سلسلة التفسير لمصطفى العدوي

مصطفى العدوي

تفسير سورة النساء

تفسير سورة النساء [1-3] لقد حدد الإسلام معالم الحقوق بين الناس بنظام بديع، فهو يدعو إلى احترام حقوقهم وأدائها دون استغلال لحالة ضعف صاحب الحق مما يؤدي إلى ظلمه، وبين أيدينا أنموذج للمعاملة مع اليتامى في أداء أموالهم إليهم، وما يراعى عند قصد الوصي نكاح اليتيمة التي في حجره، كل هذا مصدراً بالتذكير بتقوى الله عز وجل ونعمته في الخلق والإيجاد، والتذكير برقابته على الناس جميعاً.

بين يدي السورة

بين يدي السورة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فسورة النساء سورة مدنية، أي: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما نزلت سورة النساء الطولى إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فهناك سورة النساء الطولى، وسورة النساء القصرى، فسورة النساء القصرى هي سورة الطلاق، أما سورة النساء الطولى فهي سورة النساء التي بعد سورة آل عمران في ترتيب المصحف؛ فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما نزلت سورة النساء الطولى إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو يفيد أن سورة النساء مدنية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما تزوج عائشة إلا بالمدينة، فدل ذلك على أن سورة النساء مدنية، وفيه رد على من يقول إن كل آية فيها (يا أيها الناس) إنما نزلت بمكة، وكل آية فيها (يا أيها الذين آمنوا) إنما نزلت بالمدينة، فهذا الإطلاق لا يوافق عليه مطلقاً، فإن قال: هذا هو الغالب سُلِّم له قوله. وفيها آيات يعدها كثير من أهل العلم من أعظم آيات الرحمة والرجاء، كقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31] ، وكقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] ، وكقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] ، وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فهذه كلها آيات الرجاء، وآيات تبين سعة رحمة الله عز وجل بالعباد.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم ... ) وما قيل في سبب نزولها يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] ، قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ؛ (يا) : حرف نداء، و (أي) منادى، والهاء للتنبيه، أما (الناس) فلها اشتقاقان: فمن العلماء من يقول: إن (الناس) مشتقة من النوَس، والنوَس من الحركة، ومنه قول أم زرع في وصف أبي زرع كما في حديث عائشة رضي الله عنها: (أناسَ من حلي أذني) أي: ملأ أذني حلياً حتى اهتز الحلي فيها. ومن العلماء من يقول: إن (الناس) مشتقة من النسيان؛ لأن هذا شيء جُبِل عليه الناس حتى الأنبياء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (فنسي آدم فنسيت ذريته) . ولهذه الآية سبب نزول صحيح عند بعض العلماء، وإن كانت أغلب أسباب النزول ضعيفة لا تثبت، وكثير من إطلاقات أهل العلم أن آية كذا نزلت في كذا وكذا لا يسلم لهم، خاصة إطلاق القرطبي رحمه الله تعالى، أو الإطلاقات التي تأتي عن كثير من التابعين كـ قتادة والحسن البصري وغيرهما من أهل العلم رحمهم الله تعالى. وقد تتعدد أسباب النزول للآية الواحدة، فيحدث أمر، ويحدث أمر آخر، ويحدث أمر ثالث فتنزل الآية شاملة لكل ما حدث، كما في قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فقد قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: نزلت في الأنصار لما قالوا: نبقى في أموالنا نصلحها، لما كثر الإسلام وأعز الله تعالى ناصريه، وقال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أو غيره: إنما نزلت {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] في الرجل يذنب الذنب ويقول: لا يغفر الله تعالى لي، فيسلم نفسه للشيطان ولا يستغفر، فهذا إلقاء باليد للتهلكة، وثم أقوال أخرى، ولا يطعن سبب في السبب الآخر ما دام قد صح الإسناد إلى قائله. وسبب نزول هذه الآية عند القائلين به ما حاصله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في المسجد، فجاءه قوم من غطفان مجتابي النمار -أي: يلبسون جلود النمور-، وعليهم أثر الفاقة والفقر، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما بهم من الفاقة والفقر خرج وتلا على أصحابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] ، فقام رجل فتصدق، فتبعه آخر فتصدق، فتبعه ثالث فتصدق، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) . والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تلاها لما قدم عليه الوفد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الأمر بالتقوى واقترانه بصفة الخلق

الأمر بالتقوى واقترانه بصفة الخلق وقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} التقوى: أن تجعل بينك وبين غضب الله تعالى عليك وقاية، أو تجعل بينك وبين عذاب الله تعالى وقاية، فأصل التقوى مأخوذة من التغطية أو التستر، قال الشاعر: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتَّقتنا باليد أي: غطت وجهها بيديها. قوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ، قال كثير من أهل العلم: عبر بلفظ الخلق أو بصفة الخلق هنا دون غيرها من الصفات؛ لأن الناس المخاطبين بالآية كانوا يقرون بصفة الخلق، فمن ثم خاطبهم بالصفة التي يقرون بها، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] ، فلما خاطبهم الله تعالى بقوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} خاطبهم بصفة يقرون بها، ويدينون بها لله سبحانه وتعالى مسلمهم وكافرهم، ويقرون بأن الخالق هو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة} النفس الواحدة هي آدم صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} هي حواء عليها السلام، ولم يرد لحواء ذكر في الكتاب العزيز باسمها، وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ورد فيها ذكر حواء، ففي صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها) . وقوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يفيد أن حواء خلقت من آدم وهو الصحيح لا شك، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوضح ذلك، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة خلقت من ضلع) الحديث، فهي خلقت من أحد أضلاع آدم على ما فهم من حديثه عليه الصلاة والسلام، وعلى ما ذكره الشراح، ولذلك تجد المرأة تميل إلى الرجل، والرجل يميل إلى المرأة. وفي قوله تعالى: ((زَوْجَهَا)) دليل على إطلاق لفظ الزوج على المرأة، ولفظ الزوجة وإن كان جائزاً، لكن الأفصح استعمال (زوج) بغير تاء، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189] ، وأما لفظ (الزوجة) فمنه قول عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (والله إني أعلم أنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتتبعوه أم تتبعوها) . لكن الأفصح أن يقال: (زوج) بغير تاء. قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا} بث، أي: فرق ونشر، و (منهما) أي: من آدم وحواء. وقوله تعالى: {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} أي: ونساء كثيراً كذلك، فحذفت كثيراً عند ذكر النساء لدلالة السياق عليها، وهذا وارد بكثرة في كتاب الله تعالى، ومنه قول الله تعالى حكاية عن سليمان صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ، أي: حتى توارت الشمس، فحذفت لدلالة السياق عليها. فإن قال قائل: فما هو الدليل على أن النساء كثير؟ قلنا: إنَّ النساء أكثر -لا شك- من الرجال، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء) ، وأهل النار أكثر بكثير من أهل الجنة، لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، ولقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، إلى غير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)

تفسير قوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} كرر الأمر بتقوى الله تعالى لبيان أهمية التقوى، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ، فأوصى الله الذين أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوصانا بتقوى الله. وقوله تعالى: {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} أي: الذي يسأل بعضكم بعضاً به، فيقول أحدكم للآخر: أسألك بالله، فهذا قول، وثم معانٍ أُخَر. وقوله تعالى: {وَالأَرْحَامَ} أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، أو على المعنى الآخر: واتقوا الأرحام التي تساءلون بها، فيسأل بعضهم بعضاً بالرحم، فيقول: أناشدك الرحم، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] وقد حذر الله تعالى من قطع الأرحام أشد تحذير، قال سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25] ، فقطع الأرحام كبيرة بالاتفاق. والأحاديث في قطع الرحم والتحذير منه كثيرة جداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله الخلق، قامت الرحم فتعلقت بالعرش وقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة -أي: شخص يعوذ بك من القطيعة هذا مقامه- فقال الله لها: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب! قال: فهو لك) ، فيقطع الله تعالى من قطع الرحم، ويصل الله عز وجل من وصل الرحم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي، إنما أوليائي المتقون، إلا أن لهم رحماً سأبلها ببلالها) أي: سأصلها بصلتها، ومعناه: أن الرحم شبيهة بالجلد جلد الشاة أو جلد الماعز اليابس، فإذا وضعت على الجلد اليابس ماء أصبح ليناً في يديك، أما إذا لم تضع عليه الماء ولم تبله فسيصير يابساً يعسر عليك ثنيه، فأرحامك وأقاربك إن كنت تصلهم وتهدي إليهم وتودهم سيصيرون لينين في يديك، فإذا أمرتهم بأمر أطاعوك، وإذا نهيتم عن نهي اتبعوك، وأما إذا لم تكن تصلهم وتبلهم بالبلال فسيصيرون يابسين في يديك، كلما أردت منهم شيئاً عصوك؛ لأنه ليس لهم فيك منفعة. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] .

أموال اليتامى وما جاء فيها

أموال اليتامى وما جاء فيها قال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2] قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] أي: الذين كانوا يتامى؛ لأن اليتامى لا يؤتون الأموال إلا إذا كبروا، فإذا كبروا لم يصدق عليهم أنهم يتامى؛ لأنه لا يُتْم بعد احتلام، فإيتاء الأموال لليتامى لا يكون إلا بعد أن يكبروا. فإطلاق اليتامى هنا من باب إطلاق الاسم على الشيء باعتبار ما كان عليه، ومنه قوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:46] ، إذ لا سجود مع سحر، ولكن أطلق عليهم (السحرة) باعتبار ما كانوا عليه من السحر. كما يطلق الاسم على الشيء باعتبار ما سيئول إليه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] فأطلق تعالى على أموال اليتامى (ناراً) باعتبار ما ستئول إليه. ومعنى: ((وَآتُوا)) أي: أعطوا، وحد اليتم البلوغ ويحصل بواحد من ثلاثة أشياء: الأول: الاحتلام عند الرجل والمرأة، أو الحيض عند المرأة. الثاني: السن وهو خمسة عشر عاماً؛ لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة للبلوغ فلم يجزني وردني، وعرضت عليه يوم الأحزاب وأنا ابن خمس عشرة فأجازني) فجعله بعض العلماء حداً للبلوغ. الثالث: إنبات شعر العانة حول الذكر أو الفرج، وهذا حد لبعض العلماء مستدلاً بحديث محمد بن كعب القرظي: (أنه لما قضى سعد بن معاذ في يهود بني قريظة أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، ففتش عن الصبيان فمن وجد قد أنبت قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكان محمد بن كعب فيمن لم ينبت) . قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء:2] ، أي: مع أموالكم، فحروف الجر تتناوب في الكتاب العزيز، فـ (إلى) تأتي بمعنى: (مع) و (مع) تأتي بمعنى الباء، وهكذا. قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ} أي: أكل أموال اليتامى، {حُوبًا كَبِيرًا} أي: إثماً كبيراً. فأكل أموال الناس بالباطل كله إثم، ولكن أكل أموال اليتامى أشد إثماً من أموال غيرهم، فقد يكون الشيء محرماً ويزداد تحريماً لقرينة أخرى، فالزنا حرام لا شك في ذلك، لكن الزنا بحليلة الجار أشد حرمة، والكذب حرام، لكن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حرمة، والكذب على الله أشد من ذلك، والمعصية في كل مكان حرام، لكن المعصية في البيت الحرام أشد حرمة لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] ، والمعصية من أي امرأة حرام، والفاحشة من أي امرأة حرام، لكن الفاحشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشاهن من ذلك- أشد حرمة، لقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] . وإذا تكاثرت نعم الله تعالى على العبد كانت المؤاخذة أشد، وإن قلت نعم الله تعالى على العبد كانت المؤاخذة أقل، فالأمة إن زنت فعليها نصف ما على الحرة من العذاب؛ لأنها لا حق لها أصلاً في القسم، فإن شاء جامعها وإن شاء لم يجامع، أما الحرة فلا بد من القسم لها. فأكل أموال الناس محرم، لكن أكل أموال اليتامى {كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أي: إثماً كبيراً؛ لأن اليتيم ضعيف ليس له أحد يرعاه ولا يدافع عن ماله ولا ينافح عنه، فقد تضرب اليتيم على رأسه وتضربه بالرجل ولا أحد يدافع عنه، ولو أن له أباً فلن تستطيع أن تفعل ذلك، فلذلك دافع الله تعالى عنهم بما شرعه في كتابه من وقاية وحماية لهم. والأحاديث في كفالة اليتيم والحث على رعايته في غاية الكثرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وجاءت امرأة بطفلتين لها إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تسألها الصدقة، فلم تجد عائشة عندها شيئاً تتصدق به إلا تمرة، فأعطتها التمرة، فأخذت المرأة التمرة وشقتها نصفين، نصف لهذه الطفلة ونصف لهذه الطفلة، فتعجبت عائشة من فعلها، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله قد أوجب لها الجنة) وقال: (من ابتلي بشيء من هؤلاء البنات فأحسن إليهن كن ستراً له من النار) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وإيتاء اليتامى أموالهم يتمثل في صورتين: الصورة الأولى: الإنفاق عليهم من أموالهم وعدم الشح عليهم أثناء صغرهم. والصورة الثانية: تسليم الأموال إليهم بعد البلوغ، لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] .

تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى.

تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى.) قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] . قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أقسط أي: عدل، وقسط: جار وظلم، فمن الأول قول النبي صلى الله وعليه وسلم: (المقسطون على منابر من نور يوم القيامة الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا) ، ومن الثاني قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15] . فقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} أي: ألا تعدلوا في مهور وصداق اليتامى، فالنساء سواهن كثير. والذي دل على المحذوف المقدر هو سبب النزول، فقد سأل عروة عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فورد عنها في ذلك روايتان: الرواية الأولى: (كانت اليتيمة تكون عند وليها، فتكون ذات مال وجمال، فيريد أن يتزوجها من أجل مالها وجمالها، ولا يريد أن يقسط لها في الصداق، أي: أن يعدل لها في الصداق، فأمرهم الله حين رغبوا في مالها وجمالها أن يتزوجوها، أن يقسطوا لها في الصداق، أو يتزوجوا نساء أخريات. الرواية الأخرى: أن هذه يتيمة تكون في حجر وليها ليس له فيها حاجة -أي: لا يرغب أن يتزوجها- ولا يريد أن يزوجها لناس آخرين خشية أن يأخذوا الميراث، فيتزوجها كرهاً من أجل حبس ميراثها، ولا يقسط لها في الصداق، فنهوا أن يتزوجوهن إلا عند العدل في الصداق. وفي قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} دليل على جواز تزويج الصغيرة؛ لأن اليتيمة هي الصغيرة، فدل ذلك على بطلان القانون الوضعي الذي يمنع الزواج بالصغيرة، ولكن لا يُمكّن منها إلا بعد أن تتحمل الوطء، فالرسول صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله تعالى عنها وهي بنت ست، وبنى بها عليه الصلاة والسلام وهي بنت تسع، فدل ذلك على أنه يجوز تزويج اليتيمة، واليتيمة هي التي لم تبلغ. والقسط في مهر اليتيمة مبني على الأعراف السائدة بين الناس، فإذا كانت الواحدة من النساء تتزوج بخمسة آلاف جنيه، فاليتيمة أيضاً تتزوج بخمسة آلاف جنيه، وتبلغ أعلى سنتها في الصداق، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (اجعلها أعلى سنتها في الصداق) وفي الآية دليل على مشروعية مهر المثل، ومن الأدلة على ذلك: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى في بروع بنت واشق وكان زوجها مات ولم يسم لها صداقاً أن لها مهر مثلها، من غير وكس ولا شطط) فقوله صلى الله عليه وسلم: (من غير وكس) أي: من غير بخس (ولا شطط) : أي: ولا غلو، فأصبح الدليلان يدلان على مشروعية مهر المثل.

تفسير قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء.

تفسير قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء.) قوله تعالى: {فَانكِحُوا} أي: تزوجوا، والنكاح له معنيان: فيأتي بمعنى عقد التزويج، ويأتي بمعنى الجماع أو الوطء. فالنكاح: عقد التزويج في الشرع، ولكن في اللغة أصل النكاح: الضم والتداخل، كما يقال: نكح النوم عينه، فالنكاح في عموم الآيات الواردة في الكتاب يأتي بمعنى عقد التزويج، إلا في مواطن قليلة كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) . وقوله تعالى: ((مَا طَابَ لَكُمْ)) (ما) لغير العاقل، و (من) للعاقل، والعلماء يقولون: إن (ما) تأتي في كتاب الله تعالى للعاقل ولغير العاقل، والدليل على إتيانها للعاقل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:5-6] ، فـ (ما) هنا لله سبحانه وتعالى، وهذا دليل على إتيان (ما) للعاقل. وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} أي: مثنى إن شئتم، {وَثُلاثَ} إن شئتم {وَرُبَاعَ} إن شئتم. والواو تكون للتخيير، وتكون للجمع، وأحياناً تأتي بمعنى التنويع، كقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] . وأحياناً تأتي الواو عطفاً للصفات كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:1-4] . الواو في قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} للتخيير، أي: مثنى إن شئتم، وثلاث إن شئتم، ورباع إن شئتم. فإن قال قائل: إن الآية محتملة الجمع كما قالت الشيعة، فيصير العدد تسعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج تسعاً فلا بد أن يكون هناك من الحجة ما يبطل مثل هذا القول. فإذا حاججتهم بأن الواو هنا مقتضية للتخيير، فله وجه، لكن ليس بوجه قاضٍ على قولهم، وأما حديث الباب: عن غيلان بن سلمة رضي الله تعالى عنه كان متزوجاً عشراً، فلما أسلم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارق ستاً ويبقي أربعاً، فهذا الحديث الراجح فيه أنه معلّ. وإنما يحتج عليهم بإجماع أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام على أنه لا يزيد الرجل على أربع نسوة، ولم يكن فيهم واحد على الإطلاق على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم له أكثر من أربع نسوة زوجات، وأما الإماء فلك من الإماء ما شئت. فلأجل هذا حملنا الواو على التخيير.

القول في مسألة التعدد ومشروعيته

القول في مسألة التعدد ومشروعيته وهنا يقال: هل هذه الآية تفيد أن القصد في الزواج التعدد، أو لا تفيد ذلك؛ لأن الله تعالى قال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ؟ فذهب بعض العلماء إلى القول بأنها تفيد التعدد؛ لأنه لا يتجه إلى الواحدة إلا عند خوف عدم العدل بنص هذه الآية. وفي الحقيقة هذا القول لا يسلم له؛ لأن قوله تعالى: {فَانكِحُوا} ليس ابتداءً، فليست الآية كما لو قال تعالى -فرضاً-: (يا أيها الذين آمنوا انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ، فحينئذٍ إذا كانت الآية بهذا السياق نقول: الأصل التعدد، ولكن الآية جاءت مبنية على شرط سابق، فإذا كنت خائفاً أن تتزوج اليتيمة فتظلمها فلك أن تتزوج اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وهذا وجه الدقة في الاستنباط. إلا أنهم استدلوا بأدلة أخرى على استحباب التعدد، كحديث: (تكاثروا فإني مباه بكم الأمم) ، وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه الموقوف عليه (تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء) ، وكقول ابن عباس رضي الله عنهما: (تزوج فإنه يخرج من صلبك ما كان مستودعاً) ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:) . ولا شك أن في التعدد كسر خاطر للزوجة الأولى، وأذى للزوجة الأولى، ولكن المصالح العامة للمسلمين مقدمة، فكم من امرأة ترملت على أطفالها وتحتاج إلى من يعفها، وكم من امرأة طلقت من زوجها لسبب شرعي كأن يكون زوجها سكيراً عربيداً، وهي عفيفة طلبت الطلاق وطلقت، فإن كان فيه كسر للزوجة الأولى، لكن عموم تشريع الله سبحانه وتعالى لا يصدر إلا من حكيم حميد، وما شرع ذلك إلا لفائدة تعم العباد سبحانه وتعالى.

الكلام على قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا.

الكلام على قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا.) قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} أي: فاقتصروا على الواحدة، وقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: عندكم إماء، وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى} أي: أقرب، وقوله تعالى: {أَلَّا تَعُولُوا} ، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أي: اقتصروا على الواحدة أو ما ملكت أيمانكم حتى لا تكثر عيالكم فتصابوا بالفقر، واستدل على أن معنى العيلة الفقر بقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] ، واستدل بلامية أبي طالب، وبقول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل والجمهور ومنهم ابن القيم قالوا: إنه لو كان الاقتصار على الواحدة خشية كثرة العيال -كما ذكر- لأمرنا الله تعالى بالاقتصار على واحدة أيضاً مما ملكت اليمين! فكيف يقول: إن العلة كثرة العيال، والله تعالى يبيح لنا في نفس الآية أن نمتلك أكثر من ألف أمة، وكل هؤلاء الإماء محل للإنجاب؟! فلو كانت العلة كثرة العيال لقصرنا الله تعالى في ملك اليمين على واحدة. وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكاثروا فإني مباه بكم الأمم) ، والآية مصدرة بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} وعليه فيقال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} أي: أدنى إلى ألا تجوروا، حتى تقابل العدل، أي: إن كنت خائفاً أنك ما تعدل فتزوج واحدة بس حتى لا تقع في مسألة عدم العدل، واستشهدوا بقول أبي طالب في لاميته: بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل أي: غير مائل، أو غير جائر. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

التحاليل الطبية لأجل الإنجاب

التحاليل الطبية لأجل الإنجاب Q يسأل عن التحليل من أجل الإنجاب؟ A التطبيب جائز من أجل الإنجاب، ولا يستطيع أحد أن يمنعه إلا بنص.

تشبيك الأصابع في المسجد وما جاء فيه

تشبيك الأصابع في المسجد وما جاء فيه Q ما صحة حديث: (إذا توضأ أحدكم وذهب إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه) ؟ A الحديث منازع في تحسينه وتضعيفه، فمن العلماء من حسنه، وكأن قوله ظاهر أو قوي في التحسين، ولكن هناك ما هو أقوى منه عورض به هذا الحديث، مثل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عبد الله بن عمرو! كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وأصبحوا هكذا، وشبك بين أصابعه) . وقال النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) ، فلهذا بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بباب: (تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) .

عمل الرجل في كي ملابس النساء

عمل الرجل في كي ملابس النساء Q أخ يتعامل مع مصانع ملابس، ويكوي ملابس النساء، وجارته تأتي له بملابس يكويها، أي: يكوي ملابس المتبرجات فما الحكم؟ A أظن أنه لا يكويها فهو أفضل له، وليشتغل بعمل آخر.

التصرف في المال المتبرع به لمسجد حين لا يفي بحاجة ذلك المسجد

التصرف في المال المتبرع به لمسجد حين لا يفي بحاجة ذلك المسجد Q إذا أعطاني أحدٌ من الناس مبلغاً لمسجد، فهل يجوز لي أن أعطيه لمسجد آخر على اعتبار أن المسجد الذي أرسل له المبلغ يحتاج أكثر من المسجد الذي حدده صاحب المبلغ؟ A يستأذن صاحب المبلغ؛ لأنه قد يكون له وجهة نظر في المسجد الذي تبرع له، كأن يكون المسجد على السنة مثلاً، أو مسجد في حي أهله يحتاجون إلى مسجد.

الوارد في المستمع إلى حديث قوم هم له كارهون

الوارد في المستمع إلى حديث قوم هم له كارهون Q ما صحة حديث: (من استمع إلى قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة) ؟ A في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.

حديث الجد والهزل في الطلاق والنكاح والرجعة ومدى صحته

حديث الجد والهزل في الطلاق والنكاح والرجعة ومدى صحته Q ما صحة حديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة) ؟ A الحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة رحمهم الله تعالى، وفي إسناده عبد الرحمن بن أردك قال فيه النسائي: منكر الحديث، وقد وثقه ابن حبان والعجلي وهما متساهلان في التوثيق، وقول النسائي مقدم على قولهما؛ لأنه إمام في الجرح والتعديل. وقد أورد له الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله تعالى في تلخيص الحبير جملة أسانيد وأشار إلى ضعفها، فليراجعها من شاء.

تفسير سورة النساء [4-10]

تفسير سورة النساء [4-10] احتوت سورة النساء على العديد من الأحكام المهمة، ومنها: حكم صداق المرأة، وهل يجوز للولي أن يأخذ منه شيئاً، وأيضاً حكم اليتيم، ومتى يدفع إليه ماله، وهل يجوز للقائم عليه أن يأكل من ماله أم لا يجوز، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة به. وكذلك ذكر في هذه السورة حكم إعطاء ذوي القربى واليتامى والمساكين شيئاً من المال عند حضورهم لقسمة التركة، ثم حكم أكل أموال اليتامى ظلماً.

تفسير قوله تعالى: (وآتوا النساء.

تفسير قوله تعالى: (وآتوا النساء.) بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً أما بعد: فيقول الله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] . قوله تعالى: (وَآتُوا) أي: وأعطوا، فالإيتاء يطلق على الإعطاء، أما أتى فمعناها: جاء. (صدقاتهن) : جمع صداق، ومعناها: مهورهن، أي: وآتوا النساء مهورهن.

حكم تنازل المرأة عن أكثر المهر لزوجها

حكم تنازل المرأة عن أكثر المهر لزوجها {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] : في الآية دلالة أن الأليق والأولى بالمرأة ألا تعطي الزوج الصداق كله، ولا تتنازل له عن الصداق كله، لأن الله قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء:4] فقال: (عن شيء) ولم يقل: عن كل الصداق، فاحتفاظها بأكثر الصداق أولى من أن تعطيه كله وتمد له يدها بعد ذلك. وقد جاء في الحديث أن كعب بن مالك لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة لله ورسوله، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: يا كعب أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) فدل ذلك على أن الزوجة إن أعطت من مهرها فلا تعطي إلا الشيء اليسير وتمسك الأكثر، ولا تتنازل للزوج عن كل الصداق، وتنازلها عن كل الصداق ليس محرماً لكن الكلام عن مسألة المفضول والفاضل. والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم المهر إذا لم يسم

حكم المهر إذا لم يسم وقد يكون الصداق مقدماً، وقد يكون مؤخراً، وقد يكون جزءٌ منه مقدماً وجزءٌ منه مؤخراً، ويجوز أن تعقد عقد النكاح ولا تسمي الصداق، أي: يجوز أن تقول لرجل: زوجتك ابنتي، ولا تحدد الصداق، لكن بعد ذلك تتفقان على الصداق. فإذا اختلفتما في الصداق بعد العقد فالمرد إلى الأعراف السائدة، فمثلاً: رجل عقد على امرأة لم يسم لها صداقاً، فيفرض لها صداقها، فإما أن يتفق مع وليها على الصداق، فإن اتفقا فذاك، وإن اختلفا في الصداق فيرد إلى الأعراف السائدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى في بروع بنت واشق بأن لها مهر مثلها من غير وكس ولا شطط) ، أي: لا نقص ولا زيادة.

حكم أخذ الولي من مهر المرأة

حكم أخذ الولي من مهر المرأة {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء:4] أي: إن طابت نفس المرأة وأعطتك شيئاً من الصداق أو تنازلت لك عن شيء من الصداق بنفس طيبة، فلا مانع من أخذه بشرط طيب نفسها. وقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء:4] يدل أن الصداق للمرأة وليس لوليها، فهي أحق بالصداق لهذه الآية؛ لأن الله قال: {صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء:4] وقال: {فَإِنْ طِبْنَ} [النساء:4] ، فنسبة الصداق إليهن دلالة على تملكهن إياه، ولا يملك منه الولي شيئاً إلا إذا طابت نفس المرأة بإعطائه له. ودل على ذلك أيضاً حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لها مهر مثلها) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الملاعنة: (إن كنت كاذباً عليها فلها الصداق بما استحللت من فرجها) ، فدلت هذه النصوص على أن الصداق من حق المرأة وليس من حق الولي. في هذا إشارة وإيماء إلى توهين حديث: (أنت ومالك لأبيك) ، أو على الأقل إظهار فقه لهذا الحديث: (أنت ومالك لأبيك) فله فقه في حالة ثبوته، أما من ضعَّفه فلا يحتاج إلى التكلف في توجيهه.

حكم المهر ومتى يسقط

حكم المهر ومتى يسقط {نِحْلَةً} [النساء:4] أي: فريضة، فالصداق واجب للمرأة، بل هو فرض، والفرض أعلى من الواجب، ولا يسقط الصداق إلا في بعض الاستثناءات كمن وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا صداق لها، وهذه الحالة خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام لقول الله سبحانه وتعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] . فهبة المرأة نفسها للرجل كان خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أي: وأعطوا النساء مهورهن فريضة، فالصداق فرض لهذه الآية.

تفسير قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم.

تفسير قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم.) {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] .

معنى السفه وعلى من نطلقه

معنى السفه وعلى من نطلقه السفه أصلاً معناه الرقة، ومنه قولهم: هذا ثوب سفيه. أي: رقيق خفيف المزج، فالسفهاء هم قليلو العقول أو رقيقو العقول أو ضعفاء العقول، هذا أصل تعريف السفه، فالسفيه ضعيف ورقيق العقل. ومن العلماء من فسر السفهاء هنا بالنساء والصبيان، قال: لأن المرأة همتها تتلخص في إلقاء المال في التزين لزوجها في الغالب كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] فالنساء في الغالب لا يحسن التصرف إلا من رحم الله منهن، والصبيان كذلك. ومن العلماء من فسر السفهاء بمن لا يحسن التصرف بصفة عامة، ومن العلماء من فسر السفهاء بالفساق، والأولى أن السفيه: هو كل ضعيف لا يحسن التصرف في المال أخذاً أو إعطاءً، وحكمه ألا يمكن من التصرف في ماله. وهذه الآية من الآيات الدالة على الحجر على الأشخاص، فهنا حجر على السفيه، وهناك أنواع أخرى من الحجر: كالحجر على المفلس -وهو المدين- حتى يؤدي للناس حقوقهم. والحجر على البكر، فلا تتزوج إلا بإذن وليها. {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ، أي: التي وكلكم الله وجعلكم قائمين عليها، فأشعرت الآية أن المال الذي في يديك إنما هو مال الله وأنت قائم عليه فقط. {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] أي: أنتم قائمون على هذا المال، فالأصل أننا مستخلفون في هذا المال، ولسنا مالكين له، فمادة القيام من القيوم، والقيوم أي القائم، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] ولذلك أطلق اسم القيوم على الله سبحانه وتعالى، ومعناه: القائم على كل شيء، وبإذنه تقوم السماء والأرض. فـ {جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] أي: جعلكم قائمين على هذه الأموال، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله) أي: المحافظ على حدود الله والعامل بحدود الله. {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء:5] قد تقدم أن حروف الجر تتناوب، أي: وارزقوهم منها. : {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] أي: لا تعطوهم المال ولكن طيبوا خاطرهم ولو بكلمة.

حكم مداراة السفيه

حكم مداراة السفيه وهذه الآية تعد أيضاً من آيات جبران الخاطر، فآيات جبران الخاطر تقدمت لها النماذج، مثل قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فجبر الله خاطر المطلقة بأن جعل لها متعة، وجبر خاطر اليتامى والفقراء في تقسيم الميراث فقال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] أي: أعطوا المساكين إذا حضروا شيئاً من المال. ومن الأدلة على جبران الخاطر أيضا هذه الآية التي نحن بصددها، ومعناها: لا تؤتوهم الأموال لكن قولوا لهم قولاً معروفاً، وهو تطييب الخاطر ولو بالكلمة، ونحوه قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26] إلى قوله سبحانه {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28] يعني: إذا لم ترد أن تعطي الوالدين أو الأقارب أو المساكين المال لعلة من العلل فقل لهم قولاً طيباً ميسوراً، قل لهم مثلاً: إن شاء الله يوسع الله عليّ وأعطيكم كل ما تريدون، أو أي كلام طيب يعد جبراً للخاطر مقابل منع المال عنهم. {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة) .

تفسير قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى.

تفسير قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى.) {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء:6] ، أي: اختبروا اليتامى. {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] أي: بلغوا الحلم. {فَإِنْ آنَسْتُمْ} [النساء:6] أي: أبصرتم ورأيتم وعلمتم {مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] أي: عقلاً وتدبيراً وحكمة في الإنفاق {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] . {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] قلنا: إن النكاح هنا المراد به: الحلم.

حكم الإشهاد عند دفع المال لليتيم

حكم الإشهاد عند دفع المال لليتيم فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:6] . أي: فإذا سلمت لليتيم ماله وميراثه فأشهد عليه، وفي هذا بيان أن الرب سبحانه وتعالى حريص عليك وعلى مصلحتك وعلى اليتيم، فقد يجحد اليتيم بعد ذلك ويتحدث الناس في عرضك ويقولون: أكل أموال اليتامى ظلماً. {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] ، دفعتم أي: سلمتم {إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] أي: من الميراث الذي كان لهم {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:6] فالإشهاد مشروع في الأعمال. ومن ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة والشهود، وهذا لما جحد آدم فجحدت ذريته كما في قصة داود عليه السلام، لما وهب له أبوه آدم أربعين سنة أو ستين سنة، وقال بعد ذلك لما جاء ملك الموت يقبضه (ما وهبت له شيئاً) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد فجحدت ذريته، وعصى فعصت ذريته،) ومن ثم أمر بالكتابة والإشهاد. إذا كان أبونا آدم أعقل البشر على الإطلاق كما أطلق ذلك فريق من العلماء، فإنه عاقل رشيد متزن مؤمن صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك جحد، كما في الحديث (أنه رأى ذريته أمام عينيه كالذر فنظر إلى رجل من أوضئهم فقال: من هذا يا رب؟ قال هذا ابنك داود. قال: كم عمره؟ قال ستون أو أربعون سنة، قال قد وهبته من عمري أربعين أو ستين سنة. فلما جاء ملك الموت يقبضه قال: قد بقي من عمري أربعون أو ستون، قال ألم تكن وهبتها داود؟ قال: ما أعطيته شيئاً. قال الرسول عليه الصلاة والسلام: فجحد فجحدت ذريته، وعصى فعصت ذريته، ونسي فنسيت ذريته) ومن ثم أمر بالكتابة والإشهاد. فلا تسلف أحداً من الناس مالاً إلا كتبت وأشهدت على ذلك الدين، فما دام آدم قد جحد فغيره من باب أولى. وقد ورد في هذا الباب حديث صححه بعض أهل العلم، لكن المحققين من أهل الحديث ضعفوه، ألا وهو حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله -أو يبغضهم الله- رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى سفيهاً مالاً، ورجل أعطى رجلاً ديناً ولم يشهد عليه) لكن الحديث ضعيف والصواب فيه: أنه من قول أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، فهو موقوف ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ كما ذكر ذلك الحفاظ من أهل الحديث. {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:6] فالإشهاد في دفع الأموال إلى الأيتام والإشهاد على الديون، والإشهاد عند الطلاق، الإشهاد عند إرجاع الرجل لزوجته، والإشهاد عند النكاح؛ أمور لابد من التنبه لها.

متى يدفع مال اليتيم إليه

متى يدفع مال اليتيم إليه {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] . فدفع الأموال إلى اليتامى قيد بشرطين في الآية: الشرط الأول: إيناس الرشد منهم، أي: أن ترى فيهم عقلاً وحكمة ورشاداً في الإنفاق. الشرط الثاني: أن يبلغوا الحلم، فلابد أن يبلغ اليتيم الحلم، ومع البلوغ يؤنس منه الرشد. وهنا مسألة وهي: إذا بلغ اليتيم الحلم ولكنه ليس رشيداً، فهل يعطى المال أو لا يعطى؟ فريق من أهل العلم قال: لا يعطى المال؛ لأن الله قال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] قالوا: فالمفهوم المخالف: أنا إذا لم نأنس منهم رشداً لا ندفع إليهم أموالهم. وقال فريق آخر من أهل العلم: بل تدفع إليهم أموالهم وإن لم يؤنس منهم الرشد، وحجتهم أن الله قال: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) . واستدل الأولون بأمور: قالوا: إذا كان اليتيم قد بلغ الحلم وهو سكير عربيد فسيأخذ المال ويفسد به في الأرض، والله يقول: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] . أجاب أصحاب القول الثاني بقولهم: إن هذا حاصل في غير اليتيم كذلك، فهل يمنع غير اليتيم من أمواله ومن الميراث لفسقه؟ فمثلاً: إن وجد رجل فاسق مات أبوه، فهل نمنعه من الميراث لكونه فاسقاً؟ A لا. فهذا هو الحاصل من أقوال العلماء في هذا الباب.

حكم أكل الولي من مال اليتيم

حكم أكل الولي من مال اليتيم {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] أي: لا تعجلوا أكلها قبل كبرهم وبلوغهم. {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6] عن أموالهم، {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] يستعفف أي: يتعفف، أو يطلب من الله أن يعفه، ففي الأصل أن السين إذا دخلت على الفعل أصبح معناها الطلب، فـ (استغفروني) معناه: اطلبوا مني أن أغفر لكم، واستطعموني أي: اطلبوا مني أن أطعمكم، إلا في بعض الأحيان كقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ليس معناها المعنى المعهود. فقوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6] أي: يتعفف عن أموال اليتامى أو يطلب من الله أن يعفه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يستعفف يعفه الله، من يستغن يغنه الله) ، فأنت إذا بادرت إلى الخير تقرب الله منك كما في الحديث القدسي: (إذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً) فإذا سلكت سبيل الخير يسر الله لك سبل الخير. {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] ما المراد بالمعروف؟ بعض أهل العلم يقول: المعروف هو المتعارف عليه بين الناس، ويكون هذا مقابل قيامك على اليتيم، أي: فإذا كان عندك يتيم تربيه وأنت فقير، وليس عندك مال وليس في وسعك أن تنفق عليه، فلتأكل من ماله بقدر قيامك عليه غير مبذر ولا مسرف ولا متأثل ماله. هذه الآية أباحت لولي اليتيم أن يخلط ماله بمال اليتيم، ويأكل من مال اليتيم بقدر قيامه عليه، وحكى هذا بعض العلماء ومنع من ذلك آخرون. إذاً قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] هنا التقييد بالظلم غير القيام عليه في حال فقره، قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] .

تفسير قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان.

تفسير قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان.) {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء:7] من الميراث {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7] .

تفسير قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة.

تفسير قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة.) {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] . قال يحيى بن يعمر رحمه الله تعالى وهو من التابعين: ثلاث آيات ترك الناس العمل بهن: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فيقولون: أغناكم وأوجهكم وأعلاكم منصباً ومركزاً، والله يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] وقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] . أي: إذا حضر أثناء تقسيم التركة أولو القربى واليتامى والمساكين فلا بأس بأن يعطوا شيئاً من المال جبراً لخاطرهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يقولون إن هذه الآية منسوخة، ووالله ما نسخت إنما هي محكمة، {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] وقد تقدم حد اليتيم، والمسكنة لا تحد بشيء ثابت إنما مردها إلى الأعراف، وقد يملك الرجل بيتاً ويملك سيارة ومع ذلك فهو مسكين، وهذا قد يحصل، قال سبحانه: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] وقد جاء: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، لكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه) كما في الحديث.

تفسير قوله تعالى: (وليخش الذين.

تفسير قوله تعالى: (وليخش الذين.) {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] الخطاب في الآية للجلساء الذين يحضرون قسمة تركة الميت، يأتي الجليس يقول: لا نعطي اليتامى والمساكين شيئاً، وأصحاب الحق أولى بالحق. فرب العزة يقول: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فيا من قلت هذا القول قد يأتي يوم من الأيام ويكون ابنك فيه يتيماً ويحتاج إلى الصدقة، فتحتاج أنت أيضاً إلى شخص يعطف على ابنك ويحنو عليه ويقول للناس: اتركوا له شيئاً من الصدقة. وفي الآية إشعار أن جزاء الإحسان الإحسان وهذا واضح {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] فإن ما تصنعه مع أولاد الناس يصنعه الناس مع أولادك، وإن لم تكن صريحة في المعنى لكنها تدل عليه بقوة. ولذلك قلنا: عليك أن تحرص على المرأة الصالحة من البيت الصالح، وذلك لأن الله قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] فالصلاح من الوالد وكان سبباً في حفظ الجدار أو في حفظ الكنز، فهنا يذكر الله سبحانه وتعالى عباده بأن يقولوا كلمة طيبة {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:9] في كلامهم {وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] . ومن المعلوم أن القول السديد سبب في صلاح عملك، والقول المعوج سبب في فساد عملك، يقول الله سبحانه: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب:70-71] القول السديد سبب في صلاح العمل، والقول الأعوج الذي تريد به أحياناً وجه الناس وأحياناً تريد به مصلحتك، كل ذلك سبب في فساد عملك. {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] أي: ما تحب أن يصنع مع أبنائك فاصنعه مع هؤلاء الأيتام. وقد يأتي رجل محتضر فيأتي شخص يقول له: أوص بمالك كله في سبيل الله، والأولاد يتولاهم الله، فهذا من الجور في النصيحة، وآخر يعكس المسألة فيقول: اترك أموالك كلها لأولادك ولا تنفق شيئاً في سبيل الله، فهذا أيضاً من الجور في النصيحة، والقول السديد: هو الوسط الحق العدل.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى.) {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] جاء التقييد بالظلم هنا، لأنه من الممكن أن تأكل أموال اليتامى بدون ظلم، إذا كنت تأكل بقدر قيامك عليهم كما قال سبحانه: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220] أي: بمنزلة الإخوان {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] ، وكما قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] . وهذه الآية لما نزلت تحرج بسببها كثير من الناس غاية التحرج، فتجدهم لا يقتربون من أموال اليتامى، ويبتعدون عنها تماماً حتى أن أموال الأيتام أحياناً تأكلها الصدقات. وتساهل بعض الناس في هذا الأمر، وقال: إن الله أباح الأخذ من مال اليتيم بالمعروف إذا كانت نيتك صالحة، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] . وقد كان فريق من أهل العلم إذا سئل عن شيء مما يتعلق بأمر اليتامى أجاب بهذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] . {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] أطلق أنها نار باعتبار ما ستئول إليه، فإنها ستكون ناراً يوم القيامة، وسيصلون سعيراً، فأكل أموال اليتامى من الكبائر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل أموال اليتامى) فذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر أكل أموال اليتامى {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] . وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

التوبة من النياحة

التوبة من النياحة Q امرأة توفي زوجها ولطمت الخدود وناحت فما كفارتها؟ A {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] تستغفر الله كثيراً وتصلي لله ركعتين أو ركعات وتتصدق إن استطاعت، وباب التوبة مفتوح، ولا تقنط أبداً من رحمة الله، فإن هذا نوع من إلقاء الشخص بيده إلى التهلكة قال البراء في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] : الذي يؤدي إلى التهلكة أن يذنب الشخص وييأس من رحمة الله فلا يستغفر. إلى هنا وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم المكياج للمرأة

حكم المكياج للمرأة Q هل المكياج الذي تضعه المرأة وتتزين به لزوجها حرام؟ A المكياج ليس حراماً إلا إذا صحبه محرم منصوص على تحريمه كالنمص، فالنمص منصوص على تحريمه، لكن إذا كانت تضع أصفر وأحمر للتزين لزوجها فلا دليل يمنع، وقد ثبت عن نساء السلف أنهن كن يتزين للأزواج، تقول إحداهن: إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها مال عنها. وأيضاً (رأى النبي على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال: مهيم؟ قال: تزوجت) فأثر الصفرة الذي على عبد الرحمن إما أن يكون أصابه من الزوجة أثناء تقبيلها أو مداعبتها أو نحو ذلك، أو يكون هو الذي وضعه على نفسه، فإذا كان وضعه على نفسه فالمرأة من باب أولى، وإذا كان أصابه من زوجته دل على أنها تزيت، والله يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .

علاج السحر

علاج السحر Q امرأة لم تتزوج بسبب سحر ماذا تفعل؟ A تدعو وتدعو وتدعو كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا ودعا ودعا، ولتعتصم بالله ولتعتقد أن الساحر لن يضرها إلا بإذن الله، فما دام الأمر كله بيد الله، وأن إلى ربك المنتهى، وأن بيده خزائن السماوات والأرض؛ فلتعتصم بالله ولتكثر من الدعاء والفرج من عند الله، وقد فعل ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام حين سحر، فدعا ودعا ودعا حتى قال: (يا عائشة إن الله أفتاني فيما استفتيته، فأتاني ملكان جلس أحدهما عند رجلي والآخر عند رأسي قال الذي عند رأسي للملك الذي عند رجلي: الرجل مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة قال: أين دفنها؟ قال: في بئر ذروان) ، وجاء الفرج من عند الله سبحانه وتعالى. فإن سحرت وابتليت بالسحر دعت الله، فلتعلم أنها اقتربت من الله؛ لأن الدعاء يقرب من الله سبحانه وتعالى، فكلما دعت سجل لها دعاؤها في صحيفتها، ومن المعلوم أن كل شيء تفعله سيأتي في صحيفتك، {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] وإن تأخر الشفاء لعلة فهي مثابة إن شاء الله بدعائها الله عز وجل، كما قال عز وجل: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] .

حكم النهي عن الترجل

حكم النهي عن الترجل Q النهي عن الترجل إلا غبا هل للكراهة أو للتحريم؟ A للكراهة وليس للتحريم، لحديث: (إن الله جميل يحب الجمال) .

السنة في كيفية الهوي إلى السجود

السنة في كيفية الهوي إلى السجود Q أيهما أولى عند الهوي إلى السجود هل أن ينزل على الركبة أم على الأيدي؟ A الأمر فيه سعة، والنفس لا تنشط لا لتصحيح هذا الحديث ولا لتصحيح ذاك الحديث، وهذا رأي فريق كبير من العلماء، والمسألة اختلف فيها أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أنفسهم، فالمسألة على التوسعة وكلا الحديثين عندنا فيه مقال، وقد ألفت رسالتان في هذا الباب، رسالة لأخينا الفاضل الشيخ أبي إسحاق الحويني حفظه الله، ورسالة مقابلة لأحد إخواننا في السعودية اسمه خالد المؤذن مضادة لرسالة أخينا أبي إسحاق، وفي الحقيقة أن الأمر على التوسعة وما دامت هذه المسألة دب فيها خلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين جماهير أهل العلم فالتوسط فيها مطلوب. وأما بالنسبة لنا فالحديثان عليهما تحفظ من ناحية الضعف. بالنسبة لـ عمر بن علي المقدمي متهم بتدليس السكوت وكان بعض أهل العلم - النووي - قد نفى عنه ذلك؛ لأن أول من أطلق عليه ذلك ابن سعد، ومعظم مادته عن الواقدي والواقدي متهم بالكذب. مداخلة: قد ذكر ذلك ابن حجر في أكثر من موضع في هدي الساري، نرجو التفصيل في ذلك. الجواب: أما التفصيل لا أستطيعه الآن؛ لأني أحتاج إلى الاطلاع على رواية عمر بن علي المقدمي لكن جزمنا أن منشأ كلام ابن سعد هو من الواقدي لم يسلم بذلك، لأنه قد يكون أخذه عن الواقدي وقد يكون أخذه عن غيره، صحيح أن أغلب روايات ابن سعد عن الواقدي لكن القطع بأن هذا الرأي نقله ابن سعد عن الواقدي لا نتحمله أمام الله سبحانه وتعالى.

حكم العقيقة ومشروعية الدعوة لها

حكم العقيقة ومشروعية الدعوة لها Q ما هو حكم العقيقة، وهل تشرع الدعوة لها؟ A قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في شأن العقيقة: أفرط فيها رجلان رجل قال بوجوبها، ورجل قال ببدعيتها. والصواب أنها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تأتي مسألة الدعوة إلى العقيقة، فقد انتشر فينا معشر الإخوة الآن أن يدعو صاحب العقيقة الناس إليها، لكن هل ثبت على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء؟ في الحقيقة أن كل ما أعلمه في شأن العقيقة حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ثلاثة: أحدهما: هو (الغلام مرتهن بعقيقته ... ) . والثاني: (يعق عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة) وفي بعض الروايات: (يعق عن الغلام شاة وعن الجارية شاة) . أما هل دعا الرسول إلى العقيقة أحد؟ لا نعلم أن الرسول دعا إلى العقيقة أحداً من الصحابة، وهل تثلث العقيقة؟ ثلث للفقراء وثلث للمساكين وثلث لأهل البيت؟ لم يرد في هذا أيضاً شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نقل عن الإمام مالك أنه كان يكره الدعوة للعقيقة؛ لكن ما زلت بصدد تحرير هذه المقولة التي نقلت عن الإمام مالك رحمه الله تعالى. فمسألة الدعوة إلى العقيقة أمر مباح، لكن لا ننسب ذلك إلى السنة؛ لأنه لم يثبت ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمن شاء أن يدعو إلى طعام العقيقة فلا بأس، ومن ترك الدعوة فلا بأس، ومن تصدق بجزء منها فلا بأس، ومن لم يفعل فلا شيء عليه؛ لأنه لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء. والله أعلم.

حلق رأس المولود

حلق رأس المولود Q ما حكم حلق رأس المولود؟ A حديثها ضعيف لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.

حكم القصر لمن كان له أكثر من دار يقيم فيها

حكم القصر لمن كان له أكثر من دار يقيم فيها Q رجل مقيم في بلدة ثم انتقل إلى أخرى للعمل، فيسافر للعمل ويمكث أسبوعاً أو أسبوعين، ثم يرجع إلى بلدته ويمكث يومين، فهل يقصر أم يتم؟ A إذا اتخذ داراً يسكنها في البلدة التي يعمل فيها أصبح له داران يقيم فيهما فيتم فيهما، ولا بأس بتعدد دور الإقامة.

مسافة القصر

مسافة القصر Q بكم تحدد مسافة القصر؟ A تطمئن نفسي إلى ما نقل عن عبد الله بن عمر وشيخ الإسلام ابن تيمية فيما حاصله أن الذي يطلق عليه سفر تقصر فيه الصلاة.

هل قوله تعالى: (.

هل قوله تعالى: (. وللنساء نصيب مما اكتسبن ... ) دليل على جواز عمل المرأة خارج بيتها؟ Q قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] هل تجعل هذه الآية الحق للمرأة في السعي والعمل خارج البيت؟ A ليس فيها دلالة على ذلك أبداً، إنما الآية في المواريث وفيما يتعلق بحقوق الزوجين، أما المرأة فليس عليها عمل خارج البيت، ولا يجب عليها عمل خارج البيت، إنما نفقتها واجبة على الزوج بالإجماع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول) قال أبو هريرة: تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، وقد أجمع العلماء على أن نفقة المرأة واجبة على زوجها، حتى أدخل فريق منهم المشط والطيب وزيت الشعر والكحل إلى غير ذلك، وأوجبه فريق آخر.

الصلاة جماعة خلف المذياع

الصلاة جماعة خلف المذياع Q هل تجوز الصلاة جماعة عن طريق المذياع -الراديو-؟ A لا تجوز فيما أعلم. والله أعلم.

ما المقصود بالصداق؟

ما المقصود بالصداق؟ Q هل المقصود بالصداق في هذه الأيام ما يسجل في قائمة الزواج؟ A نعم قائمة الزواج بمثابة المهر.

وجه تضعيف حديث: (يا أسماء! إذا بلغت المرأة.

وجه تضعيف حديث: (يا أسماء! إذا بلغت المرأة.) Q ما وجه تضعيفكم لحديث (يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض فلا يظهر منها إلا هذا وهذا) . A لا نقول ضعيف فحسب، بل ضعيف جداً بل ساقط، لعلل أربع: أولها: أن إسناد الحديث مروي من طريق الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وهذا إسناد مظلم مسلسل بالضعف. أولاً: لأن الوليد بن مسلم مدلس تدليس التسوية وهو شر أنواع التدليس وقد عنعن. الثاني: أن سعيد بن بشير شيخه ضعيف. الثالث: أن قتادة مدلس وقد عنعن. الرابع: أن خالد بن دريك لم يدرك عائشة كما قال أبو داود راوي الحديث نفسه فهو منقطع. هذه علل الحديث، بعض إخواننا غفر الله لهم لما وجدوا للحديث شاهداً من طريق هشام الدستوائي -على ما أذكر- عن قتادة -مرسلاً- قالوا: إن هذا يعد شاهداً للحديث، ومن ثم يرتقي الحديث إلى الحسن، وهذا مأخذ غريب وضعف عجيب؛ لأن مدار الحديث أصلاً على قتادة، مرة قوم رووا الحديث عن قتادة كـ سعيد بن بشير روى الحديث عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة، وراوٍ آخر روى الحديث عن قتادة مرسلاً، فلا يعد هذا شاهداً لهذا بل علة إضافية إلى الحديث، لأن مدار الحديث على قتادة. وهنا زلت قدم الشيخ الفاضل المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله، ففي كتابه حجاب المرأة المسلمة انتقد انقاداً لاذعاً عبد الأعلى المودودي رحمه الله عندما حاول أن يجعل رواية قتادة عن خالد عن عائشة من الشواهد لرواية هشام عن قتادة عن رسول الله، فتعقبه الشيخ ناصر رحمه الله تعقباً موفقاً فقال كلاماً حاصله: وهذا أصلاً لا يصلح ولا يجوز؛ لأن المخرج واحد، والمشتغلون بل المبتدئون في الحديث يعلمون أنه إذا كان المخرج واحداً -على قتادة - فلا يصلح أن يكون شاهداً في هذا الباب، هذا مجمل معنى كلام الشيخ ناصر الدين رحمه الله. وهو كلام موفق صحيح، لكنه بعد ثلاث صفحات من نفس الكتاب جاء إلى حديث أسماء الذي يستدل به هو نفسه على الحجاب وقال في الحاشية: وله شاهد من طريق هشام عن قتادة عن رسول الله، وكان مأخذاً غريباً، فالعجب أنه استشهد بالشيء الذي انتقده انتقاداً لاذعاً على عبد الأعلى المودودي. والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير سورة النساء [11-14]

تفسير سورة النساء [11-14] لقد تكفل الله سبحانه وتعالى بقسمة التركات بنفسه، وما ذلك إلا لأن الإنسان شحيح بطبعه، فعندما تكون القسمة من الله تعالى يكون هناك الرضا التام، وعلم المواريث له أحكام عدة تحتاج إلى تفهم وإلى تدبر، لذا يجب تعلم علم الفرائض؛ حتى لا تضيع الحقوق، والوجوب على العموم لا على الأعيان، فإذا تعلمه البعض سقط عن الآخرين.

تفسير قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم)

تفسير قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فالله سبحانه في كتابه الكريم يقول: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:11] . هذه الآية والتي تليها آيات المواريث، وكذلك آخر آية من سورة النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. } [النساء:176] . هذه ثلاث آيات في كتاب الله تتعلق بالمواريث. يقول سبحانه وتعالى فيها: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] : استنبط بعض العلماء من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] : أن الله سبحانه وتعالى أرحم بالولد من والده ومن والدته، بدليل أن الله سبحانه وتعالى أوصى الوالدين بالولد. وقد جاء هذا المعنى في حديثٍ أصرح، ألا وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه في بعض الغزوات، فرأى أمّاً تبحث عن طفلها في السبي، فإذا بها تلتقط طفلاً وتضمه إلى صدرها وتحتضنه بشدة وترضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتظنون هذه طارحةً ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟! قالوا: لا تطرحه أبداً يا رسول الله! فقال: فوالذي نفسي بيده، لَلَّه عز وجل أرحم بعبده من هذه بولدها) . آيات الفرائض أو علم الفرائض علم دقيق، وقد رُوي عن ابن مسعود أنه قال: مَن لم يعرف أحكام الفرائض والحج والطلاق فبِمَ يَفْضُل أهلَ البادية؟!، يعني: إذا كنت لا تعرف أحكام الحج، ولا الطلاق، ولا الفرائض، فبأي شيء تتميز عن أهل البادية؟! أي: أن الوعظ أو القصص لا يُعدُّ علماً بالنسبة لعلم الحج، والفرائض التي هي المواريث، وأحكام الطلاق، فأحكام الطلاق والمواريث والحج أحكامٌ تحتاج إلى ذكاء، وإلى استنباطات، وإلى معرفةٍ بالنصوص الواردة فيها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف تُوَجَّه على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقد رُوي في أثرٍ فيه كلام: (تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم) .

مشروعية إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين

مشروعية إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] بعد إخراج نصيب كل مَن ذُكِر أو كل مَن كان له نصيب، فإذا كانت هناك أم، أو هناك زوجة، أو هناك زوج، كل شخص يأخذ نصيبه أولاً، وبعد ذلك يقسم الباقي {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، هذا بعد استيفاء أنصبة كل من له نصيب إجماعاً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، وهذا واضح. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] : هذا حكم الله، فمن جاء يقول: للذكر مثل الأنثى فهو ضالٌّ مفترٍ كذاب على الله وعلى رسول الله، أيَّاً كان شأنه.

نصيب الاثنتين من النساء فصاعدا عند انفرادهن

نصيب الاثنتين من النساء فصاعداً عند انفرادهن قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} [النساء:11] : إن كان الورثة نساء، {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] : بعض العلماء يقول: إن كلمة: (فوق) هنا زائدة، ومن الممكن أن ينسجم المعنى بدونها، فمن الممكن أن يقال: فإن كان نساءً اثنتين فصاعداً، ففوق اثنتين هب أن النساء كن اثنتين فما حكمهما؟ حكمهما أيضاً: أن لهما ثلثي ما ترك، وكلمة: (فوق) في هذا المقام لا تؤثر في الحكم، وذلك مثل قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] ، أي: اضربوا الأعناق. واستُفيد أن للبنتين ثلثي التركة مِن قوله تعالى: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] فالمفهوم المخالِف: إن كانت واحدة فلها النصف، فإذا كانتا اثنتين فلهما الثلثان، وكذلك إذا كن أكثر من اثنتين، فكلهن يشتركن في الثلثين. قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11] : الأبوان إما أن يشتركا مع غيرهما أو ينفردا. فقد يشترك الأبوان مع الأولاد، كأن يموت شخص ويترك أبوين وأولاداً، فإذا اشترك الأبوان مع الأولاد، فالأب يأخذ السدس، والأم تأخذ السدس، وبعد ذلك تقسم التركة، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] . أو يشترك الأبوان مع بنات، فالبنات لهن الثلثان، كما ذكر الله سبحانه، والأب له السدس، والأم لها السدس. أو يشترك الأبوان مع بنت، فالبنت لها النصف، فيبقى النصف، الأم تأخذ السدس، والأب يأخذ السدس، يبقى سدس يأخذه الأب بالتعصيب. أو يشترك الأبوان مع زوجة أو مع زوج، ففي هذه الحالة إذا اشترك الأبوان مع زوجة: يقول الله سبحانه: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11] ، الأم تأخذ الثلث، والزوجة تأخذ نصيبها على ما سيأتي، والباقي يأخذه الأب بالتعصيب.

سبب نزول قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم)

سبب نزول قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) إن لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ. } [النساء:11] سببَ نزولٍ، فقد صح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (مرضتُ واشتد مرضي؛ فأغمي عليّ، فعادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ماشيين، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه، فأفقت، فقلت: يا رسول الله! كيف أوصي في مالي؟ فنزل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} )) [النساء:11] ) . وهناك سبب نزول آخر حيث: (أن سعد بن الربيع استشهد يوم أحد، فاستحوذ أخوه على التركة كلها، ومنع زوجته وبناته من الميراث، فجاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه فعل هذا الرجل، فنزلت آية الفرائض: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} )) ) . لكن سبب النزول الوارد في قصة بنات سعد بن الربيع وزوجته ضعيفٌ، ففي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف. وبالمناسبة: عبد الله بن محمد بن عقيل من الرواة الذين اختُلِف فيهم: فجَنَح بعض العلماء إلى تحسين حديثه، وجَنَح بعضهم إلى تضعيف حديثه، وأكثر العلماء على تضعيف حديثه. لكن نذكر ذلك؛ حتى تعلم بعض أسباب اختلاف أهل الحديث في تحسين حديث رجل، أو تضعيف حديث الرجل. ففي تحسين حديث ما أو تضعيف ذلك الحديث، أحياناً يختلفون في رجل هل هو ثقة، أو ليس بثقة؟ هل حديثه يُحتمل أن يحسَّن، أو هو دون الحسن؟ فالذي نشط وحسَّن حديثه وقوَّى أمره يحسِّن الحديث، والذي فتر ولم ينشط لتحسين الحكم على الرجل بأنه ثقة أو صدوق يضعِّف الحديث. فمن هؤلاء الرجال الذين اختُلِف فيهم: عبد الله بن محمد بن عقيل، فأكثر أهل العلم على تضعيف حديثه، ومنهم مَن حسَّن حديثه. فلذلك ترى بعض الاختلافات بين بعض الباحثين أو المحققين في تصحيح أو تضعيف حديثه. كذلك راوٍ آخر اسمه: يحيى بن أيوب الغافقي -مثلاً- مُختَلَف فيه، فمن العلماء مَن يحسِّن الحديث الذي رُوي من طريقه، ومنهم مَن يضعِّفه. فينشأ الخلاف نتيجة اختلافهم في الحكم على الراوي. يحيى بن أيوب وهو راوي حديث: (يا سارية! الجبل الجبل!) وسيأتي لذلك مزيد إن شاء الله.

المراد بالأولاد في قوله تعالى: (يوصيكم الله.

المراد بالأولاد في قوله تعالى: (يوصيكم الله.) قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] : ما المراد بالأولاد هنا؟ المراد بهم: الأولاد للصلب، أما أولاد التبنِّي فليس لهم في الميراث نصيب، وكذلك الأولاد من الرضاع ليس لهم في الميراث نصيب، فتبين أن المراد بالأبناء: الأبناء للصلب. والأبناء للصلب الذين جاءوا من نكاح حلال، أما الأبناء الذين جاءوا من سفاح، يعني: رجل زنى بامرأة، فولدت ولداً، فليس له نصيب في الميراث، ليس له ميراث شرعي من الزاني، ولكنه يرث من أمه وترثه.

حقيقة ومعنى تقديم الوصية على الدين في الآية

حقيقة ومعنى تقديم الوصية على الدين في الآية لماذا قدمت الوصية على الدين في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)) [النساء:11] ؟ معلومٌ أنه إذا مات رجل عليه دين وأوصى وصية، فإن الدين يُقضى أولاً بالإجماع. ولأهل العلم في تقديم الوصية على الدين أقوال: أولها: أن الحرف (أو) لا يفيد الترتيب، كأن تقول لشخص اذهب إلى المنصورة أو الإسكندرية، فهذا تخييرٌ، ليس معناها: أن يذهب إلى هذه أولاً ثم إلى تلك ثانياً. ثانيها: أن الوصية قُدِّمت؛ لأن الشخص إذا اهتم بالشيء الصغير سيهتم بالكبير، فإذا اهتم الشخص بتنفيذ الوصية سيهتم من باب أولى بتنفيذ الدين، كما قال الله حاكياً عن الكافر: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} [الكهف:49] ، فقدمت الصغيرة على الكبيرة، فإذا كان لن يغادر الصغيرة، إذاً لن يغادر الكبيرة. ثالثها: أن الوصية كانت مشاعة في الناس، فقُدِّم ذكرها لتفشيها الأوسع في الناس، والشيء إذا كان متفشياً بصورة أوسع في الناس فإنه يقدم على الذي لم يكن متفشياً. فمثلاً: آية المحرمات في النساء صُدِّرت بقوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] ، قُدِّمت زوجة الأب في الذكر على الأم مع أن التزوج بالأم أقبح وأشنع من التزوج بزوجة الأب، ولكن التزوج بزوجة الأب كان متفشياً في الجاهلية، وأهل الشرك في الجاهلية كانوا يحرمون الأم؛ لكن لم يكونوا يحرمون زوجة الأب، فعندما يموت الأب كان كل واحد يجري إلى امرأة أبيه بسرعة؛ لأن الذي يسبق ويضع عليها ثوباً يكون هو أحق بها من غيره، إن شاء تزوجها هو، وإن شاء زوَّجها لغيره، وإن شاء سرَّحها وردها إلى بيت أهلها، فيتصرف فيها كيف شاء. فلذلك قدمت الوصية على الدين لتفشيها. قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً)) [النساء:11] أي: لا تميز ولداً على الآخر، ولا تميز بنتاً على ولد، أو ولداً على بنت، فأنت لا تدري من الذي سينفعك عند الله ومن الذي سيضرك؟! قال تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [النساء:11] : والمشرِّعون التونسيون الطواغيت الذين يجعلون المرأة مثل الرجل في الميراث، فهم في غاية الجهل والغباء، والله هو العليم الحكيم، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [النساء:11] .

نصيب كل من الأب والأم مع الزوج

نصيب كل من الأب والأم مع الزوج لكن إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأماً وأباً، كم يأخذ الزوج؟ الزوج له النصف، يبقى النصف، للأم الثلث، ويبقى السدس يأخذه الأب، إذاً أعطيتَ الأم ضعفَ الأب، هل هذا يجوز؟ نعم. أنت فهمت السؤال؟ امرأة ماتت، تركت زوجاً وتركت أماً وتركت أباً، للزوج له النصف، والدليل قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] . وللأم الثلث، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11] ، وبه قال ابن عباس. وقال: زيد بن ثابت رضي الله عنه: للأم ثلث الباقي، حتى لا تأخذ الأم أكثر من الأب! فاختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في هذه المسألة، فـ ابن عباس قال: (نمضيه على ظاهر كتاب الله: الزوج له النصف، والأم لها الثلث، والأب له الباقي وهو السدس) . فإن قال قائل: كيف تعطي الأم أكثر من الأب؟ قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، فألحقنا الفرائض بأهلها. وفريق آخر قالوا: بل نعطي الزوج النصف، ونأتي إلى النصف الباقي، فالأم تأخذ ثلثه، والأب يأخذ ثلثيه، كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه. لكن ابن عباس أصر على موقفه في هذا الباب، وقال: لا ضير أن تأخذ الأم أكثر من الأب، ما دام أن رب العزة سبحانه وتعالى نص على ذلك في كتابه. فإذا اشترك الأبوان مع الزوجة، فللزوجة الربع وللأم الثلث، وللأب الباقي. إذا اشترك الأبوان مع إخوة، كرجل مات وترك أماً وأباً وإخواناً؛ فللأم السدس، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] وللأب الباقي تعصيباً، لحديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلِأَولى رجل ذكر) . وأما الإخوة فليس لهم شيء، وذلك لوجود الأب، فهم أضرُّوا بالأم ولم يأخذوا شيئاً، أي أن الإخوة في هذه الحالة كانوا وجه ضرر على أمهم، فحجبوا الأم من الثلث إلى السدس، ويا ليتهم أخذوه، بل الذي أخذه أبوهم، فأضرُّوا بالأم ولم يأخذوا شيئاً؛ لأن أباهم سينفق عليهم.

عدم قسمة التركة قبل تنفيذ الوصية والدفن وغيرهما

عدم قسمة التركة قبل تنفيذ الوصية والدفن وغيرهما وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] ، أي: هذه القسمة كلها بعد الوصية وبعد الدَّين، وبعد أشياء أخر لم تذكر في كتاب الله؛ لكن ذكرها الفقهاء في كتبهم، مثل تكاليف الدفن والكفن وغيرهما فتخرج من رأس التركة قبل القسمة؛ لكن تكاليف المَحْزَنة لا تخرج؛ لأنها بدعة. فالواجب هو الذي يخرج، وإذا تطوع بالواجب أحد الورثة فلا بأس، الواجب الذي يجب أن يُفعل كالغسل والكفن والدفن تخرُج قيمته؛ لكن أي شيء كالأكل للمعازيم والقهوة والشاي للمعازيم، كل هذا لا يخرُج من شيء فهو مال للورثة. وهل الوصية واجبة أو مستحبة؟ أو لا واجبة ولا مستحبة؟ الوصية جائزة في بعض الأحيان، وتكون الوصية لغير الورثة؛ لما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) ، أي: أن أي واحد من الورثة لا يجوز للميت أو للمحتضر أن يوصي له، والحديث ضعيف من كل طرقه؛ لكن حصل إجماع العلماء على أنه لا وصية لوارث. وهذا من الأحاديث الضعيفة التي عليها العمل، فهذا الحديث لا يثبت له أي طريق عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكل طريق مخدوشٌ فيه. وقد نقل الشافعي إجماع العلماء على العمل به، فصرنا إلى العمل به كما عليه العلماء كافة. فالوصية تكون لغير الورثة بما لا يتجاوز الثلث؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم -لما ذهب إلى سعد بن أبي وقاص يعوده- (الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس) . فمِن ثَمَّ كان ابن عباس يقول: (لو أن الناس غَضُّوا من الثلث إلى الربع لكان أنفع أو كان خيراً لهم؛ لأن الرسول قال: الثلث، والثلث كثير) . ومعنى (غَضُّوا) في قوله: (لو أن الناس غَضُّوا من الثلث إلى الربع) . نزلوا. والشاهد من كتاب الله على ذلك؛ قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] أي: يخفضوا من أبصارهم. فهذا قول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه. وقولهم: إنها واجبة، فيه نظر! لأنه ليس هناك دليل يوجب الوصية. ثم الوصول بها إلى الثلث وصولٌ بها إلى المنتهى، فالمستحب أن تكون كما قال ابن عباس: أقل من الثلث؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ، وأن تكون الوصية لغير الورثة.

تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم)

تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم)

حقيقة المضارة في قوله تعالى: (أو دين غير مضار)

حقيقة المضارة في قوله تعالى: (أو دين غير مضار) {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12] . قوله تعالى: ((غَيْرَ مُضَارٍّ)) : يشمل كل أنواع الضرر، فكل أنواع الضرر ينبغي أن تجتنب، كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] ، أي: لا ضرر على الكاتب ولا على الشهيد. وهناك معنىً آخر قال به بعض العلماء في قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] وهو: أن ترغم الشاهد أو الكاتب على الحضور في وقت لا يستطيع الواحد منهما أن يحضر، فيعتبر هذا من المضارة، وذلك في الكتابة والشهادة في الوصية وفي الديون، {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] . فتبين أن فيها وجهين: الأول: بمعنى: لا يؤذى الكاتب ولا يؤذى الشاهد، لا يؤذى الكاتب كأن تهدده وتقول له: إذا شهدت أن هذا خطك سأفعل بك كذا، ولا يؤذى الشاهد، كأن تهدده أيضاً وتقول له: لو شهدت على كذا لفعلت بك كذا. ثانيهما: لا تأت إليهما في وقت الراحة مثلاً وتقول: هيا تعال اشهد معي. فيقول لك: أنا لا أستطيع الآن، فتقول: لازم، فهذا نوع من أنواع المضارة بالكاتب والشهيد. وعلى الكاتب والشهيد أيضاً أن لا يضارا الدائنَ والمدينَ، بمعنى: أن الشاهد قد يشهد زوراً فيضر أحد الطرفين، أو الكاتب يكتب ما لا يُملى عليه فيضر أحد الطرفين. فكلمة: (يُضارَّ) جمعت المعنيين، لا يضار هذا ولا يضار هذا، فلا يضار الكاتبُ والشهيدُ الدائنَ والمدينَ، ولا يضار الدائنُ والمدينُ الكاتبَ ولا الشهيدَ. هنا قول تعالى: ((غَيْرَ مُضَارٍّ)) : تشمل إبعاد كل أنواع الضرر التي تلحق بالمحتضر، أو بالورثة أو بأي صنف من الأصناف التي تشترك في التركة.

حقيقة المسألة المشركة أو الحمارية أو العمرية وحكمها

حقيقة المسألة المشركة أو الحمارية أو العمرية وحكمها هنا مسألة نطرحها: امرأة ماتت وتركت زوجاً، وتركت أماً، وتركت إخوة لأم، وتركت إخوةً أشقاء. فكم يكون نصيب كل من الزوج والأم والإخوة لأم والإخوة الأشقاء؟ - الزوج له النصف؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] . - والأم لها السدس، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] . وللإخوة لأم الثلث، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] . والإخوة الأشقاء يُحْجَبون؛ لأنه لا يوجد باقٍ أبداً، فإننا قلنا: الزوج له النصف، والأم لها السدس، والإخوة لأم لهم الثلث، انتهى الواحد الصحيح، ويسقط الإخوة الأشقاء ولا يرثون؛ لأنه لم يعد يوجد شيء، وهذا رأي بعض العلماء. والمسألة التي وردت فيها قصة، وإن كان في إسنادها كلام: أن قوماً اختصموا إلى عمر فالإخوة الأشقاء ما تبقى لهم شيء، فجاءوا إلى عمر قالوا: يا أمير المؤمنين! هب أن أبانا كان حماراً! أليست أُمّنا واحدة؟! فقضى لهم عمر أن يشتركوا مع الإخوة لأم في الثلث، وأبى عليه ذلك عبد الله بن عباس، وأصر على موقفه وقال: الذي ذُكِر في كتاب الله يُخرج، والذي ليس له شيء في كتاب الله فليس له شيء. وهذه هي المسألة المُشَرَّكة التي اختلف فيها عمر مع ابن عباس فعندما تزيد النسبة عن الواحد الصحيح، فنقول مثلاً: هذا له نصف وهذا ربع وهذا ثلث تخرج النسبة بزيادة عن الواحد الصحيح، فتقسمها كما يقسمها أهل الهندسة بمجموع الأجزاء وقيمة الجزء، ثم تضرب بالطريقة التي تُدْرَس في سادس ابتدائي. الزوج يأخذ النصف؛ لأن الله قال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء:12] ، والأم تأخذ السدس لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] فإذا جمعت النصف على السدس يكون أربعة أسداس، بقي سدسان، قال الله سبحانه في شأن الإخوة لأم: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] أي: في السدسين، يبقى الإخوة الأشقاء ليس لهم شيء. لكن أمير المؤمنين عمر قال: نقسم الثلث الباقي على الإخوة لأم والإخوة الأشقاء. إذاً: هكذا يستوي كل واحد مع الآخر.

نصيب الزوج مع وجود الولد وعدمه

نصيب الزوج مع وجود الولد وعدمه قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] أي: أن للزوج نصف تركة الزوجة إن لم يكن لها ولد. {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء:12] أي: ابن أو بنت؛ لأن المراد بالولد الذي يولد، سواء كان ذكراً أو أنثى.

نصيب الزوجة أو الزوجات مع وجود الولد وعدمه

نصيب الزوجة أو الزوجات مع وجود الولد وعدمه قال تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء:12] : يعني: لو أن رجلاً كان متزوجاً بأربع، فمات الرجل، فإن الزوجات يشتركن في الربع إن لم يكن له ولد، إما إذا كان له ولد أو بنت من إحدى النساء، فحينئذ يشتركن في الثمن. فكلمة: (لهن) تفيد أنه لهن مجموعات. (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ (-أي: مجتمعات- (الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) .

حقيقة الكلالة والمراد بالأخوة في آيتي الكلالة

حقيقة الكلالة والمراد بالأخوة في آيتي الكلالة قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء:12] : أي: أو امرأة تورث كلالة، وحذفت: (تورث كلالة) لدلالة السياق عليها، والحذف لدلالة السياق مستساغ، وقد قدمنا ما فيه الكفاية في هذا الباب. قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} [النساء:12] : الكلالة: مَن لا ولد له ولا والد، وهذه المسألة من المسائل التي أشكلت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حتى قال: (ما سأل أحدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة مثلما سألتُه، حتى ضرب يده في صدري وقال: يا ابن الخطاب، ألا تكفيك آية الكلالة التي في آخر سورة النساء؟!) ، ومع ذلك كان يقول في آخر حياته عمر: (ثلاث مات النبي صلى الله عليه وسلم ولَوَدِدْتُ أنه عَهِد إلينا فيهن عهداً: الكلالة، ومسائل من الربا ... ) إلى آخر ما ذكر عمر رضي الله عنه. إذاً الكلالة: من لا ولد له ولا والد، أي: ليس له أب ولا ابن، ولا جد ولا حفيد، ولا شيء أعلى ولا شيء أنزل، قال العلماء: الكلالة هي مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس. قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء:12] هنا تقدير أجمع العلماء عليه: له أخ أو أخت من الأم. والكلالة فيها آيتان: هذه أولاهما: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء:12] : أي: أخ أو أخت من الأم. والثانية هي آخر آية في النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] . الكلالة هنا: الإخوة الأشقاء، أو الإخوة لأب، حتى لا تتضارب الأفهام؛ لأن حكم الكلالة في الآية الأولى من النساء، غير حكم الكلالة التي في آخر النساء. الكلالة هنا: يقول الله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] . لكن التي في آخر النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] . فقد يقال: كيف تقول: إن الأخت لها نصف ما ترك في الأخيرة، وهنا تقول: لها السدس؟ فالإجابة: أن هذه الآية الأولى في الإخوة لأم. والتي في آخر النساء في الإخوة الأشقاء. والإخوة لأم يفترقون عن الإخوة الأشقاء في أمور: منها: أنهم لا يرثون الأخ إلا في الكلالة. منها: أن ذكرهم يساوي أنثاهم في الميراث؛ لأن الله قال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] ، فسوى الأخ بالأخت. لكن في الكلالة التي في آخر النساء: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] ، وهي في الإخوة الأشقاء. ومنها: أن ميراث الإخوة لام لا يتجاوز الثلث؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] . أما الإخوة الأشقاء فيستحوذون على التركة كلها إن لم يوجد وارث للميت من يقدم عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله) قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13-14] . فآيات المواريث ذيلت بهذا التذييل الخطير لزجر من تسول له نفسه تغيير أي حكم من أحكام الله في شأن المواريث. فقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء:14] عقب قسمة الله المواريث. {يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] : أي: مُذِلٌّ ومُخْزٍ، عياذاً بالله منه! والحمد لله أن بلادنا ما زالت في المواريث على الشرع فيما نعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من رأى أمه بعد موتها في المنام وأخبرته أنها حية

حكم من رأى أمه بعد موتها في المنام وأخبرته أنها حية Q هناك ابن ماتت عنه أمه، وبعد فترة من وفاتها جاءت إليه في الرؤيا وقالت له: إني ما زلت على قيد الحياة في قبري، فذهب إلى خاله وقصَّ عليه ما رأى، فقال له: إن هذا من عمل الشيطان، فلا تهتم ولا تشغل بالك، فجاءت إليه مرة أخرى في الرؤيا تقول له مثلما قالت له في المرة الأولى، فذهب هو وخاله إلى قبر الأم، فلما فتحا عليها القبر وجداها جالسة وقد ماتت، هل على الابن وزر. A ليس عليه وزر.

حكم مشروعية التعجيل بدفن الميت

حكم مشروعية التعجيل بدفن الميت Q هل التعجيل بدفن الميت مشروع في دين الله؟ A التعجيل بالدفن لا أعلم عليه دليلاً، إنما الإسراع بالجنازة إذا كانت على الأكتاف هو السنة؛ لأن النبي قال: (أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تكُ غير ذلك فشرٌ تضعونه من على رقابكم) ؛ لكن التوسط مطلوب، {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] أعني أن التوسط في كل شيء طيب.

حكم تأخير دفن الجنازة لغرض اجتماع الناس

حكم تأخير دفن الجنازة لغرض اجتماع الناس Q هل تتأخر الجنازة إلى أن يجتمع الناس عليها؟ A لذلك مستند هو: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدفن ليلاً) مثلاً: إذا مات شخص في وقت المغرب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الدفن ليلاً؛ لمظنة قلة الحاضرين، فتؤخره إلى الصباح إلى أن تطلع الشمس، فتكون الفترة طويلة، ففي هذه الحالة جوَّز رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يؤخَّر الدفن، فليس هناك تضييق على المسلمين في المسألة، في الإسراع في الدفن أو الإبطاء به، فإن تأخير الدفن أو تعجيل الدفن يكون لمصلحة الميت، فإذا كان في التأخير نفعٌ للميت كأن يشهد جنازته عدد كبير من المسلمين حتى يُشَفَّعوا فيه، فيُفعل هذا التأخير، وإن لم يكن هناك مصلحة تدعو إلى التأخير قُدِّم إلى الدفن. والله أعلم.

حكم التعامل بشهادات الاستثمار

حكم التعامل بشهادات الاستثمار Q ما حكم المعاملات التي هي شهادات الاستثمار، هل هي جائزة أم لا؟ A شهادات الاستثمار إلى الحُرمة أقرب بكل أصنافها. والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم. إلى هنا وجزاكم الله خيراً.

حكم من طلق بعد العقد وقبل الدخول ولم يعطها شيئا

حكم من طلق بعد العقد وقبل الدخول ولم يعطها شيئاً Q إذا علم رجل قبل أن يطلق امرأته أن لها نصف المهر، وكان قد عقد فقط، ولم يخلُ بها، ولم يعطها حقها بعد الطلاق، فما حكم ما فعله في حقها شرعاً؟ A هو آكلٌ حق المسلمة، إلا إذا عفت هي، أو عفا هو وأعطاها المهر كاملاً، وهذا شيء لا يكاد أحد يفكر فيه. أورد الطبري أثراً -أحتاج أن أنظر في إسناده مرةً ثانية-: عن جبير بن مطعم أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فقال له سعد: يا جبير ما رأيك أن تتزوج أختي؟! قال: قد تزوجتها. ومكثا بعض الشيء في المجلس، ثم خرج جبير بن مطعم فقال جبير -وهو لم يرها بعد ولا أبصرها ولا أي شيء-: هي طالق، وأرسل لها الصداق كاملاً. فقيل له: لماذا تزوجتَها؟ ولماذا طلقتها؟ قال: استحييت من الرجل، فتزوجتُها، وقيل له: لماذا أرسلت لها الصداق كاملاً؟ قال: إن الله قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فلا أجعلها تعفو عني، أنا الذي أعفو عنها؛ أعطي لها الصداق كاملاً. هذا أورده العلماء الذين قالوا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ لأن الذي بيده عقد النكاح للعلماء فيه قولان: أحدهما: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج. والثاني: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي. فالراجح في المسألة: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ فلذلك قال: جبير أنا أعفو عنها، ولا أريد منها شيئاً. فأخونا الذي فعل هكذا فإنه آكلٌ مالها بالباطل.

