سلسلة القمم لأهل الهمم

عائض القرني

مفتاح النجاح

مفتاح النجاح إن لمن أراد النجاح منطلقات لابد أن يبدأ بها، ويسير عليها، ويستصحبها في طريقه للنجاح، وإن من هذه المنطلقات أن يكون الخير نيته في كل عمل، وأن يستحضر نفع الآخرين، ويكف عن الشر، والجد هو الطريق الأعظم إلى المجد، ولابد لمن أراد النجاح أن يتدبر في حال الناجحين من قبله لينهج نهجهم ويقتبس من سيرتهم؛ لكي تكون له كالشمعة تضيء له الطريق.

منطلقات الناجحين

منطلقات الناجحين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذه سلسلة "القمم لأهل الهمم: المحاضرة الأولى: (مفتاح النجاح) هذه المحاضرة لكل صاحب همة، ورب عزيمة، ورفيق طموح يريد النجاح في هذه الدنيا وفي الآخرة، فيكون مقبولاً عند الله وعند خلقه، راضياً عن ربه، وربه راضٍ عنه، محبوباً عند أهله وذويه وأصحابه، لحياته معنى، وله قضية، ولديه مبدأ، فأستعين بالله وأقول: فصل: منطلقات الناجحين: الأعمال بالنيات فانو الخير في كل عمل، واستحضر نفع الآخرين والكف عن الشر، ولا تضق ذرعاً بالمحن؛ فإنها تصقل الرجال، وتقدح العقل، وتشعل الهمم. العمل والجد هو الطريق الأعظم إلى المجد، وهو بلسم لأدوائك، وعلاجٌ لأمراضك، بل هو كنزك. قيمة كل امرئٍ ما يحسن، والعاطل صفر، والفاشل ممقوت، والمفسق رخيص. ركز اهتمامك على عملٍ واحد، وانغمس فيه، واحترق به، واعشقه لتكون مبدعاً. ابدأ بالأهم فالمهم، وإياك والشتات، وتوزيع الجهد على عدة أعمالٍ؛ فإنه حيرةٌ وعجز. النظام طريق النجاح، ووضع كل شيءٍ في موضعه مطلبٌ للناجحين، أما الفوضى فهي صفةٌ مذمومة. الناجحون يحافظون على مقتنياتهم وأمتعتهم، وأشيائهم، فلا يبذرون، ولا يفسدون. لا يفوح العطر حتى يُسحق، ولا يُضَّوُع العود حتى يُحرق، وكذلك الشدائد لك هي خيرٌ ونعمة. الناجح لا يغلب هواه عقله، ولا عجزه صبره، ولا تستخفه الإغراءات، ولا تشغله التوافه. إياك والضجر والملل، فإن الضجور لا يؤدي حقاً، والملول لا يرى حرمة، وعليك بالصبر والثبات. من ثبت نبت، ومن جد وجد، ومن زرع حصد، ومن صبر ظفر، ومن عَزّ بَزّ. النملة تكرر الصعود ألف مرة، والنحلة تذهب كرةً بعد كرة، والذئب من أجل طعامه هجر المسرة. لما هوى السيف قطع، ولما اشتعل البرق سطع، ولما تواضع الدر رفع، ولما جرى الماء نفع. الكسول مخذول، والهائم نائم، والفارغ بطال، وصاحب الأماني مفلس. من لم يكن له في بدايته احتراق، لم يكن له في نهايته إشراق، ومن جد في شبابه ساد في شيخوخته. تذكر أن في القرآن: "سارعوا، وسابقوا، وجاهدوا، وصابروا، ورابطوا" وفي السنة: {احرص على ما ينفعك. } و {بادروا بالأعمال. } و {نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ}.

نماذج من الناجحين

نماذج من الناجحين أبو بكر الصديق ثاني اثنين، أنفق أمواله، يدعى من أبواب الجنة الثمانية، وهو قامع الردة. عمر بن الخطاب يفر منه الشيطان، ووافقه الوحي أكثر من مرة. عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة، ويوقف بئر رومة، ويختم القرآن في كل ركعة. علي بن أبي طالب يبارز في بدر، ويفتح حصن خيبر، ويقتل مرحباً، ويذبح عمرو بن ود يوم الخندق. خالد بن الوليد يخوض مائة غزوة، ويقتل يوم اليرموك خمسة آلافٍ بيده، ويكسر تسعة أسياف. ضُرب طلحة في جسمه حتى شلت يده، وقتل حنظلة جنباً فغسلته الملائكة، واهتز عرش الله لموت سعد. طعن عبد الله بن عمرو والد جابر أكثر من ثمانين طعنة، فكلمه الله بلا ترجمان. جمع أبي بن كعب القرآن وجوده، فذكره الله في الملأ الأعلى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه سورة البينة. تصدق ابن عوف بألف جمل بحمولتها على الفقراء، وتصدق أبو طلحة بمزرعته في سبيل الله. حفظ أبو هريرة غالب السنة، ووزع ليله -ثلاثاً- للصلاة والمذاكرة والنوم. مشى أحمد بن حنبل ثلاثين ألف ميل في طلب الحديث، وحفظ ألف ألف أثر، وترك المسند أربعين ألفاً. سافر جابر بن عبد الله في طلب حديثٍ واحد إلى مصر شهراً، وسافر ابن المسيب ثلاثة أيامٍ في مسألة. روى ابن حبان الحديث عن ألفي شيخ، وصنف الصحيح فصار أعجوبة، وتبحر في الفنون حتى صار نجم زمانه. كرر المزني رسالة الشافعي خمسمائة مرة، وكرر عالم أندلسي صحيح البخاري سبع مائة مرة. أعاد أبو إسحاق الشيرازي درسه مائة مرة، وأعاد كل قياسٍ ألف مرة، وألف مائة مجلد. صنف ابن عقيل الفنون ثمانمائة مجلد، وكان يأكل الكعك على الخبز ليوفر قراءة خمسين آية. كتب ابن تيمية في اليوم أربعة كراريس، تفرغ الواحدة منها في أسبوع، ويؤلف كتاباً كاملاً في جلسةٍ واحدة، وكتب عنه أكثر من ألف مؤلف. كتب ابن جرير مائة ألف صفحة، وصنف ابن الجوزي ألف مصنف، وحفظ ابن الأنباري أربعمائة تفسير. بقي عطاء بن أبي رباح ينام في المسجد ثلاثين سنة في طلب العلم، وما فاتت تكبيرة الإحرام الأعمش ستين سنة. ذكر النووي أن كرز بن وبرة كان يختم القرآن أربعاً في الليل وأربعاً في النهار، وختم ابن إدريس القرآن في بيته أربعة آلاف مرة، وكان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة، والبخاري ثلاثين مرة، وكان أحمد يصلي في اليوم ثلاثمائة ركعة. كان أبو هريرة يسبح اثني عشر ألف تسبيحة، وكان خالد بن معدان يسبح مائة ألف تسبيحه، وعاصرنا من كان يقرأ قل هو الله أحد ألف مرة كل يوم، ومن كان يختم القرآن كل يوم ختمة، ومن كان يسبح خمسة عشر ألف تسبيحة في اليوم. ألف سيبويه أعظم كتابٍ في النحو وهو في الثلاثين من عمره، طرفة بن العبد من أصحاب المعلقات قتل وعمره ستٌ وعشرون، وقاد محمد بن القاسم الجيوش وعمره سبع عشرة سنة. روى الحسن الحديث عن جده صلى الله عليه وسلم وعمره خمس سنوات، وعقل محمود بن الربيع مجة الرسول عليه الصلاة والسلام في وجهه وعمره خمس سنوات، وحفظ ابن عباس الحديث وعمره ثمان سنوات، وكان ابن تيمية يفتي وعمره ثماني عشرة سنة. ألف ابن حجر الفتح ومقدمته في اثنين وثلاثين سنة، وكتاب الغريب لـ أبي عبيدة في أربعين سنة، وكتاب الأغاني للأصفهاني في خمسين سنة. قتل جعفر البرمكي الوزير الخطير الجواد وعمره سبعٌ وثلاثون سنة، وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد أربعون سنة، وابن المقفع الكاتب اللامع سبعٌ وثلاثون سنة. حج مسروق فما نام إلا ساجداً، وصام الأسود بن يزيد حتى اخضر جسمه، وبكى يزيد بن هارون حتى ذهبت عيناه، ومشى أبو موسى الأشعري حتى تشققت قدماه. قال البخاري: ما كذبت كذبةً منذ احتلمت، وقال الشافعي: ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً. ما عال من اقتصد، وما فشل من اجتهد، ومن تفقه شبابه تعلقت السيادة بأهدابه. مالك هو عمك وخالك، وفلوسك هي ضروسك، ودراهمك هي مراهمك، فلا تسرف ولا تبخل. إن الماء الراكد يأسن، وإن البلبل المحبوس يموت، وإن الليث المقيد يذل. ألذ طعامٍ بعد جوع، وأعذب ماءٍ بعد ظمأ، وأجمل نجاحٍ بعد تضحية. إن الكتب تلقن الحكمة ولكنها لا تخرج حكماء، والسيف يقتل لكنه بكف الشجاع، السباحة لا تتعلم في الدفاتر ولكن في الماء، والرياضة لا تتلقى من الشاشة لكن في الميدان. الدنيا تؤخذ غلاباً، وسوق المجد مناهبة، والحياة صراع، والعلياء تُنال بالعزائم، من عنده همةٌ متوقدة، ونفسٌ متوثبة، ونشاطٌ مغوار، وصبرٌ دائم فهو الفريد. قيل لـ أبي مسلم الخرساني: ما لك لا تنام؟ قال: همةٌ عارمة، وعزيمةٌ ماضية، ونفس لا تقبل الضيم، أسرع الفرس فركبه الملوك، وتبلد الحمار فركبه العبد، وافترس الأسد فملك الغابة. لا يرهب السيف حتى يسل، ولا يُخاف الرعد حتى يجلجل، ولا يهرب من السيل حتى يحتدم. أجرى أديسون مكتشف الكهرباء عشرة آلاف تجربة على بطارية كلها أخطأت فواصل حتى نجح، وأقام انشتاين عمره كله في النظرية النسبية، وجمع من براية أقلام ابن الجوزي ما أدفئ به ماء غسله عند الموت، وجمع الغبار من عمامة صلاح الدين فجعل لبنةً تحت رأسه في القبر، وترك حمل الطعام للأيتام في الظلام في جسم علي بن الحسين آثاراً وندوباً. يقول تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم:39 - 41] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة:120] {الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني} أجمل السواعد سواعد العمال، وأحسن الرءوس رءوس المحلقين، وأهنأ النعاس نعاس المتهجدين، وأطهر الدماء دماء الشهداء. الذي يقهر نفسه أعظم ممن يفتح مدينة، والذي يقاوم هواه أجل مِن مَن يحارب جيشاً. صام أبو طلحة أربعين سنة سرداً، وحج ابن المسيب ستين حجة، وأفتى الإمام أحمد في ستين ألف مسألة بالدليل، خدم أبو شجاع الملوك ستين سنة، فكفر عنها بخدمة ستين سنة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام. فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ طاف ابن بطوطة الدنيا في ثلاثين سنة، ولقي في رحلته الألاقي حتى جمع الغرائب والعجائب وصار حديث الدهر، اعتزل ابن خلدون في قلعة فكتب تاريخه وحرره وحبره فصار آية للسائلين، كتب ابن عساكر الحافظ تاريخ دمشق في ستين سنة، فما ترك عالماً ولا أديباً ولا شاعراً ولا شاردةً ولا واردة عن دمشق إلا سجلها. اطلب ولا تضجر من مطلبٍ فآفة الطالب أن يضجرا أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا وإنما رجل الدنيا وواحدها من لا يعول في الدنيا على رجل ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفرٌ ولا إخفاقُ كان ابن تيمية إذا صعبت عليه مسألة استغفر الله ألف مرة، وقال تلاميذ الخطيب البغدادي له وهم في سفر: حدثنا، فقال: نبدأ بالقرآن فختمه كله ثم حدثهم، قيل لـ أبي الطاهر السُلَفي: من أين لك هذا العلم؟! قال: من جلوسي في بيتي مع الكتب سبعين سنة. لا يصلح النفس ما دامت مدبرةً إلا التنقل من حالٍ إلى حالِ

نصائح للناجحين

نصائح للناجحين عليك بالمشي والرياضة والنظافة، فإن الناجحين أقوياء أصحاء {بارك الله لأمتي في بكورها} فإذا أردت عملاً فعليك بالصباح فإنه أسعد الأوقات. لا تقف فإن الملائكة تكتب، والعمر ينصرم، والموت قادم، وكل نفسٍ يخرج لا يعود. من زرع (سوف) أنبتت له (لعلَّ) وأطلعت له (بعسى) وأثمرت (بليت) لها طعم الندامة ومذاق الحسرة. إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وبادر الفرصة، واحذر البغتة، وإياك والتأجيل والتردد، وإذا عزمت فتوكل على الله. لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل الإبداع أن تجيد في تخصصك، وما يناسب مواهبك فـ {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148]. لا يضير الناجحين كلام الساقطين فإنه علوٌ ورفعة، كما قال أبو تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ طويت أتاح لها لسان حسودِ النقد الظالم قوةٌ للناجح، ودعاية مجانية، وإعلانٌ محترمٌ له، وتنويه بفضله: وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كاملُ الناجح يقوم بمشاريع يعجز عنها الخيال، وتظهر عظماء الرجال، وتثير الدهشة والغرابة والتعجب في الأجيال. الناجح لا يعيش على هامش الأحداث، ولا يكون صفراً بلا قيمة ولا زيادة في حاشية. من كانت همته في شهواته وطلب ملذاته كثر سقطه وبان خلله، وظهر عيبه وعوره. من خدم المحابر خدمته المنابر، ومن أدمن النظر في الدفاتر احترمته الأكابر. من خلق الناجح التفاؤل، وعدم اليأس، والقدرة على تلافي الأخطاء، والخروج من الأزمات، وتحويل الخسائر إلى أرباح. القطرة مع القطرة نهر، والدرهم مع الدرهم مال، والورقة مع الورقة كتاب، والساعة مع الساعة عمر. أمس مات، واليوم في السياق، وغداً لم يولد؛ فاغتنم لحظتك الراهنة؛ فإنها غنيمة باردة. المؤمن لا يخلو من عقلٍ يفكر، ونظرٍ يعبر، ولسانٍ يذكر، وقلبٍ يشكر، وجسدٍ على العمل يصبر. في الدقيقة الواحدة تسبح مائة تسبيحة، وتقرأ صفحةً من المصحف، وتطالع ثلاث صفحات من كتاب، وتكتب رسالة، وتتلو سورة الإخلاص ثلاثاً. كرر النيسابوري صحيح مسلم مائة مرة، وأعاد ابن سيناء كتاب الفارابي أربعين مرة، وقرأ بعضهم المغني عشر مرات. احترقت كتب ابن حزم كلها فأعادها من حفظه، وكان قتادة يحفظ حمل بعير، وقال الشعبي: [[ما كتبت سوداء في بيضاء]]. وقام سفيان الثوري ليلةً كاملة يصلي حتى أصبح، وتذاكر ابن المبارك الحديث هو وأحد العلماء وقوفاً حتى الفجر، وبقي محمد الأمين الشنقيطي يبحث في مسألة يوماً وليلة. كتب يحيى بن معين لفظ صلى الله عليه وسلم ألف ألف مرة -أي: مليون- وكان ربما كتب الحديث خمسين مرة، وقال الشعبي: [[أقل ما أحفظ الشعر، ولئن شئتم لأنشدنكم شهراً كاملاً]]. الناجح يحترمه أطفال مدينته، والفاشل يسخر منه كل أحد حتى ولو اعتذر لهم ألف مرة. من بكر في طلب العلم بكور الغراب، وصبر صبر الحمار، وعزم عزيمة الليث، واختلس الفرصة اختلاس الذئب، حصل علماً كثيراً. الكسلان محروم، والعاطل نادم، وماء الحركة البركة، ومن صال وجال غلب الرجال. الطريق شاق، ناح فيه نوح، وذبح فيه يحيى، وقتل فيه عمر، وأهرق فيه دم عثمان، واغتيل علي، وجلدت فيه ظهور الأئمة. نسخ ابن دريد كتاب الجمهرة أربع مرات، ونقح البخاري صحيحه في ست عشرة سنة، يغتسل عند كل حديثٍ ويصلي ركعتين، أجر أحمد بن حنبل نفسه في طلب العلم، وباع أبو حنيفة بعض سَعف بيته في العلم، وجاع سفيان ثلاثة أيامٍ في طلب الحديث. كان النووي يطالع ويكتب، ويحفظ ويصلي ويسبح، فإذا نعس نام قليلاً وهو جالس، وكان للشوكاني اثني عشر درساً في اليوم، وكان ابن سيناء يكتب في اليوم خمساً وعشرين صفحة. كان إدريس النبي عليه الصلاة والسلام خياطاً، وداود عليه السلام حداداً، وأجر موسى عليه الصلاة والسلام نفسه في الرعي، وكان ابن المسيب يبيع الزيت، وأبو حنيفة يبيع البز. البدار البدار، قبل تقضي الأعمال، وكتابة الآثار، فلا بقاء مع الليل والنهار، أعوذ بالله من خسة الهمم، وسفاهة العزائم، وسخف المقاصد، وثخانة الطبع، وبلادة النفوس. بحث علي عن الشهادة في بدر فقالا: في أحد، فهبَّ إلى هناك فقالوا: ربما كانت في الخندق، فسعى إليها قالوا: التمسها في خيبر، فلما أتاها قالوا: تأخر الموعد، قال: ما أحسن القتلة في المسجد. يحفظ العلم للعمل به، وتعليمه، والتأليف فيه، ومن حفظه وكرره وذاكره وذاكر به ودرسه ثبت في صدره. لا بد للناجح أن يكون قوي الملاحظة، دائم التركيز، حافظاً للوقت، مديماً للتدبر، طموحاً إلى المعالي. قال ابن عباس: [[ذللت طالباً فعززت مطلوباً]] وقال عمر: [[تفقهوا قبل أن تسودوا]] وقال مجاهد: [[لا يطلب العلم مستحٍ ولا مستكبر]].

