوة أشرطة سينمائية ثقافية. وبالجملة فإن الاتحاد العام للعمال الجزائريين قد سار من نجاح إلى نجاح بفضل نشاطه لدى المنظمات النقابية في العالم، والتي أمدته - باستمرار - بالاعلانات المختلفة لتحقيق مشاريعه الكثيرة، القريبة منها والبعيدة.

المجاهدون - يتعاملون مع العدو

الفصل الثاني

الفصل الثاني 1 - أعمال قتالية في الولاية السادسة. 2 - معركة في أكفادو. الولاية الثالثة. 3 - الحرب في الولاية الثانية. 4 - مهمة على موجات الأثير. 5 - مهمة في الأغوار. 6 - بطل من الأبطال

أعمال قتالية في الولاية السادسة

1 - أعمال قتالية في الولاية السادسة تضمنت الكتيبات السابقة من هذه المجموعة تقارير وجيزة عن مسيرة الأعمال القتالية وتطورها. ولعله من المناسب هنا عرض وجيز يشير إلى تطور الأعمال القتالية في مرحلة متقدمة من الثورة (سنة 1960) وفي ولاية من ولايات الكفاح (هي الولاية السادسة -أو عمالة الجنوب) (¬1). وتجدر الإشارة إلى أن هذا الوجيز يضم بعض ملامح العمليات - لا كلها - وهي تمثل نموذجا لتطور الصراع في تلك الحقبة التاريخية: 19/ 12/ 1959: التحق أربعة جنود جزائريين كانوا مكلفين بحراسة محطة قطار (الجلفة) بجيش التحرير الوطني، حاملين معهم الأسلحة التالية بندقية رشاشة 24 - 29 ومعها عشرون مخزنا مملوءا و950 طلقة عيار (7،5) مم وكذلك (7) مسدسات رشاشة نوع (ماط - 49) و1400 طلقة عيار 9 مم، و (5) بنادق (ماص 51) وألبسة وأدوية. 18/ 1/ 1960: فر جنديان جزائريان من مركز العدو في ¬

_ (¬1) المرجع: نشرة (صدى الجبال) العدد الثاني - الصادرة عن أركان حرب الولاية السادسة لجيش التحرير الوطني - ص 12 - 19.

(حجر الملح) شمال (الجلفة) وانضما الى جيش التحرير الوطني، حاملين معهما بندقية (ماص - 49) و (كاربين أمريكية) وذخيرتهما. 27/ 2/ 1960: فر حركي من مركز العدو في (سليم) شرقي (الجلفة) والتحق بجيش التحرير الوطني حاملا معه بندقية (أخماس ألمان) وذخيرة. 20/ 3/ 1960: فر جنديان جزائريان من جيش العدو في ناحية (المغير) قرب (تقرت) والتحقا بجيش التحرير الوطني، وصحبا معهما رشاشتين نوع (ماط - 49). 10/ 4/ 1960: حصل اشتباك عنيف بين وحداتنا وقوات العدو في (جبل أبو - كحيل) وقد بوغت العدو، وداخله الرعب من المجاهدين الذين لم يتمكن من اكتشاف مواقعهم، فلم يتمكن من القيام بأي رد فعل، وقد قتل من العدو أكثر من أربعين جنديا، وجرح عدد كبير، وأسقطت طائرتان. وفي هذا الاشتباك الذي استمر من الساعة (1345) حتى السابعة (1900) وبمشاركة قوة هائلة للعدو، سقط مجاهدان في ميدان العز والشرف وجرح ثلاثة آخرون. 17/ 4/ 1960: نصت وحدة من الفدائيين كمينا في قلب مدينة (أبو سعادة) قتل أثناءه أربعة من جنود العدو، وثلاثة ضباط برتبة ملازم (ليوتنان) أحدهم فطلي كان يعمل في الاستنطاق (التحقيق) المدني والعسكري. وثانيهم من المكتب الثاني (الاستخبارات العسكرية) وانسحب المجاهدون سالمين. وفي المدينة ذاتها قام فدائي بإعدام ضابط من ضباط (مكتب الشؤون

الأهلية) برتبة نقيب - كابتن -. 18/ 4/ 1960: هاجمت وحدة من جيشنا عصابة للعدو - قتل واحد وأسر واحد - وبعد استجوابه تمكنا من غنم (43) بندقية حربية وكمية من الذخيرة. 20/ 4/ 1960: في (جبل تفارة) شرقي (الجلفة) اشتبك العدو بأربعة من جنودنا كانوا في طريقهم الى مقر قيادتهم حاملين معهم كمية من الأسلحة والذخيرة والأجهزة اللاسلكية. وسقط مجاهد في الميدان، ونجا اثنان. أما الرابع - وهو المجاهد العيد خير الله - فقد انتحر بآخر طلقة كانت معه، بعد مقاومة بطولية عنيدة، ذلك أنه كان قد وعد رئيسه - مسؤوله - بأنه سينتحر إذا رأى أن هذه الغنيمة مهددة. وفي الواقع، فقد عمل على تخزين هذه الغنيمة هو وأحد الجنديين السالمين، وبذلك تمكن هذا البطل من انقاذ هذه الغنيمة بفضل تضحيته. 14/ 5/ 1960: انضم إلينا ستة جنود جزائريين بعد أن فروا من مركز العدو في (ورقة) قرب (منعة) وحملوا معهم (6 - ماص 49) و (1200) طلقة عيار 5, 7 مم وكمية من القنابل اليدوية. 26/ 5/ 1960: قامت قوة من جيشنا بقذف أكبر مركز للعدو في مدينة (أبو سعادة) بمدفع الهاون 81 مم، فكانت خسائر العدو مؤكدة. وفي اليوم ذاته والمكان ذاته، نصبت فرقة من الفدائيين كمينا لقافلة معادية وكبدتها خسائر مؤكدة. 29/ 5/ 1960: رمى فدائي من الأنصار (المسبلين) قنبلة يدوية على صندوق الانتخاب في مركز (عين أغراب) ناحية (أبو سعادة) فقتل جنديان للعدو وإثنان من الخونة. وفي موجة من الرعب

والحقد، حاول جند العدو قتل عدد من المدنيين الذين أجبروا على الحضور. وآنذاك برز الفدائي عبد القادر عميد بن أحمد بن الحاج من عرش أولاد أفرج، البالغ من العمر ستة عشر عاما، وصرخ في وجه الأعداء قائلا: أنا الذي رميت القنبلة. وقد ألقى المستعمرون عليه القبض، ولكنه أنقذ بشجاعته وتضحيته عددا من الأبرياء. 3/ 12/ 1960: اصطدمت سيارة (ج. م. س.) معادية بلغم على طريق (جبل اقعيقع) قرب (الجلفة) فدمرت السيارة وقتل جميع ركابها. 19/ 12/ 1960: نصب المجاهدون كمينا لقافلة معادية في مدينة (أولاد جلال) فقتل للعدو سبعة جنود. 20/ 12/ 1960: التحق جندي جزائري بصفوفنا، بعد أن فر من مركز العدو في (أبو سعادة) وحمل معه بارودة (ماط 490) و (194) طلقة. 22/ 12/ 1960: نصبت وحدة من جيشنا كمينا لقافلة معادية في مدينة (أبوسعادة) وقتلت سبعة جنود للعدو. 24/ 12/ 1960: قام فدائي بإلقاء قنبلة في (بسكرة) فقتل ثلاثة جنود للعدو وجرح ستة. 26/ 12/ 1960: انفجر لغمان بين (الهامل - و - أبو سعادة) فدمرا عربة نصف مجنزرة (هاف تراك) و (سيارة ج. م. س). 30/ 12/ 1960: نصب المجاهدون كمينا للعدو بين (ولتام - وبين اسرور) قرب (أبو سعادة) في الساعة (1200) تم نصب كمين ثان في الساعة (1600) وتكبد العدو خسائر فادحة

في الكمينين. 3/ 1/ 1961: فر جندي جزائري من مركز العدو فى (الجلفة) وانضم إلى صفوفنا حاملا معه بندقية (قاران) و (48) طلقة. 7/ 1/ 1961: هاجم فوج من المجاهدين قرية (بحبح) قرب (الجلفة) فأسر رقيبا من القوم (سرجان شيف) وغنم المسدس الذي كان يحمله. 10/ 1/ 1960: أسقطت طائرتان للعدو في جبل (أم ساعد) بينما كانتا تقومان بالاستطلاع. 17/ 1/ 1961: اصطدمت سيارة عسكرية معادية بلغم على طريق (أبو ملال - وادي الشعير) فدمرت السيارة. وخسائر العدو البشرية محققة. 19/ 1/ 1961: أقام فوج من الفدائيين كمينا لقافلة من اللفيف الأجنبي في مدينة (أبو سعادة). وأوقعوا بها خسائر فادحة. وأثناء انسحاب الفدائيين، اصطدموا بدورية معادية أخرى، فتبادلوا معها إطلاق النار، وقتلوا ضابطا برتبة نقيب. 1/ 2/ 1961: خاضت وحدات من جيشنا معركة عنيفة ضد قوات العدو في (جبل أبو كحيل) واستمر الاشتباك من الساعة (1200) حتى الساعة (300) من فجر اليوم التالي. وقتل للعدو مائة وعشرة جنود، وجرح عدد كبير آخر. وغنمنا بارودتين (ماص - 49) و 3 مخازن رشيشات (24 - 29) معبأة و 800 طلقة ومنظارين. وكان بين قتلى العدو ضابط من القناصة (ليوتنان

شاسوري) غنمت كل وثائقه مع أعتدة كثيرة، علاوة على ما أحرق منها. 12/ 2/ 1961: قتل الفدائيون اثنين من جند العدو في (أبو سعادة) وغنموا سلاحهما (بارودتين ماط 49). 22/ 2/ 1961: هاجم فوج من المجاهدين قرية (زنينة) قرب (الجلف) فقتلوا سبعة من قوات (القوم) وجرحوا خمسة منهم وأسروا واحدا وغنموا ثمانية بواريد (ماص 51) و 85 طلقة. ولم تقع إصابة في قواتنا. 28/ 2/ 1961: هاجم المجاهدون قوة من (القوم) فقتلوا ثلاثة منهم، وغنموا ثلاثة بنادق (موسكيتو) وذلك بين (وارو) و (الجلفة). 18/ 3/ 1961: اشتبك أربعة من مجاهدينا مع وحدة للعدو في (جبل أبو كحيل) فقتل جنودنا عددا من أفراد العدو، وأصابوا عددا آخر بجراح، وأسقطوا طائرة استطلاع وقتلوا ملاحيها الأربعة، واستشهد لنا مجاهدان. 2/ 3/ 1961: قام جيش الاحتلال بتطويق خمسة من مجاهدينا في (جبل أحمر خدو) بناحية (أمشونش) واستمر الاشتباك خمس ساعات تكبد العدو خلاله عددا من الخسائر في الأرواح بين قتيل وجريح. أما من جانبنا فقد استشهد ثلاثة من المجاهدين، ونجا واحد، أما الخامس وهو البطل - سي علي قاله - مسؤول مكتب المنطقة الرابعة فقد انتحر بعد أن أيقن أنه سيصير في قبضة العدو، وذلك محافظة على الأسرار.

10/ 4/ 1961: قامت وحدة من جيشنا بنصب كمين بنواحي (وادي الشعير) ثم شنت هجوما على مركز للعدو في (أبو ملال) ناحية (أبوسعادة) وقتل للعدو ثلاثة جنود، وجرح أربعة. 18/ 4/ 1961: نصب الفدائيون كمينا لثلاث سيارات عسكرية في (أبو سعادة) فقتلوا خمسة من جند العدو، وأصابوا أربعة منهم بجراح مختلفة. 13/ 5/ 1961: انفجر لغم تحت سيارة للعدو نموذج (ج. م. س) بين (سليم) و (عين مجدل) قرب (الجلفة) وتحطمت السيارة وقتل عدد من ركابها. 19/ 5/ 1961: خاضت قواتنا معركة عنيفة ضد قوات الاحتلال في (جبل أبو كحيل). وقد بدأت المعركة في الساعة (830) صباحا واستمرت حتى الساعة (2400) في منتصف الليل. واشتركت فيها (45) طائرة ومئات الدبابات والسيارات المختلفة، وقتل للعدو ثمانين جنديا وجرح عدد آخر. وغنمت وحداتنا جهازا لاسلكيا صغيرا وبارودة (ماص 56) و (ماط - 49) ومسدسا آليا - أوتوماتيكيا. وكمية من الأدوية والأعتدة التي فر الجنود الأعداء وتركوها فوق أرض المعركة، وأخرق للعدو جهاز لاسلكي آخر. واستشهد عدد من مجاهدينا. وانضم لقواتنا في شهر نيسان - ابريل - 1961 ثلاثة جنود جزائريين من صفوف العدو، أحدهم من مركز (أبو سعادة) والآخران من مركز في مدينة (بسكرة) وحملوا معهم من الأسلحة: (ماط 49) و (ا - ب. 38) و (3 ماص 56) ومسدسا أوتوماتيكيا. 24/ 5/ 1961: ألقيت قنبلة يدوية في مقهى أوروبي في مدينة

(ورقلة) وقتل رجل وجرح ثلاثة عشر آخرين. 27/ 5/ 1961: ألقيت قنبلة يدوية على مركز للعدو في (ورقلة) فقتل ثلاثة جنود للعدو وجرح (20) جنديا. 27/ 5/ 1961: انفجر لغم قرب (ابن سرور) شرقي (أبو سعادة) فتحطمت سيارة عسكرية للعدو. 29/ 5/ 1961: أقامت وحدة من مقاتلينا كمينا لقافلة من قوات العدو على الطريق بين (عين الملح) و (وادي الشعير) فقتلت خمسة من جنود العدو وأصابت ثلاثة منهم بجراح. 30/ 5/ 1961: نصب فدائيونا كمينا للعدو في قلب مدينة (أبو سعادة) وقتلوا أربعة وجرحوا أربعة من جند العدو. 3/ 6/ 1961: سقطت سيارتان للعدو في خندقين كان قد أعدهما المجاهدون، ودمرت السيارتان، وقتل وجرح عدد من ركابهما وذلك في جبل (أم ساعد). وفي الوقت ذاته، إشتبكت دورية من جنودنا مع قوات العدو، ولم تضبط خسائر العدو. واستشهد أربعة من مجاهدينا. 10/ 6/ 1961:اشتبك مجاهدونا مع العدو على بعد عشرة كيلومترات شمال (المغير) ناحية (تقرت) واستمر الاشتباك أربعة ساعات ونصف. وخسر العدو (35) قتيلا، وجرح من جنوده (18) جنديا. واستشهد من جانبنا ثلاثة مجاهدين من بينهم اثنان من رجال الدرك، ووقع في أسر العدو اثنان آخران من الدرك. 18/ 7/ 1961: انضم إلى صفوفنا ثلاثة جنود جزائريين، كانوا في مركز العدو (بحد الصحارى) قرب (الجلفة) وحملوا

معهم أربعة أسرى من العدو، ورشيشا (24 - 29) وبارودة (ماص 56) وبارودة (ماص 49) وبارودة (ماص 36) وبارودتي (ماط 49) وكمية من الذخائر. 19/ 7/ 1961: وقع اشتباك بين المجاهدين وقوات العدو في (العطف) قرب (غرداية) في الصحراء المجاهدة وتكبد العدو خسائر فادحة، لم نتمكن من ضبطها، واستشهد عدد من المجاهدين. 12/ 8/ 1961: انضم إلى صفوفنا ثلاثة من الجنود الجزائريين الذين جندهم العدو، من مركز (مسعد) وحملوا معهم ثلاثة بواريد (ألمانية) و3 بواريد (ماط 49) وألف طلقة ووثائق هامة وألبسة. ... إن استعراض الوجيز السابق يظهر مجموعة من الحقائق التي التصقت باستراتيجية الثورة الجزائرية، ولازمتها خلال مراحلها المختلفة وأهمها: 1 - استنزاف قدرة العدو الاستعماري بصورة مستمرة، وتدميره ماديا ومعنويا عن طريق مجموعة كبيرة من العمليات الصغرى. ووضع قواته مستنفرة تحت ضغط الخوف من الضربة المباغتة. 2 - تجنب الالتحام مع العدو، قدر المستطاع، بعمليات كبرى، وعدم تمكينه من استثمار تفوقه الساحق بالقوى والوسائط من أجل سحق قوات الثورة وتدميرها. 3 - استثمار عاملي (الطبيعة الجغرافية) و (التكوين السكاني) لمعادلة التفوق الذي كان يمتلكه العدو الفرنسي بالقوى والوسائط.

4 - الاستمرار في عزل العدو عن السكان (المسلمين) الأمر الذي يظهر واضحا من خلال التركيز على ضرب القوات التي استطاع العدو تجنيدها في صفوفه من الجزائريين (جماعات القوم والحركة) وإقناع هذه القوات في الوقت ذاته بالانضمام الى ثورة الشعب الجزائري. 5 - التزود بالسلاح والتموين على حساب العدو - الغنائم -. 6 - حماية قوات الثورة بمجموعة من التدابير الأمنية - الاستطلاع والجاسوسية - وبتجنب الاشتباك في الوقت ذاته مع قوات متفوقة للعدو.

معركة في أكفادو الولاية الثالثة

2 - معركة في أكفادو الولاية الثالثة (*) تقرر عقد مؤتمر للقادة في غابة أكفادو يوم 25 تشرين الأول -أكتوبر - 1958 ليضم (العقيد سي عميروش) والمقدم (فاضل حميمي) و (سي الحسين) قائد المنطقة الأولى (القبائل الكبرى) والنقيب (سي مهند السيد) والملازم (سي عبد الحفيظ) الخ .. وغيرهم من قادة الولاية الثالثة. وقد وصل هؤلاء المسؤولين في عشية اليوم المقرر للاجتماع. ما إن ظهرت شمس هذا اليوم على الأفق، في الصباح، حتى أخذت طائرة استطلاع في التحليق فوق الغابة، وتبعتها طائرة ثانية، فثالثة، وكانت كلها تحلق جيئة وذهابا فوق غابة أكفادو والدواوير المحيطة بها مثل: (طفرا) و (عيط منصور) و (بني أوغليس). وكان أحد الأفواج بقيادة (سي عميرا) قد اصطدم منذ الصباح المبكر بعناصر من القوات الفرنسية. ووصلت أسماعنا بضعة رشات من نيران المسدسات الرشاشة، فأصدر (سي عميروش) أوامره، وانتشرت السرايا في الغابة على شكل مجموعات صغرى لاحتلال

_ (*) REC ITS DE FEU (S.N EL MOUDJAHED) ALGER 1977. P.P. 115 - 118 PAR EI-HaDi OUGUERGOUZ.

كافة النقاط الاستراتيجية. ونشر الفرنسيون كافة قواتهم، غير أنهم عجزوا عن اختراق غابة (أكفادو). كان القتال قد أصبح محتدما في (طفرا). فتوجهت سرية على الفور إلى أماكن الاشتباك بهدف تحرير إحدى سرايانا التي وجدت نفسها مطوقة، ومحاصرة، في قرية مجاورة. وكانت هذه السرية تضم الملازم (طاهر عميروش) أمين سر الولاية الثالثة والملقب (بالشوارب) وكذلك المقدم (حمامي - أو حميمي) التي جاء عوضا عن (عزرور تاغات). وكانت القمة العليا في الإقليم تهيمن على (وادي الصومام) وتهيمن على كافة تحركات قوات العدو. وكانت الطائرات القاذفة تمزق حجب السماء، وهي تقذف (النابالم) في كل مكان. وكان لا بد من إخلاء غابة (أكفادو) في الليل، إذ أن المعلومات المتوافرة والتي أمكن الحصول عليها في النهار، قد أكدت أن العدو يتابع دعم قواته وتعزيز مواقعه، حيث استمرت القوات الفرنسية في التدفق على (أديكار) و (تاوريرت - إيغيل) و (أسيف الحمام) و (عيط إيدجر) إلخ .. وهكذا، فما إن هبط الليل، حتى تجمع جنودنا، وانتظموا في رتل أحادي، مع ترك مسافة كافية ما بين الجندي والجندي الذي يليه، وأخلينا الغابة، وأخذنا في اختراق مواقع العدو، ونحن متجهين إلى (بورت غويدون). غير أننا لم نكد نسير مسافة كيلومترين فقط داحل الغابة، حتى انطلقت أصوات رشتين من مسدس رشاش، وسقط الثلاثة جنود الذين كانوا يسيرون في المقدمة وهم يزمجرون لما أصابهم من جراح. وأصيب آخرون بجراح غير قاتلة، غير أنهم باتوا عاجزين عن التقدم بسرعة. واستمر جند الأعداء الفرنسيين في إطلاق نيران مسدساتهم الرشاشة، فكانت

رصاصاتهم تضيء كالشرر وسط ظلمة الغابة. واستخدم المجاهدون الأربطة الفردية لتضميد جراحهم وإيقاف نزفها. وتقدم المجاهدون لمساعدة إخوانهم الجرحى، فحملوهم إلى مكان مأمون، وتركوا معهم ممرضا للعناية بهم في ملجئهم، وأقام هؤلاء الجرحى ثلاثة أيام بلياليها في هذا الملجأ وهم محرومين تقريبا من الطعام والماء، حتى إذا ما جاء اليوم الرابع، وهو يوم 28 تشرين الأول - أكتوبر - انتهى الفرنسيون من عملية (المسح) أو (التمشيط) وكان من حسن حظ الجرحى أن العدو لم يتمكن من اكتشاف ملجئهم. وعاد المجاهدون فحملوا إخوانهم الجرحى إلى مركز قيادة الولاية الثالثة، حيث تجمع ستون من الجرحى تقريبا، وفي الليل نقل هؤلاء جميعا إلى مناطق مأمونة جدا، بهدف تقديم العناية الطبية اللازمة لهم، حتى تندمل جراحهم، ويستعيدوا قوتهم ويستأنفوا جهادهم. بدأت عملية نقل رتل الجرحى في الليل، غير أن هذا الرتل لما يبلغ الطريق العام حتى أنذره المراقبون ورجال الاستطلاع عن وجود كمين أقامه الفرنسيون. وبات لزاما إعادة هؤلاء الجرحى إلى القاعدة التي انطلقوا بهم منها. واستؤنفت محاولة الابتعاد بالجرحى في الليلة التالية، حيث استمر المسير لمدة ست ساعات أمكن الوصول في نهايتها إلى قرية تقع بعد (أسيف الحمام). وأمضى الجرحى الستون يوما في هذه القرية، أشرف خلاله الطبيب (سي أحمد بن عبيد) على العناية بأمر الجرحى ومعالجتهم. وصلت معلومات إلى القرية في الساعة الثانية من فجر اليوم التالي، تؤكد أن القوات الفرنسية في المنطقة قد تلقت المزيد من الدعم. وأنها في سبيلها لإجراء عملية مسح (تمشيط) ثانية. وهذا يعني بأن العدو قد اكتشف بأن جميع الإخوة المجاهدين قد انسحبوا

إلى هذه المنطقة وتجمعوا فيها. وصدر الأمر الإنذاري عن قيادة المجاهدين بالاستعداد لاستئناف التحرك. وعمل المجاهدون قبل كل شيء على إخلاء الجرحى ونقلهم إلى ملاجىء في الغابة. وقد تمت هذه العملية بينما كانت الطائرات العمودية (الهيليكوبتر) تحلق فوق الغابة، الأمر الذي أرغم الجنود في مرات عديدة، على وضع الجرحى أرضا، فوق الدرب الضيق الذي يسير على حافة جرف سحيق، من أجل تجنب المراقبة الجوية. وهكذا إلى أن تم نقل الجرحى، في حين كانت قوات الاستعماريين تضرب في السهول وتكنس المنطقة كنسا طوال ثلاثة أيام، انتهت بعدها (عملية المسح - التمشيط). وانسحب الجنود الأعداء مرة أخرى، ولم يعثروا على أحد من الجرحى أو المجاهدين. تطلبت العناية بالجرحى، وخاصة المصابين بالكسور منهم، إعادتهم إلى الطبيب المختص بالعظام (الطبيب سي أحمد بن عبيد) وذلك في اليوم الثاني مباشرة. ثم جرى بعد ذلك نقل الجرحى إلى ملجأ أمين جدا في قاع أحد الأودية، وكان يعمل فيه الطبيب (سي طيب) الاختصاصي بالعظام وقد أمضى بعض الجرحى في هذا الملجأ مدة ثلاثة أشهر (من شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1958 وحتى كانون الثاني - يناير - 1959). استرد خلالها المصابون والجرحى قوتهم والتحق الذين برئوا منهم من جراحهم بمركز قيادة الولاية الثالثة في إقليم (بو نمال) من (أسيف الحمام). وبعد شهرين من ذلك استشهد قائد الولاية (سي عميروش) أثناء توجهه إلى (تونس) (وكان ذلك في آذار - مارس - 1959) حيث لقي البطل مصرعه مع بعض المجاهدين في إقليم (بوسعده). وظنت القيادة الاستعمارية أن باستطاعتها استثمار هذا النصر للقضاء على

الثورة في الولاية الثالثة، فشجعت جنودها للقيام بحملة واسعة النطاق، وزجت قواتها فيها مع بداية شهر تموز - يوليو - 1959. حيث أرسلت بعض طائرات الاستطلاع لاكتشاف مواقع الثوار في غابة (أكفادوا). وما هي إلا نصف ساعة حتى وصلت الطائرات القاذفة، وجاءت على أثر ذلك ثلاث طائرات قامت بإنزال المظليين في منطقة جرداء داخل غابة (أكفادو) فوق قرية (بني أوغليس). وما إن وصل المظليون الأرض حتى استقبلهم سيل من النيران أحاط بهم من كل جانب. وابتعدت طائرات المظليين لتفسح المجال أمام الطائرات القاذفة التي جاءت لتحرث الأرض بنيرانها. وتفرق المجاهدون بسرعة بعد أن دمروا قوة العدو. مضى شهر تموز - يوليو - 1959 والمجاهدون يشتبكون مع قوات العدو في كل مكان، في الجبال والسهول، في القرى والأودية. لقد عملت قوات الاستعماريين على فرض حصار محكم حول الولاية الثالثة بكاملها. وكان المجاهدون بالمقابل يسيطرون سيطرة تامة على كافة النقاط الاستراتيجية. وتلقى المجاهدون أمرا من القيادة العليا: الانتقال إلى (وادي الصومام) والتمركز على مقربة من الطريق العام والمواقع الحصينة المتاخمة له. وتم تنفيذ هذا الأمر على الفور. وبذلك بقي الجنود الفرنسيون في الجبل، واستقر المجاهدون في الوادي. ما إن مضت أيام قليلة على التمركز الجديد حتى أصدرت القيادة العليا أوامر جديدة طلبت فيها إلى المجاهدين التفرق بمجموعات صغرى وتجنب أي اشتباك مع قوات العدو التي باتت تحتل كل الجبال، وتنتشر في كل القرى، وهي تنشر الرعب والدمار في أوساط المدنيين العزل من السلاح، والمجردين من كل وسائل المقاومة.

أحد ضحايا النابالم المدنيين

ومضت صحافة العدو وهي تعلن في كل يوم أنه قد تم قتل (كذا) من الثوار، وأسر عدد (كذا) منهم، وأنه قد تم تطهير الجبال من المقاومة. وقد عانى المجاهدون خلال هذه الفترة كل أنواع المشاق، وتعرضوا لكل أشكال المصاعب، حتى أن بعضهم اضطر لأكل الضفادع التي كان يصطادها من الأنهار (ومنهم على سبيل المثال المعروف بلقب - باش آغا - واسمه سي العرب من توجا - ظهرة بجاية). وفقد المجاهدون كل ما كانوا يختزنونه من المواد التموينية، واستنزفت قدرتهم. وأخيرا، وصلتهم أوامر أكيادة بالتوجه إلى قرى معينة لتأمين إمداداتهم وموادهم التموينية وكان لا بد من تنفيذ هذه المهمة مع غروب الشمس. وقد قامت إحدى الزمر بالتوجه إلى قرية في دوار (غيط منصو) في سفح (جبل أكفادو). وتوجهت إلى منزل اتخذته ملجأ لها، وأرسلت أحد أفرادها (علي مزعورة) للاتصال برئيس القرية، ووضع آخر للحراسة والمراقبة، وما هي إلا لحظات حتى دخل المراقب (الحارس) وقال لأفراد الزمرة بأن أخوهم (علي مزعورة) قد وقع أسيرا في قبضة الجنود الفرنسيين، وأن عليهم مغادرة المنزل فورا، إذ أن القوات الفرنسية لا تبعد عن الملجأ بأكثر من عشرين حتى ثلاثين مترا. وما إن غادر أفراد الزمرة القرية، حتى انطلق شهاب في اتجاههم أضاء السماء فوقهم، وتبعته شهب أخرى. وتبع ذلك أيضا إطلاق النار من رشيش (24 - 29). ولم يخرج المجاهدون من مهمتهم بنتيجة تزيد على فقدهم لأخيهم (علي مزعورة) الذي أخذه الفرنسيون للتحقيق معه، حيث تعرض لشتى أنواع التعذيب طوال أسبوع كامل. حملوه بعده إلى غابة (أكفادو) وقتلوه بواسطة قنبلة يدوية .

ظنت القوات الفرنسية أنها أنجزت مهمتها، وقضت على الثوار في الولاية الثالثة، وأخذت في الانسحاب منها مع نهاية شهر تموز - يوليو - 1959. وأصدرت القيادة في جيش التحرير أوامرها إلى المجاهدين بالعودة إلى نصب الكمائن. فتمركز فوج بين (أقبو) و (بجاية) غير بعيد عن الطريق العام، وفي ضواحي (أغز - أمقران). ووصلت قافلة فرنسية إلى موقع الكمين، فغمرتها نيران المجاهدين، وقتل عدد كبير من الجنود الفرنسيين، وجرح آخرون. واستشهد مجاهدان على أرض ساحة الشرف - واستمر الصراع. وعرف العدو والصديق أن الولاية الثالثة ما زالت ثائرة، وأن عمليات (التمشيط والتطهير) لم تنل من صمودها.

الحرب في الولاية الثالثة

3 - الحرب في الولاية الثالثة (*) لا تمثل هذه الفقرة تقريرا رسميا عن الحرب في الولاية الثانية، وإنما هي مجرد عرض لمجموعة من الأحداث اشترك فيها أحد قدامى مجاهدي جيش التحرير الوطني (واسمه إبراهيم بربيج). غير أنها كافية لإعطاء فكرة واضحة عن طبيعة الحرب في هذه الولاية من (ولايات الكفاح). وقد ذكر المجاهد: إبراهيم بربيج قصة علاقته بالثورة فقال: تعود علاقتي بجيش التحرير الوطني الجزائري، إلى تطوعي في الناحية الأولى من المنطقة الثالثة في الولاية الثانية. يوم (10 أيار - مايو - 1955). وجاء يوم الخميس، الأول من رمضان - سنة 1956 - حيث وجدنا أنفسنا في دوار (ولد جمعة) ناحية (كولو) فتناولنا طعام السحور، وكان عدد مجاهدينا في هذه الناحية يناهز الأربعين مجاهدا يتولى قيادتهم الأخ (رباح اليوسف) من مواليد (ود زيناتي). وقررنا في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم (الخميس) أن ننتقل إلى دوار (سيدي عاشور) في ناحية (كولو)

_ (*) REF. RECITS DE FEU (SNED,S.N.EL MOUDJAHED) ALGEE 1977.P.P. 160 - 169. PAR. BRAHIM BERBEDJ.

ذاتها. وشرعنا بالمسير على الفور، حتى وصلنا حدود قريتين تحملان اسمي (التاراس - و- أنمعة). وأردنا اجتياز الطريق. وعندئذ وصلنا ضجيج صاخب، فعرفنا فيه ضجيج العدو وصخبه، فتوقفنا على الفور، وأخدنا في نصب كمين. وما هي إلا فترة وجيزة حتى وصلت ثلاث عربات من عربات نقل الجند (كميونات) وانطلقت نيران الأسلحة طوال عشر دقائق تمت خلالها إبادة القوة الفرنسية إبادة كاملة. وقام المجاهدون بجمع الغنائم التي ضمت أربعة أسلحة أمريكية آلية (أوتوماتيكية) وجهازا لاسلكيا. بالإضافة إلى أسر جندي فرنسي، كما حصل المجاهدون على كميات من الأعتدة التي كانت محمولة في عربات النقل. ورجع المجاهدون سالمين غانمين ولما يصب أحد منهم بأذى. وكان فرج المجاهدين كبيرا لنجاحهم في تنفيذ مهمة لم يسبقها أي إعداد أو تحصير، وإنما كانت عملية ساقتها إليهم الصدفة فقط. وما إن ابتعد مجاهدونا عن موقع الكمين حتى ظهرت الطائرات القاذفة، وأخذت في التحليق فوق المنطقة، وتوزيع قنابلها هنا، هناك على غير هدى، ودونما هدف محدد. أما بالنسبة للأسير الذي تم أخذه، فقد اقتيد إلى حد (بني تليلان)، حيث كان يعقد في هذه اللحظة بالذات مؤتمر على مستوى الولاية، في مكان يحمل اسم (مزرعة بو الأقمار) من ناحية (المليا) فسلمنا الأسير إلى المسؤولين الذين قرروا إطلاق سراحه، حتى يعود إلى وطنه (فرنسا). وحتى يؤكد لمواطنيه ما شاهده من تصميم الثوار على متابعة الجهاد واستعدادهم لذلك. توافرت لنا فرصة في نهاية شهر تموز - يوليو - وبداية شهر آب - أغسطس - 1956 لعقد اجتماع على مستوى الولاية الثانية، وتم عقد

هذا الاجتماع في (دوار زبابرة) من مشتى (شكايل). وتقرر في هذا الاجتماع اختيار قطاع من القطاعات للقيام بعملية. وأسندت مهمة الاختيار للأخ المجاهد (حسين بوحاج) من (كولو). وعلى هذا الأساس، توجه المجاهدون إلى (الزيتونة) بهدف نصب كمين للعدو على الطريق ما بين (الزيتونة) و (الشريعة) - وقد عرف المجاهدون بأمر مرور ثلاث عربات نقل للجند إلى (كولو) فقرروا نصب كمين لها على طريق عودتها. غير أنه لم ترجع إلا عربتان من عربات النقل، أما العربة الثالثة (الكميون) والعربة الخفيفة (الجيب) فقد بقيتا في (كولو). فقرر أفراد الكمين عدم التعرض لمركبتي النقل (الكميونين)، وما إن حان موعد الظهيرة، حتى ظهرت عربة النقل (الكميون) والعربة الخفيقة (الجيب). وعندما وصلت المركبتان إلى منطقة الكمين، فتح المجاهدون نيرانهم، وتمكنت عربة النقل الكبرى من الفرار، بينما تمكنت نيران قوة الكمين من قتل ثلاثة ركاب كانوا يمتطون العربة وأخذ الرابع أسيرا، وكان هذا هو قائد القافلة والمسؤول عنها. غنم المجاهدون بنتيجة هذا الكمين غنيمة هامة شملت كيسين (حقيبتين كبيرتين) تحتويان على وثائق ورسائل وحوالات، بالإضافة إلى مبلغ نقدي قدره (117) ألف فرنك - قديم -. واستولى المجاهدون أيضا على أربعة أسلحة آلية - أوتوماتيكية - (أمريكية). وانسحب المجاهدون ومعهم أسيرهم. غير أن الطيران الذي استنفرته القيادة الفرنسية أخذ في مطاردة قوة الكمين، ولكن من دون جدوى. وظن المجاهدون أن باستطاعتهم الابتعاد عن منطقة العملية، ولكن العدو قام بإقفال الطريق، وشرعت (17) طائرة قاذفه بإلقاء قنابلها لإعاقة المجاهدين ومنعهم من عبور النهر،

ولما كان الوادي الكبير في حالة فيضان، فقد أغرق بعض المجاهدين. وظهر واضحا أن الاشتباك مع العدو بات أمرا حتميا لا مفر منه. واستشهد أربعة من المجاهدين، وتكبد العدو بدوره بعض الخسائر، غير أن الحظ لم يبتسم للمجاهدين. - عموما - في هذه العملية. لم تتمكن قوة المجاهدين من إعادة التجمع إلا في (بوزبوغ) حيث انطلقت منها إلى قرية (طاهر) بعد استراحة قصيرة، وأقامت في (بني حبيب). وقد أراد المجاهدون نصب كمين جديد في (الشقفة). غير أن وجود (9) وحدات من قوى البحرية حمل المجاهدين على تغيير خطتهم، والعدول عن رغبتهم. وتابع المجاهدون تنقلهم بين مشتى (ولد بوفيحا) ودوار (الولجة -كولو). وكان المجاهدون يجدون لأنفسهم فترة من الراحة عندما يستقرون في (جبال القطة) و (تازروت). لينتقلوا بعدها إلى (أحجار مفروه) و (دوار زكار). وكان تكتيك المجاهدين كله قائما على التحرك الدائم، وعدم الاستقرار، لتضليل العدو باسمرار. أثناء إقامة المجاهدين في (دوار زكار) توافرت لهم المعلومات، عن طريق شبكة استخباراتهم، بأن قافلة فرنسية من عربات النقل، قد خرجت من قرية (عين كشرة) متجهة نحو (كولو) أو (سكيكدة) بهدف نقل مواد تموينية وإمدادات على ما يعتقد. فقام المجاهدون بنصب كمين في (دوار زكار) واستخدموا أغصان الأشجار للتمويه، وساروا مسافة تسعة كيلومترات حتى وصلوا الموقع الذي تم اختياره للكمين فيما بين (عين قشرة) و (دراع الأشهب). وفي الساعة (1640) ظهرت القافلة الفرنسية وهي في طريق عودتها. وكان عددها (31) عربة نقل - كميون - بالإضافة إلى عشرة عربات كانت

تحمل مواطنين جزائريين. وما إن وصلت القافلة إلى موقع الكمين حتى غمرتها نيران المجاهدين، ولم يكن من الغريب على هؤلاء المجاهدين تدمير عربات القافلة كلها في دقائق قليلة، ولم تتمكن من النجاة إلا العربة الخفيفة (الجيب) والمدرعة التي كانت ترافق القافلة للحراسة. وحصل المجاهدون على غنيمة كبيرة شملت (22) مسدسا و (7) أجهزة لاسلكية، ومواد تموينية منها كميات من السكاكر والشوكولا. وعلى الأثر ظهرت ثمان طائرات قاذفة، لم تتأخر عن إلقاء حممها لتدمير المنازل المحيطة بالمنطقة وإحراق الغابات. وخشي المجاهدون من مطاردة العدو لهم، فتفرقوا على الفور، وتوجهت كل كتيبة إلى الإقليم الذي جاءت منه. زج العدو بثقل قواته لمطاردة المجاهدين، فحشد (45) ألف جندي لتطويقهم، مع ما توافر لهؤلاء الجنود من دعم هائل كالطيران والمدرعات والمدفعية، غير أن العدو لم ينجح في الانتقام لقتلاه، فتوجه بانتقامه إلى المدنيين، ولم يكفه ذلك فأخذ في إحراق الغابات، وتدمير المنازل والبيوت وقتل الحيوانات (البهائم) وإتلاف الحدائق والممتلكات واستمر ذلك طوال خمسة عشر يوما. وكان انتقام العدو من المواطنين، ثقيلا، ومرهقا. برهن فيه المواطنون العزل من السلاح أنهم على العهد بهم، أقوياء بأنفسهم، تملؤهم ثقة لا تتزعزع بقدراتهم وبقوة جيشهم - جيش التحرير الوطني -. تكونت قناعة لدى العدو بأن الثوار (العصاة أو الفلاقة) منتشرون في كل زاوية من زوايا المنازل، وعلى كل غصن من أغصان الأشجار، وفي مجرى كل نهر من الأنهار، وهكذا انطلق بعملية قصف مرعبة حيث أخدت طائراته بقصف كل الأقليم قصفا

وحشيا أصاب بصورة خاصة قرى (الملية) و (كولو) و (عين قشرة). أصدرت القيادة أمرها في يوم 16 آب - أغسطس - 1957 إلى ناحية (سكيكدة) بتكليف (إبراهيم بربيج) بقيادة كتيبة من مائة وعشرة جنود يعاونه قادة الفصائل (سيد سعود من شكيكدة) و (محمود ناطور من بني زايد) و (بن عاشية) من (زبابرة - كولو). وذلك للاضطلاع بمهمة التوجه الى الشرق لجلب الأسلحة والإمدادات. وانطلقت الكتيبة من (بني زايد - ناحية كولو) واتجهت نحو (سكيكدة) حيث أجرت اتصالا مع المسؤول (محمد ناموس) الذي جهز الكتيبة باثنين من الأدلاء - الكشافة - كانا يعرفان الطريق معرفة جيدة. ومغادرت الكتيبة (سكيكدة) على طريق (بالو) متجاوزة قمم ومرتفعات جبل (لاليا) حتى وصلت مشتى (واديا). وقد استطاع العدو تقصي أثر هذه الكتيبة ومتابعتها على الرغم من كل تدابير الحيطة التي اتخذتها، وعلى الرغم من تحركها في الليل باستمرار. وقام المسؤول في (مشتى واديا) بإمداد الكتيبة بالأغذية والمواد التموينية، فاستأنقت الكتيبة مسيرها في الساعة (2100) من يون 23 آب - أغسطس - 1957.غير أنها ما لبثت أن اشتبكت بقوات العدو، فأمرها قائدها بالتفرق واللجوء إلى الغابة القريبة. غير أنها ما لبثت أن اشتبكت بقوات العدو، فأمرها قائدها بالتفرق واللجوء إلى الغابة القريبة. وفي اليوم التالي جاءت طائرات عمودية - هيليكوبتر - وهبطت في المكان الذي وقع فيه الاشتباك. وعرف المجاهدون عندئذ أنه سقط للعدو في منطقة الاشتباك أحد عشر قتيلا. ولما لم يعد هناك أثر للمجاهدين، فقد اقتنع العدو بأنهم قد غادروا الإقليم. فقام - كعادته - بعملية انتقامية من الدواوير

المجاورة. وفقد العدو كل أثر للكتيبة، ولم يتمكن من اكتشافهم على الرغم من استخدامه لطيران الاستطلاع. تابعت الكتيبة طريقها نحو (تانغوت) متبعة دروب جبل (دباغ). ودخلت في المنطقة الرابعة لدى وصولها الى قرية (الهوارة). فتابعت سيرها نحو (لاغرين) ثم سلكت الطريق ما بين (سوق أهراس) و (عين ساطور). وكانت القوات الفرنسية تعمل خلال هذه المرحلة على إقامة الحط العازل الشهير - على الحدود التونسية - والمعروف باسم (خط موريس). وسارت الكتيبة من (سوق أهراس) إلى (حمام أوشات) حيث عمل المجاهد - المسؤول - (عبد الرحمن بن سالم) فجهز الكتيبة بدليل آخر - كشاف - لمرافقه الكتيبة. ووصلت الكتيبة إلى (غارديماو) في يوم 5 أيلول - سبتمبر - 1957 حيث تم الاتصال عن المسؤول لتزويد الولاية الثانية بالسلاح والعتاد. وتسلمت الكتيبة الأسلحة المقررة، وكيسين من المواد الطبية، ثم شرعت في السير على طريق العودة في اليوم الأول من تشرين الأول - أكتوبر - وذلك بعد أن انضمت كتيبة أخرى إلى الكتيبة السابقة كانت تحت قيادة (عز الدين) وكانت مقيمة في (تونس). ومعها (40) جنديا من منطقة (ساونا - المنطقة الرابعة من ناحية غلمة). وكان هؤلاء الأربعين جنديا هم بقايا كتيبة عملت تحت قيادة (جابوربي) وتكبدت خسائر فادحة حتى لم يبق إلا عشر قوتها. وهكذا بات تحت قيادة (إبراهيم بربيج) قوة كتيبتين وأربعين جنديا - أو ما يقارب مائتين وثمانين مجاهدا - كلهم مسلحون ومعهم (45) بغلا لحمل الأسلحة والذخائر. وتوجهت هذه القافلة

نحو (عين سلطان) ثم إلى (كف أغراب - بني صلاح). ولم يكن في هذه الجبال إلا كتيبة واحدة من كتائب جيش التحرير الوطني تعمل تحت قيادة المجاهد (عمر شكاي) يساعده المجاهد (عوفي). ولم يكن لدى هذه الكتيبة من الأغذية والمواد التموينية ما تستطيع أن تقدمه لأفراد القافلة. وكان لا بد من الاكتفاء بشراء ما هو متوافر في القرية من الكعك. وقام المجاهد (عمر شكاي) بتكليف خمسة من المجاهدين لمرافقه القافلة وتوجيهها حتى الوصول بها إلى (خط موريس) وبات من السهل على القافلة بعد ذلك اجتياز هذا الخط والوصول إلى (لاغرين). عير أن العدو استطاع اكتشاف أمر القافلة، فوجه طيرانه لمطاردتها ومتابعة تحركها ونجحت القافلة في الوصول إلى غابة، واللجوء إليها. وانتقلت منها إلى (الهوارة) ثم إلى (الدباغ) و (دوار بو طيب) حيث وجدت الراحة فيه لمدة ثلاثة أيام، كان المطر يهطل خلالها من غير توقف. وما إن اعتدل المناخ، وتوقفت العاصفة، حتى استأنفت القافلة تحركها حتى وصلت (الغدير) مخترقة المنطقة بين (كاستونفيل) و (الهاروش) ثم وصلت إلى (كالو) بدون أن تتعرض لأية خسارة. وكان هذا النجاح سببا في تكليف قائد القافلة (إبراهيم بربيج) بالعودة لتنفيذ مهمة مماثلة. ... غادرت الكتيبة مجددا مقرها في (عين تايا) يوم 3 تشرين الثاني - نوفمبر - 1957 وتوجهت نحو جبل (دباغ) حيث اتصل قائدها بالمسؤول عن المنطقة الرابعة (محمد روح) الذي قدم لقائد الكتيبة عرضا بالمعلومات المتوافرة لديه عن حالة الطرق ومحاور

في الطريق نحو الهدف - المدفعية الثقيلة لدعم المجاهدين

المرور التي تصل إلى الشرق. كما وضع أربعة من الجنود الأدلاء الذين وجهوا الكتيبة حتى وصولها إلى (خط موريس) حيث وصلت الكتيبة إليه يوم 7 تشرين الثاني - نوفمبر -. وأقامت في جبل مجاور لمدة أربعة أيام، حيث انضم إليها ثلاثون جنديا - أرسلهم (محمد روح) وكلفه باصطحابهم إلى تونس. قرر قائد الكتيبة عبور خط (موريس) يوم 11 تشرين الثاني - نوفمبر - وتجهزت الكتيبة لهذه الغاية برفش ومعول، ومقصين لقطع الأسلاك الشائكة ومجرفة. وكانت الساعة (2300) عندما وصلت الكتيبة إلى موضع يضم طريقا يستخدمه العدو للوصول إلى الجبال والتوغل فيها. وكان يتم إقفال هذا الطريق ليلا بسياج شائك يشبه زوجا من الأبواب. وتم قص الأسلاك عند الباب الأول، ثم أمكن اجتياز حقل الألغام، والوصول إلى الباب الثاني، وقص الحلقة الكبيرة التي توصده، وجاء بعد ذلك دور الخط المكهرب. حيث اجتاز المجاهدون الطريق زحفا من تحت الأسلاك الشائكة حتى تم الوصول إلى الطرف الثاني من (خط موريس). ووجد المجاهدون أنفسهم أمام واد كبير، تحيط به الحدائق المزروعة بأشجار التين. وشعرت القوات الفرنسية بوجود المجاهدين، واكتشفت أمر الثغرة التي مروا منها، فشرعت مدفعيتهم بالقصف على طرق مرور كتيبة المجاهدين، غير أن هؤلاء نجحوا في اللجوء إلى منطقة من جبال (بني صلاح) كانت متميزة بوعورتها الشديدة، وبصعوبة وصول العدو إليها. قام قائد الكتيبة بعد يومين اثنين بإرسال مجاهدين بمهمة استطلاع المنطقة، ولكنهما لم يبتعد كثيرا حتى باغتهما العدو بالرمي

عليهما. فرجعا على الفور سالمين ولما يصابا بأذى. وظهر أنه لا بد من السير في الليل للإفادة من الظلمة بهدف الوصول إلى تونس. لا سيما وأن الوحدات الفرنسية قد انتشرت منذ خمسة عشر يوما في كل ناحية من نواحي الإقليم. وفي الوقت ذاته. كانت قدرة افراد الكتيبة قد استنزفت لبقائهم بتسعة أيام من غير طعام. ووصلت الكتيبة بعد يومين الى خط (شال) في قطاع (دار البيضا) غير بعيد عن (بوحجار). وحاولت الكتيبة في يومي 20 و21 تشرين الثاني - نوفمبر - القيام بعدد من المحاولات لعبور خط (شال) غير أن القوات الفرنسية تمكنت في كل مرة من إحباط المحاولة. وفي يوم 22 تشرين الثاني - نوفمبر - توجه قائد الكتيبة للقيام باستطلاع شخصي للمنطقة، وصعد إلى إحدى الهضاب المرتفعة حيث أمكن مشاهدة أحد الدواوير. وعندها، قرر التوجه إلى (الدوار) وأمكن له إجراء اتصالات مع الأهلين، بعد صعاب كثيرة وبعد تجاوز عقبات صعبة. وعندما تم اكتساب ثقة الأهلين الذين تأكدوا من شخصيات المجاهدين، عملوا على تعريفهم بمجاهد كان قد وصل إلى الإقليم منذ أيام قليلة. وجاء هذا المجاهد إلى قائد الكتيبة الذي طلب إليه تأمين الطعام لأفراد الكتيبة الجياع والذين مضى عليهم اثني عشر يوما لم يذوقوا فيها أي نوع من أنواع الطعام. وجاء المجاهد بالطعام إلى هؤلاء الذين اصفرت وجوههم وباتوا وهم عاجزين حتى من الكلام. فتناول المجاهدون ما سدوا به رمقهم، واستراحوا قليلا، وبعدها جلس قائد الكتيبة إلى المجاهد - ابن الإقليم - يستوضحه عن الموقف في الإقليم، وعن المعلومات المتوافرة في موضوع تشكيلات القوات الفرنسية وانتشارها في المنطقة. وأفاد المجاهد

بأن قوات العدو منتشرة في كل مكان، ونتيجة لذلك فإنه من المحال عبور الخط المكهرب (خط شال) غير أن هناك بعض الأمل بتحقيق النجاح في العبور من جهة (الدوار) ولو أن هذا العبور سيتم قريبا من مواقع العدو. وقررت قيادة الكتيبة بذل المحاولة في مساء اليوم ذاته لإجراء العبور. ولكن ما إن وصلت الكتيبة إلى جوار خط الأسلاك الشائكة حتى واجهت دبابتين معاديتين كانتا تقفان على بعد عشرين مترا فقط من النقطة التي وصل إليها أفراد الكتيبة، والذين التصقوا بالأرض، منبطحين على ثراها. وما هي إلا فترة قصيرة حتى سارت إحدى الدبابتين متخذة طريقها نحو الدوار، في حين أطفأت الدبابة الثانية أضواءها، وبقيت متمركزة في موقعها، ومحركها مستمر في دورانه. ومكث مجاهدو الكتيبة في مواقعهم ينتظرون انصراف الدبابة الثانية وابتعادها حتى أزفت الساعة الثالثة صباحا، وعندها قرر قائد الكتيبة الإقدام على احتمال مخاطر المجازفة، فتقدم إلى السلك المكهرب، وأمكن له قطعه، وتبعه أفراد الكتيبة الذين شقوا طريقهم زحفا عبر حقول الألغام. وأمكن للمجاهدين عبور المنطقة الخطرة من غير أن يثيروا انتباه سدنة الدبابة. غير أن العدو أخذ في إطلاق الشهب المضيئة ولما يبتعد المجاهدون بأكثر من خمسمائة متر، وأخذت المدفعية في إطلاق قنابلها على الموضع الذي كان يتمركز فيه أفراد الكتيبة قبل قليل، والذي اضطروا إلى أن يتركوا فيه بعض ثيابهم. وتابع المجاهدون طريقهم حتى وصلوا إلى (واشتاتا) حيث التقوا بالمجاهد (وارثي الأخضر) والذي استقبلهم، وقدم لهم

القهوة، وأمن العناية للمجاهدين الذين أصيبوا بجراح أثناء عبور منطقة الأسلاك الشائكة ... وأخيرا وصلت الكتيبة إلى المنطقة التي كان يتولى قيادتها المجاهد (عبد الرحمن بن سالم) وذلك في ظهر يوم 23 تشرين الثاني - نوفمبر - 1958، وكان قد مضى على الكتيبة أحد عشر شهرا من المسير. وكانت المنطقة تضم أربعة آلاف جندي مجاهد استقبلوا إخوانهم أفراد الكتيبة استقبالا حارا أنساهم كل المشاق والمتاعب والمعاناة مما تعرضوا له في رحلتهم الصعبة. وعمل القائد (عبد الرحمن بن سالم) فورا على تخصيص مكان منعزل للكتيبة، وأوصى قائدها بتجنب الحديث عن الصعوبات التي جابهتها الكتيبة أثناء عبورها للحواجز المختلفة، حفاظا على الروح المعنوية لبقية الجنود المجاهدين الموجودين في المنطقة (داخل الحدود التونسية). وأمضت الكتيبة فترة من الراحة، تم بعدها استدعاء قائد الكتيبة لمقابلة مسؤول المنطقة من أجل الحصول عن المعلومات الضرورية المتعلقة بخطوط الفرنسيين. وقد أبدى مسؤول المنطقة إعجابه برجال الكتيبة، وما تحلوا به من الفضائل الحربية، وما أظهروه من الصبر والتصميم. انتقلت الكتيبة بعد أيام قليلة إلى (أمليز) بهدف ممارسة التدريب على الأسلحة الحديثة. واستمر تدريب الكتيبة طوال أربعة أشهر (من كانون الثاني - ديسمبر - وحتى آذار - مارس 1959) حيث ضمت الكتيبة إلى كتائب أخرى في إطار تنظيم (فوج) يحمل اسم (الفوج الحادي عشر) - ونقل الفوج إلى (عين دراهم) حيث تمركز في (العيون) وكلف بمهمة العمل على تدمير خطوط الأسلاك الشائكة التي كانت فرنسا قد أقامتها على الحدود التونسية. والتعرض للحامية المدافعة عنها.

ويمكن بعد ذلك التعرض لنماذج من بعض هذه العمليات. مثل تلك المعروفة (بعملية العامري) والتي نفذتها مجموعة انطلقت من (عين دارهم) مستخدمة عربات النقل الكبرى - الكميونات - حتى حدود (غار ديماو) حيث ترجل المجاهدون، وتابعوا طريقهم سيرا على الأقدام حتى وصلوا (ودزين) حيث (مقر الفوج 39). وتولى عندها قائد الفوج (عبد الرحمن بن سالم) إدارة العملية. فجمع المجاهدين جميعا، وشرح لهم طبيعة المهمة، والهدف من تنفيذها ممثلا (بتحرير مواطني منطقة العامري من ضغوط العدو). وقام المجاهدون بتنفيذ المهمة بدقة وإحكام، ولم يتمكن العدو من الصمود أو المقاومة، وقتل عدد كبير من أفراد العدو، وهرب الآخرون. وتم تدمير المعسكر القائم في (العامري) وتحرير المحتجزين فيه والاستيلاء على كمية من الأسلحة والأموال. ولقد تميز القتال بضراوته وشدته الأمر الذي أدى إلى استشهاد عدد من المجاهدين وأصيب آخرون بجراح. ونقل سكان قرية (العامري) إلى قرية (دشرات المجاهد) والتي لا زالت قائمة حتى اليوم. وقد استخدمت في هذه المعركة بعض الأسلحة الثقيلة، مثل الصواريخ، ومدافع الهاون. ... ويمكن أيضا الاشارة إلى (الفوج 17) الذي تمركز في (عين الزانة) التي تعرضت لقصف كثيف قامت به ست طائرات قاذفة (ب 26) اعتبارا من الساعة (530) يوم 10 تموز - يوليو - 1960 وأدى الى استشهاد بعض المجاهدين. وكذلك ما قام به (الفوج 56) الذي نظم هجوما على (عين الكرمة - بوجيلات صنهاجة) خلال شهر شباط - فبراير - 1962 وبدأ

تنفيذه يوم 6 آذار - مارس - 1962 حيث تم الانقضاض على مجموعة القرى المنتشرة على امتداد الحدود الجزائرية - التونسية وقد استمرت هذه المعركة من مساء يوم 6 - آذار - مارس - وحتى يوم 17 منه، وتلقى فيها العدو درسا قاسيا لا ينسى من قبل مجاهدي جيش التحرير الذي استخدم كل الأسلحة الحديثة، بما فيها المدفعية والصواريخ ومدافع البازوكا. وتلقت قوات المجاهدين أمرا يوم 17 آذار - مارس - بفك الاشتباك، وإيقاف إطلاق النار. وفي يوم 18 آذار - مارس - 1962، تلقى المجاهدون أمرا بحفر الحفر لوضع الصواري (جمع صاري) والتي سترتفع عليها أعلام الجزائر عالية خفاقة. ونفذ المجاهدون ذلك، وفي الساعة (1200) من يوم 19 آذار - مارس - قام المجاهدون بتنظيم عرض لقواتهم استمر نصف ساعة، تحت سمع العدو وبصره (بعد أن دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ لدى الجانبين). دخل المجاهدون (عين الكرمة) يوم 6 تموز - يوليو - واحتفلوا فيها بعيد الاستقلال. وكان هذا العيد مناسبة لإحياء ذكرى شهداء المجاهدين الأبرار الذين مهروا راية البلاد بدمهم الطاهر. ***

مهمة على موجات الأثير

4 - مهمة على موجات الأثير (¬1) دخلت الثورة الجزائرية عامها السادس منذ يوم تفجرها في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954. وفي هذه الفترة، وصل الضغط الاستعماري ذروة اتساعه وقوته، وذلك كرد فعل على الهزائم المنكرة التي نزلت بساحة كبار قادة الحرب الفرنسيين. إذ أن ذكريات الكوارث التي رافقت الأعمال القتالية المتتالية، قد التصقت بأسماء أولئك الذين تم تكليفهم بتنفيذها، والذين صدمتهم المقاومة الضارية للمدافعين عن حريتهم. لقد خاض المدافعون عن حريتهم الحرب، وجابهوا أضخم جهاز حربي استعماري عرفه القرن العشرين، حيث أنه ضم القدرة الضاربة الأمريكية، إلى جانب قدرة الغرب الاستعماري مجتمعه. وقد استرسل (الماكيافيليون - الاستعماريون) في مفاهيمهم، فأقاموا السدود المكهربة التي لم تتمكن من عزل الجزائر المجاهدة عن العالم الخارجي. وفشلت عبقرية الاستراتيجيين الاستعماريين في الوصول إلى هدفها. وأمام هذا الفشل المتكرر الذي أصاب كبرياء قادة الجيش الاستعماري بجراح عميقة، لم يبق أمام ¬

_ (¬1) RECITS DE FEU. P.P. 188 - 193. PAR: MOHAMED ANDALOUSSI

الاستعماريين إلا الاستدارة نحو المواطنين المدنيين ليصبوا عليهم جام غضهم وانتقامهم، وليعرضوهم لأبشع أنواع الإذلال والتعذيب. فأقيمت (مراكز التجمع) و (معسكرات الحشد) و (السجون) و (المحاكم العسكرية العرفية) و (التجمعات القسرية - الإجبارية) (ونصبت المقاصل - جمع مقصلة) و (أبيحت الرذائل) و (انتهكت حرمات الأماكن المقدسة). وكان الهدف الاستعماري من ذلك كله هو حل الشعب الجزائري، وتفتيته، ومنعه من احتضان ثورته التي تولى قيادتها جيش التحرير الوطني، الذي بقي صامدا في وجه كل المخططات الاستعمارية، فأتعب الاستعماريين ولم يتعب. لقد اكتسب الشعب الجزائري قناعاته من خلال معاناته لليل الاستعمار، وأصبحت لديه المنعة الكافية ضد السموم التي كانت تنفثها أجهزة استخبارات العدو، وفروع حربه النفسية، فأقبل على الانتظام في صفوف جبهة التحرير الوطني، سواء في المدن أو في القرى والسهول، وانصرف لدعم ثوار المدن (الماكي) وإمدادهم بالقدرة، ومساعدة شبكاتهم السرية، وحماية أعمال الفدائيين اليومية، أحيانا بطرائق سلبية، وأحيانا بحزم وصلابة، وأحيانا أيضا بشجاعة بطولية ونبل رائع في آن واحد خلال مجابهتهم للقمع الاستعماري. وبذلك عرفت العاصمة (الجزائر) وضواحيها نوعا من النشاط الذي لا يهدأ، وكان مجاهدو جبهة التحرير الوطني يتابعون ظهورهم على مسرح الأحداث في كل مكان وفي كل وقت، ويؤكدون وجودهم باستمرار، وفي كل المناسبات وذلك عن طريق ضرباتهم المباغتة والسريعة والقوية والتي كانت تترك أثرا نفسيا عميقا لدى الأصدقاء والأعداء على السواء. وقد ركزت المنطقة الرابعة من

الولاية الرابعة (الجزائر) كل جهودها ضمن هذا الاتجاه. وكان شهر حزيران - يونيو - 1960 - يقترب من نهايته، ولم يبق إلا أيام قليلة على قدوم اليوم المشؤوم (يوم 5 تموز - يوليو) الذي يثير في ذكراه السنوية كل مشاعر الحزن التي رافقت إنزال القوات الفرنسية على ثرى الجزائر سنة 1830. وفي هذه الذكرى كان الشعب الجزائري يحتفل بطريقته الخاصة: فيعلن الصيام، ويقيم الصلوات، ويدعو للجهاد وكانت هذه العبادات تتضمن كل المعاني التي تمسك بها شعبنا فحافظ بها على أصالته. قررت قيادة جبهة التحرير الوطني - وجيش التحرير الوطني، إعطاء هذه المناسبة بعدا نفسيا خاصا. وصدرت الأوامر بذلك. كانت المنطقة الأولى قد أقامت مقر قيادتها في بناء قديم يتكون من طابق واحد، ويقع عند أقصى الطرف الغربي من الجسر الذي يجتاز المدينة - عند الحراش -. ولم يكن هذا المبنى أكثر من مهجع يضم مجموعة من الغرف البائسة، الفقيرة، التي يتكوم فيها كل مساء عدد من العمال الذين يسحقهم عملهم في المصانع المجاورة والمزارع القريبة. وكان هناك درج صغير تحيط به الجدران ينتهي إلى دهليز طويل ومظلم. وكانت الروائح الكريهة المنبعثة من دورات المياه، والظلمة المهيمنة على المكان، من الظواهر الكافية لإعطاء فكرة عما كانت تعانيه كتلة العمال الجزائريين من البؤس والشقاء. وكان هناك باب كبير قديم - نخر - ينفتح على مصراعيه ليطل على غرفة واسعة مطلية جدرانها بالكلس، وتضيئها نافذة واحدة، يحميها من الخارج باب شبك خشبي مخلع. وأما أثاث الغرفة فكان يشتمل على صف من الكراسي قد نضدت على امتداد طول الغرفة، وهناك طاولة مصنوعة صناعة بدائية قد احتلت عرض الغرفة حتى يتم

استخدامها كمكتب للعمل. وقد غطت الجدران بألواح من مختلف الأشكال والألوان التي تمثل المصطلحات والرموز المستخدمة على الطرق - كشارات لسائقي السيارات ولتنظيم المرور -. وكان عشرات الرجال يترددون على هذه الغرفة طوال النهار، حيث كان يجلس في نهايتها رجل متوسط العمر يستند إلى الطاولة بمرفقيه. وكان هذا الرجل متوسط الطول (مربوع القامة) تشع من عينيه نظرات معبرة ونشطة، تعكس حماسة صاحبها وهو يتحدث باستمرار مع زواره حيث ينجز لهم ما يطلبونه من الأعمال بطريقة محببة وهو يمارس دوره باعتباره مدربا لقيادة السيارات (السواقة). وكان بعض تلاميذه يتابعون التدريب، في حين كان آخرون ينتظرون دورهم وهم يتبادلون الأحاديث فيما بينهم. وكان باستطاعة الواقف إلى النافدة المطلة على الشارع أن يرى محطة للوقود، توقفت فيها مجموعة من المركبات (السيارات) المعدة للتدريب (وقد كتب عليها - مدرسة قيادة السيارات). وكانت هناك مسطبة لمقهى يتاخم هذه المحطة وقد ارتفعت فيها الأشجار التي أظلت بظلها مجموعة من الطاولات وقد جلس حول كل واحدة منها رجلين أو ثلاثة من الزبن (الزبائن أو الرواد). وضمن هذا المثلث، حيث لم يكن لا السائقين ولا السابلة - المارة - يعيرون انتباها لما يدور حولهم بسبب حركة المرور الكثيفة والتي لم تكن لتتوقف أو تهدأ في أي وقت من الأوقات، ضمن هذا المثلث اختارت المنطقة الأولى إقامة قيادتها تحت غطاء (مدرسة تدريب قيادة السيارات - السواقة) وكان سائقو السيارات، ورواد المقهى وزبن محطة الوقود وطلاب التدريب يعملون جميعا بتنسيق تام وتعاون مذهل. وكانت حركة مستأجري المهجع في غدوهم وإيابهم تقدم

الغطاء المناسب للمناضلين الفدائيين الذين كانوا يترددون على هذا المكان لتقديم تقاريرهم عن إنجازهم لمهماتهم وواجباتهم، ولتلقي معلومات جديدة. وقد فرضت قيود دقيقة، وأنظمة محكمة، سمحت للطلاب المزيفين بالتحرك بحرية تامة في وسط الطلاب الحقيقيين الذين جاؤوا للتدريب على قيادة السيارات والحصول على الإجازات التي تسمح لهم بممارسة العمل في قيادة السيارات فيؤمنون بذلك الغطاء الذي يستر عمل المنظمة السرية، حيث كان أعضاء المنظمة يضطلعون بإنجاز كافة الأعمال، وتنفيذ مختلف المهمات، في كل يوم، وبنجاح تام، وبعيدا عن كل الشبهات. كانت الساعة (1600) من يوم 28 حزيران - يونيو - 1960 عندما توقفت سيارة من سيارات التدريب على القيادة أمام مبنى بلدية (ود - سمار) الملحقة بالحراش. وكان هذا المبنى الإداري يضم (صندوق البريد) للمنظمة السرية، والجهاز العصبي لاتصالات الفدائيين وكان موظفو هذا المركز يمارسون عملهم بطريقة دقيقة لا تترك مجالا للشك أو الشكوى، وهم يؤدون واجباتهم الوظيفية تحت مراقبة المسؤولين من مدنيين وعسكريين…وكانت هيئة الموظفين المذكورة تستفيد من غطاء عملها الرسمي، لتساعد منظمات الفدائيين السرية في تحرير الرسائل والمحافظة عليها وتوزيعها. وكان السعاة (راكبي الدراجات النارية) والذين تحمل دراجاتهم لوحات (مدينة الجزائر) يؤدون متطلبات الخدمات الإدارية، فيخترقون الأحياء المجاورة لاكتشاف كل نشاط تقوم به القوات الفرنسية، ونقل أوامر جبهة التحرير الوطني وتوجيهاتها إلى الثوار (الماكي) في مراكزهم المجاورة. وكان المركز الإداري - للبلدية - يعمل علاوة على ذلك في تنظيم الأمور الاجتماعية، فيساعد الأرامل واليتامى من

نساء الشهداء وأبناءهم، ويرعى أسر المجاهدين الذين أودعتهم السلطات الاستعمارية في السجون. وعلى الرغم من قيام ضباط الحرس المتحرك، وضباط المظليين، والمسؤولين في البلدية، وعلى الرغم أيضا من تعيين ضباط من (مكاتب الشؤون الأهلية - الساس) في قلب هذا المركز البلدي. فإن الموظفين فيه استمروا في ممارسة عملهم، ولم تضعف إرادتهم، وبصورة خاصة إثنان منهم كانا على معرفة تامة بكافة أسرار المنظمة السرية للفدائيين. وكانا يمتلكان قدرا من الشجاعة البطولية مكنتها من متابعة دورهما دون توقف، ودون خوف من الزيارات المباغتة التي كان يقوم بها المسؤولون الفرنسيون من مدنيين وعسكريين. ... لا زالت عربة (تدريب السواقة) متوقفة أمام مبنى البلدية. وقد أشار سائقها إلى موظف يعمل في المركز واسمه (محمد الأندلسي). فاستأذن هذا رفاقه بالخروج متذرعا بحجة الذهاب لتلقي درس في قيادة السيارة حدد موعده في هذه الساعة. وصعد إلى جانب السائق، المدرب، وانطلقت السيارة على الفور، وما إن وصلت إلى الطريق العام، بعيدا عن أنظار الفضوليين، حتى قام السائق بإبلاغ (محمد الأندلسي) أمر قيادة جبهة التحرير الوطني التي كلفته باغتنام مناسبة اليوم الخامس من تموز - يوليو - للقيام بعمل مثير له أثر نفسي بعيد. ... لقد أراد المسؤولن استخدام الأسلحة النفسية التي كان يستخدمها العدو ذاته ولكن بطريقة أكثر فاعلية وأكبر تأثيرا. ولم يكن

لديهم في هذا المجال إلا القليل من الوسائط المادية - الأعتدة - غير أنهم كانوا يمتلكون بالمقابل عناصر مؤهلة ولديها كفاءة عالية جدا بالإضافة إلى إيمان عميق بشرعية خوضها للصراع. وكانت الصدمة المتوخاة من هذه المهمة تحتل مرتبة عالية من الأهمية، وهي تتطلب الابتعاد عن (الحراش) للمثول في صباح اليوم التالي إلى المكان المحدد، وهو أحدث مقهى في العاصمة (مقهى لوداميا) الواقع عند عقدة الشوارع الرئيسية في المدينة. وقد تطاولت تلك الليلة على المكلف بتنفيذ المهمة (محمد الأندلسي) حتى اعتقد أن فجرها لن يطلع عليه، وقد زاد من قلقه إدراكه لما تتطلبه المهمة من خيال خصب ومن اختيار للوسائل التي لا زال من الصعب عليه اختيارها واستخدامها. المهم في الأمر، هو أن (الأندلسي) قد وصل في الموعد المحدد، فوجد من ينتظره وقد جلس إلى طاولة في زاوية من المقهى. فتم تبادل شارات التعارف من مسافات بعيدة، وتقدم (الأندلسي) فجلس إلى جوار أخيه الفدائي، وبدأ الحديث بينهما على الفور. وكان (الأندلسي) يتحرق شوقا لمعرفة كافة التفاصيل المتعلقة بمهمته المقبلة. ... كان التنظيم السري للعدو، والذي عرف فيما بعد باسم (التنظيم السري للجيش الفرنسي - واس) قد نفذ بعض العمليات من هذا النوع وها هم الفدائيون يتحركون على أرضه الخاصة ويسخدمون أجهزته وترتيباته ذاتها. وكانت الإدارة الفرنسية تعمل على نقل صلاة الجمعة بالتناوب، مرة من مسجد أتباع (مالك - أو المالكيين) ومرة من مسجد أتباع (أبو حنيفة - أو الحنفيين) محاولة بذلك الوقوف موقف الحياد من المذهبين

الدينيين. وكانت عملية نقل الصلاة تذاع على موجات الأثير بالبث المباشر على موجات راديو الجزائر (أو ما كان يسمى محطة فرنسا الخامسة). وكانت الترتيبات الفنية تنتقل نوبا، لتتفرع مرة إلى (المسجد الكبير) ومرة إلى (مسجد الصيادين) وكان موقع المسجد الكبير يشكل مصيدة حقيقية لكل عمل فدائي، لأن كافة المحاور المؤدية إليه تنتهي إما إلى حصون القيادة البحرية، أو إلى التحصينات المتاخمة للبحر، الأمر الذي كان يفرض تجنب القيام بأي عمل في هذا المسجد. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد كان لا بد من تكليف فدائي آخر للعمل من أجل القيام بعمل مماثل بهدف تضليل العدو إذا ما استنفر فواته. كان مسجد (الصيادين) بالمقابل يضمن توافر كل المتطلبات الضرورية للانسحاب بسهولة، إذ كانت تجاوره شوارع فرعية عديدة يمكن استخدامها للتفرق في كل اتجاه بعد تنفيذ العملية. وتمت دراسة المهمة بأدق تفاصيلها، ووضع مخطط تنفيذها في زاوية المقهى، وتحت مراقبة رجال الشرطة والدوريات العسكرية التي كانت تتجول باستمرار على الرصيفين المجاورين للشارع. وتم وضع نص البيان - باللغة العربية - ليصار إلى توزيعه على أوسع نطاق ممكن، وفي كافة شوارع العاصمة. وقد تولى الفدائيون تنفيذ هذا الجانب من المهمة. أما الجانب الآخر فتمثل بالمهمة التي قضت بقراءة نسخة من هذا البيان وإذاعته على موجات الأثير (من إذاعة فرنسا الخامسة). وذلك أثناء نقل صلاة يوم الجمعة. وتضمن نص البيان دعوة من (جبهة التحرير الوطني) إلى الشعب الجزائري، لإعلان الإضراب العام في ذكرى اليوم المشؤوم الذي احتلت فيه

فرنسا الجزائر. وللتأكيد على التزام الشعب الجزائري بتأييده (لجبهة التحرير الوطني) ووقوفه مع (جيش التحرير الوطني). جرت بعد ذلك مناقشة مخطط التنفيذ، فتقرر تكليف زمرة من بعض الفدائيين، واجبها إثارة الفوضى والاضطراب في وسط العسكريين الفرنسيين الذين كانوا يحيطون بمنطقة الجامع (المسجد). ومن واجب هذه الزمرة أيضا مراقبة كافة أبواب المجد بهدف منع كل عملية هروب من داخل المسجد إلى خارجه. وكان الأمر الذي تلقته الزمرة بهذا الصدد دقيقا وحازما؛ تيسير دخول المصلين إلى المسجد ومنعهم من الخروج. وفي الوقت ذاته نظمت مجموعة أخرى من الفدائيين - زمرة - واجبها الإشراف على التنفيذ وتشكيل نوع من القيادة للعملية. ولم يبق بعد هذا الإجراء إلا قيام المنفذ (محمد الأندلسي) بدخول المسجد، وتلاوة بيان الجبهة. قام (محمد الأندلسي) في الموعد المحدد بوداع عائلته وداعا مؤثرا، غير أن هذا التأثر لم يصل إلى حد الانتقاص من البهجة التي كانت تعمر قلب (محمد الأندلسي) باحتمال انضمامه إلى قافلة الشهداء. وقد باتت أمنية الأعداد الكبرى من جماهير الجزائريين هي طلب الشهادة، وبلوغها، دفاعا عن كل موطىء قدم من الأرض التي دنسها الفرنسيون، والتي أقسم الجزائريون على تطهيرها بسيل غزير من الدماء الزكية الطاهرة. وخرج (محمد الأندلسي) من منزله، وقد حمل معه كيسا صغيرا علقه على كتفه، ووضع فيه جلبابا (غندورة) وعمامة تشكل كفنا، وآلة حلاقة آلية - ميكانيكية ثم مضى في طريقه حذرا وسط ثكنة عسكرية شملت كل شوارع المدينة، ودخل شارعا فرعيا طويلا ظهر لامتداده أنه لن ينتهي. وكانت الرغبة

المحتدمة في نفس (محمد الأندلسي) تدفعه لاستشارة ساعته في كل ثانية، غير أنه امتنع عن الاستجابة لرغبته حتى لا يجذب الانتباه إليه. وأخيرا ظهرت له مئذنة الجامع، شامخة بكبرياء، تمثل كل الحضارة .. الإسلامية، وهزت جسد (محمد الأندلسي) رعدة قوية لرؤيتها، وأدرك أنه وصل إلى هدفه، فمضى بخطى ثابته، وهبط درجات المدخل المؤدي إلى الباب الكبير للجامع (المسجد). وتبادل - سرا - التحية مع زمرة الفدائيين - الأخوة - الذين كانوا يستندون إلى (الدرابزوق) وظهرت عليه علامات الارتياح لما شعر به من احترام لتدابير الحيطة الهادفة للمحافظة على سرية العملية. واتجه مباشرة وهو يتوغل داخل المسجد إلى المكان المخصص للوضوء، حيث كان يصطف إلى يساره نسق من دورات المياه (المراحيض). ودخل (محمد الأندلسي) الى دورة من دورات المياه، وأوصد مغلاق الباب، وأخرج من كيسه آلة الحلاقة، فحلق ذقنه، وأصبح بلا لحية - كما خلع (شاربه) الذي جهد في منزله على وضعه بعناية فائقة في موضعه، حتى بات مميزا لملامح حامله في نظر أولئك الذين رأوه داخلا إلى المسجد، أو هؤلاء الذين عرفوه عن قرب أو عن بعد. ثم خلع بنطاله وارتدى الجلباب (الغندورة) ووضع العمة على رأسه فاكتمل بذلك تنكره. وكان هناك صوت أجش لرجل يشرح بعض الأحاديث النبوية الشريفة، يرتفع من الطابق الأسفل للمسجد، في حين كانت أصوات عصبة من المتسولين ترتفع على صوت المحدث وتقاطعه. وكان منظر هذه العصبة من المتسولين تمثل جرحا في جملة الجراح النازفة التي خلفها الاستعمار الفرنسي المرعب في جسد الأمة الجزائرية. انتهى (محمد الأندلسي) من الوضوء، وصعد درجات السلم

المؤدي إلى ساحة المصلى الفسيحة. وكان المؤمتون المصلون قد اصطفوا أنساقا متراصة ينتظرون موعد الخطبة والصلاة. ولم يكن الوصول إلى المحراب سهلا وسط هذا الزحام، إذ كان لا بد من تجاوز كل هذا الجمع الحاشد. وأمكن تجاوز الصعوبات والوصول الى الهدف، مع تقديم آلاف الأعذار للمصلين المؤمنين الذين كانوا يصوبون نظراتهم المتسائلة الى هذا الذي سار مخترقا صفوفهم على غير ما جرت عليه - العادة، حتى وصل إلى جوار المحراب، واختار مكانا لجلوسه. وأخذ في إعداد نفسه للعمل في اللحظة المؤاتية. وكان صمت المصلين وخشوعهم كافيا لإثارة مختلف المشاعر. ولم يعد يشعر الفدائي (محمد الأندلسي) إلا وجيب دقات قلبه، وإلا بإيقاع رقاص الساعة المعلقة فوق المحراب. لم يكن من المسموح به الوقوع في أي خطأ، إذ أن أي حركة في غير محلها كافية لإثارة الشكوك، وتعريض الشبكة بكاملها لخطر الدمار. وكان المنفذ الرئيسي (محمد الأندلسي) يحمل أكبر قسط من المسؤولية، ولهذا فقد انصرف بتفكير. كله نحو إنجاز المهمة بنجاح تام، ولم تنتابه، ولو للحظة واحدة، فكرة عما قد يتعرض له، وكان جل اهتمامه هو تنفيذ الواجب الذي أخذ على عاتقه مسؤوليته ونتائجه وبينما كان (الأندلسي) مستنفرا لكل أعصابه، متحفزا، ارتفع صوت الإمام وهو يمسك بمكبر الصوت: (الله أكبر) - وقفز (الأندلسي) واختطف من يده (المكبر). وانطلق في حديثه: (باسم جبهة التحرير الوطني، وباسم جيش التحرير الوطني ..) واستمر في إلقاء البيان، من غير أن يعارضه الشيخ الإمام أو يقاطعه، وكان جمهور المصلين يستقبل فقرات البيان بهتاف مجلجل كارعد، في حين كانت زغاريد المسلمات (اليويو) ترتفع

من سدة النساء، فتزيد من حدة الهياج ومن شدة الحماسة. وانتهى البيان، وتدافعت جموع المصلين لتحيط (بممثل جبهة التحرير) وهي ترفع الهتاف الذي كان يتصاعد إلى عنان السماء. وتدافع جمهور المسلمين كالموج المتلاطم. حتى أن (محمد الأندلسي) لم يجد طريقه إلا بصعوبة. وأمكن له تغيير ثيابه، والعودة إلى ثيابه الاعتيادية والوصول إلى الشارع بعد عناء كبير ومشقة لا توصف. فاتجه إلى مقهى أوروبي. حيث التقطته عربة (التدريب على السواقة).

مهمة في الأغوار

5 - مهمة في الأغوار (*) نحن الآن في (شبكة متليلي - في شعامبا) وهي منطقة جبلية وصخرية تضم أربعة أودية متوازية مقفرة لا تنبت إلا باقات متناثرة من الأعشاب اليابسة، تنمو على جنبات الهضاب، وفوق المنحدرات الشمالية لهذه الأودية. وإلى الجنوب من هذه المنطقة، ظهرت هناك كثبان رملية تناثرت فوقها حزم من الأعشاب التي تنتمي إلى فصيلة نبات (الحلفا) والتي يطلق عليها اسم (الدرين). وكانت هذه الجنبات الصخرية تجف بواد صخري مقفر من الزرع والشجر. وكانت الفسحة ما بين الأودية تشكل مسطحا صخريا يختلف عرضه ما بين (25) و (35) كيلومترا. نحن الآن، برفقة قافلة عائدة من (وادي زرقون) وقد تسلم قيادتها مجاهد (اسمه باحفص) واجبه الوصول بالقافلة إلى الولايتين الخامسة والأولى. وكانت هذه القافلة تضم (24) جملا محملا بالمواد التموينية والأسلحة والأدوية والذخائر - ومعظمها إيطالي المنشأ، تم جلبها من المملكة الليبية. ووصلت القافلة إلى مركز القيادة في (غوفافا) وذلك بعد أن أعطت عناصر الاستطلاع الذين

_ (*) … RECITS DE FEU- P.P. 194 - 202. PAR: DAHMAN RAMDAN.

كانوا يراقبون المنطقة من أعلى المرتفعات، كلمات التعارف. وما إن وصلت القافلة إلى المعسكر، حتى انصرفت الكتيبة التي كانت ترافق القافلة، وتفرقت هنا وهناك، لتحتل أمكنتها المخصصة لها في الخنادق والملاجىء. وتوجه قائد هذه الكتيبة لمقابلة المسؤول عن الثكنة (إبراهيم دهان) ليقدم له البريد الذي يحمله، وليرفع له تقريرا شفهيا عن تنفيذ المهمة، وعما توافر لديه من معلومات متعلقة بحالة طرق المواصلات، وحركة القوات الفرنسية في الإقليم. وقام المسؤول (إبراهيم دهان) في الوقت ذاته، بإبلاغ قائد الكتيبة عن حركة العدو في المنطقة، وقوات الدعم القادمة من (غرداية) و (الأغواط) و (ورقلة). بهدف دعم الفوج المتمركز في (متليلي). وقد تم السماح للكتيبة إثر هذه المقابلة بالانضمام إلى بقية الرجال لأخذ قسط من الراحة. وارتفع ضجيج الأصوات مختلطا بضحكات الرجال وقهقهتهم وهم يذكرون لإخوانهم قصة معركة (جبل فرنسا) التي خاضوها حديثا، والتي كانت أول وأضخم معركة من معارك الصحراء. وفي الوقت ذاته، انصرف أفراد الكتيبة التي رافقت قافلة الإمداد، للحديث عن رحلتهم، مع مناقشة نتائج معركة إخوانهم الكبرى. لقد كانت قيادة الكتيبة تجلس على موقد من الجمر وهي تحاول معرفة أهداف العدو. وأصدر القائد أمره إلى الكتيبة بمرافقة المجاهد الأخ (بوجمعة) للتوجه مسافة أربعين كيلومترا، حيث الطريق الذي يصل (متليلي) بقرية (غزيلات) الصغيرة، حيث توافرت معلومات تشير إلى توجه مركبات مثقلة بالحمولة إلى هذه القرية. وجاءت تقارير عديدة من عناصر الاستطلاع ذكرت أن القوات الفرنسية تحشد قواتها في ثكنة عسكرية تقع في (غزيلات).

شكلت الكتيبة دورية لتنفيذ هذه المهمة، وانطلق أفرادها ركوبا بأعلى الجمال، وبمسافة مائتي متر تفصل كل فرد عن الآخر. وكان عدد أفراد هذه الدورية ثلاثة مجاهدين فقط، هم (سي بوجمعة) وهو قائد فصيلة ومحارب قديم اشترك في حرب الهند الصينية، واقتصر تسليحه على مسدس رشاش وقنبلتين يدويتين. و (سي الأخصر) وهو من الأنصار - مسبل - انضم إلى قوات المجاهدين حديثا. و (دهمان رمضان) وهو من الأنصار أيضا، غير أنه مضى عليه وقت طويل في الجهاد مع قوات جيش التحرير - أكثر من عام - ولم يكن الاثنان الأخيران يحملان من السلاح إلا السكين المعروفة باسم (بوسعدي) وهي سكين معروفة تماما لدى أبناء الصحراء. هبط الليل على الصحراء، ووصلت الدورية إلى مكان يحمل اسم (ساقلات الدريك) حيث ظهر لها سرير الوادي والطريق الصاعد نحو أعالي الهضبة، فعقل أفراد الدورية جمالهم، وتابعوا طريقهم سيرا على الأقدام. وإذ ذاك ظهر لهم بصورة مباغتة. وعلى البعد، ضوء يبهر الأبصار، وأنذر (سي بو جمعة) رفيقيه بقوله: (لقد وصلت قافلة من المركبات) وأمرهما باتباعه، ثم حدد لكل واحد منهما موقعه وهو يقول لهما: اعملا على عد المركبات، وتحديد نوعها، وحاولا معرفة ما تحمله. وما لبث صوت هدير المحركات أن تزايد اقترابا شيئا فشيئا. وتمركز أفراد الدورية في مخابئهم. وأخذت عربات النقل (الكميونات) في تسلق المرتفع وهي تزمجر وتزأر. وكان قلب كل فرد من أفراد الدورية يخفق بشدة متزايدة مع اقتراب العربات ومرورها من أمامه. لا سيما وأنها كانت المرة الأولى بالنسبة للمجاهد (دهمان رمضان) حيث يجد نفسه على مسافة قريبة جدا من هذه العربات الكبيرة (الكميونات)

فأخذه نوع من الفزع، وارتفع صوت الطنين في أذنيه، وتدفق العرق غزيرا من ظهره وثنايا جسمه، وكاد يرتفع صوته بالصراخ عندما مرت به ناقلة نصف مجنزرة كادت تلامس جسده. وانقضت لحظة متطاولة بعد مرور المركبة الأخيرة، وأطلق (سي بوجمعة) صرخة حادة أيقظ بها رفيقيه من ذهولهما، فأسرعا إليه وقدما إليه تقريرهما الشفهي وهما يرتجفان خوفا من أن يتضمن تقريرها شيئا من الخطأ: كانت القافلة مكونة من (17) عربة نقل - كميون - بينها (14) مثقلة بحمولتها من الذخائر والمواد التموينية والجنود. وكانت هذه القافلة محمية في مقدمتها بدبابة ومدرعتين خفيفتين، مع مدرعة وسط القافلة وأخرى في مؤخرة القافلة. ثم جلس أفراد الدورية لفترة قصيرة، ثم قال (سي بو جمعة) بغتة لرفيقيه: (هيا بنا! فلنخرج!). غير أن ضوءا يخطف الأبصار، قطع عليهم أنفاسهم، وأرغمهم على الجلوس في أمكنتهم. وتقدم (رئيس الدورية - سي بوجمعة) خطوات، ثم قال لرفيقيه: (إنهما مركبتان: سيارة خفيفة (جيب) وسيارة نقل (كميون)). وأمسك بمسدسه الرشاش بغتة وهو يقول: (سنهاجمهما) وتذكر بأن رفيقيه لا يحملان السلاح، فأخرج قنبلتيه اليدويتين، وأعطاهما لرفيقيه، وشرح لهما كيف يستخدمانهما. وأظهر لهما المكان المناسب لوقوفهما، وشرح لهما بهدوء تام، ومرات متتالية، ما يجب عليهما عمله لتنفيذ المهمة وأخيرا قال لهما بلهجة جافة وحازمة: (عليكما بعد إلقاء القنبلتين الصعود إلى المرتفعات، فإذا ما سمعتما صياح ديك، فانضما إلي). ترك رفيقيه وهما جاثيان على ركبتيهما، ومضى يزحف كالثعبان على الطريق. ووصلت المركبة الأولى (سيارة الجيب)

إلى بداية الطريق الصاعد، وأخذت في تسلقه بيسر وسهولة. في حين كانت المركبة الثانية - الكميون - تصعد بعناء، حتى كاد ضجيج المحرك يهدد بالانفجار. وفي هذه الفترة كان الوجيب قد عاد قويا إلى قلب (دهمان رمضان) من جديد، واصطكت ركبتاه، ومرت من أمامه سيارة الجيب وتجاوزته، ووصله صوت رفيقه وهو يحذره بصوت منخفض ويقول له: (إن عربة النقل - الكميون - تقترب) وأثناء ذلك، كانت سبابة يده اليسرى ممسكة بحلقة القنبلة اليدوية بينما كانت أصابع يده اليمنى تحيط بأخاديد القنبلة وتشد عليها بقوة. ومزقت وحشة الليل بغتة صرخة حادة: (الله أكبر) وتبعتها أصوات الرصاصات المنطلقة من المسدس الرشاش. واهتز الرجلان وكأنهما استفاقا من ذهولهما، وقذفا بقنبلتيهما وهما يصرخان بدورهما (الله أكبر) وانبطحا أرضا. غير أن رأس (دهمان رمضان) اصطدم بصخرة كبيرة وهو ينبطح فأصابه ما يشبه الدوار والإغماء، غير أن أصوات الانفجارين وما تبع ذلك من ضجيح دفعه للوقوف حتى يعود للسقوط من جديد. وجمع كل قوته، ونهض بغتة فانضم إلى رفيقه الذي كان يتقدمه. ووصل الاثنان إلى المرتفع، فعادا وانبطحا أرضا. وقد التصق رأس كل واحد منهما بالأرض. ووصلهما بعد ثوان (صياح الديك) فأيقظهما وأوقفهما، ودفعهما إلى الركض حتى الطريق، ثم توقفا ليبحثا في وسط الظلمة عن رئيسهما ورفيقهما الذي ناداهما للمرة الثانية من جوف الوادي، فتدحرجا على منحدر الوادي، وانضما إليه. كان بوجمعة ممسكا بيده بمصباح كهربائي، وهو يفتش عربة النقل الكبيرة - الكميون - والتي هوت من ارتفاع ثلاثيق مترا فتحطمت، واختلط حديدها بزجاجها المهشم، مصطبغا بلون

الدماء، كما التصقت الألبسة باللحم، ولم يكن بالامكان متابعة النظر في هذا المشهد. إذ تصاعد إلى حلق كل من المجاهدين شعور بالحاجة للتقيؤ، وفعلا ذلك مرات متتالية. بينما كان (سي بوجمعة) يتابع التفتيش، فأخذ بارودة السائق (وهي بارودة ماس - 36) وأعطاها إلى (دهمان رمضان) ومعها نطاق يحمل الذخيرة. وظهر نور شاحب أصفر يبشر بظهور القمر على خط الأفق. وإذ ذاك التمعت على سطح الأرض علب المحفوظات (الكونسروة) المتناثرة، وكذلك الرزم والصناديق المنتشرة هنا وهناك، وكانت بعض الصناديق لا تزال سليمة وقد قذفت بها عربة النقل أثناء سقوطها وانقلابها على مجنبتها. وجرى بعد ذلك تفتيش العربة الخفيفة - الجيب - فتم استخراج مسدس رشاش ومزودة تحتوي على ثمانية مخازن محشوة بالرصاص، أعطاها (سي بوجمعة) إلى رفيقه (سي الأخضر). وبعد ذلك استدار (سي بوجمعة) حول العربة، ودفع الضابط القتيل وانتزع منه نطاقه الذي كان يعلق فيه مسدسه. ومضى مبتعدا عن رفيقيه اللذين قاما بجمع الأسلحة وحملا قربة ماء وبعض المعجنات (كاتو) والشوكولا. وابتعد قليلا عن المكان واضطجعا أرضا وأخذا في تجربة سلاحهما واختباره وهما يفكران بأمر مهمتهما، حتى إذا ما انقضت عليهما ساعة من الزمن وهما صامتان، قام أحدهما بقطع حبل الصمت وهو يقول لرفيقه: (ما أجمل ضوء القمر، لقد تغيرت ظلال الأشياء، غير أن (سي بوجمعة) قد تأخر، وأخذت أشعر تجاهه بالقلق). لم تكن مرابط الجمال بعيدة عن المكان، وهيمن خوف من اصطدام رئيس الدورية بالعدو، الأمر الذي أخر وصوله. وكان لا بد من العودة إلى مركز القيادة قبل الفجر، حتى يتم تجنب كل طارىء

مشؤوم، وحتى يتم الوصول بالإمدادات - الغنائم - وهي في حالة سليمة. ونهض (دهمان رمضان) من مكانه، وتنكب بندقيته، وسحب مغلاقها نحو الخلف، وأدخل طلقة في حجرة الانفجار الفارغة، وأعاد المغلاق، وأحكم رتاجه، فيما كان رفيقه يتابعه بنظره متظاهرا باللامبالاة. غير أن (دهمان) بادره بقوله: إني ذاهب لإلقاء نظرة إلى الوادي. وأنا لا أشعر بالارتياح. فإذا لم أعد، أو لم أتمكن من الرجوع، حتى ظهور الفجر، فموعدنا في مركز القيادة، على أمل اللقاء هناك). وهنا قرر (سي الأخضر) مرافقة (دهمان) وعدم تركه ليذهب وحده. وانطلق الاثنان يهبطان المنحدر بيسر وسهولة. وكانا يتناوبان التقدم، حيث يتوقف أحدهما مراقبا بينما يسير الآخر لمسافة عشرين مترا، يتوقف بعدها حتى يلحق به رفيقه ويتقدمه عشرين مترا أخرى وهكذا ... إر أن وصلا أسفل المنحدر فشاهدا أشباح عشرة من الجمال الواقفة وهي تأكل حزم الأعشاب القليلة في الوادي. وانبطح الإثنان على كثبان رملي. وتساءلا عن سر وجود هذه الإبل في هذا المكان؟ وعما إذا كانت تابعة للواء الهجانة (المهريين) الأعداء؟ وأرسل (دهمان) عواء يشبه صوت (ابن آوى) ثم أتبع ذلك بعد فترة قصيرة بصوت مماثل، وكرر ذلك ثالثة، غير أنه ما من أحد أجابه. فكان لا بد من إجراء استطلاع لمعرفة أصحاب الجمال. وتقدم الرجلان بحذر وهما يقفان عند كل خطوة، حتى وصلهما صوت وشوشات وهمسات قادمة من اتجاه يسارهما، فاتجها نحو مصدر الصوت ليتوقفا بغتة إذ وقع نظرهما على خيمة (كندية) تتربع على المرتفع المقابل لهما. ونظر كل إلى صاحبه نظرة التساؤل: إنهم من (القوم) - فلماذا لم يتدخلوا عندما وقع الاشتباك - لعلهم لم

المجاهدون يقاتلون في أصعب الظروف

يتبينوا بوضوح مصدر الصوت. فتوقفوا في هذا الوادي منتظرين الفجر للقيام ببحثهم وتفتيشهم؟ وظهرت للرجلين مرة أخرى ضرورة العودة بسرعة للوصول إلى مركز القيادة لتقديم تقرير عن كل ما أمكن لهما مشاهدته واكتشافه. وفي هذه الثانية، وقع أحد الرجلين بقدمه على طبق من النحاس، فتصاعد ضجيج الأقداح التي كانت متربعة على الطبق النحاسي وهي تتدحرج. وانطلق النور من مصباح يدوي متجها نحو الرجلين. ونهض ثلاثة من الرجال، وهم يقولون بصوت واحد: (من هناك). ولدى سماع الصوت، أطلق الرجلان نيرانهما. وصرخ الرجال الثلاثة وهم يسقطون صرعى مضرجين بدمائهم. وعلى البعد، تردد الرصاص المنطلق من مسدس رشاش وهو يمزق بصداه وحشة الليل وظلمته. وشعر الرجلان بفرحة تهز كيانهما، إن ربهما (سي بو جمعة) لا زال حرا وهو على قيد الحياة. فانطلقا للبحث عنه، واللقاء به، ومضت ساعات من البحث من غير جدوى، حتى كأن الثلاثة كانوا يلعبون لعبة (الاستغماية) بين الكثبان الرملية، فيما كان صفير الرياح، وزئير رصاص، يمزق سكون الفضاء. وأصاب الفزع خمسين جملا، واهتاجها، فمضت تضرب في الوادي جيئة وذهابا. وظهرت بغتة إلى يمين الرجلين (دهمان رمضان) و (سي الأخضر) مجموعة من عربات النقل - الكميونات - وعربات نصف المجنزرة، وهي تهبط المنحدر، وعندها شعر الرجلان بأن ضوء النهار قد اقترب. وصرخ (دهمان رمضان) برفيقه: (فلننسحب). وتسلقا الهضبة، ومضيا في سيرهما على خط الذرى. ***

انحدر الرجلان إلى الوادي، وإذ ذاك استقبلهما صفير الرصاص وهو يحرث الهواء من فوق رأسهما، فاستدارا إلى الخلف، ووقع بصرهما فورا على ناقلة مدرعة - نصف مجنزرة - وهي تقف إلى جوار تلك التي تم تدميرها في الليل. فانبطح الرجلان أرضا، وما كادا يفعلان ذلك حتى جاءت رصاصات مدفع رشاش لتحرث الأرض من أمامهما. ونهض الرجلان، وأسرعا بالسير عدوا طوال ربع ساعة، وربما أكثر، حتى صارت أقدامهما تصدم بعضها بعضا لشدة ما أصابها من الإعياء، وحتى غرقت ثيابهما بمياه عرقهما، وكاد صدريهما يتمزقان، ووصل قلباهما إلى حلقاهما. ونظر كل واحد منهما إلى الآخر للحظة قصيرة، وجلسا أرضا وقد أسندا ظهريهما إلى صخرة ضخمة. وبللا شفاههما بما أمكن لهما تجميعه من اللعاب في فمهما. وطلب (دهمان رمضان) من رفيقه إعطاءه قربة الماء لتناول جرعة منها. فنظر إليه رفيقه (سي الأخضر) ثم خفص من بصره وهو يجيبه على سؤاله: (لقد تركتها في مكانها). وتبع ذلك صمت ثقيل، هو صمت الموت البطيء من العطش. لقد كانت مدينة (متليلي) تقع إلى يمينهم، وفيها الماء والراحة في مئات الملاجىء، غير أن الوصول إليها عبر الطريق المكشوف - الأجرد - يعني الموت الحتمي. أما إلى يسارهما فكان (الحماد) حيث قبور الظمأ وفيها الموت الحتمي أيضا. حيث يمكن تحديد مكانهما واكتشاف أمرهما بسهولة. وظهر لهما أن الموت يتربص بهما في كل مكان، ولم يبق عليهما إلا اختيار الميتة التي يرغبان فيها حتى ينالا ميتة مشرفة تليق باسم (المجاهد). فنهضا وسارا متجهين نحو (متليلي) ولم يتوقفا إلا بعد سير ساعة من الزمن، عندما كان يقترب منهما صوت هادر لمحرك آلية (مركبة) تسير في اتجاههما.

أسرع الرجلان باللجوء إلى كهف أسعفهما وجوده بالقرب منهما. وعادا صاعدين بعد أن ابتعد الصوت عنهما، ونظر (دهمان رمضان) إلى رفيقه (سي الأخضر) فوجد أن عصبة رأسه (الشيش أو العمة) مصطبغة بالدماء، فنظر إليه نظرات ذاهلة، فقال له (سي الأخضر) متسائلا: (ماذا بك؟) والتقت نظراتهما، ثم عاد (دهمان رمضان) بنظره إلى عصبة الرأس، وقال لرفيقه: (هل أنت جريح؟) وهتف هذا: كلا. ووضع يده على عصبته وسحبها، فظهر له أنها غارقة بالدماء. وعندها عاد فنظر إلى رفيقه من جديد، وقد جحظت عيناه. وأخذ (دهمان رمضان) من رفيقه عصبة رأسه وأعاد طيها مخفيا جلطات الدم المتخثرة، فيما كانت قطرات كبيرة من الدم تنساب على كتف رفيقه. وظهر أن رصاصة قد أصابت جلد الرأس ومزقته بشدة. فأخرج (دهمان رمضان) عودا كان يحمله وسحقه بين حجرين وصنع منه ضمادا ضاغطا عصب به رأس رفيقه. واستأنف الرجلان مسيرهما. وعندها ظهرت لهما طائرة عمودية (هيليكوبتر) وهي تحلق فوق رأسيهما، وترسم في الفضاء دوائر واسعة هنا، وهناك، ثم تنقض مقتربة من الأرض لتعاود ارتفاعها من جديد. وهكذا. فما كان من (دهمان رمضان) إلا أن قال لرفيقه: (لا تتحرك! قف، فأية حركة ستودي بنا!). وأكملت الطائرة العمودية جولتها خلال عشرة دقائق، ثم قامت بجولة أخيرة، وهي تبتعد نحو الجنوب لتختفي وراء الأفق. وقال (دهمان رمضان) محدثا رفيقه: (هيا بنا! فالوحدات الآلية - الميكانيكية - للعدو تبحث عنا، وكذلك تفعل قوات المهريين (الهجانة) وهي تقتص أثرنا. ولم يعد لدينا ما يكفي من الوقت، إذ يجب علينا الوصول إلى الأغوار قبل هبوط الظلام، لا

سيما وأن العدو يركز بحثه في اتجاه الإقليم الصحراوي - حيث الحماد). تابع الرجلان طريقهما بخطوات متسارعة، ونسي (سي الأخضر) ألم جرحه، وأخذ عصف الريح يشتد أكثر فأكثر، وكانت عقارب الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر (1400). وبدأت قوة الريح في التعاظم حتى أنها أعاقت تقدم الرجلين وقاومته، - كما كانت الرمال التي تحملها الريح تشكل سياطا تصفع الرجلين صفعا مؤلما. وتزايدت صعوبة التقدم وأصبحت أكثر إرهاقا فانحنى الرجلان وانكمشا في محاولة لإنقاص سطح المقاومة. وقال (سي الأخضر) لرفيقه (ستنقذنا هذه العاصفة إذ أنها ستجعل من الصعب البحث عنا. فصبرا!). وتبع ذلك صمت قطعه بعد ذلك (دهمان رمضان) بقوله: (الحمد لله، ها قد وصلنا الأغوار!) , وأشرق وجه (سي الأخصر) للحظة قصيرة غير أن ابتسامته ما لبثت أن غاضت خلف سحابة من الحزن. وأخذ الرجلان في تسلق المرتفع الصخري وقد اقتلعا بعض الشجيرات لاستخدامها في التمويه. وظهر لهما فرن نصف متهدم وقد بني بالجص فرفع الإثنان ما به من الرماد، ودخلاه، ورفعا ما معهما من الشجيرات فوق رأسهما. لقد أصبح الطريق إلى (الغولة) و (ورقلة) وراءهما، أما الطريق إلى (متليلي) فلم يكن يبتعد عنهما بأكثر من ثمانمائة متر، وهو يمتد من أمامهما. وكان يظهر لهما على البعد المطار والطريق المؤدي إلى (غرداية). ووقف (سي الأخضر) وقال لرفيقه: (لم تعد لدي قدرة على الاحتمال، فرأسي يكاد ينفجر، لم أعد أحتمل، وإذا كان لا بد من الانتهاء، فلتكن نهاية مجيدة). غير أنه لم يكد ينهي قوله، حتى ارتفع صخب يصم الآذان، وظهرت قافلة من عربات النقل -

الكميونات - وهي تسير متجهة نحو (متليلي). وجذب (دهمان رمضان) رفيقه من ذراعه، وقال له: (انظر! إلى أين تريد الخروج، وماذا تستطيع أن تفعل بمسدسك في مواجهة مئات الجنود؟) غير أنه لم يقتنع بما قاله رفيقه؛ فحاول الوقوف، وجذبه رفيقه مرة أخرى وهو يقول له: (هل جننت؟). وأجاب (سي الأخضر) رفيقه وهو ينظر إلى الأفق البعيد: (لم يعد باستطاعتي البقاء هنا، إنني أختنق، فلنضع نهاية لذلك مرة واحدة وإلى الأبد). ودفع بيده شجرات التمويه، وأسرع خارجا. كانت القافلة بعيدة عنه، ونظر إليه رفيقه (دهمان رمضان) وهو يمضي نحو الطريق، وقد أصابه نوع من الجمود فلم تصدر عنه أية حركة، وتابع ببصره رفيقه حتى وصل إلى ارتفاع الطريق. وفي تلك اللحظة، ارتفع ضجيج طائرة عمودية - هيليكوبتر - كانت تتجه نحو المطار وما إن سمع (سي الأخضر) صوتها حتى استدار نحوها، ورفع رأسه، وأمسك صدمه بيده، واجتاز الطريق عدوا - ركضا -. ورأته الطائرة، واقتربت منه، ولم يعد باستطاعة (دهمان رمضان) الانتظار في مكانه، فنهض وتنكب بندقيته، ووقف منتظرا. وانطلقت رصاصتان، فأسرعت الطائرة العمودية بالصعود إلى الفضاء، ثم عادت للهجوم. وأسرع (دهمان رمضان) لمغادرة الفرن، متجها وهو يركض نحو هضبة لا تبتعد عنه بأكثر من خمسين مترا. وقذف بنفسه في أخدود شكلته مياه ساقية أثناء سيرها بين (غورين من الأغوار). واقترب هدير محرك الطائرة العمودية، وإذ ذاك انفجرت دفعة جديدة من الطلقات التي أطلقها (سي الأخضر) من مسدسه على الطائرة. وتبع ذلك مزيد من اطلاق النار استمر لعشرة دقائق. وعرف (دهمان رمضان) وهو في مخبئه نتيجة

الاشتباك. فانسابت قطرات كبيرة من العرق على جبينه، واجتاحت كيانه نوبة من الضيق الشديد كادت تخنقه. وانطلقت صيحة من بين شفتيه. وتدحرجت قطرات من الدموع على خديه. فيما كانت الطائرة العمودية تتابع جولاتها ذهابا وإيابا مستفيدة من بقية ضوء النهار. وشعر (دهمان رمضان) بنوع من اللامبالاة، فلم يعد يهتم بما يحيط به من أخطار، لقد كانت دموعه لفقد رفيقه تدفعه نحو التهور. ... سمع (دهمان رمضان) وهو لا زال في مكانه من الساقية، ضجيج محركات المركبات - السيارات - وهي ترتفع وتهبط حتى كأنها محاريث قوية جاءت لتقلب عالي الأرض سافلها، ولم تكن هذه المركبات بعيدة عن مكمن المجاهد (دهمان) الذي عرف بأن القوات الاستعمارية قد انتشرت في مواقعها بهدف تمشيط المنطقة. بمذراة دقيقة، الأمر الذي سيمكنها من إلقاء القبض عليه. فقال لنفسه: (يجب عدم تمكينهم من إلقاء القبض عليك حيا!) لقد كان يعرف ما تعنيه كلمة (الأسير) من تعذيب وتشويه وآلام. فتحسس سلاحه، لقد كان مخزن البارودة فارغا إلا من طلقة واحدة. وبسط يده إلى مزودته، وأفرغها، فلم يجد فيها غير ثماني طلقات، وهذا كل شيء. فأي أسلوب تعبوي - تكتيكي - يستطيع استخدامه؟. إن عليه مغادرة هذا المكان، للوصول إلى (متليلي) قبل هبوط الظلام، فإذا لم يتمكن من ذلك، فإنه لن يستطيع رؤيتها أبدا. وعليه أيضا الاقتصاد في استخدامه لذخيرته، بحيث أن كل طلقة يجب أن تصيب هدفها. وكل طلقة تصرع عدوا. ويجب الاستعداد لاستقابل الموت عندما لا تبقى إلا طلقة واحدة. وها هو جندي فرنسي يقترب

من (دهمان) الذي أمسك سكينه وغرسها في جنب عدوه، وصرخ هذا صرخة حادة، وسقط صريعا، وأمسك (دهمان) بسلاحه وانطلقت رصاصة؛ فأصابه ألم حاد دفعه للصراخ: لقد احترقت. وأصابه مغص أليم حمله على الجمود في مكانه. غير أنه ما لبث أن أفاق من ذهوله، ونظر فيما حوله، فرأى شبحا يتقدم نحوه. وأثناء ذلك هبت عاصفة قوية حملت معها الرمال والغبار والحصى، فأعاقت الرؤية. فما كان من (دهمان) إلا أن أغمض إحدى عينيه حتى يستطيع النظر بصورة أفضل، ورأى شبحا ثانيا، فثالثا، فرابعا. وكان أفراد دورية العدو يتجهون نحوه. ونسي في هذه اللحظة كل شيء، وانتابته موجة من الحمى فقال لنفسه: (يجب أن أصرعهم جميعا!). وأمسك بندقيته، وتنكبها، وسدد نحو الشبح الأول، وأطلق رصاصته التي مزقت العتمة، وهوى الجندي وهو يطلق صيحة الموت، وتدحرج مرتين على نفسه واستقر جثة هامدة. وخيم الصمت لثوان قليلة، بدأ بعدها صليل الأسلحة. وانطلقت رصاصات مرت من فوق رأس (دهمان) وضاعت في المرتفعات وعاد الصمت من جديد. وظهر شبح إلى جوار (دهمان) الذي لقم سلاحه وأطلق رصاصته بسرعة مذهلة، وأطلق الشبح صراخا وهو يسقط على ظهره. وجاء الرد في هذه المرة سريعا، إذ انطلقت نيران رشاش من الهضبة المقابلة، واختلطت أصوات الضجيج، وأخذت النيران تنطلق من الهضبتين المتقابلتين. وإذن فقد وقع (دهمان) بين نارين. فقرر هذا الانسحاب والوصول إلى المرتفعات حيث يمكن له بلوغ نقطة أكثر ارتفاعا من ذروتي الهضبتين، وبحيث يمكن له أيضا تكبيد العدو خسائر أكبر، حتى لا يموت رخيصا.

اشتدت حميا المعركة بين الهضبتين، وامتد اللهيب إلى كافة المرتفعات. وابتسم (دهمان) وراودته رغبة في الضحك بصراخ مرتفع، فما أجمل أن يقتتل جند الجيش الاستعماري فيما بينهم؟ وفكر (دهمان) بإنقاذ نفسه، والوصول إلى غايته بأسرع ما يمكن، متجنبا كل صدام مشؤوم، أو الإصابة برصاصة طائشة. فأخذ يتقدم في الاتجاه المضاد، وبدأ هبوطه على امتداد الساقية. سار المجاهد (دهمان) طويلا، وهو محني الظهر قدر المستطاع، حتى نال منه الإعياء كل منال والتمع برق في السماء، مبشرا باقتراب هطول المطر، وشعر (دهمان) بثقل في قدميه، وبدوار في رأسه، فانبطح على صدره، وقال لنفسه بصوت خافت: (لم يعد ينقصني إلا النوم، ولا زالت - متليلي - تبعد مسافة خمسة عشر كيلومترا وهذا ما يتطلب السير لمدة أربعة وحتى خمسة ساعات) فقرر البحث عن ملجأ يقضي فيه الليل، قبل أن يحاول الوصول إلى المدينة في اليوم التالي. وعثر على ثغرة تتسع لشخص واحد على أن ينام وهو مثني القدمين. ولم يكن هذا الملجأ بالمكان المريح، غير أن الموقف لم يكن يحتمل خيارا آخر. فزج (دهمان) نفسه بالثغرة، محاولا أن يتحسس بأصابعه جوف الثغرة، إذ لم يتمكن من دخولها إلا بنصف جسمه. وزاد من سوء الموقف هطول المطر بغزارة. ولمست أصابع (دهمان) صخرة صخمة حاول زحزحتها بجميع يديه، غير أن جهوده عجزت عن تحقيق الهدف. وكرر (دهمان) محاولته مرات عديدة، حتى بلله العرق، وأخيرا اكتفى بوضع صف من الحجارة أوصد بها فتحة الثغرة. ووضع بارودته جانبا، وتمدد أرضا وهو يشعر بالراحة، فيما كان يصيخ بسمعه لأصوات المطر وهو يقرع بحباته الكبيرة الصخور الصامدة. وانصرف تفكيره عن المعركة، واجتاحه شعور

بالأمن، فراح في نوم عميق. استفاق (دهمان) على ثغاء قطع من الأغنام، وشعر أنه مصاب (بالحمى). إذ كانت قطرات من العرق البارد تنساب على صدغيه، وقلبه يخفق بقوة، مع صعوبة في التنفس. وأقبل راعي الأغنام فقدم الماء لهذا البائس، واستعلم منه عما يجري في المنطقة. وكلفه بإبلاغ (سي طيب بن عبد القادر) عن مكانه. وأصبح باستطاعته أخيرا الوصول إلى (قسمة شاعمبا). وانتهت بذلك مهمته. وكان لا بد له من الراحة قبل إرساله في مهمة جديدة.

بطل من الأبطال

6 - بطل من الأبطال (*) تمتد سلسلة جبال (تراراس) من الحدود الجزائرية - المغربية وحتى الحد الفاصل (لوهران) وهي ترتفع مقفرة وموحشة لتطاول السماء الزرقاء المكفهرة بالغيوم السوداء والتي حملها معه شهر كانون الأول - ديسمبر - 1956. حيث أخذت هذه الغيوم بإسقاط مطرها الغزير، وكأنها تحاول غسل الجبال من ثياب الحداد السوداء التي كانت ترتديها باستمرار. نظمت هذه المنطقة في إطار (الولاية الخامسة) التي تولى قيادتها البطل الشهير (لطفي - الذي استشهد في معارك حرب التحرير). وقسمت الولاية بدورها إلى مناطق، منها: (ولد بن راشد) حيث كان هناك دوار صغير يعشش في جوف قمع ضخم شكلته سلسلة الجبال ويمتد إلى المنطقة الأولى التي تولى قيادتها الملازم (سي بن الحسين - وهو اسم حركي). وكان الوصول إلى الدوار من الأمور المتناهية في صعوبتها، إذ لم يكن هناك أي طريق يصل إليه، أوحتى أي درب، وكل اتصال بهذا الدوار مرتبط بمسلك يتلوي كالأفعى عبر (فيلاوسين) المشهورة، ويسمح بالوصول إلى

_ (*) RECITS DE FEU. P.P. 289 - 297. PAR: HAMMOU- C HAIB.

مدينة (نيدروما). وهكذا لم تكن المنطقة إلا مجموعة من الصخور والثوار والجبال. إنها مكان يبتغيه كل حالم بالراحة، وكل محتاج للامداد من أبطال المجاهدين الميامين. تولى مسؤولية الإدارة المدنية للمنطقة شاب حمل أصالة البطولة الثورية كابرا عن كابر، وعرف باسم (مجيدي الشيخ ولد الشيخ) والذي اجتذب اسمه اهتمام كل الشعب الجزائري، نظرا لما قدمه للثورة الجزائرية من خدمات يصعب وصفها، إذ بقيت هذه الخدمات مجهولة في معظمها، ولم يعرف منها إلا النذر اليسير. أظهر (سي الشيخ) اهتمامه بالأمور السياسية وهو لا زال في مقتبل العمر. وقد أنهى دراسته للقرآن الكريم وحفظه له وهو لما يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وأخذ في التهام ما ألفه الشيخ (بن باديس) وما كتبه. حتى إذا ما بلغ التاسعة عشرة من عمره، قرر التوجه إلى (فزان) لمتابعة دراسته في علوم (التفسير). وكان يلتقي ما بين فترة وأخرى برجل أثر فيه تأثيرا عميقا. نظرا لكونه عضوا في (رابطة العلماء). وما هي إلا أيام حتى أقبل (سي الشيخ) بحماسة وانضم إلى الحركة. واكتسب (سي أحمد دبوزا) بذلك شرف ضم رجل آخر إلى الحركة، ولكن أي رجل! لقد حدث ذلك في اللحظة التي انفجرت فيها الثورة الجزائرية المسلحة. وجاء (سي الشيخ) ليحتضن طريق الجهاد المقدس. وما هي إلا فترة قصيرة، حتى ارتفع بكفاءته إلى مستوى القيادة، وأصبح مسؤولا أولا عن إقليمه، تحت توجيه جبهة التحرير الوطني. وقام ضباط جيش التحرير الوطني بتسليمه كل الأعمال الإدارية، وحملوا له كل ما يستحقه من الاحترام. ونظر إليه ضباط الجيش الفرنسي نظرتهم إلى أكبر عدو لهم، واعتبروه عقبة يجب تدميرها بكل الوسائل.

لم يكن (شي الشيخ) إلا زهرة في مقتبل العمر، وبالرغم من ذلك، فقد عزف عن كل مباهج الحياة، وابتعد عن مسراتها. وآلى على نفسه أن يعيش للثورة، ولم يكن هناك ما يعادل شجاعته إلا إيمانه العميق بالله الواحد القهار، وبحتمية انتصار الثورة. أقبلت عشية رأس السنة الجديدة في يوم 31 كانون الأول - ديسمبر - 1956، واستعد الاستعماريون للاحتفال بها كعادتهم: بالطعام والشراب والرقص والغناء، فيما كان يعيش الشعب الجزائري محنته تحت وطأة التعذيب الوحشي والضغط الذي لا يحتمل. في هذا اليوم ذاته، كانت حلقة رهيبة تنغلق بصررة بطيئة وهي تحيط (بولد بن راشد). حيث انطلق مئات الجنود الاستعماريين من كافة المراكز العسكرية المجاورة: من (سيدي علي بن زمرة) و (نيدورما) و (سيدي المشكور) و (العين الكبيرة). وأخذوا في التقدم نحو الدوار المقفر من الرجال الذين شعروا بريح التحركات العسكرية لجنود الأعداء. فلجؤوا على عادتهم إلى (الكهف). وكان هذا الكهف عبارة عن مغارة ضخمة قد لا يوجد لها مثيل في الجزائر كلها. وهو يقع عند الحد الشرقي للدوار، حيث تمتد من هناك الحقول الزراعية لجبل (القرية) في وسط نباتات كثيفة للغاية. مما حمل على الاعتقاد بأنه من المحال الوصول إليه. ولهذا فقد أعد لإنقاذ آلاف الجنود المجاهدين. ولعله من الصعب تحديد اتساعه، غير أن الأمر المعروف هو أن الزائر يستطيع السير فيه طوال خمس ساعات من غير أن يتمكن من تحديد أبعاده، حتى أنه يستطيع إيواء ألفي شخص دون أن يضيق بهم. ***

وصلت القوات الفرنسية، ومرت من أمام الكهف، وتجاوزته إلى القرية، ولم يكن من الغريب ألا تكتشف القوات هذا الكهف أو تتوقف عنده، فتابعت تقدمها نحو (القرية). وهي تدفع أمامها رجلين من الفلاحين اعتقلتهما في الحقول. وكان (فرضي الهاشمي) هو الخفير المكلف بحراسة مدخل (الكهف) وقد تصادف وقوفه على بعد بضعة أمتار فقط من المدخل عندما مرت به القوات، فشعر بالخطر، وأراد الدخول لإنذار الرجال الذين لم يكن عددهم يزيد على ثمانية وسبعين رجلا. غير أن حركته جاءت متأخرة جدا. فقد وصلت مجموعة أخرى من المرتزقة وهي تتقدم من الجهة المقابلة، واعتقلته. وتمت صفقة (بيع) الكهف للأعداء. وتقدم دليل يلبس ثياب الجلادين فلا يظهر منه غير عينيه. وتولى قيادة الجنود نحو الكهف. وأثناء ذلك كان (البائس - فرضي) والفلاح الآخر، قد تورما لكثرة ما نزل بهما من الضرب. وأرغما تحت سيل المطر على حفر قبرهما استعدادا لإعدامهما. غير أن حدثا أنقذهما من الموت في تلك اللحظة، إذ وصل (اللواء ماسون) قائد الدرك - الجندرمة - في (ندروما) وهبط من طائرة عمودية - هيليكوبتر - على مسافة قريبة منهما، فشهد شهادة لمصلحتهما أهام الجنود المرتزقة. بينما تابع (الرجل المقنع) مهمته في قيادة المرتزقة إلى مدخل الكهف. وقام هؤلاء المرتزقة بدفع البائس (فرضي) أمامهم بعد أن أدخلوه في ثياب عسكرية. اعتقادا منهم أن ذلك هو تدبير احترازي للمرور من الشق الضيق الذي يشكل ممرا مجاورا للمنحدر السحيق، والذي لا يسمح بالمرور لأكثر من شخص واحد. وكانت الظلمة الحالكة مسيطرة على مدخل الكهف، وسقط (البائس فرضي) بغتة إذ أصابته رصاصة انطلقت من الداخل. وأصيب

الإبادة في كل مكان

الجندي الذي كان يتقدم خلفه بجراح قاتلة، وأخذ الآخرون في القتال - قتالا تراجعيا - وهم يبتعدون متسارعين. وسع اللاجئون إلى الكهف النقاش الدائر بين جند الأعداء - باللغة الفرنسية. فعرفوا أن العدو قد اكتشف كهفهم، ولم يبق عليهم إلا الاستعداد لبذل حياتهم بثمن مرتفع، وعدم الموت ميتة رخيصة، غير أنهم لم يكتشفوا وهم في الظلمة القاتمة بأنهم قد قتلوا على غير إرادة منهم واحدا من إخوانهم. أخذت قوات الفرنسيين في تطويق الكهف، وإحكام الحصار حوله. وقال قائد العملية معبرا عن حقده الدفين: (سيخرج هؤلاء الكلاب من جحرهم عندما ينالهم الجوع والعطش). هيمن على الكهف صمت ثقيل بعد تلك اللحظة القصيرة من الفوضى والاضطراب. فماذا تستطيع أن تفعله هذه الحفنة من المواطنين الجزائريين في مواجهة جيش كامل؟ لم يكن لدى (أصحاب الكهف) من الأسلحة سوى مسدس رشاش، ومسدس، وبارودتين (ماس - 36) وثلاثة بواريد صيد قديمة مع قليل من الذخيرة. أما بالنسبة للطعام والتموين فقد كان باستطاعتهم الاعتماد على كيس من التين المجفف، وكيسين من الشعيرية (كعك) وخمسة (بيدونات) من صفائح البترول. وكيس من الزيتون الجاف. وثلاثة صناديق من علب المحفوظات - كونسروة - مع قليل من الخبز، غير أنه لم يكن لديهم شيء من الماء. وقد أدرك هؤلاء الرجال الخطر الرهيب الذي يتهددهم، وهو الخطر الذي تصدى زعيمهم (سي الشيخ) لمجابهته عندما وقف بينهم، وقال لهم الكلمات التالية: (إخوتي الأحباء، إنكم تعرفون الموقف بكامله. فالعدو هنا، وأمامنا، في اعتقادي، ثلاثة

حلول: الأول: هو محاولة الخروج بالقوة، غير أنني أحب أن أقول لكم مسبقا بأننا سنسير في هذه المحاولة إلى موت محتم بسبب قلة الأسلحة المتوافرة بين أيدينا. والحل الثاني: هو الاستسلام للعدو. وعلينا أن نتوقع في هذه الحالة من عدونا أسوأ معاملة، وسنتعرض للتعذيب حتى الموت. غير أني استحلفكم أمام الله الالتزام بالصمت، وعلى هؤلاء الذين يقررون الاستسلام ألا يعطوا الخونة الأعداء أي اسم - غير اسمي أنا - وذلك حفاظا على حياة هؤلاء الرجال الذين تحتاجهم الثورة، وتريد بقاءهم على قيد الحياة. أما الحل الثالث: فهو البقاء في الكهف والدفاع عنه، ويجب علينا في هذه الحالة أن نبرهن على تصميمنا وحزمنا وشجاعتنا، وذلك بألا نسمح لأي واحد من هؤلاء المرتزقة بالوصول إلينا. وإننا إذ نقاوم فلدينا الأمل بأن يقوم إخواننا المجاهدون بمد يد المعونة إلينا، ومحاولة بذل الجهد لانقاذنا. ولقد سبق لي أن تحدثت مع صديق لي ذات يوم، وهو ضابط في جيش التحرير الوطني، فوعدني ببذل كل جهد مستطاع، والإسراع في القدوم لمساعدتنا إذا ما تعرضنا للحصار من قبل العدو. ولا أستطيع أن أؤكد حاليا مكان وجوده، ولكن هناك يقينا (مراسل) هو في طريقه الآن إليه لإعلامه بالموقف الذي نجابهه). لقد كان ما قاله الشيخ في الواقع حقا وصدقا، وكان الضابط الذي أشار إليه في حديثه هو القائد (بن الحسين) الذي وعد بالتدخل مع جنوده لرفع الحصار فيما إذا نجح العدو باكتشاف الكهف أو تطويقه. غير أن (بن الحسين) كان في (وجده) بالمغرب عندما وقعت هذه الأحداث. فقد خاض في المرحلة السابقة معارك ضارية، انسحب بعدها إلى القيادة العامة، وانتقل منها إلى

الحدود، بهدف استعادة قوته والحصول على نصيبه من الراحة، هو ورجاله. وقد وصله الإنذار بتطويق العدو للكهف فشرع فورا بالتحرك، غير أنه لم يتمكن من الوصول في الوقت المناسب نظرا لبعد المسافة الشاسعة التي كانت تفصل بينه وبين موقع الكهف. ... لقد اكتسب هذا الكهف شهرة واسعة بحكم تكوينه، فهو يبدأ بمدخل ضيق يشبه الدهليز، وهو عبارة عن ثغرة واسعة لها من العمق متران، تنتهي بصالة واسعة، صالة شكلتها الصخور على شكل موقد ضخم يتسع عدة أمتار من الأصداف الصخرية الحادة والمثقبة كالغربال. وهذا الموقد ليس في واقعه إلا ممرات تنتهي، أو تنفتح على عدد غير محدود من المغاور الصغرى المتداخلة بما يشبه التيه (المتاهة). وقد يضطر المرء أحيانا للزحف مسافة عشرة حتى خمسة عشر مترا من أجل الوصول إلى غرف أو صالات رحبة، حيث تضم هذه تجاويف (أنفاق) متعرجة تتصل بدهاليز كثيرة، لا تسمح للداخل بالخروج منها إلى غيرها. ولعل أكثر ما يثير المرء عند توغله في الكهف هو تكوين تلك الصخور في داخل الكهف. والتي هي عبارة عن صخور رخامية من (المرمر). ... تلك هي المغاور التي لجأ إليها (سي الشيخ) وإخوانه، وكان أول عمل قام به هؤلاء المواطنون هو تنظيم الحراسة، وتعيين المناوبين بالتتابع. وبما أن المدخل إلى الكهف يقع في مقدمة دهليز لا يمكن رؤيته من الخارج، فقد تقرر تعيين مركز الحراسة في وسط هذا الدهليز، كما تقرر أيضا إيقاد ناز ضخمة في الليل للإضاءة،

ولمنع كل احتمال بالمباغتة، أما في النهار، فقد كانت بعض الأشعة المتسللة من الخارج، كافية لإضاءة الدهليز. وتأمين الفترة الكافية للإنذار من أي غدر محتمل. انقضت الليلة الأولى بهدوء وسلام. وأشرق الفجر، والمطر ينهمر غزيرا فيما كانت الريح تضرب السيل المتدفق لتجعل منه قطعا من الطين (الوحل). وعاش الدوار مع الطبيعة الباكية، فالنساء في بيوتهن يبكين في صمت مصير رجالهم، ويترقبن انقضاء اللحظات بتخوف وحزن لا حدود لهما. وعادت ثلة من الأوغاد - الجنود - إلى القرية، فهذه هي اللحظة المناسبة لممارسة الضغط الوحشي على النساء والأطفال، وبدأت عملية تدمير بيوت القرية وإحراقها، مع تعذيب الشيوخ - الكهول - قبل اقتيادهم لمرافقه الجند. وكانت زوجة (سي الشيخ) تحمل ابنها البكر وهي في شهرها السابع. وعلى الرغم من ذلك، فإن وضعها الخاص لم يشفع لها، وتعرضت لما تعرضت له من التعذيب والإهانة والمعاملة السيئة. هبطت طائرة عمودية - هيليكوبتر - في هذه اللحظة ذاتها، على بعد مائتي متر فقط من الكهف. ونزل منها ضباط يرافقهم بعض الجنود يحملون صناديق من الأعتدة. وتم على الفور تركيب محرك كهربائي، فيما كانت المعاول والمطارق تهاجم الصخور في محاولة لشق ثغرة عميقة تصلح لاستيعاب كمية كافية من المتفجرات بهدف توسيع مدخل الكهف. غير أن الصخر الأصم امتنع على المعاول، ولم يتمكن المهندسون من تفجير أكثر من شحنتين في اليوم الواحد. وفي الوقت ذاته، كان جند الاستعمار يدفعون باستمرار أنبوبا ضخما إلى مدخل الكهف. وكان هذا الأنبوب يتصل بنفاث قوي يدفع الغاز السام بهدف خنق المجاهدين اللاجئين إلى الكهف. وتراجع هؤلاء

المجاهدون نحو جوف الكهف، ولم يبق في مركزه إلا أولئك المكلفين بحراسة المدخل وحمايته والذين حافظوا على مراكزهم بالرغم من مئات القنابل اليدوية الهجومية وقنابل الغاز التي قذفت نحو الداخل طوال أيام الحصار. وبعد أيام ثلاثة، أصبح الجو مسمما حتى بات من الصعب تنفس الهواء واستنشاقه. وحتى بات الهواء المسموم بالغاز الخانق حارا وحارقا. وأخذ المجاهدون في التقيؤ مرة بعد المرة. كما أخذت تنتابهم حالات من الإغماء. وبالرغم من ذلك، فقد استمر المجاهدون في مقاومتهم، وأخذوا في استخدام قطع من النسيج - القماش - يبللونها من الصخور، ويضعونها أقنعة لحماية أنفسهم من تأثير الغاز الخانق. وبدأ العطش في تعذيب المجاهدين، والضغط على بطونهم. واحتمل المجاهدون معاناتهم ببذل جهد يزيد على قدرة احتمال البشر حتى لا يفقدوا وعيهم. كان (شي الشيخ) خلال ذلك كله، يتنقل بحركة دائمة ليجلس إلى كل مجاهد من المجاهدين، وليحدثه بكلمات تناسب وتخفف من معاناته، وتدعم من شجاعته،) فيتلو ما يتيسر له من آيات (القرآن الكريم). ويحدث المجاهدين فيذكرهم بقصص الأنبياء وما احتملوه لأداء رسالاتهم، وما عاناه أتباعهم من الصابرين المؤمنين. ولا زال من نجى من الموت يتذكر حتى اليوم ذلك الموقف الذي وقفه (سي الشيخ) وهو موقف يصعب تصديقه لو لم يعشه من نجى بنفسه. فكيف استطاع (سي الشيخ) الصمود والمحافظة على قوته. حتى يبقى واقفا كالطود؟ ألم يقف وحده، وكأنه عصبة من الرجال، في مجابهته للعدو طوال أكثر من يومين، متيقظا لأية محاولة قد يقدم عليها جند العدو للاقتراب من الكهف؟. - إنها قوة الإيمان التي لا تقهر.

أقبل صباح يوم 7 كانون الثاني - يناير - 1957 وقد مضى على الحصار ثمانية أيام. ولا زال المجاهدون في ملجئهم من الكهف، ولا زال الموقف خارج الكهف كما كان عليه. غير أن قوة المجاهدين قد استنزفت وأصابهم التسمم، فاضطجعوا جميعا وهم في حالة من الإغماء، وظهر واضحا أنهم اقتربوا من حافة الموت. وجلس (سي الشيخ) إلى صديقه الوفي ومعاونه (رباح شايب) وإلى بعض إخوته المجاهدين الذين أمكن لهم حتى الآن المحافظة على تماسكهم وتجلدهم وصحوهم. وفي هذه الجلسة، أخرج (سي الشيخ) من محفظته ثلاثة ملايين فرنك فرنسي (ثلاثين ألف دينار جزائري حاليا) كما أخرج مجموعة من الوثائق والرسائل وبطاقة هويته الشخصية وذلك من أجل إحراقها جميعا. وكان هذا المبلغ من المال قد تجمع من اشتراكات مجاهدي الإقليم ثم عمل على تحطيم مسدسه الرشاش على كتلة الصخور، وكذلك فعل بمسدسه وببقية الأسلحة التي تجمعت في الكهف، حتى أنه حطم ساعة يده. لقد أراد عدم تسليم شيء من الغنائم للعدو. ثم توجه لإيقاظ أخيه (بن عمار) والذي كان تلميذه في الوقت ذاته، وطلب إليه أن يتزوج زوجته (رحمه) في حالة استشهاده، وتبني الولد الذي ستلده زوجته. ثم نهض فصلى بالجماعة، وتوسل إلى من بقي في حالة من الصحو الخروج لمقابلة العدو، وشرح حالة الإغماء التي أصابت اللاجئين إلى الكهف. وقال لهم: (عليكم عدم الاهتمام بأمري، أو الانشغال بمصري. قولوا لهم بشأني كل ماترونه مناسبا لإنقاذكم. أما بالنسبة لي، فإنهم لن يحلموا برؤيتي حيا، إنني سأقتل واحدا منهم وسأموت). ***

على هذا خرجت المجموعة الأولى من الرجال، ولكن ما إن صنعتهم نسمات الهواء النقية حتى فقدوا وعيهم وسقطوا على الأرض، فأيقظتهم من إغماءتهم ضربات أقدام الجنود الأوغاد المشتركة مع ضربات أخماص - أعقاب - بنادقهم. وجرت مناقشة قصيرة بين المرتزقة الفرنسيين قرروا بعدها استخدام الأسرى كستار للحماية واقتحموا بهم الزوايا الأمامية من الكهف، فعثروا على كافة الرجال تقريبا. وتم إخلاء رجال المقاومة من غير مقاومة، فيما كان هدير الرعد في السماء يقصف بصورة مرعبة. واستعاد كل رجل من الرجال وعيه، ورجعت إليه أفكاره بتأثير صدمة الرعد، ومياه الأمطار التي مسحت وجوه المعذبين فأنعشتها وأعادت إليها حيويتها. وعندها أخذ المرتزقة المجرمون في إطلاق عنانهم لممارسة وحشيتهم. فبدؤوا باقتياد الرجال ودفعهم نحو الطرف المرتفع من الكهف، وانطلقوا يضربونهم بقسوة فوق الأرض المتموجة. وتطورت النوبة الجنونية - الهستيرية - لهؤلاء الأوغاد الأنذال فقذفوا بالأسرى داخل حفر عميقة تم إعدادها لهذه الغاية، فغاص الأسرى بالوحل حتى لم يعد يظهر إلا رؤوسهم المعروضة لسيل المطر، وشهدت السماء ما فعله جند الاستعمار الذين أخذوا يمتعون أنظارهم بهذا المشهد الغريب، ويشفون غليل حقدهم من مجاهدي شعب صابر. ولم يتوقف جند الاستعمار عن ممارساتهم، إلا للتأكد من شخصية كل واحد من الأسرى. وإذ ذاك تبين لهم غياب الشخص الأول الذي يريدونه ويبحثون عنه: (الثائر - أو الفلاقة - سي الشيخ). وأرسلت برقية فورية: (لا زال هناك شخص في الكهف) وأسرع أفراد زمرة من القتلة لينذروه بأنه: إذا لم يخرج خلال ربع ساعة، فسيعملون على إعدام كافة رفاقه. ولم يكن باستطاعة (سي الشيخ) احتمال

هذه المسؤولية، فأسرع بالخروج من ملجئه. ووقف على عتبة عرينه، شامخا، وعلى بعد أمتار فقط من الضابط الذي وقف في انتظاره. وقف (سي الشيخ) وهو يتأمل بنظره هؤلاء الذين جاؤوا من عالم غريب ليمارسوا ما أطلقوا عليه اسم (تهدئة البلاد). لقد جاؤوا من بلاد يزعمون أنها (بلاد متحضرة) و (بلاد متمدنة) تمثل القوة فأين تكمن هذه القوة؟ وهل من القوة التعامل بوحشية مع النساء والأطفال، ومع الشيوخ والأسرى المجردين من كل سلاح؟ أية قوة برهن عليها هذا العالم النذل الجبان؟ فهل تكمن القوة فقط في كتلة هذه الدبابات الضخمة والمنتشرة في كل مكان ومعها أسراب طائراتها ومدفعيتها؟ كلا: إن القوة، كل القوة، هي تلك القدرة الكامنة في الإيمان، وبالثقة العميقة في الشعب. وتابع (سي الشيخ) التجول بنظراته الحارقة وهو يتأمل تلك الجموع من الخونة، ثم تقدم قليلا وفتشه الضابط تفتيشا دقيقا، ثم سأله عن الأسلحة، فأجاب الشيخ: (ليت لدي أيه قطعة سلاح. لقد دمرتها) وصاح به الضابط: (هيا عد، وهات ما بقي منها). رجع (سي الشيخ) إلى المتاهة (التيه). وفي هذه اللحظة قرر يقينا المجازفة، فإما أن يكسب حريته وإما أن يموت دونها. وأخذ في انتظار اللحظة المناسبة وهو في ظلمة دهليز الكهف، متحفزا لاغتنام أول بادرة. وجاءته الفرصة غير المتوقعة، فقد تم استدعاء الضابط الذي كان ينتظره من قبل قائده الواقف مع بقية الأسرى. ولم يبق هناك غير جندي وقف منتظرا خروج الأسير من الكهف. وانزلق (سي الشيخ) برفق نحو المخرج، واندفع من الفتحة بسرعة مذهلة، وضرب الجندي على كتفه ضربة أفقدته توازنه، وقفز من

فوق صخرة مرتفعة، فسقط أربعة أمتار ليستقر فوق قمة الأشجار الكثيفة، وصرخ الجندي الذي تلقى الضربة، فأسرع لتلبية صراخه نفر من الجند المتعطشين للدماء وقد ساد الصخب والضجيج فيما بينهم. وبقي (سي الشيخ) مختبئا وقد حمته الأشجار من أنظار المراقبين والمستطلعين. ولم يكن باستطاعته الخروج من الغيضة الآن إلا تحت مراقبة العدو، ولا زال أمامه ثلث الجبل الذي يجب عليه أن يجتازه حتى يبتعد عن منطقة الخطر. ولم يبق أمامه إلا حل واحد للخروج من مأزقه: محاولة الوصول إلى الوادي الواقع تحته، حيث يمكنه بعد ذلك السير لاجتياز الحقول الطينية بصورة حتمية، واذا ما أمكن اكتشاف أمره عندها، فسيكون قد ابتعد مسافة لا تقل عن ثلاثمائة متر. وخلال هذه الفترة كانت هناك زمرتان من جند العدو قد انطلقتا بأقصى سرعة لهما للإمساك يمجنبتي الجبل، وقطع كل طريق للانسحاب. وقفز (سي الشيخ) بغتة، وانطلق مسرعا - كالصاروخ - فاجتاز آخر غيضة من الغياض، وتابع مساره باندفاع مذهل في طريقه نحو السلامة، غير أنه كان باستطاعة الواقفين على مرتفعات الجبل مراقبة كل حركة، وكان الأسرى يبتهلون الله في سرهم بأن ينقذ شيخهم، ويتابعون تقدمه عبر حقول الطين وقلوبهم تخفق بشدة. وانطلقت بغتة نيران متصلة؛ وتدحرج الهارب، وأخذ يتلوى من الألم، غير أنه حاول الوقوف من جديد، فعاجلته نيران انصبت عليه كالسيل، فأغرقته ومزقت جسده. لقد استشهد (سي الشيخ). وخسر الشعب الجزائري باستشهاده مجاهدا من أفضل أبنائه المجاهدين، كما فقدت الثورة بطلا من أبطالها الذين يحق لها أن تفخر بهم على الأيام.

استقر جسد البطل (سي الشيخ) فوق أرض الحقول، وأحاط به قتلته وهم ينظرون إليه بحزن وأسف، لقد أرادوه حيا حتى ينفثوا فيه بعض حقدهم الأسود، غير أنه لم يمكنهم من إشفاء غليلهم ونيل مبتغاهم. وها هي حبات المطر، تأتي لتغسل له وجهه، وتكشف عن بيانه الناصع والذي كان يعبر، وهو في جموده، عن تحد مشوب بالاحتقار لهؤلاء الجنود الذين جاؤوا من العالم الغريب. وما لبث (نبلاء التهدئة) حتى انسحبوا تاركين (الشهيد) في وسط الحقول، والتحقوا بقافلة الأسرى للبدء بتنفيذ مذبحتهم، فصفوا خمسة من الأسرى أمام رفاقهم، وقتلوهم بسيل من رصاصهم، وكانوا يعتزمون متابعة العملية عندما وصلتهم الأوامر بالعودة إلى الثكنات، فتقرر نقل الأسرى إلى سجون (العين الكبيرة). وعند الاقتراب من أحد المنحدرات، اقترب الجنود من بعض أسراهم، وأقنعوهم بإنقاذ أنفسهم عن طريق محاولة الفرار، وتجربة حظهم. وأسرع أربعة من هؤلاء الأسرى في عدوهم يسابقون الريح، غير أنهم لم يبتعدوا أكثر من أمتار قليلة عندما حصدهم سيل من الرصاص، فسقط ثلاثة على الفور، وتمكن المجاهد (مجيدي حسين) من الفرار وحده، بعد أن أصابته جراح عميقة في فخذه، وأمكن له الاختفاء في ملجأ يصعب اكتشافه في غيضة من الغياض. وقد بحث الجند الفرنسيون طويلا في محاولة للعثور عليه غير أن محاولتهم باءت بالفشل (وعاد هذا المجاهد فالتحق بقوات جيش التحرير الوطني عندما شفيت جراحه). وصلت قافلة الأسرى إلى سجن (العين الكبيرة) مع هبوط الظلام. ولم يسمح لهم بالحصول على أي فرصة للراحة، حيث بدأت على الفور عملية تعريضهم للتعذيب الوحشي على أيدي

جلاديهم الأعداء. وعلى الرغم من ذلك، فلم يحصل الجلادون من أسراهم على أية معلومات من تلك التي أوصدت دونها صدور المجاهدين. علمت والدة (سي الشيخ) بمصرع ابنها وهي في (نيد روما). وكانت مثلها كمثل بقية السكان، قد غادرت الدوار، تاركة أرضها وثروتها. فاتخذت المرأة العجوز قرارها بالسير عبر دروب (فيلاوسين) الضيقة حتى ترى جسد ابنها الحبيب، وتودعه الوداع الأخير، مهما كلفها ذلك من جهد وعناء. وأمكن لها الوصول إلى (الدوار) ثم إلى المكان الذي استشهد فيه البطل. فرأت بأن الفلاحين في (عين فارو) وهو الدوار الذي يبعد مسافة أربعة كيلومترات عن (ولد بن راشد) قد قاموا بواجبهم الديني بعد ابتعاد الأوغاد، ودفنوا جثته. مضى عام على ذلك. وفي يوم 3 آذار - مارس - 1958، على وجه التحديد، تلقت هذه المرأة الشجاعة صدمة جديدة. فقد أقدم القتلة على اغتيال زوجها، بذات الرصاص الذي قتلوا فيه ابنها، وذلك في وسط مدينة (نيد روما) ومعه سبعة من رفاقه. وكان ذلك بعد مضي ثلاثة أشهر من قصف دوار (ولد بن راشد). وهو القصف الذي أزال هذا الدوار من عالم الوجود.

كلمة أخيرة

كلمة أخيرة وبعد! بمثل تلك النماذج البشرية العليا انتصرت الثورة الجزائرية. وبمثل ذلك الإيمان العميق استطاعت جزائر الثورة إنجاز هدفها العظيم. لم يكن المجاهدون جميعهم على درجة واحدة من الصبر والثبات والإيمان والقدرة على احتمال كره القتال. غير أن النماذج (الممتازة)، إذا جاز التعبير، قد دعمت روح الثورة بنوع من الصوفية وإنكار الذات لا يعرفه إلا المجاهدون حقا وصدقا. ترى هل كان باستطاعة جزائر الثورة الصمود في وجه أشرس حرب استعمارية عرفتها دنيا الاستعمار لو لم يتوافر لها جيل كامل من رواد الثورة العربية الإسلامية؟ ... لقد مارست فرنسا وجندها ضد شعب الجزائر وثورته ما لا قبل لفرد أو لشعب باحتماله؛ تقتيل وإبادة، إحراق وتدمير، نهب وسلب، انتهاك للحرمات، قمع يعجز القلم عن وصفه ويقصر الخيال عن تصوره، وصمد الشعب الجزائري طوال سبع سنوات ونيف. فأية قوة تلك التي استطاعت احتمال هذا القدر من الجرائم الإنسانية، والخروج من ذلك كله بالنصر؟ إنها قوة الإيمان، ولا شيء غير الإيمان.

إنها روح الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الدين ومقدماته، والدار وحرماتها. وقد يغتر مغرور، أو يندس دساس لئيم، فيقول: ولكن كان هناك بعض المسلمين، (كالقوم والحركيين) وسواهم ممن عملوا مع فرنسا ضد أبناء قومهم وإخوانهم في الدين. إن أمثال هؤلاء يتجاوزون الحقيقة عن عمد. يتجاوزون الحقيقة عندما يتجاهلون عوامل الضعف البشرية. ويتجاوزون الحقيقة عندما يتجاهلون تأثير الاستعمار وأساليبه الذكية - الخبيثة - طوال مائة وستة وعشرين عاما. ومع ذلك، فكيف كان موقف الكتلة الرئيسية من هؤلاء المضللين عندما كانت تصلهم دعوات إخوانهم للانضمام إليهم في الجهاد ضد أعداء الدين والوطن؟. تلك حقيقة تبرزها وثائق الثورة ذاتها، وتحفظها يوميات القتال. لقد كان معظم هؤلاء يستجيبون لنداء الثورة. ويهجرون معسكرهم ليعملوا مع إخوانهم في الله، وفي الدين، في الوطن، لقد ضمت الثورة في طليعتها الريادية نحبة، أو جيلا، من المؤمئين المسلمين الذين لم يتوافر مثلهم في جيل واحد، إلا وكان النصر في ركابهم. وبمثل تلك النماذج البشرية العليا انتصرت الثورة الجزائرية. وبمثل تلك النماذج البشرية العليا ستبقى الجزائر المجاهدة قاعدة راسخة من قواعد العرب المسلمين. وستحتفظ بمكانتها منارة تهدي التائهين في صحراء الظلام.

محتوى الكتاب

محتوى الكتاب

_ الموضوع ................................................ الصفحة

_ 4 - مهمة على موجات الأثير .......... 174 5 - مهمة في الأغوار .................. 186 6 - بطل من الأبطال .................. 203 كلمة أخيرة .............................. 219 محتويات الكتاب ........................ 221

13 - المجاهدة الجزائرية

المجاهدة الجزائرية

بسم الله الرحمن الرحيم

المجاهدة الجزائرية (والإرهاب الاستعماري) بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1404 هـ - 1984 م الطبعة الثالثة: 1411 هـ - 1990 م

الإهداء إلى أرواح الشهيدات المجاهدات من حفيدات خولة والخنساء. إلى العربيات المسلمات اللواتي حفظن لجزائر المسلمين أصالتها الثورية. وفجرن فيها ينبوع التضحية والفداء. إلى المؤمنات المسلمات اللواتي لا زلن على العهد بهن دائما، يحفظن لجزائر المسلمين دينها وقواعد صمودها ومجدها وعزها والعزة لله ولعباده المؤمنين.

المقدمة

المقدمة احتلت الثورة الجزائرية مكانتها السامية بين ثورات العصر الحديث، وبمثل ما كانت هذه الثورة جبارة، وعملاقه، كان دور المرأة فيها جبارا، وعملاقا. وللمرأة الجزائرية في نسيج الثورة ولحمتها قصة مثيرة لا بد من التعرض لها. لقد ران على جزائر المسلمين حين من الدهر، أحاق فيه بالعرب المسلمين بلاء لا يوصف، فقد استطاع الاستعمار الفرنسي تدمير المجتمع الجزائري بطرائق مبرمجة رهيبة، فتمزق هذا المجتمع أحزابا وشيعا، وانحرف من انحرف، واستسلم من استسلم، ويئس من يئس، إلا قلة عمر الإيمان قلوبها، وأنار الإسلام بصيرتها، فمضت مجاهدة تبشر بمولد الفجر الجديد للجزائر، وتعمل له. وكانت (قسنطينة) على وجه التحديد هي مقر الدعوة الجديدة، وكان (عبد الحميد بن باديس) وإخوانه العلماء هم طلائع التبشير بفجر اليوم الجديد - فجر الثورة الكبرى. تلك حقيقة باتت معروفة، ومسلم بها، لا تقبل الجدل أو النقاش. ولكن، وحتى من قبل أن تتفجر بواكير اليقظة، كانت هناك (الأم الجزائرية) متقوقعة في منزلها، منعزلة عن دنياها، تمارس دورها

الرهيب بعيدا عن عيون الناس الباحثة عن الطريق القويم. لم يكن هناك (تنظيم) أو (اتحاد) يوجهها. لقد استخلصت كل الحقائق من خلال تحليلها السليم للأمور، تحليل القلب المؤمن والعين المبصرة. والتقت كل النساء، المنعزلات، المتقوقعات، على الهدف، من غير مشاورات تمهيدية، ولا مقررات تنفيذية. وأمكن لها بذلك بناء قاعدة الثورة في منزلها. فاتصلت قواعد المنازل، وتشكلت القاعدة الصلبة. من هذه القاعدة، أشرق الفجر الجديد في الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر- 1954، عندئذ بدأ التحول، وانتقلت (الأم الجزائرية) من قاعدة عملها السرية - إذا صح التعبير - إلى ميدان الجهاد العلني، فمضت تؤجج الحماسة في النفوس، تدفع فتى العشيرة لحمل السلاح، وتودع الأب والابن والأخ وهي ترسلهم إلى ميادين القتال، ثم هي تحمل السلاح في معاقل الثوار، وتلقي القنابل في المدن وتقوم بكل الأعمال الخطرة، وتقبل التضحية بمثل ما كانت عليه أختها المجاهدة في صدر الإسلام. ويجن جنون الاستعمار. لقد كان يتوقع كل شيء، إلا أن تكون الفواطم (جمع فاطمة) على مثل هذا الإقدام، وبمثل تلك الجرأة، فيزج فواته في حرب وحشية، يكون للمرأة فيها قسط كبير. لم يكن تجريد العذارى من طهرهن، حبا في الانتقام فحسب، ولا رغبة مجونية عارضة فقط. إنما لتدنيس حرمة هذه التي صانها الإسلام وشرفها ورفعها إلى قدرها الذي تستحقه. واحتملت المرأة، صابرة، كل ما لحق بها من الإهانات، وكل ما ارتكب بحقها من الجرائم، فعرفت زنزانات التعذيب، وتعرضت للقتل، وعاشت حياة السجون والمعتقلات ومعسكرات الترحيل والانتقال

وكانت معاناتها أكبر وهي ترى ما يحل بقومها وأفراد عشيرتها وأبنائها وإخوانها. فكانت في كل مواقفها جبارة، وصامدة، وقوية. وأكدت بذلك أنها الطاقة غير المحدودة للبذل والعطاء. لكم تعرضت المجاهدة الجزائرية، ولكم عانت، ولكم احتملت من ظلم الاستعمار وجبروته. لقد عرفت الحروب، كل الحروب، ألوانا من البؤس والشقاء، كان للمرأة فيها نصيب كبير، غير أنه ما من تجربة مرت بها المرأة يقينا، تماثل أو تشابه تجربة (المرأة الجزائرية) لا من حيث اتساع أفق هذه التجربة، ولا من حيث شدتها وقوتها، ولا من حيث الوضع الخاص الذي تتمتع به المرأة المسلمة في منزلها ومجتمعها. وتمضي سبعة أعوام ونصف تقريبا، والجزائر المجاهدة تخوض حربها الضروس، وتصمد المرأة الجزائرية لأهوال هذه الحرب ومآسيها بصبر لا يوصف. وتصل الثورة إلى نهايتها الظافرة. وتبدأ مرحلة بناء ما بعد الثورة. وهنا لنا كلمة في نهاية البحث. لقد انتهت الثورة بالنصر، ولا زالت الحرب مستمرة. والدروس المستخلصة من (جهاد المرأة الجزائرية) كثيرة، وفيرة. غير أن هناك درس يتصدر الدروس المستخلصة من التجربة الذاتية. لقد حققت المرأة ما حققته بفضل تمسكها بأصالتها، وبفضل محافظتها على قواعد صمودها. ولا بد لها، حتى تستطيع متابعة دورها الحضاري من إعادة تقويم مواقفها، ودعم الدروس المستخلصة من تجربتها.

إن التقليد الظاهري هو أنة مجتمعنا العربي - الإسلامي الذي يعاني ما يعانيه في إطار الحرب الشاملة التي حلت فيها (وسائل علم النفس) و (وسائل علم الاجتماع) محل (الأسلحة التدميرية التقليدية). والمرأة العربية المسلمة - لا في الجزائر وحدها - وإنما في كل بقاع العالم العربي - الإسلامي مدعوة اليوم، وبإلحاح، لممارسة دورها، لأنها الأكثر قدرة - بحسب ما برهنت عليه التجربة الجزائرية - على (بناء المستقبل). وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله بسام العسلي

الفصل الأول

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة النور - الآية 19 - 21) الفصل الأول 1 - المرأة الجزائرية على مخططات الاستعمار. 2 - المرأة الجزائرية - أصالة عميقة الجذور. 3 - لوحة شعبية للمجاهدة الجزائرية. 4 - زغاريد النساء - اليويو-. 5 - رسالة من (مجاهدة).

المرأة الجزائرية على مخططات الاستعمار

1 - المرأة الجزائرية على مخططات الاستعمار أثارت المرأة الجزائرية خيالات الكتاب والباحثين، الشعراء والروائيين، بفضل ما أظهرته من ضروب الشجاعة في ميادين الصراع المختلفة ضد الاستعمار وقواته الفرنسية. فكان لها في كل مجال دورها: حملت السلاح مقاتلة في السهول والجبال، ودفعت الابن والزوج، والأخ والأب لحمل السلاح وخوض القتال، واستقبلت موت الأبناء والأحياء بمثل ما استقبلت (الخنساء) نبأ استشهاد أبنائها الأربعة، إذ أطلقت مقولتها الشهيرة، والتي باتت قدوة لكل مجاهدة: (الحمد لله إذ شرفني بشهادتهم). لقد ماتت الخنساء، وصمت عنها التاريخ، غير أنها بعثت في الجزائر بألف خنساء وخنساء. فكانت ترافق المجاهدين إلى معاقلهم وصياصيهم، تشاركهم مشاق الجهاد وتقدم لهم الدعم، وتقوم بالأعمال التي يصعب على المجاهدين في كثير من الظروف الاضطلاع بها، كإخلاء الجرحى والعناية بهم. ودفن الشهداء، وتأمين الإمداد والتموين للمجاهدين، ونقل الأسلحة والذخائر، وتأمين الاتصالات وتنسيق التعاون بين فصائل وسرايا وكتائب مجاهدي جيش التحرير الوطني، ونقل الوثائق بين القيادات، وتنظيم التظاهرات في

المدن، ومطاردة القوات الاستعمارية في كل مكان، بالمراقبة والمتابعة، وإطلاق الزغاريد (اليويو) التي طالما أثارت حماسة المجاهدين في ميادين الجهاد، وفي قاعات المحاكم عندما كانت (محاكم التفتيش الحديثة) تعقد جلساتها التظاهرية للحكم على المجاهدين والمجاهدات. وذهل العالم - الغربي والشرقي - على السواء لهذه الظاهرة. لقد اشتركت المرأة في الحروب الحديثة، ودخلت في صلب تنظيم القوات المسلحة، غير أنها لم تتمكن من الوصول والارتقاء إلى مستوى المجاهدة الجزائرية، لا في قدرتها على احتمال كرة القتال، ولا في صمودها ضد وسائل القمع والإرهاب، ولا في صبرها على نوائب الاستعمار وكوارثه. وكان ذهول الاستعمار الفرنسي أكبر من كل تقويم. ذلك أن هذا الدور الذي اضطلعت به المجاهدة الجزائرية قد جاء ليؤكد (سقوط كافة المخططات الاستعمارية) التي استهدفت تدمير أصالة الجزائر من خلال الحرب المنظمة ضد المرأة الجزائرية حتى تتحول إلى (دمية لا تصلح إلا للعبث) على نحو ما هو عليه حال (الغربية) التي دفعت إلى ما تكره تحت شعارات (الحرية والتحرر) و (الحضارة والمدنية) حتى باتت مكبلة بالقيود الثقيلة التي لم يعد باستطاعتها التحرر منها، أو الانعتاق من ثقل وطأتها، وباتت (حياة المرأة الشرقية - المسلمة) هو الحلم الذي تتطلع إليه المرأة (في مشرق الأرض ومغربها) والشواهد كثيرة لا مجال هنا لذكرها. المهم في الأمر، لقد عرفت فرنسا، ومنذ بداية استعمارها للجزائر، أن إحكام قبضتها على (جزائر المسلمين) إنما يكمن بالقدرة على (تدمير أصالة المرأة الجزائرية). ولم تكن أسئلة

(الجنرال دوماس) (1) التي وجهها إلى (الأمير عبد القادر) ضربا من العبث أو إرواء الفضول، أو بهدف (البحث الموضوعي) عن (المرأة الجزائرية المسلمة) وإنما كان وسيلة - في جملة الوسائل - لإحكام المخططات الاستعمارية ضد المجتمع الجزائري المسلم. كان (الجنرال - دوماس) من أكبر القادرة الفرنسيين في الجزائر، اشتهر بوحشيته في الحروب، وتعلم اللغة العربية، واطلع على أحوال المواطنين الجزائريين المسلمين، فوجه إلى الأمير (عبد القادر) مجموعة من الأمثلة تفضح - في حد ذاتها - النوايا الاستعمارية ضد دين الإسلام - عامة - وتخدم قضية الحرب الشاملة من خلال التركيز على قضبة (المرأة المسلمة). وقد أجاب الأمير عبد القادر - ببلاغته المعروفة، وحجته القوية، - فدحض المزاعم المطروحة من خلال الأمثلة. وقد يكون من المناسب التعرض لبعض هذه الأمثلة وما جاء في الرد عليها - بإيجاز - قدر المستطاع (2): سؤال: قد رأينا المسلمين يتزوجون من غير أن ينظر أحدهم إلى من يريد أن يتزوج بها، وربما عند الاجتماع يجد كل منهما في الآخر ما ينفره منه وذلك يؤدي إلى سوء المعاشرة مدة حياتهما أو الفراق لا محالة. (1) الجنرال دوماس: (UMAS ALEXANDRE DAVY DE LA PAILLETERIE) قائد فرنسي، من مواليد جزيرة سانت دومينك (1792 - 1860). من دهاقنة الاستعمار وقادة حربها في فترة التوسع الاستعماري الفرنسي في الجزائر. (2) نص الأسئلة، وإجاباتها كاملة في: تاريخ الجزائر - الأستاذ مجاهد مسعود - الجزء الأول - ص 391 - 410.