حكم الوصية لأحد الورثة

حكم الوصية لأحد الورثة Q هل يجوز أن يوصي الشخص بالثلث لأحد الورثة؟ A الوصية بالثلث تكون لغير الورثة، (لا وصية لوارث) ، فإذا كان لك ابن، فهو وارث، ولا يُعطى شيئاً من الثلث وصية. فالوصية تكون لغير الورثة، بأن تتخير من مصالح الخير فمثلاً: أنت لك زوجة وأولاد وأم وأب، ولك إخوة، الإخوة ليس لهم شيء في الميراث، فأشفقت على أخيك وقلتَ: أريد أن أعطيه شيئاً؛ لأن التركة عندما تقسم فإنه ليس له منها شيء، وله أولاد مساكين، فيجوز لك أن تتصرف وتوصي لإخوانك في حدود ما لا يتجاوز الثلث، وكذلك غيرهم من أقاربك الذين لا يرثون منك.

حكم من أعطى ابن ابنته وأخته من التركة مع بنته

حكم من أعطى ابن ابنته وأخته من التركة مع بنته Q رجل موجود على قيد الحياة، وكتب ممتلكاته لبنته الوحيدة النصف، والنصف الآخر لابن ابنته المتوفية وأخته بالتساوي، أهذا حرام؟ A نعم هذا حرام! كيف لا؟! فهو أعطى البنت النصف، والنصف الآخر لابن ابنته المتوفية وأخته بالتساوي، ابن ابنته المتوفية له أن يوصي له؛ لكن هنا شيء: أنه إذا أوصى له فإن الحكومة تجيء فتعطيه أيضاً إضافةً إلى الوصية؛ مع أن ابن ابنته المتوفية في الأصل ليس له في الميراث شيء، وهنا لو أوصى له فنحن نخشى من الحكومات؛ لأنها جعلت لابن البنت وصية واجبة، فتسلم له ثلث التركة، فيأخذ نصيبان، فيكون هذا فيه جور على سائر الورثة. والله أعلم. - ما حكم الوصية الواجبة؟ هي ليست واجبة في الشرع، أما في القضاء أو في المحاكم فسل الشيخ صالح عبد الجواد حفظه الله، فإنه يفهم في هذا الكلام جيداً.

حكم حديث النهي عن صوم يوم السبت والجمعة

حكم حديث النهي عن صوم يوم السبت والجمعة Q كيف نفهم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم السبت إلا من فريضة، على رأي مَن صححه، وعن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة إلا يوماً قبله ويوماً بعده؟ A ابتداءً إذا سقط الحديث من ناحية الإسناد فلا داعي للتكلف في الجمع. فابتداءً حكم الإمام مالك على حديث: (لا تصوموا السبت إلا فيما افتُرِض عليكم) أنه كذب، قال الإمام مالك: هذا حديث كذب، وقال أبو داوُد: هذا حديث ضعيف، وقال النسائي: هذا حديث مضطرب، وضعَّفه غيرُ هؤلاء عددٌ كبير من أهل العلم وأطبقوا على هذا. والعلة التي لعلها خفيت على بعض العلماء: أن الحديث -على ما أذكر الآن إن لم يكن دخل عليَّ حديثٌ في حديثٍ- في إسناده يونس، ويونس معروفٌ أنه ثقة؛ لكن يقول الإمام أحمد في بعض مقالاته: اطلعت على كتاب يونس فلم أرَ هذا الحديث في أصل كتابه، فهذه المقولة من أحمد جعلتنا نوقِّر كلام الإمام مالك لما قال: هذا الحديث حديثٌ كذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلعل بعض المحققين لم يلتفت إلى هذه النقطة التي نقلها الإمام أحمد حيث قال: لم أرَ هذا الحديث في أصل كتاب يونس، ومن ثم قال مالك: إنه كذب. فضلاً عن هذا فهناك الأحاديث المعارضة له التي في الصحيحين وغيرهما، ففي صحيح مسلم: (لا تصوموا الجمعة إلا يوماً قبله أو يوماً بعده) فقد يكون سبتاً. وحديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين: (صم يوماً وأفطر يوماً فذاك أحب الصيام إلى الله) ولم يأمره باستثناء سبت ولا أحد ولا جمعة ولا غير ذلك. فرأينا أن الحديث ضعيف، والحمد لله النفس مطمئنة إلى ذلك تماماً. أما إذا أردنا أن نلتمس التماساً لمن قال بحسن الحديث من المتأخرين، فيقال: إن المنهي عنه -والله أعلم- تخصيص السبت بالصيام؛ لأنك إذا خصصت السبت بالصيام كدت أن تشارك اليهود، لما قال الله لهم: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء:154] . والله سبحانه أعلم.

تفسير سورة النساء [15-21]

تفسير سورة النساء [15-21] اشتملت هذه الآيات من سورة النساء على العديد من المسائل والأحكام التي ينبغي على المسلم معرفتها، منها: الجمع بين عقوبتي الجلد والرجم على الثيب وأقوال العلماء فيه، وعضل النساء والحالات التي جوز فيها للزوج العضل، وحكم خدمة المرأة لزوجها، وغير ذلك مما سيجده القارئ في صفحات هذه المادة.

خلاف العلماء في الجمع بين الجلد والرجم للثيب الزاني

خلاف العلماء في الجمع بين الجلد والرجم للثيب الزاني الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فإذا زنت امرأة ثيب -أي: سبق لها زواج- وأتت بفاحشة، فالحديث يفيد أن عليها جلد مائة والرجم، لكن هل تجمع عليها العقوبتان، الجلد والرجم أو أن الرجم وحده يكفي؟ ذهب جمهور العلماء: إلى أن الرجم وحده كافٍ، وليس عليها شيء إلا الرجم، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، فلم يأمر النبي بشيء مع الرجم. بينما ذهب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: إلى أنها ترجم وتجلد، قال: جلدتها بكتاب الله، -أي: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]- ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت عقوبة المرأة إذا زنت في أول الأمر أن تحبس في البيت حتى تموت، فتبقى محبوسة لا تخرج من البيت حتى تموت، وهو المعني بقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] ، والسبيل هو الذي سمعتموه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نوع النسخ في قوله تعالى: (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت.

نوع النسخ في قوله تعالى: (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت.) هذه الآية هل فيها نسخ الأخف بالأثقل أم الأثقل بالأخف إن قلنا بأنها منسوخة؟ كان أول الأمر الحبس المطلق إلى أن تموت، ثم جاء الأمر بالرجم في حال كون الزانية ثيباً، أو بالجلد والتغريب للبكر، والمرأة لا تغرب، فالتغريب لا يكون في شأن النساء، فإن المرأة إذا زنت وغربت اضطررنا إلى أن نخرج معها رجلاً من محارمها يغرب معها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تسافر المرأة إلا ومعها محرم) ، وما هو الذنب الذي اقترفه محرمها حتى نغربه هو الآخر؟! ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم غرب امرأة، إنما التغريب في حق الرجال. فالشاهد: أن المرأة إذا زنت وكانت ثيباً فعليها الرجم، وإذا كانت بكراً فعليها جلد مائة، وأول الأمر كان الحبس حتى الوفاة، فهل هو نسخ للأخف بالأثقل أم للأثقل بالأخف؟ قد يرى البعض: أنه نسخ للأخف بالأثقل وذلك في حالة الرجم، فالحبس في البيوت أقل من الرجم. لكن قد يقول آخر: إن جلد المائة أخف من الحبس في البيوت طول الحياة، فلكل وجه. لكن على كل حال: نسخ الأخف بالأثقل وارد في كتاب الله، ونسخ الأثقل بالأخف وارد كذلك في كتاب الله، أما نسخ الأخف بالأثقل فمثاله قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184] ، ففي بداية الأمر كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مكان كل يوم يفطره مسكيناً، على رأي الجمهور احترازاً من رأي عبد الله بن عباس، فجاء الأمر بالإلزام بالصيام في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فالإلزام بالصيام أثقل من التخيير بين الصيام والإطعام. أما مثال نسخ الأثقل بالأخف فهو قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] فنسخت على رأي أبي هريرة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، وكذلك مصابرة المؤمن لعشرة من الكفار نسخت بمصابرته لاثنين فقط لقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] . فالآية تشعر بالتدرج في الأحكام، مثل التدرج في أحكام الخمر، وتقدّم أنه كان على أربع مراحل: الإباحة المطلقة، بل والمن بالإباحة: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] ، ثم {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ، ثم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، ثم الاجتناب الكلي: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] . وكذلك في الجهاد: الأمر بكف اليد ابتداءً: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] ، ثم الإذن: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج:39] ، ثم الأمر بالقتال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] .

الشهود في جريمة الزنا

الشهود في جريمة الزنا وقال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ} [النساء:15] استشهدوا أي: اطلبوا أربعة شهود، ((مِنْكُمْ)) [النساء:15] أي: من الرجال، وهنا تختلف الشهادات، وشهادات الأموال لها حكم، وشهادات الحدود لها حكم، وشهادات الرضاع لها حكم، فلا يكفي في شهادات الحدود إلا أربعة شهود من الرجال، شهادات الأموال: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو شاهد ويمين، ففي صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين) ، وشهادات الرضاع يكفي فيها المرضعة إذا كانت ثقة، قال الله سبحانه: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] . ونوع الأذى الوارد في قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] أي: من رجالكم في جريمة اللواط أو جريمة الزنا، {فَآذُوهُمَا} [النساء:16] ما هو نوع الأذى الذي يؤذيان به؟ قال المفسرون: هو التعيير والتوبيخ والتأنيب والشتم، فإن قال قائل: هل يجوز في الشرع الشتم؟ فالإجابة أن في مثل هذه المواطن التي أذن فيها الله سبحانه وتعالى يجوز فيها ذلك، والنبي قال: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار) قال الله سبحانه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:49-50] ، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] إلى قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176] ، وقال أبو بكر لـ عروة بن مسعود الثقفي: (اذهب فامصص بظر اللات) فإن احتيج إلى شيء من ذلك فعل في الموطن الذي أذن فيه الشارع، والله أعلم. فالإيذاء يتمثل في التعيير والتوبيخ والتأنيب والشتم، وهذا الأذى هو دون الحد.

التوبة قبل الغرغرة

التوبة قبل الغرغرة وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16] يعني: إن تاب الرجل وأصلح فليس لك أن تعنفه بكلام قبيح بعد ذلك. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16] يعني: باب التوبة مفتوح وباب الرحمة مفتوح، {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16] . {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] من قريب أي: قبل الموت، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) ، وقال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) فكلمة من قريب: قال كثير من المفسرين: أي: من قبل الموت (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) أي: إنما قبول التوبة على الله. والذين يتوبون هل يجب على الله أن يقبل التوبة منهم لقوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) ؟ لا يجب على الله شيء، إنما قال سبحانه: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] ، فإذا تبت وأراد الله لك العذاب عذبت، وإذا لم تتب وأراد الله لك الرحمة رحمك، إنما توبتنا من باب الأخذ بالأسباب المقربة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وفرعون تاب عند معاينته للموت {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] ، فأجيب بقوله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18] أليماً أي: مؤلماً موجعاً.

عضل النساء

عضل النساء وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ} [النساء:19] (لا يحل) أي: يحرم، وهذا أيضاً يعتبر نصاً صريحاً في التحريم، فأنتم تعلمون أن نصوص التحريم منها نصوص ظنية الدلالة في التحريم، ونصوص قطعية الدلالة في التحريم، أحل الله كذا: نص صريح الدلالة في التحليل، حرم الله كذا: نص صريح الدلالة في التحريم. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ)) [النساء:19] المعنى: يا أيها الذين آمنوا يحرم عليكم {أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19] لا يحل لك أن ترث المرأة سواءً بإكراه أو بغير إكراه كذلك، إنما قوله: (كرهاً) خرجت مخرج الغالب؛ لأن هذا هو الذي كان متبعاً قبل عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام. وتوضيح الآية: أن الرجل كان إذا مات أبوه عمد إلى امرأة أبيه، ووضع عليها ثوباً، فهو وإخوانه يتسابقون إليها، وأيهم وضع عليها ثوباً أولاً يكون قد ورثها، يفعل فيها ما يشاء: إن شاء أن يزوجها لشخص آخر زوجها، وإن شاء أن يتزوجها هو تزوجها، وإن شاء عضلها وأبقاها، وكان هو أحق بها من أوليائها، وفي ذلك يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19] فكانت المرأة في الجاهلية مهانة غاية الإهانة، فإذا مات زوجها يعمد الأولياء متسابقين إليها بوضع ثوب عليها فمن كان أسبق فهو يتصرف بها كيفما شاء. {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنّ} [النساء:19] أي: لا يحل لكم أيضاً أن تعضلوهن، وأصل العضل: المنع، والمراد بقوله: (ولا تعضلوهن) المنع من تزويجهن، امرأة تريد أن تتزوج وأنت تمنعها، {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] أنت متزوج امرأة وكرهتها تبقى معلقة لا أنك طلقتها ولا أنك قمت بواجب الزوجية نحوها، تتركها معلقة وأنت معضل لها، تحتال هذه الحيلة لكي تتنازل لك عن شيء من الصداق، فإخواننا الذين يكرهون نساءهم ولا يطلقوهن كي تتنازل له المرأة عن صداقها آثمون مرتكبون لمحرم لقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي: لتأخذوا بعض الصداق الذي أعطيتموه لهن إلا في حالة واحدة.

الحالات التي يجوز فيها للزوج العضل

الحالات التي يجوز فيها للزوج العضل {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] يعني: يجوز لك أن تعضل زوجتك إذا أتت بفاحشة مبينة. مثلاً: رجل تزوج امرأة، وكلفه الزواج عشرة آلاف جنيه، وبعد أن كلفه الزواج عشرة آلاف جنيه إذا بزوجته على صلة برجل آخر -عياذاً بالله- فماذا يصنع؟ إن قال: أطلق، هي تريد أن تتطلق، فقد أخذت المهر، وتريد أن تتزوج شخصاً آخر وتفعل معه نفس الفعل الذي فعلته مع الأول، وتأخذ الصداق من الآخر أيضاً، فحينئذ يجوز للزوج أن يعضلها حتى تفتدي نفسها منه لقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] ، ويلحق بالفاحشة المبينة متبوعاتها، مثل: رجل تكلف وتزوج امرأة وأنفق، وبعد أن أنفق جاءت فقالت له: أريد أن أخرج متبرجة، وأخرج لابسة للملابس الضيقة أنا حرة! ينصح فلا ينفع النصح، يشق عليه جداً أن يرى زوجته متبرجة تلبس فوق الركبة، حينئذ يجوز له أن يعضلها لكي ترد إليه المهر وترجع إلى بيت أهلها، هذه الحالات التي يجوز للزوج إعضال الزوجة، أما ما سوى ذلك فرب العزة سبحانه وتعالى ما أجاز ذلك، اللهم إلا في حالة الخلع وليس في الخلع إعضال؛ لأن المرأة في الخلع هي نفسها التي تطلب الطلاق. {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] أي: من الصداق، {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] .

معاشرة النساء بالمعروف

معاشرة النساء بالمعروف وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] هذه الآية أصل في الإحسان إلى النساء في المعاشرة، (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أمر من الله سبحانه للأزواج أن يعاشروا النساء بالمعروف، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي مات بعدها بنحو ثلاثة وستين يوماً، قال في الخطبة الفاذة الجامعة في عرفات: (ألا واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) الحديث، وفيه أن الرسول أوصى بمعاشرة النساء بالمعروف، ورب العزة يوصي بمعاشرة النساء بالمعروف، والنبي يوصي بذلك، فقد قال الله سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ، وقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يجرنا إلى شيء من أحكام معاشرة النساء، وبالنسبة لمعاشرة النساء أُلفت فيها كتب ككتاب عشرة النساء للنسائي رحمه الله، استخلص من كتاب السنن الكبرى في مصنف، وكثير من أهل العلم يوردون أبواب عشرة النساء في ثنايا مصنفاتهم.

خدمة المرأة لزوجها

خدمة المرأة لزوجها خدمة المرأة لزوجها هل هي على الإيجاب أم على الاستحباب؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن خدمة المرأة لزوجها على الاستحباب، وليست على الإيجاب، وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن خدمة المرأة لزوجها واجبة عليها، وفريق ثالث قال: إن مرد هذا الأمر إلى الأعراف السائدة في البلاد وإلى أحوال النساء، فإن كانت من بيت غنى يُخدم مثلها فتخدم وإلا فلا، فهي ثلاثة أقوال لأهل العلم. وما هي الأدلة من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك؟ استدل بعض القائلين بالإيجاب بقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء:34] قالوا: معنى قانتات أي: مطيعات -هذا قولهم- أي: إذا أمرها الزوج بأمر أطاعته، فإذا أمرها بالخدمة خدمته. وقال فريق آخر من أهل العلم الذين وجهوا الوجوب: قوله تعالى: (قانتات) أي: مطيعيات، مطيعات لمن؟ ليس في الآية تقييد، وإن قلنا: مطيعات للأزواج، فمطيعات للأزواج في الذي أمرهن الله به من الطاعة، فإذا قال لها الزوج مثلاً: أعطيني مالك! فليس لها أن تطيعه فإن المال مالها، أي: إذا قال لها الزوج: أنت معك ألف جنيه أعطيني الألف جنيه، فلا يقول أحد أنه يجب عليها أن تعطيه الألف جنيه؛ لأن الله قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، فإن لم تطب نفسها فليس لها أن تعطيه، قالوا: فلما لم يكن له أن يجبرها على إعطاء المال كذلك ليس له أن يجبرها على إعطاء الخدمة، إنما الذي له: (إذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته ... ) الحديث. استدل آخرون بقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] لكن قيل: ما هي هذه الدرجة؟ أجيب أن الدرجة منها القوامة في البيت فإذا أمرها أطاعته، فإذا دعاها للفراش وجب عليها أن تطيعه، فإذا دعته هي للفراش لا يجب عليه أن يطيعها. دليل آخر لو صح لكان الفيصل في الباب وهو ما ورد من طريق عاصم بن ضمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على علي بالخدمة الظاهرة، وعلى فاطمة بالخدمة الباطنة، يعني: على علي الخدمة التي خارج البيت، وعلى فاطمة الخدمة التي داخل البيت، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، لكن علة هذا الحديث: أنه مرسل من طريق عاصم بن ضمرة، ولا يثبت له سماع من رسول الله، بل هو تابعي متأخر فضعف الحديث، ثم إن المشهور في قصة علي أن فاطمة أتت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تسأله خادماً فقال: (ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ إذا أتيت مضجعك تسبحين ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين أربعاً وثلاثين، فإنه خير لك من خادم) هذا أصل الحديث، فلعل شخص رواه بالمعنى بلفظ: (قضى بالخدمة الباطنة وبالخدمة الظاهرة) ، لكن ليس هذا تعليلنا، إنما التعليل لأنه مرسل من طريق عاصم بن ضمرة، أما هذا الحديث (ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم) ، ففي الصحيحين، وليس فيه إيجاب، وإنما غاية ما فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام اختار لأهل بيته الأفضل. وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من طريق حكيم بن معاوية عن أبيه، ورواه عن حكيم ابنه بهز وأبو قزعة أنه جاء إلى رسول الله فقال: (يا رسول الله! ما حق أحدنا على زوجته؟ وما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أما حق أحدكم على زوجته فعليها أن تطيعه إذا أمرها، وإذا دعاها إلى الفراش أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته) الحديث، وليس فيه أنه أوجب عليها الخدمة، وقال: (ألا تمنعه نفسها وإن كانت على قتب وألا توطئ أحداً فرشه إلا بإذنه) ، وهناك نصوص قد أضافت حقوقاً أخرى للزوج مثل: لا تصم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تخرج إلى المسجد إلا بإذنه، فكل ما أتى من الأدلة ليس فيها دليل صريح يوجب عليهن هذه الخدمة. وبعض أهل العلم استدل بحديث: (انظري إنما هو جنتك أو نارك) ، وليس في الحديث دليل على أنه يجب عليها الخدمة، فجنتك أو نارك تعني: أنك إذا أعطيته حقوقه التي شرعها الله تدخلين الجنة، وإذا لم تعطيه الحقوق التي أمرك الله بها دخلت النار، وليس معناه أنه يسلبها شيئاً ليس من حقه، (فجنتك أو نارك) : تعني: أنك إذا اتقيت الله فيه دخلت الجنة، وإذا لم تتقي الله فيه لم تدخل الجنة، إذا سرقت من أمواله -مثلاً- دخلت النار، وإذا أطعتيه وحفظت ماله ونفسك دخلت الجنة، فالحاصل أن المسألة فيها جملة أدلة وكلها بين راد ومردود، وقد فصلت القول فيها في رسالة موسعة فيما يقارب التسعين صفحة في هذا الباب. فالشاهد: هذا بالنسبة لما يتعلق بخدمة المرأة لزوجها، بعد ذلك: كيف كان رسول الله في بيته؟ سئلت عائشة: (كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله) عليه الصلاة والسلام. ومن باب المعاشرة بالمعروف التلطف مع النساء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله) ، ولا يخفى عليكم أن النبي كان يسابق عائشة، فكان يأمر الجيش بالتقدم ثم يسابقها، ثبت هذا مرتين مرة سبقها ومرة سبقته، وكان يخدم أهله عليه الصلاة والسلام في البيت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) . قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ويدخل في المعاشرة بالمعروف تزينك لزوجتك كما تحب أن تتزين لك زوجتك، وبهذا قال محمد بن الحنفية، وروي عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم أجمعين. قد تكرهها لكنها ميمونة في بيتها غير مشئومة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الشؤم في ثلاث: في الفرس والمرأة والدار) ، فقد تجد امرأة جميلة أو وضيئة وحسناء، لكن كلما دخلت عليها البيت وأنت قادم من العمل أحدثت لك مشكلة مع الجيران، أو أعطيتها الراتب كي تنفق منه على البيت فتنفق الراتب في يوم أو يومين في ثياب أو في نعل أو في حقيقبة! فضيعت عليك المال كله، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) ، لا تتوقع أبداً أنك ستجد في المرأة كل ما تريد، قد تكون المرأة جميلة ووضيئة وحسناء؛ لكنها بذيئة اللسان لسانها طويل، قد تكون المرأة هادئة وجميلة وحسناء لكنها لا تحسن الطهي ولا الخبز، فـ أسماء بنت أبي بكر كانت تعلف للزبير فرسه وتطيعه لكن قالت: (لم أكن أحسن الخبز) ، قد تكون المرأة دميمة لكنها تقوم الليل وتصلي وتراقب ربها سبحانه وتعالى فيك، فكما قال الرسول: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) يعني: في المائة جمل واحد قوي تلقاه صابراً على الجوع، سريعاً في المشي، لا يؤذي، في الإبل المائة واحد، فمن باب أولى أن يكون ذلك في النساء.

مقدار مهر المرأة وحكم أخذه بعد الإفضاء

مقدار مهر المرأة وحكم أخذه بعد الإفضاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) ، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء:19-20] في الآية أن الأفصح أن يقال: زوج، ولا يقال: زوجة بالتاء المربوطة، وإن كان لفظ زوجة بالتاء المربوطة له شاهد، قال عمار بن ياسر كما في صحيح البخاري في شأن عائشة: (إني لأعلم أنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم أتتبعونه أم تتبعونها) ، فزوجة بالتاء المربوطة جائز لكن الأفصح زوج. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء:20] تطليق امرأة وتزوج امرأة أخرى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] أي: أعطيتم التي تريدون أن تطلقوها قنطاراً من الفضة أو من الذهب كصداق {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] ، اللهم إلا في حالة واحدة هي حالة الخلع قال الله سبحانه: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] . (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا) يدل على جواز الإكثار من المهر، وفي الحقيقة أنه لا حد لأكثر المهر ولا لأقله، إنما مرد ذلك إلى الأعراف السائدة، إنما التخفيف في المهور على وجه الإجمال مستحب؛ لأن النبي حث على ذلك وإن كان حديث: (أقلهن مهوراً أكثرهن بركة) عندي ضعيف لجملة أسباب مبسوطة في محلها، لكن وجه استحباب تقليل المهور يؤخذ من أن النبي عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم- سأل بعض أصحابه: (كم سقت إليها؟ قال: وزن كذا وكذا من ذهب، قال: إنما تنحتون من عرض هذا الجبل!) أو كما عليه الصلاة والسلام، لكن التحرير: أنه لا حد لأقل المهر ولا لأكثر المهر، بل يلزم في بعض الحالات أن تبلغ بالمرأة أعلى سنتها في الصداق، مهور النساء خمسة آلاف جنيه، ومنهن من تأخذ مهر سبعة آلاف، ومنهن من تأخذ مهر ثلاثة آلاف، فهناك حالات يلزمني أن أدفع سبعة آلاف، فإذا كانت المزوجة يتيمة لابد أن تبلغ باليتيمة أعلى سنتها في الصداق كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ} [النساء:20] أي: أعطيتم {إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] أي: كصداق {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا} [النساء:20] بهتاناً أي: بغير حق، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) يعني: تكلمت فيه بغير حق وظلمته بغير حق، فالبهتان هنا: الظلم وأكل المال بغير حق، فإخواننا الذين يضيقون على النساء كي يرددون إليهم جزءاً من المهور يأكلون المهور بهتاناً {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20] . وحادثة عمر في هذا الباب مختصرة لها طرق تصح بمجموعها: أنه خرج لينصح الناس بعدم المغالاة في المهور قال: (فعرض لي قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] فأمسكت) أخرجه عبد الرزاق بإسناد مرسل قوي، ويشهد لأصل القصة قصة المرأة التي راجعته. {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا} [النساء:20] أي: ظلماً بغير حق، {وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20] . {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} [النساء:21] بأي حق تأخذونه؟! {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] أي: الجماع؛ لأنك إذا جامعتها فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لها الصداق بما استحللت من فرجها) يعني: الصداق أصلاً مقابل الاستمتاع بالفرج، فإذا جامعتها استحقت بالجماع الصداق، فبأي وجه تأتي تسلبها هذا الصداق؟ بأي وجه حق تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض؟ {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] ، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وجزاكم الله خيراً.

الأسئلة

الأسئلة

خروج المرأة للنزهة مع زوجها من غير اختلاط بالرجال

خروج المرأة للنزهة مع زوجها من غير اختلاط بالرجال Q ما حكم خروج المرأة مع زوجها للنزهة إذا كان من غير اختلاط بالرجال بحجة أن القلوب تمل؟ وهل هذا ينافي القرار في البيت، مع العلم أنها إذا خرجت إلى حديقة تتذكر عظمة الخالق؟ A بل له في ذلك سنة وهو مسابقة الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة.

المصادر المعتمدة في تفسير سورة النساء

المصادر المعتمدة في تفسير سورة النساء Q نريد معرفة الكتاب الذي تشرح منه تفسير سورة النساء؟ A تفسير القرطبي وابن كثير رحمهما الله.

مدى ثبوت الأثر الوارد عن أحد الصحابة في عدم أكل لحم الغراب

مدى ثبوت الأثر الوارد عن أحد الصحابة في عدم أكل لحم الغراب Q هل ثبت أنه سئل أحد الصحابة عن عدم أكله للغراب فقال: (ليس لي أن آكله وقد سماه الرسول فاسقاً) ؟ A لا أعلم.

الأذكار الصحيحة التي تقال عقب الصلاة

الأذكار الصحيحة التي تقال عقب الصلاة Q ما هي الأحاديث الصحيحة التي تقال في ختام الصلاة؟ A راجع كتاب الأذكار.

معنى حديث: (أميطوا عنه الأذى)

معنى حديث: (أميطوا عنه الأذى) Q قلت سابقاً: إن حلق رأس المولود ضعيف، فما معنى (أميطوا عنه الأذى) في الحديث الذي رواه البخاري؟ A كلامي في حلق رأس المولود كان مقيداً، حلق رأس المولود والتصدق بوزنه ذهباً ضعيف يقيناً عندهم، لكن ما معنى (أميطوا عنه الأذى) ؟ إماطة الأذى له أنواع عدة، من إماطة الأذى قص الأظافر، من إماطة الأذى حلق الشعر، من إماطة الأذى تغسيله وتنظيفه، لإماطة الأذى عدة أنواع، لكن حلق الرأس والتصدق بوزنه ذهباً لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحصول على وظيفة مقابل دفع مبلغ من المال

الحصول على وظيفة مقابل دفع مبلغ من المال Q رجل يريد أن يتوظف في إحدى الشركات، فطلب منه مدير الشركة -وهي حكومية- مبلغ ألفين جنيه على أن يوظفه مؤقتاً من بين مائة وخمسين متقدماً للوظيفة، وقال له: لا يشترك في امتحان الوظيفة، هل يجوز هذا مع العلم أن حال الرجل صعب، ومدير الشركة لن يوظف أي أحد إلا بهذه الطريقة؟ وإذا طلب منه شهادة خبرة، فهل يجوز له عمل شهادة خبرة مزورة؟ A كل هذا لا يجوز حرام؛ لأنك تؤكل غيرك الآن، وهذه الرشوة بعينها؛ لأنها تأخذ حقوق الآخرين، المفروض أن يتقدم للعمل عدة أشخاص فيختار منهم الأكفأ؛ لأنه من باب الظلم أن تأخذ شخصاً غير كفء وتعينه في مكان يحتاج إلى كفاءة، مثلاً: مستشفى طلب طبيباً، أو السعودية طلبت طبيباً أو أي مكان طلب طبيباً، أو مستشفى الجامعة طلب طبيباً، تقدم لها عشرة أطباء، مسئوليتي أنا أن آخذ أكفأ طبيب لعلاج المسلمين، لا آخذ طبيباً رديئاً يهلك المسلمين، كذلك لا آخذ شخصاً جاهلاً بالحسابات يخرب الشركات، فهذه رشوة حرام ولا يجوز أن تأتي بشهادة خبرة مزورة، ولا يجوز أن تدفع للرجل رشوة، حرام، قولاً واحداً.

تحريك السبابة عند الجلوس بين السجدتين

تحريك السبابة عند الجلوس بين السجدتين Q هل من السنة تحريك السبابة عند الجلوس بين السجدتين؟ A الحديث ضعيف شاذ.

المواطن التي ترفع فيها اليدان عند التكبير

المواطن التي ترفع فيها اليدان عند التكبير Q هل من السنة رفع اليدين عند كل تكبيرة سواءً في القيام والسجود وبين السجدتين؟ A الرفع بين السجدتين رواية شاذة، وإنما هي أربعة مواطن فقط التي ترفع فيها اليدان: عند تكبيرة الإحرام، وعند الهوي للركوع، والقيام منه، وعند القيام من التشهد الأوسط، والروايات الأخرى شاذة.

قيام من رزق مولودا بالدعوة إلى طعام

قيام من رزق مولوداً بالدعوة إلى طعام Q رزقني الله مولوداً ذكراً، ولكني لا أستطيع مادياً أن أعمل له عقيقة الآن، ولكني أريد أن أحضر بعض اللحم فأدعو إليه الإخوة، فهل هذا يجزئ؟ A أولاً: العقيقة ليست واجبة، إنما هي مستحبة. ثانياً: الدعوة إلى الطعام بمناسبة المولود لم نقف فيها على سنة عن رسول الله، فهي من الأمور المباحة تدعو أو لا تدعو كما تشاء.

الأثر المترتب على معرفة حكم خدمة المرأة لزوجها

الأثر المترتب على معرفة حكم خدمة المرأة لزوجها Q طلب فاطمة رضي الله عنها للخادم يدل بمفهومه على أن فاطمة هي التي كانت تخدم البيت بدليل طلبها للخادم؟ A وهل نحن قلنا: فاطمة لم تكن تخدم؟! فاطمة كانت تخدم في البيت ولا خلاف في ذلك، لكن هل خدمتها للبيت كانت واجبة عليها أو مستحبة لها؟ ما نازعنا أنها كانت تخدم، بل تشققت يداها من الرحى ولا نزاع في ذلك، لكن هل هذا على سبيل الفضل منها أو على سبيل أن ذلك واجب عليها؟ وليس معنى أنها مستحبة، أننا نقول للنساء: لا تطبخن ولا تخبزن، فإن هذا فهم سقيم، ما معنى مستحب؟ يعني: يستحب لها ويفضل لها أن تخدم في بيت زوجها وتثاب على ذلك، لكن حينما نقول: إنه واجب، أي: عليها أن تخدم في البيت، وذلك حتى يعرف الزوج حقه، وحتى تعرف الزوجة حقها، وحينما نقول: إنه مستحب حتى يعرف الزوج أن الطعام الذي تطبخه المرأة في البيت هي تتفضل بعمل ذلك، فيشكر لها معروفها ويتأدب معها، لكن إذا عرف أنه واجب عليها فإذا قصرت في أي شيء، يضرب بالعصا! فهناك فرق بين الوجوب والاستحباب. مداخلة: إذاً: يا شيخ! اخترت رأي الجمهور؟ طبعاً، رأي الجمهور نقله عنهم النووي، والحافظ ابن حجر، والبيهقي في السنن، وعدة علماء.

كيفية تعامل الزوج مع زوجة بها صفة الكبر

كيفية تعامل الزوج مع زوجة بها صفة الكبر Q رجل تزوج فتاة منذ عامين، رزقه الله منها ولداً، وخلال هذين العامين كانت تعامله بغلظة لأن بها صفة التكبر، وهو متحامل على زوجته تحاملاً شديداً ويسأل: أطلقها أم لا؟ A لا أستطيع أن أقول لك: طلقها أو لا، بناءً على سماع كلامك الآن، لابد من أناس منصفين يتدخلون بالإصلاح، وينصحونك بناءً على ما يرونه.

تفسير سورة النساء [22-23]

تفسير سورة النساء [22-23] عدد الله في كتابه الكثير من المحرمات، ومن تلك المحرمات: نساء يحرم على الرجل نكاحهن، وهن سبع من النسب وسبع من الرضاع وأربع من المصاهرة، كل ذلك حفاظاً للأنساب وصيانة للأعراض، ومخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية من الاستهانة بذلك، وقد اعتنى أهل العلم ببيان ذلك خاصة بالمحرمات من الرضاع؛ لكثرة خلط الناس فيها، واشتباه الأمور فيها على كثير من الناس.

حكم نكاح زوجة الأب

حكم نكاح زوجة الأب الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يقول الله سبحانه في كتابه الكريم في بيان المحرمات من النساء: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22] . المراد بالنكاح في قوله تعالى: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاء} عقد التزويج، فإذا عقد الأب على امرأة حرمت هذه المرأة على جميع أولاده بالإجماع، سواء دخل بها الأب أو لم يدخل بها. {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أي: لا تتزوجوا من تزوجهن آباؤكم، سواء دخل الآباء بهن أو لم يدخلوا. إن ذلك {كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} . فإن قال قائل: لماذا صُدِّرت المحرمات بقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ولم تصُدَّر بتحريم الأمهات، مع أن نكاح الأمهات أخطر وأشد جرماً من نكاح امرأة الأب، فرجل تزوج امرأة أبيه أقل جرماً من رجل تزوج بأمه، فلماذا صُدِّرت الآية بتحريم امرأة الأب؟ قال فريق من أهل العلم: صدرت الآية بتحريم نكاح امرأة الأب؛ لأن المشركين كانوا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فجاءت الآية علاجاً لوضع تفشّى في الناس، ولذلك قدمت امرأة الأب على الأم، ولم نجد أحداً من المشركين تزوج أمه إلا طائفة من الهنود وأهل الزيغ من البهرة الذين يثنون على إمامهم، فيقولون: أحل البنات مع الأمهات ومن فضله زاد حل الصبي فالذين يحلون نكاح الأمهات طائفة من الهنود وطائفة من المجوس، أما المشركون فكانوا يحرمون الأمهات، لكن لا يحرمون امرأة الأب، ولا يحرمون الجمع بين الأختين، فصدرت المحرمات بقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] ، قال بعض أهل العلم: (إلا) هنا بمعنى لكن، أي: لكن ما قد سلف منكم في جاهليتكم فقد عفونا لكم عنه إذا فارقتموهن. (إنه) أي: إن نكاح امرأة الأب {كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} ، فقد تزوج عمرو بن أمية الضمري امرأة أبيه، وكان له أخ من أبيه يقال له: أبو العيش، فمات أبوه فتزوج عمرو بن أميه الضمري امرأة أبيه التي هي أم أبي العيش، فولدت له مسافراً، فكان مسافر أخاً لـ أبي العيش من الأم، وأبو العيش عمه إذ هو أخو أبوه، فكان هذا يسبب مقتاً -عياذاً بالله منه- وقد قال البراء بن عازب: (رأيت خالي الحارث ومعه لواء قد عقد، فقلت له: إلى أين تذهب؟ قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان عرَّس بامرأة أبيه كي أضرب عنقه) . هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، والله أعلم.

حكم المرأة التي زنى بها الأب

حكم المرأة التي زنى بها الأب تأتي تفريعات على ما سبق، منها: إذا زنى الأب بامرأة هل يجوز لولده أن يتزوجها؟ هذا مبني على تفسير النكاح في قوله تعالى: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ، هل المراد بالنكاح الوطء، أم المراد به عقد التزويج؟ قال كثير من أهل العلم: إن المراد به عقد التزويج. ولكن منع كثير منهم زواج الرجل من المرأة التي زنى بها أبوه تَكْرُمة للأب. وقال الآخرون: إن الحرام لا يحرم حلالاً، ولم يرد نص صريح يحرم التي زنى بها الأب، وكيف نكرّم أباً زانياً؟!! فلا كرامة له أصلاً.

المحرمات من النساء

المحرمات من النساء المحرمات في الشرع على ثلاثة أقسام: محرمات بالنسب، ومحرمات بالرضاع، ومحرمات بالمصاهرة.

المحرمات من النساء بالرضاع

المحرمات من النساء بالرضاع ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] ، وكم رضعة أرضعتك حتى تحرم عليك؟ هنا بحوث نذكرها بسرعة: الأول: ما هي عدد الرضعات المحرمات؟ والثاني: ما هي صفة الرضاع المحرم؟ والثالث: ما هو وقت الرضاع المحرم؟ والرابع: يتعلق بمسألةٍ يسميها العلماء: لبن الفحل. أما عدد الرضعات المحرمات، فقد تقدم الكلام عليها بما حاصله: أن الجمهور على أنها رضعة واحدة، لقوله تعالى: ((وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)) [النساء:23] ولم يذكر عدداً: وفريق من أهل العلم يقول: إن الذي يحرم هو ثلاث رضعات مشبعات لقول النبي عليه الصلاة والسلام (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) ، قالوا: إذاً الذي يحرم ثلاث، والقول الثالث: أن الذي يحرم خمس رضعات لما رواه مسلم من حديث عائشة قالت: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات يحرمن فنسخَ بخمس رضعات معلومات يحرمن، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يتلى من القرآن) . والذي يظهر من هذه الأقوال أن أصحها -والله أعلم- قول من قال: إن الخمس رضعات هي التي تحرم، فهي خمس رضعات على ما اختاره فريقٌ من أهل العلم. ووقت هذه الرضعات في الصغر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الرضاع ما فتق الأمعاء وأنبت اللحم ... ) ، وقال عليه الصلاة والسلام (إنما الرضاعة من المجاعة) ، أي: الرضاعة المعتبرة هي التي تسد الجوع، ولا يكن هناك طعامٌ غيرها، وليس هناك بديل عنها. وقد رأت أم المؤمنين عائشة أن رضاع الكبير يحرم، مستدلة بحديث سهلة: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إن سالماً مولى أبي حذيفة كان مما حيث تعلم -تربى في بيت أبي حذيفة - وإنه شب وبلغ مبلغ الشباب، وإني أرى في وجه أبي حذيفة الكراهية من دخول سالم علينا، فقال: أرضعيه -يا سهلة - تحرمي عليه، قالت: كيف أرضعه وهو ذو لحية يا رسول الله؟! قال: قد علمت، أرضعيه -يا سهلة - تحرمي عليه؛ فأرضعته فأذهب الله ما في وجه أبي حذيفة من الكراهية) . فكانت أم المؤمنين عائشة تستدل بهذا الحديث على أن رضاع الكبير يحرم، فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها شخصٌ أمرت إحدى قريباتها أن ترضعه فيكون محرماً لـ عائشة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، كما في سنن النسائي بسند صحيح قلن: (والله لا يدخل علينا أحدٌ أبداً بتلك الرضعة، إنما هذا شيءٌ خاصٌ بـ سالم) . فالجمهور منعوا من إرضاع الكبير، وقالوا: مطلقاً، إن رضاع الكبير لا اعتبار له على الإطلاق، وأم المؤمنين عائشة رأت جوازه على الإطلاق، وتوسط قومٌ فقالوا: له اعتبار عند الضرورات، والجمهور استدلوا بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] ، قالوا: فتمام الرضاعة عند الحولين ولا اعتبار للرضاعة بما بعدها، والله أعلم. أما صفة الرضاع المحرم: فالجمهور من العلماء على أن كل رضاع يحرم، سواء مص الصبي اللبن من ثدي المرأة، أو وضع له اللبن في كوب وشربه، أو صنع له مع طعام وخلط له مع طعامٍ وأكله، كل ذلك يحرم. أما ابن حزم رحمه الله فتمسك بمعنى الرضاع اللغوي، فقال: لا يحرم إلا إذا مصه الطفل من الثدي، فعلى ذلك قال: لو وضع له لبن المرأة في كوب ثم شربه لا تحرم عليه المرأة، وهذا مبنيٌ على ظاهريته المشهورة، كالمسألة المشهورة عنه في البول في الماء الراكد، قال: إن النبي نهى عن البول في الماء الراكد، لكن إذا بلت في كوب وخلطت الكوب في الماء الراكد فلا حرج. وهذه ظاهرية جلدة لا يوافق عليها أبو محمد ابن حزم بحالٍ من الأحوال، وأبشع منها ظاهريته المنقولة في مسألة استئذان البكر والثيب، يقول: إن البكر إذا طُلبت للنكاح واستأذنت فإن قالت: أنا موافقة، فالعقد باطل! وإن قالت: غير موافقة، فالعقد باطل! ماذا تقول إذاً؟! قال: تسكت؛ لأن الرسول قال: (تستأذن البكر، قيل: إنها تستحي يا رسول الله! قال: إذنها صماتها) ، فقال ابن حزم: إذا تكلمت سواء رفضاً أو إيجاباً فالعقد باطل، وهذه من الزلات الخطيرة، فلو أمعن النظر في الحديث لوجد أن فيه: أن البكر تستحي، فقال: (إذنها صمتها) ، أي: إذن التي تستحي صمتها، أما التي لا تستحي فتقول: أنا موافقة، وهذا من الشذوذ ومن الفقه البارد في هذه الجزئية، نسأل الله العافية والسلامة! لكن لا يمنع أن يكون لـ ابن حزم آراء مسددة في كثير من المسائل. إذاً: يحصل الرضاع: سواء رضع اللبن في قدر، أو خلط بطعامٍ، أو شربه الطفل من الثدي، كل ذلك يحرم إذا انطبقت سائر الشروط. أما مسألة لبن الفحل فقد تقدم شرحها، وصورة لبن الفحل نضرب لها مثالاً واحداً وليس على سبيل الحصر: رجلٌ له زوجتان، الزوجة الأولى أرضعت ولداً أجنبياً بعيداً عن الزوج وعن الزوجة الثانية، والزوجة الثانية أرضعت بنتاً أجنبية فهذا الولد الأجنبي لم يجتمع على الثدي مع الطفلة، إنما هو رضع من امرأة والطفلة رضعت من امرأة، لكن اللبن الذي در لهذه المرأة إنما جاء بسبب الفحل وهو الرجل، فيكون هذا الولد أخاً لتلك البنت من الأب في الرضاعة فيحرم عليها. وهذه المسألة يسميها العلماء لبن الفحل، دليلها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة: أن أفلح أخا أبي القعيص جاء يستأذن عليها فلم تأذن له، وأبو القعيص هو زوج المرأة التي رضعت منها عائشة إذاً: أبو القعيص نفسه أبو عائشة من الرضاعة؛ لأنها رضعت من لبن زوجته، ويكون أفلح عم عائشة من الرضاعة، فجاء أفلح يستأذن على عائشة فرفضت أن تدخله البيت، فلما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام قالت: (يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيص يستأذن أن يدخل عليَّ قال: ائذني له إنه عمك، قالت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل يا رسول الله! قال: قد علمت؛ إنه عمك فليلج عليك) أي: ليدخل عليك. تلخص من مسألة لبن الفحل: أن كل من اجتمع على ثدي المرأة فهم إخوة لبعضهم البعض من الرضاع، ولبن الفحل ينشر الحرمة والله أعلم، هذا بالنسبة لمسألة الرضاع وما يتعلق بها. قال الله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] ، ذكر في الآية صنفان فقط من المحرمات بالرضاعة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، والمحرم من النسب سبع، والمحرم من الرضاع كذلك سبع، فأمك من الرضاعة حرام وكذلك أختك وعمتك وخالتك وبنات الأخ وبنات الأخت.

المحرمات من النساء بالنسب

المحرمات من النساء بالنسب أما المحرمات بالنسب: فسبع، والمحرمات بالرضاع: سبع أيضاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، والمحرمات بالمصاهرة: أربع: امرأة الأب، وامرأة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة، هؤلاء المحرمات بالمصاهرة، وامرأة الأب سواء دخل بها الأب أو لم يدخل، قال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] ، وهذا في بيان المحرمات بالنسب، فقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} ، نص قطعي الدلالة بالتحريم، وقد تقدم أن النصوص التي تحرم على قسمين: نصوص ظنية الدلالة في التحريم، ونصوص قطعية الدلالة في التحريم. فقوله تعالى: (حُرِّمَتْ) : نص قطعي الدلالة في التحريم، لكن إذا قال لك قائل: هل السجائر حرام أو ليست بحرام؟ فإن قلت: إنها حرام، فهو استنباط من النصوص؛ كحديث (لا ضرر ولا ضرار) ، وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] ، هذه النصوص ليست قطعية الدلالة في التحريم إنما هي ظنية الدلالة. فنصوص التحريم على قسمين: إما قطعي الدلالة؛ كأحل الله كذا أو حرم الله كذا، أو ظني الدلالة كالذي سمعتموه، فقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ، أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم، فهنا مقدر محذوف في الآية، لابد أن تقدر شيئاً، فالرضاع من أمهاتنا حلال، فلا يقول شخص: حرم عليكم الرضاع من أمهاتكم، ولا يقول شخص: حرمت عليكم السكنى مع أمهاتكم، لكن هنا مقدر اتفق عليه العلماء وهو: حرم عليكم نكاح أمهاتكم، أو حرمت عليكم أمهاتكم أن تنكحوهن، والتقدير المحذوف يرد كثيراً في القرآن، بل وفي لغة العرب، وقد مُلئت لغة العرب بالتقديرات المحذوفة التي فهمت من السياق، كما في قول الشاعر: وسبحت المدينة لا تلمها رأت قمراً بسوقهم نهارا أي: فسبح أهل المدينة، ومثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: واسأل أهل القرية. قال الله سبحانه وتعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) والمراد بالأم هنا: الأم التي ولدت، وهي مبهمة لا تحل بأي حال من الأحوال، وليس هناك أي منطق تحل به الأم، وليست هناك أي وسيلة تستطيع بها أن تتزوج أمك، فسميت مبهمة لانسداد الطرق الموصلة إلى نكاحها، فلا تحل بأي حالٍ من الأحوال. ويقصد الأم وإن علت، أم الأم، وأم الأب، وأم الجد، وهي أولى المحرمات بالنسب. {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] ، المراد بهن: البنات للأصلاب ليس المراد بنات التبني، فإذا تبنيت طفلة وألحقتها بك يحل لك أن تتزوجها، فالتبني لا يحرم إنما المحرم هنا البنت للصلب -يرحمك الله- وهي أيضاً مبهمة، أي: أن ابنتك لا تحل لك بأي حال من الأحوال. ويلحق بالبنت هنا مسألةٌ نبهنا من قبل على أن قدم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى زلت فيها، وهي مسألة البنت المخلوقة من ماء الزاني، يعني رجلٌ زنى بامرأة فولدت له بنتاً، هذه بنت الزنا هل يحل للزاني أن يتزوجها؟ الجمهور من العلماء قالوا: لا، بل يحرم عليه أن يتزوجها، والإمام الشافعي رحمه الله وعفا عنه يرى جواز ذلك، وقاس النكاح على الميراث، قال: كما أنها لا ترث شرعاً إذاً يجوز التزوج بها كما أنها لا ترث، إذاً: فهي أجنبية ويجوز التزوج بها، فتعقب بتعقباتٍ لاذعة، إلى أن قال الشاعر الذي يتستر ويخفي مذهبه: إن يسألوا عن مذهبي لم أبح به وأكتمه كتمانه لي أسلم إلى أن قال: فإن شافعياً قلت قالوا: بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم فهذا مراده بهذه الجزئية، (أبيح نكاح البنت) أي: المخلوقة من ماء الزاني، والبنت تحرم، ومن العلماء من قال: إن الشافعي قال: إنني أكره نكاحها ولم يقطع بالتحريم أو بالإباحة، ولكن هذا هو الثابت عند الشافعية، وقد حاول الحافظ ابن كثير -باعتباره شافعي المذهب- أن ينتصر بعض الانتصار أو يومئ بعض الإيماء إلى سلامة ما اختاره الشافعي في هذا، لكن المشهور عند الشافعية الإباحة، أما الجمهور فعلى المنع، وقد احتج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للمنع بما حاصله: ليست كل من لا ترث يحل الزواج بها؛ فأمك من الرضاعة لا ترث ولا يحل لك أن تتزوج بها، وابنتك من الرضاعة لا ترث ولا يحل لك الزواج بها، وأطال النفس في تعقباته على هذا الرأي، والله أعلم. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] ، وهي الثانية من المحرمات، وهي مبهمة أيضاً من المحرمات بالنسب. {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23] سواء الأخت الشقيقة أو الأخت لأم أو الأخت لأب محرمة، وهي مبهمة أيضاً، أي: لا تستطيع أن تصل إلى الزواج بها بأي حال من الأحوال. {وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:23] ، عمتك وإن علت أو عمة أبيك أو عمة جدك أو عمة أمك. (وخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23] والخالة وإن علت كما سبق في العمة، وكذلك بنات الأخ سواء كان أخاً شقيقاً أو أخاً لأمك أو أخاً لأبيك وبنات الأخت كذلك. فهؤلاء السبع: أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت من المحرمات بالنسب.

المحرمات من النساء بالمصاهرة

المحرمات من النساء بالمصاهرة قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] ، يعني: إذا عقدت على امرأة حرمت عليك أمها عند الجمهور، سواء دخلت بالبنت أم لم تدخل، فأمها تحرم عليك تحريماً مؤبداً؛ لأن الله قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، ولم يذكر دخلتم بهن أو لم تدخلوا بهن. لكن إذا عقدت على امرأة ولها بنت فلا تحرم البنت إلا إذا دخلت بأمها، لا ينعكس، فإذا عقدت على بنت حرمت عليك أمها مباشرةً دخلت بها أو لم تدخل. قال الله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] ، (وربائبكم) : الربيبة: بنت الزوجة. {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23] ، فبنت الزوجة التي دخل الشخص بأمها حرام على الشخص، وهنا في قوله تعالى: {رَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، لفظ في حجوركم: هل له مفهوم أو أنه خرج مخرج الغالب؟ الجمهور يقولون: خرج مخرج الغالب، سواء كانت الربيبة في الحجر أو ليست في الحجر فهي حرام عليك إذا دخلت بأمها، لكن علي بن أبي طالب يرى غير ذلك، فقد جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين علي فوجده حزيناً قال: (إني تزوجت امرأة وماتت، فقال له علي رضي الله عنه: ألها ابنة؟ قال: نعم، قال: أين هي؟ قال: هي بالطائف -يعني: في بلد أخرى- قال: فتزوجها، قال: كيف أتزوجها وأمها كانت عندي؟ قال: إن الله يقول: {رَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] ، فهي لم تكن في حجرك فلم تتربى عندك) فهذا رأي أمير المؤمنين علي، وهو رأي أبي محمد بن حزم، أما الجمهور فقالوا: إنها خرجت مخرج الغالب، فمن الغالب أن الربيبة تكون في الحجر، كما في قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] ، يعني لا تكره الفتاة -التي هي الأمة- على الزنا إن أرادت عفةً وتحصناً، فهب أن الفتاة التي عندك لم ترد تحصناً، هل يجوز لك أن تكرهها على البغاء؟ لا يجوز ذلك في أي حال من الأحوال، فـ (إن أردنَّ تحصناً) خرجت مخرج الغالب، فلو أن البنت قالت: لن أزني لأن الأجر قليل، لا لأنها تريد عفة، هل يجوز لك أن تجبرها؟ لا يجوز أبداً. ومما خرج مخرج الغالب قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19] لوفرض أن امرأة مات زوجها لا يحل لك أن ترثها سواء بإذنها أو بغير إذنها، إنما المال لأوليائها. وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فـ (أضعافاً مضاعفة) خرجت مخرج الغالب، فيمن يقرض الآخر مبلغاً وإذا حل وقت الدين قال: سدد، قال: ما عندي سداد، قال: أؤخرك عاماً والمائة بمائتين، فنزلت الآية: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] ، لكن ليس معناها أنه يجوز لي أن آكل الربا نصف الضعف، ومثله قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] . هل يجوز لي أن أقتل ولدي بغير خشية الإملاق؟ لا يجوز بحال. فالجمهور قالوا: إن هذه الأشياء خرجت مخرج الغالب، ومنها قوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، ولكل من القولين وجه، ورأي أمير المؤمنين أصح. قال الله سبحانه وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] ، هذا في المحرمات بالمصاهرة: الربيبة، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، والتقييد بقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} لإخراج أبناء التبني، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام متبنياً لـ زيد بن حارثة، فكان يقال له: زيد بن محمد، وكان في الجاهلية يحرم على الرجل أن يتزوج زوجة ابنه! فلما تزوج رسول الله زينب بنت جحش شنع المشركون على رسول الله تشنيعاً بليغاً، وقالوا: محمد تزوج زوجة ابنه، يعني زوجة زيد بن حارثة؛ لأنه كان يقال له: زيد بن محمد؛ فنزل قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37] ؛ لأنهم ليسوا أبناء حقيقيين، فهنا جاء الاحتراز بقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:23] . فالمحرمات بالمصاهرة أربع: امرأة الأب، وامرأة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة. أما أم الزوجة فتحرم بمجرد العقد على ابنتها، لكن البنت لا تحرم إلا بالدخول بأمها، وأن تكون في حجر وليها على رأي أمير المؤمنين علي، أما زوجة الابن فتحرم بمجرد عقد الولد عليها، عند عقد الولد على امرأة أو على بنت حرمت البنت على أبيه مطلقاً، سواء دخل الولد بالبنت أو لم يدخل؛ لأن الله ما قيدها بالدخول، بل قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} ، وكذلك زوجة الأب، {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:23] . وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجزاكم الله خيراً.

الأسئلة

الأسئلة

موقف الشرع من المحاكمات العسكرية

موقف الشرع من المحاكمات العسكرية Q ما رأي الشرع في المحاكمات العسكرية؟ A المحاكم العسكرية الظاهر أنها لا تحكم بالكتاب ولا بالسنة، فما دامت لا تحكم بالكتاب ولا بالسنة فأي محكمة عسكرية أو وضعية أو أي محكمة لا تحكم بالكتاب والسنة فأحكامها شرعاً باطلة، وهي كما قال القائل: حكوا باطلاً وانتظوا صارماً فقالوا: صدقنا فقلنا: نعم أمسكوا بسيف ظالم، وتكلموا كلاماً غليظاً ثم قالوا: هل نحن صح أو غلط؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن الله هو الذي يكشف الغم، واعلم تمام العلم أن الذي يسلط قوماً على قوم هو الله، فاطلب من ربك سبحانه وتعالى أن يفرج الهم، هو الذي يكف أذى قوم عن آخرين، فلو جئت بالأمثلة من الناحية العقلية، ما الذي يمنع أمريكا أن تحتل مصر؟ وما الذي يمنع إسرائيل أن تدخل علينا بالصواريخ والقنابل الذرية التي موجودة عندها الآن؟ هو الله، ليست قوتنا ولا شيء، فادع الله سبحانه وتعالى أن يزيل ما بك من هم وغم. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.

حكم الزواج بالأخت من الرضاعة

حكم الزواج بالأخت من الرضاعة Q هل يجوز للرجل أن يتزوج فتاةً مع رضاعه من أمها مع العلم أنه رضع مع أختها؟ A لا، لا يجوز، فإذا كان رضع وهو كبير يجوز، أما إذا كان رضع وهو صغير فلا يجوز، ولو اجتمع على الثدي مع المرأة سواءً الآن أو بعد عشرين سنة، يعني امرأة أرضعت طفلاً الآن وبعد عشرين سنة أرضعت طفلة فهو أخوها من الأم من الرضاعة، والله أعلم.

وجه تخصيص النكاح بالنساء

وجه تخصيص النكاح بالنساء Q لِمَ قال الله عز وجل: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] ، هل يمكن أن ينكح غير النساء؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ما قرأت توجيه العلماء لهذه الجزئية بالذات، لكن على شاكلتها جزئيات كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، وأي طائرٍ إذا طار يطير بجناحيه! فقالوا: إنها ذكرت تأكيداً والله أعلم، لكن لعل للعلماء في هذه الجزئية شيئاً آخر.

التفريق بين الجامع بين الأختين وناكح زوجة أبيه

التفريق بين الجامع بين الأختين وناكح زوجة أبيه Q هل فرق الرسول بين من جمع بين الأختين ومن نكح زوجة أبيه بعد نزول آية التحريم؟ A نعم، ثبت التفريق بذلك، لكن الأسانيد لا يحضرني الحكم عليها الآن.

صورة إرث النساء كرها

صورة إرث النساء كرهاً Q لماذا حرم الله أن نرث النساء كرهاً؟ A كانت المرأة إذا مات زوجها يتسابق الورثة إليها، فإذا ألقى أحدهم ثوبه عليها قبل الآخر أصبحت ملكاً له، يتصرف فيها كيف شاء، يزوجها يطلقها يعضلها يتزوجها هو، فقال الله سبحانه: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] ، فأبوها أولى بها منك لأنك أجنبي، والله سبحانه وتعالى أعلم.

موقف الشرع من الأحكام العرفية

موقف الشرع من الأحكام العرفية Q ما الحكم في الجلسات العرفية التي تقام لفض المنازعات بين الناس، حيث يحكم فيها بمبلغ من المال للمظلوم؟ A إن كانت الجلسات العرفية تقضي بشيءٍ يخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة وواضحة فهي حرام، وإن كانت لا تقضي بشيء يخالف كتاب الله وسنة رسول الله فهي من الإصلاح ما لم تحرم حلالاً أو تحلل حراماً، والله أعلم.

تفسير سورة النساء [24]

تفسير سورة النساء [24] أباح الله ورسوله أنكحة وصحح عقودها، وفي المقابل حرم أخرى وأبطل عقودها فأباح الزواج بكل امرأة غير متزوجة أو ليست في العدة، أو كانت ملك يمين، وحرم نكاح المحصنات، وأبطل نكاح الشغار والتحليل والمتعة؛ كي تحفظ الأنساب ولا يسقي رجل زرع غيره، وتصان الفروج عن العبث والإهانة والفوضى التي تعيشها المجتمعات الكفرية.

الأنكحة المحرمة في الإسلام

الأنكحة المحرمة في الإسلام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فبصدد بيان المحرمات يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24] .

حكم الزواج بخدينة الأب

حكم الزواج بخدينة الأب تأتي صور فيها منازعة، وهي: -رجل زنى بامرأة -عياذا بالله- فهل يجوز لابنه أن يتزوجها؟ A قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] يفيد الجواز، لكن الذين قالوا: إن النكاح يراد به الوطء سواءً كان وطئًا شرعياً صحيحاً أو غير شرعي يمنعون من مثل هذه الحالة، ولكن الصحيح من أقوال العلماء ما قاله فريق منهم: أن الحرام لا يحرم حلالاً، والحلال لا يحل حراماً، فإذا كان الشيء من أصله حلال فإن الحرام لا يحرمه، فمثلا: أصل زواج الرجل بالمرأة حلال فجاء أبوه زنى بها، فالزواج ما زال حلالاً له، أو العكس: ابن زنى بامرأة فهل يجوز لأبيه الزواج بها؟ كل هذا على نمط واحد، لكن المانعون يمنعون احتياطاً؛ لأن الرجل إذا كان متزوجاً بامرأة وابنه زنى بها عياذاً بالله، فإنه يتمكن من الدخول عليها كثيراً لكونه ربيباً لها، فالمسألة تكون عظيمة، فيمنعون منه سداً للذريعة. وما هي الأدلة على سد الذريعة؟ هناك أدلة كثيرة على سد الذريعة، وقبلها ما تعريف قولنا: (سداً للذريعة) ؟ مثلاً: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ، سداً للذريعة الموصلة إلى الزنا، ومثله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ؛ فسب هبل واللات والعزى جائز، لكن إذا كنت ستسبهم ويسب الكفار رب العزة جل وعلا، فلا تسب آلهة المشركين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسب الرجل أباه؟ قالوا: وكيف يسب الرجل أباه يا رسول الله؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) . ومنها: كما قال فريق من العلماء: تحريم التصاوير، ومنها: النهي عن البيعتين في بيعة، وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه: إعلام الموقعين تسعة وتسعين دليلاً على سد الذريعة، وقال: نكتفي بهذا القدر الموافق لأسماء الله الحسنى، فمن أراد الرجوع إليها فليرجع؛ لأن سد الذريعة باب مهم جداً في الفقه في الدين. يعني: مثلاً تتعامل به مع كل الناس حتى مع الشرير المفسد، تتعامل به مع الشرار والمباحث، وتتعامل به مع التجار، وتتعامل به مع أي صنف من الناس، مثلاً: باب يأتي لك منه أذى قد تسده بطريقة شرعية وتمنع عن نفسك الأذى بشيء يقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن قومك حديثي عهد بكفر لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم) ، فسد الذريعة التي تدخل الشك على قلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم. قال الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] . (كتاب) أي: كتبه الله وفرضه الله عليكم، وننبه على أن الباب ليس كتاباً مستقلاً لـ ابن القيم إنما هو باب في كتابه: إعلام الموقعين عن رب العالمين، والفصل طويل جداً واسمه: سد الذرائع، لكن يؤخذ في الاعتبار: أن من الأحاديث التي استدل بها العلامة ابن القيم رحمه الله أحاديث بعضها ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن قد يسلم له من هذا الباب خمسون دليلاً مثلاً.

نكاح الشغار تعريفه وتحريمه

نكاح الشغار تعريفه وتحريمه قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، استثني منه: الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، واستثني منه نكاح التحليل. أما نكاح الشغار فقد اختلف في تفسيره. أولاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار ولا شك في هذا، ولكن ما هو الشغار؟ القدر الذي اتفق عليه أكثر العلماء في الشغار هو: أن يقول الرجل للرجل: زوجني أختك أو ابنتك أو موليتك، على أن أزوجك أختي أو موليتي أو ابنتي ليس بينهما صداق. من العلماء من رأى هذا التفسير، سواءً كان بينهما صداق أو ليس بينهما صداق، المهم أنك لا تجعل زواج الشخص بامرأة شرطاً لزواج الآخر بأخته أو بابنته، فسواء كان بينهما صداق أو ليس بينهما صداق فإنه يعد شغاراً عند كثير من العلماء. وتفسير الشغار كما في الحديث: (أن يقول الرجل للرجل: زوجني أختك أو ابنتك على أن أزوجك ابنتي أو أختي ليس بينهما صداق) . قوله: (الشغار أن يقول الرجل للآخر) هل هو مدرجٌ على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أم هو من كلام رسول الله؟ هل الرسول نهى عن الشغار، وقال: الشغار كذا وكذا، أم أن أحد الرواة عن رسول الله هو الذي قاله؟ الحديث مروي من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الإمام الشافعي يقول: لا أدري تفسير الشغار من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أم من قول ابن عمر أم من قول نافع، أم من قول مالك؟ ومن أهل العلم من قال: إن تفسير الشغار من قول مالك، ومنهم من قال: إنه من قول نافع، ومنهم من قول: إنه من قول ابن عمر، ومنهم من قال: إنه من قول رسول الله. لكن جمهور العلماء قالوا: إن تفسير الشغار من قول نافع. وأحياناً الإدراج يشكل ويسبب خلافاً طويلاً في المسائل الفقهية، ولعلنا مثلّنا من قبل هذا لمسألة ذات أهمية في هذا الباب وهي: (أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم) والسبعة الأعظم جاء تفسيرها: الجبهة -وأشار إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأصابع القدمين، فكلمة: (وأشار إلى أنفه) فهل هي من قول رسول الله، أم هي من قول الصحابي الذي يرويها عن رسول الله، أم من قول التابعي الذي يرويها عن الصحابي، أم غير ذلك؟ لأنه ينبني عليها حكم فقهي قوي: فمن سجد ولم يجعل أنفه تمس الأرض فقد أخطأ، وكثير من الناس يسجد وأنفه مرتفعة، فهل صلاته صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنفه، أم ليست صحيحة؛ لأنه لم يجعل الأنف تمس الأرض؟ فالحكم بالدرجة الأولى حكم فقهي؛ لكنه مبني على الحديث. والمهمة هنا مهمة أهل الحديث لا أهل الفقه؛ لأن المدار على تصحيح زيادة: (وأشار إلى أنفه) ، إن كانت من قول الرسول فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب كما يقول القائل، وإن كانت من قول طاووس فقد أصبحت محتملة للأخذ والرد، والمدققون من أهل الحديث من المتقدمين بينوا أن هذه من قول طاووس وليس من قول رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا ثبت أنه من قول رسول الله فقد انقطع النزاع، فإذا قال الرجل للآخر: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، لكن صداق ابنتك ألف وصداق ابنتي ألفين جاز ذلك والمعنى: أنه إذا كان بينهما صداق جاز الشغار على هذه الرواية. وقد جاءت رواية في صحيح مسلم من طريق عبد الله بن نمير أيضاً: يرويها بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار، والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي) ، واقتصر على هذا الحد، ولم يذكر كلمة: (ليس بينهما صداق) ، فلذلك دبّ الخلاف بين العلماء في من قال للآخر: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي وكان بينهما صداق، هل يصح الزواج أو لا يصح؟ فرأى فريق من أهل العلم: أنهما إذا جعلا بينهما صداقاً يصح؛ لأن تفسير نافع: (ليس بينهما صداق) ، وهؤلاء كان بينهما صداقاً. والذين بنوا على رواية ابن الزبير قالوا: إن جعل زواج هذه شرطاً لزواج تلك فإن العقد لا يصح، واستدل له العلماء بحديث معاوية: أن ولداً من أولاد العباس تزوج بامرأة، قال له: أزوجك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، وجعلا لكل منهما صداقاً، ففرق بينهما معاوية وقال: هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله. إذاً: فرق بينهما رضي الله عنه مع أنهما قد جعلا لكل واحدة صداقاً. لكن الجمهور قالوا: إن هذا استنباط من معاوية وهذا من فهمه، ونقل هذا الفهم عن رسول الله، لكن غيره نقل عن رسول الله أنهما ليس بينهما صداق. والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله له رسالة في هذا الموضوع، واختار فيها رأي أمير المؤمنين معاوية، سواء تزوجها على صداقٍ أو لا فالعقد باطل، لكن إن جاء عفواً وتزوجت أخت رجل، والرجل بعد ذلك تزوج أختك بدون مواطأة ولا اشتراط فالنكاح صحيح ولا إشكال فيه. فقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، استثني منه نكاح الشغار، ونكاح التحليل، والجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها.

حرمة نكاح التحليل

حرمة نكاح التحليل واستثني من الأنكحة الجائزة: نكاحُ التحليل. فالرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن المحلل والمحلل له) ، وفي بعض الروايات المتكلم فيها: (أن النبي عليه الصلاة والسلام وصف المحلل بالتيس المستعار) . فهذا التيس الذي استعير لتحليل المرأة لزوجها الأول مرتكبٌ لكبيرة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنه، وكل من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام يعتبر مرتكباً لكبيرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له، فلو أن رجلاً تزوج امرأة وفي نيته أن يحللها لزوجها الأول، فإنها لا تحل للزوج الأول إلا إذا نكحت زوجاً غيره وجامعها هذا الزوج الجديد ثم طلقها برغبة منه، فحينئذٍ يجوز للأول أن يتزوجها، ولو أن رجلاً أضمر النية في قلبه أنه سيتزوج فلانة كي يحللها لفلان لكنه لم يصرح بذلك عند العقد، فالعقد صحيح ولا إشكال فيه. وهذا يجرنا إلى مسألة وهي: الزواج بنية الطلاق: رجلٌ نزل بلدة من البلدان، وخشي على نفسه الفتنة فيها، فقال: أتزوج امرأة من هذه البلدة وبعد ذلك إذا جئت لأسافر طلقتها، فالجمهور من أهل العلم على أن العقد صحيح؛ واستدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لصحته بحديث: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) ، فقال: قد يقدم الرجل الزواج بهذه النية وبعد ذلك تتعدل نيته، ولسنا مأمورين بالنظر في النيات، فكم من رجل تزوج امرأة وفي نيته دوام المعاشرة وبعد مدة تفسد نيته ويطلقها أو تتغير نيته ويطلقها. واستدل بأثرين عن عمر في كليهما ضعف، أحدهما: أثر ذو الرقعتين من طريق محمد بن سيرين: أن امرأةً كانت تحت رجلٍ قرشي فطلقها القرشي ثلاثاً، فبت طلاقها، فلم تعد تحل له إلا إذا نكحت زوجاً غيره، فذهب قومها يفتشون ويبحثون عن رجلٍ يتزوجها ويطلقها وترجع لزوجها الأول، فأرسلوا امرأةً إلى رجل كان يجلس عند باب المسجد يلبس ثوباً مرقعاً فقالت له المرأة الوسيطة: هل لك يا ذا الرقعتين أن نزوجك امرأة الليلة تبيت معها وتستمع بها، ونأتيك بثوبين جديدين، وتفارقها الصباح! قال: نعم أفعل، ففي الليل أعجبت به المرأة وأعجب بها، وكانت متبرمة من زوجها الأول، فقالت له: إنهم سيأتون في الصباح ويأمرونك بالطلاق فلا تطلقني، إن اشتدوا عليك فاذهب إلى أمير المؤمنين عمر فأخبره بذلك، فبعد صلاة الفجر إذا بالباب يطرق ويقولون له: اخرج، قال: لماذا أخرج فهذه زوجتي؟ فاشتدوا عليه فذهب إلى أمير المؤمنين عمر، فأمره عمر أن يبقى معها ولا يطلقها، وعزر المرأة التي كانت وسيطاً في الزواج، وكان عمر كلما قابله قال: مرحباً بك يا ذا الرقعتين، سبحان من كساك هذه الرقعتين. فقال أتباع الإمام الشافعي ما حاصله: إن الرجل تزوجها وفي نيته أن يطلقها، والنية هذه لا تعتبر شيئاً ولم تؤخذ بالاعتبار، إنما أمضى عمر الطلاق مع علمه أن الرجل أقبل عليها وفي نيته أن يطلقها فدل ذلك على صحة العقد. واستدلوا بدليل آخر، وهو: ما أخرجه البخاري في صحيحه: أن امرأة رفاعة القرظي أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، يعني: انتهت التطليقات التي هي له عليّ، وإني تزوجت بعده بـ عبد الرحمن بن الزبير فوالله يا رسول الله ما معه إلا مثل الهدبة -وأشارت إلى هدبة من طرف ثوبها- لا يغني عني شيئاً -أي: أن ذكره قصيرٌ لا يشبعها- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء زوجها الجديد عبد الرحمن بن الزبير، فقال: يا رسول الله! إنها والله امرأةٌ ناشز، وإني أنفضها نفض الأديم وأتى معه بولدين، فرأى إليهما النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بهما أشبه بأبيهما كما أن الغراب يشبه الغراب، فقال: هذا الذي تزعمين أن ما معه إلا مثل الهدبة، لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) . فقال هؤلاء المستدلون من الشافعية: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة) ، فتزوجت عبد الرحمن وفي نيتها أن تُطلّق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صحح العقد، وما قال: إن العقد باطل. ولكن: أجيب على هذا الاستدلال: بأن نية المرأة لا تؤثر في الطلاق بشيء، فإن الطلاق هو بيد الرجل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها

تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها قال تعالى في بيان المحرمات المحصنات بعد أن ذكر المحرمات بالنسب وهن سبع، ومن الرضاعة وهن سبع، وبالمصاهرة وهن أربع. قال سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] أي: غير المذكور كله حلال لكم، وقوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) تفيد: أن كل النساء اللواتي لم يذكر تحريمهن في الآية حلال، ولكن كما لا يخفى أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن فتخصصه أحياناً، وتنسخه أحياناً أخرى، وتقيده أحياناً، فالسنة أحياناً تزيد عليه أحكاماً أخرى، فمثلاً: يقول الله سبحانه في مسألة الإشهاد: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ، أضيف صنف ثالث، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد ويمين الشاهد، إذا لم يوجد رجل وامرأتان ولا رجلان، فيأتي الشاهد ويقسم، فمسألة: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام:145] ، معنى الآية: ليس في الشيء الذي أوحي إلي في القرآن شيء محرم على آكل يأكله إلا ثلاثة: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145] ، لكن السنة أضافت أشياء أخر محرمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي مخلبٍ من الطير، وكل ذي ناب من السباع، فأضيف إلى المحرمات شيءٌ آخر. كذلك في النكاح، قوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) يفهم كل مسلم: أن النسوة حلال إلا اللواتي ذُكرن، لكن جاءت السنة بمنع أصناف من النساء، ومن هذه الأصناف: الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها، فهذا لم يذكر في كتاب الله، ولكن في المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها) . ففي هذه تحريم للجمع بين المرأة والعمة أو المرأة والخالة. والعلماء يقولون: إن هذا التحريم خشية القطيعة التي تحدث بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ومن هنا: إذا كانت هناك امرأتان متصادقتان ومتحابتان، فهل يستحب لهما أن يتزوجا برجلٍ واحد أو يكره لهما ذلك؟! يكره ذلك خشية القطيعة؛ لأنه لو كان مستساغاً لاستسيغ الجمع بين المرأة وأختها وهن أقرب مودة من المرأة وصديقتها. ويستنبط من قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها) ، يستنبط: أن المرأتين إذا كانتا متصادقتين لا يتزوجا برجل واحد؛ لأن الغيرة تنبت فيهما، ويحدث بينهما شيءٌ مما يحدث بين سائر النساء، فلسن هن خيرٌ من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التي كسرت إحداهن صحفة أخرى وأسقطت الطعام على الأرض أمام رسول الله عليه الصلاة والسلام. قال الله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] ، قيل: إنه أضيف إليها الجمع بين المرأة وعمتها: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، استثني منه: الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها.

نكاح السبايا الحوامل

نكاح السبايا الحوامل في حالة واحدة يجوز لكم فيها أن تتزوجوا المحصنات، أو يجوز لكم فيها أن تطئوا المزوجات، وهي: حالة الحرب إذا كنّ من سبايا الحرب، فإذا حدثت معركة بين المسلمين والكفار، وسبى المسلمون نساء كافرات، جاز لهم -أي: للمسلمين- أن يطئوا ويجامعوا هؤلاء الكافرات؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزى غزوة يقال لها: غزوة أوطاس -وأوطاس بلدة قريبة من الطائف- فأصاب سبياً -أي: من النساء- وكان لهؤلاء السبي أزواج، فتحرج الصحابة من وطئهن، فأباح لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطئوهن إذا استبرءوهن بحيضة، لكي يتأكد من سلامة الرحم من الحمل تحيض المرأة منهن حيضة، كما في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم، ولا يجوز وطؤهن في حالة واحدة، وهي: إذا ما كن هؤلاء السبايا حوامل؛ لأنه والحالة هذه -حالة كونهن حوامل- الولد ينسب للزوج الجديد أو القديم؟ ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأةً مجح على باب فسطاط -أي: حامل وظهر حملها واستبان- فقال: (ما له، لعله يريد أن يلم بها -أي: يجامعها- لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) كيف يأخذ شيئاً وهو لا يحل له؟! فالسبايا إذ كن حوامل يحرم على الذي سباهن أن يطأهن إلا -وإلا هنا بمعنى: لكن- إذا لم يكن حوامل فيستبرأهن بحيضة، ويجامعهن بعد الحيضة، كما هو رأي الجمهور، والله أعلم.

معنى المحصنات في الشرع

معنى المحصنات في الشرع قوله تعالى: (والمحصنات من النساء) معناه: والمحصنات من النساء حرام عليكم أن تتزوجوهن. من المراد بالمحصنات؟ كثير من العلماء يقولون: إن المراد بالمحصنات هنا: المتزوجات؛ فحرام عليك أن تتزوج امرأة لها زوج. هذا رأي جمهور المفسرين في تفسير المحصنات هنا. أي: حرام عليكم أن تتزوجوا المتزوجات إلا إذا طلقهن الأزواج. ومن العلماء من قال: إن المحصنات هنا المراد بهن: الحرائر. أي: والحرائر لا يجوز لكم أن تتزوجوهن إلا بولي وصداق. لكن جمهور المفسرين على القول الأول، وتقدم أن الإحصان يطلق على عدة معاني، منها: العفة، فالعفيفة محصنة، ودليله قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12] ، والمؤمنة محصنة، والحرة محصنة، والمزوجة محصنة. فكل هؤلاء محصنات. وأصل الإحصان مأخوذٌ من المنع، فالزواج يحصن فرج المرأة من الزنا. أي: يمنعها من الزنا، والإسلام كذلك يمنع المرأة من الزنا، والحرية كذلك تمنع المرأة من الزنا، ومن هذا الباب ما ورد بإسناد فيه كلام: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ البيعة على النساء وذكر: أن لا يسرقن ولا يزنين، قالت هند: أوتزني الحرة يا رسول الله؟) ، فأفاد هذا الكلام: أن الزنا لم يكن متفشياً في الحرائر بل كان متفشياً في الإماء. فالشاهد: أن الحرية تحصن. أي: تمنع من الزنا؛ فالإسلام والحرية والعفة والزواج كله يحصن المرأة. أي: يمنعها من الزنا. وكل هذه الأصناف من النساء يطلق عليهن محصنات. لكن المراد بالآية الكريمة معنىً واحد من معاني الإحصان وهو: الزواج، فالمتزوجات من النساء حرام عليكم أن تتزوجوهن إلا إذا طُلقن، أو فسخ عقدهن نكاحهن، أو انخلعن، أو فارقن أزواجهن بأي سبب من أسباب الفراق.

الأنكحة الجائزة في الإسلام

الأنكحة الجائزة في الإسلام

نكاح ملك اليمين

نكاح ملك اليمين أما ملك اليمين فهي حلال لكن قوانين الأمم المتحدة الكافرة منعتها، وإلا فالأصل أن ملك اليمين حلال، تذهب إلى السوق تشتري أمة من الإماء -ليست من الحرائر- أو من سبايا الحرب، تشتريها وتستمتع بها، وإن شئت أن تكرمها وتعتق رقبتها وتتركها حرة لوجه الله فهذا بابٌ طيب محمود، حث عليه رب العزة حين قال: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:13-14] ، وقال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ، وقال في كفارة الصيام: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الرقاب أفضل -أي: في العتق- قال: أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً) ، كل ذلك حث عليه رسول الله، وكانت الرقاب من الإماء والعبيد موجودة في السعودية إلى عهد قريب، إلى أن شنع جمال عبد الناصر على الملك فيصل عند ما حدثت بينهم خلافات، وقال عبد الناصر: إن أولاد سعود يبيعون ويشترون في النساء والبشر، فأصدر الأخير قراراً بإعتاق كل الرقاب، وعمل عملاً جيداً، فإنه لم يجبر الناس على أن يعتقوا الرقاب، بل اشترى الرقاب من الناس واعتقها، فخرج بمنفذ شرعي: أنه اشترى الرقاب من الناس، وكان في الناس من له خمسمائة رقبة وأربعمائة رقبة من عبيد وإماء، فاشتراهن كلهن وأعلن أنهم عتقاء وأحرار. فلذلك تجد هناك من القبائل من هو إلى الآن من قبيلة فلان ابن فلان المولد، والمولد تعمل له أصلاً، فقد يكون مولداً من عبيد مع حرائر، ولا زال بعضهم موجوداً إلى الآن في موريتانيا، وجزر القمر، ونيجيريا. قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء:24] أي: تتطلبوا بأموالكم، وهو الصداق الذي تدفعونه. {مُحْصِنِينَ} [النساء:24] أي: متعففين، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء:24] أي: غير زناه، أن تتزوجوا ولا تزنوا، وهذا خلاف الواقع الذي نعيشه، فيباح الآن في بعض الدول اتخاذ العشيقات ويمنع الحلال، ففي بعض الدول كتونس وغيرها إذا زنا الرجل بمائة امرأة لا شيء عليه، لكن إذا تزوج بأخرى سُجن، ورب العزة يقول: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ، في الحلال (غير مسافحين) يعني: غير زناة، بنكاح غير سفاح.