مثبطات النجاح

مثبطات النجاح مثبطات النجاح: هوىً متبع، ونفسٌ أمارة، ودنيا مؤثرة، وهمة باردة، وطول أمل مع تسويف. الناجح يأنف من الرزايا، ولا يتحمل الدنايا، ووقت الراحة له عمل، ووقت العمل راحة. الفراغ مفسدة، والمباحات مشغلة، وأكثر الناس مثبطون، والولد مجبنةٌ محزنةٌ مبخلةٌ، سبعون سنة قضاها الإمام أحمد يتقوت من أجرة دكان، وسبعون سنة قضاها الخليل بن أحمد على الخبز والزيت، وسبعون سنة قضاها سفيان الثوري على خبز الشعير. الناجح يرضى عنه ربه بالإيمان، وأهله بالألفة، والناس بالأخلاق، والمجتمع بالنفع. تولى أبو بكر سنتين فأقام الخلافة، وهزم المرتدين، وتولى عمر بن عبد العزيز سنتين فنشر العدل وأزال المظالم، وجدد الدين، وتعلم ابن أبي جعد العلم سنتين فصار مفتي المدينة. سجن السرخسي فألف المبسوط في ثلاثين مجلداً، وأبعد ابن الأثير فصنف جامع الأصول والنهاية ثلاثين مجلداً، وسجن ابن تيمية فأخرج الفتاوى ثلاثين مجلداً. كان ابن الجوزي يكتب خواطره، وكان كتاب الفتح بن خاقان في جيبه ليقرأ كل وقت، وكان الخطيب البغدادي يطالع وهو يمشي، قال عمر بن عبد العزيز: [[إن لي نفساً تواقة، تاقت للإمارة فتوليتها، ثم تاقت إلى الخلافة فتوليتها، وهي الآن تتوق للجنة]]. كان أبو منصور الثعالبي يخيط جلود الثعالب فترقت به همته إلى أن صار أديب الدنيا، وكان الفراء يشتغل بالفراء ثم صار نابغة النحو، وابن الزيات كان يبيع الزيت ثم تولى الوزارة. وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ وقال آخر: همةٌ تنطح الثريا وحزمٌ نبويٌ يزعزع الأجبالَ وقال: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتالُ وقال الشاعر: همتي همة الملوك ونفسي نفس حرٍ ترى المذلة كفرا وقال آخر: تريدين إدراك المعالي رخيصةً ولا بد دون الشهد من إبر النحلِ وقال: إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ فلا تقنع بما دون النجومِ وقال: ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمامِ وقال: ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محببُ وقال آخر: لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابرِ وقال المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ وقال ابن الرومي: لولا لطائف صنع الله ما نبتت تلك المكارم في لحمٍ ولا عصبِ

فصل: همة تنطح الثريا

فصل: همة تنطح الثريا قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران:133] وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

الرسول وأصحابه

الرسول وأصحابه يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل الخير احرص على ما ينفعك واستعن بالله} وقال: {الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني} وقال: {اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك} وقال لأحد أصحابه: {أعني على نفسك بكثرة السجود} وقال لآخر: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} وكان يقول: {اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال}. وقام من الليل حتى تفطرت قدماه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وربما صلى أكثر الليل، وصبر على الإيذاء والسب والشتم والطرد والتشريد من الأوطان، والجراح في المعركة والجوع، وجاهد أعداء الله من مشركين، ويهود، ونصارى، ومنافقين، وكان أعظم الناس جهاداً، وأحسنهم خلقاً، وأجلهم إيماناً، وأسدهم رأياً، وأنبلهم كرماً، وأكرمهم نفساً، وأطيبهم عشرة، وأشجعهم قلباً، وأسخاهم يداً، وأكبرهم همة، وأمضاهم عزيمة، وأكثرهم صبراً صلى الله عليه وسلم. وصبر معه أصحابه أَجلَّ الصبر، وجاهدوا أحسن الجهاد، فوقفوا مواقف تشيب لها الرءوس، فضحوا بأموالهم وأنفسهم، وقدموا الغالي والرخيص في سبيل الله، ولقوا الألاقي في مرضاته، فنكل بهم من أعدائهم، فمنهم من قتل، ومنهم جرح، ومنهم من قطعت أعضاؤه ومزقت أطرافه، وأكلوا من الجوع ورق الشجر، وسحب بعضهم على الرمضاء وحبس البعض، هذا وهم صامدون مجاهدون مناضلون مكافحون، يستعذبون من أجل دينهم العذاب، ويستسهلون الصعاب، ويتجرعون الغُصف. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق ماله في سبيل الله، ويهب عمره كله لمرضاة الله، فهو المصلي الصائم المنفق المجاهد المضياف الجواد البار الصادق الذاكر العابد القانت الأواب، حتى إنه ليدعى من أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة؛ لكثرة فضائله وإحسانه، وهو رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وصاحبه في الغار، ما تخلف عن غزوة، ولا تأخر عن معركة، بل هو السَّباق الأول إلى الإسلام، والهجرة والجهاد والبر والتقوى، وما استحق كلمة الصديق ولا تاج القبول ولا وسام البر إلا بعد جهادٍ عظيم، وخلقٍ مستقيم، وفضلٍ عميم. وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغ الغاية في الزهد والورع مع ما سبق له من المقامات الجليلة في الإيمان، والتضحية والهجرة، والجهاد، والإنفاق مع خشيته لربه، ومراقبة لمولاه، وعدلٍ في رعيته، وضبط لشئون المسلمين، وإتقانٍ لعمله في الخلافة مع الصدق في السر والعلن، والإنصاف في الغضب والرضا، مع ما كان عليه من الفقه في الدين، والاجتهاد في معرفة الوحي، واستنباط الحكم من النصوص. وهذا عثمان بن عفان ذي النورين رضي الله عنه، الذي سارع إلى الاستجابة لله ولرسوله، فأسلم قديماً ولزم الرسول صلى الله عليه وسلم مع العسر واليسر، فصدق مع الله جهاده وهجرته وإنفاقه، فجهز جيش العسرة، واشترى بئر رومة، وأوقفها على المسلمين، ومهر في القرآن، وجوده، حتى كان يتهجد به أكثر الليل، مع الحياء من الله، والسعي في مرضاته، مع صدق اللهجة، وكرم النفس، وطهر الضمير، وحمد السيرة. وهذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين أبو الحسن رضي الله عنه، كان سيد الشجعان، ورائد الفرسان، حضر المعارك، وجالد بسيفه، وقتل الأقران، فكان ميمون النقيبة، مبارك السيرة، طيب السريرة، مع ما كان عليه من علمٍ غزير، وفقهٍ ثاقب، وفصاحةٍ مشرقة، وشجاعةٍ متناهية، وزهدٍ عظيم، وإقدامٍ وتضحية، وهمةٍ ومضاء، وعزيمةٍ وإباء، حتى استحق هذه المنزلة يجدارةٍ وتأهل للمجد بحق. وهذا أبي بن كعب سيد القراء، جمع القرآن وأتقنه وحفظه، وضبط فعلم، وعلَّم وصدق ونصح حتى صار آيةً في هذا الفن ومرجعاً في هذا الباب. وهذا الزبير بن العوام أصيب في كل شبرٍ من جسمه في سبيل الله، فاستحق رفقة الرسول عليه والسلام، والمنزلة العالية، ورضوان الله. وسعد بن أبي وقاص أحد العشرة، وخال الرسول صلى الله عليه وسلم، صدق الله فكان مجاب الدعوة، ثابت القلب، فنصره الله على أهل فارس، ورفع به رأس كل مسلم، وكبت به أعداء الله، فكان الأسد في براثنه. وعبد الرحمن بن عوف أحد العشرة تصدق بقافلةٍ في سبيل الله، بجمالها، وحمولتها طلباً لمرضاة الله، وأنفق في كل عمل راشدٍ مبرور. وهذا ابن عباس حبر الأمة، وبحر الشريعة، وترجمان القرآن، جدَّ في طلب العلم، وحرص غاية الحرص، وبلغ النهاية في فهم الوحي، وتصدر لتعليم الناس، فكان عجباً في فهمه وحفظه وبيانه وكرمه وسخائه، حتى صار إماماً للناس لما صبر وجاهد وعلم وتعلم. وهذا معاذ بن جبل إمام العلماء، طلب العلم من معلم الخير صلى الله عليه وسلم، وعمل بما علمه الله، فكان مثال العالم العامل المنيب المخبت الزاهد العابد، ودعا إلى الله، وعلم عباده، وجاهد في سبيله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، مع فقهٍ عميق، وخلقٍ كريم، ورفقٍ بالناس، وسخاءٍ بذات يده. وأبو هريرة سيد الحفاظ، جمع الحديث حفظاً، وبلغه الأمة صدقاً، فكان الحافظ الأمين حقاً، قسم ليله للعبادة وتذكر الحديث والنوم، واشتغل بتعليم الناس مع الفتيا والوعظ والجهاد والتعليم، وما ذاك إلا لسمو همته، ومضاء عزيمته، وقوة نفسه. وهذا خالد بن الوليد: سيف الله المسلول، كتب اسمه في سجل الخالدين بحروفٍ من النور، وخلد ذكره في ديوان الفاتحين بأسطر من ضياء، نصر الإسلام بسيفه، وخاض غمار المعارك، يعرض نفسه للأخطار، ويقدم روحه في راحته مستهيناً بالمصاعب، حتى صار مضرب المثل في الفداء والتضحية، وسمو القدر، وجلالة المنزلة، وارتفاع المحل.

علماء التابعين

علماء التابعين 4000485 سعيد بن المسيب: سيد التابعين، ما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة، وكان يمضي ثلاثة أيام مسافراً في طلب الحديث الواحد، وغالب جلوسه في المسجد، وكان مرجع الناس في الفتيا وتعبير الرؤيا، مع قيام الليل، والقوة في ذات الله، والغيرة على محارم الله، والصدق والزهد والإنابة والسخاء والهيبة والعلم الراسخ. عطاء بن أبي رباح المولى الأسود: رفعه الله بالعلم، ومكث بالحرم ثلاثين سنة يطلب العلم، ثم صار مفتي الناس، مع تقشفه وإخلاصه وورعه، وتبحره وإتقانه في الرواية، وفقهه في الدراية، فصار إماماً للناس. والحسن البصري المولى: جاهد في طلب العلم ومعرفة السنة، والصبر على الاشتغال بالأثر، مع ما رزقه من فصاحةٍ ورجاحةٍ وملاحةٍ وسماحة؛ فصار كلامه دواءً للقلوب، ووعظه حياةً للنفوس، وهو في ذلك واحد الناس زهداً وتواضعاً وإنابةً وخشيةً وورعاً واستقامة، حتى رفعه الله في المحل الأسمى وبوأه الله المكان الأعلى. ومحمد بن شهاب الزهري: حافظ السنة، وإمام الناس في الحديث، طلب العلم مع الفقر والحاجة، وصبر وثابر، وارتحل إلى العلماء، واعتنى بالحديث، فصار أحفظ أهل زمانه، مع فقهٍ ودراية، وسخاءٍ حاتمي، وكرمٍ سارت به الركبان، فاستحق أن يكون اسمه في ديوان السنة مرقوماً، وفي الخلود منقوشاً. وعامر الشعبي: الإمام الجامع للعلوم، كان قديم السلم، وافر الحلم، كثير العلم، تبحر في السنة، وبرع في الأدب، مع ذهنٍ وقاد، وقلبٍ ذكي، وفهمٍ ثاقب، حتى صار رسول الخليفة عبد الملك إلى ملك الروم، لعلمه وفهمه وبديهته وفصاحته ونبله وقوة شخصيته، وهو الذي يقول: [[ما كتبت سوداء في بيضاء، وما استودعت شيئاً فخانني]] أي ما نسي علماً. أبو حنيفة: الفقيه الكبير، اجتهد في طلب العلم ورزقه الله فهماً وذهناً خصباً، صار الناس في الفقه عيالاً عليه، فقعد واستنبط، وصدف عن الدنيا، وأعرض عن المناصب، وفَرَقَ من القضاء، واكتفى ببيع البز، مع عبادةٍ وزهدٍ وخشوعٍ وصدقٍ وذكاءٍ منقطع النظير. مالك بن أنس: إمام دار الهجرة، صاحب الموطأ الذي فاق الناس عقلاً، وأنفق عمره في طلب الحديث، حتى شهد له سبعون عالماً أنه أهلٌ للفتيا، فصارت تضرب إليه أكباد الإبل، وتشد إليه الرحال، حباه الله بجلالة ووقارٍ مع سمتٍ وجمال مظهرٍ وسلامة مخبر. الشافعي: إمام الآفاق، الذي قعَّد القواعد، وأصَّل الأصول، سخر جسمه ووقته في طلب العلم، فحلَّ وارتحل، وجال وصال، حتى ضرب بعلمه الأمثال، وصار كالشمس للبلدان، وكالعافية للأبدان، مع صبره وشكره وزهده وأدبه وفصاحته وشعره ونبوغه وعلو همته، ورجاحة عقله، وسعة معارفه. أحمد بن حنبل: إمام السنة، وقامع البدعة، وبطل المحنة، طاف الأقطار، وقطع القفار في جمع الآثار، مع الجوع الشديد، والتعب المضني، والفقر المتقع، والزهد الظاهر، ثم ابتلاه الله بالمحنة، فحبس وجلد فما أجاب، فرفعه الله لعلمه وصبره وصدقه، حتى أصبح ذكره في الخالدين، وصار إماماً للناس أجمعين. عمر بن عبد العزيز: الخليفة الزاهد العابد المجاهد، مجدد القرن الأول، عزف عن الدنيا، وأعرض عن الشهوات، وأقبل على العلم والعبادة، والزهد والعدل، فأقام الله به السنة، وقمع به البدعة، وأنار به طريق الإصلاح، وجدد به معالم الفلاح، فهو إمام هدى، وعالم ملة، ورباني أمة. سفيان الثوري: زاهد زمانه، وعالم دهره، زهد في الفاني، وأقبل على الباقي، وحفظ الحديث، وجَوَّد الزَاد، أفتى وعلم، وأمر ونهى ووعظ، ونصح بنية صادقة، وعزيمة ماضية، وهو مع ذلك يحفظ أنفاسه، ويربي جلاسه، حتى أتاه اليقين. عبد الله بن المبارك: الذي جمع الله له المحاسن، فهو العالم العامل الزاهد العابد المجاهد المحدث الحافظ الغني المنفق، الأديب الفصيح، سليم الصدر، طيب الذكر، عظيم القدر، منشرح الصدر، دأب في الخير، وصبر على التحصيل، وداوم على الفضائل، حتى جعله الله إماماً في الناس يفوق الوصف. الإمام البخاري: صاحب الصحيح فتح الله عليه بالعلم، فوصل الليل بالنهار في طلب الآثار، حتى صار إمام الأقطار، فضرب بحفظه المثل، مع المعرفة التامة، والفهم الدقيق، يُزين ذلك خلقٌ كريم، وزهدٌ مستقيم، ثم ترك ميراثاً مباركاً من العلم في كتابه الصحيح، الذي هو أجل كتابٍ بعد القرآن، فجزاه الله عن الأمة أفضل الجزاء، وأنزله الفردوس الأعلى. وقس على هذا الإمام مسلم صاحب الصحيح، ومصنفي الصحاح والسنن، والمسانيد، والمعاجم من المحدثين الأخيار أهل الهمم الكبار. وانظر لـ سيبويه: إمام النحو، الذي طاف البوادي، وزاحم العلماء، ثم ألف كتابه المسمى بـ الكتاب، فصار أعظم كتابٍ في النحو، وصار من بعده من النحاة عالةً عليه، فاستحق الثناء، واستوجب الشكر، ونزل منزلةً ساميةً عند أهل الإسلام، لفرط ذكائه وبراعته، ومئات النحاة تزينت بهم الكتب، وأشرقت بهم المجالس، ولولا الإطالة لأشرت لكل واحدٍ منهم، وإنما أكتفي بالأعيان، ومن له ذكرٌ وأثرٌ وتفردٌ وتميزٌ ولموعٌ وسطوعٌ وإبداعٌ. وهذا محمد بن جرير الطبري: صاحب التفسير، جمع الفنون، وصنف التصانيف، وحاز قصب السبق في تفسير كتاب الله، حتى صار شيخ المفسرين، وصار كتابه أعظم كتابٍ في هذا الفن، فتداوله الملوك، وتباصرت به الأقطار، ونهلت من فيضه الأجيال، فهو مرجعٌ لكل مفسر، ومعتمد كل عالمٍ لكتاب الله تعالى. وهذا ابن حبان صاحب الصحيح، المحدث الأعجوبة، الذكي العبقري اللوذعي الألمعي، طاف البلدان، وهجر الأوطان، وبرع في هذا الشأن، حتى روى عن ألفين من الشيوخ، ومن شاء فلينظر إلى كتابه الصحيح، وكتبه الأخرى، فإن فيها من التبحر والدقة والبراعة ما يفوق الوصف.