وكان في جواب الأمير عبد القادر: ورد في الحديث الشريف: (إذا أراد أحدكم أن يتزوج بامرأة فلينظرها، فإنه أحرى أن تدوم الإلفة والمحبة بينهما) ومن كلام العرب: (كل نكاح وقع من غير رؤية فعاقبته هم وغم) وكذلك (. . . والمرأة لا تخطبها حتى تسأل عن منصبها وخلقها) وكذلك: (الندامات ثلاثة: ندامة يوم وندامة سنة وندامة العمر - وندامة العمر هي في أن يتزوج الرجل من غير نظر، ولا سؤال خبير). سؤال: يتزوج المسلمون من غير أن يأخذوا من الزوجات مالا، والزوج هو الذي يدفع للمرأة الصداق. وبذلك تكون ملكه أو بمثابة الأشياء التي تشترى؟ وتضمن الجواب: (من كلام العرب: إذا خطب الرجل المرأة وسأل عن مالها، فهو سارق لص) ومن كلامهم: (يلزم أن يكون الرجل فوق المرأة بثلاثة أشياء، المال والسن والشرف - وإياك أن تتزوج المرأة التي تنظر لما في يديها) واعلم أن العرب لا يسألون عن المال لشدة حبهم لنسائهم، ولو دفع الرجل للمرأة قناطير من الذهب والفضة، لا يحسبها ملكه، ولا يجعلها بمثابة الشيء المشترى - كما زعمت -. سؤال: رأيت الناس يلومون العرب على ضربهم نساءهم، وعلى تكليفهن في الخدمة فوق طاقتهن، وعلى قلة المبالاة بهن، وهم مستريحون، لا يخدمون ولا يعملون شيئا؟ وتضمن الجواب: لقد نهى الشرع عن ضرب النساء، وقال الرسول (ص): (لا يضرب النساء إلا أشرار الرجال) و (أوصى بهن خيرا) وتضمن القرآن الكريم آيات كثيرة تحض الرجال على معاملة

النساء بالحسنى. وطلب الرسول (ص) من المسلمين، احتمال الأذى منهن بقوله: (من صبر على خلق امرأته أعطاه الله من الأجر ما أعطى أيوب على بلائه) وأما خدمة النساء وتكليفهن فوق طاقتهن وعدم خدمة الرجال فهذا أمر لا نعرفه وما رأيناه. سؤال: بنات الأكابر من المسلمين لا هم لهن إلا في زينتهن وتبرجهن، بحيث أنهن لا ينظرن إلى غير ذلك. ولا يحسن بالمرأة أن تهمل أوقاتها وتقضيها في البطالة فإن ذلك ينشأ عنه شرور كثيرة. وتضمن الجواب: إن المرأة المسلمة لا تترك الخدمة، سواء كانت من بنات الأكابر أو من بنات الأصاغر. وما سمعنا بامرأة معرضة عن الخدمة مقبلة عل اللهو والبطالة. وحكي أن امرأة من العرب كان أبوها أميرا وزوجها أميرا، وهي تغزل الصوف. فقيل لها: لماذا تغزلين الصوف، وأنت شريفة، غنية عن الغزل؟ فقالت: (إنه يطرد الشيطان، ويقطع حديث النفس) ومن أقوال العرب: (خير لعب المرأة بالغزل والإبرة) وأما اشتغال المرأة بالزينة في أوقات مخصوصة فهو مطلوب منها، لأن التزين من الأسباب التي تدوم بها الإلفة والمحبة بين الزوجين. ومن كلام العرب: (عقل المرأة في جمالها وجمال الرجل في عقله) ويلزم الرجل أن يتزين لزوجته بما هو من زينة الرجال. سؤال: نرى الرجل المسن من المسلمين يخطب البنت ويتزوجها، ولكن هذا لا يقع عند النصارى، إذ لا يصح أن يتزوج شيخ هرم بنتا هي في عمر أولاده أو أحفاده؟ وتضمن الجواب: هذا عيب، وقليل من المسلمين من يفعله، وعندنا، إذا صبغ الرجل شيبه، وتزوج من فتاة وأوهمها أنه شاب، فإن الشرع يعاقبه ويفسخ النكاح ويبطله، وكذلك المرأة العجوز إذا

تزوجت شابا صغيرا، حيث يتخذها الناس هزءا وسخرية. سؤال: المرأة عند النصارى تحب على ما فيها من الخصال الحميدة، وأما عند المسلمين فإنها لا تحب إلا على حسب جمالها، في الكثير وفي القليل، على حسب أصلها. وتضمن الجواب: قال الرسول محمد (ص): (تنكح المرأة لجمالها ولمالها ولحسبها ولدينها، فعليك بذات الدين) وقوله: (لا تنكحوا المرأة لمالها، فلعل مالها يطغيها، ولا لجمالها فلعل جمالها يرديها، وانكحوا المرأة لدينها). سؤال: يقال عن العرب أن الرجل لا يحترم زوجته، ولا يحبها إلا كخادمة له، ولا يشاورها ولا يقربها إلا عند قضاء شهوته، ولا يعتد بكلامها. وعندنا الأمر بخلاف ذلك، فنشاور المرأة في كل شيء، وهي رئيسة البيت. فكيف ينظر العرب إلى المرأة هذه النظرة؟. وتضمن الجواب: قال رسول الله (ص): (ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهان النساء إلا لئيم) وكان الرسول (ص) يرفع امرأته على يديه حتى تركب على البعير. وكان أمير المؤمنين - معاوية بن أبي سفيان - يقول: (النساء يغلبن الكرام من الرجال ويغلبهن اللئام منهم) ومن أقوال العرب: (يلزم الرجل أن يفعل مع امراته كل ما يحببها إليه حتى يكون هو أحب الناس إليها) واعلم أن العرب يطلقون لنسائهن حرية التصرف في البيت حتى تكون المرأة في بيتها مثل الحاكم على رعيته. سؤال: الذي يظهر أن غيرة المسلمين على نسائهن هي غيرة كبيرة، حتى أنهن لا يخرجن إلا ملتحفات ولا يظهرن لأصدقاء

أزواجهن ولا لأقاربهم، ولا لأقاربها، وعندنا النساء يخرجن باديات الوجوه يحضرن الحفلات، ولا يحجبن أنفسهن عن قريب أو بعيد؟. إن غيرة المسلمين ليست كبيرة، وإنما هي ميزان الوسط. والغيرة وهي كذلك ممدوحة، تفرض على الرجل ألا يتغافل عن مبادىء الأمور التي يخاف عاقبتها. ومن كلام العرب قولهم: (لا تبالغ في الغيرة على زوجتك فيرميها الناس بالزنا) وقال الحكماء: (كل أمة كانت الغيرة في رجالها، كانت الصيانة في نسائها، والغيرة في القلب كالقوة التي في البدن، تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة كان الهلاك، وإذا ذهبت الغيرة كان الفساد). سؤال: إن الطلاق عند المسلمين كثير. وعندنا لا يكون أبدا، ونحن نلومكم على ذلك لما فيه من الضرر على النساء وعلى الأولاد أيضا لكونهم يقعون في يد من لا يرحمهم كوالدتهم. وتضمن الجواب: للطلاق محاسنه ومساوئه، وهو أكره الحلال إلى الله، وفي قوله (ص): (تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش) ومن أمثال العرب (إذا لم يكن وفاق ففراق). فالطلاق راحة للرجل إن كانت امرأته خبيثة، وقد أذن الله للمرأة المسلمة أن تطلب الطلاق من زوجها إذا حصل لها من جهته ضرر. وهناك ديانات غير الإسلام تسمح بالطلاق. وأسئلة أخرى منها: - إن المسلمين لا يورثون البنت مثل الذكر، فكيف ذلك والكل أولاده؟ - .......... إن نساءنا يدخلن المدارس ويتعلمن الكتابة ويحصلن على

المعارف والآداب، بخلاف نساء العرب. فإن العربية إذا اتقت مع غيرها تكون غير عارفة ولا كيسة، وكثيرا ما تسقط لعدم معرفتها، وجهلها بأوضاع الحيلة، وإن كانت المرأة العربية أعرف من غيرها بآداب المحبة؟ نساء المسلمين لا يدخلن المساجد للصلاة. وأما نساء النصارى فيدخلن الكنائس ويتعبدن مع الرجال؟ - يقال إن المسلمين يمنعون نساءهم من الدخول إلى المساجد إذا كن صغيرات وجميلات، ولا يمنعونهن من السفر إلى الحج؟ - بلغنا أن بعض الناس يقولون أن النساء لا يدخلن الجنة. وما يكون مصير المرأة التي تتزوج بأكثر من رجل؟ - يقال أن المسلمة إذا ماتت لا يخرج الناس في جنازتها مثل الرجل، فهل هذا صحيح؟ - إن كثيرا من المسلمين لا يأنفون من تزويج المرأة الساقطة إذا تابت، ولا ينقص ذلك من قدرهم. بخلاف النصارى، فإن الذي يتزوج بالساقطة منهم يبتذل بين الناس، ولا يبقى له اعتبار عندهم؟ - المرأة عند النصارى يسرها ما يسر الجنس، ويحزنها ما يحزن الجنس، وهذا التجاوب يقوي الزوج على الحرب مع بني جنسه والدفاع عن بلاده، وأما المسلمة فقد لا تلتفت إلى ذلك؟ ... يستطيع كل انسان أوتي قدرا من العلم والمعرفة، والعلم بالإسلام وشريعته، والمعرفة بالحياة وطبيعتها، أن يجيب على هذه الأسئلة ويدحض ما تضمنته من مزاعم باطلة وافتراءات فاحشة على الإسلام وأهله، فكيف برجل مثل الأمير عبد القادر، وقد امتلك ناصية العلم والمعرفة؟! وليس المهم على كل حال، الدخول في محاورات ومناقشات للمفاضلة بين ما يطبقه الغرب من قوانين وشرائع

على مجتمعه وبين ما يلتزم به المجتمع العربي - الإسلامي من قضائل، فالقضية ليست قضية جدل أو نقاش أو حوار للتعارف وإقامة الجسور، إنما هي قضية تدمير لكل ما يمكن إقامته من جسور بين فضائل عربية إسلامية وبين تقاليد وعادات غربية وقد انتصر الغرب عسكريا، فأخذ في تحسس الطريق التي تمكنه من تحقيق انتصاراته الأخرى حتى تستقر له الأمور. وقد جاءت الأحداث المتتالية طوال ليل الاستعمار لتؤكد تلاحم الحرب الصليبية بالحرب الاستعمارية. وعلى هذا، وإذا كانت إجابات الأمير عبد القادر هي إجابات العلم والمعرفة للدفاع عن عالم الإسلام والمسلمين، لا في الجزائر وحدها، فإن الأسئلة بدورها، وإن كانت من أجل اكتساب المعرفة بالجزائر، ومجتمعها، فإنها كانت من أجل الهجوم على عالم العرب المسلمين بداية من الجزائر، ونهاية بالمشرق العربي - الإسلامي. ... ومضى قرن من عمر الزمن على استعمار فرنسا للجزائر، ونجحت السلطات الاستعمارية في تغيير الكثير من معالم المجتمع الإسلامي الجزائري. غير أن شيئا لم تتمكن من بلوغه هو تدمير قلعة الصمود من الداخل، فقد اعتزلت المرأة المسلمة بنفسها، وتقوقعت في معقلها، متحصنة بدينها، متدرعة بإسلامها. وقد برزت هذه الظاهرة بشكلها الواضح للمجاهد التونسي المولد، والجزائري الموطن، عندما قدم الجزائر منفيا (مبعدا) سنة 1925. فقال - بعد أن وصف فئة من الشباب الجزائري الذي انساق مع تيار الاستعمار، وما وصل إليه حالهم من السقوط والانحلال -: (أما السيدات، فلم يختلطن بمستعمر، ولم يعرفن أجنبيا، ولم يترددن على مدرسة -

أجنبية - ولم يدخل العبث والرجس بيوتهن، فكن من أطهر وأجمل وأجل ما يستطيع الإنسان ذكره عن سيدة كاملة، مسلمة، عربية، تقية، نقية، طاهرة، ورعة، حفظت من جزائر الأجداد دينها وإيمانها وعروبتها وعزتها وشرفها. وورثت عنها ابتها تلك التقاليد، وتلك الأخلاق) (¬1). لقد كانت خميرة الثورة كامنة هنا، في معقل صمود المرأة الجزائرية المسلمة، فلا غرابة في أن تقفز المرأة الجزائرية إلى موقع الغداء والتضحية عندما تتوافر لها الفرصة. ويعود الاستعمار إلى محاولاته التقليدية في محاولة تدمير قلعة الصمود من الداخل - عن طريق المرأة. وعرف قادة الثورة الجزائرية ذلك، فكان في جملة توجيهاتهم: (تنحصر مهمة الممرضين والممرضات والهلال الأحمر والصليب الأحمر في جلب الأخبار من النساء لما تسمح به مهمتهم من التمكن باتصال جميع طبقات الشعب، وإظهار مزايا فرنسا للمواطنين من عطف وشفقة ومعالجة وتوزيع للأدوية مجانا). (تقوم النساء من جواسيس العدو، ببث روح التفرقة بين النساء ورجالهن، وخلق سوء التفاهم، وحمل النساء - المسلمات - على أن يشتكين ببعولتهن إلى مكاتب الشؤون الأهلية - الساس - وأن يقمن - أي الجاسوسات - بمراقبة زيادة الأطفال والنساء في العائلات، ومن أين طرأت هاته الزيادة. وبالاتصال بنساء المجاهدين. والإيحاء إليهن بكل ما من شأنه التأثير عليهن؛ ¬

_ (¬1) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) سنيد - 1977 - 31/ 2 - 32.

وتحويلهن عن عقيدتهن، ويقلن لهن إن أزواجكن قد تزوج البعض منهم بالتونسيات أو المغربيات، وهجروكن) (¬1). وتفشل كل جهود الاستعمار في تحطيم قلعة الصمود الجزائرية. وتخرج المرأة الجزائرية المسلمة مرتدية عباءتها التقليدية (الغندورة) لتتصدى بصدرها لرصاص العدو. وتسقط شهيدة، فيما كانت أختها تعاني ألوان العذاب تحت سياط الجلادين. إنها صورة خالدة لم ترسمها ريشة رسام، ولم يحدد معالمها خيال شاعر، ذلك لأنها صورة واقعية ترتبط بتراث أصيل يضرب في جذوره عميقا إلى أعماق التاريخ الإسلامي في الجزائر. وإذا كانت المرأة الجزائرية - جاهلة للحضارة الغربية - فما أغناها عن معرفة تلك الحضارة التي لم تحمل إلى بلادها إلا الانحلال والتمزق والضعف. ولعلها لم تدرك ذلك في بداية الأمر بعقلها، غير أنها أدركته بقلبها المؤمن، فكان إيمانها هو مصدر معرفتها. ¬

_ (¬1) المرجع: (التعليمات السوداء) نشرة سرية داخلية صادرة عن أركان حرب جيش التحرير الوطني الجزائري - الولاية السادسة - 15/ 6/ 1961 ص 4 و 5.

المرأة الجزائرية (أصالة عميقة الجذور)

2 - المرأة الجزائرية (أصالة عميقة الجذور) لم يكن وضع المرأة الجزائرية، قبل اندلاع الثورة التحريرية، إلا جزءا شديد التلاحم بالوضع العام الذي كانت عليه الجزائر في كل مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبوضع الإنسان الجزائري بصورة خاصة. ويفرض ذلك بالضرورة العودة إلى الوراء، عبر المسيرة التاريخية، لمعرفة مكانة المرأة الجزائرية في مجتمعها. ولما كان من المحال الإحاطة الشاملة بوضع المرأة التاريخي - دون إهمال أي جانب - نظرا لما تفرضه هذه المحاولة من خروج بالبحث عن هدفه، ونظرا لما يتطلبه ذلك من إسهاب يتطلب بحثا مستقلا - بحد ذاته - فقد يكون من المناسب تقديم صورة مختصرة لا تفقد على الرغم من إيجازها الأبعاد التكاملية، ولا يضيع فيها وضوح المعالم. ولا تغيب عنها عملية الربط بين الشكل والمضمون. ويمكن في هذا المجال العودة إلى نقطة زمنية معينة تعتبر البداية لما هو معروف من تاريخ الجزائر. لقد تميز المجتمع الجزائري - قبل الإسلام - بكل خصائص المجتمعات القديمة ومميزاتها، وتوافرت لهذا المجتمع عوامل جيواستراتيجية واقتصادية وسياسية وثقافية أسهمت في تكوينه تكوينا

منفتحا يضم كل المقومات الإنسانية. ولقد شهدت ذرى الأوراس، من عليائها، تفتح الحضارات التي تنساب على السفوح والسهول الساحلية، بداية من القرطاجيين ونهاية بالرومانيين - ثم البيزنطيين بعد انهيار روما على أيدي البرابرة الغربيين - ونجم عن هذا التفاعل بروز شخصية إنسان المغرب عامة وإنسان الجزائر منه خاصة، حيث تميزت هذه الشخصية بمرونة الإنسان البدائي وبساطته المدفوعة بالفطرة إلى التطور والتجديد والاندفاع. غير أن هذه الشخصية احتفظت أبدا باستقلاليتها، لقد كانت الجبال هي المعاقل الحقيقية التي لم تتمكن الحضارات القديمة من بلوغها، وبقيت السهول هي منطقة الاحتكاك وأداة الاتصال بين سكان البلاد الأصليين وبين موجات الحضارات المتصارعة على سفوح البحر. في هذا المجتمع كانت المرأة تتمتع بالاحترام والتقدير، وتحظى بالرعاية، مسموعة الكلمة، قوية الشخصية، ولعل كل ذلك، هو الذي جعلها القاعدة القوية لخلية المجتمع الأساسية (الأسرة). في هذا المجتمع، الذي تهيمن عليه القوة والمثل العليا، وتبرز فيه قيمة الحرية وتعشقها، كانت المرأة تبعث الحياة، وتشارك في كل صغيرة وكبيرة. فكان ركوبها للخيل ومشاركتها في الزراعة والحرب أمرا طبيعيا مثل عنايتها بطفلها. ولتكون الصورة التي حفظها التاريخ لمكانة المرأة أكثر وضوحا، خلال تلك الحقبة التاريخية، يمكن تذكر (الكاهنة) التي تربعت على عرش الجزائر من دون الرجال. ويمكن اعتبار التعرض لسيرة من هذا النوع دليلا على ما كانت عليه المرأة الجزائرية القديمة من القدرة والكفاءة، وليس ذلك فحسب بل إنه دليل أيضا على ما كانت تحظى به المرأة من المكانة حتى أن مجتمعها القبلي ملكها عليه، وحكمها في الوطن

والرقاب والأموال. ولم تكن لهذه المرأة القائدة ميزة الشجاعة والبطولة فحسب، بل كانت تعمل بفكرها الثاقب أيضا، وموقفها من الفتح الإسلامي خير دليل على ذلك، فقد تصدت الكاهنة لقوات المسلمين بحزم وشجاعة. واستطاعت إلحاق الهزيمة بهم إذ اعتبرتهم موجة من موجات الغزاة، ثم تعرفت على الإسلام والمسلمين من خلال (خالد بن يزيد) الذي تبنته وجعلته كواحد من أبنائها. وعندما عاد (الحسان بن النعمان) لاستئناف الفتح (سنة 81 للهجرة) وعرفت الكاهنة أنه لا قبل لها بمقاومة جحافل المسلمين، ولا قدرة لها على مقاومة التطور الذي يحمله الإسلام، دفعت بابنيها مع (خالد بن يزيد) للالتحاق بجيوش المسلمين. ورفضت الفرار، حتى لا تحمل عار الهزيمة، وخاضت المعركة في سفوح الأوراس وهي مقتنعة بخسارة المعركة مسبقا. ولقيت مصرعها (عند بئر الكاهنة) تاركة للمجتمع الإسلامي القدرة على النهوض والارتقاء، فكان مصرعها هو نقطة الالتقاء بين عالمي (الجاهلية والإسلام) فوق الثرى الجزائري. وكانت مقاومة الكاهنة شبيهة بمقاومة (هند بنت عتبة). غير أن الأولى لم تستطع التكيف مع المجتمع الجديد، في حين ارتضت الثانية لنفسها الإسلام دينا. وقام المجتمع الاسلامي في المغرب العربي - الإسلامي وفي الأندلس، واحتفظت المرأة المسلمة (عربية وبربرية) بكل الفضائل التي تضمنها الإسلام، وأصبحت هي القاعدة الصلبة التي توحد ولا تفرق، تجمع ولا تبدد، في الأخوة لله ودينه، وانصهر هذا المجتمع تحت راية الجهاد في سبيل الله، وأصبحت قيم المجتمع وفضائله راسخة الجذور في المجتمع المتكامل. وكانت عملية الربط بين الدين الإسلامي وبين الجهاد في سبيله إرثا ثابتا تتناقله الأجيال عبر

توجيه الأمهات وأحاديث الجدات. وتحول المد إلى جزر، ووقعت الجزائر أول ضحية لهذا التحول وهنا عادت (المرأة الجزائرية) لممارسة دورها التاريخي اعتبارا من اللحظة التي اجتاحت فيها قوات الاستعمار (الجزائر المحروسة) يوم 5 تموز - يوليو - 1830. والأمثلة عن هذا الدور متوافرة بكثرة، لعل من أبرزها وأكثرها شهرة هي قصة إحدى بطلات الجزائر (لالافاطمة نسومر) التي قادت المجاهدين والمسلمين الجزائريين في ثورة عارمة (عام 1857) ضد قادة الجيش الفرنسي - جنرالاته - فكانت مثالا رائعا لجهاد المرأة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. ولم يكن استشهادها هو مجرد إضافة لموكب الشهيدات المدافعات عن الدين والوطن، وإنما إعلاة وتأكيدا لمكانة المرأة المؤمنة القائدة في مجتمع المجاهدين. ومع التركيز على ذكر المرأة في ميادين الجهاد، فإن الأمر الواضح هو أن هذه المرأة كانت عضوا فعالا في المجالات التعليمية (الثقافية) والاجتماعية والاقتصادية قبل الغزو الفرنسي الاستعماري وكانت لها مكانتها اللائقة بها في أسرتها ومجتمعها، وكانت تشارك في جميع الأعمال - الشاقة وغير الشاقة - مما تتطلبه حياة الريف. وكانت في المدينة أيضا تتبوأ مكان الصدارة في مجالات الثقافة والفكر والأدب، مما ساعدها على الإسهام في رفع المستوى الاجتماعي للوطن الجزائري لقد فرض الاستعمار الفرنسي شكله البغيض، وطبق مخططاته الجهنمية، على شعب الجزائر، الذي عاش فترة تاريخية مظلمة، وذلك لأنه لم يكن استعمارا ماديا (اقتصاديا) فحسب وإنما كان أيضا استعمارا معنويا (روحيا) واستعمارا استيطانيا، كاد أن يقضي على أصالة هذا

الشعب ويزيل شخصيته العربية الإسلامية المميزة، والمتمثلة بدينه ولغته وتاريخه وتقاليده، التي تحتل الحرية فيها المرتبة الأولى. لقد استعمل المستعمر ضد الجزائر والجزائريين مختلف أساليب الظلم والوحشية، وحاول تجريدهم من المقومات والمبادىء الوطنية، بتبديل علمهم، ومحاربة دينهم ولغتهم، وقلب نظام حياتهم الاجتماعية فقرا وحرمانا، وحضارتهم وتطورهم تخلفا وانحطاطا. ثم بعد أن تم له ذلك بدأ يوهمهم أنه الكريم صاحب الغاية الحضارية السامية. وصار يعطيهم جرعاته المسمومة باستمرار من فكره ولغته وتقاليده طمعا في الوصول إلى عملية (فرنسة عامة) فهل تم له ذلك بالنسبة للمجتمع عامة وللمرأة بصفة خاصة؟ إنه بالنسبة للمجتمع لم يقدر إلا على تشويه السطح والمظهر، أما المضمون والروح فبقيت نقية أصيلة، وكان يوم ثورته أهم عوامل انتصاره. وأما المرأة، فنجدها رغم جهلها، وحالة التخلف والجمود التي تجرعت منها أكثر من أخيها الرجل، بسبب وضعها داخل البيت، ينقسم كفاحها ضد عمليات القمع والتشويه الاستعماري إلى نوعين اثنين: أولهما: كفاح ظاهر ومباشر، ويتميز في المظاهرات والتنظيمات والنشاطات الحزبية والإصلاحية. وثانيهما: كفاح ضمني وغير مباشر، وهو ذلك الموقف الإيجابي الذي وقفته كمسؤولة عن مقومات الأسرة وعاداتها وتقاليدها الروحية والحضارية. وبالتالي موقفها إزاء مقومات وخصائص المجتمع عامة، حيث أشاحت بوجهها عن كل ما هو أجنبي واستعماري بما في ذلك الثقافة والتعليم، متفطنة لدور الإغراء

والإثارة الذي يمثله المستعمر معها قصد كسب ثقتها، لأنها على رأس خلايا المجتمع. ولقد رأى أنه لا طريق أحسن وأضمن للوصول إلى تدمير شخصية هذا الشعب وأصالته وفضائله إلا بالاستيلاء على عقل المرأة، حتى تكون بعد ذلك أداة لتحويل الأسرة وبالتالي المجتمع عن هذه الأصالة. ولقد تعمدت - أكثر - التمسك (بالحجاب) واستماتت أكثر في التمسك - بالعادات والتقايد حتى لا تترك للمستعمر ثغرة ينفذ منها لمحاربة شخصيتها. هذه لمحة تاريخية وجيزة عن دور (المرأة الجزائرية) عبر التاريخ، والتي برهنت عن وعيها ووطنيتها واسماتتها من أجل الحفاظ على الوطن وقيمه وشخصيته. وما المرأة المجاهدة إلا امتداد طبيعى لتلك المرأة الجزائرية التي ما بخلت يوما أو تأخرت عن العطاء والتضحية. ... لقد كانت الحرية أبدا هي الشيء الذي لا بديل له لتقدم العقل وتطور الروح. وقد كان غياب الحرية باستمرار هو أداة تجميد العقل وإصابة الروح بالشلل. وبرهنت التجربة التاريخية عامة، وتجربة التاريخ العربي - الإسلامي منها خاصة بأن أي تقدم للبشرية، وأي تطور للانسانية مرهونان بالحرية والعدالة. والحرية شيء لا بديل له، لأنه ليس كالأشياء الأخرى التي تكتب بالبيع والشراء، وإنما هي شيء لا يمكن تحقيقه إلا ببذل الأرواح والدماء رخيصة في سبيله، شيء لا يمكن شراؤه ولا بيعه ولا التفاوض على كسبه. وهنا يمكن القول بأنه ليس من قبيل المصادفة أن ترتبط الدعوة إلى تحرير الوطن بالدعوة إلى تحرير المرأة. وقد كان ذلك هو هدف جهاد المتعلمين والمفكرين والمصلحين - بل إن الرواد الأوائل الذين

تصدوا للدفاع عن المرأة كان معظمهم من المدركين بثاقب فكرهم مدى الحاجة إلى تحرير المرأة كضرورة اجتماعية وحضارية من أجل اللحاق بالمجتمعات الإنسانية المتقدمة. وهكذا، فعند اندلاع الثورة التحريرية، كان المناخ الاجتماعي الذي تعيشه المرأة متشبعا بالاستعداد للتفاعل والحركة والعطاء. مثلها كمثل الجماهير الجزائرية بصورة عامة. لتعيش أخصب الفترات في تاريخ الجزائر الحديث. ووجدت لها المتنفس في غرة نوفمبر (تشرين الثاني) 1954. إن عدد النساء في كل بلد يقدر بنصف سكانه على الأقل، وبقاؤهن في الجهل والسلبية والتواكل يعد حرمانا من الانتفاع بأعمال نصف المجتمع، ويكون سببا في فشل عمل الرجل ذاته بنسبة كبيرة. بهذا المفهوم المنطقي للثورة استقبل مناضل ومجاهد ثورة الفاتح من نوفمبر (تشرين الأول) 1954، أخته وأمه وابنته، ملقيا عليها أعباء كثيرة من مسؤوليات الصراع المسلح. وكانت عند حسن الظن بها وقد اشتركت جندية وممرضة ومسؤولة عن التموين والسلاح. ومسؤولة عن الاتصالات السرية في جميع جبال الولايات الست، زيادة على دورها المعروف في المدينة كفدائية ومسبلة وكان ما كان ... مما يقابل الكفاح والفداء من معاملات استعمارية ضد كل الثوار. فعذبت المرأة أشنع أنواع التعذيب. ولفظت روحا سعيدة مع أنفاسها، لأنها لم تعترف على مواقع إخوانها. واستعملت معها أبشع وأقذر أشكال الإهانة لإنسانيتها وطبيعتها، وعوملت بوحشية وعذبت بالسجون والمعتقلات وحكم عليها بالإعدام. ورغم ذلك بقيت صامدة حتى النصر.

البيعة الشعبية (الفواطم) تحمي الثورة وترفع رايتها

وقد كانت (صحوة الموت) بالنسبة للاستعمار الفرنسي في الجزائر هي ثورة المستوطنين في 13 - أيار - مايو - 1961.وإسقاط الجمهورية الرابعة في فرنسا واستيلاء ديغول على الحكم. يومها، فتش الاستعمار في دفاتره القديمة عن كل سلاح يحاول تجربته لأخر مرة. ومن بينها سلاح (السفور) و (تحرير المرأة). وعقد (سرستيل) اجتماعات أطلق عليها صفة (شعبية) حشد الناس فيها بالقوة، وخطب داعيا إلى (تحرير المرأة الجزائرية). وتحت ضغط السلاح، أكرهت بعض النساء على خلع الحجاب وإحراقه، في حركة مسرحية، أمام الجماهير بعد انتهاء الخطب في ساحة أفريقيا بالعاصمة (الغروم سابقا). وكان هذا الحادث كله كأنه الإشارة السرية، ففي اليوم التالي لم تظهر امرأة جزائرية واحدة في الطريق سافرة، حتى اللواتي كن قد أسفرن عن وجوههن قبل الحادث عدن إلى الحجاب. كانت مظاهرة تقول للمستعمر أن الجزائرية لا تخلع حجابها بدعوة من المستعمر، ولكنها تخلعه في ساحة القتال، لترتدي ثياب الجهاد والاستشهاد. لقد توافرت مجموعة لا نهاية لها من الشواهد التي تبرز دور المرأة أثناء الحرب، وما تميزت به من الإقدام وروح التضحية. فوقفت نساء المدن وهن يتحدين قوة العدو التي كانت تواجههن وكن يزحفن للقاء الموت من أجل الكرامة. ولا زالت ذكريات المرأة الريفية نابضة بالحياة وهي تحتمل كل الصعوبات، وتعاني من كل ويلات الاستعمار. وتضحي بنفسها وأولادها وزوجها لمساعدة المجاهدين. وكم من مرة رأت كوخها وهو يحترق أمام عينيها. أو أطفالها يقتلون، أو زوجها وهو يحفر قبره بيده. ورأينا المرأة الجزائرية في الجبال وهي تحمل السلاح أو تعمل كممرضة أو

طبيبة، وهي تنتقل من دشرة إلى أخرى. وخاضت المرأة المعركة بجميع جوانبها، بكل حزم، مثلها كمثل الرجل، يدا بيد. وصمدت لكل أهوال الحرب حتى ساعة النصر. وبرهنت بذلك أنها عضو كفء لتحمل أصعب المسؤوليات، وتنفيذ أخطر أعمال الفدائيين وسجل لها التاريخ ذلك بأحرف لا تنسى على مدى الأيام. وأصبحت قدوة يقتدى بها، ومثالا تحتذي به كل نساء الشعوب الباحثة على الكرامة والحرية (¬1). ¬

_ (¬1) - المرجع: (المرأة الجزائرية) - بتصرف - وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 9 - 14 و20.

لوحة شعبية للمجاهدة الجزائرية

3 - لوحة شعبية للمجاهدة الجزائرية (يا نساء ولولوا ... نحي علينا الغمة!) ويرتفع صوت امرأة ثانية، يغلفه الانفعال ذاته، فيجب بلهجة نصف آمرة، ونصف متوسلة: (لا، لا! الدياب يهجموا علينا) الذئاب ستهجم علينا لتأكلنا، لتطردنا من المحكمة!! يا للحوار العجيب! كان ذلك يوم 12 كانون الثاني - يناير - 1959. حيث كانت المحكمة العسكرية تعقد جلساتها بشكل استثنائي في قصر العدل في مدينة الجزائر لمحاكمة (الاتحاد العام للعمال الجزائريين). وكان الجو هو الآخر غريبا. الجمهور واقف، كثير العدد، ومعظمه من الجزائريات المحجبات. إن الصورة التي أعطيت عن زمن السلم تذكر بقصيدة الشاعر الفاسي الذي غنى (الجمعة، يوم خروج الريم) الغزلان البيضاء التي تشاهد أيضا في مدينة الجزائر حول الحمامات وقبو القطار، وضريح سيدي ابراهيم - قرب الأميرالية - أو حول جامع سيدي محمد في (البلكور). لكن الصور الخيالية تتلاشى عندما يتجه النظر تحت تأثير قرقعة السلاح، إلى جموع

الجنود والشرطة، اللابسين ثيابا مدنية، يحاصرون جمهور المحكمة النسائي. إنه لمن الأقرب إلى المعقول والواقع أن يتذكر المرء اللوحة الشهيرة التي رسمها مواطننا (الحاج إتيان ديني - الرسام والكاتب) وجد فيها رؤياه السياسية والجمالية لسكان الجزائر الأصليين، فقد صور جزائريا مقيدا يمشي بين فارسين من فرسان الجيش الاستعماري، على طريق النفي إلى سجن في الصحراء. إنها لوحة حية للجزائر المجاهدة، فالنسوة المجتمعات تراهن حول السجون، وحول الثكنات، وحول مراكز التعذيب وحول معسكرات الاعتقال والمحاكم العسكرية، لذلك كن مرهفات الحساسية إزاء التكريم العلني الذي أداه لهن الجميع. فقد عمدت (جبهة التحرير) وهي في قفص الاتهام، إلى تمجيد وطنية الجزائريات اللواتي أعطين الثورة - قلبهن وروحهن - مجاهدات وفدائيات، مجندات ومقاتلات. ذلك هو المنبر التقليدي - الكلاسيكي - للثوريين. إن الاستجواب يستحيل مديحا هجوميا للثورة التي لا تقهر. ولقد لجأت جبهة التحرير إلى استخدام جميع الوسائل لبلوغ غايتها، وهي استقلال الجزائر. ... مارس الفدائيون في المدن دور قوة مغناطيسية، بصورة طبيعية تماما، وكللتهم نساء بالمجد الصوفي، وهو ذات المجد الذي يكلل هامات المجاهدين المرتدين لثياب الجنود النظامية. إن المحبة الجماعية، الدينية والوطنية، للمجاهد، تتحد بنوع آخر من التقدير، هو الإعجاب بوجه المحرر الذي ضرب في كل يوم موعدا له مع الموت. وتجذرت هذه المشاعر في أعماق قلوب الشعب، وكان

خطوات ثابتة - في موقف يثير الهلع وسط الاستعماريين

التعبير عنها لدى هذا الشعب هو في التضامن العملي مع الأبطال. لقد كان الولاء والشجاعة ونكران الذات من الصفات النادرة جدا في ظهورها سنة 1954، فأصبحت ابتداء من سنة 1956، وعند ولادة فرق الجهاد في المدن عملة رائجة، كثيرة التداول. وللمسلمات حساسية خاصة تجاه القدر الذي رسمته السماء للمحارب الذي جعل منه الإسلام بطلا مثالتيا غير خاضع لعوامل الضعف البشري. وهن يؤوين منقذي الوطن المدنس، ويوفرن لهم الطعام ويخدمنهم، ويعالجن الجرحى، ويخبئن الهاربين والمطاردين - وأصبحت النساء المسلمات بطريقة عفوية، مساعدات ورديفات للفرق المسلحة، يؤمن الاتصال العاجل، بل ينقلن حتى السلاح أو الذخيرة. وهن يعتنين بأيتام الأمة الجريحة، وأبناء الشهداء، الشهداء الناصعي الجبين والقلب، والذين يمكن دفنهم بثيابهم. فهم - وفقا لما سنه الشرع - في غنى عن مراسم دفن الموتى - التقليدية، ولا حاجة لتكفينهم بالأكفان البيضاء الناصعة. وهكذا فإن إرهاب المدن لم يتدخل بشكل كيفي في عملية تطوير المقاومة الإجماعية للشعب، وإنما هو انطلق من قلب الجماعة، ووفق التأييد الجماعي، حيث الظروف الموروثة مباشرة من المجتمع الإسلامي، تتيح المجال أمام المساعدة المتبادلة. ويمكن إيضاح هذه العلاقة الجدلية المتبادلة من خلال مثلين عكسيين: في الحالة الاولى: يظهر إرهاب المدن وهو يمارس دور الوازن السياسي للقوى الشعبية. في حزيران - يونيو - 1956، حدثت الاعتداءات الأولى على الأوروبيين، وكانت أعمالا انتقامية مشروعة. فلقد كانت جبهة

التحرير الجزائرية قد أعلنت في بياناتها أنها ستثأر للمجاهدين (زيانان) و (فراج) جنديي جيش التحرير اللذين وقعا في الأسر وهما في ثيابهما العسكرية، وأعدما بالمقصطة، خلافا للأعراف الدولية في ما يتعلق بأسرى الحرب. وفي تموز - يوليو - 1956، حدث أول اعتداء غاشم! جريمة رهيبة! أول قنبلة استعمارية! فقد وضعت ليلا في شارع (طيبة) ولما انفجرت دمرت بضعة منازل عربية وذهب ضحيتها (53) شخصا وسقط مئات من الجرحى. وثارت ثائرة (حي القصبة) وعم السخط ورغبة الانتقام كل السكان. ولم يهدىء هؤلاء غير التدخل المباشر، التدخل الجسدي والسياسي للفدائيين والفدائيات. وجاء كاتب فرنسي ليعالج الموهف: (حيال اللامبالاة العامة - ظاهريا - في موقف الرأي العام الفرنسي، والسلطات العامة الفرنسية، نجد أن المسلمين في اضطراب شديد: لقد دب فيهم الشعور بأنهم أسلموا، دون حماية ولا سلاح ولا عون شرعي من أي نوع كان، إلى الجريمة بكل معنى الكلمة، إلى التقتيل، وعندما انفجرت بدورها، بعد ذلك بشهرين، القنابل الأولى لجيش التحرير الوطني الجزائري، استقبلت بالترحاب الحار في أوساط أكثر فأكثر أهمية بين أوساط الرأي العام عندهم، ولا غرابة بعد هذا أن يظهر واضعو القنابل بمظهر - حماة الشعب - و - الأبطال الوطنيين (¬1) -). لا شك مطلقا في أن ذلك الاتصال الحميم مع الجماهير، أو بالأحرى تلك الحياة داخل الشعب هي التي جعلت جبهة التحرير ¬

_ (¬1) جرمين تيون (الأعداء الإضافيون) باريس 1960 ص 176 - 177 .

الوطني قادرة على تجنب الموجة الحيوانية التي أطلقتها منظمة الجيش السري الفرنسي. ولقد عمل إرهاب المدن، إرهابنا المحرر، كصمام الأمان. وأتاح للمواطنين الذين أرهقهم الصراع غير المتكافىء، وأثارهم الظلم الفرنسي الذي استمر يمارس ضغطه على الأفريقيين دون الأوروبيين، أن يفجروا كبتهم، وأن يحتفظوا برباطة جأشهم، وأن يتقيدوا بالانضباط الثوري. أجل! لقد تصرفت (فرق الموت) في كل من (الجزائر ووهران وقسنطينة وتيزي أوزو وسطيف الخ ...) تصرف القوى السياسية حتى تحول دون وقوع مجازر طائفية. واعترفت بذلك صحيفة فرنسية، ولو أن الاعتراف بهذه المأثرة قد تأخر كثيرا، حيث ذكرت ما يلي: (لا ريب في أن الانضباط الصارم الذي تتحلى به جبهة التحرير الوطني هو الذي كبح جماح المسلمين عن القيام بعملية انتقام من الأوروبيين. حيث كان تأثير الجبهة أقوى بكثير من عامل الخوف من الجيش الفرنسي (¬1)). نصل الآن إلى الحالة المعاكسة، وهي أن القوى الشعبية بالمقابل، تؤمن إيمانا مطلقا بالقوة غير المحدودة لإرهاب المدن. وإذا كان واضعو القنابل يظهرون بمظهر (حماة الشعب) فإن الطاقة البشرية ستكون، بالتالي، دائمة التفجر، ولن تنضب. إنه (الاختيار) الذي يلغي الذريعة السخيفة التي يتذرع بها العقداء السافلين - الكولونيلات - وهم يحاولون تفسير التجدد الدائم للباحثين عن الخطر والعذاب والاستشهاد، بأنه نتيجة الإكراه لا الاندفاع. إن تجميع الفدائيات يتم وفقا لاختيارهن المطلق الحرية. ويمكن في ¬

_ (¬1) صحيفة (الإكبرس) الفرنسية 8/ 1962/3.

هذا المجال ذكر أسماء الفتيات (ملقيات أو قاذفات القنابل) اللواتي نجون من الموت، واللواتي رفضن العودة إلى العمل حيث فقدن القدرة على المجازفة بحياتهن من جديد، أو القيام بتنفيذ الواجبات بما يتطلبه تنفيذها من الشجاعة إنه مثل بين الأمثلة عن المشاركة النسائية في انطلاقة الثورة العملاقة. وفوج المجاهدات من بنات المدينة هو على صورة الإجماع الشعبي كله. وبالإضافة إلى تنوع أصولهن أو طوائفهن، هناك التنوع الإجماعي (فبين المجاهدات الفتاة والأم) أو المهني (طالبات حقوق أو طب، موظفات، عاملات في المنازل، خادمات أو ممرضات طالبات، معلمات بالفرنسية أو بالعربية، عالمة، مذيعة وممثلة، مولدة، طبيبة ..) هذه ثروة ساحرة من إنكار الذات على الصعيدين الشخصي والعام. إن الجزائريات، كل الجزائريات، قد انتزعن حقهن بالمواطنة الكاملة غير المنقوصة. وسيكملن ذكرى الشهيدات الخالدة ذكرى الشقيقات الشهيدات في قلب المعركة التحريرية. وهذه بعض الأسماء في قائمة طويلة ومقدسة. زاهية، سقطت شهيدة وسلاحها في يدها إلى جانب رامل. حسيبة بن بوعلي، دفنت حية مع علي لا بوانت (عمر علي) ومحمود، 17 سنة، وعمر 13 سنة. ورويدة مداد، ألقيت من الطابق الثاني من مركز التعذيب في مدرسة ساروي. بهية، بترت ذراعاها، وأحرقت ساقاها بلهيب الغاز المذيب للمعادن.

أما الناجيات من الموت، اللواتي سبق أن أصدرت المحاكم العسكرية الاستعمارية أحكاما بإعدامهن، فقد كن يعرفن كيف يؤثرن فينا، كأن يروين لنا، بمنتهى التواضع، قصص نشاطهن المحفوف بالمخاطر. إننا سنعود - في الفصل الثاني - لنكتشف مرة أخرى في أدب المقاومة شهاداتهن المباشرة حيث الكلمات العادية، البسيطة، تتحول في روايات (سجن فرين) وسواه من المعتقلات الى قصائد شعرية تعجز عن بلوغها كلمات الشعراء، وتصوراتهم المبدعة المجنحة. لقد كان إرهاب المدن هو الخميرة المولدة للبطولة الثورية التي تفتحت على تحولات اجتماعية مذهلة. ... يختلف الواقع النفسي - السياسي اختلافا تاما عن الفكرة التي يكونها عنها (الشيوعي الفرنسي) أو (الجزائري المهاجر المتفرنس) حين يتحدث عن جزائر يجهلها. لقد نصبت الثورة نفسها، بمراقبة جبهة التحرير الوطني، مدافعة عن ذاتها، لتنقذ كرامة المجموع وكرامة الفرد. وكل جزائري، وكل جزائرية، واعيان إلى ضرورة التنكب عن العفونة للوصول إلى التقدم والنهضة. ليس صحيحا أن الفعالتية هي بالضرورة غير صافية. إن السلوك الجماعي والفردي للمجاهدين يثبت على الضد، أن الصفاء هو الفعال. وكيف يمكن الشك في هذه الحقيقة عندما لا تكون أعمال الفداء والجهاد والقتال المسلح امتيازا خاصا بالرجال؟

النساء حاضرات في كل مكان من الثورة الوطنية. لحسن الحظ! ذلك أنه إذا ما أريد تقدير المقاومة الإنسانية الخارقة حق قدرها. فإنه لا بد من التذكر أبدا تلك المخططات الرهيبة التي وضعها (لاكوست) و (غي موليه). والتي أشارت إليها كاتبة فرنسية - بموضوعية ووضوح في صحيفة شيوعية: (الخلاصة: تلقى الجيش الفرنسي أمرا في أيلول - سبتمبر - من العام 1956 يقضي بإبادة العناصر القيادية السياسية - العسكرية للثورة - العصيان - وبكل الوسائل. والترجمة العملية لمضمون العناصر السياسية - العسكرية المقصودة، هو جميع شخصيات المدن وصفوتها ونخبتها، وجميع الشباب المتعلم (¬1)). ودعمت الصحيفة الشيوعية المشار إليها وجهة نظرها على (جريمة الحرب). وأبرزت الاستنتاجات الخاطئة التي استخلصها الضباط الفرنسيون أثناء إبادتهم للمواطنين الرجال إبادة منهجية منتظمة. حيث أخذ هؤلاء الضباط ينبشون شعرهم - كعادتهم - كلما باغتتهم المفاجآت غير السارة، وكان نوع المباغتة في هذه المرة جديدا عليهم. وهو كما ورد في المصدر الفرنسي: (من الممكن أن يكون هؤلاء المحاربين نساء. ففي يوم 8 أيار - مايو - 1960 - نشبت معركة ضارية في - ميديا (¬2) - وكان عدد من النساء المسلمات يقاتلن جنبا إلى جنب مع فرقة من فرق جيش التحرير الوطني الجزائري (¬3)). ¬

_ (¬1) السيدة جرمين تيون (لانوفيل كريتيك) النقد الجديد - كانون الثاني - يناير - 1961 ص 18. (¬2) تقع مدينة (ميديا) على بعد ثمانين كيلومترا إلى الجنوب الغربي من مدينة الجزائر. (¬3) لانوفيل كريتيك - الجيش الفرنسي واستراتيجية جبهة التحرير الوطني سنة 1960.

وهذا مثل آخر غير معروف. عثر الجيش الفرنسي على وثيقة نادرة في حقيبة أحد المحافظين السياسيين (الموجهين) الذي وقع شهيدا في أحد الكمائن التي نصبها الجيش الفرنسي لرجال المقاومة في (تابلات) وكانت هذه الوثيقة النادرة تتضمن خطة العمل السياسي العسكري المتعلقة بمنطقة الجزائر العاصمة حيث أعلنت وفاة (جبهة التحرير الوطني - في العاصمة) مرات عديدة، ثم لا تلبث أن تبعث من مرقدها. ولكن ما أثار فضول ضباط (الحرب النفسية) هو أن الوثيقة كانت مكتوبة بخط امرأة. وهذا لمما يدعو إلى العجب مرتين، فحتى الآن لم يعط جيش التحرير الوطني دليلا بمثل هذا الوضوح على قبوله الجناح النسائي بين صفوفه. إنه يقبل المعونة النسائية كقوة دعم إضافية، ثانوية، ولبثت هذه - الترقية أو الترفيع للمرأة - تشغل بال (العارفين العالمين) بشؤون (النفسية البربرية - الإسلامي). ثم من تكون هذه المرأة. أتكون - فاطمة ما - رئيسة للشبكة؟. تم اعتقال (الزعماء الإرهابيين) دون سواهم - في الليل - وسط تحركات للقوى العسكرية نظمت بدقة ونفذت بمهارة. وأخضعت الموقوفة للتعذيب طوال اثنين وعشرين يوما. لكن المرأة لم تغير حرفا واحدا مما قالته في البداية. إنها لم تحاول أبدا أن تمثل دور (جان دارك) بحسب تعبير أحد الجلادين الذين عذبوها. ولم تكن سوى ضابطة ارتباط. ولم يجدوا في بيتها قطعة سلاح أو قنبلة أو منشورا أو شيئا من ملفات - أرشيف - جبهة التحرير الوطني. أما فيما يتعلق بخطة العمل التي عثر عليها في الجبل، فإن دورها فيها كان مقتصرا على (إعادة نسخ) نص تم إتلافه فيما بعد لتضييع كل أثر من آثار واضعه. واعترفت بأنها سبق لها أن أمضت في السجن عاما كاملا.

لكن ألم تعلن المحكمة العسكرية الفرنسية براءتها؟ إنها أم لأربعة أولاد، تعمل خياطة، درست المرحلة الابتدائية ولكنها لم تحصل على الشهادة الابتدائية (السرتفيكا). ووقع ضباط (الحرب النفسية) الفرنسيين ضحية تخيلاتهم المريضة وافتراضاتهم الخاطئة. إنه لم يكن باستطاعتهم تصور ارتقاء المقاومة الجزائرية وارتفاعها إلى مرتبة سامية. إذ كان مثل هذا الارتقاء في اعتبارهم هو امتياز لحضارة متفوقة: كالمقاومة الفرنسية هي عهد إحتلال النازية لفرسا، أو مثل المقاومة الصينية أو حتى الفييتنامية؟ وأخذوا يعيبون على أنفسهم أنهم اعتقدوا إلى حين بأنه من المحال على مسلمة مغربية، حتى لو كانت تمتلك ثقافة جامعية، أن تبرهن على قوة عقلية تجمع إلى إرهاب المدن النشاط النقابي المنظم، كنجدة عائلات المعتقلين الذين عاقبوا جنديا حاول تلطيخ ذكرى المجاهد الشهيد (عيسات ايدير) النقابي الذي مات ضحية الغدر. وكتأليف جميعة لتظاهرات النسوة مطالبات بحماية الفتيات ضد وقاحة الأرزال والزعران - من الفرنسيين .. كان ذلك في كانون الأول - ديسمبر - 1959. وإن قبول امرأة في مركز مسؤول، تحتل فيه المبادرة محل المشورة، إنما هو اختيار أكثر مما هو رمز. إنه برهان على النضج الاجتماعي، وتهديم لأسطورة - تخلف - الجنس الضعيف. وإعلان عن مدى مشاركة الجزائريات في إرهاب المدن والأعمال الجماعية. حدث في كانون الأول - ديسمبر - 1960. حادث (عجائبي) باغت الأعداء والانهزاميين الذين كانوا قد اعتقدوا بنصر المظليين نصرا نهائيا إبان معركة الجزائر العاصمة. حتى أن بعض العقول الكبيرة كانت قد بدأت اعتقادها بفشل إضراب الثمانية الأيام، فيما

كان نجاح ذلك الإضراب العام يبلغ غايته: وهي إظهار جبهة التحرير الوطني أمام الامم المتحدة بأنها الممثلة الحقيقية والوحيدة للشعب الجزائري (¬1). وظلت روح الثورة الجزائرية تشع بالأمل، على الرغم من الوحشية الرهيبة الفظيعة. وظهرت حيويتها المتجددة أبدا، في الشوارع تحت أشكال مراكب وطنية تلوح فيها النساء بعشرات الأعلام الخضراء والبيضاء ... هذا الانبعاث الذي تم لجبهة التحرير الوطني بفضل التعبئة الشعبية، ولم يتردد ضباط (الحرب النفسية) بإصدار بيانات تزعم أن سبب بروز هذه الظاهرة هو دعم الحزب الشيوعي الجزائري للثورة. بالرغم من معرفة هؤلاء الضباط لما كان يقدمه الشيوعيون من مقاومة للثورة. وكان الضباط في حاجة (لمشجب) يعلقون عليه أسباب فشلهم، على أن يكون لهذا المشجب هيبة دولية، حتى يعطوا فشلهم طابعا بطوليا، فلم يجدوا غير مشجب الشيوعية الذي يعطي العمل الثوري طابعه الدولي (¬2). ¬

_ (¬1) جاء فى صحيفة (لوموند) 21/ 2/ 1962 للكاتب (روبير غوتيه): (يستطيع زعماء الجبهة المباهاة بمالهم من تأييد شعبي واسع. وقد أثبتت إضرابات كانون الأول - ديسمبر - 1956 وإضرابات كانون الثاني - يناير - 1960. أن أوامر الزعماء تلقى أكبر عدد من الآذان الصاغية. وقد ذهبت كل المحاولات التي بدلت لتكوين قوة ثالثة إدراج الرياح). (¬2) تم في هذه الفقرة، والفقرة التالتية، الاعتماد بصورة أساسية على كتاب (الجهاد الأفضل - عمار أوزيغان) دار الطليعة - بيروت - الطبعة الثانية - نيسان - 1964 ص 205 - 234.

زغاريد النساء (اليويو)

4 - زغاريد النساء (اليويو) نحن بنات تبع وحمير ... وضربنا في القوم ليس ينكر لأننا في الحرب نار تسعر ... اليوم تسقون العذاب الأكبر ذلك هو نموذج من رجز الحرب، أطلقته المجاهدات في سبيل الله يوم فتح الشام. وكانت خولة بنت الأزور، وعفرة بنت غفار، وأم إبان بنت عتبة، وسلمة بنت النعمان تتقدمن جموع النساء وهن تحملن أعمدة الخيام لقتال الروم. وتشتد المعركة في اليرموك، وتقف مجموعة من النساء خلف المجاهدين، وهن تستثرن الحماسة بما ترتجزنه من الشعر، وما تطلقنه من الزغاريد: أين أين عز الإسلام والأمهات والأزواج. قبح الله رجلا يفر عن حيلته، وقبح الله رجلا يفر عن كريمته. والله لستم بعولتنا إن لم تمنعونا. يا هاربا عن نسوة ثنيات ... فعن قليل ما ترى سبات ويبقى الرجز، وتبقى صيحات النسوة، من الظواهر المميزة لحروب الإسلام والمسلمين، حيث وقفت المرأة إلى جانب الرجل، تشاركه أمجاد انتصاراته وتشاطره مرارة هزائمه وانتكاساته ويغمض التاريخ عينه في إغفاءة، ليستيقظ على رؤية الصورة ذاتها،

ولكن مع بعض التطور. لقد بقيت المرأة الجزائرية صامدة صابرة على البلاء، مقتدية بسيرة خولة وهند وسلمة في الحروب والمعارك، غير أن طبيعة المعركة تغيرت وأسلوبها تبدل وسلاحها تطور. وكذلك تطور (أسلوب الرجز في الحرب). فحلت الزغاريد - اليويو - وكان الرجز التقليدي. وكانت هذه الزغاريد - سلاحا حير الاستعماريين وأرهب جنودهم. ولم تفت صحيفة (لوموند الفرنسية) الإشارة إلى غيظ جند الاستعمار وعجزهم أمام صرخات (اليويو) الداوية تطلقها (فاطمات هستيريات). إنها لظاهرة مذهلة! كيف يمكن للتغريد الشعبي - الفولكلوري - في حناجر المسلمات الجزائريات أن يحطم أعصاب المرتزقة محترفي القتل، ويشعل نار الغضب وكراهية المرأة في قلوب الضباط المتخرجين من كلية الحرب (سان سير)؟. كانت (اليويو) قبل الثورة صيحة فرح تطلقها المغربيات المسلمات في الحفلات التقليدية: في الخطبة والعرس والولادة والختان والعودة من الحج، الخ ... ثم صارت الهتافات المعبرة عن الفرح نادرة في سنة 1955. ثم اختفت نهائيا من الحياة الاجتماعية الجزائرية باختفاء كل مظهر من مظاهر المرح واللهو اختفاء عفويا، تلقائيا، ابتداء من الغناء ومرورا بالرقص الشعبي ونهاية بالموسيقى وعزف الناي وقرع الطبول. ولم يكن ذلك بوحي من (سوق عكاظ جبهة التحرير الوطني). إن ما أوحى بالرقابة الذاتية هي الحشمة وحدها. هذا الشعور بالحياء الذي يمتزج في الإنسان بخوفه من احتقار نفسه إذا هو أظهر فرحه الأناني، والتعبير الصامت عن التحسس العميق بأحزان الأمة. لقد ابتلعت المآسي والأحزان كافة ظواهر الفرح.

إنه لتحول عجيب! إن عودة (اليويو) بذلك الشكل المباغت هي في حد ذاتها لعز غامض يثير التساؤل والدهشة لا سيما وأن هذه العودة ترافقت مع تصعيد الحرب الرهيبة. وهذه هي (الولولة) القديمة البريئة والهزيلة، والتي لم تكن تتجاوز حدود المنازل، قد تحولت بغتة إلى (صيحة حرب) تطلقها جوقة من النساء، جوقة لا يحصى عدد أفرادها، جوقة خفية، مثل زئير الهزة الأرضية، أو تفجر البركان من أعماق المدينة كلها. إن (المثقفين الفرنسيين) بارعون ملاعين، لديهم خبرات كثيرة في شؤون العالم. فقد تعلموا جميع أنواع حيل الحرب في صراعهم مع شعب الهند الصينية (فييتنام). وكثيرا ما كان الفلاح الفييتنامي أو المرأة الفييتنامية يضللانهم ويحيرانهم. فكيف يتحسبون لما قد تبتكره (الفواطم المسلمات) من أساليب للعمل محض جزائرية، جديدة في مفهومها، جديدة في تطبيقها، جديدة حتى في بساطتها وديناميكيتها وفعاليتها؟ ... كيف يفسرون هذه القدرة (ولولة النساء أو زغاريدهن) على مسح عقدة الخوف، وإطلاق المجال لآلاف الثوار (الفلاقة) للعمل في (المدن المقموعة - المكبوتة). والتصدي لوسائل الفاشيين المرعبة، وإيقاف تظاهرات الاستعماريين؟ لقد أصبحت صيحات (اليويو) مصدر وحي للشعراء الناشئين في جزائر الثورة، إذ وجدوا فيها تعبيرا عن عبقرية الشعب الخلاقة المبدعة المجددة، فهل يمكن وضع تحديد أو تعريف لهذه الولاويل أو الزغاريد الوطنية؟ إنها المد المعروف، المألوف، لحرف واحد على أنغام عديدة يؤديه شخص واحد، ثم يشاركه عدة أشخاص ثم يتسع المد ويكبر

شيئا فشيئا ودون توفف. فكلما توقف أو انتهى فريق من إرسال النداء، تولى فريق آخر المهمة عنه ويرتدي (اليويو) مسحة من الرتابة، غير أنها رتابة زائفة، وغير حقيقة، فالصوت يتبدل بتبدل قوة الاصوات المختلفة وكثافتها وتنوعها. كما يحدث في جوقة مؤلفة من عشرين ألف مغنية. إنها فرقة (كورال) لا مثيل لها في العالم تنشد (اليويو) بطريقة مثيرة للأعصاب بقدر ما هي مؤثرة في النفس، تصل قوية فتهز أعماق الوجدان، وتخاطب العقل فتصفعه وتفقده الشعور والإحساس. و (اليويو) تحمل معان مختلفة، فهي في وقت واحد (صفارات الإنذار) و (أنين التأوهات الساحرة) و (زئير الغضب) و (تلاوة مقدسة) , ولقد مارست (اليويو) المعادية للاستعمار تأثيرا لا يقاوم. وكانت قادرة باستمرار على التقمص في البطولة الجماعية وقد أعجزت (اليويو) حتى خبراء (السكان الأصليين) عن فهمها. ووقف الرجعيون والصوفيون السياسيون في حيرة من تفسيرها: أهي نوع من الوباء؟ أم هي نوع من الذهول المعدي؟ أم هي نوبة من نوبات جمهور هادر؟ أم هي مس من فعل الشيطان؟ ... على أنه ليس ما هو أقرب من (اليويو) إلى العقل. وليس أكثر منها وعيا وهدوءا كوسيلة جديدة وفذة من وسائل العمل الجماعي. وتعبئة مجموع سكان (قصبة) ما، أو مدينة ما، و (اليويو) أيضا صرخات مشحونة بالمعاني المحددة المتنوعة بحسب الظروف. فقد تكون (كزقزقة العصافير) في الليل، إشارة إنذار تعلن قدوم دوريات الأعداء، أو (صرخة تحذير) من أجل تجنب خطر كمين أو تهديد صادر عن (منظمة الجيش السرية - الإفرنسية). وهي أيضا (نداء للمساعدة) أو (استنفار للمقاومة) ضد الاعتقالات. وهي فوق ذلك

كله (تقدير إجماعي لبطولة جيش التحرير الوطني ومآثر رجاله). وحين يتظاهر الوطنيون فاتحين صدورهم لنار المظليين الوحشية وقنابل المتطرفين الجبناء المختبئين وراء الشرفات والمتاريس. كانت (اليويو) تتصاعد من الجزائريات وهن على سطوح منازلهن أو في نوافذ غرفهن أو حتى وهن سائرات في الطرقات، فتكون صرخات تشجيع في بداية الأمر، ثم تتلاحق من غير توقف ولا انقطاع لتتحول في النهاية إلى نوع من الصلاة على الشهداء، تمجيدا لتضحية فتيان العشيرة الذين مضوا للقاء ربهم وقد نالوا (خير الحسنيين). كانت هذه (اليويو) أقوى من الرصاص الذي عجز عن إسكاتها، فكانت تخترق آذان قاتلي الأطفال والنساء مجرمي الحروب الاستعمارية، فترهقهم وتعذبهم وتبقى كابوسا يطاردهم حتى في أوكارهم ومعسكراتهم. وكان (يويو) النصر بالنسبة لهؤلاء الذين (أكلوا خبز المساوىء) هو الرعب المسيطر في العاصفة. مع هذا الوسواس بأن هناك موسيقى قادرة على تدمير كل شيء. موسيقى الثورة الجزائرية الأصيلة، والتي ترافقها تهاويل أحلام تتراقص فيها نيران هائلة. كما لو أن تفتح الجزائر الشعبي ليس إلا امتدادا لذلك الموج العربي - الإسلامي الذي أتعب الدنيا ولم يتعب، وهو ما شكل مصدر الرعب للاستعماريين. قبل الثورة وأثناءها وبعد انتصارها.

رسالة من مجاهدة

5 - رسالة من مجاهدة (بلا حقد ولا شفقة) ذلك هو الشعار الذي أطلقته مجاهدة جزائرية للتعامل مع الأعداء. وتبناه مجاهدو جيش التحرير وطبقوه. ومن هذا المنطلق ذاته، منطلق القوة والثقة، كتبت أخت مجاهدة كانت تعمل ممرضة مع المجاهدين. والهدف من رسالتها هو الإبقاء على الذكريات - ذكريات الجهاد ضد الاستعمار ومآسيه - حية، قومية، تحفز أبدا للبقاء في حالة استنفار حتى يتم القضاء على رواسب الاستعمار وذيوله. وكان في رسالة الأخت المجاهدة: (انتشر في شهر آب - أغسطس - 1956 خبر هام عرفته الجزائر كلها، ثم وصل إلى أسماع العالم جميعه. وكان هذا الخبر يتلخص بأن القوات الاستعمارية قد ألقت القبض في إحدى (عمليات التهدئة - ببني مصرة) على ثلاث ممرضات أسماءهن: (فضيلة مسلى) و (صافية بو عزيز) و (مريم بو المهيوب). وانتهزت الصحافة الاستعمارية الفرصة، كعادتها، وفسرت وجود الفتيات بين المجاهدين تفسيرات دنيئة منحطة. ولم يخجل السادة العاملون في صحيفة (صدى الجزائر - ايكور الجير) والعاملون في الصحف

(اقرأ باسم ربك الذي خلق)

الأخرى التابعة للدوائر الاستعمارية من أنفسهم وهم يطلقون الافتراءات الفاحشة. ويعرف الشعب الجزائري كما يعرف الرأي العام العالمي أن المتسعمرين الإفرنسيين قد أفلسوا ولم يبق لهم من وسيلة لمواجهة ثورة الشعب الجزائري غير الدس الرخيص وإشاعة النوايا السيئة. ويلزمنا أن نعترف أن للحادثة أهميتها. إذ كيف يمكن للفتاة (الموريسكية) أن تحمل السلاح وتناضل مع المجاهدين؟ تلك خيبة أمل قاسية هزت أسس اللعبة الاستعمارية في وقت احتضار الاستعمار. ولقد خطت الجزائرية بفعلها هذا خطوة حاسمة. فلقد ظهرت على حقيقتها. ومن هنا فقد أصبحت مريم وصفية وفضيلة رمزا للمرأة الجزائرية الأصيلة. تلك المرأة التي حاول الاستعمار الكريه أن يدمرها بمختلف الوسائل والسبل. وفشل الاستعمار في محاولته التي استمرت طوال (126) سنة. واحتفظت المرأة بأصالتها الجزائرية. وهذا الشعور بالأصالة هو الذي يوحد اليوم بين نساء الجزائر، لا فرق بين من تسكن المدينة أو تقيم في القرى، حيث تشتركن جميعا في الجهاد لتحرير وطننا .. الخ). ... تلك مقتطفات من رسالة (أخت مجاهدة) غير أن هذه الرسالة لا تكفي لإعطاء صورة كاملة عما قامت به المرأة الجزائرية المجاهدة. ولعل في (القصص الوثائقية) الواردة في القسم الثاني من هذا الكتيب ما يغطي هذه الناحية. وتبقى هناك نقطة ثانية وهي ما تعرضت له الجزائر المجاهدة وثوارها من معاناة مريرة عبر (الإرهاب الاستعماري) وهو موضوع (الفصل الثالث) من هذا الكتاب. ولئن كان هذا الإرهاب مركزا ضد المجاهدين والفدائيين

والمسبلين، غير أنه كان أكثر شمولا بحيث لم ينج منه أحد من أبناء شعب الجزائر. وبديهي أن تحتمل (المرأة الجزائرية) القسط الأكبر من الضغوط الناجمة عن هذا الإرهاب. علاوة على ما لحق بها من الضغوط المباشرة و (المعاناة الشخصية). حملت المرأة السلاح ووقفت الى جانب الرجل

الفصل الثاني

{وما نقموا منهم ....... للحريق}. (سورة البروج، الآية 8 - 10) الفصل الثاني 1 - قصة (عقيلة) وزوجها (الملازم سي الأخضر). 2 - من ملف الذكريات مع (فضلة سعدان). 3 - نساء جزائريات في (معسكر الاعتقال). 4 - أم الشهيد. 5 - مجاهدة وأم شهيد. 6 - جميلة بو حيرد.

قصة (عقلية) وزوجها (الملازم سي الأخضر)

1 - قصة (عقلية) وزوجها (الملازم سي الأخضر) (*) كانت (زمورة) في صيف سنة 1959 خاضعة للاحتلال العسكري الإفرنسي. وقد نظمت القوات الإفرنسية أمورها على النحو التالي: تمركزت القوة الرئيسية في الثكنة الكبيرة بقيادة النقيب - الكابتن - (أموريك). في حين احتل (المكتب الثاني - أو الاستخبارات العسكرية) بناء هو عبارة عن بيت قديم كان يقيم فيه القائد ثم أعيد إصلاحه ليفي بالمتطلبات التي يحتاجها رجال الاستخبارات وقد تمركزت فيه وحدات فرنسية، ووحدات من (الحركيين) واجبها الرئيسي هو القيام بدوريات ليلية لاعتقال المواطنين واستجوابهم وتعذيهم بمختلف الوسائل: (بما فيها إرغام المعتقلين على شرب البترول وماء جافيل وتسليط الكهرباء على الأعضاء التناسلية والأجزاء الحساسة من الجسم). وأخيرا كانت

_ (*) كاتب القصة هو (لقمان بن هيزيا) وقد وقعت أحداث القصة في قرية (زمورة) التي تبعد مسافة (33) كيلومترا عن (سطيف). والمرجع: RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOUDJAHED ALGER. (1977) P. P 319 - 328.

هناك (الوحدة الإدارية الخاصة) (¬1) ورمزها (س. آ. س) وهي تمارس دور عمدة الإقليم، وتنافس المكتب الثاني أو الاستخبارات في مجال اضطهاد المواطنين وتعذيبهم. إذ كان أي مواطن مضطرا لسبب من الأسباب أن يلجأ اليها من أجل الحصول على وثيقة إدارية، أو من أجل قضة روتينية - رتيبة - من أمور الحياة اليومية، وعندها يجد أن موظفي هذه الوحدة غير متعجلين أبدا لمساعدته أو تسهيل مهمته، وقد يجد النقيض من ذلك، إذ أن هؤلاء الموظفين الجالسين وراء مكاتبهم ليسوا إلا عسكريين ينتظرون كل فرصة لإجراء استجواب دقيق مع من تعرض له حاجة للاحتكاك بهم، فيطرحون عليه الأسئلة من كل نوع، والتي لا علاقة لها أبدا بالقضية التي جاء المواطن يلتمس المساعدة من أجلها. وكان يرأس هذه الوحدة ملازم من أصل كورسيكي (اسمه سكاربانكي) سبق له أن عاش سنوات في المغرب، وتعلم فيه اللغة العربية فكان يستخدم بعض العبارات (كلازمة أومتكأ) في حديثه للتظاهر بالبساطة، عندما كان يتجول في الأسواق ويختلط بالناس، على أمل الوصول إلى أسرارهم. غير أنه لم يكن من الصعب على القرويين البسطاء اكتشاف أمره، والحذر منه، إذ كانت لكنته الكورسيكية تفضحه عندما يحاول نطق اللغة العربية، لا سيما عندما يقحم نفسه في حديث له أهميته، ولم يبق على القرويين سوى التزام الصمت والتظاهر باللامبالاة عندما يتعرض لهم الملازم (سكاربانكي). وكان سكان قرية (زمورة) شأنهم شأن كل سكان القرى، على ¬

_ (¬1) الوحدة الإدارية الخاصة: SECTION. ADMINISTRATIVE SPECIALISEE ورمزها (S.A.S) .

علاقة وثيقة بالدوار (الماكي). وكان رجال الحركة (التابعين للقيادة الإفرنسية) يعرفون أن المجاهدين يترددون على القرية للتزود بالطعام والمواد التموينية وقد رغب (الملازم سكاربانكي) إعادة تجميع القرويين الذين يسكنون البيوت المنعزلة في القرية، غير أن سكان هذه البيوت رفضوا بدافع وطني الجلاء عن منازلهم أو إخلائها لأنها كانت تتيح لهم فرصة الاتصال بإخوانهم الثوار. ... كان من بين سكان قرية (زمورة) فتاة جميلة تحمل اسم (عقيلة) وهي زوجة المجاهد (الملازم حمد الأخضر) تعارف الناس على مناداته باسم (سي الأخضر) واشتهر بإرباك الدوريات الإفرنسية وإزعاجها وتدميرها، لا في الجبال فقط، وإنما في داخل القرى أيضا. عرف الحركيون (أو رجال الحركة) بأمر الحب العاصف الذي يحمله (سي الأخضر) لزوجته. فعملوا فورا على إخطار رجال المكتب الثاني (الاستخبارات) (والوحدة الإدارية الخاصة. س. آ. س). ومنذئن أصبحت (عقيلة) رازحة تحت عبء كابوس ثقيل ومرعب لا يحتمل ولا يطاق؛ إنها محنة قاسية في أن تثور شكوك السلطات الإفرنسية حول الزيارات المتكررة التي يقوم بها الملازم (سي الأخضر) لزوجته (عقيلة). لقد أخذت دوريات رجال الاستخبارات ورجال. س. آ. س في التردد باستمرار ودونما انقطاع للبحث والتفتيش والتحقيق. وتعرض أهل القرية كلهم لهذا الضغط، ذلك أن جند العدو كانوا يعرفون تلك الروابط الوثيقة التي تشد هؤلاء الجبليين إلى الثوار المجاهدين. وكان لهذه الاجراءات ذريعتها لدى الإفرنسيين الذين كانوا يخافون من هجوم مباغت،

بالإضافة إلى رغبتهم في القبض على واحد أو أكثر من (العصاة - أو الفلاقة) (¬1) واعتقال أولئك الذين يساعدونهم أو يعملون على إيوائهم. وعاشت (عقيلة) في حالة رعب دائم: الرعب من القتل، والرعب من أن يصل زوجها في زيارة غير متوقعة، فيصطدم بدورية الأعداء التي باتت كثيرة التردد على منزلها. وفي الحقيقة، فإنه لم يحدث شيء من ذلك، غير أن ما عاشته خلال تلك الفترة كان أكثر قسوة من الرعب ذاته، لقد جفاها النوم، فباتت دائمة السهاد، حتى إذا ما استنزفت أعصابها، أغمضت عينيها قليلا، فالخوف من زيارة أخرى غير متوقعة، والخوف من أن يجدها الجنود نائمة في سريرها، والخوف من كل مجهول، كل ذلك كان يعذبها ويطرد النوم عن عينيها، فتقفز من مقعدها لتستوي واقفة على قدميها تحملق فيما حولها لتتبين أنه لم يتحقق شيء من مخاوفها - حتى الآن على الأقل - وكانت (عقيلة) على حق في خوفها .. فهي زهرة شابة جدا، لم تتجاوز العشرين من ربيع عمرها، ذات قامة متوسطة (طولها 160 سم تقريبا) لها بشرة بيضاء صافية ينعكس عليها سواد شعرها الفاحم وعينان سوداوتان واسعتان ولهما نظرات أخاذة. وقد أخذ الهواء الجبلي النقي والرطب على عاتقه إكساب وجنتيها اللون الوردي، مما كان يثير الشعور بأن وردتين جميلتين قد احتلتا مكانتهما على وجنتيها. وكان ذلك الشعور يظهر وهو أقرب الى الحقيقة عندما كانت ¬

_ (¬1) العصاة - أو الفلاقة (FELLAGHAS) اصطلاح أطلقه بعض القادة الإفرنسيين على الثوار الجزائريين - المجاهدين - استحغارا من أمرهم، وتشبيها بهم بقطاع الطرق، ثم أصبح استخدامه عاما من قبل الاستعماريين لوصف (المجاهدين الجزائريين).

قوة الحياة على حدود الوطن - عائدون ولكن مع الحرية -

(عقيلة) تبكي فتنساب منها الدموع لتتوقف على الخدين، كما يتوقف ندى الصباح على أزرار الورد في بدء تفتحها. وكانت يداها وقدماها مكتنزتين باعتدال وكذلك ساقيها الرشيقتين. مما كان يشكل مع قوامها الأهيف، الرشيق، وصدرها البارز، لوحة تمثل كل ملامح الأنوثة الطاغية. ولم يكن ذلك كله ليغيب عن أنظار الجنود الإفرنسيين والجنود الحركيين، فيثير فيهم الغرائز الوحشية الشريرة. وشعرت (عقيلة) بذلك، فأهملت نفسها طوعا، وامتنعت عن النظافة والاغتسال، وقررت عدم استبدال ثيابها القذرة. فباتت ذات رائحة منفرة لا تستثير إلا عواطف الاشمئزاز. انصرفت (عقيلة) إلى العمل، تفرق همومها فيه، وتلاحقت لياليها المسهدة البيضاء، بعضها يمسك برقاب بعض، وتتابعت عليها الكوابيس تتصل بعضها ببعض، فكانت أقل ضجة تثير فيها الرعشة، وأية صرخة أو طلقة نار تقلب كيانها رأسا على عقب. هكذا عاشت (عقيلة) فترة متطاولة من المعاناة، تشاركها همومها أمها العجوز، المضطربة العقل، لما انتابها من الهموم. وكانت (عقيلة) تمضي لياليها في نسج الصوف، وكثيرا ما توقفت عن عملها، وهي مستغرقة فيه، بسبب اقتحام دورية من رجال (س. آ. س) أو (الاستخبارات) باب منزلها، بصورة مباغتة (فقد أرغمت على ترك باب المنزل مفتوحا، وعدم إغلاقه واقفاله بالمفتاح). وعندئذ تبدأ عملية استجوابها بالأسئلة المعروفة وغير المعروفة من كل نوع: هل أقبل زوجها لرؤيتها؟ هل تعرف مركز إقامته؟ الخ .. وهددوها، ثم أخذوا في إزعاجها، وكثيرا ما حاولوا التغرير بها وخداعها غير أنهم كانوا ينصرفون من غير أن يظفروا منها بما يريدون. غير أنهم لا يلبثون طويلا حتى يعودوا، وبمعدل أربعة

إلى خمسة مرات في اليوم والليلة. ويعاودها الكابوس في كل مرة بعد انصرافهم. وتنتابها المخاوف من جديد. ولم تكن هناك دورية واحدة هي التي تتردد على منزلها، فقد كانت - على الأغلب - ترى في كل مرة وجوها جديدة. وكان (الحركيون) في جملة من كان يتردد عليها، غير أن هؤلاء كانوا يستخدمون أساليب مغايرة، فكثيرا ما كانوا يحاولون التبسط معها وملاطفتها وكسب ثقتها، ويعدونها بألف أمنية وأمنية جميلة، على أمل الحصول منها على بعض أسرارها، أو بعض المعلومات عن زوجها، أو حتى تكون (مطواعة لهم ورقيقة في تعاملها معهم، على الأقل؟) غير أنه ما من أحد معهم ظفر منها بنائل. واستطاعت (عقيلة) بالرغم من كل ذلك المحافظة على موقفها بثبات. ولكن إلى متى ستستمر في احتمال هذا الشقاء؟ وما هي حدود قدرتها على التعايش مع هذه المعاناة؟ وحتى متى تستطيع العيش تحت التهديد المستمر بالقتل؟ كانت يد القدر معها، فاستجابت لها، ومهدت لها طريق النجاة، ولكن كيف؟ ... كان (سي الأخضر) ورجاله يتابعون من مواقعهم في الجبال كل ما كان يدور حولهم. وكان أنصارهم من رجال القرية ينقلون إليهم تباعا كل ما تتعرض له (عقيلة) وما تعانيه على أيدي رجال الدوريات الإفرنسية. بما في ذلك التردد المستمر على منزلها في الليل والنهار، وما يرافق ذلك من تهديد وإغراء، وتحقيق واستجواب، وإهانات ومحاولات انتهاك أو اغتصاب ... أدرك (سي الأخضر) أن زوجته باتت تتعرض لخطر حقيقي، كما عرف بأنه من الخطر أيضا محاولة القيام بزيارتها، فقرر مع رجاله تقديم يد المساعدة لها والإسراع لإنقاذها. وشرع بجمع المعلومات

الدقيقة عن الموقف العسكري في القرية، ونوع الدوريات التي تتردد على منزل زوجته، وعدد أفراد هذه الدوريات، وكذلك المواعيد الليلية والنهارية للدوريات وكذلك كل ما هو ضروري من المعلومات لوضع مخطط من أجل دخول القرية. وعلم (سي الأخضر) ان هذه الدوريات عادة ما تكون من (س. آ. س) أو (المكتب الثاني) وأحيانا من (الحركيين). كما علم أيضا بأن معدل الزيارات الليلية هو أقل من معدل الزيارات النهارية. وما أن توافرت كافة المعلومات الضرورية حتى قرر (سي الأخضر) ورجاله الانتقال إلى العمل، ووضع مخططهم موضع التنفيذ. شكل (سي الاخضر) القوة التي ستذهب الى القرية من ستين مجاهدا، كلهم من الفرسان، المسلحين أفضل تسليح، والذين تملؤهم الحماسة ولديهم الاستعداد للقيام بأي عمل من أجل انقاذ زوجة قائدهم الشابة (عقيلة). وسارت هذه القوة في عتمة الليل المظلم، حتى إذا ما أشرفت على القرية، عين (سي الأخضر) عددا من رجاله لإكمال المهمة وهي (اختطاف زوجته) في حين بقي هو وبقية رجاله في أسفل القرية، بانتظار عودة المنفذين، وعلى استعداد للتدخل إذا ما تطلب الأمر، وتسارعت الأحداث. وكان (سي الأخضر) قد قرر التوجه بنفسه من أجل إحضار زوجته، وبرفقته عدد من المجاهدين، إلا أن رجاله منعوه من تحقيق رغبته، لأنهم كانوا يعتقدون، بالرغم من تقديرهم لخطورة هذه المهمة، أن هناك أعمالا أخرى أكثر أهمية تتطلب وجوده، من أجل مستقبل الوطن بكامله. وأن مجاهديه أكثر حاجة لشجاعته ولكفاءته العسكرية القيادية، ولجرأته في مواجهة مواطن الخطر. وهكذا، وفي تلك

الليلة الخالدة التي ستبقى ذكراها ماثلة أبدا في أذهان أهل قرية (زموره)، هكذا في الحوليات التاريخية للقرية، اتخذ الرجال قرارهم، وأقدموا على اقتحام الخطر الداهم واتجهوا نحو المنزل الذي تقيم فيه (عقيلة). كانت الليلة مظلمة كمداد الحبر الأسود، أو كدخان الحريق - الشحار -. وكانت الريح تعصف بقوة غير معهودة حتى أنها اقتلعت ألواح التوتياء التي تغطي سقوف المنازل وقذفت بها كما تقذف الرياح أوراق الأشجار الميتة في فصل الخريف. وبلغت شدة الريح من القوة مبلغا كادت معه تقتلع الأبواب الخشبية من جدران المنازل؛ غير أن المجاهدين، انطلقوا لتنفيذ مهمتهم كما هي عادتهم، في تلك الليلة، غير عابئين بما حولهم، ذلك أنهم رجال (سي الأخضر). رجال الجبال والريح والطبيعة القاسية، وها هم يمضون إلى هدفهم، ولا يهمهم شيء إلا تحقيق النجاح في تنفيذ مهمتهم. ولدى اقترابهم من المنزل، أطلقوا بعض الرصاصات في الريح، وقذفوا قنبلة يدوية في الفضاء، بهدف خداع قوات الافرنسيين ودورياتهم من جهة، ولاقناع القرويين بأن هذه القوة تقوم بدورية من الدوريات العادية التي يقوم بها (الروم). وصلت أصداء الطلقات وصوت انفجار القنبلة إلى رجال (المكتب الثاني) ورجال (س. آ. س) غير أن أحدا لم يحرك ساكنا لاعتقاد كل طرف من الطرفين أن الآخر هو الذي قام بذلك، على نحو ما جرت عليه العادة، بهدف إيقاظ انتباه القوات العسكرية المقيمة في الثكنة، وإدخال الذعر إلى نفوس القرويين وإقناعهم بالعدول عن أية محاولة (لتعكير الأمن والنظام) الذي حرصوا على إقامته

لقد كان كل شيء منظما بدقة، ومر كل شيء بسرعة، ومن غير مجابهة أي عقبة، كانت (عقيلة) تمارس عملها العادي في حياكة نسج - الصوف، وذلك على الرغم من شعورها بحاجتها الشديدة للنوم. وجاءت أصداء الطلقات وصوت انفجار القنبلة واقتراب وقع خيول الفرسان من منزلها، فأثارت في نفسها كل المخاوف، وأخرجت من ذاكرتها كل صور الكوابيس والهواجس التي كانت تنتابها. ولم يساورها الشك أبدا أن ذلك من فعل دورية من دوريات العدو، أو (الحركيين). فتوقفت عن العمل، واكتسى وجهها شحوبا لا يشابهه إلا شحوب وجوه الموتى، وأصاخت السمع ... ومرت عليها وهي على هذه الحالة دقائق قليلة خيل إليها أنها قرون طويلة لا تكاد تنتهي. لم تتحرك أبدا، لأن الخوف شل قدرتها على الحركة، فثبتها على الأرض، ومنعها من القيام بأية إيماءة، كان نفسها يتردد بصعوبة، كما لو أن التنفس العميق يفضحها أو يخونها ليكشف عما يعتمل في صدرها الذي بات يتقلص بشدة حتى كاد يخنقها ... الانتظار ولا شيء غير الانتظار ... في توقع الرعب. ولم يكن الشك يراود (عقيلة) أبدا في أن تلك الليلة ستكون بالنسبة لها (ليلة المصير). إن خط سير حياتها يجب أن يتغير، يجب أن ينتهي الخوف من الجنود الأعداء، وسينتهي معه التحقيق والاستجواب، وما يرافقه من ضربات وإهانات وبؤس وشقاء طالما نزل بساحتها وأصاب أمها العجوز، سينتهي كل ذلك. وصل المجاهدون، وتوقفوا أمام منزل (عقيلة). وظهر مصادفة شاب يافع غير بعيد عن المكان، فاستجوبوه. ولم يعرف الشاب الفتى أبدا أن هؤلاء الذين يستجوبونه هم مجاهدي (سي الأخضر). وظن أنهم من الحركيين (رجال الحركة) جاؤوا

كعادتهم لتعذيب (عقيلة) وإزعاجها. فاتجه اليهم، وربت رجل على رأسه، وأمره بفتح الباب من الداخل. وتملك الخوف الفتى الشاب من أن يسقط صريعا، ولم يتمكن من رفض تنفيذ ما طلب إليه تنفيذه. ومضت ثوان قليلة، وانفتح الباب على مصراعيه. واقتحم الرجال المنزل تاركين للشابة (عقيلة) الشعور بأنهم من رجال (المكتب الثاني) أو (س. أ. س). وقد جاؤوا لإلقاء القبض عليها واعتقالها. وكانت الظلمة قاتمة بحيث كان من الصعب على المرء رؤية ما هو أبعد من خطوتين عن مكانه. وبوغتت (عقيلة) بقدر ما بوغتت أمها من هذا الاقتحام لمنزلها بمثل هذه القوة، فشرعتا في العويل والصراخ بكل ما تملكانه من القوة. وأخذ الرجال (عقيلة) وسحبوها الى خارج المنزل، واقتادوها إلى حيث ينتظرها (سي الأخضر) ورجاله. لم تفهم (عقيلة) لعبة الخداع (ولم تكن لديها القدرة على فهمها وإدراكها) وظنت كعادتها أن مختطفينها من الإفرنسيين، فأرسلت صرخات حادة تفتت الأكباد. واستمرت في الصراع كاللبوءة وهي بين يدي مختطفيها محاولة الإفلات من قبضتهم، هذا فيما استمر الرجال على صمتهم ولا ينبس أحدهم ببنت شفة. وأيقظت صرخات (عقيلة) سكان القرية كلها، وظن هؤلاء بدورهم أن (الحركيين) قد جاؤوا لاعتقال البائسة (عقيلة). ولم يكن باستطاعة أحد منهم التدخل، فكلهم يعانون من هذا الضيق، وكلهم يعيشون مع هذا الكابوس المرعب. ولو أن (صرخات عقيلة تركت في أعماق النفوس أثرا لا يمحى) وفقا لما ذكرته (الممرضة رتيبة) التي كانت تعمل في المركز الطبي. وتمكنت (عقيلة) من الافلات من قبضة مختطفيها، وأسرعت الى منزل مجاور لمنزلها حيث

ومجاهدات في خدمة المجاهدين

كانت تقيم فيه (الممرضة رتيبة) وعائلتها وأبوها الذي كان يعمل خبازا للقرية. وأخذت (عقيلة) في ضرب الباب بكل قوتها وهي تصرخ (لقد جاء العسكر لاعتقالي). أسرع المجاهدون للامساك بزوجة (سي الأخضر) من جديد، واقتيادها إلى حيث بقية المجاهدين الذين يقفون بانتظار وصولهم. ومضت دقائق قليلة. وتوقف الصراخ بصورة مباغتة. ولم يعد هناك من يسمع إلا صفير الريح وهي تعصف بسقوف المنازل. لا صراخ، ولا همس، لقد أصبحت (عقيلة) في أيد (مأمونة). أردف (سي الأخضر) زوجته على حصانه، وأعطاها منديله (فولار) الاخضر القاتم، ومضى مع رجاله على الطريق، محاولا تضليل هؤلاء الذين قد يطاردونه .. حتى إذا ما وصل إلى نقطة يتفرع عنها دربين من المسالك الضيقة، ترك أحدهما، وسار على الآخر الذي يصل إلى (تاسامرت) التي تبعد مسافة كيلومتر تقريبا عن (زمورة). في هذه الفترة، كانت القوات الإفرنسية تحاول معرفة حقيقة ما حدث، وأمضت وقتا غير قصير حتى أدركت الموقف، وإذ ذاك بدأت عملية المطاردة، غير أن الوقت كان متأخرا جدا. فقد وصل (سي الأخضر) ورجاله في هذه اللحظة إلى مسافة بعيدة جدا بات من المحال معها اللحاق به. وعلاوة على ذلك، فقد سار (سي الأخضر) على دروب جبلية ضيقة لا تستطيع السير عليها إلا قطعان الماعز، متجنبا ورجاله السير على الطريق الرئيسية التي يعرفها القرويون باسم (طريق البيلك) والتي غالبا ما تسير عليها السيارات الخفيفة للجيش الإفرنسي - الجيب - وهي تقوم بدورياتها الرتيبة.

توجه (الملازم سكاربانكي) ومعه بعض رجاله في صبيحة اليوم التالي لمقابلة خباز القرية، (والد رتيبة) وهدفه معرفة ما إذا كان قد عرف بأمر حضور (سي الأخضر) إلى القرية. وكان الخباز يتمتع بسمعة طيبة في القرية، فأنكر أن يكون على معرفة بالأمر، وقال له: بأنه يعتقد، مثله مثل أهل القرية جميعا، بأن رجال (المكتب الثاني) أو رجال (س. آ. س) هم الذين جاؤوا لاعتقال (عقيلة) وهكذا فإن أهل القرية، لم يعرفوا إلا بعد هذا الاستجواب، بحقيقة ما حدث لقد استطاع (سي الأخضر) السخرية من شجاعة الجنود الإفرنسيين، واقتحم عليهم ملجأهم، وانتزع زوجته من تحت مخالبهم وهو تحد حقيقي لمحترفي العسكرية الإفرنسية وقادتهم من أصحاب (الأدمغة المفكرة). عرفت (أم عقيلة) ما عرفه الجميع عن أمر اختطاف ابنتها، غير أنها أصرت بالرغم من ذلك، على القول بأن (الروم) هم الذين اختطفوها، سواء كان المتحدثون معها من أهل قريتها، أو كانوا من رجال الدوريات الإفرنسية - بصورة خاصة - ممن استمروا في التردد على المنزل لاستجوابها. ... وصل (سي الأخضر) مع رجاله إلى قرية (تاسامرت) واستراح قليلا ثم استأنف السير حتى وصل (بيرقسطلي) الواقعة على بعد (64) كيلومترا من (زمورة). ومن هناك ذهب (سي الأخضر) إلى رجل كان يعرفه جيدا ويثق به، إنه (سي طيب) المعروف بقامته الضخمة ولونه الأسود وشاربيه الكثيفين. وأوكل اليه أمر العناية بزوجته والسهر عليها. وبدأت (عقيلة) منذ هذه اللحظة حياتها السرية في المقاومة.

كانت (عقيلة) تعمل في النهار كما يعمل كل من حولها، متجنبة كل ما يثير شبهات القرية بأمرها أو بدفعهم للتعرف على شخصيتها. ولم تكن قرية (بيرقسطلي) أكثر من قرية متواضعة لا يزيد عدد منازلها على (ستين مسكنا). والأمر الواضح هو أنه من المحال في قرية كهذه إبقاء قادم جديد بعيدا عن الأعين الفضولية، أو عدم التعرف على وجوده. وكانت (عقيلة) تعمل طوال النهار في انتظار قدوم الظلام، حتى إذا ما هبط الليل، خلعت عنها ثوبها (جلابيتها - أو دشداشتها) وارتدت ثوب القتال (لباس الميدان للجنود) ومضت مع زوجها، حتى تعود في صباح اليوم التالي. وعندما لم تكن ترافق زوجها (سي الأخضر) كانت تعمل بوصاياه وتعليماته؛ فتنتقل في كل ليلة من بيت إلى بيت، وتقتصر في حديثها على الحد الأدنى مما هو ضروري. دون أن تذكر شيئا عن المكان الذي جاءت منه، أو تكشف عن هويتها ومن تكون، ذلك لأن الحركيين يترصدونها، والجنود الإفرنسيين قد شددوا البحث عنها. وبات لزاما عدم التعرض لأي خطر عن طريق ترك أي أثر قد يهتدي به (القوم) لمعرفة حقيقتها أو افتضاح أمرها. عثرت الدوريات التي دفعها الإفرنسيون للبحث عن آثار (الفلاقة) عل المندل - الفولار - الذي كان (سي الأخضر) قد أعطاه لزوجته (عقيلة). وسلموه إلى النقيب (آموريك) الذي قام بإعطائه الى امرأته - الطبيبة في المركز الصحي -. وعملت هذه بدورها على إظهاره أمام (رتيبة) الممرضة التي كانت تهتم بأمر (عقيلة) وتعتني بها، وقالت لها بصوت متهدج، وبلهجة صارمة: (انظري: ها هو منديل - فولار - رفيقتك الفلاقة، وآمل أن تتجنبي فعل ما قامت بعمله، وإلا فإنني سأفك لك رقبتك ...).

خلال هذه الفترة، كانت حياة (عقيلة) في قرية (بيرقسطلي) قد شهدت بعض التغيير. إذ باتت تعمل بهدوء، محاولة نسيان كل معاناتها وآلامها التي عرفتها هناك في قرية (زمورة). حتى جاء اليوم الذي واتت فيه أحد الحركيين (رجال الحركة) فكرة شيطانية، وذلك بإرسال أمه الى (قرية بيرقسطلي) بهدف التجسس على مكان القرية، والحصول على بعض المعلومات التي قد تفيده. وكانت المرأة العجوز تعرف معظم سكان القرية، مما ساعدها على تنفيذ مهمتها إلى حد بعيد. ولم يكن من العسير عليها التسلل إلى وسط القرويين، واكتساب ثقتهم، والدخول بسهولة إلى قلب منازلهم. وفي إحدى الأمسيات، دخلت منزلا من المنازل بحجة زيارة أصحابه، ولفت انتباهها وجود فتاة حلوة كانت منصرفة لعملها في حياكة الصوف. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يقع فيها بصرها على هذه الفتاة، مما أثار اهتمامها. فرسمت المرأة العجوز ابتسامة ماكرة على شفتيها، واقتربت من الفتاة، ثم جلست إلى جانبها. ولم تجد صعوبة كبرى في اكتساب ثقة الفتاة الحلوة، ذات النظرة البريئة والنفس الصافية. وباحت (عقيلة) بسرها. ... سار الملازم (سكار بانكي) على رأس مجموعة من رجاله في اتجاه قرية (بيرقسطلي) بعد أن أعلمتهم المرأة العجوز عن البيت الذي تسكنه (عقيلة). وعندما وصلت هذه القوة إلى القرية، قامت بتطويق المنزل وإحكام الحصار حوله. ثم باتوا ينتظرون وأصابعهم على زناد السلاح، وهم ينتظرون أمر الهجوم من الملازم (سكار بانكي). وكان هذا يريد اصطياد عصفورين بحجر واحد. وكان يعرف بأن الملازم (سي الأخضر) سيأتي في ليلة من الليالي لرؤية

زوجته حتى يصطحبها معه. ولهذا فقد انتظر (سكار بانكي) ظهور (سي الأخضر) حتى يقتله مع زوجته. وليحقق الأمل الذي طالما داعب مخيلته منذ أن اختطفت (عقيلة) من قرية (زمورة). مضت الليلة الأولى، ولم يظهر (سي الأخضر). وفي الليلة التالية، وصل ممتطيا صهوة جواده، ومعه بعض فرسانه، ودخل المنزل. وبوغت فرسان (سي الأخضر) بالهجوم عليهم، فلم يتمكنوا من استخدام أسلحتهم، وسقطوا شهداء على الفور. وشرع رجال (الملازم سكار بانكي) بتوجيه نيرانهم إلى المنزل الذي دخله (سي الأخضر). وأمسك الرجل وزوجته سلاحهما بشجاعة، ووجها نيرانهما إلى الأعداء، فقتلا بعض الجنود الإفرنسيين. غير أن المعركة لم تستمر طويلا فلم تمض أكثر من ثوان قليلة حتى صمتت الأسلحة. وخيم السكون. ثم استؤنف إطلاق النار بكثافة عالية، وتهدمت جنبات المنزل. وعاد الهدوء من جديد وعندما تبدد الدخان والغبار الخانقين، تقدم رجال (سكار بانكي) بخطى مترددة وجلة وأصابعهم ترتجف على الزناد. وعندما وصلوا إلى عتبة المنزل، دفعوا الباب بأخمص السلاح. واقتحموا المنزل، فوجدوا (سي الأخضر) و (عقيلة) وهما قتيلين وسط بركتين متجاورتين من الدماء، وهما ممسكين بسلاحيهما اللذين أفسدهما كثرة ما أصابهما من الرصاص. وعرف فيما بعد أن (عقيلة) كانت حاملا في أسبوعها الثالث. ... اجتاحت الجزائر في يوم 5 جويليه - تموز - 1967 موجة من البهجة والفرح. فقد تفتحت كل الأمال، وكل الأحلام التي طالما أحبطت خلال سنوات عديدة، وارتفع العلم الجزائري أخيرا، في

هذا اليوم المشرق ليرفرف عاليا فوق أبنية العاصمة كلها، وفوق كل مدن الجزائر، إنه علم انتصارات الشهداء الأبرار. إن الجزائر تعيش عيدها، لقد حصلت أخيرا على استقلالها. أخذ الاحتفال بالعيد في قرية (زمورة) طابعا مثيرا من الفرح والسعادة. وكان لا بد أيضا من التفكير بأولئك الذين كانت تضحياتهم هي التي مهدت لظهور فجر هذا اليوم. فقرر الفلاحون أن ينقلوا إلى قريتهم رفات أبنائهم، ولم يتأخروا عن تنفيذ فكرتهم. وكان بين العظام التي ضمها الكفن الأبيض عظام (سي الأخضر) وزوجته (عقيلة) لقد كان الحديث على كل شفة يتردد بذكر قصة الزوجين، وشجاعتهما وميتتهما البطولية. ولم يتعب الناس أو يشعروا بالملل من ترديد القصة، وتناقلها، والإشارة في كل مرة إلى (عقيلة) الفتاة الحلوة والزوجة الأمينة التي كانت أول امرأة في القرية انضمت إلى الثوار وهي تحمل السلاح. كان حفل التأبين الجنائزي مؤثرا وعظيما بقدر ما كان بسيطا. وقد أقيم في داخل الثكنة الكبرى التي ظلت حتى الأمس رمزا للقهر والظلم. وشاركت في الحفل كل بيوت القرية التي عملت على طهو الطبق الشعبي (الكسكس) مع تقديم الحليب واللبن الرائب - العيران -. لقد قام أهل كل منزل في تقديم الطعام تعبيرا عن مشاركتهم بهذا الحدث. وفي الحفل، كان الجو غريبا، اختلطت فيه المشاعر بطريقة تعجز الكلمات عن وصفها، لقد وصلت مشاعر الفرحة بالحرية والاستقلال حتى ذروتها، غير أنها فرحة اقترنت بالحزن العميق لغياب أشخاص أحبهم الجميع، وافتقد الجميع. ودخلت اسطورة البطولة للزوجين الشجاعين في حكايات

الأطفال، الذين كانوا ينشدون قصة حياة (عقيلة) وزوجها (سي الأخضر) في أغنية، تقول لازمتها: عقيلة يا عقيلة يا من لوجناتك جمال الورد سيأتيك سي أحمد الأخضر ليحملك معه على حصانه أنتم أحق مني بهذا الطعام

من سلف الذكريات مع (فضيلة سعدان)

2 - من سلف الذكريات مع (فضيلة سعدان) (*) لم أباغت أبدا وأنا أقتحم غرفة نومي فأكتشف بأن يد العبث قد أثارت فيها الفوضى والاضطراب. إنهما ابنتاي البالغتان من العمر ثلاثة عشرة، وأربعة عشر عاما، حتى لتحسبهما أنهما توأم واحد. وها هما وقد تمددتا فوق كومة من الصور والأوراق القديمة، التي يضمها عادة (صندوق الذكريات) وقد أفرغ من محتواه، ونثر بإهمال على الأرض. وصرخت: - .......... لقد منعتكما من تحويل غرفة نومي إلى اسطبل! أين هي أختكم الكبرى؟ وقفزدت الصغيرتان لدى سماع صوتي، واستدارتا برأسهما نحوي وقالت كبراهما: - .......... لقد أثرت الروع في نفوسنا. والتقطت ابنتي (فضيلة) طرف الحديث وقالت:

_ (*) كاتبة الموضوع هي مديرة لمدرسة ابتدائية - حاليا - في الجزائر، واسمها (أنيسة زموشي) وكانت صديقة لبطلة الشهيدة (فضيلة سعدان) - وهي تستعيد هنا ذكرياتها عنها.: والمرجع REF: RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOUDJAHED ALGER.(1977) P. P. 329 - 341.

- أجل، لقد أفزعتنا. وعندئذ قلت لهما: حسنا، تحدثا بصوت ناعم حتى لا يستفيق أخوكما الصغير من نومه وأثناء هذا الاضطراب، سقطت من يد (البنات) صورة، سارعت لالتقاطها وتأملتها طويلا، فانقلب كياني رأسا على عقب. كانت الصورة تحمل خلفها الكتابة التالية: (فضيلة: 27 تشرين الثاني - نوفمبر - 1956) وكانت هذه الصورة جانبية (بروفيل) التقطت لفضيلة أثناء فترة اعتقالها. وسألت فضيلة بكثير من الفضول الطبيعي: لمن هذه الصورة يا أماه؟ غير أنها لم تنتظر الإجابة، بل راحت تبحث بنظرها عبر الصور المتناثرة فوق السرير. في حين كانت أصابعي تتشبث بالصورة خوفا من سقوطها مرة أخرى - وقلت: - يا فضيلة! هذه هي صورة فضيلة! وزلقت يدي إلى جيب مئزري، ووضعت فيها الصورة، وتراجعت مترنحة، وتركت نفسي أهوي على مقعد كان موجودا هناك. وهيمن علي حزن عميق ومباغت، في حين كانت بناتي مشغولات عني باكتشافاتهن، حتى أنهن لم يشعرن بما أنا فيه، بل ربما نسين وجودي بينهن. وقلت في سري: - فضيلة! كنت زهرة عمرها 18 ربيعا! (لقد كنت من مواليد 10 نيسان - أفريل - 1938، وكان مسقط رأسك في الحروش (من نواحي سكيكيدة). كنت صبية في مقتبل العمر على كل حال. لقد مضى زمن غير قصير على غيابك، غير أنني أشعركم أني لصيقة بك، كأن الأيام لم تباعد بيننا. إنك قريبة مني إلى درجة لا أستطيع تصديقها، إنك لا زلت حية ... كم كنت نضرة، وكم كنت

قوية، فضيلة! أنت بعينيك الضاحكتين أبدا، وبابتسامتك الساحرة الأخاذة. وما أحلى مناجاتك. وبدأ شريط الذكريات يتدفق متسارعا: هبطت (فضيلة) ذات صباح من معاقل (الثوار) وبرفقتها أخوها في السلاح (عمر كيخيا). وسلكت في طريقها الدرب الذي ينتهي بالقرب من (مدينة البير) حيث كان عليها أن تأتي لزيارتنا بعد ذلك، وكانت تتقدم وأخوها في السلاح بحذر، ولكن كم كان أمرا مباغتا أن يقفا وجها لوجه مع دورية فرنسية، وقد أمسك أفرادها بمسدساتهم الرشاشة، وهم على أتم استعداد لإطلاق النار عند الاشتباه بأية حركة غير طبيعية في وسط المارة. وعلى الرغم من أن الوقت لا زال مبكرا فقد كان هناك عدد من السابلة. فهل سقط الاثنان ضحية الرعب؟ وهل كانا يحملان وثائق سرية وأسلحة هامة على نحو ما يفعلانه في كل مرة كانا يهبطان فيها من الجبل؟ لا هذا، ولا ذاك، وكل ما فعلاه هو أنهما ركضا بسرعة جنونية، واقتحما منطقة الأبنية القديمة. ثم افترق الشابان المناضلان، ليبحث كل واحد منهما عن ملجأ ينجيه، وهما يعرضان حياتهما بتصميم وشجاعة لكل ما تخبئه مباغتات القدر، ولكل ما قد يقوم به جند العدو. غير أن هذه المواجهة المباغتة وغير المتوقعة للبطلين، لم تكن لتمر من غير أن تسترعي انتباه رجال الدورية الآلية - المتحركة - والتي كان رجالها مشدودي الأعصاب دائما: فأطلقوا النار فورا ومن غير تردد على الهاربين، وانهمر الرصاص على طريق الفرار، وأصابت إحدى الرصاصات كتف (عمر) فتركته يعاني من الآلام المبرحة طوال شهرين كاملين، مع اضطراره للبقاء في الملاجىء السرية تحت العناية الطبية، وكان مما زاد من آلامه

الجسمية تلك المعاناة النفسية المريرة بسبب إلزامه على البقاء من غير القيام بأي عمل أو نشاط له صلة بالصراع ضد أعداء البلاد. وطالما تذمر في تلك الفترة من حجزه، ومن عجزه عن متابعته الصراع. لقد كان أمنه وسلامه مرتبطا بقدرته على الجهاد. أما (فضيلة) فقد اقتحمت بحزم كوخا صغيرا من تلك التي تؤوي الفقراء. فوقع نظرها فورا على سيدة عجوز وقد جلست على جلد خروف، وهي تدير طاحونة القمح اليدوية. فنظرت إليها بقلق خلال جزء من الثانية. لم يكن الوقت يسمح بتبادل الحديث أو شرح الموقف، يجب الخروج من المأزق بأقصى سرعة، وتجنب الخطر قدر المستطاع. واستطاعت المرأة العجوز الطيبة أن تدرك المأساة التي تتعرض لها الفتاة (فضيلة)، وأمكن لها الاحتفاظ بكل برود أعصابها وهدوئها، فقامت بحل شعر الفتاة، حتى ظهرت بشكل (فتاة غندورة) ثم نثرت بعضا من الدقيق عليها حتى غطتها فظهرت وكأنها تمارس عملها منذ وقت غير قصير في (طحن القمح). غير أن ذلك لم يكن كل شيء، فثيابها لا تزال تحمل رائحة جدها، وكذلك منديلها الأسود الذي سقط منها أثناء ركضها الجنوني. وشعرت (فضيلة) أنها وقعت في الفخ، إنه خطر حقيقي في أن تترك ذلك الأثر الذي يفضح أمرها، ويمهد لإلقاء القبض عليها عندما يصل رجال الشرطة بعد هنيهة وبرفقتهم كلابهم البوليسية وناجت (فضيلة) نفسها: (أنقذني يا الله! ماذا أفعل! احفظي يا رب، واحمني يا إلهي) وأخذت أسنان (فضيلة) تصطك رعبا، فهي تعرف ما قد تتعرض له فيما لو تم إلقاء القبض عليها. وفكرت للحظة في أختها (مريم) التي اختطفها الإفرنسيون بطريقة غامضة، ثم أعلنوا عن موتها تحت التعذيب. وخطرت في ذاكرتها أيضا، كلمح

البصر أسماء رفيقاتها (مريم بوعطورة) و (سالمة أم حازم) اللتين لقيتا مصيرا بائسا كمصير أختها (مريم) ... واستمرت (فضيلة) في مناجاة نفسها: يجب أن أحافظ على هدوئي - يا .. ما. والتفتت إلى المرأة العجوز: هل لديك مسحوق (د. د. ت).؟ وأجابتها هذه: شكرا لله، لدي منه. وأسرعت العجوز الطيبة، من غير تردد أو تلكؤ، لإحضار المسحوق، وأخذت في نثره حول مسكنها البائس، ومن المفروض أن تكون رائحة هذا المسحوق قد أزالت كل أثر لرائحة فضيلة. وأثناء ذلك، كان قلب (فضيلة) يضرب بشدة، ويضرب، حتى ليكاد يقفز من صدرها، وقالت مناجية نفسها؛ ملتجئة إلى ربها: يا الله ساعدني حتى لا أكشف عما بي من اضطراب. وقامت (الغندورة) بإخفاء قنبلة يدوية تحت طيات ثوبها، وأعدتها للتفجير عند الضرورة لقد صممت على عدم الوقوع في قبضة أعدائها وفيها حياة تختلج. وعادت للمناجاة: لن أموت وحدي ياما (يا أماه) وسأقتل معي عددا من (أولاد الكلب). هيمن السكون والصمت على ما يجاور الكوخ، وخاف المارة من إصابتهم برصاصة طائشة، وقد اعتاد الجميع اللجوء إلى منازلهم في كل مرة يتناهى إلى سمعهم اطلاق النار، أو يمرون بظروف مماثلة. ووصل إلى أسماع (فضيلة) وقع خطوات متسارعة مختلطة بعواء الكلاب، وصوت جندي يحادث آخر - باللغة الإفرنسية - وهو يقول له: من هنا يا بول. وأخذ الطنين يتردد قويا في أذني (فضيلة) وهي تسمع من جديد: - من هنا - من هنا - في هذه المرة لن يفلتوا من قبضتي. وخفضت (فضيلة) رأسها، وقد عاودتها شجاعتها، فاستمرت

في عملها وهي تدير الطاحونة وظهر اثنان من رجال الدورية، وهما بهيئة مرعبة، وتحدثا بلهجة قاسية وهما يسألان بصوت واحد: هل لجأ أحدهم للاختباء عندكم؟ وأجابت العجوز الطيبة بلهجة طبيعية تماما: فتش!. وانطلق الجنديان للنظر في كافة زوايا الكوخ، ثم اقتربا من الفتاة وأعادا طرح السؤال ذاته، فردت هذه بإيماءة سلبية، وهي تشد على القنبلة اليدوية بيدها الأخرى. وانطلق الجنديان نحو الباب بخطوات متعجلة وأحدهما يقول للآخر: فلنسرع للبحث في مكان آخر. اختلطت المشاعر القوية في نفس (فضيلة) فلم تعد تعرف أتضحك أم تبكي. وتدفق الدم الى وجهها فأصبح أحمر بعد أن كان أصفر شاحبا. ونهضت وهي تقفز من مكانها وتنفض الدقيق من على ثيابها. فعانقتها المرأة العجوز الطيبة، وقدمت إليها قدحا من الماء مع قطعة من السكر، وقالت لها بلهجة حنون إشربي هذا يا ابنتي حتى تهدئي ويزول ما بك! ... ألم تكن هذه ملحمة؟ كلا! وهي ليست أسطورة. فقد روتها لي (فضيلة) وهي لا تزال تحت تأثير الصدمة المرعبة. وتأكد لي صدق قولها من حالتها النفسية التي كانت عليها عندما أقبلت لزيارتي بعد الحادث الذي صادفها مباشرة. وقلت لها عندما أنهت حديثها: - (فضيلة) لماذا تعرضين حياتك للخطر، على مثله هذا النحو؟ .. وأجابت (فضيلة): حتى يكون لي الحق أن أعيش بشرف. قالت ذلك بصورة عفوية، وبلهجة تحمل معنى التوبيخ لأنني طرحت عليها مثل هذا السؤال.

كانت الصرخات المباغتة التي تطلقها (البنات) ما بين فترة وأخرى، تكاد تبعدني أو بالأحرى تنتزعني من دائرة (صندوق الذكريات) التي أخذت في محاصرتي، وتضييق الخناق علي. وانتزعني صوت إحدى البنات وهي تهتف قائلة: - أنظري يا أماه، كم هي شابة جميلة في هذه الصورة؟. وأجبت: هي لا تزال صبية حلوة، لو عاشت حتى اليوم! كم كانت جميلة؟ وكم كانت رقيقة؟ وكم كانت مجدة مجتهدة. إنني أكاد أراها الآن وهي تحضر حفل توزيع الجوائز في نهاية كل عام دراسي - لقد كان اسمها معروفا من كل الأساتذة ومن كل الطلاب. كان اسمها يتردد على ألسنة الجميع فهي: فضيلة. س: الحائزة على الجائزة الأولى في اللغة الإفرنسية. وهي فضلة. س: الحائزة على الجائزة الأولى في اللغة العربية. وهي فضلة. س: الحائزة على الجائزة الأولى في الرياضيات. وهي فضيلة. س: الحائزة على جائزة التفوق بامتياز. كانت ذراعاها مثقلتان دائما بالمجلدات الضخمة. وكانت دائما تلميذة مجدة رائعة. وقيل عنها أيضا أنها (صعبة المراس) ... وقاطعتني إحدى البنات بقولها: ولهذا أصبحت ثائرة؟ لا، لقد حدث ذلك قبل إضراب الطلاب سنة 1956 بوقت طويل. حيث وقع ما أطلق عليه إسم (العصـ .. يان) وفقا لما كانت تصفه بهذه الكلمة المتقطعة، الآنسة (شفز) المراقبة العامة للفتيات في معهد قسنطينة، والتي انقطعت عن ممارسة مهنتها كان صوتها متهدجا

وحادا، لا سيما عندما كانت تتحدث إلى الفتيات الجزائريات اللواتي كن قليلات في تلك الفترة، يعشن في وسط كله غريب عنهن. كانت الفتيات ينتظمن في الصف، عند العشاء، للدخول الى قاعة الطعام باعتبارهن طالبات داخليات - مقيمات - في المعهد. حتى إذا ما جلسن إلى الطاولة، قدمت إليهن وجبة العشاء المعروفة: الحساء، وطبقا لا يتغير من الطعام واللحم. وكان هذا اللحم من نوع (لحم الخنزير) في معظم الأحيان. وكانت الطالبات كثيرا ما يتحدثن بعضهن إلى بعض - في الفرصة - عن موضوع هذا الطعام. وكانت (فضيلة) رئيسة للطاولة، وذات يوم أعلنت تذمرها بصوت مرتفع وهي تحتج قائلة: (ما من سبب لحرماننا من لحم الخروف أو لحم البقر). وظهر بوضوح أنه بات من المحال الاستمرار بقبول هذا الوضع الذي مضى وقت طويل على فرضه، غير أنه بات من الواضح أيضا بأننا سنواجه مأزقا صعبا وأياما عسيرة وقيل لنا بأن وجبة العشاء ستتغير، وأنه سيقدم لنا طبق الطعام بصورة ملائمة. فطلبنا بحزم ألا يحتوي الطبق الأخير (لحم الخنزير). وتم قبول طلبنا، غير أننا أصبنا بالإحباط عندما قدم لنا لحم (الكورن بيف، أو العجل) بدمه، وهو غير مذبوح على الطريقة الإسلامية. فرفضنا قبول الطعام أو تذوقه، وبدأ ما أطلقت عليه الآنسة (شفز) اسم (العصـ ... يان) وذلك عندما اندفعت نحو (فضيلة، صعبة المراس) وقالت لها بلهجتها الحادة: (إنك أنت يقينا! أنت عنصر التحريض! فهل تريدين شيئا آخر؟ ألا يرضيك شيء؟). وابتسمت (فضيلة) ابتسامة ساخرة، ثم اجتاحتها نوبة من الغضب، وأجابتها وهي تشير إلى (اللحم الأحمر) وهي تقول:

(إنكم تعرفون جيدا بأن هذا اللحم محرم علينا نحن المسلمين). وكانت هذه الكلمات تمثل تحديا صارخا، واجهته (الآنسة شفز) بنوبة من الغضب المحموم، وقد تقلصت أساريرها، فقالت مهددة متوعدة: (حسنا! سننظر في الأمر). قامت السيدة المديرة بجمع الطالبات المسلمات في صبيحة اليوم التالي بمكتبها. وكانت (فضيلة) كعادتها، هي التي تولت الدفاع عن قضية الطالبات، وهي التي وقفت في المقدمة لشرح الحقوق الشرعية للطالبات. وتضامنت الطالبات مع (فضيلة) فخرجن من الاجتماع ساخطات، وقررن (الإضراب عن الطعام) حتى تستجاب، طلباتهن مهما تعرضن في سبيل ذلك للخطر. وكان لا بد لهن من هذا الإجراء بعد أن أرغمن عليه ولم يبق أمامهن طريق سواه. استمرت الفتيات الطالبات في إضرابهن ثلاثة أيام، وعضهن الجوع بنابه، وكانت معاناتهن مع الجوع صعبة وشاقة، غير أنهن قررن التجلد والصبر مهما اشتد عليهن الأمر، ومهما ساءت حالتهن. وزاد من سوء موقفهن أنهن يتوقعن تضامن زميلاتهن، الأجنبيات غير الجزائريات معهن، ولكن رفيقات الدراسة انصرفن عنهن، وأظهرن عدم اكتراث بقضيتهن، بل إنهن لم يظهرن شيئا من الاهتمام بمصيرهن. وعلى كل حال، فقد جاء اليوم الرابع ومعه وعد بتقديم اللحم (المذبوح والمطبوخ - المطهي - على الطريقة الإسلامية) وصاحبت الفتيات فرحات (انتصرنا). غير أنه كان لا بد من الاستمرار في التضحية، بالرغم من كل المعاناة وآلام الجوع، إذ كانت القضية هي قضية مبدأ، كما قالت (فضيلة). ولا يجوز أن

نتناول أي طعام حتى يقدم لنا (اللحم من الخروف أو البقر المذبوح على الطريقة الإسلامية). وارتسمت ملامح الفتاة المجاهدة على شخصية (فضيلة) منذ ذلك التاريخ. خلال تلك الفترة، اخترت طريق الزواج في ظروف البلاد المضطربة أما (فضيلة) فقد وجدت نفسها مرغمة على متابعة طريقها، محاولة التوفيق بين الدراسة والصراع. وقد بدأ ذلك في شهر أيار - ماي - 1956، عندما صدر الأمر إلى كل الطلاب بإعلان الإضراب العام عن الدراسة. وكان هذا الإعلان هو القنبلة المدمرة لنظام التعليم الإفرنسي، وقد أدرك الطلاب دورهم، وحددوا مطالبهم الشرعية. ... كانت (فضيلة) من بين المحرضين على الإضراب ومن قادته، فضحت بذلك بالقسم الثاني من شهادتها الثانوية (البكالوريا). وبدأت الاعتقالات على نطاق واسع. وكانت (فضيلة) في جملة المعتقلين، وألقي بها في سجن (الكدية). واستمرت فترة اعتقالها لمدة سنة كاملة، تعرضت خلالها الفتاة البائسة لكل أنواع المعاملة السيئىة، والأساليب الدنيئة، والأعمال الشائنة التي يندى لها الجبين بالنسبة لفتاة صبية عذراء مسلمة فقد شوه جسدها، ووشم برسم أعقاب لفافات التبغ - السكائر - التي كان يتم إطفاءها على جسمها، مما ترك على بشرتها آثارا واضحة لازمتها طويلا، وتركت حروقا مرعبة. وأرغمت على مشاهدة التعذيب وعمليات الإعدام - الإبادة. وعرفت (فضيلة) من خلال تجربتها نوعا لم تكن تعرفه من المخلوقات البشرية، إنه نوع يتمثل فيه الحقد الكريه والقسوة

الوحشية، وقد دعمت هذه المعرفة حجتها للصراع، وقلبت كيانها المرهف الإحساس. حصلت (فضيلة) بعدئذ على فترة من الهدنة، وسمح لها بمتابعة دراستها، بشرط ترك البلاد لفترة معينة، إنها فتاة متعلمة ومناضلة، وقبلت. إن هذا العرض سيزيد من صلابتها، وسيشجعها على المضي قدما في الطريق الذي اختارته لنفسها. وكانت هناك فكرة نبتت في ذهنها، وأخذت تلح عليها باستمرار، فبعد الحصول على القسم الثاني من شهادتها الثانوية (البكالوريا) ستتابع دراسة الحقوق في جامعة (كلير مونت - فيراند) في فرنسا. مضت (فضيلة) الى فرنسا تاركة وراءها فراغا كبيرا، غير أنها كانت هناك على كل حال في مأمن، وبعيدة عن الضغوط التي كان يرزح تحتها شعب الجزائر، مما كان يترك نوعا من الطمأنينة تجاهها في نفوس أولئك الذين يعرفونها ويحبونها. ومضت الأيام متلاحقة، وأشرفت السنة الدراسية على نهايتها. وأخذنا ننتظر عودتها بصبر نافذ، ونعد الأيام التي تقربنا من العطله الصيفية. كنا نردد باستمرار القول: ستكون (فضيلة) بيننا عما قريب. وكانت تصلنا ما بين فترة وأخرى معلومات متفرقة عن أختها (مريم) التي كانت تعاني بدورها من ظروف العيش في سجن المدينة. ولم يرحم أحد حياتها البائسة، فسقطت شهيدة بين أيدي جلاديها. (مريم) تلك السجية التي كانت تشدني إليها عواطف الصداقة العميقة. لقد انضمت إلى قافلة الضحايا الذين مضوا إلى ربهم، إنها ضحية جديدة من ضحايا (النشاط الاستعماري) ورجاله الذين تجردوا من الضمير، وحرموا من كل عاطفة إنسانية. ولكن المشكلة الراهنة: هي كيف يمكن إعلام (فضيلة) بموت أختها؟ إنها

ستكون هنا بعد بضعة أيام، لا أكثر، فهل ستكون قادرة على احتمال هذه الصدمة الجديدة؟ لقد كانت (فضيلة) ذات (إرادة صلبة) تدفعها للسير نحو مثلها الأعلى، غير أن صحتها لم تكن جيدة، وهذا ما كان يخيفنا. عندما وصلت (فضيلة) عانقناها عناقا حارا حمل كل الشوق بعد طول غياب. وكنا ونحن نعانقها نخاف على قوامها الرقيق من أن يتحطم. غير أنها كانت تمتلك من الروح المعنوية العالية والفضائل الأخلاقية ما يمكنها من التعويض عن ضعفها الجسدي، ويرفعها صعدا نحو أهدافها، وإذا كانت لا تزال فتاة شابة صغيرة العمر، غير أن ذلك لم يمنعها من استيعاب مشكلات بلادها، بكل اتساع تلك المشكلات وعمقها. وكان ينتظرها - علاوة على كل معاناتها - ألم مرير لعله أكثر قسوة من كل آلامها ومعاناتها، إنه اختفاء اختها الحبيبة في ظروف تشكل مأساة قائمة بحد ذاتها. وكانت (مريم) هي الوحيدة التي تفهم (فضيلة) بعمق، وتحبها بشغف، وتشجعها على المضي قدما في طريق الجهاد، وذلك ضد رغبات كل من يحيط بهما من الأهل والأقارب وحتى الأصدقاء. وكان تأثير (مريم) على أختها (فضيلة) كبيرا، فأخذت عنها الشجاعة والثقة بالنفس، وغذت فيها الإيمان، وتعلمت منها حب العمل على طريق الخير والعدل. وها هي تسير على طريقها حتى نهايته. وهو الطريق الذي سبقهما إليه عمهما (الدكتور سعدان). ثم ها هي (فضيلة) تعلم بصورة مباغتة باستشهاد أختها (مريم) والظروف التي أحاطت بمصرعها وهي تحاول خدمة قضية بلادها. وقالت (فضيلة): (هذا شيء لا يحتمل! من أي نوع هؤلاء البرابرة الذين يطلقون نيرانهم على الأبرياء؟ وكيف السبيل للتعبير عن مشاعر الاحتقار

تجاه تلك الوحوش الاستعمارية؟ كم أنت بائسة يا (فضيلة)؟. وما أحوجك إلى قدر إضافي من الشجاعة؟ وكم هو صعب ما تواجهينه؟ ولكن لا بد من مواجهة الأمر الواقع، هذا الواقع الذي أصاب نفسك بجرح عميق سيبقى نازفا. إبتهلي إلى الله حتى يحفظ لك ملكاتك العقلية!. جاءت (فضيلة) لزيارتنا في اليوم التالي لوصولها. واستقبلتها مع أفراد عائلتي. كانت منهارة القوى، وكانت نظراتها ساهمة شاردة، تنظر إلينا محدقة وهي لا ترانا. وكانت نفسها تفيض مرارة بأكثر مما تفيض غضبا وهي تقول: (لقد ماتت مريم، كيف يمكن احتمال ذلك؟ يجب ألا يستمر ذلك!) ترى بماذا كانت (فضيلة) تفكر وهي تنطق بهذه الكلمات؟. لقد كانت (فضيلة) تعيش في تلك اللحظة ذروة الانفعال، وأقصى درجات التأثر والاستثارة. كانت دموعها تنهمر بغزارة، فشاركناها جميعا البكاء وكان صوتها المختنق بالعبرات يتلجلج بكلمات أخرى غير واضحة ومتقطعة بسبب إجهاشها بالبكاء. كانت عيناها متورمتين، منتفختين، وصمتت قليلا، ثم عادت وأجهشت منتحبة، وانتصبت واقفة وارتسمت على وجهها خطوط قاسية، وعاد صوتها حادا، يشبه الزئير. بقيت (فضيلة) شديدة التعلق بنا قدر تعلقنا بها، فكانت كثيرا ما تفتح لنا صدرهما لتبوح لنا بأسرارها. غير أنها بقيت صامتة في هذه المرة. وهي لم تكن في حاجة للإفصاح عما ستفعله، كان تصميمها واضحا، يغني عن كل بيان. وعرفنا أنها لا زالت تملك معينا لا ينضب من الحزم و (المراس الصعب). وكل ما كان باستطاعتنا قوله لها: كوني حذرة ...

انضمت (فضيلة) إلى الثوار الذين استقبلوها كما لو كانوا في انتظارها. وحملت السلاح في الجبال مع إخوانها المجاهدين وأخواتها المجاهدات. ولقد حملت السلاح في هذا المرة وهي أكثر ثقة بقدرتها على الانتقام من الأعداء. إنها ستنتقم لأختها (مريم). ولن يثنيها عن عزمها شيء، هنا ستعيش مع وطنها الحقيقي، وطن الحرية، وستنال حريتها وتمارسها قبل أن يتحرر وطنها. ... استخدمت (فضيلة) منزلنا ملجأ لها باستمرار، فلم تنقطع اتصالاتنا بها، وعندما كانت تنقطع عن زيارتنا، كانت أيامنا تمضي ثقيلة، حزينة، رتيبة، حتى جاء ذلك اليوم الحاسم عندما أقبلت علينا، وانتحت بوالدتي (ليلى) جانبا لتتحدث إليها بأمر يهمها، ولتسر إليها بكلمات أمكن لأذناي التقاطها: (يجب أن أقابلك غدا على الرصيف - ظهر! - بكل تأكيد ...). وتناولنا طعام الغذاء معا. كانت (فضيلة) على غير عادتها، مرحة حتى أبعد حدود المرح. وضحكنا كثيرا. وتحدثنا عن أيام الدراسة في المعهد. وتذكرنا (العصـ ... يان) والسيد (غروس) أستاذنا في تدريس اللغة العربية، وسخريتنا منه، وهزأنا به، عندما كان يلقي دروسه. واستعدنا كلماته: (آنسة سس - أو آنسة ي - هيا اخرجي من الدرس) (وأنت يا آنسة فضيلة - كوني على حذر). وكان الأستاذ (غروس الأصلع والسمين) يصطبغ أثناء ذلك باللون الأحمر. وهو يحدجنا بنظراته من فوق نظاراته. فكان يظهر لنا وهو يكاد يتفجر غيظا، ثم لا يلبث حتى يعود إلى هدوئه ليشرع في توجيه نقده اللاذع ضد الجميع، وضد أي موضوع. ويبدأ بعد ذلك برواية القصص المضحكة والتي لم يكن يضحك لها إلا هو وحده. وعلى

هذا خيم على منزلنا جو من المرح لم نعرفه منذ وقت طويل. وأثناء ذلك قالت (فضيلة): (إنهم سيشرعون بإجراء المفاوضات في (مولون) وسنحصل في هذه المرة على الاستقلال بكل تأكيد). لقد كانت اليوم شديدة التفاؤل، صافية النفس، خلافا لعادتها، إذ كانت باستمرار تظهر متفرقة في تفكير عميق، وتتصرف بجدية مطلقة. وكان ذلك مبعث بهجتنا، فضحكنا كثيرا ومن أعماق قلوبنا. وكان يوما لا ينسى. غير أن أختي الصغرى قطعت علينا مرحنا، وأثارت تشاؤمنا عندما قالت: (إن من يضحك الجمعة، سيبكي يوم الأحد). وكان ذلك اليوم هو يوم الجمعة. تركتنا (فضيلة) وكلها مرح وتفاؤل، وكانت قسمات وجهها تعكس ما يعتمل في نفسها من صفاء وطهر ونقاء، فمضت والابتسامة الحلوة على شفتيها. لقد كانت مقتنعة باقتراب موعد السلام. فغرست في نفوسنا نواة الأمل باقتراب فجر المستقبل الذي سيشرق بإذن الله. وقالت لأمي (ليلى) التي كانت مثل أمها أيضا، وهي تودعها: إذن! إلى الغد!. وأجابتها أمي: إلى اللقاء غدا. ولما كنت على وشك الوضع لمولودي الثالث، فإن (فضيلة) لم ترغب بالذهاب قبل أن تهمس لي بأمنيتها: (أتمنى أن تضعي لنا هذه المرة مولودا ذكرا). لم أتمكن من منع نفسي عن التفكير بأمر (فضيلة) بعد أن غادرتنا، فقلت مناجية: (ماذا ينقصك في هذه الحياة وماذا تفتقدين؟ إنك يا (فضيلة) فتاة لا تقاوم! ويحبك الجميع حيثما ذهبت وأين حللت. إنك برقتك تجتذبين كل من حولك! وباستطاعتك رعاية أسرة سعيدة. إنك زهرة متفتحة، تعيشين في يسر وبحبوحة! ابتسامتك البريئة تظهر غمازتيك

الحلوتين. ولون بشرتك الصافي، وعينيك البراقتين، وشعرك الأسود الحريري الذي يحيط بوجهك الملائكي. ويعترف كل من عرفك بأنك مثال للفتاة الجميلة والرقيقة والفاتنة. إنك تمتلكين كل شيء؛ الأنوثة والرقة، البساطة والشجاعة، الحزم والعقل والذكاء والخيال الخصب، فماذا ينقصك؟ إن ما ينقصك هو (العدالة والحرية). إنك لا تريدين العودة مرة ثانية إلى الوحل. ولهذا اخترت طريق الثورة، فمضيت لإيقاظ النيام من سباتهم، وأشعلت فيهم لهيب الثورة. لقد خضت صراعا مريرا، ونذرت نفسك لخدمة بلادك. ذهبت والدتي (ليلى) إلى (الرصيف) في الموعد المتفق عليه. وكان تفكيرها مركزا على ما ستتسلمه من (فضيلة). إنها ستأخذ منها رزمة من البريد لتنقلها بدورها إلى (السيد العربي). قرأت (ليلى) وهي تقترب من مكان اللقاء، إمارات الحزن على وجوه المارة. كان المكان مكتظا بالناس. وقد احتشد الدهماء بأعداد كبيرة في المكان المحدد للالتقاء. وكان الناس يتحدثود بأصوات مرتفعة، ويلوحون بأيديهم بإشارات غامضة، وكأنهم يعلنون احتجاجهم ضد عمل من الأعمال. وانتاب (ليلى) شعور من القلق، وتجنبت الاقتراب من الجموع المهتاجة. وكان من المحال عليها - في كل الأحوال - شق طريقها من أجل الوصول إلى حيث تريد. وصادفت رجلا منفردا، وحاولت أن تعرف منه جلية الأمر؛ وسألته: (ماذا حدث؟). وأجابها هذا: قتلوا اثنين من الفدائيين - رجلا وامرأة -. وأسروا رجلا ثالثا. وفي ذروة الانفعال عاودت (ليلى) السؤال: ومن يكونون؟. وأجاب الرجل: لا أحد يعرف أبدا؟ فالحي مطوق بكامله ولا أحد يستطيع أن يرى شيئا ..

وشعرت (ليلى) فجأة بضيق يعتصر صدرها، وفكرت على الفور (بفضيلة). إذ كان عليها مقابلتها في هذا المكان ذاته. وتلاحقت أنفاس (ليلى) حتى لتكاد تختنق. وعادت بخطى متسارعة حتى تصل إلى منزلها، وعندما دخلته كانت بادية الاضطراب بحيث لم تتمكن من إخفاء انفعالها. وأخذت فور وصولها بإتلاف الوثائق والرسائل التي كانت بحوزتها. ماذا حدث؟ وماذا يمكن أن يحدث؟ .. وهيمن على منزلها مناخ من الهياج والانفعال. وبات القلق شعورا قاتلا لا يمكن احتماله. وأظلمت السماء، معلنة اقتراب هبوب العاصفة. ماذا حدث؟ لم يكن هناك من يجرؤ على التعبير عما كان يجيش في خاطره. كانت الحقيقة تخيفنا جميعا. وتعاظم قلقي حتى أنني قضمت أظافري دون أن أشعر بذلك. وعلى هذا أمضينا ليلتنا، ومضى الظلام ولم يغمض لأحدنا جفن، كانت ليلة لا تنسى. وما أن طلع النهار، حتى أسرعت إلى بائع الصحف الذي كان دكانه يقع في أسفل المبنى حيث يقع منزلنا. واشتريت صحيفة (ديبيش - دو - قسنطينة) وأمسكتها بضيق، وبيد مرتجفة فيما كان جدي كله يرتجف ويهتز بعنف، وفتحت صفحات الجريدة، فصدمتني على الفور ثلاثة صور تغطي الصفحة الأولى: إنها صور (فضيلة) و (عمر كيخيا) و (رواج). وصرخت بصوت مختنق: فضيلة ماتت؟ كيف، وهل هذا ممكن؟ وشعرت بقواي تنهار حتى لتكاد قدماي تخوناني وأنا أهرب مسرعة. وأطلقت صرخة وأنا أجهش بالبكاء، ولم أعد أرى الطريق بعد أن أسدلت الدموع ستارا على عيني، وشعرت بألم حاد في أحشائي، لقد أخد الجنين في التحرك بعنف،

وكأنه يشاطرني ما أنا فيه؛ واستمر لساني في الهذيان: فضيلة، يا الله، لماذا؟ وعمر! و (رواج)! .. ولا زالت الصحيفة في يدي وأنا أقتحم باب المنزل صارخة، - أماه - أبتاه - أنظروا! لقد ماتت (فضيلة). وبكت والدتي حتى احمرت عيناها، وانتحت بي جانبا لتقول لي اهتمي بنفسك، وانظري إلى حالتك. هل نسيت أنك ستضعين مولودك .. قريبا. ... مضت (فضيلة) عن هذه الدنيا، ولم تخطئها يد القدر في هذه المرة غير أن الأسئلة لا زالت تلح علينا وتشغل تفكيرنا، كيف ماتت؟ وهل تعذبت قبل أن تلفظ أنفاسها؟ وذهبت والدتي (ليلى) فورا لتعزية والدة (فضيلة) في مصابها، ومعرفة تفاصيل ما حدث. وكانت الام البائسة قد جلست تحت ثقل كارثتها حتى لم تعد قادرة على الوقوف، كانت متهدمة محطمة، قد تغيرت كل ملامح وجهها، وتورمت عيناها لكثرة البكاء. وكان رجال الشرطة قد وصلوا إلى هناك. لينقلوا إليها تفاصيل المأساة الجديدة. وكانت كل كلمة من كلماتهم كافية لتمزيق أشد القلوب قسوة إلا قلوب الاستعماريين: كانوا ثلاثة قد وصلوا إلى منزل (الرصيف) حيث الموعد. واكتشف الإفرنسيون أمرهم، وأرادوا أخذ (فضيلة) وهي على قيد الحياة. فنادوها مرات كثيرة حتى تخرج إليهم، واستمرت في الرمي حتى نفذت ذخيرتها، ثم صعدت الى السطح وهي تصرخ بملء صوتها القوي: لا! ... ثم لا! ... ثم لا! ...

وقامت القوات الإفرنسية بتطويق المنزل وإحكام الحصار حوله، فلم يكن من الصعب تمزيق جسد (فضيلة) بالرصاص، فهوت الى الأرض وقد فارقت الحياة. كانت (فضيلة) تعرف أن استسلامها لأعدائها يعني البوح بأسرارها. إنها تعني الخيانة، وليس باستطاعة فضيلة أن تخون أحدا أو تغدر بأحد. سقطت (فضيلة) ميتة، وغير بعيد عنها كانت ترقد جثة (رواج) وسط بركة من الدماء. أما (عمر كيخيا) فقد حاول الهرب حاملا معه جراحه، غير أنه لم يذهب بعيدا، فقد ألقي القبض عليه، ولم يتأخر عن اللحاق بأخويه المجاهد والمجاهدة. يا للمسكين (عمر)، لقد كان يفكر وهو يهرب - يقينا - بأمر زوجته الشابة التي ستصبح أرملة وهي في نضرة العمر، وكذلك بابنه الصبي الصغير الذي سيتركه لقدره ولعل شجاعته قد خانته في هذه اللحظة بالذات وهو يحاول الفرار. وعلى كل حال، فإن (عمر) لم يقتل لسبب تافه، وإنما استشهد مجاهدا بطلا، ما عرف عنه إلا أنه شاب شجاع حتى حدود التهور. ولقد مضى على الطريق الذي سبقته إليه بثوان قليلة (المجاهدة فضيلة) ومن قبلها شقيقتها (مريم). وهو ذات الطريق الذي مضت عليه قافلة (شهداء الثورة). قدمت والدتي (ليلى) العزاء بكلمات قليلة إلى الأم البائسة بمصابها الجديد، ثم ودعتها وعادت إلى المنزل. وقد كان مصاب أم (فضيلة) بابنتيها أكبر من كل عزاء. وإن أكبر محنة تتعرض لها امرأة هي فقد أحد أبنائها.، فكيف بها وقد فقدت (مريم) من قبل

وهي تبتلى بعد ذلك بابنتها (فضيلة). لقد باتت أما لشهيدتين على التتابع! ولم يبق لها في هذه الدنيا إلا ابنتها الثالثة (عزيزة) وهي ابنتها البكر، فكانت تضع رأسها على كتفي ابنتها وعلى صدرها، ما بين فترة وأخرى، وتبكي بحرقة، لعلها تتنسم في صدر ابنتها ريح أختيها، وتتشبث بها بكل ما بقي لديها من قوة، ولعلها كانت تخشى أن تفقد أيضا ما بقي لها من عون ومن أمل في هذه الحياة. ومضت أسابيع، وجاءت ليلة تحمل معها آلام المخاض، وشعرت بالقلق ينتابني في بداية الأمر، واشتد الالم فأخذت أتعجل طلوع النهار. كان البيت هادئا، ساكنا. وتحسست الجدران في الغرفة نصف المظلمة، وأنا أفكر في كل شيء، إلا فيما أنا فيه، غير أن نوبة من الألم زادت في شدتها على كل ما سبقها حملتني على القفز من سريري. يجب استدعاء سيارة الإسعاف. غير أن أمر منع التجول، حظر تحرك أية مركبة أو آلية في الليل - حتى سيارات الإسعاف - فحملني أهلي إلى المستشفى التي وضعت فيها ابنتاي من قبل. وقالت لي ممرضة كنت أعرفها إنك ستضعين لنا في هذه المرة صبيا ... ومضت فترة قصيرة، وضعت بعدها بنتا - إنها ابنتي الثالثة وسمعتهم يتحدثون من حولي: - سنطلق عليها اسم (فضيلة). واتفق على ذلك زوجي وأهلي والجميع، من غير اعتراض أو مناقشة، لقد أحبوا أن يبقى اسم (فضيلة) حيا بيننا. أما أنا، فلم أحاول إتاحة الفرصة أمامهم لأخذ رأيي في الموضوع. وأخذت ابنتي، وضممتها إلى صدري. لقد استشهدت (فضيلة) يوم 18 حزيران - جوان - 1960.

وها قد مضت على الحدث الأليم أربعة عشر عاما - عند إعادة تسجيل الحدث من خلال ما يحتويه (صندوق الذكريات)، وأصبح عمر ابنتي فضيلة أربعة عشر عاما. وعدت الى أولادي بعد رحلتي مع أحداث الماضي، وقلت لهم: - هيا! أعيدوا ترتيب كل شيء. وتمضي السنوات، وتبقى ذكرى (فضيلة) نابضة بالحياة في قلوب كل من عرفها. إن ذكراها ستبقى ماثلة أبدا في عيون الوطن وفي عيون أبناء مدينتها. وسيذكرها أبناء معهدها كل يوم عند مرورهم باللوحة التي حملت اسمها: (معهد فضيلة سعدان)

نساء جزائريات في (معسكر الاعتقال)

3 - نساء جزائريات في (معسكر الاعتقال) (*) دخلت عربة النقل الكبيرة - الشاحنة - التي كانت تحملنا إلى درب ضيق، ثم تباطأت في سيرها حتى توقفت، ونزلنا الواحدة بعد الأخرى. ولم نتمكن من رؤية معالم المكان الذي ندخله بوضوح، فظلمة الليل لا زالت قاتمة. وأحاطت بنا ثلة من المظليين، وجنود حراسة المعسكر. وكان وجود جند الحرس على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لنا، لأننا نعرف بأن هؤلاء الجنود لا يقومون بتعذيب المعتقلين عادة. وكان معنا في الشاحنة بعض الرجال المعتقلين الذين تم اقتيادهم نحو بناء في أقصى المعسكر. أما نحن - النساء -فقد كنا ثلاثة تم اقتيادنا إلى غرفة مستطيلة لا ضوء فيها ولا باب لها. وكانت غرفة واسعة الأرجاء، فيها امرأتان ترقدان على غطاء وتلتحفان غطاء أبيض من الصوف. واستيقظت المرأتان عند وصرلنا، وأفسحتا

_ (*) قصة معتقلة قديمة أرسلتها في تقرير لها إلى (قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائري) شرحت فيها ما تتعرض له النساء من العذاب في معتقلاتهن، وما تظهره المرأة الجزائرية من الشجاعة والجرأة والصمود في مواجهة الأعداء - وهن معتقلات تحت رحمتهم. والمرجع: RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOUDJAHED. ALGER. (1977) P. P. 251 - 263.

مكانا رحبا لنا إلى جوارهن. لم تكن لدينا القوة للتحدث إليهن، فقد انتابني إرهاق مرعب لكثرة السهاد والأرق، فرحت في نوم عميق في الهواء الطلق، لا جنود أمامنا للحراسة، ولا أنين المعذبين، ولا صراخ السجانين وعويلهم. كان المعسكر لصمته وهدوئه يبدو مهجورا، غير أنني لم أجد الرغبة في طرح الأسئلة، كل ما يهمني هو الاستغراق في النوم للمرة الأولى، بعد طول السهاد الذي لازمني منذ اعتقالي. بذلك بدأت حياتنا في المعسكر، وأمضينا الأيام الأولى في غرفتنا، وكان كل ما يشغلنا من هموم هو التفكير بمصيرنا. ولم يكن يهمنا أبدا النظر في شروطنا الحياتية، إذ لم نكن نتوقع ما هو أفضل: كنا ننام على الأرض، في غرفتنا التي لا زجاج لها على النوافذ، ونكتفي بالوجبة الوحيدة التي يقدمونها لنا في اليوم، وهي ثابتة على الأغلب ولا تتغير (سردين بالزيت). وشرعت كل واحدة في رواية ما تعرضت له من تعذيب، وهي تظهر الآثار المختلفة التي تركها التعذيب على جسدها. كانت (وردة) أما لثمانية أطفال، وأرملة، قتل الإفرنسيون زوجها منذ شهر، وتركت في لحظة اعتقالها أحد أبنائها مريضا، راقدا في فراشه. وتعرضت لكل أنواع التعذيب (التيار الكهربائي، نفخ المعدة بالماء، البقاء في الحمام تحت الماء المتساقط - الدوش - الخ ..). وعرضت علينا أثداءها وقد تلونا باللون الأسود بسبب التيار الكهربائي. وقد صدمتني نظراتها الشاردة. كانت تتلجلج وهي تبكي بحرقة عندما تتحدث عن أبنائها الذين تركتهم وحدهم، وتتساءل: ترى من سيطعمهم؟. كانت المعتقلة الثانية (واسمها ليلى) فتاة في الثانية والعشرين من عمرها. ذات شعر كستنائي، ومزاج معتدل. وقد حاولت الترفيهمكانا رحبا لنا إلى جوارهن. لم تكن لدينا القوة للتحدث إليهن، فقد انتابني إرهاق مرعب لكثرة السهاد والأرق، فرحت في نوم عميق في الهواء الطلق، لا جنود أمامنا للحراسة، ولا أنين المعذبين، ولا صراخ السجانين وعويلهم. كان المعسكر لصمته وهدوئه يبدو مهجورا، غير أنني لم أجد الرغبة في طرح الأسئلة، كل ما يهمني هو الاستغراق في النوم للمرة الأولى، بعد طول السهاد الذي لازمني منذ اعتقالي. بذلك بدأت حياتنا في المعسكر، وأمضينا الأيام الأولى في غرفتنا، وكان كل ما يشغلنا من هموم هو التفكير بمصيرنا. ولم يكن يهمنا أبدا النظر في شروطنا الحياتية، إذ لم نكن نتوقع ما هو أفضل: كنا ننام على الأرض، في غرفتنا التي لا زجاج لها على النوافذ، ونكتفي بالوجبة الوحيدة التي يقدمونها لنا في اليوم، وهي ثابتة على الأغلب ولا تتغير (سردين بالزيت). وشرعت كل واحدة في رواية ما تعرضت له من تعذيب، وهي تظهر الآثار المختلفة التي تركها التعذيب على جسدها. كانت (وردة) أما لثمانية أطفال، وأرملة، قتل الإفرنسيون زوجها منذ شهر، وتركت في لحظة اعتقالها أحد أبنائها مريضا، راقدا في فراشه. وتعرضت لكل أنواع التعذيب (التيار الكهربائي، نفخ المعدة بالماء، البقاء في الحمام تحت الماء المتساقط - الدوش - الخ ..). وعرضت علينا أثداءها وقد تلونا باللون الأسود بسبب التيار الكهربائي. وقد صدمتني نظراتها الشاردة. كانت تتلجلج وهي تبكي بحرقة عندما تتحدث عن أبنائها الذين تركتهم وحدهم، وتتساءل: ترى من سيطعمهم؟. كانت المعتقلة الثانية (واسمها ليلى) فتاة في الثانية والعشرين من عمرها. ذات شعر كستنائي، ومزاج معتدل. وقد حاولت الترفيه

عنا قدر استطاعتها، فذكرت لنا قصة ما تعرضت له من التعذيب بالحركات وبصورة تفصيلية، وهي أثناء ذلك تتحدث بأسلوب ساخر، فتسخر من نفسها قبل أن تسخر من غيرها أثناء تقليدها لجلاديها بلغة فرنسية مسحوقة. وقالت لنا كيف صعد الجنود على بطنها لإفراغ الماء الذي يملأ معدتها، وكيف غمروا رأسها بماء المغسلة. وكانت المرأة العجوز التي صعدت معنا في عربة النقل الكبيرة مصابة بمرض (الربو) فكانت تتنفس بصوت مسموع. وقد عذبوها مستخدمين التيار الكهربائي، في جملة ما استخدموه، بهدف حملها على الاعتراف بمكان ابنها وأين يختبىء، وباتت بعد التعذيب وقد فقدت الإحساس بذراعها اليمنى. ولاحظت على ذراعي أيضا وجود عدد من النقاط الصغيرة، ولكن بكمية كبيرة، ذات لون كستنائي، وكأنها بقع من الصدأ، لازمتني عشرات الأيام، أما المرأتين الباقيتين فقد تم تعذيبهما في مراكز أخرى من الجزائر، وما أكثرها، سنعرف شيئا عنها عن طريق بقية المعتقلين. ... كانت نافذة غرفتنا تطل على الساحة التي لم نكن نرى فيها أحدا من الرجال، غير أن الهواء كان يحمل إلينا في النهار أصوات أنات عميقة، تتزايد وضوحا في الليل. وكان يقتحم علينا غرفتنا ما بين فتره وأخرى أحد رجال المظليين، بهدف إثارة الرعب في نفوسنا، والعبث أو اللهو على حساب انفعالاتنا، فيقص علينا أنه ذاهب (لطبخ) أحد المعتقلين، وأنه (بيده، سيفتتح ثغرة في المعتقل تتسع لتدوير مقبض - مانيفيل) ثم يسأل: (هل عذبكم أحد هنا بهذه الطريقة؟) وهو لم يجب أبدا على هذا السؤال وما يبغي منه، فكان

يتركنا في حالة من الرعب الدائم. كان المعسكر الفسيح جدا يمتد من أمامنا، إنه مجموعة من الأبنية القديمة من التوتياء، أقامها الأمريكيون في سنة 1945 لتمركز جنودهم، ثم أنشئت مدرسة في قسم من المعسكر بعدئذ. وكانت هذه الأبنية تتكون من (6) الى (8) أبنية نصف دائرية مدهونة بالكلس - الجير - وهي تصطف على كل طرف من أطراف الساحة المستطيلة، بطول مائة متر تقريبا. وقد ضمت هذه الأبنية عدد كبير من المعتقلين. وكان هناك رقيب مظلي يسجل الداخلين إلى غرفتنا. وكنا نراهم وهم يمرون من أمام مكتبه، ليستودعوا عنده أوراقهم الشخصية (الهويات) وكل ما يمتلكونه، وكان الرقيب يضع ذلك كله في مغلفات من الكرتون (الورق المقوى) وكان عدد هذه المغلفات كبير جدا. ... دخلت علينا في ليلة من الليالي مجموعة من خمسة نسوة، جاؤوا بهن من (مدرسة سارويا) وعن طريقهن عرفنا أسماء الذين كانوا يقومون بتعذيبنا. وكنا نردد هذه الأسماء في كل مساء حتى لا ننساها. وقد أخذ عددنا يتزايد شيئا فشيئا. فحجزونا في غرفة خصصت للنساء اللواتي بلغ عددهن (في نهاية شهر أوت - آب) أربعين امرأة. وأصبحنا نتجمع بمجموعات متجانسة، وغالبا ما كانت النساء المتقدمات في العمر يجلسن بعضهن إلى بعض، تاركات للصبايا الصاخبات حرية الحركة في الغرقة. وكانت الفتاة (ف) تثير فينا الضحك، بحيويتها المتدفقة، وبما تمتلكه من ذكاء حاد، فتقص علينا الحكايات والنوادر مما سمعته في (المركز) ومما كان يتناقله (المعتقلون) ومنها حكاية ذلك الشجاع من قدامى

المناضلين والذي تم إلقاء القبض عليه بواسطة كمين محكم فكان يحاول اكتساب عطف جلاديه عندما يسلطون عليه التيار الكهربائي وذلك بقوله (ليس باستطاعة فرنسا حكم البلاد بهذه الأساليب الجنونية - الحمقاء) مع تكرار حرف الراء في (كلمة فرنسا) عندما تشتد عليه قوة التيار. استمر القلق في تعذيبنا طوال الوقت، ماذا سيحل بنا وماذا ينتظرنا؟ وكم من الوقت سيمضي علينا في معتقلنا هذا؟ وكيف لنا أن نتصل بعائلاتنا لبعث الطمأنينة في نفوسهم؟ ... نظم المظليون المعسكر شيئا فشيئا. فوضعوا الأسلاك الشائكة فوق الجدران. ووضعوا الحديد على نوافذ الغرف. واكتفى الحرس من غير المظليين بأداء دوره في الحراسة. كان يسمح للمعتقلين في كل غرفة (مائة معتقل تقريبا) بالذهاب مرتين إلى دورات المياه (المراحيض). وكان رتل المعتقلين يسير بنظام، يحيط به المظليون الذين يدفعون المعتقلين للإسراع (بأداء هذا الواجب) مستخدمين في ذلك أعقاب بنادقهم. وكان هذا (العرض) مؤلما، ونحن نتابعه من وراء القضبان، بقلوب حزينة منكسرة، هذه المزق الإنسانية، وهي تعرج، أو تسحب بقاياها على الأرض سحبا، في حين يعمل الأقوياء من المعتقلين على مساعدة المرضى بحملهم من تحت أذرعهم. ويأتي الشيوخ دائما في المؤخرة، أما الأكثر شجاعة فيسيرون في الأمام. وكل يحمل في يده علبة معدنية تحتوي ما كان قد طرحه فيها من البراز في الليل. لحى مرسلة، وأجساد متثاقلة، وعيون شاردة، ووجوه

متغصنة، وقامات منحنية: شباب، صاخب انتهى إلى الكهولة في أسابيع قليلة، إنهم يسيرون متعجلين وضربات البنادق تطاردهم. وشتائم الجلادين وصرخاتهم تنهال على هؤلاء البؤساء من كل مكان. مضت عشرة أيام علينا ونحن في معتقلنا هذا عندما دخل علينا الرقيب وقال لنا: (انهضوا - هيا - وأعدوا أنفسكم). ودفعنا إلى الخروج، في حالة من الهياج، وقد كسى الشحوب والاصفرار وجوهنا. وكذلك كان شأن الرجال الذين وقفوا في مواجهتنا، ولم تمض سوى لحظة حتى ضاقت الساحة على رحبها بالمعتقلين. وجلس رجل قصير من ذوي القبعات الحمراء - المظليين - (اسمه النقيب - الكابتن - بوتوت) وراء طاولة وضعت له في الهواء الطلق، وقد تربع على مقعده في انتظارنا وخيم على الساحة صمت ثقيل، ثم نهض من مقعده، وصاح بنبرة ثابتة، وبصوت واضح: (هل أخرجتم المرضى؟! إنني بحاجة إلى المرضى أيضا.!) وقام المعتقلون بنقل بعض الأجساد إلى الأمام من أبواب المهاجع. مما استغرق بعضا من الوقت. وهمس البعض متسائلا بقلق: (ماذا سيفعلون بنا؟) وتقدم النقيب إلى المعتقلين قائلا: (سوف أناديكم بأسمائكم، فمن سمع اسمه يجيب: حاضر، وينتقل إلى الطرف المقابل من الساحة). وبدأ قراءة الأسماء، في حين كنا نحتبس أنفاسنا. وأخذت إحدانا بعد المعتقلين حتى زاد العدد على الثلاثمائة. وكان النقيب يقرأ اسم أحد المعتقلين، فلا يجيبه أحد في بعض الأحيان، وعندها يتدخل الرقيب ليقول: (إنه في سرية أخرى) أو يهمس بكلمات لا نستطيع

فهمها فيتابع النقيب قراءة الأسماء بصوته الجهوري ولهجته الثابتة. فكرت بمرارة بأمر تلك الظلال التي جلس بعضها إلى جوار بعض ... وقرأ النقيب الأسماء الأخيرة بصعوبة واضحة. وانتهت (العملية) ... ثم بدأ التدافع نحو الغرف (المهاجع) وتعثر البعض بسبب الظلمة، ولم يتمكن المظليون من السيطرة على الموقف إلا بصعوبة وعناء. وتبع ذلك ضجيج وأصوات قوية، وانطلق بعضنا يعانق بعضا مهنئين بمرور التجربة بسلام، في وسط الظلمة بحيث لم تكن الوجوه لتتعارف، وكانت الظلمة القاتمة تضم الجميع وتصهرهم في كتلة واحدة، وفي جسد معذب واحد. كانت تصلنا في كل يوم مجموعة جديدة من النساء. فنتحلق حولهن لنستمع منهن - قبل كل شيء - قصة (استجوابهن) ثم نتلقى منهن بعض الأخبار الجديدة. ونقلت إلينا بعضهن ممن جاؤوا من (مدرسة سارويا) قصة انتحار فتاة لا يزيد عمرها على ثمانية عشر ربيعا، قذفت بنفسها من نافذة المدرسة حتى تتخلص من التعذيب. وكانت شقيقة أحد المجاهدين المعروفين (ز. ت. آ) معتقلة معنا، وقد انتابها القلق على مصير أخيها، فأعلمناها أنه بخير، وعادت الطمأنينة إلى نفسها، وقد لازمت الفتاة الطالبة (هـ) ذات العشرين ربيعا، ولم تتركها لحظة واحدة، إذ كانت تعرف أنها مصابة بمرض (القلب) وشاهدتها وهي تقع مغمى عليها مرات كثيرة، في إثر جلسات التعذيب. جاءت أيضا الفتاة (ف) شقيقة (م. ي) الذي تم تعذيبه تحت بصرنا في (مدرسة سارويا) وهي الفتاة البكر لعائلتها، وكان أبوها في السجن، وأختها هاربة (حيث أصابها المظليون برصاصة بعد أن طوقوا المزرعة التي كانت تعمل فيها مع ب. س. في تنظيم شبكةفهمها فيتابع النقيب قراءة الأسماء بصوته الجهوري ولهجته الثابتة. فكرت بمرارة بأمر تلك الظلال التي جلس بعضها إلى جوار بعض ... وقرأ النقيب الأسماء الأخيرة بصعوبة واضحة. وانتهت (العملية) ... ثم بدأ التدافع نحو الغرف (المهاجع) وتعثر البعض بسبب الظلمة، ولم يتمكن المظليون من السيطرة على الموقف إلا بصعوبة وعناء. وتبع ذلك ضجيج وأصوات قوية، وانطلق بعضنا يعانق بعضا مهنئين بمرور التجربة بسلام، في وسط الظلمة بحيث لم تكن الوجوه لتتعارف، وكانت الظلمة القاتمة تضم الجميع وتصهرهم في كتلة واحدة، وفي جسد معذب واحد. كانت تصلنا في كل يوم مجموعة جديدة من النساء. فنتحلق حولهن لنستمع منهن - قبل كل شيء - قصة (استجوابهن) ثم نتلقى منهن بعض الأخبار الجديدة. ونقلت إلينا بعضهن ممن جاؤوا من (مدرسة سارويا) قصة انتحار فتاة لا يزيد عمرها على ثمانية عشر ربيعا، قذفت بنفسها من نافذة المدرسة حتى تتخلص من التعذيب. وكانت شقيقة أحد المجاهدين المعروفين (ز. ت. آ) معتقلة معنا، وقد انتابها القلق على مصير أخيها، فأعلمناها أنه بخير، وعادت الطمأنينة إلى نفسها، وقد لازمت الفتاة الطالبة (هـ) ذات العشرين ربيعا، ولم تتركها لحظة واحدة، إذ كانت تعرف أنها مصابة بمرض (القلب) وشاهدتها وهي تقع مغمى عليها مرات كثيرة، في إثر جلسات التعذيب. جاءت أيضا الفتاة (ف) شقيقة (م. ي) الذي تم تعذيبه تحت بصرنا في (مدرسة سارويا) وهي الفتاة البكر لعائلتها، وكان أبوها في السجن، وأختها هاربة (حيث أصابها المظليون برصاصة بعد أن طوقوا المزرعة التي كانت تعمل فيها مع ب. س. في تنظيم شبكة

من الفدائيين. وقتل ب. س بينما تمكنت الفتاة من الفرار، حاملة معها جرحها). ولم يبق في منزلهم غير الأم مع طفلها الصغير. وهكذا كان المعسكر يفصل بين أفراد العائلة الواحدة، ويجمعهم في بعض الأحيان. وقد تصادف في مهجعنا وجود ثلاثة أزواج من الأخوات وكانت منهما أختان سجن أبوهما وأخوهما الصغير الذي لا يتجاوز العشر سنين من عمره، في المهجع المجاور. فكانت الأختان ترسلان سرا إليهما بالخبز، وتغسلان لهما ثيابهما. عادت الفتاة (هـ) في يوم باكية وذلك بعد وصولها إلى هنا بثلاثة أسابيع، وكان سبب بكائها، اكتشافها وجود أخيها الوحيد في المعتقل. إنها لم تتمكن من التعرف عليه في وسط ذلك الرتل الطويل من المحتجزين البؤساء: حتى التقى الاثنان مصادفة في المستوصف، واعترف لها عندئذ بأنه كان يبتعد عن بصرها حتى لا يقلقها ... أصبح من عادتنا مراقبة كل ما يحدث في المعسكر من أمور رتيبة عادية. وكان من أبرز ما في الحياة اليومية ذلك الاستعراض الذي يقوم به المعتقلون وهم يتجهون إلى المراحيض - دورات المياه - القذرة وغير الصحية. وقد بلغ عدد المعتقلين في تلك الفترة، ثمانمائة معتقل في حين لم يكن هناك أكثر من ثمانية مراحيض، فكان الخروج إلى المراحيض يبدأ في الساعة السادسة صباحا، ولا ينتهي قبل الساعة التاسعة مساء، وأحيانا إلى ما بعد ذلك، بالرغم من حلول الظلام الدامس. وكان يتم في وقت مبكر من كل يوم اختيار خمسين رجلا للقيام بأعمال السخرة، ولدى عودتهم في المساء، تقوم قوات المعتقل بإجراء تفتيش مباغت لأحد المهاجع الذي يتم

اختياره بصورة عشوائية. وكانت فترة الصباح تمضي عادة في المراجعة الطبية للمستوصف. ومع كل صباح كان يصل فوج جديد من المعتقلين، عادة ما يضم ثلاثين أو أربعين معتقلا، فتعاظم بذلك عدد المعتقلين، لا سيما وأنه لم يكن يتم إطلاق سراح أحد من المعتقلين. ولكن حدث، وبصورة مباغتة، أن تم إطلاق سراح مجموعتين كبيرتين مما أثار الأمل في النفوس. غير أن هذا الأمل ما لبث أن خاب بسبب الاستمرار في ممارسة ذلك العمل الذي لم نتمكن من التعود عليه بالرغم من تكرر وقوعه يوميا، حيث يصل بعض المظليين من سرية الدعم ومعهم اللائحة (البيضاء المشؤومة) في أي وقت غير متوقع من أوقات الليل أو النهار، فيصعدون مثنى أو ثلاث إلى مكتب الرقيب، ويتسلمون منه الأفراد الذين وردت أسماؤهم في اللائحة، بعد أن يكون قد تم إحضارهم من مهجع أو من عدد من المهاجع، ثم يصلنا صوت سيارة (الجيب) وهي تمضي محملة بإخواننا المعتقلين البؤساء، ليتعرضوا لجولة جديدة من التعذيب والألم. بسبب ظهور شواهد جديدة ضدهم، أو بسبب ظهور تناقض في اعترافاتهم وأقوالهم. خلاصة القول، لم يكن هذا المعسكر الذي احتجزنا فيه من المعسكرات العادية، وكان كل يوم يمر علينا يؤكد لنا هذه الحقيقة. فقد عشنا في معسكر لم تعلن عنه السلطات الإفرنسية بأنه معسكر شرعي، نظامي، فأطلقت عليه بخبث ولؤم اسم (معسكر الترفيه، أو المخيم الثالث) ولكنه كان معسكر ترفيه من نوع (خاص). يقيم فيه المعتقلون دائما في انتظار وصول معتقلين جدد يتم إرسالهم من مراكز التعذيب والتشويه. وخلال هذه الإقامة، كان لزاما على جراحنا الدامية أن تندمل وتجف، وكان لزاما على آثار التعذيب

والتشويه في أجسادنا أن تخف وتزول حتى لا تكشف عن سوء المعاملة التي تعرضنا لها، وحتى لا تفضح أساليب التحقيق الوحشية التي عشناها. هذا هو (معسكر الترفيه) الذي احتجزنا فيه ونحن في عزلة تامة عن العالم الخارجي، ومن غير اتصال، أو أخبار، عن عائلاتنا التي اعتبرتنا بحكم المفقودين. على هذا عشنا أشهرا طويلة من الشك القاتل، والمعاملة الوحشية. وكان عزاؤنا في هذه الحياة المشتركة، أننا نعيش جميعا آلاما واحدة، ونمر جميعا بتجربة واحدة، نتعرض لما نتعرض له من أجل قضية نبيلة واحدة، ومثل أعلى واحد. أقيم المستوصف في غرفة صغيرة من إحدى الغرف الواقعة في مواجهة مهجعنا، فكنا نرى من وراء القضبان الحديدية للنافذة، عددا من المرضى لا يقل عن الخمسين يوميا، وقد التصقوا على الجدار، واستندوا إليه، بانتظار دورهم في المعالجة، كنا نراهم في كل يوم وهم يعرجون، وبعضهم لا يستطيعون السير فيقعدون أرضا، تحت أشعة الشمس الحارقة، حتى يأتيهم من المعتقلين من يستطيع حملهم أو مساعدتهم على السير. وكانت أيديهم ورسغ أقدامهم مصطبغة بلون أحمر يكشف عن بقع كالوشم، ترك التعذيب بالكهرباء أثرا واضحا عليها. وكانت هذه الظاهرة تذهلنا، وتحيرنا. فنتساءل: (لماذا يحملون جميعا هذا الأثر على الرسغ، رسغ القدم بالذات، دون غيره من أعضاء الجسم؟) وأمكن لنا الحصول على تفسير هذه الظاهرة: (إن الروابط تخترق عميقا في اللحم، بسبب الاهتزازات الكهربائية، فتتقيح الجروح، ويضطرون إلى طلائها بالميكروكروم). وقال لنا الرقيب المظلي الذي قدم لنا هذا التفسير: (إنهم لا يتقنون ممارسة عملهم أما

أنا، فأضع قطعا من الورق المقوى - الكرتون - بين الروابط لالصاقها على الجسم حتى لا تتحرك فتترك أثرا في الجسم). كان هناك رقيب جزائري (اسمه س) يعمل ممرضا، وقد اعتقل معنا، فكان يقوم بكل الأعمال للعناية بالمرضى المعتقلين. أما الرقيب الممرض المظلي، فكان يأتي للثرثرة معنا، والتسلية بنا. وبقي (س) يعيش في المستوصف، للعناية بأمر اثني عشر مريضا، كلهم مصابون بأمراض خطرة، وقد ترك كل واحد منهم على الأرض، فوق غطاء، وكانت حالتهم تتطلب عناية مستمرة، ورعاية طبية خاصة وكنا عندما نكنس الساحة وننظفها، نستطيع الاقتراب لنشهد سبب صراخهم الحاد لشدة ما بهم من الألم. كانوا ممددين أرضا، وهزالهم الشديد يفضح المرحلة التي وصلوا إليها في مرض (التدرن الرئوي). وعيونهم ملتهبة بالحمى، يحيط بهم البصاق. وهنا قدم مسودة ومنتفخة إلى درجة لا يمكن قياسها. وهناك، يجلس رجل في زاوية، يتنفس بصعوبة وقد جحظت عيناه، وجمدت نظراته. كان أنين الأجساد يتصاعد من كل مكان في الغرفة - المستوصف -. وعلى مقربة من المدخل، وضعت طاولة عليها كومة من المواد الطبية: كحول، وميكروكروم، واسبرين، وكينين، غير أنه لم يكن هناك شيء من المضادات الحيوية (أنتيبيوتيك). وكان الممرض (س) يحرص على الاقتصاد في الكحول والأربطة، فلا يعمل على توزيعها إلا عند الضرورة. وكان المعتقلون يصطفون خارجا بانتظار إدخالهم واحدا بعد الآخر، حيث يعرضون على الطبيب جراحهم التي كانت بصورة عامة مركزة على أعضاء الجسم: وجوه منتفخة، ولثث ملتهبة متورمة، بعضهم يمشي بصعوبة قصوى بسبب ما أصاب

أقدامهم من التهاب حاد، وارتفاع مرعب في درجة الحرارة. وهناك حروق في الأعضاء الحساسة من الجسم لا ضرورة هنا لوصفها أو التعرض لها. هذا علاوة على تلك الندب الصغيرة التي تظهر على البطن أو على بقية أجزاء الجسم ... كانت هذه الساحة الجنيدة تشهد العجاب والغرائب، ومنها مجنون كان يروح جيئة وذهابا طوال النهار. فهل كان مجنونا قبل اعتقاله؟ أم أن التعذيب قد أسلمه إلى الجنون؟ أم أنه يتظاهر بالجنون؟ لقد اعتبرته - من وجهة نظري - أنه إنسان شاذ وغير طبيعي: ونظراته لا تخدع أحدا. كان يمرح في كل مكان من المعسكر بكامل حريته، ذاهبا وعائدا ما بين طرفي الساحة وهو يقوم بحركات كثيرة، ويقلد حركات الملاكمين على أفضل وجه، وكان في الساعة السابعة من مساء كل يوم، يجول حول المعسكر وهو يركض - رملا - تحت أنظار المظليين الذين كانوا يشجعونه ويستثيرون حماسته، فيما كان بقية المشاهدين يروحون عن أنفسهم بمتابعته والتعليق على حركاته. وكنا نتعذب كثيرا في بداية الأمر لرؤية هذه النفس التائهة، المريضة، وقد خضعت، وهي مجردة من كل دفاع، لهؤلاء الجلادين الذين يقومون على حراستنا. ثم لم نلبث أن تعودنا على ذلك، فكان يدخل إلى مهجعنا كالريح العاصفة، فيجلس للحظة بيننا، يتحدث إلى نفسه بصوت منخفض أشبه بالدمدمة. ونقدم له الطعام ونحن خائفات وجلات تقريبا، ثم يخرج متعجلا نحو عالمه الخاص به. ... كال طبيب المعسكر من وحدات المظليين، طويل القامة، نحيل البنية، جاف الطباع، يتحدث بقوة وبلهجة أهل (بريتانيا).