نكاح المتعة ونسخ جوازه

نكاح المتعة ونسخ جوازه قال تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء:24] ، قوله تعالى: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) ما المراد به؟ البعض يقولون: المراد به نكاح المتعة، لكنه نسخ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] يعني: التي تتمتع بها من النساء فرض عليك أن تدفع إليها الأجر. إذاً: من العلماء من يقول: إن هذا كان في نكاح المتعة الذي كان جائزاً في أول الأمر ثم نسخ. ومنهم من يقول: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] أي: الصداق، وهذا في: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ) أي: بالزواج. وعلى أي تفسيرٍ كان فنكاح المتعة منسوخ، كما هو رأي جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة، فنكاح المتعة كان في أول الإسلام وفي أواخره أيضاً: وكان الرجل إذا تقابل مع امرأة فأعجبته ولم تكن ذات زوج، فإنه يتفق معها على أن يتعاشرا يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل في مقابل قدر من المال أو الأشياء العينية التي يعطيها لها، ثم بعد ذلك يفترقان من غير طلاق إذا انتهت المدة المتفق عليها، وهذا النكاح كان جائزاً ثم نسخ. قال: سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه: تقابلت أنا وابن عم لي بامرأةٍ بكر عيطاء -بكر يقصد: كالناقة- فعرضنا عليها أنفسنا أنا وابن عمي، فقالت: ماذا تبذلان؟ قلت: أن أبذل بردي، أي: ثوبي أو شيء مشابه للثوب، وقال ابن عمي: وأنا أبذل بردي، وكان برد ابن عمي أجمل من بردي -يعني: ثوبي كان قديماً جداً وثوب ابن عمي كان جديداً- ولكني أحسن من ابن عمي وأجمل، فجعلت تنظر إليّ وإلى بردي، فتراني جميلاً وترى ثوبي مهلهلاً، وتنظر إلى ابن عمي وإلى برده، وفي آخر الأمر قالت: هذا بردٌ جيد، وهذا بردٌ لا بأس به، وتعاشرت معها ثلاثاً، ثم سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: (من كان تمتع من هذه النساء بشيء فليتتاركا؛ ففارقتها) . جاء تحريم نكاح المتعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة مواطن: فقد جاء أنه حرم المتعة عام خيبر، وعام الفتح، وفي غزوة أوطاس، وفي غزة تبوك، وفي حجة الوداع، لكن الرواية أنه حرمها في غزة تبوك ضعيفة، والرواية التي حرمها في حجة الوداع ضعيفة أيضاً، والثابت أنها حرمت في خيبر، وغزوة أوطاس، وعام الفتح، فقال بعض العلماء: إن الصحابة قد تمتعوا في عهد أبي بكر: قال جابر: (متعتان نهى عنهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه: متعة الحج: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] ، ومتعة النساء) . وهذا ثابت إلى جابر رضي الله عنه، لكنه قد أشكل على من قال: إن المتعة حرمت عام أوطاس، فقال: لو كانت حرمت عام أوطاس فلماذا استمتع الناس في حياة أبي بكر الصديق؟ ووصفوا الروايات التي فيها: أن المتعة حرمت في خيبر، ثم حرمت في الفتح، ثم حرمت في أوطاس أنها مضطربة لكون هذه بعد تلك، وقالوا: فإذا كانت حرمت في خيبر فلماذا حرمت مرة ثانية في الفتح، ولماذا حرمت في أوطاس؟ وهذا الرجل سبرة بن معبد تمتع في أوطاس وهي بعد الفتح؟ فأجيب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أباحها، ثم حرمها، ثم أباحها، ثم حرمها إلى الأبد. أما ما ورد أن بعض الصحابة تمتعوا في حياة أبي بكر رضي الله عنه؛ فلربما فعلوا ولم يصلهم النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بالحجة الدامغة من النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي نهى عن جملة أشياء ولم تبلغ كبار الصحابة، وقد نهى رسول الله عليه والصلاة والسلام عن التطبيق في الصلاة. والتطبيق: هو أن يضع الرجل يده اليمنى مع اليسرى مضمومتين بين فخذيه وهو راكع، وفعل ذلك ابن مسعود وخفي عليه حتى فعله وهو في زمن أبي بكر، حتى قال سعد بن أبي وقاص: (يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كنا نفعل ذلك ثم نهينا عنه) . وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم المتعة إلى الأبد، وكون بعض الصحابة فعلها في حياة عمر، فهذا لا يطعن فيهم؛ لأن الصحابي قد لا يبلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلغ صحابة آخرين، وهذا له جواب يجاب به على هذه المسألة. وبعض الصحابة كـ عبد الله بن عباس أخذ من كون النبي صلى الله عليه وسلم أحلها ثم حرمها ثم أحلها ثم حرمها فقهاً، قال: هذا يرجع إلى إمام المسلمين إن شاء أباحها للناس وإن شاء حرمها، لكن ردّ عليه ردٌ شديد في هذا الباب خاصة من قبل علي، فقال له: يا ابن عباس كيف تفتي بإباحة نكاح المتعة؟! إنك رجلٌ تائه! لقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية عام خيبر ونكاح المتعة، ولذا وصفه علي رضي الله عنه بأنه رجلٌ تائه. والعجب من الشيعة البغضاء أنهم يدعون محبة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلي ينهى أشد النهي عن نكاح المتعة، كما في الصحيحين وغيرهما، وأنه يصف عبد الله بن عباس بأنه رجلٌ تائه لما أباح نكاح المتعة، ولكنهم قومٌ متبعون للأهواء لا للدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كانت بين ابن الزبير وبين ابن عباس أيضاً مشادة في هذا الباب. قال ابن الزبير معرضاً بـ ابن عباس -وكان ابن عباس كبر فعمي- ما بال أقوام أعمى الله بصيرتهم كما أعمى بصائرهم يفتون بجواز نكاح المتعة؟! فقال له عبد الله بن عباس: والله إنك لجلف جافٍ، ولقد فعلت على عهد إمام المتقين صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن الزبير: جرب بنفسك فوالله لئن فعلت لأرجمنك كما رجم قبر فلان، فاشتدت المسألة بينهما في هذا الصدد وجمهور الصحابة على منع نكاح المتعة منعاً باتاً؛ لأن النبي حرمها إلى الأبد عليه الصلاة والسلام.

ما يشرع من المهور في الأنكحة

ما يشرع من المهور في الأنكحة يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] أي: لا إثم عليكم: {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء:24] . وفي قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ، دليل على وجوب الصداق، ودليل على أن الصداق من حق المرأة وليس من حق أبيها؛ لأن الله قال: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فدل ذلك على أن الصداق للمرأة، ونحوه: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فلها صداق بما استحللت من فرجها) ، فالصداق للمرأة، ثم إن شاءت بعد ذلك أن تتصدق به على أبويها فعلت، ولا تجبر على ذلك. قال تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي: لا أثم عليكم. {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} يعني: إذا أرادت هي أن تتنازل لك على شيء من الصداق تنازلت، وإن شئت أن تزيدها شيئاً فوق الصداق زدتها ما دامت الأنفس متراضية وطيبة: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24] . وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

صلاة المأسور في غير بلده

صلاة المأسور في غير بلده Q ما حكم صلاة الأسير الذي يبعد عن بلده بكثير، هل عليه قصر؟ A إذا كان بعيداً عن بلده فله القصر.

حكم مصافحة النساء الأجنبيات

حكم مصافحة النساء الأجنبيات Q ما حكم مصافحة النساء الأجنبيات؟ وما صحة حديث معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خيرٌ له من أن يمس امرأة أجنبية) ؟ A الحديث ثابت وصحيح؛ أخرجه الطبراني بإسناد صحيح، وأقل أحواله إن تشددنا في أمره أن ننزل به فقط إلى الحسن من حديث معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه: (لئن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له) ، وفي البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، إنما يقول: قد بايعتك كلاماً) ، أما الوارد من حديث عمر: (أنه كان يبايع النساء ويصافحهن من وراء ستار) ، فهو حديث ضعيف، وفي إسناده مسلم بن خالد الزندي، وهو ضعيف. أما حكم الإمام السيوطي رحمه الله على الحديث فلا يعتبر؛ لأنه ليس من المدققين في التصحيح والتضعيف، ومن ثم استدرك عليه جماهير العلماء جملة تحصيلات لم يوفق بها، وجملة تصحيحات لم يصب فيها أيضاً، والله تعالى أعلم.

تفسير سورة النساء [26-29]

تفسير سورة النساء [26-29] لقد أجاز الله الزواج بالأمة المحصنة، ولكن الأفضل الصبر وعدم المبادرة إلى ذلك، وقد بين الله في كتابه أن أهل الكفر والفسوق حريصون على إضلال الصالحين بشتى الوسائل.

تفسير قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم.

تفسير قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم.) بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

إثبات الإرادة لله

إثبات الإرادة لله يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26] . قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} فيه إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى خلافاً لمن نفاها من أهل البدع، وإثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى وارد في جملة من الآيات: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] إلى غير ذلك. {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: يبين لكم شرائعكم وما أحل لكم وما حرم عليكم. {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ} أي: طرق {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: الطرق الحميدة التي سلكها الذين من قبلكم. وهل المراد بذلك الشرائع، أي: شرائع المتقدمين الذين سبقونا، أو المراد غير ذلك؟ قال ذلك فريق من العلماء، لكن على تحفظ في شيء وهو المنسوخ من شرائع المتقدمين، فشرائع المتقدمين هل تلزمنا، أو لا تلزمنا؟ لأهل العلم أقوال في ذلك: منهم من يقول: إنها تلزمنا إلا إذا جاء في شرعنا ما ينسخها. يعني: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما ينسخه، واستدلوا لذلك بهذه الآية، وبقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:84-86] إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] . ولما جاء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] قال: داود ممن أُمر نبيكم عليه الصلاة والسلام بالاقتداء به، أي: أن داود عليه السلام خر راكعاً وأناب أي: ساجداً، فكذلك سجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمرنا بالاقتداء بداود عليه الصلاة والسلام. فمن أهل العلم من قال: إن شرائع المتقدمين من الأنبياء تلزمنا إلا إذا جاء من شرعنا ما ينسخها. ومنهم من قال: إن لكل نبي شرعته، ودل على ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] أي: سبيلاً وسنة. والقول الأول قوي، والجمع بينه وبين الاستدلال الأخير ممكن، والله أعلم.

هداية الله لعباده وسعة رحمته بهم

هداية الله لعباده وسعة رحمته بهم قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء:26] هل المراد بالهداية هنا هداية الدلالة، بمعنى: يدلكم على طرق الذين تقدموكم وسبقوكم أو أن المراد هداية التوفيق، بمعنى أن يوفقكم إلى اتباع شرائع من كان قبلكم؟ الظاهر: أن الهداية في الآية تعم القسمين معاً، فالله وفق أهل الإيمان وهذه دلالة توفيق، وبيّن لهم وهذه هداية دلالة، وكلاهما حصل في حق أهل الإيمان. {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} هذه الآية من آيات الرجاء، ومن الآيات التي بينت سعة رحمة الله، فرب العزة يريد أن يتوب علينا وهو الغفور الرحيم، فالله أخبر أنه يريد أن يتوب على أهل الإيمان، فعلى ذلك إذا أذنب المؤمن فلا يقنط من رحمة الله، فالله يريد أن يتوب عليه، فعليك إذاً الاستغفار والإقبال على الله، فإن من التهلكة أن يذنب العبد ذنباً ثم يسوّل له الشيطان أنه لا يتاب عليه، فيقنطه من رحمة الله، فيقع بعد الذنب في كبيرة ألا وهي كبيرة القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى، والله حذر من هذا، إذ قال نبيه إبراهيم كما في كتاب الله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] ، وقال يعقوب صلى الله عليه وسلم: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، فإذا علم الشخص أن ربه سبحانه يريد أن يتوب عليه بادر بالتوبة ولم يجد الشيطان سبيلاً على هذا المؤمن بإذن الله، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25] .

تفسير قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم.

تفسير قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم.) أكدت الآية السابقة بقوله تعالى ثانية: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] ، الأولى: يريد الله أن يتوب عليكم صدرت بالفعل، وهنا صدرت بالفاعل، لفظ الجلالة: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)) [النساء:27] ، وهذا مزيد تأكيد ومزيد بيان بتوبة الله على العباد: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)) أي: افعلوا ما يستوجب لكم توبة الله سبحانه وتعالى، فذلك يتأتى بالاستغفار والإنابة إلى الله.

حرص أهل الكفر والفسوق على إضلال الصالحين

حرص أهل الكفر والفسوق على إضلال الصالحين قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] أي: أهل الكفر وأهل الفسوق والعصيان يريدون لأهل الإيمان الزلل والميل إلى طريق الردى والهلاك، وهذا كما قال القائل: إن اللص إذا اكتشف أنه سارق وعلم الناس عنه أنه سارق تمنى أن يكون الناس كلهم لصوصاً، وأن الزانية إذا كشف زناها تمنت أن النساء كلهن زوانٍ؛ حتى يشتركن معها في المصيبة والعار، فيخفف هذا الاشتراك شيئاً عنها في الحياة الدنيا، فالذين يتبعون الشهوات يريدون لأهل الإيمان أن يميلوا ميلاً عظيماً. ونحو ذلك في قوله تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] أي: أحبوا لكم العنت والهلاك ورغبوا لكم فيه، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة:109] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] ، فكل هذه الآيات أفادت أن أهل الكفر يريدون لأهل الإيمان الزيغ والضلال والانحراف. {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] ، فلذلك هم يجتهدون في إغوائكم وإضلالكم بكل الطرق، كما قال سبحانه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} لماذا؟ (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] لعلهم يرجعون عن دينهم، وقال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] فهم بكل الطرق يبذلون ما في وسعهم حتى ينفض أهل الإسلام عن إسلامهم، والمثبت من ثبته الله سبحانه وتعالى، قال الله لنبيه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] .

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا.

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً.) لنرجع إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25] .

حكم زنا الأمة وهي محصنة

حكم زنا الأمة وهي محصنة قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي: الإماء، إذا أحصن بالزواج، {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة} المراد بها الزنا، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} ، فقوله تعالى في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي: إذا تزوجن، {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة} بعد الزواج، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} يعني: عليهن نصف ما على الحرائر من العذاب، أي: من الحد، فإن قال قائل: إن الرجم لا يتنصف، فماذا على الأمة المزوجة؟ يعني: الأمة قبل الزواج إن قلنا: إن الحرة إذا زنت قبل الزواج تجلد مائة جلدة، فالأمة تجلد خمسين جلدة، والحرة إذا تزوجت وزنت رجمت، فالأمة إذا تزوجت وزنت ماذا عليها والرجم لا يتنصف؟! فنقول هنا صالت عقول وجالت، وأبعدت عما يقتضيه العقل الصحيح. والجمهور ابتداءً ذكروا أن الرجم لا يتنصف فعليها الجلد، خمسون جلدة، سواءً كانت ثيباً أو كانت بكراً، متزوجة أو غير متزوجة. أما ابن حزم فقال في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} قال: بالنسبة للأمة غير المزوجة إذا زنت تجلد مائة جلدة؛ لأن الله قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، وإذا زنت بعد الزواج تجلد خمسين جلدة، قال ابن حزم: لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} . وقال قوم: إن زنت الأمة قبل الزواج لا شيء عليها.

حكم الزواج بالإماء

حكم الزواج بالإماء قال تعالى: ومن لم يستطع منكم -يا أهل الإيمان- طولاً. أي: سعة وغنىً، فالطول يطلق على السعة الغنى. {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} المراد بالمحصنات هنا: الحرائر، أي: فمن لم يستطع منكم أن يتزوج النسوة الحرائر لغلاء مهورهن فهناك الإماء، فدل ذلك على هذا الشيء، وهو: أن الحرائر كانت مهورهن أعلى من مهور الإماء، فيأخذ منه من طرف خفي مشروعية مهر المثل، فللحرائر سنة في الصداق، وللإماء سنة في الصداق، ومهر المثل قد تقدمت بعض الأدلة عليه، في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (تقسطوا في اليتامى) -كما فسرتها عائشة -: أي: تبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق. فدل ذلك على أن أو للنساء سنة في الصداق. أي: قدر معين، وهذا القدر ليس بثابت بل هو يختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان. {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} أي: سعة، {أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} أي: الحرائر منهن، {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: فمن الإماء، {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إذا تزوجت الأمة لزمك أن تعدل بينها وبين الحرة، لكن إذا اشتريت الأمة فلا يلزمك أن تسوّي بينها وبين الحرة في القسمة. {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . أي: مؤمنات في نظركم، فقد تكون مؤمنة في الظاهر وليست مؤمنة حقيقة، فلذلك جاء قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} يعني: لكم أن تحكموا بالظاهر وتقدموا على زواج الإماء المؤمنات، فأنت قد تقدر وتحكم بأن هذه الأمة مؤمنة لكن في الحقيقة الله أعلم بها، فلذلك جاء الاحتراز لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض} وكقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْب} بماذا؟ ليس حافظات للغيب باجتهادهن، ولا بقوتهن، ولا بصلابتهن، إنما حافظات للغيب بما حفظ الله، حتى لا تظن الصالحة أنها تحفظ غيب زوجها باجتهادها، فالمرأة أصلاً ضعيفة، ولكن حفظها للغيب بتثبيت من الله وبفضل منه سبحانه وتعالى، وهذا تنبيه حتى لا يبتعد الشخص أبداً عن ربه سبحانه وتعالى، بل يكون دائماً طالباً من الله الثبات والنجاة، والسداد، والحرص، والتوفيق في الحكم على الأشخاص. {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي: من الإماء المؤمنات {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ} فدل ذلك على الولاية في النكاح وكون المرأة لا تنكح إلا بإذن أوليائها، فمن كتاب الله آيات تحث على الولاية في النكاح، كما أن في سنة رسول الله أحاديث كحديث: (لا نكاح إلا بولي) وحديث: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) . أما الآيات التي في كتاب الله تحث على الولاية في النكاح: فمنها: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ} . ومنها: قوله تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] ، فقوله: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:221] أي: لا تزوجوا المشركين، فيه دليل على أن الذي يزوج هو الولي. وكذلك في قوله تعالى في سورة النور: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] ، (وأنكحوا) أي: زوجوا، فدل على أن الأولياء هم الذين يزوجون. {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} المراد بالأجور هنا: المهور، {بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} أي: عفائف غير زوانٍ، {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} والأخدان هم العشّاق، فلا هي زانية، ولا هي متخذة خليل. أي: عاشق. إذاً: الأمة تنكح إذا كانت (محصنة) أي: عفيفة. (غير مسافحة) : غير زانية، (ولا متخذات أخدان) أي: عشاق. {ذَلِكَ} في هذا الحكم والحث على زواج الإماء، {ذَلِكَ} الترخيص لكم في زواج الإماء، والإرشاد لكم في زواجهن {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} أي: للذي يخشى على نفسه العنت، والعنت: هو الشدة، والمراد به: الوقوع في الفحشاء عياذاً بالله، فالذي يخشى على نفسه العنت له أن يتزوج الإماء. وقد طرح بالأمس القريب Q شاب في العشرينات، متخرج من الجامعة، ولا يجد مالاً يتزوج به، ولا يجد مسكناً يتزوج فيه، ولا يستطيع أن يحصل على المسكن وعلى تكاليف الزواج الباهضة التي فرضها الأولياء فيكسرون بها ظهور الأزواج، وأمامه سنوات وقُدِّر عليه في عمله أن يعمل في وسط نسوة وهو شاب قوي، فيسر الله له امرأة مات عنها زوجها وترك أولاداً معها، وعندها شقة مفروشة، وهي موافقة على أن تتزوجه، ويدخل عليها في الشقة ويعفها ويرعى أولادها، وهو في الوقت نفسه يبتغي وجه الله برعاية الأيتام، ويعف نفسه من الوقوع في الفاحشة، فجاءت أمه واعترضت على هذا الزواج، والشاب يخشى العنت، فهل يجاب بأن يقال له: أطع أمك التي لا تستند في تصرفها إلى دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله إلا الأسلاف والأعراف السائدة، فهل نقول له: أطع أمك أم عف نفسك؟ فالإجابة: عف نفسك وبر والدتك أيضاً بكلام طيب حتى تنجو من العنت الذي أنت فيه، فرب العزة رخص في الزواج من الأمة، وهذه المرأة أحسن حالاً بلا شك من الأمة؛ لأنها حرة، بل أضف إلى كونها حرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) ، وقال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وقال: (السعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) إلى غير ذلك من الأدلة. فقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} فيه ترخيص لمن خشي العنت من الشباب ولا يجد مالاً أن يتزوج الإماء، فمن باب أولى أن يتزوج الثيبات اللواتي يوفرن عليه المال. والنبي محمد عليه الصلاة والسلام خير الناس وسيد ولد آدم سلك هذا المسلك، فقد كان فقيراً عليه الصلاة والسلام ثم تزوج بالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها. {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي: أن تصبروا عن نكاح الإماء، وليس النساء اللواتي هن أرامل، إنما الصبر عن نكاح الإماء خير من المبادرة إلى نكاحهن. لماذا: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ؟ ذلك لأن الولد يسترق، فأمه أمة عند شخص فالولد يأتي مسترقاً، وتلك هي العلة من التوقف أو الصبر عن زواج الإماء، لكن الناس يختلفون. والآية فيها: إباحة زواج الإماء لمن خشي العنت: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} ، فهل من لم يخش العنت يحرم عليه أن يتزوج الإماء؟ لا يحرم عليه على الصحيح، وله أن يتزوج الإماء؛ لأن الله قال بعد أن ذكر المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، فقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} غاية ما فيه: مزيد ترخيص لمن لم يستطع طولاً أن ينكح المحصنات من المؤمنات، {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

تفسير قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم.

تفسير قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم.) {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] . {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} في التكاليف ونحو ذلك. إن الشريعة الإسلامية قد تميزت بالتخفيف، فلما قال المؤمنون: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] قال الله سبحانه (قد فعلت) وروي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بإسناد فيه بعض الكلام، لكن المعنى يصح: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، فالمكره على الشيء لا يلزمه من جراء الإكراه إثم، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] . قال تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)) هذه من آيات رفع الحرج، {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف حوله، فلما رأى أنه خلق أجوفاً علم أنه خلق خلقاً لا يتمالك) أي: يسقط بسرعة وتزل قدمه سريعاً.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يا أهل الإيمان! يا من رضيتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً! يا من صدقتم المرسلين! {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (أموالكم) أي: أموال إخوانكم، فهي كقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: لا يلمز بعضكم بعضاً.

صور لأكل أموال الناس بالباطل

صور لأكل أموال الناس بالباطل {بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الباطل له صور منها: الرشوة في الحكم، كأن يعطى القاضي مالاً حتى يقضي لخصم ظالم. ومن الباطل: أكل أموال اليتامى ظلماً. ومن الباطل: ثمن الكلب، ومهر البغي، أي: أجرة الزانية. ومن الباطل: الربا. فالباطل: كل ما جاء من مال بغير حق شرعي.

معنى التجارة بالتراضي

معنى التجارة بالتراضي {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا} (إلا) بمعنى: لكن، وتأتي (إلا) بمعنى لكن في كثير من آي الكتاب العزيز: قال الله سبحانه: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ} [الدخان:56] لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى التي قد ماتوها فهي التي ذاقوها فقط، وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} أي: لكن تكون تجارة (عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) ، ومن تمام التراضي كما قال العلماء: إثبات خيار المجلس، وخيار المجلس مأخوذ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ، فإذا كنت أنا وأنت جالسين في البيت أو في أي مكان واشتريت منك سلعة وكتبت العقد معك، وأنت وقعت لي عليه وأنا وقعت لك عليه، وسلمتك المال واستلمت العقد، ثم بعد ذلك ونحن في المجلس قلت لك: أنا راجع في كلامي عن البيع أو الشراء، جاز لي أن أرجع، ووجب عليك أن تقبل الرجوع، فأي طرف له الحق في عدم إتمام العقد وإن كان قد تسلم المال، وإن كان قد كتب العقد، فله الحق في نقض العقد ما داما في المجلس، أما إذا خرج أحدهما ورجع فقد انتهى البيع وتم، لذلك كان ابن عمر إذا اشترى سلعة فأعجبته بعد أن يعقد العقد يخرج ثم يدخل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن نصحا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) ، فمن تمام التراضي: إثبات خيار المجلس، وهو رأي جمهور العلماء. وقال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، وثمّ أنواع أخر غير التجارة، ولكن التجارة أهم صور المال الحلال، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) . هناك صور أخرى للكسب الطيب كأن يعمل والرجل أجيراً عند رجل آخر، فذلك من عمل الرجل بيده.

معنى قتل النفس

معنى قتل النفس قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} وهل المراد بقتل النفس هنا: الانتحار أو جلب ما يتسبب في إهلاكه في الدنيا أو الآخرة؟ الاحتمالان واردان، فالنهي عن قتل النفس جاء عن رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (من تحسّى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً -وإن كان البعض من العلماء يعلّ كلمة مخلداً- ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالداً مخلداً أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يقتل بها نفسه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ، وكذلك روي عن عمرو بن العاص أنه كان في سرية مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم الفجر، وكانت الليلة شديدة البرد، وكان قد أجنب فتيمم وصلى بالناس، فكأنهم أنكروا عليه، فلما أتوا إلى رسول الله وعاتبه الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: ذكرت قول الله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . لكن هذا الأثر عن عمرو بن العاص معلول بعلة قادحة مؤثرة فيه. ونحوه معلول كذلك حديث: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال) ، فهو كذلك معلول بعلة مؤثرة قادحة فيه. {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} الآية محمولة إما أن تجلب آثاماً لنفسك فتهلك وتردي بها نفسك في النار، أو تقتل نفسك في الدنيا. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فيه دليل على أن الله أرحم بعبده من نفسه، فهو سبحانه حافظ لك على بدنك، فدل ذلك على أن الله أرحم بك من نفسك، وأرحم بك من والدك، فالله قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، فالله أرحم بالولد من أبيه، بنص الآية الكريمة: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ، ويذكر الله الولد بأبيه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] ، فالله رحيم بعباده أرحم بهم من أنفسهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لله أرحم بعبده من هذه بولدها) ، فنحمد الله على ذلك. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً.

سورة النساء [31-34]

سورة النساء [31-34] اجتناب الكبائر سبب في تكفير السيئات، والكبائر مختلف في تعريفها بين أهل العلم، ولقد جعل الله سبحانه قوامة الرجل على المرأة، وبين سبحانه ما يعمل الأزواج عند نشوز زوجاتهم.

تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر.

تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر.) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31] .

تعريف الكبيرة

تعريف الكبيرة من أهل العلم من قال: إن الكبائر هي التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صريح حديثه، وبيّن أنها من الكبائر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف) . فمن العلماء من قال: إن الكبيرة هي التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنها كبيرة، وما لم ينص عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وما لم يوضح أنه كبيرة فلا يدخل في عداد الكبائر، وهذا القول قد يبدو لأول وهلة صحيحاً، ولكن بإمعان النظر فيه نجده قولاً ضعيفاً واهياً، فثم جملة أمور لم ينص عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أنها كبائر، مثال ذلك: نكاح الرجل أمه أو أخته، فلم يرد نص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يفيد أنها كبيرة، فزواج الرجل بأمه لم يرد فيه نص يفيد أنها كبيرة، لكن جاء في كتاب الله تهديد لمن فعل ذلك، وقال الله تعالى في نكاح امرأة الأب الذي هو أيسر من نكاح الأم: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22] . فهذا حذا ببعض العلماء إلى أن يضعوا تعريفات للكبيرة، فكان حاصل تعريفهم أن الكبيرة: ما توعد فاعلها بلعن أو غضب من الله، أو طرد من رحمة الله، أو بالعذاب، أو بالنار، أو بحد من حدود الدنيا ونحو ذلك، فكل ذلك يعد من الكبائر. فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ} [النساء:31] فهي الكبائر التي ضبطت بالضابط المتقدم، وثم بعض الأمور اختلف فيها: هل هي كبيرة أم صغيرة؟ فللعلماء أخذ ورد فيها. من ذلك مثلاً: مسألة مصافحة المرأة الأجنبية، فقد ورد فيها حديث معقل بن يسار عند الطبراني بإسناد حسن على أقل الأحوال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لئن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) ، هذا الحديث كما سمعتم إسناده حسن يفيد أن الشخص إذا طعن بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له، ولكن جاء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] جاء في تفسير اللمم ما قاله ابن عباس: (ما رأيت شيئاً أشبه في اللمم مما رواه أبو هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ قال: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والرجل تزني وزناها المشي، واليد تزني وزناها البطش، واللسان يزني وزناه الكلام، والنفس تهوى وتتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) . ولما جاء الرجل الذي لقي امرأة في الطريق ففعل معها كل شيء إلا الجماع ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا إليه حاله، فنزل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ، وفي هذا الصدد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين، فقال: (ألي خاصة يا رسول الله! أم للناس عامة؟ قال: بل للناس عامة) . والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فإذا كانت الصلوات الخمس لا تقوى بمفردها على تكفير الكبائر فمن باب أولى ألا يقوى النفل على تكفير الكبائر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر) فإذا كانت الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان لا يقويان -إلا إذا شاء الله- على تكفير الكبائر إلا إذا انضم إليهما شيء آخر؛ فصلاة ركعتين لا تقوى على تكفير الكبيرة، فهذا حدا ببعض الناس أن يعدوها من الصغائر. فالمسألة إذاً في هذه الجزئية تكاد تكون مسألة خلاف بين العلماء. يعني: هناك أمور كبيرة القول فيها قولاً واحداً، وأمور صغيرة القول فيها قولاً واحداً، وأمور بين ذلك تنازع فيها العلماء وتجاذبوا فيها الأقوال.

معنى تكفير السيئة

معنى تكفير السيئة إن الله سبحانه وتعالى يقول لعباده: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] نكفر: أصل التكفير التغطية، ومنه قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] الذين يضعون البذرة في الأرض ويغطون عليها، وقول الشاعر: في ليلة كفر الغمام نجومها أي: غطى الغمام نجومها، فأصل التكفير التغطية. {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] أي: نغطيها ولا نؤاخذكم بها، ففي باب السيئات عفو ومغفرة وتكفير، فالعفو: المحو بالكلية والإزالة، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} [البقرة:286] فالمغفرة: الستر، والتكفير: التغطية وعدم المؤاخذة. {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] . يعني: إذا اجتنبتم الكبائر كفرنا عنكم الصغائر. وقد تقدم أن السيئة لها اصطلاحات، وكل اصطلاحٍ يعطي معنىً من المعاني يفهم من السياق الذي وردت فيه كلمة السيئة، وقد تقدم شرح هذا، فقيل: إن السيئات أو السيئة تطلق على الكفر أحياناً. قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27] والخلود لا يكون إلا للكفار، وقال سبحانه في شأن قوم لوط: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78] أي: الجريمة المعهودة وهي من الكبائر، وهنا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] أي: الصغائر. فوجه الخطأ الذي يخطئ فيه الكثيرون أن يلبسوا اصطلاحاً من الاصطلاحات معنىً من المعاني ليس هو معناه المراد. فهذا باب يخلط فيه كثير من العلماء فضلاً عن المبتدئين في طلب العلم، وهو أن يلبسوا الاصطلاح معنىً غير معناه الصحيح، وأحياناً تأتي أخطاء أخر نتيجة رواية حديث بالمعنى والخطأ في روايته بالمعنى، أو اختصار الحديث والخطأ في اختصاره، ومن النماذج على ذلك: ما أورده ابن حزم وابن القيم رحمهم الله في مسألة طلاق الحائض: هل إذا طلق الرجل امرأة وهي حائض هل تعتْبر هذه طلقة وتحسب عليه أو لا تحسب عليه؟ فالجمهور من أهل العلم على أنها تحسب عليه طلقة، لقول ابن عمر: (حسبت عليّ طلقة) ، أورد ابن حزم رحمه الله وكذلك ابن القيم رحمه الله أثراً عن ابن عمر وغلطا فيه، وهذا الأثر روياه من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: (وسئل عن طلاق الرجل امرأة في حيضتها؟ قال: لا يعتد بذلك) رويا الحديث مختصراً مقتصراً على هذا اللفظ فقالا: ها هو ابن عمر يفتي بأن طلاق الحائض لا يقع والقصة حدثت له. وهذا كلام غير مقبول لوجوه: منها: أن ابن عمر نفسه قال: (حسبت عليّ تطليقة) كما في صحيح البخاري، فلما بحثنا عن إسناد الحديث في بعض الكتب في المصنفات كمصنف ابن أبي شيبة وجدنا الحديث من نفس طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: (أنه سئل عن طلاق المرأة وهي حائض قال: لا يعتد بتلك الحيضة) الرواية التي أوردها ابن حزم وابن القيم رحمهم الله وشنعوا بها (لا يعتد بذلك) هذه الرواية التي في المصنف (لا يعتد بتلك الحيضة) وهناك فرق. (لا يعتد بتلك الحيضة) ما معناها؟ يعني: لا يعتد بأن الحيضة تحسب من الأقراء، يعني: إذا طلقها وهي حائض وبدأت تعتد كما أمرها الله {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] هل يحسب هذا الحيض الذي طلقت فيه من الأقراء أو لا يحسب؟ فقال ابن عمر (لا يعتد بتلك الحيضة) ولم يقل: (بتلك التطليقة) فوهما رحمهما الله وظنا أنه قصد بقوله: (لا يعتد بذلك) التطليقة. ولذلك كل الروايات الواردة عن ابن عمر تؤيد أنها حسبت عليه. كما في الرواية: (فذهب عمر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأمره أن يراجعها وعدّها واحدة) ، أي: أمره الرسول عليه الصلاة والسلام أن يراجعهما. وهو أقوى مما يقول به ابن حزم. والشاهد من هذا: أن الاختصار أحياناً قد يخل.

معنى اجتناب الكبائر

معنى اجتناب الكبائر {إِنْ تَجْتَنِبُوا} [النساء:31] الاجتناب: أشد من النهي، والأمر به أشد من النهي المجرد، مثل قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فهو أبلغ من النهي، ومنه قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] فالأمر بالاجتناب أشد من النهي المجرد، فيقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] .

تفسير قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به.

تفسير قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به.) قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] . هل الآية على ظاهرها: فلا يجوز لنا أن نتمنى أي شيء أوتيه شخص منا؟ لا. بل هناك أشياء نتمناها، ورخص لنا الشرع في تمنيها، بل وحثنا على ذلك، مثل: حمل القرآن والعمل به، وإنفاق المال في سبيل الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) . ويجوز لي -أيضاً- أن أتمنى ذرية صالحة، فإذا وجدت رجلاً عنده ذرية صالحة قلت: يا رب! ارزقني ذرية صالحة، وها هنا يقول عباد الرحمن {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] . إذاً: هناك شيء مراد بالآية: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] والله أعلم ما مراده، ولكن سياق الآية يفيد شيئاً وهو {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] يعني: لا تأتي المرأة تقول: يا ليت لي ميراث كالرجل، أو يا ليتني رجلاً، فـ {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] فاقنع بالشيء الذي قدر لك به واسأل ربك المزيد من فضله على وجه الإجمال، لكن لا تتمنى أن تكون امرأة مثلاً، أو أن تتمنى المرأة أن تكون رجلاً، أو تتمنى أن يقسم لها في الميراث مثل ما للرجل ونحو ذلك. والتمني بصفة عامة هو: نوع إرادة يتعلق بالمستقبل، قال الله سبحانه وتعالى لـ عبد الله والد جابر لما قُتل: (عبدي تمنى عليّ فقال: أرد إلى الدنيا فأقتل في سبيلك) ، فهذا نوع من التمني، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لقد وددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقتل، ثم أحيا فأقتل) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والتمني فيه مسائل ومباحث طويلة لا يسع المقام لذكرها، وقد أفرد البخاري في كتاب القدر من صحيحه: باب ما جاء في اللو. فهي من أبواب التمني، ويقابله أيضاً التلهف. قال الله: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)) [النساء:32] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نظر أحدكم إلى من فوقه في المال والرزق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه هو في المال والرزق) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. قال الله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32] * {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء:33] . في أول الأمر لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون أقاربه، والأنصاري يرث المهاجري، دون أقاربه حتى نزل قوله تعالى على رأي كثير من أهل العلم: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6] فنسخ التوارث بين المهاجرين والأنصار، وبقيت الموالاة والمحبة في الله، وإذا أردت أن تعطيهم شيئاً فأعطهم ما شئت، لكن التوارث أصبح بين أولي الأرحام الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في كتابه وفي قوله: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب:6] .

تفسير قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان.

تفسير قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان.) يقول الله تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء:33] .

اصطلاحات كلمة الموالي

اصطلاحات كلمة الموالي المولى له اصطلاحات متعددة: إذا أسلم على يديك سمي مولاك، كما قيل في البخاري: إنه مولى الجعفيين؛ لأن جد البخاري -وهو المغيرة - أسلم على يد رجل يقال له: اليمان الجعفي فأصبح البخاري مولى الجعفيين، ولذلك في كثير من التراجم مثلاً تقول: الليث بن سعد أبو الحارث الفهمي مولاهم، أي: هو ليس من القبيلة وإنما هو دخيل على القبيلة، فإما أنه أو أجداده كانوا عبيداً فأعتقوا من هذه القبيلة، أو أسلموا على أيديهم. فالولاء له اصطلاحات متعددة وكل اصطلاح يفهم من المعنى الذي ورد فيه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة في شأن بريرة: (أعتقيها فإن الولاء للعاتق) ، ولذلك يقال: بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنها. فالمولى يطلق على المعتق ويطلق على الذي أعتق، ويطلق على الناصر، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] ويطلق على ابن العم، ويطلق على الجار، فله عدة إطلاقات.

معنى: (عقدت أيمانكم)

معنى: (عقدت أيمانكم) قال تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] والنصيب الذين عقدت أيمانكم. أي: الذين تحالفتم معهم، وهو غير مضبوط في كتاب الله سبحانه وتعالى، إنما هو يرجع إلى صورة التحالف التي تمت، والوعود التي وعدت، والمكاتبات التي كتبت، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء.

تفسير قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء.) قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] .

معنى حفظ المرأة للغيب بما حفظ الله

معنى حفظ المرأة للغيب بما حفظ الله قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] حافظات لفروجهن في غياب أزواجهن، وحافظات لأموال أزواجهن عند غيابهم، وحافظات للبيوت في غياب الأزواج، وحافظات لما استرعين عليه في البيوت، فحافظات أعم من بعض التأويلات المفردة التي فسرها به بعض العلماء، {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] حافظات لغيب أزواجهن، وحافظات لفروجهن في حال غياب أزواجهن. حافظات للغيب، ليس بقوتهن إنما هو بما حفظ الله، فـ {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] أي: المحفوظة من حفظها الله، والمرأة لا تستطيع أن تحفظ فرجها إلا إذا ثبتها الله سبحانه وتعالى على ذلك، حتى لا تغتر امرأة بقوتها وأنها صارمة في البيت، فالذي ثبتها هو الله، والذي حفظها هو الله.

أسباب قوامة الرجل على المرأة

أسباب قوامة الرجل على المرأة هذه الآية أصل في القوامة -قوامة الرجل على المرأة- {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فأفادت الآية الكريمة: أن الرجال قوامون على النساء بشيئين: الشيء الأول: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] أي: من الذكورية التي يؤتاها الرجل والقوة والعقل والجلادة والصبر ونحو ذلك، وهذا الشيء المرأة لا تناله، فجبلتها لا تساعدها على ذلك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل؟) فعقلها لا يكافئ عقل الرجل، وقد قال الله فيهن: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وكذلك حزمها لا يكافئ حزم الرجل، فكما قال القائل: إذا أمرت أن تقطع يد سارق وتحسمها في الزيت، فإذا جاءت تقطع يد السارق وبكى أمامها، أو وضعت يده في الزيت وبكى أمامها هربت وتركت القطع والحسم في الزيت، فجبلة الرجل غير جبلة المرأة، وقد قال الله تبارك وتعالى: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)) [النساء:34] بشيئين: - {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] من ناحية القوة والعقل والاتزان والرزانة وما آتاه الله الرجل في جبلته. الشيء الثاني: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] , في الصداق والنفقة في المعيشة. ومن ذلك -كما قدمنا سالفاً- أن المرأة إذا كانت هي التي تنفق على الرجل فهي تنازعه القوامة، وصحيح أن الله فضله عليها بأشياء جبلية، لكن هي بدأت تنازع بالإنفاق عليه من أموالها، فلكي يكون الرجل تام القوامة على امرأته لابد أن يكون هو الذي ينفق، وهو الذي يرشد ويوجه، أما إذا شاركت هي بشيء وهذا جائز، فالله تعالى يقول: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ زينب امرأة عبد الله بن مسعود: (زوجك وولدك أحق من تصدقتي عليهم) إذا شاركت فقد نازعت في القوامة.

معنى قنوت المرأة لزوجها

معنى قنوت المرأة لزوجها {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء:34] أي: مطيعات. استدل هذه الآية على مشروعية خدمة المرأة لزوجها، لأن الصالحات قانتات -أي: مطيعات- فإذا أمرها أن تطيعه أطاعته، ومن العلماء من أوردها فيما يستدل به على وجوب خدمة المرأة لزوجها وليس على المشروعية فحسب بل على الوجوب لكن الآية ليست صريحة في إيجاب خدمة المرأة لزوجها، إنما قوله: {قَانِتَاتٌ} [النساء:34] وإن قررنا أن معناها: مطيعات، فمطيعات في أداء الحق الذي للزوج عليها، ولسن مطيعات على الإطلاق إنما للزوج عليها حق، ولنفسها عليها حق، ولربها عليها حق، ولرحمها عليها حق، فهي قانتة مطيعة للزوج في الذي له عليها، ولو قال: إنها مطيعة للزوج في كل شيء، إذا أمرها مثلاً بشيء ليس من حقه بل هو من حق الله فلا تطيعه، وإذا أمرها أن تأخذ من حاجبها -مثلاً- لا تطيعه ولا كرامة، فالرسول لعن النامصة المتنمصة، وإذا أمرها أن تعطيه كل مالها أو شيئاً من مالها فلها أن ترفض؛ لأن هذا المال حقها، وإذا قال لها: اصبري عليّ حتى أضربك، بلا سبب، فليس له ذلك؛ لأن هذا بدنها ولا تستحق أن تضرب إلا إذا كان ثم سبب يستدعي ذلك، فلما كان المال من حقها كذلك بدنها من حقها. إذاً: الآية ليست صريحة في إيجاب الخدمة على الزوجة، وإلا لقال لها الزوج: اعملي في حمالة للحجارة، فلا نستطيع أن نوجب الخدمة لهذه الآية الكريمة. والأثر الوارد عن علي رضي الله عنه الذي احتج به بعض العلماء على إيجاب خدمة المرأة لزوجها، والذي فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على علي بالخدمة الظاهرة وعلى فاطمة بالخدمة الباطنة) فهذا الأثر مرسل لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بهذا اللفظ، فراويه عاصم بن ذمرة تابعي لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأثر مرسل، وإنما الثابت في الصحيحين، (أن فاطمة جاءت تشتكي أثر الرحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسأله خادماً فقال: هل أدلك على ما هو خير لكِ من خادم؟ تسبحين وتحمدين وتكبرين ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكِ من خادم) فهذا الحديث فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدها فقط إلى الخيرية وإلى الأفضل والأكمل. والمسألة فيها بحث طويل، والجمهور: على أن خدمة المرأة لزوجها على الاستحباب. نقله عنهم النووي والبيهقي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم، ومن العلماء من رد المسألة إلى الأعراف، ومنهم من قال بالوجوب، والله سبحانه وتعالى أعلم. ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ)) [النساء:34] أي: مطيعات، وإن لم تكن خدمة المرأة لزوجها واجبة، فهي على أقل الأحوال مستحبة، فإذا خدمته أجرت.

نشوز المرأة

نشوز المرأة {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] النشوز: العلو والارتفاع، ومنه الأرض النشز. أي: المرتفعة والعالية، فمعنى الآية: اللاتي تخافون علوهن وارتفاعهن على أوامركم {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] . (الواو) في الحقيقة ليست في كل الأحوال تفيد الترتيب وإنما تفيد مطلق التشريك، جاء زيد وعمرو، ليس معناه أن زيد جاء ثم بعد يوم أو ساعة جاء عمرو ولكن يمكن أن يكون زيد جاء مع عمرو في وقت واحد. أكلت خبزاً ولحماً، ليس معناه أنك أكلت خبزاً ثم أكلت لحم، بل قد تأكل خبزاً مع لحم؛ فعلى ذلك يجوز أن يُقدم شيء على آخر إذا دعت الحاجة أو الضرورة لذلك، وإن كان الأسلم على التقعيد أن تقدم الموعظة والتذكير، ولكن شاهدنا (أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء يوماً من خارج البيت فوجد عائشة معلقة خميصة سترت به الجدار فيها تصاوير، فغضب عليه الصلاة والسلام ولم يسلم عليها حتى خرجت هي وقالت: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا أذنبت يا رسول الله؟ فقال لها: إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة) (وجاء النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً عندما رجع من البقيع وكانت عائشة تتابعه لما خرج إلى البقيع وتركها نائمة، فظنت أنه خرج عند بعض نسائه، فجلست تبحث عنه ثم ذهبت إلى البقيع فلما رأته قد رجع قفلت راجعة فجاءها وهي تلهث، فقال: يا عائشة! لعلك السواد الذي رأيت؟ قالت: نعم يا رسول الله) والحديث فيه: (أتظنين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ فلهدني لهدة أوجعتني) . فالشاهد: أن الشخص قد يسلك مسلكاً قبل مسلك آخر إذا احتيج إلى ذلك كأصحاب المعاصي بصفة عامة، فأصحاب المعاصي يجوز أحياناً أن تقدم التذكير، لكن إذا كان فاعلها يعلم أنها معصية وتمادى في فعلها فيجوز لك أن تسلك معه مسلكاً أقوى من مسألة النصح أحياناً، ويكون هذا المسلك في نفسه نصحاً وإرشاداً. والله أعلم.

ضرب المرأة عند نشوزها

ضرب المرأة عند نشوزها قال تعالى: ((فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ)) [النساء:34] هل تقتص المرأة من الزوج إذا ضربها مثلاً بيده؟ لم يرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصت منه أزواجه في شأن الضرب عليه الصلاة والسلام، وقد ورد حديث ضعيف في سبب نزول الآية (أن سعد بن الربيع ضرب زوجته أو لطمها فجاءت تشتكي إلى رسول الله، فكأن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يجعلها تقاد منه -أي: تقتص منه- فنزلت الآية: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) [النساء:34] ) ، ولكن سبب النزول هذا ضعيف، ويكفي في القول بأنها لا تقتص منه قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ولم يرد أنها تضرب زوجها. قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} [النساء:34] إذا أطاعتك المرأة فيما لك عليها {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34] أي: ليس لك طريق تصل إليها منه تضربها بسببه، أي: إن أطاعتك فيما يرضي الله فقد سدت عليك كل الطرق الموصلة إلى ضربها، فإذا بغيت عليها فالله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] ، فجاء بصفة العلو هنا ليخبرك -أيها الظالم الذي تضرب زوجتك دون سبب- أن هناك من هو أقوى وأكبر منك وأقدر عليك منك على زوجتك، {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34] ، فإن بغيتم عليهن سبيلاً فـ ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)) ، يعني: إن ربك لك بالمرصاد أكبر منك وأعلى. فلذلك لكل ختام الآيات مدلول في الآية نفسها، أي: تنزيل الآية بصفة العلو ووصف الله سبحانه وتعالى لذاته بأنه كبير؛ لفائدة تحمل معنى التهديد والترهيب لمن اعتدى على زوجته بغير سبب، يعني: لا تبغي عليها وتستذلها وتضربها بلا سبب فإنك إن فعلت فاعلم أن الله كان علياً كبيراً، وهو قادر على الانتقام منك، والبطش بك سبحانه وتعالى.

هجر المرأة في المضجع عند نشوزها

هجر المرأة في المضجع عند نشوزها قال الله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] من العلماء من قال: أدر ظهرك لها وهي نائمة. أي: حول وجهك إلى الجهة الأخرى. ومنهم من قال: ابق معها في المضجع ولا تكلمها. ومنهم من قال: ابق معها في المضجع ولا تجامعها، ومن أهل العلم من قال: اترك المضجع جملة واحدة. وهل يجوز الهجر خارج البيت ورد حديث نوزع فيه (ولا تهجر إلا في البيت) ولكن قد ثبت (أن النبي عليه الصلاة والسلام -لما هو أقوى سنداً من هذا الحديث- هجر نساءه واعتزلهن في مشربة له) ، وأيضاً (ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيت علي فما وجد علياً، فوجد فاطمة فسألها عن علي، فقالت: كان بيني وبينه شيء -يا رسول الله- فغاضبني فخرج، فبحث الرسول عنه فإذا هو نائم بالمسجد وعليه تراب. فقال له: قم يا أبا تراب) ، فالظاهر: أن الحاجة إذا دعت إلى ترك البيت فعل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول الزوج لزوجته: أنت مطلقة بإذن الله

حكم قول الزوج لزوجته: أنت مطلقة بإذن الله Q ما الحكم في قول الزوج لزوجه: مطلقة بإذن الله؟ A قال زوج لزوجته: أنتِ مطلقة بإذن الله، الظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم أن في مثل هذا (لمز) ، فيسأل عن نيته. ومعنى قوله: مطلقة بإذن الله. أي: سأطلقكِ بإذن الله، أو مآلك إلى أن تكوني مطلقة بإذن الله.

حكم الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم

حكم الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم Q هل يفدي الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم إذا أفطر؟ A إن جئت إلى الأدلة: قال الله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] من هم الذين يطيقونه؟ أهل العلم لهم فيها قولان: الجمهور قالوا: الذين يطيقونه. أي: يتحملون صومه، فالآية معناها: وعلى الذين يتحملون الصوم ويستطيعون الصوم إذا أرادوا أن يفطروا أفطروا وأطعموا عن كل يوم مسكيناً {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] قالوا: على هذا التأويل جاءت الآية لكنها نسخت بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] . ابن عباس قال: الآية ليست منسوخة، إنما المعنى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: يتحملون صومه وهو شاق عليهم، فإذا أرادوا أن يفطروا فإنهم يطعمون عن كل يوم مسكيناً، لكن هذا تأويل مخالف لتأويل الجمهور، ثم يعرض عليه أيضاً أن الشيخ الكبير لا يستطيع صومه أصلاً لا بمشقة ولا بغير مشقة. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها شيء فيما علمت في أمر الشيخ الكبير أصلاً، فالآثار عن الصحابة فيها أثر عن أنس بن مالك (أنه لما كبر كان يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكيناً) وهذا الوارد الصريح في الباب، لكن قال بعض أهل العلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) فكيف تلزمون الشخص بشيء في ماله إن لم يلزمه به الله ورسوله، فالرجل مخاطب بالصوم، ولكنه ما استطاع الصوم، والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) وهذا لم يستطع الصوم ولا القضاء في عدة من أيام أخر، والآية ليست صريحة، إنما الجمهور قالوا فيها ما تقدم إذا كان فعل الصحابي أنس بن مالك فإن شئت أن تختر فعله لنفسك فاختر فعله لنفسك، لكن لا تلزم به غيرك من المسلمين. هذا الحاصل في هذا الباب، فإن أراد الشخص أن يفعل بفعل أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ويفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان شيخاً كبيراً فعل، وإلا فلا فليس هناك دليل صريح ملزم أصلاً. ويلحق بهذا: المريض مرضاً مزمناً فهو لا يستطيع الصوم ولا القضاء مطلقاً، فهذا لا نستطيع أن نلزمه بشيء، قال الله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] قال المريض: أنا أصبر إلى أن تأتي أيام أخر، ولكن مرضي لا يرجى برؤه مطلقاً، فلا دليل على إلزامه بالإطعام فيما علمت لا من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم أخذ المال ممن يعمل في بنك ربوي أو الأكل من طعامه

حكم أخذ المال ممن يعمل في بنك ربوي أو الأكل من طعامه Q ما حكم ما يقدمه لي رجل عندما أزوره أو يعطيني على سبيل الهدية إذا كان هذا الرجل يعمل في بنك ربوي؟ A الرسول عليه الصلاة والسلام دعته امرأة يهودي إلى شاة مسمومة فأكل منها عليه الصلاة والسلام، فإذا كنت تذهب بنية نصحه وإرشاده، أو تأليف قلبه لعمل خير جاز لك، لأن نصحه مطلوب منك، فاليهودية لما دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -واليهود أموالهم مشتبهة- أكل عندها ولم يستفسر، فبالنسبة للرجل الذي يعمل في البنك فعلمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وكاتبه وموكله وشاهديه) لكن هل المال الذي أخذه مقابل عمل أداه حرام؟ هذه المسألة شائكة بعض الشيء بين العلماء، فالربا نفسه محرم وكاتبه ارتكب جرماً وإثماً، لكن هل الأجرة التي ويحصل عليها حرام قولاً واحداً، والمفروض أن يحرقه؟ أو أن أخذ المال مقابل الكتابة والأجر صحيح. الأحوط للشخص أن يترك ذلك قولاً واحداً، وآكل الربا وكاتبه ملعون، لكن بالنسبة لك إذا ذهبت إليه فالظاهر -والله أعلم- أنه إذا دعت الضرورة إلى ذلك جاز لك أن تشرب عنده الشاي، وأن تأكل عنده اللقمة، وهذا اجتهاد مني إن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وإن أصبت فمن الله.

صحة أثر عمل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عند يهودي أجيرا

صحة أثر عمل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عند يهودي أجيراً Q ما صحة الأثر المتداول بين الناس بأن علياً كان يعمل عند يهودي؟ الشيخ: هذا الأثر المتداول: أن علياً كان يعمل عند يهودي وكان يستخرج له دلواً ويعطيه تمرة مقابل الدلو، لم أقف له على سند، لأن كثيراً من الآثار تحتاج إلى النظر في أسانيدها، فالمسألة التي ذكرت مسألة تحتاج إلى مزيد تحقيق وتدقيق.

مسألة مشاركة الجني للإنسي في الطعام وغيره

مسألة مشاركة الجني للإنسي في الطعام وغيره Q إذا أصيب الإنسان بمس من الجن، فهل الجن يشترك معه في كل شيء حتى الطعام؟ A لا أعلم في هذا شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اختلاف العلماء في دوران الأرض

اختلاف العلماء في دوران الأرض Q {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] هل في هذا دليل على أن الأرض ساكنة لا تتحرك؟ A ليس صريحاً، في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] في هذه الآية مبحث دقيق حيث أن (الواو) في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:88] هل هي: واو الابتداء أو واو العطف؟ الآية التي قبلها تتحدث عن يوم القيامة: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى} [النمل:87-88] هل الواو هنا عاطفة؟ يعني: وترى يوم القيامة الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، أو هي بدائية، وترى الآن الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب؟ من العلماء من يقول: إن هذا يوم القيامة ويستأنس بقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20] فإن قال قائل: يوم القيامة ترى الجبال تحسبها جامدة. أي: يوم القيامة أنت إذا نظرت إلى الجبال تراها جامدة أمامك بنص الآية الكريمة، لكن رب العزة قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:9] فيراها الرائي وهي كالعهن، فالخلاف اللغوي في تحديد الواو في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:88] هل هي واو العطف وأن ذلك يوم القيامة أم هي واو الابتداء ويكون عليه التفريع الوارد في هل الأرض ثابتة أو متحركة؟! كما تقدم. فمثلاً: في قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد:35] الواو في قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد:35] هل هي واو ابتداء أو واو الحال؟ يعني: لا تهنوا وتدعوا إلى السلم في حال كونكم أعلون، أو لا تهنوا وتدعوا إلى السلم مطلقاً وأنتم الأعلون مستقبلاً. فهنا (الواو) لا تستطيع أن تحزمها بمجرد العطف إلا إذا تدخلت سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك، ففي سنة الرسول أن الرسول إذا كان ضعيفاً طلب الصلح، ومطلب المصالحة عليه الصلاة والسلام، فلما حاصرته الأحزاب عرض على الأنصار أن يعطي الأحزاب ثلث ثمار المدينة على أن ينصرفوا عن النبي عليه الصلاة والسلام، وتصالح الرسول عليه الصلاة والسلام في عدة مرات مع الكفار، وخالد بن الوليد رضي الله عنه انحاز بالجيش يوم مؤتة، ورجع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالسنة تتدخل لضبط مثل هل الأشياء الدقيقة. فلذلك المفسر اللغوي أو البلاغي الذي ليس عنده رصيد من سنة رسول الله تجده يسبح مع العقل أو مع اللغة فيفسر بما تقتضيه اللغة وما يقتضيه العقل؛ فيحيد في كثير من الأحيان عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ودائماً حجج اللغويين تكون واهية، فقد يأتي بقياس ولكن يؤتى له بقياس أحسن من قياسه؛ فلذلك سنة الرسول تكون ضابطة للمسألة. هذا بالنسبة لمسألة: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] ، فالأدلة فيها من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام قليلة وشحيحة، وما تقدم هو رأي بعض أهل العلم، والجمهور على أن الآية: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] أن ذلك يوم القيامة، وبنوا تأويلهم للواو على ما سمعتموه. ومن أهل العلم من قال: لا يمنع أن تكون الواو واو الابتداء، والله سبحانه وتعالى أعلم.

انتقاد الصحيحين

انتقاد الصحيحين Q ماذا نقول لمن يضعف حديثاً في صحيحي البخاري ومسلم؟ A تقدم الكلام على ذلك: وهو أن صحيحا البخاري ومسلم قد تلقتهما الأمة بالقبول إلا أحاديث يسيرة جداً انتقدها الحفاظ كـ الدارقطني وغيره، وهي نسبة لا تتجاوز نصف الواحد في المائة، أي: أن تسعة وتسعين في المائة ونصف صحيح ونصف في المائة ضعيف، فإذا كان المنتقد قد أورد حديثاً من الأحاديث المنتقدة، وقال: العالم الفلاني تكلم فيه فله ذلك، لكن إذا تطاول وأدلى برأيه ولم يورد مستنداً بذلك فقوله مردود عليه.

معاملة أصحاب المعاصي

معاملة أصحاب المعاصي Q ظاهرة مشهورة بين من يعمل في مجال العلاج بالقرآن، وقد فتن أكثر من مرة وأخذ الناس يتحدثون عنه، فما هو العمل معه؟ A تعامل معه بما يستحق، أي: أن كل شخص له تعامل خاص به.

حكم زيارة أقارب الزوجة في مواسم معينة

حكم زيارة أقارب الزوجة في مواسم معينة Q ما الحكم فيما يسمى بالمواسم التي يأتي فيها أقارب الزوجة إلى بيت زوجها؟ وما حكم ما يأتون به من مال أو طعام؟ A الأولى ترك هذه المواسم وزيارة البنت في أي يوم، أما المواسم فلم ترد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أبداً، ولكن عموم التهادي وارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتزاور وارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. قالت عائشة رضي الله عنها: (قد كنا نمكث الشهرين أو الثلاثة في بيت رسول الله ولا توقد في بيوتنا نار، فقيل لها: ماذا كان يعيشكم يا أم المؤمنين؟ قالت: كان لنا جيران وكن نسوة ست وكانت لهم منائح يأتوننا بلبنها) . أو كما قالت رضي الله تعالى عنها. فالتهادي من الجيران أو من الأقارب مشروع ومسنون ومستحب، لكن المواسم والثالث والرابع وكل هذا لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركه أولى، لكن المال الذي يأتون به حلال.

تفسير سورة النساء [35-42]

تفسير سورة النساء [35-42] حرص الإسلام على أن يحفظ كيان الأسرة بكل السبل، وإذا حدث بين الزوجين شجار فقد شرع الصلح، حتى تسير الأسرة إلى بر الأمان. وقد أوصى الله كل الأمم بوصايا فيها النجاة والسلامة إن هم أخذوا بها، وأولى هذه الوصايا توحيد الله تبارك وتعالى، والإحسان إلى الوالدين إلى آخر تلك الوصايا المهمة، فينبغي علينا ونحن خير الأمم أن يكون لنا القدح المعلى والنصيب الأوفر من الأخذ بها.

الإصلاح بين الزوجين في القرآن

الإصلاح بين الزوجين في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: يقول الله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35] . قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} ، أي: بين الزوجين. {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} ، فإذا رأى الحكمان أن يفرقا بينهما فرقا، حتى وإن أبى الزوج وإن أبت الزوجة ما اختاره الحكمان المرسلان من قبل القاضي من أن يفرقا بين الزوجين، أو أن يوفقا بينهما ألزما به، وقد أرسل أمير المؤمنين عثمان معاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن عباس للإصلاح بين زوجين من قريش أحدهما من أقارب معاوية والآخر من أقارب ابن عباس، ففي طريقهما إلى البيت قال ابن عباس: (لأفرقن بينهما) ، وكان الرجل من أولاد عقيل بن أبي طالب، وكانت المرأة بنت شيبة بن ربيعة، فكانت تفتخر على زوجها أحياناً وتقول مفتخرة بآبائها: (أين الطوال الذين رقابهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل أفواههم؟) يعني: تصف أهلها بالشهامة والجمال، فيقول لها ابن أبي طالب: (هما عن يسارك في النار) ، فأرسل إليهما عثمان معاوية وابن عباس بعد أن اشتد الخلاف بينهما، فقال ابن عباس: (لأفرقن بينهما) فقال معاوية: (ما كنت لأفرق بين شيخين من قريش) ، ففي طريقهما إليهما تصالح الزوج والزوجة وأغلقا الأبواب في وجه عبد الله بن عباس ومعاوية واصطلحا فيما بينهما. الشاهد: أن الحكمان لهما أن يفرقا ولهما أن يجمعا إن اتفقا على رأي، ويلزمهما أن يصلحا نياتهما، فالله يقول: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] فقوله: (إن يريدا) ترجع إلى من؟ قال بعض العلماء: ترجع إلى الحكمين. ومن أهل العلم من قال: ترجع إلى الزوجين، وليس هناك قرينة قوية توضح من المراد، ولقائل أن يقول: إنها تعم، فإذا أراد الزوج والزوجة الإصلاح وفق الله بينهما، وإن أراد الحكمان الإصلاح أكرمهما الله بأن يصلحا ذات بين الزوجين. والله تعالى أعلم. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيراً} [النساء:35] . عليماً بنيات الحكمين الذاهبين إلى الإصلاح، خبيراً بشئونهما.

وصايا الله للأمم الأولين والآخرين

وصايا الله للأمم الأولين والآخرين جاءت آيات محكمة من آيات الكتاب العزيز لم يتطرق إليها النسخ، ومعناها كما قال كثير من أهل العلم: ثابت في كل الشرائع التي تقدمتنا، وهي آية أطلق عليها بعض أهل العلم: آية الوصايا العشر.

الوصية العاشرة: حقوق ملك اليمين

الوصية العاشرة: حقوق ملك اليمين قال الله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] وهم الرقيق، وقد أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحظة وفاته، فيقول في ساعة وفاته: (الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا ولي خادم أحدكم إصلاح طعامه فليناوله اللقمة واللقمتين) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديدكم؛ فمن كان أخوه تحت يديه؛ فلا يكلفه ما لا يطيق، فإذا كلفه فليعينه -وفي رواية- فليلبسه مما يلبس ويطعمه إذا طعم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36] ، مفتخراً على الناس بما يوليهم ويعطيهم ويسدي إليهم، مختالاً في نفسه فخوراً على غيره.

الوصية التاسعة: حق ابن السبيل

الوصية التاسعة: حق ابن السبيل {وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء:36] فابن السبيل له حق، مثلاً: قد يقابلك رجل سمته حسن، ولكن يقول لك: انقطعت بي السبل، وليس معي من المال ما يوصلني إلى بلدي، فليس من مهمتك أن تفتش، وتقول: هات بطاقتك الشخصية، وتجري معه تحقيقاً حتى تعطيه المال، فلابن السبيل حق ثابت في كتاب الله وفي سنة رسول الله، بل هو من مصارف زكوات الأموال.

الوصية السابعة: حق الجار الجنب

الوصية السابعة: حق الجار الجنب قال الله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] ولم يقل: الجار الجنب المسلم، ولا الجار ذي القربى المسلم، فالنص عام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن -أقسم ثلاثة أيمان بالله أنه لم يؤمن- قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه) ولم يذكر الجار المسلم أو غير المسلم، والله لا يؤمن ثلاث مرات يقسمها رسول الله على (الذي لا يأمن جاره بوائقه) ، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزنا وشنع على فاعله، ولما جاء إلى الزنا بحليلة الجار كان التشنيع أعظم، فذكره في عظائم الكبائر، قال: (أن تزني بحليلة جارك) مع أن كل الزنا حرام، لكن لأنك انتهكت حرمتين: حرمة الفرج المحرم، وحرمة الجار فكان التغليظ أشد. قال الله سبحانه وتعالى: ((وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)) [النساء:36] قال بعض العلماء: الجار الجنب هو الجار الذي لا تربطك به قرابة.

الوصية الثامنة: حق الصاحب بالجنب

الوصية الثامنة: حق الصاحب بالجنب قال الله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36] قال كثير من أهل العلم: إنه الرفيق في السفر، فالرفيق في السفر له حق عليك، وقد ذكر العلماء مروءات الصحبة في السفر، فقالوا: من مروءات السفر: بذل الزاد للإخوان. يعني: إذا سافرت مع شخص فإن كرمك ومروءتك تظهر إذا كنت تطعم هؤلاء الإخوان الذين معك في السفر، وقلة الخلاف معهم؛ فإذا كنت مسافراً فلا تكثر الخلاف على إخوانك الذين تسافر معهم، وكثرة المزاح في غير مساخط الله سبحانه وتعالى، فذكر أهل العلم: أن من مروءات السفر هذه الأشياء الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب، فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله) وفي رواية: (فإنه أعظم لأجره) وقد كان أنجشة العبد الحبشي يحدو ويغني لإبل رسول الله في أثناء السفر حتى كانت الإبل تسرع إسراعاً شديداً، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك يا أنجشة! رفقاً بالقوارير) ، فمن مروءات السفر: كثرة المزاح في غير مساخط الله، وقلة الخلاف، وبذل الزاد للإخوان. ومن مروءات الحضر: كثرة اتخاذ الإخوان الصالحين، وعمارة المساجد، يعني: كثرة المكث في المساجد وكثرة ذكر الله عز وجل. لقد أوصى الله بالصاحب في السفر في قوله: ((وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)) .

الوصية الخامسة: الإحسان إلى المساكين

الوصية الخامسة: الإحسان إلى المساكين قال الله: {وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36] قد يطلق على الرجل مسكين وهو يمتلك أشياء، فقد يكون للرجل سيارة أجرة يتكسب عليه وهو مع ذلك في عداد المساكين إذا كان دخل التكسي لا يكفيه هو وأسرته. ودليل ذلك من الكتاب والسنة: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] الشاهد: أنهم مع كونهم يمتلكون سفينة إلا أنهم أطلق عليهم أنهم مساكين، وكذلك قد يكون لشخص فلاح قطعة من الأرض تقوم بمائة ألف، ومع ذلك هو مسكين؛ لأن دخل الأرض لا يكفي القيام على أسرة مكونة من عشرة أو ثمانية أفراد، فيدخل في عداد المساكين الذين تحل لهم زكوات الأموال.

الوصية السادسة: حق الجار ذي القربى

الوصية السادسة: حق الجار ذي القربى قال الله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] والجار أيضاً له حق، (والجار ذي القربى) يعني: الجار الذي تربطك به قرابة، ويربطك به دين وتربطك به جيرة، وكم حد الجيرة؟ من أهل العلم من يقول: إن الجار إلى أربعين باباً، والحديث بهذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة أن الجيرة أمر نسبي، فأنت مثلاً هنا في المنصورة تقول على الذين هم في شارعك جيران، إذا خرجت إلى القاهرة وسئلت: من أين أنت؟ تقول: أنا من المنصورة، وإذا رأيت شخصاً من المنصورة تقول: هو جاري، وإن كان بينك وبينه مسافات طويلة، إذا كنت في البرازيل أو استراليا وعرفت شخصاً من مصر أو من الشرق الأوسط قلت له: نحن من بلاد واحدة، فالأمر في الجيرة أمر نسبي، ورب العزة يقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60] فأطلقت الجيرة هنا على كل أهل المدينة. وقد جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على إكرام الجار، والنصوص التي أتت في الحث على إكرام الجار لم تقيده بالجار المسلم، فعلى ذلك إذا كان جارك يهودياً أو نصرانياً يلزمك الإحسان إليه كذلك، مادام ليس محارباً لك، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] .

الوصية الرابعة: الإحسان إلى الأيتام

الوصية الرابعة: الإحسان إلى الأيتام قال الله: {وَالْيَتَامَى} [النساء:36] فاليتيم له حق، وحقه الإكرام، كما قال تعالى ناقماً على قوم: {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر:17] ، وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] واليتيم: من مات أبوه، أما من ماتت أمه فلا يطلق اليتم عليه اصطلاحاً، إنما اليتيم: من مات أبوه ولم يبلغ الحلم، فإذا كان قد بلغ الحلم أو أنزل فلا يعد يتيماً. وكذلك الإحسان إلى اليتامى ليست من وصايا الإمام حسن البنا رحمه الله، وهذا ليس انتقاصاً أبداً، إنما هو بيان كيف تؤخذ الأمور، والبشر تفوتهم أشياء، ولكن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، فأحياناً العالم يقول كلمة تكون مناسبة وموائمة في زمانه ولكنها لا تصلح للزمان الذي بعده؛ فالإمام أحمد مثلاً كان يقول في أهل البدع: (بيننا وبينهم الجنائز) أي: إذا متنا نحن وماتوا هم فانظروا كم سيحضر جنائزنا وكم سيحضر جنائزهم؟ هذه المقالة كانت موفقة في زمن الإمام أحمد فالناس كانوا يحبون السنة، أما لما مات جمال بن عبد الناصر كم حضر جنازته؟ ملايين من البشر ومنهجه سني، ولكن انظر إلى الخميني لما مات وهو شيعي رافضي كم حضر جنازته؟ فالعبرة دائماً بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه.

الوصية الثالثة: حقوق ذوي القربى

الوصية الثالثة: حقوق ذوي القربى قال الله: {وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] فالأقارب أيضاً لهم حقوق كما أن الأبوان لهم حقوق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنما أوليائي المتقون؛ إلا أن لهم رحماً سأبلها ببلالها) أي: أصلها بصلتها، ومعنى هذا الحديث: أن لهؤلاء الناس الذين ذكروا رحم سأبلها ببلالها، ومعنى سأبلها ببلالها كما قاله الشراح: أن الرحم كجلد الشاة اليابس، فجلد الشاة بعد أن تذبح يكون يابساً وإذا بل بالماء لان في يدك، فكذلك الأقارب إذا لم يبلوا ويوصلوا أصبحوا عسرين في يدك، فإذا جئت تعرض عليهم رأياً لم يقبلوا لك رأياً، لكن إذا وصلتهم بالهدايا والكلمات الطيبة لانوا في يديك وأصبحت تحركهم كيفما شئت، تخيل أن لك قريب تهدي له وتصله وإذا مرض عدته، تخيل كيف يكون في يديك إذا أمرته بأمر؟ سيكون ليناً مطيعاً. أما من لا تصله ولا توده ولا تهدي إليه، تخيل أنك ذهبت تطلب منه شيئاً أو تأمره بأمر؟ فيكون شاقاً عليك وصلباً في يديك. وينتبه أيضاً أن لذي القربى حق وإن كان مشركاً كافراً بالله، فقد جاءت أسماء إلى رسول الله وقالت: (يا نبي الله: إن أمي أتتني وهي راغبة -أي: وهي مشركة- أفأصل أمي يا رسول الله؟ قال: نعم صلي أمك) فللأقارب حق وإن كانوا أهل شرك، فرب العزة يقول: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] ، فدل ذلك على أن القريب له حق، وهذا الحق ما تعارف عليه الناس وما تعارف عليه علماء المسلمين في عهد الرسول ومن بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

الوصية الثانية: الإحسان إلى الوالدين

الوصية الثانية: الإحسان إلى الوالدين قال الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] ، أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً، وتقدم أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين يأتي في كثير من الآيات والأحاديث عقب الأمر بعبادة الله، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] ، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:151] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أي الأعمال أحب إلى الله يا رسول الله؟ قال: الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين) . فالأمر بالإحسان إلى الوالدين تظافرت عليه نصوص الكتاب والسنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لما صعد إلى المنبر: (رغم أنف امرئ، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: رجل أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة) ، ولا يخفى عليكم أن عيسى عليه الصلاة والسلام من أول الكلمات التي تكلم بها في المهد أن قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:32] بعد قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:30-32] ، وقال سبحانه في شأن يحيى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14] ، ولا يخفى عليكم أن أحد الثلاثة الذين انسدت عليهم الصخرة في الغار وتوسل كل واحد منهم إلى الله بصالح عمله فقال أحدهم: (اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت أذهب وأحلب لهما غبوقهما، وإنه نأى بي المرعى يوماً فرجعت إليهما وقد ناما والحلاب في يدي -القدر الذي به اللبن- فكرهت أن أوقظهما والصبية يتضاغون عند قدمي من الجوع -يعني: الصبية يتلوون من الجوع عند رجله وهو لا يريد أن يوقظ أبويه ويزعجهما من النوم ويكره أن يسقي الأولاد قبلهما فبقي كذلك طول الليل حتى طلع الفجر- اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه) ففرج الله سبحانه وتعالى عنهم بعض ما هم فيه. ولا يخفى عليكم أيضاً أن أم جريج استجيبت دعوتها على ولدها إذ نادته وهو يصلي فلم يجبها وما منعه من إجابتها إلا الصلاة؛ إذ نادته فقالت: يا جريج! فقال: يا رب أمي وصلاتي، ثم أتته في اليوم الثاني والثالث وقالت: يا جريج! قال: يا رب أمي وصلاتي، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات -أي: الزواني عياذاً بالله- فما مات حتى جاءته امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل، اتفق معها بنو إسرائيل على أن تفتن جريجاً، فقالت لهم: إن شئتم فتنت جريجاً، قالوا لها: افعلي، فذهبت تطلب منه الزنا فأبى، فذهبت إلى راع فمكنته من نفسها فزنى بها وحملت وولدت، وجاءت قومها بالولد، فقالوا لها: ممن هذا؟ قالت: من جريج، فأتوا إلى صومعته وأهانوه وضربوه ودمروا صومعته، فاستجيبت دعوة أمه إلا أن الله أكرمه ونجّاه؛ لأنه كان في صلاة، فقال: أين الغلام؟ فأتي به، فقال: يا بابوس! من أبوك؟ قال: أبي هو الراعي، فأكرموه وبنوا له صومعته، وقالوا: إن شئت أن نبنيها من ذهب بنيناها، فقال: لا، ولكن من طين كما كانت. الشاهد: أن دعوة أمه استجيبت؛ لذا جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في هذه الآية، وفي قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] ، فإذا كان هناك رجل يؤذي والديه: يضربهما أو يسبهما، فهو أخطر وأجرم من رجل يسرق أموال الناس، فالعاق أشد جرماً من هذا السارق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور) . فالذي يؤذي والديه أشد إثماً وجرماً من اللص الذي جلس يقطع الطريق ويسرق الناس، وليس معنى هذا تسهيل السرقة ولكن بيان جرم العقوق. أضف إلى ما سبق أن العلماء بوبوا بباب: إذا طلب الأب من ولده أن يطلق زوجته هل يطلقها؟ في المسألة تفصيل: ففي قصة عمر قال عبد الله بن عمر: (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيت فذهب إلى رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها، فطلقتها) وجاء الخليل إبراهيم إلى زوجة ابنه إسماعيل فلما رأى منها عدم شكر نعم الله عليها، ورأى منها تسخطاً، قال لها: إذا جاء إسماعيل فأخبريه أن شيخاً كبيراً جاء إليه وهو يقرؤه السلام، ويقول له: غير عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل وأخبرته، قال: هذا الشيخ أبي، وأنت عتبة الباب، وأنت طالق، الحقي بأهلك. فأخذ منها بعض الفقهاء: أن الأب إذا أمر ولده بتطليق زوجته فطلقها، لكن محل ذلك إذا كان الأب صالحاً، والباعث له على التطليق أمر شرعي، أما إذا كان الأب فاجراً أو فاسقاً ويأمر بطلاق المرأة لدينها؛ فرب العزة يقول: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، وكذلك الأم؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها لما سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، فكذلك الحكم بالنسبة للأم. قال الله جل ذكره: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [النساء:36] فهذه وصايا، ولأن البشر يخطئون ويصيبون لم نجد في الوصايا العشر للإمام حسن البنا الأمر بالإحسان إلى الوالدين مثلاً، فدل ذلك على أنه لا تعتمد إلا وصايا ربنا ووصايا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن شاء أن يوصي فليوص، لكن لا تكون وصاياه شرعاً متبعاً عاماً لكل الناس يتعبد بها ويتغنى بها في التمثيليات والمسرحيات والمجالس والملاهي؛ فكل بشر يخطئ ويصيب. وقد أراد الخليفة العباسي رحمه الله أن يجمع الناس على موطأ الإمام مالك، ويلزمهم بذلك، من هو الإمام مالك؟ مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، لكن من شدة إنصاف الإمام مالك وحرصه قال: يا أمير المؤمنين! إن الناس قد جمعوا أشياء لم نقف عليها، ووقفوا على أمور لم نقف عليها، فدع الناس ولا تلزمهم باتباع الموطأ ولا غير الموطأ. وكانت كلمة موفقة منه رحمه الله تعالى.

الوصية الأولى: عبادة الله وحده لا شريك له

الوصية الأولى: عبادة الله وحده لا شريك له قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] ، وفي سورة الأنعام قال الله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] ، هذه هي الوصايا العشر لا وصايا الإمام حسن البنا رحمه الله، فـ حسن البنا وصاياه ليست شرعاً يتدين به، فهو يصيب ويخطئ، ويجهل ويعلم رحمه الله تعالى. وحسبنا كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن كانت ثمّ وصايا لبعض البشر فلتكن وصايا أصحاب رسول الله قبل وصايا الإمام حسن البنا، ولتكن وصايا التابعين وهم خير القرون بعد الصحابة خير من وصايا حسن البنا رحمه الله، ولتكن وصايا الأئمة كـ الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله قبل وصايا الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى، وليس في هذا انتقاص له ولكنه تنزيل للأمور منازلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن هذه الوصايا التي ذكرت عن الإمام حسن البنا رحمه الله ليست وصايا في مسائل نازلة، إنما هي مسائل قديمة، مثلاً: من الوصايا في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) ، لكن هل هذه الوصية تعد من أصول الدين أم أن هناك أشياء أخرى أولى منها وقبلها؟ لا شك أن هناك أمور أخرى أولى منها وقبلها، وهي المذكورة في هذه الآيات. فالشاهد: أننا لا نتدين بوصايا إلا وصايا رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، وكتاب ربنا بين أيدينا هو حسبنا مع سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإن كان ولابد من وصايا فوصايا الأئمة المهديين خير القرون أولى من غيرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. فأول وصية من هذه الوصايا العشر: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] هذه أصل الوصايا وأصل الدين، بل أصل الأديان كلها منذ أن خلق الله آدم إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال الله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فهذه أولى الوصايا، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ بن جبل عالم الصحابة بالحلال والحرام، قال: (يا معاذ! هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم) فمن ثم كان الأمر بعبادة الله أصل الوصايا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فهذا أصل الدين. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في جملة أحاديث أن من عمل عملاً أشرك فيه أحداً مع الله تركه وشركه، قال الله سبحانه في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فهل المراد بقوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الرياء، أو نفي الشريك مطلقاً سواء كان الرياء أو عبادة آلهة آخرى مع الله؟ الآية عامة، فتنفي الشركاء لله وتنفي أيضاً التوجه بالأعمال إلى غير الله سبحانه وتعالى، فيدخل فيها الرياء كما يدخل فيها عبادة آلهة مع الله، والرياء لا يكاد ينجو منه شخص؛ فمن ذلك: ما روي عن أبي عبد الله المروزي وسأله سائل: متى دخلت البصرة يا أبا عبد الله؟ قال: دخلتها منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فقال له القائل: سألتك عن مسألة واحدة وأنت أجبتني عن مسألتين، فلماذا أجبت عن مسألة لم أسألك عنها؟ فكأنه أشار إليه أن ما ذكرته أنت يا أبا عبد الله حين قلت: وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فيه نوع من العجب والرياء والتكاثر. والله سبحانه وتعالى أعلم. كما تقول لقائل: صلاتك حسنة، فيقول لك: وأنا مع ذلك صائم والحمد لله، نعم أنت صائم ولكن لله، وأنا ما سألتك عن الصيام! وكما يحدث أيضاً لأهل العلم عندما يلقي محاضرة أو خطبة جمعة وتكون جيدة موفقة فيقول: ومع ذلك لم أحضر الخطبة، فتقول: ما سألناك عن تحضيرك للخطبة أو عدم تحضيرك! فاجعل نيتك لله سبحانه وتعالى، وهذه دقائق أمور ينبغي أن يلتفت إليها العاملون لله سبحانه وتعالى حتى لا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، ويستشف هذا من نور الله بصيرته وزين قلبه بزينة الإيمان.

ذم البخل في الكتاب والسنة

ذم البخل في الكتاب والسنة قال الله: {الَّذِينَ يَبْخَلُون} [النساء:37] البخل أنواع: النوع الأول: بخل بالزكوات المفروضة؛ فالذي يبخل بالزكاة المفروضة عليه في ماله يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً ولم يؤد زكاته؛ مثّل له يوم القيامة شجاع أقرع يتبعه وهو يفر منه فيلتفت إليه فإذا هو يتبعه، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا كنزك أنا مالك، وهو يفر منه ولا يستطيع الفرار، ثم يمد يده إليه فيقضمها كما يقضم الفحل) يعني: ثعبان عظيم يتبع مانع الزكاة، ويجري خلفه ويلاحقه ويطارده، وهو يقول: من أنت؟ فيقول: أنا مالك أنا كنزك، حتى يعطيه يده فيقضمها كما يقضمها الفحل، عياذاً بالله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته صفحت له صفائح من نار فيكوى بها وجهه وجبينه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ما من صاحب إبل لم يؤد زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر؛ فتطؤه بأخفافها وقرونها وأظلافها، فإذا مرت عليه أولاها مر أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) ، هذا بالنسبة للبخل بالزكاة المفروضة. النوع الثاني: البخل بالصدقات؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم تطلع عليه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) ، يعني: يدعو على الممسك بأن يتلف الله عز وجل أمواله. وهناك صور أخرى للبخل: كالبخل بالسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبخل الناس من بخل بالسلام) لأن السلام لن يكلفك شيئاً. ومنه: البخل بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي) وجاء بنوا عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من سيدكم يا بني عمرو؟ قالوا: الجد بن قيس على أننا نبخله يا رسول الله، قال: وأي داء أدوى من البخل، بل سيدكم فلان) ، ووصف لهم سيداً آخر ليس ببخيل. قال الله: ((الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ)) . أي: لا يقف بخلهم على أنفسهم بل {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] وقوله: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} : محتمل أنهم يكفرون بنعم الله عليهم، أو يخفون نعم الله عن الفقراء، كما تواطأ أصحاب الجنة الذين ذكروا في سورة القلم: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] ، فإظهار نعم الله يطلب أحياناً، فمثلاً: من حق الإبل أن تحلب في المكان الذي تشرب فيه الإبل الماء، ويعطى للفقير وللمسكين من لبنها.