الأئمة الكبار

الأئمة الكبار ومن الأئمة الكبار أبو إسحاق الشيرازي، الفقيه الشافعي، صاحب المؤلفات الذائعة الشائعة الماتعة النافعة، كان يكرر درسه -كما سلف- مراتٍ كثيرة، يقول فيه الشاعر: تراه من الذكاء نحيل جسمٍ عليه من توقده دليلُ إذا كان الفتى ضخم المعالي فليس يضيره الجسم النحيلُ ومن الفلاسفة الأذكياء وأهل المنطق والأطباء، ابن سيناء الرئيس الرئيس؛ فإنه برع في فنونه، وسهر الليالي في مذهبه، وجدَّ وحصَّل، وثابر وواصل حتى صار يُضرب بهمته المثل، وكان يكتب كل يومٍ كراسة، وصار أعجوبة الأعاجيب في تخصصه، وأحد أذكياء العالم على فسادٍ في مذهبه. والفارابي الفيلسوف كان بِزي جندي، انصب وانكب على كتب اليونان حتى رسخ فيها، وأدمن النظر في ضوابطها، حتى أتقنها وصار من أكبر الفلاسفة لصبره وهمته وجلده فيما توجه له من مذهب، على رغم تحفظنا من مذهبه. والفخر الرازي صاحب التفسير جمع فأوعى، وصنف وألف، ودرس ووعظ، وخطب وكتب، وصار عين زمانه، وقريع دهريه، في بهجة من الأبهة والفخامة الدنيوية، والثراء الفاحش، والله الموعد. ومن العلماء الربانيين الإمام النووي، مات في سن الأربعين، لكنه ترك علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وحسبك بـ رياض الصالحين، هذا الإمام وصل ليله بالنهار، وصام وقام، وسطع ولمع، وجمع العلم، وهجر الكرى، وجد في السُرى، حتى اعتزل الزواج ليتفرغ للعلم فأتى فيه بالعجب العجاب. وشيخ الإسلام، وعلم الأعلام ابن تيمية، سيد العلماء، وكبير الفقهاء، جد في الطلب، فحاز الرتب، حقق، ودقق، ودرس، وخطب، وأفلح حتى صار مجدد قرنه، ومصلح زمانه، وترك من التأليف ما يفوق الوصف، براعةً وحسناً وأصالةً وعمقاً، فهو حقيقةً مضرب المثل للعالم الرباني، العامل بعلمه، زهداً وخشيةً وإنابةً وجهاداً وصدقاً وتواضعاً وكرماً وشجاعةً وإمامة، وما حصل له هذا الفضل إلا بفتح الله وكرمه، بعد صبرٍ وجلد، وسهرٍ وتعب، ومشقةٍ ونصب؛ لأنه كان ذا همةٍ عارمة لا تقبل الأدنى، وعزيمة صارمة لا ترضى بالدون، فبز علماء عصره، وصار المرجعية الكبرى للفتيا، فهو قصة سارت بها الركبان، وأعجوبةً قل أن يرى مثلها الزمان. وتلميذه ابن القيم: صاحب التصنيف المبارك البديع، الذي استفاد منه الموافق والمخالف، مع حسن لفظ، وبراعة إنشاء، وقوة حجة، وصحة برهان، ورسوخ علم، وعمق فهم، وكان في نفسه ذاكراً، شاكراً، صابراً، صواماً، قواماً، عابداً، زاهداً. وابن رجب الحافظ المجتهد، كتبه خير شاهدٍ على علمه وفهمه وتبحره، وله جهدٌ مباركٌ مشكور في شرح الأحاديث، وإخراج كنوز الآثار، بل لا أعلم عالماً له من البراعة في الشرح مثل ما لهذا العالم الكبير. ومنهم حافظ الدنيا في زمانه ابن حجر، صاحب فتح الباري الذي شرح فيه صحيح البخاري، فقد دبجه في خمس وعشرين سنة، وصنف المقدمة في سبع سنوات، فأتى بما يذهل العقول، ويدهش الألباب، مع عشراتٍ من المجلدات غير ذلك. وكان دائم التحصيل والتأليف والتدريس، لا يكل، ولا يمل، ولا يفتر، ولا يسأم، ولا يضجر، حتى أصبح خاتمة الحفاظ، وسيد الجهابذة، وشيخ المحدثين، ومن شاء أن يعرف هذا الرجل فلينظر في الفتح، فلا هجرة بعد الفتح. ومنهم السيوطي جامع الفنون، وحائز قصب السبق في التأليف والتصنيف، وقد اعتزل في الأربعين، وترك تراثاً ضخماً من المؤلفات النافعة الذائعة. وقبلهم ابن الجوزي واعظ الدنيا، أكبر مؤلفٍ في كثرة ما أُلف، فقد ألف قرابة ألف مصنف ما بين كتابٍ ورسالة، وشغل وقته بطلب العلم، والحفظ، والتفقه، والتصنيف، والتدريس، والوعظ، حتى أصبح حديث الركبان، وقصة الزمن، وأعجوبة الدهر، فصاحةً ونباهةً وعلواً وخطراً. ومن أهل الهمم القوية، والعزائم المرضية، السلطان نور الدين محمود زنكي، الإمام العادل، الخاشع العابد الزاهد المجاهد الصوام القوام الذاكر الشاكر، الصابر الشهيد الفريد، صاحب الرأي السديد، والنهج الرشيد، عدل في الرعية، وحكم بالسوية، وهجر الدنيا الدنية، ورزقه الله الشهادة بعد عمرٍ حافلٍ بالصالحات والخيرات. ومنهم صلاح الدين الكردي الأيوبي فاتح القدس، وهازم الصليب، وناصر الملة، ومقيم العدل، مع تقوى وديانة، وخشية وأمانة، رفعه الله بالإخلاص، ونصره بالصدق، وفتح عليه في الجهاد، دوخ الأعداء، ونشر الملة السمحاء، وجد في طلب العلياء، ومثلهم مضى القادة من الفاتحين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، بجمعهم الهمة والصبر مع صدق العزيمة، وقوة الإرادة، وسمو القدر.

أئمة هذا الزمان

أئمة هذا الزمان ومنهم مجدد الإسلام في هذا الزمان، الإمام محمد بن عبد الوهاب، الذي جدد الله به دينه، ونصر به شرعه، وأعلى به كلمته، وهو الذي دعا إلى التوحيد، وهزم الأوثان، وأزال الشركيات، وصحح المعتقد، وجاهد في الله حق جهاده بعزمٍ أمضى من السيف، وهمةٍ أقوى من الدهر، وصبرٍ عظيم، وإخلاصٍ وتضحية، حتى رفع الله محله، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وكبت أعداءه، فاستحق كلمة الثناء، ومنزلة الإمامة، ورتبة الربانية. وممن عاصرنا ورأينا وجالسنا وعرفنا سماحة الإمام العالم العامل الشيخ عبد العزيز بن باز، جامع الميميات الثلاث ميم العلم وميم الحلم وميم الكرم، كان إماماً في السنة على هدي السلف، محدثاً فقيهاً عالماً مربياً، رفيقاً بالناس، رحيماً متواضعاً صبوراً، يقوم بأعمالٍ يعجز عنها نفرٌ من الرجال، فكان يعلم ويفتي، ويراجع الكتب، ويرسل الرسائل للآفاق، ويشفع، ويضيف، وينصح، ويعظ، ويحاضر، ويحضر المؤتمرات، مع زهدٍ وخلقٍ وسماحةٍ وذكرٍ وتهجدٍ وصدقات، وإصلاحٍ بين الناس، وأمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكر، وصبرٍ على أذى، وشفقة على المساكين، ورحمة بالفقراء، وحبٍ لطلبة العلم. ولا ننسى الإمام الفقيه العلامة الزاهد محمد بن عثيمين، كان فقيهاً ذكياً ألمعياً عالماً، علم وأفتى، ودرس بصبرٍ وحكمةٍ ورفق، وأتقن عدة فنون شرعية، وواصل التعليم والإفتاء حتى طبق اسمه الآفاق، مع صدوفٍ عن المناصب، وزهدٍ في المراتب، وإعراضٍ عن الدنيا، وترك طلاباً نجباء، وكتباً هي قرة عيون العلماء، صحةً في المعتقد، وقوةً في الحجة، وجمالاً في الأسلوب. وكذلك محدث العصر، وعلامة السنة في زمانه، محمد بن ناصر الدين الألباني، صاحب المصنفات المشهورة، والرسائل النافعة، قضى عمره كله ليله ونهاره في خدمة السنة، تصحيحاً وتضعيفاً وجرحاً وتعديلاً، وكان على هدي السلف، مع اهتمام بشئون المسلمين وقضاياهم في مشارق الأرض ومغاربها. ومحمد الأمين الشنقيطي، الإمام الحافظ الأصولي المفسر النظار اللغوي، حافظ وقته، كان يلقي الدرس ارتجالاً فيأتي بالعجب العجاب، لجودة ذهنه، وصفاء خاطره، وقوة حفظه، حتى انبهر منه العلماء، وصار مضرب المثل للأذكياء.

كل ميسر لما خلق الله

كل ميسر لما خلق الله وبعد هذا فعليك أن تتعرف على مواهبك التي منحك الله، فتوظفها في بابها، سواء علماً أو عملاً أو مهنة، فإن لكلٍ مذهباً ومشرباً صنواناً وغير صنوان {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] والناس أجناس، فحقٌ على العاقل أن يمهر فيما يجيد، وكلٌ ميسرٌ لما خلق له، ومن يلاحظ حياة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن كل واحدٍ منهم أجاد في بابه. فـ أبو بكر ضرب في كل غنيمةٍ بسهم، ولكنه برز في الخلافة والقيادة مع العدل والزهد والإخلاص والصدق. وعمر قوي في ذات الله، شديد على أعدائه، عادلٌ في حكمه. وعثمان رحيمٌ شفوقٌ ذو تهجدٍ وصدقات وبرٍ وحياءٍ ورقة. وعلي شجاعٌ صارمٌ خطيبٌ نجيبٌ فقيه. وأبي سيد القراء، ومعاذ إمام العلماء، وخالد رمز الأبطال، وابن عباس ترجمان القرآن، وحسان مَقدم الشعراء، وزيد بن ثابت كبير علماء الفرائض، وأبو هريرة شيخ الرواة، وهكذا. فاكتسب معارفك بنفسك، بمهارتك، بتجاربك، بمزاولاتك للأعمال، بمباشرتك للحياة. إن الكتب تلقن الحكمة لكنها لا تخرج الحكماء، وإن الذين امتازوا في العلوم والفنون لم يتعلموا في المدارس فحسب، بل تعلموا في مدرسة الحياة ومصنع الرجال. إن كتاباً في فن السباحة يعطي مفاتيح في هذا الباب، لكنه لا ينجِّي الجاهل بالسباحة من الغرق، إن أفضل طريقةٍ لمن أراد السباحة أن يهبط إلى النهر ليتعلم فيه مباشرة، ومثل الخطيب البارع فإنه لم يمهر ويتميز لأنه قرأ مجلدات في فن الخطابة، بل لأنه صعد المنابر، وأخطأ وأصاب، وفشل ونجح، وجرب وتدرب، حتى بلغ الغاية في هذه الموهبة. فإذا أردت البراعة في أي علمٍ، أو عملٍ، أو موهبة، فاغمس نفسك فيه، وانصهر في معاناته، واحترق بحبه والشغف به إلى درجة العشق: وللناس فيما يعشقون مذاهبُ، قال الشاعر: إنما رجل الدنيا وواحدها من لا يعول في الدنيا على رجلِ فلا تظن أن النجاح سوف يقدم لك هبة، على طبقٍ من ذهب، فإن أقبح نصرٍ هو ما كان عن هبة. وأقبح النصر نصر الأغبياء بلا فهمٍ سوى فهم كم باعوا وكم كسبوا لكن النجاح الغالي هو ما حصل بجهدٍ وعرقٍ ومشقةٍ ودموعٍ ودماءٍ وسهرٍ وتعبٍ ونصبٍ وتضحيةٍ وفداء، كما قال أبو الطيب: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتالُ إن الناس لا يرحمون الفاشل، وإن الساقط مغضوبٌ عليه، وكما قيل: إذا وقع الجمل كثرت سكاكينه، لأن الناس لا يحترمون إلا كل ناجح متفوق، فتراهم ينظرون إليك خاشعةً أبصارهم إذا كنت عالماً أو نابهاً أو غنياً أو مرموقاً أو مصلحاً، أما البليد الغبي الفاشل الساقط فلا تلمحه العيون؛ لأنها لا تراه أصلاً: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ فعليك بطريق التعب والمشقة حتى تصل {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] وإياك ثم إياك والكسل -والتواني- والتسويف والأماني فإنها رءوس أموال المفاليس، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، إن الله يحب المجاهدين، ويكره العجزة الفاشلين. وإن ألذ خبزٍ هو ما حصل بعد عرق الجبين، وإن أهنأ نومٍ ما كان بعد تعب، وإن أحسن شبع ما سبقه جوع، وإن الورد لا يفوح حتى يعرك، وإن العود لا يزكو حتى يحترق: لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف نشر عرف العودِ إن الماء الراكد يأسن، ويتغير طعمه، لكن إذا جرى وسرى طاب وعذب، وإن الكلب الجاهل حرامٌ صيده، لكن صيد الكلب المدرب حلال؛ لأنه أتى بعد جهدٍ ودربةٍ ومعرفة، يقول الشاعر: وميز الله حتى في البهائم ما منها يُعَلَّمُ عن باغٍ ومغتشمِ فالبدار البدار قبل تقضي الأعمار، فلا راحة مع الليل والنهار. ولا تقل الصبا فيه امتهال وفكر كم صبيٍ قد دفنتا وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه ومن والاه.

مفتاح الهداية

مفتاح الهداية قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً). هذه صفحات مشرقة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تبين أخلاقه الخاصة والعامة، يتجلى فيها: الصدق، والصبر، والجود، والشجاعة، والزهد، والتواضع، والحلم، والرحمة، وذكر الله، والدعوة إلى الله، والطموح إلى المعالي.

قبس من سيرة الرسول العطرة

قبس من سيرة الرسول العطرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن والاه. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهذه محاضرة: (مفتاح الهداية) لا أستطيع أن ألزم الحياد في كتابتي عن أحب إنسان إلى قلبي -عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم- لأنني لا أكتب عن خليفةٍ من الخلفاء له جنودٌ وبنود، ولديه حشود، وعنده قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ولكني أكتب عن الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ولن ألزم الحياد؛ لأنني لا أتكلم عن سلطانٍ من السلاطين، قهر الناس بسيفه وسوطه، ولكنني أتكلم عن معصوم شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره. ولن ألزم الحياد؛ لأني لا أتكلم عن شاعرٍ هدار، أو خطيبٍ ثرثار، أو متكلمٍ نوار، أو فيلسوفٍ هائم، أو روائي متخيل، أو كاتبٍ متصنع، أو تاجرٍ منعم، بل أتحدث عن نبيٍ خاتم، نزل عليه الوحي، وهبط عليه جبريل، ووصل سدرة المنتهى، له شفاعة كبرى، ومنزلةٌ عظمى، وحوضٌ مورود، ومقامٌ محمود، ولواءٌ معقود، فكيف ألزم الحياد إذاً، أتريد أن أحبس عواطفي، وأن أقيد ميولي، وأن أربط على نبضات قلبي وأنا أكتب عن أحب إنسانٍ إلى قلبي، وأغلى رجلٍ وأعز مخلوقٍ على نفسي، إن هذا لشيءٌ عجاب. أتريد مني أن أكفكف دموعي، وأنا أخط سيرته، وأن أخمد لهيب روحي وأنا أسطر أخباره، وأنْ أجمد خلجات فؤادي وأنا أدبج ذكرياته! لن أستطيع هذا، كلا وألف كلا؛ لأنني أكتب عن أسوةٍ وإمامٍ معي بهداه في كل شاردة وواردة، أصلي فأذكره؛ لأنه يقول: {صلوا كما رأيتموني أصلي} أحج فأذكره؛ لأنه يقول: {خذوا عني مناسككم} في كل طرفة عينٍ أذكره؛ لأنه يقول: {من رغب عن سنتي فليس مني} في كل لحظة من حياتي أذكره؛ لأن الله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]. إنني أكتب عن أغلى الرجال، وأجل الناس، وأفضل البشر، وأزكى العالمين، مرجعي في ذلك دفتر الحب المحفوظ في قلبي، ومصدري في ذلك ديوان الإعجاب المخطوط في ذاكرتي، فكأنني أكتب بأعصاب جسمي وشرايين قلبي، وكأن مزاجي دمعي ودمي. إن كان أحببت بعد الله مثلك في بدوٍ وحضر وفي عرب وفي عجمِ فلا اشتفى ناظري من منظرٍ حسنٍ ولا تفوه بالقول السديد فمي

محمد صلى الله عليه وسلم صادقا

محمدٌ صلى الله عليه وسلم صادقاً فهو أصدق من تكلم، كلامه حقٌ وصدقٌ وعدل، لم يعرف الكذب في حياته جاداً أو مازحاً، بل حرم الكذب وذم أهله ونهى عنه، وقال: {إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً} وأخبر أن المؤمن قد يبخل، وقد يجبن، لكنه لا يكذب أبداً، وحذر من الكذب في المزاح لإضحاك القوم، فعاش عليه الصلاة والسلام والصدق حبيبه وصاحبه، ويكفيه صدقاً صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن الله، بعلم الغيب، وائتمنه الله على الرسالة، فأداها للأمة كاملة تامة، لم ينقص حرفاً، ولم يزد حرفاً، وبلغ الأمانة عن ربه بأتم البلاغ، فكل قوله وعمله وحاله مبنيٌ على الصدق، فهو صادقٌ في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجده وهزله، وبيانه وحكمه، صادقٌ مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة. صادقٌ في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحله وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، وفتاويه وقصصه، وقوله ونقله، وروايته ودرايته، بل معصومٌ من الله أن يكذب، فالله مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين، قد أقام لسانه، وسدد لفظه، وأصلح منطقه، وقَوَّم حديثه، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرفٌ واحد غير صادقٍ فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقاً في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول: {ما كان لنبيٍ أن تكون له خائنة الأعين} وذلك لما قال له أصحابه: ألا أشرت إلينا بعينك في قتل الأسير، بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه فكلامه وسنته، ورضاه وغضبه، ومخرجه ومدخله، وضحكه وبكاؤه ويقظته ومنامه صدق {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21]. فهو صلى الله عليه وسلم صادقٌ مع ربه، ونفسه، وأهله، والناس، وأعدائه، فلو كان الصدق رجلاً؛ لكان محمداً صلى الله عليه وسلم، وهل يُتعلم الصدق إلا منه بأبي هو وأمي، وهل ينقل الصدق إلا عنه بنفسه هو، فهو الصادق الأمين في الجاهلية قبل الإسلام والرسالة، فكيف حاله بالله بعد الوحي والهداية ونزول جبريل عليه، ونبوته، وإكرام الله له بالاصطفاء والاجتباء والاختيار!

محمد صلى الله عليه وسلم صابرا

محمدٌ صلى الله عليه وسلم صابراً لا يعلم أحد مر به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مر به صلى الله عليه وسلم وهو صابرٌ محتسب {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] صبر على اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة، والفتك بالأصحاب، وتشريد الأتباع، وتكالب الأعداء، وتحزب الخصوم، واجتماع المحاربين، وصلف المعرضين، وكبر الجبارين، وجهل الأعراب، وجفاء البادية، ومكر اليهود، وعتو النصارى، وخبث المنافقين، وضراوة المحاربين. وصبر على تجهم القريب، وتكالب البعيد، وصولة الباطل، وطغيان المكذبين. صبر عن الدنيا بزينتها، وزخرفها، وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، وصبر على إغراء الولاية، وبريق المنصب، وشهوة الرئاسة، فصدف عن ذلك كله طلباً لمرضاة ربه. فهو صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب في كل شأنٍ من شئون حياته، فالصبر درعه، وترسه، وصاحبه، وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه؛ تذكر: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] وكلما بلغ به الحال أَشُدَّه والأمر أَضيقه؛ تذكر: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ} [يوسف:18] وكلما راعه هول العدو، وأقض مضجعه تخطيط الكفار؛ تذكر: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]. وصبره صلى الله عليه وسلم: صبر الواثق بنصر الله، المطمئن إلى وعد الله، الراكن إلى مولاه، المحتسب الثواب من ربه جل في علاه. وصبره صلى الله عليه وسلم: صبر من علم أن الله سوف ينصره لا محالة، وأن العاقبة له، وأن الله معه، وأن الله حسبه وكافيه. يصبر صلى الله عليه وسلم على الكلمة النابية فلا تهزه، وعلى اللفظة الجارحة فلا تزعجه، وعلى الإيذاء المتعمد فلا ينال منه، مات عمه فصبر ماتت زوجته فصبر قتل حمزة فصبر أُبعد عن مكة فصبر توفي ابنه فصبر رُميت زوجته فصبر كُذِّب فصبر، قالوا: شاعر كاهن ساحر مجنون مفترٍ؛ فصبر، أخرجوه فصبر، آذوه فصبر، شتموه فصبر، سبوه فصبر، حاربوه فصبر، سجنوه فصبر، وهل يُتعلم الصبر إلا منه، وهل يُقتدى بأحدٍ في الصبر إلا به، فهو مضرب المثل في سعة الصدر، وجليل الصبر، وعظيم التحمل، وثبات القلب، وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم.