وكان يرافق الممرض في جولاته أحيانا، غير أنه كثيرا ما كان يتردد علينا، إذ كان لدينا مرضانا أيضا من النساء. فهذه فتاة شابة متزوجة، لم تتجاوز التاسعه عشرة من عمرها، حاملا في الشهر الثالث، وعلى حلم ثدييها وعانتها حروق من التيار الكهربائي، وهي تتبول دما. وتلك سيدة نحيلة (هـ) لها من العمر أربعين عاما، ذات بشرة سوداء فاحمة، تعرج على قدمها، ومريضة بالربو، وتلك أيضا السيدة (آ. ت) المصابة بمرض القلب الخ ... وكنا نتناقش معه طويلا في وضع مرضانا، فكان يقول: (ماذا تريدون مني أن أفعل؟ ليس هناك أدوية، ولا شيء، ثم يشير إلى ذقن الممرض وهو يتابع قوله، وعلى كل حال، فإنهم سيموتون جوعا ومرضا. كان لزاما وضعهم في المستشفيات بصورة طبيعية لأن حالتهم تتطلب عناية من نوع آخر، وهذا أمر واضح جدا). اتخذنا الترتيبات لإرسال الحلوى والمربيات والحليب والخبز إلى المرضى الذين اشتد عليهم الداء، وأمكن تأمين شراء هذه المواد سرا من الخارج. وفي إحدى الأمسيات، كلفت (ك) بكنس وتنظيف الساحة - أمام المستوصف - وعادت من تنفيذ مهمتها مهتاجة جدا لتقول لنا: (أتعرفون من يوجد في الأسفل، وبحالة حزينة تثير الشفقة؟ إنه الصائغ - الجواهري - مصطفى الذي يمتلك دكانا في شارع بوتان! لقد عرفني، يا له من فتى شجاع؟ ويا له من بائس؟ سنرسل له غدا بعض الطعام). ولما كان البعض منا يقيمون في هذا الحي، ويعرفون جيدا هذه الناحية، فقد عرفوه. وقالوا إنه شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، متزوج وأب لطفلتين صغيرتين، مستقيم في تعامله مع الناس، ولهذا يحترمه الجميع ويقدرونه. وفي اليوم التالي، استطاعت اثنتان منا رؤيته والتحدث

إليه، وتشجيعه ببضع كلمات. كان يتنفس بصعوبة، وفي حالة إغماء، ولم يلبث أن مات في الساعة الواحدة ليلا. وبقيت أنوار المصابيح الكهربائية تسطع على جدران المستوصف طوال الليل. ووصل إلينا صوت سيارة (الجيب) الخاصة بالطبيب وهي تدخل المعسكر، وبقيت غرفة الرقيب مضاءة حتى وقت متأخر من الليل. وفي الصباح، أخذ الضجيج يرتفع بين المعتقلين وهم يتناقلون الخبر: (لقد مات الجواهري مصطفى، الذي يعمل في شارع بوتان، أضلاعه مهشمة وأحشاؤه ممزقة) وقامت الفتاة (ك) بجمع ثيابه. كان مهجعنا مكتظا بالمعتقلات، وقد أفدنا من بعض الامتيازات، باعتبارنا نساء، فكان باب الغرفة يبقى مفتوحا ساعات عديدة في النهار، وكنا نستطيع التردد على المراحيض بحرية تامة، ونستطيع غسل ثيابنا، بل وحتى الاغتسال بمساعدة أنبوب مرن. وكان لدينا بعض الأغطية التي كنا نتبادلها فيما بيننا. في حين كان الرجال يتعرضون للمعاناة الصعبة أكثر منا؛ ينامون على الأرض، ويلتحفون ثيابهم إن وجدت معهم هذه الثياب. ولا يخرجون إلى المراحيض (دورات المياه) إلا بنظام (الاستعراض)، أو بالرتل، وبمعدل مرتين يوميا - كما سبق ذكره - يحيط بهم المظليون. وتقفل عليهم الأبواب فور عودتهم، وكانوا يتعرضون للضرب، كما لو كانوا نوعا من الكلاب. جاء مظليان، ذات يوم، لأخذ الفتاة (ف) التي كان اسمها على (اللائحة البيضاء) وما إن نطق الديدان مناديا لها، حتى اصفر وجهها، وشحب لونها، وارتدت ثيابها وهي ترتجف، وتقدمت لمساعدتها بجهد، وجمعت لها حوائجها بصعوبة، إذ كنت أرتجف

بدوري من قمة رأسي إلى أخمص قدمي. وقلت لها مشجعة: (تشجعي، تشجعي، فلعل هناك خطأ في الإسم!) وكان من العسير علينا تشجيعها ونحن نعرف جيدا ما ينتظرها. خرجت (ف). وتركتنا في حالة من القهر العميق، والإحباط المرير، محرومين من صداقتها فمر الوقت بنا متباطئا، ثقيلا. لقد كان معنا راقصات فنانات، ومطربة تغني الشعر العربي الغنائي، فكانت وأختها تثيران المرح في غرفتنا. وكانت الفتاة (ر. س) قد عرفت كثيرا من البلاد بسبب كثرة أسفارها، ووفرة نشاطها - ديناميكيتها - فكانت تنضم إلينا، وكذلك كانت تفعل الفتاة (هـ -) ذات الشعر الأسود الطويل والمضفور، والتي كان لها من العمر ستة عشر ربيعا، فكانت أصغر المعتقلات فينا. ولم تكن (ي - هـ) التي تبلغ من العمر (65) عاما لتمتنع عن المشاركة في إثارة جو المرح، والترفيه عن المعتقلات، وتلك هي صورة عن الطريق الذي أوصل هذه السيدة العجوز، المحدبة الظهر، والشديدة النحول، للسير وحدها خلال فترة عصيبة من الحياة. ولقد اشتد بنا الزحام في هذه الفترة، فلم يعد لدينا ما يكفي من الأغطية؛ فكنا نستيقظ في الليل ونحن نرتعد من البرد، ونمضي بقية الليل في رواية القصص والحكايات بانتظار طلوع النهار. ولم تجد (الأم حليمة) ملاذا لها في أي مكان، فنامت على زاوية من غطاء، لم تتذمر، ولم تعلن عن سخطها، وعندما أفاقت في الصباح، منحنية منطوية، انسحبت من مكانها وهي تقول: (آه أيتها الحرية، كم نعاني من أجلك؟) وذكرتنا كلماتها هذه بما يجب علينا عمله لتوثيق الروابط فيما بيننا داخل هذه الغرفة، وأقبل الجميع عليها، وضموها إليهم، وأعجبوا باتساع أفقها، وفكرها المتفتح، وذكرت لنا بأن المظليين قد عملوا

على تعذيبها (بالتيار الكهربائي) متهمين إياها بإيوائها لواحد من المجاهدين. ... اقترب موعد عقد جلسات هيئة الأمم المتحدة، ورافق ذلك تصعيد في حملة الاعتقالات. لقد أرادت السلطات الاستعمارية إلقاء القبض على الزعيمين المجاهدين (علي لابوانت وياسف سعدي) بأي ثمن، وسواء أمكن القبض عليهما وهما أحياء أو أموات، وذلك قبل عقد جلسات هذه الهيئة الدولية. وسارت عملية التعذيب بسرعة مذهلة، وتطورت حملة الاعتقالات فشملت: الفتيات الصغيرات، والأطفال، والشيوخ من الرجال والنساء. أخذ الجلادون في تعذيب الأم من أجل اعتقال أبنائها، وتعذيب الزوج أمام زوجته والزوجة أمام زوجها، والطفل حتى يستيلم أبوه. وخلال هذه الفترة اعتقلوا مجموعة من الفتيات الصغيرات بتهمة العمل في تأمين اتصالات المجاهدين أو إيواء القادة ممن تبحث عنهم السلطات الإفرنسية. كانت من بينهن (سكينة) ذات الجمال الرائع، ونضرة الشباب المتفتح لعمر لا يزيد على السبعة عشر عاما، وقد اجتذبت اهتمام الجميع، بابتسامتها الطفولية البريئة، وعيناها الدعجاوين البراقتين. وكانت قصص التعذيب كثيرة ومتنوعة: فالفتاة (ب. ف) عذبت بالكهرباء، والماء، وأدخل قضيب حديدي في فرجها. وهناك قصة امرأة لها من العمر (35) عاما، قذفت بزورق إلى عرض البحر، ونرع جلادوها في تغطيسيها بالماء حتى تعترف، وكرروا العملية معها مرات عديدة حتى ماتت مختنقة. وانتهكت أعراض عدد كبير من الفتيات الصغيرات، وأجلسوا الفتاة (د. أ) على عنق زجاجة مكسورة.

وسلط الكهرباء على لثتها. ومضت على ذلك أسابيع، وانقضى الشهر الثاني على اعتقال السيدة (و) التي باتت تنظر إلى الجميع من غير أن ترى أحدا، كمن أصابها مس من الجنون، وكان تفكيرها برضيعها الذي تركته في سريره قد آل بها إلى ما هي عليه من منظر لا يحتمل. كان التوتر العصبي العام يشتد في بعض الأمسيات حتى يبلغ ذروته، فتنفجر المناقشات الحادة بين المعتقلات لأسباب تافهة، مثل الحصول على غطاء، أو قطعة خبز، أو حتى من أجل كلمة نطقت بها إحداهن على غير إرادة منها، ودونما قصد الإساءة إلى أحد. وفي مثل هذه الحالة كان مهجعنا يتحول إلى ما يشبه (غرفة المجانين). بعضهن يقهقهن ضاحكات، وأخريات يرفعن عقيرتهن بالغناء، وأخريات أيضا يتصايحن على غير إرادة منهن. كان (الجوع) و (الكآبة) هما وحدهما القادران على إرغامنا على التحكم بأعصابنا. فعندما نحرم من طعام الصباح، وتأتي الساعة الواحدة والنصف ظهرا ونحن جياع، ترانا وقد لجأت كل واحدة منا إلى زاوية وتمددت فيها، وراحت في غفوة هي بين النوم والصحو، مستسلمة لألم الجوع، وخاضعة للضعف الذي لا يمكنها حتى على الإجابة إذا ما طرح عليها أي سؤال. وكان وباء (الحنين) يهبط علينا بصورة مباغتة، فيرتفع ضجيج الإجهاش بالبكاء، وتنطلق من العيون نظرات مرعبة. وسعيدات هن اللواتي يجدن القدرة على البكاء وذرف الدموع، ففيها بعض العزاء لنفوسهن المعذبة. وكانت الفتاتان المغنيتان (ف) و (د) تقدمان لنا في مثل هذه الظروف مساعدة لا توصف. كانتا لا تقومان بالغناء إلا نادرا (وعندما تتوافر لهن الاستثارة). وعندها تنطلقان للغناء من أجل الجميع. وذات

مساء عرفت الفتاتان بأن أمهما مريضة، فأخذتا تنتحبان، واعتصرنا الألم جميعا، إذ تذكرت كل واحدة أهلها وعائلتها، وخيم الحزن على المعتقلات، وشعرت كل واحدة بغصة في حلقها وهي تستمع إلى المغنيتين ينشدن (فاض الوجد يا عليا) بلهجة حزينة أثارت الحنين والبكاء. كان صوتها عذبا للغاية، موزونا، قويا، يغيب أحيانا ليترك الفرصة أمام (المجهشات بالبكاء بحرقة ومرارة). لم يعد تبادل الحديث هو الشغل الشاغل للمعتقلات، بعد مضي فترة من الوقت، فباتت الطاعنات بالسن - خاصة - يجتررن الحديث ذاته، وذلك بسبب الافتقار لمواضيع جديدة يمكن التحدث فيها. وها هي على سبيل المثال (السيدة - هـ) تتحدث في قضيتها فتستثير كل من يسمعها، إنها لا تتحدث إلا (عن راتبها التقاعدي الزهيد الذي ستفقده بعد أن أفنت سنوات عمرها في العمل خادمة لأحد الفنادق). ومع العزوف عن الحديث، اتجه اهتمامنا نحو الخارج، فكنا نمضي فترة بعد الظهر بكاملها أحيانا، ونحن واقفات خلف القضبان الحديدية للنافذة، نتطلع من خلالها إلى الحقول، والسهل البعيد، كان هناك (طريق الجيش الترابي) الذي يفصلنا عن تيار الحياة. وكانت بعض العائلات قد نجحت في الوصول إليه، وصرخوا منادين أفراد عائلاتهم المعتقلين (بأسمائهم) و (بألقابهم - الكنية). غير أن الجند استطاع طردهم بعيدا حتى الغابة. وكنا نجيبهم عندما ندرك أن الحرس مشغول عنا. وكان لا بد من الصراخ بقوة كبيرة حتى تصل كلماتنا إلى آذانهم. حاولت (زوجة مصطفى) الحصول على أخبار زوجها بعد مصرعه بأسابيع عديدة، وكانت تنادي (مصطفى) وأجابتها إحدى المعتقلات (إنه بخير - إنه بخير). غير أنها علمت بقصة وفاته،

واطلعت على مأساته، فيما بعد، وعندما جاءت ظروف مناسبة. ... مررنا نحن السجينات بحالات متناقضة، على نحو ما يحدث في كل سجون العالم. فقد كانت تصادفنا أحيانا بعض اللحظات الحلوة. وكنا نسافر بعيدا مع (ي) الجميلة، ونصفق لها وهي ترقص وتغني. وتعلمنا من (ف. ت) بعض الأغنيات الشعبية. وقضينا لحظات ممتعة مع العجوز (ي) العرجاء، والتي كانت تقص علينا (حكايات الأساطير) بصوتها الأجش، قبل أن ننام، فتذكرنا بالأطفال عندما يتحلقون حول الجدة لتهدهدهم بحكاياتها الحلوة كنا نحتمل الجوع، ونحتمل البرد، ونحتمل المرض، ونحتمل حتى (اللائحة البيضاء) .. غير أن شيئا واحدا لم نكن قادرين على احتماله، لشدة ما يثير فينا من الفزع، وذلك هو (أبو شكارة - أولابس البرنس) (¬1). الذي ما أن تلمحه إحداهن وهو ينزل من المركبة الخفيفة (الجيب) حتى تسرع بالدخول إلى المهجع لتعلن قدومه. وعندها تسرع كل واحدة لتمسك شيئا تغطي به وجهها وكتفيها، سواء كان هذا الشيء: شالا، أو قميصا، أو غطاة صوفيا، أو معطفا. الخ ... حتى لا يظهر إلا قسما صغيرا من الوجه. كان (أبو شكارة - أو لابس البرنس) يقترب من المهجع وبرفقته رجلين من المظليين، وقد غطى وجهه ونصف جسمه بكيس مفتوح من طرف واحد، وقد ثقب هذا الكيس في موضع العينين. وكان ¬

_ (¬1) البرنس هنا ترجمة كلمة: CAGOULE وهي الثوب الفضفاض، لا أكمام له - وله غطاء رأس متصل به - كالممطر - ومنه ما يستر الوجه بحيث لا يظهر منه إلا العينين، عادة ما يلبسه الجلادون الذين يكلفون بتعذيب الآخرين أو إعدامهم.

غالبا ما يسير مترنحا، يساعده المظايون في سيره، إنه قادم ولا ريب من (حفلة تعذيب) ويداه مقيدتان الى ظهره. وكان الرجال أيضا يبتعدون عن النوافذ لدى رؤيته. كان الخوف يسيطر علينا جميعا، رجالا ونساء. لقد جاء هذا الرجل ليكشف أمر من يعرفهم من المشتركين معه في عمل من أعمال الثورة، وقد غطى وجهه حتى لا يعرفه أحد أو يتعرف عليه. فيعملون على إدخاله إلى كل مهجع من المهاجع، حيث ينتصب المعتقلون وقوفا، وينتظرون بقلق بالغ مروره، وتجاوزه لهم سلام. وكثيرا ما كانت بعض أخواتنا المعتقلات، تسقطن مغميات عليهن لشدة تأثرهن برؤية (أبو شكارة). ولقد كانت حالتنا الجسدية وهذا الرعب اليومي أكبر وأقوى من قدرتنا على الاحتمال. وكان ما يخيفنا هو معرفتنا بأن (أبو شكارة) قد يتهم أي إنسان، سواء من أجل كسب الوقت، أو ليخفف من آلامه، أو أنه يشير إلى أحد من يعرفهم بدافع الحقد أو بدافع الغيرة، ولهذا كانت لدينا أسباب كافية للشعور بالذعر. وكان يتم اقتياد من يشير إليه (أبو شكارة) فيأخذه معه. وأحيانا يعود (أبو شكارة) وحده، من غير أن يتعرف على أحد، وحتى في مثل هذه الحالة، فإننا لم نكن نجرؤ على التفكير بما ينتظره بعد عودته إلى (التعذيب). استطعنا من خلال الأحاديث السياسية مع الرقيب والعريف، أن نتعرف على هذه المخلوقات: سواء هؤلاء الذين يعملون على حراستنا، أو أولئك الذين يعملون في تعذيبنا. بعضهم من الأيتام، وبعضهم كانوا أحداثا جانحين، وبعضهم الأولاد الأكبر - البكر - في عائلات كثيرة الأولاد - وكثير من الشرسين المجرمين. وجميعهم بصورة عامة، من الجهلة الذين يفتقرون للتكيف مع المجتمع،

والحمقى، وقصار الرجال ذوي النفوس الحاقدة المعقدة. وذات يوم اشتبك اثنان منهم في عراك، خلال فترة بعد الظهر، وأشهر كلا منهما سكينه وهاجم بها الآخر، في وسط الساحة، وأسرعنا الى النوافذ، نتابع بفرحة نابعة من القلب معركة اثنين من جلادينا. وكل منهما يذبح الآخر ويقتله. علمت، في جملة ما علمته، من خلال تلك الثرثرة، بعضا من التفاصيل بشأن المعسكر، ومنها أن معسكرنا هذا هو في جملة المعسكرات التي تتكتم السلطات الإفرنسية عنها، وتنكر وجودها. وأن الصرخات التي سمعناها في الأيام الأولى لاعتقالنا، كانت صادرة عن مريض بتر المظليون عضوه، وأن هناك معسكرات (سوداء) كثيرة حول العاصمة (الجزائر) وفي (البيار) و (سيدي فريج) و (لارودوت) الخ ... ... بلغ عدد المعتقلين الذين سجلت أسماؤهم على اللوحة السوداء في مكتب الرقيب (864) معتقلا. وانتشر الزحار الحاد (الدوسنطاريا) بين الرجال، كما أصيب بها بعض النساء أيضا. غير أننا لم نستسلم لحالتنا، واستطعنا تأمين الوسيلة للحصول على الأخبار: فكانت الصحف تنتقل من مهجع إلى مهجع، بالرغم من التفتيش الدقيق. وأمكن للرجال أيضا المحافظة على شجاعتهم، والسخرية من حراسهم وجلاديهم. ومثال ذلك، ما حدث يوم اقتاد أحد المظليين مجموعة من المعتقلين نحو مهاجعهم، ثم طلب إلى أحدهم أن يرقص أمامه رقصا شرقيا، وخرج الشاب من الصف بعد لحظة من التردد، ثم شرع في الرقص، بينما أخذ رفاقه يصفقون له ويرددون بصوت واحد: (إلعن ولد القوم، إلعن ولد القوم، أي لعن

أهلكم) وأظهر المظليون سرورهم، ولم يفهموا تلك الشتائم التي وجهت لهم. وقد أثار هذا الحادث في نفوس النساء قدرا كبيرا من الارتياح. بوغتت النساء ذات يوم مباغتة بلغت بهن أقصى درجات الاستثارة. فقد دخلت إلى المعسكر الفتاة (ف. ت) وهي تحمل حقيبة سفر في يدها، وعلى رأسها منديل رقيق، يحيط بها إثنان من المظليين. ولم يكن مثل هذا المشهد مألوفا في المعسكر وتساءلت النساء: (ترى من تكون هذه الفتاة، التي وجدت ما يكفيها من الوقت لوضع ثيابها في الحقيبة من أجل إقامتها البائسة في المعسكرات؟). لقد كان مظهرها يوحي بأنها تعمل متنقلة في المقاومة السرية، وأنه قد تم اعتقالها عند سفرها لتنفيذ إحدى المهمات. وعلى كل حال، فإن فترة التساؤل لم تستمر طويلا، إذ تم إدخالها إلى مهجعنا بعد هنيهة، وعرفنا أن اسمها هو (ف. ت) وقالت أنها قدمت من معسكر (مصوص) بعد قيامها برحلات عديدة، وأنها تعرضت للتعذيب قبل أن ينقلوها إلى معسكرنا، وكانت قد تعرضت من قبل للتعذيب أيضا في معسكر (مصوص) لأنهم هناك يقومون بالتعذيب أيضا أثناء القيام بالبحث والتحقيق في أعمال أخرى. وقالت أيضا بأنها (جربت) خلال التعذيب كل الوسائل المتبعة، من التيار الكهربائي إلى الماء الخ ... واعترفت أنها حاولت الانتحار قبل أن تتعرض لتجربة التحقيق الثاني: (غير أن حديد النافدة أمسك بها، فبقيت معلقة، وأسرع مظلي لإنقاذها من الموت الذي كانت تتمناه وذلك في اللحظة الأخيرة) وها هي الآن تقوم (برحلتها) الثالثة. وشعرنا أنها تتألم، وتعاني من القلق، وطالما تساءلت: (لماذا نقلوني إلى هنا؟ ولماذا يبدلون مركز

اعتقالي من معسكر إلى معسكر؟ تراهم يريدون تعذيبي من جديد؟ أم تراهم يريدون إطلاق سراحي؟ إذا فعلوا ذلك فإن مدة اعتقالي ستكون ثلاثة أشهر منذ توقيفي في معسكر (مصوص)! ... وهكذا كانت تتعلق بأكبر الآمال وهي تعاني من أشد الآلام والمخاوف حتى أنها لم تكن تعرف للنوم طعما، حتى علمنا بعد أيام قليلة، ومن خلال التقاطنا لبعض أطراف الحديث الذي كان يدور بين الجلادين، بأنهم سيعيدون الفتاة (ف) إلى التحقيق من جديد، وقد يكون ذلك غدا. فاتفقنا مع الفتاة (ر) على التمهيد لها من أجل إعداد (ف) نفسيا للتجربة الجديدة، حتى لا يكون الأمر مباغتا لها عندما يحضرون لأخذها. وأمضينا ليلتنا على ذلك، فكانت المسكينة (ف. ت) تصغي باهتمام الى التفاصيل الجزئية التي عملنا على إقحامها عمدا في قصص ما تعرضنا له من التعذيب، وانتهى الحديث عندما قالت الفتاة (ر) الجملة التالية: (وهكذا! وكما ترين يا - ف - ها نحن قد تجاوزنا البلاء، ونحن الآن في صحة جيدة. فاللحظات التعيسة تمضي دائما، والمهم في الأمر هو أن نضبظ أعصابنا، وأن نسيطر على أنفسنا). غير أنها لم تدرك يقينا ما تعنيه (ر) بكلماتها هذه إلا بعد أن جاؤوا لأخذها. وغابت عنا لمدة يومين، ثم عادت، وقد شحب وجهها قليلا، وقالت لنا: (قليلا من الكهرباء، تصوروا أنهم أخطؤوا بي، غير أنهم لم يكتشفوا خطأهم إلا بعد أن عذبوني بالكهرباء). وبقيت معنا بعد ذلك لمدة أسبوع، أعيدت بعده إلى معسكر (مصوص). غير أنني لاحظت أنها كانت خلال هذه الفترة: سوداوية المزاج متشائمة، منغلقة على نفسها - انطوائية - تقية ورعة، تسبب لها التعذيب بانهيار عصبي، فكانت لا تتحدث إلا عن الموت.

أفاق المعسكر ذات صباح وقد اجتاحه نبأ مفاده (أنه سيتم إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين). فكان كل واحد يأمل بأن يكون اسمه في عداد من سيتم إطلاق سراحهم. وكان جرس الهاتف يرن باستمرار، وبعثت حياة جديدة في المعسكر. وأعلن عن أسماء الذين سيخلى سبيلهم، فكانوا مائة تقريبا، تم جمعهم من كافة المهاجع، وحشروا بعد ذلك في مهجع واحد، حيث بدأ الرقيب بفحص جراحاتهم، والبائس، عاثر الحظ، هو ذلك الذي لا زالت آثار التعذيب باقية واضحة على جسده، إذ كان لزاما عليه البقاء في المعتقل حتى تشفى جراحه شفاء تاما. ثم جاء (النقيب بوتوت) فدخل إلى المهجع، وألقى عليهم محاضرة مستفيضة انتهت بالهتاف الذي ردده المعتقلون مع النقيب (تحيا فرنسا، تحيا الجزائر!). وكان لزاما عليهم أيضا أن يهتفوا - في سرهم - (عاش التعذيب!). وفي مثل هذه اللحظة، فقدت الكلمات معانيها ومضامينها، وأخذ الذين أطلق سراحهم بالخروج، ومعانقة أولئك الذين بقوا رهن الاعتقال. وكان بعضهم يذكر هؤلاء الذين سيتجاوزون بعد برهة الباب الحديدي، فيقول لهم: (لا تنسوا العنوان) و (اذهب لزيارة ابنتي وتطمينها عني) وكنا - نحن النسوة - نصرخ من وراء القضبان: (أيها الأخوة! أيها الأخوة! لا تنسوا أبدا، لا تنسوا أبدا. ما فعله هؤلاء بنا). فكانوا يجيبون بتأثر واضح، وبصوت مخنوق: عما قريب، عما قريب، سيجيء دوركم بإذن الله. ... مضى شهر على ذلك تقريبا عندما تجمع المظليون الذين كانوا بقيادة (العقيد بيجارد) ومضوا لتنفيذ عملياتهم في الجنوب، وشعرنا في المعسكر بارتياح لذهابهم، إذ فكرنا ونحن نراهم يخرجون:

(سينتقم لنا إخواننا الثوار المجاهدون من هؤلاء، ولكل ما فعلوه بنا). ... انتقلت إدارة المعسكر إلى جنود القبعات الخضر (المغاوير). وتسلم الأمور الإدارية مساعد ألماني من قدامى جنود اللفيف الأجنبي، ومعه عدد من الألمان والإيطاليين والهولانديين، ولم يكن بينهم إلا رقيب فرنسي. ولشد ما كانت دهشتنا ونحن نرى أن حياتنا في المعسكر بدأت في التحسن. وظهر أثر النظافة واضحا في المعسكر، وبات باستطاعة المعتقلين حلق شعر ذقونهم (لحاهم). وقص شعورهم. كما سمح لنا بغسل ثيابنا، والاستحمام، وحتى رعاية المزروعات والدواجن. وأجريت التمديدات الكهربائية إلى كافة المهاجع أخيرا. وتوقف الضرب حتى بات أمرا نادرا وفي ظروف غير طبيعية، وغير اعتيادية، وجاء يوم الجمعة بعد يومين، فأقيمت الصلاة ليوم الجمعة في الساحة العامة للمرة الأولى. وكان هناك (مفتي) بين المعتقلين، جمع حوله كل أولئك الذين لا زالوا يعرفون أداء الصلاة. أما الآخرون فقد جلسوا يستمعون بصمت مؤثر. وارتفع صوت (المفتي) هادرا، مثيرا للمشاعر، وخرجت النسوة من المهجع، ووقفن أمام الباب، وأقمن الصلاة. بخشوع وتأثر دفع الكثيرين منا للبكاء. وانبعث الأمل قويا في النفوس، والمصلون يركعون ويسجدون للواحد القهار، تحت السماء المشرقة، حيث أصوات المصلين ترتفع من القلوب والحناجر، داعية الله الفرج القريب، والنصر لعباده المؤمنين.

أم الشهيد

4 - أم الشهيد (*) أقيم الاحتفال السنوي في مدرسة (الأبيار) بمناسبة انتهاء العام الدراسي، ونجح أولادي بمرتبة الشرف، وبات لزاما عليهم الاشتراك في التمثيلية التي تقرر تقديمها على مسرح المدرسة. ووزعت عليهم الأدوار التي سيمثلونها. فكان دور ابني هو القيام بدور الملك (داغوبير) (¬1). وقمت بتفصيل سترة له، ذات لون أزرق ¬

_ (*) بقلم (أنيسة منصور) وهي تحكي قصة أم التحق ابنها بجيش التحرير، واستشهد، والمرجع: RECITS DE FEU (SNED) S.N. EL MOUDJAHED. ALGER. (1977) P. P.303 - 306. (¬1) داغوبير (DAGOBERT) اسم عدد من الملوك، أبرزهم (داغوبير الأول) ابن كلوتير الثاني وبيرتود (600 - 639) م. تقريبا. كان ملك اوستراسيا (AUSTRASIE) اعتبارا من سنة (623) حتى سنة (632) ثم أصبح ملكا لفرنسا اعتبارا من سنة (629) واعتمد في حكمه على وزيره (سانت ايلو: SAINT-ELOI) الذي اشتهر بكفاءته. منح امتيازات هامة لكنيسة (سانت دونيس) وخاض صراعا عنيفا ضد (السلاف) و (الباسكيين) و (البروتون). واستولى (عمد القصر) على السلطة بعد وفاته. ومن الضروري الإشارة إلى تركيز التعليم على تاريخ فرنسا الموغل في القدم. وتجاهل التاريخ الإسلامي في بلد المسلمين الجزائر.

جميل (جاكيت) وبنطالا منفوخا، على نحو ما كانوا يلبسونه في ذلك العصر، مع قبعة سوداء. وسارت الأمور بالنسبة له على أفضل ما يرام أما أخته فكأن عليها تمثيل دور فراشة وردية اللون، وبذلك يكون - ابني وابنتي - قد حصلا على الدورين الرئيسيين في التمثيلية. جاء موعد الاحتفال، وغصت ساحة مدرسة (دوري) بالمدعوين الذين كان معظمهم من الفرنسيين. وكان يلزمني قدر غير قليل من الشجاعة حتى أتمكن من الاختلاط بهم، أنا (فاطمة الصغيرة) ذات الحجاب المسدل على الوجه، والثياب البيضاء الطاهرة، سأظهر بينهم مثل حيوان (البطريق). المهم في الأمر هو أن الحفلة بدأت بعزف النشيد الوطني الإفرنسي - المارسييز - ووقف الجميع - إلا فاطمة الصغيرة - التي بقيت جالسة على كرسيها، متجاهلة كل ما كان يدور حولها. واستدارت الرؤوس نحوها، وهي تحدجها بنظرات ساخطة تعبر عن غيظ أصحابها، غير أنه ما من أحد تجرأ على توجيه أية ملاحظة. وانصرفت (فاطمة الصغيرة) سعيدة إذ رأت (ابنها وابنتها) وهما يمثلان دوريهما بنجاح رائع. كنت وأنا أتابع التمثيلية، أفكر بأمر ذلك اليوم الذي سيأتي، وينضم فيه أولادي إلى قوات جيش التحرير الوطني، لخوض حرب التحرير. وقد قيل لي، بأن فرنسيا من هذه المدرسة ذاتها، كان رفيقا لابني البكر على مقعد الدراسة، هو الذي قتله في (بوغاره) التي كانت تعرف باسم (روفيغو) وأنه قتله على الرغم من أنه عرفه، ثم تعرف على جثته. كان لي ولدان كبيران، ابني البكر الذي مضى مجاهدا مع إخوانه مجاهدي الجزائر، والابن الأصغر - الثاني - والذي انضم إلى الثوار - الماكي - حتى لا يؤدي خدمته الإلزامية في الجيش

التعليم في المناطق المحررة - الاسلام ضد الجهل

الإفرنسي، ولم يكن له من العمر إلا عشرين عاما. وقد أصيب ابني البكر في معركة برصاصات اخترقت صدره، استشهد على أثرها، ومضى للقاء ربه. لقد مات شهيدا في سبيل وطنه. وكان يسكن إلى جوارنا ضابط فرنسي برتبة رائد - كومندان س - قتل ابنه أيضا من أجل قضية الاستعمار الإفرنسي. فكان يمر من أمام منزلنا وقد وضع على ذراعه شريطا أسود علامة الحزن والأسى لمصرع ابنه، وكان الألم يعتصره وهو يراني، أنا الأم الثكلى، إذ أذكره (بمشكلته). وكنت أراه والألم يعتصرني أيضا، إذ أرى فيه قاتل ابني. ولعل كل واحد منا كان يردد في سره: (من يرد لي ولدي الحبيب؟ من يعيد إلي ابني؟! ...). كانت ذكريات ابني البكر تطوقني باستمرار، وتعذبني. وإنني لأذكر ذلك اليوم الذي أقامت فيه المنظمات النسائية احتفالا تنظيميا للمرأة الجزائرية في قاعة (ورط الأبيار). وقد أمكن لزوجي الذي كان مستشارا للبلدية، أن يحصل على إجازة - تصريح - من العمدة الفرنسي لعقد الاجتماع في قاعة الموسيقى. وكان علي أن أعزف على المعزف - البيانو - موسيقى أغنية (مين يجيبها لنا). في حين كان على ولدي الاثنين أن يقفا مع رفاقهم بثيابهم الكشفية لحراسة المكان، وكلهم يشعر بالفخر والاعتزاز لاضطلاعه بهذه المهمة. كانوا جميعا يقفون بفتوة الشباب وعزم الرجال، وقد وضعوا حول أعناقهم المناديل الخضراء - فولار - وزينوا رؤوسهم بالعصائب الحمراء - العقال -.لقد كانوا منذ ذلك الحين ثوار المستقبل. وفخر (الأبيار) ومصدر فخري واعتزازي. ترى من يستطيع إعلامي؟ أتراه قد تعذب كثيرا - ابنى الحبيب - قبل استشهاده ووفاته؟ لقد كان شجاعا على ما أعتقده. ترى من يستطيع التخفيف من ألمي؟ ...

إني لأذكر (يوم عاشوراء) من سنة 1957، ففي ذلك اليوم، تسارعت الأحداث بشكل مذهل؛ إذ قام شباب الحركة الوطنية الجزائرية بخوض معركة مع قوات الاستعمار بالقرب من الفندق. وأصيب ابني الثاني بجرح في رأسه. وقام والده بالتعاون مع أحد الجيران بنقله سرا، في اليوم ذاته، إلى مستوصف يشرف على عيادته الدكتور الحاج، وقام بتقديم التصريح لإجراء العملية وعندما عاد زوجي من عمله بعد نهار حافل بالمتاعب، وهو في حالة من الإعياء الشديد، بوغت بوجود العسكريين الذين كانوا يطوقون المنزل. وعرف على الفور أن السلطات الإفرنسية قد جاءت للبحث عنه، وأنهم يعتقدون بأنه لا بد وأن يكون مختبئا في مكان ما من المنزل، ولم يكن زوجي يخشى من البحث والتفتيش لمعرفته بأن ابنه يرقد الآن في مكان مأمون، غير أنه بات يخشى ما هو أسوأ. المهم في الأمر، استأذن جند الإفرنسيين في دخول المنزل، وسمحنا لهم بممارسة عملهم الذي لا بد لهم من القيام به شئنا أم أبينا، فعملوا قبل كل شيء على تهدئة ثائرة كلابهم المهتاجة التي كانت تقتص الأثر. ثم قاموا بتفتيش المنزل تفتيشا دقيقا شمل كل زاوية فيه. وخرجوا وهم يدمدمون، إذ أصابهم الإحباط لأنهم لم يعثروا على ضالتهم، غير أن ذهابهم لم يصرف عنا الذعر، فقد مضى الليل وأنا أشعر ببرد شديد كادت له عظامي أن تتجمد. جاءني في اليوم التالي تاجر جزائري معروف جدا في الحي كله. وبعد تحية الصباح طلب إلي الإبقاء على باب مرآب السيارة - الكراج - مفتوحا طوال النهار، وعدم إسدال الستار الحديدي الذي نغلق به عادة المرآب على سيارتنا، وقال لي: بأنه ستنفذ عملية أثناء النهار، وأنهم يحتاجون مرآبنا لإخفاء سيارة المجاهدين الذين سيقومون

بتنفيذ العملية. وقال لي، التاجر أيضا، بأن هذا الأمر قد صدر عن (جبهة التحرير الوطني). وكان زوجي غائبا، وكذلك ابني، فأخذت الأمر على عاتقي، وقبلت تحمل المسؤولية لأنني لم أكن راغبة في أن تفشل العملية لأي سبب من الأسباب وقامت سيارة زرقاء بالمرور من أمام المرآب أكثر من مرة للتعرف على المكان - وتعليمه - وكنت أقف في الحديقة مع أبنائي الصغار، ونبتهل الله أن ينصر هؤلاء الفتية المجاهدين. وقام هؤلاء بإلقاء قنبلة على مقهى يقع على منعطف (سكالا) بجوار الطريق الواسع. وكان هذا المقهى هو مركز اجتماع الإفرنسيين المقيمين في الحي، والذين يتخذون من المقهى مركزا لنشاطاتهم وأعمالهم. انفجرت القنبلة، غير أنها لم تحدث أي ضرر أو أذى بسبب وقوعها بعيدا عن هدفها، فلم تتجاوز ساحة المقهى. واستنفرت القوات الإفرنسية، ويظهر أن سائق السيارة فقد سيطرته على أعصابه، فلم يتمكن من التعرف على المرآب - الكراج -. وأخذ بدلا من ذلك المنعطف الأول الذي يصل إلى مرآبنا، طريقا وصل به الى (جبل أديس). وأدرك السائق خطأه، فأنزل إخوته المجاهدين وقذف بصندوق من الذخيرة في الحديقة المجاورة لمنزلنا. ورأينا الصندوق، فأرسلت ابنتي الصغيرة لتجلب سلما من بيت جيران جزائريين من أجل إحضار الصندوق. ونبحت كلاب الجيران الإفرنسيين نباحا مسعورا، فيما كان ابني الصغير يتسلق السلم، حتى إذا ما وصل إلى أعلاه، كان جوارنا الإفرنسيين قد أقبلوا وقد استنفرهم عواء الكلاب، ودخلوا الحديقة ووجدوا الصندوق. فاجتاحتهم نوبة من الفرح. واتصلوا هاتفيا بالشرطة، وما هي إلا خمسة دقائق حتى وصلت تظاهرة من رجال الشرطة ومعهم كلابهم، وشرعوا في تطويق الحي ومحاصرته. وانصرفت وأبناني إلى الصلاة، نبتهل الله مرور البلاء

بسلام. وفي تلك الفترة وصل زوجي إلى المنزل. وجاء بعده ابني البكر يتيه شبابا غضا، وعزما قويا، ويضج وجهه بنور الإيمان، ولدى مشاهدته للجيران المجتمعين - من الإفرنسيين - توقف قليلا وتحدث إليهم مستوضحا الأمر، ومتجاهلا اطلاعه على شيء مما يحدث. وصدقه جارنا وقال له: (أنت، يا صغيري محمد، إنك بعيد عن الشبهات، ذلك لأنك لست من طبقة هؤلاء الثوار - الفلاقة - الذين لا يجيدون إلا القتل والتدمير). ولقد كان هذا الجار غبيا، إذ اعتقد أننا نختلف عن الثوار - الفلاقة -. المهم أنه لم يشك بأمرنا، وهو لم يعرف بأن ابني قد أصيب برأسه أثناء المعركة، لأننا أثرنا ضجيجا، وأعلنا أنه وقع من على دراجته. أغلقنا على أنفسنا باب المنزل، عندما عاد الهدوء، وأطعمت بعض أفراد العائلة، في حين اكتفى الآخرون بتناول المهدئات - الاسبرين - والزهورات، ثم انصرفنا إلى أسرتنا، وجفانا النوم، حتى تجاوز الوقت منتصف الليل، ولم يعد هناك من صوت إلا أصداء خطوات الدوريات الإفرنسية وهي تقرع أرض الطريق. ... مضت أشهر على هذا الحادث، وشعر ابني أن الموقف في العاصمة بات غير محتمل، وأدرك بأنه بات لزاما عليه العمل بصورة علنية، والانضمام إلى المجاهدين في الجبال للعمل إلى جانب إخوانه. وودعنا في اليوم الأول من إضراب الثمانية أيام. ولم نعد نراه بعد ذلك أبدا. وانقطعت أخباره انقطاعا تاما، ومضت سنتان عندما علمنا باستشهاده في جبال (حمام علوان) وفي تلك الفترة، لم يكن قد بقي منه إلا عظاما في الأرض التي أراد الدفاع عنها وتحريرها.

لقد مضى ابني شهيدا، وابتهل الله أن يلحقني به بعد أن يمكنني من الحج إلى بيته الحرام حتى أكمل فرائضي. وأن يتقبلني امرأة مسلمة مخلصة لبلادها. الشعب وحده هو البطل

مجاهدة وأم شهيد

5 - مجاهدة وأم شهيد تلك هي قصة أخرى لامرأة مجاهدة، وما أكثر المجاهدات، وهي أم لشهيد، وما أكثر أمهات الشهداء. وقد كان موطن هذه الإمرأة المجاهدة وأم الشهيد في (بني جناد) إحدى ضواحي القبائل الكبرى. وعرف عنها إيمانها العميق، وصبرها على مشاق الحياة وبؤسها، وإخلاصها غير المحدود لوطنها، واعتزازها بالفضائل الأخلاقية التي تحلت بها المرأة المسلمة. لقد مات زوجها وهي صبية، لما تتجاوز العقد الثالث من عمرها، وترك لها ابنا صغيرا، وقليلا من المال لا يكاد يكفيها لتأمين متطلبات حياتها البسيطة. واحتملت كل ألوان البؤس والحرمان حتى تقدم لابنها ما هو ضروري لنموه وتربيته على فضائل قومها. ولم يكن لها ما يؤنس وحشتها، ويبدد شقاءها، إلا تعلقها بأمل نشوء ابنها نشأة صالحة، يحظى بها برعاية الله وعنايته، حتى يكون لها عونا طالما بقيت على قيد الحياة. ومضت ثلاثة وعشرون سنة من عمر الابن، وأصبح شابا صلب العود، وتحقق أمل الأم، فكان ابنا فاضلا، مسلما مؤمنا على خلق رفيع، أحبه أهل قريته، وأخذوا يضربون به المثل، ويتخذونه قدوة يحفزون أبناءهم على تقليده

والسير على نهجه وخطاه. وكانت وطنيته الصادقة أبرز صفة امتاز بها عن أقرانه. ولم يكن ذلك غريبا عليه، فقد بقيت أمه هي قدوته في حب الوطن، وهي مثله الأعلى في التضحية والفداء. وكان نشاطها الدائم وحيويتها المتدفقة موجهة كلها لوطنها ولابنها، واستطاعت بذلك، وبفضل ما تتمع به من سمعة طيبة، أن تؤثر تأثيرا عميقا فيمن حولها من النساء، حتى تحولن كلهن إلى مجاهدات، عندما دقت ساعة الجهاد، ولقد عرفت السلطات الاستعمارية قوة هذه العقبة في التأثير على مخططاتها الاستعمارية. وكانت ذكرى (لالا عائشة) وأمثالها من المجاهدات عالقة في أذهان هؤلاء الاستعماريين، فمضوا الى اضطهاد الأم وابنها معا، وطالما تجرعت الأم وابنها بنتيجة ذلك مرارة الظلم الاستعماري، من إهانة وضرب وحرمان من كل ضرورات الحياة، وسجن الابن مرات عديدة، غير أن ذلك لم يزدهما إلا إيمانا بحقهما في العيش الكريم على أرض الأجداد، ولم يزدهما إلا نفورا من الاستعماري وغضبا على أساليبه في التنكيل والتعذيب. ولما بلغت الحياة درجة لا تطاق، وبات من المحال على الابن ان يتحرك لكسب عيشه وسدت كل السبل في وجهه، قرر السفر إلى فرنسا، ليبتعد عن مراقبة الطغاة الوحشية في بلده، وليضع في زحام المدينة الصاخبة (باريس). ... انصرف الشاب (محمد) إلى العمل في أحد معامل العاصمة الفرنسية، ونقل معه جذوة الثورة المتقدة ليشعلها في قلوب العمال الجزائريين من إخوانه الذين ضاقت بهم الدنيا في بلادهم، مثله، فجاؤوا يبحثون عن الحياة في بلاد أعدائهم. واستمر في عمله الشاق مدة عامين، يقتطع من قوت يومه ليرسل إلى أمه ما يتوافر له من

المال. وشهدت حياة الأم بعض التحسن، فقد بات باستطاعتها امتلاك قطيع صغير من الأغنام وشراء قطعة أرض صغيرة بها بعض أشجار الزيتون. غير أن هذا التحسن لم يصرفها عن متابعة التحريض على أعدائها، وأعداء قومها، الذين هم سبب كل شقاء ينزل بالقبيل، وبالجزائر كلها. لقد حددت بفطرتها، وبمعاناتها، أصدقاء بلدها وأعداءه، ومضت تبشر بالخلاص عندما يتم القضاء على الاستعمار وأذنابه ومرتزقته من أبناء بلدها. كانت على موعد مع الثورة، وما أن انفجرت شرارتها في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954، حتى مضت الأم حاملة لشعلتها، مبشرة بانتصارها .......... وفي تلك الفترة من بداية الثورة سيطر الهلع على قلوب النساء والأطفال وهم يرون الخونة وقد أقبلوا بنذالة ووحشية، ليقتصوا من الضعفاء المحرومين من كل وسائل الدفاع. فكانت (الأم) تقف معهم، وتنفخ روح الشجاعة فيهم، وتبعث الإيمان في قلوبهم. وكان لا بد لها من احتمال كل أنواع الأذى بسبب مواقفها الباسلة وعرف المجاهدون فيها شجاعتها العالية، وهمتها النادرة وهي تقترب من عمر الشيخوخة، فكانوا يلجؤون إليها كلما أرادوا القيام بعملية في ناحيتها، وينزلون ضيوفا عليها، فتكرم وفادتهم، وتؤمن لهم احتياجاتهم، وتنفذ لهم كل ما يطلبون بإخلاص وإنكار للذات لا حدود لهما، ليس ذلك فحسب، بل كثيرا ما كانت تثير فيهم الحماسة وهي تنشدهم الأزجال باللغة القبائلية، تتغنى فيها ببطولات جيش التحرير الوطني، ومجاهديه الغر الميامين. كانت تفعل ذلك كله ببساطتها الريفية، حتى إذا ما حاول أحدهم امتداح صنيعها، أسكتته بسرعة وقالت إنها لن تكون جديرة بالمدح إلا إذا التحق ابنها في صفوف المجاهدين. وكان

هناك هاجسا يناديها باستمرار من أعماق نفسها، بأن تستدعي ولدها للالتحاق بالثورة. واستجابت لنداء ضميرها، فكتبت رسالة الى ولدها الوحيد، تحرضه على العودة، وتؤكد له أن الموت في سبيل الوطن هو الحياة الخالدة التي لا نهاية لها. وأن الإحجام عن هذا الواجب المقدس هو خيانة لا تعادلها خيانة وأنها - هي - لا تشعر بأنها أدت واجبها في الحياة، إلا إذا أمكن لها أن تضحي بنفسها وبولدها، أعز من في الدنيا عليها، من أجل الله والوطن. ... وتصل الرسالة إلى (العامل محمد) فسرعان ما يتأثر بمضمونها ويستجيب لدعوتها، لقد كان في الحقيقة يعاني صراعا بين البقاء في فرنسا من أجل إعانة والدته، وبين العودة للعمل في ميادين الجهاد. فجاءت الرسالة لتحسم الصراع، ولتنهي المعاناة، وما هي إلا أيام حتى يكون (العامل محمد) قد وصل الى قريته، واستقر الى جوار والدته وكان في نيته أن يمضي أياما قليلة إلى جانبها، يعوض بها بعض ما انتابه من الشوق إليها، بعد غيابه الطويل عنها. ولكن، وفي اليوم الرابع لوصوله، جلست إليه. تحفزه على المضي لما جاء من أجله، وتزوده بنصائحها وتوجيهاتها. ويقف الابن، وتقف الأم تودعه، وتبتهل الله له النصر، وتواعده على لقاء، إما في البيت وقد تحرر الوطن، وإما في الجنة، وقد رضي الله عنه وعنها. أصبحت قصة (العامل محمد) وأمه، أغنية حلوة على لسان أهل القرية، يرددونها باعتزاز فتثير حماسة الجميع، الرجال والنساء، الشيوخ والأطفال. ويلتقط أحد الخونة أطراف القصة، وينقلها - بأمانة وصدق - للسلطات الإفرنسية، وتحركت هذه على الفور، فأرسلت فرقة من الجند وقد شحن أفرادها حقدا أسودا

وكراهية قاتمة، فمضوا لاسجواب الأم، واستخدموا أبشع أساليبهم في العنف والإرهاب. غير أن الأم التي عرفت كل هذه الأساليب، أسلمت أمرها لربها؛ واحتملت كل ما تعرضت له من القسوة بصبر لا حدود له، وإيمان لا يتزعزع. وزاد ذلك من حقد رجال الاستعمار، فمضوا إلى التنكيل بها بوسائل أخرى، إذ عملوا على سلب ممتلكاتها، وإحراق أثاث بيتها البسيط تحت بصرها، وقطع شجرات الزيتون التي تخصها، وصادروا لها بعض أغنامها، وانتزعوا منها حليها، حتى لم يبق لها إلا سوارين أهدتهما فيما بعد لأحد المجاهدين، وعلم الابن بما صنعه الاستعماريون مع والدته، فمضى إليها مواسيا، ومعه قائده في قوات جيش التحرير. ولشد ما كانت دهشة الابن وأخوه في السلاح كبيرة وهما يجدان (الأم) أكثر حزما، وأشد عنادا، وأكبر تصميما، على متابعة طريق الجهاد. ... وقع اشتباك عنيف في ناحية (أزفون) وذلك في يوم من أيام مارس - أذار - 1956. واشترك في القتال عشرة من المجاهدين فقط ضد عدد كبير من القوات الإفرنسية، واستمرت المعركة من الساعة الثامنة صباحا، حتى الثالثة من بعد الظهر، وأسفرت عن قتل عدد كبير من الأعداء الإفرنسيين، وإصابة عدد أكبر من الجرحى. ومقابل ذلك، استشهد مجاهد واحد، وجرح أربعة آخرون كانت جراحهم خفيفة. ومضت ساعة واحدة فقط على انتهاء المعركة، عندما أقبلت ثلة من الجنود الإفرنسيين، يتقدمهم أحد الخونة من العملاء، واتجهوا جميعا الى القرية، لينقلوا إلى الأم خبر مصرع ابنها، إرواء لحقدهم، وشماتة بالأم الثكلى. وبوغتت الأم، غير أنها تحاملت على نفسها لتقول لهذا الخائن الذي نقل لها الخبر على

لسان سادته: (إنني أعلم ما تنطوي عليه نفوسكم أيها الخونة من الشر، لقد أسرعتم إلي بنبأ استشهاده، وكان حريا بكم أن تسرعوا إلي بنبأ وصوله من فرنسا يوم عودته. ولكن أنى لكم ذلك، وقد ماتت نخوتكم، وفسدت فطرتكم. رحم الله ولدي محمد، فقد صعدت روحه إلى بارئها طاهرة مطهرة). وشعرت بالحاجة إلى البكاء، غير أنها تجلدت حتى لا تظهر تضعضعها أمام الخطب، فدخك بيتها، وأوصدت الباب دونها، واختلت مع حزنها، وفي الوقت ذاته، مضى الخائن وقد ضاق صدره لما سمع، لقد وقفت امرأة ثكلى لتلقنه درسا لا ينسى في الوطنية. جاء الجنود الافرنسيون في ساعة مبكرة من الغد، وهم يحملون جثة الشهيد التي مزقها الرصاص - وعفرها تراب المعركة، وطرحوها في ساحة القرية، حيث احتشد خلق كثير من الرجال والنساء، بأمر السلطة. وأقبلت الأم، حتى إذا ما وقع نظرها على جثة وحيدها وهو على مثل تلك الصورة التي تمزق أقسى القلوب، أجهشت بالبكاء، ثم عادت، بسرعة، وأظهرت تجلدها، وتقدمت إلى ابنها الشهيد تنعيه بصوت تخنقه العبرات: (في سبيل الله والوطن مت أيها العزيز، ومثلك حي خالد أبدا، ومثلي جديرة أن تفخر باستشهادك). ثم تراجعت قليلا، وتقدم إليها الخائن مترجما لما يقوله الضابط الإفرنسي (يظهر أنك نسيت إلحاحك عليه وهو بباريس حتى يلتحق بالعصاة - الفلاقة - في الجبال، ويجب أن تكون فلاقة شجاعة، وصبرا أليس كذلك ايتها المغرورة؟). سمعت ذلك وقالت: (انظر، أتظن أنني أبكي استشهاده؟ كلا، إنما أبكي لأنني لا أملك غيره، يخلفه فى الجهاد، ويؤتى به يوما كما أتي بأخيه هذا!).

جميلة بو حيرد

6 - جميلة بو حيرد (*) الإسم: جميلة بو حيرد ... رقم الزنزانة تسعونا في السجن الحربي بوهران ... والعمر إثنان وعشرونا عينان كقنديلي معبد ... والشعر العربي الأسود كالصيف كشلال الأحزان ... إبريق للماء وسجان ... ويد تنضم على القرآن وامرأة في ضوء الصبح ... تسترجع في مثل البوح ... آيات محزنة الإرنان من سورة (مريم) و (الفتح)

_ (*) المرجع: الثورة الجزائرية - الخطيب (204 - 208) وصحيفة (المنار) الدمشقية. العدد (1845) الأحد 24 رمضان 1377 هـ - 13 نيسان 1958 ص 2 و7 وديوان (نزار قباني) - حبيبتي، الطبعة الأولى 1961 - ص 172 - 173.

تلك كلمات قالها شاعر سوري في الشابة المجاهدة (جميلة بو حيرد) وهي جزء من قصيدة طويلة، أهاجت الحماسة، وأثارت العواطف والانفعالات! وأصبحت كلمات القصيدة أغنية تتردد على لسان كل عربي من الخليج إلى المحيط. ولم تكن هذه القصيدة على كل حال هي القصيدة الوحيدة التي قيلت أو أنشدت في قضية (جميلة بوحيرد) فقد انطلق لسان الشعراء من عقاله، وانطلقت الأقلام، لتثير من خلال قضية (جميلة بوحيرد) قضية الجزائر كلها، وبصورة خاصة منها وحشية القمع الاستعماري لثورة الأحرار في الجزائر. ولقد سبق عرض نماذج مما تعرضت له المرأة الجزائرية، حرائر النساء وأشرافهن، على أيدي متحللي (بيكال) ومنحطي (سانت جرمان) ومراهقي (الحي اللاتيني). ولقد أخذت قضية (جميلة بوحيرد) أبعادا عربية ودولية اهتز لها العالم وفي الحقيقة فقد كان من المحال إثارة قضية كل حرة من حرائر العرب المسلمين ممن يقعن تحت قبضة جلادي الشعوب - الاستعماريين - ومن هنا فقد كان لا بد من التركيز على مواضيع معينة، ومواقف محددة. فكانت قضية (جميلة بو حيرد) تمثل الموضوع المختار والموقف المثير لطرح قضية الاستعمار، في جملة ما تم طرحه ضمن إطار مقنن ومحكم، حقق كل ما أرادته جبهة التحرير الوطني الجزائري من أهداف. ... بدأت قصة (جميلة بوحيرد) عندما انفجرت قنبلة موقوتة في ملهى جزائري بتاريخ 26 كانون الثاني - يناير - 1957. وما أن تلاشى الدخان حتى ظهر أن هناك أكثر من عشرين أوروبيا قد أصيبوا بجراح مختلفة انتهت ببعضهم إلى الموت. وانفجرت قنابل أخرى

في الأيام التالية، في مقهى الأوتوماتيك، وعند ساحات الرياضة المزدحمة بالنظارة - المتفرجين - أدت إلى مقتل أكثر من عشرين شخصا، وجرح عدد كبير، جراح بعضهم خطرة، وقد عهد بحراسة الأمن بالجزائر في تلك الأيام إلى المظليين التابعين للجنرال (ماسو) وهؤلاء ليسوا جنودا نظاميين ولكنهم من الشباب الصغار الذين أخذوا ليؤدوا خدمتهم. وقد ضرب المظليون بضراوة، وبوحشية، غير أنهم لم يتمكنوا من قمع ثورة المجاهدين، سواء في مدن الجزائر الكبيرة، أو في القواعد المحررة في السهول والجبال. وفي صباح 9 نيسان - ابريل - 1957 اصطدمت دورية حربية أثناء ساعات منع التجول بثلاثة أشخاص مقنعين - ملثمين - في حي (القصبة) داخل المدينة القديمة من الجزائر العاصمة. فهرب هؤلاء الثلاثة ولكن بعد أن أطلقت الدورية عليهم نيرانها. وارتفعت صرخة، وبقيت امرأة منطرحة على الأرض، وكانت هذه هي (جميلة بوحيرد) وقد عثر معها على وثائق ورسائل وعلى مبلغ كبير من المال، دلت جميعها على أن هذه الفتاة كانت تعمل أمينة سر (سكرتيرة) لقائد فدائيي مدينة الجزائر (ياسف سعدي). وكانت تعمل مراسلة أيضا لنقل رسائله وتعليماته وأوامره ولم تسلم الأسيرة إلى الشرطة، ولكنها اقتيدت - بصورة خاصة - إلى مركز تحقيق المظليين، وذلك بحجة أن دوريتهم عثرت في صباح ذلك اليوم ذاته على فرنسي كان يلفظ أنفاسه، وقد قيد - ربط - إلى شجرة، وأفاد أن عائلته كلها قد قتلت على أيدي الثوار، بعد أن أحرقوا بيته ومزرعته. أما ما حدث (لجميلة بوحيرد) بعدئذ فيصعب وصفه، إذ ظلت رغم جراحها النازفة، تحت التعذيب الوحشي أياما عديدة. ويكفي هنا الإشارة إلى التقرير الطبي الذي كتبته السيدة (جانين بلخوجة) الدكتورة في الطب من جامعة الجزائر، حول ما شاهدته على جسم (جميلة

بوحيرد) وقد كانت معتقلة معها. قالت الطبيبة: لقد قمت بفحص (جميلة بوحيرد) في السجن المدني في مدينة (الجزائر) - إبان رفع نظام السرية عنها - (أوائل أيار - مايو - 1957) وقد تحققت من: 1 - وجود جرح فوق الثدي الأيسر، بيضاوي الشكل، غير منتظم الأطراف، طوله أربعة أو خمسة سنتيمترات وعرضه ثلاثة تقريبا، ينزف منه قيح - صديد - ضارب إلى البياض، ناشىء عن التهاب عادي كما يظهر. 2 - وجود جرح أصغر من الأول عند وسط نتوء عظم الكتف اليسرى، وهذا الجرح على وشك الالتئام، ولا تزال أطرافه تحمل آثارا لهذا الالتئام. 3 - وجود عجز وظيفي في الذراع الأيسر، وهو مطوي متصلب: كانت حركة مفصل الكتف مقتصرة على (30) درجة تقريبا، سواء أكان ذلك في رفع الدراع، أو في تحريكه إلى الأمام أو إلى الوراء. - أما مفصل الدراع فكان متصلبا في زاوية قائمة، فلا تتحرك اليد إلا لأربع أو خمس درجات. 4 - وجود اختلال في الجهاز الدموي للدراع كلها، وخاصة عند الكف، حيث كانت الحرارة مرتفعة واللون مزروقا يميل إلى البنفسجي. 5 - وجود ارتجاف في اليد أثناء محاولات تحريكها.

6 - وجود نقاط سمراوية، حول الدائرتين المحيطتين بحلمتي الثدي، يبدو أنها تعود إلى حروق. 7 - وجود علامات سمراء اللون، مستطيلة، طولها أربعة أو خمسة سنتيمترات وعرضها سنتمتر واحد تقع على الورك الأيمن وعلى الجهة الخارجية للفخذ الأيمن، ويمكن إرجاعها إلى السبب ذاته. 8 - وجود بقعة صغيرة ضاربة إلى البياض ومتحجرة تقع على الوجه الداخلي من الشفرة اليسرى الصغرى من العضو التناسلي. ان هذه الحقائق تستدعي بعض الملاحظات: 1 - إن منظر الجرحين الصدريين اليساريين يحملان على الاعتقاد بأنهما ناشئين عن دخول رصاصة وخروجها. 2 - يحتمل أن يكون هنالك كسر في عظم الكتف، فيجب التأكد من ذلك بواسطة التصوير بالأشعة. 3 - يبدو أن الجرح الذي فوق الثدي قد أدى إلى مضاعفات ثانوية. إذ أنه لا يوجد فيه علامات التئام، فهو منتفخ بشكل غير طبيعي - ومنفتح - وملتهب إلى أقصى حد. 4 - إن عجز الذراع الأيسر الوظيفي، والاختلال في جهازه الدموي، يعودان على ما يظهر، إلى تهيج عصبي - شرياني - حيث مرت الرصاصة. إن تحسنها مرجح، ولكن وضع بيان عصبي عضوي يبدو نافعا. لقد أخبرتني (جميلة بوحيرد) أنها أصيبت برصاصة عندما ألقى القبض عليها، مما يطابق التحقيقات التي قمت بها كل المطابقة. وقد أكدت لي أنها كذلك ضربت وأحرقت بواسطة الكهرباء عند الجرح الصدري الأمامي وعند النهدين، والورك الأيمن، والجهة

الخارجية من الفخذ الأيمن، وفي العضو التناسلي. إن مظهر مختلف الجراح التي فحصتها يدعو إلى إعارة الأسباب التي ذكرتها المريضة انتباها كبيرا. وقد صرحت لي (جميلة بو حيرد) أنها كانت في فترة الحيض عندما أنزلت بها ضروب التعذيب في 17 نيسان - ابريل - 1957، وأنها أصيبت بنزيف شديد، تبعه انقطاع الحيض، وظهور إفرازات نتنة طوال خمسة عشر يوما. وقد بدا لي أن حالة (جميلة بو حيرد) العامة سيئة وتلاميح وجهها ذابلة، وجسمها ضعيف. إن عجز الذراع الأيسر سوف يظل كاملا مدة شهرين تقريبا، هذا إذا لم تحدث مضاعفات ويحتمل أن يحصل لها فيما بعد عجز (جنسي) دائم. إن هذا تقرير طبي أعطيته إلى (جميلة بوحيرد) ووكلائها ليستعان به عند الحاجة (جانين بلخوجه) دكتورة في الطب. قبضت السلطات الإفرنسية بعد أيام من القاء القبض على (جميلة بوحيرد) على فتاة أخرى تسمى (جميلة بو عزة) كانت تعمل موظفة في البريد، وعمرها لا يزيد آنذاك على تسعة عشر عاما. وقد اعترفت هذه تحت وطأة التعذيب، بأنها هي التي وضعت قنبلة موقوتة في الملهى، وقد مثلت الحادث، وأشارت إلى المقعد الذي وضعت تحته القنبلة، وكيف خرجت بعد دقائق من الملهى، تاركة القنبلة تنفجر بعد خروجها. اجتمعت المحكمة العسكرية الإفرنسية في حزيران - يونيو -

1957. فاتهمت الفتاتين بالإرهاب. فاعترفت (جميلة بو حيرد) أنها كانت تعمل أمينة سر (سكرتيرة) القائد (ياسف سعدي). غير أنها أنكرت بتصميم وثبات اشتراكها في عملية وضع القنبلة في الملهى. أما موظفة البريد، الشابة (جميلة بو عزة) فقد أفادت أنها تلقت القنبلة من (جميلة بو حيرد) فنفذت هي المهمة. وكانت قاعة المحكمة مكتظة بالمشاهدين الإفرنسيين الذين كانوا يطالبون برأس الفتاتين. لا سيما وأن اعتداء كبيرا حدث في تلك الأثناء، الأمر الذي زاد من هياج الإفرنسيين، فجرت المحاكمة وكأنها مسرحية مضحكة (ملهاة). وأصبحت المتهمة (بو عزة) هي شاهدة الإثبات ضد زميلتها (بوحيرد) فأخذت تتصرف كما لو كانت مجنونة، فتتفوه بكلمات جارحة (نابية) في قاعة المحكمة. وتمزق ثيابها عن جسمها، وتضرب على الحضور مسدسا وهميا صارخة: تاك، تاك، تاك، تاك. وقد جاءت في مرافعة وكيل الدفاع (المحامي جاك فيرجس) - أن جميلة بو عزة هي مختلة الشعور، فأحالها رئيس المحكمة إلى الطبيب الشرعي الفرنسي، فقرر هذا أن (بوعزة) هي فتاة سليمة العقل، وإنما تتظاهر بالجنون. ثم رفضت المحكمة طلب الدفاع بإحالة (جميلة بوعزة) إلى لجنة من الأطباء لإعادة فحصها. وكان لهذا الرفض الجاف نتائجه .. ثم اعترض محامي الدفاع (الأستاذ جاك فيرجس) على وسائل التحقيق التي اتبعها المظليون، وصرح بأن موكلته (جميلة بوحيرد) قد انتزعت منها الإفادات بصورة وحشية رهيبة، وأنها عذبت كما لم يعذب أحد من قبل، فقد سلطت تيارات كهربائية على فمها وأذنيها وعلى مواطن حساسة أخرى بجسمها، فأجابت المحكمة أن هذه الادعاءات ليس لها ما يؤيدها. فطلب الدفاع مواجهة موكلته بالمظليين لكي تتأكد

المحكمة من أقواله، ولكن المحكمة رفضت الطلب. وكان لهذا الرفض الجاف الثاني مفعول مهيج على سياسة فرنسا في الجزائر أكبر من مفعول قنابل الثوار مجتمعة. سجلت المرأة الجزائرية بالدم والنار مشاركتها الفعالة في الكفاح من أجل تحرير الجزائر. وقد برزت هذه المشاركة في الحكم الذي أصدرته المحكمة العسكرية الاستعمارية (في الجزائر) يوم 16 تموز - جويلية - عام 1957. حيث حكم على الفتاتين بالإعدام. ولكن بينما أرفق اسم (جميلة بو عزة) بالجنون. فقد ارتفع اسم (جميلة بوحيرد) الى مرتبة البطولة العليا بين ليلة وضحاها. اقتيدت (جميلة بو حيرد) بعد صدور الحكم عليها إلى السجن، وهنا انطلق صوت (جميلة) وهي تنشد (جزائرنا). معلنة بذلك تفضيلها للموت حتى تحيا الجزائر. وتردد صوت (جميلة) بقوة اهتزت لها شوارع الجزائر القريبة من قاعة المحكمة. فقد انطلقت أصوات آلاف الجزائريات والجزائريين الذين كانوا يتابعون المحاكمة وينتظرون نتيجة (مهزلة المحاكمة). واختلطت كلمات النشيد بزغاريد النساء (اليويو). وأصبحت الجزائر مسرحا لتظاهرة عينفة ما لبثت أن شملت الصفحة الجغرافية للقطر الجزائري المجاهد. وتطورت فورا لتصبح تظاهرة عربية ثم عالمية. فقد أقيمت في كل عاصمة عربية تظاهرات صاخبة هزت كل قطر عربي، وانبرت الصحافة العربية لتبني قضية (جميلة) في إطار قضية (الجزائر) , ونظمت الندوات الأدبية والأمسيات الشعرية وكلها تتحدث عن قضية (الحرب الجزائرية) من خلال قضية المجاهدة (جميلة بو حيرد).

انعكس ذلك على عواصم العالم، وعلى عاصمة فرنسا بصورة خاصة - فصدرت في (باريس) وعن منشورات (نصف الليل) التي يصدرها جماعة المقاومة الشيوعية في فرنسا كتابا عنوانه (دفاعا عن جميلة بو حيرد) من تأليف وكيل الدفاع (الأستاذ جاك فيرجس) والكاتب (جورج آرنو) (¬1) الذي ألف حوار فيلم (ثمن القلق) المشهور. وقد تضمن كتاب (دفاعا عن جميلة بو حيرد) شرحا لأساليب التعذيب التي تعرضت لها (جميلة) بأسلوب مثير، وذلك بالاستناد إلى تقرير الطبيبة (جانين بلخوجه). وثارت ثاثرة الرأي العام العالمي. فأصبحت فتاة الجزائر المعذبة، حديثا على كل فم. وطالب زعماء العالم فرنسا بالعفو عن (جميلة) وكان في جملتهم (جمال عبد الناصر) و (الرئيس الهندي نهرو) و (الزعيم السوفييتي فوروشيلوف). كان الرأي العام الإفرنسي، قد أخذ في الانقسام تجاه قضية الجزائر، فالقادة - الجنرالات - قد أظهروا عجزهم عن معالجة القوة المتعاظمة للثورة. وتأكد أن قضية الثورة ليست قضية مجموعة من العصاة (الفلاقة) كما كانت تصورها أجهزة الإعلام الاستعمارية. كما تعاظمت الخسائر التي كان يدفعها الشباب الإفرنسي من دماء أبنائه، الأمر الذي زاد من نقمة الرأي العام الافرنسي. هذا علاوة على ما تسببته (الحرب الجزائرية) من أعباء اقتصادية على فرنسا زادت من انقسام الرأي العام فيه. وجاءت قضية (جميلة بوحيرد) لتفجر ذلك الانقسام وتبرزه بشكل واضح. ولكن الانقسام في الرأي العام يلتقي عند نقطة (المطالبة بالعفو عن ¬

_ (¬1) تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب قد ترجم إلى العربية - وصدر عن (دار العلم للملايين) في حينه.

جميلة) وفي هذا المجال، عبر الراديكاليون الوطنيون عن رأيهم، بما يلي: (يجب علينا ألا نخلق شهداء بأي حال من الأحوال، ومن الجنون المطبق أن نتكرم على الثوار بجان دارك جديدة. وقد حكم بالموت على فتاتين أخريين لأنهما ألقتا بمتفجرات وصدر العفو عنهما أيضا، على أنه لم يسمع سوى القليل عن هاتين الأخيرتين). كان زعماء الثورة قد أعلنوا، ومنذ البداية، أن الإرهاب هو وسيلة مقاومة مشروعة، لمقاومة (الإرهاب الاستعماري). وحدث خلال تلك الفترة أن تمكنت السلطات الاستعمارية من القاء القبض على (ياسف سعدي) في الجزائر. وعلى إثر ذلك أصدرت قيادة الجبهة الوطنية الجزائرية، وقيادة جيش التحرير الوطني نشرة تحمل صورة أربعة ضباط فرنسيين وقعوا أسرى في قبضة قوات المجاهدين، وأنذرت فرنسا - عن طريق الصليب الأحمر الدولي - أنه بالإمكان مبادلة الضباط الأربعة (بجميلة بوحيرد) المحكوم عليها بالإعدام. أما إذا نفذ حكم الإعدام، فستنفذ شريعة القرآن الكريم (العين بالعين والسن بالسن والجراحات قصاص). أصبحت قضية (جميلة بو حيرد) عبئا يرهق كاهل الحكومة الإفرنسية، وبقيت (جميلة) تنتظر في سجنها تنفيذ حكم الإعدام طوال ثمانية أشهر. وكان من المقرر تنفيذ حكم الإعدام يوم 7 - آذار - مارس - 1958 (المصادف ليوم الجمعة). غير أن هذا الحكم لم ينفذ وفي يوم 11 نيسان - إبريل - 958 1 صدر مرسوم بتخفيف حكم الإعدام إلى (السجن المؤبد). وظن الإفرنسيون أن هذا الحكم سيسعد الفتاة التي (عاشت لحرية وطنها وتحرره) وعندما زارها - في سجنها - مراسل الصحيفة الإفرنسية (فرانس

بريس) يوم 12/ 4 /1958 صدمته بقولها: (كنت أفضل الموت على حياة المعتقل ... ليتهم أعدموني، إذن لاسترحت من العذاب المضني الذي أعانيه الآن). وانتصرت الثورة. وتحررت الجزائر الثائرة المجاهدة. وتحررت فتاة الجزائر (جميلة بو حيرد). وعادت السجينة إلى حياة الحرية في وطنها المتحرر.

الفصل الثالث

الفصل الثالث الإرهاب الاستعماري 1 - معاناة الارهاب. 2 - أكثر وحشية من النازيين والمغول (التتار). 3 - مدارس تعليم أساليب التعذيب. 4 - معسكرات الانتقاء والترحيل. 5 - معسكرات التجميع. 6 - الأسرى والجرحى. 7 - ملحقات ضد الاستعمار وأساليبه الهمجية: أ - شخصيات فرنسية ضد الهمجية الاستعمارية. ب - قرار عن الجزائر في اجتماع الكرادلة وكبار الأساقفة. ج - خطاب من الاستاذ رينيه إلى وزير التربية الوطنية الفرنسي. د - الجنرال (دوبو لارديير) يستقيل من قيادته. 8 - الكلمة الأخيرة.

معاناة الإرهاب

1 - معاناة الإرهاب دعت جبهة التحرير الوطني، جماهير الشعب الجزائري لإضراب (الأيام الثمانية) الشهير (في كانون الأول - ديسمبر - 1960) ونقلت وكالة أنباء أمريكية مشاهداتها بقولها: (لقد جبنا حي القصبة هذا الصباح بصحبة نفر من الصحافيين الأجانب. وبدلالة فتى مسلم. فكنا فيه شهود غليان لا يوصف: الشرفات والأسطحة سوداء بما عليها من النساء اللائي يمزقن الجو بصيحات النخوة التقليدية. الرجال في الشارع يهتفون: (فرحات عباس في الحكم) و (الجزائر إسلامية!) ويلوحون بعلم جبهة التحرير الوطني. الجدران كانت مغطاة بشعارات الولاء للجبهة، سطرت حديثا بمداد أحمر. بعد أن اجتزنا نطاق الشرطة - البوليس -. صرحنا بأننا صحفيون أجانب. وسرعان ما تواثب رهط من الأدلاء، ليطوفوا بنا حي القصبة بتعاريح أزقته الكثيفة البنيان. لم تحدث أبدا من قبل مظاهرة بهذا الشمول في حي القصبة. (إنها الثورة). كانوا يصرخون في وجوهنا (سنقاتل حتى النهاية).

حدث في يوم الأحد ما لم يكن في الحسبان، بسبب رسوخ خرافة (الجزائر المستكينة). حدث اليوم: تحركت القصبة. هبطت إلى باب العويد. وعلى مسافة سبعة أو ثمانية كيلومترات كان مسلمو غربي الجزائر يحذون حذوهم: سكان بلكور، وحارة الساقية الذين كانوا يسدون الطريق دائما على القوات الخاصة والمظليين، حاملين ذات الشعارات، والأعلام، وصور فرحات عباس. (منذ ستة أعوام ونحن ننتظر هذا اليوم) هذا ما كان يقوله فتى عربي، لم يلبث وابل من الرصاص أن أرداه قتيلا) (¬1). وكتب جندي عن الإرهاب، ومعاناته: اليوم هو (11 آذار - مارس - 1956) ولدي بعض التفاصيل عن العملية الشهيرة التي وقعت ذات ليلة، فقد حاول جندي استجواب النساء، متهددا إياهن بذبح طفل صغير عمره خمسة أعوام. وعندما كانت عملية التعذيب تجري مع قائد من قادة الثوار، كان باب الغرفة مفتوحا لتشاهد النساء من خلاله كل ما يجري. إن هذه الطريقة من التعذيب تتلخص في ربط الإنسان، ووضع عصا تحت ركبتيه، ثم رفعه وتركه ملقى على ظهره. وهناك أحواض الماء يغمس فيها رأس المشبوه حتى يختنق، وهناك الطريقة العادية، وهي الجوع والعطش. دخلت في أحد الأيام إلى المطبخ، أبحث عن أكل أقدمه لسجين، بقي مهملا في خيمة منزلة عن غيرها. فناولني الطباخ بعضا من الخبز. وعندما طلبت منه قطعة لحم، وقال: إن في هذا ¬

_ (¬1) فرانس - أو بسرفاتور 15 كانون الأول - ديسمبر - 1960.

ما يكفي لسد رمقه، إنها أوامر، فذهبت لأخذ اللحم والخبز من بيتي. لقد تجلدت قدما هذا السجين منذ ثمانية أيام. ففي إحدى الليالي، شددت القيود التي أوثقت بها قدماه. ولم يصبح الصباح حتى تجمدت رجلاه لشدة البرد وقسوته. رأيته في هذه الحالة، .. جروح ضخمة حمراء، ... تقشر بالجلد ... سواد في الأذنين، إن الطبيب عاجز عن معالجته، فقد أخذ التعفن في الانتشار، فلماذا لم يأخذوه إلى مدينة (خنشلة) لإسعافه؟ الظاهر أن ضابط الشؤون الأهلية (الساس) يريد أن يتولاه بنفسه، لأنه ثائر ألقي القبض عليه والسلاح في يده. وقد يكون هلاكه بالقروح والجوع. وبالأمس، رجعت إلى السجن، فوجدت السجين الذي قدمت له الخبز أنا و (ط) قد اختفى) (¬1). وكتب مجند آخر: (كنت أقوم بدور (عامل اتصال) في قرية مرتفعة، يوم بدأت القوات بتنفيذ ما أطلقت عليه اسم (مناورة التطويق) فشاهدت إحدى عشرة قرية تحترق، ويتصاعد الدخان إلى السماء من جميع (المشاتي) (¬2) وكنت أستطيع متابعة حركة القوات من خلال مشاهدة تأجج النار في الطواحين والبيوت المتواضعة (الأكواخ) والممتدة تحت بصري. وتبع ذلك في الأيام التالية، قيام الجنود بأعمال النهب والسلب في جميع القرى، حتى أصبحت كافة المحلات التجارية خالية خاوية، فالأموال سرقت، والبضائع اتلفت ... أما ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون 2/ 27 - حرب الإبادة في الجزائر (مصلحة الدعاية والاستعلامات لجبهة التحرير الوطني) ص 13. (¬2) المشاتي (جمع مشتى) ويطلق هذا اللفظ في الجزائر على القرية الصغيرة في الريف.

النساء فقد جمعن في مكان منعزل للتأثير على رجالهن، ومنعن من الخروج حتى لقضاء احتياجاتهن الضرورية. وبدأ الاستجواب والتحقيق أثناء ذلك مع الرجال حتى ينتزعوا منهم الاعترافات التي يريدونها. وكان من بين المحققين (رجال الاستنطاق) ثلاثة من كتاب البولس الشرعي، جاؤوا بهم للاستعانة (بخبراتهم). وأخبروني بعد انتهاء التحقيق أنهم حصلوا على نتائح أفضل من تلك التي حصل عليها (رجال الجيش الأغرار). ثم أخذوا يتهامسون بأن مائة وخمسين رجلا على الأقل قد اعترفوا بأنهم شاركوا، أو علموا، بالكمين الذي نصب ضد الملازم (ن) وتقرر إعدام هؤلاء الرجال، رميا بالرصاص، بعد الانتهاء من العملية، في الساحة العامة، سواء منهم من كان ينتسب لمنظمة القرية العسكرية أو السياسية، ولا أعلم ما حدث بعد ذلك، لأني ذهبت) (¬1). (لقد ألقي القبض في - المشتى - وهو لا يزال مسكونا، على ابنتين لرجل غائب ومعروف بانتمائه لجبهة التحرير الوطني. وقد سار الجند بالبنتين، وعمر أولاهما (18 سنة) والثانية (16 سنة) وقاموا بتسليمهما إلى جند اللفيف الأجنبي، فقضى الجند ليلة في الاستمتاع بهما، ثم عملوا على إعدامهما في الصباح، إخفاء للجريمة) (¬2) وقيل إن عامل العمالة (الولاية) قد أصدر أمره بتدمير هذه القرية وإبادة أهلها غير أن القائد العسكري، أصدر أمره بإخلاء القرية من مكانها قبل تسليط المدافع عليها وتدميرها. ولقد وقعت أثناء عملية إخلاء القرية عمليات (اغتصاب شنيعة) ذهجت ضحيتها ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص (82). (¬2) المجندون يشهدون. ص (34).

كثيرات من البنات الأبكار، وكانت هذه الفرقة العسكرية قد اشتهرت شهرة واسعة بممارسة هذه الأعمال، يتقدمها في ذلك قائدها) (¬1). وكتب (راهب) يحمل رتبة ضابط، في مذكراته اليومية: (لا أتحدث كثيرا عن القسوة البالغة، والتعذيب الوحشي، وإلقاء القنابل على الدواوير والمشاتي بما فيها من نساء وأطفال ومواشي. ولا أتكلم عن أقصوصة التقتيل التي قام بها جنود المظلات. إذ من السهل على كل مسافر بالقطار الحديدي أن يشاهد على طول الطريق آثار دمار الحرب بادية في جميع المشاتي التي يمر بها، كما يشاهد حطام دور المساكن الأهلية التي أشعلت فيها أسلحتنا النيران ... إن كثيرا منا يؤيدون (الانتقام) وقلة هم الذين يستنكرون هذه الطريقة التي تحرمها كل المبادىء الإنسانية. وكثيرا ما يغمر الفرح والسرور أولئك الجنود عندما يقومون بأعمال التعذيب والتنكيل، لقد شاهدت ملازما يعتز بصورة أخذت له، وهو يجر محراث المزرعة التي حطم بها المباني، وأطبق تحتها جثث السكان. ومن أجل هذه الأعمال الإجرامية، أصبح الأهالي يهجرون مساكنهم فرارا من الهلاك المحقق. إن الجيوش الفرنسية تقوم غالبا بتهديم المنازل وإحراقها دون شفقة ولا رحمة بساكنيها. ولقد أفضى إلي أحد الجنود بقوله: (هذا جميل جدا، يجب إحراقهم في مساكنهم الحقيرة بلا شفقة لأنهم لا يفهمون إلا بهذه الطريقة لسفالتهم) (¬2). وقع كمين قرب مدينة (باتنه) في أوائل شهر أيار - مايو - 1956 ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص (82). (¬2) ضد أعمال التعذيب (بيير هنري سيمون) ص 83.

وسقط فيه اثنان من رجالنا - الفرنسيين - فألقي القبض على (15) رجلا من الذين اشتبه بأمرهم، واستجوبوا، وعذبوا، ثم أعدم (14) منهم رميا بالرصاص. ووقع اعتداء على أحد الجنود الفرنسيين قرب مدينة (تبسة) في أوائل شهر أيار (مايو) أيضا. فجمع رفاقه أمرهم، وهاجموا المقاهي العربية، وأطلقوا الرصاص على كل من كان فيها من المدنيين، ثم ألقوا القنابل على المساكن. ومن الغد، سمح الرائد - الكومندان - لجنوده باستباحة المدينة ساعة كاملة، وأن يفعلوا فيها ما يشاؤون، وذلك في حالة وقوع اعتداء عليهم أثناء دفن رفيقهم. ولكن لم يقع أي اعتداء لحسن الحظ. وفي اليوم الحادي عشر من شهر أيار (مايو) 1956. كانت فرقة من جنودنا تجتاز مضيقا قرن مشتى بجهة (هلنسور). وأطلقت طلقتان أو ثلاث ضد جنودنا، فصدرت الأوامر بإزالة كل أثر للحياة من المشتى. فقتلنا على الأقل (79) رجلا وامرأة وصبيا. وفي يوم 28 نيسان (أبريل) 1956، كان قد وقع اعتداء بمدينة قسنطينة على أحد جنود المظلات، فأردي قتيلا، فتجمع رفاقه وساروا إلى ثكناتهم، وحملوا بنادقهم، وهاجموا المدينة، وشنوا حملة انتقامية ضد السكان المدنيين. وقد وقعت عملية من النوع ذاته في مدينة (بسكرة) عند نهاية شهر تموز (يوليو) ونجم عنها قتل ما بين (26) و (31) من المدنيين، وجرح أربعين منهم (¬1). ... ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 32 و 33.

ذكر يوم 15 آب - أغسطس - 1956 أن السلطات الإفرنسية أعدمت (95) ثائرا جزائريا - رميا بالرصاص - واستطاع الفرنسيون بعد هذه العملية أن يصادروا ثلاث بنادق صيد من السكان - الأهلين -ونظرا لانعدام النسبة بين عدد الضحايا وعدد البنادق التي أمكن مصادرتها، نفقد خفض البلاغ الرسمي عدد القتلى من (95) الى (45). ويشير كشف الأسماء على أن هؤلاء القتلى، يضمون بينهم نساء وأطفالا، من بينهم طفل عمره ثلاث سنوات، كما جاء في محضر الشرطة - البوليس - ذاته. ... خرجت قوة فرنسية على شكل مجموعتين تضم كل مجموعة مائتي رجل يومي 3 و4 - أيلول - سبتمبر - 1956 ولما وصلت إلى (دوار مزرنا) في غرب (سرياط) تحت قيادة النقيب (س) والملازم (ر) في الساعة السادسة صباحا. قتلت (5) رجال من العرب، على بعد (200 - م) من المعسكر. وذلك بعدما رفض الملازم الذي كان يقود إحدى المجموعتين القيام بهذا العمل. ثم أخدت القوات بإطلاق النار على السكان الذين أخذوا في الفرار على أثر وصول القوة الإفرنسية، وأصيب صبي برصاصة اخترقت فخذه. ثم بدأت عملية إلقاء القبض على الرجال الأشداء، وسوقهم الى قرية (تابلاط). فيما كانت إحدى الجماعات توقد النيران في الجبال. وعندما اقتربت القوة الفرنسية من القرية - تابلاط - أصاب الهلع نفوس النساء والأطفال .. بمجرد رؤيتهم للقوات الفرنسية (¬1). ... ¬

_ (¬1) ملف الجندي (جان ميلير) ص 14.

جاءنا تقريران من ناحية (عنابة) في شهر نيسان - أبريل - 1956، وقد أفاد أحدهما بأن فرقة من المدفعية صوبت سلاحها في المساء نحو جملة (مشاتي) مجاورة. حتى إذا ما انتصف الليل، وصدرت بعض الطلقات المزعجة - من جانب الثوار، أفرغت المدفعية حممها على المشاتي ودمرتها، على رؤوس سكانها، من غير اهتمام لمعرفة ما إذا كان هؤلاء الأهالي مسؤولين أو غير مسؤولين عن طلقات النار التي أزعجتهم. وقد علمنا أنه تم تنفيذ عمليات مماثلة مرات عديدة في ناحية (سطيف) وعدد من النواحي الأخرى في شهر آب - أغسطس - 1956. أما التقرير الآخر، فيشير إلى أنه حدث في أوائل شهر تشرين الأول - أكتوبر - أن وقعت ثلاث عربات في كمين ليلي، وكانت هذه العربات تابعة للإدارة البلدية وتسير على طريق جبلي. وقد أطلق أفراد الكمين سراح السائقين، وقذفت العربات من أعالي الجبل - وفي اليوم التالي، أصدر الملازم قائد الرتل أمرا بالرمي على أية قرية، من غير تحديد، فنصبت مدافع الهاون (60 مم) في اتجاه قرية قيل أنها لم تستقبل القوات الإفرنسية استقبالا حسنا. وقذفت بعدد من القنابل لم تعرف نتائجها. ولكن ذكر بأن إحدى هذه القنابل أصابت امرأة وشطرتها إلى قسمين. أما الخسائر المادية فهي غير مهمة (¬1). ووقعت قوة فرنسية في كمين بالقرب من (سانتونج) في أوائل شهر تشرين الأول - أكتوبر - 1956. فقتل عدد من الجنود الإفرنسيين كما جرح آخرون. وعلى الأثر أصدر الملازم أمره بتهديم ثلاثة قرى وإبادة جميع الرجال بحجة الانتقام لقتلى الفرنسيين ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 34 و 41.

والثأر لهم. غير أن عملية الانتقام لم تقتصر على الرجال، فقد تمت إبادة جميع السكان، بمن فيهم من النساء والأطفال الذين قتلوا عن آخرهم (¬1). هذا، وقد استمرت عمليات تدمير العشائر بصورة متواصلة، ورجع قادة طائرات الاستطلاع، وأفادوا بأنهم لاحظوا من طائراتهم عدة قرى مدمرة تدميرا تاما، وهناك وحدات من الجيش قد تعودت على تدمير الديار المجاورة عقب كل كمين يقع لها. وأصبحت هذه العادة معمولا بها في سائر أنحاء القطر الجزائري (¬2). وهذا ما أكده (الملازم س) الذي قال: (كلما وقع كمين ومات فيه رجل من رجالي، أعمد إلى أول قرية أجدها في طريقي، ثم أجمع كل رجالها، وأعدم نصفهم بدعوى أنهم لم يخبروا الجند الفرنسي بوجود كمين في ذلك المكان) (¬3). ذكر جندي ما يلي: قام أحد الفدائيين بقتل (الكوميسار المركزي سنمارسلي) في الساعة التاسعة والنصف من يوم 29 آذار - مارس - 1956، وعلى الأثر، حمل ابن القتيل السلاح، وأخذ يتصيد كل عربي يصادفه، فقتل اثنين على الفور، وأصاب ستة آخرين بجراح خطيرة، لم يلبث أن مات اثنين منهم. وفي المساء، وقعت عملية تفتيش ضخمة، حشد فيها خمسة عشر ألفا من سكان المدينة، وسيقوا إلى (الكدية) حيث توجد (الكوميسارية المركزية). وقد اغتنم بعض الرجال معاوني الشرطة - البوليس - ¬

_ (¬1) المصدر السابق. ص 32. (¬2) المصدر السابق. ص 65. (¬3) المصدر السابق. ص 27.

هذه الفرصة فانطلقوا لتدمير واجهات المخازن التجارية، وحطموا (300) متجرا منها، ونهبوا منها كل ما اعتقدوا أنه ثمين. وقد انتهكت أثناء هذه العملية حرمة مسجدي (سيدي عبد الرحيم) و (سيدي بو مغرف). وتم إعدام (13) رجلا. خمسة منهم تحت جسر (سيدي راشد) وثمانية منهم على طريق (الخروب). ولم يظهر أبدا أن واحدا من هؤلاء الذين تم إعدامهم قد قام بنشاط إرهابي. وهم (رابح - منتج ألبان) و (بودور - وهو موظف شيوعي يعمل بالخط الحديدي) و (نزار - مثل السابق، وقيل إنه شيوعي أيضا) و (عجابي محمد الطاهر - موظف بالمستشفى الوطني بقسنطينة - وكانت نقابات جامعة العمال) و (أحمد رضا حوحو - كاتب معهد عبد الحميد بن باديس ورئيس جمعية أحباب الفن والموسيقى) و (بو علاق - وهو تاجر ومن أعضاء حزب البيان سابقا) و (بوزو - وهو موظف بإدارة المنح العائلية) و (رنارمي - الموظف بشركة الكهرباء والغاز) (¬1). وقال مجند: خرجت الفرقة الثانية التي أنتمي إليها بقيادة الملازم (س) في ليل 7 - 8 آذار - مارس - 1956 وهي تحمل معها جهازا لاسلكيا ووسائط دعم مختلفة. وذلك لتنفيذ مهمة البحث عن الأسلحة وكان معنا بعض جنود المظلات. وقمنا على الفور بمحاصرة (مشتى) من المشاتي. واقتحم رجالنا بيوته. وألقوا القبض على جماعة من أهله. وأخذوا بضربهم ضربا مبرحا بالأيدي، ثم بالسكاكين، حتى غرقت أيدي رجالنا بالذماء، وكان بعضهم فخورا بذلك. واستخدم قائد فصيلتنا قدميه لرفس (لبط) ¬

_ (¬1) المصدر السابق. ص 5.

من كان يقال أنهم من (المشتبه بهم) حتى أنه بقي يومين وهو يشكو من الألم. وكان الملازم الآخر يكتفي باستعمال قدميه لضرب الرجال على خصيتيهم. واستمرت العملية على هذا الشكل ثلاث ساعات متوالية. ثم جمعنا كل النساء والرجال في جهة واحدة، وجمعنا في الجهة المقابلة أفراد قوتنا. إننا نستعد للانتقام لقتلانا. فأطلق جماعة منا النار على ثلاثة من القرويين وراء ظهورهم فسقطوا أمواتا في الحين. ثم ألقينا على المشنى قنبلة مما يستعمل ضد المصفحات (بازوكا). ولم نجد خلال هذه العملية أي أثر للأسلحة التي زعمنا أننا قد خرجنا للبحث عنها. وقد عدنا ببعض الرجال. وقد عذب واحد منهم إلى درجة أن معالم وجهه تغيرت وبات من الصعب التعرف عليه. ثم أجهز عليه رجالنا بعد يومين، وتطوع بعض رجالنا بدفنه في المرحاض. أما الآخر فقد شد من كتفيه بقيود وذلك بعد تهشيمه، فأصاب التعفن كثيرا من أعضاء جسمه. وكان رجالنا رغم ذلك يذهبون إليه، ويتبارون في تعذيبه إلى أن مات من جراء التعفن رغم الجهود التي بذلها أحد معاوني الأطباء. مات عندنا رجل آخر من المشتبه بأمرهم وذلك قبل رحيل فرقتنا بيومين، من جراء تجمد أعضائه. فدفناه في المرحاض أيضا. وأكد لي (م) أن الحادث وقع فعلا. كما أكد لي (ل) أنه كان لدينا ستة رجال بصفة رهائن، يوم وقع الكمين الذي أودى بحياة ستة من رجالنا. فجاء جماعة منا وأخذوا الرهائن الستة وذهبوا بهم بحجة استخدامهم في (سخرة الحطب). وقد قص علي (ب) قصة قائد الفصيلة الذي كان يعدم الرجل منهم بأن يرغمه على الجثو على ركبتيه، ثم يطلق رصاصة على كبده، ولا يكاد يسقط على الأرض حتى يذبحه بسكينه. وينتظر فراغه من الدم، ثم يطلق عليه رصاصة

في أم رأسه. وعندما كنت عائدا، لاحظت فيما بين بلدتي (قابس) و (خنشلة) عددا من القرى المحترقة. وبحثت عن سبب ذلك، فتبين لي أن قوة من جنود المظلات قد وقعت في كمين بهذه الناحية منذ أسبوع. وخسرت اثنين من رجالها. ثم جاءت قوات الدعم فأطلقت عليها رصاصة من إحدى الديار، فبادر المظليون إلى إحراق دور القرية جميعها. انطلقت في الساعة الحادية عشرة صباحا (1100) من يوم 7 آذار - مارس. نيران مدفع رشاش. ورأيت على بعد جماعة من العرب يفرون، ثم سقط أحدهم على الثرى. فجرى الجند نحوه. وكان الرجل يتخبط بدمه ويحاول النهوض، فضربه أحدهم برصاصة اخترقت صدره، واستطاع مع ذلك أن يسير مسافة كيلومتر كامل. وهو يعالج الآن في مستشفى (خنشلة) وقد تبين فيما بعد أن هذا الرجل كان قادما من عند ضابط المخابرات. وفي المساء، عمل الملازم (س) ورجاله من المظليين على تعذيب الجماعة المأسورة من العرب. وبدؤوا عملهم بضرب الأرجل على الخصيتين، والصفع بالأيدي على الوجوه والصلب من الأيدي ومن الأرجل. وكان رفاقنا يمرون وينظرون ويسمعون صراخ المعذبين. وقيل أنهم اعترفوا بأشياء كثيرة. وعندما شاهد الملازم جنوده وهم يتابعون أعماله، سألهم: لماذا تنظرون هكذا؟ فأجابوه: نحن نتلقى عنك الدروس الصالحة أيها الملازم. فقال لهم: هذا حسن. لكن لا تبقوا هنا وسأتولى بنفسي تعليمكم هذه الأعمال في فرصة أخرى (¬1). كانت الحركة عظيمة في معسكرنا بالأمس (بداية آذار - مارس - ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 26 - 27 و 29.

1956) فقد وقعت عربتا نقل تابعتان لقوة المظلات في كمين نصبه الثائرون. وكانت نتيجة الكمين أن قتل ضابط صغير وجندي فأخذت فرقتنا تستعد للرد، والانتقام، وتحركت راجلة نحو السهل في الساعة الرابعة صباحا. وبدل أن تذهب لإمداد القوة التي وقعت في الكمين. توجهت قوتنا نحو قريتين من القرى المجاورة لنا. وهناك بدأت عملية التفتيش واعتقال الرجال، وضربهم المبرح. وكانت القريتان على بعد خمسمائة متر من معسكرنا، وعلى بعد ثمانية أو تسعة كيلومترات من مكان الكمين. ولكن رجالنا وقع اختيارهم على القريتين لصب جام الانتقام عليهما. وباشرت الفرقة الأولى عملية السلب والنهب، فلم تترك شيئا إلا أخذته. أما قوتنا فقد كان سلوكها أفضل، وبعد هذه العملية صعدنا فوق هضبة وأخذنا نشاهد هجوم الطائرات المقاتلة على القرى وتدميرها لها، وكأننا على مسرح. وخلال هذه الفترة، من شهر آذار - مارس - ألقى أحد الفدائيين في (وادي الزناتي) قنبلة على جندي فرنسي، فأصابه بجرح خطير، وجاء رد الفعل الفرنسي سريعا جدا. إذ وقع الهجوم على الحي المجاور للمنطقة التي وقع فيها الاعتداء. وسيق كل المسلمين الذين يسكنونه إلى مركز الدرك - الجندرمة - حيث قضوا كامل الليل، ثم وقع اختيار الدرك على ستة من الرجال أعدموا فورا. وأذيع بيان على الأهلين بأنه سيعدم من بينهم ثلاثون رجلا كلما وقع اعتداء على أحد الجنود الفرنسيين. وفي اليوم التالي. أطلق رجال الشرطة - البوليس - سراح ستة من المسلمين، كان قد ألقي القبض عليهم منذ أسبوع، ولم تثبت إدانتهم بشيء، فتسلم العسكريون فورا هؤلاء الستة وذهبوا بهم. وفي صبيحة يوم الاثنين (26 - آذار - مارس) اكتشف الناس جثث هؤلاء الستة في المكان المعروف باسم

(منجم أ. أ.) وصدرت الصحف يوم الثلاثاء، وهي تحمل بلاغا عسكريا يقول: (إنه قد وقعت معركة قرب (منجم أ. أ.) أسفرت عن مقتل ستة من الثائرين. يمكن هنا الإشارة الى تلك الرسالة التي تحمل تاريخ 30 نيسان - أبريل - 1956. والتي تضمنت ما يلي: (أطلق أحد الفدائيين النار على أحد حراسنا منذ (12) يوما، فأصابه بجراح. وذلك على مقربة من إحدى القرى. فهاجم جندنا القرية، وأخرج سكانها. واختار من بينهم عشرة رجال تم إعدامهم فورا. وكانوا من العمال في المنجم المشهور. وارتاع سكان القرى، فأخلوها والتجأوا جميعا إلى القرى المجاورة. وكان السكان الأوروبيون يرون هذه الحادثة، وهم يذرفون الدموع لأن هؤلاء العمال الذين أعدموهم كانوا رفاقا لهم، وكانوا يعملون معهم جنبا إلى جنب في المنجم المذكور). لقد تم إعدام هؤلاء الرجال، وسواهم، من غير محاكمة، ومن غير تحقيق حقيقي. وقد تم في يوم 28 آذار - مارس - 1956 إعدام (32) رجلا بطريقة مريعة، فيما بين الظهر والغروب بدوار قرية (أولاد الباشا) وذلك بعد أن عذبوا بقسوة ووحشية حتى اختفت صور وجوههم، ولم يعد بالإمكان معرفتها لكثرة ما لحق بها من التورم والكسور. ولم يكن هؤلاء الرجال قد حملوا السلاح، أو شاركوا في الثورة، وإنما كانوا يعيشون في مشاتيهم ويمارسون أعمال الزراعة - الفلاحة - وهم آمنين وادعين فحملوا على المكاره حملا (¬1). ¬

_ (¬1) ضد أعمال التعذيب (بيير هنري سيمون) ص 85 - 87.

أكثر وحشية من النازيين والمغول (التتار)

2 - أكثر وحشية من النازيين والمغول (التتار) لقد عانت المرأة الجزائرية من قوة الإرهاب ما عانت. واحتملت من الأهوال فوق ما يحتمل. وكانت شريكة للجزائري الرجل، مجاهدا، أو فدائيا، أو مسبلا، أو حتى عاملا بسيطا وفلاحا متواضعا يعيش حياته في (مشتاه المنعزل). وإذا كانت المرأة الجزائرية قد تأثرت مباشرة بما يحدث من دمار شامل وإبادة عامة، تقع تحت سمعها وبصرها إن لم تكن هي ذاتها ضحية لها. فقد كانت هناك ممارسات أخرى لا تطالها مباشرة في بعض الأحيان، إلا أنها لم تكن بمعزل عن التأثر بها بصورة غير مباشرة. فقد مارس الاستعماريون الفرنسيون أعمال (التهدئة) بطرائق أكثر وحشية مما عرفه العالم عن طرائق النازيين والمغول (التتار). وقد أشارت المصادر الفرنسية ذاتها إلى بعض هذه الممارسات، وما لم يعرف هو أعظم وأرهب. وقد يكون من المناسب استقراء ملامح بعض هذه الممارسات (حتى لا ننسى): قال مجند فرنسي: إذا كانت هناك أعمال تتكرر باستمرار، في مجال التعذيب، فإن العمل الذي سأقصه عليكم لم يقع إلا بقلة، لكنني أريد تسجيله حتى تعلموا إلى أي درجة من الوحشية يستطيع أن

يصل بعض الناس، ففي الفترة ما بين 15 و 20 أيلول - سبتمبر - 1956، أوتي برجل قيل أنه مشتبه في أمره، إلى مركز القيادة العامة ونقل بعربة خفيفة - جيب عسكرية - وكان الجنود طوال الطريق يتبارون في تقطيع أجزاء جلد ذلك الرجل، وهو حي، وتمزيق قطع من لحمه. كنا نحن خلال هذه الفترة في (وادي الصومام). ولقد أوتي بثلاثة من الرجال، وأمروا بحفر حفر، ثم دفنوا فيها إلى العنق، وبقي رأسهم معرضا لوهج الشمس. ووضعوا أمام كل منهم وعاء فيها ماء يبعد عن فمهم مسافة نصف متر تقريبا، وقيل لهم أنهم لن ينالوا شيئا من الماء إلا إذا تكلموا. ولقد بقوا على تلك الحالة يومين كاملين، فلم ينبس اثنان منهم ببنت شفة. وأعدم اثنان وهما على تلك الحالة، أما الثالث فقد قال شيئا - آخر الأمر - إلا أنه أعدم أيضا إثر ذلك (¬1). (وفي قرية (الشريعة) أوتي برجل للتحقيق معه (استجوابه) فنزعت عنه كل ثيابه، وقيد من أكتافه، ثم ألقي على الأرض بعدما ضمخوا كل جسده بمعجون السكري (المربى) وبقي كذلك طوال اليوم معرضا لشمس شهر تموز - يوليو - اللاذعة، وكانت أسراب الذباب تروح وتغدو حول تلك الفريسة البشرية التي كانت عيناها تعبران عن جنون الألم. وقال لنا النقيب (الكابتن) بأنه إذا لم يعترف فسأطلق عليه سربا من النحل) (¬2). وجاء في مصدر آخر ما يلي: (لقد تعرفت على جماعة من ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 31 و 32. (¬2) مجلة (أسبري) الفرنسية، عند نيسان - أبريل - 1957 ص 581.

الطلبة الفرنسيين، الذين كانوا في حالة من الهياج القصوى. وكان أحدهم يتحدث بحرارة عن أعماله. وكيف أنه أتى بمدفعين رشاشين من النمسا، لقتل المسلمين. وقص علي مفاخرا أنه رأى بعينيه في جهة (باليسترو) أحد الضباط وهو يدلي من طائرة عمودية (هيليكوبتر) - بواسطة حبال - بعض المشتبه بأمرهم، ويهددهم بإسقاطهم على الأرض إن هم لم يتكلموا. ولما امتنع هؤلاء عن الإدلاء ولو بكلمة واحدة - رغم التهديد المرعب - عمل هذا الضابط على قطع الحبال، وسقط أولئك الناس، وسحقوا على الأرض. لقد كان في هذا درس صالح للسكان العرب) (¬1). يمكن في هذا المجال الإشارة إلى البلاغ الصادر عن القيادة العامة لجيش التحرير الجزائري - لولاية وهران يوم 10 أيار - مايو - 1957. والذي جاء فيه بالحرف ما يلي: (ان المجاهد العربي بن المهيدي الذي قبض عليه الفرنسيون أخيرا، لم يعترف بشيء أثناء الاستنطاق ولكنهم سلخوا جلدة رأسه في غرف التعذيب التابعة للبوليس الفرنسي، ثم لم يكفهم هذا، بل أدخلوا في فمه قضيبا من الحديد في أقصى درجات الاحمرار. فكانت النتيجة أن فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها إثر هذه العملية الوحشية التي تقشعر لهولها الأبدان. وقد كان هذا في مدينة الجزائر، والعقيد رحمه الله، كان من أشد الناس حماسة لقضية بلاده. وهناك وسيلة أخرى من نفس الوسائل السابقة تطبق الآن في مقاطعة (وهران). ففي يوم 3 كانون الثاني - يناير - 1957. سقط المجاهد أبو مدين محمد من دوار (أولاد حمو) من دائرة ¬

_ (¬1) ضد أعمال التعذيب (بيير هنري سيمون) ص 46.

(مونطانياك) أسيرا بيد العدو. فسيق إلى مدينة (تيران) ومن هناك إلى مركز الجندرمة. وفي داخل المركز المذكور، أوثقوه من رجليه إلى سقف الحجرة، وتركوا رأسه يتدلى، ثم طلبوا منه أن يدلهم على مخزن سلاح المجاهدين الموجود في تلك الناحية ولما فشلوا في محاولتهم تلك، أدخلوا رأسه في فرن ملتهب. فمات لساعته. وفي نفس اليوم، وفي المكان ذاته، قبض الفرسيون أيضا على المجاهد (محمد مصطفاوي بن عبد الله - من دوار بلغافر) دائرة (مونطانياك) وسيق كسابقه إلى مركز الجندرمة (الدرك). بمدينة (تيران). وبعد أنواع من الترويع والتعذيب حتى يحملوه على الاعتراف بما كانوا يريدونه منه، وبعدما عجزوا عن الوصول إلى مرادهم هذا. وضعوا في دبره أصبعا من الديناميت فجروه بواسطة مفجر كهربائي، فتمزق جسده في الحال إربا إربا .. وفي اليوم الخامس من شهر كانون الثاني - يناير - 1957. وفي قرية (الخميس) دائرة (مغنية) وفي الشاب المجاهد (أحمد جلاد ولد محمد الصغير) أسيرا، في إثر اشتباك بالقرب من القرية المذكورة، فأخذوه إلى مدينة (مغنية) ومنها إلى مركز القيادة العامة لفرقة المدفعية الثانية والعشرين. وهناك ربطوه إلى شجرة، وربطوا يديه إلى سيارة جيب. ثم أخذوا في استنطاقه وهو على هذه الحالة المؤلمة. ولما لم يجبهم عما سألوه عنه. أمروا جنديا من جنودهم بأن يسير بالسيارة، فانفصلت ذراعه الأولى، ثم أعيدت العملية، فانفصلت ذراعه الثانية. وحينذاك مات بعد أن ذاق ألوانا وأشكالا من العذاب المريع (¬1). ¬

_ (¬1) حرب الإبادة في الجزائر - مصلحة الدعاية والاستعلامات لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية - ص 55 - 56.

جاء في (مصدر فرنسي) (19) ما يلي: (جاءتنا دورية بأربعة من المشتبه بأمرهم - كما يزعمون - ولقد مر اثنان منهم حالا على غرفة المولد الكهربائي، فكنا طوال الليل نسمع صراخ الألم والاستغاثة يصدر عنهم. وهذه أول مرة تلجأ فيها فرقتنا الى أساليب التعذيب كوسيلة للاستجواب (الاستنطاق). ولقد حكى لي (ل) أنه حضر في قرية (هـ) منذ أيام، عدة عمليات تعذيب كهذه. فالعملية عبارة عن وضع سلك كهربائي في خصية الرجل، ووضع السلك الآخر في أذنه. ثم يقع إطلاق التيار الكهربائي على الرجل. وقال لي (ل) أن هذه العملية كانت تقع بحضور زوجة المشتبه فيه، والذي يتم تعذيبه) (¬1). وجاء في (مصدر فرنسي آخر) (¬2) ما يلي: (جاء فرقتنا أحد التراجمة. وقص علينا قصة عملية استجواب (استنطاق) وقعت أمامه في قرية (بئر غبالو) وهي العملية التقليدية - السلك الكهربائي في الأعضاء التناسلية، وإذا لم يجد ذلك نفعا انهالوا على المشتبه به ضربا بالسياط (الكرباج). ولقد أطلعنا المترجم على عدد من الصور الفوتوغرافية التي التقطها لجماعة من العرب وقد تمزقت جلود وجوههم من آثار الضرب. وتورم لحمهم من التعذيب. يا لها من تهدئة؟). وتستخدم السلطات الاستعمارية الإفرنسية هذه الوسائل الوحشية السافلة، ضد الصبيان أيضا. وقد جاء في تقرير. يحمل تاريخ يوم 28 كانون الثاني - جانفي - 1956 ما يلي: (إن ¬

_ (¬1) ضد أعمال التعذيب (بيير هنري سيمون) ص 80. (¬2) ملف (جان ميلير) مذكرات الجندي - ص 11.

صياح الخنزير الذي كانوا يذبحونه بالأمس، على الساعة التاسعة ليلا، لم يكن في الحقيقة إلا صراخ صبي كانوا يعذبونه. لقد استعملوا معه وسيلة السلك الكهربائي، لكنهم استبدلوا هذه المرة الخصيتين باليد. وقيل أن الصبي اعترف بأنه قد ذهب لأربعة رجال مسلحين يعلمهم بمرور فرقة فرنسية في المكان. هذا ما أعلمني به الملازم (س) ووجهه يتهلل بشرا. أما بالأمس، فقد سمعت عواء حسبته أول الأمر عواء ذئب عابر، لكن ذلك العواء استمر، وزاد، فرابني الأمر، وخرجت وأنا أرتدي المنامة (البيجاما) فأيقنت أن تلك الأصوات المنكرة كانت تصدر عن خيمة الملازم قائد الفصيلة، ففهمت حقيقة الأمر، لكنني قلت في نفسي؛ بأنه من المحال أن يستعملوا السلك الكهربائي مع الصبي، ولا ريب أنهم يحاولون الآن انتزاع اعتراف من الشيخ الذي يصحبه. ورجعت إلى خيمتي، وقد أمتلأ قلبي غضبا وألما. وأخذت أفكر عن غير وعي في أمر الصبي الذي سجنوه طوال الليل الماضي بعد أن قيدوه إلى مؤخرة سيارة الجيب. وتخيلته شارد الذهن، بادي الروع، وهو يشاهد عن كثب تعذيب الشيخ. وكاد قلبي يتمزق من الغيظ صبيحة اليوم إذ عرفت بأن عملية التعذيب كانت تقع على الصبي نفسه لا على الشيخ. ولم يكن باستطاعتي أن أذهب للصبي، وأن أحادثه، فهو لا يفهم اللغة الفرنسية، لكنني عملت عملا آخر. فقد ذهبت للصبي المعذب، وأخذت له صورة فوتوغرافية، إنها لصور بليغة يجب أن يراها الرفاق في فرنسا. وما كدت أصل حتى رأيت (س) وهو يخرج من الغرفة - مكان التعذب، فكاد قلبي يصعد إلى فمي، ولا أدري كيف تمالكت نفسي فلم أبصق على وجهه. يا له من وحش، لقد أصبح قلبه غلفا لكثرة ما مارسه من عمليات التعذيب، وما تعود على سماعه من

أصوات المعذبين، إنه ضابط تحقيق - استخبارات - ويصفونه بأنه من الأشداء) (¬1). وفي جهة (الأصنام) وعلى الطريق العام الذي يصل بين (الجزائر العاصمة) و (قسنطينة) أقامت إحدى الوحدات الفرنسية التابعة لكتيبة القناصة الأفريقية التاسعة عشرة (قفصا) للمشتبه بهم، هو عبارة عن حفرة في الأرض عمقها خمسة أو ستة أمتار، وعرضها أربعة امتار، وطولها عشرة أمتار. ولهذه الحفرة غطاء من الأسلاك الشائكة به فتحة لإنزال المعتقلين بواسطة سلم داخل الحفرة. ويكون عدد نزلاء هذا القفص من (10) حتى (60) رجلا بحسب نتيجة العمليات المحلية الجارية وليس هناك أية وقاية من الشمس والأنوار. ويستخدم الأسرى أثناء النهار في أعمال شتى، ثم ينزلون إلى الحفرة أثناء الليل. ويرفع السلم ليلا. ويوجد كذلك معسكر للمعتقلين (المشتبه بهم) بالقرب من قرية (مايو). أما في (باليسترو) فإن معسكر المعتقلين (المشتبه بهم) كان قائما داخل إحدى المزارع على مسافة كيلومترين من (باليسترو) وعلى حافة الطريق المؤدي إلى (البليدة) ويتباين عدد النزلاء في هذه المعسكرات بحسب مسيرة العمليات الجارية، ولكن عددهم قد يرتفع كثيرا كما حدث في آب - أغسطس - 1956 وكان المعتقلون (المشتبه بهم) يحتجزون في (أقبية النبيذ) المبنية بالإسمنت المسلح. ولم يكن لهذه الأقبية مدخل سوى فتحة واحدة، لا تتسع إلا لشخص واحد. وكان الناس يحشرون في هذا المضيق، ولا يسمح لهم بالخروج إلا مرة واحدة في اليوم، وفي ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون - ص 21.

كثير من الأحوال، مات عدد منهم مختنقين، بسبب اشتداد الحر، وكثرة عدد المعتقلين المحشورين في القبو، على نحو ما حدث في أوائل آب - أغسطس - 1956. وقد شهد أحد ضباط الصف كيف يعامل الجزائريون عند حشرهم في هذه الأقبية. حيث ينهال الجنود عليهم ضربا ولكما. ولما كانت هذه الأقبية عبارة عن حفر كبيرة فتحتها إلى أعلى، فإن المعتقلين كانوا يتعلقون بأصابعهم على حافة تلك الفتحة، عندما يتدلون إلى قاع الحفرة. وكان الجنود يرفهون عن أنفسهم بالضرب على أصابع الأسرى بأحذيتهم الغليظة. وكان استجواب الأسرى المعتقلين يتم بصورة إفرادية أثناء النهار، وينتهي الاستجواب عادة بإرسال المعتقل إلى غرفة التعذيب الكهربائي، ويطلق على هذا اللون من التعذيب الكهربائي لفظ (الهاتف - التلفون). وقد لوحظ أن هذا النوع من التعذيب الكهربائي لتعذيب المعتقلين غير كاف لبلوغ الهدف، فتم استبداله في يوم 18 آب - أغسطس - 1956 بمولد كهربائي قوي، يقوم باستخدامه عامل اللاسلكي في السرية الثانية من الكتيبة السادسة مشاة. وذكر أن أحد الأسرى - المعتقلين - قد صعقه التيار الكهربائي أثناء التعذيب، وفاضت روحه. ولقد تم توسيع سجون الثكنات توسيعا كبيرا. إلا أن هذه السجون لم تكن تتسع لأكثر من (140) أو (150) معتقلا - سجينا. وكان الفرنسيون يحشدون في الزنزانة التي تتسع لأربعة أشخاص (15) معتقلا لمدة أسابيع عديدة، وأحيانا كان يتم حشد (25) معتقلا، فكان لا بد من نوم المعتقلين وهم جلوس - القرفصاء - وكان في الزنزانة مسطبتان - دكتان - يحتلهما أكثر المعتقلين بؤسا وأكثرهم إعياء. ولم يكن غذاء الأسرى المحتجزين إلا فضلات

الجنود التي تقدم لهم في علب المربى الفارغة. وكان الجو داخل الزنزانة، مشمع برائحة الأجسام وبالرطوبة والحرارة المرتفعة، مما كان يضر بالرئتين - خصوصا في شهور حزيران وتموز وآب (يونيو ويوليو وأغسطس) وإذا اضطر أحد الأسرى أن يتبول ليلا، فهو يتبول في أحد الأركان، ويسيل البول إلى الخارج من تحت الباب) (¬1). واعترف مجند بما يلي: (نفذت عمليات كبرى في جبل (س) يوم 5 حزيران - يونيو - 1956. وقد بلغ عدد الضحايا من العرب (15) رجلا، على الرغم من أننا لم نعثر على واحد من الفلاقة (الثوار) ولم تطلق علينا طلقة واحدة. وكان رجالنا يطلقون النار من بنادقهم الرشاشة ومدافعهم بصورة منتظمة على القرية التي كنا سنجتازها بعد قليل. ففر جميع الأهالي ولجأوا إلى المغاور والأخاديد المجاورة، وعثر بعض الجنود على فريق من الأهلين الملتجئين إلى إحدى المغاور، وخرج أحد هؤلاء من المغارة رافعا يديه إلى أعلى، وعندئذ دخل جندي إلى المغارة وأطلق نيران بندقيته الرشاشة على جميع الموجودين وعددهم سبعة أشخاص فصرعهم. وبعد ذلك جرت أجسادهم إلى قاع الوادي. ولما مضى الجندي القاتل في سبيله، عثر على بعد خمسين مترا على أحد الفارين جريحا، فأجهز عليه برصاص بندقيته) (¬2). وذكر مجند ما يلي: (كان جرحى الثوار المصابون في الساق كثيرا ما يعجزون عن الهرب فيقعون في قبضة القوات الفرنسية. ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 690. (¬2) المصدر السابق. ص - 68.

وكانت جراح هؤلاء قابلة للشفاء، بالرغم من نزيف دمائهم، وبالرغم أيضا من الزرقة التي كانت تحيط بجراحهم بسبب برد الليل القارص. غير أن القوات الفرنسية كانت تجهز عليهم بطريقة قد لا يتصورها الإنسان الطبيعي. لكن الجزائريين كانوا يرون ذلك رأي العين. وقد برز في هذا الميدان - ميدان الوحشية المجرمة - عدد من القادة العسكريين الذين كانوا يتولون ما يطلق عليه اسم (إدارة عمليات التطهير) فإذا ما وجدوا جريحا، صوبوا أحذيتهم الثقيلة إلى جروحه حتى يموت من الألم. وكانوا يمزحون مزاحا فظا أثناء التقاط صورهم الفوتوغرافية مع هؤلاء الجرحى، حيث يقولون للجريح وهو في طور الاحتضار: ابتسم حتى تكون الصورة جميلة. ابتسم للعصفور الصغير ثم يسحبون سكينا من سكاكين المطبخ، ويشرعون في شحذه (سنه) على الصخر، على مشهد من الضحية - قبل أن يذبحوها ذبحا بطيئا ليس فيه شيء من أصول الذبح - الجزارة - ويبعدون النصل عن الضحية حتى يطول عذابها. وعندما تصبح هذه جثة هامدة، لا يعدم جلادوها نكتة يطلقونها عليها لتشييعها إلى الآخرة. وقد يضيفون إلى الذبح إطلاق رصاصة عن كثب على وجه الرجل حتى يصبح هذا الوجه كومة دموية مشوهة ليس لها وصف في قاموس البشاعة. ومما يذكر أن الفرنسيين قد قتلوا الأسرى، وفيهم أسير كان محتفطا بمقدار كاف من القوة ليحمل لهم على ظهره جهازا لاسلكيا ضخما طوال ساعات عديدة. وقد شاؤ وا أن يكون القتيل وسيلة لبث الرعب في نفوس الأهالي، فاستدعوا الفلاحين من القرى البعيدة للقيام بنقل جثث القتلى إلى أسفل الجبل على ظهور الخيل ودفنها في إحدى ثنيات الوادي، وتحت طبقة من التراب لا يزيد سمكها على

خمسة عشر سنتيمترا) (¬1). ومما قاله أحد المجندين: (قابلت عددا من الكهنة العسكريين القائمين بالخدمة الدينية في الجيش، وقد لاحظت أن لديهم معلومات واسعة عن هذا الموضوع، وأنهم يعتقدون أن من واجبهم التحدث عن الفظائع التي تصل إلى علمهم، مثل تقطيع الأسنان بالسكين أثناء الاستجواب (التحقيق) وترك المعتقلين ثمانية أيام في إحدى الأمكنة الضيقة حيث يكادون يختنقون من ضيق التنفس، ثم صب الماء عليهم لحملهم على الكلام أثناء استجوابات أخرى. وقد دلت جميع أقوال الشهود التي جمعتها كل يوم في الجزائر على أن (السيد فارس) أصاب كبد الحقيقة عندما وصف هذه الأعمال بأنها: (قتل يحميه القانون) وأن هذه الممارسات التي لا يزال بعض الناس يشكون في إمكان حدوثها - لا تليق إلا بالنازية البائدة -) (¬2). وهذا ما أكده ضابط فرنسي - من الفرقة العاشرة، في رسالة له بتاريخ 6 حزيران - يونيو - 1956. حيث ذكر ما يلي: (لم يصبني الملل من الحياة بمثل ما أصابني في هذه الأيام وأنا في الجزائر. فإن الألمان النازيين في وحشيتهم القاسية، ليسوا إلا أطفالا أمامنا. ولقد رأيت بعيني إجراءات المكتب الثاني - الاستخبارات العسكرية - لجنود المظلات الذين كانوا يعذبون المواطنين طول اليوم بأبشع الوسائل لإرغامهم على الكلام، وذلك بوضع ماسورة ¬

_ (¬1) مجلة (أسبري) الفرنسية - عدد نيسان - أبريل - 1957. (¬2) المجندون يشهدون. ص 48.

في فم الوطني تحت ضغط الماء حتى يخرج الماء من جميع منافذ الجسم، الأيدي مكتوفة وراء الظهر، ثم يعلق من رسغه حتى تخرج المفاصل عن مواضعها، فحينذاك ينهال عليه جنود المظلات ضربا لا هوادة فيه ولا رحمة، ثم بعد ذلك، إن لم يعترف بشيء مما يريدون الحصول عليه من المعلومات، حاولوا معه أساليب أشد فظاعة مثل وضع الكهرباء في رأسه ورجليه حتى يكاد يموت. وأخيرا، ينهالون عليه ضربا بالخنجر بين الكتفين) (¬1). ¬

_ (¬1) ضد أعمال التعذيب (بيير هنري سيمون) ص 78.

مدارس تعليم أساليب التعذيب

3 - مدارس تعليم أساليب التعذيب أنشأت القيادة العسكرية الفرنسية في الجزائر مدارس لتعليم أساليب التعذيب. وما لم يكن في البداية سوى ارتجال دموي، أصبح شيئا فشيئا منظمة لها ملاكاتها (كادراتها) وأساتذتها ومنفذوها، ويمكن القول: أن لها قوانينها أيضا. وهي تحمل اسما سريا يعرف بأحرفه الأولى (د. او. ب) وتمارس نشاطها في الجزائر - كالغستابو النازي ولكن بوحشية أكبر. ولهذه المنظمة تقاليدها وفروع اختصاصها ومخابرها ومعسكراتها. ويمكن الإشارة هنا إلى ما صرح به أحد الرهبان الذي خدم في الجزائر برتبة ضابط من صيف 1958 لغاية صيف 1959. وذلك عند الإدلاء بشهادته إلى (دار الشهادة المسيحية) حيث ذكر ما يلي: (كيف لا تقع المسؤولية على مجموعة الجهاز الرسمي، وهناك في مدرسة مثل (مدرسة سكيكدة) يقوم مركز التدريب على حرب التدمير. وكذلك في مدرسة معسكر (جان دارك) المزدحمة، حيث يشرحون لنا أثناء الدرس الدائر المعلومات المتعلقة بأساليب التعذيب الإنساني. وها هي بعض الملاحظات التي دونتها من دروس النقيب - الكابتن ل - خلال النصف الثاني من العام 1958. وكنا

أربعة ألوية، وقد أعطانا (النقيب ل) خمس نقاط دونتها بوضوح مع الاعتراضات والأجوبة: 1 - يجب أن يكون التعذيب نظيفا. 2 - ألا يجري على مرأى من الصغار. 3 - ألا يجري على مرأى من الفجار. 4 - أن يجري من قبل ضابط مسؤول. 5 - أن يكون إنسانيا. بمعنى أن يتوقف بمجرد اعتراف المعتقل الذي يتم استجوابه. وعلى الأخص ألا يترك التعذيب آثارا بهذه الشروط، وبالنتيجة، لكم الحق باستخدام الماء والكهرياء (¬1) وأضافت الصحيفة التي نشرت التصريح: (يستفاد من المعلومات الواردة إلينا أن هذه الدروس في موضوع - التعذيب الإنساني - ما زالت تلقى في (معسكرات جان دارك) ويحضر عملية التعذيب طبيب عسكري ليبين ردود فعل المستجوب على الصعيد الفيزيولوجي. وقد أعلن مؤخرا عن نقل الدروس من مدرسة (سكيكدة) إلى (أرزيو) الواقعة إلى الجنوب من ولاية وهران) (¬2). هذا التعذيب الذي أنشئت له مؤسسة خاصة، لم يلبث ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 18/ 12/ 1959. (¬2) نشرت صحيفة (لوموند) مجموعة تحقيقات عن التعذيب بشكل (مسلسل) من 10 - 21/ 12/ 1959. ويمكن الإشارة هنا إلى مجموعة الكتب التي صدرت في هذا الموضوع مثل (ضد أعمال التعذيب) لكاتبه (بيير هنري سيمون) وهو الكتاب الذي اعتمد على استجواب بعض من تعرضوا للتعذيب (بو معزة وفرنسيس وقبايلي وسوامي والقرح وسواهم) ونشرته (لجنة موريس أودن) وأثار ضجة كبيرة في الرأي العام الفرنسي والعالمي. وكذلك كتاب (حافط قرمان - المسالمة) وهو كتاب أسود عن الحرب الجزائرية في ستة أعوام، منشورات دار الشهادة المسيحية. وكذلك (عائدون من الجبهة يشهدون) و (المجندون يشهدون) الخ ...

المسؤولون الفرنسيون أن اعترفوا بوجوده في شيء من عدم الاكتراث واللامبالاة، فقد جاء في مقطع من التقرير السابع (لجمعية الصليب الأحمر الدولية) ما يلي: (أما عن التعذيب الواقع أثناء الاستجواب، فإن العقيد - الكولونيل - المسؤول في الدرك - الجندرمة - يعلل ذلك بأن مكافحة الإرهاب تجعل من الضروري اللجوء إلى بعض طرق الاستجواب التي تتيح وحدها الحفاظ على أرواح بشرية، ومنع وقوع اعتداءات جديدة. وهو يؤكد لنا مع ذلك أن هذه الأساليب مدخرة لبعض الحالات الخاصة على وجه الحصر، وأنها ليست عامة. وأنها لا تنفذ إلا على مسؤولية أحد الضباط) (¬1). وفي القضية المعروفة بقضية (يرادو) التي عذب أثناءها فريق من الجزائريين في مدينة (ليون) الفرنسية أكد الكاردينال (جيرلين) رئيس أساقفة إقليم (غول) وقوع التعذيب في فرنسا ذاتها. لقد افترضت تعليمات (مدارس التعذيب) أن يكون التعذيب نظيفا، لا يترك آثارا، وأن يتوقف، بمجرد اعتراف المعتقل. ولكن الممارسة العملية أكدت أن (التعذيب لم يكن نظيفا أبدا). كما أن التعذيب لم يكن يتوقف إلا عندما تنتهي حياة المعتقل الخاضع للتحقيق، في معظم الأحيان، والشواهد أكثر من أن تحصى. ويذكر ضابط، سببا من أسباب الانحرافات الإجرامية في التعذيب، بقوله: ¬

_ (¬1) صرح السيد (ماكس بتي بيير) يوم 18/ 6 / 1959 في رد على سؤال موجه إلى المجلس الاتحادي السويسري شأن تطوع المواطنين السويسريين في الفرقة الأجنبية الفرنسية بما يلي: (لا ريب أن أعمالا من القسوة قد اقترفت في الجزائر. الأمر الذي يجب أن يحمل السويسريين الذين تستميلهم الفرقة على التفكير ... إنهم يعرضون أنفسهم لأعمال يستنكرها الضمير) .

(رأيت ضباطا، لم يمر عليهم وقت حتى أصبحوا مهرة في فن التعذيب، من غير شفقة ولا رحمة. رأيت ضباطا مارسوا التعذيب، ولكثرة احترافهم له أصبحوا اختصاصيين فيه. وبعضهم سبق له أن مارس هذه المهنة، وأصبح يتلذذ فيها، كهذا الضابط الذي سبق له أن مارس التعذيب في (كوريا) وأصبح قائدا لفرقة اتخذت مركزا لها في أحد الجبال، واتخذ قائدها عملا له هو استجواب المواطنين المسلمين وتعذيب المشتبه بهم. وهؤلاء المشتبه بهم، هم كل جزائري تعثر عليه الدوريات في طريقها. وقد رأيت جندا يضربون هؤلاء المشبوهين، ويتنافسون في ضربهم مع رجال الدرك، حتى ان أيديهم ظلت منتفخة ثلاثة أيام. ثم أعادوا الكرة في أول فرصة. ومن المدهش أن في بلدة الشريعة حوضا خصصته فرقة (ج. م. ب. ر.) لتلقي فيه الأظافر المقلوعة، ولتستخدمه في عمليات النفخ بالماء. ومن الذي يجهل أن في مركز الشرطة في (تبسة) حجرة مظلمة للاستجواب حل محل طلاء جدرانها دم الأبرياء، وصبغ أسفل جدرانها بلون أحمر قاني لا يمحى. (¬1). وقال ضابط آخر في مذكرته اليومية بتاريخ 8 آذار - مارس - 1956 ما يلي: (قام الجنود، مساء هذا اليوم، ومعهم ملازم، بتعذيب المساجين، فصفعوهم بالأيدي وضربوهم بالعصي على ظهورهم، ورفسوهم بالأرجل تحت بطونهم، وأرغموهم على ابتلاع الماء بالقوة، وعلقوهم بعضهم من أيديهم وآخرون من أرجلهم، ثم ¬

_ (¬1) مجلة (اسبري) الفرنسية عدد نيسان - أبريل - 1957 ص 581.

أخذوا في استعراض هذا المنظر، متلذذين بسماع صياح ضحاياهم وأنينهم) (¬1). وكتب شاهد عيان ما يلي: (قام أحد المحققين باستجواب متهم (مشتبه بأمره) يوم 7 تموز - يوليو - 1956، وأرغم على النطق بكلمة (تحيا فرنسا) وصاح (تحيا فرنسا) مرة وثانية وثالثة الخ ... وأخيرا أرغموه أن ينادي (تحيا البطاطس المقلية) وقد عجز عن تكرار هذه الكلمات بسبب جهله اللغة الإفرنسية، وحينئذ قتلوه. وعلى بعد مائة كيلومتر من مدينة - قسنطينة - نظمت إحدى الفرق إدارة للاستخبارات في شهر أيلول سبتمبر - 1956 وجهزت مكتبين إضافيين أحدهما لبحث الاستعلامات والآخر للاستجواب والتعذيب والتحقيق. وجهز هذا المكتب بآلة (المحرض الكهربائي) و (الأنبوبة) و (التغريق) وسواها من الوسائل التي كثيرا ما أودت بحياة (المشتبه بهم). والمؤكد هو أن بعض الوحدات نظمت إدارات تحقيق واستعلامات خاصة بها، وجلبت الاختصاصيين في التعذيب، والخطر الفادح هو أنها تسببت في القضاء بسرعة على عدد كبير من (المشتبه بهم) ممن يلقي بهم قدرهم تحت رحمة الجلادين) (¬2). ... وتضمن مصدر فرنسي عرضا لأبرز أعمال (التعذيب النظيفة) وأساليبها بالقول: (يجب أن أحدثكم طويلا عن عمليات التعذيب، إنها عمليات ¬

_ (¬1) ضد أعمال التعذيب (بيير هنري سيمون) ص 81. (¬2) المجندون يشهدون. ص 32.

تقوم بها فرقة خاصة من المجندين تحت قيادة عشرة من الضباط وأربعة من صف الضباط، وهم يقولون إن التعذيب هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن من معرفة الحقيقة. وفي قرية (تابلاط) اجتاز نحوا من (150) عربيا مسلما من الذين يتهمون (بالاشباه بأمرهم) هذا الامتحان الرهيب، الذي تضمن العمليات التالية: - تسليط التيار الكهربائي على الخصيتين والأذنين. - وضع (المشتبه به) في قفص، تحت الشمس الحارقة. - وضع (المشتبه به) على عصا، ورفعه فوق فرس، وهو مقيد اليدين والقدمين. - الضرب المبرح بالسياط (الكرباج). - وضع يد الإنسان خلف الباب ثم إيصال الباب عليها والضغط بشدة. - قبض على رجل، وتقرر إرساله إلى الجزائر - العاصمة - لكنه قضى طوال الليل (تبابلاط) وقد أوثقوا كتفيه، وربطوا رجليه إلى شجرة، وأسندوا ظهره إلى سياج الأسلاك الشائكة، وسقوه كمية من مياه الغسيل القذرة. - بقي اثنان من أعز أصدقائي في (سريات) وشاهد العقيد - الكولونيل - من الفرقة (14 - ر. س. ب) وإلى جانبه اثنين من قادتنا وهم يستجوبون جماعة من العرب، جاء بهم المظليون. وقالوا عنهم أنهم من (المشتبه بأمرهم) وشملت عملية تعذيبهم - وضع السلك الكهربائي في المكانين المعلومين، وزادوا هذه المرة تضميخ الجسم بالماء حتى يكون تأثير التيار الكهربائي أقوى وأكبر، ثم أخذوا في إدخال سكين في جسم المشتبه بأمره شيئا فشيئا. وقد شاهدت أحد هؤلاء المعذبين وقد صبغته الدماء، وترك

ملقيا على الأرض طوال يوم وليلة. كما شاهدت أحد هؤلاء البؤساء وهو مشدود إلى طائرة عمودية - هيليكوبتر - ثم ألقت به الطائرة على الأرض من ارتفاع مائتي متر تقريبا. أما جميع المشتبه بأمرهم، والذين تم تعذيبهم بهذه الطريقة، فقد سلموا لجماعة جنود المظلات الذين أجهزوا عليهم جميعا، وبصورة فورية. فما أبعدنا عن (عمليات التهدئة) التي قالوا أنهم أتوا بنا إلى هنا من أجلها، إن قلوبنا لتكاد تتفجر غيظا، ونحن نرى هذا الدرك الأسفل الذي انحدرت إليه طبيعتنا البشرية، ويكاد يعترينا اليأس والقنوط عندما نرى جماعة من الفرنسيين يعمدون لارتكاب نفس الأسلوب الفظيع الذي كان النازيون يستعملونه بوحشية وقسوة. على أن القوم لم يكتفوا بهذه الأعمال؛ بل إن الشر قد غمرهم، فأصبحوا يريدون الشر من أجل الشر، فيزيدون على أعمال الفظاعة أعمالا هي السهول بعينه. وعلى سبيل المثال: جاء رجال فرقتنا إلى قائدهم برجلين من العرب، عثروا عليهما في المزارع. وقرر القائد أنهما من المشتبه بأمرهما، ولا أحد يعرف ما حمله على اتخاذ هذا القرار. وباشر القوم عملية التعذيب فورا، إذ لم ينتظروا تهيئة المولد الكهربائي، فانهالت أيدي رجال الفرقة ذات الخواتم الغليظة، وانهالت السواعد المفتولة، وانهالت الأرجل التي تحمل الأحذية ذات المسامير، انهالت كلها دفعة واحدة على وجهي الرجلين وعلى بطنيهما وعلى معدتيهما وكبديهما، واستمر هذا العمل إلى أن تخضبت الأرض بما برز فيها، وبما سال من جسديهما، وارغما عندئذ على الانحناء، من أجل لحس ما لصق بالأرض، ثم انهالت على وجهيهما وهما على هذه الحالة ضربات الأرجل ذات الأحذية المصفحة. ويظهر أن ذلك كله لم يكن كافيا، فارغما على نقل

حجارة ضخمة من مكان إلى مكان، لا لسبب، إلا لزيادة رشح الدماء التي كانت تسيل منهما. ثم جاء الليل، فأطلق سراحهما، لأنه تأكد للقائد أنهما لا يملكان أية معلومات مفيدة؟) (¬1). ومزيد من الأمثلة عن (مدارس التعذيب) على لسان أحد مجندي الجيش الفرنسي: بدأ الاستجواب والتعذيب عند القائد بصورة هادئة، ثم انتقل إلى الضرب باليد وبشدة حتى تعب القائد، فأخذ في استعمال عصا غليظة، وإذ لم تنفع هذه العملية مع (المشتبه به) فقد تم تحت (الدوش) أو - رشاش الماء - حيث مكان التعذيب الحقيقي المجهز بمولد الكهرباء وأدوات النفخ بالماء الخ ... واقتلاع الأظافر أثناء تلك العمليات، ووضع الملح مكان الأظافر المقلوعة، ووخز كل أجزاء الجسم بالأبر، واقتطاع أجزاء من الجلد بواسطة ملاقط الشعر. ولقد ربطوا أيدي (المشتبه بأمره) من رجليه وفق طريقة أطلقوا عليها اسم (وضع الضفدعة). ثم شدوه إلى السقف وهو على تلك الحالة، عاري الجسم تماما، وبقي كذلك ليلة كاملة، وهم يتعهدونه بتسليط الماء عليه حتى يتجمد من شدة البرد. وبين حين وآخر يأتيه (المحقق) ليحاول انتزاع اعتراف منه، دون جدوى، حتى مات الرجل. وهنالك (مشتبه آخر) اسمه (عامر بن الطيب - شيخ طريقة بقرية - ت) وقد استمروا في تعذيبه ثمانية ليال تباعا. وكانت عملية التعذيب تستمر حتى يشرف الشيخ على الموت، فيعملون عندها ¬

_ (¬1) مجلة (اسبري) الفرنسية - عدد نيسان - أبريل - 1957 ص 582 وكراس (الشهادات المسيحية) ص 18.

على إنعاشه بحقن، ليعودوا إلى تعذيبه من جديد. وهكذا إلى أن أصبح الرجل عجينة طرية بين أيديهم، وتعفنت أجزاء جسمه. فأجهزوا عليه، من غير أن يحصلوا منه على كلمة واحدة (¬1). وقال مجند في اعترافاته: (اليوم هو 25 أيلول - سبتمبر - 1956. وأنا الآن مع النقيب - الكابتن - وقد زالت بيني وبينه الحواجز الرسمية، إنه يباشر عمليات التعذيب بنفسه بعد ارتداء ثياب الألعاب الرياضية. ولقد رأيته مرة يعمل طوال ست ساعات مع اثنين فقط من (المشتبه بأمرهم). أما الأول منهما فقد بدأت معه عملية الضرب لمدة عشرين دقيقة، ثم بدأت عملية نفخ البطن بالماء حتى حد انفجار المعدة، ثم الضغط بواسطة اليد على جزء حساس جدا من الجسم (ويقولون أن هذه العملية ناجعة جدا) ثم الضرب المبرح على الوجه حتى يتورم وتتغير كل ملامحه. أما (المعتقل الثاني المشتبه بأمره) فقد قضى كذلك ثلاث ساعات أمام المحقق، وقد اقتلعت أظافر يديه، واستعمل معه التيار الكهربائي، وطبقت عليه وسائل تعذيب فيها تفنن وابتكار. وكان هذا النقيب قد جرب كل هذه الوسائل أثناء حرب فييتنام، ولديه خبرة واسة. ويقال إن لديه وسائل تعذيب هائلة لا تترك أثرا على الجسم) (¬2). وذكر مجند معترفا: (كان يوم الأحد الأخير مؤلما رهيبا. وكان العمل فيه هو استجواب (استنطاق) رجل اتهم بإنه من الثوار (الفلاقة) واستمرت عملية التعذيب من الثامنة صباحا حتى الساعة التاسعة ليلا. ولقد تفنن كل رجال فرقتنا المؤلفة من قدماء حرب ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 87. (¬2) المصدر السابق. ص 12.

الهند الصينية، في ابتكار وسائل التعذيب طوال اليوم مثل: تمزيق أوصال هذا الرجل، وتسليط العقارب عليه، ولم تترك وسيلة أو مادة إلا واستعملت، التيار الكهربائي والبنزين والإسمنت، والفلفل الأسمر والملح فوق الجروح ونفخ البطن بالماء، وضرب المعدة والوجه والخصيتين بالأحذية ذات المسامير. وإذ لم تنجح معه أية وسيلة، ولم يعترف بشيء، فقد أجهز عليه بأن ألقي في حفرة تجمع القاذورات (الغائط). يا للهول، لقد كنت استسيغ مرغما استعمال وسائل التعذيب من أجل الحصول على الحقيقة فذلك ويا للأسف من الوسائل اللازمة. أما استعمال جسم بشري كوسيلة من وسائل التسلية والتفنن في ابتكار وسائل التعذيب لمجرد اللهو العبث، فذلك هو الأمر الذي يمزق قلبي ويحطم نفسي، والأدهى من ذلك والأمر هو أن الذين يقومون بهذه العملية المنكرة القذرة، إنما هم شبان فرنسا الذين يبلغون من العمر عشرين عاما، والذين يمثلون الشباب الفرنسي كله. ويا لها من أوصاف وسجايا يتصف بها هذا الشباب وهو يمر بهذه المدرسة: الدناءة، والنذالة، والخسة، والوحشية هذه صورة من صور (طرائق التهدئة) وهذا هو فهمنا للشرف) (¬1). وجهت جمعية (الصليب الأحمر الدولية) في مستهل سنة 1960، تقريرا إلى الحكومة الفرنسية، أنقض ظهرها على ما يبدو، وقد نشر هذا التقرير بطريق التهريب. وكان فيما تضمنه التقرير على لسان - الملازم س - ما يلي: (لشد ما صدمني أن الناس - مدنيين وعسكريين - يتحدثون عن ذلك جهارا في غير ما ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 60.

حياء، حديثهم عن شيء طبيعي، أو عن فيلم سينمائي، أو عن مباراة في كرة القدم .. وهذه الفظائع التي عممت في الجيش، على وجه يملأ الصحف كل يوم، هي مقبولة ومعتبرة أمرا عاديا. الجميع يتكلمون عنها علانية، المدنيون في المقاهي والملاهي، والعسكريون في كتائبهم ومظابخهم، والجميع يستخفون .. هناك البحر الأبيض المتوسط بين الجزائر وفرنسا. وعلى كل حال فنحن أمة تعلم المدنية) (¬1). ... وكتب مجند في موضوع (مدرسة التعذيب) التي كان هدفها إبادة أكبر عدد من شعب الجزائر , (نصب الثائرون كمينا في الساعة السادسة من صباح يوم 2 حزيران - يونيو - 1956، وأسفر الكمين عن مقتل (14) من رجالنا. وتمكن الثائرون من الانسحاب بسلام. ولما لم تتمكن القوات الفرنسية من مجابهة الثائرين -كعادتها - فقد صبت جام غضها وانتقامها على المدنيين العزل. وهكذا، ففي الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، انطلقت مجموعات من الجنود - رفاق القتلى على ما يزعمون للانتقام لرفاقهم - وأخذوا يجوبون القرى الواقعة على مسافات قريبة من منطقة الكمين، وجمعوا ما أمكن لهم جمعه من الرجال، فاستحوذوا على (35) رجلا. ثم أوقفوا هؤلاء الرجال (المشتبه بأمرهم) ستة وراء ستة، في مزرعة قمح - بين السنابل - وبقوا ينتظرون على قارعة ¬

_ (¬1) يمكن هنا الإشارة إلى منكرات المظليين الذين يمعنون في التعذيب والذبح، بصورة خاصة، بعد سنة 1958 والتي تضمنها كتاب (بنواري) بعنوان (الذابحون) الصادر في باريس سنة 1961.

الطريق. وفي هذا الأثناء، مر بالطريق العام خمسة أو ستة من العمال الفلاحين العرب قاصدين سبيلهم، وكانوا يركبون عربة تحمل الحجارة، فما كان من جندنا إلا أن ألقوا القبض عليهم جميعا، وأوقفوهم مع المعتقلين الآخرين، بين سنابل القمح، وذلك رغم توسلات زوجة المقاول صاحب العربة - وهي فرنسية -وتأكيدها بأن هؤلاء أبرياء وأنهم يعملون مع زوجها المقاول. وبقيت أنظر ساعة كاملة مدى ما قاساه هؤلاء الناس من ضرب مبرح بالأرجل وأعقاب البنادق (الأخمص) على البطون والضلوع والوجوه، وسقط رجل منهم وقد أغمي عليه من شدة العذاب، فصبوا عليه وعاء ماء، وانهالوا عليه بضرب السياط - الكرباج - حتى ينهض من جديد ليتلقى المزيد من الضرب. لكن البعض منهم سقط ولم تنفع معه أية وسيلة لإنهاطه. وهكذا مات ثلاثة فورا أما الباقون فقد تبين أنهم أعدموا تلك العشية بمن كان معهم من نساء وأطفال. وكانت البيانات التي أمكن الحصول عليها بعد ذلك تؤيد صحة هذه الواقعة) (¬1). ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 68.

معسكرات الانتقاء والترحيل

4 - معسكرات الانتقاء والترحيل أقامت السلطات الاستعمارية الفرنسية ما أطلقت عليه أسماء (معسكرات الانتقاء والترحيل) و (معسكرات الاعتقال) و (معسكرات الإيواء) وذلك في إطار المحاولات لقمع الثورة الجزائرية. ولقي الجزائريون: رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، في هذه المعسكرات، مختلف صنوف التعذيب والبؤس والشقاء. وتلك التقارير التي وضعتها جمعية (الصليب الأحمر الدولية) وأذيع السابع منها في فرنسا (كانون الثاني - يناير - 1960) على غير علم من المنظمة، إنما جاءت في إثر عدد من الشهادات والتحقيقات لتؤلف قرارات اتهام موجهة ضد مجرمي الحرب الفرنسيين. وقد جاء في مقاطع من التقرير السابع - المشار إليه - ما يلي: (لقد خصصت البعثة زيارتين متتالتيتين لمعسكر (برج أم نايل) ففي 30/ 10/ 1960. وجدت المعتقلين في حالة رعب تام من الإرهاب. وقد توسلوا الى أعضاء البعثة ألا يبوحوا ببياناتهم، مخافة أن يضربوا أو يقتلوا انتقاما، وأتوا على ذكر ما لقوه من ضروب العنف والتعذيب أثناء استجوابهم في أمكنة قريبة من المعسكر ... ويظهر أنهم قبيل زيارتنا سارعوا فأقصوا عن المعسكر فجأة ستين معتقلا ممن

كانت حالتهم سيئة. ولقيت البعثة جريحا في زنزانة منفردة، فاتضح لها من تصريحات هذا الجريح الملقى على الأرض العراء، دون أن تضمد جراحه، أنه أثخن جراحا أثناء استجوابه. وكان متروكا بلا إسعاف منذ ثمان وأربعين ساعة. ومع أن المصير موجود منذ ثلاث سنين، فإن المعتقلين لا يملكون قصاعا ولا ملاعق أو سواها تحت تصرفهم، وهم يتناولون طعامهم في علب المحفوظات الغذائية. ونعتقد بأن الوضع البائس في هذا المعسكر إنما هو أمر مقصود، قضى به تنظيم خاص. أثناء زيارة (مركز ترحيل النخلات الخمس) تم اكتشاف زنزانة فيها ستة معتقلين، تبدو على ثلاثة منهم آثار رضوض حديثة العهد، وفي وسطهم تضطجع على الأرض العراء جثة رجل لفظ أنفاسه في الليل، بينما وقعت الزيارة في الساعة الحادية عشرة والنصف نهارا - 30، 11 - وقد طلبت البعثة شهادات الوفاة لخمس وقوعات حدثت بين 12 و18 تشرين الأول - اكتوبر - فتحقق لها أنها جميعا، تعزو الوفاة إلى سبب واحد: التسمم البطيء بالغازات السميلة للدموع. والأمر يتعلق برجال، أخرجوا قبل عدة أيام من أحد الكهوف باستخدام القذائف المسيلة للدموع. ويستخدم الجيش الفرنسي ما يسمى بالغازات المسيلة للدموع، ذات العيار الكثيف، وهي في الحقيقة مركبات - أمينودي كلورو أرسين - أعني أنها غازات ثقيلة جدا ومخربة للأنسجة الداخلية والخارجية ومحظور على المحاربين استعمالها. وعلى العموم، ففي هذه المعسكرات تحاشوا أن يعرضوا على أنظار أعضاء البعثة عددا من المعتقلين، رغم أن أسماءهم مدونة في سجل الاعتقال: لقد سلم هؤلاء الى (جيش الحملة في الريف) من أجل حمل الأثقال أو من أجل استخدامهم في (العمليات الحربية).

وحيثما استطاع المعتقلون أن يتحدثوا إلى أعضاء البعثة على انفراد، كانوا يشكون أنهم عذبوا، وعوملوا بالكهرباء أو بالماء. وفي مركز الانتقاء والترحيل في (تلاغ) على مقربة من (سيدي بو العباس) تظلم المعتقلون المكدسون في غرفة واحدة، من أنهم كبلوا طوال الليل بالسلاسل أو القيود في أرجلهم، وأنهم عوملوا بالعنف الشديد أثناء استجوابهم من قبل المكتب الثاني -الاستخبارات العسكرية - في المعسكر، مثل (التعليق بالأيدي المشدودة الى الظهر، والكهرباء، والماء، الخ ...). وكانت آثار الحبال التي شدوا بها بادية على أيدي عدد منهم. وشكا المعتقلون أن أرجلهم قيدت كل الليل بقيد من الخشب القاسي، وقد رأينا هذا القيد بأم العين لأنه لا يفارق غرفة المعتقلين. وفي معسكر (بوسوية): شكت البعثة أن موظفا في الاستعلامات العامة ملحقا بهذا المعسكر، كان يتبعها طوال المدة التي استغرقتها زيارتها. ومن الواضح أن مهمة هذا الموظف هي كشف أولئك الذين كنا نتحدث إليهم من المعتقلين) (¬1). يمكن أن يضاف الى معسكرات الانتقاء والترحيل أعمال الإبادة التي كانت معروفة باسم (سخرة الحطب) حيث كانت تأتي سيارة جيب عسكرية الى مكان تجمع الرهائن والمعتقلين، وينادي الحراس على أسماء الذين وقع الاختيار عليهم لكي يكونوا (ضحايا اليوم) - فيساقون الى سيارة الجيب، ويركبونها، ثم يسار بهم الى جبل مشرف على البحر، وهناك يتم إعدامهم. ومن العسير معرفة عدد الذين كانوا يقتلون أسبوعيا ضحايا (سخرة الحطب) بصورة ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 4/ 1/ 1961.

دقيقة. فهم على الأقل خمسة أو ستة كل أسبوع - في كل معسكر - أما الثوار (الفلاقة) الذين كانوا يقعون في الأسر وهم يرتدون اللباس العسكري (من مجاهدي جيش التحرير الوطني) فإن مصيرهم لم يكن أفضل من مصير الرهائن المعتقلين. وأذكر أنه قد وقع أسر سبعة من هؤلاء الرجال يوم 31 تشرين الأول - اكتوبر - 1956. فطافوا بهم المدينة تحت حراسة مشددة، ثم سلموهم بعد ذلك للفرقة التي أسرتهم. وقادتهم هذه الفرقة الى (سخرة الحطب) الشهيرة (¬1). وجاء في مصدر فرنسي: (ذهبت الجماعة الثالثة ومعها عشرين من المشتبه بهم، كلفوا (بجلب الحطب) وعندما وصلوا الى مضيق - بيكارت - المكان الذي وقع فيه كمين للثوار ضد الفرقة (2/ 117) والتي تركت (13) قتيلا في ميدان المعركة، أجهزوا عليهم رميا بالرصاص، في رؤوسهم، وتركوهم من غير أن يواروهم التراب، وأخبروا الدرك - الجندرمة - بأنهم قتلوا (20) أسيرا حاولوا الفرار وختمت هذه المأساة بالجملة التي نطق بها الرائد - الكومندان -: لقد أخذت بالثأر لرفاقكم؛ فهؤلاء هم العرب الذين قتلوهم، ولنفرض جدلا بأنهم لم يكونوا هم، فقد دفعوا الثمن بدلا عنهم) (¬2). وفيما ذكره أحد المجندين ما يلي: (ذكر لي بعض الجنود من فرقة المظليين الثانية، ومن الذين مضى عليهم وقت طويل في خدمة الجيش الاستعماري - الطريقة التي يتبعونها مع الموقوفين عند تكليفهم (بسخرة الحطب) حيث يكلفونهم أولا بحفر خندق في ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 79. (¬2) مذكرات الجندي (جان ميلير) ص 13.

الأرض ثم ينزلونهم فيه، وبعد قتلهم يردون فوقهم التراب، وينتهي الأمر هكذا ببساطة) (¬1). وأكمل مجند آخر - وصف الموقف بقوله: (ذكر لي (أ. ز) قائد الكتيبة التي أنتسب إليها أنه يشاهد منذ ثمانية أيام منظرا لا يحتمله بشر، فقد قتل رقيب أول فرنسي منذ ثمانية أيام، وجاء الفرنسيون بمن حفر خندقا ضيقا، وأخذوا يلقون فيه أعدادا من الرجال (المشتبه بأمرهم) أو الذين يتم إلقاء القبض عليهم أثناء عمليات البحث (التفتيش). ويقوم الجنود بالحراسة على حافة الخندق. وقد لاحظت أن هؤلاء الناس يصابون بالفزع عندما يدفعون الى الخندق، اذ يعرفون بأن هناك من قتل قبلهم بهذا المكان، حيث كانت أطراف الخندق تحمل علامات دموية ظاهرة جدا) (¬2). ¬

_ (¬1) المجندون يشهدون. ص 27. (¬2) المصدر السابق. ص 11.

معسكرات التجميع

5 - معسكرات التجميع أقامت السلطات الاستعمارية الفرنسية أيضا ما أطلقت عليه اسم (معسكرات التجميع) التي لم تكن إلا برهانا على أن فرنسا قد شنت في الجزائر حربها بأساليب شريرة وغير إنسانية يندر أن يوجد لها مثيل. فالتجميع بمقتضى المبدأ الذي يدين به، لا يعدو أن يكون تطبيقا لأسلوب بارع من أساليب إبادة العنصر. وعندما يضيفون على هذا الأسلوب ألوانا من نعوت التورية المشؤومة، كقولهم: (تجميع، ورص، وطي، وإزاحة القرى عن مكانها) فإن ذلك لا يعني في حقيقة الأمر سوى التهجير، والزج في المعتقلات، وعالم من البشر المحشور، ومعهد ادخار الذكريات البائسة الحزينة. ففي الوقت الذي يهدر حق الإنسان في بيته، وعاداته، وطراز عشه، والأرض التي اختارها ذووه ليقضوا فيها حياتهم، ويعهدوا اليه برفاتهم، في الوقت الذي يتضرر فريق من البشر جوعا ويتمزقون ألما، فتطفيء حياتهم بالموت البطيء، يقف المرء مذعورا أمام رسالة الهمجية التي استمر الاستعمار يخاطب بها الجزائريين طوال الحرب تحت سمع العالم وبصره. وفي موضوع (التجميعات، وأسبابها، والمسؤولية الإدارية المترتبة عليها) يقول التقرير الرسمي

الذي وضعه المحققون الفرنسيون، وأحيل إلى الحكومة الفرنسية (بأن جميع المراكز التي تناولتها الزيارة إنما أنشأتها السلطة العسكرية وحدها. والأسباب التي دعت الى اتخاذها هي دوما عسكرية صرف) (¬1). وإذن، ولما كان سبب التجمع عسكريا، ومنشؤه مجهولا بحكم انبثاقه عن قرار سام من الجيش الفرنسي، فقد بقي من الصعب معرفة العدد الدقيق لأولئك الذين أرسلوا إلى هذه المعسكرات ليكونوا على موعد مع الجوع والمرض والموت. وكان هناك إجماع في القول بأن هذه المعسكرات تفتت في بطء إنسانية تفوق مليون شخص، وقد جاء في التقرير الرسمي السالف الذكر: (أنه يبدو من الصعب أن نسلم بأن عدد المجمعين ينقص عن المليون) وذكر الأمين العام للإعانة الكاثوليكية الفرنسية في تقريره: (لقد اكتشفت أن هناك أكثر من مليون إنسان معظمهم من النساء والأولاد) ويضيف: (أنا أحد أصدقائي وهو مراقب ذو مكانة مرموقة يقدر أن الرقم الحقيقي الحالي للذين أقصوا عن ديارهم يزيد على مليون ونصف المليون (ولقد كان ¬

_ (¬1) الثورة الجرائرية والقانون - تأليف محمد البجاوي - دار اليقظة العربية - دمشق - ص 329 - 334 وفي ص (330) جاء ما يلي: (كأن التقرير أراد أن يظهر ما تنطوي عليه الكلمات من غموض بانتظار تغذية اللاحقيقة عن طريق الدعاية الرسمية التي تحرك الكلمات، فقال: (لا يعد إراديا) ذلك (التجمع) الذي يتم بسرعة كبيرة على يد واحدة مهما كانت السلطة التي ينتسبون إليها، ويجب أن يفيدوا من الضمانات عندما تتحرك القوات العسكرية لإقفال المنطقة وتطهيرها - الأرض المحروقة - وعلى العكس من ذلك يكون (إراديا) كل تجميع يتقرر اللجوء إليه في حالة عدم وجود عمليات واسعة النطاق تقوم بها القوة العسكرية المسؤولة عن المنطقة المعينة).