إنفاق الأموال في مصارف الخير

إنفاق الأموال في مصارف الخير قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:38] أي: طلباً لإظهار معروفهم أمام الناس. ما حكم إظهار المعروف الذي يصنعه الشخص أمام الناس؟ قد يكون ذلك الإظهار أحياناً رياءً محرماً، وقد يكون أحياناً سنة مستحبة، وقد يكون الإخفاء أحياناً أعظم أجراً وثواباً، وكل ذلك مترتب على النية والملابسات المحيطة بالصدقة، فإذا كنت تتصدق وتظهر صدقتك طلباً لنيل الثناء والحمد من الناس فهذا حرام، وإذا كنت تريد بإظهار صدقتك تشجيع الناس على الصدقة فهذا حسن، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما حث أصحابه على الصدقة وقام رجل وتصدق وتبعه الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ، وإذا لم يكن ثم هذا ولا ذاك، فالإخفاء أفضل، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271] . قال الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا) [النساء:38] صديقاً ومحاسباً، (فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38] فبئس القرين، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38] . {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:39] أي: ما يضرهم إذا آمنوا بالله واليوم الآخر، {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} [النساء:39] . {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] فهذه الآية خبر يقتضي الحث على فعل الخير، فالله يخبر أنه لا يظلم مثقال ذرة، والمراد من هذا الخبر: التشجيع على فعل الخير، فإذا كان الله لا يظلم مثقال ذرة فبادروا بالصدقات وفعل المعروف. {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] .

شهادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غيرها من الأمم

شهادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غيرها من الأمم قال الله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء:41] يشهد على هذه الأمة. {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] ، وعند هذه الآية بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تذكر أنه سيأتي شهيداً على أمته الذين يكذبونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن مسعود: (اقرأ علي القرآن، قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل يا رسول الله؟) وفيه دليل: على أن الفاضل قد يستمع من المفضول، (فقرأ ابن مسعود من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41-42] فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وذرفت عيناه، وقال لـ ابن مسعود: حسبك) ، وهنا أخذ بعض العلماء: أن توقيف القارئ يكون بقولنا له: حسبك، كما قال الرسول لـ ابن مسعود، أما إتباع كل قراءة بصدق الله العظيم فليس هذا بلازم، بل ليس بوارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن كان الله هو أصدق القائلين ولا يشك في ذلك إلا كافر، لكن اتباع الهدي خير للعبد وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى. قال الله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] ، فيشهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته شهادات خاصة أحياناً وشهادات عامة أحياناً أخرى، فالرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته ذهب إلى قتلى أحد فصلى عليهم كالمودع لهم وقال: (اللهم إني شهيد عليهم) . وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب فأسلم واتبعه، وجاهد معه، وأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم قسطاً من المغانم، فرد الرجل المغانم إلى رسول الله وقال: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذا قسمك ونصيبك من المغانم، قال: والله يا رسول الله ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أقاتل معك فيأتيني سهم فيدخل من هاهنا -وأشار إلى رقبته- ويخرج من هاهنا فأدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يصدق الله يصدقه، فخرج إلى القتال فأصيب بسهم في الموضع الذي أشار إليه بإصبعه وخرج من الجانب الذي أشار إليه، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدق الله فصدقه الله سبحانه وتعالى، ثم دفنه وقال: هذا عبدك خرج مجاهداً في سبيلك، اللهم إني شهيد عليه) . وكما أن هناك شهادات خاصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه، فهناك شهادات منه عليه الصلاة والسلام لعموم أمته، فيشهد لعموم الأمة بأنهم شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيأتونه غراً محجلين من آثار الوضوء، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام لعمه أبي طالب: (يا عمي! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله) وفي رواية: (أشهد لك بها عند الله عز وجل) فلم يقل هذا أبو طالب ومات على الكفر بعد أن قال: هو على ملة عبد المطلب، فالرسول يكون شهيداً على أمته، وكل نبي يشهد على أمته، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تصدق النبيين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله سبحانه وتعالى لنوح يوم القيامة: يانوح! هل بلغت؟ يقول: نعم يارب، فيقول الله لقومه: هل جاءكم من ندير؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول لنوح: من يشهد لك يا نوح؟ فيقول: محمد وأمته، فتقوم أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد لنوح بأنه قد بلغ قومه) تصديقاً لكتاب الله وتصديقاً لما أخبر نبي الله، وفي هذا يقول تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] . ثم قال الله تعالى يصف عصاة الرسل عليهم الصلاة والسلام: ((يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)) [النساء:42] .

الأسئلة

الأسئلة

الشجرة التي أكل منها آدم

الشجرة التي أكل منها آدم Q قال لي دكتور في الكلية وهو يشرح الدرس: بأن الشجرة التي أكل منها آدم والتي خرج بسببها من الجنة هي شجرة القمح، فهل هذا صحيح؟! A ليس هناك دليل على أنها شجرة القمح ولا شجرة التين ولا غيرها من الأشجار، والاقتصار على الوارد في كتاب الله وسنة رسول الله أولى، ويطالب كل من تكلم بقول بأن يأتي بمستنده من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يأت بمستند وإن كان دكتوراً أو شيخاً عالماً واعظاً؛ فكلامه مردود بالكتاب والسنة. والله أعلم.

جواز المطالبة بالإرث ولو بالمحاكم

جواز المطالبة بالإرث ولو بالمحاكم Q رجل قبل أن يموت قام بتقسيم تركته، فكان نصيب الرجل ثمانية قيراط، والبنت أربعة قيراط، والزوجة أم الأولاد أربعة قيراط، فأحد الورثة ضم حق الوالدة ضمن أرضه واستحوذ على ميراث الأم، وعند مطالبتنا له أنكر وقال: هي أكلت بهن، رغم أنها عاشت مع أحد أبنائها ولم تقم عند هذا الشخص الذي ضم نصيب أمه إلى أرضه، فلو رفعنا عليه قضية، فهل يعتبر هذا حراماً ومن قبيل قطع الرحم؟ A لا. ليس بحرام بل هو ظالم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً يارسول الله؟ قال: تمنعه من الظلم) فإن كنت مستغن أنت فسائر إخوانك لا يستغنون عن حقهم، فلا شيء فيها إذا طالبت بحقك ولو بشيء من القوة. والله أعلم.

موقف المحدثين من الواقدي

موقف المحدثين من الواقدي Q الواقدي متهم بالكذب، ويروي في السيرة والتاريخ؛ فهل يقبل حديثه؟ A لا نقبل للواقدي حديثاً، فـ الواقدي رغم أنه حافظ إلا أنه كذاب، كما وصفه العلماء. نعم هو مكثر من الحفظ لكنه يكذب في الحديث، وإذا كان يكذب في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام فكيف نقبل أخباره في السيرة والتاريخ؟! وللأسف أن الذين يكتبون في السيرة والتاريخ أغلب مادتهم من الواقدي؛ لأن ابن سعد في كتابه: الطبقات أخذ جل كتاب الطبقات من الواقدي، والواقدي كذاب كما سمعتم، فإذا قلت لهم: إن الواقدي كذاب، ضيقت عليهم المادة التي يتحدثون بها، فضاقوا ذرعاً بكلامك ولم يلتفتوا وأصروا على باطلهم وقبلوا كلام الواقدي، فكما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (ما أحوج أهل السنة إلى قصاص صدوق) أي: أن الناس يحبون الوعاظ؛ لأنهم يتكلمون بكلام كثير ويا ليته نافع كلام كثير منهم مبني على أكاذيب، فإذا قوضت وقيدت عليهم ضاقوا ذرعاً بك، وقالوا: نحن نتساهل في أمر السيرة، وهذا لا يضر. وهذا كلام خطأ، فالرجل أحياناً بل في كثير من الأحيان ينسب إلى رسول الله ما لم يفعله؛ لأنه عندما يقول: سار رسول الله من مكان كذا إلى كذا، واتجه وقابل فلاناً وأقام صلحاً مع فلان كل هذه سيرة ويبنى عليها أحكام، فإذا كانت مبنية من طريق كذاب فلا تقبل ولا تروى ولا كرامة. هذا بالنسبة لكتب السيرة، وللأسف أن الناس يتلقونها هكذا ولا يمحصون ما فيها ثم تنشأ عنها بلايا، وأحياناً حتى بعض إخواننا من أهل السنة يقعون في شيء من هذا، لكن نلتمس لهم الأعذار، مثلاً: يوجد كتاب طبع ووزع بكميات كبيرة اسمه: "السيد البدوي دراسة نقدية" وهذا الكتاب أغلب مادته مأخوذة من كتاب أحمد صبحي منصور الرجل الذي سحبت منه الرسالة الآن، وأحمد صبحي منصور هذا هل نحن نشهد أنه صادق؟ لا نشهد له بالصدق أبداً؛ فإنه طعن في نافع مولى ابن عمر الذي يروي أصح الأحاديث عن عبد الله بن عمر، وطعن في سنة رسول الله حديثاً تلو حديث تلو حديث، ثم جاء أخونا عبد الله صابر وأخذ أغلب مادته من كتاب أحمد صبحي منصور. أما السيد البدوي المأثور عنه -وعلمه عند الله- أنه من الرافضة، والشرك الذي يرتكب عند قبره يجعل الشخص يهاجمه بكل ما يتسطيع أن يهاجم به شخصاً إذا كان يقر هذا الشرك. لكن كوننا نعتمد على كتاب لرجل غير موثق وغير ثقة؛ فأظن أن هذا لا يصلح ولا يجوز، فـ أحمد صبحي منصور نفسه أخذ أغلب مادة الكتاب منه، وكتبها عبد الله بن صابر، ولما كتبها عبد الله بن صابر بعض إخواننا لتحامله -وهو تحامل في محله- عليه رماه بالشرك، وهم حقيقة يشركون بالله، لكن مع كونهم يشركون بالله لا نقل إلا شيئاً موثقاً من مصدر صحيح ثابت. والله سبحانه وتعالى أعلم. فإذا أردت أن تأخذ السيرة الصحيحة فخذها من صحيح البخاري في كتاب: السير والمغازي فصحيح البخاري كله مسند، يقول البخاري: حدثني إسماعيل، حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كذا وكذا. فقد جمع المادة العلمية الصحيحة بالأسانيد الثابتة، وكذا في كتاب المغازي في صحيح مسلم، وهناك رسائل دكتوراه ألفت الآن في الغزوات، وتوجد رسالة دكتواره ألفت في غزوة تبوك جمعت المادة العلمية التي رويت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك، أثبتت الثابت منها وأبعدت الضعيف منها، ورسالة أخرى ألفت في غزوة بدر أثبتت الثابت عن رسول الله في غزوة بدر وأبعدت غير الثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. وتوجد مجهودات تبذل في الجامعات سواء كانت في الأزهر أو في الجامعة الإسلامية في المدينة أو في غيرها جمعت المادة العلمية الثابتة عن رسول الله فالتعويل عليها، أما أننا نأخذ الغث والسمين، والشيخ فلان يأتي يروي القصة ويزيد عليها نصفها أو ضعفها، والشيخ الآخر ينسجم مع القصة فيجلس يفسر وينسب تفسيره إلى رسول الله! فهذا يسبب أخطاء كبيرة، حتى إن بعض الناس يدرس كتاباً اسمه: "المنهج الحركي للسيرة النبوية" ولما يقول خرج الرسول من كذا إلى كذا ويبني عليها حكماً. إذاً: أسند هذا الكلام مادمت نسبته إلى رسول الله، فديننا مبني على هذا، ونحن لسنا مطالبين بالإكثار من الكلام بل مطالبين بإعطاء الناس مادة علمية صحيحة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمثلاً: الآن يصاغ في غزوة تبوك رسالة دكتوراه، وقد تستغرق ثلاث سنوات أو أربع، لو وجد متفرغ لدراسة مرويات غزوة تبوك وإثبات الثابت وإبعاد الضعيف، وغيرها من مغازي رسول الله: المريسيع وتبوك وبدر وأحد والخندق والفتح، عدة مغازي فيحتاج إلى صبغة أدبية بين كل هذا الترتيب الزمني فيحتاج إلى صبغة أدبية، فقد يكون لم يؤت تلك القدرة على الصياغة الأدبية فيحتاج إلى غيره يصيغ يسبك الأحداث بصيغة أدبية تشوق الناس لقراءتها. نسأل الله أن يوفقنا لما فيه خير للإسلام والمسلمين. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

تفسير سورة النساء [43-47]

تفسير سورة النساء [43-47] أمر الله المصلي بالطهارة من الحدث الأصغر والأكبر بالماء، فإن لم يجده فبالصعيد الطيب، وهذا من يسر الشريعة وسماحتها، وللعلماء خلاف في بعض التفصيلات لهذه الأحكام. وقد حذرنا الله من أعدائنا، وأخبرنا بأنهم يحبون أن يضلونا، وبين لنا كثيراً من صفاتهم حتى لا نقع فيما وقعوا فيه.

مراحل تحريم الخمر

مراحل تحريم الخمر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:43] . قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء:43] تقدم تفسيره بما حاصله: أن (يا) حرف نداء، و (أي) منادى، والهاء للتنبيه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أيضاً تقدم تفسيرها. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا} [النساء:43] كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ، نهي أبلغ من قوله: لا تزنوا، فهي مبالغة في النهي. {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ، هذه الآية جاءت بعدها آيات، تحريم الخمر وكان على مراحل: كان أولاً مباحاً كما قال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] ، وجاء بعد ذلك قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ، ثم قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] ثم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] . فجاء في شأن الخمر أربع آيات: ((وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا)) [النحل:67] في معرض الإباحة، {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] في معرض المنع الجزئي، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] إرهاص بين يدي تحريم الخمر، والإرهاصات بمعنى: المقدمات {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] تحريم قطعي. فجاء تحريم الخمر على أربع مراحل، وهذا التدريج في التشريع كان يتم في أمور: فهو من ناحية التخفيف ثم التشديد شيئاً فشيئاً أو العكس: الأخذ بالشدة ثم التسهيل شيئاً فشيئاً، فالتسهيل ثم التشديد شيئاً فشيئاً، والمنع والتحريم شيئاً فشيئاً مثل تحريم الخمر، ومثل الأوامر الواردة في الجهاد، أول الأمر أمر بكف الأيدي: {قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] فإذا ضربت فلا تنتصر، ثم بعد ذلك جاء الإذن في الانتصار من الظالم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] ، وبعد ذلك جاءت آية السيف: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] . ومثال العكس: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] أمر بإقامة الليل إلا القليل، ثم بعد ذلك جاء التخفيف: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ. } [المزمل:20] إلى قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] . ونحوه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] ، كان لزاماً على الشخص أن يصابر -أي: يجاهد- عشرة من الكفار، ثم جاء التخفيف: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] ، فأصبح الواحد ينازل اثنين فقط، وهكذا على حسب أحوال المسلمين وقدرات المسلمين وطاقاتهم يأتي الشرع الحنيف السهل.

خلاف المفسرين في المراد بالصلاة في هذه الآية

خلاف المفسرين في المراد بالصلاة في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] ، ما المراد بالصلاة؟ قال بعض أهل العلم: المراد بالصلاة مواطن الصلاة، وهذا كما قال الشاعر: وسبّحت المدينة لا تلمها رأت قمراً بسوقهم نهاراً سبحت المدينة أي: سبّح أهل المدينة. ونحوه من التنزيل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: اسأل أهل القرية، فعلى هذا قال بعض أهل العلم: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] أي: مواطن الصلاة، وهي: المساجد. وإن قال قائل: هل لذلك شاهد في التنزيل؟ قيل: إن شاهده قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج:40] الشاهد: (وصلوات) المعنى: لهدمت صلوات. أي: مواطن الصلوات، وقد نحا بعض المفسرين منحىً آخر فقالوا: المراد (بهدمت صلوات) : الصلوات نفسها، وهدمها عدم إقامتها، فقالوا: لأنا إذا قلنا: هدمت صلوات وهدمت مساجد؛ لكان تكراراً؛ لأن الآية فيها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج:40] فلا يقال: (لهدمت مساجد ومساجد) لأنه سيكون تكراراً لا معنى له. فالشاهد: أن من أهل العلم من قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] أي: لا تقربوا مواطن الصلاة. {وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ولماذا هذه الإطالة حول هذه الجزئية؟ لأن ثم حكم فقهي يترتب على تأويل قوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] . هل المراد الصلاة نفسها أو المراد المساجد؟ وذلك لأن الله قال: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] على التأويل الأول: لا أقرب الصلاة وأنا جنب، لكن إذا قلت: لا تقربوا الصلاة. أي: لا تقربوا المساجد، إذاً لا يقربها الجنب بلفظ هذه الآية: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] ، هنا خلاف فقهي في مسألة دخول الجنب المسجد على التأويل الثاني يستدل على المنع بهذه الآية، ويقال: إن الجنب لا يقرب المسجد؛ لأن الله قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا} [النساء:43] أي: لا تقربوها أيضاً وأنتم على جنابة، هذا إذا قلنا: المراد بالصلاة مواطن الصلاة، فيمنع الجنب من دخول المسجد لهذه الآية الكريمة، لكن لو قلنا: المراد بالصلاة على حقيقتها، فلا يستدل بالآية على منع الجنب من دخول المسجد، إلا أن الإمام أحمد روى بإسناده إلى عطاء أنه قال: (رأيت بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمكثون في المسجد وهم جنب إذا توضئوا) . وكذلك أهل الصفة كانوا يبيتون في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يؤمن أن يجنب أحدهم، ومع ذلك يستمر النائم على جنابته. لكن القول بالمنع أحوط، والنائم لا حرج عليه فإنه إذا استيقظ ورأى نفسه على جنابة، خرج واغتسل. هذا على تأويل: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] أي: مواطن الصلاة.

حكم دخول الحائض إلى المسجد

حكم دخول الحائض إلى المسجد مسألة أخرى: دخول الحائض المسجد، هل يستدل بالآية نفسها على منع دخول الحائض المسجد؟ قد يقول قائل: إن الجنب كالحائض فكما أنكم منعتم الجنب فامنعوا الحائض من دخول المسجد لهذه الآية، وهذا الرأي فيه نظر من وجوه: أولها: الآية فيها نزاع: هل المراد بالصلاة: مواطنها أو هي نفسها؟ ثانياً: في قياس الحائض على الجنب نزاع، لأن الجنب أمره بيده، من الممكن أن يذهب ويزيل هذه الجنابة بالاغتسال أو بالتيمم، أما الحائض فليست كذلك، بل لا بد أن تنتهي حيضتها. فإن قال قائل: ما العلة من منع الجنب من الاقتراب من المسجد؟ فنقول: حتى يبادر إلى الاغتسال والطهارة، وهذه العلة لا تتوافر في مسألة الحائض؛ لأن الحائض تسرع أو لا تسرع فليس لها من أمرها شيء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (إن حيضتك ليست في يدك) . ومسألة دخول الحائض المسجد فيها رأيان للعلماء: فالجمهور رأوا أن الحائض لا تدخل المسجد، ومن أهل العلم من رأى أن الحائض تدخل المسجد، فلما دب النزاع لزم البحث عن الدليل، فلما جئنا إلى الأدلة وجدناها ليست صريحة في الباب، فبقينا على البراءة الأصلية، وها هي أدلة القولين: أما القائلون بأن الحائض تمنع من دخول المسجد فمن أدلتهم ما يلي: أولاً: القياس على الجنب، وتأويل الصلاة بمواطن الصلاة في الآية. ثانياً: قول أم عطية كما في الصحيحين: (أمرنا أن نخرج الحيض والعواتق وذوات الخدور لصلاة العيد، فقلن: يا رسول الله! والحيض؟ قال: يعتزل الحيض المصلى) فقوله صلى الله عليه وسلم: (يعتزل الحيض المصلى) استدل به على أن الحائض لا تقرب المسجد، واعترض على هذا بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي العيد في الفضاء وليس في المسجد، فأريد بالمصلى الصلاة؛ لأنه لا يحرم على الحائض أرض الفضاء. ثالثاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ناوليني الخمرة -الخمرة: شيء يصلى عليه كالسجادة في زماننا- قالت: إني حائض يا رسول الله! قال: إن حيضتك ليست في يدك) قالوا: هي ستمد يدها، والحيضة إنما هي في الفرج وليست في اليد، فهذا فيه منع للحائض من دخول المسجد. والمعترضون استدلوا بالدليل نفسه على الجواز، فقالوا: إن معنى قوله: (إن حيضتك ليست في يدك) أي: إنما هي بيد الله فادخلي. رابعاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة لما حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ، قالوا: إن قوله: (ألّا تطوفي بالبيت) يعني: لا تقربي المسجد بصفة عامة، وقال الآخرون: بل المعنى: ادخلي ولكن لا تطوفي؛ لأن الطواف كالصلاة. هذه أوجه الاستدلال للعلماء في هذا الباب، وثم أوجه أخرى متكلم فيها. فالمسألة مسألة نزاع بين أهل العلم، فإن قال قائل: ليس معي دليل صريح صحيح في المنع، فله وجه قوي، والبراءة الأصلية تؤيده، أي: أن الأصل عدم المنع، والذي يمنع عليه أن يأتي بالدليل الصحيح الصريح، فإذا لم يوجد دليل صحيح صريح بقينا على البراءة الأصلية؛ ما دام تلويث المسجد قد أمن، فالمرأة تتحفظ ولا تجعل شيئاً منها يلوث المسجد، والله أعلم. قال الله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] (إلا) بمعنى: (لكن) مثل قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] أي: لكن الموتة التي قد ماتوها، فـ (إلا) تأتي بمعنى (لكن) : {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] أي: للمرور فقط، {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] . Q المؤمن يكون جنباً، وليس في المسجد شخص آخر ويريد المؤمن أن يؤذن؟ A سئل عطاء أو غيره من التابعين عن ذلك، فقال: الوضوء حق وسنة، لكن هل هو واجب؟ ويمتنع المؤذن بسببه؟ لا يمتنع بسببه، لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) ، لكن يكره له ذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري من حديث أبي جهيم الأنصاري: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) لكن لو دخل المؤذن المسجد وهو جنب، وليس في المسجد من يؤذن، فيجوز له أن يؤذن.

صفة الغسل من الجنابة

صفة الغسل من الجنابة قال الله: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] أي: حتى تغتسلوا من الجنابة. وصفة الغسل من الجنابة مختصراً: لا يضع المغتسل يده في الإناء مباشرة، بل يغسلها ثلاثاً قبل أن يغمسها في الإناء، ثم يأخذ ماءً فيغسل ذكره غسلاً جيداً، ثم يدلك يده في الأرض دلكاً شديداً أو ما يقوم مقام الأرض كالصابون ونحو ذلك، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ويؤخر رجليه إلى آخر الغسل، ثم يأخذ ثلاث حفنات من الماء فيخلل بها رأسه، ثم يبدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر، ثم يغسل سائر الجسد، ثم يتنحى ويغسل رجليه. هذه الصفة مجموعة من جملة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي ثابتة في الصحيحين وفي غيرهما. من لم يفعل ذلك، ودخل مباشرة تحت (الدش) واغتسل أجزأه هذا الغسل وصح غسله، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للأعرابي: (خذ هذا الدلو فأفرغه على نفسك) وكان رجلاً قد أجنب، ولم يأمره بالوضوء، فاستدل فريق من أهل العلم بهذا الحديث على أن الوضوء بين يدي الغسل ليس بواجب. {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] هنا تقدير ولا بد منه؛ لأنك إذا أخذت الآية على ظاهرها: (إن كنتم مرضى فتيمموا) ؛ لكان كل مريض يتيمم، لكن التقدير: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى} [النساء:43] فحال المرض بينكم وبين استعمال الماء، فحينئذٍ تيمموا، أما إن كنت مريضاً مرضاً لا يؤثر الماء فيه، فحينئذٍ يجب عليك أن تتوضأ. والتقديرات مستساغة في كتاب الله إذا كان المعنى يتطلبها، وقد تقدم أمثلة لذلك: كقوله تعالى في سورة البقرة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] فالآية معناها: من كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه فارتكب محظوراً ففدية، أما إذا كان المحرم مريضاً ولم يرتكب محظوراً فلا نقول له: عليك فدية إذا كنت مريضاً وإن لم ترتكب محظوراً! فالتقدير إذاً: وإن كنتم مرضى فحال المرض بينكم وبين استعمال الماء فتيمموا. {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] فحال السفر بينكم وبين استعمال الماء فتيمموا، خشيتم الضرر من استعمال الماء الذي معكم فتيمموا، فليس كل مسافر يتيمم، فالمسافر الذي أمامه ماء لا يقال له: تيمم! {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] كذلك.

خلاف المفسرين في معنى: (أو لامستم النساء)

خلاف المفسرين في معنى: (أو لامستم النساء) قال الله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] (لامستم النساء) : فيها نزاع بين أهل العلم، فيرى فريق منهم أن الملامسة عامة، فرأوا أن كل من صافح امرأة أو قبّلها يجب عليه الوضوء، وأبى ذلك فريق كبير من أهل العلم ورفضوا هذا القول، ومن الذين رفضوه: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقال: المراد بملامستهن الجماع، لكن الله حيي، يكني عن الجماع بما يشاء، مثل: الإفضاء، النكاح، الملامسة، المس، كل هذه من معاني الجماع، ولكن رب العزة يكني بما يشاء. ويؤيد هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ساجداً فجاءت عائشة فمست بيدها رجليه وهما منصوبتان، وهو يقول: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) ، وكان عليه الصلاة والسلام: (إذا سجد غمزها) وقد يقول قائل: غمزها من فوق الثوب ولم يمسها، نقول: الغرفة كانت مظلمة، فغمزها قد يكون من فوق الثوب وقد يكون مباشرة، فبهذا الدليل وبذاك الدليل استدل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وإنما المراد باللمس في الآية: الجماع. ويؤيد هذا أيضاً: أنه لم يرد في حديث واحد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام -مع كثرة النسوة على عهده، وكثرة الرجال على عهده- أنه أمر رجلاً أن يتوضأ من تقبيله لامرأته أو من مصافحته لها، والبراءة الأصلية تؤيد الرأي القائل: بأن ملامسة المرأة لا تنقض الوضوء إلا إذا كان جماعاً، والله تعالى أعلم.

المراد بالصعيد

المراد بالصعيد قال الله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء:43] ما المراد بالصعيد؟ في الآية ثلاثة أقوال: القول الأول: المراد بالصعيد: كل ما على وجه الأرض: أحجار، رمال، مباني، وأصل الصعيد المكان المرتفع. القول الثاني: أنه التراب ومشتقاته، مثل: الرمل، والنورة، والجص وغيرها، وكل هذه من جنس التراب، لكن ليست نفس التراب، ولكن من ناحية المادة نفسها. القول الثالث: أنه التراب فقط. والقول الأخير قوي لزيادة في حديث: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فالزيادة في هذا الحديث من النماذج التي استدل بها العلماء على زيادات الثقة، وهي: (جعلت لي الأرض مسجداً، وتربتها طهوراً) زيادة: (تربتها) استدل بها على أن المراد بالصعيد هو: التراب.

صلاة فاقد الطهورين

صلاة فاقد الطهورين إذا لم يجد الشخص لا الماء ولا الصعيد الطيب، وهذا هو فاقد الطهورين، فليصل بدون تيمم وبدون وضوء، وهذا يؤيده العمومات الشرعية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] إلى غير ذلك من الأدلة التي رفع الله بها الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. واستدل بعض العلماء على جواز صلاة فاقد الطهورين بأن الصحابة لما حبسوا على غير ماء في بعض أسفارهم ولم تكن آية التيمم نزلت صلوا بغير وضوء، ولم يكن معهم دليل على أنهم يتيمموا، فصلوا بغير وضوء وبغير تيمم، فإذا نزلت آية التيمم ولم يكن عندك تراب، فالحكم كأن آية التيمم لم تنزل، وبهذا الدليل استدلوا على صحة صلاة فاقد الطهورين، واستدلوا أيضاً بأن الله رفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأدلة رفع الحرج أدلة ذات أهمية قصوى؛ لأنها تستعمل في مسائل كثيرة جداً، فمثلاً: استدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على مسألة طواف المرأة الحائض التي تخشى فوات الرفقة في الحج، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (افعلي ما يفعل الحاج غير الأ تطوفي بالبيت) يعني: افعلي كل شيء إلا الطواف، لكن لو أن امرأة حاضت، والصحبة التي معها ستفارقها، ولا تستطيع بحال من الأحوال أن تنتظر، ماذا تصنع؟ قيل: ترجع إلى بلدها، ثم تذهب مرة أخرى لتطوف!! لكن إذا كان بلدها لا يسمح لها بالذهاب مرة ثانية، والدولة السعودية لا تسمح لها بالمجيء مرة ثانية، ثم قد تأتي المرة الثانية وتحيض أيضاً، فماذا تصنع مثل هذه؟ فـ شيخ الإسلام رحمه الله كثرت هذه المسألة في عهده، فكان أناس يأتون من المغرب أو من المشرق فتقع لنسائهم هذه النازلة، فأفتى رحمه الله بجواز طواف الحائض في هذه الحالة، واستدل بأدلة رفع الحرج. مسألة أخرى: رجل كان جنباً فتيمم وصلى ثم وجد الماء: فهل يلزمه الإعادة؟ لا يلزمه، وعمار بن ياسر تمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة وصلى، ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله، فعلمه كيفية التيمم الصحيحة ولم يأمره بإعادة الصلاة. مسألة أخرى: أن الله لم يرشد إلى التيمم إلا إذا فقد الماء فقال: ((فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا)) [النساء:43] ، فإذا صليت الفرض بالتيمم وكنت جنباً، ثم وجدت الماء لزمك أن تغتسل، ولكن لا تعيد الصلاة.

شراء أهل الكتاب للضلالة وتمنيهم إضلال المسلمين

شراء أهل الكتاب للضلالة وتمنيهم إضلال المسلمين قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44] . المراد بالذين أوتوا نصيباً من الكتاب قيل: إنهم -بالدرجة الأولى- اليهود، ثم النصارى، اليهود كانوا مكدسين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النصارى لم يكن منهم في المدينة إلا عدد قليل. فقوله: {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} [النساء:44] أي: بالهدى، وشراء الضلالة بالهدى له صور متعددة. منها: كتمان الحق مقابل المال. ومنها: كتمان الحق لرياسة ووجاهة. ومنها: كتمان الحق لحسد إلى غير ذلك. والضلالة هي: الكفر والغواية. وقوله: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44] هذه الآية تفيد أن اليهود يريدون لأهل الإسلام أن يضلوا السبيل، وأن يكفروا صراحة، فإن قال قائل: ليس لليهود والأمريكان هم يوى المال، وكل الكفرة ليس لهم هم إلا الثروات فهذا قول كذب، من قال به فهو مخطئ؛ لأن الله صرح: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] ، وكذا الزانية تحب أن تزني النساء كلهن حتى يشاركنها في الفضيحة، والسارق يحب أن يسرق الناس كلهم حتى يكونوا كلهم سرق ولا يمتاز عليهم ولا تفضح بينهم، فاليهود والكفار كذلك: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] أي: ودوا عنتكم. قال الله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44] (تضلوا السبيل) أي: تخطئوا طريق الحق. قال الله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء:45] ، أي: ينبئكم بأخبارهم، ويذكركم بهم، فلا يغرنكم ولا يخدعنكم رجل يقول: هم أصحابنا وأصدقاؤنا، ولا يريدون إلا السلام! وغير ذلك من الكذب؛ لأن الله أصدق القائلين يقول: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ)) [النساء:45] يبين لكم مقاصدهم، وهو أعلم بهم، فإن كان الكافر في الظاهر لا يكن لك العدواة فإن ربك علمك فقال: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] أي: إن كنتم تفهمون.

الفرق بين الولي والناصر

الفرق بين الولي والناصر قال الله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء:45] ما الفرق بين الولي والناصر؟ قد يأتيان بمعنى واحد، كقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] أي: ناصر ومعين للذين آمنوا، فالولاية هنا أعم من النصرة، بل النصرة داخلة فيها، يعني: الولاية عامة. ومن أفرادها: أن ينصرك وليك، وقد يرزقك ويطعمك ويسقيك. إذاً: من مفردات الولاية: النصر، وهذا من باب عطف الخاص على العام، ومثله قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] هذا عطف خاص على عام، كذلك قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [النساء:163] عطف خاص على عام.

معنى (هادوا)

معنى (هادوا) قال الله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] (الذين هادوا) : هم اليهود، وهادوا معناها: مالوا {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156] أي: ملنا بقلوبنا إليك. (اهدنا) أي: مِل بقلوبنا إلى الهداية؛ لأنها من مال شخص إلى شخص آخر. {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء:46] أي: زعموا أنهم هادوا، (فهادوا) معناها: مالوا بقلوبهم إلى الله، (إنا هدنا إليك) أي: ملنا بقلوبنا إليك، فهم زعموا أنهم هادوا: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] (من) هنا: للتبعيض، يعني: ليسوا كلهم يحرفون الكلم، فعوامهم جهلة، وليسوا ممن يحرف الكلم عن مواضعه، لكن الكبراء -أهل الرئاسات والوجاهات- يحرفون الكلم عن مواضعه، تأتي آية فيقول أحدهم: تحذف هذه الآية، أو تغير! فالكبراء هم الذين بأيديهم القوانين يعبثون بها كيفما شاءوا، مثلاً: هذه الأيام وزير له ابن راسب في الثانوية عشر سنين مثلاً، يقول له: يفعلها إحدى عشرة سنة، والسنة القادمة يلغيها. فكذلك اليهود كانوا إذا سرق شريف منهم، قالوا: بدل قطع اليد تكون العقوبة خمسة آلاف درهم غرامة! وتنفذ هذه الغرامة على ولده أو على الشريف، ومثل ذلك: ما حصل من تحريم تعدد الزوجات بالقانون، لعل امرأة كان بيدها الأمور ولا تريد زوجها يتزوج عليها، فوضعت ذلك القانون، ثم يأتي من بعدها فيرجع للأصل.

من أعمال اليهود الخبيثة

من أعمال اليهود الخبيثة إذاً: قال الله:: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] قوله: (من) للتبعيض، فليس كل الذين هادوا يحرفون الكلم، بل كبراؤهم وأصحاب الرأي فيهم هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء:46] هذا قولهم. أي: سامعون وعاصون لك، قال الله لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] فقالوا: حبة في شعرة! وقال الله لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] فدخلوا يزحفون على أسفلهم، فيزحف الواحد منهم على استه عناداً لله ولرسل الله عليهم الصلاة والسلام!! : {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: يا رب! حط عنا خطايانا، فقالوا كلمة: (حبة في شعرة) ! وآخر يقول: (حنطة!) يعني: حبة السوداء، قصدهم التحريف عن عمد، ثم يقولون مع التحريف: سمعنا وعصينا، سمعنا قولك وخالفنا أمرك وعصيناك، فهذا شأن اليهود!! وقوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء:46] لأهل العلم فيها أقوال: أشهرها: واسمع لا سمّعك الله، يعني: يدعون على الرسول ألا يسمعه الله! والقول الآخر: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: اسمع فنحن لن نستمع إلى قولك. {وَرَاعِنَا} [النساء:46] يقصدون بقولهم: وراعنا. الرعونة وهي: الطيش وخفة العقل، وفي الظاهر يخرجونها بلفظ مهذب، لكن يقصدون بها الرعونة، ويظهرون أنهم يريدون براعنا: أن ينظر إليهم. {وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} [النساء:46] يلوون الكلام بألسنتهم، فيظهرون للمستمع إليهم معنى ويريدون معنى آخر، كما جاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعائشة رضي الله عنها بجواره وكانت ذكية نبيهة فطنة، فسمعتهم يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: السام عليك يا محمد! يعني: الموت والهلاك عليك يا محمد! فغضبت وقالت: وعليكم السام واللعنة! وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وعليكم. فقالت: يا رسول الله! إنهم يقولون: السام عليك يا محمد! فقال: يا عائشة إنه يجاب لنا فيهم، ولا يجاب لهم فينا وقد قلت: وعليكم، وإن الله لا يحب الفاحش البذيء) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النساء:46] كأهل الإيمان الذين قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] . قال الله: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [النساء:46] أي: أعدل وأنفع. {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [النساء:46] أي: كفرهم كان سبباً في إحلال لعنة الله عليهم فلم يوفقوا إلى خير. {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:46] أي: لا يصدقون إلا بالشيء القليل، أو لا يؤمن منهم إلا النفر القليل.

دعوة اليهود إلى الإيمان بالقرآن

دعوة اليهود إلى الإيمان بالقرآن قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [النساء:47] استجاشة لما فيهم من فضل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [النساء:47] يا أيها الناس العقلاء! يا من يفترض فيكم أنكم تفهمون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [النساء:47] يؤخذ منها: الحكمة في الدعوة إلى الله. فمثلاً: لو أردت أن تدعو بقالاً ثرياً لفعل خير تأتيه وتقول: أسرتك أسرة طيبة، فلماذا لا تبنون مسجداً؟ أو لماذا لا تضع ماء سبيل يشرب الناس منه؟ يا حبذا لو تضع ثلاجة ماء أمام الدكان ليشرب منها الناس؟ وتذكره بالصلاح الذي كان في آبائه وأجداده. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} [النساء:47] أي: صدقوا بالشيء الذي أنزلناه؛ فهو مصدق لما معكم، الكتب التي معكم أخبرت بأشياء هذا الكتاب جاء يصدقها، فالكتب التي معكم أخبرت بمحمد، وهذا هو محمد كما في الكتاب الذي بأيديكم، فكيف تكذبون كتبكم التي تقول: محمد سيبعث، وسيكون كذا وكذا، فهاهو محمد قد خرج وقال كذا وكذا، إذا كذبتموه فمعناه: أنكم كذبتم كتبكم التي بأيديكم. {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء:47] ليس شيئاً مجهولاً ولا شيئاً مخترعاً، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء:47] نطمسها: أي: نسويها فلا يبقى فيها معلم، ويصبح الوجه كالقفا، وهذه من العقوبات التي هُدِّدَ بها الإسرائيليون. الطمس، يعني: أن تمحى معالم تلك الوجوه، فيصبح الوجه في معالمه كالقفا، ولا يصبح هناك أنف ولا عين ولا فم!! {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47] وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضى، وجزاكم الله خيراً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم لبس المرأة لما يسمى بالجيبة

حكم لبس المرأة لما يسمى بالجيبة Q هل يجوز للمسلمة أن ترتدي ما يسمى بـ (الجيبة) ، مع العلم بأنها تتوافر فيها كل شروط الحجاب، عدا أنها تخالف شكل الجلباب على ما يبدو؟ A نعم يجوز أن ترتدي (الجيبة) إذا كانت بهذه المواصفات، إذا كانت جيبة واسعة جداً غير مجسمة، وفوقها شيء آخر غير مجسم، فليس هناك مانع شرعي من ذلك، والله أعلم.

حكم ليلة الحناء للعروس

حكم ليلة الحناء للعروس Q ليلة الحناء بالنسبة للعريس، ما حكمها؟ A التزين للنساء بالحناء مستحب، لكن لا يجعلنه في ليلة مخصوصة، وبعض النساء يتخذن شعاراً لهذه الليلة في كثير من البلاد، ويصنعن أشياء ما عهد أن أصحاب رسول الله كانوا يفعلون ذلك. أما كون المرأة تتزين لزوجها فهذا من السنة، قالت أم المؤمنين عائشة: (انظر إلى ثوبي هذا ما كانت امرأة تقيَّن في المدينة -يعني: تزف إلى زوجها- إلا جاءت تستعيره مني فأصبحت هذه الجارية ترفضه لأنه أصبح رخيصاً) . والحمد لله رب العالمين.

وجه كون السنة التقريرية شرعا

وجه كون السنة التقريرية شرعاً Q كيف تكون السنة التقريرية شرعاً مع أن الرسول لم يعملها؟ A الصحابة فعلوا أشياء على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم بها عليه الصلاة والسلام، مثال ذلك: الصحابي الذي دخل في الصلاة وقال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد رأيت بضعة عشر ملكاً يبتدرونها) الرسول صلى الله عليه وسلم أقره، فكانت سنة تقريرية. لكن أنا الآن إذا جئت أفعل شيئاً جديداً، وقد يكون هذا الشيء صواباً وقد يكون خطأً، من الذي سيقرني الآن على صوابي ويمنعني من خطئي؟ لا أحد، فالشرع هو الحكم وانتهت الأمور. نحو ذلك: مسائل النفاق: كان يوجد نفاق على عهد الرسول، من الذي يوضح النفاق؟ إما رسول الله يوضحه لأصحابه، أو رب العزة سبحانه وتعالى يبين صفات هؤلاء المنافقين. قال عمر: كان النفاق على عهد رسول الله، والآن من أظهر لنا الإسلام حكمنا له بالإسلام، ومن أظهر لنا الكفر حكمنا عليه بالكفر.

حكم الزفة في الأعراس

حكم الزفة في الأعراس Q ما حكم ما يفعله الإخوة في حفلات العرس، ويسمونه (الزفة الإسلامية) ؟ A لا أعلم لها مستنداً من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الرجال يفعلونها على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. وأقول للعريس: اقتصر على عمل وليمة، وهذا بركة، وخلّ النساء يغنين للعروس، فحرام عليك أن تجمع الإخوة من كل بلد، وتدعو المشايخ إلى المسجد، وتكتب: عقد فلان على الشريعة الإسلامية، وعلى سنة رسول الله، ويأتي الشيخ المحاضر ويقول: نحن مجتمعون في خير بقعة، وفي خير مسلك، وفي خير ساعة، وبأفضل مكان يوقف فيه، فهذا ليس من السنة، بل هذا خرافة. صحيح أن المسجد أفضل بقعة، لكن كون جمع الناس في المسجد للعقد أفضل من غيره يحتاج إلى دليل، وقد يكون العقد في أي مكان سواء، فسنة الرسول هي الحكم، وقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت، وفي المسجد، وتعقد حتى في الطريق، أو في أي مكان بحضور الولي والشهود. هذه هي السنة. لكن أن تعمل العقد في المسجد، وتقول للناس: هذه الصورة الإسلامية للعقد فهذا افتراء على سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. ثم قول السائل: (الزفة الإسلامية) : من الذي أضفى عليها أنها إسلامية؟ من الذي قال أن هذه الزفة إسلامية؟ فقولنا: (إسلامية) يعني: أن تكون موافقة لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل مشي الرجال في الطرقات يغنون للعريس، واحد من هنا وواحد من هنا، ويمشون معه، هل فعل ذلك الرسول مع أصحابه؟ هل زف الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا على عائشة؟ هل فعلت الصحابيات ذلك بـ عائشة؟ هل زف الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم زفة إسلامية لا يهودية ولا نصرانية ولا شركية؟!! لم يفعل ذلك أبداً محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يغرنك أيها السائل أفعال إخوانك حتى تعرضها على كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

رفع الملام عن الأئمة الأعلام

رفع الملام عن الأئمة الأعلام Q ورد عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفعال وأقوال لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بها، بل نهى عن بعضها، فكيف يأتون بأمر جديد لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم. نرجو التوضيح؟ A ننصح القارئ بقراءة كتاب: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لما فيه من خير في هذا الباب. فالصحابي قد يأتي بأمر لم يفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام بل نهى عنه لأمور: إما أنه خفي عليه أمر رسول الله، فيكون الرسول أمر بأمر ولم يسمعه من رسول الله، بل استمر على ما علم من علوم الشرع ولم يبلغه الخبر عن رسول الله. من ذلك: قول عمر في شأن أبي: (أقرؤنا أبي إلا أننا ندع من لحن أبي) ، يعني: نترك كثيراً من قراءات أبي بن كعب مع أنه أعلمنا بالقراءات؛ لأنه يقول: لا أغير شيئاً سمعته من رسول الله، والله يقول: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] فـ أبي سمع قراءات من رسول الله، والصحابة علموا أنها منسوخة لكن أبي يقول: أنا مصر على الذي سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا وجه ذلك، فقد تخفى السنة على الصحابي، فيعمل الصحابي برأيه وهو لا يعلم الخبر، مثال ذلك: قصة بروع بنت واشق امرأة عقد عليها رجل ولم يفرض لها صداقاً، أي: مهراً، ثم قبل البناء مات الزوج، فوقعت مسائل مشكلة: أولاً: هل لها صداق أو ليس لها صداق؟ ثانياً: هل ترث أو لا ترث؟ ثالثاً: هل تعتد أو لا تعتد؟ فوقعت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم قضية مماثلة لهذه القضية فذهبوا إلى ابن مسعود في شأنها، فقال: أقضي فيها برأيي، فإن كان خطأً فمن نفسي ومن الشيطان، وإن كان صواباً فمن الله، والله ورسوله منه بريئان: أقضي أن لها مهر نسائها اللاتي هن شبيهات بها، فإن كانت بنت ملك فمهرها مثل مهور بنات الملوك، وإن كانت بنت عبد فمهرها مثل مهور العبيد، وإن كانت من أوساط الناس فمهرها مثل مهور نساء أوساط الناس من غير وكس -يعني: بخس ولا شطط- يعني: ارتفاع -مهر متوسط وهذا أصل في مهر المثل. قال: وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان فقال: (أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق مثل هذا القضاء) ، فقال: الحمد لله الذي وفقني إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. وصحابة آخرون لم يبلغهم خبر معقل بن سنان فقالوا: لا تعتد، قياساً على مطلقة التي لم يدخل بها زوجها، لأن الله قال في المطلقة التي مات عنها زوجها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49] يعني: عقدتم عليهن {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] يعني: قبل الدخول بهن {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فليس عليها عدة. وبعض الصحابة لما لم يجد في الباب خبراً عن رسول الله بدأ يفكر، فقال: أقيسها على المطلقة، والقياس قد يصيب وقد يخطئ، والذي يخطئه هو النص، فهذا صحابي أفتى أنها لا تعتد ولا ترث، كما أن المطلقة التي لم يدخل بها زوجها لا تعتد لا ترث، فاجتهد الصحابي وهو مأجور على اجتهاده، لكن المجتهد المصيب له أجران، فهذا نموذج من النماذج التي تبين أن الصحابي قد لا يبلغه الدليل من الكتاب أو من السنة. نموذج آخر: قد يبلغه الصحابي الدليل، ولكنه يرى أن الدليل له نازلة معينة وملابسات معينة، مثال ذلك نهي عمر رضي الله عنه عن متعة الحج، فالصحابة لما أتوا مع رسول الله إلى الحج كان منهم: القارن، والمفرد، والمتمتع، فلما اعتمر الصحابة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام من لم يسق الهدي معه أن يتحلل ويجعلها عمرة فتعجب، الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك! لما ترتب في أذهانهم من قبل أن الذي يعتمر في أشهر الحج فاجر من أكبر الفجار، كما عند أهل الجاهلية فكانوا يقولون: إذا برئ الدبر -يعني: الجروح التي في ظهر الدابة- وعفا الأثر، ودخل صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فلما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمرة تردد الصحابة، ووقفوا مذهولين من أمر الرسول لهم بالتحلل بالعمرة، فقالوا: يا رسول الله! كيف نتحلل من العمرة؟ -أي: كيف نذهب إلى منىً ومذاكيرنا تقطر منياً من النساء- فشدد الرسول في الأمر، وأمرهم أمراً حازماً بالتحلل، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، فقام رجل وقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا -يعني: التحلل بالعمرة- أو للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد) أي: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة. فقوله صلى الله عليه وسلم: (بل لأبد الأبد) ، خفي على أمير المؤمنين عمر، فكان رضي الله عنه ينهى الناس عن التمتع في الحج، وكان يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالتمتع في أشهر الحج كان خاصاً في زمان رسول الله، وهذا رأيه، وصحابة آخرون لم يوافقوه، مثل: علي، وأما عثمان رضي الله عنه فقد سلك مسلك عمر رضي الله عنهم، فقال له علي: كيف تنهى عن شيء فعلناه مع الرسول؟ قال: دعنا عنك، قال: كيف أدعك؟ لبيك عمرة في حجة. فهنا عمر رضي الله عنه اجتهد، وظن أن هذه الواقعة خاصة بزمن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعلي رضي الله عنه رأى أنها لزمن رسول الله ولغير زمن رسول الله، والله يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] . هذه نماذج من المسائل التي تختلف فيها وجهات النظر. ومن أهل العلم من رأى أن الأمر بالعمرة أمر إيجاب في كل الأزمان وقال: التمتع واجب على كل المسلمين، وليس هناك إفراد ولا قران، وهذا قول مرجوح؛ لأن من الصحابة من حج مفرداً، ومنهم من حج قارناً، والرسول حج قارناً، ومنهم من حج متمتعاً، والله يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة:196] يعني: أن هناك من لم يتمتع. إذاً ما معنى: دخلت العمرة في الحج؟ (دخلت) أي: أصبحت مع الحج لمن شاءها إلى يوم القيامة، وليست ملزمة، بل من شاءها إلى يوم القيامة، وهذا هو الذي فهمه كثير من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام. إذاًَ: قد يخفى الدليل على الصحابي، وقد يبلغه ولكن يفهمه على غير وجهه، وهناك جملة مسائل كثيرة في هذا الباب، والله أعلم.

تفسير سورة النساء [47-57]

تفسير سورة النساء [47-57] من أساليب القرآن الكريم في الدعوة: أسلوب الحوار والمخاطبة مع غير المسلمين، ولقد برز هذا الأسلوب في حوار اليهود، والكشف عن طواياهم السيئة وأعمالهم الخبيثة؛ كإيمانهم بالجبت والطاغوت، وتفضيلهم المشركين على المسلمين، وحسدهم العرب أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وكفرهم بأنبيائهم السابقين مع كونهم من بني جلدتهم، وبعد هذا الكفر والعناد يرتب القرآن الكريم جزاء الكافرين المعاندين أمثال هؤلاء اليهود، وجزاء المؤمنين المصدقين.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:47-48] . قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} نداء إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واليهود كانوا هم غالب أهل الكتاب في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النصارى فكانوا قلة. وقوله تعالى: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} هو القرآن. وقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي: موافقاً للتوراة التي معكم. وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} الطمس: المحو والإزالة، وطمس الشيء: محو أثره، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس:66] . فقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} قال فريق من أهل العلم: أي: نرد الوجوه كالأقفاء، فيصبح الوجه مثل القفا لا معلم فيه لعين ولا لأنف ولا لفم ولا لخد ولا للحية ولا لغير ذلك. ومن العلماء من قال: إن الطمس عبارة عن تغيّر الأحوال، بمعنى: أن الغني يصبح فقيراً، والعزيز يصبح ذليلاً، والقوي يصبح ضعيفاً، إلى غير ذلك. وثمّ قولٌ آخر ثالث وهو أنَّ المراد تقليب القلوب إلى الكفر. والقول الأول هو الأشهر، فقد حلّت ببني إسرائيل عقوبات من هذا القبيل، فقد مسخ فريق منهم إلى القردة، وفريق آخر إلى الخنازير، كما قال تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166] ، وقال تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْت} ، وأصحاب السبت: هم الذين اعتدوا في السبت، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، وأصل السبت: الراحة والسكون، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] أي: راحة وسكوناً لكم، فأصل السبت: الراحة والسكون، وكان يوم السبت يوم راحة لليهود وتوقف عن الأعمال، فاعْتَدَوْا فيه كما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف، فحلت عليهم اللعنة لاعتدائهم في السبت بعد أن نهاهم الله تعالى عن الاعتداء فيه بقوله: {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:154-155] .

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به.

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به.) ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وهذه الآية من المحكم الذي لم ينسخ، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ولقيتني لا تشرك بي شيئاً غفرت لك ما كان منك ولا أبالي) ، أو كما قال تعالى في الحديث القدسي. فالآية من الآيات المحكمات، ونحوها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر) . وهذه الآية ردٌ على كثير من الفرق التي ابتدعت في الإسلام، كفرقة الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي، وكفرقة المعتزلة، وعدد من الفرق. فأي شخص يموت على الشرك لا يغفر له هذا الشرك، ولكن إن أشرك وتاب في الدنيا قبل الممات، فالله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدايتهم أهل شرك، فتابوا وأسلموا فتاب الله تعالى عليهم، فالآية أصلٌ من أصول أهل السنة والجماعة في أنه لا يلزم أن يعذب صاحب الكبيرة وإن لم يتب، فإذا ارتكب شخصٌ كبيرة، كسرقة، أو زنا، أو قتل، أو شرب خمر، ولم يتب منها فليس بلازم أن يعذب، وأمره إلى الله تعالى فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، خلافاً لأهل الاعتزال القائلين بوجوب الاستغفار حتى ينجو الشخص من العذاب. ونحو هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الشيخان من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن فعل ذلك فأجره على الله، ومن أتى من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله في الدنيا، فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) . وفي الآية ردٌ على بعض العلماء القائلين بأن القاتل لا بد وأن يعذب، ويستدل بعضهم كالحبر عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] . ويقول: إن آية النساء الطولى نزلت بعد آية الفرقان، أي: أن هذه الآية نزلت بعد قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] ، فـ ابن عباس رضي الله عنهما يرى أنه ليس لقاتل النفس توبة، وهذه من المسائل التي خولف فيها من جماهير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] أي: إذا مات الشخص على الشرك، فالشرك لا يغفر له كما قال تعالى في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) . وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] (الدون) تطلق على الأقل، وتطلق أحياناً بمعنى (غير) ومنه قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] ، فقوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك) أي: ما أقل من ذلك، فأي ذنب غير الشرك يغفره الله سبحانه إن شاء، وإن شاء عَذّب به. قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمَاً عَظِيماً} [النساء:48] أي: اختلف واخترع إثماً عظيماً. فالإثم أحياناً يطلق على صغير الذنب، وأحياناً يطلق على كبير الذنب كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] ، وأحياناً يطلق على الشرك كقوله تعالى هنا: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48] .

خطر تزكية النفس وأحوال جوازها

خطر تزكية النفس وأحوال جوازها وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:49] ، التزكية مذمومة في الأصل، ولا يزكي الإنسان نفسه ولا غيره إلا لعلة، والأدلة على ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، فقد أثنى رجلٌ على رجلٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك-قالها ثلاث مرات- إن كان أحدكم لا محالة فاعلاً فليقل: أحسب فلاناً كذا وكذا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (احثوا في وجوه المداحين التراب) ، خاصةً الذين يبالغون في الثناء على الأمراء والرؤساء. وهذا الحديث استعمله المقداد بن الأسود لما كان جالساً عند أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وجاء رجلٌ يثني على أمير المؤمنين ثناءً زائداً في وجهه، فأخذ المقداد الحصباء وقذف بها في وجهه، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (احثوا في وجوه المدّاحين التراب) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله) . فالمبالغة في الثناء قد تخرج الشخص عن حيز الاعتدال إلى حيز الذم، وهؤلاء النصارى لما بالغوا في إطراء عيسى عليه الصلاة والسلام والثناء عليه أَلَّهوهُ وجعلوه ابناً لله عز وجل، والشيعة لما بالغوا في الثناء على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أَلَّهه فريق، وزعم فريق آخر أن علياً رضي الله عنه أحق بالرسالة من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فالمبالغة في الثناء، والمبالغة في الإطراء، والمبالغة في التقليد تورث الشخص انهياراً وهزيمةً وعصياناً لله تعالى ولرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم. والظواهر التي بين أيدينا في الأزمنة المعاصرة شاهدة بذلك، وما كان عقب وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام أيضاً يدل على ذلك، فـ المختار بن أبي عبيد الثقفي ادعى نصرته لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعه الناس واغتروا به، وصاروا يمجدونه ويمدحونه حتى آل به ذلك إلى أن ادعى النبوة، ثم ادعى الألوهية! فقتل إلى غير رحمة الله عز وجل. فالمبالغة في الثناء على الأشخاص أحياناً تورث شركاً، وأحياناً تورث ضلالاً مبيناً، ومن ثمّ فينبغي أن يتوسط الشخص في كل أموره وأحواله، وهذا يلحق طلاب العلم، فيلزمهم ألا يأخذوا العلم من شخص واحد أياً كان شأنه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، أما أن يأخذ شخص أقوال عالم من العلماء، ويسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويصبح له مقلداً أعمى، ويتقبل كل آرائه، فهذا يورث تقليداً بغيضاً مقيتاً، ويوقع الشخص في كل الأخطاء التي وقع فيها هذا الشيخ، وأصحاب رسولنا عليه الصلاة والسلام رغم فضلهم وسعة علمهم رضي الله تعالى عنهم ما طلبوا ذلك من الناس، وكلٌ منهم صدرت منه اجتهادات جانب فيها الصواب، فإذا كانوا كذلك فغيرهم من باب أولى، فمن جاءك بالدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقبله وخذه. وقوله تعالى: {يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:49] ، الآية محتملة لأن يكون المعنى: يزكون أشخاصهم، أو يزكون غيرهم كقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] ، من العلماء من قال أي: لا يزكي بعضكم نفسه، ومنهم من قال: ولا يزكي بعضكم بعضاً، وإطلاق النفس على الغير وارد في كتاب الله تعالى، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: على إخوانكم. وقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: لا يلمز بعضكم بعضاً. وقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] أي: يقتل بعضكم بعضاً. فالتزكية الأصل فيها المنع إلا لعلة، ومن هذه العلل أن تكون التزكية حافزة على الخير، كما لو كان الرجل يُعلم من حاله أنه إذا أثني عليه بكلمة تشجع واستمر في الخير الذي هو فيه، فإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ إذا زكي هذا الشخص حتى يستمر في الخير الذي هو فيه استحب ذلك، وقد دلت على ذلك جملة نصوص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كقوله صلى الله عليه وسلم لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الشيطان يفر منك يا ابن الخطاب!) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أتيت بقدح لبن فشربته ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم) . وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت الناس وعليهم قمص، فمنهم من يبلغ القميص إلى ثدييه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم ما بين ذلك ورأيت عمر وعليه ثوب يجره. قالوا: فما أوَّلْت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين) . وقال صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه) . وقال صلى الله عليه وسلم في شأن أبي بكر: (ما أحدٌ أمنّ عليّ في صحبته وماله من أبي بكر الصديق) رضي لله تعالى عنه. وقال في أبي ذر رضي الله عنه: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر) ، وكل ذلك من الثناء. وقال عثمان رضي الله تعالى عنه مثنياً على نفسه أمام الذين حاصروه: ألم تسمعوا رسول الله وقد قال: (من حفر بئر رومة فله الجنة) فحفرتها؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهّز جيش العسرة فله الجنة) فجهزته؟ فكل هذا يدل على مشروعية التزكية إن احتيج إليها، فإن لم يحتج إليها فالمنع هو الأولى -والله تعالى أعلم- لما فيه من قطع الأعناق. وقد درج بعض السلف على إطلاق ألقاب على بعض أهل العلم في أزمانهم، وتبعهم ذلك بعض الخلف ولا بيان لهم من كتاب الله تعالى، أو من أفعال أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يؤيد هذا المستند، كأن يقول أحدهم: العالم الفذّ، الحجّة، وحيد دهره وسيد عصره، ويسطر سطوراً في الثناء، ولا يقول مثل هذا في أبي بكر، ولا في عمر رضي الله تعالى عنهما ولا في التابعين! فالإطراء البالغ بهذه الصورة أقرب إلى الذم منه إلى المدح، والله تعالى أعلم. قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] فهذا الأمر متروكٌ لله سبحانه وتعالى فهو الذي يرفع ويخفض. وقوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:49] أي: لا تظنون أنكم بترككم تزكية بعضكم أن بعضكم سوف يظلم، بل الله سبحانه وتعالى يدخر الأجور للعاملين، فهو أعلم، وهو الذي يجازي، وهو الذي يثيب سبحانه وتعالى. والفتيل: هو الخيط الرفيع الذي يكون بين فلقتي نواة التمر، فقوله تعالى: (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي: قدر الفتيل. قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء:50] ، أي: هؤلاء الذين يزكون أنفسهم كثير منهم يفترون على الله الكذب، {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء:50] ، وهذه في شأن أقوام دون أقوام آخرين على ما سيأتي بيانه.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب.) قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:51-52] . قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء:51] هم أهل العلم من اليهود. قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] لأهل العلم أقوال في الجبت والطاغوت، فمنهم من يقول: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الساحر، وثمّ أقوالٌ غير ذلك. والأصل في معنى الطاغوت هو: كل من تجاوز الحد في الطغيان، كما قال تعالى لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] أي: تجاوز الحد في الظلم، وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة:11] أي: زاد الماء، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11] ، أي: شدة ظلمها. وأما الشيعة أهل الرفض، وأهل الخبث والإجرام، قاتلهم الله تعالى! فيؤولون الجبت والطاغوت بـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويجعلون صلاتهم وتسليمهم البغيض المقيت لعن أميري المؤمنين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيقولون: اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيها وابنتيهما، ويعنون: أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا تفسير في غاية البطلان، فالذي قال الله فيه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] يقولون: إنه الجبت! فكيف يتضارب كتاب الله على هذا النحو عندهم. وأسقط من ذلك تفاسيرهم تفسيرهم البقرة التي أُمر قوم موسى بذبحها أنها عائشة، وهذا من عمى البصائر، فأين عائشة رضي الله عنها من زمن موسى صلى الله عليه وسلم؟! فالطاغوت: كل من تجاوز الحد في الظلم، شيطاناً كان أو ساحراً أو كاهناً أو حاكماً بغير ما أنزل الله أو رجلاً جباراً ظالماً قاتلاً للنفس، فكل ذلك محتمل وداخلٌ في الآية. ومن العلماء من قال: إنه كعب بن الأشراف؛ لأنه كان طاغوتاً مطاعاً في اليهود. قال تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51] . قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:51] أي: من أهل مكة: {هَؤُلاءِ} [النساء:51] أي: أهل مكة {أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51] . وقد ورد في أسانيد ينظر فيها أن أبا سفيان وبعض وجهاء مكة قالوا: نذهب إلى أهل الكتاب نسألهم عن محمد وشأن محمد، فإن هؤلاء أهل كتاب أعلم به منا، فذهبوا إلى كعب بن الأشرف وغيره من وجهاء اليهود فسألوهم: يا معشر يهود! أنحن على حق وخير أم محمد هو الذي على الحق والخير؟ فقالت اليهود: أنتم -يا معشر قريش- أهدى من محمد وأصحاب محمد وأفضل طريقة، فأنتم تسقون الحجيج، وهم يقطعون الأرحام -بزعمهم-، إلى غير ذلك من الأساليب التي سلكها اليهود لإغواء الناس {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51] . قال تعالى: {أُوْلَئِكَ} [النساء:52] أي: هؤلاء اليهود {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء:52] ، ضلّال على علم، فقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء:52] يدل على أن اليهود كما أنهم مغضوب عليهم، فهم ملعونون، وتفسير الرسول عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] بأن (غير المغضوب عليهم) هم اليهود، و (الضالين) النصارى؛ ليس معناه أن النصارى غير مغضوبٍ عليهم، بل هم كذلك مغضوب عليهم، وليس معناه أن اليهود غير ضالين، بل هم ضالون أيضاً، ولكنهم اختصوا بمزيد من غضب الله تعالى واللعنة عليهم جميعاً. ومعنى: (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أي: طردهم الله من رحمته، {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:52] . قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} [النساء:53] أي: هل لهم تدخلٌ في ملك الله أو في إعطاء الملك من أحد ونزعه من أحد؟ {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء:53] . والنقير كما قال بعض العلماء: النقطة الصغيرة التي تكون على ظهر النواة.

تفسير قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.

تفسير قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.) قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] فاليهود حسدوا العرب، وهم والعرب أبناء عمٍ، فأبو اليهود هو إسرائيل بن إسحاق، وإسحاق أخٌ لإسماعيل، ومن إسماعيل جاء محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إسحاق جاءت كل أنبياء بني إسرائيل، فحسدت اليهود العرب على ما آتاهم الله من فضله، فكانوا يتوقعون أن يخرج النبي منهم، كما قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89] أي: يقولون لهم سيخرج نبيٌ نتبعه، ونقتلكم قتل عادٍ وإرم {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة:89] وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وكان من غيرهم، فلم يكن يهودياً، بل كان من العرب {كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] . فالناس المحسودون هنا: هم العرب، وكلمة (الناس) قد يراد بها العموم، وقد يراد بها الخصوص، فمن مجيئها بمعنى العموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] ، ومن مجيئها بمعنى الخصوص قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] ، فهنا ثلاثة أصناف من الناس، وكل صنفٍ له معنى، فالمقول لهم هم: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والقائلون لهم: هم أهل النفاق، والذين جمعوا لهم: هم أهل الشرك. فالناس المحسودون هنا: هم العرب، أو هم أهل الإسلام، أو بني هاشم، والشاهد أنهم الذين منهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا منزل على النبوة، ثم الآية عامة، فكل من حسد الآخرين داخل في الآية، اللهم إلا حسد أهل الكفر وتمني زوال النعمة عنهم، فهذا له مستندات شرعية. وهذه ثاني آية في كتاب الله تعالى ذكر فيها الحسد صريحاً، فالأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109] . والثانية: قوله تعالى هنا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء:54] . والثالثة: قوله تعالى في سورة الفتح: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:15] . والرابعة: قوله تعالى في سورة الفلق: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] ، فالحسد ذكر في كتاب الله صريحاً في هذه الآيات، وذكر تلميحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27] ، وقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم:51] ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] ، فهذه الآيات تلمح وتشير إلى الحسد. وذكر الحسد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في جملة أحاديث، منها: (باسم الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، ومن شر كل نفس وعين حاسدٍ الله يشفيك) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (علام يحسد أحدكم أخاه؟) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقيل للحسن البصري رحمه الله: أيحسد المؤمن؟ قال: سبحان الله! ما أنساك لإخوة يوسف حين قال يعقوب عليه السلام: ((يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)) [يوسف:5] . قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ} [النساء:54] أي: ما أعطاهم الله تعالى من فضله، فإن كان كذلك {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54] ، أي: إن كنتم تحسدون العرب على ما آتاهم الله تعالى من نبوة فيهم، وكفرتم بهذا النبي من أجل أنه عربي وليس منكم، فما بالكم قد جاءت فيكم النبوة، إذ أنتم من آل إبراهيم، فمنكم من آمن ومنكم من صد؟! فلماذا لم تؤمنوا إذا كانت المشكلة التي حصلت هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم من العرب؟ فإذا كانت هذه علتكم وحجتكم فهي علة داحضةٌ وحجة باطلة، فقد جاءكم أنبياء من آل إبراهيم ليسوا من ذرية إسماعيل، بل من ذرية إسحاق وإسرائيل، فما بالكم كفرتم بهم؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم، كلما مات نبي خلفه نبيٌ آخر) فكذبوا بعض هؤلاء الأنبياء، وقتلوا فريقاً منهم، فاليهود أهل الغدر والخيانات كما وصفهم الله في كتابه. ويؤخذ من عموم الآية أن على الشخص إذا رأى من أخيه المسلم شيئاً يعجبه أن يبرك كما قال تعالى حكاية عن الرجل الصالح: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:39] أي: إذا خشيت الحسد قل: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) . قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54] ، كملك سليمان وملك داود عليهما السلام، فكان ملكاً عظيماً، وأي ملك أعظم من أن تسخر له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص؟! وأي ملك أعظم من أن يفهم الشخص لغة الطير وسائر الدواب وكلها تخضع له بإذن الله عز وجل؟! وأي ملك أعظم من أن يلين الحديد في يد شخص يتصرف فيه بيديه كيف يشاء كالحبال وكالماء؟! وأي ملك أعظم من أن تقوم تسبح فتسبح الجبال معك والطير، وتسبح الدواب معك؟! ومع هذا الملك قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء:55] ، فكفروا بسليمان عليه السلام، وقالوا: سليمان كان ساحراً وأخضع الجن بسحره، فقال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] ، فإن كنتم لم تؤمنوا لأن محمداً صلى الله عليه وسلم فقير، فقد جاءكم نبي مَلَك الأرض بإذن الله تعالى، وملك الدواب بإذن الله تعالى، وسخرت له الريح، ومع ذلك كفرتم به ووصفتموه بأنه ساحر، وبأنه عبّد الشياطين بأنواع من السحر والشعوذة!

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً.) قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ، هذا خبر يراد منه التهديد، والآية ردٌ قوي على القائلين بفناء النار، فرب العزة جل جلاله يقول: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56] ، كما يرد قولهم قوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] ، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ، وجاء أنه يوقف الموت على قنطرة بين الجنة والنار في صورة كبش أملح، ثم ينادى: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. هذا الموت، وينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. هذا الموت، وكلهم ينظر إليه، فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة! خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] . فكل هذه الأدلة ترد على القائلين بفناء النار، وهناك ما يقرب من عشرين أو ثلاثين دليلاً على إبطال هذا القول. وقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)) [النساء:56] العزيز: هو عظيم الجناب منيع السلطان، الذي لا يمانع ولا يخالف. و (حكيماً) أي: في تصرفه سبحانه وتعالى، وتفسير الحكمة في حق البشر: أنها هي التي تمنع صاحبها عن كل ما يشينه ويسيء إليه، وقد يكون هذا المعنى لغوياً، وقد يكون شرعياً.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات.) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57] . بعد أن ذكر تعالى عقاب أهل النار ذكر ثواب أهل الجنة، فأتى بهذا بعد هذا، فذكر عقوبة الكافرين، ثم ذكر جزاء المؤمنين يسميه العلماء مقابلة، وقد وصف الله القرآن بأنه مثاني، قال بعض أهل العلم: لأنه يأتي بعقوبة الكافرين ثم يأتي بجزاء المؤمنين، ونحوه قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57] ، فالحميم: شديد الحرارة جداً، والغساق: شديد البرودة جداً، وثمَّ أقوال أخر في تفسير المثاني. وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ردٌ على من قال: إن المجنون أفضل من المؤمن العاقل، وذلك لأن المؤمن العاقل عامل للصالحات، ونصوص الوعد والثواب جاءت له، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] ، فقيد الإيمان بالعمل الصالح، والمجنون لم يعمل صالحاً، فالقول بأنه أفضل من المؤمن العاقل الذي عمل صالحاً قولٌ بلا علم، والمجنون أمره إلى الله تعالى؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعةٌ يدلون بحججهم عند الله سبحانه وتعالى، وذكر منهم رجلاً مجنوناً يقول: يا رب! أتى رسولك وأنا رجل لا أفقه، فيختبر بجنة ونار، ثم يؤمر باقتحام النار، فإن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، وإن لم يدخلها عُذّب) ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن التكريم بعمل الصالحات في هذه الآية وفي غيرها يبطل أقوال المتصوفة الذين يقولون بخلاف ذلك، كمن يصلي إلى غير القبلة، ويزعم أنه ولي من أولياء الله تعالى، أو يصلي وهو يبول على نفسه في الصلاة! كما يفعله صاحب قرية ميت الكرماء واسمه: السيد العسكري، فهو يصلي إلى غير القبلة أمام الناس كلهم، ويبول في الصلاة، ويصلي في الخيش القذرة، ومع ذلك يعبده أهل ميت الكرماء إلا من رحم الله منهم، ويزعمون أنه من أولياء الله الصالحين، بل هو من الفجار في الظاهر، والحكم عند الله سبحانه وتعالى يقضي فيه بما يشاء. وقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} [النساء:57] الأزواج قد تطلق على النساء، وقد يأتي الزوج بمعنى الصنف، كقوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] ، ومن أهل العلم من قسر الأزواج في قوله تعالى:: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] فقال: أي: ذكراً وأنثى، ومنهم من عمم التفسير وقال: إن أزواجاً معناها أصنافاً، والتفسير الأعم أولى من التفسير ببعض المفردات في كثير من الأحيان، فالأخذ بالعموم في هذا التأويل أولى من الأخذ بالخصوص؛ لأنه يدخل فيه الخصوص، فمعنى قوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] أي: أصنافاً، فمنكم الذكر ومنكم الأنثى، ومنكم القوي ومنكم الضعيف، ومنكم العزيز ومنكم الذليل، ومنكم الجميل ومنكم الدميم، إلى غير ذلك. وأحياناً يتعين التفسير بالخصوص في بعض المفردات كما في قوله تعالى هنا: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} [النساء:57] ، فالأزواج هنا لا بد أن تحمل على النساء بقرينة وهي: (مُطَهَّرَة) ، ومعنى: (مُطَهَّرَة) قال فريق من العلماء: مطهرة من البول والحيض والبزاق والتفل ونحو ذلك، وقد جاء في ذلك خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، لا يبزقون فيها، ولا يبولون ولا يمتخطون) ، ومن أهل العلم من قال: مطهرة أيضاً من الغل والأحقاد، وصنوف الحيل والمكر التي تتسرب إلى نساء الدنيا.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من طلق زوجته لفظا وكتابة للمرة الثانية

حكم من طلق زوجته لفظاً وكتابة للمرة الثانية Q رجلٌ طلق زوجته لفظاً وكتابةً للمرة الثانية، وانتهت مدة العدة، فهل يمكن مراجعتها؟ وما هي الطريقة؟ A نعم. تراجع لكن بعقد جديد وبصداق جديد وبولي وشهود، ونحو هذه القصة وقعت لـ معقل بن يسار مع أخته فقد قال -كما في الصحيح-: (زوجت أختاً لي من رجل فأكرمته، فطلقها ثم تركها حتى انقضت عدتها ثم جاء يخطبها إليّ، فقلت له: زوجتك وأكرمتك، ثم طلقتها وتركتها فلم تراجعها حتى انقضت عدتها ثم جئت تخطبها إليّ! والله لا أزوجك أبداً، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:232] . فيجوز له أن يرجع إليها بعقد جديد وبمهر جديد وبولي وشهود، ويبني على التطليق السابق، فله طلقة واحدة، فإن طلقها بانت منه، ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، لكن إن كان طلقها مرتين، ثم تزوجت بشخص آخر فدخل بها الزوج الجديد وجامعها، ثم طلقها ورجعت إلى الزوج الأول، فهذه قريبة من مسألة الهدم، وإن كانت ليست صريحة فيها، فالنكاح الجديد يهدم التطليقتين الأوليين، ويبدأ من جديد في احتساب ثلاث تطليقات.

صلة الجار المرتكب للكبائر والمطلوب نحوه

صلة الجار المرتكب للكبائر والمطلوب نحوه Q جارٌ لي مريض، ولكن طبيعته سب الدين وتعاطي المخدرات والتجارة فيها ولا يصلي، فكيف أتعامل معه؟ A نعوذ بالله تعالى! فكل الموبقات عنده مجتمعة، ولكن مع ذلك الجار له حق، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، قال القرطبي وغيره من أهل العلم: ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بين الجار المسلم وبين الجار الكافر. ورب العزة كذلك قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] ، إلى قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء:36] ، فالنصوص جاءت عامة تحث على الإحسان إلى الجار، ولكن إذا كان بهذه الصورة المذكورة، فالتعامل معه بما يصلحه في دينه ودنياه، فإن علمت أنك بزيارتك له تصلح من شأنه، وتخفف المفاسد التي هو فيها فصله واحتسب صلتك عند الله سبحانه وتعالى. وإن كنت تخشى على نفسك مضرةً في دينك، وتخشى على نفسك إن دخلت بيته أن تتلوث وتقع في فواحش مع النساء، ويسحبك الشيطان من جانب الإصلاح فيوقعك في جانب الفاحشة وأنت لا تشعر، فحينئذٍ اجتنب واتق الله تعالى ما استطعت، فالمسألة مبنية على مسألة توقع المصلحة أو المفسدة الناتجة من الزيارة، والعلم عند الله تعالى.

لبس الخاتم في الأصبع الوسطى

لبس الخاتم في الأصبع الوسطى Q ما حكم لبس الخاتم في الإصبع الوسطى؟ A (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التختم في الوسطى والتي تليها) ، وهذا بالنسبة للرجال، وأما بالنسبة للنساء فقد قال جمهور أهل العلم: إن المرأة يحق لها ويشرع لها أن تتختم في أي إصبع كان، في الأوسط أو في غير الأوسط، وحملوا حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه: (نهى عن التختم في الوسطى والتي تليها) على أنه خاص بالرجال.

تشبيك الأصابع في المسجد وما ورد فيه

تشبيك الأصابع في المسجد وما ورد فيه Q ما حكم تشبيك الأصابع في المسجد؟ A ورد في هذا حديث فيه: (إذا عمد أحدكم إلى الصلاة أو إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه) ، ومن أهل العلم من حسن هذا الحديث، وبنى عليه تحريم أو كراهية تشبيك الإصبع في المسجد وعند القدوم إلى المسجد، بينما جنح الإمام البخاري رحمه الله تعالى إلى الغمز في هذا الحديث بإيراده حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف بك -يا عبد الله بن عمرو - إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وخفت أمانتهم، وأصبحوا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه) ، وهذا من ناحية الصحة أصح بلا شك من حديث: (إذا عمد أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه) ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أورده الإمام البخاري رحمه الله تعالى وغيره: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) ، وهذا من ناحية القوة أقوى بلا شك من حديث: (إذا عمد أحدكم إلى الصلاة فلا يشبكن بين أصابعه) ، فإذا بنينا على أن حديث: (إذا عمد أحدكم إلى الصلاة فلا يشبكن بين أصابعه) حديث حسن، فإما أن يقال: إن هذا في الطريق من البيت إلى المسجد، وإما أن يقال: إن الأمر للكراهة وليس للتحريم؛ للصوارف القوية التي صرفته عن التحريم، والله تعالى أعلم.

حديث المجروح حين اغتسل فمات

حديث المجروح حين اغتسل فمات Q ما صحة حديث: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) ؟ A الحديث ضعيف لاضطرابه، وقد فصلت ذلك في تحقيق رسالة (إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد) فليراجعه من شاء.

المسح على الجبيرة

المسح على الجبيرة Q ما حكم المسح على الجبيرة؟ A بعد أن ثبت تضعيف حديث الجبيرة لضعف في أسانيده وفي متنه، بقيت مسألة المسح على الجبيرة مبنية على النظر في عمومات أخرى، فمن أهل العلم من قال: إن الشخص يتوضأ ويمسح على الجبيرة، أي: الجزء الذي جُبّس، فيتوضأ ويغسل كل الأعضاء، ويأتي إلى الجزء المجبس فيمسح عليه، واستدل بعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، ومن أهل العلم من قال: يتيمم عن الجميع، فيضرب بيديه في الأرض ويمسح بهما وجهه وكفيه، فهذان قولان مشهوران للعلماء: أحدهما: أنك تتيمم وهذا التيمم يجزئ عن الوضوء كله، والآخر: أنك تتوضأ وتمسح على الجبيرة، ومنهم من قال: تتوضأ وتتيمم للجبيرة، فأصبحت ثلاثة أقوال، والدليل الصريح لا يقضي بتفضيل أحدها على الآخر، والله تعالى أعلم.

البدء بغسل القبل والدبر عند الاستنجاء

البدء بغسل القبل والدبر عند الاستنجاء Q هل السنة في الاستنجاء أن يُبدأ بالقبل أم بالدبر؟ A لا أعلم في ذلك شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر -والله تعالى أعلم- أن الأمر واسع، فتبدأ بالقبل أو بالدبر، والأمر يسير، والله تعالى أعلم.

تفسير سورة النساء [58-65]

تفسير سورة النساء [58-65] أمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات إلى أهلها، والأمانات عامة ولا تقتصر على الأمانات المالية فحسب، كما أمر الله سبحانه وتعالى بالعدل في الحكم بين الناس، والعدل يكمن في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر، وأولو الأمر هم العلماء والأمراء، فتجب طاعتهم إلا إذا أمروا بأمر مخالف لكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ لا طاعة لهم. وقد ذكر الله تعالى أحوال من تحاكموا إلى الطاغوت، واختلاف الحكم عليهم باختلاف الدافع لهم على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] . قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} الأمر لمن؟ ظاهر الآية يفيد أن الأمر لعموم الناس. ومن أهل العلم من قال: هو أمر لعموم المؤمنين، وهذا مبني على قاعدة وهي: هل الكفار مخاطبون بنصوص الشريعة وبفروع الشريعة أو ليسوا مخاطبين بها؟ من أهل العلم من قال: إن الأمر للناس كلهم، وهذا كما سمعتم مبني على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهي مسألة خلافية، وكون الكفار مخاطبين بنصوص الشريعة أو غير مخاطبين بها تنبني عليها جملة أحكام فقهية لا يتسع الوقت لسردها كطلاق المشرك إذا أسلم، فعلى القول بإن تارك الصلاة كافر مشرك، فلو طلق زوجته أثناء تركه للصلاة ثم أسلم بالصلاة، هل تعتبر تطليقاته التي طلق بها زوجته؟ مسائل متعددة تنبني على هذه القاعدة، لكن لا ندخل فيها. شاهدنا الآن: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فيها أقوال: قال فريق من أهل العلم: إنها خاصة بالمؤمنين. وقال فريق منهم: إنها للناس كافة. ومن العلماء من قال: إن هذا كان خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان قد أخذ مفتاح الكعبة من حجبتها وهم بعض بني شيبة، فجاء الأمر من الله للنبي أن يرد لهم مفاتيح الكعبة، لكن الآية أعم من ذلك.