محمد صلى الله عليه وسلم جوادا

محمدٌ صلى الله عليه وسلم جواداً فهو أكرم من خلق الله، وأجود البرية نفساً ويداً، فكفه غمامة بالخير، ويده غيثٌ بالجود، بل هو أسرع بالخير من الريح المرسلة، لا يعرف لا؛ إلا في التشهد. ما قال (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعمُ يعطي صلى الله عليه وسلم عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنه بعث بمكارم الأخلاق، فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أعطى غنماً بين جبلين، وأعطى كل رئيسٍ من العرب مائة ناقة، وسأله سائلٌ ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه، وكان لا يرد طالب حاجة، قد وسع الناس بره، طعامه مبذول، وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجهه بسام. تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله ينفق مع العدم، ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم ويوزعها في ساعة، لا يأخذ منها شيئاً، مائدته صلى الله عليه وسلم معروضةٌ لكل قادم، وبيته قِبلةٌ لكل وافد، يضيف، وينفق، ويعطي، ويؤثر، ويصل القريب بما عنده، ويواسي المحتاج بما يملك، ويقدم الغريب على نفسه، فكان صلى الله عليه وسلم آية في الجود والكرم، حتى لا يُقارن به أجواد العرب، كـ حاتم وابن جدعان؛ لأنه يعطي عطاء من لا يطلب الخلف إلا من الله. ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه ومولاه، فهو أندى العالمين كفاً، وأسخاهم يداً، وأكرمهم محتذى، قد غمر أصحابه وأحبابه -بل حتى أعداءه- ببره وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله، أكل اليهود على مائدته، جلس الأعراب على طعامه، حفَّ المنافقون بسفرته، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تبرم بضيف، أو تضجر بسائل، أو تضايق بطالب، بل جّرَّ أعرابي بردته حتى أثَّر في عنقه، وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك ولا أمك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وضحك وأعطاه. وجاءته كنوزٌ من الذهب والفضة فأنفقها في مجلس واحد، ولم يدخر منها درهماً ولا ديناراً، ولا قطعة، فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل، وكان يأمر بالإنفاق والكرم والبذل، ويدعو للجود والسخاء، ويذم البخل والإمساك فيقول: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه} وقال: {كل امرئٍ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يفصل بين الناس} وقال: {ما نقصت صدقةٌ من مال}.

محمد صلى الله عليه وسلم شجاعا

محمد صلى الله عليه وسلم شجاعاً هذا مما تناقلته الأخبار، وسار مسير الشمس برابعة النهار، فكان أثبت الناس قلباً، وكان كالطود لا يتزعزع ولا يتذبذب، لا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزه الحوادث والملمات، فوض أمره لربه، وتوكل على مولاه، وأناب إلى خالقه، ورضي بحكمه، واكتفى بنصره، ووثق بوعده، فكان عليه الصلاة والسلام يخوض المعارك بنفسه، ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرض روحه للمنايا، ويقدم نفسه للموت غير هائبٍ ولا خائف، ولم يفر من معركة قط، وما تراجع خطوةً واحدة ساعة يحمى الوطيس، وتقوم الحرب على ساق، وتصرع السيوف، وتنتشق الرماح، وتهوي الرءوس، وتدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون به أحياناً وهو صامدٌ مجاهد، لا يكترث بالعدو ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف، ويشجع المقاتلين، ويتقدم الكتائب. وقد فر الناس يوم حنين وما ثبت إلا هو وستة من أصحابه، ونزل عليه قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84] وكان صدره بارزاً للسيوف والرماح، يُصرع الأبطال بين يديه، ويذبح الكماة أمام ناظريه، وهو باسم المحيا، طلق الوجه، ساكن النفس. صلِّ يا ذا العلا لربك وانحر كل ضدٍ وشانيء لك أبتر أنت أعلى من أن تكون أضاحيك قروناً من الجمال تغتر بل قروناً من الملوك ذوي السؤدد تيجانهم أمامك تنثر كلما خر ساجدٌ لك منهم قال سيفك عندها الله أكبر وقد شج عليه الصلاة والسلام في وجهه، وكسرت رباعيته، وقتل سبعون من أصحابه، فما وهن، ولا ضعف، ولا خار، ولا انهزم، بل كان أمضى من السيف. وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة، وكان أول من يهب عند سماع المنادي، بل هو الذي سَنَّ الجهاد وحث عليه وأمر به، وتكالبت عليه الأحزاب يوم الخندق من كل مكان، وضاق الأمر، وحل الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، وظُنَّ بالله الظنونا، وزلزل المؤمنون، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث مولاه، حتى نصره ربه، ورد كيد عدوه، وأخزى خصمه، وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً وباءوا بالخسران والهوان، ونام الناس ليلة بدر وما نام هو صلى الله عليه وسلم، بل قام يصلي ويدعو ويتضرع ويتوسل إلى ربه ويسأله نصره وتأييده، فيا له من إمام ما أشجعه! لا يقوم لغضبه أحد، ولا يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق، فهو الشجاع الفريد، والصنديد الوحيد، الذي كملت فيه صفات الشجاعة، وتمت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس، وهو القائل: {والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل}.

محمد صلى الله عليه وسلم زاهدا

محمدٌ صلى الله عليه وسلم زاهداً كان زهده صلى الله عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا، وسرعة زوالها، وقلة زادها، وقصر عمرها، وبقاء الآخرة، وما أعد الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم، وأجرٍ عظيم، وخلودٍ دائم، فرفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بقدر ما يسد الرمق، ويقيم العوز، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه، وتزينت له، وأقبلت إليه، ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهباً وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعاً، ويمر الشهر لا توقد في بيته نار، ويستمر الأيام طاوياً لا يجد رديء التمر يسد به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليالٍ متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثَّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه عليه الصلاة والسلام. وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعاً من شعير عند يهودي، وربما لبس إزاراً ورداءً فحسب، وما أكل على خوان قط، وربما أرسل له أصحابه الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكراماً لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيباً لروحه وحفظاً لدينه، ليبقى أجره كاملاً عند الله ربه، وليتحقق له وعد مولاه {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهماً ولا ديناراً، ويوزع الإبل والبقر والغنم على أصحابه وأتباعه والمؤلفة قلوبهم ثم لا يذهب بناقةٍ ولا بقرةٍ ولا شاة، بل يقول عليه الصلاة والسلام: {لو كان لي كشجر تهامة مالاً لقسمته، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً} وراودته الجبال الشم من ذهبٍ عن نفسه فأراها أيما شمم بل كان عليه الصلاة والسلام الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة، وترك الدنيا وعدم الالتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يَبن قصراً، ولم يدخر مالاً، ولم يكن له كنزٌ ولا جنةٌ يأكل منها، ولم يخلف بستاناً ولا مزرعة، وهو القائل: {لا نورث، ما تركناه صدقة}. وكان يدعو بقوله وفعله وحاله إلى الزهد في الدنيا، والاستعداد للآخرة بالعمل، ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده -كما تقدم- فكان لا يرد سائلاً، ولا يحجب طالباً، ولا يخيب قاصداً، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وقال: {ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل قائل في ظل شجرة ثم قام وتركها} وقال: {الدنيا ملعونةٌ وملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً} وقال: {ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت}.

محمد صلى الله عليه وسلم متواضعا

محمدٌ صلى الله عليه وسلم متواضعاً كان صلى الله عليه وسلم عجيباً في ذلك، فتواضعه تواضع من عرف ربه؛ فهابه، واستحيا منه، وعظمه، وقدره حق قدره، واطمأن له، وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب، فسافرت روحه إلى الله، وهاجرت نفسه إلى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيءٌ مما يعجب أهل الدنيا، فصار عبداً لربه بحق، يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز، يزور المريض، يعطف على المسكين، يصل البائس، يواسي المستضعفين، يداعب الأطفال، يمازح الأهل، يكلم الأمة، يواكل الجميع، يجلس على التراب، ينام على الثرى، يفترش الرمل، يتوسد الحصير، قد رضي عن ربه فما طمع في شهرةٍ، أو منزلةٍ، أو مطلبٍ أرضي، أو مكسبٍ دنيوي. يخاطب الغريب بود، يتألف الناس، يبتسم في وجوه أصحابه، يقول: {إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد} ولما رآه رجلٌ ارتجف من هيبته فقال: {هون عليك، فأنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد بـ مكة}. وكان يكره المدح وينهى عن إطرائه ويقول: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله} وكان ينهى أن يُقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول: {لو دعيت إلى كراعٍ لأجبت، ولو أهدي إلي كراعُ لقبلت} وكان يحب المساكين، ويروى عنه: {اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين} وكان يحرم الكبر، ويبغض أهله، ويقول: {يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، يغشاهم الذل من كل مكان} ويروي عن ربه أنه قال: {الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذبته}. فكان صلى الله عليه وسلم محبباً إلى القلوب، تأخذه الجارية بيده فيذهب معها، يزور أم أيمن وهي مولاة، ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا: أنت خيرنا وأفضلنا، وسيدنا، وابن سيدنا، قال لهم: {يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان} وغضب لما قال له رجل: {ما شاء الله وشئت، فقال: ويحك أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده} وكان يحمل حاجة أهله، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويكنس بيته، ويحلب شاته، ويقطع اللحم مع أهله، ويقرب الطعام لضيفه، ويباسط زواره، ويسأل عن أخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف، ويأكل الشعير، وربما مشى حافياً، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف، ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم، فيساعد من احتاج، ويرافق الوحيد منهم، فصلى الله عليه وسلم ما تحرك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردد حديثه الإنس والجان.

محمد صلى الله عليه وسلم حليما

محمدٌ صلى الله عليه وسلم حليماً ما دام أنه رسول الله فلا بد أن يكون أحلم الناس، وأوسعهم صدراً، وألينهم عريكة، وأدمثهم خلقاً، وألطفهم عشرة، فقد كان يكظم غيظه، ويعفو ويصفح، ويغفر لمن زل، ويتنازل لحقوقه الخاصة، ما لم تكن حقوقاً لله، وقد عفا عمن ظلمه وطرده من وطنه وآذاه وسبه وشتمه وحاربه فقال لهم يوم الفتح، اذهبوا فأنتم الطلقاء، وعفا عن أبي سفيان بن الحارث يوم الفتح، لما وقف أمامه وقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}. وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضباً إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا أُغضب ازداد حلما، وربما تبسم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال: {لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب} وكان يبلغه الكلام السيء صلى الله عليه وسلم فلا يبحث عمن قاله، ولا يعاتبه، ولا يعاقبه، وورد عنه أنه قال: {لا يبلغني أحدٌ منكم ما قيل في، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر} وبلّغه ابن مسعود كلاماً قيل فيه؛ فتغير وجهه وقال: {رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر} وقد أوذي من خصومه في رسالته، وعرضه، وسمعته، وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم، وحلم عليهم، وقال: {من كفَّ غضبه؛ كفَّ الله عنه عذابه} وقال له رجلٌ: {اعدل، فقال: خبت وخسرت إن لم أعدل} ولم يعاقبه بل صفح عنه. وواجهه بعض اليهود بما يكره فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات، ممتثلاً قول ربه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]. وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم، ويلاطفهم، ويعفو عنهم فيما يصدر عنهم، ويدخل عليهم بساماً ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنساً وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: {خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما قال في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا لشيء لم أفعله لِمَ لم تفعل هذا؟} وهذا غاية الحلم، ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه ووده وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبه من القلوب، فتعلقت به الأرواح، ومالت له النفوس: وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ وإذا صحبت رأى الوفاء مجسماً في بردك الأصحاب والخلطاءُ

محمد صلى الله عليه وسلم رحيما

محمدٌ صلى الله عليه وسلم رحيماً وصفه ربه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فهو رحمةٌ للبشرية، وورد عنه أنه قال: {إنما أنا رحمةٌ مهداة} ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه فبكى، فلما سئل عن ذلك قال: {هذه رحمةٌ يضعها الله في قلب من يشاء من عباده}. وكان رحمة على القريب والبعيد، عزيزٌ عليه أن يدخل على الناس مشقة، فكان يخفف بالناس مراعاةً لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف؛ لئلا يشق على أمه، ولما بكت أمامة بنت زينب بنت ابنته حملها وهو يصلي بالناس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها، وسجد مرةً فصعد الحسن على ظهره، فأطال السجود فلما سلم اعتذر للناس وقال: {إن ابني هذا ارتحلني؛ فكرهت أن أرفع رأسي حتى ينزل} وقال: {من أمَّ منكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة} وقال لـ معاذ لما طول بالناس: {أفتان أنت يا معاذ؟} وقال: {لولا أن أشق على الناس لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة}. وربما ترك العمل خشية أن يُفرض على الناس، وكان يتخول أصحابه بالموعظة، وكل ذلك رحمةً عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: {القصد القصد تبلغوا} ويقول: {بعثت بالحنيفية السمحة} ويقول: {خير دينكم أيسره} ويقول: {عليكم هدياً قاصداً} ويقول: {عليكم من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا} {وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً} وأنكر على الثلاثة الذين شددوا على أنفسهم في العبادة، وقال: {والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني} وأفطر في سفرٍ في رمضان، وقصر الرباعية، وجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر، ونادى مؤذنه في المطر أن صلوا في رحالكم، وقال: {هلك المتنطعون} وقال: {ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع الرفق من شيءٍ إلا شانه} وأنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص إرهاق نفسه بالعبادة، وقال: {إياكم والغلو} ويروى عنه قوله: {أمتي أمةٌ مرحومة} وقال: {إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم}. وهذا اليسر في حياته عليه الصلاة والسلام يوافق يسر الملة، وسهولة الشريعة، وهو امتثالٌ منه صلى الله عليه وسلم لقول ربه: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. فهو صلى الله عليه وسلم سهل ميسر، رحيمٌ في رسالته، ودعوته، وعبادته، وصلاته، وصومه، وطعامه، وشرابه، ولباسه، وحله، وترحاله، وأخلاقه، فالحياة مبنية على اليسر؛ لأنه جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، فليس اليسر أصلاً إلا معه، فهو اليسر كله، وهو الرحمة والرفق بنفسه صلى الله عليه وسلم.

محمد صلى الله عليه وسلم ذاكرا

محمدٌ صلى الله عليه وسلم ذاكراً كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس ذكراً لربه، حياته كلها ذكرٌ لمولاه، فدعوته وخطبه ومواعظه وعبادته وجهاده وفتاويه ذكر، وليله ونهاره، وسفره وإقامته، وأنفاسه كلها ذكرٌ لمولاه عز وجل، فقلبه معلقٌ بربه، تنام عيناه ولا ينام قلبه، بل النظر إليه يذكر الناس بربهم، وكل مراسيم حياته ومناسباته ذكرٌ لخالقه جلَّ في علاه. وكان صلى الله عليه وسلم يحث الناس على ذكر ربهم، فيقول: {سبق المفردون، قيل: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات} ويقول: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت} ويقول: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكراً لربه، وروى عن ربه عز وجل قوله: {أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} ويقول: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه}. وله عليه الصلاة والسلام عشرات الأحاديث الصحيحة التي تحث على الذكر وترغب فيه؛ في التهليل، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والحوقلة، والاستغفار، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، وكان يُذكر الناس بأجر الذكر، وما يترتب على ذلك من ثواب، وذكر الأعداد في ذلك مع ذكر المناسبات، وعمل اليوم والليلة، فهو صلى الله عليه وسلم الذاكر الشاكر الصابر، وهو الذي ذكر الأمة بربها، وعلمها تعظيمه وتسبيحه، وبين لها فوائد الذكر ومنافعه، فهو أسعد الناس بذكر ربه، وأهناهم عيشاً بهذه النعمة، وأصلحهم حالاً بهذا الفضل، فكان له أوراد من الأذكار، مع حضور قلبٍ، وخشوعٍ، وهلوعٍ، وهيبةٍ، وخوفٍ، ومحبةٍ، ورجاءٍ وطمعٍ في فضل ربه.

محمد صلى الله عليه وسلم داعية

محمد صلى الله عليه وسلم داعية يقول تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ويقول صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة} ويقول: {من لم يسأل الله يغضب عليه} وكان عليه الصلاة والسلام يلهج بدعاء ربه في كل حالاته، قد فوض أمره لمولاه، وأكثر الإلحاح على خالقه، يناشده رحمته وعفوه، ويطلب بره وكرمه، وكان يختار جوامع الدعاء الكامل الشامل، كقوله: {اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} وقوله: {اللهم إني أسألك العفو والعافية}. وكان يكرر الدعاء ثلاثاً، ويبدأ بالثناء على ربه، وكان يستقبل القبلة عند دعائه، وربما توضأ قبل الدعاء، وكان يعلم الأمة أدب الدعاء، كالبداية بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله، ودعاء الله بأسمائه الحسنى، والإلحاح في الدعاء، وتوخي أوقات الإجابة كأدبار الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وآخر ساعةٍ من يوم الجمعة، ويوم عرفة، وفي حالات السجود والصوم والسفر، ودعوة الوالد لولده. وكان عليه الصلاة والسلام وقت الأزمات يلح على ربه ويناشده ويكرر السؤال مع تمام الذل والخوف والحب وحسن الظن، وتمام الرجاء، كما فعل يوم بدر ويوم الخندق ويوم عرفة، وكان الله يجيب دعوته ويلبي طلبه، كما حصل له على المنبر يوم استسقى فنزل الغيث مباشرة، ويوم شق له القمر، وبارك له في الطعام والمال، ونصره في حروبه، ورفع دينه، وأيد حزبه، وخذل أعداءه، وكبت خصومه، حتى حقق الله له مقاصده، وأكرم مثواه، وجعل العاقبة له صلى الله عليه وسلم.

محمد صلى الله عليه وسلم طموحا

محمدٌ صلى الله عليه وسلم طموحاً ولدت همته عليه الصلاة والسلام معه يوم ولد، فمنذ طفولته ونفسه مهاجرة إلى معالي الأمور، ومكارم الخلق، لا يرضى بالدون، ولا يهوى السفاسف، بل هو الطموح والسباق والمقدام المتفرد، والمبرز المحظوظ، ولقد ذكر أهل السير أنه عليه الصلاة والسلام وهو طفلٌ كان لجده عبد المطلب فراشٌ في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو لمنزلته، فجاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم فنازع الخدم حتى جلس عليه، وأبى أن يجلس دونه. وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريشاً يسمونه الصادق الأمين، ويرضونه حكماً، ويعودون إليه في أمورهم، فلما منَّ الله عليه بالبعثة، تاقت نفسه إلى الفردوس وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلمنا أن نسألها، وبلغ سدرة المنتهى، وحاز الكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية، ومن علو همته رفضه للدنيا، وعدم الوقوف مع مناصبها الزهيدة، بولاياتها، وقصورها ودورها.

الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن

الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن

(يا أيها النبي حسبك الله)

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ) حسبك الله: يكفيك من كل ما همك، يحفظك في الأزمات، يرعاك في الملمات، يحميك في المدلهمات، فلا تخش ولا تخف ولا تحزن ولا تقلق. حسبك الله: فهو ناصرك على كل عدو، ومظهرك على كل خصم، ومؤيدك في كل أمر، يعطيك إذا سألت، يغفر لك إذا استغفرت، يزيدك إذا شكرت، يذكرك إذا ذكرت، ينصرك إذا حاربت، يوفقك إذا حكمت. حسبك الله: فيمنحك العز بلا عشيرة، والغنى بلا مال، والحفظ بلا حرس، فأنت المظفر؛ لأن الله حسبك، وأنت المنصور؛ لأن الله حسبك، وأنت الموفق؛ لأن الله حسبك، فلا تخف من عين حاسد، ولا من كيد كائد، ولا من مكر ماكر، ولا من خبث كافر، ولا من حيلة فاجر؛ لأن الله حسبك. إذا سمعت صولة الباطل، ودعاية الشرك، وجلبة الخصوم، ووعيد اليهود، وتربص المنافقين، وشماتة الحاسدين فاثبت؛ لأن حسبك الله. إذا ولى الزمان، وجفا الإخوان، وأعرض القريب، وشمت العدو، وضعفت النفس، وأبطأ الفرج فاثبت؛ لأن حسبك الله. إذا داهمتك المصائب، ونازلتك الخطوب، وحفت بك النكبات، وأحاطت بك الكوارث فاثبت؛ لأن حسبك الله. لا تلتفت إلى أحدٍ من الناس، لا تدعُ أحداً من البشر، لا تتجه لكائنٍ من كان غير الله؛ لأن حسبك الله. إذا ألم بك مرض، وأرهقك دين، وحل بك فقر، أو عرضت لك حاجة، فلا تحزن؛ لأن حسبك الله. إذا أبطأ النصر، وتأخر الفتح، واشتد الكرب، وثقل الحمل، وادلهم الخطب، فلا تحزن؛ لأن حسبك الله. أنت محفوظ؛ لأنك بأعيننا، وأنت في رعايتنا؛ لأنك رسولنا، وأنت في حمايتنا لأنك عبدنا المجتبى ونبينا المصطفى.

لا تحزن إن الله معنا

لا تحزن إن الله معنا هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها صلى الله عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصديق، وقد أحاط بهم الكفار، فقالها قوية في حزم، صادقة في عزم، صارمة في جزم {لا تحزن إن الله معنا} فما دام أن الله معنا فلم الحزن؟ ولم القلق؟ ولم الخوف؟ اسكن، اثبت، اهدأ، اطمئن؛ لأن الله معنا، لا نغلب، لا نهزم، لا نضل، لا نضيع، لا نيأس، لا نقنط؛ لأن الله معنا. النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا؛ لأن الله معنا. من أقوى منا قلباً؟ من أهدى منا نهجاً؟ من أجل منا مبدأ؟ من أحسن منا سيرة؟ من أرفع منا قدراً؟ لأن الله معنا. ما أضعف عدونا، ما أذل خصمنا، ما أحقر من حاربنا، ما أجبن من قاتلنا؛ لأن الله معنا. لن نقصد بشراً، لن نلتجئ إلى عبد، لن ندعو إنساناً، لن نخاف مخلوقاً؛ لأن الله معنا. نحن أقوى عدة، وأمضى سلاحاً، وأثبت جناناً، وأقوم نهجاً؛ لأن الله معنا. نحن الأكثرون، الأكرمون، الأعلون، الأعزون، المنصورون؛ لأن الله معنا. يا أبا بكر! اهجر همك، وأزح غمك، واطرد حزنك، وأزل يأسك؛ لأن الله معنا. يا أبا بكر! ارفع رأسك، وهدئ من روعك، وأرح قلبك؛ لأن الله معنا. يا أبا بكر! أبشر بالفوز، وانتظر النصر، وترقب الفتح؛ لأن الله معنا. غداً سوف تعلو رسالتنا، وتظهر دعوتنا، وتسمعُ كلمتنا؛ لأن الله معنا. غداً سوف نُسمع أهل الأرض روعة الأذان، وكلام الرحمن، ونغمة القرآن؛ لأن الله معنا. غداً سوف نخرج الإنسانية، ونحرر البشرية، من عبودية الوثنية؛ لأن الله معنا.

(وإنك لعلى خلق عظيم)

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والله إنك لعظيم الأخلاق، كريم السجايا، مهذب الطباع، نقي الفطرة، والله إنك جم الحياء، حي العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة. والله إنك قمة الفضائل، ومنبع الجود، ومطلع الخير، وغاية الإحسان. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] يظلمونك فتصبر، يؤذونك فتغفر، يشتمونك فتحلم، يسبونك فتعفو، يجفونك فتصفح. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] يحبك الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد؛ لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوقت الأعناق بكرمك. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] هذبك الوحي، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] البسمة على محياك، البشر على طلعتك، النور على جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك، الفوز معك: من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من مننِ فالعين عن قرةٍ والكف عن صلةٍ والقلب عن جابرٍ والسمع عن حسنِ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] لا تكذب ولو كان السيف على رأسك، لا تخون ولو حزت الدنيا، لا تغدر ولو أعطيت الملك؛ لأنك نبيٌ معصوم، وإمامٌ قدوة، وأسوةٌ حسنة. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صادقٌ ولو قابلتك المنايا، شجاعٌ ولو قاتلتك الأسود، ولو سلبت كل ما تملك، فأنت المثال الراقي، والرمز السامي. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] سبقت العلم ديانةً وأمانةًً وصيانةً ورزانةً، تفوقت على الكل علماً وحلماً وكرماً ونبلاً وشجاعةً وتضحية. ً

(ما أنت بنعمة ربك بمجنون)

(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) لست مجنوناً كما قال أعداؤك؛ لكن عندك دواء المجانين، فالمجنون الطائش، والسفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك. {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمهم رشداً، وأحسنهم رأياً، وأعظمهم حكمة، وأجلهم بصيرة؟! كيف تكون مجنوناً وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ، ويزيل الضلال، وينسف الباطل، ويمحو الجهل، ويهدي العقل، وينير الطريق؟! لست مجنوناً؛ لأنك على هدىً من الله، وعلى نورٍ من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بينة من دينك، وعلى رشدٍ من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل، وأكمل الرشد، وأتم الرأي، وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديون. كذب وافترى من اتهمك بالجنون، وقد ملأت الأرض حكمةً، والدنيا رشداً، والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك، وأين تكون الحكمة إلا لديك، وأين تحل البركة إلا معك. أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجل الحكماء. كيف يكون محمد مجنوناً وقد قدم للبشرية أحسن تراثٍ على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجل تركةٍ عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء؟ هذا هو محمدٌ عليه الصلاة والسلام، بل هذه بعض سيرته العطرة، بل شيءٌ من أخلاقه المجيدة، فصلى الله وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون، وغفل عنه الغافلون، وجمعنا به في جناتٍ ونهر، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر. والحمد لله رب العالمين.

مفتاح السعادة

مفتاح السعادة يختلف الناس في أنماط معايشهم، وتتباين مناهجهم وأفكارهم وديانتهم وأعمالهم، لكنهم متفقون تفوقون على شيء واحد وهو: طلب السعادة. وفي البحث عن السعادة تشتت طرق الناس في كيفية حيازتها؛ فذاك ظن أن السعادة في جمع الأموال الطائلة، وآخر ظن أنها في بناء القصور الشاهقة، وآخر في شراء السيارة الفارهة، وآخر في الزوجة الجميلة، وهكذا وفي هذا الدرس حديث عن السعادة ومفتاحها الحقيقي.

ومضات في السعادة

ومضات في السعادة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وبعد: فهذه محاضرة مفتاح السعادة. الإيمان يذهب الهموم، ويزيل الغموم، وهو قرة عين الموحدين، وسلوة العابدين، ما مضى فات، وما ذهب مات، فلا تفكر فيما مضى فقد ذهب وانقضى، ارض بالقضاء المحتوم، والرزق المقسوم، فكل شيءٍ بقدر، فدع الضجر. {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وتحط الذنوب، وبه يرضى علام الغيوب، وبه تفرج الكروب. لا تنتظر شكراً من أحد، ويكفي ثواب الصمد، وما عليك ممن جحد حقد وحسد. إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وعش في حدود اليوم، واجمع همك لإصلاح يومك. اترك المستقبل حتى يأتي، ولا تهتم بالغد؛ لأنك إذا أصلحت يومك صلح غدك. طهر قلبك من الحسد، ونقه من الحقد، وأخرج منه البغضاء، وأزل منه الشحناء. اعتزل الناس إلا من خير، وكن جليس بيتك، وأقبل على شانك، وقلل من المخالطة. الكتاب أحسن الأصحاب، فسامر الكتب، وصاحب العلم، ورافق المعرفة. الكون بني على النظام، فعليك بالترتيب في ملبسك، وبيتك ومكتبتك وواجبك. اخرج إلى الفضاء، وطالع الحدائق الغناء، وتفكر في خلق الباري وإبداع الخالق. عليك بالمشي والرياضة، واجتنب الكسل والخمول، واهجر الفراغ والبطالة. اقرأ التاريخ وتفكر في عجائبه، وتدبر غرائبه، واستمتع بقصصه وأخباره. جدد حياتك، نوع أساليب معيشتك، غير من الروتين الذي تعيشه. اهجر المنبهات، والإكثار منها كالشاي والقهوة، واحذر التدخين والشيشة وغيرها. اعتن بنظافة ثوبك، وحسن رائحتك، وترتيب مظهرك مع السواك والطيب. لا تقرأ بعض الكتب التي تربي التشاؤم والإحباط واليأس والقنوط. تذكر أن ربك واسع المغفرة يقبل التوبة، ويعفو عن عباده، ويبدل السيئات حسنات. اشكر ربك على نعمة الدين، والعقل، والعافية، والستر، والسمع، والبصر، والرزق، والذرية وغيرها. ألا تعلم أن في الناس من فقد عقله، أو صحته، أو هو محبوسٌ أو مشلولٌ أو مبتلى. عش مع القرآن حفظاً وتلاوةً وسماعاً وتدبراً، فإنه من أعظم العلاج لطرد الحزن والهم. توكل على الله وفوض الأمر إليه، وارض بحكمه، والجأ إليه، واعتمد عليه فهو حسبك وكافيك. اعف عمن ظلمك، وصل من قطعك، وأعط من حرمك، واحلم عمن أساء إليك؛ تجد السرور والأمن. كرر لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها تشرح البال، وتصلح الحال، وتحمل بها الأثقال، وترضي ذا الجلال. أكثر من الاستغفار، فمعه الرزق، والفرج، والذرية، والعلم النافع، والتيسير، وحط الخطايا. اقنع بصورتك وموهبتك، ودخلك وأهلك وبيتك تجد الراحة والسعادة. اعلم أن مع العسر يسراً، وأن الفرج مع الكرب، وأنه لا يدوم الحال، وأن الأيام دول. تفاءل ولا تقنط ولا تيأس، وأحسن ظنك بربك، وانتظر منه كل خيرٍ وجميل. افرح باختيار الله لك، فإنك لا تجلب المصلحة، فقد تكون الشدة لك خيراً من الرخاء. البلاء يُقرب بينك وبين الله، ويعلمك الدعاء، ويذهب عنك الكبر والعجب والفخر. أنت تحمل في نفسك قناطير النعم، وكنوز الخيرات التي وهبك الله إياها. أحسن إلى الناس، وقدم الخير للبشر؛ لتلقى السعادة من عيادة مريض، وإعطاء فقيرٍ، والرحمة بيتيم. اجتنب سوء الظن، واطرح الأوهام والخيالات الفاسدة، والأفكار المريضة. اعلم أنك لست الوحيد في البلاء، فما سلم من الهم أحد، وما نجا من الشدة بشر. تيقن أن الدنيا دار محنٍ وبلاء، ومنغصاتٍ وكدرٍ فاقبلها على حالها واستعن بالله. تفكر فيمن سبقوك في مسيرة الحياة، ممن عزل، وحبس وقتل، وامتحن وابتلي، ونكب وصودر، كل ما أصابك من الهم، والغم، والحزن، والجوع، والفقر، والمرض، والدين، والمصائب فأجره على الله. اعلم أن الشدائد تفتح الأسماع والأبصار، وتحيي القلوب، وتردع النفس، وتذكر العبد، وتزيد الثواب. لا تتوقع الحوادث، ولا تنتظر السوء، ولا تصدق الشائعات، ولا تستسلم للأراجيف. أكثر ما يُخاف لا يكون، وغالب ما يُسمع من مكروهٍ لا يقع، وفي الله كفاية، وعنده رعاية، ومنه العون. لا تجالس البغضاء، والثقلاء، والحسدة؛ فإنهم حمى الروح، وهم رسل الكدر، وحملة الأحزان. حافظ على تكبيرة الإحرام جماعة، وأكثر المكث في المسجد، وعود نفسك المبادرة للصلاة لتجد السرور. إياك والذنوب فإنها مصدرُ الهموم والأحزان وهي سبب النكبات، وباب المصائب والأزمات. داوم على: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فلها سرٌ عجيب في كشف الكرب، ونبأٌ عظيم في رفع المحن. لا تتأثر من القول القبيح، والكلام السيئ الذي يقال فيك، فإنه يؤذي قائله ولا يؤذيك. سب أعدائك لك، وشتم حسادك يساوي قيمتك؛ لأنك أصبحت شيئاً مذكوراً، ورجلاً خطيراً مهماً. اعلم أن من اغتابك فقد أهدى لك حسناته، وحط من سيئاتك، وجعلك مشهوراً وهذه نعمة. لا تشدد على نفسك بالعبادة، والزم السنة، وسارع في الطاعة، واسلك الوسط، وإياك والغلو. أخلص توحيدك لربك لينشرح صدرك، فبقدر صفاء توحيدك، ونقاء إخلاصك؛ تكون سعادتك. كن شجاعاً قوي القلب، ثابت النفس، لديك همة وعزيمة، ولا تغرك الزوابع والأراجيف. عليك بالجود فإن صدر الجواد منشرح، وباله واسع، والبخيل ضيق الصدر، مظلم القلب، مكدر الخاطر. ابسط وجهك للناس تكسب ودهم، وألن لهم الكلام يحبوك، وتواضع لهم يجلوك، ادفع بالتي هي أحسن، وترفق بالناس، وأطفئ العداوات، وسالم أعداءك، وكثر أصدقاءك. من أعظم أبواب السعادة دعاء الوالدين، فاغتنمه ببرهما؛ ليكون لك دعاؤهما حصناً حصيناً من كل مكروه. اقبل الناس على ما هم عليه، وسامح ما يبدر منهم، واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة. لا تعش في المثاليات بل عش واقعك، فأنت تريد من الناس ما لا تستطيعه، فكن عادلاً. عش حياة البساطة، وإياك والرفاهية، والإسراف والبذخ، فكلما ترفه الجسم تعقدت الروح. حافظ على أذكار المناسبات فإنها حفظ لك وصيانة، وفيها من السداد والإرشاد ما يصلح به يومك. وزع الأعمال، ولا تجمعها في وقتٍ واحد، بل اجعلها في فترات وبينها أوقاتٍ للراحة، ليكون عطاؤك جيداً. انظر إلى من هو دونك في الجسم والصورة، والمال والبيت، والوظيفة والذرية، لتعلم أنك فوق ألوف الناس. تيقن أن كل من تعامله من أخٍ وابنٍ وزوجةٍ وقريبٍ وصديق لا يخلو من عيب، فوطن نفسك على تقبل الجميع. الزم الموهبة التي أُعطيتها، والعلم الذي ترتاح له، والرزق الذي فتح لك، والعمل الذي يناسبك. إياك وتجريح الأشخاص والهيئات، وكن سليم اللسان، طيب الكلام، عذب الألفاظ، مأمون الجانب. اعلم أن الاحتمال دفنٌ للمعايب، والحلم ستر للخطايا، والجود ثوبٌ واسعٌ يغطي النقائص والمثالب. انفرد بنفسك ساعةً تدبر فيها أمورك، وتراجع فيها نفسك، وتتفكر في آخرتك، وتصلح بها دنياك. مكتبتك المنزلية هي بستانك الوارف، وحديقتك الخضراء، تتنزه فيها مع العلماء والحكماء والأدباء والشعراء. اكسب الرزق الحلال، وإياك والحرام، واجتنب سؤال الناس، والتجارة خيرٌ من الوظيفة، وضارب بمالك واقتصد في المعيشة. البس وسطاً، لا لباس المترفين، ولا لباس البائسين، لا تشهر نفسك بلباس، وكن كعامة الناس. لا تغضب فإن الغضب يفسد المزاج، ويغير الخلق، ويسيء العشرة، ويفسد المودة، ويقطع الصلة. سافر أحياناً لتجدد حياتك، وتطالع عوالم أخرى، وتشاهد معالم جديدة وبلداناً أخرى، فالسفر متعة. احتفظ بمذكرةٍ في جيبك، ترتب لك أعمالك، وتنظم أوقاتك، وتذكرك بمواعيدك، وتكتب فيها ملاحظاتك. ابدأ الناس بالسلام، وحيهم بالبسمة، وأعرهم الاهتمام؛ لتكون حبيباً إلى قلوبهم قريباً منهم. ثق بنفسك ولا تعتمد على الناس، واعتبر أنهم عليك لا لك، وليس معك إلا الله، ولا تغتر بإخوان الرخاء. احذر كلمة سوف، وتأخير الأعمال، والتسويف بأداء الواجب، فإن هذا أول الفشل والإخفاق. اترك التردد في اتخاذ القرار، وإياك والتذبذب في المواقف بل اجزم واعزم وتقدم. لا تضيع عمرك في التنقل بين التخصصات، والوظائف والمهن، فإن معنى هذا أنك لن تنجح في شيء. افرح بمكفرات الذنوب؛ كالصالحات، والمصائب، والتوبة، ودعاء المسلمين، ورحمة الرحمن، وشفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام. عليك بالصدقة، ولو بالقليل، فإنها تطفئ الخطيئة، وتسر القلب، وتذهب الهم، وتزيد في الرزق. اجعل قدوتك إمامك محمداً صلى الله عليه وسلم، فإنه القائد إلى السعادة، والدال على النجاح، والمرشد إلى النجاة والفلاح. زر المستشفى؛ لتعرف نعمة العافية والسجن؛ لتعرف نعمة الحرية والمارستان؛ لتعرف نعمة العقل؛ لأنك في نعمٍ لا تدري بها. لا تحطمك التوافه، ولا تعط المسألة أكبر من حجمها، واحذر من تهويل الأمور والمبالغة في الأحداث. كن واسع الأفق، والتمس الأعذار لمن أساء إليك، لتعيش في سكينة وهدوء، وإياك ومحاولة الانتقام. لا تفرح أعداءك بغضبك وحزنك، فإن هذا ما يريدون، فلا تحقق أمنيتهم الغالية في تعكير حياتك. لا توقد فرناً في صدرك من العداوات والأحقاد، وبغض الناس وكره الآخرين، فإن هذا عذابٌ دائم. كن مهذباً في مجلسك، صموتاً إلا من خير، طلق الوجه، محترماً لجلاسك، منصتاً لحديثهم، ولا تقاطع أثناء الكلام. لا تكن كالذباب لا يقع إلا على الجرح، فإياك والوقوع في أعراض الناس، وذكر مثالبهم، والفرح بعثراتهم، وطلب زلاتهم. المؤمن لا يحزن لفوات الدنيا، ولا يهتم بها، ولا يرهب من كوارثها؛ لأنها زائلةٌ ذاهبةٌ حقيرةٌ فانية. اهجر العشق والغرام والحب المحرم فإنه عذابٌ للروح، ومرضٌ للقلب، وافزع إلى ذكر الله عز وجل. إطلاق النظر إلى الحرام يورث هماً وغماً وجراحاً في القلب، والسعيد من غض بصره وخاف ربه. احرص على ترتيب وجبات الطعام، وعليك بالمفيد، واجتنب التخمة، ولا تنم وأنت شبعان. قدِّر أسوأ الاحتمالات عند الخوف من الحوادث، ثم وطن نفسك لتقبل ذلك فسوف تجد الراحة واليسر. إذا اشتد الحبل انقطع، وإذا أظلم الليل انقشع، وإذا ضاق الأمر اتسع، ولن يغلب عسر يسرين. انظر في رحمة أرحم الراحمين، غفر لبغيٍ سقت كلباً، وتاب عمن قتل مائة نفس، وبسط يده للتائبين، ودعا عباده للإنابة. بعد الجوع شبع، وعقب الظمأ ريٌّ، ويلي المرض عافية، وبعد الفقر غنى، والهم يتلوه السرور، وهذه سنة الحياة. اقرأ سورة: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] تذكرها في الشدائد، واعلم أنها من أعظم الأدوية عند الأزمات، أين أنت من دعاء الكرب: {لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم} وأين أنت من أثر في الاعتصام؟ ففي حديثٍ قدسي يقول الله عز وجل: {وعزتي وجلالي ما اعتصم بي عبدٌ فكادت له السماوات والأرض إلا جعلت له من بينها فرجاً ومخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد بغيري إلا زلزلت الأرض من تحت قدميه، ثم لم أبال في أي أودية الدنيا هلك} إذا غضبت فاسكت، وتعوذ من الشيطان، وغير مكانك، إن كنت قائماً فاجلس، وتوضأ وأكثر من الذكر. لا تجزع من الشدة، فإنها تقوي قلبك، وتذيقك طعم الراحة، وتشد من أزرك، وترفع شأنك، وتظهر صبرك. التفكر في الماضي حمق وجنون، وهو مثل من يطحن الطحين، وينشر النشارة، ويخرج الأموات من قبورهم. انظر إلى الجانب المشرق من المصيبة، وت