لهذه التجميعات آثارها المفجعة، فقد كانت ظروف الحياة في معسكرات التجميع قاسية جدا ثم، أليس استعمال (هذه العبارة ينطوي على الإساءة الى ذكرى الذين لفظوا أنفاسهم في هذه المعسكرات) هي بمقتضى الشهادات الرسمية نفسها جد مؤلمة. ولقد مارس الجيش الفرنسي والسلطات الاستعمارية الفرنسية في هذه المعسكرات نشاطات أخرى. فلقد كانت حوادث الاختفاء، والإعدام من غير محاكمة وفيرة كثيرة إلى درجة مذهلة. وكثيرا ما كانت ذريعة الإعدام هي الزعم الكاذب (بمحاولة الفرار) وقد عبر التقرير السابع لجميعة الصليب الأحمر الدولية عن قلقه في هذا الخصوص، فقال: (إن مشكلة الوفاة أثناء محاولة الهرب تستحق أن تدرس عن كثب، نظرا لكثرة الحوادث). وإن ما مارسه الجيش الفرنسي، واعترف به، من أعمال الجرف، وتخريب القرى، وإبادة السكان المدنيين، لمما يؤلف جرائم إبادة عنصرية مبيتة ضد الشعب الجزائري. وقد أعلن النائب (بيير كلوسترمان) في 13/ 5/ 1958 من على منبر الجمعية الوطنية الفرنسية (وكان قد اشترك في الحرب الجزائرية كطيار) فقال: (لكي لا يجد الفلاحون مأوى لهم في القرى أثناء ترحيلهم، ولكي لا يتمكن أبناء القبيلة الصغيرة من مساعدتهم، فقد اضطررنا الى القيام بعملية تطهير جوي ضد قرى هذه المنطقة). وإن مثل هذه الشهادة ليست وحيدة. وعلى العموم، فقد سلكت فرنسا في صراعها ضد الجزائر مسلك التحديد المستمر لجميع القيم الإنسانية. وظلت المحاولات المبذولة، طوال الحرب، لإضفاء السمة الإنسانية على هذا الصراع، عديمة الجدوى. لقد حاولت جمعية الصليب الأحمر الدولية التدخل في النزاع

القائم، من غير أن تحصل - للأسف - على نتائج مرضية. واذا ما أمكن تجاوز كل المحاولات التي بذلتها هذه المنظمة الحيادية، التي تتمتع بسلطة أدبية رفيعة طوال الفترة من سنة 1955 حتى سنة 1958، فإنه بالإمكان التعرض لما قدمته هذه المنظمة إلى الحكومة الفرنسية ولجنة التحرير الوطني في 28/ 5 / 1959، حيث عرضت مشروع اتفاق يتعهد فيه (طرفا النزاع) أن يحترما أحكام المادة الثالثة الواردة في كل من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وأن يتجنبا تدابير الثأر، وأن يعاملا الأسرى الذين يقعون في قبضة قواتهما معاملة إنسانية. وتنص المادة 3 المشار اليها على: (في حالة النزاع المسلح الذي لا يتسم بطابع دولي، فإن كلا من أطراف النزاع ملزم، على الأقل، بتطبيق الأحكام التالية: 1 - إن الأشخاص الذين لايشتركون مباشرة في الأعمال الحربية، بما فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا السلاح، والأشخاص الذين أخرجوا من المعركة بسبب المرض، أو الجراح أو الاعتقال، أو أي سبب آخر إنما يعاملون، في جميع الظروف، معاملة إنسانية دون أي تمييز ذي طابع ضار قائم على العرق أو اللون أو الدين أو العقيدة، أو الجنس، أو المولد، أو الثروة (أو أي معيار مماثل. وتحقيقا لهذه الغاية. يحرم، ويظل محرما، في كل زمان ومكان، أن تقترف تجاه الأشخاص السالفي الذكر الأفعال التالية: أ - الاعتداء على الحياة وعلى سلامة الجسم، ولا سيما القتل في جميع صوره، وبتر الأعضاء والمعاملة بالقسوة والتعذيب. ب - أخذ الرهائن. ج - الاعتداء على شرف الشخص، ولاسيما معاملة الإذلال والحط من القدر.

د - الإدانات المنطوق بها والإعدامات المنفذة دون محاكمة مسبقة، وحكم صادر عن محكمة منشأة، بصورة قانونية تتوافر فيها جميع الضمانات القضائية، التي تعدها الشعوب المتمدنة أمرا ضروريا. 2 - إن الجرحى والمرضى يجب إيواؤهم والعناية بهم. وتستطيع منظمة إنسانية محايدة كجمعية الصليب الأحمر الدولية أن تقدم خدماتها لأطراف النزاع. ومن جهة ثانية، يعمل أطراف النزاع على تطبيق باقي أحكام هذه الاتفاقية كلا أو بعضا عن طريق اتفاقات خاصة. لا يكون لتطبيق الأحكام السابقة أي تأثير في الوضع القانوني لأطراف النزاع (باعتبار أن فرنسا لم تكن تعترف بالصفة القانونية لجبهة التحرير الوطني، ثم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية واستمرت في التعامل مع الثوار الجزائريين على أنهم (فلاقة) عصاة، خارجين على السلطة الفرنسية) ورفضت فرنسا تطبيق هذه المادة التي كان يجب عليها تطبيقها من غير تدخل الهيئة الدولية. كما رفضت الحكومة الجزائرية تطبيقها. غير أنها تبنت، - من طرف واحد - عددا من التدابير التي لا تقتصر على تنفيذ مقترحات جمعية الصليب الأحمر الدولية، وحسب، وإنما تذهب الى مدى أبعد، لاسيما في مجال التعامل مع الأسرى في حين استمرت فرنسا في تجاهلها للمتطلبات الإنسانية، لا سيما فيما يتعلق بالخدمات الطبية والتعامل مع الجرحى.

الأسرى والجرحى

6 - الأسرى والجرحى أكدت الحكومة الجزائرية رسميا لمنظمة الصليب الأحمر الدولية، أنها ستمتنع عن كل بادرة من شأنها أن تزيد الحالة سوءا، علما بأنها ستجد نفسها مضطرة إلى استرداد حريتها في العمل إذا لم يبرهن الطرف الآخر في النزاع على تقيده بهذا النهح. تلك كانت خلاصة برقية أرسلتها جبهة التحرير الوطني إلى جمعية الصليب الأحمر الدولية في 13/ 5/ 1958. أي قبل أسبوعين من تاريخ مذكرة الجمعية المشار إليها. وهذه البرقية أكدتها بعد 28 أيار - مايو - عدة رسائل شفوية عن طريق المندوب الدائم للهلال الأحمر الجزائري لدى جمعية الصليب الأحمر الدولية، تؤلف إلى حد ما شريعة الطرفين، وهما الصليب الأحمر الدولي والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وهكذا فقد قامت بين الطرفين المتحاربين هدنة (التوقف عن تنفيذ أحكام الإعدام) واستمرت قرابة خمسة أشهر. ولما عادت فرنسا إلى تنفيذ حكم الإعدام، عمدت الحكومة الجزائرية إلى إنذار جمعية الصليب الأحمر الدولية عدة مرات، اضطرت بعدها إلى استعادة حريتها في التصرف. أصدرت الحكومة الجزائرية مرسوما في 4/ 10/ 1958،

قضى بإطلاق سراح أسرى الحرب بلا قيد أو شرط. وكانت تأمل من وراء هذه المبادأة أن ترى الجانب الفرنسي يطبق المبادىء الإنسانية بصورة تدريجية على النزاع القائم. وأطلقت سراح خمسين فرنسيا على دفعات متتالية - تنفيذا لهذا المرسوم. وقد أعلن هؤلاء الأسرى للعالم بأن قوانين الحرب مصونة الشرف على ذرى الجزائر الحرة. وكانت النتيجة من الجانب الفرنسي أن المقاتلين الجزائريين الواقعين في الأسر، لم يعاملوا بمقتضى (قانون أسرى الحرب). ولم يكتف الجيش الفرنسي بذلك، بل بذل غاية الجهد حتى يصطدم بالوحدات الجزائرية، ويحاول الفتك بها عندما كانت تتجه بالأسرى الفرنسيين عبر الحدود التونسية أو المغربية، لأن الحكومة الجزائرية كانت تعلن عن إطلاق سراحهم مسبقا قبل عدة أيام ولكي تتقي الحكومة الجزائرية هذا الخطر، اضطرت في بعض الحالات إلى العزوف عن الإعلان المسبق، وآثرت أن يتم اطلاق سراح الأسرى بصورة مفاجئة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فقد وجه قادة الثورة عناية خاصة إلى حالة مؤلمة، هي حالة الشبان الأجانب الذين كانت السلطات الفرنسية تجندهم في الفرقة الأجنبية بغير رضائهم التام. وقد أثيرت فضيحة التجنيد التعسفي في الفرقة الأجنبية في كل من ألمانيا وبلجيكا، حيث عبرت عنها حملة شديدة في الصحافة، واستجوابات عديدة في البرلمان البلجيكي، وتبع ذلك بذل مساع رسمية لدى ممثلي الحكومة الفرنسية لإيقاف هذه العملية كما أثيرت الفضيحة ذاتها في سويسرا وفي المجلس الوطني الهلفيني يوم 18/ 6/ 1956. وقد عملت جبهة التحرير الوطني الجزائري من جانبها على تنظيم عدد من المكاتب واجبها إعادة هؤلاء الجنود الفتيان إلى أوطانهم. وفي 23/ 7/ 1960 بلغ عدد هؤلاء المعادين

إلى أوطانهم عبر الحدود الغربية للجزائر وحدها (3299) جنديا. منهم (2071 - ألمانيا) و (439 - إسبانيا) و (447 - إيطاليا) و (87 - مجريا) و (42 - يوغوسلافيا) و (41 - بلجيكيا) و (43 - سويسريا) و (29 - نمساويا) و (17 - هولانديا) و (16 - اسكندينافيا) و (9 - إنكليز) و (7 - من لوكسمبرغ) و (5 - أمريكيين، اثنان من الولايات المتحدة وثلاثة من أمريكا الجنوبية) و (3 - يونانيين) وواحد من كوريا وواحد من بلغاريا. لقد أجرت الحكومة الجزائرية عدة مخابرات واتصالات مع جمعية الصليب الأحمر الدولية، أبلغتها بمقتضاها أن الحالة في الجزائر، قد وصلت حدا من الخطورة، يجعل طلب تطبيق المادة الثالثة من الاتفاقيات غير كاف، ومتخطى. وقد اقترحت الحكومة الجزائرية إبرام اتفاق خاص بين المتحاربين تحت إشراف جمعية الصليب الأحمر الدولية، من أجل تسوية مجموعة من المشاكل الإنسانية المتولدة عن حرب الجزائر. ولو أن الحكومة الفرنسية قبلت إبرام هذا (الاتفاق الخاص) لأدى ذلك إلى تنظيم عدة أمور منها: - حظر أساليب الحرب غير الإنسانية، وطرق الإكراه المعنوي (التعذيب، النابالم، الغاز، غسيل الدماغ، الخ ...). - حماية السكان المدنيين (منع عمليات الجرف، والقصف بالقنابل لإزالة القرى، وتحريم ترحيل الأشخاص القسري جماعات أو أفرادا، بمقتضى المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، وإلغاء معسكرات التجميع). - إسعاف الجرحى والمرضى (¬1). ¬

_ (¬1) غير خاف أن عددا كبيرا من الجرحى والمرضى الجزائريين كانوا يهلكون في الأدغال =

- نظام المحاربين الواقعين في الأسر من كلي الطرفين. إسعاف الأشخاص المعتقلين في المنظمات العاملة في الاعتقال والتعذيب وفي معسكرات الاعتقال. ولقد كررت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية عروضها مرات عديدة من أجل إبرام اتفاق خاص من هذا النوع. ولكن جمعية الصليب الأحمر الدولية لم تتمكن من الحصول على موافقة الحكومة الإفرنسية على مثل هذا الإجراء أخيرا، اتخذت الحكومة الجزائرية المؤقتة قرارها بالانضمام إلى اتفاقيات جنيف الأربع في 20/ 6/ 1960. ولقد دعت الضرورة حكومة الجزائر إلى أن تتحرى وسائل مختلفة من أجل حمل فرنسا على احترام قوانين الحرب وقد تحقق هذا الغرض بانضمام الجمهورية الجزائرية إلى اتفاقيات جنيف. وأصبح بالإمكان اعتبارا من هذا التاريخ وضع الصراع الفرنسي - الجزائري وجها لوجه من فريقين كلاهما موقع على اتفاقيات جنيف. ولكن،

_ = لعدم وجود القدر الكافي من الأدوية بعد أن راحت الحكومة الفرنسية تمنع بيعها في الجزائر قرارات أصدرتها عام 1953 و1956 و1957 خلافا لجميع القواعد الإنسانية. ويمكن الرجوع بصورة خاصة إلى القرار الصادر بتاريخ 21/ 11/ 1955 (بتنظيم ورقابة مختلف المستحضرت والمواد المتعلقة بالصحة العامة - الجريدة الرسمية للجزائر تصدرها فرنسا 25/ 11/ 1955 ص 2224) والحقيقة أن القرار لا ينظم بل يحظر دون قيد أو شرط (المادتان 1 و2) شراء بعض الأدوية من خارج الجزائر وتخزينها في الجزائر، ولا سيما المضادات الحيوية، ومستحضرات السولفاميد والمصول واللقاحات والضمادات كالقطن المعقم الخ ... مما تضمنه الجدولان الملحقان بالقرار. كما يمكن الرجوع أيضا إلى القرارين الصادرين عن الحاكم العام في 21/ 11/ 1955 نفسه ص 2225 وكذلك أيضا القرار المؤرخ 24/ 10/ 1955 في المصدر بشأن: (استيراد بعض الأدوية والمستحضرات الكيميائية والعقاقير البسيطة والضمادات إلى الجزائر) (الجريدة الرسمية للجزائر 28/ 10/ 1955 ص 2096).

وعلى الرغم من ذلك. فقد استمرت فرنسا في ممارساتها الإجرامية. ولم تتوقف سلطاتها وقوادها عن متابعة أعمال التعذيب، وإقامة معسكرات التجميع، والإعدامات المختصرة من غير محاكمة، وارتكاب الفظائع المختلفة واستمرت أيضا في التعامل مع (المسبلين - أو الأنصار) ومع (الفدائيين بالمدن) باعتبارهم إرهابيين، لا تنطبق عليهم شروط أسرى الحرب. مع العلم أن المذكرة التي أصدرها المركز القانوني للأنصار خلال الحرب العالمية الثانية، والتي صدرت على أثرها مذكرة عن جمعية الصليب الأحمر الدولية في 17/ 8/ 1944 إلى جميع المحاربين، طلبت فيها اعتبار أمثال هؤلاء المقاتلين أسرى حرب، مثلهم كمثل الجنود في القوات المسلحة سواء بسواء. وبقيت الحرب الجزائرية نموذجا فريدا بين الحروب، في قسوتها ووحشيتها، في بعدها عن كل القيم الحضارية والمفاهيم الإنسانية. لقد أرادتها فرنسا حرب مصير ووجود، وقبل الشعب الجزائري وقيادته الثورية التحدي الثقيل، بكل ما يتضمنه من جهود وتضحيات. وانتصر الشعب الجزائري في الرهان المصيري. غير أن طبيعة هذه الحرب الوحشية لم تمر دون أحداث مثيرة، ولعل أبرز ما في إثارتها هو أنها اكتسبت أنصارا لها ومؤيدين في وسط الأعداء ذاتهم.

ملحقات ضد الاستعمار وأساليبه الهمجية

7 - ملحقات ضد الاستعمار وأساليبه الهمجية لم تعدم الثورة الجزائرية، منذ مراحلها الأولى، أن تجد لها أنصارا في وسط الشعب الإفرنسي. غير أن الاتجاه الاستعماري بقي هو المهيمن على السلطة، فكانت أصوات الاحتجاج ضعيفة متخاذلة، ثم أخذت في الانتظام والتعاظم حتى شكلت تيارا قويا. وكانت عدالة القضية في حد ذاتها، ثم أساليب القمع الوحشية، المثيرة لأبسط المشاعر الإنسانية، وما يقابلها من صمود رائع أظهره مجاهدو شعب الجزائر فاكتسبوا إعجاب العالم الذي سيبقى أبدا مشدودا إلى البطولات الأسطورية، كل ذلك أحدث انشقاقا في الرأي العام الفرنسي. وهو انشقاق سيستمر طويلا محورا للجدل والنقاش. وإذا كان من العسير عرض كل الشواهد المتوافرة في هذا المضمار، والتي تعبر عن ظواهر الخير والشر في المجتمع الواحد. فإن اللجوء إلى بعض القراءات (الملحقات) كافية لإبراز مثل هذه المواقف التي يمكن وصفها (بالإنسانية) أو وصفها أيضا (بالنظرة البعيدة للتطور المتوقع - والرغبة في تبديل العلاقات الاستعمارية القديمة بعلاقات استعمارية متطورة). وتبقى إرادة الشعوب هي الحكم في تقويم العلاقات الصحيحة والسليمة:

الملحق (أ) شخصيات فرنسية ضد الهمجية الاستعمارية

الملحق (أ) شخصيات فرنسية ضد الهمجية الاستعمارية (*) لقد كلف عدد كبير من شبابنا من جنود نظاميين، أو ممن استدعوا للخدمة من الاحتياطي، بالاشتراك في حرب الجزائر باسم الشعب الفرنسي. وهي كما ترون مهمة شاقة وعسيرة، غير أننا قد تسلمنا منذ أكثر من عام عددا كبيرا من المعلومات الصحيحة التي تستند إلى شهادات لا يرقى إليها الشك، وهي تؤكد بأن هؤلاء الجنود الشبان قد أرغموا على الاشتراك في الأعمال العدوانية التي لا يمكن أن يقلبها أي ضمير إنساني إن الأمر لا يتعلق بحوادث، هي على الرغم من تعددها، يمكن أن تعتبر حوادث فردية، ولكن يتعلق بطريقة اتبعت على شكل واسع، ونعني بها اللجوء إلى تعذيب الأسرى الذين يتم إلقاء القبض عليهم وهم يحملون السلاح. فهم باعتبارهم (ثوارا) لا تطبق عليهم الضمانات التي تعترف بها معاهدة جنيف لجنود الأعداء، ولا الحقوق التي تضمنها قوانيننا للمواطن الفرنسي. كما أن الأمر يتعلق أيضا بتنفيذ الإعدام الفوري على الأبرياء ممن يؤخذون (رهائن) أو بأعمال القسوة والسلب والنهب وتدمير قرى بأسرها على سبيل التخويف والأخذ بالثأر. ... - لقد وقع هذا البيان (375) شخصا من الشخصيات البارزة في

_ (*) صحيفة (لوموند) الفرنسية في 22 آذار - مارس - 1957.

الملحق (ب) قرار عن الجزائر في اجتماع الكرادلة وكبار الأساقفة

المجتمع الفرنسي وكان من بينهم: الدكتور لويس، روجيه ميهل، لوك أستانج، جوزيف فولييه أجولا بول فريس، موريس دو جانديلاك، الاب جولي، رينيه جوليار موريس لاكروا، اندريه لاترييل، الاب فارييون، لويس ماسيبيون فرانسوا مورياك، مدام بوليت مونييه، اندريه فيليب، الأب ريتيف بول ريكور، دافيد روسيه، الأب اندريه مونييه، الأب بيير تروكميه الأب فاريبون، هوريس فوسار، فيليب فياني. الملحق (ب) قرار عن الجزائر في اجتماع الكرادلة وكبار الأساقفة (*) نشرت أمانة سر الأسقفية صباح اليوم القرار الآتي الذي تم الاتفاق عليه في اجتماع الكرادلة، وكبار الأساقفة، الذي انتهت آخر جلساته بعد ظهر الخميس في (باريس). (لقد تقرر بطريقة قاطعة الامتناع عن اتخاذ أي قرارات سياسية فيما يتعلق بالمشكلة الجزائرية. ويوجه مؤتمر الكرادلة وكبار الأساقفة نصيحته هذه إلى جميع من أصابتهم حوادث الجزائر المؤلمة في صميم أفئدتهم وأبدانهم، فمنذ خريف عام 1955،

_ (*) صحيفة (لوموند) الفرنسية في 16 - آذار - مارس - 1957.

وجه أساقفة الجزائر خطابا مشتركا، اتبع بقرار اتخذه جميع الكرادلة وكبار الأساقفة، تعرض فيه للمبادىء التي يجب أن يستنير بها المسيحيون للحكم على الحوادث، ويسترشدوا بها لاتباع الطريق السوي. إن الآلام التي تنتج عن الخلاف القائم، يخشى أن تؤدي إلى أوخم العواقب، وأن تضر بكل محاولة لتسوية المشكلة بطريقة عادلة، وقد يترتب عنها، عند البعض، فقدان تام للاحترام الواجب للكرامة الإنسانية، كما يترتب عنها عند الآخرين اضطرابات وشكوك قد تؤدي إلى إعادة النظر في الواجبات المبدئية نحو الوطن. إن الحقد لا يجب أن يجد له مكانا في قلب المؤمن، وهو بالأحرى لا يمكن أن يستعمل حجة للقيام بأعمال إرهابية عمياء، يكون ضحاياها الأبرياء، أو إلى القيام بمظاهرات دامية لمقاومة الإرهاب. إن هذه الطريقة الشنيعة المكروهة يخشى منها أن تخلق عوائق وعقبات لا يمكن التغلب عليها في الطريق المشروع الطويل الأجل الذي يقوم عليه مستقبل الجزائر. وما سبق للأسقفية أن أكدته مرارا، وكما يشهد بذلك تدخلها المتكرر لدى السلطات المسؤولة، فإن كل من تكون مهمته حماية الأفراد والأموال ملزم بأن يحترم الكرامة الإنسانية، وأن يمتنع البتة عن كل إجراءات تحرمها الشريعة الطبيعية والقانون الإلهي. وهي إجراءات كثيرا ما اعترضت عليها السلطات العامة. وبالنسبة للأزمة الحالية، فإننا جميعا وكل منا على انفراد، يجب أن يتذكر في كل وقت بأنه لا يمكن أن يسمح له بأي حال من الأحوال أن يستخدم طرقا وأساليب مستهجنة في ذاتها، ولو كان ذلك في سبيل قضية محمودة. وفي وسط كل هذا الاضطراب والقلق، ما زال هناك سبب كبير

الملحق (ج) خطاب من الأستاذ رينيه إلى وزير التربية الوطنية الفرنسي

للأمل، إن العلاقات الودية بين مختلف الطوائف لم تنقطع بعد، والاتصالات ما زالت عديدة بين المسيحيين والمسلمين والإسرائيليين، وإن الجهود التي تبذل للتفاهم المشترك وروح التسامح عن الإهانة، والرغبة في التعاون للمصلحة العامة المشتركة، كل هذه فيها دلالة كافية وأكيدة على أن هناك محاولات حقيقية للتعاون والاتحاد. إن كرادلة فرنسا وكبار أساقفتها، يجددون نداءهم لتقديم صلوات حارة، وابتهالات إلى الله حتى تتحد كلمة جميع ذوي النوايا الطيبة والأماني الحقيقية، ويقوم سلام حقيقي على أسس عادلة مقبولة). الملحق (ج) خطاب من الأستاذ رينيه إلى وزير التربية الوطنية الفرنسي (¬1) سيدي الوزير! علمت الآن عن طريق الإذاعة أن (علي بو منجل) قد انتحر بمدينة (الجزائر) بأن ألقى بنفسه من أعلى سطح إحدى العمارات حتى يتخلص من طريقة الاستجواب التي كان سيتعرض لها. لقد كان (علي بو منجل) أحد تلاميذي في كلية الحقوق بالجزائر، حينما كنت أدير حركة المقاومة في شمال أفريقيا وقد هزني خبر وفاته، في مثل هذه الظروف، وإن هذا الخبر ¬

_ (¬1) - (لوموند) الفرنسية في 26 آذار - مارس - 1957.

الملحق (د) الجنرال (دو بولارديير) يستقيل من قيادته

ليؤكد بما لا يدع مجالا للشك، وبطريقة مؤلمة، ما قرأته منذ أيام في كتاب (هنري بيير سيمون - ضد أعمال التعذيب). وطالما أن مثل هذه الطرق التي لم نتبعها قط حتى مع الأسرى الألمان في الحرب الأخيرة، سوف يسمح باتباعها أو بتطبيقها ضد الجزائريين بمعرفة حكومة بلادي، فإنه لن يكون في استطاعتي أن أستمر في التدريس بكلية الحقوق الفرنسية. وإني لذلك سأضطر إلى إيقاف تلقين الدروس فيها. أقلني إذا رغبت في ذاك، أو إذا استطعت ذلك، إني سوف أتقبل بامتنان كل ما يمكن أن يؤدي إلى نشر اعتراضي على وقائع يمكن أن تدنس شرف فرنسا إذا ما اتخذت موقفا سلبيا تجاهها. رينيه كابيتان أستاذ في كلية حقوق باريس وزير المعارف السابق في وزارة الجنرال (ديغول) الملحق (د) الجنرال (دو بولارديير) يستقيل من قيادته (*)؟ طلب الجنرال (باري - دو بولارديير) الحامل لوسام جوقة الشرف بدرجة ضابط، وزميل التحرير، وقائد منطقة عمليات في الجزائر إعفاءه من مركز قيادته.

_ (*) صحيفة (لوموند) الفرنسية في 29 - آذار - مارس - 1957.

فبعد أن شرح أسباب القرار الذي دفعه إلى الوزير المقيم بالجزائر، السيد (دوبير لاكوست) وإلى الجنرال (سالان) القائد العام. سلم الجنرال (دو بولارديير) قيادة منطقة الأطلس البليدي التي كان مسؤولا عنها، ورجع إلى فرنسا. وقد عجب كثير من الفرنسيين ذوي النيات الحسنة، وأبدوا استياءهم من البيانات التي قدمت لهم بطريقة رسمية على أنها حملة مغرضة من رجال الفكر والمسيحيين الذين يسهل إثارتهم والتأثير عليهم، وإن لم يكن الأمر متعلقا بتحريضات شيوعية. وعلى كل، فإن النتيجة كانت واحدة في الحالتين الهبوط بالروح المعنوية للجيش والأمة لمصلحة الخطط الإجرامية لجبهة التحرير الوطني. إلا أن (رسالة القوات المسلحة) كانت تؤكد بأن بعض الضباط الذين يحاربون في الجزائر، من مختلف الطبقات، ومن ذوي التاريخ الحربي المجيد، قد أظهروا خيبة أملهم تجاه بعض عمليات البحث عن الإرهابيين فقد جاء في هذه الرسالة (إن النخبة الممتازة من الضباط دوي الماضي الأدبي يأنفون من أداء هذه المهمة الدنيئة وغير المجدية). واليوم! نرى رئيسا من بينهم، له ماض ساطع مشرف، يحذر المسؤولين برفضه القاطع لتنفيذ الأوامر الصادرة إليه. واتباع الطرد التي يراها غير مقبولة في نظره. وقد أبدى غيره من قبل إلى الرؤساء المباشرين أراءهم بأن المشكلة التي تواجهها قوات المحافظة على الأمن، هي مشكلة لا يمكن حلها، ما لم تتوافر للقوات معاونة حقيقية وفعالة من قبل السكان، وأن عمليات القمع الأعمى إن هي إلا مجازفة سوف تؤدي بنا عاجلا أو آجلا إلى اتباع سياسة (إبادة الشعب الجزائري) أو (الاستسلام لمطالبه).

إن الجنرال (باري - دو بولارديير) قد عمل حسابا لخطورة القرار الذي اتخذه، وقدر ما سوف يترتب عليه من رد فعل عميق. وهذا القرار إنما يدل ببساطة أنه باستطاعة الإنسان أن يكون في وقت واحد (رجل حرب) وأن يرفض، من أجل الوصول إلى نتائج قريبة وعاجلة، التضحية بالقيم الأخلاقية التي تكون عظمة الجيوش، وتضمن مستقبل المدنية التي هي حاميتها. ***

الكلمة الأخيرة

8 - الكلمة الأخيرة تثير الحروب بصورة عامة نوعا من التخلخل الاجتماعي، الذي بات معروفا لعلماء النفس والاجتماع، فالتأرجح بين الضغوط العالية والاسترخاء أو الهمود المنخفض، والعيش تحت ظروف التوتر الشديد، يترك في النفس عصابات قد تصل إلى حدود مرضية خطيرة في أحيان كثيرة يضاف إلى ذلك ويلات الحرب ومآسيها والقلق على المصير وفقد الأهل والأحباء ومعاناة الجوع والمرض، وأهوال التخريب والدمار والتشرد، كل ذلك مما يترك أشكالا مختلفة من الجنوح غير السوي. فكيف الأمر بالحروب الاستعمارية التي تتعاظم في أهوالها ومصائبها على كل أشكال الحروب التقليدية؟ ثم كيف الأمر بالنسبة للاستعمار الفرنسي بالذات، والاستعمار الفرنسي للجزائر منه بصورة خاصة؟ لقد أظهرت الصفحات السابقة بعض ملامح (المأساة الجزائرية). وهي مأساة تبقى على الرغم من كل ما كتب عنها، وعلى الرغم من كل ما أمكن معرفته عنها، غامضة في كثير من جوانبها. وهنا، لا بد من القول على ضوء ما سبق عرضه - بأنه إذا ما كان من شأن الحرب، وكل حرب، إثارة اضطراب في تكوين

المجتمع وبنائه، فإن الاستعمار الفرنسي قد زاد من عمق المأساة بتعمده إحداث هذا الاضطراب، فانتهاك المحرمات، وإشاعة الفواحش، وتعهير المحصات، ونقل كل مساوىء الحضارة الغربية وتعميمها، كل ذلك قد تم في إطار محكم من التخطيط والتنفيذ. وترك ذلك كله بصمات عميقة على المجتمع الجزائري. وقد يكفي التوقف لحظة لتأمل الوجوه عند (نهح المصارف) أو في المجمعات عند بداية الطريق (للقصبة) حتى يصطدم الإنسان بكل معالم البؤس التي بقيت واضحة بعد ربع قرن من زوال الاستعمار الإفرنسي. قد يكون من الطبيعي، ومن المتوقع، ظهور انحرافات مرضية تبتعد بالشعب عن أصالته، ولا بد من فترة زمنية حتى يستعيد المجتمع توازنه المفقود. غير أن إعادة التوازن تتطلب عملا مخلصا دؤوبا، وجهدا واعيا مستمرا. وتتزايد صعوبة إعادة التوازن - بدهيا - بتأثير عاملين: أولهما وأخطرهما: استمرار الدور التخريبي الاستعماري - من خلال الاستطالات المرضية للاستعمار ورواسبه، ومن خلال استمرار التحريض الخارجي. ثانيهما: ظهور الصراع بين الأجيال، الجيل التقليدي المحافظ والجيل الصاعد المتمرد. وصورة العاملين واضحة في رد (الاستاذ أحمد طالب الإبراهيمي) على رسالة فتاة وصلته وهو في سجنه في (فرين) بعد أربع سنوات ونيف من الاعتقال. واذا كات رسالة الفتاة لم تطالعنا، فإن الرد عليها كافيا لايضاح مضمونها (¬1). ¬

_ (¬1) رسائل من السجن (أحمد طالب الإبراهيمي) تعريب: الصادق مازيغ - الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر - 1973 ص 197 - 199.

وقد كان الرد هو التالي: الى مناضلة جزائرية، فرين، 27 جويلية 1961، أختي العزيزة ح ... إن حالة الأرق، وهي الأليفة الوفية لي، تهيب بي أن أكاتبك، وأن أقول لك أنني انشرحت لقراءة رسالتك. وإنه ليبهجني أن قد حظيت بلقيا ذويك (وخاصة والدتك) بعد طول البعاد. ويقيني أن عودتك هذه إلى أحضان الأسرة ستروح عنك، مهما كان من الصدمات الحاصلة بموجبها. وقد أشرت إلى مدى الهوة بينك وبين أسرتك، وهو أمر لا محيد عنه، فإنك لتعلمين حق العلم انتسابك إلى ذلك الجيل الانتقالي الذي كثيرا ما فرض عليه الصمود في واجهتين .. ولعمري إن النزاع لمعقد كل التعقيد: ذلك أن جيل والدك قد اضطلع بكفاح جدير بإعجابنا للحفاظ على شخصيتنا القومية، وهو الكفاح الذي ما كان يتسنى بدونه تصور اندلاع الثورة، ولا إبرازها إلى الوجود. وباعتبار الظروف التاريخية السائدة آنذاك، اتخذ الكفاح في جوهره شكلا دفاعيا. وأمعن فوق ما يجب في تقديس ما هو في حد ذاته شيء رمزي، أي شكلي صرف. وإن أبناء ذاك الجيل لمصيبون في تنبيههم الشبان إلى الأخطار المهددة لهم من جراء مسخ الشخصية وطمس معالمها. على أنهم يعمدون إلى ذلك في غير ما لباقة، ولربما في أسلوب شرس. ولا غرو، فإن موقفهم ذلك لينم في الوقت نفسه عن حنقهم وغيظهم لعدم المساهمة في (حركة التحرير). وعن شبه الشعور بالخيبة والإفلاس: فهم يدركون ما كان من عجزهم عن تلقين

أبنائهم هذه الحقيقة، وهي أن تفتحنا للعالم المعاصر لنا لن يكون ذا جدوى، ولن يكون مأمون العقبى إلا على شرط أن نبقى أوفياء للصميم، والخلاصة من ذاتيتنا. وإذا ما سلمنا بهذا أصبح من الضروري القيام بتنازلات من الطرفين، بغية التقريب من مسافة الخلف بينهما. ولقد أحسنت صنعا من جانبك إذ قبلتها، ولن تندمي على موقفك هذا، فلسوف تعلمين يوما أن لا شيء يضارع حب الوالدين في نفاسته وعلو قدره. فهو الحب الوحيد البالغ صلابة الصخر. وهذا هو نفس ما خاطبت به عشية اليوم صديقاتك الأربع، حيث أسعفني الحظ بالتعرف عليهن، وأتيح لي من خلال التحادث معهن أن أقدر من جهة مبلغ الشوط الذي قطعته امرأتنا، وأن أدرك من جهة أخرى وإلى أقصى حد أن لقب (الجيل الانتقالي) إنما هو مجاز خلاب لتغطية مفهوم (الجيل المضحى به) وقد تعرضت في رسالتك، بلهجة التأثر لمباهج حياة الأكواخ، وما حفها من الدعة والاطمئنان. وكم بودي أن لا يخمد على الدهر في قلب كل مناضل ومناضلة، ذلك التوق إلى الكوخ. وذلك التشوق الحالم إلى السعادة. مهما كان من عدم تحققها في واقع الأمر. ولا غرو، فالثورات ليست بمنجاة عن تجريد البشر من إنسانيتهم، فلربما خلقت أمساخا مشوهة، ونماذج آلية صرفة، فتعين إذن مواصلة الكفاح تفاديا للتحجر الذاتي. ... إلى هنا وتنتهي رسالة الأستاذ (أحمد طالب الإبراهيمي). وهي في الواقع رسالة لا تطرح مشكلة (المرأة) في فجر استقلال، وإنما تطرح مشكلة اجتماعية - سياسية تأخذ أبعادها في

حينها وتطل منها على أفق المستقبل. عند هذه الرسالة تظهر مشكلة (العالم العربي - الإسلامي) كله. الذاتية. مشكلة الحافظة على قواعد الصمود في عصر تتعاظم التحديات ضد الدول (حديثة العهد بالاستقلال) وفي طليعتها بدهيا دول العالم العربي - الإسلامي، وهي المتميزة - بصورة خاصة - بإرث حضاري متقدم، وأصالة ذاتية عريقة وأصيلة حفظها لها الإسلام. لم تحمل مجاهدة الأوراس السلاح، ولم تفتح فتاة وهران والجزائر صدرها للنار، حتى تأتي صورتها مشوهة في أعمال (لوكور بوزييه) كنموذج لا يمت إلى فتاة الجزائر الطاهرة بصلة قرابة على الإطلاق (¬1) فأين صورة المجاهدة، ترتدي عباءتها (برنسها) وتحمل السلاح تخفيه في طيات ثيابها من هذه الصورة العارية البشعة. وليست هذه على كل حال هي الصورة الوحيدة التي تصدم المسلم المجاهد، والمسلمة المؤمنة التقية الورعة. في نشرة (المرأة الجزائرية (¬2)) صورة لعرض فتيات كتب تحتها (العمل على انجاح الاختيار الاشتراكي للبلد). لو تأمل الإنسان الصورة، بالصدور البارزة، ¬

_ (¬1) في مجلة تاريخ وحضارة المغرب (كلية الآداب - الجزائر) يناير 1968 - العدد 4 = 4 تحقيق عن (لوكور بوزييه: LE CORBUSIERS عن نساء الجزائر ص 50 - 66. وبه صور فاضحة - على طريقة (بيكاسو). ولو صدرت هذه الدراسة في عهد الاستعمار لأحدثت ثورة. (¬2) المرأة الجزائرية - وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 58 - 59.

والسيقان العارية لأنكر أن يكون لهذا الجيل علاقة (بفاطمة) و (عائشة) و (جميلة) و (مليكة) وأخواتهن من عشرات آلاف المجاهدات. عند هذه النقطة تبرز مجموعة من الأسئلة، ومرة أخرى، فالمشكلة ليست مشكلة خاصة (بالجزائرية) ولو أن (النموذج الجزائري) يبرز التناقض الحاد للمشكلة. - ترى هل انتصر العربي - المسلم على العدو الخارجي، ليهزم من داخله؟. - وهل انتصرت المرأة العربية المسلمة على كافة التحديات طوال أربعة عشر قرنا لتهزم خلال جيل واحد؟. إن ذلك يبرز قوة المحرض الخارجي من جهة، واستمرار عمله من جهة ثانية. مثال ذلك: لم تهزم الجيوش العربية - عسكريا - في الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة (1973) غير أن عدم هزيمتها خارجيا تحول إلى هزيمة داخلية، والمشكلة معروفة. مثال آخر: نحتفل بذكريات الشهداء - وفاء لأرواحهم الطاهرة - ونرقص على أجداثهم ونهرق الخمور أيضا ... تلك هي مأساة العالم العربي - الإسلامي. وهي سبب التفجرات الذي تطفح على سطحه باستمرار. إنها البراكين الثائرة الذي تجثم فوقها قوى هائلة لتمنعها من الانعتاق. عودة إلى (مشكلة المرأة الجزائرية). لقد ظهرت هذه المشكلة، وجيل الثورة، الأمين على تراثها، لا زال ممسكا بالسلطة والحكم، فكيف سينتهي الأمر بعد جيل من

الزمن؟ وهل ستصبح الثورة مجرد ذكريات في متحف (المجاهدين) لا يلتفت إليها أحد، ولا يتوقف عندها إنسان. إذن فستدفن قيم الثورة أيضا وعندها يقال {وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت}. هنا تظهر الحاجة لإعادة تقويم (أساليب التعليم والتربية) و (ازدواجية التعليم). إن المرأة التي تحدت (لاكوست) يوم حاول إرغامها على رفع الحجاب: قد تعرت طواعية بحكم تقليد الضعيف للقوي. ولكن: هل يمنع الاحتشام المرأة من الحرية، حرية التعلم , وحرية العمل. المسؤولية عامة ومشتركة، وإعادة التقويم، والنقد الذاتي، كافيان حتى يضطلع كل بمسؤوليته لحل هذه المشكلة. لقد ناضلت الفتاة لرفع الحجاب، وآن لها بعد إعادة التوازن للمجتمع، أن تجاهد للعودة إلى آداب اللباس. وكم هو رائع، للطبيبة المسلمه في عيادتها، والمهندمة المسلمة في مكتبها، والمعلمة المدرسة في محراب العلم المقدس، والموظفة في عملها. وكل واحدة تمارس دورها وهي في زيها الإسلامي - المتحجب، المحتشم. ليست موعظة، وما أكره الموعظة على النفس. إنما هي وفاء لأرواح الشهيدات، ودعما لقواعد الصمود، ومحافظة على الأصالة الذاتية. وليست القضية قضية تقليد، أو عادات، إنها قضية ترتبط بجوهر الدين، فالقضية أعمق من أن تكون قضية شكل، وإنما هي

قضية مضمون (مضمون المرأة المسلمة). انتهت الحرب، ولا زالت الحرب مستمرة. والشواهد كثيرة، يعرفها كل إنسان بحكم ممارسته. إن (المجاهدة الجزائرية) التي انتصرت على ذاتها، وانتصرت على غيرها، مدعوة اليوم، وأكثر من أي يوم مضى. لإبراز المضمون الحقيقي (للمجاهدة العربية المسلمة) وعندئذ (ستشرق الشمس من الغرب).

قراءات

قراءات 1 - من منهج وادي الصومام - في موضوع الحركة النسائية. 2 - من توصيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية لتحرير المرأة.

(1) من منهج الصومام في موضوع الحركة النسائية

(1) من منهج الصومام في موضوع الحركة النسائية وضعت مقررات مؤتمر وادي الصومام (في 20 آب - أوت - 1956) الأساس للعمل الثوري، ولبناء المجتمع الجزائري الجديد. وقد تضمنت تلك المقررات في موضوع الحركة النسائية ما يلى: و- الحركة النسائية توجد في الحركة النسائية إمكانيات واسعة تتزايد وتكثر بصورة مستمرة. وإنا لنحيي بإعجاب وتقدير ذلك المثل الباهر الذي تضربه في الشجاعة الثورية الفتيات والنساء المتزوجات والأمهات. ذلك المثل الذي تضربه جميع أخواتنا المجاهدات اللائي يشاركن بنشاط كبير - وبالسلاح أحيانا - في الكفاح المقدس من أجل تحرير الوطن. ولا يخفى أن الجزائريات قد ساهمن مساهمة إيجابية فعالة في الثورات الكثيرة التي توالت وتجددت في بلاد الجزائر منذ سنة (1830) ضد الاحتلال الفرنسي. وإن الثورات الرئيسية كثورة أولاد سيدي الشيخ في سنة (1864) بالجنوب الوهراني، وثورة القبائل في سنة (1871)

وثورة سنة (1916) في الأوراس وناحية معسكر، قد تركت لنا صورا حية خالدة لوطنية الجزائريات اللائي ضحين بأنفسهن في كثير من المناسبات. والمرأة الجزائرية اليوم موقنة أن الثورة الحالية ستنتهي لا محالة بالحصول على الاستقلال. وإن المثل الذي ضربته أخيرا تلك الفتاة القبائلية التي رفضت الفتى الذي تقدم لخطبتها لأنه ليس من المجاهدين، لهو دليل رائع على ما تمتاز به الجزائريات من الروح المعنوية السامية، والمشاعر النبيلة. وعلى هذا، فإنه من الممكن في هذا الميدان أيضا تنظيم وسيلة من أخطر وسائل الكفاح وأكثرها جدوى وفائدة بطرائق خاصة مناسبة لعادات البلاد وتقاليدها الخاصة، وذلك: أ - بمؤازرة المحاربين والمقاومين مؤازرة أدبية. ب - بتقديم المعلومات (الأخبار) والمشاركة في الاتصالات والتموين وإعداد الملاجىء وتهيئتها. ج - مساعدة عائلات وأبناء المجاهدين، والأسرى المعتقلين (¬1). ¬

_ (¬1) ملفات وثائقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - أوت (آب) 1976 ص 22.

(2) من توصيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية لتحرير المرأة

(2) من توصيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية لتحرير المرأة عقد المجلس الوطني للثورة الجزائرية مؤتمرا له في (طرابلس - ليبيا) في جوان (حزيران) 1962. والجزائر على أبواب الاستقلال، وذلك بهدف وضع أسس لمجابهة قضية بناء الجزائر في عهد الاستقلال (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا) وقد وضع المجلس الوطني مشروع برنامج (لتحقيق الثورة الديموقراطية الشعبية) وقد صادق المجلس على هذا البرنامج بالإجماع، وتضمن فيما يتعلق بالمرأة ما يلي: 5 - تحرير المرأة لقد خلقت مشاركة المرأة في كفاح التحرير، الظروف الملائمة لكسر الكابوس القديم الذي كان يحيط بها ويقيدها، ولإشراكها إشراكا كاملا في تسيير الشؤون العامة وتنمية البلاد. وينبغي للحزب أن يقضي على كل العوائق التي تعترض تطور المرأة وتفتحها. وأن يدعم عمل المنظمات السرية، ولسوف يكون عمل الحزب ناجحا في هذا الميدان. ولن ننسى أن مجتمعنا لا يزال إلى يومنا هذا لديه عقلية سلبية بشأن دور المرأة، فكل شيء يساعد، وبأنماط

مختلفة، على نشر فكرة نقص المرأة وعجزها. وبلا غلو، نجد هذه العقلية البائدة متفشية في أوساط النساء. ولن يتسنى للحزب أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام، ما لم يساند دوما محاربة الأحكام الاجتماعية المسبقة والمعتقدات الرجعية، ولا يمكنه أن يكتفي بالمواقف المبدئية فقط. بل عليه أن يجعل من تطور المرأة واقعا لا رجعة فيه وذلك بواسطة تخويل النساء مسؤوليات حزبية (¬1). ¬

_ (¬1) ملفات وثائقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر. أوت (آب) 1976 ص 46.

الفهرس

الفهرس

_ الموضوع ................................................... الصفحة

_ الفصل الثالث 1 - معاناة الإرهاب ................................................... 149 2 - أكثر وحشية في النازيين والمغول (التتار) ......................... 163 3 - مدارس تعليم أساليب التعذيب ..................................... 175 4 - معسكرات الانتقاء والترحيل ........................................ 187 5 - معسكرات التجميع ................................................. 192 6 - الأسرى والجرحى .................................................. 197 7 - ملحقات ضد الاستعمار وأساليبه الهمجية ........................... 202 8 - الكلمة الأخيرة ..................................................... 210 قراءات 1 - من منهح الصومام في موضوع الحركة النسائية ..................... 221 2 - من توصيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية لتحرير المرأة .......... 223

الاستعمار الفرنسي

بسم الله الرحمن الرحيم

14 - الاستعمار الفرنسي (في مواجهة الثورة الجزائرية)

الاستعمار الفرنسي (في مواجهة الثورة الجزائرية) بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1404 هـ - 1984 م الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م

الإهداء

الإهداء كانوا كلهم إخلاصا للجزائر، وقضيتها العادلة. وكانوا كلهم استعدادا للتضحية من أجل بناء جزائر المستقبل. بعضهم قصر عن متابعة السير على درب الجهاد، أو عجز عن رؤية الهدف العظيم. وبعضهم نجح في السير وسط حقول الأشواك الدامية، حتى النهاية الظافرة. فإلى أولئك الذين مارسوا قيادة الجهاد، ولا زالوا يمارسونها، للعودة بالجزائر إلى أصالتها العربية الإسلامية. أقدم هذا الجهد المتواضع بسام

المقدمة

المقدمة وتبقى (الثورة الجزائرية) العملاقة منجما ثرا للتجربة التاريخية في التعامل مع الاستعمار التقليدي. لقد خاض الشعب الجزائري المجاهد التجربة المريرة، ووصل بها حتى نهايتها، ولم تكن هذه التجربة محددة بميدان الأعمال القتالية على الثرى الجزائري الطهور، وإنما كانت أكثر شمولا وأكثر اتساعا، حتى أنها شغلت العالم طوال سنوات الصراع. لقد أخذ الاستعمار التقليدي في التقلص والانكماش منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، غير أن فرنسا خاصة، والدول الأوروبية عامة (هولاندا والبرتغال وبلجيكا) وجدت من الصعب عليها التكيف مع المستجدات الدولية، أو التنازل للدولتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) عن امتيازاتها التقليدية. ومن أجل ذلك، خاضت فرنسا حرب الهند الصينية (فييتنام) بوحشية وضراوة حتى اقتنعت بعجز قواتها عن مجابهة تيار التاريخ، وكان من المفروض أن تفيد فرنسا قبل غيرها من تجربتها الذاتية، فتتجنب الوقوع في أخطائها، غير أن رؤيتها للأمور من خلال زاوية محددة،

زاوية (العظمة الفارغة) و (القوة الغاشمة) حملتها على ارتكاب الخطيئة من جديد، فكانت (حرب الجزائر). لقد ظنت فرنسا، أن ما فعلته في الجزائر طوال (قرن وربع القرن) قد دمر كل جذور الأصالة الدينية والقومية والوطنية، حتى لم يعد في الجزائر إلا فرنسا الاستعمار والصليبية. وظنت فرنسا، أن العامل (الجيواستراتيجي) وقرب المسافة من فرنسا، سيمنع كل (تمرد) أو (ثورة). وأطلق المجاهدون شرارة الثورة التي أحرقت السهل والجبل، ومضت فرنسا على طريقتها التقليدية في محاولات متفائلة في البداية، ويائسة في النهاية، للتشبث بخرافة (الجزائر الفرنسية). وكان الصراع المرير والشامل؛ فقد ألقت فرنسا بكل ثقلها، وتحالفت مع كل قوى الاستعمار في الغرب الاستعماري لقمع ثورة الأحرار المؤمنين المجاهدين، وكان للثورة بدورها محيطها العربي الإسلامي، فكان من الطبيعي أن تتسع دائرة الصراع السياسي لتتجاوز حدود ميادين الصراع المسلح. وفي هذا المجال، كانت ترسانة الاستعمار حافلة بكل مخزون (اللعب الاستعمارية) غير أن المجاهدين الذين تمرسوا على أيدي الاستعمار بالألاعيب الاستعمارية لم يعودوا عاجزين عن رؤية أهدافهم بوضوح تام. واضطلعت القيادة الثورية التاريخية بأعباء قيادة الصراع السياسي، وأمكن لها هز العالم وإثارته، بما حققته من تنسيق رائع بين (الجهد السياسي) و (الجهد العسكري)، وكان لا بد في النهاية من الوصول بالصراع إلى نهاياته الحتمية، وتحقيق الانتصار لمصلحة المجاهدين المؤمنين.

وانقضت التجربة التاريخية. وتوقف الصراع المسلح، لتبدأ مرحلة (الجهاد الأكبر) من أجل تصفية رواسب الاستعمار والقضاء على مرتكزاته. انقضت التجربة التاريخية في أفق الصراع المسلح، ولكنها استمرت في أفق الصراع السياسي، ومضى ربع قرن على التجربة التاريخية، ولا زال الصراع السياسي مستمرا مع (رواسب الاستعمار) و (بقايا أجهزته) و (شبكات اخطبوطه). لقد تطور الاستعمار - أخيرا - غير أنه بات في تطوره أكثر خطورة وأشد فتكا وتدميرا؛ ذلك لأنه يعتمد على أساليب الهجوم غير المباشر للوصول إلى الأهداف المباشرة. بكلمة أخرى، إنه بات يستأثر بالمغانم ليلقي على أعباء الشعوب المستضعفة بالمغارم كلها. وهنا تبرز أهمية التجربة الجزائرية. لقد استطاعت فرنسا الحصول على غنائم الحرب من خلال الاتفاقات التي عقدتها مع الثورة الجزائرية، وقد استطاعت الجزائر المجاهدة متابعة طريق الجهاد لتحرير نفسها من تلك القيود التي فرضتها مجموعة الظروف التي أحاطت بالصراع. المهم في الأمر هو أن تلك الغنائم - في حد ذاتها - تظهر طبيعة التطور الجديد للاستعمار الحديث ومن هنا تبرز أهمية التجربة الجزائرية. لقد استخدمت فرنسا كل أساليب الخداع، والتمويه، والمكر، واستخدم المجاهدون كل أساليب الصراع الواضحة، والشريفة والعادلة، وانتصر الحق وزهق الباطل، وسقطت الأقنعة،

{ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}. وكان انتصار الثورة برهانا ساطعا على القيم البناءة والفضائل الأصيلة التي توافرت للمجاهدين، بقدر ما كانت برهانا أكيدا على حتمية فشل الشر المتمثل (بالنهب الاستعماري). انتصرت الثورة، ولا زال الصراع مستمرا، ومن أجل ذلك، تكتسب التجربة الجزائرية أهميتها، لأنها أكبر وأضخم تجربة ترسل ظلالها إلى الأفق البعيد، أفق المستقبل،

الفصل الأول

الفصل الأول 1 - الجزائر في منظور الاستعماريين. 2 - مشاريع استعمارية. 3 - سياسة ديغول. أ - قضية تمثيل الشعب الجزائري. ب - العصا والجزرة - محاولا استيعاب الثورة. ج - مقولات (ديغولية).

الجزائر في منظور الاستعماريين

1 - الجزائر في منظور الاستعماريين ما أن انطلقت الرصاصت الأولى في الجزائر، في الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر-1954، (مع فجر عيد جميع القديسين) حتى أصيب الاستعماريون الفرنسيون بالذعر، لقد أصابت تلك الرصاصات قلب الاستعمار، وكان تحرر الجزائر هو آخر ما يضعه دهاقنة الاستعمار في مخيلتهم، وجاء أول رد فعل رسمي على لسان وزير الداخلية الفرنسي (فرنسوا ميتيران) الذي أعلن: (الجزائر هي فرنسا، من الفلاندر إلى الكونغو، هناك قانون واحد، ومجلس نيابي واحد، وبذلك فهي أمة واحدة، هذا هو دستورنا، وتلك هي إرادتنا). وأعقب هذا الإعلان بتصريح آخر: (إن المفاوضات الوحيدة هي الحرب) (¬1). وتتابعت التصريجات المتاشبهة، ومنها: (إن فرنسا هنا في ديارها، أو على الأصح فإن الجزائر وجميع سكانها جزء لفرنسا، كما أنها جزء لا يتجزأ منا، إن مصير الجزائر فرنسي، وهو اختيار قررته فرنسا، ¬

_ (¬1) 5 و7 تشرين الثاني - نوفمبر - 1954 (ملفات وثائقية-24 - وزارة الإعلام والثقافة -الجزائر) آب - أوت - 1976 ص 79.

وهذا الاختيار يدعى الاندماج) (¬1) وكذلك (ليس هناك من اختيار آخر نسعى إليه، وهناك أكثر من قرن والجزائر تندمج في فرنسا، إن هدفنا الآن هو بلوغ الدمج الكامل للجزائر) (¬2). وانطلق الاستعماريون في فرنسا، يحشدون القوى، ويستنفرون الرأي العمام الفرنسي، وهة ما يبرزه النداء الذي وجهه فريق ممن يحتلون القمة في الفكر الاستعماري الفرنسي إلى الشعب الفرنسي وجاء فيه: (نداء إلى الشعب الفرنسي (¬3) (إن المصير الذي يتقرر الآن في الجزائر هو ليس فقط مصير إخواننا من مسلمين وأوروبيين، وليس فقط مصير شمال أفريقيا والاتحاد الفرنسي، إنه ليس فقط مصير فرنسا كدولة عظمى، مصير دورها الاستراتيجي وتوازنها الاقتصادي، مصير حرياتها الجمهورية ووحدتها القومية التي سيقضي عليها طردنا من أفريقيا في أمد قصير. وإذا لم نستطع أن نجد في كنوز ولائنا لفرنسا وثقتنا بالإنسان، القوى الضرورية لإعادة السلام للجزائر، بفورة دفاقة من الحياة، وإعادتها إلى مركزها المرموق في الجمهورية الفرنسية، فإن أيامنا المقبلة ستكون أكثر شؤما علينا من (سيدان) ومن حزيران - يونيو - 1940، وإننا في هذه المرة لم نحاول حتى الدفاع عن سيادة العدالة، وعندما سنستسلم في قلوبنا، سيلفنا بدون رحمة حكم التاريخ. ¬

_ (¬1) تصريح (جاك سوستيل) الحاكم العام للجزائر في 23 شباط - فبراير - 1955 (المرجع السابق). (¬2) تصريح (إدغار فور) رئيس مجلس وزراء فرنسا - في 25 أيلول - سبتمبر - 1955. (¬3) أضواء على القضية الجزائرية (إبراهيم كبة) بغداد- 1956 ص 119 - 122.

من الذي يريد طردنا من بلاد ربطتنا بها (125) سنة من الحضارة المشتركة؟ إلى جانب رؤساء العصابات الدائمين، والسفاكين القساة، ونذر الإرهاب الشرير، توجد بعض النفوس العجلى التي أعمتها الدعاية المضللة، يدعون أنفسهم وطنيين، ولكنهم يجعلونها آلات بيد الاستعمار الثيوقراطي، والتعصب العنصري، استعمار العروبة الذي يهدد إخواننا التونسيين والمراكشيين، كما يهدد إخواننا الجزائريين، والواقع أن التحدي موجة للحرية!. ومن الطبيعي أن يستطيع هذا الاستعمار، وهو يحمل راية حق تقرير المصير التي تخفي وراءها الاستهانة المطلقة بحقوق الإنسان، تضليل بعض السذج من الغربيين، وأن يحملهم بمدعياته الفارغة على المبالغة في تقدير قواه، إلا أن عدونا الحقيقي يكمن بين ظهرانينا، إنه ترددنا وتلكؤنا، وهو نتيجة للجهل بالنسبة للأكثرية، وخمول الهمة بالنسبة للبعض، وقلق الضمير بالنسبة للآخرين. لنتخذ فورا القرار الحاسم، فلقد بلغ السيل الزبى!. يجب أولا أن نكون صريحين: لقد أعلنا في الجزائر نفس المبادىء التي أعلناها للجمهورية الفرنسية، ولكن ماذا بذلنا من أجل تطبيقها ضد المخالفات التي لا تحتمل من قبل المدن والأوروبيين معا، من قبل الإدارة والأفراد جميعا؟ لقد حملنا السلام معنا في كل مكان، وخلقنا حضارة حديثة راقية من لا شيء، فماذا كان نصيب الفئة المختارة من أبناء البلاد منها؟ لقد تضاعف عدد الجماهير العربية بفضلنا، فهل ضاعفنا بنفس النسبة وسائلها المعاشية؟ لقد كثر الكلام عن الكولونيالية الفرنسية في الجزائر، ولكن خطأنا

الحقيقي هو بطء التطور، قلة عدد الأوروبيين، قلة الكوادر اللازمة. على أننا إذا كنا قد أخطأنا بسبب الإهمال، فلا يمكن أن تنسب إلينا جريرة تعمد مخالفة المبادىء؛ إننا لم نحاول قط القضاء على السكان الأصليين، أو انتهاك حرياتهم، أو التمييز العنصري المنظم ضدهم، أو تحويلهم عن دينهم، كما يحاول الآن متطرفو دعاة الإسلام الجدد تأكيده! ولكن إذا كنا قد تقاعسنا عن جزء من مسؤوليتنا، فهل يجب علينا الآن أن نتركها جمعاء؟ ... وإذا كان باستطاعة القلة من أصحاب الامتيازات أن تجد لها ملجأ أنى شاءت على الدوام، فهل يجب أن نترك طعمة لأفظع أنواع الاستبداد، هؤلاء المليون فرنسيا الذين مدوا جذورهم هناك إلى الأعماق، وهذه الملايين العديدة من الفرنسيين المسلمين الذين أراقوا دماءهم جنبا إلى جنب مع أبنائنا في كل ميادين القتال؟ ومن يستطيع أن يشق لهم طريقا إنسانيا نحو المستقبل غير وطننا، وطن حقوق الإنسان؟ إننا نؤمن إيمانا مطلقا بأن من العدالة التامة استعمال القوة من قبل الفرنسيين لحماية هؤلاء وأولئك من الإرهاب. إن استعمال القوة المذكورة يجب أن ينتهي بالانتصار الحقيقي؛ إدخال السلام إلى القلوب. إن هذا السلام لن يكون سلام الماضي، بل من المؤكد أن المشاركة الحقيقية، ستتحقق عن طريق العمل الجريء في إصلاحات واسعة اقتصادية واجتماعية وسياسية. إن هذا العمل جدير بفرنسا حقا، والتضحيات التي يتطلبها مهما كانت كبيرة ستكون محدودة، إن بذلت قبل الأوان. إن المسألة أوسع من مسألة الحرب أو القتال، وأرحب من ضيق قوانين المال وماذا يمكن أن يشرف الشباب الفرنسي، زراعا كانوا أم مهندسين، أطباء أو إداريين، أكثر من إنشاء هذه المشاركة الرائعة مع رفاقهم المسلمين في خضم العمل

اليومي والجهد الدائب؟ على أن العمل المذكور سوف يولد وئيدا إذا بخلنا عليه بدماء القلوب والأرواح! أو لم نشدد من يقظتنا لتطبيق الحل الديموقراطي للمشكلة الجزائرية فور استتباب السلام. ولهذا الجهد المندفع نحو الانقاذ العام، في ظل الشرعية الديموقراطية، ندعوكم جميعا أيها الفرنسيون على اختلاف آرائكم واعتقاداتكم، وتباين أحزابكم وطبقاتكم؛ لنتعاهد جميعا على هذه اليقظة والحذر، لئلا يرتد ثانية كرم الشعب الفرنسي، ولكي تعود له كلمته النافذة وسلطانه الحق. لنتحد جميعا لإنقاذ الجزائر، وبانفاذها سوف نكتب لفرنسا الخلود. التواقيع: الكاردينال (ساييج) أسقف تولون. (اميل روش) رئيس المجلس الاقتصادي. (البير باييه) رئيس اتحاد الصحافة الفرنسي. (روبير دو لافت) الحاكم العام سابقا لبلدان ما وراء البحار. (جورج ديهامل) الأديب وعضو الأكاديمية الفرنسية. (مارسيل انكوان) رئيس رابطة المحاربين القدماء الفرنسيين. (الجنرال مونسايير) قائد فرنسي مشهور. البروفسور (باستور فاليري رادو) عضو الأكاديمية الفرنسية. البروفسور (بول رينيه) المدير الفخري لمتحف الإنسان. (ريمي رور) رئيس تحرير (لوموند) سابقا. (جان ساري) عميد جامعة باريس. (جورج لوبو) المفكر الفرنسي المعروف. (ناجلين) الحاكم العام للجزائر سابقا.

(جاك سوستيل) الحاكم العام للجزائر سابقا. ومن تصريح للرئيس الفرنسي (رينيه كوتي) أمام وفد الجمعية الوطنية للأوسمة العسكرية، بمناسبة توزيع (أوسمة الشرف) على مرتزقة الاستعمار: (إننا في أشد الحاجة للشجاعة في يومنا هذا، والواقع، فإنه منذ سكوت المدافع عام 1945،لم ينفك الفرنسيون في حالة نضال مستمر، فقد دخلوا أولا في نضال عنيد من أشد أنواع النضال صعوبة - في الهند الصينية - بالنظر لعدم تعودهم عليه، واليوم، يرتدي الشباب الفرنسي ثانية رداء الشرف، شادا الرحال إلى أفريقيا الشمالية وما أسعدني أن أراه الآن ممثلا بصورة واسعة بين أعضاء وفدكم الكريم؟! لقد سبق منذ بداية تلسمي هذا المنصب أن عبرت عن رغبتي الملحة لزيارة الجزائر، ومازلت آمل أن تسمح لي الظروف بتحقيق هذه الرغبة لأوزع أوسمة الشرف على صفوف قواتنا المقاتلة هناك. ... ومن خطاب لرئيس الوزراء السابق (انطوان بينيه) أمام المؤتمر الصحفي المنعقد في (باريس) بتارخ 5/ 5/ 1956، الفقرة التالية: (لقد صرحت بتاريخ 30/ 9/ 1955، أمام هيئة الأمم المتحدة، بأن القضية الجزائرية هي قضية فرنسية صرفة، ولا أزال متمسكا بهذا الرأي. لقد قام (روبير لاكوست) بإجراءات جريئة، ولا نزال بحاجة إلى إجراءات أخرى مماثلة، ومن المهم جدا أن يعاد الأمن إلى نصابه، بجيوش ضخمة لتجنب الخسائر غير المجدية

واختصار نفقات إعادة التسلح ... ويتحدث البعض عن المفاوضة، ولكن مع من؟ إن المفاوضة في الظروف الحالية لا تعني إلا السير على طريق الانفصال، إن صراحة العمل، واتحاد جميع القوى، هما اللذان سيمكنان فرنسا من إنقاذ الجزائر!). ومن مقال لرئيس الوزراء السابق (بليفان) (¬1) تحت عنوان (أحلول مقبولة أم مغاوضون مخولون؟) حمل فيه على سياسة الحكومة الحاضرة في سعيها لإجراء انتخابات حرة في الجزائر بعد مرور ثلاثة أشهر، من وقف إطلاق النار، بحجة أن المدة المذكورة غير كافية لتهدئة الخواطر وإعادة السلام بشكل يوفر الحرية الفعلية للانتخابات الموعودة، ولأن إجراءها في الوقت المذكور يهدد بانتخاب المتطرفين والثوار أنفسهم، والذين تحاربهم فرنسا الآن! ومن خطاب لرئيس الوزراء السابق (جورج بيدو) (¬2) ما يلي: (إن البحث عن مفاوضين شرعيين في الجزائر، على غرار ما حصل في تونس ومراكش، سيكون خطأ من أعظم الأخطاء، بل إن المفاوضات مع القتلة وسفاكي الدماء الذين تسندهم الخيانات المسترة الآن، سيكون جريمة كبرى، إنني أعتقد أن إطالة المدة المعطاة للثوار، للاستجابة لنداء الحكومة، سوف يتسبب فى إطالة أمد الثورة بدلا من وضع حد نهائي لها). ومن خطاب لرئيس الوزراء السابق (شومان) (¬3): (إن المشكلة الجزائرية هي مشكلة سياسية، ونحن نتفق في هذه النقطة ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 12/ 5 / 1956. (¬2) صحيفة (لوموند) الفرنسية 7/ 4/ 1956. (¬3) صحيفة (لوموند) الفرنسية 2/ 5 / 1956.

مع رئيس الوزراء - غي موليه - ومع الوزير المقيم في الجزائر - لاكوست -. ولكن هذه المشكلة تثير مسألة أخرى أكثر أهمية بكثير وهي: هل سيرغم ملايين الجزائريين من مسلمين وأورويين، من الذين ولدوا فرنسيين، ويشعرون دائما أنهم فرنسيون، على أن يصبحوا بين عشية وضحاها أجانب في هذه البلاد التي ولدوا فيها؟؟). كذلك صرح (شومان) (¬1) أمام الجمعية الوطنية الفرنسية: (إن من يسمع أنصار الثوار الجزائريين بين نواب هذه الجمعية، يعتقد بأن هناك طريقين لا ثالث لهما: إما المفاوضة مع الثوار بالشروط التي يفرضونها هم علينا، أو الاستمرار في الحرب. والواقع أن هناك طريقا ثالثا، هو طريق (الاتحاد أو الدمج) والذي اختاره - غي موليه - و - لاكوست -. أما وقف إطلاق النار، فيجب أن يوجه إلى العصاة أنفسهم، كما كتبت بحق بصحيفة - البوبلير - كان حال الحكومة الحاضرة - تذكيرا للشيوعيين -!، وإن مناقشة الجمعية يجب أن تستهدف إقناع الثوار بأن إرادتنا حاسمة في موضوع الجزائر. إن الحل النهائي للمشكلة يجب أن يكون سياسيا، ولكن يجب أن نمهد لذلك بالوسائل الحاسمة، أما تحديد مستقبل الجزائر منذ الآن، فإن الوقوع في الفخ الذي يريده لنا الخصوم، وارتكاب خطأ جسيم قد لا يمكن إصلاحه بعد هذا أبدا. إن القضية الجزائرية هي قضية فرنسية صرفة، ومن أكبر ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 2/ 6/ 1956، وكان ذلك أثناء المناقشة الحامية التي نوقشت فيها المسألة الجزائرية خلال أيام متتالية، وانتهت بفوز الحكومة بثقة الأغلبية الاستعمارية في الجمعية.

الإهانات الموجهة لنا، السماح لها بأن تثار على الصعيد الدولي، يجب علينا أن نعارض حتى آخر نفس كل تدخل من قبل الآخرين. (وبعد أن أثار هذا المسيحي الاستعماري المتعصب سياسة الزعيم نهرو في تأييد استقلال الجزائر، وسياسة تيتو لتهريبه المزعوم للأسلحة إلى الثوار عن طريق ليبيا) أنهى خطابه بالصرخة التالية: لنبن سياستنا في الجزائر على اعتبار أن مفهوم المجتمع الفرنسي المسلم يحقق رغبات الأكثرية الساحقة من سكان الجزائر، إن قوتنا مستمدة من إيماننا بالديموقراطية، ونحن ندعو الحكومة إلى التمسك دائما بمبدأيها الأساسين: عدم الخضوع لأي حل يفرض علينا بالقوة، وعدم فرضنا أي حل استنادا إلى القوة. إن أكثرية الفرنسيين الساحقة مستعدة لتأييد سياسة الحكومة، ولكن بشرط التأكد من أن الحرب الدائرة في الجزائر، هي ليست حرب إعاقة، وإنما هي حرب حماية ورعاية، وإن هذه المناقشات يجب ان تعبر بقوة عن إرادة قومية حقيقية. ... ومن القادة السياسيين، إلى القادة العسكريين، حيث ألقى (المارشال جوان) خطابا في مدينة (ميتز) (¬1) جاء فيه: (لقد عقدنا الاتفاقيات الأخيرة مع تونس، وسنباشر عقدها أيضا مع مراكش - المغرب - على أساس اعتبارنا البلدان المذكورة قد بلغت سن الرشد والأهلية الخاصة لتولي شؤونها العامة، ونحن نأمل أن تباشر هذه البلدان حكمها الذاتي مستوحية من ذلك الأثر العميق لفرنسا في تاريخها! وليس من المتصور أن تستطيع هذه البلدان بين ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 6/ 3/ 1956.

عشية وضحاها التخلص من وصايتنا عليها، خاصة في ميادين الأمن والدفاع والدبلوماسية، بالنظر لأن الموضوع لا يمس فرنسا وحدها بل التزاماتها الدولية أيضا. أما عن الجزائر التي ارتبط مصيرها بمصيرنا منذ أكثر من 125 سنة، والتي يعيش فيها أكثر من مليون فرنسي. فقد أعلن رئيس الوزراء بحق اتحادها الأبدي مع الوطن الأم! وليس من شك في أن سياسة التهدئة تحتاج لمزيد من الجهود العسكرية الدائبة للقضاء على نظام الإرهاب غير المحتمل السائد الآن في الجزائر؟ إن المشكلة الأساسية الآن هي المشكلة العسكرية، ولن تحل هذه المشكلة إلا بتصميم الشعب الفرنسي على بذل كل التضحيات اللازمة لتطبيق المنهاج الحكومي المعلن، ذلك المنهاج الحازم الكريم الذي يستهدف تنفيذ سياسة واضحة المعالم، نيرة الأهداف. وإننا إذ نقدم هذه التضحيات في سبيل الجزائر، انما نرد بعض الذين علينا تجاه المجتمع الجزائري الفرنسي الإسلامي (؟) الذي لم يبخل حتى بدمائه في سبيل الوطن الأم، تجاه الفرنسيين المسلمين الذين يسقطون يوميا صرعى في سبيل إخلاصهم وولائهم لفرنسا! وتجاه الفرنسيين الأوروبين الذين نعلم جميعا مبلغ ارتباطهم بوطنهم الصغير - الجزائر - قدر ارباطهم بوطنهم الكبير - فرنسا - سواء بسواء. انني أنتهز هذه الفرصة لأحيي على رؤوس الأشهاد القادة والجنود الفرنسيين الذين يقومون في شمال أفريقيا بواجبهم العسير في ظروف صعبة للغاية. إن جنودنا من مهنيين واحتياط يحاربون هناك بشجاعة فائقة، في ظروف أدبية غدت مرهقة نتيجة جهل فريق من الرأي العام الفرنسي وإهمال الفريق الآخر؛ إنهم يتألمون عندما

يرون فئة من بني جلدتهم لا تتورع أن تسير في خضم الدعايات الأجنبية المسمومة التي تصورهم آلات للعسف والعدوان، ضد السكان المحليين الأبرياء، في الوقت الذي يقومون فيه على العكس بحماية هؤلاء السكان من بعض العصابات الوحشية التي لم تتورع عن استعمال جميع الوسائل البربرية لإشباع تعصبها العنصري. وانني أعتبر، كما يعتبر الكثير من الخبراء، أن ميدان شمال أفريقيا هو محك نهائي لاختبار حيوية الشعب الفرنسي وعظمته! ولا شك أن نجاح التجربة متوقف علينا، نحن أبناء هذا الجيل، على إرادتنا وتضحيتنا، على الأقل في بلد فرنسي صرف، مثل بلد الجزائر! فهل يستطيع الجيل الحاضر تجنب هذه المسؤولية المخزية أمام التاريخ، مسؤولية إنهيار فرنسا، واللعنة الأبدية لإخوانه الأوروبيين والمسلمين؟!). وفي مقال كتبه هذا الماريشال الاستعماري (جوان) جاء ما يلي (¬1): (إنني أحذر الرأي العام الفرنسي من جوقة الإنذارات المدفوعة من دون شك بإمارات الإعياء البادية في معسكر العصاة، والتي تدعونا من دون كلل ولا ملل إلى المفاوضة مع الممثلين الحقيقيين المزعومين للوصول لوقف إطلاق النار. إن هذا الإجراء الأخرق في مثل هذا الوقت غير المناسب، لن يفسر علينا إلا كعلامة من علامات الضعف ... إنه لمن المستحسن جدا أن نزيد اهتمام (قصر شايو) بأمن الجزائر، هذا البلد الذي تشمله منظمة معاهدة الأطلسي بشكل ¬

_ (¬1) أضواء على القضية الجزائرية - كبة - ص 127 - 128.

مباشر، وإلى حمل الدول المجاورة على قبول نظام انتقالي يسمح بتنفيذ الالتزامات الدولية. إن هذا جزء من التزام (التكافل والتضامن) المفروض على تونس ومراكش، والواجب تحويله إلى حقائق عملية، عن طريق الاحتفاط فيهما بالقوى الفرنسية اللازمة والعدد المطلوب الذي هيأته فرنسا فيهما من موازنتها الخاصة في عهد الحماية. كذلك من الضروري إعادة تنظيم قيادة منظمة حلف شمال الأطلسي في البحر الأبيض المتوسط الشرقي والغربي، لإمكان التكيف مع الرسالات الكبرى للشعوب العظمى كانكلترا وفرنسا في هذا الميدان الحيوي! ... ويجب الاعتراف بأن مهمة منظمة حلف شمال الأطلس تقتضيها التفرغ لدراسة هذه المشكلة الخطيرة، مشكلة أمن البحر الأبيض المتوسط، التي تتوقف عليها مشكلة أمن القارة الأفريقية جمعاء، بدل الاهتمام بالمباديء الغامضة للأوجه الاقتصادية والثقافية للمجتمع الأطلسي، ولكن، ترى من ذا الذي سيتولى المبادأة لإفهام مجلس ميثاق (حلف الأطلسي) هذه الحقائق الخطيرة؟). وجاء الجنرال (ويغان) ليدلي بدلوه، فكتب مقالا (¬1) تضمن ما يلي: (بصيص من الضوء ينبعث بعد حوالك الأيام، لقد أعلن سفيرا بريطانيا العظمى والولايات المتحدة قرار حكومتيهما بتأييد فرنسا في نضالها المفروض عليها في أفريقيا الشمالية، كما أن الجميعة الوطنية ومجلس الشيوخ الفرنسيين منحا الحكومة - بأكثرية ساحقة - السلطات المطلقة الضرورية لتحقيق سيطرتها في الجزائر، كذلك ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 30/ 3/ 1956.

نجد استعدادات أكيدة من قبل بعض الفئات المنشقة في مراكش للخضوع لإرداة السلطان، كما أن الانتخابات الأخيرة التي جرت في تونس انتهت بمنح إجماع الناخبين تقريبا ثقتهم بالحكومة التونسية التي عقدنا معها الاتفاقيات الأخيرة. إن هذه الوقائع التي جرت في فترة محدودة جدا من الزمن، أحدثت انطباعا ممتازا في الرأي العام الفرنسي، فحل محل التشاؤم والخضوع لصروف القدر أمل جديد بإمكان حل المشاكل المفروضة في الشمال الأفريقي حلا موفقا، كذلك برزت مزايا الوزير المقيم الجديد في الجزائر، ومنها روح العزم التي أبداها، وحسن تقديره لصعوبات الموقف، وخلقه الرائع تجاه المسؤوليات الكبيرة التي يواجهها، والإجراءات الاجتماعية المختلفة التي اتخذها حتى الآن، مما أحدث الأثر البالغ على الفرنسيين داخل فرنسا، كما أدى إلى بعث الثقة من جديد في أوساط واسعة من الفرنسيين -المسلمين!. يضاف لكل ذلك أمثلة الشهامة والشعور بالواجب التي تبديها الجيوش الفرنسية في الجزائر كل يوم! وروح الفهم والإنسانية التي تبديها قوات الأمن الفرنسية - الاستخبارات - هناك، مما ساعد إلى حد كبير على إحداث النتائج الحسنة المشار إليها أعلاه. إذن هناك حقا بصيص من الضوء يلوح في الأفق، ولكننا ما زلنا بعيدين عن منبع الضوء، ولذلك لا يجدر بنا أن نستنيم للدعة والهدوء، بل يجب علينا أن نضاعف الجهود، فالمشاكل الكبرى لا تزال ماثلة أمامنا تنتظر الحل. لقد منحنا الحكومة القائمة السلطات المطلقة فيما يختص بمسألة الجزائر فلأي غرض ستسعملها هذه الحكومة؟ وما هو هدفها الأساسي الذي تريد بلوغه؟ إن تحديد الهدف المذكور بوضوح هو أمر لا غنى عنه بالمرة، لحسن سير

التنفيذ والعمل من قبل مجموعة الموظفين، عسكريين ومدنيين، في كل درجات السلم الإداري. هل تستهدف الحكومة مجرد إعادة الأمن إلى نصابه؟ أم تريد خوض حرب حقيقية طويلة الأمد؟. ذلك لأن المسألة، ليت مجرد عصيان بسيط تقوم به قلة من المواطنين الفرنسيين، بل هي حرب صريحة مكشوفة أعلنتها علينا ولا تزال تمولها وتمدها بالسلاح أمم أجنبية تديرها من الخارج! إن من الضروري جدا المبادرة فورا لتحديد الرسالة التي عهدت بها الحكومة للحاكم العام، وإعلانها من دون تأخير على الجيش المحارب في شمال أفريقيا، والذي لا يعلم على وجه الدقة لماذا يحارب هناك! إن جميع الضباط على اختلاف رتبهم لا يزالون يشكون من الضرر البالغ، من الوجهة الأدبية ووجهة التنفيذ على السواء، والناجم عن جهلهم بهدف الحرب، والاضطراب الذي يعيشون في كنفه. هل المقصود مجرد إعادة الهدوء؟ هذا هو الهدف الظاهر من حركات جيشنا في الجزائر، ولكن الدلائل قاطعة على الفشل المريع لهذا الهدف. ان كل يوم يمر على الجزائر يشهد ضحايا جديدة في أرواح الفرنسيين، في صفوف جنودنا الفرنسيين والجزائريين، كما يشهد تطورا مستمرا في أعمال الإرهاب والاغتيالات وهدم المدارس، وتخريب المواصلات وإبادة الحقول وإهلاك المواشي، الخ ... إن استمرار هذا الوضع المتردي لسوف يؤدي دونما شك ببصيص الثقة الذي لم يكد يرى النور في أجل قصير، ويبعث اليأس في نفوس أصدقائنا وحلفائنا، ويحملهم على أن يظنوا بضعفنا الظنون. تصوروا مدى النقمة والسخط المستحوذين على مواطنينا في الجزائر عندما يرون جهود أجيال طويلة متعاقبة من عملهم

الدائب، وهي تذهب أثرا بعد عين، بين أكوام من النساء والأطفال المذبوحين الأذلاء المتروكين رهن الأقدار! وماذا تكون نتيجة هذا الوضع المتفسخ؟ لا شك أن استمراره سيؤدي إلى إجراء انتخابات (حرة)! تنبثق عنها جمعية مؤلفة من الثوار العصاة وأصدقائهم، فهل لهذا نحن سائرون؟ ... إن القرار الوحيد الصائب - في نظري - هو إثارة الحرب بكل الوسائل، والاستمرار فيها حتى النهاية، إلى أن يتم القضاء على خصم عنيد، لا تستحق أعماله أي شعور بالرحمة. إن هذه هي رسالة الحاكم العام، والتي يجب إعلانها لكل السلطات العسكرية، لتبديد أي شك يحوم في هذا الصدد، كما هو جار الآن. واستنادا لهذا القرار فقط، يستطيع السيد (البير لاكوست) الوزير المقيم طلب النجدات العسكرية من الشعب الفرنسي، ولقد أنبأتنا الصحف بأنه دعى كدفعة أولى قوة مائة ألف جندي. يجب أن يلبى هذا الطب فورأ 0 بالتأكيد، ولكن لس بالاقتطاع من الوحدات الغربية المثتركة في قوى حلف ثمال الأطلي، والتي لا يمكن المزيد من إضعافها دون اعتراض حلفائنا الوجيه، ولكن بدعوة القوى الاحتياطية. إننا نعلم عن طرائق العمل لدى هيئة أركاننا الشيء الكثير، لنؤكد عن علم بأن الوسائل التحضيرية يجب أن تهيأ كل التهيئة قبل أن يدعو الداعي إلى الخدمة العسكرية فيلبي فورا النداء. إن تنفيذ مثل ذلك يتطب أمدا طويلا، ربما بضعة أسابيع، لدعوة وجمع وتسليح ونقل القوى الكبيرة التي يتطلبها ميدان القتال

الواسع في شمال أفريقيا، لذلك من حقنا أن نطلب توجيه الدع; ة المذكورة منذ اليوم. إن المسألة مستعجلة جدا، والنظم العسكرية الحالية لا تسمح للأسف إلا بالتنفيذ الجزئي وعلى مراحل متباعدة. إن الوقت يضايقنا، وإذا ما حل فصل الربيع، أمكن للثوار الجزائريين الاستفادة من الظروف الجوية التي لا تتوافر لديهم في فصل الشتاء، كذلك يحاول أعداؤنا الأجانب، القيام بحملة عامة مشتركة ضدنا في أقرب وقت، وينتظر أصدقاؤنا قرارنا الحاسم بفارغ الصبر. أضف إلى ذلك الأثر الهائل لقرارنا في معنويات الجيش واضطرارنا لبذل تضحيات هائلة في المستقبل، إن تأخرنا أكثر من هذا في اتخاذ القرار المذكور. والأهم من كل ما سبق أن شمال أفريقيا يكون وحدة لا تتجزأ، وإذا كانت قراراتنا في تونس ومراكش واضحة التأثير في سياستنا في الجزائر، فكذلك لسياستنا الجزائرية تأثيرها المباشر في مفاوضاتنا المقبلة مع تونس ومراكش، فهل سنترك الفرصة تفلت منا لنفقدها بعد ذلك إلى الأبد؟ إن تحسن الأحوال في هذه الفترة لصالحنا، يجب أن لا يلهينا عن إدراك الخطر، بل يجب على العكس أن يدفعنا لمضاعفة الجهود. إن منح الحكومة السلطات المطلقة يجب أن يحملها على تحديد سياستها فورا وبكل دقة، لا من حيث بواعثها فقط، بل من حيث أهدافها. إن الضرورة تقضي بوضع كل الوسائل اللازمة تحت تصرف الحاكم العام في الجزائر. ... ومن القادة العسكريين إلى رجال الدين، حيث ألقى الكردينال

(فلتان) محاضرة في قاعة (الميتواليتيه) في باريس - جاء فيها (¬1): (مهما يكن التطور التاريخي، ومهما تكن الحجج القانونية لتأسيس المستعمرات، فإن التبرير الوحيد لبقاء السيطرة الاستعمارية على البلاد المستعمرة، هو دور الدولة المستعمرة في رسالتها التثقيفية ومساعداتها المختلفة لسكان البلاد الخاضعين للاستعمار. إن الكنيسة تصرح بأن الاستعمار الحقيقي يخلق بين البلاد المستعمرة والبلاد الخاضعة لها روابط لا يمكن أن تفصمها رغبة المستعمرات في التحرر، لأن الاستعمار، مثله كمثل أية خدمة أخرى أو أي واجب آخر، من شأنه أن يكون كذلك مصدرا للحقوق، وإن الاستعمار قد جلب معه الى البلاد التي أخضعها طوائف كبيرة من التجار والفنيين والموظفين يساهمون، بالرغم من بعض الأخطاء المرتكبة، في العمل الثقافي الملقى على عاتق الوطن الأم؛ إذ أن أموال هؤلاء التي اكتسبوها بشرف (؟) وإن كانت من ثمار الاستعمار حقا، إلا أنها تعويض عادل مقابل مساهمتهم في الرسالة المشار إليها أعلاه، ومن الظلم البالغ تخييب آمالهم في ملكيتها المشروعة. إن المهمة التي ألقيت على عاتق الشباب الفرنسي المدعو للخدمة في الجزائر هي مهمة سلام وتهدئة إعادة النظام إلى نصابه، وحماية السكان الآمنين من إرهاب العصابات المسلحة، وتحقيق الأمن العام في سائر أنحاء البلاد. ... وكتب القس (غابيل) رئيس تحرير جريدة (الصليب) مقالات ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 27/ 4/ 1956.

عن القضية الجزائرية (¬1) جاء فيها: (ليس هناك أي شك، كما ذكرنا ذلك عدة مرات، في أن من الواجبات الدينية على الشبان الفرنسيين المدعوين للخدمة تلبية النداء، على أن الكمال الأخلاقي لهذا الواجب العظيم لا يقاس بالانصياع الأعمى له، بل بالاختيار الحر. إن هؤلاء الشبان لم يعودوا مجرد مرتزقة بل مواطنين ناضجين، طلب إليهم أن يتركوا وراءهم كل شيء، وأن يضحوا حتى بالحياة نفسها في سبيل قضية عادلة!. إن الشاب المسيحي الذي يدعوه نداء العلم إلى ترك زوجته وعائلته والاشتراك في أعمال القتل والتدمير، إنما يدرك، عبر هذه التضحيات والأخطار الجسام، أن الشعور بالتضامن الذي هو باعثه، وروعة السلام الذي هو هدفه، إنما هما ثمرة من ثمرات المحبة (؟) إن هذه المحبة لجميع سكان الجزائر على اختلاف أحوالهم ودينهم وعمرهم هي التي تملي على هؤلاء الشبان واجباتهم كمقاتلين) - ومن الحب ما قتل، المؤلف -. ... ومن مقال للأب (دوكانيون) (¬2) في تحديد مفهوم (واقع الوطنية) جاء ما يلي: (من المهم جدا التدليل على أن مفهوم الوطن ليس مفهوما مسيحيا بالضرورة، وأنه حتى في حالة تلونه باللون المسيحي، يمكن أن يتحول إلى مجرد إحياء لمفهوم الوثنية، أي رفع الوطن ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 22/ 5/ 1956. (¬2) صحيفة (لوموند) 16/ 5/ 1956.

لمصاف العبادة، وأنه إذا كانت هناك وطنية صحيحة، فيجب أن لا ننسى أن هناك بجانبها وطنية مزيفة. إن حقوق الوطن يجب أن تكون محدودة لأن فوقها حقوقا أخرى أعلى منها هي حقوق الرب، ويجب أن لا يخلط بين النوعين، كذلك يجب التدليل على أن المسيحية، أكثر من اهتمامها بمفهوم الوطنية، تعنى على وجه أخص بمفهوم حقوق الإنسان، أي الإنسان المطلق، أي الإنسانية جمعاء منظورا إليها كمجتمع عالمي واحد. إن العلاقة بين مفهوم الوطن وقضية السلام أهم بكثير من العلاقة بين الوطنية وقضية الحرب، على أننا يجب أن لا ننتقل من وضع متطرف إلى آخر أكثر تطرفا منه، والواقع أن أزمة الوطنية في الوقت الحاضر إنما تنبعث فعلا من هذا التحول المباغت! فباسم الاعتبارات والضرورات الدولية يقلل من شأن الاعتبارات الوطنية، بل يتم سحق هذه الاعتبارات سحقا كاملا! وباسم السلام العالمي، يشجب استعمال القومة مهما كانت ضرورة استعمالها! وباسم العدالة والإنسانية تجاه الشعوب الأخرى تتجاهل العدالة والإنسانية تجاه أبناء الوطن، وهكذا تضرب الوطنية في الصميم، وهي الحب المفضل نحو بلادنا الخاصة!. وإن من أولى واجباتنا الآن، أن نعيد التوازن المفقود، فنشجب العزوف عن الوطن، ونتغلب على شلل الانهزامية، ونؤكد من جديد على حقوق الوطن ومفهوم الوطنية، ولا نتأخر لحظة عن استعمال القوة للدفاع عنه، ونسارع لتوجيه النداء في هذا السبيل لتجنيد أبنائه! إن الحقوق الطبيعية، والدعاية المسيحية، وضرورات التطور العالمي، لا تبرر أبدا ترك الأوطان أو التخلف عن استعمال القوة للدفاع عنها وفق مقتضيات العدالة!. إن حق الشعوب في تقرير مصيرها ليس حقا مطلقا بدون قيد

وشرط؛ إن الأرض للجميع، وليس لشعب من الشعوب الحق في احتكارها لطائفة معينة من أبنائه، إن حقوق الاتصال والاجتماع والهجرة والانتقال هي أهم مبادىء القانون الدولي القائم!! وإن من واجبات الوطن الأم حماية أبنائه المقيمين في البلاد المستعمرة إن هددهم مهدد في أمنهم وطمأنينتهم أو أرواحهم وأموالهم، ولعل هذا ما يبرر للوطن الأم فرض سيادته على البلدان المذكورة تحقيقا للحماية اللازمة! وهذا هو الأساس الحقيقي للحق السياسي في إقامة المستعمرات! إن متابعة السير نحو التحرر من قبل الشعوب الموضوعة تحت الوصاية مخالف للعدالة (؟) لأنه يضر بمصالح السكان الجدد في البلاد المستعمرة! كذلك ليس لأي شعب من الشعوب التشبث بحقوقه الوطنية مهما كانت شرعيتها وصحتها بالوسائل المتصلة من قريب أو بعيد بالإرهاب، ومن الضروري في كل الأحوال القضاء من دون رحمة على هذا الإرهاب). ... ومن رجال الدين إلى (النواب) حيث ألقى النائب الفرنسي المستقل (بارشان) خطابا في (الجمعية الوطنية) جاء فيه (¬1): (إنني أؤكد بعد عودتي من الجزائر بأن الحرب التي نخوضها هناك هي حرب نفسية - بسيكولوجية - بالدرجة الأولى، وإني أخشى أننا لا نستطيع أن نكسبها؛ وكيف تأملون أن نكسب أكثرية الجماهير العربية إلى جانبنا، في الوقت الذي تتسع الدعاية القذرة ضدنا، وتزعم الصحف الخائنة بأننا على وشك الرحيل من الجزائر؟ ... ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 3/ 6/ 1956.

إن هناك صحفا باريسية يقرأها الجميع بمن فيهم الثوار العرب والجنود الإفرنسيون مثل (الإكسبرس) و (فرانس أوبسرفاتور) وهذه الصحف لا تزال تردد بعناد بأن الحرب الجزائرية معلومة النتائج، وان جيش التحرير الوطني المزعوم سوف يرد على الحرب المفروضة عليه بحرب أشد منها. وهنا صرخ النواب المستقلون في الجمعية الوطنية، ضد الصحافة المضادة بقولهم: إلى المقصلة! إلى المقصلة! وتابع (بارشان) خطابه صائحا: إما أن تطبقوا سياسة معينة مرسومة، أو لا تطبقوا أية سياسة إننا نؤيد السياسة التي اتخذتموها في الجزائر، ولكن يجب أن تسيروا فيها إلى آخر الشوط، فلا تسمحوا للسفن التي تحمل جنودنا أن تحمل معهم الوريقات التي تخونهم! ... ... ومن خطاب (لمارسيل بلزان) (¬1) عضو مجلس الجمهورية الفرنسي أمام (الاتحاد الراديكالي) جاء ما يلي: (إن بقاءنا في شمال أفريقيا يقرر مصير الحضارة الغربية وأمن البحر الأبيض المتوسط مما يوجب أن تتحالف معنا جميع الدول التي تشعر بخطورة المصير المذكور). أما النائب الاشتراكي (نجلان) الحاكم العام السابق في الجزائر، فقد ألقى خطابا أمام (الاتحاد الاشتراكي لمنطقة الجيروند) (¬2) جاء فيه: (إن الجزائر هي من خلق فرنسا، إنها ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 2/ 5/ 1956. (¬2) صحيفة (لوموند) 28/ 5/ 1956.

إنشاء فرنسي، والمشكلة هي مشكلة التعاون بين طائفتين من الفرنسيين! إن الحلول السهلة والسطحية لا تنفع أحدا. إن التهدئة الحقيقية لا يمكن أن تتم بالوسائل العسكرية وحدها، بل بالوسائل السياسية والنفسانية أيضا. يجب أن نتوخى هذا التعاون قدر الإمكان، ونقوم بإصلاحات سريعة للقضاء على البؤس، واستصلاح الأراضي والقضاء على البطالة، أما المسألة السياسية، فلا يمكن أن نمسها قبل إعادة السلام إلى نصابه!). وجاء في خطاب النائب (البوجادي - ديد) (¬1) في (الجمعية الوطنية) ما يلي: (بالرغم من الهستريا التي تدفع البعض إلى خيانة الاتحاد الفرنسي، فإن هناك أملا كبيرا في هذه الاندفاعة الوطنية الظاهرة لدى عدد كبير من الشخصيات السياسية من كل الاتجاهات! وهنا لا بد من الإشادة بالسياسة التي يتبعها حكام من أمثال (سوستيل ونيجلن ولاكوست وماكس لجوت) - وكلهم من دهاقنة الاستعمار - المؤلف - لا بد بالمقابل من شجب هؤلاء الذين ما انفكوا يحقنون الرأي العام الفرنسي على الدوام بسمومهم المدمرة للروح المعنوية. وبعد أن أشار إلى بعض الحوادث السياسية الأخيرة في الجزائر، وفرنسا، التفت (النائب البوجادي) إلى رئيس الوزراء، مؤشرا بيده إلى النواب الأحرار في الجمعية الوطنية، وصرخ بحماسة: (يجب عليك أن تقرر موقفك الحاسم فورا من هؤلاء الخونة!) ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 3/ 6/ 1956.

فصرخ في وجهه أحد هؤلاء: (أنت الخائن، وجلاد الوطنيين). فأجابه النائب (البوجادي - ديد): (لقد كنت تتجسس على رجال المقاومة عام 1941 ...). فصرخ في وجهه نائب آخر من الأحرار - اسمه غرينييه - بقوله: (كم من الوطنيين سلمتهم للغستابو، وكم تقبض الآن ثمن مهمتك كجاسوس أمريكي؟). وتابع الخطيب (البوجادي) صارخا: (يجب عليك أيها الرئيس - غي موليه - أن تسحق الخيانة من رأسها، وأن تحل منظمات الخونة!). وبعد أن عاد الهدوء نسبيا للجمعية الوطنية، بعد المناقشات الصاخبة، ختم الخطيب ما يريد قوله - بالعبارة الآتية: (أيها الرئيس! - إنني مقتنع بأنكم ستبرهنون على أن الاتحاد الفرنسي لا يباع ولا يشرى، وأن أسماء أبطالنا من أمثال (الأب فوكو) (¬1) ¬

_ (¬1) الأب فوكو: من المبشرين ورجال الدين المسيحي المتعصبين والمشهورين بعدائهم للإسلام والمسلمين، ومن آثاره المعروفة رسالته إلى (الدوق فيتزجيمس) سنة 1912، والتي أعادت صحيفة (لوموند) نشرها بعدد 17/ 5/ 1956 وفيها: (أعتقد بأنه إذا لم نتمكن من تحويل المسلمين بالتدريج عن دينهم، وحملهم على اعتناق المسيحية، فإن النتيجة الحتمية هي تكون روح قومية جديدة تؤدي إلى طردنا من الامبراطورية الاستعمارية في شمال افريقيا. إن الروح الوطنية، العربية والبررية، سوف تنمو في صفوف الطبقة المثقفة التي ستسعمل الإسلام كسلاح فعال لإثارة الجماهير الجاهلة في امبراطوريتنا الفرنسية، في أيامنا السود. وإن السبيل الوحيد لضمان عدم طردنا من هذه الامبراطورية هو أن نجعل سكان البلاد فرنسيين، والسبيل الوحيد لذلك هو جعلهم مسيحيين).

سوف لا نتبدل بأسماء الخونة من أمثال (مايو) (¬1) و (ليون فيليكس) (¬2). ومن خطاب رئيس المجلس الاقتصادي الفرنسي (أميل روشيه) (¬3) يمكن قراءة ما يلي: (هل كانت توجد هناك حقيقة قومية في الجزائر عام 1830؟ وأي دور لعبه الإسلام في الازدهار الزراعي والثقافي والاجتماعي والديموقراطي لهذه الأرض التي بقيت بعد قرون طويلة من السيطرة العربية في حالة يرثى لها من الركود السياسي والاقتصادي والثفافي؟ لقد اكتسب الفرنسيون في الجزائر حقوقا لهم منذ أجيال عديدة، وامتلكوا حقائق الكرامة والسلطة التي لا يمكن أن تنفصل أبدا عن قدم التعاون والتحالف مع أبناء البلاد الأصليين! ...) ... ومن خطاب الأمين العام لحركة المقاومة الشعبية - حزب الوسط المسيحي - (سيمونيه) (¬4) ورد ما يلي: (لم يتحول الاتحاد السوفييتي أبدا عن سياسته التوسعية، بل على العكس، فقد زاد اندفاعه نحو البلاد الإسلامية، ومن جملتها الجزائر، ولمقاومة هذا الضغط الشيوعي، يجب على جميع, دول ¬

_ (¬1) مايو: هو عريف فرنسي، انضم الى صفوف المجاهدين الجزائريين، وأحدث انضمامه هزة هائلة في جميع الأوساط الاستعمارية. (¬2) فيليكس: من أبرز قادة النضال الفرنسي الحر ضد الاستعمار الفرنسي، في تلك الفترة. وقد نشر مجمومعة من الأبحاث والدراسات المضادة للاستعمار. (¬3) صحيفة (لوموند) 12/ 5/ 1956. (¬4) صحيفة (لوموند) 17/ 4/ 1956.

حلف شمال الأطلسي التعاون بشدة وتوحيد سياستها في البحر الأبيض المتوسط. إن فرنسا يجب أن تتبع سياسة حازمة تجاه البلاد العربية، وتزيد من تعاونها مع حلفائها الغربيين). وقال عضو مجلس الشيوخ (ميشيل دوبريه) (¬1): (يجب الاحتفاظ بالجزائر أولا وقبل كل شيء بالقوة والذكاء الكافيين لجعل التكافل الفرنسي - التونسي، والفرنسي - المراكشي، حبقة واقعة وليس كلمة جوفاء!). كما قال وزير الدولة للشؤون الجزائرية (مارسيل شمبيكس) (¬2) ما يلي: (الجزائر فرنسية ويجب أن تبقى كذلك، إذ لا يمكن أن يعترف بحقيقتها القومية المزعومة، إن مثل هذا الاعتراف لا يعني إلا الانفصال!). وكتب (هنري بيير سيمون) (¬3) مقالا افتتاحيا جاء فيه: (هل انتهى عهد فرنسا كدولة عالمية عظمى؟ أو على العكس! فإن هذه الإهانات المستمرة سوف تنفض عنها غبار النوم وتنقذها من هذه اللامبالاة التي يسميها الأجانب بالانحطاط؟ وهل سيتم دور الانحطاط هذا ويصل إلى نهايته أم تبدأ الانتفاضة القومية المنتظرة الكبرى؟ إن لكل فرنسي وفرنسية جوابه الخاص على هذا الأمثلة المفزعة، فهؤلاء الذين لا يهمهم شيء بقدر ما يهمهم سقوط فرنسا، ما انفكوا منذ البداية يبذرون الرعب في النفوس، وقد رأوا ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 21/ 4/ 1956. (¬2) صحيفة (لوموند) 2/ 5/ 1956. (¬3) صحيفة (كارفور) الباريسية 28/ 12/ 1955.

في المشكلة الجزائرية فرصتهم الذهبية، فراحوا يعيدون للأذهان مآسي الهند - الصينية، فتونس فمراكش، وما غرضهم إلا أن يصفوا أملاكنا الجزائرية، بعد أن انتهوا من تصفية امبراطوريتنا العالمية. إن من واجب الشعب الفرنسي المجيد، هو مقاومة هذه النداءات التهريجية، وإعادة إدماج الجماهير الفرنسية، إلى أحضان أمها الرؤوم، وتحقيق الوحدة الفرنسية المهددة اليوم بأخطر الانقسامات من جراء الموقف الانشقاقي للأكثرية المذكورة!). وجاءت التنظيمات النقابية والعمالية لتسهم بدورها في حشد الطاقات كلها من أجل دعم (الاستعمار) تحت شعارات وذرائع محتلفة، وقد تضمن بيان (اللجنة التنفيذية لقوة العمل) أي اتحاد العمل اليميني المرتبط بالحزب الاشتراكي، الذي كان يحكم تحت رئاسة (غي موليه) ما يلي: (لقد لاحظ اتحاد قوة العمل بأن القوى الاستعمارية والرجعية تحاول باسم تحرر الشعوب وحقها في تقرير مصيرها أن تلغي الوصاية أو الإدارة الفرنسية في الجزائر، لتستبدلها بسيطرتها الخاصة، وهو يشجب بصورة خاصة مناورات جامعة الدول العربية والحكومة المصرية. إننا لا نستطيع أن نترك سكان الجزائر نهبا لسياسة العنف والقوة، بل يجب أن نحاول إيجاد الحلول السريعة لإنهاء حالة النزاع السائدة الآن!). ومن قرار (اللجنة االجزائرية لاتحاد النقابات الديموقراطية لقوة العمل) (¬1) يمكن قراءة ما يلي: ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 10/ 5/ 1956.

(إن استقلال الجزائر ليس في مصلحة فرنسا، ولا في مصلحة الجزائر أيضا. إن على فرنسا متابعة رسالتها في الجزائر، إلا أن الشعب الإسلامي يجب أن يتمتع بالمساواة في سائر الحقوق، وفي جميع الميادين. إن الحكومة الجزائرية يجب أن تكون تابعة لحكومة الجمهورية الفرنسية خاصة من وجهة التمثيل الدبلوماسي، إلا أن النواب الجزائريين في الجمعية الوطنية يجب أن يستشاروا في كل عمل دولي يمس مصلحة الجزائر. والخلاصة، يجب أن تتمتع الجزائر بحكم ذاتي من الوجهتين السياسية والإدارية). ... لقد أثير في منتصف العام (1956) موضوع تقسيم الجزائر إلى قسمين (عربي - إسلامي) و (فرنيي - مسيحي)، وارتفعت على الأثر ضجة كبرى في الأوساط الاستعمارية الفرنسية التي هاجمت مشروع التقسيم باعتباره مظهرا من مظاهر (الانهزامية) أمام العرب (على حد زعمها) و (تنازلا سخيا جدا لهم عن جزء من الجزائر الفرنسية) وكان المقيم العام السابق في الجزائر (جاك سوستيل) من أشد الاستعماريين هجوما على المشروع. وقد يكون من المناسب التعرض لبعض هذه المقولات. كتبت صحيفة فرنسية (¬1) ما يلي: (لقد قرأت باهتمام بالغ رسالة أحد قرائكم المنشورة في عدد 10/ 4/ 1956، حول إيجاد حل للقضية الجزائرية. إن الحل المقترح من قبل القارىء وإن كان عسيرا تطبيقه، بالغة تضحياته، إلا أنه في الواقع حل واقعي ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 16/ 5/ 1956.

وجريء. لقد زرت بنفسي الجزائر أثناء تأديتي واجب الخدمة العسكرية، ولقد رأيت بعيني كيف أن التقسيم الإقليمي للجزائر هو الحل الوحيد لإنهاء المأساة الجزائرية، وإن على فرنسا أن تفكر جديا في حلول (المسألة الفلسطينية) و (القصة الباكستانية) وتستفيد من تجارب هذين البلدين، ولكن من الضروري أيضا أن تتجنب إيجاد حدود إقليمية نهائية بين قسمي الجزائر، ولا شك أن الحل المذكور يتطلب الشيء الكثير من الذكاء والابتكار، إلا أن المساعدات المادية والأدبية التي ستستمر فرنسا على تقديمها للطائفة العربية، مما يسهل كثيرا من الحل المذكور، ولعل أهم اعتراض يمكن توجيهه لاقتراح التقسيم هذا، هو صعوبة نقل السكان من منطقة إلى أخرى. وبالرغم من وجاهة الاعتراض المذكور، إلا أن من الحقائق التي يجب التسليم بها بأن هذه الصعوبة سنواجهها في جميع الحلول المتصورة، سواء أكان إنشاء دولة جزائرية مستقلة، أو إنشاء دولة اتحادية. ففى حالة الحل الأول، سوف تصبح حياة السكان الأوروبيين مما لا يمكن احتماله، لا ماديا ولا أدبيا - معنويا -؛ إذ أن منع الحياة السياسية عن أقلية ضخمة يبلغ عدد أفرادها مليونين ومائتي ألف نسمة، كان لها الفضل الأول في خلق الجزائر الحديثة، باسم حق تقرير المصير، لن يحل دراما الجزائر بحال من الأحوال. أما أولئك الذين يتصورون بأن تمتع هذه الأقلية بالسلطات الاقتصادية سوف يعوض عليهم فقدان الحقوق السياسية، فما عليهم إلا أن يقارنوا بين اختصاصات إحدى الغرف التجارية وبين سلطات البرلمان. أضف إلى ذلك أنه من الضروري في حالة الجزائر، أخذ العوامل الدينية والأثنولوجية - البشرية بعين الاعتبار. ولذلك فليس من التشاؤم توقع هجرة العدد الكبير من الأقلية الفرنسة من الجزائر،

وإذن فمشكلة هجرة السكان تبرز هنا أيضا. أما بالنسبة للحل الثاني (أي خلق دولة اتحادية لا تلبث أن تطالب بالاستقلال فيما بعد)، فأنه يفترض حتما الاعتراف بمبدأ وحدة الكتلة النيابية - الانتخابية - وإذن فسوف يؤدي بالضرورة إلى التفرق العددي الساحق للعرب على الأقلية الفرنسية. وإذن فسوف ننتهي في الأمد البعيد إلى نفس نتائج الحل الأول، وتبرز عندئذ من جديد مشكلة نقل السكان. على أن من الإجراءات التي نعتقد أنها ستساعد على حل هذه المسألة، هناك إجراء السماح للعرب الساكنين في المنطقة الفرنسية أن يتجنسوا بالجنسية الفرنسية، ويكتسبوا بذلك حق البقاء في المنطقة المذكورة، ولا شك أن عدد العرب الراغبين في ذلك كبير جدا، كذلك يمكن التساهل في حق انتقال السكان من إحدى المنطقتين للأخرى، كما هو جار الآن بين شمالي فرنسا وبلبجيكا مثلا. ولكن ماذا ستكون حدود المنطقة الفرنسية القترحة؟ ... أعتقد أن مناطق سكنى الأقلية الأوروية في الجزائر الآن، هي الواجب اعتبارها أساسا لحدود التقسيم المقترح في هذا المجال! وهناك من يعتقد بأن تطبيق هذا الحل سوف يثير ثائرة جامعة الدول العربية، وربما كانت هذه المخاوف صحيحة. ولكن هل يجوز للدولة التي حاربت بشجاعة من أجل المحافظة على (ممر دانزيغ) أن تترك مليونين ومائتي ألف نسمة من لحمها ودمها في سبيل إرضاء حفنة من المتزعمين العرب؟ إن الشباب الفرنسي سوف يحسن الاختيار، ومن المؤكد أننا إذا تركنا أبناءنا فرنسيي الجزائر، فإننا لن نفقد بلادنا الأفريقية فقط، بل سوف نقضي على فرنسا ذاتها كأمة!).

وجاء الكاتب (كريستيان كردينال) (¬1) فعالج الموضوع ذاته، فتعرض للحلول المقترحة الثلاثة (الاندماج) و (الفيدرالية) و (التقسيم) وانتهى إلى القول بأنه: (لا تقسيم للجزائر! وأن الجزائر لنا - للفرنسيين!) وتضمن بحثه ما يلي: (هب أن مشروع التقسيم المقترح طبق على أساس خطوط الطول، أو خطوط العرض، الجغرافية، فلمن ستكون حصة الأسد؟ لا شك أنها ستكون من نصيب السكان العرب بحكم أغلبيتهم العددية! ولكن كيف سنقسم الثروات الطبيعية بين المنطقتين المقترحتين؟ ولنكن منطقيين أكثر ونتساءل: من الذي شيد هذه الموانىء الضخمة؟ نحن الفرنسيين! ومن الذي استصلح هذه الأراضي الخصبة؟ نحن الفرنسيين! ومن الذي اكتشف هذه المناجم الغنية؟ نحن الفرنسيين! وهذه المدارس والأحواض والمعامل من الذي فتحها وبناها وأقامها؟ وتلك الطرق والخطوط الحديدية من الذي اختطها؟ نحن الفرنسيين أيضا! فهل كتب علينا أن نخضع لغيرنا لمجرد كوننا أقلية عددية؟ صحيح أننا ما زلنا أقلية، ولكنا أقلية فعالة، نشيطة على كل حال ... ! يقولون لنا: (بأن الناس يولدون ... أحرارا) ولكن هل نسي هؤلاء، (بأن لكل حسب استحقاقه) أفلسنا نحن الأكثر استحقاقا؟ كلا! إن حل التقسيم حتى في حالة إمكانية تنفيذه، ليس هو الحل العادل المرغوب فيه. إذن ما هو طريق الخلاص؟ لقد أعلن (برتولد بريخت) ما يلي: (يعود الشيء لمن يجعله الأحسن) وهذه هي نقطة الانطلاق في حلول القضية الجزائرية! ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 16/ 5/ 1956.

ومن السخف التساؤل عن الذي جعل الجزائر الأحسن، نحن أم العصاة؟ إن الحق في هذا المجال حقنا، فإذا ما نازعنا عليه أحد، كان من حقنا مواجهته بالحرب وسحقه في النهاية! فإذا ما جر أذيال الهزيمة سهل علينا فرض شروطنا عليه، وطالعناه بكرمنا وسخائنا، وكسبنا ثقته وعطفه. إننا نحن فرنسيي الجزائر، لا نريد إلا أن نحيا ونموت في أرضنا ووطننا، في ظل علمنا المثلث الألوان، أفلا يستحق ذلك خوض الحرب؟). ... ويمكن بعد ذلك التوقف عند بعض ما تضمنه خطاب وزير الدفاع في تلك الفترة (بورجيه مونوري) في مؤتمر رابطة المحاربين القدماء في باريس (¬1) وفيه: (إن الشباب الفرنسي الذي يغادر الآن فرنسا إلى الجزائر، بإرادة حديدية، وتصميم قاطع، رغم الاضطرابات الخارجية المخجلة، ليسجل صفحة مشرقة في تاريخ شبابنا! إن هذا الشباب الراحل للجزائر، ليلزم كل وطننا بضرورة مقاومة العدوان، وإنه لن يتساهل في أن يرى جهوده تذهب أدراج الرياح. ليعلم الجميع بأن الشعب الفرنسي قد صمم على مواجهة كل محاولة عدوانية قد تفكر بالقيام بها أية كتلة للتوسع العنصري والتعصبي للعالم العربي باتجاه أفريقيا الشمالية أو أفريقيا السوداء وكل حملة صليبية جديدة ليس لها أي غرض محدد إلا غرض القضاء على الحضارة والمدنية! وحاشا بلاد الحرية أن توافق على أن حكم ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 3/ 6/ 1956.

الظلام والبربرية البدائية، يحل محل حكم التقدم البشري والعدالة الاجتماعية!). ... تلك هي بعض مضامين (الفكر الاستعماري) الذي حاول التصدي للثورة الجزائرية، ولا حاجة لشرح تلك المضامين، فهي واضحة كل الوضوح. غير أن ما يجب قوله هو أن هذه المقولات - ومضامينها - لا زالت تعيش في عقلية (القادة الاستعماريين) رغم غروب شمس الاستعمار. وقد يكون من الضروري تذكرها أبدا عند تفسير الأحداث المعاصرة، كما أنه من الضروري تذكرها حتى (لا ننصرف عن الاستعداد الدائم لمجابهة المخططات المتطورة التي قد لا تحمل الصياغات اللفظية ذاتها ولكنها تحمل ما هو أخطر من المضامين). وهنا، لا بد أيضا من القول أنه قد صدرت عن فرنسا ذاتها بعض المواقف المضادة لا سيما خلال السنوات الأخيرة من الصراع المسلح (1960 - 1962) غير أن هذه المواقف المضادة كانت إما (تجميلية إصلاحية) لكسب ما يمكن اكتسابه لمصلحة فرنسا على حساب الثورة وعلى حساب أرواح شهدائها، وإما تعبيرا عن (ضمير حر) في عالم (غير حر) ولهذا فقد بقيت كالعملة الزائفة التي تفتقر للرصيد في سوق التداول.

مشاريع استعمارية

2 - مشاريع استعمارية لقد كانت المقولات السابقة تعبيرا عن الاتجاه العام للأجهزة الاستعمارية، وتصويرا واضحا للعقلية الاستعمارية، ويمكن اعتبارها تمهيدا لما أفرزته تلك العقلية من مشاريع مختلفة لمعالجة القضية الجزائرية، وهي المشاريع التي حملت أسماء أصحابها من دهاقنة الاستعمار من أمثال (غي موليه) و (جايار) و (لاكوست) ونهاية برئيس الجمهورية الخامسة (ديغول). ولقد أحرق لهيب الثورة الجزائرية تلك المشاريع، وترك رمادها نهبا تذروه الرياح؛ فاستطاع المجاهدون الجزائريون بذلك ممارسة عملية (غسل الدماغ) للعقلية الاستعمارية، وأرغموا دهاقنة الاستعمار على تبديل قناعاتهم وتغيير أساليب تفكيرهم، ولم تكن تلك العملية بالأمر السهل، فقد تطلبت جهود صراع مرير طوال سنوات الكفاح المرير، وكان ثمنها أرواح ملايين الشهداء الأبرار، ومعاناة الملايين من ضغوط لا توصف، وكان الإيمان الصلب والثبات المبدئي هو السلاح الأول الذي مكن المجاهدين من إحراز النصر. وقد يكون من المناسب العودة لاستقراء بعض ملامح تلك المشاريع

من خلال مقولات كبار رجال الاستعمار والمسؤولين خلال مراحل الصراع الحاسم. لقد صرح رئيس الوزراء الفرنسي (غي موليه) (¬1) أمام الجمعية الوطنية الفرنسية بما يلى: (تواجه فرنسا حاليا مجموعة من المشاكل، وقضية الجزائر هي أكثر تلك المشاكل استعجالا وإلحاحا، ولذلك، فيجب لهذه القضية أن تحتل المكان الأول من اهتمامات الحكومة، وإعطاءها الأفضلية الأولى على كافة المشاكل الأخرى التي يجب حلها، وستحتل من عنايتي الخاصة مكان الصدارة، وإن إرسال وزير مقيم للجزائر، يعتبر من ألمع الشخصيات المعروفة بالإخلاص وإنكار الذات - هو الجنرال كاترو - يساعده في مهمته وزيران آخران للدولة، إنما هو دليل على رغبة الحكومة في إيجاد حل عاجل للمشكلة يحترم بدقة من قبل الجميع. لقد قمت في الأسابيع الماضية، ولا سيما في الأيام الأخيرة منها، بتحقيقات دقيقة في المشكلة، انتهيت منها إلى أن من أولى الضرورات إزالة كل خلاف عقيم يدور حول التعابير من قبيل عبارات (الاستيعاب) و (الإدماج) و (التعاون) و (التحالف) الخ ... والأمر المهم الواجب ملاحظته في هذا الصدد هو أنه مهما كان الموقف النظري للباحث، فإن الإجراءات العملية يجب أن لا تكون محل خلاف في المستقبل: وكلها تتركز في زيادة الاتجاه نحو الحرية والمساواة - تصفيق من الاشتراكيين -. وإن المهم الآن هو ليس تنازع النظريات بل بلورة الإرادة وتحديد الأهداف وتثبيت الدوافع ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 2 شباط - فبراير - 1956.

والاتفاق إن أمكن على طريقة للعمل. إن غرض فرنسا وإرادة الحكومة، هما قبل كل شيء تحقيق السلام في الجزائر، وتحرير جميع الفرقاء المعنيين هناك من الخوف، وهذا يتطلب إيقاف الارهاب من جهة، وإيقاف القمع الأعمى من جهة أخرى، وبعد ذلك يجب الانصراف إلى تطوير الأنظمة تطويرا ديمرقراطيا، وتحقيق التعايش السلمي بين المجموعتين الجزائرية والفرنسية اللتين ربطهما التاريخ إلى الأبد، فلن يسمح لهما بالانفصال، وضمان التقدم الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، أو بعبارة أخرى: إن غرض فرنسا والحكومة الفرنسية هو تقوية عرى الاتحاد الذي لا ينفصم بين الجزائر والوطن الأم. وهل من اللازم أن نؤكد على فظاعة النتائج التي ستترتب على تجريد فرنسا من الجزائر، وفصل الجزائر عن فرنسا؟ لقد صاغ التارخ بينهما من العلاقات البشرية والمجادلات الاقتصادية ما لا سبيل إلى حله مما عاد ولا يزال يعود على البلدين معا بأجزل المنافع (؟). كذلك من الضروري الاعتراف للجزائر بشخصيتها الخاصة، واحترام هذه الشخصية، وتحقيق المساواة السياسية التامة بين جميع سكان الجزائر، ولكن لمن يجب أن نوجه أنظارنا الآن؟ ... إن هناك مجموعتين رئيسيتين تكونان الجزائر الحديثة: الأولى هي الأقلية الأوروبية المهمة، وهذه بدورها تتألف من عناصر كثيرة؛ فإلى جانب قلة من أفرادها عرفت بالأنانية وقصر النظر تتحمل اليوم قسطا كبيرا من مسؤولية تردي الوضع في الجزائر، هناك أيضا جماعات كبيرة تعود لأصول متواضعة في المجتمعات الأوروبية، أغلبهم عمال أنقياء الضمير، مخلصون لوطنهم، وهم الممثلون

الحقيقيون للوجود الفرنسي في الجزائر. أما المجموعة الثانية فهي المجموعة العربية التي يزداد عددها يوما بعد يوم، وإذا كانت هذه المجموعة تضم بعض المجرمين والسفاكين مع الأسف (!) فإن أغلبيتها لا تطمح إلا إلى إبقاء العلاقات الوثيقة مع فرنسا، مع مجرد ضمان المساواة التامة في الحقوق، بنفس الشكل الذي فرضت عليهم المساواة التامة في الالتزامات (الواجبات). والآن، وبعد تحديد المبادىء العامة، والأهداف الرئيسية، علينا أن نحدد أسلوب العمل. إن من أهم القضايا الواجب تأكيدها لأعضاء جمعيتكم المحترمة، هو أن مستقبل النظام في الجزائر سوف لا يتحدد من جانب واحد، كما أنه من الضروري التأكيد، وهذه نتيجة لازمة للمبدأ الأول، بعدم السماح بأي حل يفرض بالقوة، أو قبول ادعاء أحد عنصري السكان بفرض إرادته على العنصر الآخر. إن حكومتنا تنوي في أجل قريب، القيام باستشارة جدية للشعب الجزائري، عن طريق انتخابات حرة، تجري على أساس الكتلة الانتخابية الواحدة، مما يتطلب مبدئيا إجراء تعديل في قانون الانتخابات، غير أنني لا أستطيع في الوقت الحاضر تحديد زمان إجراء الانتخابات المذكورة، سواء للجمعية الوطنية الفرنسية، أو للجمعية الجزائرية، أو للانتخابات المحلية. كما تنوي الحكومة أن تقدم لأعضاء الجمعية الوطنية بأقرب فرصة التشريعات اللازمة التي تخولها السلطات الكافية لإجراء بعض الاصلاحات العاجلة، خاصة إصلاح التنظيم البلدي، وقوانين الإدارة والخدمة المدنية، وإن هذه القرارات التي ذكرتها لكم، من شأنها تغيير الجو في الجزائر وإذا كان من غير المحتمل، في المستقبل القريب، تقليل عدد الجيوش الفرنسية في الجزائر، فإن

فعالياتها ستزداد من دون شك بعد إجراء إصلاحات أساسية في تشكيلاتها، وفي طرائق استخدامها وفي تلبية احتياجاتها حتى تتكيف مع ظروف القتال المحلية الخاصة في الجزائر. إن أهداف القوات المذكورة هي إعادة الأمن إلى نصابه وحماية الأرواح والممتلكات إلى جانب تحرير النفوس من الخوف - ونعتزم كذلك أن نقوم، إلى جانب الإجراءات السابق ذكرها، لإصلاح الإدارة والوظيفة العامة، بإطلاق سراح الموقوفين السياسيين، مع عدم الخلط بين هؤلاء وبين الموقوفين بتهم تدخل في نطاق قوانين العقوبات. كذلك سوف لا نتأخر عن القيام بالإجراءات العاجلة الضرورية في المجال الاقتصادي والاجتماعي، خاصة تطوير منهاج الأشغال العامة، وتوزيع المواد الغذائية والمنسوجات بهدف مكافحة الفقر، كذلك تعلق الحكومة أهمية كبرى على تحقيق الإصلاح الزراعي، وإننا لا نكتم عن أبناء البلاد في هذه المرحلة الخطيرة التي يتقرر فيها مصيرنا لأجيال، الحقائق المرة، ويقيننا أن إخفاءها من شأنه أن يزيد في تعقيد الأمور ويجعل من المحال إصلاحها، إلا أن إرادة الشعب الفرنسي ستمنع ذلك. لقد تعهدت فرنسا في مقدمة دستورها (بقيادة الشعوب التي اضطلعت بأعبائها نحو الحرية، وحكم نفسها بنفسها والإدارة الديموقراطية لشؤونها الخاصة)، ويؤيد التاريخ هذه الحقائق الدستورية، وما منهاجنا في الواقع إلا تطبيق هذا النص الدستوري، وتحقيق هذا الاتجاه التاريخي نحو تمكين شعوب ما وراء البحار على إدارة أمورها بشكل ديموقراطي، أي تطوير أنظمتها الخاصة في الاتجاه الديموقراطي، ولكن ماذا يعني ذلك؟ ... إنه يعني توسيع

مبدأ الكتلة الانتخابية الواحدة إلى سائر بلدان ما وراء البحار، وضمان سلامة الانتخابات، وزيادة صلاحيات البلديات، وتوسيع اختصاصات المجالس الانتخابية، وزيادة عدد الهيئات الفنية، وتحقيق اللامركزية الإدارية، والديموقراطية في الإدارة. إنني أطلب إلى أعضاء الجمعية الوطنية المحترمة أن يشتركوا معي في شجب كل مظاهر التعصب العنصري على اختلاف ألوانه ومن أي جهة صدر، سواء من هؤلاء الذين يعتقدون بتفوقهم العنصري، أو من أولئك الذين يشعرون بأنهم يعاملون معاملة العنصر التابع. إننا سنبدي لهذه الشعوب الصديقة بأن فرنسا ستقودهم حقا للحرية اخلاصا لرسالتها في التحرير والإتقان). ... لقد استقبل النواب الاشراكيون هذا الخطاب بالهتاف والتصفيق الحاد، وقاطعوه مرات عديدة ليعبروا عن بهجتهم بمضمونه وحماستهم لتنفيذه. وفي خطاب آخر لرئيس الوزراء (غي موليه) أمام (لجنة الشؤون الداخلية) في (الجمعية الوطنية الفرنسية (¬1) جاء ما يلي: (إن فكرة الحقيقة القومية الجزائرية، لا تستند إلى أي أساس من الاعتبارات الواقعية، وهي لا تختلف في هذا الصدد عن الفكرة المتطرفة الأخرى، فكرة اعتبار الجزائر مقاطعة فرنسية صرفة كسائر مقاطعات الوطن الأم. والواقع، إن مما لا يقبل الجدال، أن ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 24/ 2/ 1956.

الجزائر لا يمكن اعتبارها مقاطعة فرنسية كسائر المقاطعات الأخرى، كما أن اجتماع قوميتين مختلفتين فيها، لا يسمح بالكلام عن الحقيقة القومية في الجزائر، والحل الوحيد الواجب تقديمه للجزائر هو حل من نوع خاص، من العبث مقارنته أو إسناده إلى إحدى الصيغ الثلاث التي وضعت في الهند الصينية وتونس ومراكش. على أنني لا أستطيع في هذه المرحلة أن أحدد المضمون الدستوري لمفهوم الشخصية الجزائرية، فالجزائر بعيدة كل البعد عن مفهومي (الأمة) من جهة و (المقاطعة الفرنسية) من جهة ثانية. انني أحتج على وصف سياسة الحكومة الفرنسية الحاضرة بأنها سياسة مبنية على القوة، إننا نرغب في التهدئة وليس في العنف، وإنني أكرر بأن الحلول العسكرية وحدها سوف لا تؤدي إلى شيء. أما فيما يتعلق بأحكام الاعدام ضد العصاة، فقد تركت لنا الحكومة السابقة إضبارة ثقيلة بالمحتويات، وإنني لأتمنى أن يكون العدل - سريعا - ولكن بعد إجراءات - سليمة - وتحقيق كامل، كما أرجو أن يكون العدل - على السواء - فليس من العدل مثلا أن يحكم على عربي بالعقوبة العظمى لمجرد حمله السلاح، بينما يطلق سراح الأوروبي الذي ارتكب نفس الجريمة في مظاهرات مختلفة، ويكتفى بتغريمه بمبالغ تافهة. إن الوضع القائم في الجزائر الآن، لا يسمح بإجراء انتخابات حرة، ولكن المهم أن يدرك أولئك الذين يزعمون الكلام باسب الشعب الجزائري، أنه بدون انتخابات حرة لن يكون لأحد حق الكلام، وهذه الانتخابات لا يمكن أن تتم إلا بعد ضمان الحرية التامة وسلامة السر الانتخابي.

إن من أكبر الاخطاء الشائعة هو خطأ التسمم بالتعابير، والذي أعتقده أن فرصة - الإدماج - سبق أن سنحت لنا، ولكننا لم نستفد منها، ولعلها قد فات أوانها الآن، كذلك أبدي اشمئزازي من كل تعبير قد يثير إلى - الانفصال - بين الجزائر وفرنسا! أما فيما يتعلق بتكوين جبهة التحرر الوطني، فإني أود أن أؤكد بأنه إذا كان هناك شيء من الوحدة في صفوف القوات العربية المسلحة، فإن من المهم التمييز بين ثلاث جماعات: 1 - الأولى: تتألف من أشخاص يدفعهم دون شك، حافز قومي، وهؤلاء هم من صنعنا نحن الفرنسيين؛ تخرجوا من مدارسنا، وهم يحاربوننا بنفس الروح التي حارب بها أنصار المقاومة من الفرنسيين، أثناء الاحتلال النازي - الهتلري -. 2 - الثانية: ويظهر أنها أهم من الأولى، تتألف من أشخاص تسيرهم الدعاية الأجنبية، وتربطهم بالأجنبي الروابط الدينية؛ وهؤلاء يؤلفون الجناح المتحرك في قوات العدو، كما أنهم هم الذين يرتكبون الفظائع ضدنا. 3 - أما الفئة الأخيرة فتتألف من عصابات السلب والنهب!). ... وصرح (غي موليه) بعد ذلك لمراسل شركة إذاعة كولومبيا الأمريكية (¬1) بما يلي: (... فيما يتعلق بملاحظات بعض المعلقين السياسيين حول إمكانية إضعاف فرنسا لمنظمة ميثاق الأطلس بسحبها قسما مهما ¬

_ (¬1) ونشرته صحيفة (لوموند) يوم 6/ 3/ 1956.

من جيوشها في أوروبا لساحات المعارك في شمال أفريقيا، أود أن أقول: إن التضامن المفروض بين أعضاء المنظمة المذكورة يستوجب إمكانية استفادة كل عضو من أعضائها من حسن فهم الآخرين في الوقت الضروري لحل مشاكله الخاصة المعقدة، وبهذا الشرط فقط يمكن للميثاق المذكور بلوغ أهدافه التعاونية المرسومة له، وبهذا الأصل نفسه نعتمد نحن اليوم على مساعدات حلفائنا في منظمة الأطلسي. ومن المهم جدا أن لا يغرب عن بال أحد بأن الجزائر جزء لا يتجزأ من منطقة الأطلسي، وأنها مشمولة بميثاق حلف شمال الأطلسي. إن الجزائر بسبب وجود الثمانية ملايين عربي فيها، لا يمكن أن تعتبر طبعا منطقة فرنسية بنفس المعنى الذي تعتبر فيه مثلا مناطق (الانشوا) و (النورماندي) الفرنسيين، ولكننا نرفض أيضا رفضا باتا، وبسبب وجود المليون ونصف المليون أوروبي فيها، أن نسلم بوجود (حقيقة القومية الجزائرية) لأن ذلك لا ينطبق لا على الحقائق التاريخية، ولا على الحقائق العنصرية. وليس معنى ذلك أن الجزائر هي (مقاطعة فرنسية مزيفة) أو (أمة جزائرية مزيفة) بل معناه أن لها شخصية خاصة: حيث يعيش جنبا لجنب - العرب والأوروبيون - وكلاهما لا معدى عنه لتطور البلاد الاجتماعي. إن الجزائر يجب أن تكون (مجتمعا فرنسيا إسلاميا معا) مما يستتبع وجوب ربطها بفرنسا بروابط لا تفصم من جهة، وضرورة احترام فرنسا للشخصية الجزائرية من جهة أخرى. ولقد صممنا على أن نظام الجزائر المستقر سوف لا يتقرر من جانب واحد، بل بعد مفاوضات مع ممثلي السكان الجزائريين المنتخبين بصورة حرة. ولعل الجزائر تشكل قضية فريدة في تاريخ العالم، وهي لذلك يقتضيها حل مبتكر يجب أن يكون خاصا بها.

لقد برهنت فرنسا على رغبتها في السلام، إلا أن تهدئة الجزائر لا يمكن أن تتم الا بالرغبة المتبادلة من قبل الطرفين، ولست أعتقد أن هناك بين عرب الجزائر من يستطيع أن يتحمل أمام العالم وأمام التاريخ المسؤولية الفظيعة لجعل الوضع هناك لا يحتمل، ومنع التحرر السلمي لعرب الجزائر، ووأد الصداقة الفرنسية العربية؟! ... إن وضع الجزائر مختلف تماما عن وضع تونس ومراكش، واذا كانت هناك وحدة جغرافية لأفريقيا الشمالية، فإن الوحدة السياسية معدومة! إن التقاليد القومية التونسية والمراكشية تستند الى تاريخ طويل، كما أنها تستند في حالة مراكش إلى اعتبارات دينية أيضا، وليس الوضع كذلك في الجزائر، كذلك يجب التأكيد على الحقيقة الأخرى التي سبق أن أشرت إليها: وأعني وجود أقلية أوروبية كبيرة جدا في الجزائر، لا تقارن بمثيلتيها في تونس ومراكش. إن الاعتراف بدولتي تونس ومراكش لم يكن موضع نزاع في وقت من الأوقات أبدا، وتنبعث علاقاتهما بفرنسا من معاهدات دولية معقودة بصورة حرة، فإذا حازتا اليوم على استقلالهما في نطاق التكافل المنظم مع فرنسا فإن ذلك مما يتفق مع مبادىء الدستور الفرنسي ذاته. أما الحل الدستوري في الجزائر فلا يمكن أن يكون من النوع ذاته؛ ومع ذلك فنحن مصممون على تمتع الجزائرين في ظل إطار تشريعي مختلف، هو الإطار الفرنسي - الإسلامي المشترك! ...). ... ومن خطاب لرئيس الوزراء (غي موليه) من محطة إذاعة

(باريس) (¬1) ورد ما يلي: (إن مجموع القوى الموضوعة تحت تصرف منظمة حلف شمال الأطلسي، تشمل في نطاق أعمالها اقطار أفريقيا الشمالية، ولذلك، فإنه من واجبنا حماية هذه الأقطار، لا بصفتنا فرنسيين فقظ، بل بصفتنا أعضاء في المنظمة المذكورة. إن جميع حلفائنا أدركوا هذه الحقيقة كل الإدراك، ولقد تلقينا التشجيع لموقفنا من قبل (غرونتر) والسفير الأمريكي في باريس (المستر دوغلاس ران) و (اللورد أزمي) والسفير البريطاني في باريس (السير غلادوين جيب). إن الشباب الفرنسي المدعو للخدمة في الجزائر، ليست مهمته خوض الحرب، بل إعادة الصداقة الفرنسية - الجزائرية لوضعها الطبيعي. إنني رجل ديموقراطي، ولهذا السبب بالذات، لا أعترف للحكومة الفرنسية بحقها في اختيار الممثلين الشرعيين الجديرين بالتفاوض باسم الشعب الجزائري، ولكنني من باب اولى لا أعترف لخمسة عشر ألفا من العصاة المسلحين بحق الكلام باسم ثمانية ملايين من الجزائريين لم يؤخذ رأيهم في ذلك؛ إذن فالحل الوحيد هو إجراء الانتخابات. أما فيما يتعلق بالشعب البطولي الصغير، الشعب الاسرائيلي! فقد قامت الحكومات الفرنسية المتعاقبة ولا تزال تقوم بواجبها تجاهه. إن هذه النقطة جديرة بالتذكير والاعتبار؛ لقد انتهزنا كل الفرص أمام حلفائنا الكبار حتى نكون في الطليعة في هذا المضمار. أما عن المشكلة العربية، فأود أن أوضح فرقين أساسيين: الأول ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 18/ 4/ 1956.

وجوب التمييز بين موقف الحكومة الفرنسية تجاه بلد عربي بالذات، وموقفها تجاه الوحدة العربية؛ ذلك لأن الفكرة الأخيرة تمثل رغبة واضحة في التوسع والامتداد. كذلك يجب التمييز الصريح بين الوحدة العربية والجامعة الإسلامية، ذلك لأننا بالحديث عن الحملة الإسلامية الموجهة ضدنا، إنما نثير علينا فريقا كبيرا من المسلمين يحرص ذاته على الدفاع عن كيانه ضد أطماع الوحدة العربية، وتحرص الحكومة الفرنسية حرصا شديدا على تحويل هذه الفروق الدقيقة إلى أعمال مادية في سياستها العامة. ... استقال الراديكالي - رئيس الوزراء الفرنسي (مانديس فرانس) من منصبه يوم 23/ 5/ 1956، وقد وجه بهذه المناسبة رسالة إلى خلفه الاشتراكي (غي موليه) تضمنت ما يلي: عزيزي رئيس الوزراء. قدمت استقالتي توا من الحكومة، مدفوعا بسياستنا التي اتخذناها في الجزائر؛ لقد كانت الحكومة مجمعة على اتخاذ إجراءات للإنقاذ تفرضها ضرورات في غاية الإلحاح والاستعجال، ولكنها في الوقت ذاته، وبينما كانت تدعو شبابنا إلى بذل تضحيات جديدة تقبلها بأروع خصائص الشعور بالواجب، فإنها لم تعمد لتطبيق أي إجراء من شأنه إقناع العرب في الجزائر برغبتنا في التهدئة والتجديد، وحملهم على الاعتقاد بأنه بالإمكان السير خطوة إلى الأمام مع فرنسا وليس ضدها. لقد كان الالتجاء إلى السلاح بالنسبة إلينا للأسف ضرورة من الضرورات! بل لقد كنت أفضل، كما تعلمون، إرسال قوات أكثر

بسرعة أكبر، ولكني أكدت أيضا بأن الالتجاء إلى السلاح وحده لا يكفي بالمرة؛ إنه يهدد بإدامة القطيعة بيننا وبين الجماهير الإسلامية، هذه القطيعة التي يعمل لها بالضبط أصحاب هذه الأساليب الكريهة التي تثيرنا كل الاثارة، والواقع أن كل سياسة تتجاهل عواطف السكان الأصليين وبؤسهم تؤدي، شيئا فشيئا، إلى فقدان الشعب الجزائري، وإلى ضياع الجزائر ذاتها، ومن ثم يؤدي بصورة حتمية إلى فقداننا أفريقيا كلها، وهذه هي سياسة الهزيمة والانسحاب لقد حثثت الحكومة على سلوك سبل أخرى، واتباع - رغم معارضة أولئك الذين عموا عن رؤية الهوة السحيقة التي يشرفون عليها ويجروننا معهم إليها - سياسة أخرى غالبا ما أسيء فهمها، بل وصفت أحيانا بأوصاف بشعة: تلك هي سياسة إعادة البناء على أساس انضمام جميع الشعوب التي تشكل هذه الامبراطورية التي هي مبعث فخرنا واعتزازنا!. اننا إذا أردنا في الجزائر إنقاذ (الوجود الفرنسي) فيجب علينا الإسراع بأقصى ما يمكن حتى نجذب إلينا تلك العناصر من السكان التي عرفت منذ أمد طويل بثقتها بفرنسا، لضمان تحررها التدريجي. لقد ابتعدت هذه العناصر عنا بتأثير دعايات ممقوتة أجنبية وداخلية، إلى جانب أخطائنا الكثيرة التي تعود لجهلنا بالأمور، وعدم فهمها فهما صحيحا! ولذلك، فإنه من الضروري - في اعتقادي - إحياء الثقة والأمل من جديد في نفوسنا بأعمال ملموسة وشواهد حية: وإلا فإننا سنطرد من الجزائر عاجلا أم آجلا، هذا الطرد الذي يتعين علينا واجب منعه ودفعه، يدا بيد وساعدا بساعد! ومن المؤسف أن العناصر المعتدلة بين مسلمي الجزائر، هذه العناصر التي كان من واجبنا أن نسندها ونؤيدها،

تساء معاملتها يوميا من قبل الإدارة والبلديات، وخاصة من قبل الصحافة المشبعة في غالب الأحيان بروح عدوانية سببت لنا كثيرا من الأضرار. وهكذا فإنهم بمعاناتهم لكثير من الآلام، ورميهم في معسكرات الاعتقال، وإبعادهم عنا، إنما ندفعهم في حقيقة الأمر إلى الارتماء في أحضان عدونا الألد. لقد عددت - على سبيل المثال - في رسالة سابقة، بعض الإجراءات التي كان من شأنها أن تؤدي إلى آثار حسنة في هذا الصدد، ولكن لم يطبق أي إجراء من هذه الإجراءات، وقد رأيت بعيني كيف تنهار فرص توجيه الحكومة نحو سبيل الخلاص الوحيد. على أنني أعلم - يا عزيزي الرئيس - بأنكم تفهمون عواطفي أحسن الفهم، وأترك الأمر لحكومتكم التي علق عليها كثير من الفرنسيين، ومنهم أنا وأنت، كثيرا من الآمال. وانني أود على الأقل أن يكون لاستقالتي هذه معنى تجديد النداء للحكومة لاتخاذ القرارات الضرورية، مهما تكن صعوبتها. إنني أؤكد بأن الوقت لم يفت حتى الآن، لاختيار السياسة التي يمكنها أن تنقذ في نفس الوقت، السلام من جهة، والوجود الفرنسي في الجزائر من جهة أخرى. وختاما أرجو أن تثقوا، يا رئيسي العزيز، بأخلص عواطفي نحوكم ... أعقب ذلك نقاش في (الجمعية الوطنية الفرنسية) استمر أربعة أيام، أحرزت (حكومة غي موليه) على إثر ذلك ثقة الأغلبية، وألقى (غي موليه) خطابا بدأه بإعلان أسفه الشديد لاستقالة (مانديس

فرانس). وأكد استمرار ولائه وإخلاصه للخطوط العامة لسياسته الجزائرية التي أعلنها في عدة مناسبات سابقة، وانتقل بعد ذلك فأثنى على سياسة وزيره المقيم في (الجزائر) وامتدح شجاعته وحكمته، وتضمن بعدئذ خطابه (¬1) ما يلي: (... إن موقف الصحافة والأحزاب ورجال السياسة مثقل بأشد المسؤوليات الملقاة على عاتقهم، ولكنهم لم يفهموا مسؤولياتهم دائما؛ فكثيرا ما تجدهم مفتقرين للروح الموضوعية، ومتأثرين مباشرة بالاعتبارات الحزبية الداخلية الضيقة. إنهم يضخمون بعض الأخطاء الفردية المرتكبة من قبل بعض المواطنين الفرنسيين في الجزائر، فيعطون بذلك مجالا خصبا للدعاية التي يستخدمها خصومنا وأعداؤنا ضدنا في العالم كله؛ إنهم يصفون العصاة بأنهم (وطنيون) بل إنهم يجرؤون حتى على مقارنتهم بأبطال المقاومة من الفرنسيين. إننا وإن كنا لا ننكر بأن بعض المحاربين لفرنسا في الجزائر، يستوحون بعض المثل القومية والوطنية، إلا أننا نتساءل باستنكار: أي بطل وطني حقيقي من أبطال المقاومة يرتضي لنفسه أن يقارن بهؤلاء الذين يضرمون النار في المدارس والمستشفيات، ويذبحون حتى النساء والأطفال؟! إن بعض صحافتنا لا تتورع عن أن تنشر في أعمدتها تفاصيل مريعة عن جرائم وحشية مزعومة قامت بها قواتنا، دون أن تعبأ بآثار ذلك على معنويات الجيش الفرنسي، أو تهتم أقل اهتمام بسمعة المسؤولين في الحكم وكرامتهم! ... لست أزعم احتكار (المقاومة) الفرنسية لنفسي أو لحزبي إلا ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 3/ 6/ 1956.

لم تتمكن جحافل فرنسا من قهر إرادة الشعب الجزائري

أننا نحن اليساريين الفرنسيين، لنا الحق أكثر من أي شخص آخر، أن نعتز بالوطنية، وبالدفاع عن الديموقراطية والجمهورية. إننا نحن اليساريين الجمهوريين لا نحتاج لإقامة الدليل على وطنيتنا، وإن جميع الهجمات التي توجه ضدنا مردودة على أصحابها. إنني أوجه ندائي إلى كل أولئك الذين ما انفكوا أبدا يدافعون عن وطنهم المهدد، وأهيب بهم لضمان السلم في الجزائر، وبشجب سياسة وقف إطلاق النار التي توجه إلينا فقط دون أن توجه في نفس الوقت لخصومنا وأعدائنا! إن الحل الذي ندعو إليه لمسألة الجزائر لن يكون إلا حلا سياسيا، لقد قررت الحكومة الفرنسية أن لا تسمح بإقامة نظام الجزائر المستقبل من جانب واحد فقط. إننا لا نقبل أن يفرض علينا العدو حله الخاص به بالقوة، كما أننا لم نفرض ولن نفرض حلنا الخاص بالقوة. إن المفاوضات السلمية فقط التي ستدور مع الممثلين الحقيقيين للشعب الجزائري عن طريق الانتخابات الحرة، هي التي ستقرر النظام الجزائري المذكور. إن الحكومة لا تمانع في نداء وقف إطلاق النار وإنها مستعدة لإجراء الاتصالات الضرورية لذلك، ولكن بشرط أن تكون رسمية ومباشرة، مع استعدادها التام أيضا لإعطاء جميع الضمانات لأولئك الذين يباشرون وضع سلاحهم بالفعل، إن لم يشاركوا في ارتكاب جرائم تخضع للقانون العام. أما الانتخابات الحرة فإنها ستجري بعد مرور ثلاثة أشهر على إعادة السكينة للجزائر، وستكون على أساس مبدأ الكتلة الانتخابية الواحدة. وإنني أعلن على رؤوس الأشهاد بأن حرية الانتخابات المذكورة ستكون مضمونة بكل الوسائل، ولست أمانع في إجراء

الرقابة اللازمة تحت إشراف شخصيات محترمة مشهود لها بالحياد من قبل الجميع. إن الجزائر لن تكون دولة إسلامية بسبب وجود المليون أوروبي مسيحي فيها، كما لن تكون دولة عربية بسبب وجود البربر فيها، ولكنها لن تكون في الوقت ذاته مقاطعة فرنسية صرفة كسائر المقاطعات الأخرى، بسبب وجود الثمانية ملايين مسلم فيها. إن للجزائر طابعها الخاص الذي تتميز به عن سائر بلدان العالم (؟!) ومن الضروري الاعتراف لها بشخصيتها الجزائرية الخاصة، مع ضمان اتحادها بفرنسا الأم بروابط غير قابلة للانفصام! إن من الضروري ضمان المساواة التامة في الحقوق لسكانها المسلمين، إلى جانب احترام الحقوق المشروعة للسكان الأوروبيين. إن المجتمع الجزائري الجديد سوف يبنى على توزيع المسؤولية العادل في الأمور السياسية والاقتصادية معا، كما أن اللامركزية الإدارية ستضمن منح الوحدات المحلية سلطات واسعة تتفق مع مبدأ الإدارة الذاتية. إذن، لن يتضمن الحل للقضية الجزائرية، لا الرجوع لانظمة الماضي العتيقة، ولا الانفصال عن فرنسا وطرد الأوروبيين من وطنهم الحقيقي الجزائري. إن رغبتنا، إذن، في التجديد واضحة، ولا أستطيع إلا أن أعجب لأولئك - العرب - الذين يشكون في طابع سياستنا الحر، أو يجرأون على السخرية منها! فهل هناك سياسة أكثر حرية من إعلان الانتخابات الحرة (؟) وهل هناك من لا يتمنى أن يرى البلدان التي تنتقد سياستنا وتصرفاتنا، تعطي نفس الضمانات ونفس الطابع الديموقراطي لأنظمتها في الحكم؟ .. نحن لا نشهر الحرب ضد الشعب الجزائري ذاته، كما لا نشهرها

ضد الشعوب العربية. إننا نعلنها فقط ضد حفنة من العصابات المسلحة لحماية أغلبية الجزائريين، وضمان السلم والصداقة معهم! نحن نود أن نقيم في الجزائر نظاما جديدا يعيد الصداقة الفرنسية - الإسلامية في مجتمع مبني على الأخوة التي لا تنفصم! لقد أراد بعض الخطباء أن يقارنوا بين سياستنا في الجزائر، وسياستنا في تونس ومراكش، والواقع أننا نتبع في كل شمال أفريقيا نفس المبادىء والأسس، ونستوحي نفس الإدارة، أعني ضمان الصداقة الفرنسية - الإسلامية في ظل الأمن والنظام أعنى أن الوضع في الجزائر يختلف تمام الاختلاف عنه في تونس ومراكش، ولذلك يستدعي إجراءات خاصة به تماما. إن تونس ومراكش لم تفقدا أبدا شخصيتهما الدولية، لقد كانتا دولتين تحت حمايتنا، فأردنا أن تكونا دولتين صديقتين لنا؛ لقد استبدلنا بنظام الوصاية نظاما آخر للتعاون، ومن الطبيعي والمفهوم أن الوضع في الجزائر يشغل بال زعماء تونس ومراكش؛ إلا أنه من الواجب علينا أن نرد - وقد رددنا فعلا - على بعض التصريحات في هذا الصدد، بأن القضية الجزائرية هي من الاختصاص المطلق لفرنسا، وأنه ليس لتونس ومراكش أن تتدخلا بأية صورة من الصور في هذا الأمر، وإن هذا التدخل من شأنه أن يهدد الصداقة الفرنسية كل التهديد، ونحن مصممون كل التصميم على مراقبة الحدود الجزائرية، لمصلحة الجزائر ذاتها، ولمصلحة الأمن الداخلي لتونس ومراكش جميعا). ... بينما كان (غي موليه) ينادي (بالسلام) ويضع المشاريع

المختلفة، كانت القوات الفرنسية - الاستعمارية تمارس أبشع أنواع القبر، وأقذر اشكال القمع الوحشي، حتى أنه ما من فترة كانت أكثر ثقلا على المجاهدين الجزائريين من فترة حكم (الاشتراكيين). وخيل لهؤلاء أنهم في سبيلهم للقضاء على الثورة بحيث أن جلاد الجزائر الاشتراكي (لاكوست) اطلق شعاره المشهور: (يجب ألا نقدم للثوار أي تنازلات، وألا نتسرع بتقديم إصلاحات سياسية، فنحن في الربع الساعة الأخيرة من تصفية الثورة) (¬1) واتبعه (غي موليه) بتصريحه الشهير (لمقاومة هذا التطرف نقدم البرنامج الوحيد الموافق لقانون الديمرقراطية، الذي ينحصر في: إيقاف القتال غير المشروط، وإجراء انتخابات حرة، والمشاركة في نقاش مفتوح - حر - مع منتخبي الجماهير الجزائرية) (¬2). وجاء بعد ذلك رئيس الجمهورية الفرنسية (روني كوتيه) ليصدر بدوره التصريح التالي: (كيف يمكن لفرنسا دون إهانة نفسها، أن تسلم هذه الجماهير إلى ذابحي هذا العدد الهائل من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال (؟) وهل يمكن لديموقراطية جديرة بهذا الاسم أن تميز بين السيادة القومية المتعفنة والأكثر تأخرا، وبين حرية المرء، هذه التي هي غايتنا المشتركة إلا إذا اتهمنا بالجهل؟ .. لا يمكن أن يعتمد علينا بأن نضحي بالجهة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط. ولن نخلق (ألزاس ولورين) جديدة) (¬3). ¬

_ (¬1) تصريح يوم 20 تشرين الثاني - نوفمبر - 1956. (¬2) تصريح يوم 9 كانون الثاني - جانفي - 1957. (¬3) تصريح 10 تموز - يوليو - 1957. والمرجع - ملفات وثائقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - أوت - 1976 ص 79.

وكذلك صرح رئيس مجلس الوزراء (بورجيس مونوري) (¬1) بما يلي: (في إطار القانون، هناك ثلاث التزامات: الأول، لا أحد ولا شيء يفرق بين الجزائر وفرنسا ... تفاوض؟ مع من؟ السلم وبأي ثمن؟ إنه لا يمكن التفاوض إلا مع ممثلين أكفاء، ونحن لا يمكن لنا أن نعتبر ممثلين أكفاء أولئك الذين يستمدون كفاءتهم عن طريق الإجرام والإرهاب). والأمر مماثل في تصريح رئيس المجلس (فيلكس جايار) (¬2) الذي قال: (الجزائر هي جزء لا يتجزأ من الجمهورية الفرنسية، وولاياتها مجتمعة تكون مناطق موحدة فيما بينها، تسير بكل حرية وديموتراطية شؤونها ... إن نهاية الحرب تعني بأن الجزائر يجب أن تبقى فرنسية). ... هنا، تجدر الإشارة إلى المشروع الاستعماري الذي عرف باسم (مشروع جايار) والذي طرحه لإقامة وحدة للمغرب العربي الإسلامي تحت زعامة (فرنسا) باسم (وحدة غرب البحر الأبيض المتوسط) وقد جوبه هذا المشروع منذ ظهوره بمقاومة عربية ضارية تمثلها المقولة التالية (¬3): (ما يزال مشروع - جايار - لعقد ميثاق للقطاع الغربي من حوض البحر الأبيض المتوسط يثير اهتمام الدوائر السياسية في شمالي أفريقيا ¬

_ (¬1) تصريح يوم 2 تشرين الاول - اكتوبر - 1957 (ملفات وثائقية 24). (¬2) تصريح يوم 30 تشرين الثاني - نوفمبر - 1957. (¬3) صحيفة (المنار) الدمشقية - العدد (1837) صباح الخميس 13 رمضان 1377 هـ الموافق 3 - نيسان - أبريل - 1958 ص 4.

لإدراك غاياته ومراميه، وحتى يتسنى لها مقاومته والرد عليه بمشروع عربي قومي، وقد أعلن أن اجتماعا للقمة يضم سلطان مراكش وملك ليبيا والرئيس بورقيبة سعيقد بطنجة قريبا وذلك تمهيدا لمؤتمر سيعقد (بطنجه) في منتصف نيسان - أبريل - 1958، ويشترك فيه ممثلو جبهة التحرير الوطني الجزائري وأقطاب حزب الاسقلال المراكشي، والحزب الحر التونسي - حزب الدستور - لدراسة مشروع (الاتحاد التعاهدي) لبلاد شمال أفريقيا؛ والغاية من هذين المؤتمرين إظهار رغبة المغرب في تدعيم وحدته العربية المعنوية والسياسية، بصرف النظر عن (ميثاق البحر المتوسط) أو غيره من المشاريع الفاشلة التي تروج لها الدول الاستعمارية من آن لآخر، استدراجا لبلاد الشمال الافريقي، ومحاولة لإيقاع هذه البلاد في شباكها، حيث تحاول البلاد الاستعمارية التغرير بالسذج والجهلة والمخدوعين الذين ما يزالون يحسنون الظن بالمستعمرين ويتلقون صفعاتهم بالرضى والقبول. واقتنع أعضاء (الحزب الحر الدستوري التونسي) أخيرا بآراء مندوبي حزب الاستقلال المراكشي في مسائل شمال أفريقا، وضرور استقلال الجزائر. والواقع، أن السلطان (محمد الخامس) يحظى بالزعامة في الشمال المغربي لتمسكه بالعروبة، ولعدم ثقته في مشاريع الدول الاستعمارية التي ما تزال قواتها المحتلة تهدد كيان بلاده واستقلالها (بريطانيا في جبل طارق) و (فرنسا وأمريكا في الداخل) و (اسبانيا في الجنوب)، هذا الى اقتناع جلالته بأن السياسة الانتهازية خطرة على البلاد الحديثة العهد بالاستقلال، وإنها تؤدي في النهاية إلى الغنم للمستعمرين والغرم على المستضعفين كما يقع في تونس، وهذه الآراء تطابق وجهة نظر أقطاب (جبهة التحرير الوطني الجزائري) ..

أما في (ليبيا) فقد نشرت صحيفة (شريناكا - ويكلي) التي تصدر أسبوعيا باللغة الانكليزية، مقالا أعلنت فيه رفضها التام لمشروع (جايار) لما يرمي إليه من إقرار الأوضاع القائمة حاليا في شمال أفريقيا، وإنه لا جدوى من مثل هذه الأحلاف والمواثيق ما دامت الجزائر لم تحصل على استقلالها التام، ولم تنزح جميع القوات الأجنبية عن شمال - أفريقيا. ومضت الصحيفة - الليبية - في قولها إن (جايار) يتجاهل أن حل مسألة الجزائر مرهون بأيدي الشعب الجزائري وحده؛ فلا القوات المسلحة، ولا الأحلاف والمواثيق، تستطيع أن تضمن لفرنسا دوام النظام الاستعماري القائم حاليا في الجزائر، بل إن الحكومات المغربية التي يسعى (جايار) إلى إشراكها في ميثاقه المزعوم، تدرك تماما أن استدامة الاستعمار الفرنسي في شمالي أفريقيا يعد تهديدا خطيرا لمصالحها. إن الاحلاف والمواثيق لن تقوم إلا بين بلاد ذات سياسة مشتركة، سعيا إلى دفاع مشترك، ضد خطر مشترك، فإن كان ذلك كذلك، فما هي يا ترى الأغراض المشتركة التي تصل فرنسا بمراكش، وتونس، وليبيا؟ وما هي الأخطار المشتركة التي تهدد هذه الأقطار جمعاء؟ ... حسب المرء نظرة واحدة، ليدرك لأول وهلة أن الخطر الوحيد على المغرب العربي متجسم كله في السياسة الإجرامية العدوانية المنظمة ضد تونس والجزائر ومراكش؛ وما مشروع ميثاق البحر الابيض المتوسط إلا مرحلة من المراحل التي تدبرها فرنسا في مختلف ميادين السياسة العالمية، ولتتأكد فرنسا وغيرها من الدول الغربية أن ليبيا، وتونس، ومراكش، لن تشترك على الإطلاق في مثل هذا الميثاق قبل أن تحقق الجزائر مطامحها القومية من حرية،

ومن استقلال كامل غير منقوص، ويبقى السبيل الوحيد لكسب صداقة شعب شمال أفريقيا وتعاونه، هو في الاعتراف بهذه الحقيقة الواقعة، وبها وحدها يستقر السلام لا في المغرب وحده، بل وفي جميع القسم الغربي من حوض البحر الأبيض المتوسط). طنجه - موندار ... يظهر العرض السابق مجموعة من النقاط التي تدخل في صلب السياسة الاستراتيجية الفرنسية منها: 1 - التفريق بين مسلمي الجزائر - خاصة - والمغرب العربي - عامة - من خلال التمييز بين (العرب المسلمين) و (مسلمي البربر) وفقا للنظرية الاستعمارية التي رافقت الاستعمار منذ بدايته (¬1). 2 - إن من لا يمكن تحويلهم عن طريق الدين يمكن تحويلهم عن طريق (الاشتراكية) وفقا لمخطط (لاكوست) الشهير، والذي ¬

_ (¬1) لقد بقي سراب تحويل المسلمين إلى مسيحيين، والتفريق بين المسلمين العرب والبربر، حلما من أحلام (عباقرة الاستعماريين)؛ وقد كتب (جان وسيمون لاكوتور) في كتابهما (مراكش على المحك) إصدار باريس - 1958 - ص 85 ما يلي: (تألفت في سنة 1928 مجموعة أحاطت بالسيد - لوسيان سان - خليفة (ليوتي) وهي تضم رجال القضاء وعلماء الاجتماع العلمانيين الذين اكتشفوا بكثير من الغبطة ما أطلق عليه صفة (لا دينية البربر) وقد دعمت هذه المجموعة من قبل (نائب الرباط البابوي) وقد ظهر في النشرة التي يشرف عليها النائب البابوي مقالات غريبة عجيبة يمكن تلخيصها بما يأتي: إن البربر بما أنهم أقل تعلقا من العرب بالإسلام، فإنهم يستطيعون، ويجب أن ينصروا. إن البعض وقد أسكرهم على الأرجح اعتناق أحد مثقفي الإسلام اللامعين الكاثوليكية عام 1928 في (فاس) يريدون أن يجتذبوا إلى المسيحية - سلالة القديس أوغسطينوس البربر - والبعض الآخر رأى في هؤلاء القرويين الراديكاليين - الاشتراكيين المقبلين، فأراد تجنيبهم المرور بالإسلام والثيوقراطية العربية - الإسلامية).

يمكن التعرض لبعض ملامحه عما قريب. 3 - الوقوف موقف العداء من (الوحدة العربية) و (الجامعة الإسلامية) وتخويف الدول الإسلامية من الوحدة العربية وفصل الوحدة العربية عن الجامعة الإسلامية. 4 - طرح المشاريع المختلفة لربط المغرب العربي - الإسلامي بالسيادة الفرنسية، والتأكيد على مفهوم (الجزائر الحديثة) و (جزائر المستقبل) لخلق كيان مميز عن الدولتين العربيتين الاسلاميتين المجاورتين (المغرب - مراكش) و (تونس)، والزعم بأن هذا التمايز إنما هو ناجم عن الارتباط (التاريخي) بين الجزائر وفرنسا، وكذلك الزعم بأن (للمغرب) و (تونس) تكونا خاصا يختلف عن الجزائر. 5 - محاولة ربط الجزائر بحلف شمال الأطلسي، حتى تستفيد فرنسا الاستعمار من إمكانات الحلف وموارده للقضاء على ثورة أحرار الجزائر؛ (الأمر الذي دفع الحكومة المؤقتة فيما بعد لإعلان انسحاب الجزائر - رسميا - من حلف شمال الأطلسي الذي قيدت به دون أخذ رأيها). ... هنا يمكن التوقف قليلا عند قراءة (لكاتب جزائري) (¬1) في التعليق على الموقف الفرنسي، حيث ذكر الكاتب ما يلي: (لم يكن في وسع رسول الإنسانية الملحد - البير كامو - شأنه شأن جبهة التحرير الوطني الجزائري، أن يتجاهل الصليبية السياسية التي يمثلها مشروع لاكوست لإبادة، حتى ولو كان هذا المشروع مموها ¬

_ (¬1) الجهاد الأفضل (عمار أوزيغان) دار الطليعة - بيروت - 1964 ص 200 - 202.

(بالطلاء الاشتراكي). لقد كانت البهلوانية اللفظية الاشتراكية - الفاشستية تلجم أفواه الشهود الخطرين، وتلغي حق انتقاد البربرية الفرنسية، بحذفها من القاموس (كلمة استعمار) وهي موضوع الخلاف. وفي الواقع، فحين أعطى مجرم الحرب رقم واحد (روبير لاكوست) الصلاحيات الكاملة لمجرم الحرب رقم اثنين (الجنرال سالان) حرض النقابي الفرنسي السابق على التصريح بقوله (لا وجود للاستعمار في اللغة الفرنسية). لقد تم انتخاب (روبير لاكوست) ليحمل السلام إلى الجزائر، فإذا به يلح على إرسال إمدادات من الجيش لحرب عمياء وبلا رحمة. إن أصدقاءه السياسيين، ومعاونيه الأوثق علاقة به، قد عادوا الواحد تلو الآخر إلى باريس حتى لا يلحقوا العار بأنفسهم، وحتى يحتفظوا بإنسانيتهم سالمة غير ملوثة. معروف أن الجنرال (دوبولارديير) لم يتردد، وقد حشر بين واجب الطاعة من جهة وكرامته كجندي من جهة أخرى، في أن يسفه علانية أوامر (الجنرال ماسو). لكن ما لا يعرفه إلا القلائل هو أن القمع الوحشي قد أمر به (روبير لاكوست) ذاته، ولذلك، لم يبق (الجنرال لوريو) قائدا أعلى إلا لفترة سبعة عشر يوما فقط؛ لقد آثر الاستقالة على تنفيذ خطة الشيطان الفرنسي - الماركسي: (الخطة القاضية بإبادة الشبيبة الجزائرية إبادة تامة لاسئصال المقاومة الوطنية المناوئة لحركة فرقة العرب المسلمين، والقاضية كذلك باستغلال حقبة سنوات الهدوء العشرين من أجل تكوين الأجيال الجديدة وفقا لروح (روبير لاكوست - الاشتراكي الديموقراطي). ماذا يمكن أن نسمي ذلك؟ إنه - للأسف - دوار عجيب، دوار

جنوني، إنه طموح الضفدع الذي يظن نفسه بطة طائرة، ويجب ألا نتعجب كثيرا من خطة - لاكوست - فمن السهل جدا وشم الأذهان عندما تكون في بدء تفتحها، وذلك أنجع من محاولة (غسل عقول) البالغين، ولقد حققت العملية في الجزائر - من قبل - على نطاق صغير. لقد رأى (لافيجوري) الذي كان في يوم من الأيام مطرانا لمدينة (الجزائر) بوضوح، عندما ادعى، وعبثا ادعى، أنه وريث (نابليون الثالث) في حق تحويل الجزائريين إلى (المسيحية). كان التصميم على تمدين المسلمين (نصف تمدين) الذين ما كانوا يستطيعون أن يصبحوا (فرنسيين) قبل أن يتحولوا إلى (مسيحيين)، وكان ذلك ضربا من ضروب العبث. ولمناسبة التأسيس الرمزي لقرى الاستعمار (العربي - الكاثوليكي) في (سان سيبريان - دي زاتاف) حيث اضطر الكاردينال الاستعماري العتيد أن يكتفي بالأيتام الذين نجوا من الموت إبان (عام المجاعة - أو عام الشر سنة 1868)، وكان (التحويل الديني) عملية جراحية روحية خيبت الأمل بقدر ما يمكن أن تخيبه عملية تلقيح بعنصر غريب. غير أن التحويل الديني، لم يلبث أن أبدل بالإلحاق السياسي. إن الوزير مؤهل، ومجهز، أكثر من رجل الدين (لتمدين الشبان الجزائريين وتطويرهم) أولئك الشبان الذين لم يكن باستطاعتهم أن يصبحوا - فرنسيين - إلا إذا صاروا (اشتراكيين - ديموقراطيين!). أما فيما يتعلق بالقمع، وإعادة السلام، فقد كان باستطاعة (الاشتراكي لاكوست) أن يستلهم التكنيك الهتلري إبان حملة روسيا؛ كان التوجه - الكوميسياري - يأمر بإبادة جميع المدنيين الذين ارتكبوا جريمة المقاومة، دون أي اعتبار للقوانين الدولية

O.A.S SALAN سالان وجه استعماري لا ينسى

عندما قبل (الجنرال سالان) أن يتولى مهمة (إبادة الجسم القومي للجزائر) بأسره عن طريق الإبادة الفعلية، وقتل كل جزائري مشتبه بتأييد (جبهة التحرير الوطني الجزائري) أصبح من المحال عليه ألا يلطخ كرامته كقائد أعلى، وأصبح محتما عليه أن يتصرف تصرف (مجرم الحرب رقم اثنين). هذا ما تنبغي معرفته لتقدير جبهة التحرير الوطني حق قدرها، ولأخذ فكرة عن البطولة الروحية التي اجترحها المجاهدون حتى (يدوسوا على قلوبهم) وحتى (ينتصروا على نزواتهم وعواطفهم العمياء) وحتى (يحتفظوا برؤوسهم باردة) في مواجهة الحرب (العقائدية). لم يهرق عبثا دم الشهداء الكريم، لقد تمسك المجاهدون بأهدافهم: الاستقلال والسيادة والحرية، وما أبعد ذلك عن الفكرة المضحكة التي اقترحها الاشتراكي (غي موليه) والتي كانت تريد أن تجعل من الجزائريين عبيدا (أحرارا) في (وطن أسير). لقد كانت خرافة (الدمج الاستعماري) المموه تتنكر بوحشية لجوهر الجغرافية الطبيعية والإنسانية والسياسية والتاريخية - للجزائر -. لكن تلك الخرافة - خرافة إعطاء الاغتصاب صفة شرعية - لم تلبث أن ماتت على أيدي المجاهدين، وأصبحت جيفة. لقد بقي المجاهدون - وهم في ساعات العسرة الأليمة - يرددون بثقة وإيمان: سيصير حرا ترابنا. سيصير أحرارا مواطنونا. وستنعتق رقابنا من نير العبودية. الحمد لله؟ هللو يا؟.