هل الأمر للوجوب أم للاستحباب؟

هل الأمر للوجوب أم للاستحباب؟ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} يا عموم المؤمنين، وهل الأوامر من الله على الوجوب أو على الاستحباب؟ قال فريق من العلماء: إن الأوامر على الوجوب إلا إذا صرفها صارف. ومن العلماء من فصل بين الأوامر الواردة في فضائل الأعمال والأوامر التي دون ذلك، فمثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا ً) ، هل هذا الأمر من رسول عليه الصلاة والسلام يفيد الوجوب أو هو على الاستحباب؟ الجمهور من أهل العلم: أنه على الاستحباب. (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي) ، هل هذا على الوجوب أم على الاستحباب؟ قال الأكثرون: إنه على الاستحباب، لكن هنا الأمر على الوجوب.

الأمانات التي أمر الله بأدائها

الأمانات التي أمر الله بأدائها {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَات} ، ما هي الأمانات؟ الأمانات عامة، تشمل الأمانات المالية، وتشمل غيرها من الأمانات، فإذا استؤمنت على مال فالآية موجهة إليك أيضاً، ومن أمانات الطبيب أن يؤدي إلى المريض حقه من التشخيص، ومن أمانات أصحاب الصنائع أن يتقنوا صناعاتهم وينصحوا للناس كما علمهم الله تبارك وتعالى، ومن الأمانات الأمانة العلمية، فالعالم استؤمن على علم عليه أن يؤديه إذا طلب منه، فالأمانات عامة لا تقتصر على الأمانات المالية فحسب، وقد قال فريق من أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب:72] : إن المراد بالأمانة: الغسل من الجنابة، وهذا قول قد يراه الشخص غريباً عجيباً، لكنه قولٌ تقلده عدد من أهل العلم، وقال فريق من العلماء: إنها الأمانة بصفة عامة. فقوله تعالى هنا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} أمر إيجاب، {أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إذا طلبوها منكم.

حث الشرع على العدل

حث الشرع على العدل وقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الحكم بالعدل أحاديث، منها: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة، تعدل بين اثنين صدقة) ، وقال الله تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] ، فكل هذه الآيات والأحاديث تحث على العدل بين الناس، وتحث أيضاً على القضاء بينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) ، ومسألة القضاء جاءت فيها نصوص وعيد، وجاءت كذلك فيها نصوص تبين فضل القاضي الذي يقضي بين الناس بالعدل بما علمه الله إياه، فهذه كلها أدلة تؤيد رأي من قال باستحباب القضاء بين الناس بالعدل، واستحباب العمل في القضاء إذا كان الشخص واثقاً من نفسه، وأنه سيقضي بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الباب حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة) قاضٍ علم الحق وقضى به فهو في الجنة، وقاضٍ قضى بجهل لم يعبأ ولم يجتهد في معرفة الحق -هذا ليس من كلام الرسول إنما هو شرح للحديث- فهو في النار، وقاضٍ قضى بجورٍ عن عمدٍ فهو في النار كذلك. وعلى ذلك فلا يتحاكم إلى قول الشاعر: قضاة زماننا أضحوا لصوصاً عموماً في البرية لا خصوصاً ولو عند التحية صافحونا لسلوا من أيادينا الفصوصا ولو أمروا بقسمة ألف ثوبٍ لما أعطوا لعريانٍ قميصاً الله يقول: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] ، والدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله يقضي على أبيات الشعر، والدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله هو الذي يتحاكم إليه. قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} والعدل في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} هذا يخول للمسلم أن يحكم بين الكفار، وأن يقضي فيهم، قال الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] فيجوز للمسلم أن يحكم في كفار، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم على يهوديين زنيا بالرجم، وهذا ثابت في صحيح البخاري وفي غيره، فيجوز للمسلم أن يقضي بين الاثنين ولو كانا من الكفار. {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} ، نعم الشيء يذكركم به الله سبحانه وتعالى.

إثبات صفتي السمع والبصر لله

إثبات صفتي السمع والبصر لله وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية وضع إصبعه الإبهام على أذنه والإصبع الأخرى على عينه، فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} استنبط منها بعض أهل العلم صفة السمع لله وصفة العين لله، لكن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . من المعلوم أن الله قال في كتابه الكريم: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فجاءت العين مفردة، وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فجاءت العين مجموعة، فصفة العينين لله لم ترد صريحة في كتاب الله إنما أخذها العلماء من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ألا إن المسيح الدجال أعور، وإن ربكم ليس بأعور) فقالوا: نفي العور يعني إثبات العينين، واستدلوا بهذا الحديث الذي سمعتموه عند تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)) .

معنى: أولي الأمر

معنى: أولي الأمر وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} من هم أولي الأمر؟ لأهل العلم فيهم قولان: أولهما: أنهم ولاة الأمور، وثانيهما: أن المراد بأولي الأمر: أهل العلم، ولفظ أولي الأمر يأتي أحياناً محمولاً على الولاة، وأحياناً على أهل العلم، حمله على أهل العلم كما في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83] فأولي الأمر هنا هم أهل العلم، فالآية نزلت في شأن عمر، لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق أزواجه، فذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بالناس جلوس يبكون، فطرق واستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له بعد ثلاث، فقال: (هل طلقت نساءك يا رسول الله؟ قال: لا، فكبر عمر) فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ، فكان عمر من أولي الأمر مع أنه لم يكن أميراً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحياناً يأتي اصطلاح أولي الأمر ويقصد به الولاة الذين قال الله في شأنهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] ، وأحياناً -كما ذكرنا- يراد بأولي الأمر: أهل العلم، والآيات هنا محتملة للاثنين معاً. {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} أولي الأمر هنا محمولة على الاثنين معاً، محمولة على الولاة ومحمولة على العلماء.

طاعة الأمراء والعلماء مقيدة بالمعروف

طاعة الأمراء والعلماء مقيدة بالمعروف أما طاعة الولاة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) هذا بالنسبة لولاة الأمر، لكن إذا أمر ولاة الأمر بأمر مخالف لكتاب الله أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذٍ لا طاعة لهم، فإن الله يقول: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على جيش، وأوصى الجيش بطاعة الأمير، وقيل إنه عبد الله بن حذافة السهمي فلما كان ببعض الطريق قال لأصحابه: ألم يأمركم صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطباً، فجمعوا له حطباً، فقال: أججوا فيه النار، فأججوا فيه النار، ثم قال لهم: اقتحموها، فترددوا، ففريق يقول: أمرنا النبي بطاعته فلنطعه، وفريق يقول: إنما اتبعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فراراً من النار، والله! لن ندخلها أبداً، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو دخلتموها ما خرجتم منها إلا يوم القيامة، إنما الطاعة في المعروف) . فإذا أمر الأمراء بشيء مخالف لأمر الله فطاعة الله ورسول الله مقدمة على كل الطاعات، والأمر في شأن العلماء كذلك، إذا أتى عالمٌ بشيء يخالف كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام عن اجتهادٍ أو عن غير اجتهاد واتضح لنا أن الدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله خلاف ما يقول؛ لزمنا اتباع الدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله، والآية شاهدة على ذلك: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أنتم وولاة الأمر {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، وقد قال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] . وعلى هذا سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع العلماء ومع الأمراء، فكانوا يقبلون من الأمراء أقوالهم، لكن إذا أتى الأمراء بشيء خلاف كتاب الله وسنة رسول الله لم يقبلوه، فهذا عمر المحدث الملهم، الخليفة البر الراشد لما نهى الصحابة عن التمتع في الحج قام له عمران بن حصين وقال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد التمتع في كتاب الله، فقال رجلٌ برأيه ما شاء، ونحوه قال علي لـ عثمان رضي الله تعالى عنهما، فقول عمر وعثمان رضي الله عنهما كان عن اجتهاد، لكن لما لم ير علي وعمران أن الاجتهاد موافقٌ للدليل ردوا هذا الاجتهاد، وأقبلوا على كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أي أنتم وولاة الأمر، وهذا قد يرد، فيختلف الأمير أو العالم مع بعض العامة في مسألة، ليس معناها أنه يكفر بها هذا أو ذاك، إنما إن تنازعتم في شيء (فردوه) أي: ارجعوا الحكم فيه إلى الله وإلى الرسول {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، والتأويل له عدة معانٍ وقد تقدم الكلام عليها.

معاني الزعم وإطلاقاته

معاني الزعم وإطلاقاته ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} الزعم يطلق على الكلام المشهور بالكذب، وأحياناً يطلق على مجرد القول، قالت أم هانئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! زعم ابن أمي -تعني علي بن أبي طالب - أنه قاتل رجلاً قد أجرته يا رسول الله! قال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ!) فقولها: زعم ابن أمي أي: قال. أما القول المشهور بالكذب فهو الاستعمال الأكثر للزعم، أو القول الذي هو خطأ محض {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] .

معنى الطاغوت وأحوال من تحاكم إلى الطاغوت

معنى الطاغوت وأحوال من تحاكم إلى الطاغوت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} آمنوا بما: ما هنا بمعنى الذي، {آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} هو القرآن {وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} هو التوراة والإنجيل وسائر الكتب. وهذه الآية قد يقال: المعني بها أهل الكتاب الذين كانوا يقطنون مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا آمنوا في الظاهر بما أنزل على رسول الله، وآمنوا أيضاً بالكتب الذي نزلت قبل رسول الله، لكن لقائل أن يقول: إنهم أهل النفاق، وهذا القول قوي وهو الأنسب؛ لأن أهل النفاق آمنوا جملة بالقرآن وما جاء فيه ظاهراً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} فقوله تعالى: {يُرِيدُونَ} يعطي حكماً فقهياً فحواه أن الذي يُجبر على التحاكم إلى الطاغوت غير الذي يريد من قلبه أن يتحاكم إليه، فمثلاً: رجل سرق منه مال، ليست أمامه أي حيلة لاستخلاص هذا المال إلا بهذه المحاكم، والمحاكم تحكم بغير ما أنزل الله، فهل يترك المال يضيع أو يذهب ويأتي بماله عن طريق هذه المحاكم؟ هذه حال يختلف صاحبها عن الذي يريد من قلبه أن يتحاكم إلى الطواغيت في كل شئونه، فقوله تعالى: {يُرِيدُونَ} يفرق بين المكره على التحاكم إليها الذي يتحاكم إليها لضرورة ولنازلة حلت به وبين مرتاح القلب الهادئ البال أثناء التحاكم إليها الراغب في التحاكم إليها. فحينئذٍ لا بد أيضاً لاعتبار إصدار الحكم بالكفر على شخص من مراعاة حاله والحامل له على هذا التحاكم، هل هو إكراه؟ هل هو حبٌ قلبي؟ هل هي نازلة حلت به؟ فليس كل من تحاكم إلى الطاغوت كافراً، فأحياناً يجبر الشخص على ذلك، وأحياناً لا يجبر لكن تأتيه بلية تحمله على ذلك، فالأمر يحتاج إلى تفصيل في تنزيل الأحكام على الأشخاص، ليس كما يفعل بعض الناس إذا رءوا شخصاً في المحكمة حكموا عليه بالضلال والكفر، لا، بل الأمر فيه تفصيل، وكل مسألة تحتاج إلى النظر في ملابستها للحكم في شأن مقترفها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن حاطب بن أبي بلتعة أرسل إلى المشركين يحذرهم من رسول الله يقول ما حاصله: انتبهوا -يا أهل الكفر- فإن محمداً عليه الصلاة والسلام يعد العدة لغزوكم، فأطلع الله نبيه على صنيع حاطب، فأتي به، فقال عمر المحدث الملهم أمام رسول: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله! قد خان الله وخان رسول الله وخان المؤمنين، فالرسول يقول مقولة المعلم الذي يعلم أمته: (يا حاطب! ما حملك على ما صنعت؟) فماذا كان رد حاطب؟ قال ما حاصله: والله يا رسول الله! ما كفرت بعد إسلام، ولا أحببت الكفر، ولكني نظرت -يا رسول الله- فإذا أصحابك الذين هم معك بالمدينة لهم أقارب يخلفونهم بمكة في أموالهم وذراريهم، أما أنا فكنت ملصقاً بأهل مكة لم أكن منهم، فأردت أن أتخذ عندهم يداً - يعني نعمة أقدمها إليهم ومعروفاً أسديه إليهم- يدفع الله بتلك اليد عن ما لي وأهلي الذين تركتهم في مكة، فأردت أن أصنع فيهم معروفاً وجميلاً حتى يحافظوا لي على أموالي وأولادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقكم فلا تقولوا له إلا خيراً) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ففي قوله تعالى: {يُرِيدُونَ} ما يفيد أن الإرادة من القلب، {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} ، والطاغوت كل من تجاوز الحد في الظلم والطغيان، شيطاناً كان -والشيطان كبيرهم-، أو كان كاهناً أو ساحراً أو حاكماً بغير ما أنزل الله أو غير ذلك، فكل من تجاوز الحد في الظلم والطغيان فهو طاغوت، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] ، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] . ((يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)) ومن أهل العلم من قال: إن الطاغوت هنا هو كعب بن الأشرف، فعلى هذا أوّل الآية فقال: كانت طائفة من أهل النفاق ترغب في التحاكم إلى كعب بن الأشرف مع أنها زعمت أنها مؤمنة بالله وما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)) والأمر بالكفر بالطاغوت وارد في هذه الآية وفي غيرها من الآيات، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ، واجتناب الطاغوت متضمن للكفر بكل ما يعبد من دون الله، وكل ما يطاع من دون الله، فيلزم المسلم أن يكفر بكل ما يعبد من دون الله. فيجب على كل مسلم أن يكفر بكل شرع لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، ولم يشرعه رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فهذه من أصول ديننا ومن المسلّمات، من أصول الدين أن يكفر بكل شرع غير شريعة الإسلام، وبكل كتاب غير كتاب الله والكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] ، يضلهم بماذا؟ يضلهم بحملهم على التحاكم إلى الطاغوت، فالآية أفادت أن من تحاكم إلى الطاغوت فقد ضل ضلالاً بعيداً، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} بإغوائهم وسوقهم إلى التحاكم إلى الطاغوت {يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} .

موقف المنافقين إذا طلب منهم التحاكم إلى شرع الله

موقف المنافقين إذا طلب منهم التحاكم إلى شرع الله قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} هلموا وتحاكموا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} فكل من صد عن كتاب الله وعن سنة رسول الله فهو منافق، {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} .

المعاصي سبب نزول المصائب

المعاصي سبب نزول المصائب قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:62] الباء سببية، فكيف إذا حلّت بهؤلاء المنافقين الذين يصدون عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبة؟ (بما) أي: بالذي، أي: بسبب الذي قدمته أيديهم، من صد عن كتاب الله وصد عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. في الآية أن المعاصي سبب لنزول النقم من الله سبحانه وتعالى، فالمصائب تأتي بسبب الصد عن سبيل الله {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ، فالمصيبة نزلت عليهم لما اقترفوه من صد عن كتاب الله وصد عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا؛ فالحال التي نحن فيها ونعيشها مؤذنة بنزول المصائب علينا لولا رحمة الله سبحانه وتعالى بنا. فالصد عن سبيل الله سببٌ لنزول المصائب من الله تعالى كما أثبتته الآية الكريمة {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي كيف يكون حالهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم؟ {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} ما أردنا بإبعادنا الناس عن الكتاب والسنة إلا الإحسان والتوفيق، وهذا شأن أهل الإجرام والفساد، يصرفون الناس عن كتاب الله وعن سنة نبيه محمد ويقسمون أنهم من المصلحين! (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا) أي: ما أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، ونحو ذلك قاله فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] ، فهؤلاء أهل النفاق كذلك يقولون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} .

ما في القلب مرتبط بسعادة العبد أو شقاوته

ما في القلب مرتبط بسعادة العبد أو شقاوته قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] . {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} والذي في القلوب سبب لجلب رحمة الله، وسبب لنزول العذاب من الله، فإذا كان الذي في قلبك خير نزلت عليك السكينة، قال تعالى في سورة الفتح في شأن أصحاب نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] ، فأصلح قلبك وعلى قدر ما فيك من الصلاح يأتيك الخير. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:70-71] فرزق الله يأتي مع أخذ السبب بناءً على ما في القلوب، لما جاء العباس إلى رسول الله وكان في الأسر، وقال: يا رسول الله! والله! إني كنت مسلماً فرد علي الفدية التي أخذتها مني، فنزل: {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70] ، فالأجر مرتب على الخير الذي في القلوب، والعذاب كذلك مرتب على الشر الذي في القلوب، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} العلم بما في القلوب ليس لك يا رسولنا محمد! إنما مرده إلى الله سبحانه وتعالى {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تكثر الجدل معهم، ولا الحديث معهم، ولا الجلوس معهم.

الموعظة البليغة وأثرها

الموعظة البليغة وأثرها قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} فيه استحباب الموعظة، وأنها قد تأتي بنتيجة، حتى مع أهل الكفر وحتى مع أهل النفاق. {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} هنا أيضاً في هذه الآية فضل الفصاحة والبلاغة، فالذي يتعلمها ابتغاء وجه الله لبيان كتاب الله ولبيان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقرارهما في قلوب العباد بإذن الله له نيته، ويثاب على ذلك {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} فيه فضل البلاغة والفصاحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) ، يمكن أن تقول له مقالة طيبة تسحر قلبه بإذن الله وتحوله من الشر إلى الخير، بناءً على الكلمات الطيبة، ولذلك كان أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم على هذه الشاكلة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم) .

وجوب طاعة الرسول

وجوب طاعة الرسول وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ} [النساء:64] الرسل أرسلت لتطاع، لا ليؤخذ من قولها ويرد، فقول الرسول ليس كقولنا، ودعاء الرسول ليس كدعائنا، ومناداة الرسول ليست كمناداتنا، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] ودعاء الرسول ليس المراد به هنا الدعاء المعهود من طلب الشيء من الله إنما الدعاء طلب الرسول منكم، لأن الآية نزلت في حفر الخندق فكان أقوامٌ يتسللون ويهربون لواذاً أثناء حفر الخندق وأثناء غزوة الأحزاب، فأنزل الله في شأنهم هذه الآية: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] . وقال تعالى هنا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ} ولكن هذه الطاعة منكم لأنبياء الله لا تكون إلا بإذن الله، فالقلوب لا يملكها إلا هو سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:100] فطاعة العبد لله إنما هي من الله سبحانه وتعالى ومن توفيق الله للعبد، ولذلك يقول أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] . والآيات في هذا الباب في غاية الكثرة {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] فالمهتدي من هداه الله.

طلب الاستغفار من النبي يكون في حياته لا بعد مماته

طلب الاستغفار من النبي يكون في حياته لا بعد مماته قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] . هنا أورد الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى قصة العتبي، وقد ليم الحافظ ابن كثير على إيراده لها مع سكوته عليها، وهذه إحدى المآخذ التي أخذت على الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، فهو وإن كان مسدداً في تفسيره، والغالب عليه التوفيق إلا أن هذا من المآخذ التي أخذت عليه رحمه الله تعالى، أورد قصة العتبي الذي كان جالساً بجانب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجلٌ يثني على رسول الله ويقول: جئتك مستغفراً يا رسول الله! فاطلب من الله أن يغفر لي وأنشد أبيات شعر: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه. إلى آخر أبيات الشعر ثم انصرف الرجل، فنام العتبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: اذهب إلى الأعرابي وقل له: إن الله قد غفر لك، فهذه القصة لا نعلم لها إسناداً البتة، ثم هي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤخذ منها دليلٌ ملزم، ثم هي رؤيا منامية والرؤيا المنامية لا تبنى عليها أحكام، فأخذ منها أهل التصوف أنهم يذهبون إلى قبر الرسول، ويطلبون من رسول الله أن يستغفر لهم ربه، ولو كان الأمر على ذلك لفعله أصحاب الرسول الكبار كـ أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فهذا وجه المؤاخذة على الحافظ ابن كثير إذ لم يعلق عليها تعليقاً يليق بها، ويبين ما فيها، والله أعلم. فالحاصل أن طلب الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حياته، كما قال أمير المؤمنين عمر: (استغفر لي يا رسول الله!) ، ولو كان طلب الاستغفار من رسول الله بعد موته مستساغاً لفعله كبار الصحابة، وقد تقدم أن المسلمين لما نزلت بهم نازلة المجاعة استسقوا بـ العباس، ولم يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره طالبين منه أن يدعو الله عز وجل لهم كي يسقوا.

سبب نزول قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك.

سبب نزول قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك.) وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] قال الزبير بن العوام: فيّ نزلت هذه الآية وفي رجل من الأنصار، كان بيننا خصومة في شراج الحرة -مكان سقيا الماء- فذهبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحاكم إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسق يا زبير! ثم أرسل الماء إلى الأنصاري) ، وذلك باعتبار أن الماء كان يمر على الزبير أولاً، فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله! أوإن كان ابن عمتك؟ يعني أنك حكمت له لكونه ابن عمتك، فـ الزبير ابن صفية وصفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله التي قال لها: (يا صفية بنت عبد المطلب! سليني من مالي ما شئت ... ) فقال الأنصاري لرسول الله: أوإن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! أي: من أجل ذلك قضيت له! فتلون وجه رسول صلى الله عليه وسلم، وكان قد أشار عليهما بأمر فيه إصلاح لهما معاً، فقال: (اسق -يا زبير - حتى يرتد الماء إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى الأنصاري) ففيه نزلت: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ، فأمر النبي الزبير أن يستوفي حقه كاملاً، يعني العرف يقضي بأن الشخص إذا مر عليه الماء أن يسقي أرضه حتى يرتفع الماء إلى قدر معين، فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار على الزبير في بداية الأمر بأمر فيه خيرٌ لهما معاً، أن يأخذ قدراً يسيراً من الماء ثم يرسل الماء إلى الأنصاري، فلما أصر الأنصاري على أن يقضي بينهما قال الرسول: (اسق -يا زبير - حتى يرتد الماء إلى الجدر -يعني: استوف حقك كاملاً - ثم أرسل الماء إلى الأنصاري) ففيه نزلت: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . فإذا جئت إلى شخص وتحاكمت معه إلى كتاب الله، وأنت غير مرتاح القلب لهذا التحاكم فإيمانك ناقص أيضاً مع أنك تحاكمت إلى كتاب الله؛ لأن الله يقول: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} هذا هو الإيمان. {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، ولهذه الآية مزيدٌ من التعليقات تأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم ارتداء الحرير الصناعي للرجال

حكم ارتداء الحرير الصناعي للرجال Q ما حكم ارتداء الملابس التي تصنع من الحرير الصناعي بالنسبة للرجال؟ A الحرير الصناعي جائز للرجال، الممنوع هو الحرير الذي منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما اخترعه الناس وأطلقوا عليه اسم الحرير فلا يدخل في الباب، لكن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فلقائل أن يقول بكراهته، والله أعلم.

حكم ارتداء الملابس ذات الألوان المتداخلة للرجال

حكم ارتداء الملابس ذات الألوان المتداخلة للرجال Q وما حكم ارتداء الملابس الملونة ذات الألوان المتداخلة بالنسبة للرجال أيضاً؟ A إن كانت تشبه ألوان ثياب النساء فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، وفي الحقيقة أنها تشغل المصلي والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اذهبوا بخميصتي هذه وائتوني بإنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) .

حكم من أخذت حقوقه وتحاكم إلى المحاكم الطاغوتية

حكم من أخذت حقوقه وتحاكم إلى المحاكم الطاغوتية Q هناك رأي للشيخ الفلاني يقول: إن كان لي حقوق عند الآخرين، ولا أستطيع أخذها إلا بواسطة التحاكم لهذه المحاكم، فترك الحق أفضل من أخذه بواسطة هذه المحاكم؛ لأنها تحاكم للطاغوت؟ A هذا القول لا نوافق عليه هذا الشيخ الكريم، فإن هذا فيه تسليط لأهل الشر والفساد على المسلمين واختلاس أموالهم بحجة أن المسلمين يتركون حقوقهم تضيع، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه يجوز لك أن تأخذ حقوقك ما لم ترتكب أنت وسيلة محرمة، فالظاهر -والله أعلم- جواز الاستعانة بالظالم بل جواز الاستعانة بالكافر لأخذ حقٍ من حقوقك الذي اغتصب منك. النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف، كان أهل مكة يتربصون شراً برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي فقال المطعم بن عدي لقبيلته: إني قد أدخلت محمداً في جواري، فهلموا إلى حمل السلاح للدفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم، فحملت قبيلته السلاح دفاعاً عن رسول الله، ثم قال لأهل مكة: يا أهل مكة! إن محمداً قد دخل في جواري، فمن تعرض له بسوء، كانت الفاصلة بيني وبينه، ودخل النبي في هذا الجوار، ومن ثم لما أسر النبي صلى الله عليه وسلم أسرى قريش قال: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء الناس لأعطيتهم له) ، أي: جزاءً للذي عمله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. الظاهر -والله أعلم- أنه يجوز لك أن تأخذ حقوقك ولو بالتحاكم إلى هذه المحاكم، وليست إرادتك أن تأخذها بواسطتها، لكن هي حلت بنا، فنحن نختار أقل المفسدتين، فإذا كان رب العزة سبحانه أجاز لك أن تتلفظ بكلمة الكفر خوفاً على حياتك أو إذا أكرهت على ذلك فما هو دون الكفر من باب أولى. لأنه الآن أصبح لزاماً علينا -رغم أنوفنا- أن نتحاكم إلى هذه المحاكم، مثلاً: الآن التعاملات بين الناس في البيع والشراء تطورت عما كان على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كان فيها نقد، وكان فيها إلى أجل، وكان فيها رهن، والرسول مات ودرعه مرهونة، والآن قد تبيع لشخصٍ، ولا يعطك المال، ويكتب عليه شيكاً أو وصل أمان، فإن قال لك: ما أعطيك الوصل، ما أعطيك القروش ماذا تصنع؟ هل تقول له: مع السلامة، هي حلال لك، النبي نهى عن إضاعة المال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) . فلدينا شيئان: إما أن يضيع مالي وهذا أمر يكرهه ربي. أو أطلب مالي بطريقة لا أرتكب منها إثماً، فالذهاب إلى المحكمة ليس عن إرادتي أن أتحاكم إلى شرع غير شرع الله، وإنما إرادتي أن أستخلص مالي؛ لأن ضياع المال يكرهه الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.

حكم العمل في المحاماة

حكم العمل في المحاماة Q ما حكم العمل في المحاماة؟ A إذا كنت تقرر حقاً فأنت محق، وإذا كنت تقرر باطلاً فأنت مبطل، وأصبحت مهنة لازمة الآن للمسلمين، فإن كنت تنشد الحق فيها وتعمل ما يرضي الله سبحانه وتعالى فأنت محق، وكم من محامٍ نفع الله به المسلمين، فهنا أقول للشيخ الفاضل الشيخ صالح عبد الجواد نسأل الله أن يحفظه: لما منع الوزير البنات من دخول الجامعة بالنقاب، سعى سعياً مشكوراً ونفع الله به، ودخلت مائة وخمسون فتاة الجامعة بالنقاب. أما إذا كنت تجادل عن الذين يختانون أنفسهم فالله يقول: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء:107] .

معنى قوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي)

معنى قوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي) Q يقول تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ،وقال عيسى عن نفسه: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117] ، فهل عيسى عليه السلام مات؟ A قال فريق من العلماء: إن الموت يطلق على النوم، واهدهم قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) ، فقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] قال فريق من العلماء: معناها: منيمك ورافعك إلي، وقد جاء في الأثر ما يوضح هذه القصة بأنه ألقيت عليهم الإغفاءة فرفع الله فيها عيسى صلى الله عليه وسلم. ومن أهل العلم من قال: إن الواو في قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] لا تقتضي الترتيب، والدليل على أن الواو لا تقتضي الترتيب -مثلاً- قولك: جاء زيدٌ وعمرو، لا يعني: أن زيداً جاء، ثم جاء بعده عمرو، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، فالسلام قبل الاستئناس، يعني: لما تدخل البيت تطرق الباب وتسلم سلام الاستئذان، وإذا دخلت البيت فإنه فاتك الاستئذان، كما قال عمر لرسول الله لما دخل البيت: ائذن لي أن أستأذنك يا رسول الله! فالأصل أن الاستئذان للدخول (سلام الاستئذان) قبل الاستئناس، لكن الآية فيها {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، فالواو لا تفيد الترتيب فقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] لا تعني: أنني متوفيك أولاً ثم رافعك ثانياً. فإن فسرناها بمنيمك فالأمر مستقيم، أي: إني منيمك ورافعك إلي، وإن فسرت: إني رافعك إلي ومتوفيك بعد ذلك فالأمر ليس فيه إشكال لكن اليقين الذي لا شك عندنا فيه أن الله قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ليوشكن ابن مريم أن ينزل فيكم حكماً مقسطاً، فيقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويكسر الصليب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) .

مسألة الظفر

مسألة الظفر Q مسألة الظفر ما هي؟ وهل تجوز أو لا تجوز؟ A مسألة الظفر يوردها العلماء عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، وهي أن يكون هناك رجل مختلسٌ لأموالك، وتمكنت أنت من شيءٍ من ذلك، إما على سبيل أمانة أودعك إياها، أو احتلت حيلة حتى أخذت جزءاً من ماله أو من متاعه، وبعد ذلك أخذت حقك من هذا المال، فهل هذا جائز أو غير جائز؟ مثلاً: رجلٌ أخذ منك ألف جنيه، وهو مماطل فوجدت له سيارة محملة بضاعة، جئت إلى السيارة وأخذت السيارة بما فيها وانصرفت، فكل هذا يدور حول مسألة الظفر، لكن كمثال لها: رجل استأمنك على مال وقال: خذ هذا المال أمانة عندك لي، ثم بعد ذلك أكل عليك مالاً أو فعل معك مظلمة، هل يجوز لك أن تقتص من هذا المال بقدر المظلمة؟ هذه المسألة تسمى مسألة الظفر، أجازها فريق من العلماء لعمومات؛ من هذه العمومات قول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] ، ولقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] . وقصة هند مع أبي سفيان، حيث جاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت -وهي زوجة أبي سفيان -: (إن أبا سفيان رجلٌ شحيح يا رسول الله! فهل علي جناح أن آخذ من ماله بغير إذنه، وهو لا يعلم، قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، زوجها شحيح بخيل لا يعطيها ما يعطي الرجال النساء ممن هم في مثلها، فهل علي جناح أن آخذ من ماله -لأنه ثري في الأصل- بغير إذنه؟ قال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فهذه أدلة القائلين بجواز هذه المسألة. ومنع فريقٌ محتجين بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -والإسناد فيه نظر-: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) ، لكن في هذا الحديث نظر، والراجح عندي أنه ضعيف، واستدلوا أيضاً على المنع بالنهي عن الغدر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينصب لكل غادرٍ لواء عند استه يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) ، فهذه حجج المانعين، والورع يقتضي الامتناع، والحكم يقتضي الجواز، والله تعالى أعلم.

تفسير سورة النساء [66-73]

تفسير سورة النساء [66-73] في قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم) الآية، إشارة إلى أنه يجب على الإنسان أن يلتزم أمر الله، وأن لا يتكلف؛ لأن التكلف مذموم بالكتاب والسنة، وما وقع بنو إسرائيل فيما وقعوا فيه إلا بسبب تكلفهم وتنطعهم. والالتزام بأمر الله عز وجل سبب في تثبيت الله للعبد، وسبب في هدايته إلى الصراط المستقيم، وإذا ثبت على الحق وهدي إليه فإنه بذلك يصبح أهلاً لأن يكون رفيقاً للنبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. وهذا كله من فضل الله على عباده.

تفسير قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم.

تفسير قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66-68] . قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم) الضمير في قوله تعالى: (عليهم) يرجع إلى من؟ قال فريق من المفسرين: إنه يرجع إلى أهل النفاق، والمعنى على هذا التأويل: ولو أنا كتبنا على أهل النفاق أن اقتلوا أنفسكم، كما كتبنا ذلك على طائفة من بني إسرائيل، أو اخرجوا من دياركم، كما كتبنا ذلك على المهاجرين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، والذين هاجروا إلى الحبشة، (ما فعلوه) أي: ما فعلوا ذلك، أعني: قتل النفس، والمراد به: قتل بعضهم بعضاً كما فعل بنو إسرائيل مع بعضهم، وكذلك الخروج من الديار، لا يفعل ذلك المنافقون، فالمعنى: ولو أنا كتبنا على أهل النفاق أن اقتلوا أنفسكم، كما كتبناه على طائفة من بني إسرائيل، أو اخرجوا من دياركم، كما كتبنا ذلك على المهاجرين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} في الآية إشارة إلى أن الشخص يقنع بالتكاليف التي كلفه الله تعالى بها، ولا يسأل الله المزيد من التكاليف، فلعله إن سأل مزيداً من التكاليف وكُلف ألا يقوم بتلك التكاليف، وفي هذا الصدد يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا وسلوا الله العافية) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا الآيات -أي: لا تسألوا المعجزات- فقد سألها قوم من قبلكم ثم كفروا بها) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وفي هذا الباب أيضاً يقول الله تعالى ناقماً على قوم سؤالهم مزيداً من التكاليف: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246] ، استطردوا فسألوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] لما جاءهم طالوت ملكاً قالوا معترضين: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] ، فالشخص ينبغي له ألا يسأل مزيداً من التكاليف، فلعله إن كلف أن ينكص على عقبيه، وقد قال الله تعالى في شأن أقوام كهؤلاء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77] ، وهم كانوا قد سألوا ربهم سبحانه وتعالى التكليف بالقتال، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) ، ولما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج: (أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم) ، فهذا كله يفيد أنه ينبغي للشخص ألا يسأل ربه مزيداً من التكاليف، ومن ذلك: الإمارة، إذا سألها الشخص لم يعن عليها، وإذا أتيت إليه رغماً عنه أعانه الله تبارك وتعالى عليها، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه) ، فجدير بالشخص أن يقنع بما كلفه الله سبحانه وتعالى، ولا يسأل ربه مزيداً من التكاليف لعله ألا يقوم بتلك التكاليف التي أمره الله تبارك وتعالى بها. قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم) قال كثير من المفسرين -كما سمعتم-: إن (عليهم) أي: على أهل النفاق. وقوله: (أن اقتلوا أنفسكم) أي: يقتل بعضكم بعضاً، فإن النفس تطلق ويراد بها الإخوان أو الأقارب أو الخلان كما قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11] ، وكما قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] ، وكما قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ} [النور:12] أي: بإخوانهم، فكل هذا يفيد أن النفس قد تطلق على نفس الشخص أحياناً، وتطلق على إخوانه أحياناً أُخر، والآية هنا محتملة للوجهين من التفسير. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ} الضمير في (فعلوه) يرجع إلى القتل، ويرجع إلى الإخراج أيضاً، يرجع إليهما معاً، والضمير قد يثنى ويراد به المفرد ويراد به الجمع، وقد يفرد ويراد به المثنى ويراد به الجمع، وهذا وارد في مواطن متعددة من كتاب الله سبحانه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] ولم يقل: ولا ينفقونهما في سبيل الله، وقال تعالى في نحو هذا: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] ، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، ومن العلماء من قال: (وإنها) ترجع إلى الاستعانة نفسها فخرج من الإشكال، ومن تثنية الضمير وإرادة الجمع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ولم يقل: يديهما، فجمع الأيدي، والسارق والسارق مثنى، والله سبحانه أعلم. فقوله تعالى: (ما فعلوه) أي: ما فعلوا الاثنين معاً: القتل والإخراج. قوله: (ما فعلوه إلا قليل منهم) أي: قليل منهم من يمتثل الأمر في الظاهر، هذا إذا حملت الآية على أهل النفاق، فأهل النفاق إن نفذوه ينفذونه ظاهراً، أما باطناً فلا تطاوعهم قلوبهم على فعل أمر الله وفعل أمر رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. فالأكثرون لا يقومون بالتكاليف، ومن ثم قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان أو الثلاثة، والنبي يمر وليس معه أحد) ، وقال تعالى أيضاً مبيناً أن الكثرة غاوية: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] . قال سبحانه هنا: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} المراد بالوعظ هنا: الأمر، أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، الوعظ يطلق أحياناً على الزجر، ويطلق أحياناً على التذكرة، ويطلق أحياناً على الأمر، والمراد به هنا: الأمر، ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، أي: اقتصروا على فعل أمروا به ((لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)) أي: خيراً لهم من طلب تكاليف أخر لا يستطيعون القيام بها، فالقصد في العبادة والمداومة على القليل مطلب شرعي، سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن عمله فقالت: (كان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه) ، أو كما قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وهذا عبد الله بن عمرو رضي الله عنه لما كانت له في شبابه همة عالية للعبادة، وحثه النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن كل شهر مرة فقال: (إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله! قال: فاقرأه في الشهر مرتين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله، قال: فاقرأه في كل أسبوع مرة، قال: إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله! قال: فاقرأ في ثلاث ولا تزد على ذلك) ، وفي آخر حياته كان يقول -لما كبر ولم يطق القيام والصيام-: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فالمداومة على العبادة وإن كانت قليلة، أولى من الاندفاع إليها والإكثار منها ثم الفتور والخمول بعد ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل) ، أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوع

تفسير قوله تعالى: (ولهديناهم صراطا مستقيما.

تفسير قوله تعالى: (ولهديناهم صراطاً مستقيماً.) ((وَإِذًا)) : إذا ثبتوا وعملوا المأمور به {لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} * {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} . في قوله تعالى: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} الهداية هنا ترتبت على فعل المأمور به، إذا فعلوا المأمور به هديناهم صراطاً مستقيماً، فأفعالهم كانت سبباً لمزيد من الهداية لهم، وهي كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، فالذي يلمس ويلتمس ويبتغي طريق الهداية، ويبحث عنها يزيده الله تبارك وتعالى هداية، والذي يسلك طريق الغواية كذلك، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاًَ، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً) الشاهد أن قوله تعالى: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} رتب على أعمال عملوها، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} . فالهداية أصلها من الله كما قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] لكن هناك أسباب يسلكها العبد بها ينال هداية الله عز وجل له. ((وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا)) أي: طريقاً ((مُسْتَقِيمًا)) .

تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول.

تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول.) وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] هذه المعية هل تقتضي التساوي في الأجر؟ لا تقتضي التساوي في الأجر، فإنه وإن كان معهم قد يكونون في درجة أعلى من درجته، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الأذان: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة يوم القيامة) . فالشاهد: أن النبي عليه الصلاة والسلام ينال منزلة الوسيلة وهي لا تنبغي لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن المعية في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} لا تقتضي المماثلة في الأجر، إنما يكون معهم في مجالسهم يزورهم ويزورنه، يراهم ويرونه، يستضيفهم ويستضيفونه، إلى غير ذلك، لكن إذا أوى كل شخص منهم إلى رحله كانت درجته أرفع وأعلى ممن هو دونه في العمل، وقد رضي كل واحد منهم بالقسمة التي رزقه الله تبارك وتعالى إياها، وهذا كما نكون نحن في المسجد كلنا معاً، يقال: هذا كان معي أمس، وهذا معي اليوم، لكن إذا آوى أو ذهب كل منا إلى رحله، كانت لهذا منزلة وله سعادة في بيته، ولهذا منزلة دونها وله مشاكل وشقاوات في بيته، وإن كانت الجنة منزهة عن تلك الشقاوات، فهذا معنى المعية، والله تبارك وتعالى أعلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى أيضاً: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء) وكلهم في الجنة، ومع ذلك بينهم التفاضل هذا الوارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

الصلاح أقل من مرتبة الشهادة غالبا

الصلاح أقل من مرتبة الشهادة غالباً {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] ، والصلاح على هذا الترتيب أقل من منزلة الشهادة، ولكن قد يفوقها أحياناً، قال سليمان صلى الله عليه وسلم: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] مع أنه نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (وحسن أولئك رفيقا)

تفسير قوله تعالى: (وحسن أولئك رفيقاً) {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري) والنحر معروف، والسحر هو الرئتان، أي: كان مسدلاً ظهره إلى هذا المكان من جسمها (ثم شخص ببصره إلى السماء صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم! الرفيق الأعلى، اللهم! الرفيق الأعلى، قالت عائشة: وكنت أذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان صحيحاً -أي: قبل أن يمرض- أنه قال: ما من نبي يمرض -أي: مرض الموت- إلا ويرى مقعده من الجنة ثم يخير، -أي: بين البقاء في الدنيا وبين الموت- فلما شخص النبي صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء وقال: اللهم! الرفيق الأعلى، علمت أنه لن يختارنا، ثم قبض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) . وفي قوله: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} أن إطلاق الرفيق على الصاحب مستنده من كتاب الله، وبعض الشيوعيين يستعملونها، فيقولون للزميل: رفيق، وهي لغة لبعض البلاد كباكستان ونحوها، وهذا من المستساغ لغة الذي لا يلام فاعله، ولكن لكل بلد في هذا الشأن عادتها، وإذا اتجهنا إلى سمت رسول الله فهو الأولى والأليق، ففي باكستان مثلاً يقولون: يا رفيق، للزميل، وفي مصر يقولون: يا جدع، وفي السعودية يقولون: يا بويه، وفي اليمن: يا خبير، وفي أوصاف الإخوة يقولون: يا أخ فلان، لكن لو درجنا على ما درج عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أن الشخص يدعى باسمه أو بكنيته فهذا أكمل هدي وخير هدي، وهو هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فالاستحباب أن يدعى الشخص باسمه أو بكنيته، وما أخال أحداً يكره أن يدعى باسم ولده: يا أبا فلان، والمرأة تدعى باسم ولدها: يا أم فلان، والله تعالى أعلم.

معنى الصديقية وكيفية الاتصاف بها

معنى الصديقية وكيفية الاتصاف بها {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] ، الصديق أصله من كثرة الصدق في الحديث، ومن كثرة التصديق كذلك، لكن يحمل التصديق على معنى شرعي وهو: تصديق الله فيما أخبر به، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما بلغ عن ربه تبارك وتعالى، فالصديقية مأخوذة من كثرة التصديق، ومأخوذة من كثرة الصدق كذلك، فـ أبو بكر رضي الله عنه أُطلق عليه أنه صديق؛ لكثرة تصديقه بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الخبر الذي ظاهره لا يقبله العقل، لكن مع ذلك كله كان أبو بكر يصدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما مأخذه من الصدق في الحديث فلما ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) ، فالصديقية تنال بالإكثار من تصديق الله ورسوله، وبالإكثار من الصدق في الحديث، حتى لو كانت لك إلى الكذب ضرورة وتركته كي تقترب من مرتبة الصديقين فهذا فعل حسن، حتى في أمور المزاح، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ويقول له الصحابة: (إنك تداعبنا يا رسول الله! قال: نعم ولكني لا أقول إلا حقاً -أو لا أقول إلا صدقاً-) فكان ينادي أنساً فيقول له: (ياذا الأذنين!) ، وحقاً فـ أنس له أذنان، فيكاد أنس يرتاب من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا ذا الأذنين) ! لكنه حقيقة فليس فيه كذب من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أتته العجوز تقول: (يا رسول الله! سل الله أن يدخلني الجنة، فقال: إنه لن يدخل الجنة عجوز! فولت مدبرة حزينة، فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: إن الله يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35-38] ) ، أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فالرجل ينال مرتبة الصديقية بالإكثار من الصدق في حديثه، وتحري الصدق في الحديث، وعدم الإكثار من التورية، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام خير من يقتدى بهم في هذا الباب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) ، حتى خائنة العين والإشارة بها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) .

مكانة الشهيد

مكانة الشهيد قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} [النساء:69] الشهداء هم أدنى منزلة من الصديقين، فـ عمر وعثمان شهيدان كما ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع ذلك هما أدنى مرتبة من مرتبة الصديق، فالشهيد لا يفوق الأقران في كل حال، فقد يموت الرجل شهيداً لكن يسبقه غيره بأعمال أخرى عملها، فقد يأتي عمل يفضل الجهاد في سبيل الله عند بعض الأشخاص وفي بعض المواقف، فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم لا يفطر) متفق عليه. فهذا فضل الساعي على الأرملة والمسكين واليتيم، فقد تكون هناك أعمال في بعض الأحيان في حق بعض الأشخاص تفوق الشهادة في سبيل الله، ألا ترون أن أويساً القرني رضي الله تعالى عنه ورحمه الله طلب منه أمير المؤمنين عمر أن يستغفر له، وذلك بسبب بره بأمه، فعلى الشخص أن يعمل العمل الذي يقربه من الله، ولا يرائي الناس، ولا يحرص على اختيار العمل الذي يرضي الناس، إنما يحرص على العمل الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وليس في هذا تقليل لمنزلة الشهداء، فالشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم.

بيان المنعم عليهم وترتيبهم في الأفضلية

بيان المنعم عليهم وترتيبهم في الأفضلية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] من هم المنعم عليهم؟ فُسِّرُوا في الآية الكريمة: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] وهل الواو تقتضي الترتيب، فيقال: إن النبيين أعلى درجة من الصديقين، والصديقين أعلى درجة من الشهداء، والشهداء أعلى درجة من الصالحين، أو يقال: إن الواو لا تقتضي الترتيب؟ الواو أحياناً تقتضي الترتيب، وأحياناً لا تقتضي إلا مطلق التشريك، مثال الثاني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، فمن المعلوم أن السلام يكون قبل الاستئناس؛ لأن الاستئناس يكون إذا دخلت البيت فتستأذن أن تستأنس كما قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل وقد أذن له: (أأستأنس يا رسول الله؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم) فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} المراد بالسلام هنا: سلام الاستئذان لقوله: ((عَلَى أَهْلِهَا)) ، ومن المعلوم أن الاستئناس بعد السلام، فالواو لا تقتضي الترتيب، على ذلك وبعض إخواننا يستدلون بعموم الآيات أحياناً دون تدقيق في السنة، فيستدلون مثلاً بقوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20-21] على تقديم الفاكهة في الأكل على اللحم، وقد يخدش في الاستدلال بهذه الآية على هذا المعنى، وإن كان بعض الأطباء يقرر أن أكل الفاكهة قبل اللحم أيسر على المعدة من أجل الهضم، وإذا كان ذلك فالعهدة عليهم في هذا، لكن من الناحية الشرعية سواءً قدمت هذا على ذاك، أو هذا على ذاك فالواو لا تقتضي الترتيب في كل الأحيان. وهنا يقال: هل النبيون أعلى درجات ثم الصديقون ثم الشهداء ثم أهل الصلاح؟ قد يكون الأمر على ذلك في بعض الأحيان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد أحداً ورجف بهم جبل أحد، وكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ، والنبي هو محمد عليه الصلاة والسلام، والصديق أبو بكر، والشهيدان عمر وعثمان رضي الله عنهما، فلا شك أن النبي أعلى درجة ثم أبا بكر الصديق أعلى درجة من عمر ثم عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، فهنا الواو أفادت الترتيب، لكن في الآية قد يسلم هذا الاستدلال وقد لا يسلم؛ لأن الصديقية قد تلازم النبوة كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41] ، وقال الله سبحانه وتعالى في شأن إدريس كذلك: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:56] وغيرهم من الأنبياء، فقد تلازم الصديقيةُ النبوةَ، وقد تختلف النبوة عن الصديقية، فتكون الصديقية أنزل درجة من النبوة، فيكون الصديق أقل درجة من النبي، فحال يتحد الصديق والنبي، فكل نبي صديق، وقد يفترق النبي في المعنى عن الصديق.

كيف تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟

كيف تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] ما هي أسباب تلك المعية التي تجعل الشخص مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ومع المنعم عليهم؟ من أسبابها طاعة الله ورسوله كما في الآية الكريمة: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] . ومن أسبابها: كثرة السجود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً كئيباً فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إنك تذهب في منزلة أعلى من منازلنا فلا نراك يا رسول الله! فأسألك مرافقتك في الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ قال: بل هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) ، فالإكثار من السجود يقرب الشخص من حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام في الجنة.

تفسير قوله تعالى: (ذلك الفضل من الله.

تفسير قوله تعالى: (ذلك الفضل من الله.) وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:70] الفضل والامتنان كله من الله، إذ هو الذي قد وفق للهداية عباده، وقد تقدم قولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] . {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:70] أي: عليم بمن يستحق أن يهتدي فيهديه الله سبحانه وتعالى، وبمن يستحق أن يضل فيضل، عياذاً بالله من الضلال!!

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] وهذه الآية ترد على فرق تواكلت، فرق من الصوفية، وتبعهم على ذلك كثير من الجماعات المحدثة، الذين يخرجون ويتركون أهاليهم وأموالهم، ويهملون تربية أسرهم وتربية أبنائهم بزعم التوكل على الله! فالله يقول للذين آمنوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] ، والنبي عليه الصلاة والسلام (كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها) ، يعني: إذا أراد أن يذهب مثلاً في غزوة إلى المشرق البعيد يقول: إني ذاهب إلى المشرق القريب، مثلاً: رجل يريد أن يذهب إلى القاهرة يقول: أنا ذاهب إلى المحلة وهو في طريقه للقاهرة سيمر بالمحلة، فإذا أراد غزوة ورى بغيرها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن أخذ الحذر أيضاً إرسال الجواسيس الذين يتجسسون على الكفار من قبل أئمة المسلمين، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الأحزاب: (من يأتيني بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا يا رسول الله! قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا يا رسول الله! قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن لكل نبي حواري، وحواريي الزبير بن العوام) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة) فجاء سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا -كما قال بعض أهل العلم- قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ، وكانت هذه خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكن جاء الخلفاء من بعده واتخذوا الحجبة يحجبون عنهم أهل الظلم وأهل الإجرام وأهل الفساد، ويحفظون لهم أوقاتهم، فكان لأمير المؤمنين عمر حجبة، كما قال عيينة بن حصن لابن أخيه الحر بن قيس: استأذن لي على هذا الأمير كي أدخل عليه، كما في صحيح البخاري، فأخذ الحذر مطلوب أمر الله تبارك وتعالى به، وبعد ذلك الذي في علم الله سيتم، ويؤيد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اعقلها وتوكل) ، فينبغي للمسلم أن يأخذ بالأسباب التي شرعها الله تبارك وتعالى، ويدع الأمور بعد ذلك إلى الله، ويعتقد أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله تبارك وتعالى له، لكن الأخذ بالأسباب أمر مشروع بل واجب أمر به الله، وفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفعله الخلفاء من بعده، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يرتب الجيوش ويرسل الجواسيس على أهل الكفر ليأتوه بالأخبار، ويذهب هو عليه الصلاة والسلام بنفسه يتحسس أهل الفساد وأهل الشر، كما في قصة ابن صياد الذي ذاع خبره في مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام، واشتهر بين الناس أنه المسيح الدجال، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه وهو يتقي جذوع الشجر، حتى وصل إلى ابن صياد وهو نائم؛ حتى سمع النبي صلى الله عليه وسلم همهماته وهو نائم، فقالت أم ابن صياد: يا صافي! هذا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تركته بيِّن) ، فأخذ منها بعض الفقهاء مشروعية التجسس على أهل الريب والفساد، كالمروجين مثلاً للمخدرات أو المروجين للأشرطة التي تبث الدعارة والفسق والفجور، فهؤلاء هم الذين ينبغي أن يتجسس عليهم؛ حتى يعلم حالهم وحتى يفشو أمرهم، لا على العابدين التائبين الراكعين الساجدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وقوله تعالى: {فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] أي: انفروا فرادى أو انفروا مجتمعين، أو فرقة فرقة أو كلكم معاً، انفروا ثبات لمجابهة العدو أو انفروا جميعاً، وهذا يراه إمام المسلمين، إن شاء أن يرسل سراياه سرية سرية أرسل، وإن شاء أن يرسل عيوناً فرادى فرادى أرسل، وإن شاء أن يرسل الجمع كلهم لمجابهة أعداء الله فعل، فهذا الأمر إلى إمام المسلمين هو الذي يأمر بذلك. {فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] .

تفسير قوله تعالى: (وإن منكم لمن ليبطئن.

تفسير قوله تعالى: (وإن منكم لمن ليبطئن.) وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72] فريق منكم يتباطأ في نفسه، ويبطئ غيره معه، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47] ، قد تَقْدُمُ على فعل خير من الخيرات، وتجد أخاً لك بجوارك ملتحياً يثبطك عن هذا الخير، ويخوفك عن فعله ويصدك عنه، فيكون وجوده أشد ضرراً من غيابه، وهذا الشأن كان في كثير من أهل النفاق على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، يخرجون في الصفوف مع النبي عليه الصلاة والسلام؛ فيثبطون أهل الإيمان، ويخوفون أهل الإيمان ويقولون لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] ، فيثبت الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا بالقول الثابت، قال تعالى في هذا المعنى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] ، وقوله: (ولا يأتون البأس) أي: القتال، وهنا يقول سبحانه: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [النساء:72] جراح أو هزيمة أو شهادة في سبيل الله، فالموت مصيبة، قال تعالى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106] . قال تعالى: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72] دليل على أن المنافق يعرف الله أيضاً، المنافق يعرف أن له رباً وخالقاً بدليل أنه يقول: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} ، كذلك المشرك كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] ، وفي هذه الآية الأخيرة عبر بها يهودي عبد الله بن عباس يسأله فيقول له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن عباس، قال: من أين؟ قال: من قريش، قال: أنت من القوم الذين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} هلا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليك! فقال له ابن عباس: وأنت يا إسرائيلي من القوم الذين ما زالت أرجلهم مبللة بماء البحر، حتى إذا مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم ((قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)) فرد عليه عبد الله بن عباس وكان سريع البديهة رضي الله تعالى عنهما بآية مشابهة تشبه مقالته التي قال. قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72] أي: حاضراً، فالشهادة هنا بمعنى: الحضور.

تفسير قوله تعالى: (ولئن أصابكم فضل من الله.

تفسير قوله تعالى: (ولئن أصابكم فضل من الله.) {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء:73] والفوز العظيم عنده يتمثل في ماذا؟ يتمثل في شيء من المغانم التي ينالها، ورب العزة يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] .

الأسئلة

الأسئلة .

سنة الظهر والعصر الرباعية تصح متصلة ومنفصلة

سنة الظهر والعصر الرباعية تصح متصلة ومنفصلة Q صلاة سنة الظهر والعصر هل هي ركعتان ركعتان؟ A أما الظهر فلا أعلم فيها تفصيلاً هل هي ركعتان أو أكثر، وإنما ورد من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى -أو كان يصلي- قبل الظهر أربعاً) وهل مجتمعة أو متفرقة؟ ورد في الباب زيادة في حديث: (صلاة الليل مثنى مثنى) وهي: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) ، لكن زيادة (النهار) في الحديث زيادة شاذة، والصواب فيه: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وقد حكم بشذوذ زيادة (النهار) عدد من علماء الحديث المتقدمين. فعلى هذا فالظاهر أن الأمر واسع، والله تعالى أعلم. أما سنة العصر فكذلك لا أعلم شيئاً إلا حديث: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) على نزاع في تصحيحه من أصله، منازع فيه هل هو ثابت أو غير ثابت؟ وإن ثبت لا يدل على المواظبة، وإنما يدل على الفضيلة فقط، لكن معنا عموم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء) .

صحة صلاة من صلى خلف إمام نسي قنوت الفجر فسجد للسهو

صحة صلاة من صلى خلف إمام نسي قنوت الفجر فسجد للسهو Q صليت في مسجد قريب منا عدة مرات صلاة الفجر فوجدته لا بد أن يقنت، وفي يوم نسي القنوت فسجد للسهو، فهل الصلاة صحيحة؟ A نعم الصلاة صحيحة.

عدم وجوب الحج لمن يريد بناء منزل بالمال الذي معه

عدم وجوب الحج لمن يريد بناء منزل بالمال الذي معه Q أمتلك قطعة من الأرض أسعى في بناء منزل عليها لأولادي، فأنا أسكن في بيت غيري، فهل وجب علي الحج أم أقوم ببناء المنزل على قطعة الأرض، وكذلك تمتلك زوجتي قطعة من الأرض وبعض المال يساوي القيمة المطلوبة لأداء الحج؟ A لا يجب الحج والحالة هذه، إذا كنت ستبني البيت فابنه، ولا يجب عليك الحج إلا إذا يسر الله لك بعد ذلك، والله تعالى أعلم.

حد التشهد الأوسط ودليله

حد التشهد الأوسط ودليله Q التشهد الأوسط للصلاة هل هو إلى النهاية أم ماذا؟ A التشهد الأوسط للصلاة الصحيح الذي عليه أكثر العلماء: أنه إلى: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ وذلك لشيئين: أحدهما: أن في رواية أبي عوانة من حديث ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام علمه التشهد، وهو علم التابعين، فجاء إلى قوله: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: إذا بلغت ذلك فقم) ، وهل هي مدرجة من قول ابن مسعود على الحديث أو هي من كلام رسول الله؟ فأياً كان الأمر فـ ابن مسعود هو الراوي وهو أعلم به من غيره. ثانياً: إنه ورد أثر عن أبي بكر وعمر: أنهما كانا يجلسان في التشهد الأوسط كأنما يجلسان على الرضخ، وهي: الحجارة المحماة، فهذا يدل على سرعة جلوسهم في التشهد الأوسط. ثالثاً: لا يجب أصلاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى في التشهد الأخير؛ لعدم وجود الدليل على ذلك، دليل الموجبين هو قول القائل: (يا رسول الله! عَلِمْنَا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قل: اللهم صل على محمد ... ) وهذا الحديث ليس فيه دليل على الوجوب، إنما هو تعليم ندب وإرشاد، والله أعلم.

حكم حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق بوزنه

حكم حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق بوزنه Q ما هي الصفة لحلق شعر المولود؛ لأن البعض قال: لا بد أن يحلق بالشفرة، ويدهن الرأس بعد الحلق بالزعفران، فهل حق أن هذه السنة؟ A حديث: (حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق بوزنه ذهباً) ضعيف، لكن الحلق يكون من باب إماطة الأذى عنه يوم سابعه، فالحلق يدخل في إماطة الأذى يوم السابع، فيشرع أن يحلق يوم السابع، لكن التصدق بوزنه ذهباً أو فضة لا أعلم له أي مستند صحيح في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم العقيقة عن المولود

حكم العقيقة عن المولود Q هل يأثم الذي لا يستطيع أن يعق عن ولده؟ A العقيقة ليست واجبة إنما هي سنة، وقد تقدم أن الدعوة إلى العقيقة لم يدرج عليها السلف، إنما هي من باب المباح.

كيفية جعل الولد من العلماء المجاهدين

كيفية جعل الولد من العلماء المجاهدين Q كيف أصنع بولدي الذي أحب أن يكون من العلماء المجاهدين؟ A ادع الله له بالتوفيق، وخذ بيده إلى أهل العلم، وبين له أن الجهاد لا يشترط أن يكون جهاداً بالسيف في كل الأحوال، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن) ، والله سبحانه يقول: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15] ، فللجهاد بالمال أوقات، وللجهاد بالنفس أوقات، فالآن تضبط مسيرته إلى أن ييسر الله للمسلمين أحوالهم وأمورهم.

حكم من قال: علي الطلاق أو زوجتي محرمة إن فعلت كذا

حكم من قال: علي الطلاق أو زوجتي محرمة إن فعلت كذا Q قال لوالده: علي الطلاق ما أنت جالس في البيت وإن جلست تكون زوجتي محرمة؟ A عليّ الطلاق -كاللفظ الدارج بين الناس الآن- لا يعد يميناً ولا يعد طلاقاً. أما قوله لزوجته: تكوني محرمة علي إذا حصل كذا وكذا فهذا تحريم معلق، إذا أجريناه مجرى الطلاق المعلق ففيه الخلاف هل يقع أو لا يقع؟ فإذا أخذنا بالاحتياط فيه فالقول أنه يكفر كفارة يمين لقول الله تبارك وتعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1-2] فجعله يميناً، وهذا رأي كثير من أهل العلم أن قول الرجل لامرأته: أنت علي حرام، كفارته كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. ومن أهل العلم من قال: لا شيء عليه مطلقاً؛ لأن رب العزة سبحانه وتعالى قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] لما أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يشرب عسلاً، فقال: (قد شربت عسلاً ولن أعود وقد حلفت) ، فالاحتياط أن يكفر كفارة يمين.

حديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم)

حديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم) Q حديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر اللهلهم) ما حاله؟ A حديث ثابت صحيح.

حكم إزالة المرأة للشعر النابت في الشارب أو اللحية

حكم إزالة المرأة للشعر النابت في الشارب أو اللحية Q هل يجوز للمرأة أن تزيل شعر الشارب بدعوى أن منظره مقزز، بالرغم أنها لا ترى ذلك، فمثلها مثل باقي الفتيات وليس ملفتاً للنظر أو فيه تشبه بالرجال؟ A المسألة لما ناقشها العلماء: ناقشوا حكم ما إذا نبت للمرأة شارب أو لحية، إذا نبت للمرأة شارب أو لحية ذهب كثير من أهل العلم إلى جواز إزالته، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) قالوا: وهذه وإن لم يكن لها شيء من التشبه، لكنها تفعل ما يؤدي بها إلى أن تكون امرأة كسائر النساء، يعني: إذا فعلته تكون فعلت وسيلة توصلها إلى أصلها، أصل النساء أو أصل التأنيث، فهذا رأي كثير من العلماء: أنه يجوز لها أن تزيله كي تصل بحالها إلى حال النساء، وتبتعد عن التشبه بالرجال. ومن العلماء من منع مستدلاً بقوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] فاستدل البعض بهذه الآية على المنع كـ الطبري والنووي في قول له، ولكن هذا الاستدلال لم يره كثير من أهل العلم في محله؛ لأن المراد بتغيير خلق الله هنا: ما كان يفعله أهل الشرك من شق أذن البعير وتركه سائبة أو وصيلة أو حام للآلهة، وكذلك يلتحق به ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: (لعن الله النامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) ، أما إزالة الشعر بهذه الصورة فليس فيه شيء, والله تعالى أعلم.

حكم الخلوة بالمرأة المعقود بها وتزينها للعاقد

حكم الخلوة بالمرأة المعقود بها وتزينها للعاقد Q هل للعاقد حق أن تتزين له المرأة التي عقد بها ويخلو بها؟ A نعم، تتزين له ويخلو بها ليلة الزفاف، فرب العزة فرق بين البناء وعدمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] ، ففرق بين المساس وبين البناء، وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23] ، ففرق أيضاً بين الدخول وبين العقد، ثم المصالح المرسلة التي تنشأ من جراء التفريق بين العقد والبناء يبنى على ذلك كله، ودفعاً للمشاكل التي تحدث للمرأة، وهذا ليس على سبيل التحريم، الأمر ليس على سبيل التحريم إنما على سبيل دفع المفاسد، وعلى سبيل المصالح التي تتحقق من وراء التفريق بين العقد والبناء، وكذلك للمفاسد التي تقع من كثرة حمل المعقود عليهن. واليوم -والله- قبل ما آتي بنصف ساعة تقريباً واحد اتصل عليّ ويقول: إنه عاقد على زوجته وجامعها، وأهلها لا يعرفون، ويقول: ماذا أصنع؟ هل أذهب للأطباء؟ أهلها يرفضون أن أدخل بها الآن، فلهذه المشاكل نقول: هناك فرق بين البناء والعقد كما كان على عهد الرسول، لكن إن شئت أن تعقد وتبني في الحال فنعم، أما أن تعقد وكل يوم تذهب في غياب والدها وتعبث بها وقد يصل إلى الجماع فلا، وإذا طلقتها ترد مشاكل شرعية: هل لها الصداق أو نصف الصداق؟ نحن لا نقول: إن الأمر على سبيل التحريم، ولكن على سبيل الاقتداء بسلفنا من أصحاب رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام. إلى هنا، وبارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة النساء [74-83]

تفسير سورة النساء [74-83] حث الله عباده على الجهاد في سبيله، وجعل للمجاهد فضلاً عظيماً، وأجراً كبيراً، وللجهاد في سبيل الله مقاصد عظيمة، منها: تخليص المستضعفين من طغيان الظالمين، والجهاد لم يشرع في الإسلام من أول الأمر، بل مر بمراحل بحسب ما تقتضيه الحكمة. والخير والشر كله من عند الله، والله يتفضل على عباده بالخير، ولا يكون الشر إلا بسبب من الإنسان، ولذا فيشرع التأدب مع الله في الألفاظ، فلا ينسب إليه الشر سبحانه وتعالى. وقد ذكر الله في كتابه بعض أخبار المنافقين وصفاتهم لنحذر منهم. وأمر الله عباده في النوازل بالرجوع إلى أهل العلم المستنبطين؛ لأنهم أقرب إلى إصابة الحق.

التحريض على أعمال البر

التحريض على أعمال البر باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74] . قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:74] تحريض على القتال في سبيل الله، والتحريض على أعمال البر ورد في جملة من الآيات والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاء التحريض على الصدقة في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن استطاع أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل) . وجاء التحريض على الصلاة في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] ، وفي السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله! من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً قام من الليل يصلي فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) . وجاء التحريض على الذكر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41-42] ، وفي السنة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قيل: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) . فالتحريض على أعمال البر ورد في مواطن كثيرة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أعمال البر: قتال أعداء الله من الكفار، قال تعالى محرضاً نبيه على ذلك: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84] ، وهذه الآية تحريض عام للمؤمنين.

التحريض على الجهاد في سبيل الله

التحريض على الجهاد في سبيل الله قال الله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] . قوله (في سبيل الله) : سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليقال هو جريء، أي ذلك في سبيل الله يا رسول الله؟! فقال -المقالة الفاذة الجامعة-: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، فهذا هو الضابط لتحديد من هو في سبيل الله. قال عليه الصلاة والسلام: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، وسبيل الله إذا أطلق يراد به الجهاد والغزو، فقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] ، المراد بقوله: (وفي سبيل الله) : الجهاد، فلا يدخل فيه: إنشاء المساجد، فزكوات المال لا تنفق في المساجد إنما تنفق في المساجد صدقات عامة، مثل الصدقات الجارية إذا أرادها شخص، أو صدقات التطوع المطلق إذا أرادها شخص، وهذا رأي جمهور العلماء، ومن أهل العلم المتأخرين: من رأى أن قوله: (في سبيل الله) يشمل كل أبواب الخير وطرق البر، واستدل له بالمعنى اللغوي لكلمة: (سبيل الله) ، ومن العلماء من أدخل فيها الحج أيضاً كفريق من الحنابلة، مستدلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل امرأة تحج على إبل الصدقة، والله تعالى أعلم.

التحذير من فتنة الحياة الدنيا والركون إليها

التحذير من فتنة الحياة الدنيا والركون إليها قال الله: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] ، وهذا المتاع القليل يتمثل في الحياة الدنيا وفي عمر الشخص فيها، فالشخص عمره قليل في الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليلٌ منهم من يتجاوز ذلك) ، وقد قرأ الخليفة المأمون رحمه الله، أو سمع من يقرأ قوله تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] ، فقال لـ ابن السماك وهو بجواره: عظني يا ابن السماك! فقرأ عليه قوله تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] ، وحمل العد على عدد الأنفاس، وقال: يا أمير المؤمنين! إذا كانت الأنفاس تعد، وليس لها مدد، فمكتوبٌ لك -يا أمير المؤمنين- أن تتنفس مثلاً مائة ألف نفس، وكل يومٍ يمضي عليك تقطع منها شوطاً، ويعد الله أنفاسك عدّاً فيوشك أن الأنفاس تنفد، ويوشك الأجل أن ينقضي! قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] ، ولا يقال: إن الآخرة خيرٌ على الإطلاق، بل الآخرة خيرٌ لمن اتقى! {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77] ، أي: لا تظلمون قدر الفتيل، وهو: الخيط الرفيع الذي بين فلقتي النواة. قال الله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ، هذه الآية كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ، وكقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (إنه قد نزل بأبيك -يا بنيّة- ما الله بتارك منه أحداً) ، وكما قال القائل: الموت كأسٌ وكل الناس شاربه والقبر باب وكل الناس داخله.

بيان ضعف كيد الشيطان على أهل الإيمان

بيان ضعف كيد الشيطان على أهل الإيمان قال الله: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، هكذا يصف الله تبارك وتعالى كيد الشيطان فيقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، بعض الناس يورد هذه الآية: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، وآية يوسف: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] ، فيقول: إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان! وهذا وإن كان أحياناً إلا أنه لا يطرد، فلا يطرد أن يكون كيد النساء أقوى من كيد الشيطان في كل وقت، بل كيد النساء سببه كيد الشيطان، فعلى الإجمال، كيد الشيطان بالنسبة لأهل الإيمان ضعيف، والله تعالى أعلم. قال الله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، وكيد النساء لا يعم، فكيد النساء وتدبيرهن في الحروب وفي التجارات وفي الصناعات ليس له كبير أثر، إنما المراد كيدهن فيما يتعلق بإغواء الرجال، ومع ذلك فكيد النساء في إغواء الرجال إنما هو من وحي الشيطان، والله تعالى أعلم.

مراحل تشريع الجهاد في صدر الإسلام

مراحل تشريع الجهاد في صدر الإسلام قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] . قال فريق من العلماء: إن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وفي أصحاب له مسلمين كانوا بمكة، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ونحن في جاهليةٍ كنا في عز وقوة ومنعة، فلما أسلمنا أصبحنا مستضعفين؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن لهم في الانتصار ممن ظلمهم، وكان الشخص إذا أسلم وضُرب يصبر على الضرب، ونهي أن يحمل السيف ويذهب للقتال في بداية الأمر، كما قال الله تعالى: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] ، فلما رأوا هذه الحال: قالوا: يا رسول الله! كنا أعزةٍ ونحن في شرك فلما أسلمنا أصبحنا أذلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أمرت بالكف) ، أو معنى هذا، فلما نزل الأمر بالقتال، تخلف كثيرٌ منهم عنه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] أي: اقتصروا الآن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77] أي: هلا أخرتنا حتى نموت بآجالنا بدون قتل، هذا معنى قولهم، وفيه: أن الإنسان لا يأمن على نفسه إذا سأل ربه مزيداً من التكاليف ألا يقوم بها، وقد تقدم هذا في الدرس السابق، فالإنسان يكون مقتصداً عاملاً بما أمره به رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإنه لا يأمن على نفسه ألا يقوم بالتكاليف التي أمره الله سبحانه وتعالى بها. وهنا (ألم) همزة استفهام للتعجب، ويدخل فيه التأنيب كذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] ، يعني: اتركوا القتال، واقتصروا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وذلك لما كانوا في مكة، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [النساء:77] ، والقتال كان في المرحلة الثانية بعد الأمر بالكف، وكان إذناً بالقتال وليس أمراً عاماً، قال الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] ، أي: أذن لهم بالانتصار وبقتال من قاتلهم، وبعد ذلك جاءت آية السيف في سورة براءة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] . قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] ، ذكرنا أن سبب نزولها عبد الرحمن بن عوف، والإسناد ثابت في الصحيح، ولكن هذا لا يخدش في فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فالصحابي وإن صدرت منه زلة، فهذه الزلة تغمر في فضائله رضي الله تعالى عنه، فـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة، ولما سبه خالد بن الوليد لما كان بينهم مشادة، وخالد هو خالد، وقتاله في سبيل الله لا يخفى، وشجاعته لا تكاد توصف؛ ومع ذلك لما نال شيئاً من عبد الرحمن بن عوف دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، والكلام موجهٌ إلى خالد بن الوليد، وهو متأخر الإسلام عن عبد الرحمن بن عوف، والله يقول: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] ، وخالد أسلم قبيل الفتح، لكن عبد الرحمن متقدم الإسلام، فإذا كان خالد لو أنفق مثل أحد ذهباً لا يبلغ مد عبد الرحمن ولا نصيفه، فما بالنا نحن الذين جئنا من بعدهم بقرونٍ طويلة!! فـ عبد الرحمن له من الفضائل ما لا يحصيه إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعبد الرحمن بن عوف في الجنة) ، وكان محسناً إحساناً كبيراً وزائداً إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد بسند مرسل: أن أم المؤمنين عائشة كانت تقول لـ أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة؛ وذلك لأنه أعطى أزواج النبي عليه الصلاة والسلام أربعين ألفاً بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان محسناً إحساناً شديداً إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته. واستفاد العلماء من سبب النزول هذا: أن الشخص المسلم الصالح إذا صدرت منه زلة لا يؤاخذ بها، ولا بد من تقييم محاسنه بجوار زلته تلك، وليس كل من أخطأ خطأً أو اقترف إثماً يغطي هذا الخطأ وهذا الإثم سائر أعماله الصالحة، وقد تقدم أن أمير المؤمنين عثمان فر يوم أحد، ولكن قال الله فيه ومن معه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155] . فالمحسن إذا زل وأساء، فرب العزة حكمٌ عدل، لا تطيش الإساءة عنده بكل الحسنات، بل الحسنات في أكثر الأحوال هي التي تطيش بالسيئات، كما ورد ذلك صريحاً في حديث البطاقة الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.

الدعاء لله والعمل بالأسباب في دفع الاستضعاف

الدعاء لله والعمل بالأسباب في دفع الاستضعاف قال الله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75] ، تفيد الآيات: أن المستضعف يطلب من ربه تبارك وتعالى الخلاص، ليس مستضعفاً محباً للبقاء في دول الكفر، بل هو مستضعفٌ ويطلب من ربه تعالى الخلاص والفكاك، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75] ، والآية نزلت في أهل مكة، فكانت مكة قريةٌ ظالم أهلها كما قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] ، إلا أن العبرة بالعموم، فكل قرية أهلها ظلمة ينسحب عليها هذا الحكم. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء:75] ، فالقرية وإن كانت في نفسها ذات فضيلة إلا أن أهلها يظلمون الناس ويحولون بينهم وبين شرع الله، ويحولون بينهم وبين دينهم، فتترك هذه القرية وإن كانت في نفسها لها فضيلة، فمكة أفضل البلاد على الإطلاق بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على الحزورة فقال: (والله! إنك أحب بلاد الله إلى الله، وأحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت) ، فالقرية وإن كانت في نفسها لها فضيلة إلا أنه لا يقام فيها شرع الله يخرج منها، وإن كانت القرية التي يخرج إليها دونها في الفضيلة لكن أهلها فيهم صلاح أو عندهم ملك لا يظلم عنده أحد جاز الذهاب إليها، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل جعفر في أصحابٍ له إلى النجاشي في الحبشة وهي أرض كفر، لكن فيها ملك لا يظلم عنده أحد، والله سبحانه أعلم. قال الله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75] ، و (لدنك) : قال فريق من المفسرين. أي: عندك. أي: واجعل لنا من عندك ولياً، واجعل لنا من عندك نصيراً، {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75] . {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:76] في سبيل الله. أي: لإعلاء كلمة الله، كما تقدم تفسيره من حديث رسول الله. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:76] ، الطاغوت: عامٌ -وقد تقدم- ويشمل كل ما عبد من دون الله، وكل من أُطيع في معصية الله تبارك وتعالى.

من فضائل المجاهد في سبيل الله

من فضائل المجاهد في سبيل الله قال الله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74] ، على أي الوجهين كان أمره (فسوف نؤتيه أجراً عظيما) ، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده لوددت أن أغدو في سبيل الله، فأقتل ثم أحيا، فأغزو فأقتل ثم أحيا، فأغزو فأقتل) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والأحاديث في هذا الباب لا تكاد تنتهي. قال الله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} [النساء:74] أي: إذا قتل الشخص في سبيل الله. وأجمع حديث ورد في فضل الشهيد، حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له عند أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويؤمن من عذاب القبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار: الياقوتة منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهل بيته) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74] ، سواء قتلت أو قتلت الآخرين وغلبتهم، {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74] .

الحكمة في مشروعية الجهاد

الحكمة في مشروعية الجهاد قال الله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] ، وهذا يقصد به التأنيب، أي: لماذا هذا التخلف عن القتال في سبيل الله؟ {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] أي: لإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فكان بمكة قومٌ مستضعفون من المؤمنين لا يستطيعون الهجرة، ومنهم: عبد الله بن عباس وأمه، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمي من المستضعفين بمكة. على هذا فالأحاديث المرفوعة التي يرويها عبد الله بن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام حكمها أنها من مراسيل الصحابة، والصحابة كلهم عدول فمراسيلهم مقبولة. قال الله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] ، فقد يكون هناك رجلٌ مستضعف، وقد يكون الرجل قوياً وثرياً، ولكنه مستضعف، قال تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26] ، فقد يكون الرجل قوياً ثرياً ومع ذلك هو في حالة الاستضعاف، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء:75] أي: لماذا تتركون هؤلاء على هذه الحال من الاستضعاف تحت سيطرة الكفرة: ينكلون بهم، ويشردونهم، ويستحيون النساء، ويسبون الأولاد، ويقتلون الرجال، ما لكم تتركونهم على هذه الحال؟! سئل علي: يا علي! هل اختصكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: ما اختصنا النبي صلى الله عليه وسلم بشيء إلا هذه الصحيفة، قالوا: وما في هذه الصحيفة؟ فذكر أن الصحيفة في بيان الديات، والعقل. إذاً: السعي في فكاك الأسير وإنقاذ أهل الاستضعاف من دول الكفر مطلبٌ شرعي.

من صفات المجاهدين في سبيل الله

من صفات المجاهدين في سبيل الله يقول الله تبارك وتعالى محرضاً العباد على القتال في سبيله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَة} [النساء:74] أي: يبيعون دنياهم مقابل الآخرة، والمراد بالآخرة: الجزاء الحسن في الآخرة، والمراد بالآخرة: الجنة كذلك، فقوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] أي: بثواب الآخرة، ونعيمها، والله تعالى أعلم. وإطلاق (يشرون) بمعنى: يبيعون، له شواهد في الكتاب، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] أي: باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وهذا تفسير كثير من أهل العلم. فالآية الكريمة فيها تحريضٌ على القتال في سبيل الله، وشرعية ذلك تؤخذ من آيات وعمومات أُخر، ومن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله. قال الله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] والقتال -كما علمتم- من أفضل الأعمال، قالت أم المؤمنين عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (نرى الجهاد أفضل الأعمال -يا رسول الله- أفلا نجاهد؟ قال: لكن جهاد لا قتال فيه، حجٌ مبرور) أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.

الخير والشر كله من عند الله

الخير والشر كله من عند الله قال الله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] ، ما المراد بالحسنة؟ المراد بها: النعم من نعم الدنيا، فإن يصبهم نعيمٌ من نعيم الدنيا، فينزل عليهم المطر، ويرزقون بأولاد، وتلد مواشيهم، ويرزقون بأموال، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] أي: أنت المتسبب فيها -يا محمد- بشؤم وجودك معنا، فإنك منذُ أن جئتنا رأينا البلايا تنزل علينا، كما قال أصحاب القرية للمرسلين: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18] ، وكما قال قوم ثمود لصالح صلى الله عليه وسلم: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل:47] ، وكما قال تعالى في شأن قوم فرعون: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:131] ، فالمقصود من قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] أي: أن الجدب الذي حلّ بنا -يا محمد- والمصائب والأمراض التي تفشت فينا؛ إنما هي بسببك، وبشؤم بوجودك، فمنذُ أن جئتنا والبلايا تنزل علينا بلية تلو الأخرى، هذا حاصل تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] أي: أنت المتسبب فيها -يا محمد- بوجودك معنا. ولا يخفى عليك أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التطير، فقال: (لا طيرة، ويعجبني الفأل) ، وهذا من أنواع التطير، ومن أنواعه كذلك: أن الرجل يمسك بالطائر ويرميه إلى السماء، فإن طار ذات اليمين ذهب إلى المكان الذي يريد، وإن طار ذات الشمال ترك السفر، والله أعلم. قال الله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] ، الحسنات والسيئات كلها مقدرة، {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78] ، هذه الآية تفيد أن القدرية نفاة القدر أغبياء؛ لأن الله قال في شأن أمثالهم: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78] .

الجمع بين قوله تعالى: (وما أصابك من مصيبة فمن نفسك) وقوله: (قل كل من عند الله)

الجمع بين قوله تعالى: (وما أصابك من مصيبة فمن نفسك) وقوله: (قل كل من عند الله) قال الله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] ، كيف أجمع بين هذه الآية وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] ؟ في الحقيقة أن كل شيءٍ بقدر، قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، فلماذا نسبت السيئة إلى النفس في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] ؟ هذا معناه: أي أنت المتسبب فيها، وإن كانت هي في الأصل من عند الله، فنسبت إلى نفس الشخص تأدباً مع الله تبارك وتعالى، فمن الأدب مع الله عدم نسبة الشر إليه وإن كان كل شيء مقدراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) ، قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:78-79] ، فلما أتى عند المرض لم يقل: (الذي هو يمرضني ويشفين) ! بل نسب المرض إلى نفسه، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ، مع أنه سار على وتيرة واحدة: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:78-80]-فنسب المرض إلى نفسه- {فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ، وإن كان المرض كله مقدراً لقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22-23] ، فكل شيء مقدر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) ، فالتأدب في الألفاظ مع الله سبحانه وتعالى مستحب ومشروع، ومن الأدب أن يقول القائل: يا مدبر أمر السماوات والأرض! ولا يقول: يا مدبر أمر الخنافس والصراصير! مع أن الله مدبر أمر كل شيء، فكل الأشياء الله هو الذي يدبر أمرها، فمن باب التأدب إلى الله أن تنسب الخير إليه لفظاً، ولا تنسب الشر إليه لفظاً، وإن كان الكل من عند الله تبارك وتعالى حقيقة. قال الله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] أي: أنت المتسبب فيها، وهي كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ، وكقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:123] ، إلى غير ذلك. {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء:79] عليه الصلاة والسلام، فهذه مهمتك -يا محمد- أرسلناك للناس رسولاً {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79] .

طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله

طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله قال الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ، فطاعة رسول الله من طاعة الله عز وجل، وهذه الآية ترد على فئة القرآنيين الذين يقولون: لا نعمل إلا بالكتاب فقط! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا ليوشكن رجلٌ من أمتي متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري -يعني: يأتي الرجل ينقل له الحديث من حديث رسول الله، فيرفض ذلك- فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً حللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، ألا وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرمه الله) ، والله يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] وهذا الحديث من دلائل النبوة، ولم يورده كثير من المصنفين في الدلائل، فظهرت فرقة تقول لها: قال رسول الله، تقول: لا، بيننا وبينك القرآن، فالذي في القرآن نثبته، والذي ليس في القرآن نرده، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهؤلاء القوم: (ألا إنما حرم رسول الله عليه الصلاة والسلام كما حرمه الله) ، فالرسول لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80] .

التوكل على الله والأخذ بالأسباب في مدافعة مكر الأعداء

التوكل على الله والأخذ بالأسباب في مدافعة مكر الأعداء قال الله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} [النساء:81] يقولون: حالنا وشأننا أننا مطيعين لك يا محمد! (ويقولون طاعة) في الظاهر أنهم يظهرون الاستسلام والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:81] ، أصل البروز: الخروج والظهور. أبرز فلان شيئاً، أي: أظهره، خرج فلان إلى البراز. يعني: مكان الفضاء، {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:81] أي: خرجوا من عندك {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء:81] التبييت هو: التدبير بالليل، ومنه قول القائل: هذا أمرٌ بيِّت بليل، يعني: دبر بليل، ومنه قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] ، قال الله: {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:81] أي: يكتب ما يدبرونه في الليل وما يتآمرون به. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء:81] ، هذا المعنى يستفاد منه: أن الشخص لا يشغل نفسه كثيراً بتدبيرات الأعداء التي لا طاقة له بها، ولا حيلة له معها، فشخصٌ قد ينام طوال الليل خائفاً من شيء لا يستطيع دفعه، وما قضاه الله لا بد أن يكون، فإذا كان الأمر كهذه الحالة فعليه أن يعرض عنهم {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النساء:81] ومع إعراضك عنهم توكل على الله. فمثلاً: إذا كنت تخشى طوال الليل المباحث أن يأتوك، أو تخشى اليهود، أو أي شيء تخشى منه، فعليك أن تجتهد وتعمل ما في وسعك، لكن إذا كنت تخشى شيئاً خارجاً عن طاقتك، فحينئذٍ {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81] ، ومع إعراضك عنهم تتوكل على الله، وإن كانت هناك أسباب فاعمل بها، مع قولك: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم لما ألقي في النار -فلم تضره وكانت عليه برداً وسلاماً- وقالها أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام لما {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174] . قال الله: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:81] ، ومع الكتابة فقد يؤاخذ بها في الدنيا، وقد تؤجل له العقوبة إلى الآخرة، قال الله تبارك وتعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل:26] ماذا كانت عاقبتهم؟ - {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل:26] ، فتخيل قوماً جالسين في بيت: يمكرون ويخططون ويدبرون ثم أتى الله البنيان من قواعده واجتثت الأعمدة من أصلها، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26] ، وليس القواعد فقط، بل استؤصلت من الأصل والسقف خر عليهم {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26] أي: دخل عليهم العذاب من كل مكان ومن كل طريق، وكانوا لا يتوقعون ذلك. {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} [النحل:27] يخزيهم يوم القيامة فوق هذا العذاب، فيكون الرجل يتآمر لحرب المسلمين، ويتآمر لتدمير الإسلام، ويخطط ويمكر ويسعى ويفعل ويفعل، ثم الله سبحانه وتعالى يأتي بنيانه ويجتثه من أساسه. {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26] ، فإن كان جهدك جهد المقل، وحالك حال الضعيف، فلك ربٌ لا يغفل ولا ينام، وهو للظالمين بالمرصاد، قال الله تبارك وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81] .

الحث على تدبر القرآن

الحث على تدبر القرآن قال الله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] ، أي: أفلا تقرءون القرآن وتفهموا ما فيه، وتفهموا سنن الله الكونية التي ذكرها لكم فيه. الآيات الآمرة بتدبر الكتاب العزيز كثيرة منها: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] .

الحث على أخذ الأخبار من مصادرها

الحث على أخذ الأخبار من مصادرها {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] ، هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقد سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق أزواجه، فحزن وانطلق إلى المسجد فوجد الناس يبكون، فسألهم: أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه؟ قالوا: لا ندري هو معتزل في مشربة له، فذهب عمر إليه، وأرسل غلاماً أسود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن له فلم يؤذن له، ثم أرسل يستأذن فلم يؤذن له، ثم في الثالثة أُذن له، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هل طلقت نساءك؟ قال: لا. فكبر عمر. {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83] كان عمر من أولي الأمر، أي: من أهل العلم، {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83] . فالآية أصلٌ في أخذ الأخبار من مصادرها الأصلية؛ فإن الخبر إذا انتقل من شخص إلى شخص يكاد يتغير وقد يدخل فيه ما ليس منه، أما إذا أخذت الخبر من مصدره الأصلي الحقيقي، قلَّت الأخطاء، وحظيت بالنقل الصحيح، وأكثر من كانوا يغيرون الأحاديث أهل العراق كما يقول القائل: يخرج الحديث من عندنا من المدينة شبراً فيصل إلى العراق ويرجع إلينا ذراعاً، فقد كانوا يبدلون في أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام. إذاً: هذه الآية أصل في أخذ الأخبار من مصادرها الأصلية، يقول الله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} [النساء:83] ، إذا جاءك أمر مفرح أو أمر مخيف مزعج فاحرص على أن تأخذه من أصله الصحيح، {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ، وهذه الآية أصلٌ في استنباط الأحكام. {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83] ، فالله هو الحفيظ وهو الحافظ لكم، ولولا فضل الله عليكم لاتبعتم الشيطان.

الأسئلة

الأسئلة

كفت السراويل في الصلاة

كفت السراويل في الصلاة Q ما حكم كف السراويل أثناء الصلاة؟ A قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرنا ألا نكف ثوباً ولا شعراً في الصلاة) .

حكم زكاة السيارة المملوكة

حكم زكاة السيارة المملوكة Q سيارتي زاد ثمنها عن نصاب الزكاة، فهل عليها زكاة؟ A ليس على السيارة المملوكة زكاة، زاد ثمنها على النصاب أو لم يزد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس على المرء في عبده ولا في فرسه صدقة) . أما زكاة عروض التجارة، فالجمهور على أن فيها زكاة، فالسيارات المعدة للتجارة تجب فيها الزكاة، والسائل لم يسأل عنها.

كفارة النذر

كفارة النذر Q ما هي كفارة النذر؟ A النذر أحياناً تكون له كفارة، وأحياناً لا تكون له كفارة، وبعض أنواع النذور اختلف فيها العلماء، فإذا كان النذر نذر طاعة، مثلاً: نذرت أن أصوم شهراً أو يومين أو أكثر أو أقل أو أتصدق، فالله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين بالنذور، فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] ، لكن ما هو النذر الذي له كفارة؟ يقول طائفة من العلماء: إن النذر الذي له كفارة هو: النذر الذي خرج مخرج اليمين، كأن تقول مثلاً: والله! لله عليّ أن أذهب إلى القاهرة لفعل كذا وكذا، ثم لم تذهب، فتنزل النذر منزلة اليمين، وتكفر كفارة يمين. لكن نذر المعصية هل كفارته كفارة يمين أو لا؟ ورد حديث: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة اليمين) ، فمن العلماء من قالوا: كفارة نذر المعصية كفارة اليمين، ومنهم من لم يقل بكفارة فيه، لقصة أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم ولا يفطر، ويصمت ولا يتكلم، ويقوم في الشمس ولا يستظل ولا يقعد، فقال عليه الصلاة والسلام: (مروه فليستظل، وليجلس، وليتكلم، وليتم صومه) ، ولم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بالكفارة، والاحتياط أن يكفر عنه كفارة يمين.

نصيحة لإمام يطيل الصلاة

نصيحة لإمام يطيل الصلاة Q رسالة من سائل -والرسالة إلى أمام المسجد- يقول فيها: إن إمام المسجد يطيل في صلاة الفجر؟ A نذكره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم) ، والسنة في قراءة صلاة الفجر الإطالة؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر من الستين إلى المائة، لكن إذا كان هناك عارض ككون عموم المصلين مرهقين، أو كان عموم المصلين مسافرين أو غير ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم) أي: ينزل إلى أضعف الناس، ويأخذ بحاله رفقاً به، وإلا فالسنة الإطالة في الفجر، لكن مع النظر في أحوال المصلين وقدراتهم. وإذا تعبت من الإطالة -أيها السائل- فاجلس، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فصل جالساً فإن لم تستطع فعلى جنب) ، فلأن تصلي وأنت جالس خير من أن تحدث مشكلة في المسجد، وانصح الإمام وقل له: أنا لا أتحمل القيام فخفف قليلاً، واطرح عليه المشكلة، فإن عمل بها الإمام عمل بها، وإن لم يعمل بها الإمام لرؤية رآها فصل جالساً إذا تعبت.

حال حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)

حال حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) Q حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، هل هو صحيح؟ A الرواية بهذا السياق ضعيفة الإسناد، لكن معناها ثابت؛ لأن المؤمنين قالوا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ، قال الله: قد فعلت، ولأن الله قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، فالحديث وإن كان لفظه لا يثبت، إلا أن معناه ثابت صحيح، ومن العلماء من خالف في ذلك مستدلاً بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] قال: هنا الخطأ لم يضعه الله سبحانه وتعالى عن القاتل، بل ألزم قاتل الخطأ بكفارة، أجيب عن ذلك: بأن هذا في القضاء الدنيوي، لكن فيما بينه وبين الله لا شيء عليه، والله أعلم.

نصيحة لرجل قتل خطأ وأهل المقتول يريدونه إلى المحكمة

نصيحة لرجل قتل خطأ وأهل المقتول يريدونه إلى المحكمة Q رجلٌ قتل طفلةً خطأً بالسيارة، وأراد أن يدفع لأهلها الدية ويصوم شهرين متتابعين كفارة قتل الخطأ، ولكن أهل الطفلة يريدون المحاكم، فماذا يصنع هذا الرجل؟ A شكر الله سعيه، والله سينصره، لأنه متبع لشرع الله، ولكن يرسل إليهم بعض أهل الصلاح لعلهم يذعنون، وليكن أمله في الله كبير، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة -والثنية هي الأسنان المقدمة- الربيع بحجر، فقضي عليها أن تكسر ثنيتها؛ لأن الله قال: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] فتكسر ثنيتها كما كسرت ثنية المرأة، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله! أتكسر ثنية الربيع؟ لا والله يا رسول الله! ولم يكن قوله رداً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما أبى أن تكسر ثنية أخته، فقال: والله! لا تكسر ثنية الربيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس: (يا أنس! كتاب الله القصاص) ، فقال: والله! لا تكسر ثنيتها يا رسول الله! فجاء أهل المضروبة ورضوا بالأرش. أي: رضوا بالدية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) ، قاله في أنس بن النضر. فالشاهد: أن هذا الرجل يعتصم بالله ويسأله التوفيق، والله قادرٌ على تطييب قلوبهم، وليرسل إليهم طائفة من أهل الصلاح يذكرونهم بالله، والله أعلم.

حكم قضاء صلاة الضحى بعد الظهر

حكم قضاء صلاة الضحى بعد الظهر Q هل تجوز صلاة الضحى بعد صلاة الظهر لعدم تيسر صلاتها قبل الظهر؟ A الظاهر -والله أعلم- أن المواسم إذا فات وقتها يجوز أن تقضى ولو في وقتٍ لاحق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما فاتته سنة الظهر صلاها بعد العصر، وذلك عندما شغله وفد عبد القيس، وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها) ، فإذا فاتته الصلاة في وقت معين، فليستدركها في وقت آخر.

تفسير سورة النساء [85-88]

تفسير سورة النساء [85-88] تتحدث هذه الآيات من سورة النساء عن الشفاعة الدنيوية، وأن العبد إن شفع فهو مأجور سواء قبلت شفاعته أم ردت، ثم بينت أدباً من آداب المجتمع المتمثل في إفشاء السلام، وبعد ذلك ذكرت أن كل بني البشر مجموعون لميقات يوم معلوم، ثم ذكرت مدى أهمية وحدة الكلمة وتآلف القلوب وخطورة أي خلاف، خاصة إذا كان بسبب من ليس له أي قدر عند الله كالمنافقين والعياذ بالله!

تفسير قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة.

تفسير قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً.) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: ((مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء:85] هذه الآية في الشفاعات الدنيوية، وهناك آيات تعد أصولاً في أبواب من أبوب الفقه، فمثلاً: أصلاً من الأصول في أبواب الحيل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] وأصلاً في الحيل المذمومة: قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163] ، فهناك آيات تعد أصولاً في أبواب معينة. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] فهذه الآية أصل في الشفاعات الدنيوية، فلم ترد الشفاعات الدنيوية في آية على التفصيل كما وردت في هذه الآية الكريمة. أما الشفاعات التي ذكرت في آيات أخر في كتاب الله كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، وكقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، وكقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70] ، وكقوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] ، وكقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] . فهذه الآيات وما على شاكلتها في الشفاعات الأخروية.

الفرق بين الكفل والنصيب

الفرق بين الكفل والنصيب قال الله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء:85] بعض أهل العلم يقولون: إن الكفل يكون مخصوصاً بالشر، والنصيب يكون مخصوصاً بالخير، وهذا الاطراد ليس بلازم، وقال الله تبارك وتعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] فهنا الكفل أطلق على كفل الرحمة. فأحياناً يكون الاصطلاح موضوع لمعنى معين، قد ينتقل إلى معنى غيره، وهذا على النادر. فمثلاً: في تفسير قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:24-25] ما معنى البرد؟ من العلماء من قال: البرد هو برد الريح الذي تتنفس فتسبب برداً في الأجواف، ومنهم من قال: البرد الراحة. إلى غير ذلك، فجاء من العلماء من قال: إن البرد المراد به النوم، واستدل ببيت شعر: بردت مراشفها عليّ فصدني عنها وعن قبلاتها البرد أي: أنها نامت برأسها على صدره ونحو ذلك، وأراد أن يقبلها لكن النوم غلبها فتركها على حالها، والشاهد أنه قصد بالبرد النوم. فـ ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى يقول ما حاصله: وهذا وإن استجيز أحياناً أن يطلق على النوم البرد، لكنه ليس هو الأغلب المعروف من كلام العرب، وتفسير كتاب الله على الأغلب المعروف من كلام العرب دون غيره، إلا إذا أتت قرينة تحملنا على أن نختار القول الذي ليس بغالب وليس بمشهور، كما في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] فسياق الآية رجح وجهة من قال: إن المراد باليأس هنا: العلم، أي: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو أشاء الله لهدى الناس جميعاً. فالكفل أحياناً يطلق على نصيب الخير، وأحياناً يطلق على نصيب الشر. إذاً: يفسر معنى الكفل على حسب القرينة التي وردت. {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء:85] .

حد الشفاعة المشروعة

حد الشفاعة المشروعة الشفاعات إذا لم يكن فيها تحليل لحرام أو تحريم لحلال، أو أكل حق من حقوق المسلمين، أو تقديم شخص على شخص آخر هو أكفأ منه، فهي مستحبة، وللشافع نصيب وأجر. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} [النساء:85] والشفاعة السيئة لها صور منها: - الحيلولة دون إمضاء شرع الله وحكم الله، فإذا بلغت القضية الحاكم الشرعي ووجب فيها الحد، فحينئذٍ تحرم الشفاعة وتحرم الوساطة للتجاوز عن الحد، كما في حديث المرأة المخزومية التي سرقت فاستشفع القرشيون بـ أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله!! والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) . وقد ورد حديث فيه ضعف: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره أو في حكمه) أخرجه الحاكم والبيهقي وغيرهما بإسناد فيه ضعف. فإن تقدمت لوظيفة -مثلاً- وكان في المتقدمين من هو أكفأ منك، فأتيت بواسطة لتكون أنت المستحق لهذه الوظيفة فهنا تحرم الشفاعة والوساطة؛ لأنك بذلك تأخذ حقوقاً ليست لك، وتتبوأ مكاناً غيرك أحق به منك، لكن إذا انتفت الموانع جاز، وهذا تفصيل في شأن الواسطة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

بعض صور الشفاعة في الدنيا والآخرة

بعض صور الشفاعة في الدنيا والآخرة وهناك شفاعات أخرى: كالشفاعة لأهل الكبائر، ودليلها حديث: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، وفي رواية: (أما إنها ليست للمتقين) فهي نوع من أنواع الشفاعة، تكون إنما للمتلوثين الخطائين، وهناك شفاعة في رفعة الدرجات في الآخرة، وشفاعة لإنقاذ أقوام قد سيقوا إلى النار فيشفع فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام. والشفاعة دنيوية هي بمعنى الواسطة، والآية ذكرت قسميها: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] ، هذه الشفاعة الدنيوية حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا فلتؤجروا وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء) . فالشراح يقولون كما في هذا الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: أنه إذا أتاه السائل يسأل يسكت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يسكت بخلاً ولا أنه لا يريد إعطاءه إنما يقصد حتى يقول قائل: أعطه يا رسول الله فحينئذٍ يثاب الشافع وتحدث المودة بين المسلمين ويشكره من شفع له، ومن ثم يعطي النبي صلى الله عليه وسلم السائل مسألته، فهذا التصرف من النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمور: أولاً: مجلبة للمودة بين المسلمين، فعندما يأتي شخص يسأل أخاه، وتقول أنت للمسئول: أعطه، فإن أعطاه فإن السائل يحمد لك صنيعك. ثانياً: أنك تثاب أمام الله سبحانه تعالى على هذه الشفاعة. فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا فلتؤجروا، وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء) . يعني: الغرض من شفاعتك أن تؤجر، سواءٌ قبلت أو ردت، فهذا يحمل الشخص على أن يتدخل بالشفاعة وإن كان يتوقع أن ترد؛ لأن الأجر حاصل بإذن الله. ومن ثم لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عبداً يقال له: مغيث وهو زوج بريرة، لما أعتقت بريرة -كما هي السنة في المعتقات- خيّرت هل تبقى مع زوجها العبد أو تفارقه فاختارت الفراق، فكان مغيث يحبها حباً شديداً ويطوف خلفها في الأسواق يبكي، فتسيل دموعه على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: (ألا تعجب من حب مغيث لـ بريرة وبغض بريرة لـ مغيث فقال العباس: لو شفعت له يا رسول الله؟ فشفع النبي صلى الله عليه وسلم عند بريرة فقالت: تأمرني يا رسول الله؟ قال: لا. إنما أنا شافع. قالت: لا حاجة لي فيه) . فهنا ردت بريرة طلب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان شافعاً لا آمراً، واختارت عدم الزواج، والرسول عليه الصلاة والسلام مأجور على كل حال. فإذا استشفع بك شخص فلتشفع وإن ردت شفاعتك، ولا تتردد فأنت مأجور على كل حال، وفي هذا جلب للمودة والمحبة بين المسلمين، لكن تكون شفيعاً بالحق. وقد ورد بإسناد فيه ضعف أن بلال بن رباح أخذه أخوه ليشفع له عند قوم في زواج، فذهب بلال معه وقال: أنا بلال الحبشي كنت عبداً فمن الله عليّ بالعتق في الإسلام، وهذا أخي جاء يستشفع بي عندكم كي تزوجوه، وهو رجل سوءٍ فإن شئتم زوجتموه وإن شئتم تركتم، قالوا: بل نزوجه من أجل بلال، فهنا بلال رضي الله عنه قال بالحق ومع ذلك لم تمنع هذه الشفاعة قدر الله سبحانه وتعالى المقدر.

المقصود بحديث: (أعطيت خمسا.

المقصود بحديث: (أعطيت خمساً. الشفاعة) والشفاعات الأخروية متنوعة أيضاً، وقد وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يخفى معناها على شخص، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي من الأنبياء قبلي -فذكر منها- الشفاعة) ، فقد يفهم شخص من هذا الحديث: أن الأنبياء سوى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لا يشفعون، وهذا خطأ، فهناك ملائكة تشفع، وأنبياء يشفعون، بل وأهل إيمان يشفعون، والولد يشفع في أمه وفي أبيه، والأب يشفع في ولده إذا كانوا من أهل الإيمان. إلى غير ذلك. فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطيت الشفاعة) محمول على نوع خاص من أنواع الشفاعات، وهي الشفاعة العظمى، هي التي أوتيها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهي المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ... ) الحديث وفيه: (يبلغ بالناس من الهم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون فيقولون نستشفع بمن؟ انطلقوا إلى آدم فينطلقون إلى آدم فيقولون له: اشفع لنا عند ربك فيحيلهم آدم إلى نوح، ونوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام، ثم يحيلهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيخر لله ساجداً، ثم يقول الله له: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطى، واشفع تشفع) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل نبي دعوة وإنما اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيام) ، فهذا بالنسبة للشفاعة العظمى صاحبها بإذن الله رسول الله عليه الصلاة والسلام.

أقسام الشفاعة وبيان معناها

أقسام الشفاعة وبيان معناها الشفاعات تنقسم إلى قسمين: - شفاعات دنيوية، وشفاعات أخروية. والشفاعات الدنيوية تنقسم إلى قسمين: - شفاعات محمودة. - وشفاعات مذمومة. - وإن شئت ثلثت بشفاعات مباحة. أما الشفاعات الأخروية فتزيد على أحد عشر نوعاً من أنواع الشفاعة. والشفاعة معناها: التوسط للتجاوز عن الذنوب والجرائم، أو التوسط والتدخل لجلب خير لمسلم من المسلمين أو لشخص من البشر، أو لدفع شر عنه، ومن ذلك قول الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا واستشفعت من سراة الحي ذا ثقة فقد عصاها أبوها والذي شفعا أي: والذي استشفعت به.

الجمع بين ما يبدو في آيات الشفاعة من تعارض

الجمع بين ما يبدو في آيات الشفاعة من تعارض هناك آيات في الشفاعات الأخروية ظاهرها التعارض، فمثلاً قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، فالظاهر من هذه الآيات نفي الشفاعة مطلقاً، وبهذا تمسك جمهور المعتزلة الذين نفوا الشفاعات. وجمهور أهل السنة أثبتوا الشفاعات لكنهم قيدوها بقيود: - منها: أن الشفاعة تكون بإذن الله، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] . - وأن الشفاعة تكون لمن ارتضاه الله، كما قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] . - ولا تكون الشفاعة إلا ممن يستطيعها من العقلاء، أو من ذكر فيه نص، كالقرآن فإنه يشفع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) . وحمل أهل السنة والجماعة الآيات التي نفت الشفاعة كقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} [الأنعام:70] تبسل يعني: تسلم أو تسلم {بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70] ، على الكفار. فقالوا: لا شفاعة لكافر على الإطلاق إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن العباس إن استجيز أن يطلق عليها شفاعة، قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن أبي طالب: (يا رسول الله! أبو طالب عمك كان يحوطك ويمنعك فهل نفعته بشيء؟ قال: نعم. هو في ضحضاح من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فهذه الصورة الوحيدة في الكفار التي تحدث فيها شفاعات، ومع ذلك فهي منازع فيها. فمن أهل العلم من قال: إن الكفار في النار على دركات، فمثلاً: قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] فلكفرهم عذاب ولصدهم عن سبيل الله عذاب، ونحوه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] . فهذا وجه جمع أهل السنة والجماعة ودرئهم للتعارض المتوهم، فقالوا: الشفاعة مثبتة بشروط: - أن تكون بإذن الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] . - وأن تكون لمن ارتضاه الله {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] . - ولا تكون في كافر. - ولا تكون إلا ممن أوتيها.

تفسير قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية)

تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) قال الله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] هذه الآية عامة وبعمومها أخذ فريق من أهل العلم كـ زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة وغيرهما فقالوا: حتى إذا سلم عليك كافر فرد عليه تحيته أو رد عليه أحسن من تحيته، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] ، وبقوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44] ، وبقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] وبقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] ونحو ذلك من الآيات.

الرد على المعتزلة

الرد على المعتزلة قال الله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء:88] الله سبحانه هو الذي أضلهم لعلمه أنهم يستحقون الضلال. وهذه الآية فيها رد على المعتزلة القائلين بأن الرب ليس له تدخل في إضلال العباد، ومنهج أهل السنة أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، قال الله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] كما في قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف:186] ، وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] فإن قال قائل: لماذا يضلني الله، نقول: الله أعلم بمن يستحق الضلال وأنت مكلف أن تعمل كما أمرك الله وليس لك وراء ذلك سؤال، فرب العزة يقول: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [النساء:88] ، المراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، فالمعنى: أتريدون أن توفقوا للإيمان وتحملوا على الإيمان قوماً أراد الله لهم الضلال، وهذا لا يستطاع أبداً، إنما الهداية التي نستطيعها هي هداية الدلالة، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى:52] أي: لتدل إلى صراط مستقيم، فهداية التوفيق هي المعنية في هذه الآية: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88] . أي: لن تجد أي مدخل أبداً تدخل به إلى قلب هذا الذي أراد الله له الضلال، كما قال نوح: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:8-9] لو تسلك كل الطرق: الهدوء، السر والجهر أمام الملأ من الناس للتألف فلن يهتدي؛ لأن من يرد الله أن يضله فلن تملك له من الله شيئاً. قال الله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء:88-89] فلا يكتفون بكفرهم، بل يريدون منكم الكفر كما كفروا، كما قال تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] .

تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين سبيلا)

تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين سبيلاً) خرج المنافقون للجهاد مع رسول الله في غزوة أحد أخذ ابن أبي بن سلول يخذل من خرج فرجع ومعه ثلث الجيش، فلما رجعوا مع عبد الله بن أبي حرموا ثواب الجهاد مع رسول الله، ولكن هذا الرجوع في الأصل هو من الله بسبب ما كسبوا من الذنوب. يقول الله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155] ما السبب في توليهم ليس قوة ولا كثرة العدو، إنما بسبب ذنوب عملوها فكانت سبباً في فرارهم يوم أحد. ويقول بعض العلماء: إن الرماة لما كلفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بألا يغادروا مكانهم في الجهاد ولا يتعدوه ولزموا ذلك انتصر المسلمون أول الأمر، فلما خالف الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالثبات وانقضوا على الغنيمة ودالت الدولة للمشركين فهجموا على أهل الإسلام، فقال فريق من الذين خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: أفر خير لي من أن أقتل وأنا عاص، ففر من القتال بسبب الذنب الأول وهو عدم امتثال أمر رسول الله بالثبات في الأماكن، فجاء ذنب عقب الذنب الأول، وجاء الفرار نتيجة عدم امتثال أمر رسول الله. وثم التماسات أخرى يلتمسها العلماء، والخلاصة: أن المعاصي سبب لزوال النعم، قال الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء:88] تفيد أن الله ردهم عن الغزو مع الرسول بذنوبهم، لذلك لما قال الله لموسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:43-44] بدأ موسى عليه السلام يطلب من الله أن يشرح صدره ويغفر ذنبه حتى يستطيع مجابهة هذا الظالم الأثيم. وكذلك طائفة طالوت لما برزوا لجالوت وجنوده طلبوا من الله أن يغفر لهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] فالذنب يدمر الشخص أكثر من سلاح العدو، والطاعة تقوي الشخص أكثر من السلاح اليدوي الذي في يده. قال الله: {فَمَا لَكُمْ} [النساء:88] أي: مالكم يا معشر المسلمين. {فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] أي: مالكم يا معشر المسلمين في أمر المنافقين مختلفين إلى فئتين: فئة منكم -يا أهل الإيمان- تقول: نقتلهم، وفئة تقول: نتركهم. وهذا لما عاد المسلمون بعد أحد إلى المدينة، وتشاورا في أمر من رجع عنهم في الغزوة من المنافقين، واختلفوا فيما يفعلونه بهم، فقال فريق منهم: نتركهم لعلهم يهتدون، وقال فريق آخر: بل نقتلهم؛ لأنهم خذلونا، فالله عتب على المسلمين أن يحصل الخلاف بينهم بسبب هؤلاء المنافقين. والآية أيضاً فيها حث على الائتلاف وتوحيد الكلمة، وأن هذا الذي حصل ما كان ينبغي أن يحصل.

حكم رد التحية على الكافر

حكم رد التحية على الكافر قال العلماء: إن صدرت تحية من كافر رددنا عليه تحيته أو أحسن من تحيته لقوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] بينما نازع في ذلك فريق قوي الوجهة من أهل العلم، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بسلام -وفيه- وإذا سلم عليكم فقولوا: وعليكم) وفي رواية: (إن اليهود إذا سلموا فإنما يقول أحدهم: السام عليكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام: ومعنى السام: الموت والهلاك (فقولوا: وعليكم) فاستدلوا بهذا: على أن اليهودي أو النصراني إذا سلم عليك رد عليه بعليكم ولا تزد عليها شيئاً. ومن العلماء من ناقش هذا الدليل -وهو من ناحية الصحة ثابت وصحيح- فقالوا: إنه لا تعارض بين قوله تعالى: ((وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (وعليكم) لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (وعليكم) رد للتحية بمثلها، فلا تعارض بين الآية والحديث، وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين واليهود، فسلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعض أهل العلم أيضاً: إذا تأكدت أن اليهودي قال: السلام عليكم رددت عليه تحيته، وعلل بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على اليهود عهده يلوون ألسنتهم كما قال الله تعالى: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء:46] فيلوون السلام بسام، فلا يكاد يتفطن الشخص لذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (فقولوا: وعليكم) ، قال فريق من العلماء: فإن تأكدت أنه لم يلو لسانه جاز لك أن ترد عليه تحيته أو بأحسن منها. بينما اعترض آخرون وقالوا: إن الله قال على لسان موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48] وأن السلام على من اتبع الهدى، وأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل رسالة إلى هرقل قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى،) . هذا مجمل القول في ذلك وحاصله: أن هناك من العلماء من قال: إذا سلم اليهود أو النصارى أو الكفار علينا، فنرد بقولنا "وعليك" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم اليهود أو النصارى فقولوا: وعليكم) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم إذا سلموا فإنهم يقولون: السام عليكم فقولوا: وعليكم) . ومن أهل العلم من قال: إذا تأكدت من صحة كلامهم رددت عليهم السلام بما قالوا أو زد عليه، لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] ، ولقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] وللأدلة التي تقدمت.

أصل التحية والسلام

أصل التحية والسلام قال الله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء:86] : ما هي تحية المسلمين؟ تحية المسلمين: السلام عليكم. بدليل ما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً ثم قال له: اذهب إلى هؤلاء الرهط الجلوس من الملائكة، فسلم عليهم وانتظر ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك، فلما أتى إليهم قال: السلام عليكم. فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله) وفي رواية (وبركاته) فكانت هذه تحية ذرية آدم. ومن ثم قالها موسى عليه الصلاة والسلام للخضر لما رجع إلى مجمع البحرين ووجده مسجىً بثوب أخضر فقال: (السلام عليكم. فقال له الخضر: وأنى بأرضك السلام -أي: أنت جئت من عند الفراعنة وأنى بأرضك السلام- فقال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ ... ) إلى آخر الحديث، فتحية المسلمين هي: (السلام عليكم) فإذا قلت لشخص: السلام عليكم فلك عشر حسنات، وإذا زدت السلام عليكم ورحمة الله فلك عشرون حسنة، وإذا زدت السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلك ثلاثون حسنة، والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى. يعني: كلمة واحدة لا تفرق المسألة، تدخل على قوم تقول لهم: (السلام عليكم) بعشر حسنات، ما هو الذي يحملك على أن تبخل على نفسك بعشرين حسنة أخرى، وتمتنع عن قولك: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟ من ناحية الجواز الكل جائز، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] .

الأسئلة

الأسئلة

حكم مخالطة أهل الكتاب بنية دعوتهم للإسلام

حكم مخالطة أهل الكتاب بنية دعوتهم للإسلام Q بعض الناس يدعي أنه يجادل ويخالط أهل الكتاب وخاصة النصارى بغرض دعوتهم إلى الدين الإسلامي هل هذا يجوز؟ A على نيته. إن كان ينوي بذلك دعوتهم إلى الله جاز ولا إشكال في ذلك.

الوفاء بالنذر

الوفاء بالنذر Q نذرت نذراً أني عندما أحصل على شهادتي وأعمل، أنَّ أهب أول راتب لي لله عز وجل، فقال لي بعض الناس: لا يجوز؛ لأن لك حقاً في هذا المبلغ، ولتعبك في تحصيله فتعطي جزءاً فهل هذا صحيح؟ A النذر يمضى، فيلزمها أن تدفع راتب أول شهر ولا تبخل، فالله يقول: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر القرون السيئة فقال: (ثم يأتي بعد ذلك قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون) .

حكم زيادة (تعالى) في السلام

حكم زيادة (تعالى) في السلام Q هل يجوز أن نقول: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؟ A السنة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لكن هناك دائماً قوم أصحاب فلسفات أكثر من اللازم، تخرج بهم من الفاضل إلى المفضول، فالرسول عليه الصلاة والسلام -مثلاً- قال: (يا فاطمة! ما يمنعك أن تقولي: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً أو إلى أحد من خلقك) فيأتي من يدعو فيقول: ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً ويزيد (ولا أقل من ذلك) ، وهي زيادة لم ترد، والأولى أن نمتثل تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لنا. مثال آخر: دعاء اللهم اهدنا في فيمن هديت، تسمع أحدهم يقول: اللهم اهدنا بفضلك فيمن هديت، فيزيد بفضلك، ويقول: وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فيزيد: واصرف عنا، فهذا ترك الفاضل إلى المفضول، فهدي محمد عليه الصلاة والسلام أكمل الهدي وقد يحدث هذا من أئمة وخطباء كبار، وهو بذلك يستدرك على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكون قال في بداية الخطبة: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيكون الاقتصاد واتباع السنة أولى من الإحداث في الدين، ولعل كلمة واحدة من دعاء رسولنا عليه الصلاة والسلام تجمع لك شتات مائة كلمة، ولعل دعوة واحدة من دعوات رسول الله عليه الصلاة والسلام أبرك من مائة دعوة غيرها، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلمنا جوامع الكلم، وهديه أكمل هدي عليه الصلاة والسلام، فمن ناحية الجواز جائز لك أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، لكن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل، فنقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إلى هنا بارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم الصدقة الجارية عن الميت

حكم الصدقة الجارية عن الميت Q هل الصدقة الجارية للميت تكون قبل موته فقط أم تجوز بعد موته من قبل أهله؟ A تجوز قبل موته وتجوز بعد موته، وقد سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أمي افتلتت نفسها يا رسول الله -أي: ماتت- وأراها إن تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: تصدق عنها) ، وهل يجوز أن تكون الصدقة من مال أبنائه أو أقربائه أو ما إلى ذلك أم يجب أن تكون من ماله الخاص؟ يجوز أن تكون من ماله أو من مال أقربائه أو من مال أصدقائه إذ لا دليل يخصص.

حكم قراءة القرآن للميت

حكم قراءة القرآن للميت Q ما حكم قراءة القرآن للميت؟ A قراءة القرآن على الميت لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ورد في الحديث من قراءة (يس) فضعيف.

حكم زيارة النساء للمقابر

حكم زيارة النساء للمقابر Q ما حكم زيارة النساء للمقابر وقراءة القرآن فيها؟ A الحاصل في زيارة النساء للمقابر أنها إذا لم تصاحبها بدعة أو أمر محرم فهي جائزة، أما الدليل على الجواز فقول أم المؤمنين عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (ماذا أقول إذا أتيت المقبرة يا رسول الله؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإن إن شاء الله بكم لاحقون) ، وكذلك (مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: اتقي الله واصبري) ولم يأمرها بمغادرة المقبرة. أما المانعون فاستدلوا بحديث (لعن الله زوارات القبور) وبحديث فاطمة رضي الله عنها (أن النبي رآها مقبلة من مكان فقال: من أين أتيتي يا فاطمة؟ قالت: يا رسول الله! من عند آل فلان كنت أعزي إليهم ميتهم، قال: هل بلغت معهم القدي -أي: المقابر- قالت: لا. قال: لو بلغتيها ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيكِ) فهذا الحديث الأخير بنى عليه بعض العلماء أن ذهاب النساء للمقبرة كبيرة من أكبر الكبائر، وسطروا ذلك في كتبهم، وهذا التسطير اجتهاد خاطئ، فالحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا شيء ثم إنه قرن زيارة القبور بالشرك بالله، فمن ناحية المعنى كذلك مخدوش فيه، أما حديث (لعن الله زوارات القبور) ، فوجهت إليه بعض الاتجاهات والتأويلات. أحدها: أن الحديث ابتداء ضعيف بلفظ "زائرات"، أما لفظ زوارات فهو محمول على اللواتي يكثرن من الزيارة ويصاحبن الزيارة بالبدع. والاتجاه الثاني: أنه منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) . ومما قوى قول الذين ذهبوا إلى النسخ ما صح عن أم المؤمنين عائشة عند الحاكم وغيره: (أنها أقبلت من مكان فسألها سائل من أين أتيت يا أم المؤمنين؟! قالت: من عند قبر أخي عبد الرحمن، قال لها: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم قد نهى ثم رخص لنا فيها) فهذه أم المؤمنين عائشة يصح عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لها في زيارة القبر وهي أعلم بشأن النساء من غيرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم الصلاة عن الميت

حكم الصلاة عن الميت Q ما حكم الصلاة عن الميت، وقراءة القرآن عنه وهل تلحق بالصدقة والحج والصوم؟ A الأصل عند كثير من العلماء أن العبادات توقيفية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الصدقة عن الميت، وفي قضاء النذر عن الميت، وفي قضاء صوم النذر عن الميت، وفي قضاء الحج عن الميت، لكن لم يرد لنا مع كثرة الميتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شخصاً صلى عن شخص قد مات، ولا أن شخصاً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام قرأ القرآن عن شخص قد مات، فأصل العبادات توقيفية وما ورد فيه من نص فيخرج من هذا العموم، والذي لم يرد فيه نص لا يلحق بما ورد فيه النص.

حكم إعطاء هدية ما لغير من شريت له

حكم إعطاء هدية ما لغير من شريت له Q هل يأثم من اشترى شيئاً وعقد النية على إعطائه هدية لفلان من الناس ثم أعطاه لغيره؟ A لا يأثم، حتى أصل في أشد من ذلك وهو: إذا أعطيت الكتاب هدية لشخص ثم وجدت شخصاً آخر أحوج منه فأخذت منه الكتاب بعد أن أعطيته، فالسؤال هنا: قبل أن يعطيه الآخر هل يحرم عليه أخذه من الأول؟ هذه مسألة تناقش فيها الإمامان الجليلان أحمد والشافعي رحمهم الله تعالى وهي مسألة: الرجوع في الهدية، فقال الإمام أحمد: الرجوع في الهدية حرام، وقال الشافعي: بل يكره. فسأل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الإمام أحمد: ما مستندك يا أحمد في القول بتحريم الرجوع في الهبة أو في الهدية؟ فقال الإمام أحمد: مستندي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه) فقال الإمام الشافعي رحمه الله: وهل حرام على الكلب أن يرجع في قيئه؟ فقال الإمام أحمد: في الحديث: (ليس لنا مثل السوء الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه) فلم يقتنع الإمام الشافعي بمسألة الإمام أحمد (ليس لنا مثل السوء) . صحيح أن مثله مثل سيئ لكن هل يحرم عليه؟ الأصل أن الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه كما في صحيح البخاري، فهذا هو الوجه في هذا الباب، فالشاهد أن الأخ اشترى الهدية ناوياً أن يهديها لشخص فجاء شخص آخر فأهداها له، فليس هناك أي إثم إنما هو محسن، والله يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91] .

تفسير سورة النساء [92-99]

تفسير سورة النساء [92-99] لقد حرم الله قتل النفس المسلمة، ومن قتل مؤمناً خطأً لزمه كفارة وهي عتق رقبة مؤمنة وتسليم الدية لأهل المقتول، وإن كان المقتول معاهداً بدأ بتسليم الدية ثم تحرير رقبة، وأما إن كان مسلماً ولكنه من قوم كفار فتلزم القاتل الكفارة بعتق رقبة أو صيام، ولا دية لأهل المقتول.

تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ)

تفسير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:92] . قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ) أي: وما كان ينبغي لمؤمن، فبعض العلماء قدر هنا كلمة (ينبغي) . ومن العلماء من قال: وما كان يحل لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ. والمؤمن المراد به هنا: المسلم، فليس المراد به المؤمن الذي هو أعلى درجة من المسلم، إنما المراد بالمؤمن هنا: المسلم، والمعنى واحد، وما كان لمسلم أن يقتل مسلماً إلا خطأ لها نفس معنى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) . و (إلا) هنا قد يكون من معانيها: لكن، (ففي) ترد كثيراً في كتاب الله عز وجل بمعنى لكن.

حكم من قتل المعاهد خطأ

حكم من قتل المعاهد خطأ قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:92] أي: معاهدات، أي: أنهم قوم كفار لكن بينهم وبين المسلمين معاهدات، فدلت الآية على جواز عقد المعاهدات مع الكفار، والأدلة على ذلك لا تكاد تحصى من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، فقدمت الدية على الرقبة المؤمنة، وهذا الآية تؤكد أن المسلمين يحترمون العهود والمواثيق، فإذا قتلت شخصاً خطأ، وكان هذا الشخص مؤمناً من قومٍ مؤمنين فابدأ بتحرير الرقبة ثم الدية، وإذا كان الشخص من قوم كفار بيننا وبينهم معاهدة فابدأ بتسليم الحقوق لهم ثم بعد ذلك حرر رقبة المؤمنة، فهذا مما يدل على أن ديننا يحترم العهود والمواثيق في جملة أدلة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58] .

حكم من لم يجد رقبة مؤمنة يعتقها

حكم من لم يجد رقبة مؤمنة يعتقها {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء:92] ، هل ترجع هذه الآية إلى من لم يجد الرقبة والدية أو إلى أحدهما؟ قولان لأهل العلم: فإذا قتلت شخصاً خطأً بسيارة وكان معك أموال، وبعد ذلك سددت الدية إلى أهل المقتول وبقيت الرقبة، ثم لم تجد رقبة تحررها، فهل تصوم أو يسقط عنك الصوم؟ قول كثير من أهل العلم أنه يلزمك أيضاً أن تصوم مع تأدية الدية إلى أهل المقتول؛ لأن الله قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء:92] ، وما دام أنه سكت عن الشيء بعد قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء:92] ، فتحمل على الاثنين معاً أو على أحدهما. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:92] ، هل هو أذنب حتى يقال: (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) ؟ الظاهر أنه لم يذنب. فمن العلماء من قال: إن الشخص إذا ابتلي بشيء من ذلك -الذي ذكر- وكفر، فإن هذه الكفارة تكون توبة عن ذنوبٍ سابقة سالفة، وليس على هذا بعينه، فهذا الابتلاء إذا امتثلت أمر الله فيه كفرت عنك خطايا سالفة كنت قد ارتكبتها أما القتل الخطأ -كقتل خطأ- فليس فيه كفارة، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال تعالى: وكان الله عليماً بنياتكم، وعليماً بالقاتل هل قتل خطأً أم قتل عمداً؟ لأن هذه من المسائل الشائكة، شخص يضرب شخصاً، هل نيته فعلاً أن يقتله أو أنه قتله خطأً ولم يكن من نيته أن يقتله؟ فختمت الآية بقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [النساء:92] ، أي عليماً هنا بالقاتل هل وجهته القتل الخطأ أو القتل العمد، {حَكِيمًا} [النساء:92] فيما يشرع سبحانه وتعالى.

حكم من قتل مؤمنا من قوم كفار خطأ

حكم من قتل مؤمناً من قوم كفار خطأ يقول الله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:92] ، أي: إذا كان المقتول مؤمناً لكن قومه كفار، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، وحذفت الدية المسلمة إلى أهله، وهذه الآية استأنس بها العلماء الذين يقولون باعتبار المقاصد في الأحكام؛ لأن المؤمن لما قُتل وهو من قوم كفار، فإذا أعطينا للقوم الكفار الدية وسلمناهم الدية استعانوا بها على قتال أهل الإيمان، فخشية أن يستعينوا بالدية على أهل الإيمان حذفت الدية -والله أعلم- ومنع منها الكفار، واقتصر على تحرير الرقبة فقط، وهذا من اعتبار المقاصد في الأحكام، وفي الحقيقة أنه من المسائل الشائكة جداً. ونضرب مثالاً آخر -ونحتاج من أخينا الشيخ صالح أن يعقب لنا بما يدور عندهم في المحاكم-: في مرض الموت قال رجل: زوجتي طالق، فسئل: لماذا طلقتها؟ فقال: طلقتها لكي لا ترث، ثم مات، وكان هذا الطلاق غير رجعي، إما أنه آخذ ثلاث تطليقات فتكون مبتوتة، أو أنه طلاق قبل البناء، فالشاهد: أنه طلاق غير رجعي، ثم مات الرجل، فهل يعتبر هذا الطلاق أو لا يعتبر؟ إذا اعتبرت المقاصد قلت: الشاهد أن مسألة طلاق المرأة في مرض الموت تنازع فيها السلف، وقد ذكرنا أن أمير المؤمنين عثمان يرى أن هذا الطلاق لا يقع، وقد ورث عثمان رضي الله عنه امرأة عبد الرحمن بن عوف لما طلقها عبد الرحمن في مرض الموت، وأبى ذلك عبد الله بن الزبير وقال: (لا أورث مبتوتة) . وورد أن أمير المؤمنين عمر لما بلغه أن غيلان بن جرير الثقفي طلق أزواجه كلهن خشية الميراث، قال له: (إني يخيل إليَّ أن الشيطان فيما يسترق من السمع أخبرك بموتك، فقسمت ميراثك على بنيك وطلقت نساءك، فوالله لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال، فراجع النساء، ثم ما لبث إلا أياماً حتى مات) . فلا أدري بم تقضي المحاكم اليوم يا شيخ صالح؟ الشيخ صالح: تبطل جميع تصرفاته عند مرض الموت. الشيخ: أخوكم الشيخ صالح حفظه الله يقول: إن الجاري في المحاكم الآن أنها إذا طلقت في مرض الموت وثبت أن هذا المرض هو مرض الموت ولم يقم من مرضه؛ لأنه إذا قام من المرض ثم تعافى وبقي على طلاقه ثبت الطلاق، لكن إذا ثبت أنه مرض الموت ولم يقم منه بطلت جميع تصرفاته. والإمام الشافعي يرى أن الطلاق واقع هو وأبو محمد ابن حزم. وإن سألنا عن الدليل، هل تعلم لهم دليلاً يا شيخ صالح حفظك الله؟ هل تعلم دليلاً لإبطال تصرفات المريض كلها؟ الشيخ صالح: لسوء نيته. الشيخ: دليل القانونيين أنه سيء النية، وما الذي أدخل القانونيين في نيته؟!! الشيخ صالح: هكذا اعتبروه. الشيخ: هكذا اعتبروه، هب أن هناك سيء النية مثله وهو صحيح لم يمرض، كرجل معافى وصحيح، فقال: زوجتي طالق؛ حتى أحرمها من الميراث، فهذا سيء النية. الشيخ صالح: نعم سيء. الشيخ: سيء، ولكن لا يؤاخذه القانون. الشاهد: أن أبا محمد ابن حزم رحمه الله سبقه الإمام الشافعي رحمه الله وسبقهم عبد الله بن الزبير رحمه الله ورضي عنه، وقالوا: بأنه يقع الطلاق، شأنه شأن الصحيح، وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه رأى عدم الوقوع، وليست هناك أدلة صريحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، ونرجع إلى التفسير:

كفارة القتل الخطأ

كفارة القتل الخطأ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) أي: بطريق الخطأ. (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً) فذكرت الكفارة. فإن قال قائل: إن الله وضع الخطأ والنسيان والاستكراه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك عندما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله في الحديث القدسي: (قد فعلت قد فعلت) ، فلماذا يؤاخذ المؤمن هنا بقتل الخطأ وفرضت عليه كفارة؟! وأيضاً قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصح من شواهده أنه قال: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، وإن كان في إسناده بعض المقال إلا أنه يشهد له قوله تعالى: (قد فعلت) في الحديث القدسي. فالإجابة على هذا: بأن إثم قتل الخطأ مرفوع عن الشخص لكنه ألزم بنوع كفارة. وقد يقول قائل: إنها ابتلاء من الله له يبتليه بأن يكفّر كفارة دنيوية، فهو لم يلزم بالاستغفار؛ لأنه لم يرتكب إثماً في الحقيقة في الأصل، إنما ألزم بكفارة، وقد يقول قائل: إنها من باب معاونة أهل المقتول والمساهمة في تحرير رقاب أهل الإيمان، وليس لها تعلق بالإثم اللاحق بالقاتل الخطأ. وهذا وجه قوي، والله أعلم. ومن أهل العلم من قال: إن هذه الصورة مستثناة من المؤاخذة بالخطأ، فيكون الأصل أن المسلم لا يؤاخذ بالخطأ، لكن وردت أدلة تستثني بعض صور الخطأ التي يؤاخذ بها المسلم ويحاسب عليها، فلَزِمَنَا المصير إليها لوجود الدليل من الكتاب أو من السنة، وشأن ذلك شأن أي عام في الكتاب أو السنة، فهناك عمومات تأتي في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام وتستثنى منها أمور، فليكن هذا من العام، أي: ليكن عدم المؤاخذة بالخطأ عام، استثني منه قاتل الخطأ بأن فرضت عليه كفارة بنص في كتاب الله، فلا يكون هناك معنى لإنشاء خلاف بين الآية وبين الآية الأخرى، والله سبحانه وتعالى أعلم. (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قيدت الرقبة هنا بأنها مؤمنة، وفي آيات أخرى لا تتعلق بالقتل أطلقت الرقاب، قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] أي: هذا الكافر ما اقتحم العقبة، ما هي العقبة؟ قال فريق من العلماء: إنها جبل في النار. ومنهم من قال: إنها الصراط. وهذه العقبة يقتحمها الناس بأعمالهم، فينقم الله على الكافر المجادل فيقول: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، أي: ما عمل أعمالاً تؤهله لاقتحام العقبة، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) ، تعظيم لهذه العقبة {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13] ، أي: لم يقتحم العقبة بفك رقبة، فالرقبة هنا أطلقت ولم تقيد بأنها رقبة مسلمة ولا رقبة كافرة، فبعض أهل العلم يحمل هذا الإطلاق على المخصص الوارد في آيات أخرى، وبعضهم -ورأيهم أسلم- يقول: إذا أطلقت الرقبة نطلقها، وإذا قيدت الرقبة نقيدها. فمثلاً: قال تعالى في شأن كفارات الأيمان: {َفكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] ، ففي اليمين لم تقيد الرقبة بأنها مؤمنة، لكن في القتل قيدت الرقبة بأنها مؤمنة {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، فيشترط في الرقبة -أي: العبد أو الأمة- أن يكونا مسلمين، {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء:92] أي: مدفوعة، {إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] إلى أهل المقتول. وهذه الدية مسلمة فمن؟ ومن الملزم بها؟ هل القاتل أو العاقلة؟ إذا قتل شخصٌ شخصاً خطأً فهل يلزم القاتل أن يسدد الدية وحده بمفرده، أو أن رجال قبيلته يساهمون في هذه الرقبة، فالدية في حالة القتل الخطأ ليست على القاتل فحسب إنما هي على العاقلة وهم رجال القبيلة، فكلٌ يدفع قسطاً ويؤدون عن الشخص في حالة قتل الخطأ، لكن في حالة قتل العمد فإن الجاني هو الذي يتحمل، فإن ساعده أهله بشيء فلا مانع من ذلك، لكن الذي يُلزم بدفع الدية هو القاتل. والدية قدرها مائة من الإبل. {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] أي: يعتق عبداً مسلماً أو أمة مسلمة، وإضافة إلى ذلك يدفع ويسلم دية إلى أهله، ويقدرها الناس الآن أو في بعض بلاد العرب بما يقارب مائة وخمسين ألف ريال سعودي. وصور القتل الخطأ تتعدد وتتنوع، ففي بعض البلاد تجري الأحكام أنك إذا كنت تقود سيارة فصدمت رجلاً في الطريق وقتلته، فتكون قد قتلت خطأً، وتلزم أنت مع العاقلة بسداد الدية إلى أهله، وطبعاً قوانين المحاكم التي تجري في المحاكم لا تسقط عليك أي شيء من الناحية الشرعية إنما هي في وادٍ آخر، إلا إذا عفا عنك أهل المقتول خطأ فالحمد لله، وبقي عليك فقط تحرير الرقبة المؤمنة. ومن صور القتل الخطأ: أن تلقي حجراً مثلاً من فوق السطح -من فوق سطح البيت مثلاً- ألقيت أحجاراً أو أخشاباً على أناس بطريق الخطأ فماتوا فتتحمل أنت ديتهم، وإذا كنت تقود سيارة وصدمت شخصاً فإنك تتحمل أنت أيضاً الدية، هذه بعض صور القتل الخطأ، والصور تتعدد. {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] ، ففيه ندب إلى الصدقة، وحثٌ من طرف خفي لأهل الميت على الصدقة، فإذا كان المقتول عمداً قد حث الله أهله على الصدقة، فأهل المقتول خطأً من باب أولى، فالمقتول عمداً يقول تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45] إلى قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] ، أي: إذا قتل أخوك أو قتل أبوك ثم عفوت عن القاتل فقد كفرت ذنوبك وخطاياك، فإذا كان الله ندب إلى العفو في حالة القتل العمد، فلأن يندب إلى العفو في القتل الخطأ من باب أولى؛ لأن القاتل خطأ ما تعمد أن يقتل. والفقهاء يفرقون أحياناً بين قاتل العمد وقاتل الخطأ بناءً على الآلة التي استعملت في القتل، وهذا من ضمن جملة أشياء يفهمها إخواننا المختصون بذلك، ولعل الشيخ صالح بن عبد الجواد حفظه الله تعالى يتحفنا في هذا الجانب، وما هو سائرٌ في المحاكم في هذه الأيام، فبعضهم يفرق في الآلات، فإذا ضرب شخصٌ شخصاً بحجر مثلاً فقتله به، وشخص ضرب شخصاً آخر برصاص وأطلق عليه رصاصة، فالأولى عمد والأخرى قد تكون خطأ. ومن اللطائف التي سيقت في هذا الباب: أنه في بعض السجون في بعض البلاد العربية أتوا برجل تشاجر معه آخر فضربه بالفأس فقتله، فأخذوه وأثبتوا في محضر الشرطة: بمَ قتلته؟ قال: بالفأس، فدخل السجن انتظاراً للمحكمة، فسأله السجناء والخبراء بالمشاكل وقالوا له: ما هي جريمتك؟ قال: قتلت شخصاً بالفأس، قالوا له: إنك إن قلت للقاضي: قتلته بالفأس، سيحكمون عليك بالإعدام؛ لأنك قاتل عمد، ولكن إذا سألك القاضي، فقل: قتلته بيد الفأس ليس برأس الفأس -أي: بالخشبة- فقال: لقد اعترفت، قالوا له: إذا جاء وقال لك: لمَ اعترفت؟ فقل له: إن إخوة يوسف قالوا: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:82] وما أرادوا أحجار القرية إنما أرادوا السكان، فقل: أنا قلت بالفأس وأريد يد الفأس، فجعلوها قارنة لصرف الحد عنه وانتقاله من العمد إلى شبه العمد.

تفسير قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا.

تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا.) ثم قال تعالى محذراً من القتل العمد: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] ، ذكرت الآيات القتل الخطأ والقتل العمد، وبعض كتب المالكية أدخلوا قسماً ثالثاً وهو: شبه العمد، أي: أن هناك حالات تشك هل هي عمد أو خطأ؟ فمثلاً: رجل ضرب رجلاً بشيء يشك فيه هل يكون عمداً أو خطأ، فهذه فيجعلونها شبه عمد. وفي الحقيقة أن من أهل العلم من يلغي هذه المرحلة بحديث (ادرءوا الحدود بالشبهات) فيرجعها إلى الخطأ؛ لعدم وجود شبه دليل صريح على مسألة شبه العمد، والله أعلم. فمثلاً: مدرس يؤدب طالبه، وفي أثناء الضرب مات هذا الطالب، أو رجل يعالج بالقرآن وهو يضرب المريض فمات هذا المريض، فيحتمل أنه أراد قتل المريض، ويحتمل أنه لم يرد. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] هل أي مؤمن يقتل مؤمناً متعمداً جزاؤه جهنم أم أن المتأول له أحكام؟ لأن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قاتل وقتل فعلاً، فطائفة معاوية رضي الله عنه قتلت عمار بن ياسر في طائفة من أصحاب علي رضي الله عنه، فهل كل من قتل مؤمناً متعمداً جزاؤه جهنم؟ التقييد الأول: جزاؤه جهنم إذا لم يغفر الله له؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فإذا لم يغفر له فلن يكون جزاؤه جهنم؛ وقد جاء (أن قوماً أتوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، زنوا فأكثروا، وقتلوا فأكثروا، وسرقوا، فهل لهم من توبة؟ فنزل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ) ، وكذلك حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض. ثم كان مآله إلى أن تلقته ملائكة الرحمة عندما تاب. إذاً تقيد الآية بما إذا لم يغفر له. وروي عن الحبر الكبير عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: (ليس لقاتل مؤمنٍ توبة) ، واحتج بهذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] ، فقد تراكمت عليه العقوبات؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) . ولذلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى رغم عدله الواسع المنتشر وسيرته الحسنة، إلا أنه كلف -عندما كان أميراً على المدينة من قبل بني أمية- أن يضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير، فضربه وتركه في برد المدينة القارس الشديد، وكان خبيب رجلاً صالحاً حتى مات خبيب في البرد، فكان عمر كلما ذكر بعد أن ولي الخلافة يبكي ويقول: من لي بـ خبيب؟! من لي بـ خبيب؟! من لي بـ خبيب؟! ويتأسف غاية الأسف على الذي صنعه بـ خبيب. قال عليه الصلاة والسلام كما في رواية المسند -كما في معنى الحديث-: (إن المقتول يأتي يوم القيامة آخذاً بتلابيب قاتله معه رأسه، يقول: يا رب! سل هذا فيما قتلني. فيقال: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيبوء بإثمه وإثمه فيتحمل القاتل كل ذنوب المقتول ويكون من أصحاب النار) عياذاً بالله. فالآية فيها تقييدات، فمن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم إذا لم يتب الله عليه، ويقول: ابن القيم: إذا لم يكن متأولاً، وهذا التأول يكون مقبولاً أو تكون له وجهة شرعية مثلاً. فمثلاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تقاتلوا فيما بينهم، فرب العزة يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] ، هناك شخص مؤمن في طائفة معاوية يتخيل أنه مصيب وأنه يطالب بدم أمير المؤمنين عثمان الذي قتل مظلوماً، ويبدأ برفع السيف على أخيه المسلم من وجهة شرعية، فحينئذٍ هذا التأول وإن كان لا ينجي صاحبه من العذاب جملةً إلا إذا غفر الله له، لكن لا يخلد صاحبه في النار. وهناك قيود أخر، منها: إذا لم يكن المقتول يستحق القتل، فإذا كان المقتول زانياً محصناً فقتل، أو قاتل نفس بغير حق فقتل، أو مرتداً عن دينه فقتل، أو كان قاطع طريق، أو فعل فِعل قوم لوط واستوجب حداً أقامه عليه الإمام، فهناك استثناءات تضبط لنا هذه الآية. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] سبق أن عبد الله بن عباس يرى أنه ليس لقاتل النفس توبة، ويقسم في بعض الروايات أن آية النساء هذه نزلت بعد آية الفرقان، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] ، فـ ابن عباس يرى أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] ، يرى أن هذه الآية هي القاضية على آية الفرقان في الحكم. أما جمهور الصحابة فلم يوافقوا على هذا الرأي وقالوا: له توبة إن تاب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) ، ولقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وهناك جملة أدلة منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج يهدم ما قبله) ، وعمومات احتج بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أهل العلم من التمس وجهاً لـ عبد الله بن عباس فقال: إن مراد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن قاتل المؤمن في الغالب أنه لا يوفق للتوبة، فإن قيل: إن هناك من يقتل ويتوب، فالإجابة: أن هناك من يقتل ويتوب، ولكن في الغالب أن الذي يقتل لا يتوب، فإن وجد شخص أو ثلاثة أو عشرة، لكن الغالب على أن القتلة لا يتوبون، وهذا أحد الالتماسات لتوجيه رأي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وجعله يرجع إلى رأي جمهور الصحابة رضي الله عنهم، وبعض العلماء يحمل الآية على المستحل، والله أعلم. {فجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ} [النساء:93] ، فاجتمع عليه الغضب واللعن. {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] ، في قوله: {وَأَعَدَّ لَهُ} [النساء:93] دليلٌ على أن النار مخلوقة، (وَأَعَدَّ لَهُ) دليل على أن النار معدة الآن، وقوله تعالى أيضاً: {اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ} [آل عمران:131] ، وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشتكت النار إلى ربها فقالت: أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين، فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها) ، وقد رآها النبي في صلاة الكسوف، وكل هذه أدلة تدل على أن النار مخلوقة الآن، وقوله: (بينما رجل يمشي في حلة أعجبته نفسه يتبختر إذ خسف به فهو في نار جهنم يتجلل فيه) ، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها) ، فكل هذه أدلة تدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ) أي: سافرتم، والضرب في الأرض معناه: السفر، قال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20] ، وقال جل وعلا: {َإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] ، وقال صلى الله عليه وسلم (ضربت الشياطين مشارق الأرض ومغاربها) ، {ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:94] أي: خرجتم غزاة مسافرين في سبيل الله. (فتبينوا) في قراءة: (فتثبتوا) ؛ وذلك لأن المصحف لم يكن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام منقوطاً، فكانت الكلمة بدون نقط لا فوق ولا أسفل فتحتمل القراءتين معاً، وقد نزلت الآية في طائفة من أصحاب رسول الله خرجوا غزاةً، فالتقوا برجل كان بين بعضهم وبينه ثأر قديم في الجاهلية، فسلم عليهم بتحية الإسلام، وكان معه غنم له، فقتلوه وساقوا غنمه، فنزلت فيهم الآية، وجاء أيضاً أنها نزلت في أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله، فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] ، والآية ليست على ما يفهمها الجهلة الذين ينتمون إلى جماعة التوقف -وهم من أجهل الطوائف- حيث أسسوا جماعة التبين بناءً على هذه الكلمة، والآية نفسها ترد عليهم، ففيها: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء:94] وهم يقولون للمصلين: لستم مؤمنين. فالآية أخذوا منها كلمة (التبين) ، وبنوا عليها جماعة وجعلوا لهم أميراً من أجل كلمة التبين التي في الآية، فلو نظروا إلى آخر الآية: {لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء:94] أي: احكموا لمن ألقى إليكم السلام بالإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المؤمن) ، وهم أبوا أن يقروا بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] أي: إذا خرجتم غزاةً في سبيل الله -واصطلاح (في سبيل الله) محمولٌ على الجهاد- فتبينوا، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] ، فالآية تفيد أن السلام من شعار المسلمين، ولذلك لما قدم موسى على الخضر سلم عليه، فقال له الخضر: وأنى بأرضك السلام! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ فعلم الخضر أن موسى أتى بتحية المسلمين، فلذلك تعجب كيف يأتي من عند الفراعنة ويحمل هذه التحية! قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:94] أي: بتهجمكم عليه وقتله، {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء:94] ، أي: تورعوا عن هذا المشبوه، وابتغوا الغنيمة عند الله سبحانه وتعالى، فالآية تفيد أن الشخص يترك المشتبه ويطلب الرزق الحلال الطيب من الله، فترك المشتبه سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا عبد الله بن سلام يقول لبعض التابعين: (إنك بأرض الربا فيها فاشٍ، فإذا أقرضت رجلاً وأهدى لك شيئاً فلا تقبله فإنه ربا) . قال تعالى: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:94] ، أسامة بن زيد نزلت فيه الآية فكان يتمنى أنه لم يولد إلا بعد أن نزلت هذه الآية أو بعد هذه الغزوة؛ لأنه قتل نفساً مؤمنة بغير حق. (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة؟! قال: يا رسول الله! إنما قالها متعوذاً، قال: أقتلته يا أسامة! بعد أن قال لا إله إلا الله؟ كيف بك يا أسامة! إذا جاء بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) ، فقتل النفس المؤمنة -يا عباد الله- جرم كبير، وقد جاءت فيه نصوص الوعيد المتكاثرة غاية الكثرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.) قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء:95] كلمة (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) تأخر نزولها عن سائر الآية، فقد كان في الآية أول ما نزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) نزلت هكذا أول الأمر، فجاء ابن أم مكتوم إلى رسول الله يشتكي ضرره وفقدان بصره، فأنزل الله تعالى: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] وهناك دليل على أن بعض الآيات قد ينزل متأخراً عن بعض، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي يقول (ضعوا هذا الجزء في هذه الآية، وضعوا هذه الآية في سورة كذا وكذا) ، كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] نزلت هكذا، ثم بعد مدة نزل قوله تعالى: (من الفجر) . قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء:95] ، فالقاعدون لهم أجر، وقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من آمن بالله ورسوله كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، مات في سبيل الله أو مات في أرضه التي ولد فيها، قالوا: أفلا نبشر الناس يا رسول الله؟! قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) . فالقاعدون لهم درجات لكن أعلى منهم درجات المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. والجهاد أعم من القتال، ولذلك المستشرقون لما جاءوا يترجمون هم والمستغربون بدءوا بترجمة كلمة (الجهاد) التي في كتاب الله بمعنى القتال، فأخطئوا؛ لأن الجهاد صورته أوسع، فقد يكون جهاداً بالمال، وقد يكون جهاداً بالنفس لا بالسيف فقط، والجهاد بالنفس يكون بالخروج لأي عملٍ يرضي الله سبحانه وتعالى وينصر دينه، وقد يكون جهاداً بالقلب، (فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن) ، فاصطلاح الجهاد أعم من اصطلاح القتال، أما القتال فهو أحد صور الجهاد في سبيل الله، فلذلك الترجمة ينبغي أن تكون من رجل ملم بالأحكام الشرعية لا من رجل جاهل. قال تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِم} [النساء:95] جهاد المال الآن يتمثل في صور منها: أن تنشر كتيباً أو شريطاً فيه رفع معنويات المسلمين أن تحث المسلمين على أعمال البر أن تتصدق بمصحف، فأفعال الخير والبر واسعة غاية الاتساع والحمد لله. {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95] ، قال صلى الله عليه وسلم: (أهل الجهاد لهم مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء؛ لتفاضل ما بينهم) .

تفسير قوله تعالى: (درجات منه ومغفرة ورحمة)

تفسير قوله تعالى: (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) قال تعالى: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:96] درجات ومغفرة للذنوب ورحمة من الله سبحانه وتعالى بهم. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له عند أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهل بيته) . والجهاد -كما علمتم- بالنفس وبالمال، وصوره لا تنقضي ولا تنقطع إلى يوم القيامة، فاقتطع من قوتك وانشر شيئاً ينصر الله به دينه ويؤيد الله به سنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ.) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97] . نزلت هذه الآية في قومٍ من المسلمين المستضعفين الذين كانوا يسكنون بمكة، فأجبرهم أهل مكة للخروج معهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان المسلم الذي في صفوف رسول الله يضرب بسهمه فيصيب أخاه المسلم الذي في صفوف المشركين، فتحسر المسلمون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأسفوا على ذلك وقالوا: قتلنا إخواننا، فنزلت الآية رافعةً الحرج عن المسلمين الذين هم في صفوف النبي عليه الصلاة والسلام، ومحذرةً لأهل الإسلام الذين دخلوا في صفوف المشركين يكثرون السواد. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} توفتهم وهم ظالمون لأنفسهم: {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} ، أُخرجنا عنوة ورغم أنوفنا: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} في هذا أنه ليس كل من أتى بعذر قبل منه، قال تعالى: {َأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .

تفسير قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان)

تفسير قوله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) ثم قال تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:98] أي: الذين استضعفوا حقيقة وأخرجوا كرهاً من الرجال والنساء والولدان، قال ابن عباس: (كنت أنا وأمي من المستضعفين بمكة) {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:98-99] ، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجزاكم الله خيراً.

الأسئلة

الأسئلة

سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن في الصلاة

سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن في الصلاة Q قال أحد إخواننا: في لقاء سابق أجبت على سؤال بشأن قيام إمام المسجد بقراءة القرآن في صلاة الفجر، بدءاً من سورة البقرة بترتيب المصحف حتى نهايته، وأن هذا الأمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ويرد البعض بأن المصحف لم يكن قد دون على عهد الرسول وعليه فلا تثريب على من يفعل ذلك؟ A إذا قال الأخ: إن المصحف لم يكن رتب، فهذا أيضاً دليل عليه ليس دليلاً له، صحيح أن المصحف لم يكن رتب على عهد الرسول، فمن الذي ألزمك أن تقرأ على الناس يومياً ابتداءً من البقرة كل يوم جزءاً حتى تنتهي إلى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ؟ هل درج على ذلك سلفنا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين دونوا المصحف؟ هل درج على ذلك التابعون؟ رسولنا محمد يقول: (هلا قرأت في العشاء -أي: في صلاة العشاء- بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وبـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] * {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2] ) ، وكان يقرأ في صلاة الظهر بنحو ذلك، وبنحو ستين آية أو ثلاثين آية في العصر، فالتزام الترتيب لم يلتزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فالإمام غير مطالب أن يتعلم الحفظ ويختبر نفسه وحفظه على المسلمين، ينتهي من ربع ويبدأ في الربع الذي بعده حتى يختم القرآن في سنة أو سنتين، فما سلك هذا السبيل وما تكلف هذا التكلف أصحاب نبينا محمد ولا سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، والله أعلم.

فضل الجهاد في سبيل الله

فضل الجهاد في سبيل الله Q هل للمجاهد الذي لم يقتل في المعارك التي خاضها أجرٌ، علماً بأنه لم يذهب متطوعاً ولكنه كان يعمل في القوات المسلحة وخاصةً في المعارك التي قامت؟ A إذا كانت معارك ضد الكفار لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى فله أجره، وكل خطوة يخطوها تكفر بها عنه سيئة وترفع بها درجة، وكل غبار يصيبه يثاب عليه يوم القيامة، أما إن كانت حروباً لقتال المسلمين، كالذين ذهبوا في حرب اليمن يقتّلون المسلمين هناك لنصرة الاشتراكية، فحرب اليمن ليس فيها أجر فيما علمت؛ بل إنها حرب مضيعة للمسلمين وتقتيل لهم وتشريد، فالكل مسلمون، فعلى حسب نوع الحرب التي خاضها.

كتاب في أسباب النزول

كتاب في أسباب النزول Q هل هناك كتاب في أسباب النزول محقق؟ A نعم هناك كتاب (الصحيح المسند من أسباب النزول) للشيخ مقبل الوادعي رحمه الله.

ما جزاء الإحسان إلا الإحسان

ما جزاء الإحسان إلا الإحسان Q أخت تقدم لها أخ وهي ملتزمة ونحسبها كذلك، وتراجع عن خطبتها بعد أن أعجب بدينها وحسن أخلاقها لا لشيء إلا لأنها صارحته بعيب خلقي فيها، ولم يكتفِ الأخ بالإعراض عنها وإنما ثبط من عزم على التقدم لها، فما يقال لهذا الأخ؟ A نقول له: اتق الله في هذه الأخت المسلمة كما اتقت الله فيك، فجزاء الإحسان الإحسان، فهي قد أخبرتك بالذي فيها إحساناً منها أو تقوى منها لله سبحانه حتى لا تغشك، فلا تكن أنت منفراً، ثم دعها هي التي توضح للخطاب ما بها كما وضحته لك. والذي سيعمله سيلاقيه يوم القيامة.

قيام الليل هو التهجد

قيام الليل هو التهجد Q ما الفرق بين صلاة التهجد وصلاة قيام الليل؟ A لا أعرف فرقاً بينهما، فقيام الليل هو التهجد.

صلاة ركعتين بعد العصر من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم

صلاة ركعتين بعد العصر من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم Q في حديث عائشة: (أن النبي لم يكن يترك ركعتين بعد العصر) ؟ A الظاهر أنها من الخصوصيات برسول الله عليه الصلاة والسلام، لحديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) .

مقدار التشهد الأول

مقدار التشهد الأول Q هل التشهد الأول في الصلاة الرباعية يقف عند (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله) ، أم يكمل التشهد إلى (إنك حميد مجيد) ؟ A الأولى -فيما ظهر لي- أنه يقف عند (أشهد أن محمداً عبده ورسوله) لأمرين: الأمر الأول: أن ابن مسعود لما علم التابعي التشهد أتى إلى قوله: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله) ، وقال: إذا بلغت ذلك فقم، وابن مسعود هو راوي حديث التشهد وهو أعلم به من غيره. الأمر الثاني: لما ورد في إسناد حسن: (أن أبا بكر وعمر كانا يجلسان في التشهد الأوسط كأنما يجلسان على الرد) أي: الحجارة المحماة، أي: يسرعون.

أبناء الأمة من الحر ينسبون إليه

أبناء الأمة من الحر ينسبون إليه Q نقرأ عن السراري في الإسلام، فما هو موقف أولاد هؤلاء السراري، هل ينسبون لآبائهم أم ماذا؟ A إذا جاءت امرأة من الإماء لرجل حر، فجامعها هذا الرجل وولدت له ابناً، فهذا الابن ينسب للرجل، مثل إبراهيم ابن رسول الله، فـ إبراهيم هو ابن مارية، ومارية كانت أمة عند رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وجود زناة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

وجود زناة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم Q {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] ، هل تدل هذه الآية على أنه كان هناك زناة وزانيات في المجتمع الإسلامي أثناء نزول الآية؟ A نعم كان هناك زناة وزوانٍ في عهد رسوله الله عليه الصلاة والسلام، وقد روى ابن عباس قول النبي عليه الصلاة والسلام في تلك المرأة: (لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمت هذه) . وهي امرأة كان الرجال يدخلون عليها، ولم يستطع أحد أن يثبت عليها شيئاً، فلا يوجد شهود أربعة رأوا واحداً يزني بها، ومع ذلك ما انتهت، وقد زنت الغامدية وجاءت وتطهرت. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

النصارى مشركون

النصارى مشركون Q هل النصارى مشركون؟ A نعم مشركون؛ لأن الله يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] ، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72] . وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي ولا بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار) .

تفسير سورة النساء [101-104]

تفسير سورة النساء [101-104] احتوت آيات القرآن الكريم على دروس ومواعظ، وأحكام وفوائد، من تدبرها حق التدبر عرف أسرارها، واستنبط مكنوناتها، واستخرج كنوزها، ومن تلك الأحكام الجليلة والفوائد النبيلة: أحكام صلاة الخوف، وقصر الصلاة للمسافر، ورفع الحرج والضيق عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرها.

تفسير قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض) فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101] . هذه الآية أصل القصر في السفر، فقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101] أي: سافرتم، ومنه قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20] أي: يسافرون. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:156] أي: سافروا. فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101] أي: وإذا سافرتم، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء:101] الجناح المراد به: الإثم، ومعنى الآية: وإذا سافرتم فليس عليكم إثم إذا قصرتم الصلاة. {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] (من) هل المراد بها للتبعيض، أي: من بعض الصلوات؟ أو المراد: تنقصون الصلاة من أربع إلى اثنتين؛ لأن بعض الصلوات ليس فيها قصر كصلاة الصبح وصلاة المغرب؟ فلقائل أن يقول: ليس عليكم جناح أن تقصروا من بعض الصلوات، وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء، أما سائر الصلوات فتصلى كما هي. ولقائل أن يقول: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة التي هي أربع، فتصلوها ركعتين، وهذا واضح. فـ (تقصروا من الصلاة) ، هل هي من الخمس الصلوات تقصرون في بعضها، أو (تقصروا من الصلاة) ، أي: من الصلاة الرباعية إلى ركعتين؟ الأخير أظهر، والله أعلم.

رفع الحرج عن هذه الأمة

رفع الحرج عن هذه الأمة قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] هذه الآية من إحدى الآيات التي ترفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فالشخص إذا كان مسافراً فقد يكون مرهقاً متعباً، والله رحيم به قد خفف عنه الصلاة من أربع إلى ركعتين، ومما يدل على ذلك: ما روي في صحيح البخاري وإن كان قد انتقد لكن له شواهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) فالسنن الرواتب في السفر لا تصلى وأنت تثاب على تركها في السفر كما كنت تصليها في بلدك، وإنما يصلي منها: ركعتا الفجر والوتر، وما سوى ذلك من النفل الراتب فلا، مثل: ركعتي الظهر أو الأربع القبلية أو البعدية، وكركعتي المغرب البعدية، وكذا ركعتي العشاء البعدية، فكل هذه النوافل لا تصلى في السفر. وهذه مسألة اختلف فيها العلماء على قولين، ويحسمها قول ابن عمر رضي الله عنهما: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر على ركعتين) ، وقوله: (لو كنت مسبحاً -أي: مصلياً النافلة بعد الفريضة- لأتممت الفريضة) . أما النفل غير الراتب -أي: التطوع المطلق- كصلاة الضحى أو صلاة التهجد، أو صلاة تحية المسجد، أو ركعات الوضوء، أو صلاة الاستخارة، أو صلاة الفتح، أو نحو ذلك من الصلوات التي ليست راتبة، فلك أن تصليها، وذلك لما ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة على الراحلة حيثما توجهت به) أي: النفل المطلق، والله سبحانه أعلم. فالآية من آيات رفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم منها جملة آيات: كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] ، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت بالحنيفية السمحة) إلى غير ذلك، وقوله تعالى:: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] . فكل هذه الآيات فيها رفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهي نصوص يحتاج إليها عند عدم وجود النص الخاص، فلو شق أمر على شخص فوق طاقته، فيتدخل النص للتخفيف عنه، كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] . قال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101] أي: ظاهراً.

توجيه القول بأن علة القصر هي الخوف

توجيه القول بأن علة القصر هي الخوف قال تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء:101] هذا التقييد يفيد أن القصر للخوف، لكن هذا بينه عمر رضي الله عنه في مسألته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد جاء (سائل يسأل أمير المؤمنين عمر يقول: لماذا القصر وقد أمن الناس، والله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] ؟ فقال أمير المؤمنين عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته) . إذاً: التقييد في قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] على رأي بعض العلماء يخرج مخرج الغالب، فسواء خفت أن يفتنك الذين كفروا، أو لم تخف من فتنة الكفار فلك أن تقصر الصلاة مادمت مسافراً. وخروج مخرج الغالب تقدمت له نماذج متعددة من كتاب الله: كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فـ (أضعافاً مضاعفة) خرجت مخرج الغالب، ولا يفهم من الآية أنه يجوز الأكل من قليل الربا أو أقل من الضعفين. كذلك قوله تعالى في خروج مخرج الغالب: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:33] أي: على الزنا {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] أي: إذا أردن تعففاً، فقوله: (أردن تحصناً) خرجت مخرج الغالب، وليس معنى الآية: إذا أرادت البنت أو الأمة فجوراً أنه يجوز لك أن تكرهها على الزنا. فكذا قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] عند بعض العلماء خرج مخرج الغالب، سواء خفت فتنة الذين كفروا أو لم تخف فتنة الذين كفروا فلك أن تقصر الصلاة.

اختلاف العلماء في وجوب قصر الصلاة للمسافر

اختلاف العلماء في وجوب قصر الصلاة للمسافر قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء:101] أي: ليس عليكم إثم، وقد استدل بها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وطائفة من أهل العلم: على أن القصر ليس بواجب إنما هو مستحب؛ لأن الله قال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] ، فنفي الجناح لا يقتضي الوجوب، فإذا قلت لك: لا جناح عليك أن تسافر، فليس معناه: يجب عليك السفر، إنما إذا سافرت فليس عليك إثم. ومن هذا الباب: قوله تعالى في الصفا والمروة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] أي: فلا إثم عليه أن يطوف بهما، وقد يقول قائل: إذاً السعي بين الصفا والمروة ليس بواجب لهذه الآية: ((فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ)) [البقرة:158] أي: لا إثم عليه، وكذلك القول في مسألة قصر الصلاة: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] أي: لا إثم عليكم، فلا يستفاد الوجوب. والحقيقة أن الوجوب لا يستفاد لا في السعي بين الصفا والمروة، ولا في قصر الصلاة من الآيتين، وإنما يستفاد عند من رأوا الوجوب خاصة في قصر الصلاة من نصوص أخرى. ما هو الدليل على وجوب القصر عند من قال بوجوبه؟ الدليل الأول: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (فرضت الصلاة مثنى مثنى، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر) وقد استدل به فريق من العلماء على وجوب القصر. الدليل الثاني: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره، فلم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام أتم في أي سفرة سافرها. وجمهور أهل العلم قالوا: إن القصر في السفر مستحب وليس بواجب، فمن أتم في السفر فصلاته صحيحة ليست بباطلة، وقالوا: إن قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (فرضت الصلاة مثنى مثنى) عورض بقول ابن عباس رضي الله عنهما الذي فيه: (فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين على لسان محمد صلى الله عليه وسلم) . قالوا: فهذا صحابي بين أن الصلاة فرضت أربعاً في الحضر واثنتين في السفر. وقالوا هذا لكي يعكروا الاستدلال بحديث عائشة، ولكنهم في الحقيقة وافقوا أثر عائشة رضي الله عنها، والأثران متفقان على أن صلاة السفر ركعتان، لكن الخلاف في أصل فرض صلاة الحضر هل كانت اثنتين أو أربعاً، وهذا خلاف لا يضر؛ لإجماع العلماء على أن صلاة الحضر أربع ركعات. وقد استدلوا على عدم الوجوب بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] وبفعل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لما صلّى بالناس بمنى، ولا شك أن الآتي إلى منى في الحج يكون مسافراً، ولكن عثمان صلّى بالناس الظهر أربع ركعات، وتابعه على ذلك أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، حتى الذي لم يوافقه في الرأي كـ ابن مسعود الذي قال: (لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنىً ركعتين، ومع أبي بكر بمنىً ركعتين، ومع عمر بمنىً ركعتين، فياليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان) ومع هذا القول إلا أنه تابعه على الصلاة وصلى معه، فلو كانت باطلة لما صلّى معه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] الخطاب لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وقواد الجيوش له تبع، فلا تسقط صلاة الخوف بوفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام كما زعم البعض؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} [النساء:102] ؛ وذلك لأن الصحابة صلوا صلاة الخوف بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام.

الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل

الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل قال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] في الآية رد على قوم متواكلين، يتركون أهليهم وذراريهم بدون طعام ولا شراب ويخرجون إلى البراري والصحاري أو غيرها ويجوعون أهاليهم ويقولون: نحن المتوكلون، فالآية فيها رد على هؤلاء؛ لأن أخذ الحذر وحمل السلاح، واكتساب الأرزاق لا ينافي التوكل. ومن ثم ذم أهل اليمن لما كانوا يحجون من بلادهم ولا يحملون معهم الزاد والطعام، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا وصلوا إلى مكة في الحج سألوا الناس، فأنزل الله فيهم: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197] أي: تزودوا بالطعام والشراب {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] . من العلماء من قال: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] أي: تتقي سؤال الناس وتتقي إحراج الناس بمد يدك إليهم، ومنهم من قال: هذا إشارة إلى زاد آخر وهو زاد الآخرة، أي: أن المسلمين يتقون ربهم فهو خير زاد. والحقيقة أن المعنيين متداخلان؛ لأن تقوى سؤال الناس تدخل في تقوى الله، ولأنك إذا مددت يدك إلى الناس لم تتق ربك بإحراجك للمسلمين على هذا النحو الذي تصنعه. ففي قوله: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] ما يرد به على المتواكلين من المتصوفة ومن سار على طريقتهم.

المراد بإقامة الصلاة

المراد بإقامة الصلاة وقوله تعالى: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] ليس المراد بالإقامة هنا التي عقب الأذان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤذن ولم يكن هو الذي يقيم، بل الذي يؤذن هو الذي يقيم إلا إذا دعت الحاجة إلى غير ذلك. أما المراد بـ (إقامة الصلاة) أي: إذا صليت بهم، ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أمراء السوء: (قالوا: أفلا ننابذهم ونقاتلهم يا رسول الله؟ قال: لا. ما أقاموا فيكم الصلاة) فإقامة الصلاة المراد بها الصلاة نفسها. أي: ماداموا يصلون ويأمرون بالصلاة أن تصلى فلا تقاتلوهم. وعلى هذا الغرار قوله تعالى في سورة البقرة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] وهذا واضح جلي. قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] أي: صليت بهم، أو أمرت بمن يقيم الصلاة لهم.

كيفية صلاة الخوف

كيفية صلاة الخوف قال تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] هذه إحدى صور صلاة الخوف، ولصلاة الخوف صور ثمان، جلها ورد بسند ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والاختلاف فيها من اختلاف التنوع وليس من اختلاف التضاد. بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مرة هكذا، ومرة هكذا، ومرة هكذا، فتعددت صفات صلاة الخوف التي صلى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى يصلي المسلمون في الحروب حيثما تيسر لهم، ولا يلتزمون بصفة معينة، وإنما يفعلون الأسهل لهم عند مواجهة عدوهم، وهذا أيضاً من باب التيسير على أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وهذه الصورة المذكورة في الآية الكريمة حاصلها: أن المصلين يصفون صفين: صف وراء رسول الله، وصف ثانٍ خلفهم ويصلون كلهم، ولا يشترط في هذه الصلاة استقبال القبلة، بل يتجهون إلى العدو، فلو كانت ظهورهم أمام العدو وصلوا إلى القبلة قتلهم العدو، فلا يشترط فيها استقبال القبلة، فالإمام يصف المسلمين صفين على ما ورد في هذه الآية الكريمة، ويصلي بهم جميعاً ركعة، ويقرأ بهم جميعاً الفاتحة، ويركع، ويركع معه صف، وبعد ذلك يسجد ويسجد معه نفس الصف، يأتي معه الصف الأول ركعة، ثم يقوم الرسول بالصف الأول، فيتأخر الصف الأول ويتقدم الصف الثاني يصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة هم الآخرون، ثم يسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون قد صلى ركعتين هو نفسه، وكل صف صلّى ركعة، فيصلون فرادى، وكل شخص يكمل الركعة التي لم يصلها، هذه هي الصورة الواردة في هذه الآية. وقلنا: إن هناك ثمان صور لصلاة الخوف، فصلّ كما تيسر لك وكيفما كانت الصلاة فيها نكاية للعدو وإرهاباً له وتستراً منه. وورد في الباب ما يقرر -كما يسميها البعض- صلاة الطالب، ولكن إسنادها ضعيف، وكيفيتها أجازها بعض العلماء عند الضرورة، وصلاة الطالب فحوى الدليل الوارد فيها (أن رجلاً كان يجمع الجموع لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فحث النبي صلى الله عليه وسلم بعض الناس على قتله، فقام رجل، فقال: أنا أقتله يا رسول الله، ولكني لا أعرفه، قال: علامتك أنك إذا أتيته أخذتك قشعريرة) فذهب الرجل، وأمسك عن الكلام كأنه يريد مظاهرة هذا العدو ومناصرته ضد رسول الله، فلما رآه أخذته القشعريرة، فلما تمكن منه قتله. والشاهد: أن الصلاة حضر وقتها وهو أمام هذا الرجل، فصلى إيماءً -أي: بالإشارة- والصلاة بالإيماء جائزة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمران بن حصين رضي الله عنه: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، فكيفما تيسر للمسلم أن يصلي فليصل. قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:102] أي: الصف الثاني يكون مسلحاً، فإذا سجدت أنت ومعك الصف الأول، فليكن الصف الثاني من ورائكم، أي: قياماً يراقبون العدو. قال سبحانه: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:102] ولمَ لم يقل: (فإذا سجدتم) فليكونوا من ورائكم وقال: (وإذا سجدوا) ؟ لأنه خطاب لرسول الله وهو خطاب للحاضر على ما هو وارد في الآية، وهذا يسميه العلماء من باب التلوين في الخطاب، وذلك لجذب انتباه القارئ، كما قال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الإنسان:21] الضمير للغائب، {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:22] ولم يقل: كان لهم جزاء، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22] ولم يقل: (وجرين بكم بريح طيبة) ونحو ذلك كثير. قال تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] أثار بعض العلماء سؤالاً وهو: لماذا قيل في الفريق الأول: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:102] وفي الفريق الثاني: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] فأضاف الحذر للفريق الثاني؟ فأجاب ملتمسون على ذلك بالتماسات، قال فريق منهم: لأن العدو وهو يتربص بكم، قد يقوى غدره وتقوى همته للقتال لما يراكم منشغلين بالصلاة، فجاء التحذير للفريق الثاني إضافة إلى حمل السلاح. أو أن المصلين أنفسهم عندما يرون أن العدو لم يهجم عليهم في الركعة الأولى يظنون أنه لن يهجم في الركعة الثانية، فيكسل بعضهم، فنبه على أن يحذروا، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم)

تفسير قوله تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم) قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء:102] . من أهل العلم من قال: إن الأذى هو يسير العذاب، ويستدل بقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111] فيقول: الأذى هو اليسير، ولكن اعترض على هذا بقوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186] .

مواقيت الصلاة

مواقيت الصلاة قال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} [النساء:103] أي: ذهب عنكم العدو {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:103] أي: أتموها، أي: إذا كنتم حضوراً. {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: مؤقتاً، محدداً بوقت، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها) ، وفي رواية: (الصلاة على وقتها) ، وقد نبهنا أن من الناس من يروي الحديث أحياناً بالمعنى فيخطئ، فمن الناس من قال: (أحب الأعمال إلى الله الصلاة في أول وقتها) وهذه رواية وردت، ولكن عند التحقيق نجد إسنادها ضعيفاً، أما رواية الصحيحين فهي: (الصلاة لوقتها) ، فرواية: (الصلاة في أول وقتها) ضعيفة الإسناد، ثم من ناحية المعنى هناك إشكالات؛ لأنه أحياناً يسلم القول بأن الصلاة في أول وقتها أفضل، وأحياناً لا يسلم. فصلاة العشاء مثلاً ليست أفضل في أول وقتها، بل إذا أخرت العشاء ما لم يشق على المأمومين فتأخيرها أفضل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي) فوقتها يبدأ بسقوط الشفق الأحمر. وصلاة الظهر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة -أي: انتظروا حتى يبرد الجو- فإن شدة الحر من فيح جهنم) وفي بعض أوقات السنة في صلاة الفجر قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أسفروا بالصبح، فإنه أعظم للأجر) . أما وقت صلاة الفجر فقد جاء فيه جملة نصوص، تبين أنه يبدأ من رؤية الخيط الأبيض من الخيط الأسود وينتهي بطلوع الشمس، ويستحب في بعض أوقات السنة أن تصلي صلاة الفجر في أول وقتها؛ لحديث أم المؤمنين عائشة: (كان النساء ينصرفن من صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس) أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بما يقارب الستين إلى المائة آية، ومع ذلك تنصرف النساء متلفعات بمروطهن. (لا يعرفن من الغلس) ، أي: من اختلاط ظلام الليل ببياض النهار، فيدل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام كان يبكر بصلاة الفجر. وورد حديث: (أسفروا بالصبح) ومعناه أي: انتظروا حتى يظهر الصبح ويتأكد من دخوله، ويظهر البياض. و (أسفروا) من قولهم: أسفرت المرأة إذا كشفت. وظاهر الحديثين أن بينهما إشكالاً: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر) ، وحديث: (كن ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس) ، فمن العلماء من سلك هذه الوجهة، ومنهم من سلك هذه الوجهة. - فالأحناف في باكستان يدخلون الصبح قبيل طلوع الشمس، وإذا دخلوا مبكرين يستمرون في القراءة أحياناً حتى تطلع عليهم الشمس وهم يصلون، ويستدلون بحديث: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر) ، وبعضهم يعكس القضية. - ومن أهل العلم من حاول الجمع، فقال: نبدأ بصلاة الفجر في أول وقتها ونطيل القراءة حتى يسفر علينا الصبح، ولكن هذا ما زال معارضاً بقول أم المؤمنين: (ما يعرفن من الغلس عند الانصراف) . - ومن أهل العلم من قال: إن هذا يتنزل على بعض أيام السنة دون بعض، وهذا وجه طيب وقوي، فبعض أيام السنة ينصرفن من الصلاة لا يعرفن من الغلس، وهي الأيام التي يطول فيها الليل، فيأخذ النائمون حظهم من النوم، فيقومون إلى الصلاة مبكرين، فيصلي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصرف النسوة متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغلس. وفي الليالي القصيرة ينتظر حتى يقوم النائمون من نومهم؛ لأنك إذا انتهيت من صلاة العشاء وجلست بعد العشاء وجدت الساعة الثانية عشرة أو الواحدة، ولم يبق إلا ثلاث ساعات للفجر. فمن العلماء من قال: هذا يتنزل على الليالي طويلة الليل، وهذا يتنزل على الليالي قصيرة الليل. فالله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب في هذا، والحمل على التنويع الظاهر فيه أنه أولى؛ لأنه مسلك يسلكه كثير من الفقهاء في كثير من المسائل، كصلاة الخوف التي تقدمت أحياناً صلى الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا، وأحياناً صلى هكذا، وأحياناً صلى على هذا النحو، والله أعلم. أما صلاة الظهر فإذا اشتد الحر أخرناها، وإذا دخل البرد أو كان الجو طيباً بارداً صليناها في أول وقتها، وأول وقتها هو زوال الشمس عن منتصف السماء، ونعرف ذلك: أن تأتي بعصا أو أن يقف الإنسان في الشمس، عند الساعة العاشرة صباحاً -مثلاً- فترى ظل في اتجاه اليسار، وهذا الظل يبدأ في التناقص والتناقص إلى أن يأتي وقت يثبت عنده الظل ويبدأ في التحول من النقصان إلى الزيادة في الاتجاه الآخر، فيسمى هذا الوقت وقت الزوال. أي: أن الشمس زالت إلى الناحية الأخرى، وفي هذا الوقت -وقت الزوال- تكره الصلاة، لكن إذا زالت الشمس مباشرة دخل وقت صلاة الظهر. وهل هذا التوقيت يكون للجمعة أو للجمعة شأن خاص؟ جمهور أهل العلم يقولون: نعم يكون وقت الجمعة مثل وقت الظهر تماماً. لكن الحنابلة يقولون: لا، بل وقت الجمعة يبدأ من وقت صلاة العيد أو من وقت الضحى، فعندهم تجوز صلاة الجمعة الساعة العاشرة، وهذا يفعله بعضهم في بلاد الحرمين الآن كالدمام وغيرها، يصلون الجمعة مثلاً الساعة الحادية عشرة، والظهر وقته في التقويم الساعة الثانية عشرة مثلاً. ما دليلهم على ذلك؟ استدلوا بما ورد عن بعض الصحابة أنه قال: (كنا ننصرف من صلاة الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للتلول فيء يستظل به) والتلول جمع تل، وهو الجبل الصغير. والفيء هو الظل إذا ارتد من الناحية الثانية، أي: أن الظل في الصباح في هذا الاتجاه، فإذا بدأ يتجه إلى الناحية الأخرى يسمى فيئاً، فقوله: (ليس للتلول فيء يستظل به) أي: لم تزل الشمس، لأن الشمس إذا زالت أصبح للتلول فيء، ومن ثمّ دخل وقت الظهر، فمادام الصحابي قال: (ليس للتلول فيء يستظل به) دل ذلك على جواز الصلاة قبل الزوال. أما الجمهور فقالوا: إن معنى قول الصحابي: (ليس للتلول فيء يستظل به) ليس صريحاً في نفي الفيء، فقد يكون الفيء قليلاً يصلح للاستظلال، فيصبح كالمعدوم، فيدل على أننا نبكر بالجمعة بعد الزوال مباشرة، فهذا هو قول الجمهور في هذا الباب. أما بالنسبة لوقت العصر فيبدأ إذا صار ظل كل شيء مثله، كما في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هل يضاف ظل الزوال أو لا يضاف؟ تقدم ظل الزوال، لكن إذا وقفنا أنا وأنت وقت الظهر أو الساعة العاشرة مثلاً، وكان الظل طوله ثلاثة أمتار في اتجاه اليمين، أو أن ظل كلما دخل الوقت تناقص، ثم جاء عند الزوال مثلاً ثبت طوله متراً، ثم بدأ يتحول إلى الناحية الأخرى ويزداد متراً وخمسة أمتار وعشرة، فهذا ظلك عند وقت الزوال الذي هو متر يسمى (ظل الزوال) ، أي: هو الظل الذي هو ثابت للشيء بعد تحوله من الطول إلى القصر وإلى الطول مرة ثانية. فهذا ظلك وهذا هو وقت الظهر فهل يضاف إلى هنا الظل مثله كي يدخل وقت العصر أم لا يضاف؟ بمعنى: هب أنني مسكت عصا ووضعتها وقت الظهر عند الزوال وطول ظلها 10سم، وطولها هي متر، فوقت العصر يدخل إذا كان طولها متراً وعشرة سم. يعني: طولها الأصلي يضاف إليه طولها ساعة الزوال، وهذا رأي جمهور أهل العلم، أن وقت صلاة العصر يبدأ إذا صار ظل كل شيء مثله مضافاً إليه ظل الزوال، وإضافة ظل الزوال إلى ظل المثل لم يرد في حديث الرسول، بل ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت العصر) ليس فيه إضافة ظل الزوال، لكن جمهور العلماء قالوا: هذه متعينة؛ لأنه أحياناً قد تكون واقفاً في الظهر وظلك متراً عند الزوال في بعض أيام السنة فهل معنى ذلك أن العصر يبدأ؟ A لا؛ لأن بينهما وقتاً بلا شك. أما الأحناف فقد استدل بعضهم باستدلال غريب مضحك، على أن وقت العصر يبدأ إذا صار ظل كل شيء مثليه، استدلوا بحديث الأجير الذي استأجر أجراء فعملوا له نصف النهار، -حديث اليهود أو النصارى- ثم تركوا الأجر وجاء وقت الظهر إلى العصر، ثم تركوا الأجر فعملت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأصابت أجرين، وهذا استدلال لا أعرف له وجهاً أصلاً، والإعراض عنه أولى. أما وقت المغرب فإنه يبدأ بمجرد غروب الشمس وينتهي بسقوط الشفق الأحمر، وهو الحَمار الذي يكون في اتجاه غروب الشمس، والشفق شفقان: شفق أحمر يكون في اتجاه غروب الشمس وبسقوطه يدخل وقت العشاء. وشفق أبيض قد يمتد في بعض ليالي السنة إلى منتصف الليل. أما وقت العشاء فإنه يبدأ بسقوط الشفق الأحمر، وأما نهاية وقت العشاء فمن أهل العلم من قال -وهو اختيار البخاري -: أنه إلى منتصف الليل؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (وقت النبي صلى الله عليه وسلم العشاء إلى منتصف الليل) . وأما الجمهور فقالوا: إن وقت العشاء يمتد إلى صلاة الفجر، لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يأتي وقت الصلاة الأخرى) لكن استثني من هذا الحديث صلاة الصبح بالإجماع، فوقتها ينتهي بطلوع الشمس. وأما وقت الضحى فإنه يبدأ من ارتفاع الشمس في السماء بقدر رمح أو رمحين، وهناك مسائل تتعلق بالكتاب الموقوت تأتي في باب آخر، والله سبحانه أعلم.

تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم)

تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] (لا تهنوا) أي: لا تضعفوا. (فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) أي: في طلب الأعداء وقتلهم وجهادهم. و (القوم) : المراد بهم الكفار، وقد تقدم أن الإطلاق العام قد يأتي ويراد به الخصوص. وأحياناً يأتي الاصطلاح العام ويراد به عدة أصناف: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران:173] فالقائلون أناس، والمقول لهم أناس، والذين جمعوا لهم أناس. وقوله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] هذه الآية من التسلية للمؤمنين، يسلي الله عباده المؤمنين، فإن كنت تتألم أيها المؤمن فغيرك أيضاً من الكفار يتألم، ونحوها: كقوله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] . ونحوها: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (يا بنية، إنه قد حل بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً من الناس) أي: الموت. فقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] هذا تسلية لأهل الإيمان، إن كنت تجرح في القتال فالكافر يجرح، وإن كنت تقتل فهو يقتل، وإن كنت تجمع المال والديون كي تجهز العدة فكذلك الكافر، وإن كنت تبيت قلقاً فهو يبيت قلقاً، وأنت ترجو من الله ما لا يرجو، فإذا تساويتما في هذه، فأنت أضفت طلباً من الله والكافر لا يطلبه، أضفت أنك تطلب الجنة والكافر لا يطلب ذلك. فجدير بك أن يكون صبرك أعظم من صبر هذا الكافر؛ لأن لك طلباً وهو ليس له طلب، فلتصبر أنت أكثر من صبره. قال: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:104] وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم جمع الصلاتين جمع تقديم

حكم جمع الصلاتين جمع تقديم Q يسأل الوالد هل يجوز له أن يجمع صلاة الظهر مع صلاة العصر جمع تقديم؟ A بالنسبة لجمع صلاة الظهر مع العصر جمع تقديم، يشهد له فعل الرسول عليه الصلاة والسلام بعرفات؛ لأن الرسول بالإجماع صلى العصر في وقت الظهر، وهذا متفق عليه، وكان مسافراً فصلى الظهر مع العصر جمع تقديم، ووردت رواية في إسنادها إشكال فقهي أو حديثي من طريق قتيبة بن سعيد بن جميل لن نتعرض لها، وفيما ذكر يكفي بالنسبة لجمع التقديم بين الظهر والعصر. أما أن تجمع العشاء مع المغرب جمع تقديم فلا أعلم أي حديث ثابت في هذا إلا حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو مطلق، قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، سبعاً وثمانياً -أي: جمعاً- من غير عذر من خوف ولا مرض ولا سفر) ولم يذكر أنه جمع تأخير. ومعنى: سبعاً وثمانياً: أي: الظهر مع العصر ثماني ركعات مجتمعة، والمغرب مع العشاء سبع ركعات مجتمعة. ولم يذكر في الحديث أنها تقديم ولا تأخير، وهذا يستأنس به لمن قال بجمع التقديم، لكن كنص صريح في المغرب والعشاء أنها قدمت فلا أعلم شيئاً فيه، والله أعلم.

قصر الصلاة للمسافر

قصر الصلاة للمسافر Q هل يقصر الرجل في بيت ولده إذا كان ولده في بلدة أخرى أم يتم؟ A يقصر في بيت ولده، إذا كان بلدة بلد الولد مسافة قصر كالقاهرة وأنت مثلاً في المنصورة فيقصر.

حكم تحديد مسافة القصر بثلاثة أيام

حكم تحديد مسافة القصر بثلاثة أيام Q هل يقصر لمدة ثلاثة أيام فقط؟ A لا نعلم دليلاً على تحديد أيام القصر، والذين استدلوا على تحديد القصر بثلاثة أيام أو بعدد معين من الأيام أدلتهم صحيحة لكنها ليست صريحة، فـ ابن عباس -مثلاً- يقول: (إن الرسول عليه الصلاة والسلام سافر تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة) فإذا زدنا عن تسعة عشر يوماً أو سبعة عشر يوماً أتممنا، وإذا أقللنا عن تسعة عشر يوماً قصرنا، وهذا وجه عليه مأخذ؛ لأنه ما أدراك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مكث شهراً سيتم؟! أما الآخرون فقد أخذوا من فعل الرسول عليه الصلاة والسلام في الحج حيث مكث في الحج يوم النحر الذي هو العاشر من ذي الحجة، ويوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر إلى وقت الزوال، ثم صلى الظهر بمزدلفة، فقالوا: إن صلاة الفجر التي صلاها الرسول عليه الصلاة والسلام في منى يوم الثالث عشر مكان صلاة الفجر التي صلاها في مزدلفة يوم النحر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يصل الفجر يوم النحر في منى، بل جلس في منى يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، إن سلم لهم بهذا القول. وقد بنوا على أن الرسول ما مكث مدة متصلة يقصر فيها الصلاة إلا هذه الثلاثة الأيام، لكن السؤال أيضاً يرد عليهم: من أخبركم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مكث أكثر لم يتم بل لم يقصر؟ ابن عباس رضي الله عنه عدّ المدة التي خرج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أن رجع المدينة، فالرسول عليه الصلاة والسلام تحرك من المدينة إلى الحج يوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، وتحرك من مكة راجعاً يوم الثالث عشر، ولا أدري كيف حسبها رضي الله عنه لكنها وصلت إلى تسعة عشر يوماً. لكن الأدلة ليست صريحة، ولذلك اختار عدد من العلماء المتحررين من التقليد أن الشخص إذا مكث أي مدة مادام مسافراً ولم يتخذ دار إقامة أن له قصر الصلاة، والله أعلم.

حكم صلاة الفجر جماعة بنية السنة الراتبة

حكم صلاة الفجر جماعة بنية السنة الراتبة Q هل يجوز لرجل أن يصلي جماعة وفي نيته أن يصلي سنة الفجر وبعد ذلك يصلي الفرض منفرداً وهذا خاص بصلاة الفجر؟ A الذي يظهر أنه لا يجوز، بل يصلي معهم الفجر، والله تعالى أعلم.

تحديد مدة قصر الصلاة للمسافر

تحديد مدة قصر الصلاة للمسافر Q رجل سافر لقضاء مهمة كلف بها، ولا يعلم وقت انتهاء مهمته، فكم يجوز له أن يقصر في سفره؟ A الذي يظهر -والله أعلم- أنه يقصر مادام مسافراً؛ للعمومات، فإن عائشة قالت: (فرضت الصلاة مثنى مثنى، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر) فليس هناك دليل يقيدها بوقت والله أعلم.

تثاؤب النبي صلى الله عليه وسلم

تثاؤب النبي صلى الله عليه وسلم Q هل ثبت في السنة أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتثاءب؟ A الله أعلم، لا أعلم شيئاً إلا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون) ، وفي المقابل: (ما منكم من أحد إلا ووكل به قرينه، قال: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير) لكن كتحديد المسألة لا أعلم.

العلة في النهي عن كل خليطين

العلة في النهي عن كل خليطين Q هل النهي عن كل خليطين كالزبيب والتمر مثلاً بسبب الإسكار؟ A النهي عما يسبب الإسكار، وانتهى الأمر على هذا، لكن النهي عن الخليطين من باب سد الذريعة، فإذا خلط الزبيب والتمر مثلاً تم الإسكار بسرعة، فيأتي شخص يشرب ولا ينتبه أن المشروب أصبح مسكراً، فسداً للذريعة منع الخلط على هذا النحو، والله سبحانه أعلم.

حكم أخذ الناذر من المنذور به

حكم أخذ الناذر من المنذور به Q أخت نذرت لله أن تذبح خروفاً وتوزعه على الفقراء إذا شفى الله ابنها، وقد تم ذلك بحمد الله، فهل لها أن تأخذ من الخروف شيئاً؟ A إذا نذرت أن توزعه على الفقراء فليس لها أن تأخذ منه شيئاً، أما إذا نذرت مجرد ذبح الخروف فقط فلها أن تأخذ منه قسطاً لنفسها، والأولى الترك.

تفسير سورة النساء [105-115]

تفسير سورة النساء [105-115] لقد نزل القرآن الكريم توجيهاً وإرشاداً وتأديباً لأتباعه، ومن ذلك إرشاده في طريقة الحكم، وفي التعامل مع أهل الخيانة والغدر والكيد، والإنكار على من يدافع عنهم، وتفخيم ما يرتكبه أهل الخيانة ثم يلصقون جريمتهم بغيرهم، وفتح أبواب التوبة لمن يعمل مثل هذه الأعمال ليعود إلى ربه تعالى، ومن ذلك الإرشاد إلى مواطن الكلام المحمودة والأجر فيها، وبيان العاقبة لمخالفي الرسول صلى الله عليه وسلم وسالكي غير طريق المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب.

تفسير قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ... ) والفائدة العقدية فيه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105] . قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا) استُدِلَّ بهذه الآية على مسألة العلو. أي: أن الله سبحانه وتعالى في السماء مستوٍ على عرشه، أما وجه الاستدلال: فالقرآن منزل من عند الله، والنزول يكون من أعلى إلى أسفل، وقد تواردت الأدلة على ذلك، حتى ذكر بعض أهل العلم أنها تقارب ألف دليل من الكتاب والسنة، ومقتضيات العقل والآثار عن السلف كلها تثبت علو الله سبحانه وتعالى وأنه في السماء. من ذلك: قول الله تبارك وتعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] ، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم عرج بي إلى السماء السابعة) ، وعندها فرضت الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ينزل الله سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، فقال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة) ، إلى غير ذلك من الأدلة. قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ) أي: يا محمد. (الْكِتَابَ) هو القرآن. وقوله تعالى: (بِالْحَقِّ) اختلف فيه أهل العلم: فمن العلماء من يقول: إن قوله تعالى: (بالحق) أي: مشتملاً على الحق، فهذا الكتاب مشتمل على الحق، فكل ما فيه حق. ومن أهل العلم من قال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) أي: أن هذا الكتاب حقٌ أنه نزل من عند الله، لم تتلبس به الشياطين، ولم تخلط فيه الشياطين شيئاً.

الحكم بين الناس عمومه وخصوصه، وبماذا يكون عند العموم؟

الحكم بين الناس عمومه وخصوصه، وبماذا يكون عند العموم؟ قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) . هل المراد بـ (الناس) العموم، فيدخل فيه الكفار واليهود والنصارى، فإذا حكم بينهم أو فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم فيهم بالحق، أم المراد بالناس أهل الإيمان؟ A أن (الناس) لفظة عامة، ولكنها أحياناً تأتي مخصوصة بأقوام، كقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] ، فتضمنت هذه الآية الأخيرة ثلاثة أصناف، فالمقول لهم ناس، والقائلون ناس، والذين جمعوا لهم ناس. فعلى القول بالعموم يكون معنى قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس) ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم أيضاً بين اليهود والنصارى بما أراه الله سبحانه وتعالى، فتأتي مسألة فقهية: هل الحاكم يحكم بشريعة الإسلام في اليهود والنصارى أيضاً، أم أنه يحاكمهم بشرعتهم؟ وهل يلزمه أن يحكم بينهم، أو هو مخير بين الحكم والترك؟ في الباب: قول الله تبارك تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] فهذه الآية وهي قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) تخير رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يحكم بينهم إن شاء، أو يعرض عنهم إن شاء، ثم جاء بعدها قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] ، فمن العلماء من قال: إن الأخيرة نسخت الأولى، وأصبح لزاماً إذا تحاكم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أو إلى الحاكم قوم من أهل الكتاب أن يحكم بينهم. وقد ورد في ذلك حديث المرأة والرجل اليهوديين الذين زنيا، فقال قومهم: نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فنسأله عن الحكم فيهما؛ لأن اليهود كانوا قد غيّروا حكم الله الذي هو الرجم وبدلوه إلى التحميم لما كثر الزنا في أشرافهم، فكان الحد يقام على الوضيع دون الشريف، فاصطلحوا فيما بينهم -أي: اليهود- على شريعة وعلى قانونٍ للزاني والزانية ألا وهو التحميم، فقالوا: إن من زنا يؤتى به وبالمرأة التي زنا بها ويركبان على حمار ظهره لظهرها ويحممان، ومن العلماء من قال: يطليان بالسواد، ويطاف بهما في الأسواق، وهذا ليس من شريعة الله سبحانه وتعالى إنما شيء اصطلح عليه اليهود في شأن الزناة. فلما زنا رجل وامرأة منهم قالوا: نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإن رخص لنا اعتذرنا إلى ربنا بأن نبياً من أنبيائك قال: ليس عليهما رجم، وإن لم يرخص لنا لم نطعه، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أناشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة بشأن الزناة؟ ، فقرأ أحدهم ما في التوراة ووضع يده على آية الرجم -كما في سنن أبي داود - فقال له عبد الله بن سلام رضي الله عنه-وكان عالماً من علماء اليهود وقد أسلم-: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي آية الرجم مثبتة، فحكم عليهما النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم) ، فالحاصل: أنهم أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم بينهم. وقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ... ) ليس المراد به أن القرآن نزل ليحكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل نزل للحكم به، وللتذكير به، وللتحذير به، ولبيان خبر ما سلف، وخبر ما هو آت. إلى غير ذلك، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] وغيرها من الآيات. إذاً: قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) أي: بما شرعه الله سبحانه وتعالى لك، وبما أوضحه الله عز وجل لك، (وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) أي: مخاصماً مدافعاً عنهم.

تفسير قوله تعالى: (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما.

تفسير قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ... ) ومن يراد به قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:106] أي: إن كانت زلت قدمك أو لم تزل في مسألة فاستغفر الله إنَّ اللَّه كان غفورًا رحيمًا. إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستغفر الله فغيره كذلك يؤمر أن يستغفر الله، وهذا هو دأب أهل الصلاح أنهم يكثرون من الاستغفار ويتواصون به، فقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (علمني شيئاً أدعو به في صلاتي يا رسول الله! قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل ما تدعو به في ليلة القدر، فقال لها: (قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني) فهذا شأن أهل الصلاح، في حياتهم وعند اقتراب وفاتهم، فنوح عليه السلام لما أقر الله عينه بإغراق القوم الظالمين، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28] وقال الله لنبيه محمدٍ عليه الصلاة والسلام -والناس له تبع-: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:106] . إن قال قائل: هل يصدر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذنب دون الكبيرة؟ أو هل يصدر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كبائر ابتداءً؟ ف A أن أهل العلم من أهل السنة والجماعة متفقون على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في تبليغ الشريعة، فإذا بلغوا عن الله شيئاً فهم معصومون في أثناء هذا البلاغ لا يخطئون فيه أبداً، ولا يهمون، وإنما أقوالهم كما قال تعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . وأما صدور الذنوب منهم فمن العلماء من أجاز ذلك، واستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم -والنص عام- نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطو، واللسان يزني وزناه الكلام، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1-4] . واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قبوله الفدية من أسارى بدر نزل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:67-68] فقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لقد عرض علي عذاب أصحابي أدنى من هذه الشجرة، ولو نجا منا أحد لكان أنت يا ابن الخطاب) ، فبناءً على هذا قال بعض أهل العلم بجواز الصغائر على الأنبياء. أما ما ورد في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] فكان ذلك قبل أن يبعث موسى صلى الله عليه وسلم، وعقب ذلك خرج موسى عليه السلام إلى مدين وبقي فيها الثمان أو العشر سنين على الأصح، ثم اتجه بعدها راجعاً إلى مصر فنزل عليه قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] عند طور سيناء كما قال فريق من أهل العلم. فقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) من العلماء من قال: استغفر الله من اللمم أو من بعض الران، ومنهم من قال: هذا وإن كان خطاباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أن المراد به أمته؛ إذ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوه. أحدها: أن يكون المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به هو نفسه فقط، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] فقوله تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاص به. الثاني: خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به هو وأمته، مثل قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] ، فهذا يراد به هو عليه الصلاة والسلام، ويراد به أيضاً أمته. الثالث: أن يكون الخطاب لرسول الله ويراد به أمته خاصة، كأنواع الخطاب التي فيها الوصية بالوالدين، فَأَبَوَا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا قد ماتا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام. ومما استدل به على جواز الصغائر في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ما جاء في قصة آدم عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] ونحوه قوله تعالى في قصة سليمان صلى الله عليه وسلم: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32-33] . ومن العلماء من منع ذلك تماماً، وقال في قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ الله) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به أمته، وإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستغفار فإنما ذلك لرفع درجته وإعلاء منزلته، وتعليم أمته عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم.

تفسير قوله تعالى: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ.) قال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء:107] أي: يخونون أنفسهم، ويكذبون على أنفسهم ويكذبونها، ويركبون أنفسهم الخيانة. للآية سبب نزول وإن كان متكلماً فيه إلا أن من العلماء من حسنه بمجموع طرقه، وحاصله: أن رجلاً من المسلمين سماه بعض العلماء طعمة بن أبيرق سرق شيئاً من بيت من البيوت، فعلم خبره، فلكي يبرئ ساحته أخذ هذا الذي سرقه وألقاه في بيت رجلٍ من اليهود، فذهب أصحاب السارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! بلغنا أنك اتهمت صاحبنا، وإنه قد نمى إلى علمنا أن الذي سرق هو فلان من اليهود، وإن شئت أن ترسل من يبحث عن الدرع في بيته فستجدها في بيته، فأرسل صلى الله عليه وسلم من يتحقق من ذلك فوجد الدرع في بيت اليهودي، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام انتقلت عنده التهمة من السارق الحقيقي إلى آخر، فنزل قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء:107] والخوان: كثير الخيانة.

تفسير قوله تعالى: (يستخفون من الناس.

تفسير قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ.) قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108] فالسارق فعل هذا الفعل الذي فعله -كما في سبب نزول الآية السابقة- كي يستتر أمام الناس. الآية تحث على مراقبة العبد لربه سبحانه وتعالى، ولا يكن همه الأكبر أن ينجو أمام الناس، فهناك ملائكة لك بالمرصاد، وربك مطلع عليك وشهيد، واعلم أن المعية في قوله تعالى: (وهو معهم) معية اطلاع وإحاطة، وعلم ورؤية. والمعية قسمان: معية خاصة ومعية عامة، فالمعية العامة كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فالله تعالى مع كل الناس، يطلع عليهم ويراهم ويعلم أخبارهم. والمعية الخاصة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فلا يقال: إن الله مع الكافرين، ولا يقال: إن الله مع الظالمين، فإن قيل إن الله مع الظالمين فمعية عامة، أي: أن الله مطلع عليهم يراقبهم، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ) . التبييت: هو التدبير بالليل، فيتآمرون ليلاً لينفذوا ما بيتوه صباحاً، ويطلق التبييت أيضاً على الغارة ليلاً، ويطلق التبييت أو البيات على العذاب الذي ينزل ليلاً، كقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97-98] . وقوله تعالى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) . أي: يبيتون كلاماً يكرهه الله سبحانه وتعالى ولا يحبه. (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) .

تفسير قوله تعالى: (هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... ) وتنزيل هذه الآية قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء:109] . قوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ) الهاء في (هؤلاء) للتنبيه، وأصلها (ألاء) ، ومنه قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام: {قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] ، وقوله تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:119] فالهاء تزاد للتنبيه فيقال: (هؤلاء) . وقوله تعالى:: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:109] هذه الآية تتنزل على المحامين الذين يدافعون بالزور والباطل من أجل عرض قليل زائل، فيقف المحامي الكذاب الأشر أمام القاضي ويدافع عن السراق والحشاشين وتجار المخدرات، وهو يعلم أن هذا تاجر مخدرات حرامي لص سارق، أو أن هذا قاتل، ومع ذلك لا يبالي أبداً، فرب العزة يقول:: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:109] فإذا كنت -أيها المحامي- تظن أنك أنقذت صاحبك، وخرجت والناس يصفقون لك لتتقاضى الأموال، فاعلم أن هذا الذي أنجيته من الحد الذي كان يستحقه سيأتي يلعنك يوم القيامة، ويقول لك: يا ليتك تركتني حتى أقتل فأستريح من عذاب الآخرة، فالحدود كفارات. فليحذر كل محامٍ كذاب يأكل أموال الناس بالباطل من أصحابه الذين يدافع عنهم، فرب العزة يقول: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] ، ويقول تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29] ، ويقول بعضهم لبعض: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27] وقوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ) . أي: بالباطل، وإلا فالجدال عن الشخص بالحق مشروع ومحمود. قال تعالى: (فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فيوم القيامة لا جدل؛ لأن الله تعالى قال عنه: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) فلا أحد يتكلم بكلمة {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38] فمن المفسرين من قال: إن قوله تعالى: (وقال صواباً) . أي: كان يقول في الدنيا (لا إله إلا الله) ، ومنهم من قال: أي: يتكلم بالحق ولا يكتم الله حديثاً.

سعة رحمة الله عز وجل

سعة رحمة الله عز وجل قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110] هنا فتح الله باب التوبة لمن أراد أن يتوب، وهذا مطرد كثيراً في كتاب الله عز وجل، فبعد أن تذكر العقوبات يفتح الله باب التوبة، كقوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:4] ثم فتح الله لهم باب التوبة فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5] أي: استغفروا الله فإن الله غفور رحيم. فهذا حث للمذنب على التوبة، خاصة إذا كان ذنبه يلحق ضرراً بالآدميين، وقد نشرت بعض الجرائد مرة قضية تنم عن أن الإيمان موجود في قلوب ناس من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وإن اقترفوا الكبائر، ففي بعض البلاد قُتل رجل فاتهم شخص بأنه هو الذي قتله، فأخذ الشخص المتهم، والأصل أن يحكم عليه بالإعدام، وكان للمجني عليه طفل صغير، وإذا كان للمجني عليه طفل صغير فالمحكمة تنتظر حتى يبلغ الطفل، وبعد أن يبلغ يستشار: هل ترضى بقتل قاتل أبيك أو تعفو عنه أو تقبل الدية؟ وهذا لم يكن موجوداً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه بنى على حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فقالوا: هذا له حق في الميراث، إذ قد يطلب الدية، فله حق أن ينتظر حتى يبلغ، فجلس الرجل مسجوناً هذه المدة الطويلة إلى أن بلغ الولد الصغير، والأم تلقنه بقولها: كيف يقتل أبوك؟! فأتي به، فقيل له: ماذا تريد من قاتل أبيك: أيقتل أو تعفو أو تقبل الدية؟ فقال: يقتل. فجاء يوم الجمعة -والقتل عندهم يكون يوم الجمعة- وأخذ المتهم كي يقتل، وفي ساحة القتل والناس تنظر أتى بالرجل الذي يقوم بالقصاص آخذاً بثوبه من ظهره، فأوقف المتهم كي يضربه، وفي هذه اللحظة قام أربعة أشخاص، فقالوا: نحن الأربعة القتلة، ونحن الذين قتلناه فلا نريد أن نتحمل إثمين، إثم قتل النفس الأولى، وإثم قتل هذا البريء ويتم أطفاله، فقام الشخص وقدم الأربعة للمحكمة وقتلوا، ورضوا بهذا خشية من عذاب الله سبحانه بتعذيب شخصين. يقول رب العزة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110] ، فأي ذنب كان -يا عباد الله! - فإن رب العزة إذا علم من صاحبه صدق التوبة إليه يغفره له ويتجاوز عنه. قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:111] هذه الآية كقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] . قال تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) وهذا جرم آخر، أن يرتكب جريمة ويلصقها بغيره وهذا قد قال الله فيه: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:112] فلم يقتصر على كونه احتمل بهتاناً فحسب، بل احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، والبهتان: هو الكذب والزور، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) أي: رميته وذكرته بما يكره كاذباً عليه، فأنت لم تذكره بما يكره وهو فيه فقط، وإنما ذكرته بما يكره وافتريت عليه في هذا الذي ذكرت.

تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك.

تفسير قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ.) قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) يا محمد! (لَهَمَّتْ) أي: أوشكت واقتربت. (طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) الآية تبين أن المعصوم من عصمه الله سبحانه وتعالى، حتى لو كان نبياً من الأنبياء، والمحفوظ من حفظه الله تبارك وتعالى، ولذلك قال رب العزة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] فهن حافظات للغيب لا بأسوتهن ولا بقوتهن، ولا بتماسكهن، لكن قال تعالى: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] أي: بتثبيت الله عز وجل لهن، فالمثبت من ثبته الله تعالى. ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، ويوسف عليه الصلاة السلام يقول: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] . قوله تعالى: (لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) أي: يصرفوك عن طريق الحق إلى الباطل، وعن القضاء الحق إلى القضاء الظالم الجائر، وَهَبْ أن الرسول صلى الله حكم على البريء أنه يستحق القتل فهنا قرر العلماء أن قضاء الدنيا لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً. فالرسول صلى الله عليه وسلم أعقل الناس، وسيد ولد آدم، وقاض رزين عاقل، وقاض نبي، وفيه كل صفات الخير، ومع ذلك يقول: (إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من أخيه وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما اقتطع له قطعة من نار، إن شاء قبلها وإن شاء تركها) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وقد يكون القاضي عاقلاً رشيداً رزيناً متحرياً في البحث عن كل القرائن المحيطة ومع ذلك يخطئ، فقد يجيء من أسلوبه ساحر كمحامٍ كذاب ساحر يسحر القاضي بمقالاته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من البيان لسحرا) أي: من الكلام كلام سحر يغير لك الشيء عن حقيقته، فقد يكون الرجل بريئاً غاية البراءة، فيأتي محامي الخصم يتكلم فيجعله متلبساً بالقضية لا يستطيع التحرك منها، والعكس، فالقاضي يقضي على نحو مما يسمع، وليس له أن يحكم حتى بعلمه السابق، بل يحكم بالقرائن والبينات ولا يحكم بالظنون، كذلك الشهود يشهدون على نحو مما يرون، دون البناء على المخيلات والاستنباطات. وكما أسلفنا ابتداءً: أن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من يقضي أحياناً قضاء لا يكون صواباً، فنبي الله داود عليه الصلاة والسلام لما اختصمتا إليه المرأتان في الطفل إذ كان لكل امرأة منهما طفلٌ فجاء الذئب وعدا على طفل أحدهما وهرب به، فبقي طفل واحد، فكل امرأة ادعت أن هذا الطفل لها، فتحاكمتا إلى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام، فجاء نبي الله داود يحكم والبينات غير واضحة، فقضى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام بالطفل للكبرى خطأً، لكنه مأجور عليه الصلاة والسلام، فخرجتا من عند داود وسليمان واقف على الباب فسألهما: لمن قضى بهذا الطفل؟ قالتا: للكبرى، فأتى بسكين وقال: نقطعه بينكما نصفين، فدب الحنان إلى قلب أمه الحقيقية فقالت: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فعلم بالقرينة أن هذا الطفل إنما هو للصغرى فحكم به لها. فالقاضي قد يخطئ إما لعدم توفيق الله سبحانه وتعالى، أو لعدم توفر البينات، أو لعدم توفر العلم الكافي في بعض الأوقات، كما روي أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه رأى امرأة يسحبها الناس، فقال: ما هذه؟ قالوا: هذه مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم، فقال: على رسلكم، فذهب إلى عمر وقال: يا أمير المؤمنين! أما بلغك أن الحد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق. ؟ وذكر الحديث، فأمر عمر رضي الله عنه بإلغاء الحكم فلم ترجم المجنونة. فعلى كل من يقضي بين الناس أن يجتهد قدر الاستطاعة، ويسأل ربه التوفيق والسداد، فالمسدد من سدده الله، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه فيقول: (اللهم إني أسألك السداد سداد السهم) . قوله تعالى: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) أي: أنهم إذا أضلوك أضلوا أنفسهم بالدرجة الأولى، فمن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، وهذا على فرض أنه تم لهم الإضلال، ولكن لم يتم الله لهم نياتهم السيئة.

فضل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم

فضل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113] من العلماء من قال: إن المراد بالحكمة: السنة، واستشهد بأن سنة رسول الله وحيٌ يوحى، فالمعنى يستقيم (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أي: الكتاب والسنة، وفي الحقيقة السنة كلها حكمة. ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالحكمة هنا: الفقه في الدين. أي: تنزيل النص في المحل الذي يحتاج إليه، فلا يأتِ المرء إلى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) ويلقيه على رجل يسرق أو يزني، ولا يأتِ عند الخوارج ويقول لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) ، فهذا من عدم الحكمة، فالحكمة أن تضع النص في محله الذي يناسبه ويراد له، وهذا واضح. وأصل الحكمة: المنع، فرجل حكيم: أي: يمنعه عقله وحكمته من أن يفعل شيئاً يؤاخذ عليه، ومنه قول الفرزدق: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا أي: يا بني حنيفة امنعوا السفهاء الذين فيكم من الحديث، فإنكم إذا لم تمنعوا السفهاء سأغضب وألقي فيكم شعراً، أو أفعل بكم وأفعل. ومنه قيل لما يربط به المعز أو الحمير أو البقر حكمة؛ لأنها تحكمها وتمنعها من التصرف المخل، أو التصرف الذي لا يراد، فكذلك الرجل الحكيم يمنعه عقله وما معه من العلم أن يتصرف تصرفاً طائشاً. قوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] أي: من أمور الإيمان والفقه ونحوها، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم ما الكتاب ولا الإيمان كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] . وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] فالذي علمه هو الله فينسحب أيضاً إلى مسائل القدر أن المُعلَّم من علمه الله سبحانه وتعالى، ومنه: قول موسى للخضر عليهما السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] ، وقول الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] ، فالمعلم أي علم كان، طبّاً، أو هندسة، أو صيدلة، أو علم كتابة، أو علماً شرعياً إنما علمه الله، ولذلك يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، فمنشأه وأصله من الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة.

تفسير قوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ.) قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] . (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ) . النجوى: هي الكلام الذي يتسارر به، أي: يسر بعض الناس إلى بعض به، فيحدث به الناس سراً، وأكثر الكلام الذي يتكلم به الناس كلام فارغ ليس له فائدة إن لم يكن إثماً، فرب العزة يقول: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ) ، ومن العلماء من قال: (لا خير) . أي: في الكلام، فإذا فهمت المفهوم المخالف فأكثر كلامهم شر. قوله تعالى: (إِلّّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) هذا من الأمور المستثناة التي ليست بشر وهو أن يتناجى أحد مع الآخر، ويصحبه ويقول له: ما رأيك أن تتصدق اليوم، ونذهب عند فلان الفقير نزوره، وندخل البيوت نعطي أهلها، ونذهب اليوم إلى المستشفيات نعود المرضى ونعطيهم بعض ما يسره الله، وقليل الذين يتناجون بهذا. قوله تعالى: (أَوْ مَعْرُوفٍ) أي: فعل أي معروف كان، وقوله تعالى: (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) هذه مما فرط فيها الكثير، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تعدل بين اثنين صدقة) ، وفي رواية: (تصلح) ، و (تعدل) بمعنى (تصلح) .

لا قبول للعمل عند الله تعالى بدون إخلاص

لا قبول للعمل عند الله تعالى بدون إخلاص قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [النساء:114] أي: يأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. وقوله تعالى: (ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) قيدٌ لذلك العمل بطلب ثواب الله، أما إذا فعله مرائياً فلا شيء له، فإن ذهب شخص يصلح ليقول عنه الناس: إنه رجل مصلح حلّال للمشاكل والعقد وكانت هذه نيته فلا ثواب له. فأفعال البر التي يثاب عليها الشخص قيد فعلها بابتغاء مرضاة الله، كما في هذه الآية وغيرها من الآيات كقوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] ، وقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:8-9] ، وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19-20] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الرعد:22] فالذي يصبر ويثاب هو الذي يصبر ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فيصبر على الفقر والبلايا، ويصبر على الأسقام والأوجاع، ولكن يرى في نيته أنه يصبر طلباً لثواب الله ومرضاته الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي يثاب.

تفسير قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى.

تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى.) قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] . قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى) . أي: يخالف أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام من بعد ما تبين له طريق الصواب ومن بعد أن تبينت له أحكام الله وأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى (يشاقق) : أي: يصبح في شق والرسول صلى الله عليه وسلم في شق، فهو في ناحية والرسول عليه الصلاة والسلام في ناحية أخرى، ورأيه في ناحية، والكتاب والسنة في ناحية أخرى، فمن يفعل هذا الفعل فيأخذ شقاً آخر غير شق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ويخالف ويعاند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) ، ومن أهل العلم -كالإمام الشافعي رحمه الله تعالى- من احتج بهذه الآية على مشروعية الإجماع والعمل به، من قوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهذه المسألة عليها جماهير السلف والخلف، ومن العلماء -وهم قلة قليلة- من أبى الإجماع وقالوا: إنه يتبع كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أما الإجماع فلا حجة فيه عندهم، فأجيب عليهم بأن الكتاب والسنة فيه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] ، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ، وألزموا بإلزامات فقيل لهم: هناك مسائل لا يسعكم فيها إلا أن تذعنوا للإجماع، وإلا أتيتم بمحدثٍ من القول مبتدعٍ، كما في مسألة تعدد الزوجات إلى أربع؛ إذ يقال فيها: ما الدليل على جواز الأربع فحسب؟ فإن قالوا: إن الله يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ، قيل لهم: ليس في الآية تحريم فوق الأربع، والواو أحياناً تقتضي الجمع وأحياناً تقتضي التخيير، فما الذي حملكم على أن تقولوا: إنها بمعنى التخيير؟ فإن قالوا: في الباب حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ستاً ويبقي أربعاً، قيل لهم: الحديث معل، فلم يبق في هذا الباب حجة إلا إجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ إذ لم يرد أن أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج فوق أربع، فصرنا إلى اعتبار الإجماع لهذا، ومما ينبغي الإشارة إليه أن من العلماء من هو متسرع في ادعاء الإجماع، كـ ابن عبد البر والنووي رحمهما الله تعالى: فكلاهما رحمة الله عليهما متسرعان في ادعاء الإجماع. إذاً: ثبت الإجماع عمل به، والإجماع على مراتب: فمن العلماء من يطلق الإجماع ويريد به إجماع الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، فيقول: (أجمعوا) ويقصد به الأئمة الأربعة، ومنهم من يطلق الإجماع ويقصد به نوعاً خاصاً، ومنهم من يطلق الإجماع ويقصد به إجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ومنهم من يطلق الإجماع على إجماع أمة محمد عليه الصلاة والسلام كلها. وأما مقالة الإمام أحمد المشهورة (من ادعى الإجماع فهو كاذب) فلا يراد بها إطلاقها، وإنما يراد بها إجماعاً من نوع معين، وإلا فكثير من الحنابلة نقلوا الإجماع في عدة مسائل، فإذا قصد في حكاية الإجماع المعتبرين المشهورين من أهل العلم فله ذلك. والأئمة الأربعة رحمة الله عليهم أجمعين إذا أجمعوا على مسألة فرأيهم في الغالب مسدد موفق، لكن لا يكون دليلاً يعمل به؛ لأن هناك أئمة آخرون غير الأئمة الأربعة. والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة النساء [116-124]

تفسير سورة النساء [116-124] التفسير هو الطريق لمعرفة كيفية التعبد وتطبيق القرآن وسورة النساء من أعظم السور، وقد تضمنت أحكاماً عدة، منها: تقرير التوحيد، وتزكية النفوس، والتحذير من عمل الشيطان.

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] . قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) . أي: لا يغفر للعبد إذا مات على الشرك، أما إذا أشرك العبد بالله، وتاب من هذا الشرك؛ تاب الله عليه، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل شرك وعبّاد أوثان، فلما تابوا من الشرك تاب الله عليهم. إذاً: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي: إذا مات العبد على الشرك، أما إذا تاب منه قبل موته غفر له، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يهدم ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها) وعلى ذلك فلا تعارض بين هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، وبين قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، فقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) تتنزل على أحد وجهين: الأول: أن الله يغفر الذنوب جميعاً بما فيها الشرك إذا تاب العبد منها في الدنيا. والوجه الثاني: أن الله يغفر الذنوب جميعاً إذا شاء في الآخرة إلا الشرك إذا مات عليه العبد، والله أعلم. فتقدم أن من العلماء من قال: إن هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) من أعظم آيات الرجاء في كتاب الله عز وجل، وبها يستدل على القائلين: بأن القتل لا يغفر، فإن القتل كبيرة دون الشرك. ويستدل بها على الخوارج القائلين بالتكفير بالمعاصي. وأفادت الآية -أيضاً- أن الله عز وجل قد يغفر للعبد وإن لم يقل العبد: أستغفر الله، فإنك قد تذنب -أيها العبد- ذنباً ولا تستغفر الله منه ومع ذلك -أي: مع عدم الاستغفار- يغفر الله عز وجل لك تفضلاً منه سبحانه، وهذا مبدأ من مبادئ أهل السنة والجماعة وأصل من أصولهم. فأهل السنة يقولون: إن الله عز وجل قد يغفر للعبد إن شاء، وإن لم يتب العبد من هذا الذنب، وإن لم يقل العبد: أستغفر الله، وقد ورد ما يؤيد ذلك في قصة البغي التي كانت تزني فمرت يوماً بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فنزعت موقها فملأته فسقته، فشكر الله لها صنيعها فغفر لها، وهي لم تقل: أستغفر الله. واشترط فريق من المعتزلة أن يقول العبد: أستغفر الله، وليس على ذلك الاشتراط كبير دليل. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ} [النساء:116] ، الضلال: هو الذهاب عن القصد. {ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] أي: ذهب عن طريق الصواب مذهباً بعيداً، يعني: صار في اتجاه بعيد عن الصواب، فالضلال الذهاب والبعد عن القصد. ويطلق الضلال على التفرق والتيه كما تقدم: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10] أي: إذا متنا وتفرقت عظامنا في الأرض.

تفسير قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثا.

تفسير قوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا.) قال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء:117] ، إن: بمعنى (ما) ، وهي نافية، والمعنى: ما يدعون، (من دونه) أي: من دون الله، (إلا إناثاً) والمراد بالإناث هنا: الأوثان. ومن العلماء من قال: إن كل صنم فيه جنية، واستدل البعض لذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه كي يقتل العزى، فلما أقبل خالد على العزى إذا امرأة ناشرة شعرها، فقال الكهنة الذين حولها: يا عزى! خبليه، -خبليه: أي: أصيبيه بالخبل والجنون- يا عزى! عوريه -وعوّريه أي: أصيبيه بالعور وافقئي عينه- وأمعنوا في الجهل، فذهب خالد وكسرها، فرجع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: ما صنعت شيئاً، وأرسله ثانية فوجد امرأة ناشرة لشعرها فتغشاها بالسيف، فقال بعض أهل العلم: إن خالداً قتل العزى لهذا الحديث. الشاهد: أن قوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا) أي: إلا أوثاناً، و (يدعون) هنا بمعنى (يعبدون) ، أي: ما يعبدون من دونه إلا إناثاً. لقائل أن يقول: إن الدعاء هنا بمعنى: العبادة، لقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف:40] ، وعليه فمعنى قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء:117] أي: ما يعبدون من دونه إلا إناثاً، والدعاء أحد أفراد العبادة، والعبادة أوسع من الدعاء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ، من باب تعظيم شأن الدعاء، وأن له قدراً كبيراً من العبادة، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) ، فللوقوف بعرفة قدرٌ كبير وعظيم من الحج لا يتم الحج إلا به، والحج أوسع وأشمل من الوقوف بعرفة؛ ففيه طواف، وسعي، ورمي جمار، ومبيت عند المشعر الحرام، ومبيت بمنىً ونحر. إلى غير ذلك، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ، يبين أهمية الوقوف بعرفة من الحج. كذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الدعاء هو العبادة) ، يبين أهمية الدعاء بالنسبة للعبادة، وقد دلّت أدلة على أن الدعاء عبادة. منها: قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة) ، ومنها: قول الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} [مريم:48-49] وقد قدم قوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} [مريم:48] ، على قوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} [مريم:49] ، فاستدل به على أن الدعاء بمعنى العبادة، وكذلك استدل بقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر:60] ، وهذا أمر بالدعاء، {أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، فأفادت الآية أن الدعاء عبادة أيضاً. فذلك قول الفتية أصحاب الكهف: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ} [الكهف:14] ، قال عددٌ من المفسرين: أي: لن نعبد غيره، فالدعاء في قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117] بمعنى العبادة.

تفسير قوله تعالى: (لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا)

تفسير قوله تعالى: (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) قال تعالى: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:118] . Q هل يستحب الإكثار من لعن الشيطان أو أن الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُتبع؟ وهل يستحب بدلاً منه: الإكثار من ذكر الله؟ A الظاهر الأخير، أنه يستحب الإكثار من ذكر الله عز وجل؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما في سنن أبي داود وغيره بسند صحيح: (رأى رجلاً سقط من على الحمار فلما سقط الرجل قال: تعس الشيطان -وهذه مسبة للشيطان- فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم حتى يكون مثل الجبل، وقال: بقوتي صرعته، ولكن قل: باسم الله، فإنك إذا قلت: باسم الله؛ تصاغر حتى يكون مثل الذباب) ، لكن وردت مواطن لعن رسول الله فيها الشيطان. وهذه الآية الكريمة فيها لعن الشيطان، ولما جاء إبليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي يصلي بالليل بشهاب من نار ليقذفه في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألعنك بلعنة الله التامة؛ ثلاث مرات) ، فالمواطن التي ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الشيطان فيها؛ نلعنه فيها، أما التوسع في ذلك كأن تجعل لك ورداً وحزباً من لعن الشيطان، فتقول: لعنة الله على الشيطان، لعنة الله على الشيطان، لعنة الله على الشيطان. فلم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.

الشيطان وأتباعه

الشيطان وأتباعه قال الله تبارك وتعالى: {لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:118] أي: الشيطان {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:118] ، (النصيب) أكثر العباد، قال الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116] ، فأكثر العباد من أتباع الشيطان.

مسألة: من يطعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهل يشهر به ويذكر باسمه للتحذير منه؟

مسألة: من يطعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهل يشهر به ويذكر باسمه للتحذير منه؟ ومسألة مهمة يكثر الجدل حولها وهي: لو كان هناك شخصٌ يطعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يُذكر باسمه أو لا يُذكر باسمه؟ ف A التحفظ أولى، ولك أن تقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، فإن النبي عليه الصلاة والسلام طُعن في عرضه: وقد اتهم عبد الله بن أبي بن سلول أم المؤمنين عائشة -من بيت النبوة الطاهر- بالزنا، وليس هناك أبشع من ذلك، وتبعه في ذلك بعض الصحابة، فماذا كان رد الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قام على المنبر فقال: (من يعذرني من رجلٍ قد بلغني أذاه أهلي، فوالله! ما علمت على أهلي إلا خيراً، وما رأيت من أهلي إلا خيراً -والصحابة جالسون- فقال سعد بن معاذ: من هو يا رسول الله؟) فدليل على أن سعد بن معاذ لم يكن يعرف من هو. فالشاهد: أنه لا يصار إلى الذكر بالاسم إلا إذا دعت الضرورة الملحة إليه، فإذا دعت الضرورة الملحة إلى تسمية الشخص الذي يحارب السنة؛ فيُذكر بقدر ولو بتوسع في الوصف؛ لأنه من الممكن أن تكون أنت -من الناحية العقلية- تتكلم فيه، وتذكره بالاسم فيعترض عليك شخص وتحصل فوضى في بيت الله. أما لو قلت: (ما بال فلان) لا أحد يعترض عليك لأنك ما سميت أحداً، حتى في القوانين الوضعية أنك إذا عرضت فلا شيء عليك، لكن إذا سميت فإنهم يؤاخذونك ويتسببون في سجنك، وهذا من الجهل بسنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

حكم لعن الظلمة والطواغيت

حكم لعن الظلمة والطواغيت ننتقل من مسألة لعن الشيطان إلى جزئية وهي: الإكثار من ذكر الظلمة ولعنهم: فهل يستحب الإكثار من ذكر الظلمة -أهل الظلم- ولعنهم؟ فتقول: لعنة الله على فلان، لعنة الله على فلان لعنة الله على فلان؟! A الظاهر أن ذلك لا يستحب، بل قد رأى فريقٌ من أهل العلم كراهيته، وذلك؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام: لم يكثر من قوله: لعنة الله على أبي جهل، لعنة الله على أبي جهل، لعنة الله على أبي جهل، ولكن يستحب أن يستكثر العبد من ذكر الله، وبذلك ننصح إخواننا الخطباء الذين يرتادون المنابر ويلقون المحاضرات، فينبغي أن يكون ديدنهم -بالدرجة الأولى- في خطبهم الإكثار من ذكر الله عز وجل، لا الإكثار من ذكر فلان وفلان، ولعن فلان وفلان، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، ولم يقل إلى ذكر فلان وفلان. ولم أقف على نصٍ صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول شخصاً باسمه على المنبر ليلعنه عليه الصلاة والسلام: ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام: (قنت ودعا: اللهم العن فلاناً وفلاناً) ، فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] .

حكم لعن العصاة والكفار إجمالا

حكم لعن العصاة والكفار إجمالاً هنا يأتي سؤال آخر: ما حكم اللعن على وجه الإجمال؟ ف A اللعن على وجه الإجمال جائز، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لعن الله النامصة والمتنمصة، لعن الله الواصلة والمستوصلة، لعن الله المتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله) ، وغيره من الأحاديث العامة في اللعن وكقول: (لعنة الله على الظالمين) ، إلى غير ذلك على التعميم فهو جائز، لكن الإكثار من ذكر فلان وفلان وتناولهم باللعن بأعيانهم هو إلى الكراهية أقرب، والله تعالى أعلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء) ، وهذا يحدو بنا إلى أن نذكر ما ذكره العلماء بشأن اللعن، فمن العلماء من قسم اللعن إلى أقسام، قال: لعنٌ بالنسبة للكفار جملةً، ولعنٌ بالنسبة للكافر المعين، ولعنٌ بالنسبة للفساق جملةً، ولعنٌ بالنسبة للفساق المعينين أي: ذكرهم بالاسم، ولعنٌ للمؤمن. أما المؤمن فلعنه كقتله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ثابت بن الضحاك: (ولعن المؤمن كقتله) . وبالنسبة للفاسق المعين: لا يُلعن؛ لما سمعتموه من قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ، وهذا يطّرد أيضاً في لعن الكافر المعين عند فريق من العلماء. أما الفساق جملةً فالراجح في شأنهم أنه يجوز لعنهم إن احتيج إلى ذلك، فالنامصة فاسقة لكن لا تلعن بعينها، بل تقول: (لعن الله النامصة، لعن الله المتنمصة) ، لكن لا تقل (لعن الله فلانة بعينها) ، فلا يشرع لك ذلك، وقد تقدم أن تنزيل الأحكام على الأشخاص بأعيانهم يحتاج إلى تريث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الخمر وشاربها. إلى أن عد فيها عشرة أصناف) ، لكن لما جاء رجلٌ وهو شارب للخمر، قال بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: لعنك الله ما أكثر ما يؤتى بك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) ، وفي رواية: (إنه -ما علمت- يحب الله ورسوله) ، أي: أن هذا الشخص يحب الله ورسوله ولكن شهوته تغلبه. إذاً: يتحفظ من تنزيل اللعن على الأشخاص المعينين، والله تعالى أعلم. فعلى ذلك: فإخواننا الخطباء ينبغي أن يكون ديدنهم على المنابر الإكثار من ذكر الله والتخويف بالنار والترغيب بالجنة، فهذا هدى رسول الله عليه الصلاة والسلام، هو ما درج عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وأذكر في هذه البلدة -المنصورة- أيام حكم السادات في مصر كان بعض إخواننا يطلع على المنبر يخطب الجمعة ويتناول زوجة السادات بالاسم ويقول: فلانة فعلت كذا وكذا وكذا مع فلان الفلاني ويحكي حكايات على المنبر، ويظن أنه جريء وهو جاهل بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكلامي هذا ليس دفاعاً عن السادات ولا عن زوجة السادات، إنما دفاعاً عن حوزة الدين فلابد أن تحفظ وهذا هو المطلوب شرعاً من كل مسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم، وليس لنا دخل بالسادات ولا بزوجة السادات من ناحية الثناء والمدح ولا من ناحية السب، لكن نقول: إنه لا ينبغي أن نستخدم المنابر لمثل هذه الأغراض، ومن أراد أن يفعل ذلك فليأتنا بدليل من سنة رسول الله أو دليل من فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نمتثل، علماً أنه لم يسلك هذا المسلك إلا طائفة من أمراء السوء الذين كانوا ينالون من آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى حاكيا عن الشيطان: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم.

تفسير قوله تعالى حاكياً عن الشيطان: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ.) قال الله جل وعلاً: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} [النساء:118-119] أي: لأصرفنهم عن طريق الحق، وأبعدنهم عن طريق الصواب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه) ، أي: على الطرقات، كأنك تسير في خط مستقيم، وعلى هذا الخط أحياء وأزقة متشعبة والشيطان يقعد عند مفترق الطرق يجتال عباد الله عن الصراط المستقيم، وفي هذا الحديث قعد له على طرق الخير يصده عنها: (قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له على باب الجهاد) ، على طريق الجهاد، ويقول: تجاهد! كيف تجاهد؟ (تجاهد! فتقتل فتنكح المرأة -امرأتك تتزوج بعدك- وتقسم الأموال، فعصاه فجاهد، ثم قعد له بطريق الهجرة، قال: تهاجر! تدع أرضك وأرض أبيك، فعصاه فهاجر، وقعد له بطريق الإسلام فقال له: تُسلم تذر دينك ودين آبائك ودين أجدادك، فعصاه فأسلم) ، فيقعد له عند كل طريق من طرق الخير، تجده مثلاً -كما قال بعض العلماء- عند طريق النفقة: إذا أردت أن تنفق أتاك وقعد لك فيصدك ويقول: تنفق! مالك يذهب، أين حض أولادك؟ وأين حض زوجتك؟ أين حض بنيك؟ فهكذا يقعد لك عند كل طريق من طرق الخير يصدك عنها، (وعند كل طريق من طرق الشر يدعوه إليها فمن عصاه فله الجنة) -أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام-. يقول الشيطان: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء:119] ، أي: يمنيهم أنه سيحصل لكم كذا وكذا، والأماني في الدنيا لا تنقطع.

تبتيك آذان الأنعام من عمل الشيطان

تبتيك آذان الأنعام من عمل الشيطان قال تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [النساء:119] أي: لأزينن لهم تبتيك أذان الأنعام؛ لأن الشيطان لا يأمر ولا ينهى في الحقيقة وإنما يشجع على فعل المعاصي ويدفع الناس إليها، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] أي: تدفعهم إلى المعاصي دفعاً. فقال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [النساء:119] ، ما المراد بتبتيك آذان الأنعام؟ يأتي الرجل إلى جمل من الجمال أو ناقة من النوق بموسى -وهي الشفرة ويقال لها أيضاً: السكين- ويقطع أذن الجمل، ويقول: هذا سائب أو هذه الناقة سائبة، يعني سائبة في الصحاري لا يقربها أحد لأنها وقف على الآلهة، وهذا شرك من عمل الشيطان. قال الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103] ، وكل هذه الأصناف من الإبل: الوصيلة: هي التي تلد كذا وكذا. الحام: هو الذي ينكح كذا وكذا. البحيرة: هي التي من شأنها كذا وكذا ويسيبونها. وأول من سيب السوائب وحرمها على الناس عمرو بن لحي الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار. قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف: (رأيت النار، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه) ، يعني: يجر أمعاءه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب. أي: أول شخص قال: هذه سائبة، وحرم على الناس ما أحله الله لهم هو عمرو بن لحي فكانت هذه عقوبته. وفيه دليل على أن الذي يحرم على الناس شيئاً أحله الله لهم مرتكب لجريمة، بل قد تصل هذه الجريمة إلى الكفر، والعياذ بالله، والتحليل التحريم -على وجه الخصوص- جرمٌ كبير، ولذلك فالشخص عليه أن يتحفظ -في هذا الباب- تحفظاً زائداً؛ فلا يتجرأ ويفتي بالحل والحرمة بغير برهان من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: أول من سيب السوائب هو عمرو بن لحي بوحي إبليس إليه.

حكم تغيير خلق الله

حكم تغيير خلق الله قوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] تغيير خلق الله تلحق به جملةٌ من المسائل المتعلقة بالزينة، خاصة زينة النساء. فهناك جملة مسائل متعلقة بزينة النساء تدخل فيه هذه الآية منها:

حكم الوشم

حكم الوشم أما الواشمة: فهي التي تجرح امرأة أخرى بعض الجرح، فينزف دم من الجرح فتضع في مكان الدم كحلاً، فيبقى أثره كالشامة. فالواشمة: وهي التي تشم النساء والمستوشمة هي التي تطلب من غيرها أن تشمها كلتاهما ملعونة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

حكم حلق اللحية

حكم حلق اللحية اللحية هل حلقها داخل في تغيير خلق الله أم لا؟ رأى ذلك كثيرٌ من أهل العلم؛ لأن الله خلق الرجال وفطرهم على اللحية، فإزالتها حرام، وليس هناك نصٌ عن رسول الله يجوّز إزالتها، بل النص في المنع. قال صلى الله عليه وسلم: (قصوا الشوارب وأوفوا اللحى) ، وفي رواية: (وفروا اللحى) ، وفي أخرى: (اعفوا اللحى) ، كل هذه النصوص تنهى عن حلقها فتلتحق عند كثير من أهل العلم بتغيير خلق الله تبارك وتعالى. وحلق اللحية استطرد فيه العلماء، ولا معنى للخوض هنا، قال إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النساء:119] أي: يفعل ما يأمره به إبليس {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:119] أي: ظاهراً واضحاً.

حكم الوصل

حكم الوصل قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) . الواصلة: هي التي تصل شعرها بشعر آخر، وهي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ملعونة.

لبس المرأة للباروكة

لبس المرأة للباروكة بالنسبة للمرأة التي تضع الباروكة: والباروكة التي تلبسها المرأة على رأسها: هل تأخذ نفس حكم وصل الشعر أو لا تأخذ نفس الحكم؟ في الحقيقة أنها تختلف من باروكة إلى باروكة، وهذا ظاهر، فهناك باروكة يفهم تماماً أنها ليست من الشعر، وإن كان على صورة الشعر، لكن يفهم تماماً أنه ليس من شعر المرأة، فإذا كان ظاهرها أنها ليس من شعر المرأة فتخرج من حكم الوصل، والله أعلم. ثم ينظر إلى العلة التي من أجلها لبست هذه الباروكة. أما إن كانت الباروكة على هيئة شعر المرأة بالضبط، فقول من قال: إنها كالوصل -أو أنها وصلٌ- قولٌ قوي، والله سبحانه وتعالى أعلم. إذاً: الباروكة فيها تفصيل كما تقدم، وليس فيها نص ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: فتحتاج إلى استنباط، والذي ورد عن رسول الله، هو مسألة الوصل، فما استحدث وكان في معنى الوصل له حكم الوصل، وما استحدث ولم يكن له معنى الوصل يخرج من حكم الوصل.

حكم إزالة شعر الوجه بالنسبة للمرأة

حكم إزالة شعر الوجه بالنسبة للمرأة بالنسبة لشعر الوجه: إذا نبت للمرأة شارب فأزالته، هل تكون مغيرة لخلق الله؟ من أهل العلم من رأى ذلك، ومنهم من رأى عكس ذلك، وقال: يستحب لها أن تزيله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) ، فهذه التي تزيله تعمد إلى البعد عن التشبه بالرجال، فوجهتها محمودة، وهذا القول الأخير له وجهٌ قوي وهو قول سديد إذا اعتبرنا العلة في الحكم حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التشبه. فعلى ذلك: الذي يظهر -والعلم عند الله- أن إزالة شعر اللحية والشارب إذا نبتا للمرأة جائزة، إن لم يكن مستحب، أما شعر الحاجب فتحرم إزالته قطعاً، ويحرم إزالة أي شعرٍ منه؛ لأنه داخل في النمص بالدرجة الأولى، والرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن النامصة والمتنمصة) .

حكم النمص للرجال

حكم النمص للرجال الرجال الذين يذهبون إلى الحلاق فيأخذ من شعر حواجبهم: هل يلحقهم اللعن أو لا يلحقهم اللعن؟ من العلماء من قال: هو في الرجال أشد؛ لأن المرأة وهو مطلوب منها في جانب التزين لزوجها منعت من ذلك، فالرجل من باب أولى أن يمنع من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. يعني: ليس الحكم فيه بالنص إنما هو بطريق النظر والقياس والعلم عند الله تعالى.

حكم التفلج

حكم التفلج مسألة التفلج: والتفلج هو: أن تأتي المرأة بمبرد -مبرد أسنان- وتبرد أسنانها، وتفرق بين الأسنان من أجل تحسين الأسنان وتحديد كل سن على حدة من أجل أن تأخذ مسحة جمال، فالرسول عليه الصلاة والسلام: (لعن الفالجة والمتفلجة) ، يعني: الفاعلة والمفعول بها. هذا إذا كان الفلج للحسن، لكن لو فرضنا أن امرأة لها سن تؤذي لسانها إذا تكلمت، أو تؤذي شفتها إذا أكلت، فتفلجت لا للحسن إنما لدفع الضرر عنها، فإذا تفلجت وبردت أسنانها لدفع الضرر عنها فلا شيء في ذلك، وقد نص على ذلك الإمام النووي رحمه الله تعالى وغيره من أهل العلم، أي: أنها إذا لم تكن متفلجة للحسن بل لعلة جاز لها التفلج. وعلى ذلك: فطبيبات الأسنان لا بد أن ينتبهن؛ لأن طبيبات الأسنان ممكن بسهولة جداً أن تكون من (الفالجات) وهي لا تشعر، فتكون ملعونة على لسان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فتنتبه ولا تفلج أسنان امرأة إلا لدفع ضرر عنها، أما التفلج للحسن فقط فلا يجوز.

حكم إزالة شعر الجسم (النمص)

حكم إزالة شعر الجسم (النمص) تلحق بهذا الباب مسائل أخرى، ومنها: مسألة: إزالة الشعر من الجسم. إزالة الشعر من الجسم لغةً تسمى نمصاً، والمنماص هو ذيل آلة لإزالة الشعر من الجسم. فهل كل شعر يزال من الجسم يعد نمصاً؟ A ليس كل شعر يزال من الجسم يعد نمصاً؛ لأن شعر العانة يزال، وإزالته سنة، وشعر الإبط يزال، وإزالته سنة وهي عادات مستحبة. والشعر له أحكام، وهناك كتب مؤلفة في أحكام الشعر: شعر الرأس -طبعاً- يزال أو لا يزال على ما تحب أنت، وقد ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه كان يحلق أحياناً وأحياناً أخرى يقصر شعره، لكن ثمّ شعر كشعر -مثلاً- النساء الذي يظهر في الأرجل، فهل إزالته تلحق بحكم تغيير خلق الله أو لا؟ الظاهر: أن المرأة إذا أزالته لا تكون مغيرة لخلق الله. فهناك عمومات تبيح ذلك كحديث: (إن الله جميل يحب الجمال) ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أي النساء خيرٌ يا رسول الله؟ قال: التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر) ، لكن في المقابل: (لعن الله النامصة) ، فهل يلحق بالنمص إزالة شعر الرجل أو لا يلحق؟ النمص عند أكثر أهل العلم متعلقٌ بالحاجب، ومن العلماء من عممه على سائر شعر الوجه، أما شعر الرجلين فالراجح لدي فيه والله أعلم أنه جائز، وإن كرهه بعض أهل العلم، فلما يستغرق إزالته من وقت، ولما يحصل من كشف للعورات أثناء إزالته، فالمرأة تكشف عن فخذها لامرأة أخرى تعبث بها مدة طويلة، فهذا فيه كشف للعورة، ثم كما قال بعض المشتغلين بالطب -في هذا الباب-: إنه يضعف الجلد إذا استمرت المرأة على نتفه، والله تعالى أعلم. لكن ليس عندنا نص صريح صحيح يفيد أنه عملٌ محرم.

تفسير قوله تعالى: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)

تفسير قوله تعالى: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [النساء:120] يعدهم بماذا؟ فسرتها آية البقرة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] . {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120] يعدهم، ليس فقط بالفقر، بل وعوده عامة، كما وعد أبانا آدم وأمنا حواء بالخلود في الجنة إذا أكلا من الشجرة، فقال لهما: أقسم لكما بالله أنكما إذا أكلتما من هذه الشجرة ستخلدان في الجنة ولا يستطيع الرب إخراجكما منها! كما قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] ، فآدم عليه الصلاة والسلام لم يظن أبداً أن هناك شخصاً يحلف بالله كاذباً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن غرٌ كريم، والفاجر خبٌ لئيم) . فوعد إبليس لأبينا وأمنا بالخلود في الجنة إذا أكلا من الشجرة كان غروراً وتغريراً بهما حتى أوقعهما في معصية الله عز وجل، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120] .

تفسير قوله تعالى: (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا)

تفسير قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:121] أي: مهرباً ومفراً، كما قال تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36] ، أي: هل من مفرٍ؟! وهل من مهرب؟! فهنا: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:121] . أي: لا يجدون منها مهرباً ولا مفراً.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات.

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ.) قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [النساء:122] ، تكرر مراراً أن القرآن سُميّ مثاني لهذا، وهو أنه يأتي بحال أهل الشقاوة، ثم يعقب بذكر حال أهل السعادة، وأيضاً نكرر أن (عملوا الصالحات) تثبت أن المؤمن العاقل الذي يعمل الصالحات أفضل من المجنون؛ لأن المجنون لم يعمل الصالحات، فعلى هذا من يتمسحون بالمجانين جهلة، وهذا الفعل غلط. فالتقييد بـ (عملوا الصالحات) يبين أن المؤمن العاقل أفضل من المجنون؛ لأن المجنون أمامه اختبار عند الله يوم القيامة ينجح فيه أو لا ينجح. وفي قوله: (عملوا الصالحات) ردٌ على المرجئة القائلين بأن العمل لا تأثير له. (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) ، قال فريقٌ من العلماء (من تحتها) . أي: من تحت أشجارها، ومن تحت بيوتها وكذلك عند فريق آخر، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} [النساء:122] وهذا وعد الله في مقابل وعد الشيطان، ووعد الشيطان قال عنه تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120] ، فهنا في المقابل: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] .

تفسير قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب.