مفتاح التميز

مفتاح التميز تحدث الشيخ في هذه المحاضرة بأسلوب أدبي عن نماذج يقتدى بهم ممن خلد الله ذكرهم. من هؤلاء الذين ذكرهم: الخلفاء الراشدون، ومواقفهم التي اشتهروا بها في خدمة دين الله. وتكلم بعد ذلك عن الأئمة الأربعة وختم بنبذة عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

وقفات مع نماذج من الصحابة

وقفات مع نماذج من الصحابة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. أيها الإخوة الفضلاء: هذه محاضرة: "مفتاح التميز" أردت أن أقدم نماذج من أعلام الإسلام بأسلوبٍ أدبي؛ علَّها أن تنفث في القلوب همةً وعزيمةً ومضاءة.

وقفة مع أبي بكر الصديق

وقفة مع أبي بكر الصديق أبو بكر الصديق رضي الله عنه: عتيقٌ في الجاهلية، صديقٌ في الإسلام، حاضرٌ في المغارم، غائب في المغانم، أحب صاحب الدعوة فقاسمه الخوف والعناء والمشقة، وشاطره الهم والمعاناة واللوعة، مناقبه خصائص تمنع الاشتراك، وخصائصه أكاليل لا تقبل غيره، ضاقت به الدنيا فدخل الغار مع صاحبه، والله يقول: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16] خشي على صاحبه من العقرب فسد الثقب بإصبعه، لدغ فما أنَّ، فقال له صاحبه: تأنَ، خاف على المختار في الغار من الكفار فصاح من شدة العناء: أفديك أنا، فنودي: لا تحزن إن الله معنا. هو مثل الخليل إبراهيم، وَحد الرحمن، وحطم الأوثان، وأكرم الضيفان {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] أبو بكر هو الأول في الإسلام وفي الهجرة والجهاد، إلى الله سبق، وبشرعه نطق، وفي القول صدق، فلا تركبن في سريته طبقاً عن طبق، زوج ابنته الإمام، واشترى المؤذن، وبنى المسجد، فنال جائزة: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] مع الصديق إداوة يسقي بها الصاحب، وسيفٌ ينافح به عنه، ولسانٌ يدعو إليه، وقلبٌ يحبه، وعينٌ تبكي لحديثه، وجفنةٌ تطعم ضيوفه. أبو بكر قيل له: نُبئ صاحبك، قال: صدق، قالوا: ونزل عليه جبريل، قال: صدق، قالوا: وأخبرنا أنه أسري به، قال: صدق، قالوا: وذكر أنه عرج به، قال: صدق، فقيل له: أنت الصديق حياً وميتاً، لقبٌ يبقى لك مجرداً ومضافاً، نكرةً ومعرفة، مفرداً وجمعاً. آمنت بالذي جعل الصديق في الإيمان آية للسائرين، إن حانت الصلاة؛ فهو في الصف الأول من القانتين، وإن تلا غلبه البكاء، وابيضت عيناه من الحزن خشية لرب العالمين، وإذا ادلهم الخطب عرض روحه للمنايا، وقدم رأسه لسيوف المقاتلين، لا يكفه أن يدعى للجنة من باب بل من الأبواب الثمانية، ولم يسعه أن يعتنق الإسلام في مكة سراً بل علانية، دخل مع الصاحب في الغار، وخرج معه للهجرة، وبات معه في بدر، ولزمه في حنين، وسافر معه إلى تبوك، وحج معه، وناب عنه في الإمامة، وقام مكانه في الخلافة. لما مات الصاحب سال دمعه سريعاً ساخناً صادقاً، فلما ارتد بعضهم عن الإسلام جف دمعه، وصلب عوده، واشتد ساعده، ولعلع سيفه، وزمجر صوته، فرد من شرد، وأقام من قعد، وأدخل بالسيف في قلوب الناكثين {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فكان لسان الحال في الأزمات يحييه، اثبت أحد. قال المارقون: لا ندفع مالاً، فأقسم: [[والله لو منعوني عقالاً. ]] فسل سيف الحق. ارتد مسيلمة الكذاب، فقال الصديق: يا ذباب! يأتيك الجواب فألبس خالداً العمامة، قال: هيا إلى اليمامة، فاهتز سيف الله المسلول، فصبح المرتدين وهم في ذهول، فحطَّم الجماجم، وأذل الباطل وهو راغم، أبو بكر ما أشده! هو رجل الشدة، وبطل يوم الردة، الأسود تَسود، والمثالب للثعالب. أبو بكر ثلاث ليالٍ، وثلاثة أيام، وثلاث ساعات، ليلة الغار، وليلة بدر الأبرار، وليلة الدار، أبو بكر يوم أعلن إسلامه، ويوم ارتحل مع صاحبه مرةً خلفه، ومرةً أمامه، ويوم جهز جيش أسامة، وأبو بكر ساعة سمع سورة اقرأ، وساعة صدَّق المعصوم في الإسراء، وساعة مات الحبيب وأظلمت الغبراء. أبو بكر أعلن الحرية؛ لأنه أول من استقبل عبداً، وأول من ودع عبداً، استقبل بلالاً أيام البلاء، يوم كانت قريشاً ثائرةً على السود، هائمة في السيادة، ضالعةً في الاستعباد، وودع أسامة الأسود يركب على الفرس بسواده، والصديق يطأ الثرى ببياضه، ليقول للناس: لا ألوان، لا أنساب، لا ألقاب، عندنا رسالة ويقين، وطهر ضمائر، وسمو همم، هو مع خليله وإمامه وحبيبه وأسوته، في الصلاة خلفه، في الحرب أمامه، في الطلب لديه، في المهمات عنده. أبو بكر قلبٌ نبيل، وجسمٌ نحيل، وشاب الإرادة، وشيخ التجارب، أحيا قلبه بالإيمان فلم يمت أبدا، وأمات نفسه عن الشهوات فلم تعش أبداً، هاج الناس يوم مات الرسول صلى الله عليه وسلم فسكن أبو بكر، تلعثموا فتكلم، أراد أن يخبرهم بالمصاب فأتى بالعجب العجاب: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت]]. أبو بكر نحيفٌ أسيفٌ شريف، نحيف لم يثخن من موائد اللاهين وبعض الرعية في أسراب الجائعين، وأسيفٌ بكى من التنزيل، ودمعت عيناه من خوف الجليل، ووجل ليوم الرحيل، وشريف سمت روحه عن الشهوات، وعظم قلبه أن تناله الشبهات، ونظفت يده أن هاء وهات، عنده صحة فطرة، سقاها معين التوحيد، ونضحها نسيم الهجرة، وأنضجتها شمس الجهاد. عقيدته توقد من شجرةٍ مباركة لا شرقية ولا غربية، بل ربانية سُنية سلفية، نورٌ على نور، شاب رأسه من تلك الأيام، يوم رأى إمامه وقدوته يؤذى في الطواف، ويوم شاهد السيوف تلف الغار، ويوم أبصر الحبيب يودع الحياة، صفقته رابحة، وكِفته راجحة، وعطاياه غاديةً رائحة، أنطق بحجته ألسنة النبلاء، فشهدت أن لا إله إلا الله، وأسكت بدولته أفواه البغاة يوم قالت: لا إله، أرسل لواءه الأبيض على الأسود العنسي {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12] وأرسل طلحة على طليحة فصغر الاسم، ومحا الرسم، ولا يغلب اسم الله اسم، جمع له المرتدون الخيول المرسلات؛ فسلط عليهم السيوف النازعات، منعوا زكاة المال؛ فأخذ منهم زكاة الرجال، قطعوا الحبال فارين؛ فجرهم في العمائم مقيدين. مات المعلم يوم الإثنين، ومات التلميذ يوم الإثنين؛ لأنه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وتنتهي بهما في دار المقام، ويذهب الحزن كله، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34].

وقفة مع عمر بن الخطاب

وقفة مع عمر بن الخطاب عمر بن الخطاب: أسلم قوياً، وهاجر قوياً، وقتل قوياً، شمر قميصه في اليقظة؛ فجره في المنام، أراد صلى الله عليه وسلم أن يدخل قصره في الجنة فذكر غيرته فلم يدخل، انتقل من عميرٍ إلى عمر، إلى الفاروق، إلى أمير المؤمنين، إلى جنات النعيم. إسلامه فتحٌ هز مكة، ووقف النصر على بوابة مدينة الإسلام منادياً: ادخلوها بسلامٍ آمنين، وهجرته نصرٌ؛ لأنه هاجر متحدياً شامخاً ظاهراً، وخلافته رحمة؛ لأنه أول الجائعين والمساكين والزاهدين. وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فعز الإسلام، وارتفعت الأعلام، وانهزمت الأصنام، واندك الباطل، وسحق الزيف، وقمع الضلال، وغربت شمس الزور. ووضع يده في يمين أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، فساد الأمن، وتوطدت الخلافة، وحسمت الفتنة. كسر بسيف الشرع ظهر كسرى، وقصَّر بالحق آمال قيصر، وأرهق بكتائب الله هرقل. إذا سمع الباطل أزبد وأرعد وتهدد وقام وقعد وأنجز ما توعد، وإذا سمع القرآن بكى وشكا وتململ وتزلزل. كان عمر في جبين الدهر دُرة؛ لأنه قرع الظلم بالدرة، فلله دره، خاف منه الشيطان، وارتعد لرؤيته الهرمزان، وانتهت به دولة آل ساسان. درته لله درها، وما أدراك ما هي؟! درة عمر؛ لخبط رءوس الضلال، وضرب أكتاف الظلمة الجهال، وتأديب العمال. قميص عمر مرقع، تغير لونه بدم عمر يوم طعن، فصاح لسان حال عمر: اذهبوا بقميصي وائتوني بكفنٍ فقد مللت الحياة. طاش عقل صبيغ بن عَسْلٍ بالترهات وفاش، فأحضر عمر الدرة، وخفقه حتى فقد وعيه ثم أيقظه وقال: كيف تجدك؟ فصاح: أصبحنا وأصبح الملك لله. طعن في الصلاة، ومات في المحراب، ودفن في الروضة. هُدِّمت به قصور فارس؛ لأن بيته من طين، وكسرت به سيوف رستم؛ لأن بيده درة، وخلعت به تيجان آل كسرى؛ لأن قميصه مرقع. له ثلاث وقفات، وثلاث رؤى، وثلاث كلمات، وطعن بثلاث طعنات، وقفة يوم أسلم، ويوم هاجر، ويوم بايع الصديق، ورؤي القميص يجره في المنام، ورؤي قصره في الجنة، وطعنة الشهادة والبطولة والانتصار. تعرض للموت في كل مكان فما وجده إلا في المحراب، دوخ ملوك العالم؛ فقتله عبد، قتل ساجداً لأن قاتله لم يسجد لله أبداً، وخرج اللبن الذي شربه يوم طعن؛ لأنه اكتفى بفضل ما شربه من اللبن الذي شربه الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول وهو يتنهد: [[يا ليتني كنت شجرةً تعضد]] فنال الشهادة في المسجد. وافق الوحي، وخالف الهوى، وتابع المعصوم، وتلا الصديق، وسبق الملوك، وصحب العدل، وجدَّ في الأمر، وعزم عن رشد، في الصلاة باكياً، في المعركة غاضباً، من الدنيا واجماً، إلى الآخرة ضاحكاً، إلى الرعية قريباً. عمر كالطائر الحذر، لا يصاد بالشباك، ولا يقع في الأشراك، ولا يهبط على الأشواك، لماحٌ يقظ نبيه، جاءته كنوز فارس والروم فوزعها على القوم، رفض الديباج لأنه على منهاج، لا يرى لبس الحرير ولا الجلوس على السرير ولا أكل الطرير؛ لأنه تلميذٌُ البشير النذير، إن وجد ضالاً نصحه، وإن عاند مكابر بطحه، وإن انتشر ضلالٌ فضحه. سمع الوحي فقال: الله أكبر، وقرقر بطنه من الجوع فقال: [[قرقر أو لا تقرقر]] فبقر في سبيل الله بالخنجر. طالت همته؛ فقصر أمله، كبرت نيته؛ فصغرت نفسه، اتسع فهمه؛ فضاق وهمه، كان للظلم بالمرصاد، فكم من ظالمٌ قد صاد، ظنه يقين؛ لأنه صحب الأمين، وردد وراءه آمين. قيل له: الروم بالجيوش رموك، فقال: الموعد اليرموك، أطلق كسرى الرصاص، فكتب عليه القصاص، وأرسل له سعد بن أبي وقاص. جاع يوم الرمادة حتى شبعت الرعية، ولبس المرقع حتى توشح الناس بالأقبية، وقتل حتى تحيا الملة، فلا تموت أبدا. هو بابٌ دون الفتنة كسر، فدخلت منه الطوائف، كلما دخلت أمة فاقت في الشر أختها، أراد أهل الضلال العبث في الكتاب فضرب بينهم بسورٍ له باب. خرج من الدنيا فأطلت برأسها الخوارج، ورفض العيش فأقبلت الرافضة، ولقي قدره فعشعشت القدرية، افترس فارس بـ سعد الفوارس، ورمى الروم بـ خالد فطاش راميها، وبغثر سجستان بـ النعمان، وأرغم هرقل وأنو شروان، وجبا خزائنهما يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان. قتل عمر ولكنه عاش، ارتحل لكنه أقام، هو فينا، وفي ضمائرنا، وعروقنا، ودمائنا، وقلوبنا، وعيوننا في الأبطال، والرجال، والأطفال. عمر الحزم عند ورود القلق، والعزم مع طائف التردد، واقتناص الفرصة قبل أن تدبر، قويٌ حتى تضعف صولة الباطل، شديدٌ حتى تلين قناة الزور، همه تحقيق العدل، ورسوخ المساواة، وحفظ الحقوق، وكسر أنف الأنفة، وقمع جولة الجبروت، عنده حكمةٌ للقلوب، ودرة للأكتاف، وسيفٌ للرقاب. طبت يا عمر حياً وطبت ميتاً، لبست جديداً، وعشت حميداً، ومت شهيداً.