تلك هي النهاية لعرق أسياد الغرب (الأوروبي) وتلك هي نهاية حكم الأقلية (الأوليفارشية) التي انتحلت (الحق الإلهي) لغير المسلمين. لقد قضى المجاهدون على آخر سلطان لأمجاد العبيد البيض. وفضحوا (الرسالة التمدينية) التي حاول الاستعمار الفرنسي التظاهر بها. إن ديمواقراطية (الاشتراكي غي موليه) الاستعمارية، ظالمة هي أيضا، كالديموقراطية الارستقراطية القديمة في (أثينا)؛ إنها تمارس عدم المساواة، سياسيا، بادعائها الكاذب أنها تحقق المساواة الأخلاقية أو شبه الحقوقية، إنها تمنح الفرنسيين الجدد هيمنة سياسية - اقتصادية تتعدى بكثير أهميتهم العدديه: يخضع لكل مواطن أوروبي واحد، اثنا عشر جزائريا مسلما.

سياسة ديغول

3 - سياسة ديغول كان للثورة الجزائرية تأثيرها العميق على الحياة الفرنسية في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وقد حمل المجاهد الجزائري سلاحه ليهز دعائم الاستعمار ويقوض بنيانه، فكان من أبرز ثمار تضحياته ذلك الاضطراب الذي انعكس على الصفحة السياسية لفرنسا طوال سبع سنوات ونيف من الصراع المستمر، والذي أدى إلى تغيير نظامين هما: (الجمهورية الرابعة) و (الجمهورية الخامسة) إلى جانب تبديل أربعة من القادة، وتغيير (سبع حكومات فرنسية). غير أن أكبر تحول حدث في مسيرة الصراع هو (إنقلاب 13 أيار - مايو - 1958) والذي حمل (ديغول) إلى سدة الحكم، وحمل معه (جمهوريته الخامسة)؛ وذلك بعد سلسلة من الأزمات الحادة التي تركت فرنسا في حالة من الفراغ السياسي المرعب - للفرنسيين طبعا - وجاء (ديغول) على أمل (وضع حد لمأساة فرنسا) و (إخراجها من الوحل). ... لم يكد ديغول يجمع في يديه سلطات الحكم في فرنسا بعد أن وافقت الجمعية الوطنية على منحه هذه السلطات لمدة ستة شهور

حتى قرر مواجهة المشكلة الأولى التي تعانيها فرنسا - مشكلة الجزائر - فقرر القيام بزيارة ميدانية للجزائر، ومن هناك يعلن موقفه من هذه المشكلة وطريقة معالجته لها. وتطلع العالم كله إلى الكلمات التي سينطق بها (ديغول)، وكان هناك أمل لدى الكثيرين أن (ديغول) لن يخضع للمستوطنين، بعد أن تمكن من كل شيء، وأنه سيغلب مصلحة الشعب الفرنسي على (مصلحة المائتي عائلة). ولكن، لم يكد (ديغول) يصل إلى الجزائر يوم 4 حزيران - يونيو - 1958، حتى أعلن أن إنقلاب (13 أيار - مايو -) قد بعث فرنسا من جديد، وأنه يوافق على كل ما فعله زعماء هذا الانقلاب، ثم عقد اجتماعا ضخما حضره آلاف الفرنسيين المستوطنين بالجزائر. وقال: (إن كل المواطنين في الجزائر سيصبحون فرنسيين، ولم يعد في الجزائر مسلمون وفرنسيون كما كان الحال في الماضي) وأعلن بعد ذلك أنه سيجري انتخابات عامة تشترك فيها الجزائر، مسلموها وفرنسيوها على السواء؛ وطلب إلى المجاهدين (إلقاء السلاح والدخول في هذه الجزائر الجديدة، الجزائر الفرنسية، وقال إنهم أبطال شجعان، اضطروا لحمل السلاح لأن السياسة الفرنسية فيما مضى هي التي كانت تفرق في المعاملة بينهم وبين الأوروبيين، ولكن عهد المساواة قد بدأ الآن، ليفتح المجال أمام الصلح). وسافر (ديغول) في اليوم التالي إلى قسنطينة، ثاني مدينة في الجزائر، حيث ردد نفس المصطلحات مع مزيد من الإيضاح: (فقال إنه ميحقق المساوة بين المسلمين والفرنسيين فيما يتعلق بالاشتراك في الاستفتاء على الدستور الفرنسي الجديد، وانتخابات الجمعية الوطنية، وعاد فناشد المجاهدين الكف عن القتال، وبدء

عهد جديد من العلاقات الودية مع فرنسا). وصل (ديغول) في رحلته إلى (وهران) يوم 6 حزيران - يونيو - 1958.وقال فيها: (إن فرنسا موجودة في الجزائر، وستبقى بها ممثلة في رجال الجزائر رنسائها، وإني سأعمل على إزالة الخلافات السياسية بين فرنسا والجزائر). وفي يوم 8 حزيران - يونيو - ألقى خطابا في (مستغانم) قال فيه (تحيا الجزائر الفرنسية). أسرعت جبهة التحرير، فردت على (ديغول) وأعلنت رفضها لمشروع (دمج الجزائر بفرنسا). وعقد بعد ذلك مؤتمر في تونس ضم ممثلين عن أقطار المغرب العربي - الإسلامي في الفترة من 17 الى 20 حزيران - يونيو - وقرر المؤتمر استنكار السياسة التي أعلنها (ديغول) وقد تضمن البيان الختامي للمؤتمر ما يلي: (يرى المؤتمر أن هذه السياسة لن تؤدي إلا إلى توسيع نطاق حرب الإبادة التي تشنها فرنسا ضد شعب عقد العزم على المقاومة والكفاح حتى لا تكون له جنسية غير الجنسية الجزائرية، وصمم ألا يحيا إلا حياة شعب مسالم حر، وهو لذلك يرفض كل برنامج يهدف إلى الإدماج، ذلك النظام الذي استنكرته شعوب أفريقيا التي تعلن تمسكها بالمباديء التي تم الاتفاق عليها في - طنجه - ويعلن المؤتمر حق الشعب الجزائري في السيادة والاستقلال. وإن هذا الحق هو الشرط الوحيد لحل النزاع ...). وعلقت صحيفة (الأومانيتيه) الفرنسية (¬1) على جولة (ديغول) في الجزائر - بما يلي: ¬

_ (¬1) سقوط ديغول (كتب سياسية - 142) لدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة. =

(كان أول عمل حكومي قام به - ديغول - هو تبني رأي المتطرفين في إدماج الجزائر بفرنسا، رغم أن هذا الرأي يصطدم بالحقيقة التاريخية، ألا وهي الأماني القومية للشعب الجزائري. إن تصرفات - ديغول - هذه تتعارض مع شعور الفرنسيين الذين حنكتهم التجارب، والذين يريدون الوصول إلى حل سلمي لتسوية النزاع الجزائري - الفرنسي على أساس المفاوضات. وإن الاعتراف بحق الجزائر في نيل استقلالها هو السبيل الوحيد الذي يمهد لمثل هذه المفاوضات، ولإنشاء علاقات جديدة بين فرنسا والجزائر، تقوم على تجاوب المصالح وصداقة الشعبين ...). وهاجمت صحيفة (كوريير دي لاسيرا) الايطالية سياسة (الدمج) التي تبناها (ديغول) في مقال لها تضمن ما يلي: (إن أكثر الأشياء بروزا في فرنسا هو خلو صحافتها من أي درس عميق وجدي للمشكلة الجزائرية، ومع ذلك فإن كل فرنسي يعلم أن هذه المشكلة هي السبب في إغراق الجمهورية الرابعة، وأنها بصورة خاصة السبب في المناداة بالجنرال - ديغول -. لقد مضى على فرنسا إثنا عشر عاما وهي تغرق نفسها، وتنزف دماءها من أجل الدفاع عن امبراطورية استعمارية تخجل من تسميتها باسمها الحقيقي، فهي تمدد في عمر مشاكلها لأنها عجزت عن النظر فيها نظرة صريحة إيجابية، وإن المستعمرات لم تكتف باستنفاذ أموال فرنسا، بل أنهكت أعصاب الفرنسيين، وعجلت بقلب نظام الحكم. إننا لسنا في حاجة للدخول في الجزئيات، بل نكتفي بالملاحظة التالية وهي أن فرنسا، في سبيل الدفاع عن مستعمراتها، اندفعت إلى تأسيس

_ = (17 - يناير - كانون الثاني - 1960) ص 6 - 14.

جيش يفوق بكثير إمكاناتها وقواها البشرية والاقتصادية والمالية، وبعد ذلك، وجدت نفسها سجينة ذلك الجيش، وكلما استمرت الحرب الجزائرية، فإن فرنسا - وليست الجزائر - هي التي ستعيش في أغلال جيشها، وحتى ديغول، فإنه يجب عليه أن يحسب ألف حساب لهذا الجيش، ورغم ذلك فإنه سيعجز عن السيطرة عليه، ثم إن الجنرال (ديغول) الذي اختار اليوم سياسة الإدماج، قد نسي على ما يظهر أنها عرضت على الجزائر منذ سنة 1946 ولكن من غير جدوى، كما نسي الجنرال أن شمال أفريقيا هو موطن الإسلام واللغة العربية وتاريخها وحضارتها. ولقد رفضت الهند الصينية والمغرب وتونس البقاء داخل تلك - الوحدة الفرنسية - التي يقال أنها حرة، والتي كلفت فرنسا نصيبا وافرا من الدماء، والمليارات من الفرنكات، وعلى الرغم من ذلك، فما زال الفرنسيون متشبثين (بإدماج المائة مليون فرنسي) الذين لا يرغبون في الجنسية الفرنسية). وعلى الرغم من ذلك أيضا فقد مضى ديغول بعناد لتنفيذ مخطط الدمج، فأعلن مشروعه الجديد للدستور، ودعا الفرنسيين والجزائريين وكل سكان المستعمرات الفرنسية في أفريقيا للاستفتاء على هذا الدستور، وقد يكون من المناسب التوقف قليلا عند استعدادات فرنسا لهذا الاستفتاء. لقد ذكرت (صحيفه فرنسية) (¬1) ما يلي: (لقد وقع العزم على أن تكون عملية الاستفتاء في أرض الجزائر للاقتراع على الدستور الفرنسي الجديد ممتدة إلى عدة أيام بحيث تتفرغ كل جهة من ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 2/ 8/ 1958.

الجهات في وقت مخصص لها وتقول السلطات العسكرية الفرنسية إن إجراء الاستفتاء على هذه الطريقة، يسمح بإرسال أكبر عدد من الجند لها قصد عملية الاقتراع وحمايتها). وهذا نص رسالة رسمية عسكرية صادرة عن أركان الجيش الفرنسي بجنوب الجزائر تحت رقم (1247/ ر - ز - 1/ 5) بتاريخ 27 تموز - يوليو - 1958 - تحمل عنوان (كيف يجب أن تبدأ عملية الاستفتاء) (¬1) وتضمنت ما يلي: (نرى من العبث أن نؤكد لكم من جديد مصلحة فرنسا الحيوية في نجاح هذا الاستفتاء. إن إخفاق العملية معناه الفشل النهائي الذريع للسياسة التي أعلنا عنها منذ يوم 13 أيار - مايو - وبناء على هذا فإنه يجب على الجيش الفرنسي الذي يملك الآن بين يديه زمام السلطتين المدنية والعسكرية، يجب عليه أن يقوم بحملة من أجل: أولا: الإحراز على أغلبية عظيمة جدا حول كلمة - نعم -. ثانيا: المبادرة بالقيام بحملة نفسانية - بسيكولوجية - عظيمة، تكون أولى نتائجها تهيئة السكان وإعدادهم للمشاركة لقول كلمة - نعم-. ويجب من أجل حمل السكان المسلمين على هذا العمل أن نخلق بين جمعهم - خيال - ديغول). وتضمنت التعليمات الشفهية التي تلقاها الضباط الفرنسيون من قيادة المصلحة السيكولوجية الفرنسية بالجزائر ما يلي -: (يجب أن تكون نتيجة الاستفتاء في الجزائر وبصفة جماعية: ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 13/ 8/ 1958.

نعم يا ديغول، والهدف الذي نريده من هذا هو مد النقص الذي سيحصل في فرنسا من الذين يقولون - لا -. أما السكان المسلمون فيجب أن تحملهم عربات عسكرية إلى مكاتب الاستفتاء، ويجب إلقاء القبض بكل سرعة على الذين يمتنعون منهم عن المشاركة في عملية الاقتراع، أما المسلمون الذين يختفون يوم الاستفتاء فمن السهل اعتبارهم قد شاركوا فعلا في الاقتراع. هذا وقد تم تخصيص مبالغ طائلة لإنفاقها في سبيل نجاح الاستفتاء، من ذلك القيام بجولات دعائية واسعة توزع خلالها الأقمشة على النساء والحلوى على الصبيان، على شرط أن يسبق هذه العملية مظاهرة تحية الجيش والجنرال ديغول؟!) (¬1). ولم يبق بعد ذلك على سلطات (ديغول) إلا أن تعلن عن النتائج كما تريدها، وقد أعلنتها فعلا فكانت نتائج الاستفتاء هي: (96,5) في المائة أجابوا (نعم) و (3،5) في المائة أجابوا (لا) وهذه النسبة تشير إلى تقسيم الأصوات إلى صالحة، وغير صالحة، ولكنها لا تتحدث عن القصة كلها. فقد تم تسجيل (4،335،009) من الناخبين، اقترع منهم (3،445،060) وكان بينهم (3،416،088) أصوات صالحة، اقترع منهم (3،299،908) بنعم، و (115،791) بلا. وإذا ما تم التدقيق في أرقام التسجيل التي تضم طبعا جميع المستوطنين الصالحين للاقتراع والجنود الفرنسيين، فسيظهر بأن هناك عددا كبيرا من الجزائريين لم يسجلوا في القوائم الانتخابية قد يبلغون المليون، لأنهم تمكنوا من تجنب التسجيل على الرغم من جميع المحاولات التي قام بها الفرنسيون، ¬

_ (¬1) صحيفة (اومانيتييه) 19/ 8/ 1958.

وكذلك الجولات التي قام بها الضباط - بصورة شخصية - على القرى - لتسجيل المقترعين، وهؤلاء الذين لم يسجلوا، لم يكوبوا جميعا من أعضاء جيش التحرير الوطني، بل جزائريين يعارضون الحكم الفرنسي وهكذا تظهر هذه الأرقام أيضا أن أكثر من مليون شخص من الذين سجلوا لم يقترعوا أيضا، وجميع هؤلاء طبعا من الذين لو اقترعوا لقالوا (لا) إذ أنهم كلهم من الجزائريين المسلمين، وتكون نتيجة أرقام الفرنسيين أنفسهم، أن أكثر من مليوني جزائري، أي أكثر من نصف عدد الذكور البالغين قد تمكنوا من إظهار معارضتهم للنظام الاستعماري الفرنسي، بشكل أو بآخر. ولم تحاول جبهة التحرير أن تهتم (بلعبة الأرقام) هذه منذ البداية، بل أعلنت استنكارها للاستفتاء على أنه تزييف للنظم الديموقراطية. وكما وقع في معركة الجزائر ذاتها، لم تكن كفتا الميزان في معركة الاستفتاء متعادلتين، ذلك لأن وطأة ضغظ الجيش الفرنسي، وقعت على المدنيين من الجزائريين، وهم أقل قدرة على المقاومة والاحتمال. وكان على الجيش الجزائري أن يختار بين أحد أمرين: أما أن يستخدم القوة لمنع الشعب الجزائري من الاشتراك في الاستفتاء، أو أن يسمح لهم باتخاذ موقف (عمل ما يمكن عمله) ليجنبهم عنف الجيش الفرنسي وإرهابه، وقد ترك الجيش الجزائري اتخاذ القرار النهائي للقادة المحليين، وبالطبع، آثر الكثيرون منهم عدم اتخاذ أي إجراء عسكري فجاءت نتيجة الاستفتاء الظاهرة، بانتصار الفرنسيين شيئا مؤلما (¬1). ¬

_ (¬1) الجزائر الثائرة (جوان غيلسبي) تعريب خيري حمان - دار الطليعة - بيروت - 1961 ص 199 - 200.

أ - قضية تمثيل الشعب الجزائري

أ - قضية تمثيل الشعب الجزائري: لقد أراد (ديغول) من محاولة (الدمج) و (الاستفتاء) إلغاء دور القيادات الوطنية - وبصورة خاصة في الجزائر - لاختيار ممثلين لديهم الاستعداد لتنفيذ المشاريع الاستمعارية الديغولية وفي الواقع، فإن قضية التمثيل الجزائري أصبحت محلولة، ومنتهية، بالنسبة لجبهة التحرير الوطني الجزائري؛ إذ أكدت جماهير الشعب الجزائري، في مناسبات كثيرة، التفافها حول (جبهة التحرير الوطني) واعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لها، وكان أكبر استفتاء شعبي يؤكد هذا الواقع؛ هو إضراب الثمانية أيام الذي امتد من 28 كانون الثاني - يناير - وحتى 4 شباط - فبراير - 1957 والذي يتطلب في الواقع التوقف قليلا عند بعض التقارير التي وردت عنه؛ وقد جاء في أحد هذه التقارير ما يلي: (الجزائر - يوم 28 كانون الثاني - يناير -: سكون مؤثر على مدينة شبه مقفرة، لقد بدأت تجربة من تجارب القوة في الجزائر، تحت أكثر الشموس إشراقا وضياء، وهذه التجربة هي الإضراب الذي سيستمر ثمانية أيام، والذي أوعزت به جبهة التحرير الوطني إلى المواطنين المسلمين. يظهر أن المدينة لا زالت نائمة حتى الآن، ولا زال الهدوء مهيمنا حتى على الأحياء المركزية، حيث المخازن الأوروبية مفتوحة كعادتها، ولا يعكر صفو السكون في القصبة والأحياء المتطرفة، إلا الضجة الصماء المنبعثة عن المطارق والمعاول التي يستخدمها الجند، لتدمير أبواب المخازن والحوانيت المغلقة. لقد لبى التجار المسلمون بكثرتهم الساحقة أمر الإضراب، وكانت السيارات المجهزة بمكبرات الصوت قد أعلنت في الساعة

الثامنة من صباح اليوم - فيما كانت قطعات عسكرية قد رابطت على مداخل الأحياء العربية - أنه بقي للتجار مهلة ربع ساعة لفتح حوانيتهم، ولكن هذه النداءات اصطدمت بصمم مؤثر واجهها به المسلمون القابعون في منازلهم. وفي الساعة الثامنة والنصف كانت ضربات المطارق تخرق السكون ... لا شيء أوقع في النفس، في هذه المدينة التي غلبها النوم، من مشهد الدكاكين التي فتحت بالقوة، وتركت هكذا تحت رحمة المارة) (¬1). وورد في (صحيفة فرنسية) (¬2) تعليق عن اليوم الثاني من إضراب الثمانية أيام ورد فيه ما يلي: (الأبواب المغفورة التي فتحها الجيش عنوة تسمح هنا برؤية (الديكور) التقليدي لمقهى عربي خاو، وهناك ترى أكداس مهملة من الأنسجة ذات الألوان الزاهية - برتقالي ووردي -. وإذا كان التجار المسلمون قد أضربوا عن العمل، فقد حذا المشترون حذوهم ... إن هدف (قادة جبهة التحرير الوطني) هو أبسط من ذلك وأكثر خطرا: البرهان على أنهم يمارسون بلا منازع تأثيرا حاسما على المسلمين بالجزائر. لقد تم استدعاء العسكريين مرة أخرى، إنهم يقرعون الأبواب القديمة المزينة بالورود، في حي القصبة، ويدعون الأهالي للالتحاق بأماكن عملهم، أو لمغادرة منازلهم على الأقل. وإذن، كان بالمستطاع في هذا الصباح أن تقع العين على عدد لا بأس به من المسلمين، يتجولون في شوارع منتصف المدينة، معيدين إليها ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 29 كانون الثاني - يناير - 1957 و30 منه. (¬2) صحيفة (لوموند) 31/ 1/ 1957.

نشاطها العادي، ولعل حضورهم كاف لإعطاء صورة، وهمية بلا شك، ولكنها مدعاة لإثارة الطمأنينة في المدينة، وبأنه لن يحدث فيها شيء استثنائي، على أن سائر المطلوبين لا يلتحقون بأعمالهم: فنفر يضطربون تحت الشمس، وهم يتعرضون لرحمة نقاط المراقبة والتأكد من بطاقات تحقيق الشخصية - الهويات - وآخرون على الأرصفة: عمال محترفون، يمشون مثنى مثنى وراء جنود الشرطة العسكرية بخوذهم البيضاء. أما الموظفون والمستخدمون، فما زال معظمهم متغيبون عن الإدارات والمصالح، ولم يفت في عزمهم التهديد بعقوبات تبلغ حد العزل، باستثناء قلة منهم). وعادت (الصحيفة الفرنسية) (¬1) لتكتب عن إضراب اليوم الثالث، ما يلي: (مرة أخرى يستيقظ النهار على أصواب المطارق التي تبتر الأبواب، ومرة أخرى يذعن سكان حي القصبة لأوامر العسكريين الفرنسيين. ولا ريب في أن أوامر الدوريات، وعقوبات السجن التي فرضت على العمال والمعلمين والموظفين الذين أضربوا عن العمل، والإجراءات القاسية التي كان يتهامس بها هذا الصباح شباب بلكورت، إذ يساقون إلى المرفىء، كل هذا يبرهن على أن هذا النشاط العارض والجزئي، لم يكن عقويا، وما زال عدد المضربين، رغم التدابير المتخذة، ظاهر التفوق على الذين استأنفوا العمل من المسلمين؛ لقد كانت الجزائر يوم الإثنين مدينة صامتة اختفى منها المسلمون). وجاء بعد ذلك ما يلي: يلاحظ هذا الصباح، بلا ريب، أن ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 2 شباط - فبراير - 1957.

المسلمين الذين يضطرهم العسكريون لمغادرة منازلهم، يعمدون إلى نوع من المقاومة السلبية؛ لقد أكرهوا على الخروج، ولكنهم يتنقلون هنا وهناك، بلا هدف، في الشوارع المضيئة، وكثيرون منهم يرفضون العودة إلى المناجم أو المشاريع) (¬1). وورد بعد ذلك أيضا ما يلي: (إن الإضراب الذي أطلقته (جبهة التحرير الوطني) يوم الاثنين - ينتهي اليوم، ودللت السلطات على أنها تعتبره منتهيا منذ أمس، حيث رفعت الحصار العسكري الذي كانت فرضته على حي القصبة، بعد ظهر الأمس. وعلى الرغم من أن ظواهر الأمور لا تنم عن شيء من هذا، فإن الإضراب ما زال مستمرا في عدد من المصالح الإدارية، حيث بلغت نسبة المتخلفين (98) بالمائة. وأخيرا، فإن تغيب معظم التجار المسلمين عن مخازنهم وحوانيتهم التي ما تزال مفتوحة وخاوية، يؤكد أن الإيعاز قد روعي تنفيذه حتى يومه الأخير من قبل الكثيرين ...). ووصفت (وكالة رويتر) (¬2) البريطانية الإضراب بقولها: (بدأ الجزائريون إضرابهم العام عن العمل لمدة ثمانية أيام تنفيذا لإيعاز (جبهة التحرير الوطني)، وفي صباح الإثنين كانت سائر المخازن بمدينة الجزائر معلقة، إلا ما يديره الأوروبيون، وقبيل الضحى، أجبرت القوات الفرنسية التجار المضربين على فتح مخازنهم. وتدل الأنباء التي وردتنا على أن المخازن المغلقة في مدن الجزائر الرئيسية كانت بنسبة تسعين بالمائة، كما أن (75) بالمائة من الموظفين غير ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 3 و4 شباط - فبراير - 1957. (¬2) الثورة الجزائرية والقانون - البجاوي محمد - ص 109 - 112.

صورة من صور إضراب الجزائر - شكل من أشكال المقاومة

الأوروبيين لم يلتحقوا بمراكز عملهم، ويقوم ألوفا من الجند الفرنسيين بدورياتهم في شوارع العاصمة والمدن الجزائرية الهامة، وعزل حي القصبة، وتقوم المصفحات بمراقبة كافة الطرق المؤدية إلى الجزائر، وألقت الطائرات العمودية - الهيليكوبتر - مناشير تدعو الجزائريين إلى مقاطعة الإضراب وتتوعد، بأنه سيجري اعتقال المحرضين وإدانتهم فورا، ولكن الإضراب مستمر في مختلف القطاعات وعلى امتداد التراب الجزائري، ابتداء من (مارني) على الحدود المغربية، إلى (تبيب) على الحدود التونسية). وكتبت صحيفة (فرانس أوبسرفاتور) في الموضوع ذاته: (... لم يثن الشعب الجزائري ركبتيه - ولم يركع - على الرغم من طوفان الحديد والنار الذي يغمره منذ سنتين، وإن الاضراب الذي أوعزت به - جبهة التحرير الوطني - لهو البرهان الساطع على ذلك، وإنه لمن غير المتوقع أن يركع هذا الشعب الآن، حتى لو أضفنا مائة أو مائتي ألف إلى عدد ضحايانا). وكتبت صحيفة (ليبيراسيون) الباريسية: (الجزائريون يمضون في الامتثال الأمر بالإضراب الذي أصدرته - جبهة التحرير الوطني -؛ ففي العاصمة يعد المسلمون الذين غادروا منازلهم على الأصابع، وما تزال كافة المخازن مغلقة، والقطعات الفرنسية ماضية في تنفيذ أوامر (الجنرال ماسو) بتحطيم الأبواب الحديدية - للمتاجر -، ولقد استدعت السلطات عددا من العمال الأوروبيين لتسيير حافلات النقل (الباصات) والحافلات الكهربائية، ولكنها، كما قال مراسل وكالة الأنباء الأمريكية - الأسوشيتد برس - جهدت في أن تخلع على عملهم صفة الحملة النفسانية. هكذا وهنالك عسكريون فرنسيون تجولوا في شوارع القصبة، وحاولوا توزيع

السكاكر على الأطفال المسلمين، وتطلب سيارات مجهزة بمكبرات الصوت إلى المسلمين أن يثقوا بقوات الأمن، قائلة: إن الجيش والشرطة سيحميانكم، وبين كل نداءين للانضباط تذيع السيارات المذكورة بعض الموسيقى الخفيفة - لبعث الطرب في النفوس -. وقد شوهدت موسيقى الفرقة التاسعة وهي تطوف شوارع حي القصبة، وهي بكامل لباس المراسم (السترة البيضاء مع صدارة من الجلد فوق البنطال الأحمر، وهي عزلاء من السلاح، إنما يقودها عقيد، كولونيل)، وكانت تعزف ألحانا مما يسخدم في التدريب العسكري، وذلك لاجتناب الأهالي إلى الشارع، ولكن النتائج على ما يبدو كانت تستدعي الرثاء، ويظهر أن حركة الإضراب لم تعارض حتى الآن بصورة حاسمة وفي القصبة، اقتيد آلاف العمال، تحت حراسة القوى العسكرية إلى مراكز عملهم، بينما كانت سائر الأزقة تحت الحراسة، وطائرات الهيليكوبتر تطير على ارتفاع منخفض لتطارد المنهزمين، وتلافي الاغتيالات التي قد تدبر من فوق الأسطحة ...). أما في ولايتي الجزائر ووهران، فقد نجح الإضراب يقينا، بالرغم من التأكيدات الرسمية التي تحاول الانتقاص من نجاحه. وكان شموله بنسبة (90) بالمائة، سواء في الإدارات أو في المصالح الكبرى: النقل والمواصلات والبرق والهاتف، أو حتى في المجالات ااتجارية وأسواق بيع الماشية، وحتى الأوروبيين الذين روعتهم الاغتيالات الصارخة التي حدثت يوم السبت، شرعوا يهجرون شوارع المدينة التي زايلها نشاطها العادي. وثمة نفر من التجار المسيحيين من أصل اسباني الذين اضطروا إلى فتح مخازنهم، كانوا ينتظرون، تحت حماية الجيش، زبائن شاردين،

ولكن في معظم الحالات ظل أصحاب المخازن مختفين، وتركوا للسلطات أن تخلع الباب والواجهة، ولم تسلم بعض هذه المخازن من النهب ... وفي الأحياء القريبة من المدينة العربية، والمأهولة بالأوروبيين اكتفت السلطات بدك الواجهات وتخريب المبيعات ... أما في وهران وتلمسان وسيدي ابن العباس ومستغانم، فقد أغلقت معظم المخازن، وشمل الإضراب قسنطينة، حيث خلت سائر الأسواق والمخازن من أهلها وكذلك بالنسبة للمناطق المجاورة لها حيث كانت نسبة المضربين عالية جدا، حتى في أوساط الموظفين، رغم العقوبات الشديدة التي توعدتهم بها السلطات. وفي فرنسا ذاتها، سجلت حركة الإضراب، في بداية الأسبوع، انتصارات واضحة جدا، وقد اضطرت المصالح الرسمية ذاتها للاعتراف بأن نفوذ الجبهة في أوساط العمال الجزائريين المهاجرين إلى فرنسا أخذ في التعاظم. وأيا كانت النتيجة التي سيؤول إليها الموقف، في الأيام القادمة، سواء في الجزائر أو في فرنسا، فثمة حقيقة باتت مقررة، وليس لأحد أن ينتقص من أهميتها، ولو لم نستتع آثارها المباشرة تلك أن نفوذ الجبهة يتعزز باستمرار وانتظام سواء في أوساط العمال المهاجرين، أو بين جماهير الحضر بالجزائر). ... يظهر العرض السابق أن جبهة التحرير باتت بعد المراحل الأولى من الصراع المرير وهي واثقة من قدراتها، عارفة لإمكاناتها، مؤمنة بالتفاف الشعب الجزائري حول أهدافها. ولهذا فلم يكن هناك ما تخشاه من محاولات (ديغول) للعزف على إسطوانة (الدمج) المهترئة، غير أنه لم يكن باستطاعتها في الوقت ذاته ترك المبادءات

السياسية للخصم، بعد أن أمكست بحزم في قبضتها بالمبادءات العسكرية، ولهذا، فقد أقدمت على إجراء حاسم قبل عملية الاقتراع المزعوم - والمزيف -. ففي يوم 19 ايلول - سبتمبر - 1958، تم الإعلان في كل من (القاهرة) و (الرباط) و (تونس) عن تشكيل (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية برئاسة فرحات عباس، واختيار احمد بن بللا الزعيم السجين نائبا أول لرئيس الوزراء). كان هذا الإجراء من قبل جبهة التحرير الوطني استجابة طبيعية للتحدي الذي حاول (ديغول) فرضه على الجزائر، وتلقى ديغول اللطمة، فعمل على تصعيد التحدي، وأعلن يوم 23 تشرين الأول أكتوبر - 1958: (أنه على استعداد للتفاوض مع - مندوين - يأتون لتسوية قضية إنهاء القتال مع السلطة الفرنسية في باريس، وعلى هؤلاء المندوبين اذا أرادوا ذلك أن يتقدموا أولا إلى السفارة الفرنسية بتونس أو المغرب أو غيرها ... ثم دعا المجاهدين إلى الاسستلام وإلقاء السلاح بقوله: أما الذين يقاتلون فعليهم أن يوقفوا إطلاق النار، ويعودوا إلى ديارهم وأعمالهم). لقد كان عرض (ديغول) شاذا في شكله، غريبا في مضمونه، منطويا على كل أصجاب الرفض والاحتقار، فهو يدعو المجاهدين للاستسلام وإلقاء السلاح، و (ديغول) لا يمانع في استقبال مندوبين - أو ممثلين - للتفاوض في مسألة (إنهاء القتال) من الناحية العسكرية فقط، وذلك بصفته صاحب السلطة العليا. وقد أعلن بعد ذلك أنه لا يقبل التغاوض مع هؤلاء المندويين في (المشكلة السياسية) لأنه يعتبر بأنه لم يعد هناك وجود لهذه المشكلة بعد أن أعلن سياسة (الدمج)، وبعد أن وافق عليها الشعب الجزائري -

ب - العصا والجزرة - محاولة القضاء على الثورة

بحسب زعمه ووهمه - وهذا هو ما عبر عنه ديغول بقوله: (هناك 25 مليون نسمة في أفريقيا السوداء من مدغشقر إلى جيبوتي، أعلنوا باختيارهم عن مشاركتهم لفرنسا في نوع الحكم الذي يرتضونه، وفي الوقت ذاته، فقد أعلن 55 مليون من المواطنين، في الوطن الأم - فرنسا. وفي الجزائر، وفي الاتحاد - ريئينيون - وليزا نتيل - إلى آخره قد عبروا عن إرادة مماثلة). وكان بدهيا أن ترفض الجزائر هذا المنطق الملتوي. ب - العصا والجزرة - محاولة القضاء على الثورة حاول (ديغول) تنفيذ سياسة الدمج، بسياسة ملتوية يمكن وصفها وصفا دقيقا بأنها سياسة (العصا والجزرة) وذلك بهدف القضاء على الثورة المسلحة. وهكذا، وبينما كانت القوات الفرنسية تتلقى الدعم الهائل لتنفيذ مجموعة من مخطلطات العمليات العسكرية (للتهدئة)، كان ديغول يمضي قدما في محاولاته المرفوضة لتطبيق سياسة الدمج عمليا، مع الإعلان عن إصلاحات اقتصادية وسياسية (لترقيع ثوب الاستعمار المهترىء)، وأخذ يسير ببطء لتحقيق (مشروعه الكبير) للجزائر، الذي ينص على أن تكون جزءا خاصا من مجموعة فرنسية يعاد تنظيمها لتضم كافة المستعمرات الأفريقية. وقام (ديغول) بعد انتهاء الاستفتاء بزيارة (قسنطينة) في مطلع شهر تشرين الأول - أكتوبر - وأعلن مشروعا شاملا وواسع التكاليف لسنوات الخمس للتطور الاقتصادي في الجزائر. وقد تضمن (برنامج قسنطينة) إحداث أربعمائة ألف مركز جديد للعمل للجزائريين، وإعداد مساكن جديدة لنحو من مليون شخص، كما تضمن إيواء ثلثي الأطفال الجزائريين قبل انتهاء مدة السنوات

الخمس في المدارس، وإعادة نحو من (625) ألف فدان من الأراضي إلى الفلاحين الجزائريين ويقضي البرنامج بتصنيع الجزائر على أساس النفط والغاز الطبيعي اللذين اكتشفا حديثا في الصحراء، وبإقامة مصانع للفولاذ والمنتجات الكيماوية في المناطق الساحلية. وأكد البرنامج أيضا أن الفروق الكبيرة بين الرواتب، في فرنسا والجزائر، ستزول، وأن مراكز خاصة في الإدارات العسكرية والمدنية في فرنسا ستخصص للجزائريين، وقدرت التكاليف الإجمالية للمشروع مبلغا أضخم من تكاليف الحرب التي تربو على البليون دولار أمريكي في السنة. وكانت خطة (ديغول) لإعادة بعث فرنسا، واستعادة قوتها، وقيام أسرة افريقية - فرسية، تعتمد إلى حد كبير على مدى نجاحه في تحقيق السلام في الجزائر. ولكن مفهوم (سلام الاستسلام) الذي أعلنه ديغول يوم 23/ 10/ 1958 كان سلاما مرفوضا من قبل مجاهدي جيش التحرير وقيادة منظمة التحرير، حيث ذكر (ديغول) في خطابه المشار إليه، ما يلي: (... أقول دون التواء، إن معظم رجال الثورة قاتلوا بشجاعة ... فليأت صلح البواسل! كيف العمل لوضع حد للمعارك؟ حيث يحتم تنظيمهم أن يقاتلوا في أمكنتهم، يجدر برؤسائهم أن يتصلوا بالقيادة، وفي هذه الحالة، سيستقبل المقاتلون ويعاملون بشرف. إن الحكمة القديمة للمعارك تتطلب، في هذه الأحوال، استخدام راية البرلمانيين البيضاء ... ، وفيما يختص بالمنظمة الخارجية التي تبذل الجهد في إدارة القتال من بعيد، فاني أردد عاليا ما سبق أن قلت: إذا سمي مندوبون للاشتراك مع السلطة في تنظيم إنهاء أعمال الحرب، فما عليهم إلا أن يقصدوا السفارة الفرنسية في توتس أو في الرباط، فهذه أو تلك ستؤمن

انتقالهم إلى فرنسا، وهناك تكون سلامتهم التامة مضمونة، وإني أكفل لهم حرية العودة ...). أثارت خطب (ديغول) وتصريحاته غضب أعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، لأسباب كثيرة، منها فضح الاتصالات السرية لإجراء مفاوضات تمهيدية من أجل تسوية الصراع، ومنها طرح (سلاح الاستسلام) ومنها تجاهل (المشكلة السياسية). وكان هدف ديغول هو الحصول من جبهة التحرير على اعتراف بشرعية الانتخابات التي كان قد أعلن عنها، وخلق انقسام في صفوف قادة الثورة. وجاء تشرين الثاني - نوفمبر - 1958، فشهد معركة أخرى من معارك الزيف والتزوير، وكانت المعركة هذه المرة لانتخاب (أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية). وبما أن الجزائر قد ادمجت في فرنسا - من وجهة نظر ديغول فقط - واعتبرت جزءا منها ... فقد تقرر أن يكون لها عدد من كراسي الجمعية الوطنية، وعلى هذا الأساس بدأت معركة الانتخابات في الجزائر، ولم يكن الهدف من (معركة الانتخاب) واحدا على كل حال في مفهومي (الوطنيين الجزائريين) من جهة، وأعدائهم (الفرنسيين) من جهة ثانية؛ فقد كانت المعركة من جانب الجزائريين مرفوضة باعتبار أن (الجزائر ليست جزءا من فرنسا) وأنه لا شأن لها بها ولا (بالجمعية الوطنية الفرنسية). ولهذا فقد كان هدف (جبهة التحرير الوطني) هو إحباط هذه الانتخابات، واسقاط تطبيقات نظرية الدمج التي أعلنها (ديغول)، وتدمير سياسته. أما هدف الفرنسيين من هذه الانتخابات، فهو جعل الشعب الجزائري شريكا في هذه الانتخابات بأي ثمن، وكان لا بد لهم من إرغام بعض المنحرفين الجزائريين على ترشيح أنفسهم للانتخابات،

حتى يخرجوا على العالم بعد ذلك بقولهم أن (الدمج) قد أصبح حقيقة واقعة، وأن الجزائر باتت ممثلة في (البرلمان الفرنسي) كأي إقليم من الأقاليم الفرنسية، وأن النواب الجزائريين يمثلون الشعب الجزائري بالانتخاب، فتزول بذلك الصفة التمثيلية الشرعية (للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) و (جبهة التحرير الوطني). وكان لا بد - تبعا لأهداف المعركة الانتخابية - من أن تأخذ هذه المعركة صفتها الدموية الضارية. لقد قاطع الجزائريون الانتخابات، حتى أنه عندما حان موعد إغلاق جدول المرشحين، لم يكن قد تقدم للترشيح من الجزائريين أي فرد - لاشعال 45 منصبا نيابيا من أصل 66 كرسيا خصصت للجزائر -. وأمام هذا الموقف، اضطرت الإدارة الفرنسية في الجزائر إلى تحديد أسماء المرشحين المقبولين من فرنسا على أنهم من أنصار الدمج، ووضعت القوائم الانتخابية، وجاءت بالذين وقع عليهم الاختيار، وأرغموا على توقيع طلبات الترشيح للانتخابات، أو القتل. ثم بدأت المرحلة الثانية من الصراع، وهي إرغام (الجزائريين على انتخاب الذين رشحتهم الإدارة الفرنسية للانتخابات. غير أن جماهير الشعب الجزائري قاطعت الانتخابات بصورة إجماعية، وظلت حوادث النسف والتدمير والتخريب تتوالى على مراكز الانتخابات طوال اليوم، وخسر الجيش الفرنسي في هذا اليوم مئات القتلى والجرحى وعشرات السيارات المصفحة والأسلحة والطائرات. وجاءت اللحظة التي تنتهي فيها عمليات الاقتراع، والصناديق خاوية فارغة، وأعلن حاكم مدينة الجزائر عن تمديد عملية الاقتراع ثلاث ساعات (حتى يتمكن الجزائريون من الإدلاء بأصواتهم)، وأذاع (الجنرال ماسو) من راديو الجزائر، بأن

(مقاطعة الانتخابات هي خيانة للجيش الفرنسي). وانطلقت على الأثر القوات الفرنسية، في جميع أنحاء الجزائر، لحشد المدنيين العزل من بيوتهم وقراهم ومتاجرهم بالقوة المسلحة، وتقتل على الفور كل من يمتنع أو يبدي مقاومة، ثم ساقت هؤلاء جميعا إلى صناديق الانتخابات للإدلاء بأصواتهم. وقد وصفت (وكالة الأسوشيتد برس) معركة الانتخابات في الجزائر بقولها: (قضى الجزائريون نهائيا على كل أمل - لديغول - في الاعتماد على نتيجة الانتخابات لإقرار أي وضع للجزائر، فلا زال الجزائريون يقاطعون هذه الانتخابات مما سيفقد نتيجتها أي شرعية، إذ أنها لن تكون ممثلة تمثيلا حقيقيا للرأي العام الجزائري). وتعرضت (صحيفة فرنسية) (¬1) للانتخابات الجزائريه بقولها: (ندد العضو السابق في البرلمان الفرنسي - السيد فونلوب اسيرايير - بتدخل السلطات الفرنسية في الانتخابات الجزائرية، فقال: إن المساعي التي يبذلها أولئك الذين يشرفون على الانتخابات التي ستجري في الثلاثين من تشرين الثاني - نوفمبر - 1958، ما هي إلا محاولة فاشلة لإيهام العالم بأن الجزائريين يحبذون الاندماج، وأنهم اختاروا رجالا للدفاع عن هذه الأكذوبة الكبرى، ومما لا شك فيه هو أن السلطات العسكرية الفرنسية في الجزائر سوف تسيطر على الانتخابات، وسوف توجهها نحو تحقيق فكرة الاندماج، ومن المحقق أن تسفر الانتخابات في الجزائر على نتائج سوف لا تكون أكثر حظا وتوفيقا من الانتخابات السابقة). ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 16 و17 تشرين الثاني - نوفمبر - 1958.

وذكرت (صحيفة فرنسية) (¬1) أخرى ما يلي: (لقد بدأ الصراع، وكان هناك خوف في الجزائر من أن يتربع في أية لحظة المسلمون الذين سجلت أسماؤهم في القوائم الفرنسية، ومع ذلك، فالجيش الفرنسي ذاته هو الذي انتقاهم واختارهم من جملة الموظفين ورؤساء العصابات في الجزائر، وقبيل إقفال باب الترشيح بساعات قليلة، عرفت أسماء أربعين من الثلاث والخمسين مسلما الذين رشحوا للانتخابات، لكنه ينقصهم الشرط الأساسي، وهو أهلية التمثيل، فلا يوجد واحد منهم تتوافر فيه شروط تلك الأهلية، ومعنى هذا أن خطة الجنرال ديغول قد خابت تماما، وفشلت في الوصول إلى أهدافها وتعرض الوزير السابق (آلان سافاري) (¬2) في مقال له تحت عنوان (لماذا انسحبت من معركة الانتخابات) فقال ما يلي: (لقد بات من المحال إنشاء قوة ثالثة بين القوتين المتصارعتين في الجزائر، أو زج أي نظام ديموقراطي بينهما، وما من قوة في الجزائر تستطيع التدخل بين الجيش الفرنسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، لأنه من المسلم به أن النخبة الجزائرية كلها اليوم في الجبال أو مهاجرة أو معتقلة في السجون والمحتشدات الفرنسية). تناقلت وكالات الأنباء العالمية أخبار (هذه المهزلة الانتخابية) وانتظمت مجموعة الصحف في معظم دول العالم في ما يشبه الجوقة الواحدة للتنديد بهذه الظاهرة (الديموقراطية) المريضة. واشتركت الصحافة الفرنسية في فضح (لعبة التمثيل الانتخابي) و (سياسة ¬

_ (¬1) صحيفة (الأكسبريس) الفرنسية 13/ 11/ 1958. (¬2) صحيفة (الأوبسرفاتور) 13/ 11/ 1958.

الدمج الفاشلة)،غير أن ذلك كله لم يقنع الجنرال ديغول بخطأ سياسته، فسافر من جديد إلى الجزائر في كانون الثاني - يناير - 1959، ليتحدث إلى النواب الجزائريين الذين انتخبوا حديثا، على الرغم من أنهم لم يكونوا الممثلين الحقيقيين الذين كان يأمل في أن يبحث معهم المستقبل السياسي للجزائر وتوغل بعد ذلك في الصحراء ليطلع على أعمال التنقيب عن الزيت والغاز الطبيعي التي يعتمد عليها في تنفيذ برنامجه الاقتصادي، وقد أعلن في (واحة توغورت) (¬1) ما يلي: (يجب أن تكون الصحراء منطقة عظيمة من مناطق المستقبل بين عالمين، عالم البحر الأبيض المتوسط، وعالم أفريقيا السوداء، وبين عالم المحيط الأطلسي، وعالم حوض النيل والبحر الأحمر - ولا ريب في أن فرنسا مهتمة كل الاهتمام بهذا العمل العظيم ... أما بالنسبة إلى هؤلاء القادمين حديثا إلى ميدان الحرب الأهلية، فعليهم أن يفهموا أن صفحة النضال قد طويت، وقد غدت أمامنا الآن صفحة من التقدم ومن الحضارة ومن الأخوة التي كانت مفقودة؛ إنها صفحة رجالنا، فلتعش الصحراء! ولتحيا فرنسا!). وقد أطلق ديغول في رحلة عودته الى الجزائر على زعماء الثورة صفة المتعصبين، وكان قد وصفهم من قبل بالشجعان. وظهر واضحا أن (ديغول) قد أقفل عن عمد الطريق لإيجاد تسوية سياسية، وانصرف لتنفيذ مشروعه للإصلاح الاقتصادي، في الوقت الذي تابع الجيش عملياته للقضاء على الثورة بالقوة العسكرية. ¬

_ (¬1) الجزائر الثائرة - جوان غيلسبي - تعريب خيري حماد - دار الطليعة - بيروت - 1961 ص 204.

أدرك (ديغول) أن اصطلاح (الدمج) قد تجاوزه الزمن، ولهذا فقد مضى لتطبيق سياسة الدمج من غير الإعلان عنها، ومن غير تسميتها باسمها، وتحت اصطلاح جديد. وقد امتنع عن ذكر لفظة الدمج، وقال: (ان جزائر الأجداد قد ماتت، وإننا يجب أن نعترف بأن للجزائر الجديدة شخصيتها المتميزة). وقد قالها هو نفسه، وقالها الساسة الذين يعملون معه: (إننا لا نذكر لفظ الدمج، ولكن هذا الهدف سيتحقق في المدى البعيد، بنتيجة السياسة التي نعمل لها). وهذا ما دفع عضو مجلس الدولة الفرنسي (جيلني) للقول: لقد صفقت كغيري من الناس للكلمات الفخمة، الرنانة، التي قالها (الجنرال ديغول) في ندوته الصحافية عن الجزائر، ذلك أنه من المهم جدا أن يتم الاعتراف بالشخصية الجزائرية، وأن يعبر الجنرال ديغول عن أمله في مشاركتها مشاركة متينة مع فرنسا. ولكن قبل هذه الكلمات توجد الحقائق والوقائع، وعندما أمعن النظر، لا أجد مناصا من أن ألاحظ أن الإجراءات الإيجابية الواقعية الوحيدة التي اتخذت حتى الآن هي (إجراءات دمج) وهي كما يلي: 1 - تقسيم الجزائر إلى مقاطعات فرنسية. 2 - تنظيم البلديات الفرنسية في الجزائر. 3 - توحيد طوابع البريد في البلدين. 4 - حذف كل تمثيل (شخصي) للشخصية الجزائرية. 5 - انتخاب نواب عن الجزائر في البرلمان الفرنسي. 6 - إدماج الموظفين المسلين في إطارات - كادرات - الموظفين الفرنسيين بفرنسا.

7 - إدماج مؤسسة الخطوط الحديدية الجزائرية بمثيلتها في فرنسا. وأمام وضع كهذا لا أعجب أبدا من رد الفعل الذي قام به الوطنيون الجزائريون ردا على ندوة الجنرال ديغول، لأنهم وطنيون (شجعان) كما وصفهم ديغول ذاته، معترفا بحقيقة لم يعد بالمستطاع إنكارها). وكذلك ما قاله مندوب ديغول - دولوفرييه - في الجزائر يوم 10 - آذار - مارس - 1959. حيث أعلن ما يلي: (... هناك ثورتان تجريان اليوم في الجزائر: أولهما هي ثورة البترول والغاز في الصحراء، والثانية هي هذا المجهود الذي لم يسبق له مثيل في الميادين الاقصادية والاجتماعية والبشرية، والتي تريد فرنسا أن تقضي بها على المشاكل التي أوجدت حركة الثورة الجزائرية حتى تصبح هذه الثورة غير ذات موضوع) (¬1). لقد كان هدف سياسة (ديغول) هو (استيعاب الثورة) وتطوير عملية (النهب الاستعماري)، ولم يكن هذا الهدف بعيدا عن أنظار قادة الثورة، فقد أعلنت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، فور ظهور نتائج الانتخابات المزيفة عن موقفها ببيان رسمي نشرته على العالم، وتضمن ما يلي: (إن نتائج الانتخابات التي أعلنتها السلطات الفرنسية في الجزائر، لا يلتزم بها الشعب الجزائري بأي حال من الأحوال. إن هذه الانتخابات لا تعبر إلا عن رأي جيش الاحتلال الفرنسي في ¬

_ (¬1) سقوط ديغول (السيد الشوريجي) كتب سياسية - 142 - الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة - 1960 ص 26 و31 - 32 و34 - 35 و36.

الجزائر، ولقد قامت حكومة الجنرال ديغول بعملية الانتخاب في الجزائر لتؤكد استمرارها فى التنكر لإرداة الشعب الجزائري، وإن عمل حكومة الجنرال ديغول هذا بدلا من أن يساعد على إعادة السلم في الجزائر، أكد أنه المناصر الوفي للنظام الاستعماري الذي يعتمد على القوة والخداع). وعالجت مجلة (المجاهد) الجزائرية، موقف (ديغول) وسياستة بقولها: (إن المشكلة في حقيقة الأمر، ليست في القمع، ولا في الانتخابات، وليست في البترول ولا في الخبز، وإنما في شيء يرمز إلى كل ذلك، وإلى ما هو أوسع وأعظم، وهو أن ثورتنا تسير اليوم تحت ظل علم وطني، وبقيادة حكومة وطنية، وتحت رائد الاستقلال الوطني. هذه هي الأهداف الأساسية، والبقية فروع، وفرنسا الآن مهتمة بالفروع ظنا منها أننا سننسى الأصل. إن الجزائر أيضا يتحداها التاريخ، وليس انتصارها من باب الممكن، بل إنه عندنا يقين وعمل يتجدد بتجدد طلوع الشمس). وعادت مجلة (المجاهد) لترد على مشاريع (ديغول) الإصلاحية، بقولها: (تستطيع فرنسا إعطاء الشعب الجزائري - نوابا - بلديين أو برلمانيين، ولكن الثورة تبقى إلى جانب ذلك مستمرة، ولا تستطيع فرنسا أن تفعل شيئا بنوابها لإيقاف الثورة، ولا تستطيع حتى أن تخدع بتلك الصنائع الرأي العام العالمي. وتستطيع فرنسا أن تقيم المشاريع الاقتصادية في بلادنا، وتحمل

طبقاتنا الشعبية على العمل في تلك المصانع، ولكن الثورة تبقى مستمرة إلى جانب تلك المصانع وإلى جانب ما سماه - دي لوفريي - ثورة البترول والإصلاح. ومن الممكن جدا أن تستفيد بعض الطبقات الشعبية من هذه المشاريع، ولكن استفادتها سكون عنصر قوة لثورتنا ولن تكون عنصر ضعف. وباستطاعة فرنسا تحسين ما شاءت أو ما تمكنت من تحسينه على أوضاعنا الإدارية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن لتثق فرنسا أن ذلك كله سيزيد من قوة ثورتنا، مثلما كانت، وما تزال، المجازر وأعمال التدمير والاعتداء على الحرمات قد زادت من قوة ثورتنا. الثورة دائما مستمرة، لأن هدفها الأول والأخير هو أن يزول هذا الوجه الاستعماري من على أرضها إلى الأبد، وبعد ذلك، سيكون النواب أعضاء في البرلمان الجزائري لا الجمعية الوطنية الفرنسة، وستصبح هذه المصانع ملكا للشعب الجزائري وليست ملكا للفرنسيين، وهذا هو الفرق الشاسع بين أهداف الثورة، وبين محاولات المستعمر ...). لقد اصطدمت سياسة (ديغول) بمجموعة من العقبات والمقاومات، لا على مستوى الجزائر أو على مستوى الصراع المسلح، أو حتى على مستوى الصراع السياسي، وإنما على مستوى فرنسا ذاتها وعلى المستوى العالمي؛ فقد أصيب الاقتصاد الفرنسي بالتدهور، وظهر بوضوح أن مشاريع ديغول للإصلاح الاقتصادي في الجزائر (مشروع قسنطينة) لن تتمكن من النهوض بسبب ما تتطلبه من قدرات وإمكانات تزيد على ما تمتلكه فرنسا من القدرات والإمكانات الأمر الذي أرغم فرنسا على الخضوع لألمانيا - الغربية - وقبول هيمنتها التقنية والاقتصادية وحتى

ج - مقولات ديغولية

السياسية، وهذا هو بدقة ما أثار الرأي العام الفرنسي الذي كان محتفظا برواسب العداء التقليدية (الفرنسية - الألمانية) وبالرغم من كل هذه العقبات (وغيرها) فقد استمر (ديغول) في ممارسة لعبة الانتخابات، فأجرى الانتخابات الجزائرية (الثالثة) للمجالس البلدية، ثم الرابعة (لمجلس الشيوخ)، ولكن ذلك كله لم يحل له (مشكلة الجزائر) كما قصرت قواته العسكرية عن الوصول إلى ما يريده منها (التهدئة الشاملة)، وبات لزاما على ديغول أن يتعلم من تجاربه الذاتية، وقد تعلم فعلا، وهذا ما تؤكده مقولاته المتتالية - عبر سنوات الصراع - والتي يمكن استعراضها بسرعة، والوقوف عند أبرزها، وأكثرها أهمية. ج - مقولات ديغولية: لقد صدرت عن ديغول تصريحات كثيرة، وهي تظهر التطور في موقف ديغول من الحرب الجزائرية - الفرنسية وما يهم البحث هنا هو نوعان محددان، أولهما التصريحات المتعلقة بالصراع المسلح، وثانيهما التصريحات المتعلقة بالصراع السياسي. ومن المقولات المتعلقة بالحرب، يمكن الوقوف عند ما يلي: (أولئك الذين يحاربوننا في الجانب الآخر، تعالوا، فمن المؤكد أننا سننهي القتال ... يجب أن تنتهي المعارك) (¬1). (لا بد وأن ينقضي بعض الوقت قبل أن تتوقف المعارك) (¬2). (هذه الثورة بحصر المعنى، أعني المعارك، فإذا لو تتوقف كانت البلية العظمى). (¬3). ¬

_ (¬1) 21/ 11/ 1959. (¬2) 20/ 11/ 1959. (¬3) 22/ 10/ 1960.

(إنني اعترف بشجاعة المقاتلين الذين قضوا في ساحة الشرف ... وحينئذ أقول لجميع الجزائريين: إن الحرب التي تخوصونها، الحرب المظلمة التي تخوصونها لم يبق لها معنى صحيح) (¬1). (إن الجزائريين يشنون الحرب منذ ستة أعوام) (¬2). (نحن الآن قانعون بإنهائها، إننا ننهي الحرب التي وقعت في الجزائر) (¬3) (وإن شروط إنهاء القتال، سوف تحترم البسالة التي بدت تحت السلاح، وعلينا أن نعمل كثيرا من أجل حماسكم، من أجل بسالتكم، من أجل حبكم لمسقط رأسكم) (¬4). (وإني لأعترف أيضا بالشجاعة التي أبداها كثير من المحاربين) (¬5). (يجب علينا مناقشة الوسائل لإيجاد نهاية مشرفة للمعارك الدائرة، وتقرير المصير للأسلحة ومستقبل المقاتلين، لقد خدم طوال سنوات الصراع الخمس الأولى، في القوات النظامية العاملة في الجزائر مليون وأربعمائة ألف جندي، مات منهم ثلاثة عشر ألفا في ساحة الشرف، أما الثوار الجزائريون فقد قتل منهم (145) ألف رجل) (¬6). (لقد بدأت المفاوضات حول وقف إطلاق النار) (¬7). (لا يمكن تحقيق النصر في الميدان، ولا خطر من انعكاس الآية، بفضل طاقة جنودنا في الميدان، ولكن، يكفي الكسب في الميدان) (¬8). ... أما في مجال المقولات المتعلقة بالصراع السياسي، فقد ¬

_ (¬1) باريس 9/ 11/ 1959. (¬2) البرتفيل 9/ 10/ 1960. (¬3) دينيه 21/ 10/ 1960. (¬4) باريس 10/ 11/ 1959. (¬5) باريس 5/ 9/ 1960. (¬6) باريس 10/ 11/ 1959. (¬7) باريس 14/ 6/ 1960. (¬8) غاب 21/ 10/ 1960.

صرح - ديغول - بما يلي: (... ستبقى هناك مكانة مفضلة مخصصة للجزائر، ضمن المجموعة المشكلة بهذه الكيفية، وذلك بعد تهدئة الجزائر وتحويلها، بحيث تنمي بنفسها شخصيتها، وتكون مشتركة اشتراكا متينا مع فرنسا) (¬1) (اعتبارا لكل المعطيات الجزائرية، الوطنية منها والدولية، أعتبر أنه من الضروري أن يتم الإعلان منذ اليوم عن اللجوء إلى تقرير المصير، وأتعهد بأن أطلب من الجزائريين في عمالاتهم (ولاياتهم) الاثنتي عشر ما يريدون أن يكونوا في النهاية. أما بالنسبة لتاريخ الانتخاب فسأحدده عندما يحين الوقت، ومع أكثر تقدير بعد أربع سنوات، بعد العودة النهائية للسلام) (¬2). (هناك جزائر، هناك كيان جزائري، هناك شخصية جزائرية، فإلى الجزائريين يعود تقرير مصيرهم، فما هو الحل الذي سيصل إليه الجزائريون إذن؟ أعتقد أنهم سيريدون في جميع الحالات أن تكون الجزائر جزائرية) (¬3) (... وقف القتال، تقرير المصير، تلك هي الشروط المسبقة ليفتح للجزائر طريقها، إننا سنستخلص النتائج من إرادة الانتماء إلى فرنسا التي من المحتمل جدا أن يعبر عنها بعض السكان، الذين نعرف مسبقا أماكن تواجدهم، هؤلاء السكان، يجب علينا إذن تجمعيهم مع ضمان حمايتهم، وبعد ذلك؟ وبعد ذلك سنرى ..) (¬4). (تنحصر المسألة الجزائرية بالنسبة إلينا - نحن الفرنسيين - في ثلاثة اعتبارت أساسية: إقامة دولة جزائرية، علاقة فرنسا مع هذه الدولة، مستقبل الصحراء ... وفيما يخص ¬

_ (¬1) 8/ 1/ 1959. (¬2) 16/ ايلول - سبتمبر - 1959 (¬3) 5/ ايلول - سبتمبر - 1960. (¬4) 11 - نيسان - ابريل - 1961.

الصحراء، فإن خط سيرنا هو خط حرية مصالحنا، وهو كذلك الخط الذي يأخذ الواقع بعين الاعتبار) (¬1). (تريد فرنسا أن تنتهي من الجزائر، بطريقة أو بأخرى، وأن تعمل على تصفية الظروف الحالية، بما فيها من التزامات سياسية واقتصادية ومالية وإدارية وعسكرية تربطها بهذا البلد، والذي إن بقي على ما هو عليه، فإنه لا يعني لفرنسا إلا تجنيدا للرجال وهدرا للأموال والامكانات من غير فائدة، بينما هناك العديد من المهمات التي تتطلب مجهودنا في جهات أخرى) (¬2). (... ومع ذلك فإننا نقترب من الهدف، الذي هو هدفنا، وبالنسبة لنا، فالأمر يعني أن نحقق السلام بأسرع ما يمكن، وأن نساعد الجزائر على أن تمسك زمام أمرها بأيديها، وسيكون ذلك بإنشاء هيئة تنفيذية مؤقتة، وأن نكون مستعدين للاعتراف، دون أي تحديد، الشيء الذي سيخرج من تقرير المصير، أي دولة مستقلة ذات سيادة) (¬3). (إن رئيس الجمهورية الفرنسية، يعلن أن فرنسا تعترف رسميا باستقلال الجزائر) (¬4). ... كيف حدث هذا التحول؟ وكيف اعترفت فرنسا أخيرا باسقلال الجزائر؟ وبأي ثمن؟ ... لقد سارت الجزائر المجاهدة قدما، بعزم وثبات، على طريق التضحيات والآلام، على درب الدموع والدماء. وحدثت التحولات بصورة بطيئة، فكان كل نصر يحرزه المجاهدون في ميادين القتال يدعم الجهد السياسي، وكان كل نصر ¬

_ (¬1) 5 - ايلول - سبتمبر - 1961. (¬2) 29/ 12/ 1961. (¬3) شباط - فبراير - 1962. (¬4) 3 تموز - يوليو - 1962.

سياسي يدعم الجهد الحربي. وعبر هذه العلاقة الجدلية الثابتة مضت الجزائر المجاهدة بقيادة جبهة التحرير وجيش التحرير. لقد حاولت فرنسا، عبر هذا الصراع المرير، استخدام كل وسائل الصراع المشروعة منها وغير المشروعة للابقاء على عملية (النهب الاستعماري)، وكانت القرصنة و (البلطجة بحسب تعبير تشرشل) هي أبرز أساليب الاستعمار، وليس ذلك بالأمر الغريب، فهل الاستعمار في حد ذاته أكثر من عملية (قرصنة متقدمة تحت اسم حضاري)؟. ولقد كان من أبرز أساليب هذه القرصنة: 1 - اختطاف الطائرات والقرصنة البحرية. 2 - التنكر للقيادة الثورية (جبهة التحرير والحكومة المؤقتة). 3 - محاولة تقسيم الجزائر. 4 - إثارة قضية الصحراء. 5 - التذرع بذريعة (الأقليات الأوروبية). وسقطت الذرائعية الاستعمارية تحت ضربات المجاهدين الصادقين. وحق فى الاستعماريين قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.

مسجد فارس (جامع اليهود) بالقصبة

الفصل الثاني

الفصل الثاني 1 - القرصنة الجوية الفرنسية. أ - اخطاف طائرة الزعماء الجزائريين. ب - أحمد بن بللا ورفاقه في سجون فرنسا. ج - والقرصنة البحرية. 2 - على المسرح الدولي. آ - قضية الصحراء. ب - قضية الأقلية الأوروبية. ج - قضية (تقسيم الجزائر). 3 - الاستفتاء العملي والبيعة الشعبية. 4 - الحرب الجزائرية تدمر فرنسا. 5 - ديكتاتورية ديغول في الجمهورية الخامسة. 6 - التحولات الحاسمة - التمرد في الجزائر. 7 - وأخيرا، انتصرت الثورة.

القرصنة الجوية الفرنسية

1 - القرصنة الجوية الفرنسية أ - اختطاف طائرة الزعماء الجزائريين. تناقلت وكالات الأنباء العالمية، في يوم 22 تشرين الأول - اكتوبر - 1956، بما يشبه الذهول، خبر اختطاف طائرة مغربية كانت تقل خمسة من الزعماء الجزائريين هم: أحمد بن بللا، ومحمد خيضر، وأحمد آيت حسين، ومصطفى الأشرف، ومحمد بو ضياف. وجرت قصة القرصنة كالتالي: كانت فرنسا قبيل عملية القرصنة بأيام قليلة، قد أبدت رغبتها في عقد اجتماع بين الملك محمد الخامس والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والزعماء الجزائريين، على أن تنظر بعين الاعبار في مطالب الجزائريين بعد الاجتماع. واعتقد الملك محمد بن يوسف والرئيس التونسي بأن فرنسا قد قبلت بوساطتهما لحل المشكلة الجزائرية، ولم يكونا يعلمان - يقينا - أن هناك مؤامرة تدبر في الخفاء، وأن السياسة الافرنسية قد انحدرت، بسبب الحرب الجزائرية، إلى مستوى القرصنة، ولم تكن موافقة فرنسا على الوساطة إلا فخا هدفه استدراج الزعماء الجزائريين، الذين سيحضرون إلى مراكش لمفاوضة

السلطان، لإلقاء القبض عليهم، وذلك على أمل أن تساعدهم هذه العملية على إضعاف الثورة والقضاء عليها. كانت دوائر الجاسوسية الفرنسية في العاصمة المراكشية - المغربية - تتابع تحركات الزعماء الجزائريين وقد أمكن لها إعلام السلطات الفرنسية - في الجزائر - العسكرية منها والمدنية، بما كان يتوافر لها من المعلومات. وفي الوقت ذاته، كان الجنرال لوريلو - القائد الأعلى للقوات الجوية في الجزائر قد حصل على موافقة الأمين العام لوزارة الحربية (ماكس لوجين) على تنفيذ العملية. أقلع الزعماء الجزائريون من مطار (رباط صالح) على متن طائرة مغربية وضعتها الحكومة الشريفية التي كانوا في ضيافتها تحت تصرفهم للانتقال بهم إلى تونس، وذلك في الساعة (12،00) من يوم 22/ 10/ 1956. وكان الخط المحدد لطيران الطائرة هو (الرباط - بالما، في جزر الباليئار، حيث ينبغي لها أن تهبط للتزود بالوقود - تونس). وكان هذا الخط بعيدا عن المجال الجوي الخاضع لرقابة السلطات الفرنسية، كما أنه لا يمر في منطقة الاستعلامات التي تراقبها أجهزة راديو الجزائر. وكان على الطائرة أن تتحول عن قطاعات الإصغاء (التنصت) في المملكة المغربية، للدخول في قطاع أشبيليا قبل أن تهبط في (بالما)، غير أن مراكز مدينتي الجزائر ووهران أصغت إلى تردد قطاع أشبيليا، وفي الساعة (1500) - الثالثة بعد الظهر - بتوقيت غرينيتش، دخلت (وهران) في اتصال لاسلكي مع ملاحي الطائرة، وأمرتهم بالهبوط في وهران، فرد قائد الطائرة معلنا أن مخطط طيرانه يحتم عليه أن يهبط في (بالما). وما إن أزفت الساعة (12،25) - الرابعة وخمسة وعشرين دقيقة من بعد الظهر، حتى هبطت في (بالما) بعد أن أبلغ

قائد الطائرة شركته في الدار البيضاء بأن السلطات الفرنسية قد طلبت إليه الانحراف عن خط سيره. بادرت شركة الطيران الشريفية بإحالة هذا النبأ إلى وزير الأشغال العامة المغربي، وحينئذ أرسلت عدة رسائل من (الرباط) إلى ملاحي الطائرة في الساعة (16،58) وفي الساعة (17،50) تأمرها بعدم مغادرة (بالما) حتى إشعار آخر. ولكن الطائرة كانت على أرض المطار، فلا يمكن نقل الرسائل إليها إلا عن طريق المطار الذي يستخدم في اتصالاته خط (الرباط - مدينة الجزائر - باريس - مدريد - بالما). وفي الساعة (17،15) غادرت الطائرة المغربية مطار (بالما) قاصدة تونس. وهنا ينتهي دور (وهران) فيتسلم الرقابة برج (ميزون بلانش). تلقت الطائرة في الساعة (17,35) أمرا من السلطات العسكرية الفرنسية بالاتجاه نحو مدينة الجزائر، وقد أعلمت السلطات المغربية بهذه الرسالة الأخيرة في الساعة (17،50) لإجراء ما يلزم، وعلى الفور اتصل وزير الأشغال العامة المغربي بالشركة، فأمرت الطائرة بالعودة الى (بالما). وفي تلك البرهة، وصلت رسالة من الطائرة تنبىء أنها تلقت أمرا جديدا بالتوجه إلى مدينة الجزائر، وطلبت في الرسالة موافاتها بالتعليمات في أقصى السرعة وتدخلت الشركة بحزم لدى مطار (رباط - صالح) مستوضحة عن سبب عدم وصول رسائلها إلى الطائرة، فردت عليها مصلحة مخابرات المطار في الساعة (18،36) تعلمها بأن السلطات العسكرية الفرنسية قد احتجزت تلك الرسائل. ولم يمض وقت طويل، حتى تراءى لمحطات الرادار في الجزائر أن الطائرة تحاول العودة إلى المملكة المغربية، فانطلقت من (وهران)

القادة الذين اعتقلتهم السلطات الفرنسية وتظهر القيود الحديدية في أيديهم

و (بليدا) بعض الطائرات الفرنسية المطاردة من طراز (ميسترال) وطائرة (ب - 26) واتجهت جميعا شطر الطائرة المغربية مزودة بأوامر إطلاق النار على محركها الأيمن إذا هي همت بالفرار. تحولت الطائرة نحو مدينة (الجزائر) واقتربت في بطء من المجال الجوي الجزائري. وبينما كانت تحلق فوق (تنس) غربي مدينة الجزائر، ظهرت في الأفق طائرتان، إحداهما ليلية من طراز (ميتيور) والثانية طائرة اتصال ذات محركين (مارسيل داسولت - 315) وكانت مهمة هاتين الطائرتين تنظيم هبوط الطائرة في (ميزون بلانش). ولم تعلم شركة طيران أطلس - المغربية - بهبوط طائرتها في مدينة الجزائر إلا في الساعة (21،20). ... ألفت الحكومتان المغربية والفرنسية لجنة عرفت بلجنة التحقيق والتوفيق، فعقدت دورتها الأولى في (جنيف) في تموز - يوليو - 1957 وخصصتها لتنظيم أعمالها. وفي كانون الثاني - يناير - 1958، انتهت مرحلة تبادل المذكرات ثم بدأت المرافعات الشفوية في شباط - فبراير - وظلت جنيف مسرح هذا النشاط. غير أن الممثل المغربي، والعضو اللبناني المحايد، كلاهما اضطرا إلى الانسحاب من اللجنة لامتناعها عن سماع أقوال جميع الشهود. وكان جديرا بالشهادات التي استبعدت أن تجلو حقيقة الظروف التي رافقت عملية احتجاز رسائل الشركة المغربية للنقل الجوي؛ تلك الرسائل التي كانت تأمر قائد الطائرة بعدم مبارحة (بالما). كما أن الشهادات المذكورة من شأنها أن تحدد الظروف التي تلقت فيها الطائرة أوامر السلطات العسكرية الفرنسية بوجوب الاتجاه نحو مدينة الجزائر، وما

كان من أمر اقتناص الطيران العسكري الفرنسي لها. وأمام اللجنة المشار إليها، لم يختلف فريقا النزاع في أن اعتراض الطائرة وإجبارها على تحويل خط سيرها قد وقعا في الفضاء الجوي فوق المياه الدولية. ولقد أعلنت الحكومة المغربية أنها هي التي استأجرت الطائرة، وأن المطارد الفرنسي قد اعترض سبيلها وأرغمها على الهبوط، وأن ممارسة سلطة الأمن فى الفضاء الجوي فوق البحر لا يعدو أن يكون عملا غير مشروع. أما الحكومة الفرنسية فحجتها أن ملاحي الطائرة ينتمون إلى الجنسية الفرنسية، وأن القادة الجزائريين كانوا - كما ادعت - حاملين هويات مزورة وأسلحة ومحكوما عليهم (بجرائم عادية؟). وعلى كل حال، فليس المجال هنا هو مجال الجدل القانوني (¬1) الذي رافق العملية وتبعها، فالأمر الواضح والذي لا يقبل الجدل أو النقاش هو أن هذه العملية هي عملية قرصنة كاملة المواصفات، تم تنفيذها عن سابق تصميم وتخطيط على أرفع المستويات الاستعمارية (وخاصة العسكرية منها والتي باتت تشكل سلطة لها فوق السلطة الرسمية الحكومية). ولقد أحدثت عملية القرصنة انشقاقا في الحكومة الفرنسية، حيث استقال الوزير (آلان سافاري) (¬2) - وزير الدولة لشؤون مراكش وتونس، احتجاجا ¬

_ (¬1) يمكن الرجوع في المناقشة القانونية لقضية القرصنة هذه إلى: (الثورة الجزائرية والقانون - محمد البجاوي - دار اليقظة العربية - دمشق - ص 244 - 276) كما يمكن الرجوع في عرض عملية القرصنة إلى: (الثورة الجزائرية - احمد الخطيب - دار العلم للملايين - بيروت - 1958 - ص223 - 224). (¬2) آلان سافاري - ولد في الجزائر عام 1918، وأنهى دراسته في مدرسة العلوم السياسية عام 1938 حائزا على الدرجة الأولى بين رفاقه وزملائه، انتخب نائبا عام =

على عملية القرصنة، واحتجاز (بن بللا وإخوانه). على كل حال، لم تكن عملية القرصنة الجوية هذه هي أول عملية قرصنة أو آخر عملية نفذتها فرنسا في إطار (حرب الجزائر). ففي 4/ 11/ 1960 قامت الطائرات المطاردة الفرنسية بإرغام إحدى الطائرات البريطانية على الهبوط في الجزائر، في ظروف بقيت غامضة ومحجوبة عن الرأي العام، لأن الحكومتين الفرنسية والانكليزية اتفقتا على تسوية القضية في جو من الكتمان. وفي كانون الأول - ديسمبر - 1960، اعترضت الطائرات المقاتلة الفرنسية، إحدى الطائرات اللبنانية التابعة لشركة طيران الشرق الأوسط، وأرغمتها على الهبوط في الجزائر. وأخيرا هاجمت الطائرات المقاتلة الفرنسية يوم 9/ 2/ 1961 - في الفضاء الجوي الحر، طائرة روسية كانت تقل رئيس مجلس السوفييت الأعلى - السيد بريجينيف - أثناء توجهه لزيارة الرباط. وقد صرح وزير الخارجية السوفييتية السيد (غروميكو) يوم 10/ 2/ 1961 بما يلي: (... لقد وقع الهجوم بين الساعة (14،23) والساعة (14،30) بتوقيت غرينيتش، في الفضاء الجوي

_ = (1951) ولما شكل (غي موليه) حكومته الاشتراكية عينه أمينا عاما لوزارة الخارجية، ثم وزيرا لشؤون مراكش وتونس، غير أنه استقال سنة 1956 احتجاجا على عملية القرصنة التي تم فيها اختطاف (بن بللا ورفاقه) من غير استشارته أو إعلامه، وانصرف إلى العمل ضد سياسة حكومته في الجزائر (من داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي)، وسافر إلى الجزائر عام 1958، يحمل قائمة انتخابية (جزائرية - فرنسية) غير أنه رجع إلى فرنسا عندما رأى الممارسات الخاطئة للانتخابات. وما يتم فيها من تزوير، وانصرف لتأليف كتابه (ثورة الجزائر) الذي ترجمه الى العربية - نخلة كلاس - سلسلة الثقافة العسكرية - دمشق 1961.

ب - أحمد بن بللا ورفاقه في سجون فرنسا

فوق مياه البحر المتوسط الدولية، وعلى بعد (130) كيلو مترا تقريبا شمالي مدينة الجزائر، بينما كانت الطائرة تتجه إلى الرباط، وتتبع خط سير أعلمت به السلطات الفرنسية مقدما، وبرزت لها فجأة طائرة مطاردة فرنسية دنت منها دنوا خطيرا ثلاث مرات! وفتحت نيرانها مرتين متتاليتين على الطائرة السوفييتية، ثم اعترضت طريقها، إن هذه التصرفات لا يمكن اعتبارها سوى عمل من أعمال القرصنة الدولية ارتكبته قوات فرنسا المسلحة ...). لم تكن عملية القرصنة القذرة ضد الزعماء الجزائريين لتمر كحدث عارض، فقد هب الرأي العام العالمي مستنكرا العملية ودامغا فرنسا بالخزي والعار، وسارت في عواصم ومدن العالم العربي تظاهرات ضخمة تعلن صاخبة احتجاجها الشديد ضد أعمال الخطف والقرصنة التي أصبحت تمتهنها فرنسا بعد إخفاقها في الصمود أمام مجاهدي الجزائر وجها لوجه؛ وسحبت تونس سفيرها من باريس واحتجت الحكومتان التونسية والمغربية - المراكشية - رسميا على عملية الغدر الشنيع، واعتبرت مراكش أن عمل فرنسا موجا ضد سيادتها وكرامتها، وشكلت لجنة دولية من إيطاليا وبلجيكا ولبنان ومراكش وفرنسا للنظر في (شرعية الخطف) غير أن تضامن الدول الاستعمارية أحبط التحقيق. ب - أحمد بن بللا ورفاقه في سجون فرنسا: ظنت فرنسا أن نجاحها في أعمال القرصنة سيمهد لها السبيل لإخماد جذوة الثورة المتقدة، غير أن أملها قد خاب، إذ لم تعدم الثورة العظمى توافر عدد كبير من القادة القادرين على متابعة العمل الثوري وتطويره. وبينما كان القادة (أحمد بن بللا، ومحمد خيضر،

وأحمد آيت حسين، ومصطفى الأشرف، ومحمد بوضياف) ينقلون الى سجون فرنسا، كانت الثورة تعيد تنظيم صففها لسد الفراغ، وعندما أعلن تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (يوم 19 ايلول - سبتمبر - 1958) برئاسة (فرحات عباس)، تم تعيين أحمد بن بللا نائبا أول لرئيس الوزراء؛ وكان ذلك تحديا موجها لفرنسا التي اعتقلته واحتفظت به في سجونها، كما عين أحمد آيت حسين ومحمد خيضر ومحمد بوضياف وزراء دولة. وعندما طلب (ديغول) فتح باب المفاوضات مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، أصدرت هذه بيانا (في 22 تشرين الثاني - نوفمبر - 1959) تضمن تحديد الشروط المناسبة للتفوض، وحدد أن المفاوضات يجب أن تتم مع وفد أحمد بن بللا ورفاقه المسجونين، وبذلك فشلت المحاولة الأولى للتفاوض. وعلى إثر ذلك (صرح متحدث باسم الحكومة الجزائرية المؤقتة بأن فرنسا تعرقل إجراء أية مفاوضات جديدة بين الجانبين الفرنسي والجزائري بسبب تشديدها للقيود التي تفرضها على الزعيم الوطني الجزائري أحمد بن بللا، نائب رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، والذي لا زال معتقلا في فرنسا. وصرحت مصادر مطلعة 1: بأن الوزارة الفرنسية للشؤون الجزائرية، فرضت قيودا على المواعيد التي يسمح فيها للزعيم بن بللا باستخدام الهاتف واستقبال الزوار، وإن حكومة باريس تبحث في نقله إلى مكان آخر) (¬1). هذا وقد قام الوطنيون الجزائريون والوطنيات الجزائريات بمظاهرات ضخمة في أنحاء ¬

_ (¬1) صحيفة (الوحدة الكبرى) دمشق - العدد (883) الأحد - 12 جمادي الأولى - 1381 هـ الموافق 22 تشرين الأول - اكتوبر - 1961 ص 2 و7.

متفرقة من فرنسا احتجاجا على ما يلقاه الجزائريون من اضطهاد في فرنسا، واحتجاجا على الأعمال الوحشية التي تقوم بها السلطات الفرنسية ضد الوطنيين في الجزائر. وعلى الأثر شنت سلطات الشرطة الفرنسية - البوليس - حملة اعتقالات واسعة النطاق في المدن الفرنسية، لكن هذه السلطات لم تلبث أن اضطرت لاطلاق سراح المعتقلين من النساء والاطفال والذين بلغ عددهم (1000) ألف امرأة و (550) وخمسمائة وخمسون طفلا. وقام عدد كبير من سيارات الركاب الكبيرة بنقل هؤلاء النسوة وأطفالهن إلى نقاط قريبة من منازلهن، وقد جاء معظمهن من ضواحي العاصمة، وأعلن مدير الشرطة الفرنسية بأن النساء اللواتي اعتقلن في المدن الإقليمية أثناء تظاهرات يوم 21 تشرين الأول - أكتوبر - أثناء تظاهرات مماثلة قد أطلق سراحهن أيضا. وفي الوقت ذاته، بقي (11) ألف رجل من رجال الشرطة على استعداد في باريس للتدخل ضد المظاهرات التي يحتمل للجزائريين القيام بها في اليوم التالي، بمناسبة مرور خمس سنوات على اعتقال أحمد بن بللا ورفاقه الأربعة. وفي الواقع، فقد قام أساتذة جامعة (السوربون) وطلابها بمظاهرة يوم السبت 21 تشرين الاول - اكتوبر - 1961؛ احتجاجا على الإجراءات المتخذة ضد الجزائريين، ولا سيما اعتقال النساء الجزائريات وأولادهن - أمس -. وكان المجاهدون الجزائريون قد وجهوا - في اليوم ذاته - نداء إلى الشعب الفرنسي، دعوه فيه إلى التضامن مع المتظاهرين، ومنع السلطات من تنفيذ حظر التجول العنصري في باريس. وكانت سلطات الشرطة في باريس قد قيدت تنقلات الجزائريين خلال الليل، وناشد النداء الذي أعده الفرع الفرنسي لجبهة التحرير

الوطني الجزائرية، ونشرته وزارة الاستعلامات في حكومة الجزائر المؤقتة في تونس جميع الفرنسيين أن يتضامنوا في المصانع والجامعات، وفي كل مكان مع الجزائريين الذين يعملون في فرنسا. وطلب البيان منهم أن يدافعوا في الشارع وفي الخطوط الحديدية التي تسير تحت الأرض (المترو) وفي المباني والأماكن العامة عن جميع الجزائريين الذين يقعون فريسة التدابير الجائرة للشرطة. وناشدهم النداء كذلك مطالبة الحكومة الفرنسية بإلغاء جميع الإجراءات التي تؤثر في المهاجرين الجزائريين، والمطالبة باستئناف المفاوضات مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وقال النداء إن التدابير المطبقة في باريس قد بلغت في الفظاعة ما بلغته تلك التي اتخذت في وقت من الأوقات ضد اليهود. هذا وقد ذكر بأن ثلاث قنابل بلاستيكية قد انفجرت في فرنسا في ساعة مبكرة من صباح يوم الأحد 22/ 10/ 1961 فارتفع بذلك عدد القنابل التي فجرت إلى (12) قنبلة، وقد لوحظ أن هذه القنابل قد وضعت من قبل أفراد الجيش السري الفرنسي لإرهاب المتعاونين مع الجزائريين والمتعاطفين معهم. وقد أعلنت الشرطة الفرنسية في وقت متأخر أنها مددت ساعات منع التجول التي كانت ترفع الساعة الخامسة صباحا إلى الساعة السابعة صباحا، ومنعت التجمعات والمباريات التي تحضرها عادة جموع غفيرة يوم الأحد، تحسبا للطوارىء. استمرت فرنسا في متابعة ضغطها على الزعماء المعتقلين (بن بللا) ورفاقه، فقرر هؤلاء الإضراب عن الطعام، وأثار ذلك موجة جديدة من السخط، لا سيما وأن العالم بات يتوقع انفراجا في طريق المفاوضات الجزائرية - الفرنسية بعد تدهور الموقف الفرنسي عسكريا وسياسيا، داخليا وخارجيا، وبذلت جهود لإقناع الزعماء

الجزائريين بالتوقف عن الإضراب. وفي يوم الثلاثاء 21/ 11/ 1961 (¬1) (أعلن محمد يزيد وزير الأنباء في الحكومة الجزائرية المؤقتة - من تونس - بأن بن بللا ورفاقه قد توقفوا عن إضرابهم عن الطعام، كما أعلن إلى أن وقف هذا الإضراب يعود إلى نتائج المفاوضات التي اشترك فيها الوزراء الجزائريون المعتقلون. وقال إن نتيجة تلك المفاوضات هي نصر كبير للشعب الجزائري ولأبطال جبهة التحرير الوطني الجزائري المعتقلين في فرنسا وعلى رأسهم الوزراء الخمسة، والحكومة الجزائرية تحيي هؤلاء الذين أجبروا، بعد إضراب عن الطعام استمر عشرين يوما، القوى التي تعارض السلام في الجزائر على التراجع. وكان الزعماء الجزائريون قد قبلوا بإنهاء الإضراب بعد أن تم الاتفاق على أن ينقلوا إلى دار نقاهة خاصة حيث يشرف عليهم أطباء مغاربة، ويتمتعون بمزيد من الحرية، ويحق لمندوب مغربي الاتصال بهم ساعة يشاء. هذا وقد صرح الدكتور - عبد الكريم الخطيب - وزير الدولة المغربي للشؤون الأفريقية بأنه يتوقع أن تطلق السلطات الفرنسية صراح أحمد بن بللا في مطلع - شهر كانون الأول - ديسمبر - 1961). انتهت الأزمة أخيرا، وخرج الشعب الجزائري منتصرا، وأجري الاستفتاء في الأول من تموز - يوليو - 1962، وأعلن استقلال الجزائر. ودخل أعضاء الحكومة المؤقة الجزائر يوم 3/ 7/ 1962؛ ودخل (أحمد بن بللا) الجزائر يوم 4 ايلول - سبتمبر. 1962، وأجريت الاتتخابات للمجلس التأسيسي، ¬

_ (¬1) صحيفة (النداء البيروتية. العدد (865) الأربعاء 22/ 10/ 1961 الموافق 13 جمادى الثاني - 1381 هـ.

ج - والقرصنة البحرية

وأعلنت النتيجة يوم 20 أيلول - سبتمبر، ووافق المجدس على تعيين أحمد بن بللا رئيسا للجمهورية الجزائرية. وانتصر السجين على سجانه، وفشلت القرصنة كعهدها دائما في الوصول الى هدفها. ج - والقرصنة البحرية: استخدمت فرنسا ذريعة قيام الجزائر بالقرصة البحرية - على ما هو معروف - للعدوان على الجزائر واحتلالها في سنة (1830). واستيقظت الجزائر من كبوتها في ثورتها العملاقة، وأخذت في توجيه ضرباتها الموجعة لدولة الاستعمار، دولة القانون والعلم والحضارة، فنسيت هذه الدولة ذرائعيتها، وعادت لممارسة القرصنة الاولية في (الجو والبحر والبر) لا في البحر وحده، ولكن بطرائق حضارية متقدمة. وقد سبقت الإشارة إلى القرصنة الجوية، ويمكن هنا استقراء بعض ملامح قرصنتها البحرية. وفي الواقع، فمنذ أن نشب القتال في الجزائر، حاولت السلطات الفرنسية جهدها أن تحول دون تزود القوات الجزائرية بالسلاح والعتاد الحربي والمواد الطبية، وهكذا عمدت إلى مطاردة الكثير من السفن واعتراضها وإيقافها. وتعتبر (المجلة البحرية الفرنسية) مجلة شبه رسمية - تصدر بباريس بمساعدة وزارة البحرية الفرنسية - وقد تضمن كل عدد من أعدادها الشهرية جدولا بالعمليات التي تمت في هذا المجال، ومن ذلك على سبيل المثال: (خلال شهر تشرين الأول - أكتوبر - 1956، تحققت قطعاتنا البحرية وطائراتنا من هوية ستمائة مركب وأوقفت - 285 مركبا، وزارت 69 مركبا، وهزمت 21 مركبا) (¬1). ¬

_ (¬1) المجلة البحرية، كانون الأول - ديسمبر - 1956 ص 1616.

(وفيما بين 3 كانون الأول - ديسمبر - 1957 و10 كانون الثاني - يناير - 1958، أمكن التعرف على 300 باخرة، وإيقاف أربعين وزيارة ثلاثين ثم اقتياد عشر منها إلى أحد المرافىء (¬1). (وأمكن من تاريخ 18 تموز - يوليو - حتى 31 آب - اغسطس 1958 معرفة 886 سفينة، وإيقاف 246، وزيارة 118 واقتياد واحدة إلى أحد المرافىء للمراقبة. وفي العام 1959، تعرفت البحرية الفرنسية في البحر المتوسط على (41300) مركبا، وفتشت (12565) واقتادت 83 مركبا) (¬2). وكانت بعض أحداث القرصنة الفرنسية مثيرة للرأي العام العالمي، وتركت أصداء قوية، ومنها حادثة إغراق (اليخت دينا) الذي كانت تملكه امبراطورة إيران السابقة (ثريا) من قبل الأسطول الحربي الفرنسي. وفي 16 تشرين الأول - اكتوبر - 1956، أوقفت الباخرة (آتوس) التي كانت تحمل العلم البريطاني وهي تسير في عرض البحر، واقتيدت إلى مرفأ (نمور) الجزائري، ثم إلى مرفأ (مرسى الكبير)، وفي حين أن الباخرة اليوغوملافية (سلوفا ينجا) قد أوقفت في 18 كانون الثاني - يناير - 1958 في عرض البحر أيضا واقتيدت إلى وهران، وحلت الواقعة بالمركب الدانمركي (غرانيتا) في 23 كانون الأول - ديسمبر - 1958، وبسفينة الشحن التشيكية (ليديس) في 7 نيسان - أبريل - 1959، وبسفينة الشحن البولونية (مونت كاسينو) في تموز - يويو - 1959 - وفي تشرين الثاني - نوفمبر - 1959، أوقف المركب الألماني (بيلباو)؛ وفي ¬

_ (¬1) المجلة البحرين، شباط - فبراير - 1958 ص 243. (¬2) المجلة البحرية، تشرين الأول - اكتوبر - 1958 ص 1331.

12 كانون الأول - ديسمبر - 1959 مركب هولاندي، وفي 2 آذار - مارس - 1960، أوقفت الباخرة (سلوفانيجا) مرة أخرى، وكذلك الباخرة (ريجيكا) من الشركة اليوغوسلافية ذاتها (التي أوقفت يوم 3 نيان - ابريل)، كما أوقفت سفينة الشحن الألمانية (لاس بالماس) في 9 حزيران - يونيو - 1960، وسفينة الشحن اليوغوسلافية (هربيا = سربيجا) في 15 حزيران - يونيو - 1960. وفي كانون الأول - ديسمبر - تم توقيف سبعة عشر مركبا ألمانيا في البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي أثار أزمة جديدة وجدية في العلاقات الفرنسية - الجرمانية. استخدمت الحكومة الفرنسية ذريعة (الدفاع عن النفس) حجة لها لممارسة أعمال القرصنة، وعلى هذه الأساس أصدرت أمرا إلى الاسطول الفرنسي بكامله في يوم 6/ 10/ 1956 نص (على القيام بدوريات منتظمة للحؤول دون وصول أية شحنة أسلحة، وذلك استنادا إلى المادة الرابعة من المرسوم والتي تنص على ما يلي: خلافا لأحكام المادة 44 من قانون الجمارك، يزداد حد منطقة التفتيش الجمركي على مراحل الجزائر، باب للسفن التي تقل حمولتها عن مائة طن، بحيث يشمل خمسين كيلو مترا بعد أن كان محددا بعشرين). أما المادة الخامسة من هذا المرسوم فقد نصت على ما يلي: (إن سلطات تفتيش المراكب التي تقل حولتها عن مائة طن، وهي المخولة بموجب القوانين النافذة إلى ضباط وبحارة السفن الحربية، تصبح فيما يتعلق بالمنطقة المعينة بالمادة (4) من صلاحيات ضباط وملاحي طائرات (الهيليكوبتر - العمودية) وسواها من الطائرات البرمائية العسكرية، وكذلك تخول إلى كل جهاز من أجهزة البحرية - الحربية يحتمل أن يعين لهذا الغرض).

إنها قرصنة يحميها قانون صادر عن سلطة لا يحق لها إصدار مثل هذا القانون الذي يتناقض مع الاتفاقات الدولية، وليس المجال هنا عرلى كل حال الدخول في مناقشات قانونية، ويكفي الإشارة الى أن لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة، وكذلك مؤتمري جنيف في عامي 1958 و1960، قد أقروا وأكدوا باجماع الآراء: (أن الحقوق الدولية لا تسمح بأن تتجاوز المياه الإقليمية اثني عشر ميلا) أي ما يقارب (15) كيلو مترا، في حين جاء القانون - أو المرسوم - الذي أصدرته فرنسا من جانبها فقط فمددته حتى خمسين كيلو مترا وبالإضافة إلى ذلك، فإن مقررات لجنة الأمم المتحدة ومؤتمر جنيف قد أكدت المبدأ الثاني: (لما كان عرض البحر مفتوحا لكافة الأمم، فإنه ليس من حق أية دولة أن تحضع قسما منه لسلطانها). وأما حق التفتيش والملاحقة - أو المطاردة - فهما بدورهما مقيدان بنواظم دولية، فحق التفتيش محدد بأن يظن أن المركب يمارس القرصنة، أو يتعاطى تجارة الرقيق، أو إذا رفع المركب علما مزيفا، بشرط أن يحمل جنسية السفينة الحربية القادمة للتفتيش. وأما حق الملاحقة، فلا يمكن ممارسته إلا في حالة ما إذا كان المركب الملاحق قد خالف القوانين الجمركية أو المالية أو الصحية السائدة في الدولة المطلة على البحر، وبشرط أن تبدأ الملاحقة اعتبارا من المياه الإقليمية. يظهر مما تقدم أن العمليات الفرنسية إنما هي خرق فاضح للتشريع الدولي المتعلق بالبحار في زمن السلم، وإن مرسوم السابع عشر من آذار - مارس - 1956 الذي سبقت الإشارة إليه، والذي مددت به الحكومة الفرنسية حدود المياه الإقليمية للجزائر إلى خمسين كيلو مترا يؤلف هو الآخر انتهاكا ظاهرا للقاعدة الوضعية التي

سبق عرضها، والتي لا تسوغ أن تتعدى المياه الاقليمية اثني عشر ميلا. وتجدر الإشارة إلى تناقض الاستعمار الفرنسي مع ذاته، ففي مؤتمر صحفي عقد في (وهران) صرح الناطق باسم وزارة الخارجية الفرسية: أن فرنسا لن تتردد في مصادرة كل شحنة أسلحة تصادفها في حدود المياه الإقليمية للجزائر التي تبعد خمسين كيلو مترا عن الشواطىء. وهنا اعترض أحد الصحفيين فقال: بأن أندونيسيا سبق لها منذ شهر أن رسمت لمياهها الإقليمية مثل هذه الحدود، فكانت فرنسا هي أول دولة احتجت على ذلك بشدة احتجاجا مستندا إلى عدم شرعية هذه المسافة في نظر الحقوق الدولية، فبهت ممثل وزارة الخارجية، واكتفى بالإجابة: (إن الموقف في الجزائر مختلف! ...). على كل حال! فهناك حادثتان مميزتان قد تجدر الإشارة إليهما، وهما من أبرز عمليات القرصنة التي مارستها فرنسا ضد ثورة الجزائر، والأولى عملية احتجاز الباخرة (آتوس) والثانية هي عملية احتجاز الباخرة (سلوفانيجا)، وقد وقعتا في عرض البحر. قضية آتوس: صرح مصدر فرنسي رسمي بما يلي: (قامت الطائرة الفرنسية التي تحمل اسم - المقدم دوبيمودان - بالهبوط على السفينة - آتوس - التي كان رادار الطائرات البرمائية قد اكتشفها، وكانت الطائرة قد انطلقت من المياه الإقليمية). وأثناء رؤية القضية أمام محكمة القوات المسلحة (بوهران) قال محامي الدفاع، والوثائق في يمينه، بأن التوقيف جرى في مياه رأس (تروا فورش)، أي في عرض البحر - وتكلم قبطان (الآتوس) وهو يوناني، منعت محاكمته، واستمعت إليه المحكمة بصفته شاهد، فأوضح الخط

الذي اتبعته الباخرة بمحاذاة الشاطىء الإسباني، وفي اتجاه مراكش - المغرب - مع تجنب الجزائر، ولقد اضطرت الباخرة إلى الإرساء في (رأس الآغا) أي في المنطقة المراكشية التي كانت في السابق تحت النفوذ الاسباني، وذلك باعتراف السلطات الفرنسية نفسها. وبعد أن مخرت مياه الشواطىء الإسبانية، لم يكن في وسعها إلا أن تدخل المياه الإقليمية المراكشية للإرساء، ومن المتعذر أن نتصور كيف يمكنها دخول المياه الجزائرية. وفضلا عن هذا، فإن التصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء الفرنسي (غي موليه) يوم 25/ 10/ 1956 أمام الجمعية الوطنية، يؤكد انتهاك فرنسا للحقوق البحرية، والقيام بالقرصنة، حيث قال: (فيما يتعلق بالآتوس، سيرى البعض مجالا لطرح الأسئلة الحقوقية، لأني اعترف أنه من المحتمل جدا أن نكون قد تجاوزنا المياه الإقليمية قليلا) (¬1). وهكذا يتضح أن (الآتوس) المسجلة في (لويد) بمدينة (لندن) والتي كانت ترفع العلم البريطاني، وأبرم العقد بين قائدها وتاجر الأسلحة في القنصلية البريطانية بمدينة (الاسكندرية) (¬2) قد أوقفت في عرض البحر خلافا للشرع الدولي البحري. قضية سلوفانيجا: كانت الباخرة اليوغوسلافية (سلو فانيجا) قد أبحرت من (ريجيكا) قاصدة (نيويورك) عن طريق (الدار البيضاء) عندما اعترضتها البحرية الحربية الفرنسية (يوم 18/ 1/ 1958) على بعد (45) ميلا من الشواطىء الجزائرية، أي ¬

_ (¬1) الجريدة الرسمية للجمهورية العربية (المناقشات) الجمعية الوطنية (26/ 10/ 1956 - ص 4317) المجلد الأول. (¬2) صحيفة (لوموند) 21 حزيران - يونيو - 1957.

في عرض البحر (¬1) فقامت الملاحة البحرية (يوغولينيجا) التي تملكها بإذاعة بلاغ على الصحف، أكدت فيه أن السفينة قد أوقفت على بعد (45) ميلا من الشواطىء الجزائرية، وأن ضابطا وأربعة جنود - افرنسيين - قد صعدوا إلى سطحها، وحاصروا على الفور جهاز الإرسال اللاسلكي، رغم احتجاجات ربان السفينة، وقد أدلى هذا الأخير بمثل هذه المعلومات، لمحرري الصحف الذين قابلوه في (الدار البيضاء). وعلقت (صحيفة فرنسية) (¬2) على الحادث بقولها: (لم يقل أحد أن العملية تمت في المياه الإقليمية، كما أن الباخرة - سلوفانيجا - كانت مبحرة وفق القانون الدولي للبحار، وأن بيانها الاحتجاجي وارد وصحيح الأساس). وكأنما شاءت الحكومة الفرنسية نفي تنفيذ العملية بروح عدائية، فاحتجزت البرقية التي أرسلها قائد السفينة في اليوم ذاته إلى السفارة اليوغوسلافية (بباريس)، وكانت هذه البرقية قد وصلت باريس في الساعة السابعة صباحا، ولم تسلم إلى السفارة حتى الساعة (19،30). ¬

_ (¬1) إن (المجلة البحرية) شبه الرسمية، والتي مر ذكرها توضح (1958 ص 402): (بأنها قد أوقفت على بعد (40) ميلا من وهران، عملا بالحقوق البحرية، وذلك بعد أن أصبحت مياهنا الإقليمية تمتد إلى مسافة خمسين ميلا عملا بالمرسوم الصادر بهذا الشأن) والمجلة تعني المرسوم الذي سبق عرضه. ولكن من الملاحظ أن هذا المرسوم لا يعتبر قانونيا في نظر القانون الدولي للبحار. ويلاحظ ثانيا وعلى الخصوص أن المرسوم المنوه به قد جعل مسافة المياه خمسين كيلو مترا لا خمسين ميلا مما يعادل (92) كيلومترا، فأي خلط بائس هذا الخلط (للمناقشة القانونية، ومزيد من التفاصيل انظر - الثورة الجزائرية والقانون - محمد البجاوي - دار اليقظة العربية - دمشق - ص 232 - 243. (¬2) صحيفة (لوموند) 21 كانون الثاني - يناير - 1958.

وقالت الوكالة السويسرية في برقية لها (يوم 27 كانون الثاني -يناير - 1958) ما يلي: (لقد كانت الشحنة نظامية إطلاقا، وهيئت لها كافة الإجازات (الترخيصات) الدولية، ولولا ذلك لما وافق مكتب (فيلكس - في زوريخ) على عقد الصفقة. وبدهي أن الأسلحة والأعتدة قد صرح عنها بالتفصيل، سواء في بيان الإبحار أو في الإشعارات، إذ لم يكن ثمة ما يجب إخفاؤه). وقالت وكالة الأنباء اليوغوسلافية (في 21 كانون الثاني - يناير - 1958): (إننا حيال خرق فاضح لحرية الملاحة في البحار، وعرقلة تعسفية للتجارة البحرية ... ويعتبرون في - بلغراد - أنه ليس ثمة أي اتفاق دولي يعطي فرنسا أو أية حكومة أخرى، حق توقيف السفن، وتفتيشها، ومصادرة حمولتها، وعدا عن ذلك فإن تسليم الأسلحة المعروفة، لم يرد عليه أي نص بمنعه في الظروف الحالية، وليس هناك من اتفاق خاص بشأن منع تسليم مثل هذا العتاد إلى مراكش، (¬1). ولقد أوقفت هذه الباخرة (اليوغوسلافية) مرة أخرى في 29 آذار - مارس - 1960. وتولت إيقافها سفينة الحرب الفرنسية (سافوايار) على بعد (21) ميلا من الشواطىء الجزائرية، كما أوضحت ذلك وزارة ¬

_ (¬1) لقد اعترفت الحكومة الفرنسية، صراحة، بأن الأسلحة كانت موردة إلى تاجر في الدار البيضاء، مما حدا بها أن تدعم مذكرتها الجوابية إلى (يوغرسلافيا) بنصوص اتفاق الجزيرة (وهر اتفاق اعتراف البطلان بعد استقلال مراكش - المغرب). كما اعتمدت على ظهير (قانون) مراكشي، صادر في العام 1937، ولكن الناقل، كان يحمل ترخيصا رسميا من السلطات المراكشية - المغربية!

الخارجية اليوغوسلافية. وأضاف هذا المصدر الرسمي أن قبطان الباخرة وافق على تقديم أوراقه بعد أن التزم الضباط الفرنسيون بتنظيم ضبط يشار فيه إلى المكان الذي أوقفت فيه السفينة. أعمال قرصنة أخرى: أوقفت البحرية الفرنسية بعد ذلك بخمسة أيام (أي في 3 نيسان - ابريل - 1940) سفينة يوغوسلافية أخرى (ريجيكا) وهي في عرض البحر، وذلك على بعد (32) ميلا من الشواطىء الجزائرية. وفي 15 حزيران - يونيو - 1960، اعترضت سفينة حرب فرنسية مركبا يوغوسلافيا آخر على بعد (11) ميلا من غربي الشواطىء المراكشية، بعد أن سلطت عليه نيران مدافعها المضادة للطائرات. ووجهت وزارة الخارجية التشيكوسلوفاكية إلى الحكومة الفرنسية (في 13 نيسان - ابريل - ومطلع تموز - يوليو - 1959) مذكرتين احتجت بهما على اقتياد السفينة التشيكية (ليديس) الذي حدث في 7 نسان - ابريل - 1959 - بصورة مخالفة للقانون، وفي عرض البحر. وفي 24 تشرين الثاني - نوفمبر - 1959، أعربت الحكومة الفرنسية إلى حكومة ألمانيا الاتحادية عن أسفها لمصادرة قسم من حمولة السفينة الألمانية (بيلباو) التي أوقفت في عرض البحر يوم 5 تشرين الثاني - نوفمبر - 1959 ولكن في أعقاب سلسلة من عمليات التوقيف التي تناولت شتى السفن الألمانية، ما بين كانون الأول - ديسمبر - 1960 وكانون الثاني - يناير - 1961، وجهت حكومة (بون) في 7 كانون الثاني - يناير - 1961، مذكرة احتجاج إلى الحكومة الفرنسية، وهددت فيها باتخاذ بعض التدابير العدائية، ومنها إغلاق المرافىء الألمانية في وجه البواخر الفرنسية.

ومن نافلة القول أن نستمر في تعداد الحوادث المماثلة، فقد أكدت مجموعة العمليات التي قامت بها السلطات الفرنسية من تعرض وتوقيف ومصادرة أنها كلها تمت في عرض البحر، وهي لا تتجاوز نطاق (القرصنة البحرية).

على المسرح الدولي

2 - على المسرح الدولي كانت سنة 1957 هي سنة الجزائر في الأمم المتحدة، فقد عرضت (قضية الجزائر) مرتين على الأمم المتحدة في الدورتين الحادية عشرة والثانية عشرة، واستمر طرح القضية بعد ذلك في كل دورة من دورات هيئة الأمم المتحدة، وكان عدد أنصار الجزائر يتزايد في كل مرة، في حين كان موقف فرنسا يتزايد حرجا، الأمر الذي أرغم حلفاء فرنسا في النهاية إلى التخلي عنها، وكان للعزلة الدولية التي نزلت بفرنسا دورها في التأثير على السياسة الفرنسية التي وجدت نفسها مضطرة لإعادة تقويم مواقفها. وقد لا يتسع المجال هنا لعرض مراحل الصراع السياسي للجزائر على المستوى الدولي، وعلى هذا فقد يكون من المناسب البدء بالقرار (1573) الذي أصدرته الأمم المتحدة يوم 19/ 12 / 1960 (الدورة الحادية عشرة) والذي تضمن ما يلي: أولا: إن الجمعية العامة قد أحيطت علما بأن الفريقين قد وافقا على حق تقرير المصير، كأساس لحل القضية الجزائرية. ثانيا إن الجمعية العامة (قد اعترفت بحق الشعب الجزائري بتقرير المصير والاستقلال). ثالثا: إن الجمعية العامة (قد أكدت الحاجة القصوى لوضع

الضمانات الفعلية المناسبة التي تكفل تطبيق مبدأ تقرير المصير بنجاح وعدالة، على أساس الاعتراف بالوحدة والسلامة الإقليمية للجزائر). رابعا: إن الجمعية العامة (تعترف بأن على الأمم المتحدة مسؤولية المساهمة في تنفيذ حق الشعب الجزائري بكل نجاح وعدالة). وعلى هذا الأساس - بدأت مباحثات - إيفيان -. أخذت الحكومة المؤقتة للجمهور ية الجزائرية المبادأة - كعادتها - من أجل تنفيذ قرار هيئة الأمم المتحدة، ولما يمضي على صدور هذا القرار أكثر من أربعة عشر يوما، وأعلنت عن استعدادها للدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية، على أساس تقرير المصير والاستقلال. وفي الواقع، فقد كانت الحكومة الجزائرية هي التي تقترح دائما المفاوضات مع الحكومة الفرنسية لإجراء تسوية سلمية، وحتى حين كانت الحرب الجزائرية على أشدها تنزل الضربات القاصمة بالقوات الفرنسية، لم تتردد جبهة التحرير الوطني الجزائرية، المرة بعد المرة في الدعوة إلى المفاوضات، ففي آذار (مارس) ونيسان (أبريل) وآب (أغسطس) وتشرين الأول (أكتوبر) من العام 1956، بذل الزعماء الجزائريون جهودهم لاقناع فرنسا بالموافقة على مبدأ المفاوضات، وجدد الزعماء جهودهم في تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) (1957)، ثم تابع الزعماء الجزائريون محاولاتهم في أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر) من العام التالي (1958). وقد بادرت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بعد إنشائها (وفي العام 1959) بأربع محاولات للمفاوضات (في حزيران - يونيو، وأيلول -

سبتمبر، وتشرين الأول - اكتوبر، وتشرين الثاني - نوفمبر). وقد تم اجتماع (ميلون) في العام (1960) بمبادرة من الزعماء الجزائريين، وكان الوزراء الجزائريون في هيئة الأمم المتحدة يسعون سعيا حثيثا مع وفود الدول الأعضاء في المنظمة الدولية حتى تكون قرارات هيئة الأمم المتحدة متضمنة لمبدأ المفاوضات، ومقابل ذلك، كان موقف فرنسا متناقضا ومتباينا، ففي بعض الأوقات كانت فرنسا ترفض المفاوضات رفضا قاطعا، وفي مرات أخرى كانت فرنسا ترفض استخدام لفظ المفاوضات، وأخيرا فإن الصائغين البارعين في الأمم المتحدة، وهم ينبشون القواميس الدبلوماسية، عثروا على تعبير فرنسي يقابل كلمة المحادثات (¬1) وذلك لإرضاء المشاعر الفرنسية الحساسة ... وهذا ما دعا الجمعية العامة أن تستخدم هذا التعبير الفرنسي في قرار هيئة الأمم المتحدة ولم يكن سرا طوال سنوات الصراع، كانت تنهال على هيئة الأمم المتحدة النداءات والمناشدات حتى يأخذ الأعضاء بعين الاعتبار مصالح فرنسا، مع تمجيد عظمتها وإشباع غرورها، والمبالغة في الثناء عليها ومراعات عاطفتها الحساسة ورقة مشاعرها ... وكثيرا ما كان أعضاء هيئة الأمم المتحدة يستجيبون لهذه النداءات. لم يقتصر الشعب الجزائري على المطالبة بالمفاوضات، بل إن حق تقرير المصير للشعب الجزائري، كما أعلنه الرئيس ديغول في بيان 16 أيلول - سبتمبر - 1959 وقبلته الحكومة الجزائرية في 28 ¬

_ (¬1) المحادثات POURPARLER وقد اصرت عليه فرنسا بدلا من لفظ المفاوضات: NEGOTIATION . والمرجع: قصة الثورة الجزائرية (أحمد الشقيري) دار العودة - بيروت ص 129 - 159.

أيلول - سبتمبر - 1959 كان مطلبا جزائريا على الدوام. لقد كان حق تقرير المصير هو (كلمة السر) في الحرب الجزائرية، و (الشعار القومي) للشعب الجزائري، ولولا الحساسة الفرنسية لوجب على هيئة الأمم المتحدة حين الإشارة في قراراتها إلى (المفاوضات وحق تقرير المصير) أن توجه نداءها الى فرنسا، والى فرنسا وحدها. فلقد كانت الجزائر تقف دائما، إلى جانب مبدأ المفاوضات، لتجري بصورة أمينة صادقة، والى جانب تقرير المصير يطبق بكل جد وعدالة، ولكن فرنسا هي التي كانت تتخلف مرة، وتنتحل الأعذار مرة أخرى. ولم يكن موقف الجزائر ناجما عن ضعف، فقد كانت تتابع الحرب باستمرار، وتطور استعدادها، وهي تعلن في الوقت ذاته استعدادها للسلام، وكان المجاهدون يحرزون النصر تلو النصر في ميادين الصراع المسلح، في حين كانوا يرفعون في اليد الأخرى غصن الزيتون، وكان ذلك سر قوتهم. ومن أجل ذلك، كان جليا للعيان، أنه حينما أعلنت الحكومة الجزائرية في كانون الثاني - يناير - 1961، أنها على استعداد لأن تقبل بصورة رسمية الدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية، استجابة لقرار الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، إنما فعلت ذلك رغبة منها في السلام، وفي الحرية التي تستهدف السلام، ولقد أخذت الحكومة الجزائرية زمام المبادرة، وأدى ذلك الى (مؤتمر إيفيان) الذي عقد في أيار - مايو - 1961. وكان سرور المحافل الدولية كبيرا إذ اعتقدت أن فرنسا قد تخلت في النهاية عن أسطورة (الجزائر الفرنسية)، غير أن هذا السرور ما لبث أن تحول إلى إحباط عندما فشلت المفاوضات بسبب عودة فرنسا إلى عنادها القديم في موضوع (الصحراء ووحدة التراب الجزائري) وكان حريا بالجنرال (ديغول) الذى ارتبط

اسمه (بشمال أفريقيا) أن يكون أكثر معرفة بالتاريخ والجغرافيا، إن وحدة الجزائر حتمية - كالقدر - وإن سلامتها الإقليمية، بشواطئها وجبالها وصحرائها، حاسمة قاطعة، لا تقبل النقاش أو الجدل، وقد رفضت الجزائر أن تطرح هذه الأمور على مائدة المفاوضات حتى لو أدى ذلك الى أن تصبح الحرب الجزائرية - الفرنسية (حرب المائة عام) (¬1). المهم في الأمر، هو أن المفاوضات قد أظهرت بوضوح تام موقف الطرفين (الجزائري والفرنسي) من المفاوضات، ولقد أصدرت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، في عشية (مؤتمر إيفيان) أي في يوم (19 - أيار - مايو - 1961) بيانا سياسيا من مقرها في تونس تضمن ما يلي: (ستبدأ المفاوضات في - إيفيان - غدا بين الحكومة الفرنسية والحكومة الجزائرية، وسيحضر وفدنا هذا المؤتمر برغبة أكيدة للوصول إلى حل حاسم للمشكلة التي نشأت منذ - 130 - عاما، وعلى أمل الوصول الى نهاية للحرب، وقد بات السلام ممكنا إذا ما توفرت الضمانات التي لا بد منها. إن هدف الاجتماع في (إيفيان) يجب أن يكون تحرير الجزائر تحريرا حقيقيا كاملا، وإن معنى هذا، هو أن الشعب الجزائري يجب أن يجد نفسه متحررا من العبودية، بعد أن أخضع طوال مائة وثلاثين عاما للقانون الفرنسي، قانون الأقوى، وقد قاتل الجزائريون من أجل استقلالهم منذ أن حملوا السلاح في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954، وحتى يومنا هذا، ولقد استشهد ¬

_ (¬1) حرب المائة عام، هي الحرب الفرنسية - الإنكليزية التي استمرت من سنة 1337 حتى 1453.

من استشهد في سبيل هذا الاستقلال، ولم تبخل الجزائر لتحقيق هذه الغاية بالأرواح والأموال، وقد أصبح عسيرا أن نحصي عدد شهداءنا. وإن كفاح جيش التحرير الجزائري الذي لا يقهر، هو الذي جعل مفاوضات الغد ممكنة، وإن هذه المفاوضات يجب ان تيسر لشعبنا أن يمارس سيادته ممارسة حقيقية، وأن يحقق استقلاله. إن سياسة الجزائر الخارجية، تهدف إلى إقامة علاقات مثمرة وثابتة مع جميع الشعوب، وبطبيعة الحال مع الشعب الفرنسي، وإن الجزائر قد أغنتها تجارب حرب السبع سنوات، لترغب أن تساهم في بناء السلم العالمي، وأن الجزائر المستقلة مستعدة أن تمد يدها إلى فرنسا، وهي مستعدة كذلك أن تحترم المصالح الإفرنسية التي لا تتعارض مع المصالح الجزائرية. وإنه من طبيعة الأشياء، أن الشعب الجزائري، متحررا من قيود العبودية، ستكون له أحسن العلاقات بالشعب الفرنسي، وسرعان ما تنتهي الحرب، ويتحقق الاستقلال، فإن العلاقات العادية بين الشعبين ليست ممكنة فحسب، ولكنها مرغوب فيها ... وسيكون أمام شعبينا مجال واسع للتعاون الحر. أما بشأن الأقلية الأوروبية، فإننا نأمل أن تفهم هذه الأقلية في الجزائر أننا على أبواب عهد جديد، وأنه ليس لهم ما ينفعهم من ارتباطهم بالاستعمار، وسيكون في الجزائر مكانة مرموقة لكل جزائري، ونحن نتطلع إلى مستقبل مفعم بأمل السلام والتقدم للجزائر. وإذا كانت فرنسا مستعدة بإخلاص أن تقلب صفحة الماضي الاستعماري، بصورة نهائية قاطعة، فنحن مستعدون من جانبنا أن نضمد جراحنا ونتغلب على مشاعر المرارة في نفوسنا). لقد بدأت مفاوضات (إيفيان) من غير جدول أعمال متفق

عليه، ولكن الحكومة الجزائرية لم تشأ أن تعلق أهمية على هذا الموضوع البالغ الأهمية، وتجاوزت كل الجوانب الغامضة التي أحاطت بالمؤتمر وموضوعاته منذ البداية، والتي لم يكن أقلها البلاع الرسمي، المبهم والغامض، والذي أصدرته الحكومة الفرنسية يوم (30 آذار - مارس - 1961) وتضمن (بأن المفاوضات ستدور حول تقرير المصير والأمور المتصلة به). ولم تشأ الحكومة الجزائرية أن تلفت النظر إلى هذه الصيغة المغلفة بالغموض، وارتأت أن تسير في هذه الرحلة الى نهايتها، رغما عن الألغام التي كانت فرنسا قد زرعتها في الطريق منذ بدايتها. وبهذه الروح البناءة الخيرة، اتجه وفد الحكومة الجزائرية إلى (إيفيان) ممثلا لوزارات الخارجية والمالية والتنمية الاقتصادية والإعلام وجيش التحرير الوطني، وكان الوفد مخولا ببحث جميع القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية ومفوضا أن يدخل في مفاوضات حرة مع فرنسا، من غير شروط مسبقة، إلا ما نص عليه قرار هيئة الأمم المتحدة: (تقرير المصير على أساس وحدة الشعب الجزائري، وسلامة الوطن الجزائري). بدأ الوفد الجزائري محادثاته في (إيفيان) بإلقاء بيانه الذي تضمن فيما تضمنه ما يلي: (إن الموضوع الذي يواجهنا في هذه الدقيقة هو استئصال الاستعمار من جذوره، وإن هاتين الكلمتين - استئصال الاستعمار - على إيجازهما تحددان المشكلة وتحددان الحل. إن القضية الجزائرية هي قضية استعمار، ولذلك فإن حلها، شأنها شأن جميع القضايا الاستعمارية هو باستئصال الاستعمار، وليس هذا ما يفرضه المنطق البسيط فحسب، بل إن هذه هي روح العصر، بل هي روح اليوم الذي نعيشه ... ان تقرير المصير يجب

أن يمارسه الشعب الجزائري في معزل عن أية شروط، وإن استقلال الجزائر ليس معناه العداء للأجنبي، وليس له أن يؤدي الى الكراهية. نحن نفهم الاستقلال في إطار العلاقات النافعة من شعبين متحررين، وإن هذه العلاقات يمكن تنميتها، ويمكن أن تنفع الشعب الفرنسي والشعب الجزائري). ... عقد مؤتمر (إيفيان يوم 20 أيار - مايو - 1961، ولم تمض أكثر من أربعين دقيقة على بدء الجلسة الافتتاحية، وبينما كان الوفد الفرنسي يلقي بيانه، أعلنت الحكومة الفرنسية عن (هدنة في الجزائر). وكانت هذه الخطوة من جانب فرنسا مدعاة الى التقدير في ظاهر الأمر، فوق أنها تدل على (التقى والورع). ولكن لم تنقض لحظات بعد ذلك حتى أدرك الرأي العام العالمي حقائق الموقف، وسقطت الأقنعة والستائر عن المحاولة الفرنسية؛ فقد انكشف أولا أن هذه الهدنة هي هدنة فرنسية جاءت من طرف واحد حتى أن الحكومة الجزائرية لم تبلغ بها، وتتطلب الهدنة الحقيقية على ما هو معروف اتفاقا مسبقا يتم الوصول اليه بالتفاوض بين الطرفين المتحاربين، فإذا أعلنها طرف واحد فإنما هي (خدعة) لا (هدنة)، ولا تكون إلا تكتيكا مفضوحا، خاليا من روح التكتيك ... لقد ظنت فرنسا انها بهذه الخطوة تستطيع ان تأسر خيال رجل الشارع في فرنسا، وتربح الرأي العام العالمي، وتحرج الحكومة الجزائرية، ولكن فرنسا قد أخفقت في تحقيق هذه الأهداف الثلاثة، فلقد خاب ظن المواطن الفرنسي في حكومته (الكذابة) وسخر الرأي العام العالمي من عقلية القرصنة الفرنسية، وكان

الشعب الجزائرية أكثر هزءا بهذه (اللعبة المكشوفة) التي لم تلبث أن فضحتها التعليمات الخاصة التي وجهها الحاكم العام الفرنسي في الجزائر: (والتي خولت الجيش الحرية الكاملة للقيام بعمليات هجوم شاملة، حيثما كان، وبقدر ما تسمح الظروف). أما بالنسبة لموقف الحكومة الجزائرية من (الهدنة)، فإنها بوغتت بهذا الاجراء، غير أنها لم تصب بالنهول، فقد تمرست بأساليب اللعب الاستعمارية؛ ولهذا فقد اعتبرت أن (الهدنة الفرنسية) هي (ضربة تسلل) سارعت بالرد عليها، فأصدرت من مقرها بتونس يوم (21 - أيار - مايو - 1961) بيانا جاء فيه: (إنها لا تعلم شيئا عن الهدنة الفرنسية) وبذلك لم يتيسر للخدعة أن تخدع أحدا. وفيما يتعلق بجوهر المفاوضات في (إيفيان) فقد كان موقف الحكومة الفرنسية أسوأ من (حكاية الهدنة)؛ فقد قدم الوفد الفرنسي يوم (8 حزيران - يونيو - 1961) خطة لما أسماه (إزالة الاستعمار) وهي تتضمن بنودا من شأنها (تطوير الاستعمار) ومن أبرز نقاطها: أ - دعم (الوجود الأوروبي) بضمانات كيانية ودستورية، بما فيها حق التمثيل في (البرلمان الفرنسي) لهذه الجماعة الأوروبية، وحقها في كيان منفصل. وبهذا فإن الخطة الفرنسية تقيم في داخل (الدولة الجزائرية) دويلة أوروبية، أوروبيه دائما، ومفضلة متميزة باستمرار. ب - اعادة إثارة الأسطورة القديمة (الصحراء الفرنسية) والمطالبة بفصلها عن الجزائر. ج - المطالبة بإنشاء مناطق عسكرية داخل الدولة الجزائرية تكون تابعة لفرنسا، وليست هذه قواعد حربية، وإنما هي مناطق شاسعة بكاملها، مخصصة لأغراض عسكرية، ويكون لفرنسا عليها السيادة

الكاملة. وبهذا يكون لفرنسا دويلات عسكرية موزعة في كل مكان فوق التراب الجزائري، وداخل كيان الدولة الجزائرية. د - الدعوة لإنشاء نظام خاص في مدن معينة، يعاد فيها تجميع الأوروبيين، على نحو ما كانت عليه دويلات المدن في عالم اليونان القديمة. لقد كانت الخطة الفرنسية خطة متكاملة هدفها تدمير مبدأ (تقرير المصير) و (تجزئة الوطن الجزائري) و (القضاء على وحدة الشعب الجزائري)، وفوق هذا وذاك، فإنها تصنع من الجزائر مزيجا غريبا وشاذا من الأنظمة والكيانات: الدولة الأوروبية دولة المدن، دولة الصحراء، وأخيرا دولة الجزائر. وعلى الرغم مما تتضمنه هذه الخطة من (فضائح مخزية) و (عيوب فاضحة) فقد مضى الوفد الجزائري في المفاوضات، مفندا المزاعم الفرنسية التي بنيت عليها الخطة، ومعارضا المقولات الفرنسية ومجادلا بصبر نافذ، وحماسة دافئة، ولكن جميع الحجج لم تقنع الوفد الفرنسي بضرورة الالتزام بمادىء (هيئة الأمم المتحدة وميثاقها). وفجأة، وبعد ثلاثة أسابيع من المفاوضات، قرر الوفد الفرنسي إيقاف أعمال المؤتمر، بدون إبداء الأسباب الداعية لذلك، وكان هذا الموقف من جانب فرنسا، بغير علم الوفد الجزائري أو موافقته، يشابه تماما موقف فرنسا من (حكاية الهدنة) في بداية أعمال المؤتمر. واعتصم الوفد الجزائري - كعادته - بالصبر وبعد النظر، (فأعرب عن استعداده لاستئناف المفاوضات حينما يحلو للفريق الفرنسي العودة لممارسة لعبة المفاوضات). وبدلا من أن تنصرف فرنسا إلى دراسة الموقف من جديد، فقد عملت على إلقاء مسؤولية الفشل على عاتق الوفد الجزائري، وألقى الوزير الفرنسي لشؤون الجزائر - مسيو لويس

جوكس - بيانا في الإذاعة والتلفزيون جاء فيه ما يلي: (... نحن لم نتمكن من معرفة موقف جبهة التحرير الوطني الجزائرية بصدد أي موضوع من المواصيع المطروحة على المؤتمر، حتى أننا وجدنا أنفسنا نلام للقرار الذي اتخذناه بشأن وقف الأعمال الحربية، ذلك القرار الذي أعتبر مناورة عسكرية ... وفي المواضيع الأخرى، كان ممثلو جبهة التحرير الوطني الجزائرية يقيدون أنفسهم بأمور نظرية مجردة، أو يلتزمون الصمت، أو أنهم يعربون عن نوايا طيبة، سرعان ما نجدها تطير في الهواء حينما نحاول أن نمسك بها). لم تكن هناك حاجة لدحض المزاعم التي طرحها - الوزير الفرنسي - ذلك ان الوفد الجزائري كان قد قدم بيانا رسميا الى (مؤتمر إيفيان) في يوم (10 حزيران - يونيو - 1961) مرفقا بمذكرة تضمنت ما يلي: (إن الخطة الجزائرية قد أخذت باعتبارها جميع الحقائق، وجميع العوامل الإنسانية والنفسية في نطاق خطة صادقة لإزالة الاستعمار والتعاون المثمر). ولقد ركز البيان الجزائري على مجموعة النقاط التي أثارها الوفد الفرنسي، وأبرزها: 1 - الموقف من قضية الصحراء. 2 - الموقف من الأقليات الأوروبية. 3 - الموقف من محاولات (تقسيم الجزائر). وتميز البيان الجزائري بالوضوح التام، والصراحة المطلقة، لا لبس ولا غموض، ولا مناورات خداعية، ولم يكن باستطاعة الوفد الفرنسي إغماض عينيه أمام وهج شمس الحق الساطعة، فلم يكن أمامه إلا الفرار من (حلبة المفاوضات) وهذا ما فعله. وعرف العالم كله، موقف الطرفين المتصارعين على حلبة (الصراع السياسي)،

أ - قضية الصحراء

فزاد موقف فرنسا تدهورا. وتتطلب فقرات (البيان الجزائري) في الواقع، وقفة قصيرة عند كل فقرة من الفقرات. أ - قضية الصحراء الصحراء الجزائرية هي الجزء الجنوبي من الجزائر، وقد عرفت بأسماء مختلفة مثل (الجنوب القسنطيني) و (جنوب ولاية الجزائر) و (الجنوب الوهراني)، وليس هناك من وصف آخر يطلق على (الجنوب الجزائري) الذي يشغل أرضا مساحتها مليون ونصف المليون من الكيلومترات المربعة، تعادل أربعة أضعاف مساحة فرنسا ذاتها، وقد اكتشف فيها الغاز الطبيعي والبترول غداة الحرب العالية الثانية. ويظهر أن تفجر الثروات في الصحراء الجزائرية قد حرك أطماع الاستعمار الفرنسي، تدعمه السياسة الاستعمارية الدولية، وخشية أن يؤدي استقلال الجزائر إلى القضاء المبرم على أهدافه، فقد انبرى يحاول اختلاس القسم الصحراوي من الجزائر متذرعا بمختلف الذرائع الواهية. وفي الوقت الذي كانت تنطلق فيه هتافات مجنونة على غرار (من دنكرك إلى تامانراست) تتغنى بها جماعة تتوهم في غمرة الرقي الحرية أن مجرد ترديد رغبة يكفي لتوليد حقيقة، في ذلك الوقت، كانت الحكومة الفرنسية والبرلمان الفرنسي يقيمان الطقوس ذاتها، فيتخيلان أن سن قانون، وإصداره، يكفيان لإسباع الحياة على وهم خرافي. وعلى هذا النمط، حاولوا أن يعلنوا أن الصحراء الجزائرية هي (أرض فرنسية) بشكل (نهائي ورسمي وسيادي)، ومجرد الادعاء يضاهي بقوة السحر برهانا ساطعا، في نظر جماعة (بوجاد) (إن سيادتنا على الصحراء لا تقبل النزاع. وإذن، فهي أرض من الوطن، ويعود إلى

البرلمان - الفرنسي - أن يرسم ذلك بشكل قانوني، منعا لكل التباس) (¬1)، وآخرون من رجال السياسة يرون ان فرنسا قد وضعت يدها على (مال متروك لا صاحب له). طبعا، فالمسألة مسألة أرض خالية لا يقطنها أحد ولا يملكها أحد!! وأولئك المليون مخلوق بشري من أبناء صحراء الجزائر؟ إنهم غير موجودين، بإرادة القانون ووقاحة الاستعمار!! لقد أصبحت عادة من العادات تلك الصيحة التي يرددها رجال فرنسا في الجزائر، كلما دخلوا مكانا ليس فيه سوى المسلمين: (لا يوجد أحد)، أما (آل رغيبة) و (الطوارق) و (الهقار) و (العجار) و (سكان الواحات) فليسوا جميعا سوى ذرات من الرمال. ومعلوم أن الأرض تعتبر خالية - بلا صاحب - منذ الوقت الذي لا تمارس عليها أية سلطة، والصحراء الجزائرية ينطبق عليها هذا التعريف في نظرهم، لأن القبائل التي تقطنها لا عهد لها بمفهوم السلطة والسيادة على النحو المعروف لدى الأوروبيين في قانونهم الدولي العام. وليس بالإمكان الإنحاء باللوم على (قيصر) لأنه كان يجهل البارود، ولكن ذلك مثال التعليل الاستعماري القائم على عناصر يعتبرونها في قاموسهم مطلقة على حين أنها ليست إلا نسبية، وهم لا يلتفتون، مع ذلك، إلى واقع أن هذه القبائل التي يعترفون بأنها (محاربة موهوبة) إنما تقيم لسيادتها واستقلالها مفهوما يتسم بالغيرة، بل حتى بالمغالاة. وتبقى الحقيقة الوحيدة، وهي أن فرنسا لا تملك سندا قانونيا صحيحا يخولها ضم الجزائر اليها، سواء في ذلك القسم الشمالي منها أو الجنوبي، وليست فرنسا سوى سلطة ¬

_ (¬1) الثورة الجزائرية والقانون - محمد البجاوي - ص 349 - 381.

احتلال في الصحراء الجزائرية، كما في باقي أنحاء البلاد. ومن مظاهر هذه الحقيقة أن أراضي الجنوب الجزائري ظلت تخضع للإرادة العسكرية الفرنسية، وتحكم بموجب قوانين خاصة تطورت في ثلاثة مراحل متميزة: 1 - الفترة الأولى: وفيها حكمت الصحراء بموجب (القانون الصحراوي) من سنة 1902 الى سنة 1947. 2 - الفترة الثانية: وفيها حكمت الصحراء بموجب قانون 1947حتى سنة 1957. 3 - الفترة الأخيرة: وفيها حكمت الصحراء بانشاء (المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية). ... عندما سنت السلطات الفرسنية عام 1902 قانونا ظل طوال نصف قرن هو النظام الأساسي لأراضي الجنوب الجزائري، لم تشأ تلك السلطات أن تفصل عن الجزائر جزءا من أرضها. وعلى هذا فإن القانون لم يحدث قط كيانا سياسيا، وإنما اكتفى بإقرار تنظيم من النوع الإداري المحض، بعد أن اعترف بأن أراضي الجنوب تؤلف جزءا لا يتجزأ من الجزائر. فالأمر الذي حمل البرلمان الفرنسي على إنشاء وحدة إدارية دعيت (بالجنوب الجزائري) لم يكن الرغبة السياسية في تجزئة الجزائر، وإنما مرده إلى اعتبارات مالية صرف، وقد قال مشرع القانون: (أيها السادة!. لقد أفصح البرلمان عن رغبته في أن يرى نفقات احتلال أراضي الجنوب الجزائري، مقصورة على ما هو جد ضروري، ومن بين الوسائل المؤدية إلى هذه النتيجة، وسيلة أشارت إليها لجنة الميزانية في المجلس لعام 1902، وهي تقضي

بأن تنتظم أراضي الجنوب في وحدة إدارية متميزة لها ميزانيتها التي تغذيها ضرائب محلية. وقد أقر المجلس على هذا الأسلوب، فصادق في 23/ 12/ 1901، مشروع قرار نص على: أن المجلس يدعو الحكومة إلى دراسة مشروع تنظيم إداري ومالي للجنوب الجزائري). ومن الملاحظ، إذن، أن أراضي الجنوب كان معترفا بأنها ليست سوى (الجنوب الجزائري) وأن المشروع لم يهدف، ولا أحكام القانون ذاته قد رمت، إلى إقامة وحدة سياسية منفصلة عن الجزائر. ومن الملاحظ أيضا أن قانون عام 1902، قد أكد حقيقة وحدة الأرض الجزائرية، فالضرائب والرسوم التي تجبى في أراضي الجنوب، شأنها شأن الضرائب والرسوم المفروضة على أي جزء آخر من الجزائر، كانت فيما مضى، تغذي ميزانيات الجزائر وولايات وهران والجزائر وقسنطينة، وكل ما هدف إليه قانون عام 1902 هو الاقتصاد والتوفير، بتخصيص موارد الموازنات المحلية للنفقات المحلية، أي أن توضع موازنة خاصة لما أسماه المقرر البرلماني (بالصحراء الجزائرية). وما التقرير الذي رفع من (لجنة الجزائر) إلى (مجلس الشيوخ الفرنسي) إلا تأكيد للعوامل ذاتها والهادفة إلى تخفيض نفقات الميزانية لما كان معترفا بأنه يؤلف. دونما ريب، (القسم الجنوبي للجزائر) أو أيضا (الجزء الآخر من الجزائر) وفقا لما تضمنه التقرير المشار إليه: (يبدو أن هذا الجزء من الجزائر يمكن وضعه تحت إدارة خاصة، دونما محذور، بحكم تربته ومناخه وعادات أهله، والدور الذي يضطلع به في مستعمرتنا الأفريقية الجميلة ... أما الاحتفاظ بهذين الجزئين من الجزائر مدة أطول

تحت إدارة واحدة، وفي حدود موازنة واحدة، فإنه ينطوي على عدم الانصاف، ومن شأن هذه الطريقة أن تلحق الضرر بالجزئين معا). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن قانون عام 1902 قد سبقته استشارة الهيئات الجزائرية المختصة، ولا سيما العناصر المالية والمجلس الأعلى في شأن المشروع الحكومي، وقد انتهت هذه الهيئات إلى الموافقة على نص المشروع بعد أن أجيب إلى طلبها الرامي إلى اخضاع كل مشروعات الموازنة الخاصة بأراضي الجنوب لتمحيصها ودراستها. وعلى هذا فإن التنظيم الإداري المستوحى من دواع مالية معروفة لم يسفر عن شيء، سوى تعزيز المركزية لا لصالح (حكومة باريس) بل لمصلحة (السلطة الحاكمة في مدينة الجزائر). ولقد هدف قانون (1902) وجميع النصوص اللاحقة إلى تحقيق ما يلي: أ - تقليد الحاكم العام في الجزائر (وليست أية سلطة خارج الجزائر -) السلطات اللازمة لإدارة أراضي (الجنوب الجزائري). ب - الحد من نظام الإدارة الخاصة المقرر لأراضي الجنوب، عن طريق الإبقاء على الوحدة بين الشمال والجنوب في بعض المجالات الإدارية. ج - المحافظة على مبدأ الوحدة السياسية بين جزئي الجزائر، وتطبيق هذا المبدأ. وهكذا كان الحاكم العام للجزائر هو الذي يمارس إدارة أراضي الجنوب الجزائري بصورة مباشرة، وعن طريق دائرة تدعى (إدارة أراضي الجنوب) ملحقة بمكتب الحاكم العام في مدينة الجزائر.

وهكذا، وعلى سبيل المثال، وفي مجال القضاء الإداري، كان الاختصاص المعقود لمجالس ولايات وهران والجزائر وقسطينة يشمل أراضي الجنوب المقابلة، أي أراضي عين صفرا، وغرداية، وتقرت والواحات. وعلى هذا النحو، جاء الأمر الصادر في 17/ 8/ 1945، في شأن انتخاب الجمعية الوطنية التأسيسية الفرنسية الذي نص في مادته (الرابعة عشرة) بوضع مرسوم يحدد كيفيه تطبيقه في الجزائر، وقد صدر مرسوم التطبيق في اليوم ذاته، فمنح الجزائر (26) مقعدا توزع مناصفة بين فرنسيي الجزائر ومسلمي الجزائر: (فكانت ولاية وهران - عين الصفرا تنتخب خمسة نواب عن الفرنسيين وثلاثة نواب عن المسلمين، وكانت ولاية الجزائر - غرداية تنتخب خمسة نواب عن الفرنسيين وأربعة عن المسلمين، وكانت ولاية قسنطينة - تقرت تنتخب ثلاثة عن الفرنسيين وستة عن المسلمين) وواضح أن التمثيل النيابي للجزائر قد شمل الجزائر كلها، بما فيها مناطق الصحراء (¬1). وعلى كل حال، فعندما تم إلغاء نظام أراضي الجنوب في العام 1947، ألحقت هذه الأراضي بجزائر الشمال؛ وكان ذلك تأكيدا جديدا، بوحدة التراب الجزائري، جاء بتوجه القانون الصادر في ¬

_ (¬1) تضمنت مواد القانون 23/ 9/ 1948 ملحقا يضم قائمة الدوائر الانتخابية في ثلاث مجموعات: أ - ولاية وهران وأراضي عين صفرا: (توات، وقرارة، ومراكز ناغيت، وبني عباس، الخ ...). ب - ولاية الجزائر وأراضي غرداية: (ملحقات غرداية، ومركز القليعة الخ ...). ج - ولاية قسنطينة وأراضي تقرت: (الواد، وتيد يكلت، وهقار، وعجار الخ ...).

20/ 9/ 1947، الذي تضمن نظام الجزائر الأساسي، فقد ألغت المادة - 50 - من هذا القانون أراضي الجنوب في نصها القائل: (يلغى النظام الخاص بأراضي الجنوب، وتعتبر هذه الأراضي ولايات، وتحدد بقانون، بعد استطلاع رأي الجمعية الجزائرية، الشرائط التي بمقتضاها تؤلف هذه الأراضي كلا أو بعضا، ولايات متميزة، أو ولايات مندمجة في الولايات الموجودة أو التي ستشأ. يلغى المرسوم الصادر في 30/ 9 / 1903 وتدمج ميزانية أراضي الجنوب في ميزانية الجزائر اعتبارا من أول كانون الثاني - يناير - 1948). لم ينجم عن صدور هذا القانون أي تغيير، باستثناء إلغاء موازنة أراضي الجنوب، وإدخالها في صلب موازنة الجزائر، وحتى صلاحيات الحاكم العام بقيت كما هي، وقد مارس (مكتب التنقيب عن المعادن في الجزائر) الذي أنشىء منذ شهر آذار - مارس - 1948، نشاطه الرئيسي في المناطق التي أصبحت تؤلف منذ العام 1957 مجموعة (ولايات الواحات وسواره)، وكانت مدينة الجزائر تتحمل في موازنتها قسما من نفقات هذا المكتب. وجدير بالملاحظة أن المرسوم الصادر في 7/ 7/ 1957، بتعديل النظام الأساسي للمكتب المذكور، لم يخرج القسم الصحراوي من دائرة نشاط المكتب في حين أن هذا المرسوم صدر بتاريخ لاحق لإنشاء المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية. ويلاحظ أيضا أن الحاكم العام للجزائر هو الذي منح الرخص الثلاثين الأولى لتنقيب عن الفحوم الهيدروجينية في الصحراء الجزائرية. تبع إلغاء قانون (1947) طرح مشاريع عديدة ومتنوعة، لم يكتب لأحدها النجاح، وكما أن عوامل اقتصادية تتعلق بالموازنة،

هي التي أدت في العام (1902) إلى وضع تنظيم إداري جديد للقسم الجنوبي من الجزائر، كذلك، فإن المصالح الاقتصادية الرأسمالية الكبرى تدخلت منذ العام (1950) وانتهى بها المطاف إلى تنظيم آخر جديد. وهناك عاملان مارسا دورا قويا؛ فمن جهة، أثار اكتشاف البترول والغاز بكميات كبيرة مطامع الرأسماليين، ومن جهة ثانية فإن تصميم الشعب الجزائري على انتزاع استقلاله جعل هؤلاء الرأسماليين يخشون ضياع ثروات الجزائر الصحراوية. ومنذ أن طرح في العام (1955) مشروع تأميم الصحراء، برزت إلى الوجود - في باريس - مجموعة من الاقراحات ومشاريع القوانين. كان من أخطر المشاريع المقدمة مشروع فصل الصحراء عن الوطن الجزائري، وقد تصدت الإدارة الاستعمارية في الجزائر لمحاولات التقسيم، ويمكن في هذا المجال العودة إلى ما أعلنه رئيس الجمعية الجزائرية من على منبر الجمعية، وبحضور الحاكم العام للجزائر (روجيه ليونار) يوم 27/ 11 / 1951. (... لما كنت عالما بمشاعركم جميعا، فقد أعلنت لرئيس الحكومة ووزير الداخلية في باريس، أن الجنوب الجزائري يؤلف بلا جدال، جزءا لا يتجزأ من الجزائر). وعندما ازدحمت مكاتب الجمعيات الفرنسية المختلفة بمشروعات واقتراحات القوانين الهادفة إلى تجزئة الجزائر، ثارت من جديد مناقشة حادة حول الموضوع في (الجمعية الجزائرية) في تموز (يوليو) 1952، وكان (السيد لوهورو) في جملة المتحدثين، باعتباره مندوب أراضي الجنوب في (الجمعية الجزائرية) وباعتباره واضع تقرير ربط هذه الأراضي بالجزائر، فقال ما يلي:

(... إن القول بأن الجزائر تنتهي عند الأطلس الصحراوي، لا يعدو أن يكون مجرد بدعة، إن هذا معناه إنكار حقائق الجغرافية البشرية، بل إنكار أبسط مبادىء الجغرافية. وإذا كانت لجنة الداخلية قد اعتبرت هذا النتوء حدا فاصلا بين الشمال والجنوب، فلا ريب أنها لم تقدر خطأها، فهي إنما تقتطع عامدة أراضي تطواف بعض القبائل البدوية، وتخضع هذه الأراضي لنظامين إداريين مختلفين، وبذلك تهيء تعقيدات متعددة ومتنوعة تحمل في ثناياها آثارا سيئة على النظام العام). وقد انتهت المناقشات إلى تبني قرار، واقتراح، فالقرار قد نص على ما يلي: (... الجمعية الجزائرية. تحتج على كل بتر يطرأ على جزء من أرض الجزائر، ابتغاء دمجه في أرض مستقلة، ترتبط مباشرة بالحكومة الفرنسية،.أما الاقتراح، وعنوانه مثير في حد ذاته لأنه: (يتعلق بالمحافظة على وحدة الأرض الجزائرية) ونص على ما يلي: (الجمعية الجزائرية، مضطربة من جراء مشروع قانون تأميم الصحراء الذي يقتطع من الجزائر أراضيها الجنوبية. نحتج بشدة ضد أي مشروع يفضي إلى مثل هذه النتيجة). وهكذا، فحتى المدافعون عن الاستعمار الفرنسي المجنون في الجزائر، قد انبروا، بدافع من حب الاستئثار بكل شيء، يؤيدون بحماسة شديدة الفكرة التاريخية والقانونية القائلة بوحدة الأرض الجزائرية. استمرت (الجمعية الجزائرية) في صراعها من أجل المحافظة على وحدة الأرض الجزائرية، حتى توارت عن المسرح بمقتضى المرسوم الصادر في 12/ 4 / 1956. وفي كانون الأول (ديسمبر)

من السنة ذاتها، رفع إلى البرلمان الفرنسي مشروع قانون يقضي بإحداث: (منظمة مشتركة للمناطق الصحراوية)، ولم يقو إحداث هذا القانون على المساس بالوحدة السياسية لشمال الجزائر وجنوبها. لقد قدمت خلال تلك المرحلة، إلى البرلمان الفرنسي، مشاريع قوانين كثيرة، بهدف إخضاع الصحراء، تعسفا، لنظام أساسي فرنسي، ويمكن من خلال هذه المشاريع، ملاحظة وجود تيارين فكريين: 1 - كانت بعض مشاريع القوانين تهدف إلى إقامة تنظيم إقليمي للصحراء، ذي طابع سياسي - إداري. وبمقتضى هذا التنظيم يفصل عن كل من (الجزائر) و (موريتانيا) و (السودان) و (النيجر) و (تشاد) أقسامها الصحراوية، ثم يجري تجميع لأراضي المفصولة، ويوضع لها من طرف واحد نظام أساسي يجعل منها (إقليما وطنيا فرنسيا). 2 - وكانت هناك مشاريع قوانين أخرى لا تتجاوز في طموحاتها حدود إجراء: (تنظيم اقتصادي لمجموعة الصحارى الجزائرية والموريتانية. الخ ... من غير ما مساس بالنظام الأساسي لكل من هذه الأجزاء. ولعل من الأهمية بمكان، ملاحظة أن أنصار اقامة وحدة إقليمية باسم (أفريقيا الصحراوية الفرنسية) أو (الاقليم الوطني الفرسي) قد أخفقوا في مساعيهم، فلم يتخذ أي قرار بالتجميع، كما استبعدت فكرة التنظيم السياسي، وتغلبت فكرة التنظيم الوظيفي، ولا تعدو المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية من أن تكون جهازا ذا أهلية اقتصادية واجتماعية، وهي بحكم نوعية اختصاصها عاجزة عن المساس بالسيادات الاقليمية، واسقلالها. وعلى هذا، فإن قانون 10/ 1/ 1957، لم ينشء (إقليما) وإنما

خط (محيطا). وهذا التعبير الأخير ورد في المرسوم الصادر في 16/ 10 / 1957 بخصوص التركيب الإداري والمالي (للمنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية). وقد أقر قانون عام 1957 الصفة الجزائرية الخالصة لأراضي الجنوب المجمعة بقصد الاستثمار داخل محيط (المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية)، حيث نصت (المادة الأولى) من مشروع القانون الحكومي على ما يلي: (أحدثت منظمة مشتركة للمناطق الصحراوية، غايتها استثمار المناطق الصحراوية من الجمهورية الفرنسية، وتنميتها الاقتصادية، ورفع مستواها الاجتماعي، وتشترك فيها الجزائر وموريتانيا والسودان والنيجر وتشاد). والنص الذي رجحت كفته، وأصبح آخر الأمر قوام (المادة الأولى) من قانون 10/ 1 / 1957. ليس أقل وضوحا إذ يقول: (أحدثت منظمة مشتركة للمناطق الصحراوية، يشترك في إدارتها كل من الجزائر وموريتانيا والسودان والنيجر والتشاد). وتجدر الإشارة إلى أن هذه المؤسسة الجديدة لم تكن تمتلك في حد ذاتها قاعدة إقليمية، ذات تنظيم قانوني خاص، وتلك ظاهرة تتجلى أيضا في واقع أن هذا الجهاز المنضد، ذا الاختصاصات الوظيفية من النوع الاقتصادي والاجتماعي البحت، يقع مركزه في (باريس) وليس داخل المحيط الصحراوي. وعلى كل حال، فقد جاءت الثورة الجزائرية لتقلب المخططات الإفرنسية رأسا على عقب، في شمال الجزائر وجنوبها، وتبع ذلك نقل المشاكل التي تتعلق بالجزائر - بما فيها قضايا الجنوب - إلى (باريس)، حيث أصبحت معالجتها من اختصاص رئيس مجلس الوزراء الفرنسي، يعاونه وزيران يختص أحدهما (بالقضايا

الجزائرية) ويختص الآخر (بقضايا الصحراء)، وقد تم ذلك بموجب مرسوم 7/ 8 / 1957 حيث تم إحداث ولايتين في الجزائر الصحراوية: (ولاية الواحات) ومركز إدارتها (الأغواط)، وولاية (سوارة) ومركز إدارتها (كولومب بيشار)، وتخضع هاتان الولايتان لنظام إداري وتشريعي مماثل، من جميع الوجوه، للنظام المطبق في ولايات شمال الجزائر، بحيث أن التوزيع الوظيفي بين الوزيرين لا يبدو مخلا بالوحدة الجزائرية. ... كانت تلك لمحة تاريخية لعلاقة فرنسا بالصحراء، وعندما عادت فرنسا في محادثات (إيفيان) لطرح قضية الصحراء، تقدم الوفد المفاوض الجزائري ببيانه (يوم 10 حزيران - يونيو - 1961) وجاء فيه: (إن الجزائر لن تنسى بأن الصحراء تحت السيادة الجزائرية، ستكون مفتوحة أمام الانتاج الكامل، وأن تستغل ثروتها إلى أبعد حد، وستأخذ بعين الاعتبار مصالح الأقطار المجاورة، وكذلك مصالح أفريقيا وفرنسا ذاتها، وسيكون المجال مفتوحا كذلك أمام جميع الدول الراغبة في التعاون معنا على قدم المساواة). ثم صدر عن الحكومة الجزائرية بيان جاء فيه: (إن الحكومة الجزائرية، تميز بين السيادة على الصحراء، وموضوع استثمار ثرواتها الطبيعية. إن الثروة الطبيعة يجب أن تنتفع بها أفريقيا عن طريق التعاون المثمر، وإن هذا التعاون يمكن أن يتحقق مع فرنسا، خصوصا وأنها قد بدأت فعلا في مشروعات الاستثمار). ولكن فرنسا لم تقتنع بهذا المنطق الحر، فحاولت استثمار فترة وقف مباحثات (مؤتمر ايفيان) للقيام بمحاولة جديدة - على طريقة الأسلوب الاستعماري القديم والمكشوف وهو فرق تسد - فاتصلت

بالدول المجاورة للصحراء، وهمست في آذان المسؤولين بأن: (مطالب الجزائر بشأن الصحراء لن تترك لمصالحهم أي مجال، وستسد الطريق على جميع ادعاءاتهم). ولكن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تمكنت من إحباط الخطة الفرنسية، واتصلت بوزارات الخارجية في تلك الدول، وأوضحت لها موقف الجزائر من (قضية الصحراء)، وكانت النتيجة نصرا للجزائر وهزيمة لفرنسا. وتجلى ذلك في الموقف الرائع الذي أعلنته الدول الأفريقية، في أن (موضوع الصحراء يمكن أن يحل بصورة ودية بين الدول الأفريقية ذاتها، ولكن بعد استقلال الجزائر). اسؤنفت المباحثات الجزائرية - الفرنسية من جديد في (لوغران) يوم 20 تموز - يوليو - 1961. وفي هذه المرة تم إعداد جدول أعمال دقيق بناء على طلب الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ولم يترك هذا الجدول أي موضوع يتصل بتطبيق مبدأ (تقرير المصير) أو في الأمور التي يجب أن تقرر بالنسبة لمستقبل الجزائر، وتولى الوفد الجزائري بسط القضية الجزائرية بصورة كاملة مفصلة وفي موضوع الصحراء (أكد الوفد الجزائري أنه يجب استطلاع جميع آفاق التعاون، وأعلن من جديد استعداد الجزائر للوصول إلى اتفاق بشأن استثمار الصحراء، ولكن على أساس انها جزء لا يتجزأ من الجزائر المستقلة). ولكن الوفد الفرنسي بقي متخندقا في خنادقه، لا يتراجع خطوة واحدة عن مواقفه السابقة، وربط مصير المفاوضات والمؤتمر بالصحراء، كما ربط مصير الصحراء بالمصالح الفرنسية، واعتبر أن الصحراء كانت لفرنسا، وهي لذلك تشكل قضية (مستقلة بذاتها)، متجاهلا بذلك، أن الصحراء تؤلف أربعة أخماس

الجزائر، وأن وحدة الوطن الجزائري تعبير لا معنى له، اذا كان أربعة أخماس الوطن يؤلف منطقة منفصلة قائمة بذاتها، وأنه لا يمكن أن يكون هنالك وطن جزائري بدون الصحراء. إن الحديد في (تندوف) والفحم في (جنوب وهران) والمعادن المشعة في (الهقار) والزيت في (حاسي مسعود) و (الدحبيلة) والغاز في (الرمل)، كل هذه الثروات الطبيعية يجب أن لا تكون سببا في تجزئة الجزائر بل في وحدتها. إن هذه الثروة الطبيعية يجب أن تكون نعمة، لا نقمة على الشعب الجزائري، فإننا لا نعرف خطرا أدهى وأمر من التقسيم. وفضلا عن ذلك، فإن الأمم المتحدة، منذ إنشائها، وهي مهتمة بالمعاونة الاقتصادية والفنية تقدمها للدول النامية، وأنها تكون، بلا شك، هزيمة منكرة للأمم المتحدة، إذا كان على أي بلد أن يحرم من سيادته على رقعة من أرضه بسبب الثروة الطبيعية الكامنة فيها. إن الجزائر، وهذا أقل واجبات الأمم المتحدة، يجب أن تساعد حتى تساعد ذاتها في استثمار ثرواتها الطبيعية. إن سيادة الجزائر على الصحراء هي أولى المقومات الرئيسية للتنمية الاقتصادية في الجزائر، والجزائر لم ترفض أي اقتراح معقول لاستثمار الصحراء في إطار الدولة الجزائرية المستقلة، ولكن اقتطاع الصحراء يؤدي إلى تهشيم الوطن الجزائري، وإلى إفقار الشعب الجزائري. غير أن الوفد الفرنسي لجأ آخر الأمر إلى محاولة أخيرة، فقد اقترح في محادثات (لوغران) أن تجمد قضية الصحراء وأن توضع في (الثلاجة). إلا أن الوفد الجزائري رفض هذا الاقتراح بكل تصميم، ذلك أن كل شيء يمكن أن يجمد ويوقع في الثلاجة إلا الصحراء. إن الصحراء بطبيعتها تأبى أن تحتويها أية ثلاجة!! وبعد هذا راح رئيس الوفد الفرنسي يهزأ

بالوفد الجزائري والموقف الجزائري، فقال: (أعلن الوفد الجزائري أنه مستعد أن يبحث كل شيء، وأن يذلل كل الصعوبات، وأن يقترح صيغا متعددة وصولا إلى الاتفاق، ولكن الوفد الجزائري، وفي أول جلسة من جلسات المؤتمر وقف جامدا أمام كلمة - الصحراء - ورفض أن يسير خطوة واحدة قبل أن نعترف له بالسيادة على الصحراء). وحاول الوفد الفرنسي، ليبرر موقفه من قضية الصحراء، تجاهل ما أعلنه الوفد الجزائري: (وهو الاعتراف بالسيادة الجزائرية على الصحراء) واقترح: (أن يكون مصير الصحراء مرهونا بما تقرره مجموعات السكان في الصحراء، وأن يقوم ترابط بين الصحراء وفرنسا والجزائر لإنهاء المشكلة)، وقد جاء الرئيس (ديغول) ليؤكد هذا الاتجاه ذاته، وذلك في مؤتمره الصحفي الذي عقده في (5 ايلول - سبتمبر - 1961) في قصر (الإليزيه) حيث أعلن: (إن مجموعات السكان الذين يقطنون في الصحراء، يجب أن يؤخذ رأيهم بشأن مصيرهم وفق شروط تتلاءم مع تفرقهم في الصحراء وتعدد تجمعاتهم). ... أكد سكان الصحراء، تلاحمهم مع شعبهم الجزائري، وحملوا السلاح مع المجاهدين لمقاومة الاستعمار الفرنسي، وكان ذلك الاستفتاء الحقيقي (لتقرير مصير وحدة التراب الجزائري) وإحباط المخططات الاستعمارية. واتحدت الجزائر المجاهدة، بصحرائها وشواطئها، بسهولها وجبالها، بمدنها وقراها، وحققت أهدافها في الاستقلال. غير أن الجهود الفرنسية استطاعت تحقيق بعض ما تريد عبر (إعلان مبادىء

حواجز مرعبة - إلا للمؤمنين المجاهدين

ب - قضية الأقلية الأوروبية

التعاون من اجل استمثار ثروات باطن الأرض بالصحراء) (¬1)، وإن مطالعة المحاولات التي سبق عرضها تلقي بعض الظلال على الوضع الذي أمكن تفجيره في قضية (الصحراء) التي باتت تشغل المغرب بقدر ما تشغل الجزائر وبقدر ما شغلت (موريتانيا) من قبل، وهو الوضع الذي يستنزف قدرات المغرب العربي - الإسلامي، ويصرفه إلى صراعات دموية مريرة، لا مصلحة له فيها، لا على المدى القريب، ولا على المدى البعيد، فهل من رشيد؟ ... ب - قضية الأقلية الأوروبية. لقد سبق طرح (قضية الأقلية الأوروبية) في تكونها وحجمها ودورها الاستعماري عبر البحث في الدراسات السابقة، وفقا لما كانت تتطلبه طبيعة البحث ذاته، وما يهم البحث هنا هو التعرض لهذه القضية من خلال الصراع السياسي (الجزائري - الفرنسي). فقد أثار الوفد الفرنسي المفاوض - فيما أثاره - أثناء مباحثات (إيفيان) قضية الأقلية الأوروبية، وكان لدى الوفد الجزائري المفاوض كل الحجج الشرعية والقانونية وحتى الإنسانية لمعالجة هذه (القضية) معالجة رائعة. وقد تضمن بيان الوفد الجزائري الذي قدمه يوم (10 حزيران - يونيو - 1961) ما يلي: (إن الجزائر لا تمنع الجنسية الجزائرية عن الأهلية الأوروبية، ولكنها لا تفرضها عليها. إن الحكومة الجزائرية تعرض الجنسية الجزائرية على الأهلية الاوروبية، من شاء منهم أن يرغب فيها، وإن هذا الحل ينطوي على أقصى قدر من الواقعية والإنسانية والديموقراطية، وإن نتائج هذا الحل واضحة كل الوضوح، سيكون ¬

_ (¬1) انظر (قراءات) في آخر هذا الكتاب النص الكامل لترجمة (الإعلان) المشار إليه.