وقفة مع عثمان بن عفان

وقفة مع عثمان بن عفان عثمان بن عفان: تستحي منه الملائكة، يحبه المؤمنون، يكرهه المارقون. عثمان يساوي البر والإحسان، والصدقة والقرآن، والصبر والإيمان. بذل ماله بلا مِنَّة، جمع القرآن والسنة، فصحب الحبيب في الجنة. زحف الخطر فجهز جيش العسرة، وأقبل الظمأ فشرى بئر رومة، وتقدم الجوع فأطعم الناس، ودهمه السهر فقام بالقرآن. سموحٌ صفوح، لا يطالب بالثأر، فجرح بسيف الثوار. زوجه صلى الله عليه وسلم ابنتين، واشترى نفسه مرتين، وبايع لخليفتين، فاستحق لقب ذي النورين. غاب عن بدر؛ فناب عنه المسلمون، ذهب يوم العقبة في المهمة فناب عنه الإمام الأعظم، إن غاب حضرت أعماله، إن شهد حسنت خلاله، جهز جيش العسرة، فسمع المعلم الأطهر يقول على المنبر: {اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه راضِ} تكفل بمؤونه القوم فكوفئ بـ: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}. قتل فمزق مصحفه؛ لأن المضاف له حكم المضاف إليه، آخر أيامه كان صائماً، وآخر لياليه بات قائماً، قتل وهو يتلو القرآن فدخل من باب الريان، تسحر في المدينة، وصلى العصر في الروضة، وأفطر في الجنة. حسن عمله فطال عمره، وطاب مخبره فصح مظهره، أحسن الرفادة فكوفئ بالشهادة. عثمان أخذ من الإسلام السماحة، ومن الحق الوضوح، ومن الشمائل الحياء، ومن القيم البذل، المال عنده: نفعٌ في الملمات، والجود عنده: كشفٌ للكربات، والحياء لديه: نكوصٌ عن العثرات. كان يئن بالآيات في الهجيع، فرافقه القرآن إلى البقيع، فلله دره من ضجيع. هنيئاً لـ عثمان يوم اشترى الجنة بأغلى الأثمان، ذهب عثمان بصيامه وجهاده وتلاوته وحيائه وبره وإحسانه، وبقي ذكره والثناء عليه والدعاء له، وحبه يداً بيد، مثلاً بمثل، سواء بسواء، هاء وهاء. قتل من غير ذنب، وذبح من غير جرم، لكن منزلته السامية ومكانه الرفيع، لا يوصل إليه إلا بدم، ولا ينال إلا بشهادة، أما آن لـ عثمان أن يلقى الرحمن؟ أما آن للمجاهد أن يرتاح، وللصائم أن يفطر، وللمتهجد أن ينام؟

وقفة مع علي بن أبي طالب

وقفة مع علي بن أبي طالب علي بن أبي طالب: سر هذا الإنسان أنه يحب الرحمن ويحبه الرحمن. هذا الرجل شجاعٌ يجيد فن قطع الرءوس الوثنية على الطريقة الإسلامية، إذا ضرب بالسيف هزه هزاً؛ لأن في الرءوس مسامير اللات والعزى. أسلم طفلاً، وحضر بدراً شاباً، وتولى الإمامة كهلاً، وقتل شيخاً، فالسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً. هو صاحب تلك الكلمات، وأستاذ تلك العبارات، ومدبج تلك الجمل النيرات، لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، لا يخرج عليه إلا باغٍ، لا يسبه إلا فاجر. خطف رأس الوليد في بدر، وسلب جمجمة عمرو في الخندق، ونحر العاص بن وائل في يوم الفرقان، وكسر لواء الباطل يوم أحد، ودك الحصن يوم خيبر. علي مرفوع بين الرفض والنصب، الرافضة جاوزوا فيه العدل، وقالوا فيه بالجهل، وقد أغناه الله عن قيلهم، وتزكيته خيرٌ من تعديلهم، وأهل النصب نسبوا إليه المساوئ ودفنوا محاسنه ولم يرووها كما هي، فرفض أهل السنة فريضة الرافضة، ونصبوا نصاب العدل في وجوه النواصب، فـ عليٌ عند أهل الحق لاحت نجومه، وارتفعت سهومه. نهشته الحراب في المحراب، فسجد سجدة طويلةً لله لم يرفع رأسه بعدها أبداً، فصيحٌ لَسن، كل ما فيه حسن، ليعش أبو الحسن. ماذا نقول وهو ابن عم الرسول، وسيفه المسلول، وزوج ابنته البتول أبناؤه سادة الأبناء، وعمه سيد الشهداء؟ حطم جماجم المشركين، ومزق جلود اليهود، وكمم أفواه البغاة، وأخرج بالسيف أدواء الخوارج. شتت شمل الفتنة في الجماعة، وجمع شمل الأمة في الفتنة، جبر قناة الدين، وكسر رمح المعتدين، له في عالم البطولات فنون، وله في عنق الأمة ديون، وهو من الحبيب بمنزلة هارون. أعطى الدين كل همه، فنام في فراش ابن عمه، من أحب محمداً أحب علياً، ومن أحب علياً أحب محمداً. حطم درعه فتزوج به فاطمة، وكسر سيفه فعوض بذي الفقار، ومزق قميصه فألبس تاج: ويحبه الله ورسوله. طلب الشهادة في بدر؛ قيل له في أحد، فبحث عنها هناك؛ فنودي: لعلها في حنين، فهب إليها قالوا: ربما تكون في خيبر، فلما وصلها قالوا: تأخر الموعد، قال: ما أحسن القتلة في المسجد! قتلوه قتلهم الله، ألا سألوه عن العلم، فإنما شفاء العي السؤال. بديهته أسرع من الضوء، وأعجل من البشرى، وأنصع من الفجر، عالمٌ إن لجلج في الأعماق غاص، وإن طلب الحجة حضرت بلا مناص؛ لأنه من الخواص، جبنت نفسه عن طلب الدنيا فالأثاث حصيرٌ وركوة وملحفٌ وجفنة، وتاقت نفسه للجنة، فالزاد إيمانٌ وهجرةٌ وجهادٌ وشهادة، ما فر في معركة قط وما ضرب بسيفه في الكفار إلا قط. الناس فيه طرفان ووسط، ما بين غلوٍ وشطط، مادحٌ غلا حتى ادعى في عصاميته العصمة، وقادحٌ جفا حتى شك في صحة صحبته، وهو لا هذا ولا ذاك؛ بل هو ابن عم النبي الأمي المنير، وهو عالمٌ مجتهدٌ نحرير، للمؤمنين أمير، وبكل فضلٍ جدير. علي أشجع ما يكون إذا لقي، أرهب ما يكون إذا بكى، أصدق ما يكون إذا نطق، آنس ما يكون إذا ضحك. من مفاخر الشجاعة أن علياً وحيدها، ومن تفاهة الدنيا أن علياً لا يحبها، ومن مدائح المنابر أن علياً بطلها، ومن خصائص الشهادة أن علياً يخطبها. ترخص عندنا الدنيا إذا ذكرنا علياً، نشتاق للشهادة إذا ذكرنا علياً، يغضب الباطل إن أحببناه، ويثور الحق إن أبغضناه. علي طرازٌ آخر، وقصة أخرى، وشيءٌ ثان، إن تكلم فهي الكلمة الثائرة العابرة الصادقة، وإن ضرب فهي الضربة القاتلة القاضية، وإن بكى فهي الدمعة الحارة المعبرة الواعظة، وإن ضحك فهي البسمة الموحية الجاذبة الآسرة. زهدٌ إذا أقبلت الكنوز، ثباتٌ إذا ادلهمت الخطوب، شجاعة إذا حضرت الجيوش، فصاحة إذا ازدحمت الجموع، علي للمواقف، أبو الحسن للمعضلات، أبو تراب للأزمات، أحبك يا علي، وأحب من يحبك، يا أبا الحسن! أحبك حباً كثيراً طيباً كما تحب أن يكون الحب، وافياً مثلما تريد أن يكون الوفاء، صادقاً كما تهوى أن يكون الصدق.

وقفة مع بلال بن رباح

وقفة مع بلال بن رباح بلال بن رباح: صاحب أنشودة الكفاح الأولى، سحبوه وهو يردد: (أحدٌ أحد)؛ لأن الرجل ذاق: (قل هو الله أحد) الحياة عنده أن يموت الباطل، الموت لديه أن يعيش الباطل، رماه الكفار بالحجارة فأخذه الإمام ورفعه علىالمنارة، وصل بصوته أهل الأرض بأهل السماء، وأهل الفناء بأهل البقاء، والضعفاء بالأقوياء، فهو صمود المستضعفين أمام الجبروت، وقلعة البائسين في وجه المستكبرين، بلال قصة الإسلام يوم ألغى الرق، وحرر الضمير، وأنهى الاستبداد، وأكرم الموالي، تمثل فيه السمو بلا نسب، والنبل بلا مال، والرفعة بلا جاه، والعزة بلا عشيرة، أذن بلال الأسود على الكعبة السوداء معلناً سيادة الحق. بلال ثلاثة مشاهد: مشهد الحجارة السوداء تصلي جسمه، والأذان يتفجر من حنجرته، ونشيد: غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه بلال برهانٌ على عظمة المبدأ، وانتصار القيم، ورسوخ الميثاق. استعبده أمية فحرره أبو بكر، أرخصه الكفر؛ فأغلاه الإسلام، لفظته الأرض فاستقبلته السماء، ضربت قدماه بالسياط فسمع دفَّ نعليه على البساط، أزعج المشركين بنداء: (أحدٌ أحد) وأطرب المؤمنين بأذان: (أشهد أن لا إله إلا الله). موهبة بلال يعبر الأثير في صرامة وحرارة، ولدته أفريقيا، وربته آسيا، وأنصتت لصوته أوروبا، الأهل في الحبشة، والشباب في مكة، والعمل في المدينة، والمنصب على المنارة، والوفاة بـ الشام، والموعد الجنة. الإمام قرشي، والمؤذن حبشي، ماء النسب عقيدة، وصلة القربى مبدأ، وعروة المحبة إيمان، فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر. بلال حيث ينتصر الحق على الباطل، والحقيقة على الخيال، واليقين على الظن، والفقر الطاهر على الغنى الزائف. ألا يكفي جلادي العالم عبرةً أن السياط لا تلغي القيم، وأن المشانق لا تقتل مبادئ، وأن التعذيب لا يميت الحق، والدليل سيرة بلال، فقد بقي صوته ينقل حياً على هواء القلوب، عبر أثير الصدق والصمود والإصرار والصلاح والصبر. بلال: تحدى بطهره الحجارة، وبحنجرته الفضاء، وبحبشيته أمية بن خلف، وبالسواد البياض، وبالقلة الكثرة. إن جاءت الإمامة بشارة، قال: يا بلال! أذن في الناس، وإن حزبه أمرٌ قال: {أرحنا بالصلاة يا بلال}. في سيرة بلال: أن المجد لمن غلب، وأن النهاية لمن صبر، وأن العاقبة لمن افتقر، ركوة لشرب المعلم، وعصا بلال سترة للإمام، وعين بلال لمراقبة الفجر، وفم بلال لإعلان الميثاق. ركب بلال المنارة منادياً إلى الصلاة، وركب الكعبة صارخاً بالحق، وركب فرسه منافحاً عن الملة، ثم ركب أكتاف الأبطال إلى الجنة، والآن يرقد بلال بعد أن أدى ما عليه، وسلم ما لديه، وقاتل بيديه، وسعى بقدميه، ويكفيه أنه في الجنة يسمع دف نعليه.

وقفات مع العلماء التابعين

وقفات مع العلماء التابعين

وقفة مع أبي حنيفة

وقفة مع أبي حنيفة أبو حنيفة: الملة حنيفية، والفقه حنفي، والحلم أحنفي، ثبتت قدمه في النعيم؛ لأنه النعمان بن ثابت: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره كما المسك ما كررته يتضوعُ أثبت بالبرهان أن الموالي يفقهون عن الوالي، أخبر العرب أن العجم يفهمون اللسان، ونقل للعجم أن العرب أهل إحسان {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] تحرر من الرق بجودة عقله، فقيد لرفضه القضاء وأهله، كان أبوه أجيراً فشرب هو من عين العلم ففجرها تفجيراً، بائع بزٍ لا يؤمن بابتزاز المال من غير حله، الناس عيالٌ في الفقه عليه، والفقهاء إذا أعضلوا عادوا إليه، أبحر في محيط الشريعة فما عاد إلا بدرر، أدلى عليه التوفيق دلوه ثم نادى يا بشرى هذا غلام، يحدث بالرأي يوم لا حديث، ويفتي بالحديث يوم لا رأي. أصاب كثيراً فنسب أصحابه كل صواب إليه، وأخطأ قليلاً فألحق أعداؤه كل خطأ عليه، وهو رجل الصواب وليس بمعصوم، وقد يخطئ وليس بمذموم. أتباعه يدعونه بالإمام الأعظم، والفقيه الملهم، والعجم ينادونه: (مولانا شيخ أكبر عالم فقيهان) وخصومه يصفونه بضحالة الدليل وفقر البرهان، إن أفتى قال أصحابه: لا مساس، حضره القياس، وصاح شانئوه ما لهذا من أساس؟ قلنا لمحبيه: شيخكم إمام من الأئمة فقالوا: لا يكفي هذا بل هو سراج الأمة، شابت ذوائبه فشب عقله، وذبلت نفسه فاتقد ذهنه، إن فقد دليله أنقذه بحيلة، الرجل عظيم والحق أعظم منه، تبطن الفقه فظهر على لسانه الاستنباط، وتوشح الفقه فاهتز منه النياط. أحبه الهنود، وعجب منه الأفغان، وارتاح لرأيه الأتراك، وأنس به التركمان، ورضي مذهبه الأكراد، وشكره العرب، وإن لم تكن هذه العبقرية فلا ندري ما هي! أبو حنيفة عند الأحناف آية محكمة عند المحدثين لا بأس به عند أهل المذاهب الضالة لا بد أن يُتثبت من أمره؛ لكن بائع البز يشرح كلامه في الحرمين، ويدرس رأيه في الأزهر، ويذكر قوله في الزيتونة، ويدعى له في الأندلس، أخذنا من سيرته أن السادة بلا فهمٍ بهم، وأن الموالي بالعلم في العوالي، إذا فتشوا كتاب الأثر فتح عليهم دماغه فأخرج الحجة بيضاء من غير سوء آية أخرى. روى أحاديث فأشاد به الطحاوي والزيلعي، وتكلم بالرأي فأعجب به الزمخشري وعبد الجبار، وغاص في الفقه فهب إليه محمد بن الحسن وأبو يوسف. ولد في الكوفة، وتلاميذه في بغداد، ومخطوطاته في القاهرة، ورسائله في قرطبة، نقده الخطيب فعاد بـ التأنيب، عجب من حجته مالك، وأشاد بفهمه الشافعي فاستشهدوا شاهدين من رجالكم. إذا اشتهر الرجل وذاع فضله أصبح كالبحر يغرق سابحه، ويبتلع من ولجه، ويحمل من ركبه، وكذلك هو أبو حنيفة.

وقفة مع الإمام مالك

وقفة مع الإمام مالك مالك بن أنس: دار مع الإمامة، وهجر الدنيا لأنه إمام دار الهجرة، أبدع في الأثر فثار عليه أهل البدع، العقل الغزير علمه أن الوقار ملك، وأن العلم نور، وأن الإمامة مطلب، أسرته يمانية، ونشأته حجازية، وخلافته عراقية، ومدرسته مغربية. مالك بن أنس في خدمة العلم كـ أنس بن مالك في خدمة المعلم، تشابهت قلوبهم، لبى نداء الواجب فما أبطأ، ونطق بالحكمة فما أخطأ، ثم قدم للأمة كتاب الموطأ > خافه أعداء الملة وخصوم الشريعة، فنادوا: (يا مالك! ليقضِ علينا ربك) سكن الدار، وجاور الأنصار، ونشر الآثار. أرسل إلى العالم الموطأ، فنشر في التمهيد، ورتب في الاستذكار ونثر في المدونة، وضبط في الموافقات، علومه باسقاتٌ لها طلعٌ نضيد، جادل أبا حنيفة، وعلم الشافعي، وورث علمه أحمد. أما العقيدة: فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وأما الحديث: فثقة الراوي، وعدالة الشيخ، وشهرة المتن، وأما الفقه: فموافقة الأصل، واطّراح الشواذِّ، واتباع المشهور. وأما الزهد: فإظهار النعمة، واجتناب الحرام، ومخالفة الهوى، واطرّاح الدنايا. مالك بن أنس: هو الإيجاز في بلاغة، والبساطة في عمق، والتواضع في هيبة، رأه أبو جعفر فكبر، وقال: وطئ لنا العلم فقال له: سهل لنا الحكم. قال له القضاء: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] وأتته الدنانير فصاح: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وطلبه المنصب، فنادى: {مَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36]. يحرص على رفعة الملة، فثوبه جميل، وطعامه لذيذ، وفراشه وثير {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف:32] وعلمه نور، وكلامه در، ورائحته مسك، يجالس الملوك في سمو، ويواكل المساكين في تواضع، ويصاحب العامة بأدب، ويعلم الطلاب بهيبة، جمد في السائل فأفتى بتحريم النبيذ، وسال في الجامد فتساهل في لحوم الحمر. إن حضر خطف الأضواء، وإن غاب أضاء الأرجاء، غلطاته نوادر، وتبسمه في النادر. لبس النفيس ليظهر للمترفين عزة الدين، أبوه في اليمن؛ لأن الحكمة يمانية، وهو من المدينة من الذين تبوءوا الدار والإيمان، أكثر أهل الأندلس مالكية إلا أهل الظاهر، وأكثر أهل المغرب مالكية إلا أهل الباطن، علمه في نيجيريا والنيجر، ورواندا وأوغندا، وداهوم والخرطوم، في السنغال والبرتغال، في الحجاز بلاد الآثار، في الأندلس سرجة الأبصار، في أفريقيا رحبة الأقفار. إن تيقن النقل عظمه، وإن شك في الراوي طرحه، وإن ظهر له البرهان اقتفاه، وإن سمع الهذيان جفاه. أريد مدحه لكن القوافي تزدحم في فيَّ، هاجرت روحه إلى دار الهجرة، ونصر الشريعة في أرض الأنصار، وفارقت أنفاسه في طيبة، وهو اليوم يرقد في صدق مقعد، في بقيع الغرقد. أما القبور فإنهن أوانسٌ بجوار قبرك والديار قبورُ جلت مصيبته فعم مصابه فالناس فيه كلهم مأجور ُ يا مالك! أنت سلفنا ونحن بالأثر، وأنت عبرةٌ فهل من معتبر، هنيئاً لك الرضوان عند مليكٍ مقتدر.

وقفة مع الإمام الشافعي

وقفة مع الإمام الشافعي الشافعي: إمام العباقرة، وعبقري الأئمة، له في العلم سبب، وفي البيت نسب، وفي المروءة حسب. سالت قريحته فتفجرت أنهار الحكمة من على لسانه، وساقت رياح التوفيق سحب علمه فسالت أودية بقدرها، ذاكرته أصابها وابلٌ فآتت أكلها ضعفين. الشافعي: أخذ من الأثر روحه، ومن الفقه خلاصته، ومن البيان ناصيته، ومن الشعر حلاوته، ومن المجد ذروته. قعَّد للعلماء القواعد فغضب عليه أعداء الشريعة، لأنهم رضوا بأن يكونوا مع القواعد، فخرت به قريش، وتبجحت به العراق، وخرجت إليه مصر، حاور محمد بن الحسن فقطع أزراره، ورد على المريسي فأطفأ ناره، وجاور أحمد فشكر جواره. الشافعي: لدنيا العلوم شمس، ولأبدان الأخيار عافية، ولليل المدلهمات قمر، للشرع شعره، للحق بذله، للآخرة طلبه، لله سعيه، لما خرج إلى البلاد لبست بغداد الحداد وأمست في سواد، الألفاظ سكر، والقصيد درٌ نضيد. حفر لحداً للملاحدة، وعزل في زنزانة الإحباط المعتزلة، ورد الأباطيل في وجوه أهل التعطيل، إن سألناه عن أهل الكلام فبالجريد والنعال، وأهل السنة رواد الجنة، والفلاسفة أهل سفه، ومالك نجم الممالك، وأحمد بن حنبل زرع سنبل. أتاه المال ففر منه إلى العلم، وأتته الدنيا فهرب إلى الآخرة، تعلم الفراسة في اليمن، فكشف أهل الزيغ والأفن، تدجج بالحجج فألجم الدجاجلة، وصال بالأصول على أعداء الرسول، درس الطب فمرض جسمه، وداوى الناس فزاد غنمه. المروءة عنده: ولولا الشعر بالعلماء يزري التواضع: أحب الصالحين ولست منهم ميزة الشافعي التفرد، ومنقبته التجرد، تفرد في الفهم فعصر من زهر الذهن رحيقاً، وتجرد للحق فنسج من بز الشريعة ثوباً سابغاً، فاح طيب ذكره في الأنوف فيا فرحة من شم! وهزم الباطل فكأنه شم عطر منشم، الشافعي شهابٌ ثاقب، أحرقت به شياطين الإنس ولهم عذابٌ واصب، مسكينٌ من جادل الشافعي وناظره، مسكينٌ من عارضه وكابره، مسكينٌ من عرفه وما ذاكره. درس محمد بن إدريس علوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم فترك علماً لا يغسله الماء، ولا تطفئه الريح، ولا يلفه الظلام، ولا ينسيه الدهر. الرسوخ في يسر، العمق في سهولة، الأصالة في إشراق، البراعة في نصوع، أهل فارس يعرفونه، وأهل الصين يذكرونه، وأهل الأندلس يمدحونه، وأهل الباطل يبغضونه. إذا مرجت الآراء بزغ رأي الشافعي كالنجم الثاقب، إن تكلم أسكت الخطباء، وإن أنشد صمت الأدباء، أحب الملة فأمهرها روحه، وعشق العلم فأعطاه عمره، وأخلص الرسالة ففاضت لها نفسه، فهو عاشق المثل، سامي المقاصد، رجل المروءات، ناشر السنة بين أهلها، وناصرها على أعدائها، وحافظها لمحبيها، وشارحها لناقليها. إذا ارتحل بكى المحل، إذا انتقل شيّعته المقل، أنار بالوحي عقله، وجمع علم من قبله، وقال معاصروه: ما رأينا مثله. وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دمِ الغزال ورث أنوار الرسالة فألف للأمة الرسالة، مات أبوه فكفلته الأم، فقدم للناس كتاب الأم، إذا نطق الشافعي فكأن السيل أقبل، والفجر بزغ، والنور سطع، صحة مخارج، حلاوة لفظ، قوة حجة، براعة دليل، سلامة إنشاء، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. في الفقه إمام، في النقل حجة، في النسك علم، في اللغة أستاذ، في الذكاء آية، سارت به أمه من غزة فسبحان الذي أسرى، وعاش في مكة لينفع أم القرى. الشافعي لم يستند إلى النسب ولو أنه مُطَّلبي، وإن يتكل على الجاه فهو أبي، ولكنه أخذ بأسباب الخلود، وهجر أسباب الفناء، فأمات في حياته النفس الأمارة، وأحيا بوفاته النفس المطمئنة، فنوديت: ارجعي إلى ربك راضية مرضية. إذا كانت الحياة في البساط والسياط والسلطة والسطوة، فأين أصحابها بعد موتهم {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:98]؟ عاصر الشافعي خمسة ملوك، عاشوا أغنياء وهو فقير، هم في حشمٍ وخدم وهو في غربة وعزلة، بقي وذهبوا، ذكر ونسوا، عاش وماتوا؛ لأنه أمات الدنيا في حياته، وأحيا الآخرة قبل وفاته، وهم أشربوا في قلوبهم عجل العاجلة، وأخروا في بطاقة أعمالهم الآخرة، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف. عند الشافعي اتباع الأثر عبادة، الوقوف مع النقل عقل، توقير الصحابة عقيدة، رد الشبه جهاد، تعليم الناس ربانية، ترك المعاصي هجرة، أهل الحديث رءوس، المبتدعة سفلة، علم الكلام غي، المنصب ذل، الدنيا دنيئة. بدا إلى البادية فهز شعر هذيل، احتسى علم مالك ومص فهم أبي حنيفة، وجمع بين النثر والشعر، والرواية والدراية، والعقل والنقل. الشافعي عروبةٌ حجازية، وفصاحةٌ عراقية، ورقة مصرية، أعجب ما فيه روح التجديد في المذهب القديم، وقدم التأصيل في مذهبه الجديد. سخر الشعر للشريعة، والنحو للوحي، والرأي للرواية، والتعليل للتأويل، حملته الهمة فأضناه الطلب، وخلع الدنيا فلبس تاج القبول، خاف الدنيا والدنايا، وجانب الشيطان والشر والشهوة والشبهة، إن خطب أطرب وأطنب، وأتى بكل أطيب، وإن أفتى شفى وكفى وأوفى. فلج خصوم الإسلام، ونكّس رايات الأقزام، وأبقى ذكره للأيام، دمغ الضلال، واكتسح الجُهال، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال. انكسر به ظهر الجبرية، وثلم به قدر القدرية، وأخرجت حججه شبه الخوارج، واهتز بيده سنان السنة.

وقفة مع الإمام أحمد بن حنبل

وقفة مع الإمام أحمد بن حنبل أحمد بن حنبل: إمام السنة، وبطل المحنة، وعلم الزهاد، وصاحب الإسناد، أرادوا صرفه عن السنة فما انصرف؛ لأن أحمد ممنوع من الصرف فأثبت في مستنقع الهول رجله وقال لها من دون أخمصك الحشرُ تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضرُ رد الأغلاط فضربوه بالسياط، وأرسل على الجهمية شهباً، وأدخلوه الكير فخرج ذهباً، وأرادوا إسكاته فصاح الجمهور، وحبسوه فطارت دعوته، وقيدوه فانطلق علمه، وحاصروه فانتشرت مناقبه. أحمد بن حنبل، وأحمد بن أبي دؤاد هذا في وادٍ وذاك في واد، وسوف يتجلى الأمر يوم التناد، أحمدنا سني المذهب، صافي المطلب، رفيع المنكب، سلفيٌ نجب، وأحمدهم نجم بدعة، وصاحب وقعة، بعيد رجعة. الإمامة عند أحمد قولٌ وعمل، سنة وجماعة، مغالبةٌ للهوى، كسرٌ للنفس، اقتداءٌ بمن سلف، احترامٌ للنص، اضطراح للفضول، محافظةٌ على الفرائض، تزودٌ بالنوافل، ترقبٌ للأجل، تقصير للأمل. أحمد بن حنبل، عملٌ في هدوء، إجهادٌ في سكون، لموعٌ في تواضع، أنفة في سكينة، إباء في رقة، جلد شفاف يكسر عصا المعتصم، قلبٌ لا يتوكل على المتوكل، همةٌ لا تثق بـ الواثق. فمٌ عفيفٌ يقول لا بقوة، نفس راضية ترفض بيع الضمير، بلوه بأنفسهم في بيته فأرق عيونهم في بيوتهم، اقتحموا منزله فهز منزلتهم، طاف به الحجاب فما أجاب، هددوه فما أجاب قط، ولسان الحال يقول: أوللبط تهددين بالشط. أحمد بن حنبل ذوبوه بالنار فجمد، خوفوه بالسيف فصمد، يكفيه أنه اضطهد وجلد، أرادت أن تغيظه الدنيا فدانت له بالغلبة، أسكتته الحكمة فأنطقه العلم، بَعُدَ من الدنيا فدنا من الآخرة. الحق حصانه، الحجة سلطانه، الصدق برهانه، السنة عنوانه، أفرح ما يكون إذا انتهى خبزه، أغيظ ما يكون إذا كثر كنزه، الدنيا عنده ثوبٌ وعمامة وحذاءٌ ورغيف، والآخرة سجدةٌ ودمعةٌ وفكرةٌ وعبرة، هدده المعتصم فاعتصم بالله، أوثقه الواثق وقال: وافق، فقال: معاذ الله، ناداه المتوكل إلى المآكل فقال: كلا. سمن فهمه فهزل جسمه، عظم ثوابه فبليت ثيابه، رث منزله فحسنت منزلته. العلم عنده نص، والمقصد الله، والأمنية رضاه، والقدوة محمد، والزاد زهد، دعها فإنها مأمورة، أبصر محاسن الزهد في دفتر الحسن، وقرأ سعادة الأولياء في لوح سعيد، ولقط ذرات التقشف من صحن أبي ذر، وأيس من الناس كـ أويس، وثار على الجهمية كما فعل الثوري، وعبس في وجوه المبتدعة كمثل ابن عباس. أحمد: من المحبرة إلى المقبرة، من المحنة إلى المنحة، من التعذيب إلى التهذيب. أحمد: الصباح ورد، والضحى نافلة، والظهر تفكر، والعصر استغفار، والمغرب إنابة، والعشاء محاسبة، والليل بكاء، والفجر ابتهال. حمل على رأسه الحطب فصعد منبر المسجد وخطب، حصد الزرع بالأجرة في اليمن فزرع سنابل القبول في قلوب أهل السنن، سال عرق جهده في العراق، وسمع جميل ذكره في الشام، وقرئ حديثه في القيروان، صنع تابوت الهمة في صنعاء عند عبد الرزاق، نهل الأثر من ذات المعين، فهو أوثق رجلٍ عند يحيى بن معين. حماية ثغر الشريعة رباطه، دعاء السحر سياطه، جبهته في الليل بساطه، الصلاح حسامه، التبكير سهامه، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. ناضل أحمد بقلم النقل في وجه شبهات العقل للمحافظة على سمة الإسلام من سموم الأقلام، كسرات الخبز أغنته عن كنوز كسرى. أحمد: قلة لفظ، وقوة حفظ، وغزارة علم، وجودة فهم، وصحة عبادة، وجلالة زهادة، الوحي عنده هو المعيار، والسنة لديه هي المسار، وشيوخ البدعة هم مسجد الضرار، بناؤهم على شفا جرفٍ هار. إن صحح حديثاً لم تصبه علة، وإن أعلّ رجلاً وافقه حفاظ الملة، انصدع به جدار الضلال، وأصاب الصداع الشيوخ الضلال، أزعجه ذكر الموت فما ضحك، وأذهله قرب الفراق فما فرح، إذا رأى الأولياء انبسط، وإذا شاهد المبتدعة انقبض، عبس للغنى وتبسم للفقر، إن حضر غاب الجهل وأصحابه، وإن غاب حضر الزيغ وأربابه، كنزه وقته، هيبته صمته، جدَّ في الآخرة فهزل بدنه، استراح من الدنيا فقوي قلبه، أجمل منظرٍ لديه المحابر السود، والعمائم البيض، عاد المجد للملة بـ أحمد، فعاد النصر لحملتها والعَوَد أحمد، سكت في الرخاء فتكلم الجبناء، تكلم في الشدة فوجل منه العظماء، سر إصراره الرفض، وعظمة رفضه الإصرار، لغز إنجازه الإيجاز، وحل حيلته أكل الحلال، أصر على السنة ورفض المساومة، وأجاد المهادنة، وانتصر في المقاومة، ورفض الرشوة؛ فاستحق الوسام. احتر بالغيرة فتمدد علمه، برد بالصبر فانكمش نهمه، هجر الشهرة فطار اسمه، خفق قلبه للآخرة فسطع نجمه، بشر بشراً بالشر، وتجهم في وجه جهم، وهز بالآيات ابن الزيات. جلدوه فدعا لهم، أعطوه فاستعاذ منهم، حبسوه فسامحهم، ضحكوا له فبكى، سخروا منه فضحك، اقتربوا فابتعد، قاموا فقعد، دنا بالحكمة فشردوا بالبدعة، حبسوه حياً وحملوه على الأكتاف ميتاً: لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى أُحثَّا أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني في الحق أركبت نفسا قال: نعم ثلاثاً، وقال: لا ثلاثاً، قالوا له: الزم بيتك، قال: نعم قالوا: واعف عمن ظلمك قال: نعم. قالوا: وسامح من ضربك قال: نعم. قالوا له: وافقهم فيما قالوا، قال: لا. قالوا: فاخرج عليهم قال: لا. قالوا: فاقبل أعطياتهم، قال: لا. هو بدر التمام، وعلم الأعلام، والرجل الإمام، والسلام.

شيخ الإسلام ابن تيمية

شيخ الإسلام ابن تيمية شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، إمام الندى والبأس، جده قمر، وأبوه نجم، وهو شمس {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12]. ابن تيمية شيخ الحافظين لميراث الهادي الأمين، وعلم المجددين للدين، أرسل على المبتدعة التدمرية تدمر كل شيء بأمر ربها، وأنزل حمى الويل في الحموية على المعطلة، وبطح البطائحية بحججٍ كالقذائف وكل بطاحٍ من الناس له سهمٌ بطوحُ انتصر على النصيرية، وكسر أنوفهم في جبل كسروان. دخل على الأمة طيف الأشاعرة {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} [الكهف:19] فاستيقظ أبو العباس لما نادته الملة، فقال: كلا والله، فدفع التأويل بالدليل، والشبهات بالآيات، والظن باليقين، وراغ عليهم ضرباً باليمين. سطعت حجته، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، والناس في هذا الإمام مذاهب شتى، لم يتخذ زوجةً وما أنجب ولدا، ولم يضيع عمره سدى، بل أرسل شهبه على الضلال كلٌ يجد له شهاباً رصدا، فلم يغادر منهم أحدا، بل تركهم بدداً. ابن تيمية: علمٌ معقود، وسرادق للعلم ممدود، والرجل محسود. أعيذك يا فرد البطولات! بكلمات الله التامات، فاهجر خصومك، وانشر علومك. ابن تيمية: أحاط بشرع الهادي المحيط، بحر البحور، ودر النحور، ركب منبر الجلالة، فنادى لسان التوفيق: طبت وطاب مسعاك، أبحرت سفينة التوفيق إلى ساحل القبول ونادى منادي الشريعة باسم الله مجراها ومرساها، فاستوت على جودي الحق، وقيل: الحمد لله رب العالمين. ابن تيمية مجتهدٌ في التفسير كـ مجاهد، وذو ملكة في الاستنباط كـ مالك، وأحيا السنة في الأوطان كـ يحيى القطان، ومسددٌ في الحديث كـ مسدد، وأعطى من علمه كـ عطاء، أمةٌ في رجل، جيلٌ في فرد. دعا الظلمة إلى السياسة الشرعية، والمعطلة إلى الملة المحمدية، والأشاعرة إلى المحجة السلفية، سكن في غرفة فحلت في كل المهج، أبى المنصب فحظي بمنصب تذكارٍ في القلوب، سجن وهو حي فشيعه الناس وهو ميت، إذا تكلم فالسلام على المتكلمين، وإذا كتب أرضا الكرام الكاتبين، وإذا نطق صار بيت المنطق من طين. ابن تيمية: عجيبٌ عند أهل الملل، غريبٌ عند أهل النحل، جريء عند أرباب الدول، نزل له القبول في القلوب وبالحق نزل، سل سيفه على الدهرية، وأغمده في صدور القبورية، وضرجه بدماء النصيرية، كالمطر إن هل عمَّ وإن سال طمَّ وكالأسد إن شك شمَّ وإن عدا رمَّ، وكالبدر إن سطع تمَّ وإذا ذهب التمَّ. أمَّ في المحراب وعلم الكتاب، وسمع الجهاد فأجاب، ألغى الانحراف وكشف السراب، خرج بالبتار على التتار، فأذاق جند هولاكو الهلاك، جدد للدين ما اندرس، ودرس به من البغي ما تجدد، رفع للدين مناراً، وأوقد لأعدائه ناراً، فلم يُبقِ منهم دياراً. الزهد عنده: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع: اجتناب ما قد يضر، والخوف: ما حجزه عن المعاصي، والشجاعة: ما نصر به الحق، والوسطية: ما دل عليه الوحي، والحياة مبدأ، والرفعة سجدة، والذلة التلصص بالعلم، ملك أعداءه أسباب الدنيا فماتوا وهم أحياء، فلا ذكر ولا أثر، لو اطلعت على كتبهم لوليت منهم فراراً، ولملئت منهم رعباً، وملك هو أسباب الآخرة؛ فعاش وهو ميت بعلمه وسيرته، فلو قرأت كتبه لقلت الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. ابن تيمية، في الكتاتيب مجتهد، وفي الكتائب مجاهد، للفضائل إمامها للحوادث حسامها للفتن زمامها للمعاني نظامها، للفتاوى يمنها وشامها للأدب بحتريها وتمامها للتقوى كعبتها ومقامها. إذا سال من يراعه الحِبر قلت: هذا هو الحَبر الذي يشبه البحر؛ لأنه حرٌ حركته حرارة الحق لمدارج الحرية، فرق بـ الفرقان شراذم الضالين، وأسكت بـ الجواب الصحيح أتباع المسيح، وهاج على الرافضة بـ المنهاج، وذبح الشاتم بـ الصارم، حل زمام أهل الحلول، واصطدم بحد صارمه أرباب الاتحاد، عرض المخالفون بضاعتهم المزجاة، وصاحوا بكم نقول، فأبطل بيعهم بـ صحيح المنقول وصريح المعقول، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. تيم ابن تيمية بنور الرسالة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ألقى عصا حجته على سحرة زمانه، فإذا هي تلقف ما يأفكون، فويلٌ لهم مما يصفون. ما تزوج وقد قارب السبعين؛ لأنه خطب الحور العين، بتّ بعلي عزمه رأس الشهوات مرحباً، وخاض بجنود إيمانه شقحباً، يكسو بالنحو أقوال الكسائي، ويرد بأشعاره تأويلات الأشعري، ويفحم بردوده الماتريدي. أعطى من البراهين ما قطع به شبهات واصل بن عطاء، وألهم عند الاحتجاج ما قطع به دابر الحلاج. ابن تيمية: للملة ابن بار، يدور مع الدليل حيث دار، توقف الناس في مسائل العلم فتقدم، وتقدموا لأبواب الدنيا فتوقف، مقدمٌ على المروءات، محجمٌ عن المزريات. إن طال الليل قصَّره بالقيام، وإن قصر النهار طوله بالصيام، يبرد حرارة الغيرة بالصبر، ويذيب قسوة القلب بالفكر، ويسيل جامد الدمع بالذكر، ترك القصور للمقصرين، ورمى الحطام للسفلة الطغام. ابن تيمية: يوم كان يمرغ لربه أنفه في الطين كان أقرانه على أبواب السلاطين، يوم كان يرد على أعداء السنة كانوا يردون عليه، اشتغل بالله واشتغلوا به، ترك لهم الدنيا والدراهم والدنانير فحسدوه على العلم والفهم والحِكَم، جنته وبستانه في صدره، وطاعة مولاه في عسره ويسره. طار ذكره من طنجة إلى البنجاب، فسجنه الحجاب، فضرب بينهم بسورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، سجنه خلوة، تعظم فيه حسناته، وتحفظ فيه أوقاته، وإخراجه من البلد سياحة، وإيقافه عن الوعظ راحة، وقتله شهادة؛ لأنه جهز زاده، وسمن جواده، وهيأ عتاده، له دفتر البطولات، يكتب فيه ما شاء، وله كتاب العبقرية يملؤه بذلك الإنشاء، {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]. يأيها الحساد! الرجل قد ساد، وأجاد وأفاد؛ لأنه طويل النجاد، باسط العماد، جاهز العتاد، طيب الزاد. يأيها الأعداء: الإمام بلغ الجوزاء، وجاوز البلغاء، وخطب ود الخطباء، أنف أن يموت قبل أن يرغم الكاذبين، فرغم أنف التاريخ إن لم يكتبه في الصادقين.

§1/1