لجميع الجزائريين من غير تمييز، نفس الحقوق، ونفس الواجبات، وسيشاركون في الحياة السياسية العامة للشعب). أما فيما يتعلق بالضمانات المحددة الخاصة بالمستوطنين الأوروبيين، فقد أعلن الوفد الجزائري ما يلي: (نحن حريصون أن نوضح تماما حقوق الجزائريين الذين هم من أصل أوروبي. نحن على استعداد أن نبحث جميع الضمانات التي تكفل لهم الحقوق الإنسانية والمدنية، سواء بالنسبة للأحوال الشخصية، والتعليم، والحرية الدينية، أو في سائر المجالات التي تضمن لهم ممارسة جميع نشاطاتهم من غير إكراه ولا إجبار ... إن الأوروبيين الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين فذلك حقهم، وبهذا فإنهم يختارون أن يكونوا أجانب، وبهذه الصفة، فإنهم يستطيعون أن يتمتعوا بالضمانات المقررة، أما الفرنسيون الذين يريدون أن يحتفظوا بجنسيتهم فنحن مستعدون أن نبحث موضوعهم بصورة واقعية، مهما كان عددهم، ومهما كانت أوضاعهم، وبإمكاننا أن نحدد الضمانات التي تكفل لهم بصورة مشروعة الاستمرار في الإقامة في الجزائر، في إطار السيادة الكاملة للدولة الجزائرية). أثناء ذلك، كانت البعثة الجزائرية الدائمة لدى الأمم المتحدة، تعمل باستمرار على شرح موقف الدولة الجزائرية المقبلة من قضية (المستوطنين الفرنسيين)، وأكدت باستمرار: (أنها - لجميع الجزائريين جميع الحقوق، من غير النظر إلى أصولهم، غير أن الجزائر ترفض رفضا قاطعا أية فكرة من شأنها أن تمنح أية جماعة عنصرية امتيازات خاصة، وتعتبر هذا العمل منافيا للديموقراطية. إن تصنيف الجزائريين على أسس عنصرية إنما هو تهديد للاستقلال الذي جاهد الشعب الجزائري من أجله زمنا طويلا، غير أن الحكومة

الجزائرية لا يغيب عن بالها الخصائص الذاتية للأقلية الأوروبية في النواحي الثقافية واللغوية والدينية، لقد أعلنت الحكومة الجزائرية. المرة بعد المرة، أنها على استعداد لأن تمنح الجنسية الجزائرية لجميع الأوروبيين الذين يرغبون أن يصبحوا جزائريين، ومن ناحية أخرى، فإن الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين، وأن يستمروا في العيش في الجزائر، فلهم الحرية الكاملة في ذلك، وستتوافر لهم الضمانات اللازمة التي ستتفق مع السيادة الجزائرية ومع القوانين المعمول بها، ونحن نتطلع إلى حل يستند إلى مفهوم الديموقراطية الصحيح. نحن نعترف بالخصائص الذاتية للأقلية الأوروبية، نحن مستعدون أن نمنح الجنسية الجزائرية الكاملة والمساواة الشاملة للأقلية الأوروبية وفيها عدوا من أشد أعدائنا)، فماذا تطلب فرنسا أكثر من ذلك، من الحكومة الجزائرية؟؟ إن هذه الضمانات هي ضمانات مميزة، تكاد أن تصبح نظاما مفضلا، لم تمنحه أي من الخمسين دولة التي حازت على استقلالها، منذ أن نشأت الأمم المتحدة. لقد ذهب الرئيس (ديغول) بعيدا جدا في تمسكه بذريعة (الأقليات الأوروبية) حين قال: (يوجد في الجزائر ما يزيد على المليون من السكان من أصل أوروبي، ومن المحال ترك هؤلاء تحت رحمة الغير). وهذه حجة فرنسية باطلة ليس لها ظل من الحقيقة والواقع، فالحكومة الجزائرية لم يخطر في تفكيرها لدقيقة واحدة أن تضع الجالية الأوروبية تحت رحمة أحد، وقد أعلنت باستمرار عن استعدادها لمنحهم حق الجنسية، إذا أرادوا أن يكونوا مواطنين جزائريين، وأن تمنحهم حق السكنى في الجزائر، إذا كانوا يريدون أن يصبحوا من سكانها، ومن غير جنسية جزائرية، فماذا يطلب من الجزائر أكثر من ذلك حتى لا

تكون الجالية (الأوروبية) تحت رحمة (الغير)؟؟ .. الأمر المعروف للعالم كله أن الشعب الجزائري قد رزح تحت رحمة الجالية الأوروبية طوال مائة وثلاثين عاما، ولعله من نافلة القول أن تتحقق المساواة في الجزائر بعد هذه الحقبة الطويلة من القهر القومي والاضطهاد الديني بين الأوروبيين وغير الأوروبيين، وإذا كان الرئيس ديغول لا يريد أن يصبح المليون من الأوروبيين تحت رحمة الغير، فكيف يريد للعشرة ملايين جزائري أن يبقوا تحت رحمة الأقلية الأوروبية؟؟ .. لقد عرضت الحكومة الجزائرية حق المساواة التامة بين الجميع، ومن غير تمييز، متجاوزة بذلك كل مخلفات الماضي التعيس، وذكرياته الجارحة المريرة، في حين كان الجنرال ديغول ينادي بالاستعلاء والتمييز العنصري، فأكد بذلك حقيقة الديموقراطية الفرنسية، وأسقط عنها وجهها الزائف. لقد عملت الثورة الجزائرية وقياداتها السياسية والعسكرية، على دحض خرافة (الأقليات الأوروبية) وأسقطت ذرائعيتها، وبرهنت على أن كثيرا من الأوروبيين الموجودين في الجزائر، يريدون العيش بسلام في الجزائر، وقد كان تسامحا كبيرا من الجزائر أن تحاول نسيان الماضي وتجاوزه، وأن تقفز من فوق أنهار الدماء التي أهرقها هؤلاء الأوروبيون في الجزائر حتى يتمكنوا من استرقاق شعبها واحتكار ثرواته ونهب خيراته، ويكفي الجزائر كبرياء وتيها أنها كانت في كل ما تفعله تتطلع إلى الأمام لا إلى الوارء، متناسية آلام الماضي ومعاناته، محاولة إسدال ستار العفو والغفران، معلنة تصميمها على بناء الدولة الديموقراطية التي تستطيع الأقلية الأوروبية فيها أن تعيش بطمأنينة وسلام. إن (الحركة الأوروبية) التي يعلن عنها كثيرا - زورا وبهتانا - ليست حركة أوروبية في حقيقتها، إنها من صنع القادة

(الجنرالات) المتقاعدين الباحثين عن السلطة، المتطلعين إلى الحكم، إنها أحلام القادة الكبار (المارشالات) يتآمرون ليمنعوا انقلابا يأتي بالجمهورية السادسة، ويحملون على رأسهم قائدا مغامرا ليصبح رئيسا للجمهورية الفرنسية. ولقد كان موقف الجزائر من أمثال هؤلاء هو التالي: (ليس في الجزائر حركة أوروبية - لا تحت الأرض ولا فوق الأرض - وإن الأوروبيين، حتى المتطرفين منهم، سيتصرفون تصرفا لائقا، وسيسلكون سلوكا سويا، عندما تقوم قوات الجيش الافرنسي الاستعماري بالجلاء عن أرض الوطن الجزائري. إن بعضهم يمثل في ظل حماية الاستعمار له، دور الطفل الذي أفسده الدلال وسوء التربية، ولهذا فإنهم يتصرفون تصرف العابث بالقانون والنظام، وحينما تغادر القوات المسلحة الفرنسية الثرى الجزائري سيخلدون إلى السكينة، وينصاعون لحكم القانون، أو إنهم سيحملون على الانصياع لحكم القانون العادل. انتظروا وانظروا ...). على كل حال، لقد انكشف الموقف الفرنسي انكشافا فاضحا على يد الفرنسيين ذاتهم، فلقد ألقى رئيس الوفد الفرنسي للمفاوضات خطابا (بالراديو والتلفزيون الفرنسي) في شهر آب - أغسطس - 1961، هتك فيه أسرارا غير كريمة عن مؤتمري (ايفيان) و (لوغران)، ولقد أباح رئيس وفد المفاوضات والوزير الفرنسي لشؤون الجزائر - المسيو جوكس , لنفسه، أن يتحدث عن الأقلية الإفرنسية واصفا إياهم بكلمة (مواطنونا) ويوضح ذلك بجلاء تام، ومن غير خفاء أو تستر، الروح التي تعالج بها فرنسا موضوع (الأقلية الأوروبية). وقد أمكن الرد على هذا الموقف بالمقولة التالية: (إذا كان هؤلاء هم - مواطنوكم -

فلماذا لا ترحلوا بهم إلى فرنسا، حيث بإمكانكم أن تسبغوا عليهم كل الامتيازات التي تريدونها، أما إذا كنتم تريدوذهم أن يعيشوا في الجزائر فلا يمكن أن يظلوا مواطنيكم، يجب أن يصبحوا جزائريين، ولا حرج في القول أيضا بأنه يجب عليهم أن يصبحوا أفريقيين. إن الرجل الأبيض في أفريقيا يجب أن يصبح أفريقيا، ليس ذلك فحسب، بل يجب على الرجل الأبيض في أفريقيا أن يسود وجهه ويبيض ضميره ... إنه لا يستطيع أن يظل أفريقيا وأوروبيا في وقت واحد، إن عليه أن يختار بين الاثنين. وفي كل الأحوال، فإن الأوروبيين في أفريقيا يلقون من المعاملة ما هو أفضل بكثير من تلك المعاملة التي يلقاها الأفريقيون في أوروبا، وهذا وحده يكفى أن يكون مفخرة للشرق وعارا على الغرب). لقد زعمت فرنسا أن من حقها (حماية الأقلية الأوروبية) و (الدفاع عنها) وكان رد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، حاسما، ومعتمدا على القوانين الدولية، قدر اعتماده على المفهوم الصحيح للديموقراطية. وقد تضمن بيان (الحكومة الجزائرية) تجاه هذا الموقف ما يلي: (.. نحن متشددون فيما يختص بالسيادة الجزائرية في الميدانين الداخلي والخارجي، وإذا توصلنا إلى فترة انتقال فنحن لا نتصور جلاء جميع القوات الفرنسية في فترة الانتقال. إن فرنسا، وهي لا تبعد بأكثر من ساعة واحدة عن الجزائر - بالطائرة - لا يمكن أن تجد نفسها وقد عدمت وسائل الدفاع عن مصالحها أو عن الأقلية الفرنسية في الجزائر. ويصبح من واجب الفرنسيين خلال فترة الانتقال أن يكيفوا أنفسهم مع ظروف المستقبل الجديد. يجب أن يقوم تعاون بالنسبة للصحراء، وفي شمال الجزائر، يجب أن يكون

هناك تعاون في حقول الثقافة والمواصلات، ولا مناص من أن يكون هذا التعاون مع فرنسا (¬1)، وسيرى العالم كله، أننا سننظم قوة شرطة - بوليس - لحماية منشآت البترول والغاز، الذي سيصدر أكثره إلى فرنسا وأوروبا الغربية، لأننا نحن في أفريقيا لم نبلغ بعد المرحلة الكافية لاستهلاك كميات كبيرة من البترول والغاز. أما موضوع الأقلية الفرنسية فيجب أن نجد له حلا سليما، وكل ما نطلبه أن لا يظل الفرنسيون يعتبرون أنفسهم مواطنين مميزين، نحن مصممون على أن نمنحهم جميع الحقوق التي تكفل لهم حياة كاملة في الجزائر، حتى لو لم تتوافر لديهم الرغبة ليكونوا جزائريين). ... لقد بذلت (الحكومة الجزائرية) ووفدها المفاوض، كل الجهود الممكنة للوصول بالمباحثات حتى نهايتها، وكان موقف الاعتدال الجزائري، مثيرا للذهول، غير أن جهة واحدة لم يطالها هذا الذهول وهي فرنسا الاستعمار، لقد كانت تعتقد أنها تمتلك كل شيء، ولم تتمكن الحجج الدامغة، والمواقف المعتدلة أن تزحزحها عن اعتقادها (الخاطىء)، فكان لا بد من الاستمرار في الصراع المسلح حتى نهايته، غير أن الثورة الجزائرية وهي تمضي قدما على دروب النصر العسكري لم تتراجع عن اعتدالها، فأصدرت الحكومة الجزائرية بيانا قالت فيه: (نحن ندرك جيدا أن فرنسا لا تستطيع أن ترحل ثمانمائة ألف إنسان في ليلة واحدة) فأي موقف أكثر اعتدالا من هذا الموقف المعتدل. ¬

_ (¬1) انظر (قراءات) في نهاية هذا الكتاب حيث خصص مجال لعرض (الإعلانات) التي ألحقت باتفاقيات (ايفيان) في مواضيع التعاون الاقتصادي والمالي، والتعاون الثقافي، والتعاون الفني، والتعاون العسكري

ج - قضية (تقسيم الجزائر)

ج - قضية (تقسيم الجزائر) بينما كان الوفد المفاوض الجزائري، يمضي قدما في طرح مواقف (الجزائر وحكومتها) بصراحة ووضوح، كانت فرنسا تمضي بدورها قدما في (اختراع المخططات الاستعمارية المتطورة) وكان موضوع (تقسيم الجزائر) في جملة (البدع) التي تفتقت عنها العبقرية الاستعمارية، مستفيدة في ذلك من تجربة تقسيم فلسطين، ومتجاهلة كل حقائق الموقف الجزائري، ولقد كان أول رد فعل للوفد الجزائري على قضية (تقسيم الجزائر) ممثلا بالمقولة التالية: (إن الوفد الجزائري لم يعالج هذا والموضوع من الزاوية المعروفة، لقد جعله الوفد الفرنسي موضوعا إقليميا تريد فرنسا من ورائه أن تحتفظ عليه بسيادة كاملة، وبهذا فإنها تنتقص من وحدتنا الإقليمية، وسيادتنا الوطنية). وفي موضوع اقتراح الوفد الفرنسي بإقامة مناطق عسكرية تبقى خاضعة لفرنسا، ذكرت البعثة الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة، في تقرير لها، ما يلي: (لقد طلبت فرنسا إقامة مناطق عسكرية تابعة لها في الجزائر، لا مجرد قواعد عسكرية فحسب بل مناطق كاملة تمارس فرنسا عليها السيادة الكاملة، ويتنافى هذا الطلب مع الوحدة الإقليمية للوطن الجزائري ومع مبدأ تقرير المصير، لأن هذا المبدأ يجب أن ينطبق على جميع الجزائر وجميع الجزائريين). جدير بالذكر أن حملة (تقسيم الجزائر) كانت حملة شاملة، بقيادة الرئيس الفرنسي - ديغول - ذاته؛ ففي حفلة كبرى أقامها في حدائق (قصر الإليزيه) تفجر الرئيس ديغول غضبا على الحكومة الجزائرية لأنها رفضت خطة (الجمعية الجزائرية الفرنسية)، وقد بدا في ملاحظاته تهديد صريح بتطبيق فكرة التقسيم في الجزائر،

وتحدث (ديغول) عن (إعادة التجميع)، وهو تعبير ابتدعه وقصد به تجميع الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين في منطقة محددة من الجزائر، إذا اختار الجزائريون طريق الاستقلال. وتنفيذا لهذه الفكرة عكفت وزارة الخارجية الفرنسية على إعداد ملف ضخم خاص لتقسيم الجزائر، وتضمن هذا الملف خطة مفصلة: (يترك بموجبها للجزائريين الصحراء القاحلة والمناطق الجبلية، أما الفرنسيون فقد تركت لهم هذه الخطة منطقة - وهران - أرزو - مستغانم - التي تحتوي (44) في المائة من كروم الجزائر و (27) في المائة من الموالح و (50) في المائة من الإسمنت مع السيطرة على غاز (حاسي الرمل) وتعطيهم كذلك (سهل متيجة - متوجة) وشاطىء الجزائر، بما يحتوي من (20) بالمائة من الكروم و (20) بالمائة من التبغ، و (42) في المائة من الموالح، و (50) في المائة من الانتاج الصناعي، وتعطيهم كذلك منطقة (بوجي) التي تسيطر على نقل مصنوعات الحديد في (حاسي بون) وتحتوي على (60) في المائة من إنتاج القطن، و (50) في المائة من التبغ و (12) في المائة من الموالح و (19) في المائة من انتاج الكهرباء. وبموجب هذه الخطة فإن فرنسا تسيطر على ثلاثة أرباع الشاطىء الجزائري، الذي يضم أجود الأراضي للانتاج الزراعي، وكان هذا الإنتاج خلال تلك الفترة، يقدر بما قيمته اثنين بليون فرنك - جديد - من أصل اثنين ونصف بليون فرنك تمثل مجموع الإنتاج في البلاد. وقد استمرت فرنسا بتهديد الحكومة الجزائرية لهذه الخطة، ولا سيما بعد (مؤتمر إيفيان)، غير أن الجزائر، حكومة وشعبا، لم تضعف أو تصاب بالوهن في مواجهة هذه الخطط الاستعمارية، وبرهنت الجزائر فى مجال الصراع السياسي أيضا أنها أصلب عودا وأشد مراسا مما كانت

تظنه فرنسا، وأن كافة التهديدات والمناورات غير قادرة على تليين إرادتها أو حرفها عن هدفها، لقد قاتل الشعب الجزائري دفاعا عن حياضه طوال مائة وثلاثين عاما، كما خاض الحربين العالميتين الأولى والثانية دفاعا عن فرنسا ذاتها، في الوقت الذي كان فيه قادة فرنسا (مارشالاتها وجنرالاتها) يوقعون صكوك الاستسلام، ويمهرون اتفاقات الذل والعار بتواقيعهم. لم يقتنع الجنرال (ديغول) بمنطق الأحرار، فعاد من جديد إلى التهديد (بالتقسيم) في مناورة غير بارعة حيث قال: (إنه إذا لم يتم الاتحاد بين فرنسا والجزائر، فسيكون من الضروري في النهاية أن تجمع فرنسا في منطقة واحدة، جميع السكان الذين يرفضون أن يكونوا في دولة مصيرها الفوضى ...) وكشف (ديغول) بذلك الخطة الجديدة لإثارة التخريب والفوضى في الجزائر، إذا ما هي صممت على متابعة طريقها الاستقلالي. وكان رد الثورة الجزائرية ممثلا بالمقولة التالية (سيكون مصير الجزائر المستقلة هو التقدم والازدهار، لا الفوضى والخراب، بل إن هذا التفكير الفرنسي هو الذي سينتهي إلى الفوضى والخراب. إن على السكان الذين يرفضون أن يعيشوا في الجزائر المستقلة أن يخرجوا من الجزائر، عليهم أن يرحلوا عن الجزائر حالا، إننا لا نعرف بلدا يخضع مصيره إلى رغبات جزء من السكان يرفضون أن يتبعوا وطنهم، تماما كما ترفض فرنسا أن تربط الوطن برغبات مجنونة - هستيرية، تنادي بها أية جماعة في فرنسا، ترفض أن تتبع فرنسا). لقد حاولت فرنسا - بمختلف الوسائل، وبشتى الأساليب - الوصول إلى أهدافها، لإطالة عمر الاستعمار والعمل على تطويره، وكان في جملة وسائلها محاولة الالتفاف من حول هذه القيادة العنيدة

الممثلة للشعب الجزائري وثورته العملاقة. ويذكر في هذا المجال ما قاله أحد وزراء فرنسا، وهو في حالة من الغضب والهياج من أن (المفاوضات معناها الحرب) كما اعتبرت فرنسا أن مطالبة الجزائريين بالاستقلال هو (ضرب من الجنون) ووصفت زعماء الجزائريين: (بأنهم مصابون بالجنون، ويكفي للدلالة على جنونهم أنهم يطالبون باستقلال الجزائر). وعلى هذا لم يكن من الغريب بعد إحباط فرنسا (لمؤتمر إيفيان)، أن يتوجه رئيس وفد المفاوضات الفرنسي، ووزير الشؤون الجزائرية، المسيو جوكس، إلى الجزائر في محاولة جديدة لإنشاء (سلطة تنفيذية) من زعماء الجزائر المسلمين، وهي السلطة التي طالما حاولت فرنسا إنشاءها مرات عديدة وفشلت في مسعاها .. ولقد اتصل - جوكس ومعاونوه -بجميع الزعماء الجزائريين في جميع المدن والمقاطعات الحزائرية، ولقد جرت أحاديث تفصيلية بين الجانبين الفرنسي - الجزائري، ولكن جواب الجزائريين كان حاسما، فقد رفض الزعماء الجزائريون أن يتعاونوا مع السلطة الفرنسية، من غير موافقة الحكومة الجزائرية لقد واجه - المسيو جوكس - كلمة (لا) حتى من أولئك الذين يعرفون بأنهم جماعة (نعم - أو بني وي - وي) في الجزائر، وجماعة (نعم) يمكن لها أن توجد في كل شعب، وعلى هامش كل حركة تحريرية في العالم. وهكذا فقد فشل - المسيو جوكس - وعاد إلى فرنسا ليرفع تقريرا عن فشله الذريع، وثبت مرة أخرى، أكثر من أي وقت مضى، أنه من المحال على فرنسا أن تصل إلى أية نتيجة من غير موافقة الحكومة الجزائرية. لقد كان ذلك استفتاء لقوة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، واختبارا جديدا لنفوذ جبهة التحرير الوطني، وبرهانا

ساطعا على تلاحم جماهير الشعب الجزائري مع مجاهدي جيش التحرير. وفي الحقيقة، وكما سبق ذكره، فقد بات العالم كله على معرفة أكيدة بهذه الحقائق، ولكن جبهة التحرير (والحكومة المؤقتة) لم تكن تقف جامدة في مجال التحرك السياسي وهي تشهد الهجوم الاستعماري الشامل، وكانت الإضرابات الشاملة، في تلك الظروف، هي أداة التعبير عن (الاستفتاء العملي) وهي وسيلة البرهان على قوة (البيعة الشعبية) التي برهنت على ما تتمتع به (جبهة التحرير وحكومتها) من الدعم والتأييد، وقد يكون من المناسب هنا التوقف قليلا عند بعض ظواهر هذه البيعة الشعبية.

الاستفتاء العملي والبيعة الشعبية

3 - الاستفتاء العملي والبيعة الشعبية عندما كانت فرنسا تتنكر للصفة التمثيلية التي تتمتع بها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لشعب الجزائر المجاهد، كانت هذه الحكومة قد أصبحت راسخة الجذور، ثابتة الأركان، وليس أدل على ذلك من أنها كانت قد اكتسبت الاعتراف الرسمي لأكثر من ثلاثين دولة، تمثل نحو ثلثي سكان العالم. وعلى هذا فقد كان من الطبيعي أن ترد (الحكومة الجزائرية) على تهديدات الجنرال ديغول - بالتقسيم - بإعلان الإضراب في الجزائر كلها، في مدنها وقراها، في جبالها وسهولها، الى آخر أكواخها وخيامها. لقد أعلنت الحكومة الجزائرية اليوم الخامس من شهر تموز - يويو - 1961 ليكون (اليوم الوطني ضد التقسيم). ولقد أصبح ذلك اليوم تاريخيا في حياة الجزائر، وكانت النتيجة فوق ما يتوقع أكثر الناس تفاؤلا؛ فلقد أضربت الجزائر لمدة (24) ساعة، وأخفقت كل وسائل الإرهاب لإحباط الإضراب. وفي الجزائر - العاصمة - وحدها، حشدت السلطة الاستعمارية أكثر من (35) ألفا من رجال الجيش والشرطة ليقمعوا المظاهرات العامة، ولم تكن هذه مظاهرات عادية، في

ذلك اليوم، كان الشعب الجزائري كله في الشوارع، وفي الساحات وفي الميادين العامة، احتجاجا على مشاريع (التقسيم)،واهتزت الجزائر كلها وهي تردد مع آلاف الحناجر المنطلقة من الأعماق وهي تصرخ بصوت واحد (لا تقسيم في الجزائر). وسقط مئات القتلى والجرحى، وتناقلت وكالات الأنباء تعليقا واحدا: (من ذا الذي يشك في قوة الحكومة الجزائرية، بعد هذا الاستفتاء الشعبي الذي سالت فيه الدماء الغزيرة، على أرض شوارع الجزائر). وكتبت صحيفة إيطالية - معروفة بمناصرتها للسياسة الفرنسية - ما يلي: (لقد أثبت اليوم الخامس من تموز - يوليو - القدرة الفائقة للحكومة الجزائرية التي استطاعت في الوقت المناسب أن تعبىء شعور المسلمين جميعا في الجزائر، والواقع أن المسلمين في الجزائر يعتبرون أن الحكومة الجزائرية هي حكومتهم الشرعية ... وأن اليوم الخامس من تموز - يوليو - كان انتصارا مجيدا للثورة، من الناحيتين السياسية والمعنوية). وكان مدير دائرة الأنباء في الإدارة الفرنسية في الجزائر - السيد كودي فرجيك - قد توقع نجاح الإضراب، من قبل أن يبدأ هذا الإضراب بقوله: (إن مائة في المائة من المسلمين في الجزائر سيلبون نداء الإضراب، وقد جاء الإضراب ليشل شللا كاملا النشاط الاقتصادي في جميع البلاد) (¬1). ... لقد أعلنت (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) الإضراب احتجاجا على (مشاريع التقسيم) في يوم (5 تموز - يوليو - ¬

_ (¬1) قصة الثورة الجزائرية - أحمد الشقيري - دار العودة - بيروت - ص 147.

فرنسا تفتح مخازن التجار المضربين بالقوة

1961) وهو اليوم المصادف لذكرى احتلال الجزائر (في سنة 1830)، فكانت مناسبة تضم مناسبتين معا. وقد تردد صدى دعوة الحكومة الجزائرية على كافة الصعد والمستويات، وقد يكون من المناسب هنا استقراء نص (النداء التالي) الذي كتب بلغة بسيطة، غير أنه يظهر المضمون الحقيقي للاستجابة المناسبة (¬1): الجمهورية الجزائرية ولاية (1) منطقة (2) ناحية (4) قسمة (2) إلى لجنة رقم (2) تحية عسكرية وبعد: دون شك، إنكم على يقين بأن حكومتنا نادت على شعبها الجزائري الثائر بأن يعمل الإضراب يوم 5/ 7/ 1961م، وعليه، بكل عزم يجب عليكم إبلاغ هذا الأمر الأكيد إلى كل طبقات الشعب لتعمل الإضراب، برجالها ونسائها، وشيوخها وأطفالها، وتغلق كل الحوانيت والمقاهي والطحونات، وتحبس تحركات كل السيارات والأعمال مهما كان نوعها. واعلموا بأن هذا الإضراب سيعم كل أرض الجزائر المجاهدة، وأنه ضد لرغبة الاستعمار في (تقسيم الجزائر)، وأنه هو الذي سيبين للاستعمار مرة أخرى تضامن الشعب الجزائري مع بعضه بعضا، ورغبته في السيادة الكاملة على كل أرض الجزائر. أيها الأخوان! إننا لفي انتظار برهانكم لتقدموا عنكم تقريرا إلى القيادة العليا لوطنكم الحر المستقل، فكونوا عند حسن ظننا بكم وبالشعب العائش الآن تحت مسؤوليتكم الثورية، واعلموا بأن ¬

_ (¬1) وثائق الثورة.

العالم أجمع في ترقب إضرابكم وانتظاره، كما أن الشعوب الشقيقة والصديقة هي الأخرى ستقوم معكم بهذا الإضراب لتعلموا أنكم لستم وحدكم في معركة تحرير الجزائر العظيمة المجيدة. في 3/ 7 / 1961 الإمضاء - عن - مجلس القسمة (2) المساعد عبد القادر ... كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية قد أجرت استفتاء مماثلا، قبل ستة أشهر، تمثل باضرابات كانون الأول - ديسمبر - 1960، وكانت بيعة الشعب الجزائري لحكومته مماثلة، وهو ما تبرزه المقولات التالية: (في رأي معظم زملائنا، إن هذا الأحد الدامي كان ساعة الحقيقة، ونهاية للأكاذيب والأوهام) (¬1)، (حولي رجال يهتفون (عاشت الجزائر مستقلة) و (حرروا ابن بللا) و (هذا صوت الشعب المتعطش للحرية). وعلى البعد، تجلجل أصوات أخرى، إنهم ينشدون نشيد (الجزائر الحرة) وفي شارع (بروتمر) مركبة علقت عليها ست لوحات كتب عليها (الجزائر مسلمة)، ويدنو مني فتى موظف في إحدى الإدارات كما قال، ويؤذن له بالكلام: نحن نريد أن يشرع ديغول في مفاوضة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، لا استفتاء إلا هذا، الانتخابات في هذا البلد لم تكن قط حرة، لسنا أعداء - ديغول - ولا فرنسا، بل نحن أعداء الاستعمار، وقد لقينا منه ما كفانا، إننا نقولها اليوم، ونقدم عليها الدليل، وإننا لن نتوقف ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 13/ 12 / 1960.

جزائريون في فرنسا تحت حراسة الشرطة

أبدا. وتظهر الحقيقة، وهي أن سنوات التهدئة لم تحل شيئا، لا في العاصمة (حيث كانوا يتباهون بالنجاح) ولا في سواها. الحقيقة هي أن الرغبة التي تضطرب بها أعماق المسلمين، لا تلبيها (الجزائر الجزائرية) كما يفهمها ديغول، بل (الجزائر المستقلة) لأنهم حتى وهم يهتفون: (الجزائر جزائرية) فإنما هم (بالجزائر المستقلة) يفكرون). وكتبت (صحيفة أمريكية) (¬1) ما يلي: (إن الرأي القائل بأنه ليس ثمة إلا عصابة من المتمردين والمتعصبين تنادي بفكرة استقلال الجزائر، وأن كثرة المسلمين لا تحفل بهذا، إن لم تكن ترى خلافه، هذا الرأي بات من الصعب الدفاع عنه على ضوء النزاع الدامي في شوارع الجزائر). وكتبت (صحيفة فرنسية) (¬2) أيضا: (الإضراب شامل حي (القصة) بأسره، وها هو ذا جمهور هائل، جمهور عربي نموذجي يحدق بي، بحر بشري، بحر من البرانس والجلابيات. أرفع طرفي وأرى ثمة علما خفاتا في الساحة، إنه علم جبهة التحرير الوطني، إنه لشيء مذهل، إنه لا يصدق، ولكنني أؤكد أنه حقيقي، ليست هنا، أو لم تعلن هنا الجزائر، هنا عالم جديد، عالم قائم بذاته. أمس مساء، أقيم احتفال لجبهة التحرير الوطني في (ساحة راندون)، مدينة في المدينة). هذا فيما كتبت صحيفة (سويسرية) (¬3): (تدخل المسلمين ¬

_ (¬1) صحيفة (نيويورك هيرالد تريبيون) 13/ 12 / 1960. (¬2) صحيفة (باريس جور) 13/ 12 / 1960. (¬3) غازيت (دو لوزان) 12 كانون الأول - ديسمبر - 1960.

المأساوي يقلب الموقف في الجزائر، الرجعيون ينتحرون سياسيا، المسلمون سيصوتون لجبهة التحرير الوطني، وتحت هذه العناوين المثيرة ورد ما يلي: في باريس كما في الجزائر، ينسبون إلى قلة من المحرضين الاضطرابات الإسلامية في العاصمة ووهران، ولكنهم يوجسون قلقا من النتائج التي قد تترتب على الدماء المهراقة إبانها، إن الشعب المسلم قد خرج على لامبالاته الظاهرية، بل إنه عبر بصورة لم يسبق لها مثيل عن طموحه العميق إلى السلام، والولاء الذي يكنه لحركة التمرد. لقد بات لزاما علينا أن نصرف النظر عن الدعاوة الرسمية التي باتت ترهق حتى الذين يفرزونها (بهمة) بقدر ما ترهق الذين توجه إليهم، وبات كثير من الفرنسيين يعتقدون بعدم جدوى الأعمال الحربية، كما يعرفون كذب تلك الدعاوة القائلة بأن (المسلمين لا يؤيدون جبهة التحرير الوطني)، والذي يبدو أن هذا الاستنتاج الأخير هو ما يذهل الناس هنا، لقد قصوا عليهم خلال شهور وأعوام: (بأنه يجب عزل مجموعات المسلمين عن الانحرافات والجرائم التي تقوم بارتكابها عصابات من المتمردين لا يمثلون شيئا) ولكن الصور والشهادات التي التقطها بشجاعة مراسلو الإذاعات، وتم إرسالها قبل فرض الرقابة، وكذلك تعليقات رجال الصحافة مجمعة على أنه يوم يستشار المسلمون بحرية، فإنهم جميعا سيصوتون للاستقلال، ولا يقتضي إدراك هذا أن يكون المرء فقيها كبيرا، ولكن، وكما أسلفنا، فإن دعاوة جاهلة بالحقيقة عن سوء نية، أو ميل مرضي للأوهام، قد كونت على هواها ذهنية الفرنسيين الذين يكتشفون اليوم، بذهول، ما له اسم: الحقيقة الوطنية

وعادت (صحيفة فرنسية) (¬1) للقول على لسان مراسلها: (يقودني جزائري نحو زاوية محصنة، ويريني علما أخضرا مخضبا ببقع حمراء كبيرة ويقول لي: انظر إلى هذا العلم، هذا دم إخواننا. ولقد جرى هذا اللقاء الصحفي في عرض الشارع، تحت أنظار رجال القوى الخاصة الذين تجاوزهم وطغى عليهم الحادث الرهيب. فتى مسلم ... يقترب منا، إذ نوجس خيفة أن تطغى بين دقيقة وأخرى الآلاف المحتشدة على قوى المحافظة على النظام، ويقول لأحد رجال الشرطة: لو أعرتني مكبر الصوت، هذا، فإني سأحاول تهدئتهم. وعندها يعطي الشرطي مكبر الصوت السيار الخاص بمصلحة الأمن إلى الفتى المسلم الذي يمسك بالمكبر، ويستدير نحو الجمهور الهادر الذي ما فتىء يرفع الرايات الخضر ذوات الهلال والأنجم الحمر، ثم يبدأ بالهتاف: (عباس إلى الحكم! عاشت جبهة التحرير الوطني!). . ومعروف أن مظاهرات وطنية مماثلة قامت في المدن الجزائرية الأخرى وخاصة في وهران وعنابه (بونه) وتيهرت وسعيده وسطيف وبليدا؛ وهي المظاهرات التي استمرت بعد ذلك طوال شهر رمضان الأول - ديسمبر - 1960 وشهر كانون الثاني - يناير - 1961. ¬

_ (¬1) صحيفة (باريس جور) 12 كانون الأول - ديسمبر - 1960.

الحرب الجزائرية تدمر فرنسا

4 - الحرب الجزائرية تدمر فرنسا خاضت فرنسا حرب الجزائر للمحافظة على بقايا امبراطوريتها الممزقة، ووضعت المخططات العسكرية على أمل تحقيق نصر سريع وحاسم، وبذل كبار قادة الجيش الفرنسي (المارشالات والجنرالات) قصارى جهودهم من أجل إخماذ لهيب الثورة المتوهج، فعجزوا عن ذلك. وانعكس ذلك على فرنسا، فأصيب اقتصادها بالانهيار، ونزل التمزق بالمجتمع الفرنسي، وانهارت الجمهورية الرابعة (يوم 13 - أيار - مايو - 1958) وقامت على أنقاضها الجمهورية الخامسة برئاسة (ديغول) وذلك على أمل إخراج فرنسا من الوحل - على حد تعبير ديغول ذاته - غير أن (ديغول) مضى على سياسة أسلافه، فعمل على تصعيد الصراع المسلح، وزاد من شدة الإرهاب، وسار على دروب ملتوية في مجال الصراع السياسي ضد الجزائر، وزاد ذلك كله من موقف فرنسا سوءا وارتباكا، وتعاظم غرقها في مستنقع الوحل. وقد يكون من المناسب التوقف عند بعض المقولات التي صدرت في تلك الفترة والى تصور الموقف الفرنسي، والعلاقات الجدلية بين الحرب الجزائرية وانعكاساتها على فرنسا.

لقد تعرضت صحيفة (أوبسرفاتور) الفرنسية (¬1) للموقف بقولها: (وإذن فكل شيء باق على ما كان عليه، بعد عام من تولي (ديغول) مقاليد الحكم، ولم يتغير أدنى شيء .. أما مهزلة التآخي فقد افتضحت ... والعمليات العسكرية ما تزال مستمرة بالعنف ذاته، والشدة ذاتها، على نحو ما كانت عليه في الماضي، ولماذا يحدث إذن أدنى تغيير؟ .. 0 فاليوم مثل الأمس ... إن الجزائر لا تريد أن تكون فرنسية ... فإما أن نعترف بهذه الجزائر، وإما أن نتجاهلها، إما أن نتفاوض معها، وإما أن نبقى معها في حرب إلى الأبد). وهذا ما أكده النائب العمالي البريطاني - ريتشارد كروسمان - بقوله: (لقد جاء ديغول ومعه خطرين: أولهما أنه حطم أمل الرجوع إلى الديموقراطية، إذ لو فشلت ديكتاتوريته الشخصية، أو توفي، فإن فرنسا ستواجه حربا أهلية يقف فيها الفاشيستيون والشيوعيون وجها لوجه، أما الخطر الثاني فهو فشل ديغول في إيجاد حل للقضية الجزائرية). وكذلك أيضا ما كتبته صحيفة (الأوبسرفاتور): (... إن الحقيقة بسيطة وواضحة لمن يريد أن يراها، فالسلم لم يكن في وقت من الأوقات أبعد مما هو الآن، ومحاولة إقناع الناس بوجود السلم تزوير جاءت به حكومة - ديغول - ولا يغفره لها أحد. إن الحرب لم تنته إلا في البلاغات الفرنسية، وحتى في هذه البلاغات، فقد استؤنفت كأعنف ما تكون حرب، ونستطيع ان نتبين الواقع المفجع من خلال أكاذيب وصمت البلاغات الفرنسية التي ¬

_ (¬1) سقوط ديغول (كتب سياسية - 142) السيد الشوربجي - الدار القومية للطباعة والنشر - 1960 ص40 - 67.

تزعم أن (71) من الثوار قد قتلوا في هذا اليوم و (123) قد قتلوا في اليوم الآخر الخ ... فمن هو الذي يصدق أن معارك في مثل هذا العنف لم يخسر الفرنسيون فيها شيئا؟ إنه لا يكفي لتزوير الحقاثق أن نسكت عن ذكر الخسائر. إنني عندما رجعت هذه الأيام من الإجازة وجدت رسالة وجهتها لي أرملة جنرال كان يعمل بالجيش الفرنسي في أفريقيا، وهي نفسها كانت تعمل في المقاومة الفرنسية، وأحرزت وسام المقاومة، وقد جاء في رسالتها: أعلن لكم بألم كبير مقتل ابني الوحيد - وهو ضابط - في كمين (ببلاد القبائل)، إن هذه الحرب الوحشية التي لا فائدة منها تحصد زهرة الشباب الفرنسي، وقد تكبدت كتيبة ابني خسائر فادحة، وقد كان ابني نفسه متعبا منهوكا، ومع ذلك، أرسل في مهمة كان الموت ينتظره فيها. إن صعوبة الانتقال واستحالة حمل ابني الى الجزائر، وانتظار قافلة تذهب إلى (تيزي أوزو) إن كل ذلك قضى على رجل بلغت قواه نهاية ضعفها، وهكذا تلقت تابوتا يحمل ابني الوحيد الذي كان يرغب مثلي في تآخي الشعوب). وكتبت (صحيفة أمريكية) (¬1) ما يلي: (لا أعتقد أن هناك أيا من المسؤولين الأمريكيين يعتقد بأن الثورة الجزائرية يمكن إخمادها بنصر عسكري. إنهم يعتقدون أن الثورة في الجزائر، مثلها كمثل جميع الثورات المشابهة التي اندلعت في النصف الأول من هذا القرن، سوف تنتهي فقط عندما تفعل الحكومة الفرنسية ما تعلمت الحكومة البريطانية فعله، وهو الاعتراف بصدق عزم الثوار على طلب قيام وضع جديد في بلادهم. إننا لا نعتقد بأن فرنسا قادرة على تهدئة ¬

_ (¬1) وولتر ليبمان (هيرالد تريبيون) 23/ 8 / 1959.

الجزائر والاحتفاظ بها عن طريق سياسة القوة العسكرية). وفي الموضوع ذاته كتبت (صحيفة فرنسية) ما يلي (¬1): (بعد خمس سنوات من الحرب المستمرة في الجزائر، وبعد سنة من (عمليات التآخي) التي بدأت يوم 13 أيار - مايو - 1958، يسقط الآن كل أسبوع مئات من القتلى، إذا صدقنا البلاغات العسكرية، وهناك ربع مليون جزائري بعيدين عن منازلهم، مما يدل دلالة قاطعة على تعاظم مقاومة المسلمين، وهذا يعني أنه ليس بالمستطاع إيجاد حل عسكري دائم. إن الشعب الجزائري لن يبقى مرتبطا في نهاية الأمر بفرنسا، إلا إذا أراد هو ذلك، مهما بلغت المحاولات الخيالية المبذولة لتنفيذ (سياسة الدمج) وإذن، فكل شيء متوقف على إرادة الشعب الجزائري. لقد أصبح من الواضح الجلي بعد خمس سنوات من الحرب، أنه من المحال إيجاد حل للمشكلة عن طريق إبادة أحد الطرفين المتصارعين، فلا أعمال الإرهاب، ولا القمع، ولا العمليات العسكرية، استطاعت كلها ان تفتح الطريق نحو الحل الممكن، ولن تستطيع المكاسب الاقتصادية - هذا إذا ما أمكن تنفيذ بعض المشاريع المدروسة - ولا بعث أسلوب العطف الأبوي الاستعماري القديم، أن تخنق إرادة الاستقلال الموافقة لتطور العالم الحديث ولتقاليدنا القومية ذاتها. إن الواجب يفرض علينا أن نثق بهذه القوى الجديدة، وأن نؤمن بمستقبلها الخاص، وأن نترك الشعب الجزائري ذاته حتى يحل قضيته التي لم تستطع الحرب، ولا الددبلوماسية، ولا الحوادث، ولا المشاريع الاقتصادية أن تصل أبدا ¬

_ (¬1) جاك بيرك (لوموند) 16/ 5 / 1 959.

إلى حلها) وكانت هذه (الصحيفة الفرنسية) (¬1) قد عالجت الموقف بقولها: (كذا نعتقد أن عبارة، الربع الساعة الأخيرة - في حياة الثورة الجزائرية - قد انتهت واختفت تماما من مصطلحات المسؤولين، ولكنها عادت إلى الظهور من جديد، بعد أن اجتازت السخرية على شفاه الناطق الرسمي لمصلحة الاستعلامات بالمندوبية العامة للحكومة بالجزائر الذي قال: إن جبهة التحرير الوطني قد أصبحت مرة أخرى في ربع ساعتها الأخيرة. وقد كان يقصد بذلك الانتخابات البلدية التي سيقضى بها نهائيا على المنظمة السياسية والعسكرية لجبهة التحرير الوطني. وقد أضيف إلى الذرائع التي كانت سببا في إطالة أمد الحرب الجزائرية، أمام الرأي العام المصاب بالذهول، سبب آخر هو: انتخابات جديدة لم يحدد موعدها. وهذا ما حملته الأخبار في هذه الأيام، بعد أن كانت تتعلل أحيانا بمناقشات هيئة الأمم المتحدة واقتراحاتها، وأحيانا أخرى باجتماعات وزراء الحكومة الجزائرية في القاهرة، أو مؤتمرات تونس او الرباط. لقد كان وقع تلك الكمائن التي نصبها المجاهدون الجزائريون ذا أثر بالغ في الرأي العام، مما يكذب التأكيدات المتفائلة المروجة، فالحال لم تتغير عن كانون الثاني - يناير - 1957، وقد مضى عامان، فغير صحيح أننا في الربع الساعة الأخيرة. ولنتساءل عن أهمية وقيمة تلك العبارات التي تقال اليوم، فقد سبق أن أكدها منذ شهرين تقريبا أكبر سلطة عسكرية، فقال أن هناك أعمالا إرهابية وخلايا للثوار سيستطيع الجيش الفرنسي قهرها فلديه ما يلزمه للقيام ¬

_ (¬1) صحيفة (لوموند) 27 كانون الثاني - يناير - 1959.

بتلك المهمة، وأن الحرب كادت تنتهي. ولكن النشرة الأسبوعية للمندوبية العامة بالجزائر اعترفت هذا الأسبوع أن عدد الجنود غير كاف في بعض القطاعات، كما أن قادة القطاعات لم تكن لديهم الوسائل الضرورية، مما أدى إلى عجزهم عن القيام بمهامهم المتعددة، ولا يكفي إخفاء أرقام الخسائر حتى نحمي جيشنا منها، وإن الاحصاءات المتوافرة تؤكد للأسف أن الجيش الفرنسي يعاني من تدهور كبير لم يتعرض له من قبل). أما صحيفة - المجاهد - لسان حال الثورة الجزائرية، فقد كتبت ما يلي: (بوغت المراقبون للأعمال العسكرية، بالحملة الإعلامية الساذجة التي رافقت حركة (13 أيار - مايو) والتي زعمت أن هذه الحركة قد نجحت في وضع حد نهائي للثورة. ولم يتمكن أولئك المراقبون من أن يفهموا كيف أن مجرد قيام الأوروبيين بمظاهراتهم واحتفالاتهم كاف للقضاء على الثورة. والواقع أن جماعة حركة 13 أيار - مايو - كان أملهم في إنهاء الثورة هو في اتفاق الشعب الجزائري معهم وتنكره لثورته، ولذلك رفعوا أسطورة (الأخوة الاسلامية - الفرنسية) إذ ذاك، ثم تولى - جاك سوستيل -وزارة الإعلام في فرنسا فأصدر تعليماته إلى الصحف بأن تصمت نهائيا عن نشر أنباء المعارك التي لم تتوقف، وتوهم الفرنسيون فعلا أن الثورة إذا لم تنته فعلا فقد ضعفت، وأنها على أبواب التلاشي والاضمحلال. ثم دخل - ديغول - ذاته في هذه الحملة الدعائية المخجلة فزعم في (قسنطينة) أن صفحة الحرب قد انتهت، وأننا الآن سنشرع في كتابة صفحة الاقتصاد. ثم تذكر ماريشال فرنسا - جوان - من ناحيته أن الفرصة قد سنحت له مرة أخرى ليظهر عبقريته العسكرية، ويؤكد وطنيته في الوقت ذاته، فزعم بعد ديغول بأيام:

أن الثورة تعتبر منتهية من الناحية العملية. ولكن دهشة المراقبين الجديين، كانت أعظم من دهشتهم الأولى عندما رأوا الفرنسيين في الأسابيع الأخيرة يتحدثون فجأة عن خطورة الموقف العسكري الفرنسي في الجزائر، وعن فساد العتاد الفرسي بجملته وعدم صلاحيته للاستعمال، وعن قلة الجنود الفرنسيين الأمر الذي تسبب لهم في حدوث خسائر فادحة لهم في المعارك الأخيرة. ... الخ ... وجاء وزير القوات المسلحة إلى الجزائر ليبحث (هذا الوضع الخطير) على الطبيعة فوجد كلمة واحدة تتردد على ألسنة جميع الضباط: إننا نريد المزيد من القوات، ووجد المقيم الفرنسي الجديد ذاته وهو يطالب بإرسال المزيد من القوات ويقول: إن المشروع الاقتصادي الذي كلفني ديغول بتنفيذه في الجزائر، لا يمكن أن أحققه، ولو جزئيا، إلا إذا وصلت قوات دعم جديدة) وعادت صحيفة (لوموند) المعروفة بتأييدها للجنرال - ديغول - فقالت: (تعتبر الفترة الواقعة بين 20 و24 كانون الثاني - يناير - 1959، من أبرز الفترات التي أصيبت فيها قوات الأمن بخسائر فادحة منذ بداية الثورة وحتى اليوم، ولهذا فإن القوات الفرنسية ستجد نفسها مرغمة على مواجهة العودة المباغتة لأسلوب من أساليب الصراع هو أشد فتكا وقتلا، وتدل جميع الظواهر على أن قادة الوحدات الفرنسية قد اطلعوا (السيد جيوم) على النقص الموجود في عتادهم الحربي، وعلى قدم ذلك العتاد وعدم صلاحيته للحرب (؟). وفعلا فالأسلحة والسيارات وأجهزة الراديو وجميع الأعتدة الحربية قد استنفذت المدة التي كانت مقررة لاستعمالها العادي، خصوصا وأن قسما من هذا العتاد قد استعمل في الهند الصينية من قبل - فييتنام - ولا يمكن ترقيعه إلى ما لا نهاية ... هذا وإن الخسائر

التي تتكبدها قوات الأمن تؤكد أن جبهة التحرير الوطني ما تزال قادرة على القيام بعمليات مباغتة تلحق بالقوات الفرنسية أفدح الخسائر وهذا يناقض ما كانت تأمله أو تقوله القيادة الفرنسية عن قرب انتهاء الحرب).

ديكتاتورية ديغول في الجمهورية الخامسة

5 - ديكتاتورية ديغول في الجمهورية الخامسة تولى الجنرال (ديغول) السلطة على أمل (إنقاذ فرنسا)، وعلى هذا الأساس طلب إلى (الجمعية الوطنية الفرنسية) منحه سلطات استثنائية، ووافقت الجمعية الوطنية على طلبات (ديغول) بأغلبية ساحقة، ومضى ديغول لتحقيق المعجزة، على ما كان يعتقده، مستثمرا (هيبته الشخصية)، لكن هيبة الرجل الأبيض، وتفوق القائد العسكري، كانت قد انمحت من أذهان الثوار الجزائريين. ومضت الأيام متلاحقة والشعب الفرنسي يتململ ويتذمر تحت أعباء الحرب، وينتظر في (لهفة) حدوث المعجزة. لكن هذه لم تحدث، فديغول لم يوقف الحرب، وإنما على النقيض من ذلك فقد أسهم في زيادة تأججها، وشباب فرنسا الذي يقضي إجازته على رمال الجزائر الحارة الملتهبة لا زال هناك، وصار حجم القوات الفرنسية في الجزائر يناهز المليون. واستمرت السفن الفرنسية في حركتها ما بين فرنسا والجزائر وهي تنقل كل يوم المزيد من القوى ووسائط القتال، وتعود حاملة معها دفعات جديدة من القتلى والجرحى الذين أصبحوا - نهائيا - خارج القتال. وظل المشهد الحزين يتكرر في موانىء فرنسا في عهد الرئيس (ديغول) مع فارق بسيط، وهو أن

عدد المنتظرين قد زاد كثيرا عما كان عليه في العهود السابقة. كان مشهد الأرامل، والأمهات الثكالى، والأطفال الأيتام، وحاملي النعوش وباقات الورود، كانوا كلهم ينتظرون جثث الضحايا الذين قتلتهم سياسة (ديغول) فوق أرض الجزائر، في سبيل قضية ليست هي قضية الشعب الفرنسي، وإنما هي قضية المائتي عائلة التي استوطنت في الجزائر واستثمرتها. وهكذا مضت سياسة ديغول: إبادة للمسلمين في الجزائر، ومأتم مقابل في فرنسا، وكل الصور التي شهدها الشعب الفرنسي في عهود (غي موليه) و (مونوري) و (غايار) عاد مرة أخرى ليشهدها في عهد (ديغول) ولكن على نطاق أوسع وعلى شكل أضخم. وبصرف النظر عن كل شيء، فقد كان الحال في عهد (غي موليه) وخلفه، أحسن مما أصبح عليه الحال في عهد (ديغول) من وجهة نظر الفرنسي على الأقل. فقد كان هذا الشعب المنكوب بعقلية الاستعمار، والمصاب بعقدة (العظمة) يستطيع في الأيام الخوالي أن يعبر عن أزمته، وأن يفرج عن كربته بالمظاهرات والاضطرابات والاحتجاجات، وكان يجد عزاءه في صخب النواب بالجمعية الوطنية، وفي ضجيح الأقلام على أوراق الصحافة، كما كان يجد سلواه في إسقاط حكومة ورفع غيرها مع ما يرافق ذلك من أمل في الوصول الى حل منشود، ولكن في عهد (ديغول) لا عزاء، ولا سلوى، ولا أمل ... لقد وضع الرئيس ديغول الشعب الفرنسي في سجن كبير حتى يصبح عاجزا عن مقاومة مخططاته ومشاريعه، وذلك عن طريق مجموعة من القوانين التي أصدرها لمجابهة الموقف المتدهور يوما بعد يوم. وكان من أول القوانين، وأكثرها خطورة (قانون الدفاع

المدني) الذي ينص على اعتبار فرنسا في حالة حرب دائمة، ولا فرق في هذا بين حالة الحرب العدوانية والحرب الدفاعية، وبات من حق - ديغول - وفقا لهذا القانون؛ أن يمارس جميع السلطات وأن يستخدم جميع الصلاحيات التي تمنحه إياها حالة الحرب، وأول تلك الصلاحيات هي حق الاعتقال والمصادرة وقمع المعارضة. ثم أصدر - ديغول - (قانون الصحافة) فأخضعها لرقابة السلطة الجديدة - سلطة الحرب - وبذلك قضى على حريتها التي اشتهرت بها، وتبع ذلك إصدار (قانون الاصلاح القضائي أو العدلي) الذي منع بموجبه المحاكم من النظر في القضايا المتعلقة بممارسة الحكومة لصلاحياتها وسلطاتها الاستثنائية، فحد بذلك من رقابة (السلطة القضائية)، وحرم الشعب الفرنسي بذلك من الملجأ الأخير له ضد تعسف السلطة الجائرة التي فرضها - ديغول - عليه. ليس هذا فحسب، بل إنه عمل على تمديد أجل الخدمة الإلزامية للمجندين العاملين في حرب الجزائر، فجعل مدتها (24) شهرا، بموجب (قانون الدفاع المدني). وظن ديغول أنه بهذه الإجراءات سيتمكن من مجابهة ظروف (حرب الجزائر) ومتطلباتها، على نحو أفضل، غير أنه ما لبث أن وجد نفسه أمام موقف معقد، إذ باتت نفقات الحرب شديدة الوطأة حتى أنها وصلت إلى مبلغ ثلاثة ملايين دولار يوميا. وعلاوة على ذلك، فإن زج نصف مليون مجند فرنسي جديد - في حرب الجزائر - قد حرم فرنسا من القدرة الانتاجية لهؤلاء المجندين، وأضعف من قوة (الدخل القومي)، وظهر لفرنسا أن الأزمة هي بالدرجة الأولى (أزمة اقصادية) وبات على ديغول إيجاد مخرج مناسب لها. لقد انصرف رجال المال والاقتصاد في فرنسا خاصة، وفي

أوروبا عامة، وأجمع رأيهم على حقيقة واحدة وهي أن (حرب الجزائر) هي سبب الأزمة الاقتصادية التي أغرقت فرنسا، وأنه من المحال إجراء أي اصلاح حقيقي إلا بإيقاف الحرب، إذ أن مصير كل محاولة للإصلاح الاقتصادي أو السياسي هو الفشل طالما أن هناك جيش فرنسي يضم نصف مليون جندي، يتابع محاولاته للاحتفاظ بالجزائر جزءا من فرنسا. وتجدر الاشارة هنا إلى ما أوردته صحيفة ألمانية تعرضت لمعالجة الموقف بقولها: (تكلف الحرب الجزائرية مبلغا قدره سبعة مليارات مارك على الأقل في العام، ويشكل ذلك خطرا كبيرا على البرامج الاقتصادية التي تسعى فرنسا لتحقيقها بمساعدة حلفائها، الذين يضيقون الخناق عليها). وكان لا بد لديغول وهو يحاول إيجاد مخرج للأزمة الاقتصادية من اللجوء إلى الحلفاء الأوروبيين، وكان عليه مقابل ذلك أن يقدم تنازلات لهؤلاء الحلفاء، وأن يتخلى عن كثير من المواقف التقليدية لسياسة فرنسا تجاه أوروبا، وبصورة خاصة تجاه ألمانيا الغربية، حيث كانت فرنسا تقف باستمرار ضد كل محاولة لبعث ألمانيا أو زيادة قدرتها أو توحيدها متأثرة بذلك بالجراح العميقة التي خلفتها المانيا في الجسم الفرنسي في الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد وصف اقتصادي فرنسي، هذا الموقف بقوله: (... لقد اضطررنا إلى طلب المساعدة الأولية، ومن أجل ذلك دخلنا في مفاوضات وتوسلات طويلة نالت من كرامتنا إلى حد أننا قبلنا الشروط المفروضة، ووعدنا بالامتثال للنصائح المقدمة من طرف الدول التي أقرضتنا، فكانت نتيجة الخضوع لتلك الشروط والنصائح أن انخفض مستوى معيشة الجمهور الفرنسي، وانخفضت قيمة الأجور، لا بالنسبة بمستوى الأجور التي يتقاضاها

العامل، أو الموظف، وإنما بالنسبة للقيمة الشرائية بالمقارنة مع ارتفاع الأسعار. كما انخفضت في الوقت ذاته قدرتنا الانتاجية. وأصبح اقتصادنا متوقفا من جديد على المساعدات الخارجية التي أصبحت من ناحيتها عسيرة جدا. وأمام هذه الاعتبارات لا يسعنا إلا أن نعرب عن مخاوفنا في مواجهة المستقبل الذي ينتظر الجمهورية الخامسة في المجالين الاقتصادي والمالي). وهكذا، قبلت فرنسا أن تشارك في إحياء العسكرية الألمانية، كما قبلت أن تشترك مع ألمانيا في مجموعة من المحالفات والاتفاقات الأوروبية، مثل (اتفاقية حلف شمال الأطلسي) و (اتفاقية السوق الأوروبية المشتركة) و (اتفاقية اليورانيوم) و (اتفاقية الاتحاد الأوروبي للفحم والصلب) و (اتفاقات باريسر التي تسمح لألمانيا بالتسلح وإنشاء جيش قوي في داخل إطار حلف شمال الأطلسي). وحينما تولى (ديغول) الحكم، توقع جميع المراقبين السياسيين منه تغيير هذه السياسة، وكان يقال: بأن (غي موليه) و (جايار) قد تساهلا كثيرا تجاه ألمانيا، وخضعا لتغلغلها هذا على حساب فرنسا، وتحت ضغط الانهيار الاقتصادي، والحاجة الملحة لقروضها ومساعداتها. وقيل أيضا: إنه إذا ما قبل أسلاف - ديغول - الهيمنة الألمابية، فإن ديغول بالذات لا يمكنه قبول هذا الوضع أو الاستمرار فيه، وهو القائد الذي حارب ألمانيا، وذاق مرارة الاعتقال في السجون الألمانية أيام الحرب العالمية الأولى، على أن (ديغول) لم يكد يتولى الحكم حتى صرح بأنه لا ينوي المساس بالاتفاقات الأوروبية التي باتت فرنسا مرتبطة بها. وذهب ديغول إلى أبعد مما ذهب إليه أسلافه، فقد قام بزيارة رسمية لألمانيا الغربية في أيلول - سبتمبر - 1958، وعقد محادثات رسمية وسرية مع مستشار ألمانيا

في تلك الفترة (أديناور)، وصدر البيان المشترك لهذه المحادثات يوم 14 - أيلول - سبتمبر - وهو يعلن: (أن التعاون الوثيق بين جمهورية ألمانيا الاتحادية وفرنسا يساعد على دعم حلف شمالي الأطلسي وتقويته). وبعد ذلك بأيام قليلة، كتب (الجنرال شاسان) وهو أحد زعماء انقلاب 13 أيار - مايو - ومن أشد أنصار (ديغول) والمقربين إليه - ما يلي: (... يجب أن تمنح ألمانيا حق إنتاج القنبلة الذرية، بل واستخدامها عند الضرورة). ومقابل هذا التنازل الفرنسي، وعدت ألمانيا أن تقف إلى جانب فرنسا بكل ثقلها في حرب الجزائر، وفي مشاريع (استغلال الصحراء الجزائرية)، كما وعدت أن تمد فرنسا بكل ما تطلب من قروض ومساعدات حتى تستطيع متابعة حربها في الجزائر. وأدى ذلك - بالضرورة - إلى مزيد من الهيمنة الألمانية على فرنسا اقتصاديا وصناعيا وماليا غير أن هذه الهيمنة لم تنقذ فرنسا من الانهيار، ولا أنقذت اقتصادها من الدمار، فلجأ (ديغول) إلى مجموعة من الإجراءات التي زادت من أعباء الحرب الجزائرية على كاهل المواطن الفرنسي، وكان في جملة تلك الاجراءات: 1 - فرض ضرائب جديدة حصيلتها (250) مليار فرنك سنويا. 2 - إلغاء الإعانات الاجتماعية التي كانت تمنح للمحاربين القدماء، ولكثير من الفئات والتنظيمات الشعبية. 3 - رفع أسعار معظم السلع الاستهلاكية، بزيادة الضرائب المباشرة. 4 - خفض قيمة الفرنك الفرنسي بهدف الاقلال من قوته الشرائية، وتغطية التضخم، ولكن دون القضاء عليه.

5 - فتح الأسواق الفرنسية أمام التجارة الخارجية - للمرة الأولى-. ويكفي هنا لإبراز نتائج هذه الإجراءات التوقف عند تعليق (صحيفة لوموند) (¬1) في حديث لها موجه إلى وزير مالية (ديغول) وهو (المسيو بينيه) حيث ورد في التعليق ما يلي: (... مهما تكن نية المسيو بينيه، فالإجراءات الاقتصادية التي اتخذها تحمل في مضمونها ما هو مخالف تماما لوجهة نظره المعروفة، وإن التجربة التي خاضها لا يمكن أن تنجح إلا بشرطين ضرورين: أحدهما لأمد قريب جدا، وهو أن تراب الحكومة مراقبة شديدة الأسعار حتى تمنع الباعة من مضاعفة نتائج التخفيض، ونتائج قطع المنح التي يجب أن لا تتسع رقعتها كثيرا. والشرط الثاني: لأمد معقول، وهو أن يخفف العبء الجزائري، حتى يمكن أن يتماشى مع توسع الاقتصاد الفرنسي، فانخفض الفرنك في عهد (ديغول) كانخفاضه في عهد (جايار) إذ أنه ليس نتيجة لخطأ - النظام - وإنما هو ثمن الحرب الدائرة رحاها في الجزائر، وكلما استمرت هذه الحرب، استمر انخفاض الفرنك، وهكذا سيكون انخفاضا ثالثا فرابعا ودواليك، واذا ما أجبر - المسيو بينيه -فرنسا على أن تفتح أبوابها لمنافسة التجارة الدولية، وحظر عليها التقلص والانكماش، للاحتفاط بعظمتها منفردة في برجها العاجي، فإنه بهذه الاصلاحات يتبع سياسة من شأنها أن تقوض أسس تلك الوطنية الاقتصادية التي هي في الحقيقة خطر داهم يتهدد الجمهورية الخامسة). وعلق اقتصادي فرنسي أيضا على تلك الإجراءات بقوله: ¬

_ (¬1) سقوط ديغول (كتب سياسية - 142) ص 45 - 52.

(لم تغير كل هذه الجهود شيئا من جوهر اقتصادنا، ولم يؤثر - حتى ديغول، ذاته - على ازدهار أسهمنا وعملتنا في الأسواق العالمية، وكانت المرة الوحيدة التي ارتفعت فيها مكانتنا المالية - النقدية - منذ عودة ديغول إلى الحكم - هي تلك الفترة القصيرة التي ظن فيها رجال الأعمال أن فرنسا ستدخل في التفاوض مع جبهة التحرير الوطني). لقد اضطر (ديغول) تحت تهديد الدول الموقعة على اتفاقية (السوق الأوروبية المشتركة) وألمانيا بالذات إلى وضع هذه الاتفاقية موضع التنفيذ الفعلي، بعد أن كانت الحكومات السابقة تؤجل تنفيذها عاما بعد عام، وكان هذا يعني: أولا: أن تخفض فرنسا الرسوم الجمركية المفروضة على السلع المستوردة من دول الاتفاقية بواقع (10) بالمائة ابتداء من أول كانون الثاني - يناير - 1959؛ وكان هذا التخفيض يسبب لها خسارة باهظة تتمثل في مقدار الرسوم التي ستحرم منها نتيجة التخفيض. ثانيا: أن تضاعف فرنسا من إنتاجها الصناعي بنسبة (20) بالمائة على الأقل، وأن تدخل تحسينات كثيرة على هذا الإنتاج، لكي تستطيع غزو أسواق الدول الست التي تغزو سوقها، لأنه لو عجزت فرنسا عن تصدير صناعاتها إلى هذه الدول ومنافسها في أسواقها الداخلية والخارجية بمقدار ما ستغزو هذه الدول السوق الفرنسية، لو عجزت فرنسا عن ذلك، فإن هذا سيترتب عليه نتائج في منتهى الخطورة بالنسبة للاقتصاد الفرنسي. لم يلبث (ديغول) أن وقع في مشكلة أخرى مع (انكلترا) التي طالبت بإنشاء (منطقة التبادل التجاري الحر) وكان ذلك يعني مد نطاق السوق الأوروبية ليشمل مجموعة السبعة عشر دولة الداخلة في

إطار (المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي) حتى تتمتع هذه الدول، ومن بينها (انكلترا) بالإعفاءات الجمركية، وحتى لا تختنق الصناعة البريطانية في داخل نطاق السوق الأوروبية المشتركة، إذا ما هي حرمت من هذه الإعفاءات. وحاولت فرنسا معارضة اقتراح انكلترا، ذلك لأن دخول انكلترا - إلى جانب ألمانيا - وتمتعها بالإعفاء الجمركي، سيترتب عليه القضاء على البقية الباقية من الصناعة الفرنسية والاقتصاد الفرنسي القائم على هذه الصناعة، لا سيما وأن فرنسا لم تكن قادرة على مجابهة إغراق الصناعة الانكليزية مع الألمانية لبلادها، كما أنها لم تكن قادرة على تطوير إنتاجها ومضاعفته وهما شرطا الدخول في ميدان المنافسة، وذلك بسبب اتجاه كل الجهود نحو (ميدان القتال في الجزائر). ومضت سنتان من حكم - ديغول - (1959 - 1960) ولا زالت فرنسا مستمرة في السير على طريق التدهور، فلا الجهود الحربية نجحت في القضاء على الثورة، ولا الجهود السياسية الملتوية نجحت في خداع الشعب الجزائري، وحكومته المؤقتة، وبدأت الأمور تنذر بالشر المستطير، وظهر بوضوح أنه لا بد في النهاية من وضع حد حاسم للحرب الفرنسية ضد الجزائر.

التحولات الحاسمة (التمرد في الجزائر)

6 - التحولات الحاسمة (التمرد في الجزائر) لم يكن السلام الفوري على مرمى النظر عندما أطل العام (1960) على أفق الجزائر، ومع ذلك حدث تقدم هائل عن العام الذي سبقه، فبينما كان يبدو أنه من غير المستطاع التقاء التفكير بين فرنسا والجزائر على الإطلاق، فإن الطريق كانت مفتوحة على الأقل من أجل بدء المباحثات وكانت الموضوعات التي يجب بحثها، والأشخاص الذين سوف يحضرون المفاوصات لا تزال مسائل مفتوحة، وكان رفض الجزائريين أن يفاوضوا قبل أن يتلقوا ردودا مرضية يبدو مانعا من وقف قريب لإطلاق النار، وقد ترك التعديل الوزاري الجزائري الذي أعلن من تونس في 19 كانون الثاني - يناير - والذي قضى بإبعاد المتصلبين (من أمثال الأمين دباغين وأحمد توفيق المدني وبن يوسف بن خده وعمر صديق) من الحكومة المؤقتة، ووضع السلطة الكاملة في قبضة المعتدلين. ومع افتراض أن (ديغول) يستطيع أن يبقى في الحكم، كان يبدو أن المسألة هي مسألة وقت قبل إزالة العوائق عن طريق (حق تقرير المصير). باتت الأغلبية العظمى من الشعب الفرنسي على استعداد لقبول (خسارة الجزائر في النهاية) وهو شيء كان يبدو من المحال التفكير

فيه قبل مجيء ديغول إلى الحكم، وكانت فئات كثيرة في الجيش والمستوطنون المتطرفون، وأصدقاؤهم، وعملاؤهم في فرنسا، قد تملكهم الهياج، بل وراحوا يتحدثون عن القيام بالثورة مرة أخرى، ولكن كان يبدو (ديغول) ما زال يستطيع السيطرة عليهم. وبالرغم من أن الكثيرين من المراقبين فسروا العرض الذي تقدم به في 16 أيلول - سبتمبر - بأنه مقامرة، فإنه كان واثقا من الكسب فيها، إنه بدلا من أن يحاول إغراء المسلمين على البقاء مع فرنسا، كان أكثر اهتماما بالقضاء على المحنة الجزائرية، بأسرع ما يمكن حتى يتمكن من السير قدما في تنفيذ مشاريعه بدرجة أسرع. ومقابل ذلك، ظهر أن جبهة التحرير الوطني باتت أكثر استعدادأ لقبول تسوية سلمية بشروط تقل كثيرا عن مطالبها الأصلية بالاستقلال فورا؛ وكان معنى هذا أن الاستقلال لن يكون فوريا وإنما بعد فترة من الاستعداد. وساد الاعتقاد أن هذا سوف يجعل الانتقال إلى الحكم الذاتي وإقامة النظم الجديدة أكثر يسرا مما كان متوقعا، وكان يبدو أيضا أن الخطط الرامية إلى انشاء إتحاد كونفيديرالي يضم شمال أفريقيا ويرتبط بفرنسا بعلاقات وثيقة، سوف تنفذ كما سبق رسمها. وبالاختصار، كان في وسع أغلبية الفرنسيين والجزائريين، وأصدقاء الطرفين، أن تتنبأ باقتراب نهاية مرضية نسبيا للثورة الجزائرية، وهو أمر كان يبدو إلى عهد قريب أملا خياليا. غير أن الحدث الذي مارس دور المسرع في التحولات الحاسمة هو حركة تمرد المستوطنين في الجزائر؛ ففي يوم الأحد الموافق 24 كانون الثاني - يناير - 1960، تفجر الموقف عن حركة تمرد قتل فيها 25 وجرح 136 من الفرنسيين، وظل حوالي الثلاثة آلاف من المتمردين متحصنين وراء المتاريس التي أقاموها بالقسم الأدنى من المدينة في

الجزائر، في تحد علني للسلطات المدنية والعسكرية في كل من فرنسا والجزائر. لقد كان هذا التمرد أخطر تهديد حتى ذلك الوقت لسلطة الرئيس (ديغول) وهدد، لبعض الوقت، بأن يؤدي إلى حرب أهلية فرنسية، وبالجزائر إلى الانفصال. ولقد تميز الفاتح من كانون الثاني - يناير- بعدد من التفاعلات التي أدت إلى ظهور حركة التمرد؛ فكان الجيش الفرنسي يشدد حملته الفعالة لإخماد الثورة عسكريا. وإذا نقصت الفاعلية العسكرية للجبهة الوطنية الجزائرية، فإنها زادت من نشاطها الإرهابي، وبخاصة في منطقة مدينة الجزائر. وفصلت حكومة الجزائر المؤقتة، التي أعيد تنظيمها قبل ذلك بوقت قريب، العناصر التي كان يظن أنها تعارض أية مفاوضات لوقف إطلاق النار، وكان المستوطنون يشعرون بخوف متزايد من حدوث تقارب بين باريس وجبهة التحرير الوطني. كان قائد المظليين، وحاكم إقليم الجزائر (الجنرال ماسو) هو بطل المستوطنين المحبوب، بسبب تطرفه الاستعماري، وقد أدلى بحديث لمراسل صحيفة (سوديت زيتونج) التي تصدر في (ميونخ) يوم 19 كانون الثاني - يناير - جاء فيه: (لعل الجيش قد ارتكب خطأ حين جاء بالجنرال ديغول إلى الحكم، وأنه قد يستعمل القوة ضده، وأن الرئيس قد أصبح من رجال اليسار). وغضب (ديغول) واستدعى (ماسو) وفصله بعد ذلك بثلاثة أيام (يوم 22 كانون الثاني - يناير). وأطلق هذا التصرف اضطرابا بالغا في الجزائر، بلغ ذروته بعد يومين في صدام بين المتظاهرين من معارضي ديغول وبين قوات الأمن. وادعت الشرطة (البوليس) أن المتظاهرين هم الذين بدأوا باطلاق النار، ولكن الفرنسيين، على كل حال، قتل بعضهم بعضا لأول

مرة في الجزائر. تفرق معظم المشاغبين، عند حلول المساء، ولكن أقل من ألف من المتطرفين أقاموا الحواجز في الشوارع (المتاريس) وبقوا طوال الليل، ولكن رجال المظلات الذين استدعوا لإخماد هذا التمرد، تجنبوا إطلاق النار على هذه الجماعة، بالرغم من التعليمات العامة الصادرة لهم بإعادة النظام. وفي الأسبوع التالي انضم حوالي الألفين إلى هؤلاء المنشقين، وكانوا يتسلحون ويتمونون تحت سمع رجال المظلات وبصرهم، إذ كان هؤلاء المظليون يتعاطفون مع المتمردين بوضوح. ودعي إلى إضراب عام، وبعد قليل توقف معظم النشاط العادي في المدينة (الجزائر) وقامت مظاهرات التأييد في مدن أخرى. تمسك (ديغول) في باريس بموقفه في صلابة وثبات، وأكد سياسته عن (حق تقرير المصير للجزائر) وأعلن: (أن التمرد ضربة سيئة ضد فرنسا، ضربة سيئة ضد فرنسا في الجزائر، وضربة سيئة ضدها أمام العالم، وضربة سيئة ضد فرنسا في داخل فرنسا). وحيث بدا واضحا أن جمهرة الرأي العام الفرنسي كانت تقف وراءه، تحرك ديغول إلى إلهاب حماسة بعض وزرائه الأقل حماسة ليقفوا إلى جانبه، وإلى تحقيق حياد بعض الشخصيات السياسية التي كرست نفسها لتخريب سياسته في الجزائر. وحوالي منتصف الأسبوع، بدا أن العطف على المتمردين قد زاد إلى حد ان القيادات المدنية والعسكرية انتقلت من المدينة (باريس) إلى مركز قيادة سري. وامتنع (ديغول) فترة طويلة مؤلمة، عن التدخل المباشر بشخصه، حتى يوم الجمعة 29 كانون الثاني (يناير) حيث خاطب فرنسا والجزائر عن طريق الإذاعة والتلفزيون، فأمر الجيش في عبارات حازمة بإعادة النظام. وبالرغم من أنه بنوع خاص، امتنع عن الأمر

باستخدام القوة، بدا واضحا أنه كان مستعدا للذهاب إلى هذا الحد إذا دعت الضرورة، وكرر أن خطته (لتقرير المصير) هي (السياسة الوحيدة الجديرة بفرنسا)، وعزل معظم السكان الأوروبيين في الجزائر عن (الكذابين المتآمرين) و (المغتصبين) الذين كانوا يقودون التمرد، وأكد أن الجيش لا يستطيع أن يفرض شروطا لولائه، وأن عليه أن يطيعه. واستجابة لنداء (ديغول) الحماسي، أزال رجال المظلات الحواجز (المتاريس) وفي الصباح التالي كان التمرد قد انتهى. اتخذ (ديغول) في أعقاب انهيار التمرد، مجموعة من الاجراءات التأديبية التي لم يسبق لها مثيل، ضد المتمردين في الجزائر والعناصر الهدامة في فرنسا ذاتها، وأعفيت الشخصيات العسكرية والمدنية التي اشتركت في الانقلاب من وظائفها، وحددت إقامتهم في منازلهم أو زجوا في السجون، وأتبع (ديغول) ذلك بعملية هز شديد لكل من قيادة الجيش ومجلس الوزراء، ولعل أبرز ضحية كان (جاك سوستيل) أقوى مؤيدي بقاء الجزائر فرنسية. وفي أوائل كانون الثاني - يناير - كان الرئيس قد طلب من الجمعية الوطنية سلطات استثنائية ليحكم فرنسا بالمراسيم لمدة عام، وحصل عليها. لقد أوضح التمرد عدة عوامل حيوية كان لها أثرها الحاسم في إنهاء الحرب الفرنسية - الجزائرية، وفي دور فرنسا المستقبل في الحلف الغربي. وأهم ما في ذلك أنه وضح اعتماد فرنسا الكامل على شخص واحد، هو ديغول، وإذا كان ثمة شيء واحد مؤكد، فهو أن الحكومة الفرنسية كانت عرضة للسقوط، لولا السلطة الهائلة المعنوية والقانونية للرئيس ديغول. لقد عمل منذ مجيئه إلى الحكم

خط من الاسلاك والحواجز والاسلحة عجز عن عزل الجزائر عن جاراتها العربيات

في سنة 1958، على تغيير أنظمة الحكم وعملياته في فرنسا تغييرا جذريا - على نحو ما سبقت الإشارة إليه -، وفصل دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة أساسا حتى يناسب شخصة (ديغول) الفريدة، وقد أهمل أو عطل كثيرا من الطابع الديموقراطي الذي كانت تتسم به إدارة الحكم الفرنسي. وبينما ساعدت هذه التغييرات (ديغول) على معالجة كثير من المشاكل الخطيرة التي واجهت فرنسا، فقد جعلت فرنسا أيضا تعتمد عليه باطراد. والحقيقة البسيطة هي أنه لم يعد في فرنسا شخص يمتلك القوة ليأخذ السلطة من (ديغول)، وظهر أنه من غير المحتمل أن تعود الديمقراطية التقليدية بطريقة نظامية إلى فرنسا دون تسوية للحرب الجزائرية، وفي ظل هذه الظروف، يتعلق الأساس الذي تقوم آمال الغرب في وجود فرنسا قوية، بأكتاف الجنرال (ديغول) تماما، كما يتعلق به أي أمل في تسوية للحرب الجزائرية. تعلم المستوطنون، من ناحيتهم، درسين هامين، أولهما: أنهم فقدوا التأييد الشعبي الذي كان لهم يوما في فرنسا، وبدون هذا التأييد، لم يكن باستطاعتهم فرض إرادتهم على الحكومة الفرنسية. والدرس الثاني: أنه على الرغم من أن لهم بعض التأييد الواضح في صفوف جماعة ضباط الجيش المحترفين، إلا أن هذا التأييد لا يصل إلى درجة كافية من القوة لتقييد أيدي (ديغول) أو إضعاف تحركه. وقد انهارت آمال المستوطنين في الإنقلاب، في اليوم الأول، حين رفض الجيش الاشتراك فيه بصورة إيجابية. وبارغم من أن المستوطنين لم يكونوا قد فقدوا الأمل، بأي شكل، فقد باتوا، لأول مرة، عاجزين عن ممارسة (الفيتو) ضد سياسة الحكومة.

أدركت جبهة التحرير الوطني بدورها أيضا أهمية الدور الذي اضطلع به الرئيس (ديغول) في ضمان بقاء فرنسا، وانتزاع الطاعة من الجيش، فلم يكن ثمة معنى لوعد ديغول بانتخابات حرة بعد عودة السلام، إلا إذا كان يستطيع أن يضمن عدم تدخل الجيش أو المستوطنين في عملية الانتخاب، فقبلت الجبهة - من حيث المبدأ - العرض الخاص، (بتقرير المصير) غير أنها أمرت على توافر الضمانات حتى تكون الانتخابات حرة في الواقع، قبل أن توقف اطلاق النار. ولم يكن باستطاعة (ديغول) - من ناحية أخرى - إعطاء الضمانات إلا إذا اعترف بأن جبهة التحرير الوطني الجزائرية هي الممثل الشعبي الوحيد للشعب الجزائري، وهو اعتراف كان يرفضه حتى ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن (ديغول) قد أظهر أنه يستطيع حكم كل من الجيش والمستوطنين، فهناك شك كبير في أن يتمكن فرنسي آخر من أن يفعل ذلك، ولذلك فقد وجدت (الجبهة) حتى لو أعطيت الضمانات، واتفق على وقف إطلاق النار، أنها تقامر على بقاء (شارل ديغول) رئيسا لفرنسا.

وأخيرا، انتصرت الثورة

7 - وأخيرا، انتصرت الثورة كان التمرد الذي وقع في كانون الثاني - يناير - 1960، اختبارا لقوة الجنرال (ديغول) اجتازه بنجاح واضح. ولعل مما يدل عليه أن الجمعية الوطنية الفرنسية - البرلمان - وافقت بأغلبية ساحقة على منح الحكومة السلطات الاستثنائية اللازمة - لمدة أربعة عشر شهرا - والتي تجعل في مستطاعها إعادة الأمن والنظام في الجزائر. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الجمعية (إعرابا عن ثقتها في ديغول) قررت أن المراسيم التي تصدر لهذا الغرض، وبمقتضى السلطات الاستثنائية المخولة للحكومة، يجب أيضا أن يوقع عليها هو شخصيا. ولكن، وبرغم هذا النجاح الذي كان يكفل له حرية التصرف في معالجة المشكلة الجزائرية على النحو الذي يخلص فرنسا من متاعبها التي دامت طويلا، فقد بقي موقفه من مستقبل الجزائر وحقوق أهلها، بل ومن الحل الواجب اتخاذه، موقفا متسما بالغموض، سواء عن عمد لأن رأيه لم يكن قد استقر بعد على منح الجزائريين (حق تقرير المصير) أو لأنه لم يرغب في إثارة العناصر المتطرفة ويؤلف بينها ضده، وإن كان التفسير الأخير أقل احتمالا بعد أن

وضح ضعف هذه العناصر. ومن أمثلة هذا الغموض أنه حين توجه إلى الجزائر في شباط - فبراير من العام نفسه لتفقد حالة الجيش، صرح بأن تسوية المشكلة الجزائرية لا يزال أمامها وقت طويل، كما أن الملاحظات التي أبداها أمام الضباط أكدت الحاجة إلى إحراز نصر عسكري. ورافق ذلك، على ما هو معروف، إقدام فرنسا على تفجير قنبلتها الذرية الأولى في الصحراء الجزائرية (في منتصف شهر شباط - فبراير - 1960) الأمر الذي ترك أثرا سيئا كل السوء لا في الجزائر وحدها فحسب، بل في القارة الأفريقية كلها، وفي جميع بلدان العالم، ثم فجرت قنبلتها الثانية على الرغم من استنكار كافة الدول والشعوب المحبة للسلام، وعلى الرغم من تهديد هذه الشعوب لفرنسا بالمقاطعة وواصل ديغول في غضون ذلك خطبه وبياناته التي أكثر فيها من الحديث عن الجزائر، وعن الحل الذي يراه لمشكلتها؛ فقد ألقى في الثالث من آذار - مارس - أثناء زيارة قام بها للجزائر، خطابا أكد فيه إصراره على الاستفتاء، وتحدث عن القوة، مهددا باستخدامها حتى أقصى الحدود إذا ما فشل في تنفيذ مشروعه وسرعان ما لحق به وزير الأنباء - الإعلام - الفرنسي، يضم صوته إلى صوته، فيعلن في السابع من آذار- مارس - أن الجزائريين إذا اختاروا في الاحفتاء الانفصال عن فرنسا، فلا بد من تقسيم الجزائر إلى قسمين: أحدهما عربي والآخر فرنسي. وهكذا ثارت الشكوك من جديد في صدق نوايا (ديغول) وفي رغبته بالوصول إلى حل للمشكلة من أساسها وفقا لمبادىء الحق والعدل والمنطق. سارعت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالرد على (ديغول) فأعلنت عن استعدادها للمضي في القتال ضد الاستعمار

الفرنسي حتى إزالته والقضاء عليه، وأكد رئيسها (فرحات عباس) أن- ديغول- قد أوصد في خطابه هذا، باب الطريق نحو المفاوصات، وأحبط فرص إقرار السلام في الجزائر، ولهذا، فإن الشعب الجزائري، على الرغم من استعداده لاغتنام أية فرصة للوصول إلى حل سلمي عن طريق المفاوضات، إلا أنه سيواصل القتال حتى تظفر البلاد باستقلالها. وبالفعل، فقد شرع جيش التحرير الوطني في السادس عشر من آذار- مارس - بشن هجمات قوية وجريئة على القوات الفرنسية في كل مكان، ثم أعلنت الحكومة المؤقتة عن تصميمها لتنظيم فرق أجنبية في جيش التحرير، تضم إليها المتطوعين من سائر أنحاء العالم. قام رئيس وزراء فرنسا (ميشيل دوبريه) بزيارة للجزائر في الحادي عشر من نيسان - أبريل- 1960، واكتشفت السلطات الفرنسية محاولة لاغتياله، وتوترت العلاقات أشد التوتر بين تونس وفرنسا، فقد طلبت فرنسا من تونس، إجلاء المجاهدين الجزائريين عن منطقة الحدود، ولكن الرئيس (الحبيب بورقيبة) رفض ذلك، وأنذر فرنسا بالقتال، إذا ما حاولت قواتها اجتياز الحدود التونسية في عملياتها ضد المجاهدين، وبالفعل، قامت مدافع الفرنسيين وصواريحهم بقصف بعض القرى الواقعة على حدود تونس، مما حمل هذه على التقدم بالشكوى إلى مجلس الأمن. وسعت الحكومة الجزارية في غضون ذلك نشاطها في مجال العمل الديبلوماسي على المستوى العربي والدولي، وقام وفد منها يضم (كريم بلقاسم، وأحمد فرنسيس، وعبد الحفيظ وصوف) بجولة في عدد من البلاد العربية شملت مصر والعراق والمملكة العربية السعودية ولبنان بهدف الحصول على دعم عاجل لجيش

ورجع احفاد الغزاة الى بلادهم، وتحرر التراب الطهور للجزائر

التحرير الوطني، كما سافر الوفد ذاته (في أوائل أيار- مايو) إلى الصين الشعبية، حيث أجرى محادثات مع (ماوتسي تونغ) و (شو اين لاي) أعلن الرئيس (فرحات عباس) على أثرها: (بأن جبهة التحرير الوطني سوف تتلقى مساعدات من الصين الشعبية والاتحاد السوفييتي، وقال، بأنهم سيدافعون عن أنفسهم بأسلحة صينية بدلا من أن يسمحوا لأسلحة الغرب بابادتهم). عقدت الحكومة المؤقتة مؤتمرا لها في العاشر من حزيران - يونيو- بحضور القادة العسكريين طوال أربعة أيام، أعلنت في نهايتها أنها تطلب تشكيل لجنة مشتركة (جزائرية - فرنسية) للإشراف على الاستفتاء الذي كان (ديغول) قد اقترحه، وأكدت (الحكومة الجزائرية) أن الاعتراف بحق تقرير المصير هو السبيل الوحيد لحل قضية الجزائر، وأن فرنسا برفضها دراسة وسائل وأساليب ممارسة هذا الحق، تتحمل وحدها عقابيل استمرار الحرب الجزائرية. وراح (ديغول) بعد يومين، يكرر في خطاب ألقاه: (الدعوة إلى زعماء الثورة للمجيء إلى باريس، والتفاوض على إنهاء القتال بصورة شريفة، مؤكدا أنه متى توقف القتال، فستتاح للجزائريين فرصة تقرير مصيرهم بأنفسهم، عن طريق الاستفتاء، الذي يضمن هو شخصيا حريته. وأضاف أنه (واثق) من أن الشعب الجزائري سيختار طريق العقل والمنطق، وهو الطريق الذي يقضي بتحويل الجزائر إلى بلد حديث تسوده الأخوة بفضل التعاون بين فرنسا وبين مختلف الفئات). لقيت دعوة (ديغول) الجديدة استجابة مناسبة عند جارتي الجزائر، فأخذت تونس والمغرب في ممارسة ضغط على الحكومة الجزائرية لقبول فكرة الذهاب إلى (باريس) ومفاوضة الجنرال

(ديغول)، وقضت الحكومة الجزائرية زهاء أسبوع وهي تدرس الموقف، وأعلنت في النهاية موافقتها على دعوة (ديغول) وعزمها على إرسال وفد إلى باريس، برئاسة رئيس الحكومة (فرحات عباس) على أن يسبق ذلك، إيفاد مبعوث جزائري الى العاصمة الفرنسية حتى يقوم بمحادثات تمهيدية. وكانت الحكومة الفرنسية قد أعلنت في غضون ذلك أن المحادثات لن تتعدى معالجة قضية وقف القتال، ومصير المقاتلين والأسلحة، أما المحادثات السياسية (فلا يمكن) أن تجري إلا مع ممثلي جميع الفئات الجزائرية، كما أنه من المحال البحث في ترتيبات الاستفتاء إلا بعد وقف القتال. كان هذا الإعلان الفرنسي الجديد بمثابة أول عقبة وضعتها فرنسا على طريق المفاوضات، ولكن الحكومة الجزائرية آثرت، تحت ضغط الرئيس التونسي (الحبيب بورقيبة) وأربع عشرة دولة أفريقية أخرى، تقدمت في هذه الآونة بطلب إلى فرنسا لحل قضية الجزائر، أن تسير في الشوط حتى نهايته فبعثت في (25 حزيران - يونيو -1960) بمبعوثها (أحمد بو منجل) الى فرنسا، حيث بدأت المباحثات في (ميلان) مع المبعوثين الفرنسيين، واستمرت حتى يوم (4 تموز - يوليو) حيث توقفت لأن فرنسا أرادت، كما ذكرت الحكومة الجزائرية، أن تفرض شروطها من جانب واحد لمحادثات وقف إطلاق النار، ورفضت جميع شروط الحكومة الجزائرية. انتقل الصراع عندئذ إلى المجالين الداخلي والدولي، فطلبت كتلة الدول الأفريقية - الآسيوية يوم (30 تموز - يوليو) من الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة، إدراج قضية الجزائر في جدول أعمالها للدورة القادمة - للجمعية العامة - بينما أعلن الرئيس (فرحات عباس) أن جيش التحرير الوطني سيتابع الحرب حتى إحراز النصر

النهائي، وبالفعل، شدد جيش التحرير هجماته على الفرنسيين في النصف الأول من شهر آب - أغسطس -. تقدمت الحكومة الجزائرية بطلب إلى هيئة الأمم المتحدة (يوم 22 آب - أغسطس) تحثها فيه على إجراء استفتاء عام في الجزائر تحت إشرافها، ليقرر الشعب الجزائري مصيره، وكان هذا الطلب بمثابة قطع لكل أمل في التفاهم مع (ديغول). بحثت الجامعة العربية في دورتها التي عقدتها في الثلث الأخير من شهر آب (أغسطس) في بلدة (شتورة - لبنان) قضية الجزائر، واتخذت عدة قرارات منها: حث العرب في جميع أرجاء وطنهم الكبير على التطوع في جيش التحرير، والعمل بمختلف الوسائل الديبلوماسية، لإقناع الدول الأجنبية من أجل الاعتراف بحكومة الجزائر، والاتصال بدول حلف الأطلسي لتحذيرها من النتائج المترتبة على استخدام فرنسا لأسلحة الحلف في حربها ضد الجزائر، وإبادتها للشعب الجزائري بواسطتها. شهد شهر أيلول (سبتمبر) نشاطأ في الأفق الدولي، فقد بعث ملك المغرب الراحل محمد الخامس مذكرة إلى الأمم المتحدة، يطلب تدخلها لحل قضية الجزائر، بينما سافر وفد جزائري (برئاسة الرئيس فرحات عباس) إلى الصين الشعبية، حيث قام بمباحثات هامة مع حكومتها، وتضمن البلاغ المشترك الذي صدر في نهايتها، وعد حكومة الصين ببذل كل مساعدة وتأييد للجزائر في نضالها الشريف العادل، وانتقل الوفد بعد ذلك من (بكين) إلى (موسكو) حيث قام بمحادثات مهمة أخرى مع المسؤولين فيها، أسفرت عن تقرير العون المادي والمعنوي لثورة الجزائر. امتاز مطلع الخريف، بتوسع الحركات الحربية التي كان يقوم

بتنفيذها جيش التحرير الوطني على أرض الجزائر ذاتها، وشمولها لعمليات واسعة قام بها الفدائيون في باريس وفي غيرها من المدن الفرنسية. حاولت الدول الأفريقية، التي استقلت حديثا، والتي عقدت مؤتمرا لها في نهاية شهر تشرين الأول (أكتوبر) التوسط بين فرنسا والجزائر، واختارت بعثة رسمية للقيام بهذه الوساطة التي لم يقدر لها النجاح. أعلن الرئيس ديغول (في يوم 5 تشرين الثاني - نوفمبر - 1960) عن عزمه بإجراء استفتاء عام في فرنسا ذاتها وفي الجزائر لحل القضية الجزائرية، على أساس قيام الجمهورية الجزائرية. وقام في مطلع كانون الأول- ديسمبر- بزيارة للجزائر، قابلها المستوطنون بمظاهرات العنف، التي أسفرت عن اشتباكات عنيفة وقعت في مدينة الجزائر، وغيرها من المدن، بين المستوطنين والجزائريين، سقط فيها الكثيرون من القتلى والجرحى. بدأت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بمناقشة القضية الجزائرية في شهر كانون الأول - ديسمبر -. وفي العشرين منه، اتخذت قرارا قضى برفض قيام الأمم المتحدة باجراء استفتاء في الجزائر، وبإقرار البنود الاخرى من المشروع الأفريقي - الآسيوي التي تنص على اعتبار: (استمرار الحرب في الجزائر خطرا على الأمن والسلام الدوليين، وعلى تأكيد حق الشعب الجزائري في حريته وممارسة سيادته ووحدته)، وقد رحب (كريم بلقاسم) بهذا القرار، واعتبره نصرا دوليا عظيما لقضية الجزائر. ... استهل العام 1961 بإجراء الاستفتاء في فرنسا والجزائر، وفاز

ديغول بتخويل من الشعب الفرنسي له من أجل حل قضية الجزائر؛ وقد اقترع (15,198,714) بكلمة (نعم) مقابل (4,996,507) بكلمة (لا) من مجموع (20,809,029) من المقترعين، أما استفتاء الجزائر فقد وصفته الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بأنه (استفتاء مزور - زائف) نظرا لاستخدام كافة وسائل التزوير لتزييف إرادة الشعب الجزائري، ولكن الشعب الجزائري المجاهد قاطع المهزلة استجابة لنداء حكومته بمقاطعتها. وتتابعت الأحداث متلاحقة، ففي يوم 21 كانون الثاني - يناير - 1961، أصدرت حكومة (ديغول) خمسة مراسيم تعتبر في جوهرها خروجا على مبدأ تقرير المصير، وتهدف إلى تجزئة الجزائر. وتقضي المراسيم المشار اليها بالأمور التالية: 1 - إنشاء مجالس إقليمية في مدن (الجزائر ووهران وقسنطينة) وتتكون من مندوبين عن رؤوساء الإدارات المحلية. 2 - توسيع مسؤوليات الإدارة المحلية. 3 - إنشاء مجالس مركزية لإسداء المشورة إلى المجالس الإقليمية. 4 - تعيين ثلاثة مديرين بالمناطق، بوصفهم ممثلين لمندوب الحكومة الفرنسية. 5 - تخويل مجلس الوزراء الفرنسي، وممثل الحكومة الفرنسية في الجزائر، سلطة نقل بعض الاختصاصات إلى رؤوساء الادارات والمديرين. بينما كان (ديغول) يمضي في سياسته، كانت حكومة الجزائر تمضي بدورها لتنفيذ سياستها الخاصة، مستفيدة من تعاظم هيبتها الدولية. ففي كانون الثانى - يناير - 1961، قرر مجلس تضامن

الشعوب الأفريقية والآسوية بالإجماع مطالبة جميع الشعوب والحكومات المستقلة في أفريقيا وآسيا، بفرض المقاطعة الاقتصادية ضد فرنسا، وبالاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية عرضت (القضية الجزائرية) على مجلس وزراء الخارجية العرب الذي عقد في بغداد يوم (31 كانون الثاني - يناير - 1961) وبعد دراسة الموقف من مختلف نواحيه، اتخذ المؤتمر العربي قرارات على جانب كبير من الأهمية، أكدت وقوف الشعب العربي كله من جديد إلى جانب الجزائر، في صراعها ضد الاستعمار الفرنسي. وفيما يلي بعض ما تضمنه القرار العربي: أولا: قيام الوفود العربية لدى الأمم المتحدة، وبالتعاون مع الدول الأفريقية - الآسيوية والدول الصديقة، بمتابعة تنفيذ القرار الصادر من قبل المنظمة الدولية بشأن الجزائر. ثانيا: تقديم المزيد من العون المالي والمادي ومن السلاح إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية حتى تتمكن من متابعة النضال. ثالثا: إعادة تأكيد الدول العربية لوحدة الجزائر وسلامة أراضيها، وهو قرار يقطع السبيل على أية محاولات تهدف إلى اقتطاع الصحراء من البلاد. رابعا: إعادة النظر في العلاقات السياسية والاقتصادية مع فرنسا، إذا ما استمرت هذه الدولة في حربها ضد شعب الجزائر. خامسا: على الدول العربية التي تقوم في أراضيها قواعد أجنبية، أن تواصل العمل بكافة الوسائل للحيلولة دون استخدام هذه القواعد لتزويد العمليات العسكرية التي تقوم بها فرنسا في الجزائر.

سادسا: تشديد الحملة إزاء الدول والمنظمات العسكرية والسياسية التي تؤيد فرنسا تأيدا سياسيا أو عسكريا أو ماليا. لقد كانت هذه القرارات في حقيقتها وسيلة للضغط لا على فرنسا وحدها، بل وعلى الدول الغربية التي ظلت تساندها، وتجدر الإشارة إلى ما تبع ذلك من تحول على المستوى الدولي. ففي هيئة الأمم المتحدة - الجمعية العامة - قدم اقتراح: (بإدانة أعمال فرنسا في الحرب الجزائرية)، وصحيح أنه لم يقدر لهذا الاقتراح أن يأخذ طريقه على شكل إدانة رسمية حيث لم تتوافر لتأييده أغلبية الثلثين اللازمة لإنجاحه، غير أن نقص عدد الموافقين بصوت واحد أظهر بشكل واضح الاتجاه العام لعدد كبير من أعضاء هيئة الأمم المتحدة نحو دعم قضية الجزائر، وقد كان ذلك تأكيدا لذلك الضغط المعنوي الهائل الذي لم يعد بالإمكان تجاهله. وعقد في (الدار البيضاء) مؤتمر لرؤوساء الدول الأفريقية، وحققت القضية الجزائرية نصرا آخر، حيث أعلن المجتمعون تأييدهم الكامل لجهاد الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. بدأت في نهاية شهر كانون الثاني - يناير - عام 1961، اتصالات غير مباشرة بين الجزائريين والفرنسيين، مثل فيها (بو منجل) الجانب الجزائري، كما مثل فيها (بو مبيدو) الجانب الفرنسي. وكان ذلك بوساطة تونس، حيث سافر الرئيس التونسي (الحبيب بورقيبة) إلى سويسرا، بينما كان وزيره (المصمودي) يتنقل بين جنيف وباريس وتونس، مما مهد للاجتماع الذي عقد بين الرئيسين التونسي والفرنسي (يوم 27 شباط - فبراير - 1961) وأعقبه اجتماعات (الدار البيضاء) و (الرباط) بين الملك (الحسن الثاني - الذي خلف والده بعد وفاته) وبين (الحبيب بورقيبة) و (فرحات عباس)

حيث تم الاتفاق على النقاط التمهيدية لمفاوضات الصلح. أعلنت الحكومة الفرنسية في الأول من آذار - مارس - استعدادها لمفاوضة الجزائريين دون قيود أو شروط. وأثناء ذلك كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تعقد اجتماعاتها المستمرة في تونس، وطار (كريم بلقاسم) نائب رئيسها إلى القاهرة ودمشق، حيث اجتمع إلى الرئيس (جمال عبد الناصر)، ثم عاد إلى تونس، حيث واصلت الحكومة اجتماعاتها لتعلن في يوم (17 - أذار - مارس) استعدادها للمفاوضة مع فرنسا دون شروط. وأخذت الاستعدادت طريقها لإجراء المفاوضات في (أيفيان) على الحدود الفرنسية - السويسرية، وكان من المقرر البدء بهذه المفاوضات - وفقا لما أعلنه الجانب الفرنسي - في يوم (7 نيسان - إبريل - 1961). وهنا حاول المستوطنون في الجزائر ومن يؤيدهم من الرجعيين الفرنسيين إحباط هذه المفاوضات قبل وقوعها؛ فقاموا بسلسلة من الأعمال الارهابية - في فرنسا والجزائر - توجوها بقتل عمدة (إيفيان). لم تبدأ المفاوضات في موعدها كما كان مقررا، وتقع المسؤولية الكاملة هنا على الجانب الفرنسي، ويعود السبب في ذلك إلى ما أعلنه وزير شؤون الجزائر (المسيو جوكس): (من أن الحكومة الفرنسية تعتزم إجراء المباحثات مع الاتجاهات الأخرى). وكان هذا الإعلان بمثابة القنبلة الموقوته لتفجير الموقف، إذ كان من المعروف أن فرنسا تقصد بذلك التفاومض مع (الحركة الوطنية الجزائرية التي يمثلها مصالي الحاج) والتي فقدت رصيدها الجماهيري بسبب تخلفها عن ركب الثورة، الأمر الذي أدى إلى اتهامها بالتعاون مع الفرنسيين والتواطؤ معهم على حرية الجزائر

واستقلالها. وعلى إثر ذلك، أعلن وزير الاستعلامات الجزائري (محمد يزيد) يوم (5 نيسان - إبريل) أنه من المتعذر على حكومة الجزائر إرسال وفدها إلى المفاوضات، ما لم تبدل الحكومة الفرنسية موقفها بعد تصريح وزيرها (المسيو جوكس) وجرت محاولات عديدة، توسطت فيها أكثر من دولة، وأكثر من جهة، لتذليل هذه العقبة، وكان في مقدمتها المحاولة التي قام بها الرئيس (بورقيبة) لإقناع (مصالي الحاج) بالانسحاب من الحياة السياسية ولكن جميع هذه الجهود لم تؤد إلى نتيجة إزاء إصرار الحكومة الجزائرية على التمسك بموقفها العادل والمشروع. عاد الرئيس (ديغول) فألقى خطابا يوم (11 نيسان - ابريل -1961) أعلن فيه: (بأن فرنسا لن تتمسك بجزائر لا تريد الارتباط بها، وأكد أن فرنسا ستجري تبادلا في السكان إذا اختار الجزائريون عدم الارتباط، فبعد الأربعمائة ألف جزائري من بلادها مقابل سحب مليون ومائة ألف فرنسي من الجزائر). وكان هذا الخطاب، بمثابة عود الثقاب الذي أشعل فتيل حركات التمرد، التي طالما مارسها المستوطنون في كل مرة شعروا فيها بالخطر يتهدد وجودهم على أرض الجزائر، وزاد من مرارتهم شعورهم بأن الرأي العام في فرنسا أصبح يؤيد تأييدا تاما حل (قضية الجزائر)، وأن هذا الرأي المعام هو الذي يمارس الضغط على ديغول لإنهائها بأي ثمن، وعن أي طريق، وأدركوا أن (ديغول) سينصاع في النهاية لهذا الضغظ الداخلي من شعبه، وأن محاولاته لا تعدو أن تكون محاولات لكسب أكثر ما يمكن كسبه من الجزائر، وتحقيق أكبر قدر من المغانم والامتيازات. وأدرك المستوطنون ومن يؤيدهم من الرجعيين أن عليهم القيام بالمحاولة الأخيرة لوقف هذا التيار،

وفرض إرادتهم عن طريق التمرد والثورة ضد حكومة (ديغول) للاحتفاظ (بفرنسية الجزائر التي لا يرضون عنها بديلا). وتمكن المستوطنون عن طريق جنرالاتهم الأربعة: (شال) و (سالان) و (جوهر) و (زيلر) من إعلان ثورتهم يوم (22 نيسان - ابريل - 1961)، وسرعان ما نشروا سيطرتهم على عدد من المدن الجزائرية وأخذوا في تهديد فرسا ذاتها بالغزو، وأعلنوا أن الهدف الأول لحركتهم هو: (المحافظة على الجزائر فرنسية، وإنهاء الحرب فيها بالقوة). ووقفت فرنسا على أبواب الحرب الأهلية، ولكن (ديغول) صمد للفتنة، وجابه زعماء التمرد بحزم، واتخذ الإجراءات الضرورية للقضاء على العصيان، مستفيدا في ذلك من تأييد معظم الشعب الفرنسي لاجراءاته، ودعم قسم كبير من الجيش الفرنسي الموجود في الجزائر ذاتها وفي فرنسا وخارجها. وهكذا لم تمض إلا أيام ثلاثة، حتى انهارت حركة التمرد في الجزائر، واستسلم قائدها الأول (شال)، وفر القادة الآخرون، وخرج (ديغول) من الأزمة وهو أقوى مما كان، وأشد اقتناعا من ذي قبل بضرورة الوصول إلى تسوية للمشكلة الجزائرية؛ إذ لم تعد المسألة في نظره تتعلق بالجزائر وحدها، وانما أصبحت أبعد مدى من هذا بكثير، إنها تتضمن تهديدا له شخصيا، وللسلطة في فرنسا بوجه عام. بدأت المفاوضات في (إيفيان) في شهر أيار - مايو - 1961، وبعد جلسات عديدة متتالية، لم يتمكن الطرفان من الاتفاق على أي من النقاط الأساسية، فتوقفت، ثم اسؤتفت من جديد يوم (20 تموز - يوليو) لتتوقف بعد أسبوع بناء على طلب الوفد الجزائري، ومنذ ذلك الحين لم تجر أية مفاوضات رسمية بين الطرفين خلال بقية العام (1961).

جدت تطورات في هذه الاثناء، فحل (يوسف بن خده) محل (فرحات عباس) في رئاسة الحكومة المؤقتة، وكان أشد تصلبا من سلفه. ولما انعقد مؤتمر الدول غير المنحازة في (بلغراد) عاصمة (يوغوسلافيا) ألقى (بن خده) خطابا حدد فيه سياسة الجزائر المستقلة بأنها ستقوم على أساس (عدم الانحياز)، كما أعلن التضامن مع تونس في نزاعها مع فرنسا حول (مشكلة بنزرت)، وفي الوقت ذاته، شكل ظهور منظمة (الجيش الفرنسي السرية) خطرا على نظام الحكم في فرنسا ذاته، بسبب اتجاهاتها الفاشية. اقترح رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (في 24 تشرين الأول - أكتوبر-1961) إجراء المفاوضات على مرحلتين؛ أولاهما الوصول من ناحية المبدأ إلى اتفاق حول موعد محدد للاستقلال، والأخرى تحديد مستقبل العلاقات مع فرنسا، وكذلك الضمانات الواجب توافرها للمستوطنين الفرنسيين، وكان يوسف ابن خده) يصر على أمرين أساسين: أولا: أن تعترف فرنسا بوحدة الجزائر، ومعنى هذا هو الاعتراف بالسيادة الجزائرية على منطقة الصحراء. ثانيا: تمثيل الجزائريين في المجلس التنفيذي الذي يتولى شؤون الجزائر، خلال الفترة الانتقالية السابقة لاجراء الاستفتاء. ... دارت مباحثات سرية في (لي - روس) على مقربة من الحدود الفرنسية - السويسرية، ثم بدأت المفاوضات علنا في (إيفيان) يوم (7 - آذار- مارس- 1962) وتركزت المباحثات على الفترة الانتقالية، وتشكيل المجلس التنفيذي وسلطاته، وتكوين قوة الشرطة - البوليس - التي ستتولى حفظ الأمن والنظام، وتحديد

مراحل جلاء القوات الفرنسية، والعفو عن المعتقلين السياسيين، وتبادل الأسرى لدى الجانبين. وتم التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار يوم 18 آذار - مارس، وأصبح نافذ المفعول اعتبارا من اليوم التالي، كما نشرت نصوص الاتفاقيات الاخرى، وشكل بعد ذلك المجلس التنفيذي وكان عليه أن يتولى إدارة شؤون الجزائر عن طريق الأجهزة الإدارية العادية، باستثناء ما احتفظت به فرنسا وكان من اختصاص المندوب السامي الفرنسي، أما الوظيفة الثانية التي تضطلع بها هذه الهيئة فهي اتخاذ الاستعدادات اللازمة لإجراء الاستفتاء. جرى الاستفتاء في الجزائر في اليوم الأول من تموز (يوليو) 1962، وكان السؤال الموجه إلى المقترعين: هل توافق على استقلال الجزائر، وتعاونها في إطار اتفاقيات ايفيان؟. وجاءت النتيجة إيجابية بنسبة 97،3 في المائة، وفي يوم 3 تموز - يوليو - أعلن الجنرال (ديغول) ما يلي: (إن رئيس الجمهورية الفرنسية يعلن أن فرنسا تعترف رسميا باستقلال الجزائر). وهكذا استعاد الشعب الجزائري حريته، ودخل في عداد الدول المستقلة، وتحررت فرنسا من أعباء الاستعمار التي أرهقت كاهلها، وكلفتها خسائر فادحة في الأرواح والأموال وفي السمعة الدولية. ... لقد تعرضت الاتفاقية (اتفاقية ايفيان) لكثير من النقد والتجريح، بسبب التنازلات الكثيرة التي قدمتها الجزائر لفرنسا، مثل: تأجير قاعدة (المرسى الكبير) لفرنسا لمدة (15) سنة قابلة للتجديد، فضلا عن احتفاظ فرنسا ببعض المواقع في الصحراء لمدة خمس سنوات، وأهمها (كولومب بيشار) و (رقان)، وكذلك

إعطاء فرنسا امتيازات فيما يتعلق (بشركات استغلال الثروة المعدنية والبترولية) وتعويض المستوطنين مقابل (تنازلهم) عن الأراضي التي كانوا يمتلكونها ومساحتها ثلاثة ملايين هكتار، ووضع الجزائر من جديد تحت هيمنة الفكر الفرنسي - من خلال الاتفاقات الثقافية - الخ ... هنا لا بد من القول أن فرنسا التي أقامت فوق أرض الجزائر طوال (130) عاما، قد تركت رواسب عميقة (اجتماعية وثقافية وفكرية) فكان من الصعب على قادة الثورة التفكير في اجتثات هذه الرواسب دفعة واحدة. وكانت جزائر الثورة مثخنة بالجراح، فكانت في حاجة لبلوغ أهدافها على مراحل، وعلى هذا فإن اتفاقيات إيفيان لم تكن أكثر من مرحلة لبلوغ الاستقلال؛ وذلك لإعادة بناء الجزائر وتضميد جراحها، وتصفية الرواسب حتى تستعيد الجزائر أصالتها ويعود إليها وجهها العربي - الإسلامي الأصيل. لقد صمتت الأسلحة، وتوقف الصراع المسلح، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع الشاق المرير ضد رواسب الاستعمار، وضد مخططاته العدوانية التي تأخذ أشكالا متطورة تحقق أهداف الاستعمار ولكن من غير الاحتكام إلى السلاح، وعن طريق رعاية (الجذور) التي خلفها الاستعمار ورعاها حتى تنبت باستمرار الأشواك الدامية، تدمي بها أقدام الاحرار وتعيقهم عن تحقيق أهدافهم في بناء الجزائر العربية الاسلامية التي لا يمكن لها أن تستعيد أصالتها إلا بالجهد المشترك مع جاراتها العربيات (المغرب وتونس) وإلا بإعادة تقويم عملية البناء باستمرار حتى تستعيد الجزائر أصالتها العربية والإسلامية.

الغزاة يغادرون الجزائر

الفهرس

الفهرس

_ الموضوع ........................................... الصفحة

_ 2 - على المسرح الدولي .............................. 133 أ - قضية الصحراء ................................... 144 ب - قضية الأقلية الأوروبية .......................... 160 ج - قضية (تقسيم الجزائر) ........................... 167 3 - الاستفتاء العملي والبيعة الشعبية .................. 172 4 - الحرب الجزائرية تدمر فرنسا ...................... 181 5 - ديكتاتورية ديغول في الجمهورية الخامسة .......... 189 6 - التحولات الحاسمة (التمرد في الجزائر) ............ 198 7 - وأخيرا، انتصرت الثورة ........................... 206

15 - جبهة التحرير الوطني الجزائري

جبهة التحرير الوطني الجزائري

بسم الله الرحمن الرحيم

جبهة التحرير الوطني الجزائري بسام العسلي دار النفائس

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى: 1404 هـ - 1984 م الطبعة الثانية: 1411 هـ - 1990 م

الإهداء

الإهداء إلى الشعب العظيم، شعبنا العربي المسلم، الذي لا زال متمسكا بأصالته في الجزائر المجاهدة وفي دنيا العرب المسلمين، أهدي هذه التجربة التاريخية بسام

المقدمة

المقدمة صراع الحياة هو حوار بين الإرادات المتصارعة، ما كان من هذا الصراع فرديا أو جماعيا، وما كان منه هادئا صامتا يحمل عادة اسم (الصراع السياسي) أو عنيفا صاخبا يحمل اسم (الصراع المسلح) ويمتزج عادة الصراع السياسي بالصراع المسلح عند اللجوء إلى العنف (الحرب) مما يزيد من صعوبة إدارة الحوار، بسبب ضرورة التنسيق بين الجهد المبذول على الصعيد السياسي، وبين الجهد الموجه على مستوى الصراع المسلح. وتتزايد صعوبة إدارة الحوار أيضا عند وجود تفاوت في مستويات الصراع، كما هو شأن الحروب الثورية في مواجهتها لقوى القمع - أو القهر - الاستعماري؛ إذ تكون وسائط الحروب الثورية محدودة، بينما تتوافر للقوى الاستعمارية قوى ضخمة ووسائل رهيبة، لا في ميادين الصراع المسلح فحسب، وإنما أيضا في آفاق الصراع السياسي، هذا بالإضافة إلى عامل (الهيبة) و (المكانة الدولية) التي ترافق القوة والقدرة، ولكن قوى الثورة تتمتع بالمقابل، بامتيازات خاصة، أولها: توافر رصيد شعبي هائل يمثله الخزان العظيم لقوى الشعب الثائر.

وثانيها: توافر مراكز عالمية مضادة يمكن لها دعم قوى الثورة والتعاطف معها، والوصول أحيانا إلى مشاركتها فى صراعها ماديا ومعنويا، مما يقدم للثورة قوة دفع جبارة (زخم). وتتمثل إدارة الصراع - بالنسبة للقوى الثورية - بتفجير الصراع وتطويره، ودعمه، واكتساب الأصدقاء، وإضعاف جبهة الأعداء، والعمل باستمرار لتنمية العوامل المتشابكة في محصلة الصراع على حساب ما يتوافر للعدو من القوى والوسائط، وبكلمة أخرى: زيادة القدرة الذاتية على أنقاض ما يتم تفتيته من قدرات العدو وإمكاناته. تلك هي بدهيات معروفة لكل من يتصدى لإدارة الحوار، غير أن لكل ثورة خصوصيها، وبقدر ما تتشابه الثورات في طرائقها وظواهرها، وبقدر ما تتماثل قوى القمع في أساليبها ومخططاتها، إلا أن هناك خلافا وتباينا قد يزيد في نوعه على التشابه والتماثل، وهنا يأتي الدور الريادي للقيادة الثورية التاريخية التي تستطيع التمييز بين ما هو مطلوب، وما هو ممكن. لقد اضطلعت (جبهة التحرير الوطني) بإدارة الصراع السلمي والمسلح، وأعطت لهذا الصراع خصوصيته من خلال الأخذ بمجموعة من المعطيات، لعل أبرزها: 1 - تحديد الهدف، وتعيين السبل المؤدية له، واختيار الوسائل الضرورية، كل ذلك بدقة تامة ووضوح كامل، مع ترك هامش للمرونة يسمح بالتحرك السياسي ضمن حدود الهدف ومن غير تجاوز له. 2 - عدم إهمال أهداف العدو ووسائله المتميزة عادة بالخداع والغدر وكل (الأخلاق) التي عرف بها الاستعمار.

3 - الإفادة من (الجهد العسكري) لدعم (الهدف السياسي) واستثمار كل (جهد سياسي) لدعم (العمل العسكري)، وضمان التوازن التام بين طرفي معادلة الصراع (السياسي - المسلح). لقد كانت جبهة التحرير الوطني تعرف يقينا، ومنذ البداية، أن باستطاعتها الاعتماد على ما يحتويه خزان (الشعب العربي الأبي في الجزائر) من الطاقات الثورية المتفجرة. وكانت تعرف يقينا أن باستطاعتها الاعتماد على الدعم العربي الإسلامي، سواء في المغرب أو في المشرق، غير أنها لم تكن تعرف يقينا أن التحالف غير المقدس للقوى الاستعمارية سيتألب عليها بمثل تلك الضراوة، وبمثل تلك الوحشية، ولم تكن تعرف يقينا أنها ستسير على درب الصراع الشاق طوال سبع سنوات ونيف. وهنا يبرز من جديد دور الشعب العظيم في إفراز قيادات متتالية تتمتع بدرجة عالية من الكفاءة القيادية، بقدر ما يبرز أيضا دور تلك القيادات الريادي في الاضطلاع بمسؤوليات القيادة وواجباتها. إنها علاقة جدلية ثابتة، ثورة عظمى تضطلع بقيادتها ريادة تاريخية عظيمة، وقيادة راشدة عظمى تقود ثورة تاريخية رائدة، وكان أروع ما في الثورة ذلك التكامل، وذلك الانسجام بين الثورة وقيادتها. وبالتعرض لدور القيادة التاريخية، في هذا الكتاب، تصل هذه المجموعة الوجيزة في (جهاد شعب الجزائر) إلى نهايتها. وتبقى قصة الثورة الجزائرية أضخم من هذا الوجيز الذي سبق عرضه، فمجموعة كتب (جهاد شعب الجزائر) ستبقى مجرد خطوط عامة في (ملحمة الشعب العظيم). ومع وصول هذا الوجيز إلى نهايته، تظهر هناك نقطتان: الأولى

تتعلق بمضمون هذا العدد والثانية تتعلق بدور القيادة التاريخية في (بناء الثورة) لمرحلة ما بعد الاستقلال. أما بالنسبة للنقطة الأولى، فإن دور (جبهة التحرير الوطني) يبرز من خلال كافة الكتب التي سبق عرضها، وإن التركيز هنا يهدف إلى إبراز وتأكيد بعض الأسس التي انتهجتها الثورة، والمبادىء التي سارت عليها، ونظرا لوفرة المادة فقد كان لا بد من التوقف عند أبرز الأعمال وضوحا، ولو أن بقية الأعمال لا تقل عما تم عرضه قيمة وأهمية. أما النقطة الثانية فهي تلك التي سبق عرضها في مقدمة الأعداد الأولى (أعني سرقة الثورات). لقد أدركت القيادة التاريخية أنها بحكم ظروفها، ومع كل تقدم لها خلال سنوات الصراع، ستضطر إلى إفساح المجال أمام المتسللين و (الديماغوجيين) و (الطفيليين) سارقي الثورات ومنتحلي الانتصارات، ومن هنا كان إصرارها على الإمساك بالقيادة، وعدم تسليمها الا (للثوار المجاهدين) - اقرأ (جبهة التحرير الوطني - تنظيم وادارة)، ولكن هل استطاع هذا الإجراء تشكيل سد ضد الانحرافات؟. لقد قامت الثورة على أرضية عربية - إسلامية، وغذتها دماء المجاهدين، ودعمتها تضحياتهم، حتى إذا اشتد ساعد الثورة، وقسا عودها، وباتت بواكير ثمارها اليانعة بالظهور أسرع (الديماعرجيون) للقطاف، من ثمار سيول الدماء الزكية، وتضحيات الشعب الصامد وآلامه ومعاناته. ومثل هؤلاء موجودون في كل شعب، غير أن الثورة العظمى لا بد وأن تبقى منارا في العالم العربي - الإسلامي، حتى تكون وفية

لتضحية شهدائها، وحتى تعود شمس العرب المسلمين ساطعة في الغرب لتضيء الشرق. لقد مضى ربع قرن على الاستقلال، وما من أحد يستطيع تقويم ما أنجزته ثورة الجزائر لشعبها بمثل ما تستطيعه القيادة التاريخية التي لا زالت تتربع على عرش السلطة. ولئن حدثت بعض الانحرافات خلال هذه الفترة، فكيف سينتهي إليه أمر الجزائر المجاهدة عندما ينتهي دور (القيادة التاريخية) بتأثير الضربات المستمرة من أعداء الخارج، وأعوان الداخل؟. لقد أكدت مسيرة الثورة، أن الاستعمار الفرنسي لم يخسر كل أسلحته. وأكدت نهاية الثورة، أن الدول العظمى ستبقى مستمرة في تطوير عمليات نهب الشعوب واستنزافها وإضعافها. وبرهنت مرحلة ما بعد الثورة أن الصراع المسلح قد أفسح المجال أمام الصراع السياسي بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فالصراع مستمر إذن. وإرادة الحوار في الصراع باقية. وهنا تبرز أهمية العودة لاعتماد الأسس التي أكدت التجربة التاريخية عامة، وتجربة الجزائر المجاهدة بصورة خاصة، قوتها وأهميتها في كل صراع. إنها أسس (الأصالة الذاتية).

الأصالة التي تعتمد على خزان الشعب العربي - المسلم العظيم. والأصالة التي تعتمد على وحدة الصف ووحدة الهدف في المغرب العربي - الإسلامي. والأصالة التي تعتمد على (الشخصة المميزة للإنسان العربي المسلم). وفي البحث عن هذه الأصالة، تعزيز للانتصارات، ووفاء لأرواح الشهداء، والتزام بالأمانة التاريخية التي اضطلع بها المجاهدون الصابرون، والذين لا زالوا يرسمون للجزائر مستقبل أجيالها. إن أبناء المشرق الإسلامي يتطلعون، وهم لا زالوا تحت حكم (الصليبية الجديدة والمتطورة) إلى إخوانهم من أبناء المغرب العربي - الإسلامي، ليجدوا فيهم العون من أجل المحافظة على ما بقي لهم من أصالتهم. ومن أوفى بحمل هذا الأمل من أبناء (الجزائر المجاهدة) خاصة والمغرب العربي - الإسلامي عامة. فهل ستعود شمس العرب المسلمين لتشرق من الغرب؟. بسام العسلي

الفصل الأول

الفصل الأول 1 - جبهة التحرير الوطني؟ 2 - مؤتمر وادي الصومام وبعض مقرراته. 3 - تطور جبهة التحرير الوطني (سنة 1957). آ - تصريح (لجنة التنسيق والتنفيذ). ب - نداء من (جبهة التحرير الوطني). 4 - يوم الجزائر - والتضامن مع الثورة. أ - كلمة الرئيس شكري القوتلي. ب - كلمة الأمين العام لجامعة الدول العربية. ج - كلمة كمال الدين حسين. د - كلمة المحجوب بن الصديق. د - كلمة عبد الحميد السراج. و- رابطة المغرب العربي في دمشق. 5 - الصراع على حدود الجزائر.

جبهة التحرير الوطني

1 - جبهة التحرير الوطني عاشت جزائر المجاهدين حياة الثورة الدائمة، وقد أخذت هذه الثورة أشكالها المختلفة وفقا للظروف المرحلية التي كانت تتفاعل فيها، حتى إذا ما جاءت سنة 1954، كانت حالة الهياج قد وصلت ذروتها، وكانت حالة الهياج هذه تجد تعبيرا لها في الصراع على (البرامج الانتخابية) و (قوائم الانتخابات)، وكان تزييف الانتخابات يحبط الآمال في إحراز انتصارات حقيقية لمصلحة الشعب المجاهد، وفي الوقت ذاته، فإن نجاح أنصار الفرنسيين في انتخابات (الجمعية الجزائرية) - جماعة أو (بني وي وي) و (نعم نعم) - ثم سيطرة المستوطنين على هذه الجمعية كانتا تضاعفان من مشاعر الإحباط، الأمر الذي كان يعزز من مكانة الوطنيين الحقيقيين، والذين كانوا يعملون في السر من أجل معالجة نقاط ضعفهم، ومناقشة تطورات الموقف، وأخذت ثقة الوطنيين في أي تطور سلمي تختفي وتضمحل لتفسح المجال أمام أفكار القوة والعنف، وكان خزان الشعب الجزائري العظيم يقف وراء عملية الجدل الفكري، ويظهر استعداده للانتقال من مجال الجدل والنقاش الى ميدان الصراع المسلح.

كانت الجزائر خلال تلك السنة (1954) تعيش أزمة اقتصادية خانقة، حتى بات الشعب على حافة المجاعة، وكان الاتصال اليومي والمستمر بين مسلمي الجزائر، وبين الطبقات الثرية من المستوطنين - أصحاب الامتيازات - تزيد من شعور الغضب لدى جماهير المسلمين، وتذكرها بأسباب بؤسها وشقائها، وتثير فيها كل مساوىء التمييز العرقي - العنصري -، وجاءت الهزة الأرضية في (الأصنام - أو أورليانز فيل كما كان يسميها الفرنسيون) في صيف سنة 1954، لتبرز بشكل مثير أسوأ مظاهر التمييز العنصري، وبات الشعب الجزائري كله، من فلاحية إلى عماله وتجاره، ومن فقرائه إلى أثريائه، وهو على استعداد للقيام بأي عمل للتعبير عن غضبه الذي تجاوز حدود القدرة على الاحتمال. كان الزعماء في الميدان الدولي يتابعون مراقبة الأوضاع بدقة، وأخذ الشعب يسمع بأخبار الشعوب الجديدة التي استقلت حديثا، وظهرت الى عالم الوجود بعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من التفاوت بينها وبين القوى التي واجهتها، وأثبتت أحداث تونس (في العام 1952) أن القوة، حتى ولو مارستها بضع مئات من مجاهدي الجبال، قد تؤدي الى نتائج عظيمة. والى الغرب، في مراكش أو المغرب، تابع المجاهدون استخدام العنف للتعبير عن غضبهم ضد الاستعمار الفرنسي الذي أبعد مليكهم (مولاي السلطان محمد الخامس) ونفيه من البلاد، وظهر ان الوطن العربي كله يتأجج في حالة ثورة واشتعال، وهكذا لم يعد توجيه هذه التيارات الجزائرية العميقة باتجاه الثورة في حاجة الى أي شيء آخر غير القادة والأسلحة. وكان رد فعل

الزعيم (مصالي الحاج) تجاه هذه الأوضاع أنه حاول تركيز جميع الصلاحيات في شخصه (*) على اعتبار أنه الشخص الوحيد الذي يثق هو فيه، وقد حاول أعضاء اللجنة المركزية الوصول الى الوحدة، عن طريق خلق انشقاق حزبي جديد، وكان ثمة آخرون يملكون (روح العزيمة) وهم خلافا للمعتدلين، غير محدودين في وسائلهم التي يلجؤون اليها لقلب الموقف؛ وقد شعروا بأن زعاماتهم التقليدية قد تخلت عنهم وخيبت آمالهم، واعتقدوا انهم قد وصلوا الى (اللحظة المؤاتية) للانتقال الى العمل المباشر. قام تسعة من الشبان في مطلع سنة (1954) بتأليف (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) وهم: حسين آية أحمد، وأحمد بن بللا، ومحمد العربي بن مهيدي، ومحمد بوضياف، ومصطفى ابن بو العيد، ورابح بيطاط، ومراد ديدوش، ومحمد خيضر وكريم بلقاسم، وتولى كريم تمثيل (القبائل) وبن بو العيد (الأوراس) وبن مهيدي (وهران) وبيطاط (الجزائر - العاصمة) وديدوش (شمال قسنطينة) بينما تولى بوضياف، وهو منظم ماهر، أعمال الارتباط بالنسبة الى خارج الجزائر. كان معظم هؤلاء الشباب من مناضلي (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) وينتمون الى الطبقات الوسطى أو الفقيرة في المجتمع الجزائري، وسبقت لهم خدمة فعلية في الجيش الجزائري والمنظمة الخاصة، كما سبق لهم أن قضوا فترات في السجون الفرنسية، وكان منظمو اللجنة الثورية ينحون باللائمة

_ (*) يمكن هنا التذكير بما تضمنه الكتاب الثامن من هذه المجموعة (الصراع السياسي على نهج الثورة الجزائرية) من أجل دراسة الموقف العام لمرحلة ما قبل الثورة.

على كل من أنصار (مصالي) وأنصار (اللجنة المركزية) على الخلافات الداخلية التي مزقت (حركة انتصار الحريات)، وقد اعتقدوا ان البحث عن الوحدة يجب ان يتم في القاعدة الحزبية لا بين قادة الحزب وزعمائه، وأن على كل مجموعة من المناضلين ان تنشق على كل من الفئتين وان تبحث بنفسها ازمة الحزب. ورفضت (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) من ناحيتها حجج كل من الفريقين، ولكنها كانت أقرب فى الاتجاه السياسي إلى جماعة (اللجنة المركزية) إذ رأت أن الوحدة ضرورة للنجاح، وإن اختلفت معها في موضوع التوقيت الضروري اللازم، واعتقدت أن الوحدة ليست شرطا مسبقا للأخذ بزمام المبادرة، بل رأت على النقيض أن العمل هو خير سبيل للتقريب بين الجزائريين الذين يحبون وطنهم. وتابع أعضاء (اللجنة الثورية) عند الاجتماعات السرية بين آذار (مارس) وتشرين الأول (أكتوبر) 1954، واجتمع كريم بلقاسم ومصطفى بن بو العيد في (الجزائر) وهما يمثلان قاعدتي الثورة الأساسيتين (القبائل والأوراس) واتفقا على حمل السلاح ضد الحكم الاستعماري وسرعان ما انضم إليهما الزعماء الأربعة الآخرون وحددوا المسؤوليات والأهداف، واتخذوا في اجتماعهم التاريخي الذي عقدوه في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) قرارهم الخطير بالبدء بالثورة في ليل (عيد جميع القديسين) أي في الساعة الواحدة من صباح الأول من تشرين الثاني (نوفمبر)، واجتمع في غضون ذلك زعماء لجنة الثورة الموجودون في الخارج، في مراكز الاصطياف في سويسرا، لتنظيم عمليات شراء الأسلحة، وحشد تأييد الوطنيين الآخرين، وانضم عدد من أنصار (اللجنة المركزية) الى الحركة، لكن جميع المحاولات التي بذلت لإقناع (مصالي

الحاج) والمقربين من أنصاره بالعودة إلى (الجماعة) باءت بالفشل. وقعت نحوا من ثلاثين هجمة متزامنة في جميع أنحاء الجزائر، على مختلف الأهداف العسكرية والبوليسية في صباح الأول من تشرين الثانى (نوفمبر) 1954، وقد اشترك فى هذا الهجوم نحوا من ألفين الى ثلاثة آلاف مجاهد، سلاحهم على الأغلب بنادق الصيد والأسلحة المحلية الأخرى، وقد تمكنت مفارز الهجوم الصغيرة من الانسحاب بعد اداء المهام التي عهد اليها بأدائها، وأقام اعصاء اللجنة الثورية في منطقة جبال الأوراس قواعد لعمليات مستمرة، يشنونها من المعاقل الجبلية التي لا يستطيع الفرنسيون الوصول اليها. وهكذا بدأت الثورة، أو الأزمة الطويلة التي (حولت التنافر الى وحدة). تحولت (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) عشية يوم الثورة الى (جبهة التحرير الوطني) من الناحية السياسة، والى (جيش التحرير الوطني) من الناحية العسكرية. نظم في الوقت ذاته نسق قيادي ثان، ضم فيمن ضمهم (عمارنه وعبانه وناصر) عن القبائل، و (زيروت وبن طوبال) في شمال قسنطينة، و (شيهاني ونواوره) في الأوراس و (بوصوف) في وهران، و (سويداني ودحلب وبن خده) في الجزائر العاصمة؛ وكانت القيادة تتألف على الغالب من عسكريين يتمتعون بصلاحيات واسعة لاتخاذ القرارات المحلية، ومن بعض الجزائريين الذين يعيشون في خارج البلاد والذين تنحصر مهمتهم بالدرجة الأولى في الحصول على الاسلحة والمعدات للمجاهدين. وكانت مهمة (البعثة الخارجية)، كما اسميت فيما بعد،

الشعب الجزائري كله في السجن الاستعماري الكبير

مهمة للغاية؛ وهي تنظيم طرق الإمدادات عبر أراضي تونس والمغرب (مراكش) لفتح جبهات حربية جديدة في البلاد. وظل هؤلاء الشبان يقودون (ثورة الجزائر) حتى شهر آب (اغسطس) عام (1956)، وانضم اليهم في غضون هذه المدة عدد من الأفراد المهمين من اعضاء اللجنة المركزية لحركة (انتصار الحريات الديموقراطية) ومن (الاتحاد الديموقراطي) لأنصار البيان - فرحات عباس) و (جماعة العلماء - أحمد توفيق المدني) واخد اكثرهم يعمل في (البعثة الخارجية) التي أخدت توسع نشاطها الدبلوماسي. يظهر من ذلك ان هناك ثمة تداخل كبير بين القيادات السياسية والعسكرية القائمة في القمة من (جبهة التحرير الوطني) و (جيش التحرير الوطني)؛ ولقد ضمت جبهة التحرير الأعضاء الرئيسيين في هذه القيادات ضمن هيئتيها الحاكمتين، أما على المستويات المنخفضة، فعلى الرغم من الترابط القائم بين جهاز الجبهة وجهاز الجيش، فإن الجهازين منفصلين إلى حد ما؛ فعلى جميع مستويات الجيش، يرتبط المفوضون السياسيون أو المثقفون بالقيادة العسكرية، وهم يحملون نفس الرتب التي يحملها إخوانهم العسكريون، ويتولى المفضون السياسيون مهمة إعداد القواعد للعمليات العسكرية، عن طريق الدعاية والنشاط الإعلامي، وكذلك إقامة الإدارات المحلية للعناية بالشؤون غير العسكرية أثناء إقامة الجيش في منطقة من المناطق وبعدها، وتقوم الجبهة بمجهود أساسي في هذا الميدان لإقامة دولة داخل دولة، تتولى بالنسبة إلى الجزائريين سرا وعلانية، في المناطق المحررة، جميع الأعمال التي كانت تقوم بها الإدارة الفرنسية حتى الثورة، فيعمل المفوضون

السياسيون في كل قرية على تنظيم (مجالس الشعب). وكما رفضت الجبهة فكرة (القيادة الفردية) على مستوى القيادة العليا، فكذلك فعلت على مستوى القاعدة حيث نظمت القيادة على أساس جماعي، والمهمة الرئيسية لهذه القيادة هي تنظيم العلاقات القوية بين قوات الثورة وجمهور الشعب، وتعبئة المنطقة للحرب، وتأمين جميع المتطلبات الأساسية للمواطنين. وتقوم (المجالس الشعبية) على أساس الانتخاب، ويرأس كل مجلس منها رئيس مسؤول عن القضايا المدنية، وعن نقل الشكاوى المحلية إلى السلطات العليا في كل الأحوال، وتتخذ القرارات بصورة مشتركة داخل (مجالس الشعب)، وهناك عضو ثان مسؤول عن القضايا المالية، مثل جمع الضرائب على أساس (القدرة على الدفع) واستخدام هذه الأموال بالطريقة الصحيحة، وثمة موظف ثالث مسؤول عن شؤون الدعاية والإعلام، وهو يقوم بتوزيع أنباء جبهة التحرير وجيشها، ويعمل على دعم الروح المعنوية، ويكتشف الخونة ويبلغ عنهم، ويؤمن توزيع البريد والاتصالات السريعة، ويتولى أيضا شؤون التعليم الابتدائي (الأولي)؛ وهذا الموظف هو المساعد المحلي للمفوض السياسي في المنطقة كلها، وهناك موظف رابع مسؤول عن شؤون التموين والمواد الغذائية، وخامس عن قضايا الشرطة والأمن العام، ولديه الصلاحيات لاستدعاء شرطة الجيش عند الضرورة، ويتولى بعض الأعمال الأخرى، مثل: توزيع المياه في القرية، وتنظيم الملاجىء وأمور الدفاع السلبي ضد السلطات الفرنسية؛ ويقوم هذا الموظف بإبلاغ قيادة الجبهة فورا عن كل ما يحدث، كما يعمل على تأمين إخفاء مجاهدي جيش التحرير في القرى إذا ما لزم الأمر، وينظم الاجتماعات التي تعقد في المنطقة

لقد عملت قيادة (جبهة التحرير الوطني) على تطوير تنظيمها بما يتناسب مع تطور عملها، غير أن التطور الحاسم لم يأخذ أبعاده الحقيقية إلا من خلال (مؤتمر الصومام) الذي عقد في 20 - آب - أغسطس - 1956، وما تم اتخاذه من مقررات في هذا المؤتمر.

مؤتمر (وادي الصومام) وبعض مقرراته

2 - مؤتمر (وادي الصومام) وبعض مقرراته انقضت عدة أشهر في الإعداد للاجتماع الأول للمجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي عقد في (وادي الصومام)، وكانت فكرة الدعوة إلى مؤتمر وطني يضم زعماء جميع الجماعات قد انبثقت من الاقتراح السابق لأعضاء اللجنة المركزية لحركة (انتصار الحريات الديموقراطية) وهو الاقتراح الذي تبناه عدد من قادة الجيش، وفي طليعتهم (زيروت) في الشمال القسنطيني، وقد اختار القادة العسكريون (وادي الصومام) مكانا لاجتماعهم بهدف تأكيد سيطرتهم العسكرية على المنطقة التي كان الفرنسيون يزعمون أنهم يسيطرون عليها. ولا ريب في أن اختيار هذه المنطقة مكانا للاجتماع، قد جعل اتخاذ الترتيبات الضرورية لعقده وكذلك تأمين الوصول إليه، وضمان الاتصالات مع الزعماء في الخارج، من الأمور الصعبة والشاقة، ولهذا فقد تأخر الإجتماع عن موعده المقرر بعض الوقت. وعندما اجتمع القادة العسكريون في الوادي، وجدوا أنفسهم منقطعين عن أعضاء (البعثة العسكرية) الذين كانوا ينتظرون الأخبار في إيطاليا، ولكن القرار قد اتخذ من قبل (عبانة) وحده على الغالب بعقد المؤتمر بأي ثمن.

قرر مؤتمر (وادي الصومام) أن يتألف (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) من سبعة عشر عضوا كاملي العضوية، وسبعة عشر عضوا مساعدا، وكان من بين الأعضاء - كاملي العضوية - عدد من منظمي (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) وبعض القادة العسكريون الجدد، (وفرحات عباس) الذي سافر إلى القاهرة في العام 1956 للانضمام إلى جبهة التحرير، وأحمد (توفيق المدني) من جماعة العلماء، وعدد من زعماء حركة انتصار الحريات الديموقراطية البارزين من أمثال (الأمين دباغين) و (محمد يزيد). وضمت قائمة الأعضاء المساعدين (بن يحي) الذي نظم حركة الطلاب المنضمة لجبهة التحرير و (عبد الحميد المهري) من أعضاء اللجنة المركزية (لحركة انتصار الحريات) السابقين، وها هي قائمة كاملة بأسماء الأعضاء الكاملين والمساعدين في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، كما تألف في العشرين من آب - أوت - 1956: أ - الأعضاء الكاملون: (حسين آية أحمد، فرحات عباس، رمضان عبانة، أحمد بن بيللا، مصطفى بن بو العيد، بن يوسف ابن خدة، محمد العربي بن مهيدي، رابح بيطاط - وكان سجينا في قبضة الفرنسيين منذ شباط، فبراير، 1955 - ، محمد بوضياف، سعد دحلب، محمد خيضر، كريم بلقاسم، محمد الأمين دباغين، أحمد توفيق المدني، محمد يزيد، يوسف زيروت. ب - الأعضاء المساعدون: عماره العسكري، بن عورة، الأخضر بن طوبال، محمد بن يحيى، بومدين، عبد الحفيظ بوصوف، محمود شريف، سليمان دهيليس، أحمد فرنسيس،

العموري، أحمد محساس، عبد الحميد المهري، علي الملاح، ابراهيم مزهودي، الطيب الثعالبي. ج - وانتخب (مؤتمر الصومام) أيضا أعضاء (لجنة التنسيق والتنفيذ) التي تكونت من خمسة أعضاء حفظت أسماؤهم سرا، وهم: (رمضان عبانة، وبن يوسف بن خدة، ومحمد العربي بن مهيدي، وسعد دحلب، وكريم بلقاسم)، وكلهم من القادة العاملين على أرض الجزائر ذاتها. وقد عكست هذه اللجنة الأهمية الأولى للعمل العسكري، وصعوبة الاعتماد على الاتصالات بصورة دائمة واعتيادية بين القادة في الداخل والخارج، ونصت قرارات مؤتمر (وادي الصومام) على أن المجلس الوطني للثورة الجزائرية هو: (أعلى جهاز للثورة يوجه سياسة جبهة التحرير، وهو الهيئة الوحيدة المخولة في النهاية باتخاذ القرارات المتعلقة بمستقبل البلاد)، والمجلس الوطني هو: (صاحب الحق وحده في إصدار الأمر بوقف إطلاق النار)،أما لجنة التنسيق والتنفيذ (فهي مجلس الحرب الحقيقي، وهي مسؤولة عن توجيه وإدارة جميع فروع الثورة من عسكرية وسياسية ودبلوماسية، وهي تسيطر على جميع هيئات الثورة المنظمة من سياسية وعسكرية ودبلوماسية واجتماعية وإدارية، وجميع القادة العسكريين مسؤولون بصورة مباشرة أمام لجنة التسيق والتنفيذ). وقد أقامت اللجنة مركزها في الجزائر، على الرغم من أن أعضاءها كانوا دائمي التنقل، وكان على اللجنة أن تعين لجانا فرعية تدرس مختلف القضايا المتعلقة بنشاط الثورة في الحاضر والمستقبل، وتكون هذه اللجنة مسؤولة أمامها.

لقد وضع القادة في مؤتمر (وادي الصومام) أسسا واضحة لخط مسار الثورة، وعالجوا همومها وما تجابهه من مصاعب وعقبات وحددوا طرائق معالجتها، ومن هنا تبرز الأهمية التاريخية لما تمخض عنه هذا المؤتمر، الأمر الذي يفرض ضرورة التوقف عند بعض من مقتطفات (منهج الصومام) الذي صدر في 20 - آب - أغسطس - 1956، وفقا لما وردت في (وثائق الثورة) (*): لضمان انتصار الثورة الجزائرية، في الكفاح من أجل الاستقلال الوطني. مقدمة غرض هذا الجزء من البيان الأساسي لنشاط جبهة التحرير الوطني هو تحديد موقف الجبهة بصفة عامة في مرحلة حاسمة من مراحل الثورة الجزائرية، مقسما الى أقسام ثلاثة: 1 - الحالة السياسية الحاضرة. 2 - البوادر العامة. 3 - وسائل العمل والدعاية. 1 - الحالة السياسية الحاضرة أ - تقدم الثورة الجزائرية العاصف الجارف. تحارب الجزائر منذ عامين ببطولة وبأس شديد في سبيل الاستقلال الوطني، وإن الثورة الوطنية المناهضة للاستعمار لجادة في السير، وإنها لتفرض إعجاب الرأي العام العالمي.

_ (*) المرجع: ملفات وثائقية - 24 - وزارة الإعلام والثقافة - أوت 1976. الجزائر. ص 11 - 27.

1 - المقاومة المسلحة لقد خرج جيش التحرير الوطني من أول اختبار في القتال موفقا فائزا، في وقت قصير نسبيا، بعد أن كان منحصرا في جبال (أوراس) وفي (بلاد القبائل)، فقد أحبط حملة التطويق والإبادة التي شنها عليه جيش قوي عصري، هو في خدمة النظام الاستعماري لدولة من أكبر دول العالم. وعلى الرغم من قلة السلاح، وقتها، فقد استطاع جيش التحرير الوطني توسيع نطاق عمليات العصابات والمناورات والاتلاف التي أصبحت اليوم تعم التراب الوطني كله، وما انفك يدعم مراكزه بتحسين خطته وفنه ونفوذ عمله، واستطاع أن ينتقل بمزيد السرعة من حرب العصابات إلى مستوى الحرب الجزئية. وأجاد تنسيق الأساليب المجربة في الحروب ضد الاستعمار مع الأساليب العادية، وتطبيقها تطبيقا منظما يتماشى وخصائص البلاد، وأقام البرهان الكافي الآن، وقد تم توحيد نظامه العسكري، على أنه متمكن من الفن المطلوب لحرب تشمل كافة القطر الجزائري. إن جيش التحرير الوطني يحارب من أجل قضية عادلة. إنه يضم وطنيين ومتطوعين ومجاهدين، عازمين مصممين على الكفاح والنضال باذلين النفس والنفيس الى أن يتم تحرير الوطن الشهيد، ولقد تعزز جانبه بمن انضم إليه من الضباط والجنود المحترفين أو المجندين الذين استيقظت فيهم مشاعر الوطنية فهجروا صفوف الجيش الفرنسي بما معهم من سلاح وتجهيزات. ولأول مرة في التاريخ العسكري، لم تعد فرنسا تستطيع

الاعتماد على (إخلاص الجنود الجزائريين) بل اضطرت إلى نقلهم إلى فرنسا وألمانيا، وعصابات (الحركة - القومية) التي كونتها السلطة الفرنسية بمن اختارتهم من العاطلين، وأغرتهم في أغلب الأحيان، وخدعتهم في حقيقة العمل الذي دعتهم اليه، فقد أخذت تهرب وتتوارى في الجبال والغابات، أما بعض هذه - الحركات - فقد عمدت السلطة إلى تجريدها من السلاح وحلها لشدة استيائها من النتيجة. إن جيش التحرير الوطني يمتلك ذخيرة وفيرة لا تنفذ من الرجال، وكثيرا ما يضطر الجيش إلى رفض تجنيد الجزائريين شبانا وشيوخا، من الحواضر ومن البوادي، وهم ينتظرون بفارغ الصبر أن يتاح لهم إحراز الشرف بالجندية في جيشهم. ويتمتع جيش التحرير الوطني بحب الشعب الجزائري حبا عميقا، وتأييده الحماسي الشديد وتضامنه الفعال المعنوي والمادي، التام الكامل المتين. فكبار الضباط وقادة المناطق والمحافظون السياسيون، وإطارات جيش التحرير وجنوده، يعظمون ويكرمون من قبل جماهير الشعب تعظيم وتكريم الأبطال الوطنيين، وهم يمجدونهم في أغانيهم الشعبية التي نفذت إلى الكوخ الفقير والخيمة البائسة، كما اقتحمت الغرفة المنزوية بين الأزقة الضيقة، وإلى الردهات والبيوتات الرفيعة. تلك هي الأسباب الجوهرية (للمعجزة الجزائرية)؛ فقد خيب جيش التحرير الوطني سعي القوة الهائلة التي يمتلكها جيش الاستعمار الفرنسي المدعم (بالفيالق الذرية) والتي تم سحبها من القوات المخصصة للدفاع عن أوروبا الغربية، الأمر الذي أرغم القادة الفرنسيين - الجنرالات - على الاعتراف: بأنه من المحال

إيجاد تسوية للقضية الجزائرية عن طريق الحل العسكري، هذا على الرغم من النجدات التي يستمر تدفقها عليهم، والتي سرعان ما تغدو غير كافية، وعلى الرغم أيضا من خطة تقسيم البلاد المعروفة (بكادرياج) أو غيرها من الخطط التي لم يكن لها تأثير، كما لم يكن هناك أي تأثير لما أطلقوه من النار وآلات الدمار. ولزاما علينا أن نشير بصورة خاصة إلى منظمات المقاومة الكثيرة الذي تشكلت في المدن، والتي أصبحت تؤلف جيشا ثانيا لا يرتدي أفراده الثياب العسكرية؛ وقد أبدت الأفواج المسلحة في المدن والقرى، بما قامت به من الإغارات على مراكز الشرطة والدرك وتدمير المباني العامة وإشعال الحرائق، والقضاء على أصحاب الرتب من رجال الشرطة والوشاة والخونة، وهذا مما يضعف الهيكل العسكري وجهاز شرطة العدو الاستعماري إلى درجة لا يستنهان بها، ويزيد من تشتيت قواه في كافة أنحاء البلاد، ويضاعف من تدهور الروح المعنوية لجنوده الذين سبقون دائما في حالة إرهاق وإزعاج بسبب اضطرارهم للبقاء باستمرار في حالة استنفار. ومن الأمور التي لا ينكرها احد أن نشاط جيش التحرير الوطني قد قلب الجو السياسي في الجزائر، ولقد أحدث صدمة نفسية أيقظت الشعب من سباته، وحررته من روعه، وأزالت عنه ريبته، وبعثت في الشعب الجزائري الشعور بكرامته القومية، وكونت اتحادا روحيا وسياسيا بين جميع الجزائريين، فظهر ذلك الإجماع الوطني في دعم الكفاح المسلح، وجعل انتصار الحرية أمرا حتميا لا بد منه. 2 - تنظيم سياسي فعال أصبحت جبهة التحرير الوطني، رغم طبيعة نشاطها السري،

هي المنظمة الوطنية الحقيقية الوحيدة، ونفوذها في عامة القطر الجزائري لا يقبل الجدل أو النقاش، وقد نجحت الجهة في فترة زمنية قصيرة جدا، بالتفوق على سائر الأحزاب السياسية القائمة منذ عشرات السنين، ولم يحدث ذلك عرضا ومصادفة، وإنما كان نتيجة توافر الشروط الضرورية الآتية: أ - منع النفوذ الفردي، وإقرار مبدأ الإدارة الجماعية المؤلفة من رجال أطهار أمناء يتنزهون عن الرشوة، شجعان لا يردهم الخطر ولا السجن ولا رهبة الموت. ب - وضوح المذهب، فالغاية المنشودة هي الاستقلال الوطني، والوسيلة هي الثورة بتدمير الحكم الاستعماري. ج - تحقق اتحاد الشعب في الكفاح ضد العدو المشترك، بدون تحيز أو تعصب. لقد أكدت جبهة التحرير الوطني في أول عهد الثورة: (أن تحرير الجزائر سيكون عمل جميع الجزائريين، لا عمل جزء فقط من الشعب الجزائري، مهما كان هذا الجزء كبيرا، ولذا فإن جبهة التحرير ستعتبر في كفاحها جميع القوى المضادة للاستعمار، وإن هي لم تزل خارجة عن نطاق إشرافها). د - الاستنكار النهائي لتقديس الشخصية، والكفاح العلني ضد الصعاليك والوشاة وخدام الإدارة الفرنسية والشرطة وجواسيسها - عيونها - ومن ثم كانت قدرة جبهة التحرير الوطني على إحباط المناورات السياسية وأبطال مكائد منظمات الشرطة الفرنسية، وليس معنى هذا أن المصاعب أزيلت كلها، فإن نشاطنا قد أعاقته في المرحلة الأولى العوائق الآتية: أ - قلة الإطارات، وقلة الوسائل المادية والمالية. ب - ضرورة القيام بعمل طويل شاق في توضيح الجو السياسي

وبيان الموقف بأناة وصبر وثبات للتغلب على الاضطراب الذي لا بد منه، مثل الاضطراب في الجسم خلال مرحلة البلوغ. ج - الواجب الاستراتيجي الذي يقتضي ربط الأمور كلها بجبهة الصراع المسلح. وإن هذا الضعف الذي هو عادي ولا بد منه في البداية قد أصلح، وأمكن استدراكه، فبعد المدة التي كانت جبهة التحرير فيها تكتفي بإلقاء الأوامر بمقاومة الاستعمار، برزت الجبهة بروزا حقيقيا في ميدان الكفاح السياسي، على نحو ما شهدناه، وقد امتازت هذه النهضة بالإضراب التذكاري الذي أعلن في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1955؛ ذلك الإضراب الذي كان يعد الحدث الحاسم، سواء لما له من مظهر، أو لما له من نتيجة إيجابية وصفة بعيدة المدى، حيث كان يدل على نفوذ الجبهة لدى جميع طبقات الأمة، ويعرف كل جزائري أنه ما من منظمة سياسية استطاعت تنظيم إضراب عظيم كهذا شمل كل مدن الوطن وقراه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن النجاح الذي وفقت إليه جبهة التحرير الوطني في دعوتها إلى عدم التعاون السياسي مع الفرنسيين، لم يكن برهانه أضعف من برهان الاضراب، لقد كان من شأنه استقالة النواب الوطنيين، التي تلتها استقالة النواب الموالين للإدارة أن أرغمت الحكومة الفرنسية على العدول عن تمديد نيابة النواب في المجلس الوطني الفرنسي، وعلى حل المجلس الجزائري، أما المجالس العمالية والبلدية والجماعات فقد حلت بدورها ولم يعد لها وجود. ومما زاد في هذا الفراغ، ووسع من رقعته، استقالة عدد كبير من الموظفين وأعوان السلطة الاستعمارية، من

القادة ورؤساء الأقسام والحرس، ولما لم تجد الإدارة الفرنسية مرشحا أو عضوا، تمزقت أوصالها، وانحلت أجزاؤها، وأصبح هيكلها غير قادر على ممارسة دوره الوظيفي، ولم تجد من يتعاون معها من الشعب، وإنما وجدت سلطة جبهة التحرير قائمة معها في جميع الجهات وهذا التفتت البطيء، ولكنه في الوقت ذاته بعيد المدى في التأثير على الإدارة الفرنسية، قد مكن من نشوء ازدواج النفوذ ونموه، وتقوم إدارة الثورة الآن بما لها من جماعات سرية، ومرافق تشتغل بالتموين وجباية الضرائب والقضاء، وتجنيد المجاهدين، والأمن والاستعلامات، وستتقدم إدارة جبهة التحرير بمرحلة جديدة بما تؤسسه من مجالس شعبية ينتخبها سكان القرى، قبل الذكرى السنوية الثانية لثورتنا، وقد ثبت الوعي السياسي لجبهة التحرير ثبوتا جليا باهرا بانضمام الفلاحين إلى صفوفنا لأن الحصول على الاستقلال الوطني معناه أيضا في نظرهم الحصول على الإصلاح الزراعي الذي سيملكهم الأراضي التي يستثمرونها بأيديهم، ونجم عن هذا كله نشوء جو ثوري انتشر بسرعة في كافة البلاد، وكان من شأن وجود أفراد من الحضر ذوي إدراك سياسي واسع وحنكة بالغة تحت إشراف جبهة التحرير وتسييرها البصير أن مكن من التنبيه السياسي للنواحي المتأخرة، وكانت مساعدة الطلبة والطالبات كبيرة النفع، لا سيما في الميدان السياسي والميدان الإداري والميدان الصحي. لقد اجتازت الثورة الجزائرية مرحلتها التاريخية الأولى بعزة وشرف، وإن هذه الحقيقة، الحية، قد أبطلت الرهان العابث الذي تقدم به الاستعمار الفرنسي حيث ادعى أنه يقضي عليها في أشهر قلائل. إنها ثورة منظمة وليست بحركة ثورية فوضوية، إنها كفاح

وطني يهدف إلى تدمير حكم الاستعمار الفوضوي، وليست بحرب دينية، إنها سير الى الأمام في الاتجاه التاريخي للإنسانية، وليست برجوع إلى النظام الاقطاعي. والحاصل، إنها كفاح وطني يهدف إلى تدمير حكم الاستعمار من أجل إقامة نهضة دولة جزائرية في شكل جمهورية ديمرقراطية واجتماعية، وليست في سبيل إعادة حكم ملكي، أو حكم قائم على ما يعبر عنه (باللاهوتية) فتلك أنظمة قد اضمحلت ودالت دولتها. 3 - إخفاق المنظمات السياسية السابقة من آثار الثورة الجزائرية على الشعب الجزائري أنها عجلت بنضجه السياسي؛ فقد شحذت ذهنه، وأذكت فيه روح النقد والتمحيص، وأبدت له على ضوء التجربة الحاسمة، تجربة النضال في سبيل الحرية، وعجز المذهب الاصلاحي وعقم الشعوذة الخادعة المناهضة للثورة، ولقد ظهر إخفاق الأحزاب القديمة للعيان جهارا، وتفككت المنظمات المختلفة؛ فأما الأعضاء الأساسيون فانضموا إلى جبهة التحرير الوطني، وأما (حزب البيان) المنحل و (جمعية العلماء) فأيدا بشجاعة مواقف جبهة التحرير، وأما (جمعية الطلبة المسلمين الجزائريين) التي تضم سائر الجامعيين وتلاميذ المدارس الثانوية فنادت بنفس العاطفة على لسان مؤتمرها الذي وافق على الأمر بإجماع، وأما (الهيئة المركزية -لحركة انتصار الحريات الديموقراطية) فقد ذهبت ولم يبق لها أثر سواء بصفتها مجمعا للزعماء السابقين، أو بصفتها نزعة سياسية. أ - انهيار مذهب (مصالي) لم تكن الحركة القومية الجزائرية لتقوى على التغلب على الأزمة

التي أودت بحركة انتصار الحريات الديموقراطية، وذلك رغم ما تظاهرت به من خدمة للشعب في محاولة لاستمالته إليها، ولم يبق لها من هيكل أساسي إلا في فرنسا، لوجود مصالي بها وهو في المنفى، ولجهل المهاجرين الجزائريين بفرنسا لحقيقة الموقف في الجزائر جهلا تاما؛ فمن هناك كانت تصدر الأوامر والأموال والرجال لتنظيم أفواج مسلحة ومناطق منشقة للمقاومة، ولم يكن الغرض منها المساهمة في محاربة العدو الممقوت، بل القيام بعمليات التحدي والاستفزاز، وإفساد الثورة الجزائرية التي تجابه النظام الاستعماري وجيشه وشرطته وذلك عن طريق القيام بجهد لإحباط عمل قادتها العسكريين والسياسيين، بما تبشه من روح الهزيمة، وما تدخله من الاضطراب وما تقترفه من أعمال القتل. لقد ظهر كل نشاط الحركة القومية الجزائرية، المشتت والقصير المدى، في بعض المدن القليلة ومنها مدينة الجزائر، وظهر هذا النشاط في إطار تكتل مناهض للثورة، قام بعمليات التفرقة والإلهاء (كالحملة على بني ميزاب) واللصوصية (كابتزاز أموال التجار) والتشويش والافتراء (كتقديم مصالي بصفته مؤسس جيش التحرير الوطني وقائده)، وقد فقد مذهب مصالي قيمته كتيار سياسي، وأصبح شيئا فشيئا مجرد حالة نفسية تذوب وتضعف بتوالي الأيام. وحسبنا دليلا على قيمة هذا المذهب، أن آخر المعجبين بمصالي والمدافعين عنه، هم الصحفيون والأدباء القريبون من رئاسة الحكومة الفرنسية؛ فهم يذهبون إلى استنكار جحود الشعب الجزائري الذي لم يعد يعترف (بفضل مصالي ومزاياه الاستثنائية وهو الذي أنشأ القومية الجزائرية قبل ثلاثين عاما)، وإن نفسية مصالي أشبه شيء باعتقاد الديك الأحمق الذي جاء عنه في القصص

أنه لا يكتفي بمشاهدة شروق الشمس ولكنه ينادي بأنه (هو الذي يجعل الشمس تشرق). إن القومية الجزائرية التي يزعم (مصالي) بوقاحة أنه هو محدثها، إنما هي حدث عالمي نتيجة تطور طبيعي تسير عليه جميع الشعوب التي تفيق من سباتها، فكما أن الشمس تشرق من غير أن يكون للديك في شروقها يد، فكذلك الثورة الجزائرية تنتصر من غير أن يكون (لمصالي) فيها فضل أو مزية. لقد كان هذا المديح لمذهب مصالي في الصحافة الفرنسية دليلا جديا على ما كان يجري من إعداد لجو مصطنع يوافق المناورة الواسعة النطاق ضد الثورة الجزائرية، تلك هي التفرقة التي هي السلاح المعروف للاستعمار. لقد حاولت الحكومة الفرنسية عبثا أن تقاوم جبهة التحرير الوطني بتنظيم الهيئات المعتدلة، ولما أيقن الاستعمار الفرنسي أنه لا يستطيع أن يعول على (السايح) أو (فارس) لأن فكرة (بني وي وي) قد كسدت سوقها وزالت بصفة نهائية لا رجوع بعدها، طمع في استخدام رئيس (الحركة القومية الجزائرية) في مكيدته الشيطانية الأخيرة، حتى يسلب الشعب الجزائري انتصاره؛ و (مصالي) في ذلك خير آلة للسياسة الاستعمارية لأنه رجل ذو غرور وعجرفة، ليس له ضمير ولا أنفة، وعلى هذا لم يكن من المصادفة قول (جاك سوستيل) للأستاذ (مانسيون) في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1955: (إن مصالي هو وسيلتي الأخيرة)، ولا يتورع الوزير المقيم (لاكوست) من التعبير للصحافة الاستعمارية الجزائرية عن سروره بملاحظة أن (الحركة القومية الجزائرية) إنما تعمل على

إضعاف جبهة التحرير الوطني ليس إلا. وقد كشفت الجريدة الاشتراكية الأسبوعية (دومان/ غدا) عن الخلافات القائمة بين الساسة الفرنسيين في الخطة التي يجب سلوكها، فكتبت أن بعض الوزراء مستعدون لإطلاق الحرية لمصالي، لمنع جبهة التحرير الوطني من أن يتعزز جانبها، (وإنما المشكلة الوحيدة هي التأمين على حياة الزعيم الجزائري). واذا ما ذكرنا أن مصالي قد حمل حملة عنيفة على البلاد العربية، (وهذا لا محالة مما يسر سوستيل ولاكوست وبورجو وأمثالهم) تحققنا أن نقله من (أنقولام) إلى (بل إيل) يثبت الفكرة التي عرضتها جريدة (دومان)، وإذا كانت حياة مصالي نفيسة إلى هذا الحد عند الاستعمار الفرنسي، فهل نعجب من أن نراه يتدهور إلى الخيانة عن خبرة ودراية؟. الشيوعية غائبة لم يستطع الحزب الشيوعي الجزائري أن يلعب دورا يستحق الذكر، رغم وجوده في حالة غير قانونية، ورغم الدعاية الصاخبة التي أضفتها عليه الصحافة الاستعمارية لتبرير اشتراكه المزعوم في الثورة الجزائرية. إن الإدارة الشيوعية التي هي إدارة مكتبية (بيروقراطية) لا صلة لها بالشعب، ولم تكن قادرة على تحليل الحالة الثورية تحليلا صحيحا. ولذا فقد استنكرت (الإرهاب) وأمرت أعضاء الحزب من سكان (أوراس) الذين قدموا إلى الجزائر في الأشهر الأولى من نشوب الثورة يأخذوا الأوامر والتعليمات بألا يحملوا السلاح. لقد كان خضوع (الحزب الشيوعي الجزائري) للحزب الشيوعي الفرنسي، خضوع (بني

وي - وي/ نعم نعم) نظرا إلى الصمت الذي لزمه بعد موافقة البرلمان الفرنسي على إطلاق النفوذ للحكومة. لم تكن لدى (الشيوعيين الجزائريين) الشجاعة الكافية لاستنكار هذا الموقف الانتهازي الذي وقفته الكتلة البرلمانية الشيوعية، وليس هذا فقط، بل إنهم لم يقولوا ولو كلمة احتجاج واحدة ضد ما تقرره فرنسا، أو القيام بنشاط واضح ضد حرب الجزائر، مثل المظاهرات ضد إرسال النجدات العسكرية، أو تنظيم إضراب في وسائل النقل وفي البحرية التجارية وفي الموانىء لشحن العتاد الحربي. لقد اضمحل (الحزب الشيوعي الجزائري) بصفته منظمة جدية، وذلك على الخصوص لكثرة ما فيه من الأوروبيين الذين تضعضعت عقائدهم (القومية الجزائرية) فأظهرت ما فيهم من تناقض أمام المقاومة المسلحة. إن الأصل في انعدام هذا الانسجام في السياسة المضطربة الناشئة عنه، هو البلبلة والاعتقاد بأنه من المحال تحرير الوطن الجزائري قبل انتصار ثورة طبقة العمال في فرنسا؛ وهذه الأيديولوجية التي تذكر الحقيقة هي من آثار نظريات الخلية الفرنسية الأممية العمالية التي تدعو إلى سياسة الإدماج السلبي والانتهازي. فهي تنكر (صفة الثورة) على طبقة الفلاحين عامة، والفلاحين الجزائريين منهم خاصة، وتزعم أنها تحمي طبقة العمال الجزائريين من خطر مريب، هو خطر الوقوع تحت سيطرة (البورجوازية العربية)، وكأن الاستقلال الوطني الجزائري سيسلك حتما طريق الثورات الفاشلة، بل يتقهقر إلى نظام إقطاعي ما.

إن جامعة الشغل العامة (س. ج. ت) الخاضعة للتأثير الشيوعي هي في مثل موقف (الحزب الشيوعي) تدور وتدور في الفراغ، دون أن تستطيع أن تصدر أمرا أو تنفذه. فالجمود الذي عم حركة العمال المنظمة وأثقله موقف نقابات (القوة العمالية - ف. او) و (الجامعة الفرنسية للعمال المسيحيين - س. ف. ت. س.) ليس وليد ضعف في عزيمة عمال المدن، ولكنه ناجم عن جمود الأركان النقابية للاتحاد العام للنقابات الجزائرية، والتي تنتظر وهي مكتوفة الأيدي أوامر (باريس). لقد برهن عمال (ميناء الجزائر) على قوة عزيمتهم بالمساهمة في الإضراب السياسي التذكاري في فاتح نوفمبر 1956. أدرك كثير من العمال أن ذلك اليوم الوطني كان يصطبغ بصبغة الإجماع على نطاق أوسع بيانا وأقوى نشاطا وأكبر فائدة لو دعيت منظمات العمال إلى الكفاح العام بحذاقة ولباقة من طرف هيئة نقابية مكزية وطنية حقيقية، ولقد تأكد هذا الحكم الصحيح بوضوح تام من خلال النجاح الرائع الذي أحرزه الإضراب العام الوطني في يوم 5 تموز - يوليو - 1956، ولذلك استقبل العمال الجزائريون نشأة (الاتحاد العام للعمال الجزائريين - او. ج. ت. أ) الذي كان نموه مطردا لا يقهر بصفته اللسان المعبر عن رغبتهم وتشوقهم إلى مساهمة أقوى وأنشط في تدمير الاستعمار المسؤول عن حالة البؤس والبطالة والهجرة والمهانة، وإن انتشار هذا الشعور الوطني، مع ارتفاع مستواه إلى مرتبة أرقى، لم يلبث أن قوض الأساس العمالي للحزب الشيوعي الجزائري كما يقوض المبنى القائم على الرمل، وكان ذلك الأساس ذاته قد ضعف بعد ضياع عناصره الأوروبية المترددة المذبذبة. على أننا نسجل بعض الأعمال الفردية الصادرة عن بعض

الشيوعيين الذين انضموا إلى صفوف جبهة التحرير وجيش التحرير، ومن الممكن إيقاط بعض الأفراد، وتنبيههم لتصحيح مفهومهم عن التحرير الوطني، والأمر المحقق هو أن الحزب الشيوعي الجزائري سيحاول في المستقبل استثمار هذه المواقف الفردية، بهدف إخفاء عزلته التامة، والتستر على تغيبه عن الجهاد التاريخي الذي تقوم به الثورة الجزائرية. ب - استراتيجية الاستعمار الفرنسي لقد أبطلت الثورة الجزائرية جميع التكهنات الاستعمارية التي أضفي عليها غطاء من التفاؤل المزيف، وها هي ذي تستمر في نموها واتساعها بعزيمة خارقة في تطور متصاعد بعيد المدى، وهي في تقدمها هذا تزعزع وتقوض ما بقي من الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية المتدهورة؛ وقد تعرضت الحكومات الفرنسية المتتالية كلها لأزمات سياسية لم يسبق لها نظير، فبعد أن أرغمت على التخلي عن مستعمراتها في آسيا اعتقدت أنها تستطيع الاحتفاط بمستعمرات أفريقيا، ولما أحست بأنها لا تقوى على مجابهة (فساد الحالة في أفريقيا الشمالية، أطلقت العنان لتونس والمغرب عساها أن تحتفظ بالجزائر). أ - عظة التجارب التونسية والمغربية إن هذه السياسة التي لا تستند إلى أسس واقعية قد أسفرت بالخصوص عن سلسلة من الهزائم المعنوية التي تعاقب بسرعة في كافة الميادين: الاستياء في فرنسا، حركات إضراب من العمال، ثورات التجار، اضطرابات الفلاحين، العجز في الميزانية،

التضخم المالي، ضعف الانتاج، الكساد الاقتصادي، القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة، تسليم إقليم السار لألمانيا الغربية. ثم إن الزحف الثوري في شمال أفريقيا على الرغم من انعدام خطة سياسية مشتركة لضعف لجنة تحرير المغرب في أساسها قد اضطر الاستعمار الفرنسي إلى وضع خطة دفاعية ارتجالية مستعملا كل أنواع القمع الاستعبادي التقليدي، والمحادثات الفرنسية - التونسية التي كان المفروض أن تقوم بمثابة حاجز استعماري على الطريقة الجديدة، قد أصبحت متأخرة من أثر الخط الشعبي، ومن الضربات التي انهالت على الاستعمار في البلدان الشقيقة الثلاثة، وكان تطور الأزمة المغربية السريع، ودخول الجبليين في الكفاح المسلح، معززين جانب المقاومة في الحضر، ولا سيما أثر الثورة الجزائرية، كل ذلك كان من العوامل الفعالة في انقلاب الموقف الرسمي الفرنسي وفي استقلال المغرب. وهذا التغيير المفاجىء في سلوك الحكومة الاستعمارية التي تخلت عن الجمود وأوغلت في طريق البحث عن حل عاجل، إنما دعت إليه أسباب استراتيجية هي: 1 - منع تكوين جبهة ثانية حقيقية بإنهاء الاتحاد بين الكفاح المسلح في الريف المغربي وفي الجزائر. 2 - القضاء على وحدة الكفاح في بلدان شمال أفريقيا الثلاثة (تونس والجزائر والمغرب). 3 - عزل الثورة الجزائرية التي كانت صبغتها الشعبية تجعلها أشد خطرا.

ولكن جميع تقديرات المستعمرين قد خابت؛ فقد كان الغرض من المفاوضات التي أجريت على حدة، هو خداع بعض زعماء البلدين الشقيقين، أو إغرائهم ودفعهم إلى التخلي عن علم أو عن جهل، عن الميدان الحقيقي للكفاح الثوري، والوصول بهذا الكفاح حتى نهايته. ويمتاز الوضع السياسي في (شمال أفريقيا) باندماج القضية الجزائرية في القضية المغربية وفي القضية التونسية، بحيث تشكل القضايا الثلاث قضية واحدة. والواقع أن استقلال المغرب وتونس من غير استقلال الجزائر هو مجرد عبث (لغو) لا قيمة له؛ فالتونسيون والمغاربة لم ينسوا أن فتح فرنسا بلادهم قد جاء في أعقاب فتح الجزائر، وقد أصبحت شعوب المغرب العربي الآن مقتنعة بعد التجربة بأن الكفاح المشتت ضد عدو مشترك ليس له مآل غير الهزيمة للجميع، لأن كل واحد يمكن قهره على حدة، وإنه لخطأ فاحش وضلال بعيد أن يعتقد أحد أن باستطاعة المغرب وتونس التمتع باستقلال حقيقي إذا ما بقيت الجزائر رازحة تحت نير الاستعمار. فإن الساسة الاستعماريين، الخبراء في الغش الديبلوماسي، الذين يأخذون بيد ما يعطونه باليد الاخرى لا يفوتهم أن يفكروا في إعادة فتح هذين البلدين بمجرد ما تظهر لهم ظروف دولية مواتية، بيد أنه من - الأمور الهامة جدا، أن الزعماء المغاربة والتونسيين قد شرعوا يعبرون في تصريحاتهم المتكررة عن وجهات نظر تلتقي بوجهة نظر جبهة التحرير الوطني. ب - سياسة الحكومة (الفرنسية) في الجزائر ما لبثت الحكومة (الفرنسية) ذات الرياسة الاشتراكية، أن

رجعت في السادس من شباط - فبراير - 1956 وبعد المظاهرة الاستعمارية في الجزائر، عن الوعود التي وعدت بها (الجبهة الجمهورية) قبل الانتخابات من إعادة السلم إلى الجزائر عن طريق المفاوضات، وإرجاع الجنود - الفرنسيين - إلى منازلهم، وتحطيم الاقطاعيات المالية والإدارية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإغلاق المحتشدات. ولئن كان (منديس فرانس) يمثل في الحكومة - قبل استقالته - النزعة الراغبة في المفاوضة، ضد النزعة المعارضة الذي يمثلها (بورجيس مونوري) و (لاكوست) من دعاة القوة والحقد، فإن سياسة (لاكوست) هي التي أصبحت تحظى بالإجماع، إنها سياسة الحرب العوان ضد الشعب الجزائري عن طريق محاولة فصل الثورة عن الشعب بالمحق والإبادة، وهي محاولة باتت ضربا من الوهم والخيال. ولا يمكن أن يقع أي خلاف أمام هذا الهدف الذي وافقت عليه الحكومة بإجماع إلا إذا أخفقت سياسة الإبادة هذه التي تدعى (سياسة التهدئة)؛ إنه لجلي واضح أن الأهداف السياسية التي أعلنها (غي مولي) من جديد ليس الغرض منها إلا ستر المشروع الحقيقي الذي هو القضاء على جميع قوانا الحية قضاء مبرما. فالحملة العسكرية المدفوعة بحملة سياسية هي معرضة لا محالا للفشل الذريع. لقد ظل (الاعتراف بالشخصية الجزائرية) قولا مبهما لا ينطوي على معنى حقيقي ملموس دقيق، والحل السياسي الذي اعلن باختصار لم يكن قائما إلا على مبدأين اثنين: مشاورة الجزائريين

بواسطة انتخابات حرة، ووقف القتال. ولم يكن إعلان الإصلاحات الجزئية الطفيفة إلا كصرخة في واد، لا يبالي بها أحد وهي ترمي إلى إلغاء تمثيل الجزائر في البرلمان بصفة مؤقتة، وحل المجلس الجزائري وتطهير الشرطة تطهيرا خفيفا، وتبديل ثلاثة من كبار الموظفين، والزيادة في الأجور الفلاحية، وتعيين المسلمين في الوظائف العمومية في بعض المناصب الإدارية، والإصلاح الزراعي والانتخابات في هيئة ناخبة واحدة، واليوم تعلن حكومة (غي مولي) وجود ستة أو سبعة مشاريع لوضع دستور الجزائر الذي تكون خطته الأساسية هي إنشاء مجلسين أحدهما تشريعي والثاني اقتصادي مع حكومة تتألف من وزراء مندوبين ويرأسها وجوبا وزير من أعضاء الحكومة الفرنسية، وهذا يدل من جهة على التطور الذي وقع في الرأي العام بفرنسا بفضل جهادنا، كما يدل من جهة أخرى على الحلم الجنوني الذي لا يزال يحلم به الساسة الفرنسيون حين يعتقدون أننا سنرضى بتواطوء مخجل كهذا. ثم إن محاولة التفريق بين هيئة المقاومة وتضامن الشعب الجزائري التي دعا إليها (نيجلان) في الميدان الداخلي قد تقرر شفعها بمحاولة فصل الثورة الجزائرية عن تضامن الشعوب المناهضة للاستعمار في الميدان الخارجي، وتولى (بينو) القيام بها، ولكن جبهة التحرير الوطني ستخيب مساعي العدو المقبلة، كما خيبتها في الماضي. 2 - البوادر السياسية لقد قام الدليل على أن الثورة الجزائرية ليست بحركة تمرد فوضوية محدودة، دون انسجام ولا إدارة سياسية، أو أنها معرضة للفشل. ولقد قام الدليل - أيضا - على أنها بالعكس ثورة حقيقية

منظمة وطنية شعبية لها إدارة مركزية، وتقودها أركان حرب قادرة على الوصول بها إلى النصر النهائي. لقد قام الدليل على أن الحكومة الفرنسية أيقنت أنه من المحال تسوية القضية الجزائرية عن طريق الحل العسكري، فأصبحت مضطرة إلى البحث عن حل سياسي. ومقابل ذلك، اقتنعت جبهة التحرير الوطني بمبدأ: (أن المفاوضات تأتي تتويجا لكفاح مستمر ضد عدو غاشم، وليست قبل ذلك أبدا)، وموقفنا في هذا المجال يعتمد على ثلاثة اعتبارات جوهرية، للانتفاع بتوازن القوى: 1 - اتخاذ مذهب سياسي واضح. 2 - توسيع نطاق الصراع المسلح توسيعا مستمرا حتى تصبح الثورة عامة. 3 - القيام بنشاط سياسي واسع النطاق. أ - لماذا نحارب للثورة الجزائرية مهمة تاريخية هي القضاء بصفة نهائية لا رجعة فيها على النظام الاستعماري البغيض والمنحط والذي يحول دون الرقي والسلم، (ويتطلب ذلك التعرض للنقاط التالية): أولا: الأهداف الحربية. ثانيا: وقف القتال. ثالثا: المفاوضات للسلم. أولا: أهداف الحرب أهداف الحرب هي نهاية الحرب التي منها تبدأ أهداف السلم.

متظاهرون جزائريون: انهم يقفون وجها لوجه مع رجال الأمن الجمهوري

وأهداف الحرب هذه هي الحالة التي نصل بالعدو فيها لحمله على قول أهدافنا السلمية؛ وهذه الحالة تكون إما النصر العسكري الحاسم (الاستسلام من دون قيد ولا شرط) و (إلحاق الهزيمة به) أي (الانكسار التام لقواته)، وإما أن تكون هي البحث عن (وقف للقتال) أو (هدنة) بقصد المفاوضات والحاصل، أن أهدافنا الحربية بالنظر إلى مواقفنا السياسية والعسكرية هي: 1 - إضعاف الجيش الفرنسي إضعافا تاما، بحيث يصبح من المحال عليه الانتصار بالسلاح. 2 - تدمير الاقتصاد الاستعماري على نطاق واسع، بعمليات التخريب والإتلاف حتى يصبح من المتعذر إدارة البلاد. 3 - الإخلال إلى أقصى حد ممكن بالحالة في فرنسا في الميدان الاقتصادي والاجتماعي حتى يصبح من المحال عليه متابعة الحرب. 4 - عزل فرنسا سياسيا في الجزائر وفي العالم. 5 - توسيع الثورة إلى حد يجعلها مطابقة للقوانين الدولية (إعطاء الجيش شخصيته، وتنظيم حكم سياسي يمكن الاعتراف به، واحترام قوانين الحرب، وتنظيم إدارة عادية - مدنية - للمناطق التي يحررها جيش التحرير الوطني. 6 - مؤازرة الشعب مؤازرة ثابتة، ودائمة، أمام الجهود التي يبذلها الفرنسيون لإبادته. ثانيا: وقف القتال أ - الشروط السياسية 1 - الاعتراف بالشعب الجزائري شعبا واحدا لا يتجزأ وهذا الشرط ينفي الوهم الاستعماري (الجزائر الفرنسية).

2 - الاعتراف باستقلال الجزائر وسيادتها في جميع الميادين، بما فيها الدفاع الوطني والديبلوماسية. 3 - الإفراج عن جميع الجزائريين والجزائريات، الأسرى والمعتقلين والمنفيين، بسبب نشاطهم الوطني، قبل وبعد نشوب الثورة الوطنية في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954. 4 - الاعتراف بجبهة التحرير الوطني بصفتها الهيئة الوحيدة التي تمثل الشعب الجزائري، وأنها وحدها مؤهلة للقيام بأية مفاوضات، ومقابل ذلك، فإن جبهة التحرير الوطني تتعهد بوقف القتال، وهي المسؤولة عنه بالنيابة عن الشعب الجزائري. ب - الشروط العسكرية (تعرض فيما بعد) ثالثا: المفاوضات للسلم 1 - يمكن إجراء المفاوضات إذا توافرت شروط وقف القتال، وجبهة التحرير الوطني هي المفاوض الصحيح والوحيد، وإن جميع الوسائل المتعلقة بتمثيل الشعب الجزائري هي من اختصاص (جبهة التحرير) وحدها (الحكومة والانتخابات الخ ...) وعليه فلا يقبل أي تدخل في الأمر من طرف الحكومة الفرنسية. 2 - تجري المفاوضات على أساس الاستقلال، بما يشمله من الديبلوماسية والدفاع الوطني. 3 - تحديد نقط المفاوضات. * - حدود القطر الجزائري (الحدود الحاضرة - بما تتضمنه من الصحراء الجزائرية). * - الأقلية الفرنسية (على أساس الخيار بين الجنسية

الجزائرية أو الجنسية الأجنبية - لا تخص بنظام تفضيلي - ولا جنسية مزدوجة جزائرية وفرنسية). * - الأملاك الفرنسية: (أملاك الدولة الفرنسية، أملاك المواطنين الفرنسيين). * - نقل الاختصاصات (الإدارة). * - أشكال المساعدة الفرنسية في الميادين الاقتصادية والنقدية والاجتماعية والثقافية الخ ... * - مسائل أخرى. تقوم حكومة جزائرية، في الطور الثاني بالمفاوضات، وتكلف بتبيان محتوى الفصول، وتنشأ هذه الحكومة من مجلس تأسيسي ينشأ هو نفسه عن انتخابات عامة. اتحاد شمال أفريقيا ستعنى الجزائر الحرة المستقلة بتحطيم الحواجز العنصرية التي أقيمت على الحيف الاستعماري، وتعزيز الوحدة والإخاء على أسس جديدة في الشعب الجزائري، الذي ستسفر نهضته عن بروز شخصيته المزدهرة. غير أن الجزائرين سوف لا يتركون حبهم للوطن - وهو تلك العاطفة النبيلة الكريمة - يتحول إلى وطنية متعصبة ضيقة عمياء؛ فهم (شمال أفريقيون) مخلصون يتعلقون تعلقا شديدا أو متبصرا بالتضامن الطبيعي والضروري بين بلدان المغرب الثلاثة، وتؤلف شمال أفريقيا مجموعة كاملة: (الجغرافية والتاريخ واللغة والحضارة والمصير)، ومن ثم، يجب أن يسفر هذا التضامن بالطبع عن تأسيس اتحاد لدول شمال أفريقيا الثلاث، وإن من مصلحة الشعوب الشقيقة الثلاثة أن تبدأ

بتنظيم دفاع مشترك، واتجاه ونشاط ديبلوماسي مشترك، وحرية المبادلات، وخطة مشتركة ومفيدة في التجهيز والتصنيع وسياسة نقدية مشتركة والتعليم، وتبادل الأركان الفنية والاختصاصية والمبادلات الثقافية، واستثمار الثروات الباطنية والنواحي الصحراوية التابعة لكل بلد. المهام الجديدة لجبهة التحرير الوطني في إعداد الثورة الشاملة إذا ظهرت بوادر لافتتاح مفاوضات للسلم، فينبغي أن لا يكون ذلك مدعاة للانتشاء بالفوز، لأن ذلك يؤدي لا محالة إلى نوع من الاسترخاء، وإلى تناقص اليقظة والانتباه، والفتور في العزائم، مما قد يضعضع التناسق السياسي لدى الشعب، ويقتضي الطور الحاضر للثورة الجزائرية متابعة الصراع المسلح بشدة وقوة، وتدعيم المواقف وتنمية القوى العسكرية - السياسية للمقاومة. إن افتتاح المفاوضات، والمضي فيها حتى نهايتها الناجحة، متوقف أولا على النسبة التي تكون بين القوى المتصارعة، ولذا يجب العمل فورا، وبدقة واتقان، من أجل تحويل الجزائر إلى معسكر محض منيع. تلك هي المهمة الي يجب على جبهة التحرير الوطني وجيشها إنجازها بشرف ومن غير تأخير، ولهذا الغرض، فإن الأمر الأساسي، والأكثر أهمية، هو: كل شيء لدعم جبهة الكفاح المسلح، وكل شيء لنيل النصر الحاسم. لم يعد استقلال الجزائر ذلك المطلب السياسي وذلك الحلم الذي طالما علل الشعب الجزائري به نفسه وهو رازح تحت نير السيطرة الفرنسية؛ بل إنه اليوم الغاية الأولى التي أخذت تدنو بسرعة

خاطفة، لتصير في العاجل حقيقة ناصعة. إن جبهة التحرير الوطني تتقدم بخطى واسعة لتهيمن على الحالة في الميدان العسكري والميدان السياسي والميدان الديبلوماسي. الأهداف الجديدة: العناية من الآن، وبصفة منتظمة دائبة، بإعداد الثورة العامة التي لا تنفصل من التحرير الوطني. أ - إضعاف الهيكل العسكري والبوليسي (الشرطة والدرك - الجندرمة) والإداري والسياسي للاستعمار. ب - توفير الوسائل المادية، والاهتمام بذلك من دون انقطاع. ج - تدعيم تناسق العمل السياسي والعسكري وتطويره (ترقيته). مجابهة المناورات التي لا بد أن يقوم بها العدو للتفرقة أو العزل أو الاشغال (التلهية) بحملة معاكسة متبصرة وشديدة قائمة على إحكام الثورة الشعبية التحريرية وتعزيز جانبها، وذلك: أ - تمتين الاتحاد الوطني المناهض للامبريالية. ب - الاعتماد بالخصوص على الطبقات الاجتماعية التي هي أكثر عددا وأشد فقرا، وأكبر استعدادا وميلا للثورة، وهي طبقات الفلاحين - العمال الزراعيين. ج - إقناع المتأخرين بصبر وثبات، وتشجيع المترددين والضعفاء والمعتدلين وتنبيه الغافلين. د - عزل المتطرفين من الاستعماريين، بالسعي في الحصول على تأييد الأحرار من الأوروبيين أو اليهود، وإن كان عملهم لا زال فاترا أو محايدا. وفي الميدان الخارجي، يجب السعي للحصول على أقوى ما

المرتزقة - جند الاستعمار في مواجهة غضبة الشعب الجزائري

يمكن من التأييد المادي والمعنوي والروحي. أ - تصعيد تأييد الرأي العام. ب - تنمية الإعانة الددبلوماسية بجذب حكومات البلاد التي جعلتها فرنسا في الحياد، أو التي لم تطلع اطلاعا كافيا على الصفة الوطنية لحرب الجزائر، وحمل هذه الحكومات على مناصرة القضية الجزائرية. 3 - وسائل العمل والدعاية تبرز البوادر السياسية العامة التي سبق وصفها، القيمة الحقيقية لوسائل العمل التي لا بد لجبهة التحرير أن تستخدمها لتحقيق النصر التام في الكفاح الجليل الذي تقوم به في سبيل استقلال الوطن. وسنحاول هنا أن نبين مجمل هذه الوسائل في الميدان الجزائري، والشمال الافريقي والفرنسي والأجنبي. 1 - كيفية تنظيم وقيادة ملايين الرجال للكفاح العظيم إن الاتحاد الروحي والسياسي للشعب الجزائري الذي التحم وتوطد في الكفاح المسلح قد أصبح اليوم حقيقة تاريخية، وهذا الاتجاه القومي الوطني المناهض للاستعمار هو القاعدة الأساسية للقوة السياسية والعسكرية للمقاومة، ويجب أن يحافظ على هذا الاتحاد تاما كاملا غير ممسوس ولا منقوص، نشيطا حازما، كما يجب اجتناب الأخطاء التحزيبية أو الانتهازية، وهي أخطاء لا تغتفر لأن من شأنها أن تيسر للعدو مناورته ومكائده الشيطانية، وأفضل وسيلة لذلك هي إبقاء جبهة التحرير الوطني بصفتها المرشد الوحيد للثورة الجزائرية، وينبغي أن لا يؤول هذا الشرط بحب الظهور الأناني أو بالزهو والغرور الذي هو خطير بقدر ما هو حقير.

إن تحقيق (وحدة القيادة) هو مبدأ ثوري، ويتم ذلك عن طريق (هيئة أركان حرب) برهنت على مقدرتها وبعد نظرها وإخلاصها لقضية الشعب الجزائري. يجب علينا ألا ننسى أبدا، أن قوة الاستعمار الفرنسي لم تكن قبل اندلاع الثورة متكونة من قوته العسكرية والبوليسية (أجهزة شرطته) فحسب، بل كانت متكونة أيضا من ضعف بلادنا التي كانت تحت السيطرة، متفرقة غير متأهبة للكفاح المنظم، الأمر الذي زاد من قوة زعماء مختلف أجزاء الحركة الاستعمارية زمنا طويلا. وعلى هذا، فإن وجود جبهة تحرير وطني قوية ولها جذورها العميقة في كافة طبقات الشعب، إنما هو ضمان من الضمانات الضرورية. أ - تنظيم جبهة التحرير الوطني تنظيما شاملا في كل أنحاء البلاد: في كل مدينة وقرية، في كل عرش وحارة، في كل معمل وجامعة ومدرسة الخ ... ب - نشر الوعي السياسي في مراكز الثورة. ج - انتهاج سياسة تقوم على إطارات مدربة تدريبا سياسيا، ومحنكة، تحرص على احترام هيكل المنظمة ومتيقظة وقادرة على الإبداع - الابتكار -. د - الرد بسرعة وبوضوح على جميع الأكاذيب، واستنكار أعمال الاستفزاز، وتعريف أوامر جبهة التحرير الوطني، بنشر مكاتب كثيرة ومتنوعة، تبلغ جميع الدوائر حتى المحصورة منها. هـ - إكثار مراكز الدعاية، وتجهيزها بآلات الكتابة والطباعة والورق (لنسخ الوثائق الوطنية العامة، وطبع المنشورات المحلية)، وطبع رسائل في الثورة، وإصدار نشرات داخلية

للتعليمات والإرشادات الموجهة للإطارات (الكادرات)، ويجب التشبع بالمبدأ: ليست الدعاية ذلك الهرج والمرج المتميز بعنف القول الذي يكون عقيما كالزبد يذهب جفاء. أما وقد أصبح الشعب الجزائري مدركا للأوامر، ومستعدا للعمل المسلح الإيجابي المثمر، فإن كلام جبهة التحرير يجب أن يكون معبرا عن رشد الشعب باتخاذه شكلا جادا معتدلا، دون أن ينقصه الحزم والصدق والحماسة الذي هو من فضائل الثورة. كل منشور، أو تصريح، أو حديث، أو نداء، يصدر عن جبهة التحرير الوطني، صار يترك اليوم أصداء قوية في المحافل الدولية، ولذا يجب علينا العمل بشعور المسؤولية الحقيقي، وبما يشرف السمعة العالمية التي تتمتع بها الجزائر السائرة قدما في طريق الحرية والاستقلال. 2 - تصفية الجو السياسي. يجب علينا للمحافظة على اتجاه المقاومة القائمه كلها لتدمير العدوان، أن نزيل جميع الحواجز والعراقيل التي أقامتها على طريقنا كل العناصر، الشاعرة أو غير الشاعرة، بعملها المفسد الذي أبدت التجربة سوءه ومضراته. 3 - تحويل السيل الشعبي إلى طاقة خلاقة. يجب أن تكون جبهة التحرير الوطني قادرة على توجيه الموج الجبار الذي يهيج الحماسة الوطنية، ويجب أن لا تضيع الغضبة الشعبية ذات القوة الهائلة للشعب التي لا تقاوم، كما تضع قوة السيل الجارف عندما تغور في الرمل. ولتحويل هذه القوة إلى طاقة خلاقة منتجة، شرعت جبهة التحرير الوطني في عمل جبار لاستخدام الملايين من الرجال، لأنه يجب أن تكون الجبهة حاضرة

في كل مكان، ويجب تنظيم فروع النشاط البشري في أشكال عديدة كثيرا ما تكون مركبة معقدة. أ - الحركة الفلاحية إن الأغلبية الساحقة للفلاحين والخماسين والعمال الزراعيين في الثورة، والنسبة القوية التي يمثلونها بين المجاهدين والمسلمين في جيش التحرير الوطني قد دل دلالة بالغة على الصفة الشعبية التي تتصف بها الثورة الجزائرية، وحسبنا لتقدير تلك الأهمية الاستثنائية أن ننظر إلى الانقلاب الكبير الذي وقع في السياسة الزراعية الاستعمارية؛ فبينما كانت هذه السياسة قائمة بصورة خاصة على اغتصاب أراضي الأوقاف والأعراش والملاك، وقد استمرت إجراءات نزع الملكية الى غاية سنتي 1945 و1946، وأصبحت الحكومة الفرنسية اليوم تدعو إلى إصلاح زراعي وتقطع الوعود المتتالية بتوزيع قسم من الأراضي المروية (السقي)، وتنفيذ قانون (مارتان) الذي ظل حبرا على ورق بسبب مقاومة موظف كبير من خدام الاستعمار الجبار، وهذا (لاكوست) ذاته يجرؤ على التفكير في إجراء تدبير ثوري وهو نزع الملكية من بعض الأملاك الكبرى. ولحفظ التوازن، وتأمين كبار المعمرين وتهدئة اعتراضهم وثورتهم، قررت الحكومة الفرنسية إجراء إصلاح في (نظام الخماسة)؛ وهو تدبير خادع يريد أن يوهم بوجود خلاف بين الفلاحين والخماسين. والواقع، أن الزراعة تطورت تطورا طبيعيا نحو وضعية أكثر إنصافا دون تدخل الدوائر الرسمية، وتحولت بصفة عامة إلى (شركة بالنصف)، وإن تغيير الأسلوب هذا ليدل على ما اعترى الاستعمار من الذبذبة والبلبلة، حيث أضحى يعمد إلى

خداع الفلاحين ليصرفهم عن الثورة، وهذه المؤامرة الفاحشة لا تخدع الفلاحين الذين سبق وأن أحبطوا خرافة (مسألة السكان الأصليين) التي كانت تدعو الى تقسيم الجزائريين إلى تقسيم مصطنع ما بين (عرب وبربر) بهدف إثارة العداء والبغضاء فيما بينهم، وصار الفلاحون يعرفون، ويؤمنون، بأن حبهم للأرض لا يمكن أن يشفى غليله إلا بتحقيق الانتصار والاستقلال الوطني. فالإصلاح الزراعي الحقيقي الذي هو الحل الوطني لمشكلة البؤس التي تتخبط فيها البوادي ملازم لهدم النظام الاستعماري هدما تاما شاملا، ويجب على جبهة التحرير الوطني أن تخوض في هذه السياسة العادلة الاجتماعية المشروعة، وستكون نتائجها كالتالي: أ - الحقد الشديد على الاستعمار الفرنسي وإدارته وجيشه وشرطته والخونة المساعدين له. ب - تكوين قوات احتياطية لا تنفذ لجيش التحرير والمقاومة. ج - نشر أسباب الخطر في البوادي (بأعمال الإتلاف وإحراق المزارع وتحطيم محلات الجمعيات التعاونية للتبغ والخمر، والتي هي رمز وجود الاستعمار). د - إحداث الشروط لتنظيم ودعم المناطق المحررة الجديدة وتعزيزها. ب - الحركة العمالية. ينبغي لطبقة العمال أن تساهم مساهمة أقوى يظهر أثرها في التطور السريع للثورة ودعم قوتها، ونجاحها النهائي، وجبهة التحرير الوطني، تحيي تأسيس (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) كرد فعل سليم قام به العمال ضد التأثير الذي كانت تمارسه (جامعة

الشغل العامة. س. ج. ت) و (القوة العمالية. ف. أو) و (الجامعة الفرنسية للعمال المسيحيين. س. ف. ت. س) لشل حركة العمال وعرقلتها. ويعمل الاتحاد العام للعمال الجزائريين على إخراج الطبقة العاملة من الظلمات الى النور، ومن الغموض إلى الوضوح، ومن الانتظار والتردد إلى الإقدام والسير إلى الأمام، وقد قلقت الحكومة الفرنسية الاشتراكية، وقلقت معها (نقابة القرة العمالية. ايف، او) ذات النزعة الاستعمارية الجديدة، قلقا كبيرا من انضمام (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) إلى (الجامعة الدولية للنقابات الحرة) التي كانت مساعدتها لكل من الاتحاد العام للعمال التونسيين، والهيئة المركزية للعمال المغاربة، إيجابية مفيدة في محتلف الميادين الوطنية والخارجية. وفعلا، فقد أحدث ميلاد (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) وتطوره، ضجة بعيدة المدى، وأثار بروزه إلى الوجود اضطرابا عنيفا في صفوف جامعة الشغل العامة، التي انصرف العمال عنها انصرافا كليا، وقد حاول المسؤولون الشيوعيون أن يحتفظوا بالرؤساء الواعين من العمال ببعث روح النقابة القديمة التي كان شعارها استقلال الجزائر، ولكنه دفن بعد تكوين الوحدة النقابية في سنة 1935. ولكن هذه الهيئة النقابية التي هي فرع للجامعة العامة التي مقرها بباريس، لا يكفيها لتصبح هيئة مركزية وطنية أن تغير اسمها، وتبدل لون بطاقة الاشتراك، وتقطع الصلة النسبية الواهية التي بينهما، وكذلك لا يكفي (الاتحاد العام للنقابات الجزائرية - او. ج. س. أ) أن يغير شكله أو مظهره الخارجي ليتكيف مع الوظائف الجديدة للحركة العمالية التي بلغت مرحلة النضح التام. وكل من يتأمل مناورات الشيوعية لا يلبث أن يجد فيها نفس

الوسائل التي درج عليها الاستعماريون الذين أشرفوا على تحويل (المجلس الحالي) إلى ذلك (المجلس الجزائري) الفاسد الوضيع. وإن ارتقاء بعض أعضائها العاملين إلى مراكز ومناصب في الإدارة النقابية، ليذكر بالترقية الرمزية لبعض النواب الموالين للإدارة - الفرنسية -. وفي الحالتين، كان ينبغي تغيير الهدف والطبيعة والمحتوى، سواء في النادي المدني (فواييه سيفيل) أو في قصر كارنو (مركز المجلس الجزائري). وما كان لعجز إدارة الحزب الشيوعي الجزائري في الميدان السياسي؛ إلا أن يبدو أثره في الميدان النقابي، وينجر عنه ذات الفشل والإخفاق. وما الاتحاد العام للعمال الجزائريين إلا صورة تعكس التحول العميق الذي طرأ على الحركة العمالية بعد مدة طويلة من التطور وخاصة عقب الانقلاب الثوري الذي أثاره الكفاح من أجل الاستقلال الوطني. وتختلف الهيئة المركزية الجزائرية الجديدة عن سواها من المنظمات النقابية في جميع الميادين، وتختلف عنها خاصة بانتفاء الوصاية عليها وباختيار القادة والهيكل المحكم والتوجيه السليم والتضامن الأخوي في الجزائر، وفي شمال أفريقيا، وفي العالم أجمع: 1 - إن الطابع الوطني يبدو في حرية ذاتية أساسية تقضي على جميع التناقضات التي تلازم كل وصاية خارجية، ويظهر أيضا - هذا الطابع الوطني - في حرية كاملة لمعالجة كل ما له علاقة بالدفاع عن العمال الذين تتلاحم مصالحهم الحيوية بمصالح كل الشعب الجزائري. 2 - ليست الإدارة متألفة من أعضاء يتم اختيارهم من بين أقلية جنسية لم تعرف الاضطهاد الاستعماري، ولكنها متألفة من رجال وطنيين لهم وعي وطني يشحذ فيهم روح الكفاح ضد الاستغلال

الاجتماعي والبغض العنصري. 3 - لا يتكون - عمودها الفقري - من أرسقراطية عمالية (كالموظفين وعمال السكة الحديدية) ولكنه يتألف من الطبقات التي هي أكثر عددا وأشد تعرضا للاستغلال الفادح (كعمال الموانىء والمناجم والعمال الزراعيين، أي المنبوذين الذين تركوا كالفريسة تحت رحمة السادة أصحاب مزارع الكروم). 4 - إن الروح الثورية تطهر الجو النقابي باستئصال روح الاستعمار الجديد والتعصب الوطني المتولد عنه، وليس ذلك فحسب، بل إنها تطهره أيضا بتكوين الظروف والشروط الملائمة لإظهار الأخوة بين العمال، أخوة لا تنفذ إليها روح العنصرية. 5 - إن الروح النقابية التي طالما حصرت في نطاق المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وبقيت بمعزل عن النشاط العام الشامل، قد باتت مؤهلة لتجاوز العوائق التي كانت تعطل الكفاح، وذلك لتحقيق المزيد من الحرية والعدالة الاجتماعية. 6 - لقد كانت الطبقة العاملة الجزائرية موصوفة بالقصور، وبأنها لا تستحق التوعية والترشيد، وجاءتها الآن الفرصة: لا من أجل القيام بدور ثانوي منحط في الحركة الاجتماعية الفرنسية، ,وإنما من أجل التعاون الزاهر مع الحركة العمالية في شمال أفريقيا (المغرب العربي - الإسلامي) وفي العالم كله. 7 - إن الاتحاد العام للنقابات الجزائرية (س. ج. ت) سيضطر حتما إلى الانحلال والاضمحلال، شأنه في ذلك شأن شبيهاته من المنظمات النقابية في تونس والمغرب، وسيفسح المجال (للاتحاد العام للعمال الجزائريين) الذي هو النقابة الوطنية

الحقيقية الوحيدة التي التف حولها جميع العمال الجزائريين دون تفريق أو تمييز. وينبغي لجبهة التحرير الوطني أن لا تهمل الدور السياسي الذي يمكن لها أن تقوم به لمساعدة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وتكمل عمله النقابي الحر في سبيل تعزيز هذه الهيئة النقابية وتقويتها. وعليه، يجب على المناضلين في جبهة التحرير الوطني أن يكونوا من أشد الناس إخلاصا لها، وأكثرهم نشاطا وأوفرهم اهتماما باحترام القواعد الديموقراطية، جريا على عادة التقاليد في كل حركة عمالية حرة، ولهذا الغرض يجب تحاشي (تجنب) التعميم، والأخذ بكل حالة من الحالات بصورة مستقلة، وتحديد أشكال النشاط طبقا للظروف الوقتية - المرحلية - (مثل وقف العمل - الشغل - وقفا محدودا، وتنظيم إضرابات محلية للتضامن). * - إشراك العمال الأوروبيين في الحركة. * - تحقيق التعاطف مع جيش التحرير الوطني، وتحويل المقاومة إلى تأييد عملي عن طريق الاكتتاب - الاشتراك - وتجهيز المجاهدين، والقيام بأعمال التخريب - الاتلاف - والاضرابات التضامنية والاضرابات السياسية. ج - حركة الشباب يمتاز الشباب الجزائري بما طبع عليه من النشاط والحيوية والإخلاص والبطولة، كما أنه يمتاز بأمر نادر وهو أنه يمثل ما يقرب من نصف مجموع السكان بسبب ازدياد المواليد بصفة استثنائية، وهو يمتاز أيضا بالنضح المبكر، حيث أنه بنتيجة البؤس والشقاء

والاضطهاد الاستعماري، قد انتقل من طور الطفولة إلى طور الرجولة، مختصرا مرحلة المراهقة إلى الحرية التي يصبو إليها بولع وشغف مع ازدراء الخوف والاستهانة بالموت، وهو يجد في الثورة الجزائرية، ومآثر جيش التحرير الوطني، والنشاط الذي تقوم به جبهة التحرير الوطني، ما يستجيب لشجاعته التي يغذيها شعور وطني شريف نبيل. إنه بذلك يمثل الجانب الأعظم من قوة جبهة التحرير الوطني، وركنا متينا من أركان مقاومتها الجبارة. د - المثقفون وأصحاب المهن الحرة. مما دل دلالة واضحة على سلامة التوجيه السياسي وصحته، عودة المثقفين أو أصحاب المهن الحرة، إلى حظيرة الوطن الجزائري، وكون وعيهم الوطني لم تقض عليه محاولة (فرنستهم) وكذلك إقلاعهم عن المواقف الفردية والتي يمكن إصلاحها وعليه يجب: 1 - تكوين لجان نشاط من بين المثقفين الوطنيين للأمور التالية: أ - القيام بدعاية لاستقلال الجزائر. ب - الاتصال بالديموقراطيين الأحرار من الإفرنسيين. ج - افتتاح الاكتتابات. ويجب على جبهة التحرير أن تسند اليهم بطريقة حكيمة صائبة مهمات معينة محدودة في الميادين التي يمكن لهم أن يقوموا فيها بعمل مفيد، كالأعمال السياسية والإدارية والثقافية والصحية والاقتصادية وما إلى ذلك.

2 - تنظيم مصالح صحية تشتمل على: أ - جراحين وأطباء وصيادلة يكونون على اتصال بعمال المستشفيات (مثل الأطباء). ب - تنظيم العلاج والحصول على الأدوية والضمادات. ج - تنظيم عيادات في الأرياف للإشراف على معالجة المرض ومن يكون منهم في طور النقاهة. د - التجار والصناع. كانت النقابة التجارية الجزائرية التي يحتكرها (شيافينو) سيد الغرفة التجارية بالتعاون مع حركة (بو جاد) العنصرية الاستعمارية الفاشستية، لا تجد بجانبها إلا الفراغ التام، لعدم وجود هيئة مركزية تجارية وصناعية حقيقية، يديرها وطنيون كفيلون بالدفاع عن الاقتصاد الجزائري. ومن أجل هذا، فإن الاتحاد العام للتجار الجزائريين سيحتل مكانة هامة إلى جانب المنظمة الشقيقة، وهي (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) ومن واجب جبهة التحرير الوطني أن تساعد هذه المنظمة النقابية على التطور والتوسع، بتكوين الظروف والشروط السياسية المناسبة، وذلك بالعمل على: 1 - مكافحة الضرائب. 2 - مقاطعة كبار التجار الاستعماريين (البوجاديين) الذين يمدون الحرب الاستعمارية بمؤازرة نشيطة. و- الحركة النسائية. (سبق عرضها في الكتيبات السابقة) (*).

_ (*) انظر الكتاب الثالث عشر من هذه المجموعة (المجاهدة الجزائرية والارهاب الاستعماري).

4 - البحث عن الأنصار. يعتمد الجزائريون، أول ما يعتمدون، على أنفسهم في تحرير بلادهم، ويوصي العمل السياسي، (مثله مثل العلم العسكري وفي الحرب) بعدم إهمال أي عامل من العوامل، ولو كان ظاهره قليل الأهمية لإحراز النصر. ومن أجل هذا، شرعت (جبهة التحرير الوطني) وكانت موفقة، في تعبئة جميع القوى الوطنية، وهي تريد بذلك عدم السماح للعدو الاستعماري بالاستناد إلى جميع الأقليات، وحرمان الثورة من التضامن الدولي معها. وتتطلب عملية البحث عن الأنصار معالجة مراكز القوى التالية: أ -الأحرار الجزائريون. ب - الأقلية اليهودية. ج - نشاط جبهة التحرير في فرنسا. د - تضامن الشمال الأفريقي. أ - الأحرار الجزائريون للأقلية الأوروبية في الجزائر أهمية من حيث العدد، ينبغي أن يحسب لها حسابا، على خلاف ما في تونس والمغرب. وهذه الأقلية الأوروبية تعززها هجرة مستمرة إلى بلادنا مدعمة بعون رسمي، وهي تمد النظام الاستعماري بقسم كبير من أشد أعوانه تعنتا وعنصرية، ولكن الأوروبيين لا يشكلون كتلة متراصة حول المسيرين - الزعماء - من كبار المعمرين، وذلك بسبب التمايز بينهم في توزيع الامتيازات، وبسبب الدور الذي يمارسونه في المراتب الاقتصادية والإدارية والسياسية في نطاق النظام الاستعماري. إن روح التفوق العنصري عندهم هي روح عامة، غير أن مظاهرها تختلف عن الحالة الجنوبية المعروفة عند أهل الجنوب من الولايات المتحدة، وهي تتأرجح بين حدي (التعصب الأعمى)

و (النفاق المختفي وراء العطف الأبوي). والاستعمار الفرنسي القابض على زمام الإدارة الجزائرية والشرطة والصحافة والإذاعة، قد استطاع غير ما مرة أن يمارس ضغطا على الرأي العام ويحوله الى فكرة رجعية. ومما يدل على مهارته ومقدرته في تدبير المكائد والدسائس في الاستفزاز، هو ما جرى من المظارات الصاخبة بمناسبة ذهاب (سوستيل) ويوم 6 - شباط - فبراير - 1956، وكانت نتيجتها خضوع رئيس الحكومة؛ لفرنسة واستسلامه (للمستوطنين). وقد عمد الاستعمار بلوغ هدفه، على قذف الفزع في القلوب، فاتهم الحكومة بإهمال الأقلية الأوروبية، غير الإسلامية وإلقائها بين يدي (الوحشية العربية) وتركها ضحية (للحرب الدينية) وتسليمها لمكيدة أفظع من مكيدة (سان برتيليمي) الشهيرة. وييدو أن الشائعات التي اختلقها بوق الاستعمار (ريجاس) وأذاعها الجلاد (باتكي كريغو) في الصورة البشعة (الحقيبة أو الموت) أصبحت اليوم صورة تافهة. والأحزاب الوطنية القديمة لم تول هذه المسألة ما تستحقه من الأهمية، فهي لم تكن تهتم إلا بالرأي العام الإسلامي، وكثيرا ما غفلت عن التصريحات النابية التي كان يدلي بها من حين لآخر بعض الدجالين المرابين الذين كانوا في الواقع يعينون العدو الأكبر، ولا زال الهجوم المضاد - المعاكس - حتى اليوم، ضعيفا ولا تستطيع الصحافة الديمرقراطية في فرنسا أن توقف السموم التي يبثها الاستعمار، ووسائل التعبير التي بيد جبهة التحرير الوطني غير كافية، ومن حسن الحظ أن المقاومة الجزائرية لم ترتكب أخطاء خطيرة تبرر التصريحات التي تنشرها الصحافة الاستعمارية الموالية للمصلحة البسيكولوجية للجيش الاستعماري، وقد دل على أكاذيبها

المفضوحة ما شهد به الصحافيون الفرنسيون والأجانب، وهذا الذي جعل الكتلة الاستعمارية العنصرية التي ظهرت يوم 6 - شباط - فبراير - تأخذ في التصدع، وأخذت البلبلة تزول وتفسح المجال شيئا فشيئا للشعور الواقعي، وثبت أن الرأي القائل بالحل العسكري الذي يهدف إلى إبقاء على ما كان عليه، إنما هو وهم باطل، وأصبحت مسألة الساعة اليوم هي: بعد رجوع السلم عن طريق المفاوضات، ما هي الوضعية التي ستخصص للذين يعتبرون الجزائر وطنا كريما سخيا، حتى بعد زوال حكم (بورجو)؟، وقد ظهر في هذا الشأن اختلاف في الميول والاتجاهات: 1 - أصل هذه الميول هي فكرة (الحياد) وهي تعبر عن الأمل في ترك الغلاة من الاستعماريين يدافعون عن امتيازاتهم التي يهددها الوطنيون (المتطرفون). 2 - أنصار الحل الوسط، أي المفاوضات لتنظيم جماعة جزائرية، تحتل موقعا متوسطا بين (الاستعمار الفرنسي) و (الاستعمار العربي) المتأخر، وذلك بإحداث جنسية مزدوجة. 3 - أقوى الآراء جرأة، هي التي تقبل استقلال الجزائر والجنسية الجزائرية، بشرط الاعتراض على التدخل الأمريكي والبريطاني والمصري. وهذا في الواقع تحليل مختصر لا يهدف إلى شيء سوى إبراز الخلاف الموجود في الرأي العام الأوروبي. وعليه فمن الخطأ الفادح الذي لا يغتفر، أن ينظر إلى جميع الأوروبيين واليهود من سكان الجزائر بعين واحدة كما أنه من الخطأ الذي لا يغتفر توهم الوصول إلى كسبهم جميعا لصالح قضية التحرر الوطني، والهدف الذي

بجب إدراكه هو عزل العدو الاستعماري الذي يضطهده الشعب الجزائري - لذلك ينبغي لجبهة التحرير الوطني أن تعمل على تعزيز هذه الظاهرة النفسانية وتطويرها للقضاء على نشاط جزء كبير من السكان الأوروبيين، وليست غاية الثورة الجزائرية أن (تلقي في البحر) بالسكان الأوروبيين، ولكنها تريد تحطيم نير الاستعمار الوحشي، وليست الثورة الجزائرية حربا أهلية، ولا حربا دينية، وكل ما تريده الثورة الجزائرية هو أن تسترد الاستقلال الوطني، لإقامة جمهورية ديموقراطية اجتماعية تضمن مساواة حقه بين جميع سكان الوطن بدون تفريق ولا تمييز. ب - الأقلية اليهودية إن تقرير هذا المبدأ الأساسي الذي تقبله جميع المبادىء الأخلاقية العالمية يساعد على خلق في الرأي العام الاسرائيلي في استمرار تعايش سلمي يرجع تاريخه إلى آلاف السنين. فقد كانت الأقلية اليهودية، بادىء الأمر، متأثرة بالحملة التي شنها الاستعماريون لإضعاف معنوياتهم؛ فنادى ممثلوها في المؤتمر اليهودي العالمي الذي انعقد بلندن، بتمسكهم بالجنسية الفرنسية التي تجعلهم في مكانة أرقى من مكانة مواطنيهم المسلمين، ولكن تفجر الحقد للجنس السامي الذي أعقب المظاهرات الاستعمارية الفرنسية قد أحدث في نفوسهم اضطرابا عميقا لم يلبث أن تبعه رد فعل سليم للدفاع عن النفس، وكان أول رد فعل من جانبهم هو الاحتماء من خطر الوقوع بين نارين، وكانت أول ظاهرة له هي التبرؤ من اليهود أعضاء لجنة (8 تشرين الثاني - نوفمبر) و (الحركة البوجادية)؛ فقد خشي اليهود أن تثير حركة هؤلاء سخطا يتسبب في الانتقام من الطائفة كلها، ولقد أبدت المقاومة الجزائرية استقامة لا

خلل فيها، حيث قصرت ضرباتها كلها على الاستعمار وحده، فأدرك المترددون القلقون من اليهود أن هذه المقاومة التي تمتاز بالإباء والشهامة، ما هي إلا غضبة الضعفاء ضد الطغاة المتجبرين. ولقد قام في الحين رجال مثقفون وطلبة وتجار وبادروا إلى إثارة حركة في الرأي العام تدعو إلى شل أيدي كبار المعمرين وأعداء اليهود، وذلك لأنهم لم يكونوا بضعيفي الذاكرة، إذ انهم لم ينسوا نظام (فيشي) الوضيع الذي أخرج (185) مرسوما من القوانين والأوامر التي بمقتضاها حرموا من حقوتهم طوال أربع سنوات (من الحرب العالمية الثانية)، وطردوا من الإدارات والجامعات، وأخرجوا من ديارهم ومتاجرهم، وردوا من حليهم وجوارهم، وفرضت على إخوانهم اليهود في فرنسا ضريبة جماعية (بمبلغ مليار فرنك) وكانوا يطاردون ويعتقلون في محتشد (درانسي) ويرسلون في قطارت إلى (بولونيا) حيث قضى اأكثرهم نحبه في بيوت التعذيب، والنار ذات الوقود. وبعد تحرير فرنسا، سرعان ما استرد اليهود الجزائريون حقوقهم وأموالهم بفضل تأييد النواب المسلمين، وذلك بالرغم من اعتراض الإدارة الفرنسية التي بقيت متمسكة بمذهب (بيتان). فهل بلغ اليهود من السذاجة بحيث أصبحوا يعتقدون اليوم أن انتصار الاستعماريين الغلاة يجعلهم في مأمن من الأهوال والويلات التي عرفوها، وهم الذين صبوها عليهم فيما مضى؟ لا يزال اليهود الجزائريون حتى اليوم، لم يتغلبوا على اضطراب ضمائرهم، ولا عرفوا بعد أية وجهة يتخذونها، وأملنا أن يسير الكثير منهم على أثر أولئك الذين استجابوا لنداء الوطن الجزائري الكريم، وصادقوا الثورة بمطالبتهم منذ الآن في فخر واعتزاز بالجنسية الجزائرية، وإن اختيارهم هذا يعتمد على التجربة والخبرة والعقل

السليم والتبصر بالأمور. وعلى الرغم من الصمت الذي يلزمه (حاخام الجزائر العاصمة) على نقيض كبير الأساقفة الذي وقف موقفا كريما، حيث قام بشجاعة، وعلى مسمع ومرأى من الدنيا، فندد بالظلم الاستعماري، فإن أغلبية الجزائريين لم يعدوا الطائفة اليهودية ملتحقة بصف العدو نهائيا، وقد قضت جبهة التحرير الوطني على الاستفزازات الكثيرة التي دبرها الاخصائيون في الولاية العامة. وإذا استثنينا العقوبات الفردية التي أنزلت بالشرطة والحركة الإرهابية المضادة للمسؤولين عن جرائم، اقترفت ضد السكان الأبرياء، فقد تمت صيانة البلاد الجزائرية من كل ثورة ضد اليهود، ومقاطعه التجار اليهود قد قمعت في مهدها وقبل انطلاقها، وكان المفروض أن تعقب مقاطعة التجار (الميزابيين)؛ هذا الذي يفسر كون النزاع العربي - الإسرائيلي، لم يكن له في الجزائر صدى خطير، الأمر الذي كان - لو وقع - يصفق له أعداء الشعب الجزائري. وقد برهنت الثورة الجزائرية بالفعل على أنها جديرة بثقة الأقلية اليهودية، وأنها جديرة بأن تكفل لليهود حظهم من السعادة في الجزائر المستقلة، ولا تحتاج الثورة لاكتساب هذه الصفحة إلى البحث عما سجله تاريخ بلادنا من دلائل على التسامح الديني، والتعاون في أرقى وظائف الدولة والتعايش الصادق النزيه. إن اضمحلال النظام الاستعماري الذي استخدم الأقلية اليهودية، واتخذها درعا لتخفيف الضربات النازلة على الاستعمار، ليس معناه القضاء حتما على هذه الأقلية بالفقر، وليس أسخف من الافتراض القائل (بأن الجزائر لا تكون شيئا مذكورا إذا انفصلت عن فرنسا). إن الازدهار الاقتصادي الذي تناله الشعوب المحررة أمر

بدهي ظاهر للعيان، وفعلا فإن (الدخل الوطني - الإيراد) يتزايد أهمية، ويضمن لجميع الجزائريين حياة أكثر رفاهية ورخاء، وبناء على ما سلف ذكره، توصي جبهة التحرير الوطني يما يلي: 1 - تشجيع ومساعدة تأليف لجان وحركات من بين الديموقراطيين الأحرار الجزائريين حتى الذين لهم أهداف معينة محدودة بادىء الأمر، ومثال ذلك: أ - لجنة للسعي ضد الحرب في الجزائر. ب - لجنة تدعو للمفاوضة والسلم. ج - لجنة تدعو للجنسية الجزائرية. د - لجنة لمساعدة ضحايا القمع. هـ - لجنة لدراسة القضية الجزائرية. و- لجنة للدفاع عن الحريات الديموقراطية. ز - لجنة لتجريد منظمات البوليس المدني (الشرطة) من السلاح. ح - لجنة لإعانة العمال الزراعيين، ومؤازرة النقابات، وتأييد الإضرابات، وحماية الأطفال والنساء الذين يستغلهم الاستعمار. 2 - مضاعفة الدعاية بين الجنود والمجندين، وذلك: أ - بتزويدهم بالكتب والصحف (الجرائد) والمجلات والمنشورات المناهضة للاستعمار. ب - بإنشاء لجان لاستقبال الجنود أثناء الإجازة. ج - بتمثيل روايات مسرحية تحرض على الكفاح الوطني في سبيل الاستقلال. د - زيادة اللجان التي تضم نساء المجندين للمطالبة بتسريح

أزواجهم من الجندية. ج - نشاط جبهة التحرير في فرنسا. 1 - توسيع تأييد الرأي العام الديموقراطي. إن تحليل الآراء السياسية للديموقراطيين الأحرار في فرنسا، من شأنه أنه يساعد على إدراك وجوه الخلاف الموجودة في وسط الرأي العام الفرنسي الذي يتأثر بسرعة طبقا للشعور الشعبي، وما من شك في أن جبهة التحرير الوطني تعلق نوعا من الأهمية على المساعدة التي يمكن أن تقدمها لقضية المقاومة الجزائرية تلك الطبقة المتفتحة من الشعب الفرنسي الذي لا يطلع إطلاعا كافيا على ما يرتكب باسمه من الفظائع التي يعجز البيان عن وصفها، وإنا لنقدر مساعدة ممثلي الحركة الديموقراطية الحرة الفرنسية التي تهدف إلى فرض الحل السياسي حقنا للدماء المهرقة هدرا، وقد أصبحت إدارتها في (باريس) مدعمة معززة، وهي مهمة سياسية كبيرة لإطال المفعول السلبي للنشاط الذي تقوم به الرجعية الاستعمارية وذلك مثل: (القيام باتصالات سياسية مع المنظمات والحركات واللجان القائمة ضد الحرب: بالصحافة والاجتماعات الشعبية والاضرابات التي تنظم ضد ترحيل الجنود وشحن الآلات الحربية إلى الجزائر. 2 - تنظيم الهجرة الجزائرية في فرنسا يعتبر الجزائريون المهاجرون إلى فرنسا رأس مال ثمين بالنسبة إلى عددهم وطابعهم الذي يمتازون به من الفتوة وحب الكفاح وقوتهم السياسية، وإن مهمة جبهة التحرير في تعبئة هذه القوى كلها، هي مهمة كبيرة الخطورة، لا سيما وأنها تستلزم في الوقت

ذاته كفاحا شديدا لا هوادة فيه لاستئصال شأفة النزعة (المصالية). 1 - إثارة الرأي العام الفرنسي والأجنبي، وتنويره، بنشر الأخبار والمقالات في الصحف والمجلات، وينبغي في هذا الشأن جمع كل المكافحين ذوي الخبرة والدراية والمثقفين والطلبة. 2 - الدأب بصورة مستمرة، من غير كلل ولا ملل، على بيان فشل النزعة المصالية كتيار سياسي، وتورطها مع الدوائر القريبة من الحكومة الفرنسية، الأمر الذي يفسر أن هذه النزعة ليست موجهة ضد الاستعمار، ولكنها موجهة ضد جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني. د - تضامن الشمال الأفريقي لقد فشل الاستعمار، وفشلت مشروعاته وتصميماته فشلا ذريعا أمام تشدد (جبهة التحرير الوطني) ومواصلة (جيش التحرير الوطني) لكفاحه القوي الشديد، كما فشل أمام الاتحاد الكامل والعام الذي جمعه ورص بنيانه مثله الأعلى في الاستقلال الوطني. ومن جهة أخرى، فإن حكومتي تونس والمغرب قد وقفتا، بفضل ضغط الشعبين الشقيقين، موقفا صريحا من هذه المشكلة التي يرتهن بها التوازن في شمال أفريقيا، وهذا ما يدعو جبهة التحرير الوطني إلى الحفز والتشجيع على: 1 - تنسيق السعي الحكومي في البلدين الشقيقين للضغط على الحكومة الفرنسية في الميدان الديبلوماسي. 2 - توحيد النشاط السياسي بإنشاء لجنة تنسيق بين الأحزاب الوطنية الشقيقة وجبهة التحرير الوطني، وذلك: أ - بإنشاء لجان شعبية لتأييد الثورة الجزائرية.

ب - التدخل بمختلف الوجوه في جميع المناطق. 3 - الاتصال الدائم بالجزائريين المقيمين في المغرب وتونس (القيام بعمل إيجابي ملموس لدى الرأي العام والصحافة. 4 - التضامن بين الهيئات النقابية المركزية: (الاتحاد العام التونسي للشغل) و (الاتحاد المغربي للشغل) و (الاتحاد العام للعمال الجزائريين). 5 - التعاون بين اتحاد الطلبة الثلاثة. 6 - تنسيق نشاط الهيئات الاقتصادية المركزية الثلاث. 5 - الجزائر أمام العالم قامت الديبلوماسية الفرنسية بنشاط كبير في الميدان الدولي للحصول حيثما أمكن، ولو لمدة قصيرة، على مساعدة أدبية ومادية، أو حياد في شيء من العطف، أو الالتزام بموقف سلبي، وكان أقصى ما أحرزته المساعي الديبلوماسية الفرنسية هو بعض التصريحات القلقة التي أفضى بها الممثلون للولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والحلف الأطلسي على سبيل المداراة والمجاملة، بيد أن الصحافة العالمية والصحافة الأمريكية - بصفة خاصة - لم تفتأ تندد بالأعمال الإجرامية والفظائع الحربية، التي يقوم بها جنود (اللفيف الأجنبي) و (جنود المظلات) مثل: التنكيل بالشيوخ والنساء والأطفال وتقتيل المثقفين والمدنيين الأبرياء وتعذيب المساجين السياسيين الوطنيين وإكثار المعتقلات، وإعدام الرهائن، وتطالب الصحافة العالمية الاستعمار الفرنسي بالاعتراف العلني الرسمي بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بكامل

الحرية، وإن (الكفاح الجبار الذي يقوم به جيش التحرير الوطني) وانتصاراته الباهرة التي أثبتت للجميع أنه جيش لا يقهر بفضل إجماع الشعب الجزائري على التعلق بالحرية، مثله الأعلى، الذي يسعى من أجله قد أخرج القضية الجزائرية من النطاق الفرنسي الذي قيدها فيه الاستعمار الفرنسي، ويرجع الفضل في هدم هذه الأسطورة القائلة (بالجزائر الفرنسية) إلى (مؤتمر باندونغ) والى الدورة العاشرة (للجمعية العامة للأمم المتحدة). وهل يعقل أو يمكن تغيير جنسية شعب لمجرد غزو بلاده واحتلالها من طرف جيش أجنبي؟ .. أن الجزائريين لم يقبلوا في وقت من الأوقات (فرنسة الجزائر) لا سيما وأن هذه الصفة التي أريد فرضها عليهم، لم تمنع الاستعماريين من اعتبارهم غرباء في وطنهم، يحرمون حتى مما يتمتع به الأجانب تحت سمائه من الحرية والتقدير، وقد خنق الاستعمار أنفاس اللغة العربية التي هى اللغة القومية، لغة الأغلبية الساحقة من السكان، ومحى تعليمها العار محوا كليا منذ بدء الاحتلال، بتشتيت شمل الأساتذة والطلاب وباغتصاب الأوقاف، كما انتهكت حرمة الديانة الإسلامية، وشوه وجهها السمح بتسخير القائمين عليها واستئجارهم من طرف الإدارة الاستعمارية، وقد حارب الاستعمار الفرنسي الحركة الإصلاحية (لجمعية العلماء) وأيد الطرائف الطرقية المسخرة برشوة بعض شيوخ الزوايا. وكم يظهر خبث (بيدو) و (لاكوست) و (سوستيل) و (الكردينال فلتان) خبثا مشينا، إذ أنه أوقع أصحابه في هوة من النذالة والخيانة عندما حاولوا خداع الرأي العام الفرنسي وتضليله، زاعمين أن الثورة حركة قائمة على التعصب الديني في خدمة نشر

الإسلام في العالم. إن الثورة الجزائرية لا تميز نفسها على بقية الطوائف الدينية المختلفة التي تسكن البلاد الجزائرية، ولكنها تميز فقط أنصار الحرية والعدل والكرامة الإنسانية من جهة أخرى، وليس أدل على هذا من إنزال العقاب الشديد بالخونة من رجال الدين في حرم المسجد. وعلى عكس ذلك، فبفضل النضج السياسي الذي بلغه الشعب الجزائري، وبفضل الحكمة والبصيرة اللتين تمتاز بهما إدارة (جبهة التحرير الوطني) أمكن فضح مساعي الاستعمار المتجددة وإحباطها، حيث كانت هذه المساعي الاستعمارية تثير التحديات والاستفزازات لإشعال نار الفتن والاضطرابات ضد المسيحيين، وإعلان العداء للأجانب، وما الثورة الجزائرية رغم كل الدسائس والتحريضات التي تقوم بها الدعاية الاستعمارية، إلا كفاحا وطنيا يعتمد على أساس قومي وسياسي واجتماعي، وليست الثورة الجزائرية تابعة للقاهرة أو لندن أو موسكو أو واشنطن، وإنما هي ثورة تسير في مجراها الطبيعي طبقا للتطور التاريخي للإنسانية والذي لم يعد يرضى بوجود أمم مستعبدة على وجه الأرض؛ وهذا ما جعل قضية (استقلال الجزائر) قضية عالمية، ومشكلة تتحكم في جميع مشاكل الشمال الأفريقي، وسترفع الدول الافريقية - الآسيوية قضية الجزائر إلى هيئة الأمم المتحدة من جديد. وإذا ظهر عند هذه الدول الصديقة إبان الدورة الأخيرة لجمعية الأمم المتحدة اهتماما بالغا للتوفيق بين الجانبين، بحيث أفضى بها إلى سحب مناقشة القضية الجزائرية من جدول أعمال الهيئة الدولية، فليس لها اليوم مثل هذا الموقف بعد أن نكثت فرنسا بجميع الوعود التي قطعتها على نفسها. وقد كان موقف البلاد العربية عامة ومصر خاصة سببا في ذلك الفتور، فقد كان تأييدها للشعب

الجزائري محدودا ومرهونا بتطورات ديبلوماسيتها، ذلك أن فرنسا كانت تضغط على بلاد الشرق الأوسط عن طريق المساعدة الاقتصادية والعسكرية، والمعارضة لحلف بغداد، وقد حاولت بصفة خاصة أن تضغط بكل قواها لشل الأسلحة النفسية والأدبية التي بيد جيش التحرير الوطني، ومنها على الخصوص إذاعة (صوت العرب). أما البلاد غير العربية من الكتلة الأفريقية - الآسيوية، فقد كانت حريصة أن لا تبدو أكثر حماسة من البلاد العربية، من جهة، وكانت راغبة من جهة أخرى القيام بدور محدد في قضايا مثل نزع السلاح والتعايش السلمي. وعلى كل حال، فإن تدويل القضية الجزائرية في طورها الحاضر، قد زاد من قوة الشعور العالمي بضرورة استعجال تسوية هذا الصراع المسلح الذي قد يمتد إلى عامة البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا والشرق الأوسط بل قد يعم العالم أجمع. كيف نوجه نشاطنا الدولي؟. تقع القاعدة الأساسية نشاطنا في هذا الميدان، في البلاد العربية، وفي مصر بوجه خاص، ولم تكن اتصالاتنا بساسة البلاد الشقيقة، ولا تزال، سوى اتصالات حليف مع حلفائه، ولم تكن اتصال آلة بيد مستعملها، ومن واجبنا أن نحرص بانتظام على المحافظة على استقلال الثورة الجزائرية استقلالا تاما، كما ينبغي القضاء على المزاعم التي أشاعتها الحكومة الفرنسية وديبلوماسيتها وصحافتها الكبرى لإظهار ثورتنا في مظهر ثورة مصطنعة زائفة مدبرة من الخارج، وليس لها جذور في الشعب الجزائري المكبل بالقيود، ولذلك يجب: 1 - حمل دول مؤتمر باندونغ على ممارسة ضغط سياسي وديبلوماسي واقتصادي مباشر على فرنسا علاوة على مساعيها لدى

هيئة الأمم المتحدة. 2 - السعي للحصول على تأييد الدول والشعوب الأوروبية بما فيها البلاد الشمالية، والديموقراطيات الشعبية، وكذلك بلاد أمريكا اللاتينية. 3 - الاعتماد على المهاجرين العرب في بلدان أمريكا اللاتينية. ولهذا الغرض عززت (جبهة التحرير الوطني) الوفد الجزائري القائم بمهمة (البعثة الخارجية) وقد أصبح لديها: 1 - مكتب دائم لدى هيئة الأمم المتحدة، وفي الولايات المتحدة. 2 - وفد في البلاد الآسيوية. 3 - وفود متنقلة لزيارة العواصم، والمشاركة في التجمعات الثقافية العالمية، وتجمعات الطلاب والنقابات وغيرها. 4 - دعاية مكتوبة قائمة على وسائلنا الخاصة، من تنظيم مكاتب صحيفة ونشر التقارير وعرض الوثائق بالصور والأفلام. الخلاصة: منذ عشر سنوات، وبعد الحرب العالمية الثانية، حدث انفجار هائل زعزع أركان الامبريالية، وقد انطلق تيار التحرير الوطني المكبوت منذ زمن بعيد، فهز الشعوب الأسيرة ووقعت انتفاضة شاملة، فدفعت البلاد المستعمرة الواحدة تلو الأخرى إلى السعي وراء مستقبل زاهر من الحرية والسعادة. وخلال هذه الحقبة القصيرة من الزمن استطاع ثمانية عشر شعبا أن يخرج من ظلمات العبودية الاستعمارية، وتتبوأ مقعدها تحت شمس الحرية والاستقلال الوطني.

ستعيش حرا يا ولدي

فحطمت شعوب سورية ولبنان وفييتنام والهند والفزان أغلالها وغادرت سجن الاستعمار الفرنسي المظلم، ثم أعربت شعوب المغرب الثلاثة بدورها عن عزمها وقدرتها على أن تأخذ مكانها في مجمع الأمم الحرة، وأن الثورة الجزائرية التي نشبت في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954 لسائرة في طريقها السوي، ولا شك في أن الكفاح لا يزال شاقا ومريرا، وإن هذا الجهاد المسلح الطويل الذي يقوم به الشعب الجزائري الصامد، تحت إشراف جبهة التحرير الوطني وإدارتها الحازمة سيكلل بالنصر لا محالة. وسيمحى يوم 5 تموز - يوليو - 1830 الأسود المشؤوم بالقضاء على نظام الاستعمار الممقوت لقد اقترب اليوم الذي يجني فيه الشعب الجزائري الثمار الطيبة اللذيذة لتضحياته المريرة الأليمة وشجاعته السامية الكريمة وهي: استقلال الوطن الذي سيخفق فوقه العلم الجزائري رمزا للحرية والسيادة.

تطور جبهة التحرير الوطني (سنة 1957)

3 - تطور جبهة التحرير الوطني (سنة 1957) قد لا تكون هناك حاجة للتعليق على (منهج الصومام) الذي سبق عرض مقتطفات منه، ذلك أن هذا المنهج واضح في مضمونه، صريح في عرضه للقضايا التي جابهتها الثورة، دقيق في وضعه للحلول والمخططات التي يجب العمل بها. و (المنهح) في واقعه تعبير عن الحالة العقلية أو (الذهنية) التي كانت تعيشها قيادة (جبهة التحرير الوطني)، غير أن فهم الأبعاد التي تضمنها المنهج، يتطلب بالضرورة القيام بجولة سريعة، أو بعرض وجيز، للمراحل التي سبقت المؤتمر والتي تلته وجاءت في أعقابه. لقد أصدر القادة التاريخيون بيانهم الأول - في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954 وهم يدركون تماما ما يعنيه هذا البيان، ولقد قيل (بأنه ليس في وسع أي ثوريين أن يحكموا سلفا على ما تلقاه النداءات التي يوجهونها للثورة من استجابة) (*) غير أن مثل هذا القول يفتقر للدقة، في حالة الثورة الجزائرية على الأقل، إذ لو لم

_ (*) الجزائر الثائرة (جوان غيلسبي) تعريب خيري حماد - دار الطليعة - بيروت 1961 - ص 139.

يكن القادة التاريخيون يعرفون يقينا مدى استعداد الجزائر للاحتراق بنار الثورة، لما أطلقوا شرارتها، ولما وجهوا بيانهم التاريخي إلى (الشعب الجزائري)، ولما كان باستطاعتهم تطوير تلك الهجمات الأولية المذهلة التي شنت في ليل (عيد جميع القديسين)، ولكان في وسع الفرنسيين القضاء بسهولة على الثورة وهي في مهدها، بما لديهم من جيوش مجهزة أحسن تجهيز، ووافرة العدد والوسائط القتالية، وكان الواجب الأول الملقى على عاتق جبهة التحرير الوطني أن تحصل على الدعم الشعبي اللازم لتطوير الثورة واستمرار تصاعد قوتها. وقد تضمنت وثيقة إعلان الثورة الأسس والمبادىء التي وردت بوضوح أكبر في (منهح الصومام) مما يؤكد وضوح الخط الثوري، وضوحا لا يقبل الجدل أو النقاش. لقد توجهت قيادة جبهة التحرير الوطني ببياناتها إلى (الشعب الجزائري) مباشرة، وبات لزاما عليها أن تتخذ موقفا واضحا من مراكز القوى المختلفة والتي طالما أدت صراعاتها إلى خدمة الأهداف الاستعمارية وإلى تشتيت القوى وتمزيقها، ولقد تضمن البيان الأول للثورة نداءا إلى جميع الجزائريين على اختلاف أحزابهم وطبقاتهم إلى أن يتبنوا حركة النضال في سبيل الاستقلال، وبات واضحا تماما أن جبهة التحرير ليست (تجمعا للأحزاب) وإنما هي جبهة مفتوحة على كل المواطنين للعمل تحت راية الجبهة ببرامج جديدة وأهداف واضحة، بصرف النظر عن كل الآراء السياسة التي كان يحملها هؤلاء المواطنون قبل الثورة. وبكلمة أخرى فإن الجبهة أظهرت استعدادها لاحتضان كل الأحزاب لا بصفتها الحزبية وإنما بصفتها مجموعة من المواطنين المستعدين لحمل راية الثورة. وعندما قامت الإدارة الفرنسية بحل (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) قام

أتباع (مصالي الحاج) من المطالبين بالإصلاح بتأليف حركة أسموها (الحركة الوطنية الجزائرية) بينما انضم اتباع (اللجنة المركزية) بصورة تدريجية إلى الجبهة، والتحموا معها، ولم تنجح المحاولات المستمرة التي بذلت لاقناع (مصالي الحاج) بالتعاون مع جبهة التحرير، وأدى إطلاق صراح أتباع (مصالي) إلى إقامة حركة منافسة من (رجال المقاومة) تابعة (للحركة الوطنية الجزائرية) التي افتضحت بسرعة بسبب تواطئها مع الشرطة الفرنسية. وقامت الجبهة بعد أن أدانت حركة مصالي بمناوأتها للثورة، بمهاجمة مقاومي الحركة وتصفيتهم (في العام 1955)، وفي العام (1957) انتقل الصراع إلى فرنسا حيث دارت معارك ضارية بين أنصار (جبهة التحرير الوطني) وبين (أنصار الحركة الوطنية الجزائرية) من العمال المهاجرين إلى فرنسا. كان موقف (الاتحاد الديموقراطي) الذي يتزعمه (فرحات عباس) مغايرا لموقف (الحركة الوطنية الجزائرية)، وكانت الجبهة ترغب كل الرغبة في انضمامه للجبهة، بهدف دعم الوحدة الوطنية من جهة، وللإفادة من طبقة المثقفين (الطبقة المتوسطة) التي يحتويها هذا التكتل، وقد جرت عدة محادثات سرية مع ممثلي الجبهة في مطلع العام (1955)، ولم يحل شهر أيار (مايو) حتى كان قد انضم اليها وأتباعه، الأمر الذي دعم من قوة الجبهة وزاد من هيبتها. أما موقف جمعية العلماء، وهي الحركة الوطنية الدينية القديمة - المتجددة، فقد ظل متحفظا تجاه الجبهة، فقد أعلن الشيخ (بشير الإبراهيمي) رئيس الجمعية وغيره من زعمائها في خارج الجزائر قبول برنامج الجبهة، وكان انضمام الشيخ (أحمد

توفيق المدني) للجبهة برهانا على هذا التأييد. أما في الجزائر، فقد ظل العلماء متحفظين في تأييدهم لجبهة التحرير بسبب انحرافها في استخدام سلاح الإرهاب (ذبح الخونة وأنصار الفرنسيين على مشهد من الناس مما يخالف تعاليم الشرع)، ولكن المفاوضات بقيت مستمرة لتكوين قناعة مشتركة في هذا الموضوع. لقد استثارت الإجراءات التعسفية التي استخدمها الجيش الفرنسي ضد مسلمي الجزائر، تلك العناصر المعتدلة ودفعتهم إلى الاحتجاج، وكانت جماعة الواحد والستين، وهي فئة تضم النواب الجزائرين المنتخبين من طريق - انتخاب الدرجتين - والتي يتزعمها - بن جلول - كثيرا ما دعت الإدارة الفرنسية إلى وضع حد لهذه الإجراءات التي لم تنجح إلا في توسيع نطاق الثورة، وقد مضى بعضهم إلى القاهرة في العام 1955 أو طالبوا بالاستقلال، وكان رفضهم الصمت، واحتجاجهم على أعمال القمع الفرنسي، من العوامل التي حالت دون جمع المعتدلين الجزائريين حول سياسة فرنسا لإجراء إصلاحات من شأنها عزل الجبهة. عقدت جبهة التحرير الوطني اجتماعا لها في أيار - مايو - 1950، باشتراك مندوبين من الجزائر وفرنسا والقاهرة، لوضع تقرير عن المنجزات التي حققتها، وتخطيط السياسة للمستقبل، وقد استنكرت الجبهة السياسة الاستعمارية الجديدة، ومحاولاتها (تخدير) الشعب الجزائري ببعض الاصلاحات الطفيفة، ولتوحيد جهد الوطنيين ضد هذه السياسة، واقترحت جبهة التحرير أن يشن الشعب حملة من المقاطعة السياسية لفرنسا، ومن تخريب الكيان الاقتصادي عن طريق المقاطعة والإضراب وغيرهما من أساليب المقاومة السلبية، أما عمل جيش التحرير الجزائري فمشروع

وحيوي (لوضع حد للعنف العسكري الفرنسي). خلال هذه الفترة كانت قيادة جبهة التحرير الوطني تعمل جاهدة لتدويل قضية الجزائر، غير أن عملية التدويل سارت بصورة بطيئة بسبب مقاومة فرنسا لها، وكانت (المملكة العربية السعودية) قد أخذت المبادأة عندما وجهت نداء إلى مجلس الأمن الدولي، طالبت فيه ببحث الوضع في الجزائر باعتبار أنه (تهديد للسلام والأمن الدوليين)، ولكن المجلس رفض قبول هذا الطلب. عقد مؤتمر (باندونغ) في نيسان - ابريل - 1955 وحضره (محمد يزيد) - وهو من الأعضاء السابقين لحركة انتصار الحريات الديمرقراطية - ممثلا لجبهة التحرير الوطني، كما حضره (صالح بن يوسف) ممثلا عن حزب الدستور الجديد التونسي، و (علال الفاسي) ممثلا عن حزب الاستقلال المغربي، وقد طلب ممثلو المغرب العربي - الإسلامي من الدول الممثلة في باندونغ، أن تقدم طلبا رسميا إلى الأمم المتحدة لبحث (قضية الجزائر) على أساس مبدأ (حق تقرير المصير) الذي تقره الهيئة الدولية، وقد استجاب المؤتمر إلى هذه النداءات بتسجيل ملاحظته عن المغرب العربى الإسلامي جاء فيها: (إن هناك تنكرا في شمال أفريقيا لحقوق الشعوب في التدريس بلغاتها الخاصة، وطبقا لثقافاتها) وأكد المؤتمر (تأييده لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وأعلن تأييده لاستقلال الشمال الأفريقي، وحث الحكومة الفرنسية على الوصول إلى تسوية سلمية لجميع هذه القضايا دون تأجيل)، وقد ساعد اشتراك الوفد الجزائري في مؤتمر باندونغ على إقامة اتصالات واسعة النطاق، ولو أن هذه الاتصالات لم تؤثر في هذه المرحلة تأثيرا كبيرا على السياسة الفرنسية. وواجهت جبهة التحرير صدمة ثانية في

صراعها لتدويل (القضية الجزائرية) في شهر تموز - يوليو - 1955؛ ففي هذا الموعد طلبت أربع عشرة دولة تمثل الكتلة الأفريقية - الآسيوية في الأمم المتحدة، طرح المشكلة الجزائرية على جدول أعمال (الجمعية العامة) على أساس (حق تقرير المصير)، ولكن اللجنة التوجيهية للجمعية رفضت الطلب بعد نقاش حاد، على أساس أن القضية تتعلق بالشؤون الداخلية الفرنسية. وزعت جبهة التحرير الوطنى في أواخر صيف سنة (1955) منشورا جديدا في جميع أنحاء الجزائر، يعرض قائمة حساب بأعمالها عن الأشهر التسعة الأولى من القتال، وقد هاجم هذا المنشور أنصار (مصالي الحاج) و (اللجنة المركزية لحركة انتصار الحريات الديموقراطية) واتهمها بالنشاط المناوىء للثورة، وعدد المنشور أرقام القتلى والجرحى عند الفرنسيين وفي جيش الثورة، وحسر النقاب عن أن جبهة التحرير قد حصلت مؤخرا على المدافع المضادة للطائرات، وكان اهتمام المنشور محصورا في نقطتين أخريين، فقد تضمن ما يلي: (إن النضال ضد الفرنسيين لم يجعلنا ننسى الخونة من شعبنا، فقد صفينا أكثر من خمسمائة خائن، وسيحمل نحوا من مائة حتى الأيام الأخيرة من حياتهم العلامة الفارقة المشيرة إلى خيانتهم). وقد رمزت السنة الأولى من الثورة إلى وضع الإدارات على الخونة لقضية الجزائر، مثل جدع الأنوف، وصلم الآذان - قطعها - وقد نجمت هذه الأعمال عن المرارة التي كانت الجبهة تشعر بها من أعمال هؤلاء الذين يتعاونون مع الفرنسيين، وعلى رغبتها في ردع من تسول له نفسه التعاون مع العدو، وقد توقفت هذه الإجراءات منذ العام (1956)، واقتصر العمل منذ هذا التاريخ ضد المتعاونين على اختيار عدد من (الخونة) ومحاكمتهم

أمام لجان جبهة التحرير، وصدور القرار بإعدامهم سواء وجاهيا أو غيابيا. وأجاب المنشور على بعض نظريات الدعاية الفرنسية الموجهة ضد جبهة التحرير، وضد تأكيدها بأنها (الممثلة الحقيقية للشعب الجزائري) وأنها (الوحيدة التي تستطيع التفاوض باسمه) كما ردت جبهة التحرير على الزعم الفرنسي القائل بأنها مؤلفة من (رجال العصابات والهاربين من وجه العدالة) بأن تسعة وتسعين في المائة من المجاهدين هم من الفلاحين الشبان الذين لم يدخلوا السجن قط ومن واحد في المائة فقط من الذين سبق لهم أن سجنوا لأسباب سياسية، وردت على الزعم الفرنسي بأنها في خدمة بعض الحكومات الأجنبية، وبأن ليس في صفوفها أي أجنبي، وأنها في خدمة الجزائر وحدهما. وقالت الجبهة في معرض الرد على الادعاء بأن انتصاراتها العسكرية ناجمة عن شحنات الأسلحة الضخمة التي تتلقاها من الخارج، بأنها حصلت على الجزء الأكبر من أسلحتها من الفرنسيين أنفسهم، ودحضت مزاعم (الاستعماريين الفرنسيين) بأن: (الجبهة مؤلفة من أناس بدائيين سفاكين للدماء وبرابرة، يتجاهلون قوانين الحرب) فأعلنت أنها لم تقم بإعدام أي من الأسرى الذين يقعون في أيديها، بينما يقوم الاستعماريون بإعدام أي أسير يقع في أيديهم، وذكرت في معرض الرد على المزاعم القائلة بالتعاون بين الثورة والشيوعيين: (إن كل إنسان يعرف أن الحزب الشيوعي الجزائري غير موجود في الريف الجزائري، وأنه محدود القوة والتأثير في المدن الكبيرة، فليس بيننا شيوعيون، وليست لنا أية علاقة بالحزب الشيوعي). وأخيرا تحدثت الجبهة عن النظرية الاستعمارية الجديدة القائلة: (بأننا حملنا السلاح لأننا

جياع ولأننا عاطلون عن العمل، ولأن المستوطنين الجشعين يستغلوننا أبشع استغلال) فقالت: (إن هذا القول خطيئة كبرى؛ لقد حملنا السلاح حتى تستعيد الجزائر حريتها واستقلالها، فنحن جزائريون، ونريد أن نظل جزائريين لأننا نفخر بجزائريتا، ولن يكون في وسع أي اضطهاد مهما بلغ من الوحشية أن يحولنا إلى فرنسيين، ولن يكون في وسع أية رفاهية أو كيان اجتماعي أن يحملانا على نسيان حريتنا الضائعة). وكان هذا التأكيد عن الروح السياسية للثورة موجها إلى سياسات فرنسا الاصلاحية، التي كانت تقوم، ولا تزال على أساس الافتراض بأن الجزائريين جياع أكثر منهم وطنيين. بدأت التحولات الحاسمة لمصلحة (جبهة التحرير الوطني) مع بداية سنة (1956)؛ ففي كانون الثاني - يناير - اتخذ العلماء موقفا رسميا بتأييد الجبهة والعمل معها، وفي شهر نيسان - ابريل - ذهب إلى القاهرة (فرحات عباس) الذي كان قد أوضح منذ عدة أشهر افتقاره إلى السلطة في الجزائر، وكان في رفقته (أحمد توفيق المدني) أبرز زعماء جمعية العلماء، بعد خطف الفرنسيين للشيخ (العربي التبسي)، وانضما إلى (البعثة الخارجية) لجبهة التحرير الوطني الجزائري، وأعلن (فرحات عباس) في مؤتمر صحفي في القاهرة، تأييده الكامل للجبهة، وحل (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري)، وأدى هذا العمل إلى توحيد جميع الاتجاهات المهمة في التفكير السياسي الجزائري ضمن إطار الجبهة، وأضفى عليها مكانة عالمية خاصة، وخطت جبهة التحرير بعد ذلك خطوات واسعة نحو إقامة (دولة جزائرية، ضمن نطاق الدولة التي تتولى فرنسا إدارتها). وعندما رأت الجبهة في نهاية

شهر شباط - فبراير - أن (الحركة الوطنية الجزائرية - أو حركة مصالي الحاج) قد عملت على تنظيم (اتحاد عمالي)، سارعت هي بدورها إلى إقامة (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) وكان العمال الجزائريون المنظمون حتى تلك الفترة، هم أعضاء في نقابات مندمجة في النقابات الفرنسية، ولا سيما التابعة منها للشيوعيين، والمسماة (بالاتحاد العام للعمل). وقد لقي الاتحاد العام للعمال التابع لجبهة التحرير نجاحا أوليا واضحا، إذ لم تحل نهاية شهر أيار - مايو - حتى بلغ عدد أعضائه مائة وعشرة آلاف عامل، وقد طالب فور تشكيله بتحسين أحوال العمل بالنسبة إلى الجزائريين، أما برنامجه السياسي فكان مطابقا لبرنامج (جبهة التحرير الوطني). وقد قبل الاتحاد العام في عضوية (الاتحاد العالمي للنقابات العمالية الحرة) في شهر تموز - يوليو -، وأقام علاقات وثيقة مع الاتحادات العمالية المنظمة في تونس والمغرب. ولكن الاتحاد ما لبث أن عانى من وطأة الإجراءات التعسفية الفرنسية، فقد اعتقل زعماؤه عدة مرات، وأوقف نشاطه الرسمي تقريبا، فانصرف الاتحاد لإقامة مراكز تدريبية في تونس والمغرب، واضطلع بأداء بعض الخدمات الاجتماعية بالنسبة لعمال الجزائر اللاجئين. وبعد بضعة أسابيع، أقامت الجبهة (الاتحاد العام للتجار الجزائريين) ليضم التجار وصغار رجال الأعمال، وقد مارست هاتان المنظمتان دورا بارزا في أعمال العنف التي وقعت في الجزائر ابتداء من ربيع العام (1956) وفي جمع الأموال لمساعدة الثورة بصورة عامة. وكانت الجبهة قد بذلت نشاطا سياسيا في حقل آخر، فأقامت قبل عام (الاتحاد العام للطلاب الجزائريين) الذي دعى إلى اضراب عام في امتحانات العام (1956) وقد نجح هذا الاضراب، وترك

أثرا فعالا عدة أشهر، وأسفر عن حشد صفوف الطلاب حول الجبهة، وانضمام عدد من الطلاب والمثقفين إليها. وكان أهم ما حققته الجبهة في الحقل السياسي في تلك السنة، تنظيم الإضراب العام الناجح الذي قامت به في الخامس من تموز - يوليو - (1956) وهو إحياء للذكرى السنوية التي احتلت فيها القوات الفرنسية الاستعمارية مدينة (الجزائر)، وعلقت الجبهة على أهمية الإضراب، فقالت إن الشعب الجزائري أكد عن طريقه الحقائق التالية: (1 - الالتفاف الجماعي حول جيش التحرير الوطني، وصورته السياسية الممثلة في - جبهة التحرير الوطني، مبرهنا على فساد النظرية الفرنسية القائلة بأن الثائرين لا يمثلون إلا فئة قليلة من الشعب. 2 - النضج السياسي للشعب الجزائري الذي لن يهدأ حتى يستعيد جميع حقوقه في الحرية والديموقراطية. 3 - إضفاء الصفة الشعبية على الثورة الوطنية عن طريق الإسهام الكامل لجميع الطبقات في الاحتفال بهذه الذكرى السنوية من مثقفين وعمال وطلاب وفلاحين. وقد أثبت هذا اليوم أيضا أن للتضامن الأفريقي الشمالي كل المعاني، ففي البلدين العربيين الشقيقين تونس والمغرب، اشترك الشعب اشتراكا فعليا إلى جانب إخوانه الجزائريين في جميع المظاهرات التي كان العلم الجزائري يتقدمها). وقع حادثان في الأشهر التي سبقت إضراب الخامس من تموز - يوليو - قدر لهما أن يتركا أثرا واضحا على مستقبل (جبهة التحرير) في الميدانين الدولي والعسكري؛ فقد عقدت المجموعة الأفريقية -

الآسيوية في شهري أيار وحزيران (مايو ويويو) سلسلة من المحادثات في الأمم المتحدة لدراسة القضية الجزائرية أسفرت عن تقديم طلب إلى مجلس الأمن الدولي لمناقشة القضية. وعلى الرغم من أن المجلس قد رفض الطلب، إلا أنه اعترف بالصفة الدولية للمشكلة الجزائرية، وبدأ جيش التحرير وجبهته في الحقل العسكري، في العشرين من حزيران - يونيو - مرحلة من مراحل قذف القنابل في مدينة الجزائر، وغيرها من المدن، مما أسفر عن قيام فرنسا بنقل الجزء الأكبر من جيشها إلى الجزائر، وعن قيام حالة من الذعر وعدم الطمأنينة في الشمال الأفريقي (المغرب العربي -الإسلامي). ولكن، على الرغم من هذه النتائج العظيمة التي تحققت، فقد كانت هناك أزمة في القيادة والتنظيم داخل جبهة التحرير، وقد كتبت صحيفة (المجاهد) ما يلي (لقيت الثورة سلسلة من المتاعب، ولم يتمكن المجاهدون العاملون في مناطق مختلفة من إيجاد الارتباط بينهم، فالارباط شاق، والسلاح غير متوافر، وظل التثقيف السياسي للفئات المسلحة غير كاف، ولم تكن هناك سلطة عامة قومية رسمية، فالثورة ظلت تفتقر إلى القاعدة العقائدية، وكثيرا ما تردد القادة المسؤولون وهم على ما هم عليه من عزلة وانفصال، في اتخاذ موقف محدد من المشاكل المهمة، وبقيت الحركة المصالية قوية ومنتشرة تحظى بتأييد العدو وأعوانه). يظهر ذلك كله الأهمية البالغة، والضرورة المسلحة، لعقد مؤتمر (الصومام)، وفي الواقع، وكما سبقت الإشارة اليه، فإن فكرة عقد المؤتمر لم تكن بالفكرة الجديدة، غير أنها لم تكن لتظهر إلى عالم الوجود لو لم تجد داعية لها، ومدافعا عنها، في شخص

القائد (يوسف زيروت) ومن ثم في (رمضان عبانه) و (كريم بلقاسم) وسواهم من زعماء المجاهدين في (القبائل)، واتخذت استعدادات كبيرة لعقد المؤتمر في مدينة (قسنطينة) التي كان يسيطر عليها (يوسف زيروت). وبعد فترة من التأخير، عقد المؤتمر في العشرين من شهر آب (اغسطس) في وادي الصومام، وكانت السلطات الفرنسية قد أعلنت أن الوادي قد أصبح منطقة هادئة، وبالفعل، فقد لقي قادة الداخل مصاعب جمة للاتصال بالخارج، ولم يتمكن عدد من القادة، وبينهم جميع أعضاء البعثة الخارجية الذين كانوا ينتظرون من غير جدوى في إيطاليا وليبيا، لحضور المؤتمر، واقتصر المؤتمر على كبار القادة: (كريم بلقاسم، رمضان عبانة، العربي بن مهيدي، يوسف زيروت، علي الملاح، الأخضر بن طوبال، عمر بن بو العيد - شقيق الشهيد مصطفى بن بو العيد بطل الأوراس - ونواوره) وتمثلت في المؤتمر جميع الولايات، حتى ولاية الصحراء التي تولى الملاح قيادتها. لقد اتخذ المؤتمر، على الرغم من عدم شموله، عددا كبيرا من القرارات الدائمة والمهمة؛ فقد تقررت إعادة تنظيم جيش التحرير، وتجسيمه، بعد أن تبنى الطراز المتبع في جيش المجاهدين في القبائل، وظهر أن (كريم بلقاسم) الذي غدا القائد الذي لا منافس له في الداخل، وقد تم اختياره في المؤتمر ليكون قائدا عاما للجيش. أما من الناحية السياسية، فقد تقررت إقامة (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) ولجنته التنفيذية المسماة (بلجنة التنسيق والتنفيذ)، وقد أعطيت للهيئة الأولى صلاحية التوجيه العام للثورة، على أن تضم ممثلين عن جميع الفئات في المسرح السياسي الجزائري، بينما أعطيت للهيئة الثانية المؤلفة

على الغالب من قادة الداخل العسكريين صلاحية الإشراف على الثورة وإدارتها، وهكذا أصبحت القيادة الفعلية في أيدي قادة الجهاد، لا في أيدي الزعماء المنظمين الأولين، أو أعضاء البعثة الخارجية، ووضع المؤتمر في الميدان العقائدي ثلاثة مبادىء أساسية وهي القيادة الجماعية وأولوية السياسة على الحرب وأولوية الداخل على الخارج. ... على كل حال، لم تستمر قيادة (جبهة التحرير) و (جيش التحرير) مدة طويلة على ما كانت عليه عند عقد (مؤتمر وادي الصومام). فقد اختطفت القيادة الاستعمارية أربعة من أعضاء البعثة الخارجية في يوم 22/ 10/ 1956 عندما كانوا يستقلون طائرة مغربية في طريقهم إلى تونس وهم: (أحمد بن بيللا، وحسين آية أحمد، ومحمد بو ضياف، ومحمد خيضر)، كما أن ثلاثة من أعضاء (لجنة التنسيق والتنفيذ) غابوا بفعل الاعتقال أو الوفاة وهم (محمد العربي بن مهيدي وبن يوسف بن خدة وسعد دحلب). وفي نهاية العام (1956) اجتمع عدد من أعضاء القيادة العسكرية ومن البعثة الخارجية في (تونس) و (القاهرة) للبحث في نتائح مؤتمر (وادي الصومام) ولإقامة ارتباط أوثق بين الجماعتين، وسرعان ما نقلت لجنة التنسيق والتنفيذ مقر قيادتها إلى تونس للتخفيف من حدة الانقام بين القيادتين الداخلية والخارجية. عقد المجلس الوطني للثورة الجزائرية مؤتمره الثاني في القاهرة (في شهر آب - أغسطس - 1957) وتقرر توسيع عضوية المجلس من أربعة وثلاثين إلى أربعة وخمسين لكي يصبح بمثابة تمهيد لقيام البرلمان الجزائري، ولم يعلن عن أسماء أعضاء المجلس الثاني،

ولكن من المفروض أنه قد ضم جميع أعضاء المجلس الأول، بالإضافة إلى أولئك الذين مارسوا دورا فعالا في الثورة، وتقرر أن يعهد إلى (لجنة التنسيق والتنفيذ) باختيار العشرين عضوا الجدد، ولكن اللجنة لم تخترهم فورا. ووسعت عضوية اللجنة أيضا من خمسة إلى أربعة عشرة بينهم خمسة من المسجونين في (باريس) أو (الجزائر)، وكانت هناك سابقة في الاحتفاظ ببعض القادة المسجونين في عضوية المجلس الوطني، وكان هؤلاء يستشارون عادة إما عن طريق الاتصالات السرية، أو الوسطاء العرضيين. وترك مؤتمر القاهرة مهام المجلس الوطني ولجنة التنسيق والتنفيذ على نحو ما كانت عليه في السابق، وتقرر أن يعقد المجلس الوطني بوصفه (الهيئة العليا للثورة) اجتماعا سنويا، كما تقرر أيضا أن تعطى للجنة التنسيق والتنفيذ (صلاحيات واسعة تتناول جميع المشاكل لتنفيذ السياسة التي حددها المجلس الوطني، باستثناء القضايا التي تتعلق بمستقبل البلاد، كالمفاوضات مثلا أو إنهاء العمليات الحربية، أو التحالف مع هذه الكتلة، أو تلك، أو حل المشكلة الجزائرية دوليا، أو تدخل طرف ثالث في الصراع الجزائري - الفرنسي)، وتكون لجنة التنسيق والتنفيذ مسؤولة أمام المجلس الوطني الذي يستطيع تنحيتها باقتراع الثلثين. وكان أعضاء اللجنة في شهر آب - أغطس - سنة 1957 هم: (رمضان عبانة، وفرحات عباس، والأخضر بن طوبال، وعبد الحفيظ بوصوف، ومحمود شريف، وكريم بلقاسم، ومحمد الأمين دباغين، وعبد الحميد عمراني) يضاف اليهم كأعضاء فخريين (حسين آية أحمد، وأحمد بن يللا، ورابح بيطاط، ومحمد بو ضياف، ومحمد خيضر)، وقد ضمت اللجة الجديدة بعكس اللجنة الأولى قادة من

من الخائف - الشعب أم أعدائ الشعب؟

الداخل والخارج، إذ اشترك فيها (فرحات عباس والأمين دباغين، وعبد الحميد المهري) وغدا هؤلاء الثلاثة هم بناة السياسة الديبلوماسية في (لجنة التنسيق والتنفيذ). أخذت قيادة (جبهة التحرير الوطني) في الأشهر التي تلت آب - أغسطس - 1957، تهتم اهتماما متزايدا بإقامة سياسات مشتركة مع جارتيهما المستقلتين، تونس والمغرب، وأدى اجتماع (طنجة) في نيسان - أبريل - عام 1958 - الذي حضره ممثلو حزب (الاستقلال المغربي) و (حزب الدستور الجديد التونسي) و (جبهة التحرير الوطني الجرائري) إلى تقرير مبدأ إقامة (حكومة جزائرية) بعد التشاور مع الحكومتين التونسية والمغربية. ودعا الاجتماع أيضا إلى إقامة (برلمان مغربي) و (لجنة تنسيق لشؤون المغرب)، ولم تؤد المشاورات إلى إنشاء الحكومة الجزائرية فورا. ولكن لجنة التنسيق والتنفيذ شرعت في شهر حزيران - يونيو - في توزيع المهام الحكومية المعينة على أعضائها، ووزعت المهام على الشكل التالى: فرحات عباس: لشؤون الاستعلامات. كريم بلقاسم وعمار عمارنة وعبد الحفيظ بو صوف: للشؤون العسكرية. محمد الأمين دباغين: للشؤون الديبلوماسية. الأخضر بن طوبال: للشؤون الداخلية. محمود شريف: للشؤون المالية. عبد الحميد المهري: للشؤون الاجتماعية. ***

أدى اعتقال زعماء (البعثة الخارجية) - أحمد بن بيللا ورفاقه - إلى انتهاء المحاولة الأولى للوصول إلى - تسوية للقضية الجزائرية عن طريق المفاوضات؛ وكانت هذه المفاوضات قد جرت في شهري آذار ونيسان (مارس وابريل) من ذلك العام (1956) في إطار (محادثات استطلاعية) بين زعماء البعثة الخارجية لجبهة التحرير في القاهرة، وبين (المسيو بيغارا والمسيو غورسيه) الممثلين الشخصيين لرئيس الوزراء الفرنسي (غي موليه). وعلى الرغم من أن زعماء جبهة التحرير كانوا يمثلون الجيش أيضا، إلا أنه لم يعرف تماما المدى الذي كان قادة الداخل على اطلاع فيه، بالنسبة إلى المفاوضات الدائرة، وقدم الجزائريون اقتراحات محددة لعقد مؤتمر صلح جزائري - فرنسي. وعلى أي حال، فإنه لم يصل رد من فرنسا على هذه الاقتراحات، وقد ظهر بأن الحكومة الفرنسية قد اعتبرت المباحثات ذات طابع استطلاعي، وأنها لم تعتزم التفاوض جديا في ذلك الوقت. وتمكن الزعيم اليوغوسلافي (الماريشال تيتو) من بذل محاولات جديدة، حيث أمكن له في شهر تموز - يوليو - تنظيم اجتماع بين الجزائريين والفرنسيين، (أبان مؤتمر بريوني) وقدمت جبهة التحرير إلى رؤساء الحكومات (تيتو ونهرو وناصر) مذكرة أكدت فيها: (أهدافها السلمية وشروطها لوقف إطلاق النار ومفاهيمها للاستقلال الجزائري) وقد طلبت عودة السيادة الجزائرية، وممارسة هذه السيادة بصورة حرة وكاملة، وتحقيق الاستقلال الكامل، ووحدة الأرض الجزائرية، واعتبرت من الشروط التي لا مندوحة عنها تحقيق بعض المتطلبات السياسية، ومنها: (اعتراف فرنسا بسيادة الشعب الجزائري ووحدته التي لا يمكن لها أن تتجزأ، مع الاعتراف باستقلال الجزائر دون شروط أو

تحفظات، وبحكومة جزائرية يتم اختيارها للتفاوض على شروط الصلح بين البلدين، وإذا ما قبلت فرنسا بشروط الجبهة لوقف إطلاق النار، فلن تظل هناك أية قضية تتعلق بالمصالح الخاصة للفريقين متعذرة على الحل). وعقدت خمسة اجتماعات متعاقبة ابتداء من شهر تموز - يوليو - بين زعماء الجبهة، وبين ممثلي رئيس الوزراء الفرنسي (غي موليه) في (بريوني) أولا ثم في (روما) وكان (يزيد وخيضر) هما الممثلين الرئيسيين للجبهة في هذه المحادثات، بينما مثل (المسيو بيير كومان) الزعيم الاشتراكي البارز (المسيو غي موليه) رئيس الوزراء، وقد اشتملت المحادثات، التي توقفت أخيرا عند اعتقال الزعماء - ابن بيللا ورفاقه - على نقاط مهمة، إذ أنها أوضحت الحد الأدنى لمطالب جبهة التحرير، وبعثت الجبهة فيما بعد بمذكرة إلى الأمم المتحدة جاء فيها: (لقد اشترط ممثلو جبهة التحرير الوطني ضرورة وضع تسوية سياسية عامة، قبل صدور الأمر بوقف إطلاق النار، وقد أكد ممثلو الشعب الجزائري موقفهم بأن على فرنسا أن تعترف بحق الجزائر في الاستقلال، وبإقامة حكومة جزائرية مؤقتة توافق عليها جبهة التحرير الوطني، للإسراع في تحقيق وقف إطلاق النار والبدء بالمفاوضات لتحديد العلاقات بين فرنسا والجزائر. أما الاقتراحات الفرنسية فلم تتعد مجرد منح بعض الاصلاحات السياسية التي ستحول الجزائر من - مجموعة من المقاطعات الغرب - إلى - مقاطعة فرنسية واحدة كبيرة - تتمتع ببعض الاستقلال الذاتي المحدود من الناحية الإدارية). لقد اختلفت هذه الشروط عن الشروط الرسمية السابقة، فقد

طلبت جبهة التحرير مجرد اعتراف فرنسا بحق الجزائر في الاستقلال، وتأليف حكومة جزائرية تقوم بإجراء المفاوضات على أن توافق عليها الجبهة، دون أن تكون مؤلفة فقط من أعضائها. أما من الناحية الفرنسية، فقد ظهرت الرغبة هناك لتوحيد أراضي الجزائر، ومنحها درجة من الحكم الذاتي، وهي خطوة أولية لا بأس بها، إذا كانت فرنسا تعتزم حقا منح الجزائر استقلالها. ولم يقبل الجزائريون قط بسياسة (غي موليه) الرسمية والرامية إلى وقف اطلاق النار أولا، ثم إجراء انتخابات عامة، ثم البدء بالمفاوضات. أبلغت جبهة التحرير (المسيو كومان) رغبتها في إجراء محادثات (رسمية) بدلا من هذه المحادثات الشبيهة بالرسمية، فوافق الفرنسيون على العرض فورا، وتظاهر ممثلو الرئيس الفرنسي بالموافقة على تسهيل حرية الانتقال بالنسبة إلى زعماء الجبهة للتشاور مع جماعات الجبهة الأخرى، وطلبت حكومة (غي موليه) في الوقت ذاته من حكومتي تونس والمغرب أن تذللا العقبات في طريق المحادثات الفرنسية - الجزائرية، وأن يشترك البلدان فيها إن أمكن، وأبلغت (البعثة الجزائرية) (كومان) أن الجبهة تعتزم إرسال وفد عنها في أواخر شهر تشرين الأول - أكتوبر - للتشاور مع الزعماء التونسين والمغاربة في مؤتمر يعقد في تونس، ولكن الفرنسيين أرغموا الطائرة التي كانت تقل الوفد الجزائري، وهي في طريقها بين الرباط وتونس على النزول فوق أرض الجزائر، حيث اعتقل أعضاء الوفد، وقد نقلوا فورا إلى سجن (باريس) حيث ظلوا هناك دون أية محاكمة، وعندما أصدر الرئيس (ديغول) في العام 1959 تدابيره التي أطلق عليها صفة (الرأفة بالثائرين) نقل الزعماء إلى قلعة لم يذكر اسمها في تلك الفترة. وأدى هذا الحادث إلى

اضطرابات عنيفة في أقطار المغرب العربي - الإسلامي خاصة وفي العالم العربي عامة، ووضع ذلك نهاية فاشلة للمحادثات الفرنسية - الجزائرية التي كان رئيس الوزراء (غي موليه) قد أحبطها سلفا، وأدى حادث الطائرة أيضا إلى تبديد أوهام بعض الزعماء المعتدلين من رجال الجبهة وآمالهم في الوصول إلى تسوية، وإلى تقوية مراكز المتشددين من الزعماء الآخرين، ولم تتح فرصة مواتية أخرى منذ العام 1956 للوصول إلى اتفاق عن طريق التفاوض. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد أدى فشل هذه المفاوضات، وتعاظم خطورة الموقف العسكري، وأزمة السويس إلى جعل العام (1957) هو (سنة الجزائر في الأمم المتحدة)؛ إذ بحثت فيها قضيتها مرتين في الندوة الدولية، وكانت عدة دول أفريقية - آسيوية قد طلبت في شهر تشرين الأول - أكتوبر - إدراج (القضية الجزائرية) على جدول أعمال الدورة الحادية عشرة للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة وقدمت (جبهة التحرير الوطني في الثاني عشر من تشرين الثاني - نوفمبر - 1957 مذكرة إلى رئيس الجمعية العامة أوضحت فيها ضرورة دراسة الأمم المتحدة للقضية، وتضمنت المذكرة ما يلي: (إن الجزائريين، رغبة منهم في الوصول إلى حل سلمي عن طريق المفاوضات المباشرة مع فرنسا، يعتقدون، أن ضغط الرأي العام الدولي وحده، الممثل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، هو الذي سيحمل فرنسا على قبول التفاوض مع الممثلين الحقيقيين للشعب الجزائري، والوصول إلى حل سلمي للمشكلة الجزائرية. وأشارت المذكرة أيضا إلى تأييد تونس والمغرب، فوضعت بذلك القضية الجزائرية في إطارها الجغرافي الطبيعي لوحدة المغرب العربي - الإسلامي. وبدأت اللجنة السياسية للأمم

المتحدة مناقشة الموضوع في مطلع شهر شباط - فبراير - 1958، وتولى مندوب سوريا التحدث باسم (جبهة التحرير الوطني)، وبذلت الجبهة جهودا جبارة لإقناع الوفود المعنية بوجهة نظرها، واتخذت الجمعية العامة في الخامس عشر من شباط - فبراير - قرارا وسطا - بالإجماع - أعربت فيه: (عن الأمل بالوصول عن طريق روح التعاون إلى حل سلمي وديموقراطي وعادل، يتفق مع شرعة الأمم المتحدة). وعلى الرغم من أن القرار لم يتضمن الدعوة إلى استقلال الجزائر، إلا أن القضية قد بحثت اخيرا في الأمم المتحدة. وعلقت صحيفة (المقاومة الجزائرية) الناطقة بلسان (جبهة التحرير الوطني)، والتي كان قد مضى على صدورها نحوا من سبعة أشهر، تعليقا ينطوي على الارتياح من تحقيق هدفها في تدويل القضية، ومن اعتراف الأمم المتحدة بحقها في بحث القضية، وأضافت الصحيفة أن (سبعا وسبعين دولة) قد أعطت فرنسا مهلة لتسوية القضية، لا لحلها عسكريا، وغدا من حق الأمم المتحدة بعد هذا التاريخ أن (تراقب وتشرف على الصراع الفرنسي - الجزائري). وكانت اللجنة السياسية قد رفضت بأغلبية صوت واحد فقط، شروع القرار الأفريقي - الآسيوي، الذي كان أكثر مطابقة لوجهة نظر الجزائر، بينما قبلت اللجنة الفقرة الخاصة (بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره)، وأشارت مناقشات الأمم المتحدة إلى أن السنة الثالثة للثورة الجزائرية ستكون سنة تطورات على الصعيدين السياسي والدولي. ... تمكنت جبهة التحرير من عرض قوتها الداخلية عرضا سياسيا بارزا في مطلع العام (1957)؛ فقد دعت إلى إضراب عام في جميع

أنحاء البلاد لمدة ثمانية أيام، في نفس الوقت الذي تشرع فيه الأمم المتحدة فى مناقشة القضية الجزائرية، وخصصت صحيفة (المقاومة الجزائرية) عددا كاملا للإضراب الذي استمر من الثامن والعشرين من كانون الثاني حتى الخامس من شهر شباط - فبراير - 1957، وقالت إن الإضراب سيبرهن للأمم المتحدة أن (جبهة التحرير الوطني) تحظى بتأييد الشعب الجزائري تأييدا كاملا. أما مدة الإضراب وهي ثمانية أيام، فقد كانت ظاهرة جديدة لم يحدث مثلها من قبل. فكانت (محكا) أو تجربة لقدرة الشعب على التضحية ناشئة عن اتساع وعيه السياسي. وتجدر الإشارة إلى أن بعض القادة الجزائريين في هذه المدة الطويلة من الإضراب كانت خطيئتهم السياسية الكبيرة والوحيدة هي التي ارتكبها (عبانة). وقد سمع (الجنرال ماسو) بنهب الحوانيت والمخازن في هذه الفترة. كما اتخذ إجراءات مشددة أخرى، ألحقت خسائر حقيقية بالأهلين، وأنزلت بهم متاعب جمة. ووسعت جبهة التحرير من نشاطها الصحفي والدعائي في غضون عام (1957). وبدأت إذاعة الجزائر الحرة في الربيع تنطلق من أرض الجزائر ذاتها، مضيفة إلى الإذاعات الجزائرية التي تنطلق من إذاعتي القاهرة وتونس الشيء الكثير. وفي منتصف العام توحدت صحيفتا (المقاومة الجزائرية) و (المجاهد الحر) في صحيفة واحدة؛ (المجاهد) أصبحت اللسان الناطق باسم جبهة التحرير، وغدت لغة الصحافة أكثر تصنعا، ولا سيما بعد أن تولى (أحمد أبو منجل) وهو من زعماء (الاتحاد الديموقراطي لأنصار الحرية) السابقين، مسؤولا عن جميع, المطبوعات التي تصدر في الجزائر.

ظلت قضية الوصول إلى تسوية عن طريق المفاوضات مع الحكومة الفرنسية، هي المشكلة المعقدة بالنسبة إلى جبهة التحرير الوطني الجزائري، واتخذت حكومة (بورجيس مرنوري) في الحرب الكلامية والإذاعية، موقف سابقاتها من الزعم بعدم وجود جهة تمثل الشعب الجزائري، بحيث يمكن التحدث إليها والتفاوض معها، واتهمت (جبهة التحرير) بالعناد لتمسكها بشرطها الأولي (بوجوب الاعتراف بالاستقلال قبل التفاوض). وحاولت (جبهة التحرير) من جانبها شرح الأسباب التي تدعوها إلى التمسك بهذا الشرط المسبق، فذكر ممثلها في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدتها في شباط - فبراير - 1957: (أن الجبهة على استعداد للتفاوض مع فرنسا إذا تولت الأمم المتحدة ضمان هذه المفاوضات). وعقد القادة السياسيون والعسكريون لجبهة التحرير مؤتمرا صحفيا لهم في (تونس) في آذار - مارس - 1957 - أكد فيه الدكتور (محمد الأمين دباغين) بأن الشعب الجزائري: (بات اليوم وهو أكثر تصميما من أي يوم مضى على بلوغ استقلاله،، وأشار إلى اشتراط الجبهة اعتراف فرنسا مسبقاء بالاستقلال الجزائري، فقال أن القضية لا تتناول الإجراء، وإنما تتناول القصد والنوايا، وعندما سئل إذا كانت الجبهة تتعمد الآن الحديث عن (الاستقلال) بدلا من (الحق في الاستقلال)، رد الدكتور الأمين بقوله: (إنهما شيء واحد). وتقدمت الحكومة الفرنسية في شهر تموز - يوليو - إلى الجبهة بعرض جديد يتناول إمكان المفاوضات. وكما وقع تماما في العام (1956) فإن وقوع بعض الأحداث شكل عرضي وغير عادي، أدى إلى فشل هذه المحاولة التي كانت تبشر بنجاح؛ فقد بعثت حكومة (بورجيس مونوري) إلى تونس (بغو -

بربيسونيير) مستشار وزير الخارجية الفرنسية، لحضور اجتماع للاتحاد الدولي للنقابات العمالية الحرة. وكان في تونس (الدكتور محمد الأمين دباغين) و (محمد يزيد) من أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية. ونقل (غو - بريسونيير) عن طريق أحد الزعماء النقابيين الجزائريين إلى (محمد يزيد) أنه مكلف رسميا بالاجتماع إليه. وقد فسرت الجبهة هذه الخطوة على أنها محاولة لتجزئة من يوصفون (بالمعتدلين) عن الذين يوصفون (بالمتصلبين) من أعضاء القيادة الجزائرية، وأبلغ (يزيد) المبعوث الفرنسي، عن طريق أحد الوسطاء، أنه سينقل الرغبة الفرنسية إلى المجلس الوطني، مؤكدا أنه ليست له صلاحيات بالقيام بمحادثات شخصية وكان من الممكن أن يعود المبعوث الفرنسي، الذي سافر إلى باريس، حاملا تعليمات أكثر مرونة، لكن المعلومات عن بعثته، انتشرت بطريقة ما، فتقرر رسميا العدول عنها. وقبيل نهاية الشهر، بعث (يزيد) بمذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، قال فيها: (يؤسفنا أن نبلغ سعادتك أننا لا نرى في الوقت الحاضر أية إمكانية للتفاوض أو للاتصال بين فرنسا والجزائر، والوصول إلى تسوية سلمية للمشكلة الجزائرية. ولدينا كل الحجج اللازمة للاعتقاد بأن خطوة كالتي اتخذها المسيو (غو- بريسونيير) مؤخرا في تونس، تمثل مناورة فرنسية رسمية، ليست ناشئة في أي حال من الأحوال عن الرغبة الحقيقية في حل المشكلة الجزائرية عن طريق الوسائل السلمية، بل جاءت ثمرة خطة موضوعة، لتكون في وقت واحد مع الطلب الذي تقدمت به إحدى وعشرون دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، طالبة إدراج القضية الجزائرية

على جدول أعمال الدورة الثانية عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة). لما فشلت المفاوضات المباشرة بين جبهة التحرير الوطني وفرنسا، من جديد، واجهت الجبهة موضوع تطوير الصراع سواء بطرائقه أو بوسائله، وكانت (البعثة الخارجية) قد بدأت منذ سنة 1955 بالاعتماد في دعمها على مصر ودول عدم الانحياز. وأدى استقلال تونس والمغرب في العام 1956 إلى التقارب مع الجارتين الراغبتين بدورهما في تطوير التعاون مع جبهة التحرير، لإجراء مفاوضات أو محادثات من شأنها الوصول إلى تسوية سلمية مع فرسا، غير أن اعتقال الزعماء الأربعة من قادة جبهة التحرير، وطريقة اعتقالهم، أدت إلى إيقاف هذا الاتجاه، ولو بصورة موقتة. وأرادت الجبهة في نهاية العام 1956 وبداية العام 1957 الحصول على ضمانات من الأمم المتحدة لأية مفاوضات قد تقوم بها مع فرنسا، وكان القصد من هذه الضمانات اتخاذ الحيطة ضد أي تراجع أو نكوص عن المحادثات، كما وقع من قبل فعلا في عهد حكومة (غي موليه). وأدى حادث (غو - بريسونيير) إلى تعزيز موقف قادة جبهة التحرير الذين فقدوا كل ثقة لهم في (استقامة) الحكومات الفرنسية المتعاقبة، ولهذا، فقد اشترط هؤلاء القادة، أن تعترف فرنسا رسميا ومسبقا، في بيان تصدره، باستقلال الجزائر قبل البدء بأية مفاوضات، ولكنهم رأوا في الوقت ذاته بعض الفائدة من الاستمرار في سبر أغوار النوايا الفرنسية، ومن إيجاد صلة بين قضية الجزائر، وبين بعض المعروفين باعتدال آرائهم في الميدان الدولي. وبعد فترة من التعاون الوثيق إلى حد ما مع تونس والمغرب (في عام 1956 ومطلع 1957) وسعت جبهة التحرير اتصالاتها مع

أقطار العالم العربي، فكان من نتائج هذه السياسة عقد الاجتماع العام للمجلس الوطني في القاهرة. وعاد زءماء الجبهة قبيل نهاية الصيف إلى تأييد قيام علاقات أوثق مع المغرب وتونس، فاحتل هذا الاتجاه مكان الصدارة في سياستهم، واجتمعت (لجنة التنسيق والتنفيذ) في تونس في تشرين الأول - أكتوبر - عام 1957. وأصدرت بيانا عن موضوع المفاوضات أكدت فيه بصورة قاطعة: (إن هدف حرب التحرير الوطني كان وسيظل، استقلال الجزائر، وإن اللجنة لا ترى مناصا من أن تؤكد بحزم وإخلاص، أنه لن يكون ثمة تفاوض قبل الاعتراف مسبقا باستقلال الجزائر). وعندما تحدث البيان عن طريقة الضغط التي ستتع لإرغام فرنسا على ذلك قال: (إن الأمل قائم على عقد مؤتمر قريب يضم دول المغرب الحرة لإقامة خط مشترك تسير عليه للإسراع في تحقيق استقلال الجزائر)، وقد أنهى هذا التأكيد محاولة غير رسمية قام بها البعض في (جبهة التحرير) للعدول عن اشتراط (الاستقلال المسبق) والتفاوض دون أي التزام فرنسي سابق، لكن هذا الأسلوب - أو التكتيك - لم يلق أية استجابة فرنسية إيجابية، فقد مضت حكومة (بورجيس مونوري) في مشروعها لحمل (الجمعية الوطنية الفرنسية) على المصادقة على قانونها الأساسي الجديد الذي وضعته للجزائر، وكان هذا القانون - الذي عارضته جبهة التحرير الوطني - يتناقض مع قرارات الأمم المتحدة بصدد القضية الجزائرية، وكان ذلك أحد الأسباب في عدم موافقة الجمعية عليه، مما حمل (مونوري) على الاستقالة. ***

ظل الباب مفتوحا أمام تونس والمغرب لممارسة دور من شأنه خلق الأوضاع المناسبة لقيام مفاوضات مباشرة بين جبهة التحرير وفرنسا، ولما كانت الدولتان قد اقلفتهما الأوضاع السائدة على حدودهما مع الجزائر، فقد اتفقتا على القيام بجهد مشترك للوصول إلى تسوية سلمية، واجتمع الرئيس (الحبيب بورقيبة) والملك (محمد الخامس) في الرباط، في أواخر شهر تشرين الثاني - نوفمبر - بحضور مراقبين عن جبهة التحرير الوطني، وقد اقترحت الحكومتان البدء بمفاوضات (تؤدي إلى حل عادل يضمن إقامة سيادة الشعب الجزائري على أسس راسخة تتفق مع مبادىء ميثاق الأمم المتحدة)، وعرضا وساطتهما لتحقيق هذه الغاية. وسارعت جبهة التحرير إلى إعلان قبولها لعرض الوساطة من جارتيها، معلنة بدورها، أنها ترى أن السيادة تعني الاستقلال، لكن الحكومة الفرنسية رفضت العرض قائلة أن تونس والمغرب ليستا محايدتين في الصراع، وأدى فشل الوساطة التونسية - المغربية إلى بقاء الأمم المتحدة المرجع الوحيد لجهود جبهة التحرير. وكانت المجموعة الأفريقية - الآسيوية قد طلبت في السابع عشر من تموز - يوليو - إدراج (القضية الجزائرية) على جدول أعمال الدورة الثانية عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وطلبت الجبهة في أواسط شهر أيلول - سبتمبر - من الأمم المتحدة أن تعلن (إفلاس فرنسا السياسي) في الجزائر، وأعربت الجهة في مذكرة ثانية قدمتها إلى الأمم المتحدة في مطلع شهر تشرين الأول - أكتوبر - عن رغبتها في (التعاون المطلق) مع الأمم المتحدة، وأشارت إلى أن أية تسوية سلمية، يجب أن يتم الوصول إليها عن طريق التفاوض بين جبهة التحرير وفرنسا، وأن اشتراك تونس والمغرب ضروري في مثل هذه

المفاوضات إذ أن عقد مؤتمر يضم هذين البلدين بالإضافة إلى فرنسا وجبهة التحرير: (كفيل بأن يخلق الظروف المناسبة لإيجاد تسوية سلمية -سياسية - عاجلة للمشكلة الجزائرية) وأضافت المذكرة تقول: (ومن الواجب أن ترضي التسوية السلمية التي يتم الوصول إليها عن طريق التفاوض للمشكلة الجزائرية آمال الشعب الجزائري في الاستقلال، وتعلن جبهة التحرير عن استعدادها لدراسة أي شكل من أشكال التعاون الحربين فرنسا والشمال الأفريقي، إذا كان هذا التعاون يأخذ بعين الاعتبار مصالح فرنسا المشروعة). وسيطر الاعتدال، وقيام جبهة مغربية متحدة على المناقشات التي دارت في الأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - وكانون الأول - ديسمبر - وكان المندوب التونسي هو المتحدث باسم (جبهة التحرير) على نحو ما كان المندوب السوري في دورة شباط - فبراير - السابقة، وهكذا تناسقت استراتيجية جبهة التحرير مع بقية دول المغرب العربي - الإسلامي (الشمال الأفريقي كما كانت تسميه فرنسا). لم تطلب جبهة التحرير من الجمعية العامة إصدار قرار يقضي (باستقلال الجزائر) بل اقترحت: (الاعتراف بحق الشعب الجزائري في تطبيق مبدأ تقرير المصير)، وطالبت بإجراء مفاوضات للوصول إلى حل يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة، وقد عدل هذا القرار بشكل يضمن قبول فرنسا به، فتمت الموافقة على التعديلات بأغلبية صوت واحد، مما حمل الكتلة الأفريقية - الآسيوية على رفض القرار بعد تعديله، وأيدتها في موقفها هذا دول الكتلة الشيوعية وبعض الدول الأخرى، ولهذا لم تتقدم اللجنة السياسية بأية توصيات إلى الجمعية العامة، واتخذت الجمعية في العاشر من كانون الاول -

ديسمبر - قرارا وسطا، ينص على ملاحظة وساطة كل من تونس والمغرب، ويعرب: (عن الرغبة في الدخول في مفاوضات، بروح من التعاون المثمر، وفي استخدام الوسائل المناسبة الأخرى، للوصول إلى حل يتفق مع أهداف ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه)، وأشارت جبهة التحرير الوطني في بيان رسمي أصدرته بعد مناقشات الأمم المتحدة إلى ارتياحها من القرار المتخذ، ولكن، وعلى الرغم من ارتياح الجبهة رسميا للقرار، إلا أنها استاءت من هزيمة مشروعها المعتدل الذي قدمته إلى الجمعية العامة، وشعرت بأن تفهم الولايات المتحدة والغرب عامة لقضيتها يسير سيرا بطيئا للغاية، وأشارت صحيفة (المجاهد) إلى أن ما تحقق كان شيئا شئيلا للغاية، وأن من الواجب المضي في الصراع المسلح، لا سيما وقد تمكنت الجبهة عن طريق - تكتيكها - من معرفة أصدقائها الحقيقيين. ووجهت (الجبهة) في كانون الثاني - يناير - 1958 مذكرة أخرى إلى الأمين العام للامم المتحدة، أشارت فيها إلى أن فرنسا ما زالت ماضية في تجاهلها لتوصيات الجمعية العامة، وإلى أن الولايات المتحدة رغم هذا التجاهل منحت فرنسا فروضا كبيرة، وإلى أن فرنسا قد حصلت على قروض مماثلة من (صندوق النقد الدولي) ومن (اتحاد المدفوعات الأوروبي) مما يعتبر: (إسهاما من جميع هذه المصادر في الحرب الاستعمارية التي تشنها فرنسا في الجزائر). وسارت الأمور سيرا سريعا في السنة الرابعة للثورة (1958) فقد تابعت جبهة التحرير من الناحية العسكرية معركة الحدود، وحققت انتصارات جديدة في نقل الأسلحة، واستمر تطوير التنظيم العسكري في الداخل، ولا سيما في مجال تمويل القطاعات وتحسين سبل المواصلات، بتوجيه (عبانة) الذي تنقل في جميع

أنحاء الجزائر في أواخر العام (1957) ومطلع العام (1958) ولكنه استشهد في شهر شباط - فبراير - برصاصة غادرة من كمين فرنسي، ففقدت الثورة الجزائرية أحد قادتها الأقوياء، كما فقدت جبهة التحرير قوة داعية إلى التماسك في جهاز قيادتها. ... قد يكون لزاما بعد ذلك، التوقف عند وثيقتين أصدرتهما قيادة (جبهة التحرير الوطني) مختتمة بهما مرحلة من مراحل صراعها السياسي، بعد مضي سنوات الصراع الثلاثة الأولى من عمر الثورة. أ - تصريح لجنة التنسيق والتنفيذ (*) لقد اجتمعت لجنة التنسيق والتنفيذ (لحزب جبهة التحرير الوطني) بتونس من (25) إلى (29) تشرين الأول - أكتوبر - 1957، وبعد التحليل الشامل للحالة العسكرية في الجزائر، والوضعية السياسة والديبلوماسة في (شمال أفريقيا) والعالم، ومع إحياء الذكرى الثالثة لحرب التحرير الوطني وبداية السنة الرابعة من الحرب، ومع وعيها التام بمسؤولياتها وواجباتها، تصرح بما يلي: 1 - الشروط المسبقة للتفاوض مع فرنسا. إن أهداف حرب التحرير الوطنية، كانت وستبقى الاستقلال التام للجزائر، وعليه، وحتى يوضع حد للتعليقات الحاقدة

_ (*) مجلة المجاهد (الجزائرية) العدد (11) فاتح نوفمبر - 1957 - ملفات وثائقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 66 - 68.

والمؤامرات المغرضة، فإن لجنة التنسيق والتنفيذ ترى أنه من الضروري التأكيد علنا، ومن جديد، بأنه من المحال إجراء المفاوضات ما لم يتم الاعتراف مسبقا باستقلال الجزائر، إذ أن هذا الاعتراف ما هو إلا حق طبيعي وأساسي لمطامح الشعب الجزائري. 2 - حرب التحرير، شمال أفريقيا وتضامن الشعوب. تتقدم (لجنة التنسيق والتنفيذ) بالتحية والشكر لكل الحكومات والشعوب التي أعلنت بوسائلها المختلفة عن مساندتها المشجعة للشعب الجزائري، وتذكر بالخصوص الشعوب العربية والشعوب الأفريقية - الآسيوية، والتنديد الكبير بالاستعمار الفرنسي الذي أبدته شعوب مؤتمر باندونغ، ووعيا بخطورة الحرب وتأثيراتها الحقيقية على الشعبين الشقيقين في تونس والمغرب، فإن لجنة التنسيق والتنفيذ تتقدم بكل شكر وإجلال لحكومتي تونس والمغرب على مساعيهما الرامية إلى إيجاد حل سلمي، غير أنها تأسف لأن كل هذه الجهود قد انتهت إلى الفشل بسبب تجاهل وتعنت وتكالب الحكومات الفرنسية المستمرة في الاعتداءات البربرية والقرصنة المتمادية في خرق الحرمة والقوانين الإنسانية الدولية المحضة. فلجنة التنسيق والتنفيذ تتمنى، وتبدي رغبتها الملحة، في تنسيق الجهود على مستوى شمال أفريقيا كله في سبيل إنجاح مسعاها، وإعطائه فعالية أكبر، كما أن (لجنة التنسيق والتنفيذ) التي لا تقلل من خطورة الامبريالية الفرنسية تجاه كل شمال أفريقيا، ترغب في تعدد اللقاءات بينها وبين الحكومتين التونسية والمغربية وتعرب عن أمنيتها في تنظيم مؤتمر بين الأقطار المغربية الثلاثة لبحث خطة موحدة لحصول الجزائر على استقلالها.

3 - العمليات العسكرية تتقدم (لجنة التنسيق والتنفيذ) بكل خشوع وتحية للمجاهدين الجزائريين والمنفيين من وطنهم والمساجين وكذلك النساء والأطفال والشيوخ وكل المعذين، وجميع الذين ثاروا - معروفين أو مجهولين - في سبيل انتزاع استقلال وطنهم، وتنحني بكل أسى وخشوع ترحما على القتلى والجرحى الذين ذهبوا ضحية حرب شاملة. وتسجل (لجنة التنسيق والتنفيذ) بكل اعتزاز التقدم الذي تم في الميدان العسكري بفضل الهجوم الشامل يوم 0 2 آب - أوت - 1957؛ فبعد إحداث وإحياء الجبهة الصحراوية، أكدت (جبهة التحرير الوطني) عزمها وتصميمها لتوسيع هذه الجبهة، وبرهنت على تفوق مبادرتها العسكرية في الميدان. و (لجنة التنسيق والتنفيذ) عازمة على إظهار عزيمة شعبنا الرافض للأطماع التي تريد هضمه وابتلاعه بواسطة عملية قرصنة تكاد تكون دولية لسرقة خيرات الجزائر، فالمنقبون عن الذهب الأسود يجب ألا ينسوا بأن حسابهم معنا، وكذلك بالنسبة لأعضاء (السوق الأوروبية المشتركة) فيجب ألا يجهلوا بأن الجزائر لا تلتزم بالمعاهدات التي وقعتها أو توقعها معها فرنسا باسم بلادنا. وتسجل (لجنة التنسيق والتنفيذ) بكل اعتزاز التحسن الذي تم الحصول عليه - كما وكيفا - لتسليح مجاهدينا الذين ما انفكوا يهزمون جيشا عصريا يزيد عدد جنوده على (600) ألف جندي يضاف إليهم أعداد الدرك والشرطة والميليشيا الوطنية؛ فجيش وطني الذي تكون في الفاتح من نوفمبر - 1954 - من ثلاثة آلاف شخص بعتاد ضئيل، وليس له من الأسلحة سوى بنادق الصيد، بات يضم في صفوفه اليوم أكثر من (100) ألف شخص

مزودين بأحدث الأسلحة، ويقاومون بكل بسالة جيوش العدو العاملة. وعليه، فإنه يجب على الرأي العام الفرنسي والدولي، أن يعلما بأن (سياسة الإخماد) التي هي الحرب ستنتهي الى فشل محقق. 4 - السياسة الفرنسية وإخفاق محاولات الاتصال. تلاحظ (لجنة التنسيق والتنفيذ) بأنه منذ الفاتح من نوفمبر (1954) وخصوصا منذ 6 شباط - فيفري - 1956، والحكومة الفرنسية، تتابع بدون جدوى فرض حرب استعمارية عنصرية؛ حرب تهدف بكل وضوح إلى القضاء على الشعب الجزائري، وإن (لجنة التنسيق والتنفيذ) تؤكد للعالم بأنها مستعدة لتقديم الأدلة. إن الخراب الذي سببته الحرب في الجزائر، بالنسبة للأشخاص والممتلكات تفوق الخسائر التي عرفتها فرنسا إبان الحرب العالمية (1914 - 1918). هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن محاولات الاتصال التي قامت بها الحكومة الفرنسية لم تكن أكثر من عملية سبر - جس نبض - وقد تمت حتى الآن بواسطة مبعوثين مرتدين أو مبعدين، مما جعل هذه المحاولات تتضح لنا بأنها مجرد تلاعب ومؤامرة منحطة، هدفها الأساسي خداع الرأي العام العالمي. وهكذا، وببطء، ولكن بكل تأكيد، دمرت هذه الحكومات كل أمل في التفاوض. ففرنسا إذن أوضحت سياستها الجهنمية - عن قصد - بتطلعات قوة وحشية، تسببت في إبعاد كل إمكانيات التعايش بين الفرنسيين والجزائريين. إن الحكومة الفرنسية التي سمحت لنفسها بتطبيق سياسة العنف والتقتيل، تعمل على رفض الحل السياسي، وفرض الحل العسكري على الجزائر الثائرة.

5 - توصيات الأمم المتحدة لقد طبت منظمة الأمم المتحدة في دورتها العادية الأخيرة - مستعملة أساليبها المحدودة - من الحكومة الفرنسية أن تبحث عن حل سلمي ديموقراطي عادل للمشكلة الجزائرية في إطار مبادىء ميثاق هيئة الأمم المتحدة. إن (جبهة التحرير الوطني) الوفية للروح الأممية والتحريرية لميثاق الأمم المتحدة قد استجابت لهذا النداء، باعتبار أن الاستقلال الوطني هو من الأهداف الأساسية لحزب جبهة التحرير الوطني، وهو أيضا ما يؤكده ميثاق الأمم المتحدة كحق لكل الشعوب، الأمر الذي دفع الجبهة إلى الإسراع في إبلاغ هيئة الأمم المتحدة باستعدادها للتفاوض، لكن الحكومات الفرنسية رفضت إعطاء الأهمية والاستعداد لتنفيذ مثل هذه التوصية؛ لأنها تعلم أن النتائج السياسية لذلك هي القضاء على النظام الاستعماري، والتعجيل باستقلال الجزائر، وإن فرنسا وهي تسعى إلى إقناع الأمم المتحدة، تريد فرض الحل العسكري بانتصار قواتها، وهو ما جعلها تنتظر الربع ساعة الأخيرة (يوم 18 كانون الأول - ديسبر - 1957) لتحديد السياسة التي تريد تطبيقها، والمتمثلة في قانون الملاك (لوا - كادر) غير أن عدم جدية هذه السياسة وتناقضاتها الداخلية قد خدعت الرأي العام الفرنسي وكذلك الرأي العام الدولي، والأكثر من هذا، هو أن قانون (لوا - كادر) هذا الذي يعود تاريخه إلى ما قبل تشريع (1947) وقانون (1919) والنصوص التشريعية لسنة (1900) التي تتعلق بالاستقلال المالي للجزائر التي رفضها البرلمان الفرنسي، مما سبب مشاكل داخل الوزارة الفرنسية لا تزال قائمة حتى الآن.

والمعروف أن فرنسا التي هي الآن بدون حكومة، تتمسك بعدم الاعتراف (بجبهة التحرير الوطني) في حين - هي تقوم بحرب ضروس - تمارس سياسة تجاه الجزائر لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود. 6 - نشاط الأمم المتحدة هل من واجب الأمم المتحدة ان تنتظر كل سنة حلول النية الحسنة الفرنسية؟. لقد تدخلت منظمة الأمم المتحدة - في إطار سياسة تصفية الأستعمار في شمال أفريقيا - لصالح كل من تونس والمغرب، واليوم لا يمكنها أن تبقى صامتة أمام صرخات الألم التي يطلقها شعب وقع ضحية عدوان لا إنساني، من جراء حرب ضروس. وعليه، فإن (جبهة التحرير الوطني) توجه نداءها الحاسم العلني لمنظمة الأمم المتحدة لكي تحاكم نفسها وتتخذ موقفا محددا وحاسما بصفتها الحارس الأمين لميثاقها. إن حرب أثيوبيا - التي كانت حربا استعمارية - قد حطمت كيان عصبة الأمم. وجبهة التحرير الوطني تتمنى ألا تكون حرب الجزائر - التي هي حرب استعمارية أيضا - سببا في تحطيم كيان منظمة هيئة الأمم المتحدة. 7 - دور الشعب الفرنسي. إن (لجنة التنسيق والتنفيذ) تريد أن تؤكد مرة أخرى، وبكلمة واحدة، للشعب الفرنسي كل الروابط التي بإمكانها خلق ظروف التعايش السلمي بين فرنسا والجزائر المستقلة، ولا يفوت لجنة التنسيق والتنفيذ أن تخطر الرأي العام الفرنسي بأن المشكل الوزاري

تفاقم بسبب مأساة الجزائر، هذه المأساة التي بسببها ما زال الدم ينزف. فالحالة خطيرة، وإذا كان الشعب الفرنسي يريد أن يقوم ثانية بمجهودات تهدف إلى الحفاط على النظام الاستعماري المحكوم عليه بالزوال، فعليه أن يعلم بأن الشعب الجزائري قد عزم على التحرر بصفة نهائية، وأنه لا يمكن أن يتراجع، كما لا يمكن لأحد أن يهزمه، أما الحرب التي فرضت عليه، فهي حرب استعمارية رأسمالية عنصرية، إن لم نقل حربا صليبية، فإنها حرب غير شرعية مفروضة عليه، ولا بد أن ينتصر فيها قريبا. إن رئيس مجلس الوزراء المعين مؤخرا، منحنا في خطاب تنصيبه وقف القتال بدون شرط سياسي مسبق، وهو يريد بذلك أن يفرض علينا سياسة (لالوا - كادر) الممنوحة من طرف السيد (بورجس - مرنوري) والمنقحة حسب رغبة المعمرين في الجزائر، كما يريد منا أيضا أن نمتثل فرادى أمام أسيادنا. وأمام اقتراحات من هذا النوع، فإن (لجنة التنسيق والتنفيذ) تحتفظ بعروض واضحة ومحددة لشعب تم تحريره، بعد عروض سلم عن طريق التفاوض والاستقلال المعترف به مسبقا للجزائر. ***

فاتح نوفمبر 1954 - فاتح نوفمبر 1957 ب- نداء - من جبهة التحرير الوطني (*) أيها الشعب الجزائري! أيها الضباط وضباط الصف وجنود جيش التحرير الوطني! مناضلو جبهة التحرير الوطني! منذ ثلاث سنوات والشعب الجزائري كله يخوض معركة تاريخية من أجل الاستقلال. وفي هذا اليوم التذكاري، ندعوكم لكي تقدروا معنا الشوط الذي قطعناه حتى نخوض الشوط الذي بقي لنا القيام به بكيفية أحسن، فغداة الثورة لم تكن الأحزاب السياسية التي كانت مهمتها جمع وتوجيه الطاقات منقسمة على نفسها فحسب، بل كانت واقفة الواحد ضد الآخر؛ فحركة (انتصار الحريات الديموقراطية) كانت تمزقها أزمة داخلية انزلقت بها نحو الجمود، ولم تكن حالة الأحزاب الأخرى أفضل أو أحسن، وكان الاستعماريون الفرنسيون يطربون من شدة الفرح، وكان الشعب الجزائري يعض مكبحه من شدة الغضب والحسرة، وكان ينظر بغيرة للشعبين الشقيقين في المغرب وتونس وهما يقاتلان بالسلاح الامبريالية الفرنسية. ففي تلك الأثناء قررت جماعة من المناضلين الشباب، والوطنيين المخلصين والثوريين الأصليين الخروج بالجزائر من المأزق؛ فعينت هيئة تضم تسعة أعضاء، واجبها إعطاء الإشارة لاندلاع الثورة المسلحة،

_ (*) مجلة (المجاهد) الجزائرية. العدد (11) الفاتح من نوفمبر 1957 - ملفات وثاثقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 64 - 65.

فالبعض من أعضائها سقطوا في ميدان الشرف لكي تحيا الجزائر، وهم: ابن بو العيد وديدوش وابن مهيدي. وتحققت المعجزة، ففي مدة ستة أشهر تمكنت جماعة من الرجال، منعدمي الإمكانيات العتادية والمالية، في جو يسوده التشاؤم، وبمجهودات جبارة، من ضم ثلاثة آلاف مناضل وتنظيمهم وتسليحهم وكل ذلك في سرية تامة. وفي فاتح نوفمبر، على الساعة (صفر) تم ميلاد (جبهة التحرير الوطني) والتي وجهت النداء للشعب الجزائري ولمناضلي القضية الوطنية، ولم يهمل شيء: البرنامج وإمكانيات الكفاح، والأهداف الداخلية والخارجية، وحدد لأول مرة إطار للمفاوضات المقبلة والمحتملة ولأنهم كانوا واعين بقوة الشعب الثورية، وبحقائق البلاد، ومقدرين لأهمية قوات العدو، فقد تبنى طلائعيو - رواد - الثورة الخطة العسكرية المشهورة التي عرفت باسم (القنفذ)؛ فبعد طلقة الإنذار العام، انسحبوا نحو جبال الأوراس، والشمال القسنطيني، والقبائل، وجبال الغرب الجزائري، وشرعوا في تنفيذ مهمة تنظيم الشعب والجيش، دون أن يكفوا عن مناوشة العدو. إن مجهود وضع الهيكل الثوري كان يتطلب من المسؤولين والمناضلين روحا للتضحية لا مثيل لها وتحملا لمشاق كبيرة، وإيمانا مطلقا. وتطلب الوصول إلى أهداف المرحلة الأولى حوالي سنة فقط، وواجه الشعب الجزائري المهيأ محنة يوم 20 آب - أوت - سنة 1955 الدامية، وكان جيشه الوطني للتحرير المظفر يدله على طريق النجاح. وبدأ تحقيق هدف المرحلة الثانية، وهي إقرار انعدام الأمن العام عبر جميع أنحاء التراب الوطني، وتبلورت الشبكة التنظيمية للجنة التحرير الوطني، وتنوعت أجهزتها المنسقة

بانسجام، وامتد نفوذ جيش التحرير الوطني إلى كل انحاء الجزائر، وتحول من (حرب العصابات) البسيطة إلى طور (الحرب الجزئية) وتعددت مصالحه التقنية المختصة: المعتمدية العسكرية، الدرك، المواصلات، المصالح الصحية، المخابرات الخ .. ولكونه جيشا عصريا حقيقة، فقد نما (جيش التحرير الوطني) مميزا بشخصيته وهو يواجه جيشا من أكبر جيوش العالم، وتوجت هذه المجهودات بالإجماع التاريخي لمؤتمر الصومام في 20 - أوت - آب - 1956 حيث تحقق جمع القوات، وضمان وحدة القيادة وإقرار منهج في الكفاح. كانت بعثاتنا في الخارج، تعمل في الوقت ذاته باتصال مباشر مع الداخل، وتخوض المعركة الديبلوماسية محطمة بناية الكذب التابعة لدعاية العدو، مبرزة الوجه الحقيقي للثورة الجزائرية. اضطر العدو للتقهقر عندما وجد نفسه مهاجما في ميدان كان يسيطر عليه وحده، ومنذ سنة والقضية الجزائرية مدرجة في جدول أعمال الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، في حين كان الشعب الجزائري يعبر عن مساندته (لجبهة التحرير الوطني) من خلال إضراب دام ثمانية أيام، وهتف في وجه العالم بتصميمه على العيش حرا أو الموت. إن انتصاراتنا في الداخل لها صدى في الخارج، وأصبحت هذه الانتصارات ممكنة بفضل الكفاح البطولي لشعبنا، وبفضل تضحيات أبنائه الأبرار الذين سقطوا في ميدان الشرف. إن عشرات الآلاف من الجزائريين، رجالا ونساء وأطفالا قد سجلوا أسماءهم إلى جوار أسماء (عبد القادر) و (المقراني) مشرفين بذلك تاريخ الجزائر.

وبعد ثلاث سنوات من الكفاح والألم والتضحية، فإن شرف وطننا وكرامته قد انقذا، إذ غسلا بدم وعرق ودموع شعب متعطش للحرية، وعاقد العزم على الانتصار. نعم، سوف ننتصر لأن قضيتنا عادلة، وإيماننا راسخ، ولأن قدرتنا القتالية لا تعرف حدا. وفي الوقت الذي نرى فيه شروق شمس الحرية على الأفق، فلنضم صفوفنا أكثر، لنزيد من طاقتنا ولتكن ضربتنا أقوى حتى نزيح عن أرض وطننا الحبيب حشود المستعمرين. أيها الشعب الجزائري! ويا جيش التحرير الوطني ومناضلو جبهة التحرير الوطني. إن معركة التحرير مستمرة، فإلى الأمام. ***

يوم الجزائر - والتضامن مع الثورة

4 - يوم الجزائر - والتضامن مع الثورة لقد اضطرت فرنسا إلى طلب الدعم من حلفائها الغربيين ومن الولايات المتحدة، كما لجأت إلى السوق المشتركة والبنك الدولي للحصول على المساعدات المالية، من أجل تأمين الوقود لجهازها الحربي. وكان من المحال على الثورة الجزائرية أن تستمر وأن تتطور لمجابهة التصعيد المستمر من جانب الفرنسيين، اعتمادا منها على موارد الجزائر الثائرة. وقد درست (جبهة التحرير الوطني) الموقف على الصعيد السياسي، كما بحثت في الوسائل التي يمكن اتباعها لدعم الثورة معنويا وماديا، وكذلك الطرائق المناسبة التي يمكن استخدامها لتشديد الضعط على حكومة (غايار) بعد أن أقدمت هذه على تقديم مشروع قانون أساسي جديد للجزائر، إلى الجمعية الوطنية الفرنسية التي أقرت هذا القانون. اشتركت (جبهة التحرير الوطني) في مؤتمر التضامن الأفريقي - الآسيوي الذي عقد في القارة، في نهاية شهر كانون الأول - ديسمبر - 1957، وقد رحب المؤتمر ترحيبا حارا وصادقا بالوفد الجزائري، واتخذ قرارا دعا فيه إلى الاعتراف فورا باستقلال الجزائر، وإلى إجراء مفاوضات بين فرنسا وجبهة التحرير على هذا

الأساس، وإلى اطلاق سراح الزعماء الخمسة، ودعا المؤتمر إلى قيام مظاهرات شعبية في جميع البلاد المشتركة فيه لنصرة الجزائر، وإعداد حملات صحفية لهذه الغاية، وبذل كافة الجهود لتعبئة الرأي العام العالمي لاستنكار السياسة الفرنسية، وأوصى المؤتمر باعتبار الثلاثين من آذار - مارس - 1958، يوما للتضامن مع الجزائر، ودعا إلى تشكيل لجان في كل مكان لنصرة الجزائر وتحريرها ومد يد العون إلى لاجئيها. وناشد المؤتمر جميع الحكومات الأفريقية - الآسيوية الدفاع عن استقلال الجزائر في المنظمات الدولية، ومحاولة التأثير على فرنسا لإنهاء حرب الجزائر، وعلى الحكومات الغربية الأخرى لوقف مساعداتها عن فرنسا. ووافقت جبهة التحرير على الاشتراك في الأمانة العامة الدائمة للمؤتمر، التي تقرر إقامتها في القاهرة، وانتدبت (الدكتور الأمين) ممثلا لها فيها، وأدى جمع التبرعات في الثلاثين من آذار - مارس - من مختلف البلدان الأفريقية - الآسيوية إلى توافر الأموال عند جبهة التحرير، التي ارتحل ممثلوها إلى عدد من البلاد المذكورة للاشتراك في احتفالات يوم الجزائر. وقد يكون من المناسب هنا التوقف عند بعض ملامح (يوم الجزائر) من خلال ما تم طرحه من مقولات عبرت عن روح التضامن العميق مع ثورة الشعب الجزائري، ومجاهديه الأبرار. ... لقد وجهت طليعة العراق العربية في (دمشق) نداء إلى الشعب العربي في العراق (*) جاء فيه ما يلي:

_ (*) صحيفة (الرأي العام) الدمشقية - العدد 1147 - 18 رمضان 1377 هـ - 7 نيسان 1958 ص 1.

(تعيش الجزائر في ثورة دامية، نضالا من أجل الحرية والحياة الكريمة، ودفاعا عن القومية العربية، وتواجه في ثورتها المباركة قوى الظلم والاستبداد والاستعمار الوحشي، وتتعرض لأنواع الهمجيات، من إتلاف للقرى وإحراق للمزارع وتقتيل للنساء والأطفال، وتشريد جماعي للعزل العاجزين، كل هذا يواجهه الشعب العربي في الجزائر، بإيمان وصبر، لأنه يؤمن بأن دفاعه إنما هو دفاع عن الأقطار العربية جمعاء، ولذلك فهو يبذل الدماء بسخاء في سبيل الأمة العربية. وفي هذه الأيام ينتصر للجزائر ثلاثة أرباع المعمورة، فقرر المؤتمر الآسيوي - الأفريقي المنعقد في القاهرة، أن يكون للجزائر يوم تجمع فيه المساعدات دعما لثورة الجزائر، ومن غير الشعب العربي أحرى بنصرة نفسه والذود عن كيانه؟ وقد قررت الجمهورية العربية المتحدة في إقليميها أن يكون أسبوع للجرائر لا يوم واحد، تجمع فيه الأموال والتبرعات، فكان مظهرا قوميا رائعا، ونحن إذ نهيب بالشعب العربي في العراق، الذي كان وما يزال المؤمن إيمانا عميقا بقوميته وعروبته مثالا للبذل والعطاء، أن يهب لتلبية هذا الواجب المقدس، وببذل الغالي والنفيس، لدعم الدفاع الأول عن كياننا العربي؛ إذ أن حرية الجزائر وخلاصها من الاستعمار إنما هو دعم لحرية العرب وخلاصهم من الاستغلال والاستعمار. عاش نضال الشعب العربي في الجزائر من أجل الحرية والتقدم. والخلود لشهدائنا الأبطال في الجزائر المناضلة. ... وفي الرباط - المغرب -، أعلن جلالة ملك المغرب، الملك

محمد الخامس، بأن المغرب - مراكش - سوف تنظم يوما للجزائر في السادس عشر من الشهر الحالي (آذار - مارس - 1958)، ودعا جلالته الشعب المغربي للإعراب في هذه المناسبة عن تضامنه مع الشعب الجزائري. (*). خلال ذلك، كانت الصحافة العربية تفرد (زوايا يومية) تطرح فيها قضية الجزائر بهدف إثارة الرأي العام العربي، وتعريفه بالجوانب المختلفة لهذه القضية، وتذكيره بتاريخها، ومن ذلك ما ذكرته (صحيفة سورية) (**) قالت ما يلي: (إن أهم الدوافع التي دفعت فرنسا إلى احتلال الجزائر تتمثل في كلمة الجنرال - دي بورمون - قائد الحملة البرية على الجزائر، ألقاها على الوعاظ المرافقين للجيش في إحدى المناسبات: (لقد جئتم لتعيدوا معنا فتح الباب على مصراعيه حتى تدخل المسيحية إلى أفريقيا، وانا لنأمل أن تمم هذه الربوع قريبا لتعمل من جديد على ازدهار المدنية التي انطفأ مصباحها منذ عدة قرون). وكذلك كلمة الكردينال لافيجري سنة 1867: (يجب أن نجعل من الأمة الجزائرية مهدا لأمة مسيحية كريمة، وأن نضيء أرجاءها بنور مدنية وحيها الإنجيل، وأن نربط مصير أفريقيا بحياة الشعوب المسيحية؛ تلك هي رسالتنا الإلهية). ثم كانت بعد ذلك الدوافع الاقتصادية واستعباد الشعوب وهي دوافع لم تسلم منها حروب الإسكندر ولا قيصر ولا نابليون، بل هي إنما كانت من أجل هذا، فما عرفت بلاد

_ (*) جريدة (المنار) الدمشقية. العدد 1838، 14 رمضان 1377 هـ، 3/ 4/ 1958 ص 1. (**) المرجع السابق - ص 3.

في الدنيا حروب الأوروبيين إلا لهذه الأغراض). وتصادف (يوم الجزائر) في باريس يوم الثلاثاء 1/ 4/ 1958 حيث تناقلت (وكالات الأنباء) (*) عن (باريس) ما يلي: (افتتح في باريس - في قاعة بانييل - مؤتمر وطني من أجل (السلام في الجزائر) بمبادرة مائة وعشرة من رجال السياسة والشخصيات الاجتماعية الفرنسية، من بينهم فرانسوا مورياك، وجان بول سارتر، والصحفيون كلود بوردييه، وجان دوميناك، وموريس دو فروجييه، وليون فيكس، وأوجيني كوتون وقد سبقت هذا المؤتمر حشود واجتماعات عديدة في المحافظات والمدن الفرنسية اشترك فيها ممثلو مختلف الأحزاب السياسية والتنظيمات الاجتماعية، وبعث المشتركون في هذه الحشود والاجتماعات بالقرارات التي اتخذها إلى النواب والمستشارين العموميين وأعضاء المجالس البلدية يطالبون فيها بوضع حد للحرب في الجزائر، وقد حضر المؤتمر الذي افتتح في باريس ممثلون لشتى الميول ممن يناضلون في سبيل السلام في الجزائر). أ - وكان (يوم الجزائر) في دمشق يوما خالدا، أكدت فيه شعورها الدفين تجاه مجاهدي الجزائر وأبطالها الميامين، وقد أقام المكتب التنفيذي لأسبوع الجزائر حفلة تحت رعاية فخامة الريئس (شكري القوتلي) في الساعة الثامنة من مساء الاثنين 31 آذار - مارس - 1958، على مدرج جامعة دمشق، وقد افتتح الحفل بتلاوة عشر من القرآن الكريم، وتبعه فخامة الرئيس شكري القوتلي فألقى

_ (*) المرجع: جريدة (المنار) الدمشقية، العدد 1836،13 رمضان 1377 هـ، 2/ 4/ 1958 ص 1.

تحيا تونس - تحيا الوحدة العربية - وستبقى حرا يا وطني

الكلمة التالية (*). (أيها المواطنون! أيها الأخوة الأعزاء! لستم بحاجة أن أذكركم بالمعنى القومي الجليل الذي يكمن وراء هذا اليوم في تاريخ أمجادكم ومآثركم، فإن اجتماعكم في هذا المكان، الذي طالما شهد اجتماعكم وحشودكم تتنادون إلى المكرمات، وتتسابقون إلى المفاخر والتضحيات، هو برهانكم بين أيديكم، ولقد طالما قدمتم البرهان في كل ساحة وميدان، دما ومالا وعملا صادقا، حتى غدوتم بالبطولة والأريحية مثالا تضرب به الأمثال، وتعتز به على مر الزمان أجيال وأجيال. حسبي أن أقول لكم اليوم، وخير القول ما كان صراحة ومضاء، بأنكم لا تزالون في المعركة التي خلفت فلولها وراء صفوفكم، وإن العدو الذي جاهدتموه، إذا لم يجل عن جميع الأرض العربية، فهو لا يزال في أرضكم، وإذا ظل مقيما في أي دار عربية فكأنه مقيم في دياركم، حتى يأذن الله لكم بأن تطهروا الأرض من فلوله، وتنفذوا العروبة والإنسانية من جرائمه وشروره. إننا لا نعجب أيها الأخوة والأصدقاء أن يحمل الاستعمار الفرنسي في بلاد العرب هذا الطابع الهمجي البربري، الذي يتيه به حمقا وغرورا، ويمشي به في أرض الجزائر العربية قتلا وفتكا وتدميرا، بل نعجب أكبر العجب أن تعيش وحشية هولاكو، وغزوات التتر منذ القرون الوسطى تحت شعار المدنية الفرنسية المزعومة، في القرن العشرين، وأن يدعي نشر حقوق الإنسان، شعب غرق في

_ (*) المقتطفات للكلمات التالية من: (المنار) الدمشقية، العدد 1835 صباح الثلاثاء 12 رمضان 1377 - 1 نيسان - أبريل - 1958 صفحات 1 و2 و3 و4.

الظلامة غرق الهالكين، وقاد في الأرض حملة من الظلم والطغيان، ما عرف مثلها تاريخ الإنسان. إننا لا نعجب أن يكون الاستعمار في معناه ومرماه، عملا وحشيا تبرأ منه الإنسانية، بل نعجب كل العجب أن تمارس الدول الكبرى في هذا العصر، لا في العصور الوسطى، سياسة الإبادة والإفناء، في أرض شعب ينشد حريته، ويدافع عن حقوقه وبقائه، فأين هذه الدول الكبرى الغارقة في غرورها، الوالغة في دماء ضحاياها، من عصر النور والذرة والكهرباء، عصر المدنية والحرية وتقرير المصير، عصر الأمم المتحدة وميثاق الإنسان الجديد؟ أين هذه الدول الكبرى من مبادئها، وأين أعمالها من أقوالها، وأين بواطنها من ظواهرها؟ إنها في معركة الحرية سيف مسلط على الحرية، وفي معركة تقرير المصير ضد مبادى تقرير المصير؛ إنها في صراع الحق والباطل، عدوان على الحق مع كل باطل، وفي مجال حقوق الإنسان حرب على أكرم ما يتميز به الإنسان. فليمض المستعمرون في أهوائهم ما شاءت لهم الأهواء، فنحن الذين أناط الله بهم شرف الرسالة الحقة والمبادىء المثلى، وليس إلا بحريتنا تتحرر الإنسانية من شرور البغاة والطامعين. أيها المواطنون! إن المستعمر الفرنسي الغاشم لا ينازع العرب الأحرار في الجزائر حقوقهم في بلادهم وحريتهم وسيادتهم فحسب، بل بلغ به الغرور حدا قصيا، حتى راح ينازعهم شرف الانتساب إلى وطنهم وعروبتهم، فزعم أن أرضهم جزء من أرضه، وسكانها رعايا في امبراطوريته، فحاربهم في دينهم وحاربهم في لغتهم وحاربهم في عروبتهم. وجاءت الثورة بعد نحو من قرن وربع القرن لتصفع العدو وتكذب مزاعمه، وتحبط خططه

ومكائده، وتبرهن للملأ أجمع أن العروبة لا تباد، وإن عناصر الوجود العربي لا تقوى عليها قوى الشر، مهما أملت لها الظروف والأحوال، وها هي شهادة الأصالة العربية، تملأ عين التاريخ، ثورة لن يقر لها قرار حتى تطيح بآخر آثار الاستعمار في بلاد العرب. ففي الوقت الذي تجرؤ فرنسا فيه على إعلان حقوقها الزائفة في أرض الجزائر، زاعمة للأمم المتحدة بلا خجل ولا حياء، إن قضية الجزائر قضية فرنسية داخلية، في هذا الوقت وبينما نقيم للجزائر في هذه المدينة يوما مشهودا، يجب أن نذكر إخواننا العرب الأحرار في هذا القطر المجاهد، لنذكر بهم تاريخنا العظيم، تاريخ الوليد وعبد الملك، عندما بعثت دمشق طارق بن زياد إلى الأندلس لنشر الرسالة العربية في ظلام القرون الوسطى، وكان طارق من أبناء ذلك الشمال الأفريقي، كما كان ذلك الإقليم الحافل بمآثر المجد العربي، جزءا من جسم الدولة العربية وروحها. لنذكر بذلك فتوح العرب ومجد أبطالهم وعز دولتهم فيعلم الأقربون والأبعدون، أن قضية الجزائر هي قضية قومية عربية، حدودها حدودنا، ونضالها نضالنا، ومصيرها مصيرنا، إنها قضيتنا الداخلة نحن العرب، والفرنسيون مجرد معتدين غاصبين. لطالما قلت لكم، أيها الأصدقاء، في مناسبات شتى، أن الاستعمار في أفوله وزواله طفق يؤلف جبهة واحدة متراصة لمقاومة الأماني العربية، وتعطيل عجلة التقدم والتحرر العربي، وقد ظهر للعرب بجلاء في جميع ديارهم أن كارثتهم في الجزائر، وكارثتهم في فلسطين من صنع الجبهة الاستعمارية الموحدة التي أيقنت بأن العربي في طريقه المحتوم إلى الحرية والسيادة والعزة، فراحت تفتح في صدره الجراح، وتعدد له جبهات القتال لتشل حركته وتؤخر

نهضته. ومثلما تآبت الدول الاستعمارية على العرب، وزرعت في تربة مقدسهم شوكة إسرائيل، ومدتها بالمساعدات والهبات والقروض أموالا وذخائر وسلاحا، كذلك وقفت دول حلف شمال الأطلسي وراء المستعمر الفرنسي، تؤيده وتدعم عدوانه بالهبات والمساعدات والقروض، أموالا وذخائر وسلاحا، لتملي له في سياسة العدوان والاغتصاب، حتى يتمكن من إجلاء جزء آخر من الشعب العربي عن بلاده ودياره، فيحل محله المغيرون الغاصبون. هذه هي سياسة دول الغرب المستعمرة في بلاد العرب، تجزئة وتخريب وعدوان، وحكم بالحديد والنار، وهذه هي أيديهم الملطخة يمدونها نحونا بالدعوة إلى السلام والصداقة، والخلافات أنماطا وأشكالا، فكيف لا نقبض أكفنا عن أيديهم، وكيف لا نشيح بوجوهنا عنهم، وكيف لا نرفض دعواتهم الباطلة، وخلافاتهم الخادعة، وطالما غرروا بنا، وخانوا عهودهم معنا وتواطؤوا بالسر والعلن على مصالحنا، وأغلقوا أبوابهم دوننا، بينما فتحوا الأبواب على مصاريعها لكل من يكيد للعرب، وينذر نفسه لعداء العرب. ألا فليعلم المستعمرون ومن والاهم أن الأمة العربية في نضالها المشروع من أجل الحرية والوحدة جبهة واحدة كما أن الاستعمار في عداء العرب جبهة واحدة، وما كانت عهودهم وخلافاتهم بالأمس وليست اليوم سوى أسلوب من أساليبهم البائدة في خداع الشعوب وتخليد نفوذ الاستعمار. أيها الأخوان! في هذا اليوم الذي تحتشدون فيه لنصرة إخوانكم وأبناكم في الجزائر، يخوض الجزائريون الأحرار النضال في عام الثورة الرايع، ويقاسون من العدو المحتل شر أنواع العذاب، يجب

أن تذكروا تاريخكم في نضالكم الكبير، وما ارتكبه المستعمر الباغي في بلادكم من جرائم التقتيل والتخريب والانتقام؛ فلقد مشى على جثث شهدائكم من ميسلون إلى البرلمان، خلال ربع قرن طويل ... ولقد رأيتموه في أرضكم كما تسمعون عنه اليوم في أرض الجزائر، يهدم المدن ويحرق القرى ويقتل الآمنين الأبرياء ويمثل بالشهداء، ويحمل الجثث إلى الساحات العامة ليعرضها على الجمهور المفجوع ... لم تتبدل عقليته، ولم تتغير أساليبه، ولقد هزمته اخلاقه في معارك الحرب الكبرى من قبل أن تهزمه ذخائره وأسلحته، وتجرع بالمر والهوان، ذاك الاحتلال والاغتصاب، وسيمضي في غروره مغامرا باطشا حتى يخرج من الجزائر بإذن الله، كما خرج من هذه البلاد ذليلا مدحورا. ب - كلمة الأمين العام لجامعة الدول العربية. وبماسية (يوم الجزائر) أدلى السيد (عبد الخالق حسونة) الأمين العام لجامعة الدول العربية بما يلي: (في مثل هذا اليوم عام 1830، اقتحمت فرنسا بقواتها وجيوشها الغازية أرض الجزائر العربية، واصطدمت بأحرار الجزائر الذين يدافعون عن كرامتهم وحريتهم واستقلالهم وسيادتهم، وخيل لفرنسا آنذاك، وبعد سبعة عشر عاما من القتال، أنها سيطرت على الموقف بالجزائر، ولكن الدماء العربية المتدفقة في عروق الجزائريين أثبتت لفرنسا قبل أن تثبت للعالم كله أنها واهمة، فهب الشعب الجزائري في ثورات متصلة على الاستعمار الأجنبي، ثم ثار هذه الثورة الخالدة منذ أربعين شهرا، خاض فيها شعب الجزائر العربى، ولا زال يخوض في إيمان وإصرار كفاحا رهيبا يتضامن فيه أبناء الشعب جميعا، ويتولى أعمال المقاومة والدفاع عدد قليل من المقاتلين بأسلحة

متواضعة ضد قوات عاتية جرارة، تشن حربا استعمارية عدوانية على شعب يطالب بحقوقه الطبيعية المشروعة في الحرية وتقرير المصير، ولقد أصبحت حركة التحرر الجزائرية حديث العالم كله، ونالت مكانة مرموقة في الوطن العربي وفي الأمم المتحدة، وفي الرأي العام العالمي وفي فرنسا ذاتها، وكانت ثورة الرأي العام العالمي على حكم الإعدام على المجاهدة الجزائرية (جميلة بوحيرد) وزميلاتها الثلاث، وعلى فرض منطقة حرام بين الجزائر وتونس لعزل الوطنيين الجزائريين عن جيرانهم العرب في الشرق والغرب كانت هذه الثورة من الأعلام النيرة في سماء الكفاح العربي الباسل). ج - كلمة كمال الدين حسين. أذاع السيد (كمال الدين حسين) وزير التربية والتعليم في الساعة العاشرة من يوم 31/ 3/ 1958، كلمة إلى الطلاب والطالبات - في الجمهورية العربية المتحدة - بمناسبة (يوم الجزائر) جاء فيها: أبنائي الطلاب والطالبات!. نذكر اليوم الجزائر، ويذكرها كل عربي بين الشاطئين، وواجب علينا وعلى كل عربي أن يذكرها كل يوم، الجزائر ذلك القطر العربي الشقيق الذي يكافح منذ قرن؛ الجزائر جزء من وطننا العربي في الشمال الأفريقي يعيش فيه شعب من إخواننا العرب كان لهم في وطنهم دولة ذات سيادة وذات مجد وحضارة، وكان لها جيش في البر وأسطول في البحر وعلاقات دولية في الشرق والغرب، فانتهزت فرنسا ذات يوم، فاحتلت أرضها وسلبتها حريتها وحطمت رايتها وجيشها وأسطولها لتكون مستعمرة لها، تستغل مواردها، وتغتصب

أرزاقها، وتبيد أهلها ليستوطنها الفرنسيون دون أهلها، وجعلوها جزءا من الوطن العربي، ولكن أحرار الجزائر لم يخضعوا للاستعمار الفرنسي، وما زالوا يجاهدون ليردوا المعتدين عن أرضهم ويحققوا لوطنهم السيادة والكرامة والحرية. إن حرب التحرير الناشبة فيه لم تزل متقدة الأوار منذ سنة (1830) يوم وطئت أقدام جنود الاحتلال الفرنسي أرضه المقدمة، فهب أبناء شعب الجزائر للدفاع عن وطنهم وعن حريتهم وعن كرامتهم وعرضهم، ولم يزالوا من يومئذ في جهاد متصل، لا تكاد فرنسا تفرغ من إخماد ثورة حتى تشتعل ثورة، ثم كانت الحرب التحريرية الكبرى، أربعين شهرا من الحرب، احتشد لها شعب عربي مجاهد، قد أقسم أن يموت أو يحقق لوطنه النصر الكامل، ولا بد أن يتحقق له النصر الكامل، وإن قوات فرنسا كلها تحارب اليوم في الجزائر بكل ما تملك من عتاد ومن قوة جيشا من المجاهدين الجزائريين، يمده من ورائه شعب كامل، سلاحه الإيمان بالله واليقين بالنصر، ولا بد أن ينتصر الإيمان بالله على كل ما تملك فرنسا وحلفاء فرنسا من قوى العدوان والبغي. إن فرنسا التي تزعم أنها داعية الحرية والمساواة لا تكاد تجد برهانا على إيمانها بالحرية ودعوتها لها غير جرائم التعذيب والقتل والإبادة التي ترتكبها ضد أحرار الجزائر، ولكنها لا بد أن تذوق وبال أمرها، وكما اندحرت واندحر حلفاؤها معها أمام جحافل الغزاة في سنة 1942، فلم تستطع دفاعا ولا مقاومة، وكما أندحرت في الهند الصينية، وعزت عليها الهزيمة فلم تقو على مقاومة جيش من ثوار الهند الصينية، وكما اندحرت واندحر حلفاؤها معها أمام (بور سعيد) أمام الدفاع الباسل الذي بذله الجيش والشعب، فارتدت جيوش العدوان خاسرة ذليلة،

لا بد وأن تندحر، وتتجرع أمر كؤوس الهزيمة والخذلان في الجزائر. إن يوم انتصار الجزائر قريب، ولكنه خليق بأن يزداد قربا إذا عرف كل عربي واجبه تجاه شعب الجزائر، وتجاه المجاهدين من أبطال الجزائر، وإن من واجبكم وواجب كل عربي أن تبذلوا كل ما تطيقون من أنواع البذل من أجل الجزائر. إن عشرات الألوف من شباب العرب في ميدان المعركة بالجزائر، يبذلون دماءهم ويجودون بأرواحهم في سبيل الحرية. فابذلوا لهم أنتم من مالكم، وادعوا كل من حولكم من أهليكم ومواطنيكم ليبذلوا لهم. اتجهوا بقلوبكم إلى هنالك، إلى المعركة التحريرية الكبرى في أرض الجزائر، واذكروا أن هناك شعبا من أخوتكم ينتظر منكم التأييد والمعونة لينتصر، ولا بد أن ينتصر، وإن الجزائر العربية جزء من وطننا العربي الكبير الممتد من المحيط إلى الخليج؛ إنها قلعة عربية لم تزل في يد العدو تعترض طريق الحرية، كما تعترضه قلعة أخرى يحتلها الصهيونيون في فلسطين، قلعتان لو تحررتا من الاستعمار لامتد طريق العرب من أقصى المغرب بإزاء جبل طارق، إلى أقصى الشمال على حدود الأناضول، ولعادت الشعوب العربية شعبا واحدا في وطن واحد من المحيط إلى الخليج، وفقكم الله يا شباب، وتفخر بكم أمتكم، والسلام عليكم ورحمة الله). د - كلمة المحجوب بن الصديق: وبمناسبة (يوم الجزائر) صرح (المحجوب بن الصديق) الأمين العام لاتحاد عمال المغرب، وعضو وفد المغرب لدى الأمم المتحدة: (إن الجزائر هي الجبهة الأمامية لمعركة التحرير في

المغرب العربي، ولن يتم للمغرب استقلاله إلا بتحرير الجزائر. إن مشروع حلف البحر الأبيض المتوسط الذي تطرحه فرنسا، ليس إلا مجرد محاولة لنكس حركة التحرير في المغرب العربي، واستمرارا للسيطرة الاستعمارية في شكل جديد، وإن القواعد الجوية الأمريكية في االمغرب هي جزء من الاحتلال الفرنسي، وما كان المغرب ليعترف بها ولا يتفاوض في شأنها، فقد وضعت باسم فرنسا عندما كان المغرب تحت الحماية، لم ينل استقلاله بعد، ونحن حين نطالب بالجلاء، نطالب بجلاء جميع الجيوش الأجنبية بلا استثناء. لقد انطلق الشعب العربي في المغرب وتونس لخوض الحرب إلى جانب الجزائر، فأيقنت فرنسا أنها لم تعد قادرة على التغلب على الثورة الجزائرية بالقوة، وعلى هذا لم يعد من الغريب أن يكون شروع (حلف البحر الأبيض المتوسط) الذي اقترحه رئيس حكومة فرنسا مجرد محاولة لإجهاض حركة التحرر في المغرب العربي، وضمان استمرار السيطرة الاستعمارية في شكل جديد، وعلى أي حال، فإن حلفا من هذا القبيل سيكون مخالفا للمبادىء الأساسية التي ترتكز عليها سياسة المغرب، وإن موقف المغرب يتميز بعدم التبعية لأي دولة أو مجموعة من الدول، وتسعى سياستنا أول ما تسعى إلى إتمام تحرير المغرب من جميع مخلفات الاستعمار. أما موقف المغرب وشعبه من إسرائيل، فإنه لا يختلف عن موقف باقي الشعوب العربية، فقد كان لمأساة سنة (1948) في نفوس المغاربة نفس الأثر الذي خلفته في نفوس باقي الأمة العربية، ويحرص الشعب المغربي كل الحرص على إيجاد أسرع الحلول وأنجعها لحل جميع المشاكل السياسية والاقتصادية والإنسانية لشعب فلسطين العربي والتي جاءت نتيجة عملية الاغتصاب الصهيوني الاستعماري الشنيع. وتبقى

(حرب الجزائر) من أهم المشاكل التي تعترض المغرب في سبيل تدعيم استقلاله، وتحرير أراضيه التي يحتلها الاستعماريون). هـ - كلمة عبد الحميد السراج: وألقى وزير الداخلية السوري، السيد عبد الحميد السراج، كلمة على مدرج جامعة دمشق في مهرجان (يوم الجزائر) جاء فيها: (تحتفل شعوب العالم اليوم، كما نحتفل نحن الآن، متنادين إلى نصرة الجزائر ضد بغي فرنسا وعدوانها. وهكذا أخد صوت الجزائر يدوي عاليا حتى أصغت إليه أسماع العالم وتحركت له افئدته، ولقد حق لعرب الجزائر أن تكلل هاماتهم بأكاليل الغار، كما حق على فرنسا أن توسم بالذل والعار. وأما فرنسا فلا أزيدكم بها تعريفا، فلها في كل بيت من بيوتنا ذكرى جرح لا يزال ينز بالدماء، ولا يزال بين ظهرانينا الثاكلة التي فتك الفرنسيون بولدها، والابن الذي حرموه من والده رضيعا، والقرية التي دمروها على رؤوس اهيلها، ولا تزالون تذكرون الحمم والقنابل التي أمطروها على المدينة (دمشق) عام 1945، ولا نزال نذكر باللوعة والأسى ما اقترفته أيدي الفرنسيين من الإثم في المجلس النيابي، يوم سلطوا عليه نيران مدافعه، ويوم فتكوا بجميع أفراد حاميته، ثم مثلوا بهم فقطعوا أعضاءهم، إن هذه الوقائع السود لا تزال حية في أذهاننا وهي أقوى من أن يعفي عليها النسيان. وأما عرب الجزائر، فقد تجاوزوا حد البطولة حتى بلغوا حد المعجزات، ولم يعودوا بالنسبة لنا مجرد شعب عربي ثائر، وإنما هم سجل مجدنا الحديث قد نشر على العالمين، فلما قرأته الشعوب، إذا به سجل الكرامة الإنسانية تدافع عن نفسها أمام بغي

الاستعمار وبربريته، وإلا فأي شعب في العالم كشعب الجزائر استطاع أن ينازل فرنسا وحلف الأطلسي خلال أربع سنوات، لم تلن له قناة وما زادته الآلام إلا عزما ومضاء. إن فرنسا جثت على ركبتيها خلال خمسة عشر يوما، ووطأت أرضها للغزاة الألمان خانعة ذليلة، فما بال الجزائر وهي ذلك العدد الضئيل والعدة القليلة ما تزال تكافح بجبروت وعناد وكبرياء. إن الجزائر لا تدافع عن نفسها فقط، وإنما هي تدافع عن البلاد العربية جمعاء، بل هي تدافع عن الإنسانية بكاملها ضد عدوان الاستعمار ووحشيته، فلا عجب أن يكون دفاعها ضاريا عنيدا ما دامت تدافع عن هذه المثل العليا للعرب والإنسانية. وهذا ما دعى شعوب العالم الحرة أن تتنادى لنصرة الجزائر؛ لأن الجزائر تدافع عن هذه الشعوب أيضا. فإذا كنا قد تداعينا اليوم لنصرة الجزائر فإننا ننصر أنفسا وننتصر لها. إن معركة الجزائر ضد فرنسا هي معركتنا نحن، ولو خضعت الجزائر لنقل المستعمر المعركة إلى أرضنا هنا، فنحن إنما نخوض في أسبوع الجزائر هذا معركة الدفاع عن النفس، لا معركة الدفاع عن الجزائر وحدها، فإذا كانت هذه هي بسالة الجزائر، وهذه هي شجاعة الجزائريين، وإذا كان هذا الأسبوع هو معركة نصرة الجزائر، فإن بين الشجاعة والسخاء نسب واضح بين. إنكم أيها السادة هنا ستبدؤون التبرع والاكتتاب، وأنتم الطلقة الأولى في هذا الأسبوع، وسيكون صداها قويا لأنها طلقة مدوية صادرة عن نفوس أبية قوية، ولقد قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ

أَخْبَارَكُمْ} فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون والله معكم، والسلام عليكم ورحمة الله. ... جدير بالذكر أن المجاهد (محمد الغسيري) الذي طالما عرفته دمشق بنشاطه الذي لا يهدأ، وإخلاصه الذي لا حدود له، كان يمثل (جبهة التحرير الوطني) وقد شارك وأشرف على كافة النشاطات التي حفل بها أسبوع الجزائر. و- رابطة المغرب العربي في دمشق: وفي دمشق، أقامت رابطة طلاب المغرب العربي مهرجانا خطابيا في الساعة السابعة والنصف مساء (يوم 31/ 3/ 1958) على مدرج الجامعة السورية تحدث فيه كل من الدكتور جميل صليبا والأستاذ محمد المبارك والدكتور اسماعيل عزة والأستاذ حافظ الجمالي، والشاعر عبد السلام حبيب الجزائري، والطالب الجزائري محمد مهدي. وكان مما قاله (مأمون الشناوي) في يوم الجزائر: (تمنيت لو قامت فرنسا بجميع تبرعات لها لمساعدتها في حرب الجزائر. تمنيت لو قامت بجمع التبرعات من الشعب الفرنسي، ومن شعوب العالم لتعرف رأي شعبها ورأي شعوب العالم في موقفها الآثم الظالم في الجزائر، ولتحصي فرنسا بعد ذلك عدد المتبرعين لها لتعرف عدد من يؤيدون وحشيتها وتمسكها بسلب الشعب الجزائري حقه في الحياة. ربما استطاعت فرنسا أن تجمع آلاف الجنيهات، ولكنها لن تستطيع أن تشرك في هذه التبرعات غير عشرات الأشخاص؛

عشرات الأشخاص من تجار الحروب وتجار الشعوب، والمستثمرين للدماء المهرقة على أرض الجزائر. أما شعب الجزائر المجاهد، والمدافع عن حريته، فإن الملايين التي تشترك وتساهم في التبرع له، إنما تعبر عن احتجاجاتها عمليا على وحشية فرنسا ومجافاتها للروح الإنسانية والاعتبارات البشرية. ... ويضق المجال عن وصف التظاهرة الحماسية الرائعة التي اجتاحت العالم العربي - الإسلامي بمناسبة (يوم الجزائر)؛ لم تكن القضية أبدا قضية تقديم دعم مادي (مالي) بقدر ما كانت مناسبة لتفجير الغضب ضد الاستعمار، والإعلان عن ذلك التعاطف العميق الذي يشد العالم العربي - الإسلامي بعضه إلى بعض. وكان يوم الجزائر، مناسبة للشعوب الأفريقية - الآسيوية، وكلها حديثة العهد بالاستقلال، لتعبر عن غضتها ضد الاستعمار وأساليبه، فكانت الجزائر، بجهادها وصبرها، طليعة العالم وحديث الدنيا، وكانت المعول الذي أزال بقايا الأوراق التي كانت تستر سوءات الاستعمار. ***

الصراع على حدود الجزائر

5 - الصراع على حدود الجزائر ضاقت القوات الاستعمارية ذرعا بضربات جيش التحرير الوطني التي أفقدتها صوابها، ولم تنفع كل المحاولات لعزل الجزائر عن جارتيها (المغرب وتونس)، وفشلت الخطوط المكهربة وحواجز الأسلاك الشائكة وحقول الألغام في احتجاز المجاهدين وعزلهم عن قواعدهم في تونس، وعلى هذا قام سلاح الجو الإفرنسي بالإغارة على قرية (ساقية سيدي يوسف) التونسية في يوم 8 شباط - فبراير - 1958، وأدت هذه الضربة العسكرية التي اعترفت فرنسا بمسؤوليتها عنها، إلى قيام موجة من السخط ضد فرنسا عند دول كثيرة في العالم، ولقد قيل في الدفاع عن هذه الغارة، بأنها استهدفت جماعات المجاهدين الجزائريين الذين جعلوا من الساقية قاعدة لهم. وعلى الرغم من أن جثث الضحايا السبعين لم تضم مجاهدا جزائريا واحدا، إلا أن الحادث لفت أنظار العالم إلى قضية، كانت قد غدت معقدة كل التعقيد منذ العام 1956، وهي تتناول دور تونس في الحرب الجزائرية؛ فمنذ حصلت تونس على استقلالها في آذار - مارس - 1956، وقفت الحكومة التونسية موقفا دقيقا بين فرنسا والجزائر، أو بين الحياد

والتأييد، ولا ريب أن عواطف التونسيين كانت مع الشعب الجزائري في معركته، كما كان كثير من الجزائريين يريدون من تونس أن تحارب إلى جانبهم لتحقيق استقلال البلدين، ولكن الرئيس التونسي (الحبيب بورقيبة) كان يعتقد بأن في مقدوره تحقيق الاستقلال لبلاده الصغيرة بالصبر والأناة وعلى مراحل، ودن حاجة إلى العنف وسفك كثير من الدماء في حرب عامة شاملة؛ وقد قدم (بورقيبة) إلى إخوانه الجزائريين كل عون ممكن باستثناء الاشتراك في الحرب. وعندما وقع العدوان الفرنسي على (ساقية سيدي يوسف) كان عدد المجاهدين الجزائريين في تونس يزيد كثيرا على عدد أفراد الجيش التونسي الصغير، وكان المجاهدون الجزائريون يستخدمون هذا الملجأ الأمين للتدريب والاستجمام - للجرحى والمرضى - وتجميع السلاح والنقل. وعلى هذا فقد بات من المحتمل جدا امتداد جبهة الصراع لتشمل المغرب كله، لا سيما وأن القيادة العسكرية في الجزائر كانت تمارس عملها بحرية، ومن غير الرجوع إلى الحكومة الفرنسية التي كان عليها احتمال مسؤولية كل فشل عسكري من غير أن يكون لها رأي فيه. وقد قبلت الحكومتان الفرنسية والتونسية وساطة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، لإيجاد تسوية لحادث (ساقية سيدي يوسف) وقضية (طلب تونس جلاء جميع القوات الفرنسية عن أراضيها)، واستمر ممثل الولايات المتحدة (المستر مورفي) وممثل بريطانيا (المستر هارولد بيلي - الذي عين بعد ذلك سفيرا لبريطانيا في القاهرة) يتنقلان الأسابيع الطوال بين تونس وباريس في محاولة للوصول إلى حل وسط. وقدمت الحكومة التونسية في أثناء هذه المباحثات، إلى المبعوثين الأمريكي والبريطاني وجهات نظرها

ثوار وهم في مقتبل العمر لم يرهبهم الاستعمار

في المشكلة الجزائرية، وتم الوصول في مطلع شهر نيسان - أبريل - إلى حل وسط، يقضي بانسحاب جزئي للقوات الفرنسية من تونس، على أن تعود إلى التجمع في قاعدة (بنزرت) مع بعض الشروط الأخرى التي قبلت بها حكومة (غايار)، لكن الجمعية الوطنية الفرنسية، رفضت هذا الاتفاق مما أدى إلى سقوط حكومة (غايار) وإلى أزمة طويلة. ... وقعت في غضون ذلك أحداث هامة على الصعيد الأفريقي، فقد قررت (لجنة التنسيق والتنفيذ) في شهر شباط - فبراير - 1958 - إقامة (حكومة جزائرية) عندما تسنح الفرصة المؤاتية لإقامتها، وكان تشكيل مثل هذه الحكومة في المنفى، أو في منطقة (محررة) موضع الدراسة منذ عهد طويل، ولكن الصعوبات على ما يبدو في طريق تشكيلها كانت عديدة وبالغة؛ إذ أن إقامة حكومة داخل الجزائر ذاتها، والمحافظة عليها إجراء عسكري بارز، إذ أن في وسع الجيش الفرنسي أن يركز هجومه في مثل هذه الحالة على قاعدة واحدة. أما على الصعيد الديبلوماسي، فإن إقامة حكومة في المنفى قد تؤدي إلى اعتراف الدول العربية والإسلامية وغيرها، ولكنها قد تؤدي في الوقت ذاته إلى تعقد العلاقات بين تونس والمغرب من ناحية وبين فرنسا من الناحية الأخرى، وفي هذه الحالة، يضعف ما لدى جارتي الجزائر المغربيتين من قدرة التأثير على سياسة فرنسا، ولهذا فقد كان قرار شهر شباط - فبراير - معلقا على الفرصة المؤاتية، ولم تظهر هذه الفرصة إلا بعد بضعة أشهر. اشتركت (جبهة التحرير الوطني) في شهر نيسان - أبريل - في مؤتمر (أكرا) للدول الأفريقية المستقلة، وتلقت تأييدا حارا من

المؤتمر لقضية استقلال الجزائر، وقد وعدت الدول الأفريقية بالعون الديبلوماسي وغيره من أنواع المساعدة، كما وعدت بإرسال وفد أفريقي مشترك يتولى الدعوة للقضية الجزائرية، ودعت (جبهة التحرير الوطني) الدول الأفريقية إلى مساعدتها في عرض قضيتها على الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي أواخر شهر آب - أغسطس - ذهبت عدة وفود أفريقية إلى أوروبا وإلى أمريكا اللاتينية، لاطلاع حكوماتها وشعوبها على القضية الجزائرية وحثها على تأييدها. بدت قضية وحدة الشمال الأفريقي (أقطار المغرب العربي - الإسلامي) في نهاية شهر نيسان - أبريل - 1958 قريبة كل القرب، بعد أن طال البحث فيها والتحدث عنها؛ فقد عقد (حزب الاستقلال المغربي) و (حزب الدستور الجديد التونسي) و (جبهة التحرير الوطني الجزائري) مؤتمرا في (طنجة) بين السابع والعشرين والثلاثين من نيسان - أبريل - 1958 - للبحث في حرب الجزائر وآثارها، وقد أعلنت الأحزاب الثلاثة في سلسلة من القرارات: (حق الشعب الجزائري الذي لا يرقى إليه الشك في السيادة والاستقلال، كشرط وحيد لإنهاء النزاع الجزائري - الفرنسي) وهذا يعني أن المؤتمر قد أقر صيغة معدلة، للشرط المسبق الذي وضعته جبهة التحرير. وقرر المؤتمر أيضا: (أن تعمل الأحزاب السياسية الثلاثة على حشد كل ما لدى شعوبها وحكوماتها من قوى لدعم الشعب الجزائري المجاهد في سبيل استقلاله)، وأوصى المؤتمر أخيرا: (بتشكيل حكومة جزائرية بعد التشاور مع الحكومتين التونسية والمغربية - المراكشية). واقترح المؤتمر تشكيل مجلس استشاري مغربي، يعقد

جلسات منتظمة ويدرس القضايا المتعلقة بالمصلحة المشتركة، ويتخذ التوصيات الضرورية بشأنها، كما أوصى بعقد اجتماعات لزعماء (البلدان الثلاثة) لدراسة تنفيذ التوصيات التي يتخذها المجلس الاستشاري، وأوصت الأحزاب المشتركة حكوماتها: (بأن لا تعالج القضايا المتعلقة بمصير الشمال الأفريقي في ميدان العلاقات الخارجية والدفاع، بصورة فردية، وقبل أن يتم وضع الدساتير الاتحادية الفيدرالية). ولقد كان هذا القرار الهام بالنسبة (لجبهة التحرير الوطني) التي لم تكن قد اتخذت الشكل الشرعي للحكومة بعد، قيمة كبرى، إذ أكد حقها بأن يتم الرجوع اليها واستشارتها في العلاقات الأفريقية الشمالية مع البلاد الأخرى ولا سيما فرنسا (*)، وقرر المؤتمر إقامة أمانة عامة دائمة تضم ستة أعضاء يمثل كل اثنين منهم بلدا من البلاد المشتركة، على أن يكون لها مكتبان أحدهما في الرباط والآخر في تونس، وقد اختارت جبهة التحرير زعيمين لتمثيلها في جهاز الأمانة العامة وهما (أحمد بو منجل وأحمد فرنسيس)، واستنكر المؤتمر (وجود القوات الأجنبية) في شمال أفريقيا، وطالب بأن تتوقف القوات الفرنسية فورا عن استخدام الأرض المغربية والتونسية كقواعد للعدوان على الشعب الجزانري وأخيرا، أعلن المؤتمر: (بلسان شعوب

_ (*) نشب خلاف في صيف العام (1958) بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطني، حول تفسير هذه التوصيات، وقد قبلت الحكومة التونسية اقتراحا فرنسيا بإنشاء خط لأنابيب الزيت من الصحراء الجزائرية إلى أحد الموانىء التونسية، ولكن جبهه التحرير الوطني عارضت المشروع، وحل الخلاف بصدور تأكيد تونسي بأن لا يسير الزيت في الأنابيب المذكورة، حتى تنال الجزائر استقلالها. الجزائر الثائرة - جوان غيلسبي - دار الطليعة - بيروت - 1961 ص 193 - 200 و215.

شمال أفريقيا الممثلة في المؤتمر استنكاره لموقف تلك الدول التي تزود فرنسا بالعون، الذي لا يؤدي إلا إلى خسارة هذه الدول لصداقة الشعوب المشار إليها). وأعرب القرار عن الأمل في (أن تتخلى تلك الدول عن تلك السياسة التي تنزل الكوارث بالسلاح والتعاون العالميين) ثم وجه (نداء سريعا وجديا إلى هذه الدول لوقف كل عون سياسي وعسكري يؤدي إلى استمرار الحرب الاستعمارية في المغرب العربي)، وقد هللت جبهة التحرير لقرارات (مؤتمر طنجة) بحماسة بالغة. واجتمع ممثلو الحكومتين التونسية - والمغربية، و (لجنة التنسيق والتنفيذ) الجزائرية في منتصف شهر حزيران - يونيو - عام 1958 في (بلدة المهدية) في (تونس) لتنفيذ توصيات مؤتمر طنجة، وبحث المجتمعون في التعاون السياسي والديبلوماسي ولكن تأليف حكومة الجزائر قد تأجل، وإن كان المؤتمر قد أكد حق الشعب الجزائري في السيادة والاستقلال. ... واجه مؤتمر (المهدية) مشكلة تعتبر من أخطر المشاكل العسكرية والنفسانية التي ظهرت طوال الحرب الجزائرية، وكان الجيش الفرنسي والمستوطنون في الثالث عشر من أيار - مايو - عام 1958، قد تحدوا سلطات باريس وألفوا لجنة للأمن العام، وتسلسلت الأحداث بعد ذلك مما أسفر عن مجيء الجنرال (ديغول) إلى رئاسة الوزارة الفرنسية في الأول من حزيران - يونيو - وقد طالبت (لجنة الأمن العام) ومؤيدوها بالاتحاد التام بين فرنسا والجزائر، وبالتفاهم بين الفرنسيين والجزائريين. وعلى الرغم من أن الجنرال ديغول لم يرفض الحركة الداعية إلى الإدماج عن طريق

التكامل، إلا أنه اقترح أن تحتل الجزائر (مكانا خاصا) في كيان جديد يضم فرنسا وممتلكاتها وراء البحار. قام (ديغول) في شهر آب (أغسطس) بجولة طاف بها ممتلكات ما وراء البحار، وعرض عليها الاستقلال، إما فورا عن طريق اقتراع سلبي في الاستفتاء الدستوري الذي تقرر إجراؤه في 28 أيلول - سبتمبر - 1958 أو في أي وقت تشاء بعد الانضمام إلى المجموعة الفرنسية - الأفريقية. ولكن (الجزائر) لم تعط هذا الخيار، وانما تقرر أن تشترك في الاستفتاء وما يتلوه من انتخابات، على أن يجري البحث (في البقية) مع الممثلين الذين سينتخبون، وكان من المقرر أن تبث نتيجة الاستفتاء في مصير دستور ديغرل للجمهورية الفرنسية الخامسة سواء بالقبول أو الرفض. أما من الناحية العملية، فقد رأى المقترعون الجزائريون أن هذا الاستفتاء يعني الاقتراع على (ديغول) و (السلام)، بينما رأى المستوطنون ورجال الجيش الفرنسي في الاقتراع (بنعم) خطوة نحو دمج الجزائر بفرنسا عن طريق التكامل. وهكذا بدأت (عملية الاستفتاء) على صورة حملة نفسية شاملة قام بها الجيش الفرنسي لحمل أكبر عدد من الجزائريين على الاقتراع (بنعم)، وفي الوقت ذاته على الجيش على تطوير مخططاته العسكرية في محاولة جديدة للقضاء على الثورة. لقد جاءت معركة الاستفتاء، بعد أربع سنوات من الحرب، لتصعد بقضية ولاء الجزائريين لفرنسا حتى الذروة. ومع مضي أيام الصيف، كان الجيش الفرنسي، وقد قبض عسكريا وسياسيا على زمام البلاد بقوة وعنف، يحاول استخدام كل سلاح نفسي للتأثير على الاقتراع، وكان التزام الجيش (لتحالف الثالث عشر من أيار)

عميقا كل العمق، على الرغم من اختلاف دوافعه عن دوافع المستوطنين. فبعد أن مني الجيش بهزائم متعاقبة في العام (1940) لحقت به هزائم أخرى في الهند الصينية (فييتنام) و (السويس) حيث كان الجنرال (جاك ماسو) ذاته يقود قوات المظليين، ورأى الآن في الجزائر فرصته الأخيرة للنصر ولاستعادة الهيبة والثقة بالنفس. ولم يكن للجيش أي برنامج سياسي للجزائر باستثناء شيء واحد، وهو أن لا تتكرر الهزيمة، وقد اضطر في حرب الجزائر المتقطعة إلى الاقتتال مع أساليب حرب العصابات التي تعتمد على مبدأ (اضرب واهرب) في مناطق جبلية وعرة، ومستخدما في حربه ضد الثوار أحدث أسلحة حلف الأطلسي. وأدى الافتقار إلى الأمن، وانتشار أعمال التدمير في جميع أنحاء البلاد، إلى تجزئة قواته ونشرها في كل مكان لحماية كل مزرعة وكل مركز وكل مصدر للمياه، وكل شبكة للخطوط الحديدية، وقد لجأ في مجابهة أعمال العنف في المدن إلى ممارسة أبشع أنواع القمع والإرهاب ضد المدنيين؛ بحجة تعذيب المشبوهين للحصول على المعلومات، ولم تؤد هذه الأساليب إلى استنكار الأحرار من الفرنسيين فحسب، بل إلى (أزمة ضمير) على المستويات العليا في الجيش ذاته، ولقد شرح ليبيرالي فرنسي كاثوليكي هذا الموقف بقوله: (... لقد اقترع البرلمان الفرنسي على منح الصلاحيات الكاملة - لروبرت لاكوست - وزير الجزائر، الذي أصدر أوامره بدوره إلى - الجنرال ماسو - قائد المظليين في الجزائر بإعادة النظام إلى البلاد بكل الوسائل التي يراها مناسبة، وبضمنها التعذيب، دون إعطائه أوامر خطية تنص على ذلك. وهكذا وجد الجيش نفسه

منغمسا في السياسة والاجراءات، وهو تحول سيؤدي حتما إلى نكسة جديدة يمنى بها الجيش، وإلى إذلال آخر. وقد اهتبل الجيش فرصة الأزمة الوزارية الطويلة، وغياب السلطة الشرعية المألوفة في شهر أيار - مايو - يحاول الحصول على تلك الضمانة، وكان الجيش يرى أن السبيل الذي لجأ إليه مفهوم كل الفهم). وهكذا، وفي تلك الذروة العاطفية التي صحبت أحداث الثالث عشر من أيار - مايو - والأيام التي تلته، تعلق الجيش بحبل سياسة الدمج، وهي سياسة ذات تاريخ طويل، وعدد مختلف من المعاني؛ إذ أنها تعني بالنسبة إلى الكثيرين من ضباط الجيش مساواة غامضة بين جميع الجزائريين على الرغم من أن معاملة الجزائريين على قدم المساواة مع المستوطنين الأوروبيين قد تسفر عن نتائج لم تدرس الدراسة الكافية، وهي تعني أيضا سياسة التآخي، وسد تلك الثغرة النفسية التي اتسعت وعمقت إبان الثورة. وعندما قبض رجال الجيش على ناصية الحكم، اعتقد الكثيرون منهم أن واجبهم غدا في إكمال تلك (الرسالة التحضيرية - التمدينية) التي فشلت فرنسا في أدائها طوال الأعوام التي انقضت منذ احتلالها للبلاد في العام (1830)، وآمن البعض منهم أيضا أنهم يقفون في الخط الأمامي من النضال ضد الشيوعية، زاعمين أن جبهة التحرير، وهي التي تتبع الأساليب التقليدية في الحروب الثورية هي آلة في يد الشيوعية، إن لم تكن شيوعية في حد ذاتها. وقد تأثرت نظرة الجيش إلى الثورة الجزائرية، بالتجارب المريرة التي تعرض لها عدد كبير من ضباطه إبان حرب الهند الصينية، لا سيما وأن الكثيرين منهم كانوا قد قضوا عدة سنوات في أمر الفييتناميين، وبالأعمال التي تتعلق بالخدمات الاجتماعية التي مروا

بها أيضا، والتي جعلتهم على اتصال بأكثر الطبقات الجزائرية بؤسا وفقرا، لا سيما وأن الجماهير الغالبة من الطبقة المختارة كانت قد انضمت إلى الجبهة. جاءت نتائج الاستفتاء طبقا للأرقام التي نشرها الفرنسيوف (96،5) في المائة أجابوا (نعم) و (3,5) بالمائة أجابوا (لا). وهذه النسبة تشير إلى تقسيم الأصوات إلى (صالحة) و (غير صالحة) ولكنها لا تتحدث عن القصة كلها؛ فقد تم تسجيل (4,335،009) من الناخبين اقترع منهم (3,445,060). وكان بينهم (3،416،088) أصواتهم صالحة اقترع منهم (3,299,908) بنعم و (115،791) بلا. إننا إذا ما تطلعنا إلى أرقام النسجيل التي تضم طبعا جميع المستوطنين الصالحين للاقتراع والجنود الفرنسيين، يتضح لنا أن هناك عددا كبيرا من الجزائريين لم يسجلوا في القوائم الانتخابية قد يبلغون المليون، لأنهم تمكنوا من تجنب التسجيل على الرغم من جميع محاولات الفرنسيين وقيام الضباط شخصيا بزيارة القرى لتسجيل المقترعين، وهؤلاء الذين لم يسجلوا، لم يكونوا جميعا من أعضاء جيش التحرير الوطني، بل جزائريين يعارضون الحكم الفرنسي. وهكذا تظهر هذه الأرقام أيضا أن أكثر من مليون شخص من الذين سجلوا لم يقترعوا أيضا، وجميع هؤلاء من الذين لو اقترعوا لقالوا (لا)؛ إذ أنهم كلهم من الجزائريين، وتكون نتيجة أرقام الفرنسيين أنفسهم أن أكثر من مليوني جزائري، أي أكثر من نصف عدد الذكور البالغين قد تمكنوا من إظهار معارضتهم للنظام الاستعمار الفرنسي، بشكل أو بآخر. لم تحاول (جبهة التحرير الوطني) أن تهتم (بلعبة الأرقام)

هذه منذ البداية، بل أعلنت استنكارها للاستفتاء على أنه تزييف للنظم الديموقراطية، وكما وقع في معركة (مدينة الجزائر - ذاتها)، فإنه لم تكن كفتا الميزان في معركة الاستفتاء متعادلتين، ذلك لأن وطأة ضغط الجيش الفرنسي وقعت على المدنيين من الجزائريين، وهم أقل قدرة على المقاومة والاحتمال، وكان على (جيش التحرير الجزائري) أن يختار بين أحد أمرين، إما أن يستخدم القوة لمنع الشعب الجزائري من الاشتراك في الاستفتاء، أو أن يسمح لهم باتخاذ موقف (عمل ما يمكن عمله) ليجنبهم عنف الجيش الفرنسي وإرهابه، وقد ترك جيش التحرير الوطني الجزائري اتخاذ القرار النهائي للقادة المحليين، وبالطبع، آثر الكثيرون منهم عدم اتخاذ أي إجراء عسكري، فجاءت نتيجة الاستفتاء الظاهرة، بانتصار الفرنسيين شيئا مؤلما لهم. لم تكن (جبهة التحرير الوطني) - بدهيا - فانطة كل القنوط من نتائج معركة الاستفتاء؛ فمنذ اللحظة الأولى التي تولى فيها الجنرال (ديغول) السلطة، قامت جبهة التحرير بتخظيط استراتيجية دقيقة تستهدف إعلاء مكانتها، وتوطيد دعائم ثقة الجزائريين، بقدرتها على مقاومة أية حكومة فرنسية مهما كانت قوية. وفتحت (جبهة التحرير الوطني) في شهر آب - أوت - (جبهة قتال) ثانية في فرنسا ذاتها، ووقعت سلسلة من الهجمات الرائعة على المؤسسات العسكرية والبوليسية، والأهداف الاقتصادية بما في ضمنها مخازن النفط ومستودعاته، مما أشار إلى قوة جبهة التحرير الوطني في الأرض الفرنسية ذاتها، وأدى اعتقال عدد كبير من العمال الجزائريين وتعذيبهم الى توسيع الخلاف بين الفرنسيين وشعب المغرب العربي - الإسلامي.

الفصل الثاني

الفصل الثاني 1 - تشكيل الحكومة المؤقتة. 2 - أول بيان للحكومة المؤقتة. 3 - الاعتراف بالحكومة المؤقتة. آ - بيان البلدان التي اعترفت بالدولة الجزائرية وبحكومتها. ب - الجزائر والأمم المتحدة. ج - الجزائر والندوات الدولية الكبرى. 4 - الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ونقض معاهدة الأطلسي.

تشكيل الحكومة المؤقتة

1 - تشكيل الحكومة المؤقتة ظهر في النهاية أن اللحظة قد غدت مؤاتية، وفي التاسع عشر من أيلول- سبتمبر - 1958، أعلن المجلس الوطني للثورة الجزائرية في كل من القاهرة والرباط وتونس، تأليف الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وقد ضمت الحكومة عددا من الزعماء السياسيين والعسكريين المعروفين بالإضافة إلى عدد من العسكرين والمنظمين في داخل الجزائر، من الذين لم يكن يعرف العالم الخارجي شيئا عنهم. وتشكلت الحكومة المؤقتة على النحو التالي: فرحات عباس: رئيس الوزراء. أحمد بن بللا: النائب الأول لرئيس الوزراء (معتقل). كريم بلقاسم: وزير الدفاع ونائب رئيس الوزراء. محمد الأمين دباغين: وزير الشؤون الخارجية. الأخضر بن طوبال: وزير الشؤون الداخلية. محمود شريف: وزير التسلح والتموين. عبد الحفيظ بوصوف: وزير المواصلات. عبد الحميد المهري: وزير شؤون شمال أفريقيا.

أحمد فرنسيس: وزير الاقتصاد والمالية. محمد يزيد: وزير الاستعلامات. بن يوسف بن خده: وزير الشؤون الاجتماعية. أحمد توفيق المدني: وزير الشؤون الثقافية. حسين آية أحمد: وزير دولة (معتقل). رابح بيطاط: وزير دولة (معتقل). محمد بوضياف: وزير دولة (معتقل). محمد خيضر: وزير دولة (معتقل). الأمين خان: وزير دولة. عمر صديق: وزير دولة. مصطفى اسطمبولي: وزير دولة. ما أن أعلن عن تشكيل الحكومة، حتى أوضحت هذه الحكومة أن مقرها النهائي سيكون على الأرض الجزائرية، وأنه حتى يتيسر لها ذلك، فإن الوزارات المختلفة ستتخذ مقرات لها في عواصم الدول الصديقة. وجاء تأليف الحكومة باعثا قويا للروح المعنوية عند المجاهدين الجزائريين؛ فقد تحققت لهم الشرعية الآن، وحلت إلى حد ما مشكلة تمثيل جبهة التحرير للشعب الجزائري، وقد تجاهلت حكومة ديغول الفرنسية هذا التطور الجديد للسيادة الجزائرية، ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى كانت (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) قد حصلت على اعتراف عدد كبير من دول العالم.

أول بيان للحكومة المؤقتة

2 - أول بيان للحكومة المؤقتة أول تصريح للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (*) 26 أيلول - سبتمبر - 1958. لقد أعلن يوم 19 سبتمبر - 1958 عن تشكيل حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية، وإن هذا الإعلان الذي تم باسم شعب يكافح منذ أربع سنوات من أجل استقلاله، يعيد الدولة الجزائرية التي حذفتها من الخريطة السياسية لشمال أفريقيا، صروف الاحتلال العسكري الذي تم سنة (1830). وهكذا وضع حد لأبشع اغتصاب وقع في القرن الماضي، والذي أراد أن يحرم شعبا من جنسيته، وأن يحيده عن مجرى تاريخه، وأن يحرمه من وسائل عيشه، وأن يجعله بقايا من إنسان، وهكذا انتهى ليل طويل من الأساطير ومن الزيف، كما انتهى زمن الاحتقار والإهانة والعبودية، وإن شعبا لم يتخل ولو مرة واحدة طوال (128) سنة من الهيمنة على

_ (*) المرجع: مجلة (المجاهد) الجزائرية - العدد (30) 10 أكتوبر - 1958، و (ملفات وثائقية - 24) وزارة الإعلام والثفافة - الجزائر - 1976 ص 69 - 71.

الطريق الى الحرية

شخصيته، والذي تعرض لهزائم دامية من غير أن يرضخ أبدا، ولم يغير أسلوب حياته اليومية، طوال حياته، والذي حافظ على ثقافة ماضيه وعلى تقاليده وعلى لغته وعلى حضارته، إن هذا الشعب له الحق في الاحترام والحرية، ولأن هذه الحرية بقيت عبر الأجيال المثل الأعلى الذي تناقلته، فقد وقعت في أول نوفمبر - 1954 - انتفاضة جديدة وعنيفة هذه المرة؛ لقد نهض الشعب الجزائري ليؤكد، والسلاح بيديه، حقه المشروع في الاستقلال وفي الحرية وفي الكرامة. إن شعبنا يكافح منذ أربع سنوات، وهو يواجه واحدا من أكبر جيوش العالم، وقد سقطت أكثر من ستمائة ألف ضحية على طريق الحرية الطويل، وإن شعبنا الخاضع لسلطة العنصريين الاستعماريين يتعرض كل يوم للتعذيب والتقتيل، غير أنه بني على الرغم من آلامه وآلاف شهدائه، صامدا في عقيدته، وفي إيمانه بالتحرير القريب. وإن جيشنا للتحرر الوطني، وبالرغم من إمكاناته المحدودة، يواجه ببسالة جيشا فرنسيا مجهزا بعتاد عصري قوي، وبالمدفعية وبالطائرات وبالبحرية، وإن هذه البطولة وهذه الشجاعة وهذه التضحيات العديدة، وبكلمة واحدة، فإن العزيمة الجماعية، هي التي تمنح شرعية الحكومة. إن أول واجبات الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، تتمثل في الإشادة بهذا الشعب الجزائري الشهيد الذي تعرض لأشد المحن في سبيل ميلاد الجمهورية الجزائرية الحرة وحياتها، وهذه الإشادة موجهة أيضا وبالحماسة ذاتها إلى جيش التحرير الوطني المظفر الذي وضع بفضل شجاعته وتضحياته قضية الثورة الجزائرية، نهائيا، على طريق النصر.

والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تترحم بتأثر، في هذه الأوقات التاريخية، على أرواح كل الشهداء الجزائريين، والذكرى الخالدة لأولئك الذين قتلوا بكل وحشية، والذين قلب اغتيالهم الرهيب بخبث - ولؤم - إلى (فرار) أو (محاولة فرار) أو إلى (انتحار) وكأنه أريد أن تضاف اللعنة الكبرى لتضحيتهم الكبرى. فالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تعاهدهم على أن تبقى وفية لمثلهم في الحرية وفي العدالة وفي الترقية الاجتماعية، والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية النابعة عن إرادة الشعب، شاعرة الآن بسمؤولياتها، وهي ستضطلع بها كاملة، وهي تضع على عاتقها قبل كل شيء أن تقود الشعب وجيشه حتى التحرر الوطني، تعطي الكلمة للشعب الذي سيرجع إليه وحده صنع مؤسسات الدولة الجزائرية، فبتبنيه للثورة قد أعرب أمام العالم أنه يرغب في جمهورية ديموقراطية واجتماعية. إن الشعب الجزائري هو شعب مسالم، وإن الاستعمار هو الذي دفعه إلى حمل السلاح بعد أن نفذت كل الوسائل السلمية لاسترجاع حريته واستقلاله، كما أن زيف (الجزائر الفرنسية) وفكرة (الإدماج) الوهمية، لم يكن لها أي أساس سوى سياسة القوة، فالجزائر ليست فرنسا، والشعب الجزائري ليس فرنسيا. أما الزعم - أو الادعاء - بفرنسة بلادنا فإنه يشكل أمرا فظيعا، وعملية في غير عصرها، وإجراما يدينه ميثاق الأمم المتحدة. وإن إجبار الجزائريين أن يوافقوا - عن طريق استفتاء - على المؤسسات الفرنسية البحتة، يعتبر استفزازا لا يحتمل ضد شعب يكافح من أجل استقلاله الوطني. إن الاستعماريين الفرنسيين المنتخبين في هياكلهم الامبريالية والعنصرية يحلمون بالماضي، ويريدون بحرب

الجزائر الإبقاء على جريمة سنة (1830)، والمحافظة على سيطرتهم. إن هذا الوقت قد مضى وانقفضى، ولم يعد لأية أمة مهما بلغت قوتها أن تفرض قانونها على أمة أخرى، وهذا يعني أن القوة ستبقى عاجزة أمام إرادة الجزائريين الجماعية. في بناء وطنهم وفي الاتصال من جديد بتاريخهم، وهذا يعني أيضا أنه لن يضع السلاح إلا عندما يعترف بحقوقه كشعب له سيادته. إن الجزائر في هذا الكفاح لم تعد وحدها، وعلى المسؤولين الفرنسيين أن يفكروا بأن هناك خلفنا تونس والمغرب اللذين ارتبط مصيرهما بمصيرنا عبر العصور، ومن المنطقي أن تكون الجزائر جزءا لا يتجزأ من المغرب العربي، وأن تبني مع هذين البلدين اتحاد أفريقيا؛ فندوة (طنجة) أصبحت تاريخية، والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ستبقى وفية لروح هذه الندوة، لأنها مقتنعة كل الاقتناع أنها الحل الوحيد لتقديم حلول ملائمة للقضايا المطروحة علينا، فهي تفتح أمامنا آفاقا على مستوى العالم العصري. وهناك أيضا التراث الرائع للحضارة العربية - الإسلامية، فالشعب الجزائري المتعلق بحضارته ينتمي إلى الوطن العربي، فهذا الوطن واحد، ومن الخطأ السياسي محاولة تقسيمه؛ فلا يمكن أن نؤكد الصداقة للعرب في تونس وفي الرباط وفي بيروت، وأن نضربهم في الجزائر أو في القاهرة أو في بغداد، فالتضامن العربي ليس كلمة جوفاء، فبفضل التضامن الفعال لهذه الشعوب الشقيقة وحكوماتها، أصبح الشعب الجزائري قريبا من بلوغ هدفه، وإذا كانت هناك حاجة للاعتراف بالشكر فيما بين الأشقاء، فإن الشعب الجزائري يعترف بجميل الشعوب العربية عرفانا كبيرا.

نذكر أيضا جميل البلدان المتحررة (مؤتمر أكرا) والشعوب التي لا تزال مقيدة - بأغلال الاستعمار - في القارة الأفريقية الشاسعة والتي تتطلع إلى استقلالها، فهي في وقت حاسم من مصيرها. وتحيي (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) شعوب أفريقيا ومدغشقر التي تربطها بالشعب الجزائري وحدة في الآلام وفي الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، فالأفارقة، والمالاغاشون، والجزائريون سيتعاونون بالإيمان الذي يتطلبه التحرر، وترقبه القارة الأفريقية. وتقف (آسيا) مع الجزائر، كما تقف معها كل الشعوب التي هزت الهيمنة الاستعمارية، والتي أخذت شيئا فشيئا في الاضطلاع بمسؤوليات السلطة والتقنية العصرية. وفي هذا الصدد فإن الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من قبل (جمهورية الصين الشعبية) والذي سيتبعه اعتراف دول آسيوية أخرى، هذا الاعتراف له مدلوله الخاص، فلكل الشعوب التي جمعها (مؤتمر باندونغ) حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، توجه الجزائر المكافحة شكرها، وتؤكد لها في الوقت ذاته تمسكها بمبادىء باندونغ، وعرفانها بالجميل على المساعدة المادية والمعنوية التي قدمت لها، كما نوجه شكرنا أيضا إلى هؤلاء الرجال من خيرة أبناء وطنهم، إلى هؤلاء الديموقراطيين من الفرنسيين والذين ما انفكوا في أوروبا وفي أمريكا يؤيدون قضيتنا العادلة بحرية في التفكير تشرفهم، وإن أصحاب (الأفكار الجديدة) هؤلاء، هم بناة إنسانية خالية من كل روح للسيطرة، وإنهم - بأفكارهم - يدينون من غير تحفظ كامل النظام الاستعماري، وهؤلاء الرجال الذين ينتمون إلى كل العقائد والأصول، جلهم من أصدقائنا وحلفائنا.

وإذن، فللشعب الجزائري مساندة قوية ومتينة، وهو لا يقوم بالحرب من أجل الحرب، وهو ليس عدوا للشعب الفرنسي، ولكنه عدو للاستعمار فحسب. غير أن الصداقة بين الشعوب لا يمكن أن تفهم إلا في إطار احترام حرية وسيادة كل واحد منها، ولقد أكدنا دائما رغبتنا في الوصول إلى حل سلمي للقضية الجزائرية عن طريق (المفاوضات)، فرفض الحكومة الفرنسية المتعنت لأية مفاوضات هو وحده سبب استمرار الحرب، فمعنى ذلك أنه بالإمكان وضع حد بكل سرعة لحرب الجزائر إذا رغبت في ذلك الحكومة الفرنسية، وإن (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) مستعدة من جانبها لإجراء المفاوضات، ولذلك فهي مستعدة في كل وقت للاجتماع بممثلي الحكومة الفرنسية، فوجود فرنسيين وأوروبيين في الجزائر لا يشكل عقبة مستعصية على الحل. ومهما يكن من أمر، فإن الجزائر بعد خروج الاستعماريين منها لن تعرف لا مواطنين متفوقين، ولا مواطنين ناقصين، فالجمهورية الجزائرية لن تقوم بأية تفرقة تقوم على الجنس أو العقيدة بين أولئك الذين يريدون أن يبقوا أبناء لها، ولسوف تمنح ضمانات أساسية حتى يكون كل المواطنين من كل المستويات شركاء في حياة البلاد، وستحترم كل الحقوق المشروعة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن استقلال الجزائر لن يشكل أبدا عقبة أمام إقامة علاقات جديدة بين فرنسا والجزائر، وستكون هذه العلاقات مثمرة إذا اعتمدت على احترام سيادة كل من البلدين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الاستقلال سيكون وحده الكفيل بأن يفتح آفاقا جديدة أمام التعاون بين البلدين. لقد سجلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية منذ الإعلان عنها بكل ارتياح الاعتراف بها من طرف عدد من الدول

الكبرى وهي تشكرها على ذلك بكل حرارة، وستعترف بها غدا دول أخرى، ولكل هذه الدول الكبرى نعلن أن حكومتنا شاعرة بمسؤولياتها في المجال الدولي، وأنها ستحترم مبادىء ميثاق الأمم المتحدة، ونتبنى التصريح العالمي حول حقوق الإنسان وستبقى هذه المبادىء أساس سياسة الجمهورية الجزائرية الذي لا مساس به، كما ستوجه عمل حكومتنا. وفي هذا الميدان، فإن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ستقبل بارتياح كبير كل مبادرة دولية تهدف إلى تطبيق الإجراءات الإنسانية لاتفاقية جنيف في حرب الجزائر، كما ستقبل كل مبادرة ترمي إلى تدعيم السلام في العالم، وإلى إيقاف التسابق في التلسح وإلى منع التجارب النووية في العالم التي تريد فرنسا أن تمدها إلى الأرض الجزائرية. وبودنا في نهاية هذا التصريح أن نذكر بأن استمرار حرب الجزائر يشكل تهديدا مستمرا على السلام العالمي، وإننا نوجه نداء مسلحا لكل الرجال، ولكل الشعوب ليضموا جهودهم إلى جهودنا من أجل وضع حد لهذه الحرب الدامية من أجل الاحتلال الاستعماري من جديد. ونأمل كل الأمل أن يكون هذا النداء مسموعا. ***

الاعتراف بالحكومة المؤقتة

3 - الاعتراف بالحكومة المؤقتة بينما كان يعلن في كافة أرجاء الجزائر عن قيام الجمهورية الجزائرية وتشكيل حكومتها المؤقتة، يوم الجمعة التاسع عشر من أيلول - سبتمبر - عام 1958، كان الرئيس (فرحات عباس) في القارة، واثنان من وزرائه أحدهما في (تونس) والآخر في (الرباط) يقومان بهذه المهمة وفي الساعة ذاتها. وفي ردهة (مبنى الجزائر) الكائن بمديرية التحرير بالقاهرة، حيث جرى الاحتفال بحضور عدد كبير من محرري الصحف والمصورين، وجمهور يتأجج حماسة غصت به البناية، وامتلأت به شوارع الحي، نهض سفير العراق بالقاهرة، بعد أن أنهى الرئيس (فرحات عباس) كلمته ليعلن: (إن الحكومة العراقية قد اعترفت على الفور بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) فكان اعتراف العراق هو أول اعتراف رسمي بالحكومة المؤقتة وبالجمهورية الجزائرية. ... وعلى هذا النحو جاء اعتراف المملكة العربية السعودية التي أرسل ملكها إلى الرئيس (فرحات عباس) برقية في اليوم ذاته جاء

فيها: (إنني أهنىء سيادتكم بقيام الجمهورية الجزائرية، وإنه ليسرني أن أفيد سيادتكم باعتراف حكومة المملكة العربية السعودية شقيقتها الجمهورية الجزائرية). ... ومن المغرب تلقى الرئيس (فرحات عباس) برقية يوم 22 أيلول - سبتمبر - جاء فيها ما يلي: (لي الشرف بأن أنقل إلى علمكم أن مجلس الوزراء المجتمع برئاسة صاحب الجلالة ملك المغرب - مراكش - قد قرر في التاسع عشر من أيلول 1958، الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية). رئيس الوزراء ووزير الخارجية - أحمد بلفريج. ... وقدم سفير السودان في القاهرة إلى الرئيس (فرحات عباس) وثيقة الاعتراف التي تضمنت: (تهدي سفارة السودان بالقاهرة أطيب تحياتها إلى رئيس وأعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ويسرها أن تنهي إليهم أن مجلس الوزراء السوداني قد عقد جلسة خاصة وقرر الاعتراف بحكومة الجزائر الحرة) - القاهرة 22 من أيلول - سبتمبر - 1958. ... وتضمنت وثيقة اعتراف المملكة الاردنية الهاشمية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ما يلي: (أرجو أن تقبلوا دولتكم باسمي، وبالنيابة عن حكومة المملكة الاردنية الهاشمية والشعب الاردني، أحر تمنيات الخير والتوفيق

لحكومتكم الموفرة)؛ في 22/ 9/ 1958 - رئيس الوزراء: سمير الرفاعي ... ومن ليبيا، صدرت وثيقة الاعتراف عن (بنغازي) بتاريخ 19 من أيلول - سبتمبر - 1958 وفيها: (يسعدني جدا أن أبادر بإبلاغ سيادتكم قرار الحكومة الليبية بالاعتراف بحكومة الجزائر باعتبارها الحكومة الشرعية للشعب الجزائري المجاهد) رئيس الوزراء ووزير خارجية ليبيا: عبد المجيد كبار. ... وتلقى رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الإشعار الآتي من وزير الشؤون الخارجية اللبنانية، وذلك في يوم 15 كانون الثاني - يناير - 1959: (يسرني أن أؤكد لدولتكم مضمون البرقية التي تشرفت بإرسالها لكم لإبلاغكم اعتراف لبنان بحكومة الجزائر المؤقتة وهذا نصها: قررت الحكومة اللبنانية اليوم الاعتراف قانونيا بحكومة الجزائر المؤقتة). ... أما وثيقة اعتراف الحكومة الاندونيسية بالحكومة الجزائرية فجاء فيه ما يلي: (إن الأسس والدواعي التي دفعت أندونيسيا للمبادرة بالاعتراف بالحكومة الجزائرية قد تضمنها البيان الرسمي الذي أصدرته حكومة الجمهورية الاندونيسية في جلسة طارئة لمجلس الوزراء في 27 - أيلول - سبتمبر - 1958، وبإعلان استقلال الجزائر الذي أذيع في القاهرة في يوم 19 - أيلول - سبتمبر 1958، فمن الطبيعي أن

ترحب أندونيسيا ترحيبا حارا بقيام هذه الحكومة الجديدة. إن الحكومة الأندونيسية تؤمن بأن ميثاق الأمم المتحدة ومبادىء مؤتمر باندونغ العشرة ستفتح مجالا للدولتين وهما الجزائر وفرنسا لتعيدا علاقاتهما التي كانت قائمة على أسس استعمارية إلى علاقة بين دولتين مستقلتين تقوم على مبادىء القانون الدولي والعرف الدولي. إن قرار الحكومة الأندونيسية بالاعتراف بحكومة الجزائر المؤقتة يتفق مع رغبة الشعب الاندونيسي المناهض للاستعمار كما يتفق مع سياسة الحياد الايجابي التي تتمسك بها أندونيسيا). ... وصدرت عن (هانوي) وثيقة الاعتراف بالحكومة الجزائرية في يوم 26 أيلول - سبتمبر - 1958: (لي الشرف بأن أشعركم أن حكومة جمهورية فييتنام الديموقراطية قد اتخذت قرارها للاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بوصفها الحكومة الوحيدة القانونية والممثلة الشرعية لشعب الجزائر) - الرئيس (فان - دونغ) (*). ... أما الاتحاد السوفييتي - فقد جاء في مجرى تصريح أدلى به الرئيس (نيكيتا خروشوف) يوم 8 تشرين الأول - أكتوبر - 1960 وتضمن ما يلي: (يمكن اعتبار اجتماعاتنا - في غلنكوف قرب نيويورك .. ومحادثاتنا مع ممثلي الحكومة المؤقتة الجزائرية على أنها

_ (*) لمطالعة أشكال الاعتراف - والمزيد من المعلومات بهذا الشأن يمكن الرجوع إلى: (الثورة الجزائرية والقانون - محمد البجاوي) دار اليقظة العربية - دمشق - 1961 ص 170 - 210.

اعتراف بأن هذه الحكومة قائمة في الواقع). ... تلك هي بعض نماذج الاعترافات بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي أخذت على الفور بتبادل التمثيل الديبلوماسي مع الدول المختلفة مع تطوير الاتصالات بالهيئات والمنظمات الدولية، وممارسة حق الجزائر في إبرام المعاهدات أو نقضها - وأبرز عمل في هذا المجال هو الانضمام إلى اتفاقيات جنيف ونقض اتفاق معاهدة حلف شمال الأطلسي والتي سيتم التعرض لها في الفقرة التالية نظرا لأهميتها -. هذا وقد أخذت الحكومة الجزائرية فور تشكيلها بممارسة حقها في الإسهام بالمؤتمرات الاقليمية والدولية (المؤتمرات الأفريقية - الأسيوية) علاوة على اشتراكها في الجامعة العربية ومؤتمراتها. أ- بيان البلدان التي اعترفت بالدولة الجزائرية وبحكومتها (*). اسم البلد .......... تاريخ الاعتراف 1 - العراق .......... 19 - أيلول - سبتمبر - 1958. 2 - ليبيا .......... 19 - أيلول - سبتمبر - 1958. 3 - المغرب .......... 19 - أيلول - سبتمر - 1958. 4 - تونس ........... 19 - أيلول - سبتمبر - 1958

_ (*) المرجع: نشرة خاصة - المحافطة السياسية - الجزائر - ص 22 وكذلك في (الثورة الجزائرية والقانوق - بجاوي) ص 210.

5 - المملكة العربية السعودية ........... 20 - أيلول - سبتمبر - 1958. 6 - المملكة الأردنية الهاشمية .......... 20 - أيلول - سبتمبر - 1958. 7 - ج. ع. م (مصر وسوريا) .......... 21 - أيلول - سبتمبر - 1958. 8 - المملكة اليمنية ........... 21 - أيلول - سبتمبر - 1958. 9 - السودان ........... 22 - أيلول - سبتمبر - 1958. 10 - الصين الشعبية ........... 22 - أيلول - سبتمبر - 1958. 11 - كوريا الشعبية ........... 26 - أيلول - سبتمبر - 1958. 12 - فييتنام الديموقراطية .......... 26 - أيلول - سبتمبر - 1958. 13 - أندونيسيا ........... 27 - أيلول - سبتمبر - 1958. 14 - غينيا ............ 30 - أيلول - سبتمبر - 1958. 15 - منغوليا الشعبية ........... 15 - كانون الأول - ديسمبر - 1958. 16 - لبنان ........... 15 - كانوف الثاني - يناير - 1959. 17 - ليبيريا ........... 7 - حزيران - يونيو - 1960. 18 - التوغو ........... 17 - حزيران - يونيو - 1960. 19 - مالي ........... 18 - شباط - فبراير - 1961. 20 - الكونغو (ليوبولدفيل) ........... 19 - شباط - فبراير - 1961. 21 - كوبا ........... 29 - حزيران - يونيو - 1961. 22 - باكتسان ........... 3 - آب - اغسطس - 1961. 23 - أفغانستان ........... 2 - أيلول - سبتمبر - 1961. 24 - كمبوديا ........... 5 - أيلول - سبتمبر - 1961. 25 - يوغوسلافيا ........... 5 - أيلول - سبتمبر - 1961. 26 - غانا ........... 5 - أيلول - سبتمبر - 1961. 27 - الاتحاد السوفييتي ........... 19 - آذار - مارس - 1962. 28 - تشيكوسلوفاكيا ........... 20 - آذار - مارس - 1962.

29 - رومانيا .......... 20 - آذار - مارس - 1962. 30 - ألبانيا .......... 21 - آذار - مارس - 1962. 31 - بلغاريا .......... 21 - آذار - مارس - 1962. ب - الجزائر والأمم المتحدة 1 - الدورة العاشرة: أيلول - تشرين الثاني (سبتمبر - نوفمبر) - 1956. قررت الجمعية العامة تسجيل القضية الجزائرية على جدول أعمالها للمرة الأولى، وذلك يوم 30 - أيلول - سبتمبر - بنتيجة حصولها على 23 صوتا ضد 27 صوتا. 2 - الدورة الحادية عشرة: كانون الثاني - شباط (يناير - فبراير) 1957. تبنت الجمعية العامة يوم 15 شباط - فبراير - توصية بالبحث عن حل سلمي وديموقراطي وعادل وفقا لمبادىء ميثاق هيئة الأمم المتحدة. 3 - الدورة الثانية عشرة: 13 كانون الأول (ديسمبر) 1957. تقديم توصية مشابهة في نصها ومضمونها للتوصية السابقة. 4 - الدورة الثالثة عشرة: قدمت توصية من قبل الدول الأفرو - آسيوية في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1958 تنص على: - الاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير. - المطالبة بإجراء مفاوضات بين الطرفين. وحصلت هذه التوصية على (35) صوتا عوضا عن (36)

صوتا لتصبح قابلة للتصديق. 5 - الدورة الرابعة عشرة: (ايلول - كانون الاول) سبتمبر - ديسمبر - 1959. قدم المندوب الباكستاني، بالنيابة عن الكتلة الأفرو - آسيوية (22 دولة) قرارا معتدلا (يستعجل الطرفيين المعنيين للدخول في محادثات لتقرير البدء بأسرع ما يمكن في تنفيذ حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، بما في ذلك شروط وقف إطلاق النار). وقد مر هذا القرار بسهولة يوم 7 كانون الأول - ديسمبر - وحصل على ثمانية وثمانين صوتا ضد ستة وعشرين (ثلثي الأصوات) وذلك بالرغم من أن الولايات المتحدة لم تكن راغبة في استثارة عداء (ديغول) ولهذا فقد أعطت صوتها ضد القرار، وكذلك فعلت المملكة المتحدة (بريطانيا)، وقاطعت فرنسا الاجتماع بالطبع، لأنها كانت لا تزال متمسكة بزعمها (في أنه لا يحق للهيئة الدولية التعرض لمشكلة تعتبرها فرنسا من شؤونها الداخلية). وعلى كل حال، فقد حدث عندما انعقدت هذه الهيئة في 12 كانون الأول -ديسمبر - شيء لا سابقة له في تاريخ الأمم المتحدة؛ فعند قراءة القرار وأخذ الرأي عليه فقرة فقرة بالنداء، لقى تأييدا أكثر من ثلثي الأصوات، ومع ذلك، فعند قراءة القرار وأخذ الرأي عليه في مجموعه بعد ذلك بعدة دقائق، قلبت بعض الوفود موقفها، فأصبحت (باراجواي) معارضة بعد أن كانت موافقة، وكذلك فعلت (أستراليا وأكوادر وهندوراس ولاووس) إذ انتقلت من الامتناع عن التصويت إلى الرفض، بينما ظهرت (نيكارغوا) التي كانت غائبة أثناء دور النداء، لتعطي صوتا آخر بالرفض، وكذلك هزم القرار بما سماه (الوفد الفرنسي) استراتيجية وتعاون فرنسا مع

مجموعة من أصدقائها. واستنكر الجزائريون وهم يشعرون بالمرارة هذه النتيجة التي جاءت بسبب: (مناورات وضغط حلف الأطلسي الذي وقف بحزم بناء على طلب فرنسا، ضد أي قرار بصرف النظر عن مضمونه ومحتواه). وبتعبير آخر لام الجزائريون الولايات المتحدة لممارستها الضغط على عدد من الدول الصغرى حتى تعطي صوتها بشكل مناسب، غير أن الولايات المتحدة ذاتها لم تستمر في معارضة القرار في الاجتماع العام، على أمل أن تهدىء من غضب الجزائريين، وقد كان لذلك تأثير ضئيل في التخفيف من ثائرة الجزائريين. وفي الوقت ذاته، غضبت فرنسا، إذ كانت تتوقع تضامنا كاملا وواضحا ومستمرا. وكانت حصيلة دورة هيئة الأمم المتحدة، إذن، أن الفرنسيين والجزائريين باتوا وهم أبعد عن الاتصال مما سبق، ونعى الطرفان على واشنطن ضعفها وترددها. 6 - الدورة الخامسة عشرة: كانون الأول - ديسمبر - 1960. اتفقت المجموعة الأفريقية - الآسيوية على نص مشروع تضمن النقاط التالية: 1 - الاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير والاستقلال. 2 - تطبيق حق تقرير المصير بطريقة عادلة، واحترام الوحدة الترابية للجزائر. 3 - قيام الأمم المتحدة بالإشراف على تطبيق ما نص عليه هذا المشروع. 4 - إجراء استفتاء في الجزائر، وقيام الأمم المتحدة بتنظيمه والإشراف عليه، مما يسمح للشعب الجزائري بتقرير مصيره

بنفسه، وقد حظي هذا المشروع على (63) صوتا ضد (8) وغياب (27) عن الاقتراع. 7 - الدورة السادسة عشرة: تشرين الثاني - كانون الأول (نوفمبر -ديسمبر) 1961. وافقت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بأغلبية (62) صوتا وامتناع (38) عن التصويت مقابل لا شيء، على لائحة اللجنة السياسية التي تطلب إلى الحكومة الفرنسية والحكومة الجزائرية، استئناف المفاوضات، وذلك من أجل تطبيق حق تقرير المصير، واستقلال شعب الجزائر، في إطار الوحدة الترابية للجزائر. ... جدير بالذكر أن فرنسا قد حاولت جهد استطاعتها مقاومة الحكومة الجزائرية في كافة مجالات العمل السياسي والديبلوماسي بضراوة لا تضارعها في شدتها إلا مقاومتها للثورة الجزائرية المسلحة؛ فغداة إعلان تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، الذي كان في الوقت ذاته إعلانا بقيام (الجمهورية الجزائرية) حذرت الحكومة الفرنسية سائر الحكومات التي تتبادل معها العلاقات الديبلوماسية بما قد ينجم عن اعترافها بالحكومة المؤقتة من تعكير لصفو العلاقات بينها وبين فرنسا. ويمكن القول أن الديبلوماسية الفرنسية أصبحت في حالة استنفار دائم منذ الإعلان عن تشكيل الحكومة المؤقتة للعمل بكل الوسائل، وكافة الأساليب، ومن الضغوط إلى الاحتجاج، بل إنها لجأت إلى التهديد بالشجار أحيانا. ولكن هذه التعبئة الديبلوماسية لم تستطع مع هذا منع الدول العربية العشر من أن تعجل الاعتراف بالحكومة الجزائرية المؤقتة، علما بأن بعضها مثل تونس والمغرب

كانتا تتبادلان الصلات الديبلوماسية مع فرنسا، ولكي تستر الديبلوماسية الفرنسية فشلها هذا، فإنها أوضحت أن تهديداتها لا تستهدف البلاد العربية التي تشدها إلى الحكومة المؤقتة من (الروابط) ما يضطرها الى الاعتراف بها. وفي الثلاثين من نيسان - أبريل - 1959، كان الوزير الفرنسي ما زال يصرح من على منبر الجمعية الوطنية الفرنسية بما يلي: (أريد منذ هذا المساء أن أقول أن الحكومات الصديقة والحكومات الحيادية، والدول المسؤولة، قد أنذرها سفراؤنا، كما دأبت وزارة خارجيتنا على إشعارها بإرادتنا، وبالنتائج التي تترتب على كل مساعدة تبذل من قبلها لحركة التمرد) وفي اليوم ذاته، ذكر رئيس الجمهورية الفرنسية: (بأن فرنسا ستقطع علاقاتها فورا بأية حكومة - رصينة - تعترف بالحكومة الجزائرية المؤقتة). غير أن هذا التصريح أصبح حرفا ميتا بعد الاعترافات التي جاءت بعد ذلك. ج - الجزائر والندوات الدولية الكبرى: 1 - الندوات المغربية: تونس (تشرين الأول - اكتوبر) 1956. طنجه (نيسان - أبريل) 1958. تونس (حزيران - يونيو) 1958. المغرب - الرباط (شباط - فبراير) 1961. 2 - ندوات الدول العربية: شتورة (آب - أغسطس) 1961.

3 - ندوات الدول الأفريقية المسقلة: أكرا - (نيسان - أبريل) 1958. مونروفيا (آب - أغسطس) 1959 (*). أديس أبابا (حزيران - يونيو) 1960. 4 - ندوات شعوب أفريقيا: أكرا (كانون الأول - ديسبر) 1959. تونس (كانون الثاني - يناير) 1960. القاهرة (آذار - مارس) 1961. 5 - ندوات رؤساء الدول الافريقية: الدار البيضاء (كانون الثاني - يناير) 1961. 6 - الندوات الأفريقية - الآسوية: باندوخ (نيسان - أبريل) 1955. القاهرة (كانون الأول - ديسمبر) 1957. الكونغو (نيسان - أبريل) 1960. 7 - ندوات رؤساء دول عدم الانحياز: بلغراد (أيلول - سبتمبر) 1961.

_ (*) تجدر الإشارة إلى ما أوردته صحيفة (لوموند) الفرنسية (عدد 11 آب - أغسطس -1959) في معرض تعليقها على اشتراك الجزائر في هذا المؤتمر: (تستطيع الحكومة المؤقتة أن تباهي بانتصارين: أولهما سياسي وقد تحقق في اشتراكها بالمؤتمر باعتبارها عضوا له كل الحق بذلك، والاعتراف شبه القطعي بأنها تؤلف منذ الآن طرفا في اجتماعات دول أفريقيا المستقلة، والانتصار الثاني وهو انتصار رمزي تحقق عندما قبلت حكومة ليبيريا بأن يرتفع علم الجزائر خفاقا عدة أيام على (برلمان مونروفيا).

الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ونقض معاهدة الأطلسي مذكرة

4 - الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ونقض معاهدة الأطلسي مذكرة بشأن نقض معاهدة شمال الأطلسي من قبل الحكومة المؤقة للجمهورية الجزائرية (*) موضوع هذه المذكرة: 1 - التذكير بأن الجزائر أدرجت عام (1949) في ميثاق الأطلسي دون رضاء الشعب الجزائري. 2 - تقرير استمرار التدخل العسكري والمالي والديبلوماسي من جانب دول منظمة معاهدة شمال الأطلسي ضد الشعب الجزائري، منذ ست سنوات وحتى اليوم. 3 - تقرير أن (ميثاق الأطلسي) من شأنه في أية لحظة أن يعرض أمن المغرب كله للخطر. ونتيجة لذلك، فإن المذكرة الحاضرة لا تقضي بفسخ إدخال الجزائر بصورة تعسفية في منظمة حلف شمال الأطلسي وحسب، بل بفسخ ميثاق الأطلسي ذاته من

_ (*) (الثورة الجزائرية والقانون) - محمد البجاوي - دار اليقظة العربية - دمشق - 1961 ص 309 - 324.

جانب الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. أولا: إن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، تذكر بادىء ذي بدء بأن الجزائر أدرجت في ميثاق الأطلسي دون رضاء الشعب الجزائري. لقد قرر ميثاق الأطلس بصورة تعسفية أن (الجزائر فرنسية) وعلى الدوام، ظل هذا الميثاق أداة طيعة للاستعمار. 1 - خرافة (الجزائر الفرنسية) في ميثاق الأطلسي تنص المادة السادسة من ميثاق الأطلس على ما يأتي: (يعتبر هجوما مسلحا ضد واحد، أو أكثر من الدول الأطراف: الهجوم المسلح على أراضي أية واحدة من هذه الدول في أوروبا أو أمريكا الشمالية، وعلى ولايات الجزائر الفرنسية ...). وقد استطاع رئيس الحكومة الفرنسية (السيد فيليكس غايار) أن يعلن في إثر مسؤولين آخرين من الفرنسيين في 15/ 11/ 1957 من على منبر البرلمان الفرنسي: (إن ميثاق الأطلس يشمل ولايات الجزائر، وأن مادته السادسة صريحة في هذا الشأن، وكل تهديد موجه إلى وحدتها ستتبع التضامن الآلي من جانب حلفائنا). كما أوضح أحد أعضاء الوفد الأمريكي الذي وقع معاهدة شمال الأطلسي، أن هذه المعاهدة تشمل: (ولايات الجزائر الفرنسية الأربع التي تؤلف جزءا من فرنسا من الناحية الدستورية) (*). وهذا

_ (*) (محاضرة السيد تيودور أشيل في - مدرسة دفاع منظمة حلف شمال الأطلسي) - أنباء منظمة حلف الأطلسي - 1/ 4/ 1956 ص 29.

التصرف التعسفي بإدخال الجزائر في الميثاق قد جاء نتيجة التهديد الفرنسي - بعد أن اصطدم في بداية الأمر برفض الولايات المتحدة التي حاولت أن تسلم بأن الجزائر لم تكن فرنسية -، ولكن الاستجابة لرغبة الحكومة الفرنسية، في آخر المطاف، جعل الشعب الجزائري بأجمعه يشعر بأن إهانة كبرى لطموحه إلى الاستقلال، تعمدت دول الأطلسي أن توجهها إليه علنا. ولهذا السبب، فما أن تم توقيع المعاهدة حتى انبرت جميع الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية تعلن باسم (الشعب الجزائري) اعتراضها على إدخال الجزائر في شمول المعاهدة، وكانت الاجتماعات الكثيرة التي عقدت، والرسائل التي أرسلت إلى الدول المعنية، واعتراضات النواب أثناء مناقشة التصديق على الميثاق، تعبر جميعا أبلغ تعبير عن مشاعر الشعب الجزائري حيال المحتل والدول ذات العلاقة 0 ولقد قاوم الشعب الجزائري بشدة مزاعم الميثاق الذي حاول أن يكرس دبلوماسيا الطابع الفرنسي المزعوم للجزائر، وأن يدعم فرنسا في ادعاءاتها بأن لها (حقوقا) في الجزائر، وأن يخلد نهائيا الخرافة القائلة بأن (الجزائر فرنسية). لقد أعلن مقرر المجلس النيابي الفرنسي - السيد رينيه - أثناء مناقشة التصديق على الميثاق: (إن الهجوم الذي يستهدف ولايات الجزائر الفرنسية، يماثل بصراحة النص، الهجوم على أرض فرنسا البرية، ولو كانت هذه الولايات تقع في أفريقيا، وإنا لواثقون أن الأغلبية الكبرى في المجلس، شأنها شأن الأغلبية في لجنة الشؤون الخارجية، سيسرها هذا - الوضوح - الذي لم تحصل عليه الحكومة ومفاوضو الميثاق إلا بشق الأنفس، وستغتبط بأن ترى وجود فرنسا في الولايات الجزائرية، ووحدة الجزائر، معترفا بهما دوليا كعنصر

من عناصر السلام والأمن الدوليين) (*). بيد أن (معاهدة الأطلسي) كانت أكثر غلوا من الادعاءات الفرنسية حين وصفت الولايات الجزائرية بأنها فرنسية. فالواقع، أن أي نص تشريعي أو تنظيمي لم ينعت الولايات الجزائرية بأنها (فرنسية)، ولكي يتجنب (المشرع الفرنسي) اعتبار (الولايات الجزائرية) مماثلة (لولايات فرنسا) ويعترف بعض الشيء بالشخصية الجزائرية، فقد منحها نظاما تشريعيا وتنفيذيا خاصا، وعمل في مادته الأولى من (القانون الفرنسي) الصادر في (20/ 9/ 1947) المتضمن ما سمي (بالنظام الأساسي للجزائر) تأكيدا بأن (الجزائر هي مجموعة ولايات) وبذلك فإنه أقلع نهائيا عن وصف هذه الولايات بأنها (فرنسية). وإذن، فإن ميثاق الأطلسي يكون قد أقر لأول مرة الخرافة القائلة بأن (الجزائر فرنسية)، وذلك قبل أن يطالب بها المتطرفون من الفرنسيين، مما جعل الشعب الجزائري يدرك ما تنطوي عليه معاهدة شمال الأطلسي من فلسفة استعمارية. 2 - ميثاق الأطلسي هو أداة للاستعمار. إن مشكلة الاستعمار حفزت أمم الأطلسي إلى التضامن، الأمر الذي يبرز حقيقة طبيعة معاهدة شمال الأطلسي ويحدد مسؤولياتها، ويهيب بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أن تتخذ التدابير الملائمة.

_ (*) الجمعية الوطنية الفرنسية - الوثائق البرلمانية - دورة عام 1949 - الملحق رقم (7848) جلسة 11/ 7/ 1949 ص 1347.

لقد قيل عن (منظمة معاهدة شمال الأطلسي) بأنها من الوجهة القانونية، مجموعة من خمس عشر دولة ذات سيادة وضعت في حالة الاشتراك بعض الموارد من الرجال والمال والعتاد بغية تأمين (دفاع مشترك) ضد كل اعتداء طارىء. والحقيقة، أن منظمة شمال الأطلسي أصبحت، فيما يتعلق بمشكلة الاستعمار على الأخص، عنصر محافظة ورجعية مناوئة لحركة التطور التي جاءت في أعقاب الحرب. وعن طريق التفكير في محنة الشعب الجزائري، وما يناله من أذى التحالف الأطلسي، بالإمكان استقراء ما قاله واحد من أبرز اختصاصي حلف الأطلسي: (إن منظمة شمال الأطلسي أصبحت نقابة للمصابين بمرض (الغرام - أو الهيام الاستعماري) ... نقابة أصحاب الامتيازات الذين لا يفكرون رغم تصريحاتهم الإنسانية، بغير الذود عن امتيازاتهم وتوسيع مداها) (*). ولقد صرح السيد (بول هنري سباك) السكرتير العام لمنظمة شمال الأطلسي في (أيلول - سبتمبر - 1957) في مدينة (براغ) قاصدا بتصريحه الاتحاد السوفييتي، فقال (إن التسلط الاستعماري هو شيء جد واضح وبسيط، إنه العمل الذي تستولي به دولة كبرى على مساحة من الأرض، وتخضع لقوانينها عددا من الرجال والنساء رغم أنوفهم). وترى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أن هذا التعريف البارع الرسمي هو الذي يمكن إسباغه بحق على الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وهذا الاستعمار هو

_ (*) اندريه فونتين (التحالف الأطلسي في حالة الذوبان) باريس (1960) ص 211 والكاتب هو من أبرز معلقي صحيفة (لوموند) الفرنسية.

الذي تحرص منظمة حلف شمال الأطلسي على تخليده. إن جميع الحكومات الفرنسية المتعاقبة، استصرخت تضامن المنظمة واستغلته في حربها الاستعمارية التي تستهدف (إعادة فتح الجزائر). لقد أدلى رئيس الحكومة الفرنسية - السيد إدغار فور - ببيان في يوم 26/ 3/ 1955 تضمن ما يلي: (بمقتضى المادة الثانية من ميثاق شمال الأطلسي، يجب ألا تقتصر المنظمة على المسائل العسكرية، بل عليها أن تقيم بين أعضائها، سواء في أوروبا أو خارجها، ولا سيما في البحر المتوسط وفي أفريقيا، تضامنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا يجعل منها جامعة حقيقية). وكان رئيس حكومة فرنسية آخر، هو (السيد فيليكس غايار) قد دافع عن قضية - التحالف الجماعي - في كانون الأول - ديسمبر - 1957 بقوله: (لا يمكن أن يكون المرء حليفا هنا، دون أن يكونه في كل مكان). وكان يطالب بدعم السياسة الفرنسية في الجزائر بلا غموض أو قيود، كما كان (السيد ميشيل دوبريه) قد صرح بدوره في كانون الثاني - يناير - 1959 بقوله: (لا يمكن أن يكون المرء شريكا في أوروبا في حالة وقوع التهديد، وأن يكون منقسما في البحر المتوسط أمام التهديد ذاته). وحين كان السكرتير العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي (السيد هنري سباك) وزيرا لخارجية بلجيكا، عمل على تنصيب ذاته محاميا عن فرنسا في الأمم المتحدة (دورة أيلول - سبتمبر - 1955) مدليا بحجة وحيدة هي قوله: (ثقوا بفرنسا). ثم راح يعقد، إثر عودته من الأمم المتحدة، بسلسلة من المقابلات مع الصحيفة البلجيكية (الشعب)، وينتقد التصدع العرضي الزائل الذي أصاب التضامن الأطلسي نتيجة تصويت (اليونان)

و (إيسلندة) لصالح تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة العاشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، ويضيف قائلا: (وفي رأيي، إن منظمة شمال الأطلسي، تعني أن الدول المشركة فيها يجب عليها على الأقل أن تحاول تنسيق سياستها الخارجية، ولا أعتقد من الممكن اليوم - مهما يكن ذلك صحيحا في الماضي - أن نعقد تحالفا من أجل القتال معا وقت الحرب، إذا لم نتوصل إلى العيش معا وقت السلم) (*). والواقع، أنه بالرغم من بعض المعارضات هنا وهناك - هذه الظاهرة التي خنقت في مهدها - فقد مارس (التضامن الأطلسي) دوره في سحق الحرية، وفي أحلك الظروف، ولقد قالوا أن (جامعة الأطلسي) قد سجلت في مدى عشر سنين (انتقالا من التضامن المادي إلى تضامن وجداني، ومن التضامن الذي يعيش إلى تضامن يراد). وكان من المتوقع، ولكن من غير المشرف لمنظمة الأطلسي، أن يتم هذا التضامن الوجداني، الإرادي في مشكلة الاستعمار بقصد وأد الحرية. ثانيا: (إن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، تقرر أن دول معاهدة شمال الأطلسي، لم تنقطع عن إمداد فرنسا بالدعم العسكري والمالي والديبلوماسي في حرب الإبادة و (إعادة الفتح الاستعماري) التي تشنها الجزائر منذ ست سنوات حتى اليوم). عندما تحدث رئيس الولايات المتحدة (السيد ترومان) أمام الكونغرس في 29/ 1/ 1949، عن مشاريع ميثاق حلف شمال

_ (*) أنباء منظمة شمال الأطلسي (1/ 11/ 1955).

استقلت البلاد - وعاد أبناؤها إلى أحضانها

الأطلسي، أعلن قائلا: (إنما يشد أزرنا جميع الذين يرغبون في حكم أنفسهم بأنفسهم، وفي إسماع صوتهم حيث تتجه مصالحهم، إن حلفاءنا هم الملايين من البشر الذين يشعرون بالجوع والظمأ إلى العدالة). غير أن الشعب الجزائري لا يستطيع - آسفا - إلا أن يكشف عن طابع الدعاية في هذا الإعلان العقائدي المزيف؛ فالشعب الجزائري يرى كل يوم رأي العين، أن الضحايا الأولى لميثاق الأطلسي هما (استقلال الجزائر، وحرية ملايين البشر الذين - يشعرون بالجوع والظمأ إلى الحرية). فمنذ قيام الحرب الجزائرية، لم تنقطع الدول الكبرى المشتركة في حلف الأطلسي عن دعم فرنسا بشتى الطرق والأشكال، وقد ظل هذا الدعم آخذا في التزايد على مر السنين، وهو يتألف من معونات: 1 - عسكرية 2 - مالية 3 - ديلوماسية. (أ) - إن الفرق الثلاث التي وضعتها فرنسا تحت تصرف منظمة الأطلسي في أوروبا، لم تسهم في خدمة هذه المنظمة، إلا بأن تزودت بعتاد المنظمة، وانكفأت نحو ميادين العمليات الحربية في الجزائر وذلك بموافقة دول الأطلسي. وهكذا استقبل الشعب الجزائري الموت والدمار من جراء وجود فرقتين في شرق بلاده، وفرقة ثالثة في الغرب، وهذه الفرق هي: الفرقة الثانية المتحركة للمشاة، والفرقة السابعة الآلية السريعة، والفرقة الرابعة المتحركة للمشاة. إن العتاد الموجود في الجزائر، بكامله على وجه التقريب، بما فيه تجهيزات الوحدات الفرنسية، والتجهيز الصحي، جميع ذلك من منشأ أطلسي، وهناك مدربون أمريكيون يقيمون في الجزائر،

وبخاصة في مرسى الكبير، ولارتيغ، وبوفريك، وبجاية ;وإن قطع التبديل، وكذلك المعدات كلها أمريكية، وإن قسما من تدريب الطيارين الفرنسيين العاملين في الجزائر يجري في المانيا، وخصوصا على الطائرات. (ب) - إذا كان الطيران الفرنسي ينجز في الجزائر نحوا من ألفي ساعة طيران قتال - كليوم - و (80) ألف ساعة كل شهر (بما في ذلك عشرين ألف ساعة للتدريب)، فالفضل في ذلك مرده إلى إمدادات منظمة الأطلسي ولا سيما الطائرات، وأما الطائرات الفرنسية التي أرهقها التعب في الجزائر، فمصيرها إلى القوات الفرنسية في ألمانية، شريكة فرنسا في منظمة الأطلسي (وقد راح بعض أعضاء منظمة الأطلسي يمنحون فرنسا اعتبارا من 25/ 6/ 1955، حق الأفضلية في الحصول على طائرات هليكوبتر (من طراز سيكورسكي) مخصصة للعمليات الحربية ضد الجزائريين، وبذلك أكد هؤلاء الأعضاء بصورة فعالة قيام التضامن الذي يربطهم بفرنسا) (*). (هذا وقد أوصت فرنسا الولايات المتحدة في - آذار - مارس - 1956 على خمسين طائرة هيليكوبتر من ذات المحركين - مخصصة للعمليات الحربية في الجزائر - وتدعى (الموز الطائر) أو (خيل السباق) كما يرمز إليها بشارة السبيل في القوات البحرية الأمريكية. وقد سلمت الدفعة الأولى إلى فرنسا في حزيران - يونيو - 1956) (**) وقد بلغت مشتريات الحكومة الفرنسية

_ (*) مناقشات الأمم المتحدة - الجمعية العامة - الدورة العاشرة - الجلسة 518 في 22/ 9/ 1955. (**) صحيفة (لوموند) الفرنسية في 2/ 3/ 1957.

من الولايات المتحدة من الأسلحة، وبخاصة عتاد الطيران، ما قيمته خمسمائة مليون دولار عن عامي 1957 و1958. وافقت الولايات المتحدة في حزيران - يونيو - 1959 على أن يشتري الجيش الفرنسي في الجزائر (20) طائرة هيليكوبتر ثقيلة، وعددا غير محدود من طائرات التدخل من طراز (ت - 28) من أجل دعم العمليات البرية والاستجابة لاحتياجات شتاء 1959 - 1960 في الجزائر، وقد سلمت الولايات المتحدة إلى فرسا (60) طائرة في كانون الثاني - يناير - 1960،وأوصت فرنسا حديثا على (96) طائرة أخرى. (ج) - إذا كانت فرنسا مستمرة، منذ ست سنوات حتى يومنا هذا، في خرق القانون البحري الدولي في البحر الأبيض المتوسط (حيث اعترضت في سنة 1959 على سبيل المثال طريق 41300 سفينة فتشت منها 2565 سفينة وحولت اتجاه (83) سفينة منها)، فإنما فعلت ذلك بفضل ما تتمتع به من دعم حلف الأطلسي. وحين يمخر الأسطول الأمريكي السادس عباب المتوسط في دوريات الخفر، يحرص على أن يقدم لفرنسا باستمرار وسائط أجهزة الرادار لديه، وشأن (مرسى الكبير) شأن قاعدة الطيران البحري في (لارتيغ) كلاهما حول عن الغاية الأساسية التي خصص لها، واستخدم كليا في حرب الجزائر. كما أن الطائرات المائية الأمريكية ما تفتأ تقدم مساندتها إلى فرنسا في البحر المتوسط، وهناك حاملتان للطائرات من منشأ أمريكي (من طراز لافاييت) حمولة كل منها (11) ألف طن، موضوعتان تحت تصرف فرنسا، وهما تخوضان حرب الجزائر. (د) - ويجدر أن نضيف إلى ذلك، أن الحكومة الفرنسية ما تزال

منذ ست سنوات إلى اليوم تستخدم قواعدها في المملكة المغربية (فاس، مكناس، خريبقة، مراكش، قنيطرة، رباط، الدار البيضاء؛ أغادير) وفي تونس (بيزرته - بنزرت) للإستمرار في عدوانها على الشعب الجزائري. ويجري في المملكة المغربية تدرب عشرين ألف رجل فرنسي، وهم معدون لترميم الجيش الفرنسي في الجزائر، وما يقتطع منهم يحل محله آخرون، كما يجري في المملكة المغربية أيضا إصلاح قسم من الطائرات الأمريكية العاملة في الجزائر، وتخرج طائرات الاستطلاع، في كل يوم، من القواعد الفرنسية في المملكة المغربية ولا سيما (مكناس) للقيام يمراقبة الحدود الجزائرية. وفي تونس، تستخدم على أوسع نطاق قاعدة الطيران البحري في (بيزرته) للقيام بالعدوان على وحدات جيش التحرير الوطني وعلى المدنيين في شرقي الجزائر. ولهذه الأسباب، لم تكف تونس والمملكة المغربية عن المطالبة بجلاء القوات الأجنبية عن أراضيها. (هـ) - إن أعضاء منظمة الأطلسي الذين يقتسمون مع فرنسا مسؤولية الجرائم التي اقترفها المحتل في الجزائر، لم يعد في مقدورهم أن يعتمدوا على جهل الرأي العام العالمي لهذه الأفعال، وعلى الخصوص منذ أن قذفت الطائرات الأراضي التونسية (في ساقية سيدي يوسف يوم 8/ 2/ 1958) وكانت الطائرات الأمريكية من طراز (ب - 26) هي التي فتكت بالأطفال أثناء خروجهم من مدرسة الساقية. وقد صرح سفير الولايات المتحدة السابق - السيد دوغلاس ديلن - وهو سكرتير الدولة المساعد للشؤون الاقتصادية - صرح يوم 26/ 2/ 1958 في واشنطن، قائلا: (إن استخدام العتاد الأمريكي ضد - ساقية - من الصعوبة أن نجد له عذرا). وقد سجل

الشعب الجزائري هذا التصريح على أنه يعني في المفهوم المخالف أن استخدام السلاح ضده كان (معذورا) في نظر الأمريكيين، ويعترف السيد (دوغلاس ديلن) أن بعض الأسلحة المستخدمة في هذه الحادثة، كانت من جملة التجهيزات العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة إلى فرنسا لصالح منظمة حلف شمال الأطلسي، والبعض الآخر من الأسلحة هو مما حصلت عليه الحكومة الفرنسية بطريق مباشر. وفي اليوم ذاته، صرح الناطق بلسان وزارة الخارجية الأمريكية (لنكولن وايت) بما يلي: (لقد أبلغنا الفرنسيون بصورة غير رسمية أن قسما من العتاد الذي استعملوه في - ساقية - جاء من برنامج المعونة العسكرية). (و) - وضع ديوان محاسبات الولايات المتحدة تقريرا سريا بمناسبة حادث ساقية سيدي يوسف، أحيل إلى لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأمريكي (شباط - فبراير - 1958) أوضح فيه حسابات المساهمة الأمريكية والأطلسية في الأعمال الحربية ضد الشعب الجزائري، وتعلن مقاطع من هذا التقرير أن كميات هامة من الأسلحة الأمريكية أرسلتها إلى الجزائر، رغم قيام اتفاق بين الولايات المتحدة وفرنسا يقضي بإرجاع الأسلحة الفائضة، أي غير المخصصة لتجهيز القوات الفرنسية الموضوعة تحت قيادة منظمة الحلف الأطلسي. على أن واضعي التقرير أيدوا شرعية وجهة نظر الحكومة الفرنسية، ومؤداها: (إن التفريق بين قوات منظمة حلف الأطلسي والقوات غير الموضوعة تحت قيادة المنظمة إنما هو كيفي، وليس هناك معدات فائضة ما دامت الدولة المنتفعة بالمعونة تحتاج إلى هذه المعدات).

وإنه ليتعين على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أن تستنتج من ذلك أن حكومة الولايات المتحدة تؤيد كل التأييد استخدام العتاد الأمريكي في الجزائر، وفوق هذا، فما دام كل تمييز بين قوات منظمة الأطلسي والقوات الفرنسية العاملة في الجزائر كيفيا، فإن الولايات المتحدة تعترف بأنها تؤمن كل احياجات القوات الفرنسية في الجزائر تحت ستار منظمة الأطلسي، وتقر بذلك، وعلى هذا، فكل تبرئة لساحة منظمة الأطلسي تبدو أمرا مستحيلا. (ز) - ويلاحظ من ناحية أخرى، أن اشتراك دول الأطلسي طوال ست سنين في العمل الإجرامي جد ملموس وفعال بسبب أن قوات كل دولة وفعالياتها العسكرية تتناولها المنظمة بالدراسة بفضل الإجراء الخاص المسمى (بالفحص السنوي) فهذا الفحص الذي يسمح لدول الأطلسي أن تتبادل المعلومات الدقيقة حول برامجها العسكرية، وأن توفق احتياجاتها الدفاعية مع الإمكانات السياسية والاقتصادية، إنما يسمح في الوقت ذاته لكل دولة أن تقف، تمام الوقوف، على أهمية التدخل الفرنسي في الجزائر كما وكيفا، وأن تزن درجة اشتراك المنظمة الإجرامي الفعال في حرب الجزائر. وسحابة الأعوام الستة الأخيرة، تحقق لكل عضو في منظمة الأطلسي أن البرامج العسكرية الفرنسية الموضوعة لثلاث سنوات، والتي تؤلف التزاما ينبثق عن الميثاق، لم تحترم من جانب فرنسا سواء فيما يتعلق بما يسمى (الأهداف الثابتة) أو (الأهداف المؤقتة) أو بوجه أدق لم تنسجم تلك البرامج مع الغايات الصارمة للمنظمة، ولكنها منسجمة على أكمل وجه مع حرب الجزائر. ومن المعلوم أن (الفحص السنوي) هو من أهم وظائف منظمة

الأطلسي، وهو الأداة الرئيسية لتنسيق العمل الدفاعي للحلف، ومن خلال الفحص تعرف مواطن النقص، والعقبات القائمة، ونقاط الضعف. ومن ثم، فالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تعتبر أن حرب الجزائر كانت سافرة أمام أنظار كل من دول منظمة الأطلسي سواء في معطيات الإحصاءات العسكرية، أو في الاحتياجات من كل نوع، وتستنتج الحكومة الجزائرية من ذلك، أن دول الأطلسي قدمت دعمها إلى فرنسا في حرب الجزائر، وهي على بصيرة من الأمر. (ح) - ولا ريب أن مسؤولية كل من إعفاء منظمة الأطلسي من جراء العدوان الواقع على الشعب الجزائري لا يمكن التملص منها، وقد صدر بلاغ لمجلس شمال الأطلسي، نشر في 27/ 3/ 1956، جاء فيه: (إن مجلس شمال الأطلسي كان يحاط علما، على الدوام، بما تقتطعه فرنسا من القوات التي وضعتها تحت تصرف منظمة الأطلسي، وقد درس الوضع الذي تخلفه هذه الحركات في أوروبا، ولاحظ أن فرنسا ترى من الضرورة لصالح أمنها الخاص أن تزيد من قواتها الفرنسية العاملة في الجزائر التي تدخل في المنطقة المشمولة بمعاهدة شمال الأطلسي، إن المجلس يعترف بما للأمن من أهمية في هذه المنطقة بالنسبة الى منظمة الأطلسي). إن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لا تجهل أن نفقات الحرب الجزائرية مدرجة في حساب المساهمة الفرنسية في (الدفاع المشترك)، وهذا أمر جوهري يحدد المسؤولية الخطيرة التي تقع على منظمة حلف الأطلسي في الحرب الجزائرية. وإذن، فالنفقات العسكرية التي تنفق على الأعمال العدوانية في الجزائر ليست، من

الناحيتين القانونية والسياسية، سوى نفقات صادرة عن منظمة حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، فليس في نية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أن تتعرض في هذه المذكرة للمعونة المالية التي تتلقاها فرنسا سواء في نطاق منظمة الأطلسي أو في نطاق المساعدة المتبادلة (الطلبات الخارجية والاعتمادات المختلفة الخ ...) فهذه المعونة لما تنقطع، ولكن تلك المعونة كثيرا ما انضمت إليها مساعدة أخرى جاءتها من الدول الغربية أيضا، ولا سيما الولايات المتحدة التي مكنت الخزانة الفرنسية من الوقوف مؤقتا على قدميها بعد أن أرهقتها الحرب الجزائرية التي تكلفها يوميا ثلاثة ملايين من فرنكاتها القديمة؛ من ذلك أن الحكومة الأمريكية وبعض دول منظمة الأطلسي منحت فرنسا بتاريخ 30/ 1/ 1955 مبلغ (655) مليونا من الدولارات، (وقد تضمنت المذكرة التي وضعها الوفد الفرنسي برئاسة (السيد جان مونه) الذي جاء إلى واشنطن للحصول على هذه المعونة، إيضاحا لانعكاسات الحرب الجزائرية على الوضع المالي) (*). ومن بين الوثائق المتعلقة بهذه المعونة، تشير الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بصورة عابرة إلى وجود: (اتفاق يقضي بأن تشتري الحكومة الفرنسية من الولايات المتحدة بعض التجهيزات وقطع التبديل لصالح الوحدات الفرنسية الموضوعة تحت قيادة منظمة الأطلسي والمتمركزة في أوروبا)، وقد بلغ الاعتماد الممنوح

_ (*) صحيفة (لوموند) الفرنسية 1/ 1/ 1958 ص 14.

لهذه الغاية (45) مليونا من الدولارات، ولكن في وسع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أن تتساءل: ما هي الخطوات التي قامت بها الولايات المتحدة لتأمين احترام أحكام الإنفاق المذكور، ولمنع انضمام هذه المبالغ الى مبلغ (655) مليونا من الدولارات المخصصة للحرب الجزائرية؟ وقد انضمت فعلا. 3 - الدعم الديبلوماسي الذي تلقاه فرنسا من دول الأطلسي ناقشت الدول الغربية الشؤون الجزائرية، مرات كثيرة، في مجلس شمال الأطلسي، وأعربت خلال اجتماعاتها عن مساندتها الديبلوماسية لفرنسا، وقد أفادت فرنسا من اجتماعات غربية أخرى، طلبت خلالها تأييد حلفائها لها، وحصلت عليه؛ مثال ذلك ما وقع في المحادثات التي عالجت قضية الجزائر، ودارت بين السادة: (دالس وسلوين لويد وكريستيان بينو) أثناء الاجتماع الذي عقدته منظمة حلف جنوب شرقي آسيا في مدينة (مانيل) خلال فصل الربيع من العام 1958، وقد اعتادت الكتلة الأطلسية أن تدعم مراكز ومواقف الاستعمار الفرنسي في الجزائر، خلال كافة دورات جمعية هيئة الأمم المتحدة، مما أسهم إلى حد بعيد في استمرار الحرب الجزائرية، وعندما نستعرض سياسة كل من شركاء فرنسا الكبار في حلف الأطلسي، يتكشف لنا التضامن الفعال لمصلحة فرنسا في حرب الجزائر، رغم بعض الترددات الوجلة، والعميقة، والتي تطل من خلال هذه السياسة. والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تعيد إلى الأذهان، مثلا، الخطاب التاريخي الذي ألقاه سفير الولايات المتحدة (السيد دوغلاس ديلن) في باريس يوم

20/ 3/ 1956 أمام الصحافة الديبلوماسية الباريسية، معلنا تأييد حكومته لسياسة فرنسا في الجزائر. ولكي تمحو الولايات المدة الأمريكية الأثر السيء الذي أحدثه في أوساط الحكومة الفرنسية استنكافها عن التصويت في الأمم المتحدة خلال شهر كانون الأول - ديسمبر - 1958، فقد عهدت إلى السيد (جورج ألن) مدير وكالة أنباء الولايات المتحدة، أن يدلي بالتصريح التالي في 29/ 6/ 1959: (لقد حيينا عرض الجنرال - ديغول - صلح البواسل، والولايات المتحدة تؤيد الجنرال ديغول من غير تحفظ وذلك لوضع حد لما أسماه بالنزاع العقيم). والحكومة البريطانية من جانبها لم تأل جهدا في معاضدة الحكومة الفرنسية؛ ففي أعقاب المحادثات التي دارت (في (باريس) بين السيدين (هارولد ماكميلان) و (فيليكس غايار) نشر البلاغ التالي بتاريخ 26/ 1/ 1957: (لقد أجرى الوزيران مناقشة عامة حول مشاكل أفريقيا الشمالية، آخذين بعين الاعتبار أن مسؤولية إيجاد حل للقضية الجزائرية تقع على عاتق فرنسا، وبروح التضامن السائد بين البلدين أعرب الوزيران عن قناعتهما بأن على فرنسا أن تستمر في تحمل مسؤولياتها الخاصة بها فى أفريقيا الشمالية، حيث تملك بحق التقاليد مركزا ممتازا، وحيث تقدم مساهمة ضرورية للدفاع المشترك عن العالم الحر). وبدهي أن الحكومة الجزائرية في مقدورها أن تكتشف هنا وهناك أن التأييد الذي تلقاه فرنسا من شركائها الكبار في حلف الأطلسي ليس بتأييد غير مشروط، ولكن هذه ألاعيب عقيمة استنفذت فوائدها

ست سنوات من حرب حقود، وبين النوايا المفترضة والأفعال المقترفة ساحة مخصبة بدماء الشعب الجزائري. ثالثا: تعتبر الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، أن وصف الجزائر تعسفا بأنها (منطقة مشمولة بمعاهدة شمال الأطلسي) وإقامة قواعد عسكرية في الأرض الجزائرية، وفي أفريقيا الشمالية، كل ذلك من شأنه تعريض أمن المغرب بأجمعه للخطر. لقد سبق لمؤتمر (طنجه) في نيسان - أبريل - 1958، أن حدد سياسة أفريقيا الشمالية بأنها تقوم على عدم الانحياز إلى إحدى الكتلتين، وأن السلطات التونسية والمغربية وهي تشعر بالخطر الذي تجره إليها إقامة قواعد لحلف الأطلسي فوق أراضيها، لم تكف عن الشكوى من هذا الخطر، وعن المطالبة بإلغاء هذه القواعد، وبجلاء القوات الأجنبية عن أراضيها. والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي تعتبر الشعب الجزائري غير معتدى عليه إلا من فرنسا وحدها مدعومة من دول الأطلسي، لا يسعها بدورها، أن تقبل بأي حال من الأحوال، إدخال الأرض الجزائرية ضمن منطقة منظمة شمال الأطلسي. ونتيجة لجميع الحجج السابق بيانها، تعلن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أنها تنقض رسميا ليس إدخال الجزائر القسري في الميثاق وحسب، بل الميثاق ذاته باعتباره أداة للنشاط الاستعماري الموجه حاليا ضد الشعب الجزائري بوجه خاص، وكعامل من عوامل الخطر على أمن المغرب كله، وتوجمه الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، رسميا، انتباه دول الأطلسي إلى أن

ما تقدمه هذه الدول إلى فرنسا من معونة مادية ضخمة ومن تأييد ديبلوماسي، قد استتبع تصنيف حلف شمال الأطلسي نهائيا في زمرة الأحلاف الاستعمارية في نظر الرأي العام العالمي - وهو الشخص الثالث -. والدول الأطلسية، بمثابرتها على تغذية الحرب الجزائرية بجميع الوسائل، قد قضت على محبة الشعوب الأفريقية والآسيوية التي تزداد قناعة بأن العالم المسمى (بالعالم الحر) لا يدخر وسعا في عرقلة انتصار حريتها واستقلالها. والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، سوف تستخلص كل العبرة من هذه الوقوعات. تونس في 19 - أيلول - سبتمبر - 1960 فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.

قراءات

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}. صدق الله العظيم - الجزء الخامس والعشرون (سورة الشورى - الآية 38 - 41) قراءات 1 - حزب (جبهة التحرير الوطني). 2 - (جبهة التحرير الوطني) تنظيم وإدارة. 3 - تصريح (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) 1960. 4 - البيان النهائي (للمجلس الوطني للثورة الجزائرية) 1961. 5 - (أحمد الشقيري) يرحب (بالجزائر) في (الأمم المتحدة).

(1) حزب (جبهة التحرير الوطني)

(1) حزب (جبهة التحرير الوطني) وبعد! لم تكن هناك حاجة في البداية - بداية الثورة - لتحديد شكل جبهة التحرير ومضمونها، إذا كانت هذه الجبهة في مرحلة تكونها، ونشوئها، غير أنها ما لبثت أن اكتسبت صلابتها، واشتد عودها عبر سنوات الصراع المرير، وما أن اقتربت الثورة من نهايتها الظافرة، حتى عقد (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) اجتماعا له في (طرابلس - ليبيا) خلال شهر حزيران - جوان -1962، وحدد أسس العمل لبناء جزائر المستقبل، وقد ضم (برنامج تحقيق الثورة الديموقراطية الشعبية) (*) ملحقا خاصا (بالحزب) وذلك في إطار إعادة التنظيم الشامل لكل أجهزة الدولة، وتضمن هذا (الملحق) ما يلي: لتحقيق أهداف ثورة ديموقراطية شعبية لا بد من حزب جماهيري قوي وواعي. فحزب جبهة التحرير الوطني الذي ولد في خضم المعركة،

_ (*) المرجع: ملفات وثائقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 49 - 51.

جمع في صفوفه كل الطاقات الحية للشعب، وتسربت إلى صفوفه عدة اتجاهات تحمل أيديولوجيات ومذاهب مختلفة، ولقد تمت تنظيمات حسب الأولوية، وتبعا لأهميتها في المعركة، فأصبح تحويله إلى حزب سياسي شيء ضروري وحتمي لمسيرتنا الزاحفة. إن الحزب ليس تجمعا، لكنه تنظيم يضم كل الجزائريين الواعين الذين يناضلون لصالح الثورة الديموقراطية الشعبية، فالوحدة الأيديولوجية التي تجمع كل المناصلين قد تم تحقيقها على قاعدة العزيمة الثورية، والمساهمة الواعية الملتزمة بالنهج والبرنامج الذي وضعه الحزب. إن الحزب الذي هو طليعة القوى الثورية في البلاد، يبعد عن صفوفه كل تواجد أيديولوجي مخالف وإن عملية تسجيل المناصلين يجب أن تخضع لشروط محددة ودقيقة، لأن فعالية أي تنظيم تقاس بنوع أعضائه لا بمجموع أفراده. وحسب الأهداف الشعبية للحزب، فإن هذا الأخير يمثل التطلعات العميقة للجماهير، وهذه الصفة يجب أن تتحقق في تركيباته الاجتماعية، فالحزب يتكون في أغلبه من الريفيين والعمال بصفة عامة، والشباب والمثقفين الثوريين. إن هذا الحزب الذي تأسس من الوحدة الأيديولوجية السياسية والتنظيمية للقوي الثورية التي تجمعها صفوفه، يجب أن يجمع حوله وحده كل الطبقات الاجتماعية للشعب من أجل تحقيق أهداف الثورة. الحزب منظمة ديموقراطية يجب على الحزب الذي هو مرآة لحقائق البلد بما فيها

الإمكانيات الحية التي تحتويها، والذي هو أيضا وسيلة التعبير عن المتطلبات الجماهيرية، أن يعمل على قاعدة ديموقراطية؛ ويتطلب ذلك عملا سياسيا متواصلا داخل الحزب، بتعدد اللقاءات بين القاعدة والقمة، وبالأخص اللقاءات الدائمة للمسؤولين مع المنظمات القاعدية، ومن خلالها مع الوطن كله، وعلى أعضاء القيادة - بصفة خاصة - أن يكونوا حاضرين في أي مكان توجد مهام تنتظر التحقيق (التنفيذ) الذي لا يتم إلا بتعبئة الجماهير وبالأخص في الأرياف. إن القيادة لا يمكن أن تفرض الخط السياسي للحزب بمفردها بل تضعه انطلاقا من آراء القاعدة واقتراحاتها؛ فالتعبير الحر عن الآراء، والانتقاد في إطار منظمة الحزب، هما من الحقوق السياسية لكل مناضل، وإن التمتع التام بهذا الحق يسمح بتجنب العمل المشتت الذي يجب أن يعاقب عليه بكل حزم، ويعتمد العمل الديمرقراطي للحزب على المبادىء التالية: • - انتخاب المسؤولين على كافة المستويات. • - تنظيم الاجتماعات لكل منظمات الحزب دوريا وعلى كل المستويات. • - قانون الأغلبية. • - منع معاقبة أي عضو، بدون موافقة المؤسسة التي ينتمي إليها. • - وجوب عرض القضية - في حالة حدوث خلاف على مستوى الهيئة العليا - في ندوة أمام القاعدة. • - الأولوية للهيئة العليا على الدنيا.

علاقات الحزب بالدولة إن الحزب هو الذي يضع الخطوط الكبرى لسياسة الوطن، ويقترح نشاطات الدولة، يضمن تحقيق برنامح الحزب، في إطار الدولة، وبواسطة مساهمة المناضلين في أنظمة الدولة، وبالأخص في الوظائف القيادية، فالحزب يشترط: • - أن يكون رئيس الحكومة وأغلب أعضائها من المناصلين. • - أن يكون رئيس الحكومة عضوا في المكتب السياسي. • - أن تكون أغلبية الأعضاء في المجالس من الحزب. لكن، وحتى لا يتعرض الحزب للابتلاع من طرف الدولة، يجب عليه أن يبقى دائما محافظا على امتيازه. وعلى هذا الأساس، فإن معظم إطارات الحزب، وفي مختلف القيادات، يجب أن يبقوا بعيدين عن مؤسسات الحكومة، والتفرغ لنشاطات الحزب، وبهذا يمكن تجنب خطر خنق الحزب، وتحويله مساعدا للإدارة، وجهازا شكليا، كما أوضحت ذلك بعض التجارب المؤسفة، وعلى وجه الخصوص في أفريقيا. التكوين شرط أساسي لتطوير الحزب إن تكوين الإطارات هو الشرط الأول لتقوية الحزب، وضمان نجاح الثورة، فعلى الحزب أن يحد من النقص الموجود في التكوين السياسي للمناضلين، وهذا لا يمكن أن يتم فقط عن طريق الممارسة اليومية وتبادل الآراء في الوسط الضيق، فالتكوين ورفع المستوى للمناضل عموما، هما من الأشياء الأساسية، وبذلك يتم تلقين النهج السياسي وبرنامج الحزب ونشرهما في الأوساط الجماهيرية.

إن المناضل مطالب بأن يكون على اطلاع بالمشاكل الموجودة في حيه ومقر سكناه (بيئته) وبذلك يساعد الحزب على استمرارية اتصاله بالشعب، ويسمح له تكوينه السياسي بمتابعة ومسايرة التطور السياسي الوطني والدولي، وكذلك فهم معطيات الوسط الذي يعيش فيه وتطورها. إن تثقيف المناضل هو عملية طويلة الأمد، يتم تحقيقها بكيفية مستمرة وبعمق، وإمكانيات الحزب في هذا المجال متعددة منها: الشرح الشفوي عند اللقاءات والاجتماعات، الصحافة، المطبوعات المتنوعة للحزب، ولا سيما تلك التي تهتم بمنهجه السياسي وبرنامجه، ومدارس الإطارات، والتدريبات والاتصالات الدولية. فتكوين المناضل هو شرط لا بد منه، وضرورة لتثقيف الجماهير سياسيا، ويجب توسيع هذا التثقيف وتعميقه بهدف شرح أبعاد الثورة وأهدافها. إننا لا نتمكن من تعبئة الجماهير إذا هي لم تقتنع بكل وضوح بأن مصالحها مرتبطة بتحقيق هذه الأهداف. إن الوحدة الأيديولوجية، والعمل الديموقراطي، وتكوين الإطارات، والتثقيف السياسي للجماهير، كلها من الشروط المسلحة حتى يمكن للحزب أن يمارس دوره القيادي الواضح للشعب، وحتى يمكنه أن يجد في أوساط هذا الشعب الإمكانيات الضرورية لإنجاح سياسته يجب على الحزب أن يعتمد على المنظمات الجماهيرية في سبيل تأدية مهامه. المنظمات الجماهيرية إن تنوع احتياجات الوطن تعبر عنها المنظمات الجماهيرية

والحزب يساعد على إحداث هذه المنظمات، والمطلوب منه أن ينعشها لضمان توجيهها في إطار برنامجه الشامل، وتأثير الحزب في الجماهير يبرهن عنه وجود مناضلين ملتزمين في صفوفه، فالمنظمات الجماهيرية تضم الشباب والطلبة والنساء والنقابات من أجل الدفاع عن مصالحهم الخاصة، وضمان مشاركتهم المنظمة ضمن مهام الثورة، ويجب على النقابات بصفتها منظمات الطبقات الكادحة أن تقدم دعمها في إطار اختصاصها، من أجل وضع وتطبيق السياسة الاقتصادية والاجتماعية للبلد، ويحترم الحزب استقلال النقابات التي ينحصر دورها في الدفاع عن المصالح المادية والثقافية للعمال. وعليه، فالحزب الطلائعي للجماهير الشعبية هو وحده الذي يضمن التنسيق بين القوى الثورية داخل الوطن، والاستثمار بصفة نظامية للإمكانيات والوسائل المتوافرة لدى المجتمع. تطوير جيش التحرير الوطني إن نهاية الحرب، وإنشاء حزب، وتكوين جيش وطني، كلها عوامل تتطلب تطوير جيش التحرير الوطني. وجيش التحرير الوطني، الذي هو منظمة عسكرية لجبهة التحرير الوطني، يتكون من مناضلين، وهذه الصفة النضالية هي القاعدة الأساسية للمجاهدين في جيش التحرير الوطني؛ فالحرب هي التي أوجبت إمداد جيش التحرير الوطني بمناضلين ليجعل منهم مجاهدين، وإن حصول الجزائر على الاستقلال أوجب ثانية عودة بعض أعضاء جيش التحرير الوطني إلى الحياة المدنية، وإمداد الحزب ببعض الإطارات، ويبقى الجزء الآخر ليكون نواة الجيش الوطني، ومهمة هذا الجيش هو الحفاظ على الاستقلال الوطني ووحدته الترابية،

كما يساهم في تعبئة الجماهير لإعادة بناء الوطن، لكن أمام التهديدات الدائمة للامبريالية، ونظرا لقوتها العسكرية، يجب توفير الوسائل للشعب حتى يساهم في الدفاع عن وطنه بحيث يتوجب إنشاء (ميليشيا) شعبية عبر مختلف أنحاء الوطن وتكليف الجيش الوطني بتدريبها، وبهذا يكون الشعب قد زود جيشه بالإمكانيات التي تساعده في مهمته الدفاعية، كما يساعد الجيش مواطنيه في مهمة البناء والتشديد. وبالتالي، يكون الاثنان قد ساهما في إنشاء جيش وطني حقيقي للجزائر المستقلة، وهذه العملية يجب أن تتم بصفة عاجلة وسريعة بفضل عملية تأسيس الجيش وإحداث خلايا للحزب في صفوفه. تعبئة الجماهير إن طابع التخلف الذي يميز الجزائر، وكذلك الخراب الذي خلفته سبع سنوات ونصف من الحرب، والطابع الاستعجالي الذي تفرضه المتطلبات، والمشاكل الوطنية، كلها عوامل تلح باستعجال هذه الوسيلة الرئيسية في يد الجزائريين، وسواء ما يخص مسألة الاصلاح الزراعي ومشاكلها التنظيمية ومشاكل السكن، ومحو الأمية، ومثلها مشاكل الصحة، فإن الدولة لا يمكنها أن تستغني عن مساعدة الحزب لها في إيجاد الحلول لهذه المشاكل. وعليه، فإن جهودنا يجب أن تنصب دوما نحو إحداث وإبقاء روح التعبئة في أوساط الجماهير وهو الطريق المؤدية إلى جعل الجزائر دولة عصرية. فيجب المحافظة على انطلاقة شعبنا الناجمة عن الحرب، وخلق هذا الجو الأخوي، والحماسة، مما يضمن تحقيق المنجزات الكبرى. ***

(2) (جبهة التحرير الوطني) تنظيم وإدارة مدخل

(2) (جبهة التحرير الوطني) تنظيم وإدارة مدخل (*) إن جبهة التحرير الوطني هي المنظمة الوطنية للشعب الجزائري في حرب الاستقلال، وفي نفس الوقت تقوم فيه بالكفاح التحريري، فإن جبهة التحرير الوطني تقود ثورة، وهدفها الرئيسي هو محو النظام الاستعماري وبعث الدولة الجزائرية ذات السيادة وبناء جمهورية ديموقراطية واجتماعية. وفي هذا الكفاح تعتبر جبهة التحرير الوطني مرشد الشعب ومحرك الثورة. ويجب على جبهة التحرير الوطني التي حققت وحدة القوى الحية في الشعب، هذه الوحدة التي بنيت بواسطة المشاركة الواعية لكل الجزائريين أن تسهر على تثبيت هذه الوحدة من أجل القيام بدورها التاريخي، وتحقيق أهداف الثورة. وتقوم جبهة التحرير. بالدرجة الأولى - بالكفاح المسلح، بفضل جيش التحرير الوطني،

_ (*) المرجع: ملفات وثائقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 55 - 58.

وهو يستمد قواه من طاقة الشعب. إن المجاهدين والمجاهدات يقومون بالكفاح الوطني الذي يرمي إلى تخريب قوى العدو. والمجاهدون في صفوف جيش التحرير الوطني الذين يحركهم نفس الإيمان الثوري هم مناضلون في جبهة التحرير الوطني، معارون للعمل المسلح. وهكذا فإن كل جزائري، بالزي العسكري أو بدونه، يشارك في جميع ميادين الكفاح التحريري. إن توطيد الوحدة الوطنية والتماسك التام بين الشعب والقوات المكافحة هي أقوى الضمانات الأكيدة للنصر. إن جبهة التحرير الوطني تكافح لإقامة مجتمع حر في الجزائر قائم على أساس الديموقراطية السياسية والاجتماعية، وهي تناضل لتضمن للشعب الجزائري استغلال خيرات بلاده، والتمتع بها، وإدارتها. إن الجزائر جزء من المغرب العربى، وهي تنتمي للوطن العربي الذي تربطها به أربعة عشر قرنا من التاريخ والثقافة العربية الإسلامية، والكفاح المشترك ضد الاضطهاد الاسعماري. إن كفاح الشعب الجزائري يندرج في الحركة الواسعة التي مكنت شعوب آسيا وأفريقيا من التحرر، وهو يندرج في الحركة التاريخية لتحرير الشعوب المستعمرة، وإن انتصار الشعب الجزائري سيساهم في تدعيم المثل العليا للسلام والحرية في العالم. إن الأشكال التنظيمية لجبهة التحرير الوطني تتبع المهام التي يتطلبها تحرير الوطن وظروف الكفاح، وعلى هذا فإن هذه القوانين الأساسية ليست سوى إطار عام يجب أن تندرج فيه مختلف الهياكل واللوائح الخاصة أو المحلية.

إن تطور الحرب الثورية قد أدى إلى نشأة (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) وهو الهيئة العليا للثورة الجزائرية. إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي يقوم بقيادة حزب التحرير الوطني، هو في الوقت ذاته، حامل سيادة الشعب الجزائري، وبالتالي - صاحب السلطة الدستورية المؤقتة - كما أنه هو الهيئة السياسية العليا التي تسير (جبهة التحرير الوطني). إن هذه القوانين الأساسية التي أقرها المجلس الوطني للثورة الجزائرية، قابلة للتنفيذ فورا، وبما أن نظم كل هيئة سياسية يجب أن تكون نتيجة مداولات مؤتمر وطني، فإن هذه القوانين ليس لها إلا طابع موقت، وبالتالي فإن تطبيقها ينتهي العمل به عندما ينعقد مؤتمر وطني للنظر فيها. ... الفصل الأول مبادىء عامة المادة 1 - إن جبهة التحرير الوطني هي منظمة الشعب الجزائري المحارب الذي يكافح في سبيل تحرير الجزائر من النظام الاستعماري، وإقامة دولة جزائرية مستقلة ذات سيادة. المادة 2 - إن هدف جبهة التحرير الوطني هو بناء جمهورية جزائرية حرة ديموقراطية واجتماعية، لا تكون متناقضة مع المبادىء الإسلامية. المادة 3 - ولتحقيق استقلال الوطن، فإن جبهة التحرير الوطني تبذل جميع وسائل العمل، وخاصة الكفاح المسلح. إن جيش

التحرير الوطني يعد جزءا لا يتجزأ من (جبهة التحرير الوطني) وكل جندي هو مناضل في جبهة التحرير الوطني، وكل مناضل في جبهة التحرير الوطني قابل أن يكون جنديا. المادة 4 - إن جبهة التحرير الوطني ستواصل بعد استقلال الوطن مهمتها التاريخية كقاعدة ومنظم للشعب الجزائري من أجل بناء الديموقراطية الحقيقية والرخاء الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. الفصل الثاني حقوق المناضل وواجباته المادة 5 - يعتبر مناضلا في جبهة التحرير الوطني كل جزائري أو جزائرية يلتزم - وفق هذه القوانين الأساسية - بالكفاح من أجل أهداف جبهة التحرير الوطني، ويؤدي واجبات تحددها الهيئة التي يتبعها. المادة 6 - العضوية في جبهة التحرير الوطني فردية وهي تتم في مستوى منظمات القاعدة، ولا تصبح فعلية إلا بعد موافقة الهيئة التي تعلوها مباشرة في الدرجة. المادة 7 - إن صفة المناضل في جبهة التحرير الوطني تتنافى مع الانتماء لأية منظمة سياسية أخرى. المادة 8 - يجب على كل مناضل في جبهة التحرير الوطني ما يلي: آ) معرفة الاتجاه السياسي لجبهة التحرير الوطني. ب) تطبيق قرارات جبهة التحرير الوطني، وحمل الآخرين على تطبيقها. ج) العمل والسهر الدائم على تماسك وحدة جبهة التحرير

رجوع الأحرار إلى الوطن الحر

الوطني، وبالتالي، وحدة كل قوى الشعب. د) أن يكون مثالا يحتذى في وطنيته وصدقه وأمانته وعمله وإخلاصه وسلوكه. وفي إظهار الاحترام في علاقاته مع المناضلين والمسؤولين، ومع من هم تحت مسؤوليته. د) حفظ إرسال جبهة التحرير الوطني والتمسك باليقظة والحزم. و) الخضوع لنظام جبهة التحرير الوطني المشترك بين كل المناضلين من القاعدة إلى القمة حيث أن احترام النظام هو الشرط الضروري للعمل والفاعلية والتماسك، ويمنع التجريح بكل أشكاله منعا باتا ويعاقب عليه بشدة. ز) حضور الاجتماعات المنتظمة للفروع التي يتبعها، ومطالعة صحف جبهة التحرير الوطني ومنشوراتها، وتطوير معلوماته العامة، واستعداداته التكتيكية. ح) محاربة كل عمل انقسامي أو جهوي. المادة 9 - طبقا للمبادىء الديموقراطية الداخلية التي تسير عليها جبهة التحرير الوطني، فإن لكل مناضل الحق في: أ) عرض آرائه ووجهة نظره والدفاع عنها في اجتماع المنظمات التي ينتمي إليها. ب) يتم تقديم أي تقرير أو مطلب أو وثيقة عن طريق السلم التصاعدي إلى الهيئات العليا، وحتى إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية، واحترام السلم التصاعدي هو واجب حتمي من القاعدة إلى القمة وبالعكس. ج) ضمان الدفاع للمناضل عن نفسه بنفسه أو بواسطة مستشار

أمام المجالس التأديبية والمحاكم المكلفة بالحكم عن نشاطه أو سلوكه. المادة 10 - كل المناضلين متساوون داخل جبهة التحرير الوطني، ويخضع المسؤول مهما تكن درجته في السلم التصاعدي، لمثل ما يخضع له مناضل القاعدة من الواجبات والحقوق. الفصل الثالث مبادىء الإدارة والتنظيم المادة 11 - إن جبهة التحرير الوطني تعمل حسب القواعد المركزية الديموقراطية وتنظيمها الترتيبي السلمي مكيف حسب: • - الدوائر الترابية. • - ميادين نشاط المناضلين. والدوائر الترابية هي: الولاية والمنطقة والناحية والقسمة. المادة 12 - بما أن السلطة الفردية وعبادة الشخصية تتعارض مع مبادىء الثورة، فإن القيادة الجماعية مبدأ أساسي للعمل داخل جبهة التحرير الوطني. إن القيادة الجماعية تعني أنه في داخل المنظمات تتخذ القرارات بعد مناقشة حرة، ويجب أن تبقى هذه المناقشة سرية، والتصويت إجباري على كل الأعضاء. إن فكرة القيادة الجماعية تقتضي بأن تدافع الأقلية عن القرارات التي توافق عليها الأغلبية وتطبقها بإخلاص، وتبلغ القرارات باسم الهيئة الجماعية. المادة 13 - كل مسؤول يتحمل شخصيا تبعة نشاطه الخاص داخل المنظمة التي يتبعها. المادة 14 - طبقا للعمل الجماعي، يعتبر أعضاء كل هيئة

مسؤولين بصفة جماعية عن نشاط هذه المنظمة. المادة 15 - إن تنسيق الأعمال هو عنصر أساسي في سير العمل الجماعي والإدارة الجماعية، ويجب أن يكون التنسيق مضمونا في كل الدرجات. المادة 16 - المراقبة ضرورة حتمية لتنفيذ القرارات المتخذة، ولكل منظمة الحق في مراقبة الفروع التي تتبعها. المادة 17 - يطبق النظام بالتساوي على الجميع، وهو يزداد شدة كلما كانت المسؤولية أكبر. المادة 18 - احترام السلم التصاعدي واجب حتمي. المادة 19 - النقد البناء والنقد الذاتي يجب العمل بهما، ولا يمكن ممارستهما إلا داخل المنظمات، وهما يمثلان عامل إصلاح وفاعلية. المادة 20 - اجتماعات منظمات التحرير الوطني، يجب أن تسجل حتما لمي محاضر جلسات. الفصل الرابع هيئات القيادة أ - المؤتمر الوطني المادة 21 - المؤتمر الوطني هو الهيئة الدستورية العليا لجبهة التحرير الوطني، وهو يجتمع على أرض الوطن حالما تتوافر له شروط التمثيل، ويحدد المجلس الوطني للثورة الجزائرية طريقة تمثيل الأعضاء في المؤتمر ويعين تاريخ ومكان الانعقاد وطريقة إعداده.

المادة 22 - إن المؤتمر الوطني: أ) يصوت على نظامه الداخلي، ويحدد مدة جلساته، وطريقة التصويت، والأغلبية المطلوبة لجعل قراراته نافذة المفعول. ب) يدرس ويصادق على تقارير المجلس الوطني للثورة. ج) يحدد المذهب والسياسة العامة لجبهة التحرير الوطني. د) يصادق على القوانين الأساسية ويعدلها. د) يعين المجلس الوطني للثورة الجزائرية. و) ويتمتع بكل السلطات الخاصة بإصدار القرارات ومراقبة كل منظمات جبهة التحرير الوطني. المادة 23 - إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية، المنبثق عن المؤتمر الوطني، والمسؤول أمامه، يعد الهيئة العليا لجبهة التحرير الوطني في الفترات الواقعة بين دورات المؤتمر المذكور. المادة 24 - تركيب المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وعدد أعضائه، وطرق تعيينهم، كل ذلك من اختصاص المؤتمر الوطني. المادة 25 - إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية: أ) يصوت على نظامه الداخلي، ويحدد شروط عمله. ب) يطبق قرارات المؤتمر. ج) يناقش ويصوت على ميزانية جبهة التحرير الوطني. د) يعين على التساوي من داخله لجان التأديب والمراقبة الإدارية والمالية وأي لجنة أخرى للتحقيق. المادة 26 - يحدد المجلس الوطني للثورة الجزائرية كل أشكال عمله، وطرق تصويته، والتصويت سري في كل المسائل المتعلقة بالأشخاص. المادة 27 - كل عضو في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، له

الحق في عرض أي اقتراح أو أي تقرير يتبع اختصاصه على المجلس، وابلاغ كل الأعضاء بالأمر المعروض هو أمر اجباري. الفصل الخامس ترتيبات انتقالية المادة 28 - إن المجلس الوطني الحالي للثورة الجزائرية هو الهيئة العليا للثورة حتى انعقاد المؤتمر، ويجب أن يعمل ثلثاه على الأقل داخل الوطن. المادة 29 - المجلس الوطني للثورة الجزائرية، له الحق إذا لزم الأمر في توسيع عدد أعضائه أو إتمامهم بموافقة ثلثي أعضائه الحاضرين أو الممثلين. المادة 30 - ان الأشياء المشتراة أو المكتسبة أثناء الثورة قد سلمت حاليا للدولة الجزائرية التي تسهر عليها، والمجلس الوطني للثورة الجزائرية هو وحده الذي له صلاحية اتخاذ أي قرار بشأنها والتصرف فيها في انتظار انعقاد المؤتمر الوطني. المادة 31 - مشاركة كل الأعضاء في المناقشات داخل المجلس الوطني للثورة الجزائرية مطلوبة، والامتناع عن التصويت غير مقبول. المادة 32 - في حالة حدوث مانع مبرر ومقبول من المجلس الوطني للثورة الجزائرية، يستطيع كل عضو أن يوكل أحد زملائه بواسطة توكيل شخصي مكتوب. المادة 33 - المجلس الوطني للثورة الجزائرية له الحق في استدعاء أي مناضل أو مسؤول أو خبير، لسماع أقواله إذا كانت من

شأنها أن تنير مناقشاته. المادة 34 - لا يمكن للمجلس الوطني للثورة الجزائرية أن يتخلى عن سلطاته القانونية مهما كانت الظروف إلا لصالح المؤتمر الوطني. الفصل السادس مكتب المجلس الوطني للثورة الجزائرية المادة 35 - يعين المجلس الوطني للثورة الجزائرية مكتبا مكونا من ثلاثة أعضاء فيما بين دوراته، وهذا المكتب قابل للتجديد في كل دورة. المادة 36 - هذا المكتب مكلف باستدعاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورة عادية، أو في دورة استثنائية بطلب ثلثي أعضاء المجلس. الفصل السابع ترتيبات تأديبية المادة 37 - كل مخالفة للنظام يرتكبها مناضل أو مسؤول، يعاقب عليها من طرف المنظمة التي يتبعها، ويمكن للهيئات الأعلى درجة أن تبحث المخالفة، ولا يمكن الاستثناف في موضوع تأديبي أمام الهيئة الأعلى درجة إلا في حالة الأخطاء الخطيرة. المادة 38 - يحدد النظام العام للتأديب الذي أصدرته اللجنة التي أنشأها المجلس الوطني للثورة الجزائرية الأخطاء والعقوبات وطريقة الحكم عليها.

الفصل الثامن الموارد المالية والمادية لجبهة التحرير الوطني المادة 39 - تتكون الموارد المالية والمادية لجبهة التحرير الوطني من الاشتراكات والاكتتابات والمنح والمساعدات والأملاك المتنقلة أو غير المتنقلة وغيرها من الموارد، وموارد جبهة التحرير الوطني هي ملك وطني. المادة 40 - كل اختلاس لأملاك جبهة التحرير الوطني من طرف المؤتمن عليها، أو المتصرف فيها، يعد جريمة خطيرة تستدعي الملاحقة (التتبعات) القانونية. ***

3 - تصريح (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) 1960

3 - تصريح (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) 1960 اجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورة عادية بطرابلس (ليبيا) من 16 كانون الأول - ديسمبر - 1959 إلى 18 كانون الثاني - يناير - 1960 (*). وبعد استماعه إلى عرض عن نشاطات الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، قام المجلس الوطني للثورة الجزائرية بدراسة معمقة للوضع العسكري، واتخذ إجراءات هامة تتعلق بالاستراتيجية العسكرية، وبتنظيم وتدعيم إمكانيات جيش التحرير الوطني، ودرس وضعية شعبنا وكذلك السياسة المتبعة من طرف الحكومة الفرنسية قصد خنق الكفاح التحريري لشعبنا، واتخذ إجراءات على الصعيد التنظيمي ليجعل كفاحه أكثر فعالية. وعلى صعيد السياسة الخارجية حدد المجلس الوطني للثورة الجزائرية أهدافا تجعل العون والسند للثورة الجزائرية من طرف البلدان المحبة للحرية أكثر تنسيقا، وأكثر جدية.

_ (*) ملفات وثائقية (24) وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 72 - 73 ومجلة (المجاهد) الجزائرية - العدد (59) - 5 - شباط - فيفري - 1960.

وبعد دراسة الهياكل التنظيمية للثورة وملاءمتها مع الظروف الجديدة ضبط المجلس الوطني للثورة الجزائرية، التنظيمات، وأعطى الصفة القانونية للمؤسسات الأولى للدولة الجزائرية، وفي هذا الإطار، قام بإعادة تشكيل وتركيز الجهاز الحكومي، وأوصى بإنشاء لجنة وزارية مشتركة للدفاع الوطني ضمن الحكومة تلحق بها مباشرة قيادة الأركان. ومن جهة أخرى، أكد المجلس الوطني للثورة الجزائرية الأخذ بعين الاعتبار وعن طريق الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 28 أيلول - سبتمبر - 1959 اللجوء إلى تقرير المصير، معتبرا أن هذا اللجوء بالنسبة للشعب الجزائري، هو إحدى وسائل استرجاع استقلاله. وبعد اتخاذ هذا الموقف، كان بالمستطاع أن يتحقق السلام فورا، خصوصا عندما أخدت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المبادرة العملية التي تمثلت في تعيينها يوم (20) تشرين الثاني - نوفمبر - 1959 خمسة من قادتها للشروع في محادثات مع الحكومة الفرنسية. إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي يؤيد هذه المبادرة، يأسف لكون الحكومة الفرنسية قد اختارت - للتملص من المفاوضات - إثارة حادثة اعتقال القادة المعينين، متجاهلة بأن هذا الاعتقال هو نتيجة لعملية قرصنة. وردا على هذا الاقتراح البناء، رفضت الحكومة الفرنسية على ذلك - وتحت ذريعة واهية - الإفادة من فرصة السلام، وفضلت مواصلة الحرب من أجل (تجديد الاحتلال الاستعماري) وذلك هو ما تبرزه كثيرا تصريحات الوزير الأول والقادة العسكريون الفرنسيون.

إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية، يندد بهذا التناقض الجوهري الذي يوجد بين الاعتراف (بمبدأ تقرير المصير) من جهة، ورفض (التفاوض) ومواصلة الحرب من طرف الحكومة الغربية من جهة أخرى، وهي حرب طويلة تستعد لها الحكومة الغربية بتجنيد دفعات جديدة وبتقوية وسائل التدمير لدى جيشها. إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية، في نفس الوقت الذي يندد فيه بهذه السياسة العدوانية، يؤكد من جديد إرادة السلام لدى الشعب الجزائري، الذي لم يضطر إلى اللجوء إلى الكفاح المسلح لإحراز حقه في الحرية والاستقلال، إلا بعد أن استنفذ كل الوسائل السلمية. إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وهو متأكد من أن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، لن تدخر أي جهد للوصول إلى تسوية سلمية، يؤكد مع ذلك إرادة الشعب الجزائري في الكفاح طالما ظلت الحرب مفروضة عليه، وطالما لم يبلغ أهدافه. إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية يوجه تحية إجلال وإكبار حارة إلى الشعب الجزائري الذي يواجه منذ أكثر من خمس سنوات أبشع ألوان الهول والتعذيب، دون أن تلين إرادته الصلبة في الكفاح، وينحني بكل خشوع أمام أرواح مئات الآلاف من الشهداء الذين قدموا دماءهم لتحرير الوطن الجزائري، ويحيي المجاهدين الأبطال والشجعان في صفوف جيش التحرير الوطني الذين انتزعوا ببطولتهم وتضحيتهم إعجاب العالم، كما يحيى الخمسمائة ألف جزائري الذين يخوضون في فرنسا كفاحا ضد العنصرية والاستعمار، ويشجب استعمال التعذيب الذي وصل إلى درجة من

الإتقان، بحيث أصبح موضوع دراسة في المدارس المتخصصة للجيش الفرنسي، ويدين أساليب (التجميع) في المراكز التي أطلق عليها اسم (مراكز الإيواء) لملايين الرجال والنساء والأطفال الذين أصبحوا بذلك عرضة للمجاعة والمرض والموت، ويحيى عشرات الآلاف من الوطنيين المسجونين أو المعتقلين، والمعارضين لنظام اعتقالي كشف عنه النقاب أخيرا للرأي العام العالمي بواسطة تقرير اللجة الدولية للصليب الأحمر كل تلك الوسائل والأساليب تكشف عن الإرداة الامبريالية. إن هذه الدول تستمر في دعمها المادي بتصميم لإبادة الشعب الجزائري، وتلحق العار بأولئك الذين يمارسونها. ويلح المجلس الوطني للثورة الجزائرية على أن مثل هذه الأساليب لم يكن تطويرها إلا بفضل تواطؤ بعض الحكومات الغربية التي ما فتئت تواصل تقديم دعمها للحكومة الفرنسية في سياستها الامبريالية. إن هذه الدول تستمر دعمها المادي والديبلوماسي لسياسة الحرب التي تتهجها فرنسا، وبالخصوص فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تقدم لفرنسا الإمكانات اللازمة لمواصلة الحرب، ولتعمل كل سلطتها لتحشد كل جهاز حلف الأطلسي ضد الشعب الجزائري، وهكذا أصبح (الحلف) أداة في خدمة الاستعمار الفرنسي. إن النداءات المتكررة من طرف الشعب الجزائري وشعوب أفريقيا وآسيا، بقيت بدون صدى، ويضع المجلس الوطني للثورة الجزائرية تلك البلدان الغربية أمام مسؤولياتها بسبب انجرارها وراء فرنسا في سياسة هي ضد مصالحها، إلا أنه في الوقت ذاته يشعر

بالتأثر لما تبديه شعوب أوروبا من العطف على قضيته، وكذلك العديد من الديموقراطيين الفرنسيين الذين سجلوا فهمهم للقضية الجزائرية. إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية يشكر البلدان العربية والأفريقية والآسوية على المساعدة المادية والدعم المستمر الذي ما انفكت تقدمه للشعب الجزائري، ويحيى الارتقاء والوصول القريب إلى الاستقلال من طرف الشعوب الأفريقية، مع إيمانه بأنها ستساهم في تحرير مجموع القارة الأفريقية. إن الهياكل الأبوية للمجموعة الفرنسية لن توقف عملية تصفية الاستعمار التي لا رجعة فيها والتي ستحرر الشعوب، وتعيد أفريقيا للأفارقة، ويدين التهديد الذي شكلته بالنسبة لأفريقيا التجربة النووية القادمة التي ستقوم بها الحكومة الفرنسية في الصحراء. ويولي أهمية خاصة للدعم المعنوي الذي يقدم للقضية الجزائرية من بعض الحكومات وشعوب أمريكا اللاتينية، سليلة التقاليد العريقة للحرية، ويقدر الدعم المستمر من طرف البلدان الاشتراكية لقضية الثورة الجزائرية، ويعبر لها عن شكره الحار، ويشكر في النهاية البلدان التي قبلت استقبال المجاهدين من الجرحى والمهاجرين واللاجئين والطلبة الجزائريين والمحكوم عليهم بالنفي، ويعرب عن امتنانه العميق للمنظمات والشعوب والحكومات التي قدمت مساعدتها للاجئين الجزائريين. إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية، يوجه نداء إلى كافة الشعوب، وإلى جميع الحكومات المناهضة للاستعمار، لتقوي دعمها لكفاح الشعب الجزائري، ولتفرض السلام على الحكومة

الفرنسية. وفي الوقت الذي يتحقق فيه الانفراج الدولي، وعشية مؤتمر القمة، يتعين على هذه الشعوب وهذه الحكومات أن تبقى يقظة من أجل أن يتحقق السلام العالمي في ظل الحرية والاستقلال لجميع شعوب العالم. وبعد أن حيا الحكومة المؤقتة للجمهررية الجزائرية بالتصفيق، ختم المجلس الوطني للثورة الجزائرية اجتماعه بإنشاد النثسيد الوطني للجزائر المستقلة. تونس 19 - كانون الثاني - جانفي - 1960

(4) البيان النهائي (للمجلس الوطني للثورة الجزائرية) 1961

(4) البيان النهائي (للمجلس الوطني للثورة الجزائرية) 1961 لقد اجتمع مجلس الثورة الجزائرية في مدينة طرابلس (ليبيا) من 9 إلى 27 آب - أوت - 1961 (*). يتقدم مجلس الثورة الجزائرية بكل إجلال واحترام إلى الشعب الجزائري، كما ينحني بكل خشوع ترحما على أرواح كل الشهداء الذين سقطوا في سبيل الواجب الوطني، كما يتقدم (المجلس) بتحياته إلى (جيش التحرير الوطني) المظفر، وكذلك لكل المواطنين الموجودين في السجون والمعتقلات والمحتشدات الاستعمارية. وقد درس المجلس الوطني للثورة الجزائرية مختلف التطورات التي حدثت في المجال العسكري والسياسي والديبلوماسي للكفاح الوطني للشعب الجزائري، كما درس المجلس الوطني للثورة الجزائرية آفاق مستقبل الحرب التحريرية للشعب الجزائري وصادق على النصوص المحددة للتوجيه، والأهداف المرجوة من الثورة الجزائرية.

_ (*) المرجع: ملفات وثائقية (24) ص 74 ومجلة (المجاهد) عدد 84 - 29 آب - أوت - 1961.

وعلى المستوى القتالي، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد خصص أشغاله لوسائل القتال للثورة الجزائرية، وتعلقت قرارات المجلس الوطني للثورة الجزائرية على وجه الخصوص بتقوية العمليات العسكرية لجيش التحرير الوطني، وتجنيد الجماهير الجزائرية، ورفع مستواها النضالي وتوجيهها السياسي والاجتماعي، واتخذت إجراءات على المستوى الخارجي من أجل توسيع مجال نشاط الثورة الجزائرية التي التزمت بسياسة عدم البدء، وهي سياسة ترمي الى تجنيد ما أمكن من المساندة المادية والسياسية والديبلوماسية، وفي الوقت ذاته إضعاف السمعة الدولية للاستعمار الفرنسي. لقد حدد المجلس الوطني للثورة الجزائرية المحتوى الديموقراطي والاجتماعي لمعركة الشعب الجزائري، وهو المحتوى المستوحى من خط جبهة التحرير الوطني التي تمثل دليل الأمة، وهي قيم تهدف إلى تشييد مجتمع، وخلق اقتصاد يعمل لصالح الشعب وإنشاء نهضة ثقافية، كما حدد المجلس الوطني للثورة الجزائرية موقف الثورة الجزائرية على مستوى المغرب العربي، وكذلك على الصعيد الأفريقي، والافريقي - الآسوي، وهي المواقف التي تسعى إلى تحرير الشعوب من قبضة الاستعمار وأعوانه ومخلفاته وكل الأنظمة الامبرالية، والثورة الجزائرية تضع كفاحها في صف حركة الوحدة المغربية العربية والأفريقية. ولم يفت المجلس الوطني للثورة الجزائرية أن يذكر أهمية المساعدة المادية والسياسية والديبلوماسية التي قدمتها كل من الدول الاشتراكية والافريقية والآسيوية ودول أمريكا اللاتينية للثورة

وإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد أكد مواقف الثورة الجزائرية تجاه مسألة الحل السلمي على أساس احترام مبدأ حق الشعب الجزائري في الاستقلال وتقرير المصير، ويؤكد بأن هذا الحل ممكن في إطار مبادىء الحقوق الأساسية الضامنة للوحدة الترابية للقطر الجزائري بما في ذلك الصحراء ووحدة الشعب الجزائري، والتعاون القائم على قدم المساواة والمبني على احترام سيادة الشعب الجزائري. يسجل المجلس الوطني للثورة الجزائرية بكل ارتياح التأييد المقدم للشعب الجزائري من طرف أغلبية البلدان الأفريقية، وقد ناقش ودرس إمكانيات تقوية وتدعيم كفاح الشعب الجزائري من أجل الدفاع عن سيادة ووحدة وطنه بما فيها الصحراء، وإحباط الأطماع الخارجية. وقد درس المجلس الوطني للثورة الجزائرية مسائل التنظيم للثورة الجزائرية على ضوء التجربة المكتسبة منذ فاتح نوفمبر (1954) كما تم تقرير تمتين وتنسيق مركزية الأجهزة المسيرة. إن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد عين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وكلفها بتنفيذ هذه القرارات.

(5) أحمد الشقيري يرحب بالجزائر في (الأمم المتحدة)

(5) أحمد الشقيري يرحب بالجزائر في (الأمم المتحدة) تولى (أحمد الشقيري) الدفاع عن (قضية الجزائر) في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، في مرات عديدة، وعندما أعلن استقلال الجزائر، وتوجه وفد الجزائر ليدخل الجمعية منتصرا، وقف (أحمد الشقيري) مرحبا في كلمة رائعة ستبقى محتفظة بقيمتها التاريخية، قدر احتفاظها بأهميتها الأدبية (*). ... ها قد جاءت إليكم الجزائر، إنها الجمهورية الجزائرية، الدولة الأفريقية، المغربية العربية، وقد حققت كامل حريتها وسيادتها واستقلالها. ها قد جاءت إليكم الجزائر، وقد أعلنت عشية استقلالها سياستها القومية، وفي طليعتها الحياد الإيجابي وعدم الانحياز. وها قد جاء إليكم وفد الحكومة الجزائرية، إلى هذه المنظمة العالمية، يحمل إليكم أوراق اعتماده، كتبت في الميدان، وما يزال غبار المعركة يملأ حواشيها.

_ (*) أحمد الشقيري (قصة الثورة الجزائرية) دار العودة - بيروت - ص 160 - 163.

وانني أغتنم هذه الفرصة المهيبة لأعرب عن أصدق التهنئة الأخوية للجزائر، لحكومتها ولشعبها الباسل، إننا معتزون بانتصار الشعب الجزائري الشقيق، فخورون ببطولته، مبتهجون بنضاله المجيد. ولقد أصبحت الجزائر، وبعد زمان طويل، معنا في هذه المنظمة العالمية، دولة حرة كاملة السيادة والاستقلال، ولقد كانت الجزائر إلى عهد قريب، ولثماني سنين خلت، واحدا من البنود التي تدرج على جدول أعمال الأمم المتحدة، وكم وكم جرى النقاش طويلا حول ما إذا كانت القضية الجزائرية يجب أن تدرج على جدول الأعمال، أو تستبعد منه، وكم أفضنا في شرح عدالى هذه القضية، وكم أسهبنا في سرد وقائعها وأحداثها. لقد انتهى كل ذلك الآن، وأسدل الستار إلى الأبد، ولم تعد القضية الجزائرية، بعد اليوم، بندا على جدول الأعمال؛ إن الجزائر، في هذا اليوم، تتبوأ مقعدها الرفيع في المجتمع الدولي بكل جدارة واستحقاق. إن هذا الاحتفال الرائع، بانضمام الجزائر إلى الأمم المتحدة، ليس من المراسم المألوفة ولا من التقاليد المعتادة، ولا هو مجاملة تفرضها الآداب الدولية، إن في حجم هذا الاحتفال من المعاني ما هو أجل وأرفع، إنه يوم نقيم فيه صلاة النصر، لانتصار الحرية والاستقلال، إننا نعتبره يوم الشكر بالنسبة للأمم المتحدة بأسرها تقديرا لنعمة الاستقلال، وعرفانا لفضائل الحرية، وتتويجا للنضال الإنساني من أجل الكرامة والسيادة. دعوني أؤكد لكم أني لا أقول قولي هذا شوقا إلى الفصاحة، أو رغبة في البلاغة، إنه الحق لا مراء فيه، والحقيقة لا ريب فيها،

فلسنا نحن الآن أمام مناسبة نحتفل فيها بدخول عضو آخر إلى الأمم المتحدة، مع جلال هذه المناسبة وروعتها، إنها تتجاوز تكريس دولة جديدة تدخل الأسرة الدولية، إن الذي يوشك أن يدخل هذه المنظمة العالمية، ليس مجرد دولة فحسب، ذلك أن في ركاب هذه الدولة، تدخل طائفة من المبادىء الحية، ومجموعة من العقائد النيرة، وفيض من الذكريات الغالية، وكنز من التضحيات والفداء، بل سيرة مجيدة للكفاح الدامي الذي يخوض الإنسان في سبيل تحقيق ذاته وتقرير مصبره. إن تمثال الحرية ينتصب عاليا على شواطىء القارة الأمريكية، وهكذا تنتصب الجزائر اليوم بيننا شامخة لتعبر عن أقدس المعاني الإنسانية. إن الجزائر بترابها الغالي وشعبها الباسل تقف بيننا لتكون مثلا للبطولة، وتجسدا للشجاعة، ورمزا للثبات والمدارة، وعنوانا رائعا لإرادة الإنسان وتصميمه على العيش بحرية في عالم تسوده الحرية، حرية حقيقية، تحرره من الظلم والاستعباد. وفي هذه اللحظة التاريخية، فإنا لنذكر بعقولنا وقلوبنا الكفاح البطولي لشعب الجزائر. لقد خاض هذا الشعب العظيم معركة مريرة لا يتسع المقام لسرد سيرتها الآن، ولست أريد أن أذكر الألوف وألوف من زهرة الأجيال الجزائرية المتعاقبة الذين قضوا نحبهم في معارك التحرير عبر مائة واثنين وثلاثين عاما من الكفاح ... لا، ولا أريد أن أذكر الألوف من الضحايا الفرنسيين الذين سقطوا في الميدان، سقطوا أبرياء ولكن من أجل قضية باطلة، ولست أريد أن أذكر قصص العناء والشقاء التي تمرس بها شعب بكامله في نضاله من أجل الحرية، بل إنني لا أريد أن أذكر حملات التدمير والإجرام التي قامت بها الجماعات الفرنسية المتطرفة، لتكون الدليل القاطع أن

الاستعمار في النهاية يلقى مصرعه على أيدي القوى الاستعمارية ذاتها. أجل إننا لا نريد أن نذكر هذه المآسي التي تقشعر لهولها الأبدان، فهذه لحظة فرح وابتهاج، مع أن تلك المآسي وذكرياتها الرهيبة تملك علينا مشاعرنا. نحس الآن في أعماق ضميرنا أننا فرحون مبتهجون، إن هذه اللحظة البهيجة التي نعيشها الآن تفرض علينا مشاعر الفرح، وتفرض علينا أن نسلم انفسنا للفرح، وها نحن نجتمع الآن في هذه القاعة لنفرح. ودعوني أيها السادة أقول، من غير إساءة لأحد، أو إهانة لأحد، دعوني أقول من على هذا المنبر العالمي، دون أن أخشى تفنيدا، انه ما من شعب قد تحمل أعباء النضال، بصبر وعزم وإيمان كما تحمل الشعب الجزائري الشجاع، وإنني أقف الآن على هذا المنبر لأحيي في الشعب الجزائري بطولته النادرة وتصميمه الذي لا يقهر. إني أشعر في الوقت ذاته بأنه يجب علي أن أوجه كلمة إلى فرنسا، وإلى الجنرال ديغول بالذات، لقد وجهت إلى فرنسا في الدورات السابقة كلمات قاسية وفي لهجة خشنة، وإني لأعترف أن كلماتي في أوقات معينة كانت بالغة الصرامة والضراوة، وإن تكن الحق كل الحق، لقد كانت الظروف الصارمة الضارية هي التي فرضت تلك العبارات الصارمة الضارية. ولكننا الآن نجد أنفسنا وجها لوجه أمام ظروف أخرى، إن الصداقة مع الجزائر هي صداقة مع الأمة العربية بأسرها، نحن مع الجزائر في السراء والضراء، إن أصدقاء الجزائر هم أصدقاؤنا،

وإن أعداء الجزائر هم أعداؤنا، نحن مع الجزائر في السلم وفي الحرب، في الولاء وفي العداء، في الشدة وفي الرخاء، ولهذا فإن فرنسا تستطيع أن تتأكد أن عهدا جديدا من العلاقات العربية - الإفرنسية ينتظر المصالح المشتركة بين الأمة العربية من جانب، وفرنسا من جانب آخر. وإن مساهمة الرئيس (ديغول) في هذا المجال لا شك أنها مساهمة عظيمة قدر الشخصية العظيمة التي يتمتع بها الرئيس ديغول. لقد كان للرئيس ديغول دورا رفيعا في بناء صرح الحرية، ولا نملك إلا أن نسجل له هذه المكرمة البارزة بكل تقدير وإعجاب، إن الرئيس ديغول قد حرر فرنسا مرتين، وإني أقول مرتين بكل تأكيد، في المرة الأولى استطاع الرئيس ديغول أن يحرر فرنسا من النازية، وفي المرة الثانية كان للرئيس ديغول دور كبير في تحرير فرنسا من الاستعمار - استعمار الجزائر -، ولكنني أرغب أن أؤكد أن المرة الثانية أدعى للخلود من المرة الأولى. إنه الأمر مجيد أن يحرر المرء نفسه من استعباد الغير، ولكن الأروع والأرفع أن يحرر المرء نفسه من أن يستعبد الغير، وانطلاقا من هذه المفاضلة، فإننا نزن عظمة الجنرال ديغول، ونقوم شخصيته الرفيعة. لقد فتحت الجزائر أبواب الأمم المتحدة على مصراعيها، بالدماء والعرق والدموع، بعد أن ظلت طويلا وهي مقفلة في وجهها، وإننا نناشدكم أن تظل الأمم المتحدة مفتحة الأبواب حتى يتيسر لجميع الشعوب أن تدخلها وهي تمارس حريتها وسيادتها واستقلالها، يومئذ تصبح الأمم المتحدة منظمة عالمية حرة، جديرة باسمها وميثاقها تشرين الأول - أكتوبر - 1962

الفهرس

الفهرس

_ الموضوع ................................................ الصفحة

_ الفصل الثاني 1 - تشكيل الحكومة المؤقتة .............................................. 153 2 - أول بيان للحكومة المؤقتة ............................................ 155 3 - الاعتراف بالحكومة المؤقتة ........................................... 163 أ - بيان البلدان التي اعترفت بالدولة الجزائرية وبحكومتها .................. 167 ب - الجزائر والأمم المتحدة ............................................... 169 ج - الجزائر والندوات الدولية الكبرى ....................................... 173 4 - الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ونقض معاهدة الأطلسي .......... 170 قراءات 1 - حزب (جبهة التحرير الوطني) ........................................ 197 2 - (جبهة التحرير الوطني) تنظيم وإدارة .................................. 204 3 - تصريح (المجلس الوطني للثورة الجزائرية) 1960 ..................... 216 4 - البيان النهائي (للمجلس الوطني للثورة الجزائرية) 1961 ............... 222 5 - (أحمد الشقيري) يرحب (بالجزائر) في (الأمم المتحدة) .................. 220 الفهرست .................................................................. 23

كلمة أخيرة للناشر

كلمة أخيرة للناشر حمدا لله، فبهذا الكتاب تنتهي سلسلة (جهاد شعب الجزائر) التي كان إقدامنا على نشرها مغامرة كبيرة من نواح عدة: 1 - فهي تتناول في قسمها الأخير تاريخا معاصرا، كثير من أبطاله ما زالوا أحياء، بعضهم في السلطة، وبعضهم خارجها .. ولا يخفى ما في الحقيقة من مرارة أحيانا. ومع علمنا المسبق بالمحاذير أقدمنا لأن نظرتنا للجزائر والجزائريين أكبر مما يظن الجزائريون أنفسهم. 2 - إن المؤلف فرد، والناشر مؤسسة خاصة، ومشاريع كهذه تقوم بها هيئات ومؤسسات، لصعوبة البحث. والمدة اللازمة لانجازه، وكلفته المادية. وغير ذلك مما هو معروف. 3 - إنها تتناول المغرب العربي، والمؤلف مشرقي، والناشر دار مشرقية، فالبحث صعب على المؤلف، والتسويق صعب عل الناشر. 4 - تظهر وجه فرنسا الاستعماري القبيح، وفرنسا اليوم تحاول تحسين صورقها، وهي أكثر الدول الغربية مساندة للمواقف العربية. ولا حيلة لنا في ذلك فالخطأ يبقى خطأ، وعلى المجرم أن يصحح الخطأ ويدفع الثمن. وهناك صعوبات أخرى لا مجال لذكرها .. ومع ذلك أقدمنا، يدفعنا الى ذلك ما بيناه في مقدمتنا لأول كتاب في هذه السلسلة. ومع فخرنا بما أنجزناه، إننا ندرك أن الكمال لله وحده، ولذلك نهيب بكل من يطلع على هذه السلسلة ويكتشف فيها نقصا أو تقصيرا أو خطأ أن يكتب إلينا ونحن على استعداد لتدارك النقص وتصحيح الخطأ ونشر النقد المخلص. كذلك نرحب بأية وثائق أو صور تزيد البحث إيضاحا ودقة. معتذرين عن كل تقصير أو خطأ. آملين بتلافيه في الطبعات القادمة والله المستعان، وعليه الاتكال. احمد راتب عرموش

§1/1