تفسير قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ.) قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} [النساء:123] . أي: ليس الأمر على ما تظنون، {وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] ما هو الذي ليس بأمانينا ولا بأماني أهل الكتاب؟ هنا حذف دلّ عليه السياق. {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] . أي أنكم ستفعلون السوء ولا تجزون به، بل {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] وقد ذكر فريق من أهل العلم أن هنا حذفاً فُهم من السياق، والحذف إذا فهم من السياق استسيغ، وكان له وجه وعليه أدلته في كتاب الله في جملة مواطن قد مثلنا لذلك يقول تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ما هي التي توارت؟ الشمس، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] ردوا ماذا؟ ردوا الخيل: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:33] . وقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ، لماذا قال: (وشاء) ؟ لأن التمثيل به أتم. قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] أي: ليس الأمر على ما تظنون أنتم وأهل الكتاب، بل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ، وردت في هذه الآية أحاديث -منازع في صحتها- أن هذه الآية شقت على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الآية أفادت: أن كل من يعمل سوءاً يجز بهذا السوء: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) وفي هذه الأحاديث التي أشرنا إلى أنه اختلف فيها، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر: (يا أبا بكر! ألست تنصب؟) يعني: تتعب، فالتعب يزيل السيئات، ألست تحزن؟ فالهم والحزن يزيلان السيئات، ألست تصيبك اللأواء؟ اللأواء والأدواء والأمراض تذهب السيئات، وفي معنى هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (ما من مسلم يصيبه أذىً من مرض فما سواه إلا حط الله به من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها) ، وفي رواية: (حتى الشوكة يشاكها) ، وفي رواية -نوزع في تصحيحها-: (حتى الهم يهمه) ، يعني: الهم الذي تصاب به يهيل السيئات، لكن روايات الهم منازع في صحتها. وأيضاً يقال: إن الآية أفادت: أن أي شخص يعمل سوءاً يجز به، لكن ثَمَّ آيات قيدت، وثَمَّ آيات رفعت الحرج، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ، فـ (يعفو عن كثير) أفادت أن هناك من الذنوب ذنوباً لا نؤاخذ بها، كذلك في قول أهل الإيمان: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة:286] ، قال الله: قد فعلت. قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ، لابد أيضاً من النظر فيه بعيداً عن مسألة إزالة الأمراض والهموم والأحزان للذنوب، فهل يلزم أن كل من أذنب تأتيه عقوبة من الله، إما في صورة شوكة يشاكها أو مرض يمرضه أو هم؟ الصحيح: أنه لا يلزم ذلك، فإن قيل: فكيف توجهون الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فالإجابة، أن هنا تقديرٌ يفهم من السياق ومن العمومات الأخرى التي تحملنا على هذا التقدير، فيكون التقدير: (من يعمل سوءً يجز به) إلا إذا عفا الله عنه، وهذا المعنى يستقيم مع قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، ويستقيم مع قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ، فالتقييد يجز به، إلا إذا عفا الله عنه: فإذا عفا الله عنه وإلا كان الأمر كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ، فعلى هذا تضبط الآية من وجهين: الوجه الأول: هو ما ذُكر في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، على قول من صححه، وهو أن الهموم والأحزان والأمراض كفارات. القول الثاني: أن الآية مقيدة بمغفرة الله عز وجل، وثمة قول ثالث -لكن يحتاج إلى إثبات- وهو القول بالنسخ، وأن الآية منسوخة بآيات أخرى، أفادت عفو الله عز وجل عن كثير من الذنوب، لكن القول بالنسخ لا يتأتى إلا بعد معرفة المتقدم من المتأخر، وهذا غير متيسر هنا. {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ، من العلماء من يقول: إن الشخص قد يعد، وقد يوعد فهناك الوعد والوعيد، ومن خصال الكرام: الوفاء بالوعد وإخلاف الوعيد. ومنه قول القائل: وإني إن وعدته أو أوعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالوفاء بالوعد محمود، وإخلاف الوعيد محمود من فعل الكرام. والفرق بين الوعد والوعيد: أن الوعد في الخير والوعيد في الشر والتهديد، والله تعالى أعلم على ذلك فالذي يخلف وعيده لا يذم من البشر، ولله المثل الأعلى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27] ، قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ، والسوء هو من ما يسيء الشخص، وكل المعاصي تسيء صاحبها يوم القيامة، ومنه قيل: للسوأة سوء، وللسوأتان سوأتان؛ لأن رؤيتهما تسيء للشخص المرئي، فلذلك أطلق عليهما (سوأتان) . قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:123] ولياً يتولاه، ولا نصيراً ينصره. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124] أي: قدر النُّقْرَةِ في ظهر النواة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تدريس الرجل للمرأة

حكم تدريس الرجل للمرأة A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. Q أنا مدرس وأعطي دروساً خصوصية بدون ظلم لأحد، ولكن يأتيني بنات من الصف الأول الإعدادي إلى الثالث، فهل هذا حرام؟ وإن كان حراماً فهل معنى هذا أن الأجر الذي آخذه يعتبر مالاً حراماً، على الرغم من أني أتعب فيه؟ الجواب: بالنسبة لتدريس الرجل للمرأة، فأصل الحكم فيه مبني على الملابسات المحيطة به، لأنه لا دليل لدينا على أن تدريس الرجل للمرأة حرام، لكن إذا خلى الرجل بامرأة واحدة، كان الحكم بالحرمة مبنياً على أن الخلوة نفسها محرمة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يخلون رجلٌ بامرأة فإن ثالثهما الشيطان) .

تفسير سورة النساء [127-136]

تفسير سورة النساء [127-136] لقد حفظ الله حقوق اليتامى من ذكور وإناث، كما في قوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ ... ) الآية، فإن هذه الآية نزلت في اليتيمة التي لها مال، ووليها لا يريد أن يتزوجها ولا أن يزوجها غيره خشية الميراث، وقيل: نزلت في اليتيمة الجميلة الحسناء التي يريد وليها أن يتزوجها ولكنه لا يقسط في مهرها، وفي هذا دلالة كبيرة على أن الشرع حفظ للنساء حقوقهن حتى وهنَّ يتامى فضلاً عن كون آبائهن أحياء. وبين الله عز وجل بعد ذلك أحكام النشوز الحاصل من المرأة ومن الرجل، وكيف أن العدل بين الزوجات من الواجبات إلا في الميل القلبي وغيرها من الأحكام.

تفسير قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم.

تفسير قوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ.) باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء:127] . {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} [النساء:127] أي: يطلبون منك الفتيا في شأن النساء، فدخول السين والتاء على الفعل تعني الطلب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني) أي: طلبت منك الطعام فلم تطعمني، (قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه) الحديث، فقوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء:127] أي: يطلبون منك الفتيا أو الفتوى أن تفتيهم في شأن النساء. {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء:127] ، سأل عروة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] . فأفادت بما حاصله: أن هذه الآية نزلت في اليتيمة التي عندها ميراث، تكون في حجر وليها، القائم عليها، الذي من حقه شرعاً أن يتزوجها، لأنه ليس أباً ولا أخاً ولا عماً لها، لكنه ولي من الأولياء البعيدين الذين يحل لهم أن يتزوجوها، لكنه يرفض الزواج بها، ومع رفضه للزواج بها يمتنع أن يزوجها لآخرين خوفاً من ضياع الميراث، فيبقيها في حالة من الإعضال، هذا قول. والقول الآخر: أن هذه الآية ومن قبلها آية: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] نزلت في اليتيمة التي تكون جميلة وحسناء يريد أن يتزوجها ولا يقسط لها في الصداق، أي: لا يعطيها صداق مثلها من النساء، فأمروا إما أن يقسطوا لهن في الصداق، أو يتزوجوا غيرهن، فالنساء سواهن كثير. ومسألة القسط في الصداق: تؤصل لنا مسألة مهر المثل؛ لأن هناك مهراً يصار إليه يقال له مهر المثل، تقاس المرأة أو البنت فيه على أترابها من بنات أعمامها وبنات أخوالها، وبنات عماتها وبنات خالاتها، وجيرانها الذين هم في نفس طبقتها، إذاً يصار إلى مهر المثل عند التنازع في مسألة الصداق. قال الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء:127] أي: أن المهر مكتوب لهن، فالمهر فرض، وقد تقدم قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أي: فريضة. فالمهر فرض، لا حد لأقله ولا حد لأكثره، فأقل المهر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التمس ولو خاتماً من حديد، قال: ما عندي ولا خاتم، قال: زوجتك بما معك من القرآن) ، وتزوجت أم سليم على الإسلام. وقد ورد حديث فيه ضعف: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لامرأة تزوجت مقابل نعلين: أرضيت من نفسك بنعلين؟!) لكنه حديث ضعيف. إذاً: لا حد لأقل المهر، وأكثر المهر لا حد له كذلك، قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] فالمقرر عند الجمهور من أهل العلم أنه لا حد لأقل المهر ولا لأكثر المهر، وإنما يختلف باختلاف الأماكن، واختلاف الأزمان، واختلاف الأشخاص. قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ} [النساء:127] أي: لا تعطونهن، {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء:127] أي: ما فرض لهن، {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127] أي: لعلكم ترغبون أن تنكحوهن. ترغب عن الشيء ترفضه، وترغب في الشيء تحبه وتقبل عليه وتريده، أما (ترغب أن تنكحها) ، فتحتمل الوجهين، وإن كان أقرب إلى الإرادة والرغبة في الشيء. قال تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127] يعني: أنتم تريدون أن تتزوجوا بنتاً يتيمة جميلة، ولكنكم تريدون بخسها حقها، فإذا أردتم الزواج بها فأقسطوا إليها وأدوا حقها، كالذي يؤدى لأترابها وأمثالها. {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء:127] أي: وتفعلون مع اليتامى القسط والعدل الذي أمركم الله عز وجل به، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء:127] .

تفسير قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا.

تفسير قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا.) {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء:128] البعل: هو الزوج. قوله: (نُشُوزًا) أي: ارتفاعاً وتعالياً ورفضاً، ورغبة عنها، فمعنى النشوز: الارتفاع، ومنه الأرض النشز، أي: الأرض المرتفعة، والمرأة الناشز هي المتعالية المرتفعة على أمر زوجها وقوله، فالنشوز يكون في النساء وفي الرجال. {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء:128] أي: رداً لها وعدم رغبة فيها.

مرتبة الإحسان وفضله

مرتبة الإحسان وفضله قال سبحانه: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:128] أي أن الصلح وإن كان جائزاً فإن لك يا رجل أن تقبل من زوجتك أن تتنازل لك عن ليلتها مقابل إبقائها، فهذا صلح، لكن الإحسان أفضل، فأرشدك الله إلى الإحسان، وإن كانت أذنت لك بذلك. فالرجل قد يتفق مع المرأة على شيء، فلضعف المرأة تقر هذا الشيء وترضخ؛ لأنه ليس لها متنفس غير هذا الشيء، فهذا يا زوج! وإن كان جائزاً لك ما تصنعه المرأة من تنازل عن بعض حقوقها، لكن الله يرشدك إلى الإحسان، والإحسان مرتبة فوق العدل، فيستحب لك أن تسلك مع هذا الصلح الذي دار بينكما سبيل المحسنين، الذين يتركون حقوقهم لله سبحانه وتعالى. {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:128] أي: وسيجازيكم على هذا الإحسان.

دلالة الآية على كراهة الطلاق ودخوله في الأحكام الخمسة

دلالة الآية على كراهة الطلاق ودخوله في الأحكام الخمسة هذه الآية دلت على أن الطلاق -وإن كان مباحاً في الأصل- يكره في كثير من الأحيان، فإن الطلاق عمل يسعد الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عرش إبليس على الماء وإنه يرسل سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة، يأتي أحدهم فيقول: ما تركته حتى فعل كذا وكذا، فيقول له الشيطان، ما صنعت شيئاً، حتى يأتي شيطان فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيدنيه ويقربه ويقول: أنت أنت) . ومعناه: أنت الذي فعل الفعل الذي يحمد ويشكر عليه، فالتفريق بين الزوجين مذموم أو مكروه، وإن كان بعض الأوقات يستحب فيها الطلاق، وأوقات يجب فيها الطلاق، فالطلاق تنسحب عليه الأحكام التكليفية الخمسة. ومن ثم قال الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لزوجة إسماعيل: (إذا أتى إسماعيل فأخبريه أن رجلاً قدم عليكم وقولي له: إنه يوصيك أن تغير عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل -كما في البخاري من حديث ابن عباس موقوفاً عليه- وآنس في البيت شيئاً لم يكن على العادة، قال: هل دخل أحد البيت قالت: نعم جاء رجل كبير صفته كذا وكذا، قال: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أوصاني قال: إذا جاء إسماعيل فقولي له: غير عتبة بابك، فقال لها: أنتِ عتبة الباب، الحقي بأهلك) وطلقها إسماعيل. وهذا لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سألها عن حالهم أولاً فتسخطت وقالت: نحن في ضنك وبلاء وشدة وكرب، ولم تحمد الله على ما هي فيه، ولم تشكر الله على ما هي فيه، فكانت نصيحته لولده، أن يفارقها، وفي الرواية الأخرى: (بعد أن تزوج امرأة غيرها وجاء إبراهيم فسألها كيف عيشكم؟ فحمدت الله وأثنت عليه، فقال لها: إذا جاء إسماعيل فأخبريه أن شيخاً أتى إليه يقرئه السلام، ويقول له: ثبت عتبة بابك) ، فأحياناً الطلاق يكون مستحباً. فلما جاء عمر إلى رسول الله يشكو ولده عبد الله وحاله مع زوجته، وأمر عمر عبد الله أن يطلق زوجته فأبى عبد الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أطع أباك) فأطاع أباه وطلقها، فأحياناً يكون الطلاق له مسوغات ويستحب، وأحياناً يكون الطلاق مكروهاً، وأحياناً يكون الطلاق محرماً، وأحياناً يكون واجباً، لكن التقعيد أنه إلى الكراهية أقرب، وقد تقدم أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما طلق امرأة له، فجاءته المرأة وقالت: يا عبد الله! هل تنقم عليّ شيئاً في خلقي وفي ديني؟ قال لها: لا. قال: هل رأيت مني شيئاً تكرهه؟ قال لها: لا. قالت: ففيم تطلق امرأة مسلمة مصلية صائمة؟ فأبقى عليها عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وردها إليه.

إباحة الصلح بين الزوجين وإسقاط المرأة حقها

إباحة الصلح بين الزوجين وإسقاط المرأة حقها قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء:128] هذه الآية نزلت في سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما كبر سنها، وخشيت أن يفارقها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: أجعلك في حل من ليلتي لا تقسط لي، وتبقيني معك، أي: حتى أكون من أزواجك في الجنة. خشيت أن يطلقها النبي عليه الصلاة والسلام فعرضت عليه أمراً قالت: إن كان يشق عليك المبيت معي يا رسول الله! وتشق عليك القسمة لي يا رسول الله! فلا تطلقني، وأجعلك في حل من شأني، ولا أطالبك بشيء من القسمة، على أن أبقى عندك، فنزلت الآية مجيبة لذلك ومبيحة لذلك: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} [النساء:128] أي: من زوجها {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [النساء:128] أي: على الزوج وزوجته {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء:128] ، فالصلح جائز ما لم يحل حراماً وما لم يحرم حلالاً. قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] أي: الصلح على هذا النحو خير للفريقين من الطلاق. وقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] وإن كانت نزلت في هذا الموطن إلا أن الصلح خير على العموم، ومن ثم قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] .

معنى الشح في قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح.

معنى الشح في قوله تعالى: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ.) قال سبحانه: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] : الأنفس إذا جاءت تصطلح دخلها الشح؛ لأن المصالح في الغالب يتنازل عن شيء، فعندما يأتي وقت الصلح يشح كل من المصطلحين بالشيء الذي سيتنازل عنه، فالرجل إذا جاء يصالح المرأة على ما ذكر في الآية، لتقول له المرأة: أجعلك في حل من القسمة لي وأبقى معك، فالرجل أصلاً لا يحب هذه المرأة، كأن تكون امرأة ذميمة مثلاً، أو لسانها طويل، أو تشتمه أو غير ذلك، فليس له رغبة فيها من الأصل، فإذا جاء عند الصلح يقول: إذاً: وأنا لماذا أتركها عندي، وأنفق عليها وأكسوها؟! وهي الأخرى تقول: وأنا لماذا أتنازل عن يومي، وأتنازل عن ملكي؟ هل أنا أقل من الضرة الثانية حتى أتنازل عن حقي وعن يومي؟! فيبدأ الشح يحضر الرجل ويحضر المرأة، يحضر الرجل في النفقة التي ينفقها على زوجته التي لا يرغب فيها، ويحضر للمرأة إذ تقول: لماذا بخست حقي وغيري استوفى حقه كاملاً، فكل واحد يأتي الشح إلى نفسه كي يفسد هذا الإصلاح. فالله سبحانه وتعالى قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] يعني: خذ أنت على نفسك يا زوج وأنفق، وخذي أنتِ على نفسك يا امرأة واصبري على اليوم الذي سقط، فهذا خير من الطلاق.

تفسير قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء.

تفسير قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ.) قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129] : أي: لن تستطيعوا يا معشر الرجال! يا من تزوجتم بأكثر من زوجة! أن تعدلوا بين النساء (ولو حرصتم) ، أي: ولو اجتهدتم في هذا الباب، والله سبحانه وتعالى قال في الآية الأخرى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] فكيف يجمع بين الآيتين؟ قال في الأولى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:129] فجزم بأننا لن نعدل، وقال تعالى في الثانية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] ؟! إذاً: ما دام مقرراً أننا لن نعدل، فلماذا نقبل على الزواج؟! فالإجابة على هذا هي: أن العدل له صورتان: الصورة الأولى: عدل في المبيت والحقوق الظاهرة، بأن تبيت هنا ليلة وتبيت هنا ليلة، تعطي هذه خمسة قروش وتعطي هذه خمسة قروش مثلها، تأتي لهذه بثوب وتأتي لهذه بثوب، فهذا العدل في الظاهر وهو مستطاع، لكن العدل في المحبة القلبية لا يستطاع؛ لأنك لا تملك قلبك. الصورة الثانية: العدل في الجماع والمحبة القلبية، فهذا لا يستطاع؛ لأن هذا متوقف على ميلك القلبي، كأن تكون إحدى الزوجات جميلة والأخرى دميمة، فتقف على جملة أمور فلا تستطيع أن تملكها.

معنى الميل في قوله: (ولا تميلوا كل الميل)

معنى الميل في قوله: (وَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129] يعني: إذا كنت تحبُّ واحدة فلا تبالغ في إعطائها كل ما تريد وتترك الثانية كالمعلقة، صحيح أنه لا يجب العدل في الجماع، لكن الرحمة مطلوبة، فلا تترك الزوجة التي لا تحبها كالمعلقة: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] أي: كالتي لا زوج لها، لا هي متزوجة ولا هي بدون زوج؛ لأنها لو كانت بدون زوج لبحثت لها عن زوج. فهنا تظهر جهالات القوم الذين لا يخافون الله، يتزوج رجل على زوجته ويتركها شهوراً وسنوات لا يقربها، فهذا والعياذ بالله! آثم، بل مرتكب لكبيرة، وقد روي في ذلك حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما أتى يوم القيامة وشقه مائل) ، والحديث متكلم في إسناده، لكن الوعيد مأخوذ من عمومات أخر كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرا) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لبيتك عليك حقاً) وغيرهما من الأحاديث. قال سبحانه: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:129] .

عدم استطاعة الرجل العدل بين النساء في المحبة القلبية

عدم استطاعة الرجل العدل بين النساء في المحبة القلبية فقوله تعال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء:129] أي: لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء في المحبة القلبية ولا في الجماع، حتى نبينا عليه الصلاة والسلام لم يستطع العدل في هذا الباب؛ لأن قلبه ليس بيده صلى الله عليه وسلم، فقد ورد فيه حديث متكلم في إسناده عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه كان يقسم بين النساء ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك) . فالقسمة في المحبة القلبية والجماع غير مستطاعة، ولذلك ترى تفاضلاً بين محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجة، ومحبته لزوجة أخرى، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب الناس إليك يا رسول الله؟! قال: عائشة) . وغارت عائشة من رسول الله أيضاً؛ لما كان يكثر من ذكر خديجة؛ ولأنه كان إذا ذبح الذبيحة يرسل بجزءٍ منها إلى صديقات خديجة رعاية للعهد: (فاستأذنت هالة بنت خويلد على رسول الله، فارتاع لها النبي عليه الصلاة والسلام وقام فزعاً من مكانه، قائلاً: اللهم هالة، فغارت عائشة غيرة شديدة وقالت: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين هلكت في غابر الدهر، أبدلك الله خيراً منها قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إني رزقت حبها) ، فالمحبة تختلف من شخص إلى شخص. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت آية التخيير: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] بدأ بـ عائشة وقال: (إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك) ، لكن لم يقل هذا الكلام لغيرها، بل قد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حفصة وراجعها. وفي الحديث: (قالت عائشة لرسول الله: يا رسول الله! لو نزلت واديين يا رسول الله بهما أشجار فوجدت شجرة أُكل منها، وشجرة لم يؤكل منها، ففي أيها كنت ترتع بعيرك يا رسول الله؟ قال: في الشجرة التي لم يؤكل منها) . تشير إلا أنه لم يتزوج بكراً غيرها، فالمحبة القلبية غير مستطاعة، والعدل في المحبة القلبية لا يطاق ولا يستطاع، فهذا هو الحكم في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129] .

تفسير قوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته)

تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130] . أحياناً يكون في الفرقة خير، فإذا استحالت الحياة الزوجة بين الزوجين وحدث كل يوم سباب وشتائم، وعدم إقامة لحدود الله سبحانه وتعالى، وعدم تعاون على إقامة سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففي هذه الحالة إن يتفرقا يبدل الله الزوج خيراً من زوجته، ويبدل الله الزوجة خيراً من زوجها، وهذا هو معنى: (يغن الله كلاً من سعته) . فالطلاق ليس في كل الأحيان شراً، بل قد يكون في بعض الأحيان خروجاً من المشاكل، ومن السباب، ومن مخالفة أمر الله ومخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شرعه الله سبحانه وتعالى. تأيمت حفصة رضي الله عنها فعرضها عمر على عثمان فرفضها عثمان، وقد تزوج عثمان بنت رسول الله بعد ذلك، وهي خير له من بنت عمر من ناحية النسب، وحفصة تزوجت رسول الله خير لها من عثمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين. {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] وهذه الفرقة إذا وقعت فيجب أن تكون بإحسان، فإن الله تبارك وتعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] أي: الطلاق الرجعي الذي للزوج حق الرجعة فيه على زوجته مرتان، فإذا طلقها المرة الأولى وراجعها والثانية وراجعها؛ فإنه بعد الثانية إما أن يمسك بمعروف، بأن يردها إليه ويرجعها بالمعروف، أو يسرحها بإحسان. ما معنى التسريح بإحسان؟ قال بعض أهل العلم إن التسريح بإحسان هو الطلاق، لكنه قول مرجوح؛ لأنك إذا قلت: إن التسريح بإحسان هو الطلاق ورد عليك في الآية نفسها {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] فعلى هذا تكون طلقة رابعة، ولا يجوز ذلك بالإجماع. فالتسريح بإحسان من العلماء من قال: إنه الطلاق، لكنَّ الأكثرين على أن التسريح بإحسان معناه: أن تترك الزوجة بعد أن تطلقها التطليقة الثانية بدون أن ترجعها إليك، حتى تنقضي عدتها، وهذا القول أفضل من ناحية النظر؛ لأنك إذا غدرت بعد أن تركتها حتى انتهت عدتها وذهبت إلى أهلها، فإذا بدا لك أن تتزوجها فإنه يجوز؛ لأنه بقي لك طلقة، فإذا قلنا: التسريح بإحسان، فإن الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فإذا قلنا لك: طلقها ثالثة فهو غلط، لأنه ما أمر بالطلاق، بل يفهم من الآية أن يسرحها بإحسان، فكأنك تقول له: طلقها مرة ثالثة، والآية لا تتحمل هذا المعنى. وإن قال بعض أهل العلم: إن التسريح بإحسان هو الطلاق، وأورد فيه حديثاً فيه ضعف، لكن التسريح بإحسان هو أن تتركها سارحة حتى تنقضي عدتها فتبتعد عنك بدون طلاق، فيكون محفوظاً لك عندها طلقة. قد يقال: جاء في الآية قوله: {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} فقوله: (أُسَرِّحْكُنَّ) أي: أطلقكن. وA أن التسريح في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] معناه أعم من التطليق، كما يقال: يغدو عليهم بسارحة لهم، ويقال: سرحت البهيمة، أي: تركتها وأرسلتها؛ لأن الفلاحين يقولون: نحن سنروح في الصباح بالبهائم لترعى، إذاً: فالتسريح أعم من التطليق. ولذلك قال أهل العلم في باب ألفاظ الطلاق: ألفاظ الطلاق ثلاثة: طلقتك، وهذا لا يحتاج إلى نية عند التلفظ به، ولا يحتاج إلى سؤال عن النية، كأن تقول: طلقتك، أو أنتِ طالق، لكن هناك لفظان يحتاجان إلى نية وهما: سرحتك، وفارقتك؛ لأن فارقتك تحتمل الطلاق، وتحتمل غير الطلاق، كذلك التسريح يحتمل الطلاق ويحتمل غير الطلاق، فالتسريح من الكلمات التي تعددت معانيها. قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130] فأتى بقوله: (وَاسِعًا) من جنس (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فالآيات في الغالب تختم باسم من أسماء الله سبحانه أو صفة من صفاته موافقة للأحكام التي فيها، ولما يريده الله سبحانه وتعالى منك. أي: إذا كنتِ يا أيتها المرأة التي تزوجت من زوج مؤذٍ لا يراقب الله ولا يراقب رسول الله، ولا يقيم حدود الله فيك، ويمنعك من إقامة حدود الله في نفسك، فلا تتردي في مسألة الطلاق ولا تخافي، {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] . ويا أيها الرجل يا من تزوجت بامرأة شريرة لا تساعدك على إقامة حدود الله، وتخونك إذا خرجت، إن الله لم يضيق عليك، فإن تفارقها يغنك الله سبحانه وتعالى. فالطلاق ليس في كل الأحوال شراً، وليس في كل الأحوال أيضاً خيراً؛ لما فيه من تشتيت للأولاد وتشريد لهم، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض.

تفسير قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ.) قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] . هذه هي الوصية الجامعة التي وصى الله بها أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ووصى بها الأنبياء، ووصى بها الرجال، ووصى بها النساء، ووصى بها الناس أجمعين. قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء:131] وهم اليهود والنصارى، (وَإِيَّاكُمْ) أي: ووصيناكم أنتم أيضاً {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فهي وصية وصى الله بها أهل الكتاب، ووصى بها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] ووصى بها النساء حيث قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32] . وجاءت الوصية بها في عدة آيات، وفي جملة أحاديث لا تكاد تستقصى. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] وقد تقدم تفسير التقوى، واتقوا من الاتقاء ومنه قول الشاعر: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد أي: غطت وجهها بيدها. وقال سبحانه: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131] أي: أن كفركم لا يؤثر في الله شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) أي: إن تكفروا فاعلموا أنكم لن تعجزوا الله ولن تؤثروا شيئاً فيما عند الله سبحانه وتعالى، {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} [النساء:131] أي: غنيّاً عنكم إن لم تتقوه، {حَمِيدًا} [النساء:131] لكم إن اتقيتموه. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:132] .

تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس.

تفسير قوله تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ.) قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133] وفي معناها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وقوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5] . فالذي لا يتقي الله لن يضر الله شيئاً وإنما يضر بالدرجة الأولى والأخيرة نفسه، والله في غنىً عن عبادته: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] . فقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133] هي كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] . ثم قال: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء:133] .

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا.) قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] . أثبتت الآية صفة السمع والبصر لله سبحانه وتعالى، (وقد تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] ، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى إصبعيه على أذنه والأخرى على عينه) ، فاستنبط بعض العلماء من ذلك إثبات صفة العين وكذلك صفة السمع لله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ.) يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] وهي كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] . قوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] تحتمل عدة معانٍ أي: ترجون بشهادتكم وجه الله سبحانه وتعالى.

بيان اللي ومعناه وعقوبته

بيان اللي ومعناه وعقوبته فقال تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:135] : فاللي يطلق على معانٍ: ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد ظلم يحل عرضه ويحل عقوبته) أي: ممطالة الغني المديون ظلم، كما لو كان لك دين عند شخص غني والغني يماطل، فمماطلته تسمى: ليّ، فالرسول يقول: (لي الواجد ظلم يحل عرضه) يعني: يجوز لك أن تقول: فلان أكل مالي أو فعل بي وفعل بي وفعل؛ بقدر المظلمة. {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:135] أي: عن الحق {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] .

الشهادة بالحق في كل الأحوال

الشهادة بالحق في كل الأحوال فالعدل به قامت السماوات والأرض، ومن ثم قال رسولنا عليه الصلاة والسلام: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135] أي: ولو على نفسك، {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135] معنى الآية: لو أن شخصاً كان شاهداً في خصومة بين فقير وغني، فقد يطمع الشاهد في مال الغني ويقول: أشهد للغني لعله يعطيني، أو يعينني على وظيفة، والثاني بالعكس تجده يقول: لا. الأغنياء هم كذا وكذا، فلابد أن أخرب بيوتهم، ويشهد للفقير، والله يقول: ليس ذلك من حقك {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135] أي: إن كان غنياً أو فقيراً فما عليك إلا أن تشهد بالحق فقط، ليس لك أن تجامل هذا لغناه، ولا أن تعطف على هذا لفقره. فالحقوق شيء والإصلاح شيء آخر، ففي الإصلاح بين الناس يجوز لك أن تقول للغني: يا فلان! لو تترك من حقك للفقير شيئاً قليلاً، فهذا في الإصلاح لا في الأحكام، فكل شخص في الأحكام يأخذ حقه مستوفى، فله أن يتنازل أو لا يتنازل، فهذا الشيء يرجع إليه. قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا} [النساء:135] أي: إن يكن المشهود له أو المشهود عليه غنياً أو فقيراً، فالله أولى بهما منك. {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] أي: إذا حاولت أن تؤولها بأي طريقة حتى تصل إلى مرادك وشهوتك فاعلم أن الله مطلع عليك، ومن ثم يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار إن شاء أخذها وإن شاء تركها) فهناك أناس سحرة يسحرون بالكلام. ومن ثم لما رمت امرأة ضرتها بحجر في بطنها، وكانت المضروبة حاملاً فسقط الحمل، فقضى النبي عليه الصلاة والسلام: أن على العاقلة غرة عبداً أو أمة، أي: عليهم أن يقوِّموا عبداً أبيض أو أمة بيضاء ويدفع القيمة للمضروبة، فجاء رجل وقال: (يا رسول الله! كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا نفخ ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟!) يعني: كيف تغرمني قيمة واحد لم يأكل ولم يشرب، ولم يتكلم، ولم يستهل، ولم يخرج من فرج أمه، فمثل ذلك يطل؟! أي: هدر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما هذا من إخوان الكهان) ؛ لأنه يحاول بهذه الألفاظ أن يضيع الحقوق الشرعية.

إقامة الشهادة لله تعالى

إقامة الشهادة لله تعالى فيجب أن تكون شهادتك لله سبحانه وتعالى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] والقسط يطلق على العدل، فمنه قول أبي طالب في لاميته: بميزان قسط لا يخيس شُعيرة له شاهد من نفسه غير عائل {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135] وقد روي بإسناد ضعيف (أن عبد الله بن رواحة ذهب إلى اليهود ليقضي فيهم، حيث كانت بينهم وبين رسول الله خصومة، فأرسل ابن رواحة ليحكم في القضية، فقال: يا معشر يهود! والله لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إليّ، والله يعلم إنكم أبغض خلق الله إليّ، ولكن لا يحملني حبي له وبغضي لكم على أن أقضي فيكم بغير الحق، قالوا: يا ابن رواحة بهذا قامت السماوات والأرض) فبالقسط وبالحق قامت السماوات والأرض. فهكذا ينبغي أن تكون الشهادات، أن لا تشهد إلا بالذي رأيته، ولا تشهد بما فهمت، أنت إذا وجدت واحداً يضرب واحداً تقول: رأيت فلاناً يضرب فلاناً، ولا تقول: ضربه لأنه فعل كذا وتشهد بناءً على ظنك وتأويلاتك، فهذا لا دخل لك فيه، اشهد فقط بما رأيت لا بما علمت؛ لأن الاستنباط في الشهادة إنما هو للقضاة، فدع الاستنباط لأهله، وما عليك إلا أن تشهد بالذي رأيت فقط، وأن تحكي الذي رأيت، وأن تقول الذي سمعت، والقضاء فيه قوم أذكياء يعرفون كيف الاستنباط. ومن قصص داود صلى الله عليه وسلم في هذا الباب مع سليمان، ورد عند ابن عساكر بأسانيد ينظر فيها: (أن في زمن داود عليه السلام كانت هناك امرأة حسناء، فجاء أربعة من الرجال كلهم من أشراف القوم، كل يراودها عن نفسها على انفراد، فرفضت الأربعة، فاتفقوا فيما بينهم أن يشهدوا عليها عند داود عليه الصلاة والسلام. فذهبوا إلى داود وقالوا: يا نبي الله! هذه المرأة مكنت من نفسها كلباً، أي: جعلت كلباً يزني بها، وشهدوا بذلك وأقسموا الأربعة، فحكم عليها بالرجم، فخرجت من عند داود عليه الصلاة والسلام. وكان سليمان جالساً، وسمع القضية والذي حدث فيها، فقال: انتظروا فذهب وأتى بأربعة شباب وأتى برجل آخر غير شاب ونصب قضية صورية يعني: حتى يذكر والده بالذي حدث، فالأربعة جاءوا وقالوا: إن هذا الرجل قتل كلباً لنا، والقضية أديرت مرة ثانية أمام داود عليه الصلاة والسلام؛ أدارها سليمان، والأربعة أقسموا بالله أنه قتل الكلب، قالوا: نعم نقسم بالله العظيم أنه قتل الكلب، فأخرجهم سليمان صلى الله عليه وسلم وأدخلهم أمام أبيه واحداً واحداً فسأل الأول: ما هو لون الكلب؟ قال الأول: أحمر، قال: انتظر هنا، دخل الثاني: ما هو لون الكلب؟ قال: أسود. فاختلفوا فتبين أنهم كاذبون؛ لأن كل واحد أتى بلون جديد للكلب، فانتبه داود صلى الله عليه وسلم، وعرف أن الذي حدث خطأ، وأنه كان ينبغي أن يتحرى في هذه المسألة وخاصة وفيها رجم، ويسأل كل واحد على انفراد، ورد الحكم عليهم مرة ثانية) . لكن هل يؤخذ بالتفريق بين الشهود دائماً؟ لا يؤخذ به دائماً؛ فقد وردت لطيفة من اللطائف يذكرها الإمام الشافعي رحمه الله يقول: شهدت أمي عند قاضٍ بمكة هي وامرأة أخرى على قضية، فالقاضي أحب أن يفرق بينهما ويسمع من كل واحدة كلامها مستقلاً، فقامت أم الإمام الشافعي وقالت: ليس لك ذلك، إن الله يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] تعني: هي تذكرني إذا نسيت. إذاً فالقاضي ليس له أن يفرق بين الشهود في كل المواطن.

المبادرة بالشهادة وخير الشهداء

المبادرة بالشهادة وخير الشهداء وهل يستحب للشخص أن يبادر ويشهد إذا رأى شيئاً، أو يستحب له أن يصمت ولا يشهد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسْأَلَها) وقال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام يشهدون ولا يستشهدون) أي يشهدون بدون أن تطلب منهم الشهادة، فهم قوم سوء؛ فكيف نجمع بين الحديث الأول والحديث الثاني؟ قوله عليه الصلاة والسلام: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) ، هذا في الشهادة التي بها تقام الحقوق، وستضيع الحقوق إذا لم تشهد، مثلاً: أنت رأيت شخصاً يقتل آخر، ثم انصرف القاتل، وأنت الشاهد، فأنت إذا سكت ضاع دم المسلم، لكن إذا جئت وقلت: يا ناس! إن فلاناً قتل فلاناً؛ تشهد على ذلك، فأنت بشهادتك حفظت الاثنين، فإن القاتل إما أن يقتل فيكون قتله كفارة له وإنجاءً له من عذاب الله سبحانه، لأن الحدود كفارات لأهلها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له) وتكون أيضاً قد حفظت لأخيك المقتول حقوقه. فقوله: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) يحمل على ما إذا كانت الحقوق ستضيع، وجبن الناس عن الإدلاء بالشهادة وما بقي إلا الشهادة التي ستقوم أنت بها، فحينئذٍ إذا تقدمت بالشهادة فأنت خير الشهداء إذا جبن الناس. أما حديث: (يشهدون ولا يستشهدون) فمحمول على القوم الذين يسرعون بالشهادة للمجاملات، ويسرعون بالشهادة طلباً لمتاع الحياة الدنيا، ويسرعون بالشهادة أيضاً ويكذبون فيها، فكل ذلك وارد، والله وتعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] لأهل العلم في ذلك أقوال: القول الأول: أن المراد بالذين آمنوا: الذين صدقوا محمداً عليه الصلاة والسلام، فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] أي: اثبتوا على إيمانكم وازدادوا إيماناً، فأفادت الآية على هذا القول من التأويل أن الإيمان يزيد، وقد قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة:124] . فـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] أي: طلب لزيادة الإيمان وللثابت على الإيمان. القول الثاني: أن المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب، أي: يا أيها الذين آمنتم بعيسى وبموسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. القول الثالث: أنها في أهل النفاق، أي: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ولما يدخل الإيمان إلى قلوبهم، بادروا وادخلوا الإيمان إلى قلوبكم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء:136] لكن سياق الآية يجعل الحمل على أهل الكتاب أولى، أي: فيا من آمنتم بعيسى، ويا من آمنتم بموسى آمنوا بالله وبرسوله محمد، وبالكتاب الذي نزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن سورة النساء نزلت في المدنية، والذين كانوا فيها يهود، وكان فيها أهل كتاب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] : الكتاب قد يأتي اسماً مفرداً وقد يأتي ويراد به الجنس، فقوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] : يعني والكتب التي نزلت من قبل. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136] أي: من يكفر برسول الله فقد كفر بعموم الرسل، ومن يكفر بملك فقد كفر بجميع الملائكة، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136] والضلال: الذهاب عن القصد، فمعنى ضل ضلالاً بعيدا: ذهب مذهباً بعيداً عن طريق الصواب. والله أعلم.

تفسير سورة النساء [138-146]

تفسير سورة النساء [138-146] كان الناس في بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم منقسمين الى قسمين: كفار أصليون، ومسلمون، ولم يعرف النفاق إلا في المدينة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، فظهر من هؤلاء من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ومن يرائي بصلاته وصيامه، وقد ذكرت هذه الآيات من سورة النساء أهم صفات المنافقين، والوعيد الذي ينتظرهم في يوم القيامة، إن لم يتوبوا ويرجعوا إلى الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما)

تفسير قوله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138-139] .

العزة لا تطلب إلا من الله سبحانه

العزة لا تطلب إلا من الله سبحانه قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:139] الهمزة للاستفهام تحمل معنى التعجب والإنكار والتوبيخ (أيبتغون عندهم العزة) وهذا الحاصل: فإن كثيراً من الناس ومن الحكام يوالون أهل الكفر من اليهود والنصارى، ويتقربون إليهم طلباً للتعزز بهم وللتحصن بهم. قال الله تعالى: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139] أي: من كان يطلب العزة فليطلبها من الله، وليطلبها بطاعة الله سبحانه وتعالى وامتثال أوامره، أما الكفار فليس عندهم إلا الذلة، قال سبحانه: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113] . فإذا ركنت إلى أهل الظلم والجور والكفر طلباً للعزة منهم فقد خاب ظنك وضل سعيك، فإن الله قال: (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) ، وقال تعالى: {تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] . فالآية محذرة لكل من سولت له نفسه أن يوالي الكفار ويطلب العزة من عندهم، فإنه إن فعل فقد عصى ربه، ومن عصى ربه استحق أن يذل، فتنعكس عليه الغاية وهو لا يشعر. {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139] أي: إن كنت تريد العزة لنفسك فاعلم أن العزة لله جميعاً، وقد قال الله سبحانه في الحديث القدسي: (العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قذفته ناري) لكن إن كانت العزة بمعنى التقوي بالله، وكان طلبها طلباً للتعزز على أهل الكفر والتقوي عليهم؛ فهذا باب آخر يجوز للشخص أن يطلبه، فإن الله تعالى قال: {تُُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] وذكر أنه سبحانه يعز من يشاء. أما العزة التي بمعنى الاستعظام في النفس والتكبر والتجبر على عموم الخلق، فهي مذمومة ولا تكون إلا لله سبحانه وتعالى. {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139] هي لله وهي من الله سبحانه وتعالى أيضاً.

موالاة الكفار وعلاقتها بالنفاق

موالاة الكفار وعلاقتها بالنفاق موالاة الكفار: هل هي من نفاق الاعتقاد، أم من نفاق العمل؟ الله يقول في هذه الآية الكريمة: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138] ، ثم ذكر الله سبحانه وتعالى خصالهم فقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:139] فهذا نفاق، لكن هل هو نفاق اعتقاد، أو نفاق عمل؟ هذا مبني على القصد من وراء تلك الموالاة، فإذا كان الشخص يوالي الكافرين حباً لدينهم، وتفضيلاً لدينهم على دين الإسلام، فهو منافق نفاق اعتقاد قال الله سبحانه في أهله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] ، أما إذا كان يوالي الكفار طلباً للدنيا وحباً لها، وطمعاً في مال أو في جاه أو في رئاسة، أو في أي غرض من أغراض الدنيا فهو نفاق عمل. وقد أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين بمكة خطاباً يخبرهم فيه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم يستعد لغزوهم، فلما أطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على الذي كان من حاطب بن أبي بلتعة قال عمر: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق؛ إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حاطب! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله! والله ما بي من كفر، ولا أعدل بالإسلام ديناً -أو كما قال- ولكني نظرت فإذا كل أصحابك يا رسول الله لهم بمكة من يدفع الله به عن أهلهم ومالهم، وكنت امرأً ملصقاً بالقرشيين، فأردت أن أتخذ عندهم يداً يدفع الله بها عن أهلي ومالي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت، ولا تقولوا له إلا خيراً) . وفي رواية أخرى: (وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم) . فإن كانت الموالاة طلباً لجاه أو لدنيا، فلا تخرج صاحبها من عداد المسلمين إلى عداد الكفار، وإن كانت هي في نفسها نفاقاً وحراماً وكبيرة من الكبائر؛ لكن كونها تُكفّر صاحبها وتخرجه من عداد المسلمين إلى عداد الكفار فيه نظر. فالحاصل: أن العبرة بالقصد من وراء موالاة أهل النفاق، فإن كان الشخص يواليهم حباً لدينهم فهو مثلهم، وإن كان الشخص يواليهم لدنيا فهو آثم لكنه ليس بكافر، والله أعلم. قد يقول قائل: إن قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} يفيد: أنهم كفار؟ فالإجابة على هذا الذي قد يرد: أنه إذا قلنا هنا إن المراد بالعذاب الأليم الخلود، فيراد بالمنافقين: منافقي الاعتقاد. أما إذا قلنا إن العذاب الأليم قد يلحق قوماً من أهل الإسلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء، قيل: بم يا رسول الله؟ قال: يكثرن الشكاة ويكفرن العشير) ، فكثرة الشكوى وكفران العشير أودى بالنساء إلى النيران، ومع ذلك لسن بكافرات، والمفلس كذلك يلقى في النار وليس بكافر، ثم بعد ذلك يخرج منها، بل وصاحب نبي الله صلى الله عليه وسلم وخادمه الذي كان يخدمه قتل ومات مع النبي في غزوة، فقال الصحابة: (هنيئاً له الجنة! قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشملة التي غلها يوم خيبر لم تصبها المغانم لتشتعل عليه ناراً) . الشاهد: أن المنافقين هنا إذا قلنا إنهم منافقو الاعتقاد فلا إشكال (فلهم عذاب أليم) أي: عذاب الخلود، وإذا قلنا: إن النفاق نفاق عمل فكل عذاب النار مؤلم وموجع، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل النار منزلة: من له شراكان من نار يغلى منهما دماغه) أي: نعلان من نار يغلي منهما دماغه.

تقييد البشارة بالخير وبالشر

تقييد البشارة بالخير وبالشر أما إذا قيدت البشارة فأحياناً تقيد بالخير وأحياناً تقيد بالشر، أما تقييدها بالخير فأكثر من أن يحصر، وأما تقييدها بالشر ففي هذه الآية الكريمة: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وحيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار) ، وهنا قيدت البشارة وأريد بها البشارة بالشر.

أنواع النفاق

أنواع النفاق {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138] ، والنفاق ينقسم إلى قسمين: نفاق عمل، ونفاق اعتقاد. فنفاق الاعتقاد: قال الله سبحانه وتعالى في أهله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] . ونفاق العمل: من صوره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدّث كذب، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا اؤتمن خان) أو قريباً من هذا اللفظ. فالشاهد: أن النفاق يكون على قسمين: نفاق عمل، ونفاق اعتقاد. نفاق الاعتقاد: أن يبطن الشخص الكفر في قلبه ويظهر الإسلام، وكانت هذه التسمية -تسيمة النفاق- على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم فيطلق عليها الزندقة التي هي: إبطان الكفر وإظهار الإسلام. ونفاق العمل قد ذكرنا بعض صوره.

الأصل أن تستعمل البشارة في الخير

الأصل أن تستعمل البشارة في الخير قوله تعالى: (بشر) : البشارة أكثر استعمالها في الخير، وإذا أطلق التبشير فهو محمول على التبشير بالخير، قال الله سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62-64] ، فالبشرى هنا أطلقت فهي محمولة على البشارة بالخير: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} فهي محمولة على البشارة بالخير، على اختلاف بين العلماء في معنى هذه البشارة: فمنهم من قال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد المؤمن أو ترى له. ومنهم من يقول: هي الثناء الحسن يسمعه الشخص المؤمن من الناس يثنون عليه به إلى غير ذلك؛ لكن على كلٍّ هي في الخير. فالبشارة إذا أطلقت ولم تقيد فهي محمولة في الغالب على الخير، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17-18] ، فهي بشارة أيضاً بالخير.

تفسير قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها.

تفسير قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا.) قال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء:140] . (نزل عليكم في الكتاب) : فُسر ذلك بالذي ورد في سورة الأنعام، فسورة الأنعام وإن كانت في ترتيب المصحف بعد سورة النساء إلا أن سورة النساء نزلت بعد الأنعام، وسورة النساء وإن كانت الثالثة في المصحف إلا أنها نزلت بعد الأنعام التي وردت بعدها بسورة. فترتيب المصحف الذي هو بين أيدينا ليس ترتيباً زمنياً، فأول ما نزل سورة العلق، ولكن الفاتحة وضعت أول شيء وهي مكية، ثم ثنيت وأتبعت بالبقرة وهي مدنية، فترتيب المصحف على النحو الذي هو عليه الآن ليس ترتيباً زمنياً. فالشاهد أن الله قال: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام:68] بعد أن تتذكر وبعد ما جاءك من هذه الموعظة {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] . فهذا تأويل قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب) كما حرره كثير من أهل التفسير.

التحذير من مجاورة ومجالسة أهل الظلم

التحذير من مجاورة ومجالسة أهل الظلم قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] : وهذا أصل في الكتاب العزيز وفي ديننا بصفة عامة، ألا وهو أن أهل الظلم ينبغي ألا يجاوروا ولا يساكنوا والأدلة على هذا متعددة، قال الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر) ، وقد (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج المخنثين من البيوت) . وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر قاتل التسعة والتسعين نفساً، ثم أتمهم بشخص فكان المجموع مائة، فذكر أن العالم أفتاه أن يترك أرضه أرض السوء. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنفي البكر من الزناة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني! خذوا عني! قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) فالشاهد: أن السنة في الزناة الأبكار أن يغربوا وينفوا من البلاد سنة. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب، فإن عادت فليبعها وولو بضفير) أي: بضفير شعر، وذلك ليتخلص منها. فهذه النصوص كلها تضع لنا أصلاً؛ وهو البعد عن مجالسة أهل الظلم، والحرص على مجالسة أهل الصلاح، فإن أهل الصلاح لا يشقى بهم جليسهم، وأهل الفساد قال الله سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] أي: لا تنزل بالمصيبة على الظالمين فحسب بل تعم. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، قالت عائشة: يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم يا رسول الله؟! قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة) الحديث. فكل هذه النصوص تؤصل لنا أصلاً قوياً وهو: أن الشخص ينبغي أن يحترز أشد الاحتراز من مجالسة أهل الظلم والفسق ولا يجلس معهم إلا بقدر، ويؤيد هذا الباب أيضاً بقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] ويتأيد هذا الأصل أيضاً بما ورد من أنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فقالت امرأة لناقتها: شأ لعنك الله -أي: امشي لعنك الله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصحبنا ناقة ملعونة) ورد النبي صلى الله عليه وسلم الناقة، وأيضاً في هذا الباب من الطرف ما يكاد يكون خفياً كقول الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام موصياً ولده إسماعيل (غير عتبة بابك) . فكل هذه النصوص تدل على أصل ثابت في شريعتنا، وهو أن الشخص لا ينبغي أن يوالي الكفار وأهل الظلم، فإنه يلحقه من موالاتهم ومجالستهم نار وعذاب، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك فهذه الضرورة تقدر بقدرها، وإذا انتهت فلا معنى للجلوس، قال الله جل ذكره: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] ، وإذا لم تفعلوا وتتركوا المجلس: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140] عياذاً بالله. فالآية تصور الواقع الذي نعيشه: أقوام يلتمسون من الكفار العزة، ويطيرون إليهم، ويستبشرون بمقابلتهم، فرب العزة يقول: {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140] .

تفسير قوله تعالى: (الذين يتربصون بكم.

تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.) قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء:141] فأهل الكفر يتربصون بأهل الإيمان، وأهل النفاق يتربصون بأهل الإيمان، والتربص معناه هنا: انتظار الشر، أما التربص بمعنى الانتظار ففي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وهنا المراد بالتربص: انتظار الشر. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء:141] أي: ينتظرون نزول الشر وحلول البلايا والنقم بكم. {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [النساء:141] وهذا يشجع على القول بأن المراد بالتربص هنا أيضاً عام، (يتربصون) أي: ينتظرون مآل أمركم، (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ) أي: نصر وقضاء قضاه الله لكم كما في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] أي: اقض بيننا وبين قومنا بالحق، وقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ} [سبأ:26] أي: يقضي بيننا بالحق. فالفتح هنا: إما أن يتنزل على معنى النصر، فيكون المعنى: (فإن كان لكم نصر من الله) ، وإما أن يتنزل على معنى القضاء فيكون المعنى: (فإن كان لكم قضاء من الله بالنصر لكم قالوا ألم نكن معكم) ، يأتي أهل النفاق مهرولين قائلين لكم إذا انتصرتم وإذا قضى الله لكم بالنصر: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) فنحن شهدنا بألسنتنا أن لا إله إلا الله معكم يا أهل الإيمان، وصلينا وصمنا معكم، وشهدنا جنائزكم، وعدنا مرضاكم، وخرجنا معكم. قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون من شر الناس ذا الوجهين: الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه) فهذا شأن المنافق: يذهب إلى أهل الإيمان بوجه، ويذهب إلى أهل الكفر بوجه.

معنى السبيل في قوله: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)

معنى السبيل في قوله: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:141] : وسيخيب ظن أهل النفاق، فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، قد يقول قائل: إن هناك الآن في الظاهر سبيلاً للكفار على المؤمنين، بل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الهزائم التي لحقت أهل الإيمان، وقد انتصر أهل الكفر على أهل الإيمان يوم أحد، ويوم حنين ولى المؤمنون الأدبار إلا القليل، وإنما كانت الغلبة لهم من بعد، فكيف يقال: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً؟ ولقائل أن يقول: إن الآية مقيدة بمعنى: إذا كان أهل الإيمان مستمسكين بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومهم، فلن يجعل الله للكافرين عليهم سبيلاً. وهنا يأتي القول بأن ما أصاب أصحاب النبي يوم أحد كان ببعض تفريطهم وكسبهم، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران:166-167] ، وقد قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152] وكان فريق قد خرج إنما يريد الدنيا فنزلت العقوبة لذلك. فإما أن يقال: إن السبيل المنفي عن عموم المؤمنين مقيد بما إذا استمسك عمومهم بكتاب الله وسنة رسول الله، فأما إذا تركوا ثغرة من جراء معصيتهم فإن أهل الكفر يدخلون من هذه الثغرة ومن هذه المعصية فيتسلطون عليهم بعض التسلط. أو يقال: إن السبيل المنح سبيل الحجة، فسبيل الحجة لا يقيمه كافر على مسلم مؤمن، فيكون السبيل المنفي هو: التسلط على قلوب أهل الإيمان لردها إلى الكفر، فقد قتل من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام قوم كثيرون، ومع ذلك لا يقال: إن الكفار وجدوا سبيلاً عليهم، فلما مات أهل الإيمان على إيمانهم لم يجد أهل الكفر لأنفسهم تسلطاً على قلوبهم ولا حجة لتشكيكهم فيه. وهناك جملة أوجه متعددة للإجابة على هذا السؤال مذكورة في مظانها وستأتي إن شاء الله قريباً.

تفسير قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله.

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ... ) الآيات قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [النساء:142] أي: يظنون أنهم يخادعون الله وأهل الإيمان، ولكن الله عز وجل خادعهم. وأصل المخدع: المكان الذي يختفى فيه أكثر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في بيتها، وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في حجرتها) أي: كلما ضاق عليها المكان وابتعدت عن الأنظار كان أفضل. فالشاهد: أنهم يظنون أنهم يخفون أمرهم عن الله عز وجل.

قلة ذكر الله من صفات المنافقين

قلة ذكر الله من صفات المنافقين قال تعالى: {يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142] بصلاتهم وقيامهم؛ أي: يظهرون للناس أنهم أهل صلاة {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] فمن سمت المؤمن كثرة ذكره لله سبحانه وتعالى، لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل، أما أهل النفاق فلا يذكرون الله إلا قليلاً. وقد استدل الإمام علي رضي الله عنه على أن الخوارج ليسوا منافقين فيما روي عنه بإسناد يُنظر فيه أنه لما سئل عن الخوارج: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله صباح مساء، قيل: من هم إذن؟ قال: هم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدهم في نصله فلا يوجد فيه شيء، وفي نضيه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم) . يعني: السهم السريع، أو الرصاصة على مثال أدق، فإنها إذا أطلقت تخرق الجسم أحياناً وتخرج من الناحية الأخرى، تنظر فيها من سرعتها هل أصابها دم! فتجد أن الدم لم يلتصق بها، تنظر هل أصابها فرث من جوف المضروب أو أي شيء! فلا تجد فيها أي أثر من سرعتها. فهؤلاء الخوارج يدخلون في الدين ويخرجون منه وهذه حالهم باستمرار، دخول وخروج! دخول وخروج! كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

التذبذب بين الإيمان والكفر نفاق

التذبذب بين الإيمان والكفر نفاق قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء:143] أي: بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وبين الإيمان والكفر. والذبذبة: هي الحركة اليسيرة عن اليمين والشمال، أو إلى فوق وإلى أسفل، أي: احتاروا في أمرهم، ماذا يصنعون؟ فهم يشهدون أن لا إله إلا الله عن كره خوفاً من السيف، وقلوبهم مع الكفار. {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] فواجب على المسلم أن يكون حازماً في أمره غير متردد وغير شاك في أموره، فإن التردد والتشكك من شأن أهل النفاق ومن شأن ضعفة الإيمان، ولكن كما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159] أي: المؤمنين، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] (اعقلها وتوكل) ولا تتردد ولا تتحير ولا تتذبذب، فأهل النفاق مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والمنافق متحير، لأن همته الدنيا يريد أن يحافظ عليها بأي حال وعلى أي وجه. قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [النساء:143] أي: ومن يصرفه عن طريق وسبيل الحق، فالضلال: الذهاب والبعد عن القصد، يقال: ضل الشخص عن الطريق، إذا ذهب عنه وابتعد. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ) أي: من يصرفه الله عن طريق الهداية والحق، ((فلن تجد له سبيلاً)) طريقاً يصل به إلى الحق والهداية، هذا هو المعنى، أي: أن للحق طريقاً وسبيلاً، هذا الطريق هو طريق الحق، من أضله الله عنه فلن تجد له سبيلاً يدخل منه إلى هذا الطريق. وقد أفادت الآية رداً على القدرية الذين يقولون: بأن الإنسان مخير يفعل ما يريد، وما الرب عندهم إلا كالطبيب الناصح، قالوا: إن الإنسان يختار لنفسه ما يشاء من طريق الهداية أو طريق الغواية. أما أهل السنة فأثبتوا للعبد اختياراً، لكن هذا الاختيار خاضع لمشيئة الله سبحانه وتعالى، فلا يجري شيء في الكون عن غير رضا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يضل من يشاء، وهو الذي يهدي من يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143] .

التكاسل في القيام إلى الصلاة من علامات النفاق

التكاسل في القيام إلى الصلاة من علامات النفاق وقوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] فيه رد قوي على المرجئة؛ لأن المرجئة يقولون: إن (لا إله إلا الله) تكفي بلا عمل، فهؤلاء أهل النفاق لم يكونوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فحسب، بل كانوا يصلون، لكنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى. فإذا كان أهل النفاق يعذبون وهم يصلون فتارك الصلاة كذلك، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] ، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] ، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38-43] كل هذه النصوص تتنزل على تارك الصلاة. قال الله سبحانه: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] : من المقرر أن المسلم عليه أن يخالف أهل الشرك والنفاق في سمته وهديه ودله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على مخالفة أهل الشرك، وكان يجعل للإسلام سمتاً وهدياً ودلاً ومنطقاً خاصاً به، إذا كان ذلك كذلك فلا ينبغي لك إذا سمعت المؤذن أن تقوم كسلاً، فإن الكسل عند القيام للصلاة من صفات أهل النفاق. وفي صحيح مسلم أن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم -وفي رواية: في صلاة الفجر- إذا سمع المؤذن وثب إلى الصلاة) يقول الراوي: ولا والله ما قالت أم المؤمنين قام إلى الصلاة، ولكن قالت: (وثب إلى الصلاة) ، فالقيام إلى الصلاة قيام الكسلان هو قيام المنافقين، ونحن مأمورون بترك التشبه بكل من هو بعيد عن طريق الله من الكفار واليهود والنصارى وأهل النفاق، بل منهيون عن التشبه بالأعراب كذلك.

المراد بخدعة الله تعالى للمنافقين

المراد بخدعة الله تعالى للمنافقين قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] خدعتهم لأولياء الله: أنهم يشهدون بألسنتهم أن لا إله إلا الله ويخفون الكفر في قلوبهم، فيظنون أنهم يخادعون أهل الإيمان، ويظنون أنهم يخادعون الله. وخدعة الله لهم كما ذكرها كثير من أهل التفسير: أن الخدعة هي التي ذكرت في سورة الحديد، قال الله سبحانه وتعالى فيها: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] حيث يوزع النور على أهل الإيمان كل بحسبه، وعلى كل من شهد أن لا إله إلا الله على قول، فيمشي المؤمنون ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأمامهم وخلفهم، فيأتي نور أهل النفاق فيُطفأ، ويقول أهل الإيمان: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] فيبقى نور أهل الإيمان، فيمشي أهل الإيمان وراء نورهم الذي يسعى من بين أيديهم ومن خلفهم. فأهل النفاق ينادون أهل الإيمان: يا أهل الإيمان! أمهلونا، وانظرونا نقتبس من نوركم، انظرونا أي: انتظرونا نمشي وراءكم نستضيء بنوركم في هذه الظلمات -يوم القيامة- {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] وحتى تبرأ ساحة أهل الإيمان من الكذب لم يقل: قال أهل الإيمان ارجعوا وراءكم، بل قال: (قيل ارجعوا وراءكم) (قيل) والله أعلم من القائل! {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] أي: ارجعوا إلى مكان النور الذي كان يقسم فيه فالتمسوا نوراً، فيهرول أهل النفاق إلى حيث كان النور يقسم، فلا يجدون نوراً، فيأتون كرة أخرى إلى أهل الإيمان كي يلحقوهم، فيضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. فهذه هي خدعة الله التي يخدعهم بها، فيضرب بينهم بسور له باب: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد:13] أهل الإيمان بما هم فيه من نعيم وبما معهم من نور، {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] فينادونهم من خلف هذا السور {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:14] كما في هذه الآية {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء:141] ، {وَارْتَبْتُمْ} [الحديد:14] أي: شككتم في بعث الله {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:14] الآيات قال الله سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] فهذه هي الخدعة التي يُخدع بها أهل النفاق يوم القيامة كما أطلق ذلك كثير من أهل التفسير وتواردوا عليه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ.) ثم جاء التحذير مرة ثانية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:144] أي: يا من شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: {لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] . فيا عبد الله! لا تتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فإنك إن فعلت جعلت لله منفذاً يدخل عليك منه لتعذيبك، وجعلت هناك تسلطاً يُتسلط به عليك لمخالفتك أمر الله عز وجل. وهذا واضح، قال الله سبحانه: (أَتُرِيدُونَ) أي: بمصادقتكم وموالاتكم للكفار (أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) يعني: طريقاً لتعذيبكم؛ لأنك إذا كنت مستقيماً على شرع الله وعلى أمره فلن يعذبك الله! فإذا كنت مطيعاً لله فلماذا تعذب؟! الله يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147] أي: ماذا يستفيد الله من تعذيبكم؟ لكن إذا بدأت في المعصية فالمعصية سبب لنزول العذاب عليك. فالآية فيها أنكم إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين جعلتم لله عليكم سلطاناً مبيناً. وإن أردت أن تفسرها أو تنزلها كما تنزل أمور الدنيا فإنك تقول: جعلت لشخص حجة عليك كي يعذبك، فمثلاً: إذا قال لك شخص: لا تفعل كذا، فإن فعلته فستضرب. فأنت لم تفعل لم يكن له سلطان عليك لماذا يضربك؟ لكن إن فعلت جعلت له عليك سبباً بسببه يتسلط عليك، ورب العزة له المثل الأعلى. وتكررت الآية علّ معتبراً يعتبر أو متعظاً يتعظ! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] .

تفسير قوله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] وهم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين معتقدين سلامة منهجهم ودينهم. فأفادت الآية الكريمة أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- دركات، وأن أهل النفاق في الدرك الأسفل من النار. {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] أي: لن تجد لهم من ينصرهم ويغيثهم وينقذهم منها. ومما يؤيد أن النار دركات قول الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ويؤيده أيضاً قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] . ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى -أو أهون- أهل النار عذاباً الحديث) فمفهوم المخالفة يفيد أن هناك أنواعاً من العذاب، وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] وهذا واضح جلي. {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] ينصرهم.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله.

تفسير قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بالله.) قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء:146] والآيات إذا ذكرت عملاً من الأعمال وأنه خطأ، فمن رحمة الله أنه يفتح باب التوبة للتائبين بعد هذا الخطأ، قال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:39] ، {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:4-5] ، ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5] . فهنا فُتح باب التوبة لمن والى الكفار يوماً من دهره ويوماً من زمانه، ثم أراد أن يتوب، فقال سبحانه وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:146] فالآية الكريمة أفادت أنه لا يقبل من كل تائب أن يقول: أستغفر الله؛ فحسب، أعني: كلمة (أستغفر الله) ، أو: اللهم اعف عني وتب عليَّ، والإقلاع عن الذنب قد يكون كافياً في بعض الأحيان لكن في أحيان أخر لا بد من أشياء أخر مع الاستغفار. مثلاً: شخص عالم سئل سؤالاً وهو يعرف وجه الإجابة الصحيحة فيه، فقال إجابة غير التي يدين الله بها، فغلط عن عمد، وسار الناس على طريقه، فهذا لا يكفيه أن يقول: أستغفر الله، فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:150-160] فعليه أن يبين للناس الشيء الذي غشهم فيه إن كان يستطيع، أما إذا لم يكن بوسعك فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فموالاة الكفار تستلزم التوبة منها {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [النساء:146] فإن كنت أفسدت شيئاً بموالاتك للكفار فعليك أن تصلحه. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146] أي: وهذه من خصال المؤمنين {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146] أي: لا تحزن يا من فاتك شيء من موالاة الكفار، فإنك قد دخلت في عداد المؤمنين، والله لن يضيع المؤمنين فسوف يؤتيك الله عز وجل أجراً عظيماً. فالآية الكريمة لما ختمت بقوله تعالى: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146] كانت بمثابة التسلية والتعزية لمن فقد شيئاً من جراء مناهضة الكفار وترك سبيلهم، فلما فقد الشخص شيئاً من متاع الحياة الدنيا عندما ترك موالاة الكفار، فرب العزة يبشره بأن عنده العوض، فكأنه يقول: يا من فعلت ذلك قد دخلت في عداد المؤمنين، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً، وهذا ونحوه من باب التسلية لمن ترك سبيل الكفر ودخل إلى سبيل الإيمان. والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة النساء [148-156]

تفسير سورة النساء [148-156] الجهر بالسوء يكون على قدر المظلمة التي ظلم بها العبد، وهذا هو العدل، ولكن الإحسان هو العفو والكتم، وقد تحدثت هذه الآيات البينات عن واقع بني إسرائيل مع أنبيائهم، وأنهم قتلوا الأنبياء، ونقضوا المواثيق والعهود، فلعنوا وضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا.

تفسير قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول.

تفسير قوله تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ.) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148] . هذه الآية فيها بيان أن الأصل في السوء من القول أنه لا يتحدث به، فالقول السيئ الذي يسيء إلى عباد الله، والذي ينشر المنكر والفاحشة فيهم، والذي يكون سبباً للطعن فيهم؛ كله حرام ولا يجوز، ولا يحبه الله سبحانه وتعالى.

إثبات صفة الحب لله تعالى

إثبات صفة الحب لله تعالى في الآية إثبات صفة الحب لله، فالله سبحانه وتعالى يحب، والله سبحانه وتعالى يبغض، فصفة الحب والبغض ثابتتان لله عز وجل، لكن على قاعدة أهل السنة والجماعة أنه حب يليق بجلاله سبحانه، وكذلك بالنسبة للبغض. والحب والبغض ثابتان في حديث البخاري ومسلم: (أن الله عز وجل نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، -وفي الحديث: وإذا أبغض عبداً قال: إني أبغض فلاناً فأبغضه) .

الستر على العباد مطلب شرعي

الستر على العباد مطلب شرعي قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:148] فكل ما كان سيئاً من القول فالجهر به لا يحبه الله، وهذه الآية تبين لنا أن صفحة الحوادث التي تفرزها الصحف مخطئة شرعاً، وينبغي أن تحذف من صحف المسلمين؛ لأن هذا فيه نشر للرذيلة بين العباد، فإذا أذنب شخص ذنباً أو ارتكب كبيرة، كأن قتل نفساً بغير حق، أو زنا أو سرق، فباب التوبة مفتوح للعبد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) . فإذا تاب هذا المذنب وكانت الصحف قد شوهت صورته على صفحاتها، وأحب أن يرجع إلى الله، فإنه يجد الصحف وصمة عار عليه، حيث إنها قد سجلت اسمه ونشرت خبره على رءوس الأشهاد، وصفحات الحوادث والاهتمام بها شيء محدث دخيل في الدين، إذا نشر للعام والخاص يقرءونه، فالله لا يحب نشر الرذيلة؛ لأن فيها سوءاً من القول، وفيها تشهيراً بالعباد، وتجريحاً لهم، فحتى أهل التقى تصدر منهم معاصٍ وكبائر، ولكن الستر مطلب شرعي حث عليه رب العزة في كتابه وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته.

حدود المجاهرة بالسوء

حدود المجاهرة بالسوء قال تعالى: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) : فمن ظلم جاز له أن يجهر بقدر مظلمته ولا يزيد، فيجوز له أن يقول: فلان ظلمني، أو أكل مالي، أو انتهك عرضي وذلك بقدر المظلمة، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد ظلم، يحل عرضه وعقوبته) ؛ لأن الذي عليه الدين وهو يماطل في أدائه، فإنه يجوز لصاحب المال أن يتكلم فيه، ويقول: فلان أكل مالي، أو ماطلني، أو أخلف معي الميعاد وهكذا. قال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا) أي: بالقول الذي قال (عَلِيمًا) أي: بالذي ظُلم من الذي لم يُظلم.

تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا خيرا أو تخفوه.

تفسير قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ.) قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء:149] ، وختام الآية بقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} : فيه إرشاد إلى العفو، وإلى سلوك سبيل العفو، فختم الآية ببعض الأسماء الحسنى لله سبحانه وتعالى له مدلول. وختمها بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) أي: اعفوا أيها الناس فإن الله عفو، فلله صفات يحب أن تكون في عباده، وصفات لا يحب أن تكون إلا له وحده سبحانه وتعالى، ومن الصفات التي يجب الله أن تكون في عباده أنه: كريم يحب الكرم، رحيم يحب من عباده الرحماء، عفو يحب من عباده العافين عن الناس. ومن الصفات التي لا يحبعل لهم أنه: جبار لا يحب لعباده أن يكونوا جبارين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته) . ومن صفات الله التي يحب أن تكون في العباد، أنه جميل يحب من عباده التجمل: (إن الله جميل يحب الجمال) وهكذا. فصفة العفو يحبها سبحانه وتعالى في العباد، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة، قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) . فعلى هذا فمعنى هذه الآية: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] : أنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول إن ظلم، وإن عفا فهو خير له؛ لأن الله عفو، فالآية أرشدت إلى معنى متكرر في عدة آيات نسوق منها ما تيسر، وكلها تدور على تأصيل القاعدة الكامنة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل:90] . العدل: هو أن تنتصر بقدر مظلمتك. والإحسان: أن تعفو. وهناك أقوال أخرى في تفسير العدل والإحسان، لكن في هذا الموضع العدل: هو الانتصار بقدر المظلمة، والإحسان: العفو، أي: إذا ضربك شخص فالعدل أن تضربه كما ضربك، والإحسان أن تعفو عنه، وإذا تكلم شخص في عرضك جاز لك أن تتكلم في عرضه بالقدر الذي تكلم به فيك، والعفو أفضل، ومن أدلة ذلك: - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل:90] ففيه إرشاد إلى الإحسان. - ومنها قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] عدل، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] إحسان. - ومنها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:60] عدل، {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} [الحج:60] الشاهد هو العفو {غَفُورٌ} [الحج:60] فهو إحسان. - ومنها قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] كله عدل، {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] إرشاد إلى التصدق والعفو، فهو إحسان. فهذا المعنى ثابت في عدة آيات، فإن الله يأمر بالعدل، وبعد أن يأمر بالعدل يرشد إلى الإحسان، فإن تكلم في عرضك فالأفضل لك والأكمل أن تترك الكلام في عرضه فهو خير لك، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى ما حاصله: إن الله عز وجل قال: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] ، فإذا شتمك أحد أو سبك فشتمته وسببته بقدر ما سبك به وشتمك به، ثم اعتدى عليك بعد ذلك، فالله وعد أنه سينصرك، قال: فمن باب أولى الذي ترك حقه كله لله. أي: إذا كنت قد انتصرت فسينصرك الله، وإذا تركت حقك كله لله فأنت تستحق مزيداً من نصر الله عز وجل لك، فالآية وإن رخصت للمظلوم أن ينتصر بقدر مظلمته لكنها أرشدت إلى العفو، فهو خير وأفضل. قال الله سبحانه: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:148] ، قال بعض المفسرين: كنت في بلدة إذا سمعنا عن شارب للخمر استنكرناه جميعاً في القرية، وإذا سمعنا عن قاتل ضربته كل القرية، فلما انتقلنا إلى بلاد يباع فيها الخمر في الطرقات قلّت كراهيتي لصاحب الخمر شيئاً فشيئاً حتى تكاد تتلاشى؛ لكثرة شيوع شرب الخمر. فكذلك الكلام على الحوادث في صفحات الصحف ومجلة الحوادث برمتها، إذا قرأت فيها اليوم عن رجل زنى، فيأخذك الغضب وتأخذك الغيرة؛ لأن هذا زنا، فإذا استمرت هذه الصفحة على هذه الوتيرة شهراً كاملاً، كل يوم فلان زنى، قلّت كراهيتك للزاني، وأصبح الخبر عادياً، فيعمد الشياطين إلى الانتقال إلى شيء آخر، وهو: فلان زنا بمحرم من محارمه، فتستبشع الحادثة لأول وهلة، فيضربون على هذا الوتر شهوراً وسنوات إلى أن تصبح شيئاً عادياً عندك، فيأتون بطامة أكبر: فلان زنى في الطريق أمام الناس، فتستبشع ذلك أولاً ثم بعد ذلك يهون، فهكذا تروج هذه الصحف الفواحش والعياذ بالله. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} [النساء:149] أي: عنكم إذا عفوتم، {قَدِيرًا} [النساء:149] أي: على الانتصار ممن ظلمكم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله.

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150] . (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) تقدم الكلام على معنى الكفر، ومن معانيه: التغطية. ومنه قول الشاعر: (في ليلة كفر الغمام نجومها) ، أي: غطى الغمام نجومها. وقوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] أي: الذين يضعون البذر في الأرض ويغطون عليها، فسموا كفاراً؛ لتغطيتهم البذرة في الأرض. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء:150] أي: كاليهود والنصارى، فاليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150-151] : فمن كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل، ولما قالت اليهود عن جبريل عليه السلام: إنه عدو اليهود من الملائكة، أنزل الله سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97-98] ، فالذي يكفر برسول واحد فقد كفر بجميع الرسل وكفر بالله، والذي يكفر بملك واحد فقد كفر بجميع الرسل وكفر بجميع الملائكة وكفر بالله. ومن ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] مع أنهم كذبوا هوداً فقط في زمانهم، وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] مع أنهم كذبوا نوحاً فقط، وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] ، وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} [القمر:33] ، إلى غير ذلك من الآيات. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150] أي: طريقاً، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:151-152] أي: صدقوا المرسلين، {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:152] . أي: وسيغفر لهم ذنوبهم وسيرحمهم. فيؤتيهم أجورهم، أي: يثيبهم على ما صنعوا من خير، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) أي: سيغفر لهم ما ارتكبوه من سيئات وسيرحمهم، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) .

تفسير قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب.

تفسير قوله تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ.) قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [النساء:153] أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وفي مقابلهم العرب فإنهم أميون. قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [النساء:153] ويطلق عليهم أيضاً أهل الذكر، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أي: اسألوا أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون.

معاني السلطان في القرآن الكريم

معاني السلطان في القرآن الكريم قال الله سبحانه وتعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:153] : السلطان يطلق أحياناً على الملك، وأحياناً يطلق على الحجة، وقد تقدم شيء من ذلك في تفسير قوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] . فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وذو سلطان مقسط متصدق) ، فالسلطان هنا يقصد به الملك، لكن قوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] ، وقوله تعالى: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} [يوسف:40] ، المقصود به الحجة، والله أعلم.

عفو الله عن بني إسرائيل حين تابوا

عفو الله عن بني إسرائيل حين تابوا يقول الله سبحانه وتعالى: {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} [النساء:153] ، أي: عفونا عن قولهم: (أرنا الله جهرة) ، وعفونا عن اتخاذهم العجل من بعد ما جاءتهم البينات بعد توبتهم. وقد يقول قائل: إن هذه الآية فيها نوع إشكال، وهو: أن الله عز وجل عفا عن عبادتهم العجل وهو شرك، فهل الشرك يغفر، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ؟ والإجابة على هذا التساؤل: أن الشرك يغفر إذا تاب منه صاحبه في الدنيا، أما إذا مات مشركاً فلا يغفر هذا الشرك، فإذا أشرك العبد بالله ثم تاب من هذا الشرك تاب الله عليه، فبعض أصحاب رسولنا عليه الصلاة والسلام كانوا مشركين، فلما أسلموا تاب الله عليهم، فكذلك بنو إسرائيل عبدوا العجل، ثم لما أمرهم الله بصورة من صور التوبة وهو قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] ، كان الرجل يمر بأخيه فيقتله، ويمر بولده ويقتله، ويمر بأبيه فيقتله، حتى حصلت فيهم مجزرة عظيمة، فتاب الله عليهم، وتوقف سفك الدماء فيما بينهم، {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54] . فقوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:52] أي: بعد توبتكم منه، وإلا فإن الشرك لا يغفر، والآيات الدالة على ذلك كثيرة.

من جرائم بني إسرائيل

من جرائم بني إسرائيل قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [النساء:153] : وهذه من جرائم بني إسرائيل، أنهم يطلبون رؤية الله عز وجل جهرة، ويعبدون العجل: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [النساء:153] أي: من بعد ما أغرق الله عدوهم، واستخلفهم في الأرض، وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها التي بارك الله فيها، وورثوا أموال الفراعنة، ومع ذلك كله مع أن نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام كان بينهم؛ لكنهم عبدوا العجل، وقال قائلهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] . يقول لهم قائلهم السامري: إن موسى ذهب يكلم ربه ثم نسي مكان ربه، فها هو ربه قد جاءكم هاهنا وهو العجل، فعبدوه، وكادوا يقتلون هارون عندما نصحهم وذكرهم، قال هارون لموسى: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150] . فجرائم اليهود متوالية، ليس الآن فحسب، بل في زمن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، اتخذوا العجل إلهاً بعد مجاوزتهم للبحر كما قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:138] فبمجرد ما جاوز بهم موسى عليه الصلاة والسلام البحر وأغرق الله عدوهم لكنهم كما قال الله: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] فطلبوا الشرك والكفر والعياذ بالله.

رؤية الله تعالى في الدنيا

رؤية الله تعالى في الدنيا قال الله سبحانه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء:153] ، ما هو سؤالهم الأكبر من ذلك؟ قال الله تعالى: {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] ، وهذا في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] أي: عياناً. قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] ، ورؤية الله عز وجل في الدنيا جهرة مستحيلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد أنذر قومه المسيح الدجال، ألا إني أنذركموه، إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) . ولقد سأل موسى الكليم عليه الصلاة والسلام ربه الرؤية، فقال الله عز وجل: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] فرؤية الله عز وجل في الدنيا مستحيلة. قال تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] أي: عياناً، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] وهذا فيه دليل على أن السؤال أحياناً يكون فيه ظلم وإثم، مثل سؤال الكفار: (أرنا الله جهرة) فإنه اعتبر ظلماً، وقال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] ، فكان ظلمهم هو طلبهم رؤية الله جهرة. لكن قد يقول قائل وقوله حسن: إن الآيات يبين بعضها معنى بعض، فالظلم هو تعليق الإيمان على رؤية الله تعالى في الدنيا. ولقائل آخر أن يقول: إن مجرد السؤال على هذا النحو ظلم؛ لآية النساء التي بين أيدينا: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] . لكن آية البقرة بينت أن الله عفا عنهم بعد ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56] .

الحث على التأسي بالسابقين الصالحين

الحث على التأسي بالسابقين الصالحين قال الله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء:153] أي: فلا تستغرب ولا تتعجب من سؤالهم، فإنهم قد سألوا موسى أكبر من سؤالهم لك. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى العلة من عدم إنزال الكتاب من السماء، فقال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7] أي: حتى لو نزَّل لهم كتاباً من السماء، (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي: أمسكوا به بأيديهم، (لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، فالآيات لا تنفع من ختم الله على قلبه. قال الله عز وجل: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء:153] وموسى عليه الصلاة والسلام قد سئل مسائل عظيمة، ولما أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) عليه الصلاة والسلام. فقوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء:153] فيه تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، وليس من التسلية المعلومة عند الناس، بل التسلية بمعنى المواساة، كما قالت الخنساء في بيت شعري لها مشهور: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي يعني: أنها تتأسى أو تتسلى بهم وببكائهم على أخيها الفقيد. فهذا الاشتراك في المصيبة يهونها في الدنيا، أما في الآخرة فلا، قال سبحانه: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] . فجاءت جملة آيات في كتاب الله تحث على التأسي بالسابقين، وتواسي الأنبياء وأهل الصلاح وتسليهم، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] أي: اصبر كما صبروا يا محمد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم معلماً أصحابه لما جاء بعضهم يشكو إليه ما حلّ بهم: (ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا يا رسول الله؟! فقال: إنه قد كان من قبلكم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فيشقه نصفين، ولا يصده ذلك عن دينه) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة: (يا بنية! إنه قد حلّ بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً) .

تفسير قوله تعالى: (ورفعنا فوقهم الطور.

تفسير قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ.) قال تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} [النساء:154] الطور: هو جبل الطور. وقال بعض العلماء: الطور هو الجبل الذي ينبت عليه نبات أخضر. ومن العلماء من قال: إنه طور سينا. وهناك أقوال أخرى.

أخذ الميثاق على بني إسرائيل

أخذ الميثاق على بني إسرائيل قال تعالى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:154] : أعطوا العهود والمواثيق على ألسنة أنبيائهم، وأعطوا العهود والمواثيق للأنبياء؛ لأن بني إسرائيل خاصة كانت تسوسهم أنبياؤهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، كلما هلك نبي جاء نبي آخر، ومن ثم قال زكريا عليه السلام عندما لم يبعث في بني إسرائيل بعده نبي: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم:5] أي: خفت الموالي أن لا يقيموا دينك يا رب. (خفت الموالي) : أولاد عمي وأقاربي أن لا يقيموا دينك، {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5-6] ، فكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، فأعطوا العهود والمواثيق للأنبياء: على أن لا يعتدوا في السبت. فعلى المسلمين أن يعتبروا ويتعظوا، فإذا جاء اليهودي إلى مصر وأعطى لرئيس مصر عهوداً ومواثيق، فجدير برئيس مصر أن يعلم أن هذه العهود والمواثيق لا قيمة لها عند اليهود أبداً، فإنهم قد غدروا بالأنبياء!

اعتداء بني إسرائيل يوم السبت

اعتداء بني إسرائيل يوم السبت قال تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} [النساء:154] أي: بسبب نقضهم الميثاق، {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت} [النساء:154] ، فاعتدوا في السبت. والسبت معناه الراحة والسكون، ومنه قولهم: في سبات عميق، فالسبت من معانيه الراحة، وكان محرماً على الإسرائيليين العمل يوم السبت، كما في قول الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت} [الأعراف:163] ، وكما هنا: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء:154] . وقال تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، فكان الاعتداء في السبت هو اصطياد السمك والحيتان يوم السبت. {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت} [النساء:154] ، فإن قال قائل: لماذا نهاهم الله سبحانه وتعالى عن الاعتداء في السبت؟ فالإجابة: أن الله عز وجل يكلف بما يشاء من التكاليف اختباراً للعباد، وأحياناً يختبرهم ويبتليهم لفسقهم، كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] ، فرب العزة سبحانه وتعالى يبتليهم لفسقهم، ويكلفهم بتكاليف ابتلاء لهم. قال الله لهم: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْت} [النساء:154] أي: لا تعتدوا ولا تقربوا الأعمال يوم السبت، فأقروا بذلك، فأراد الله أن يبتليهم بفسقهم، فأرسل إليهم الحيتان يوم السبت شرعاً، أي: ظاهرة على وجه الماء، قال تعالى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] فاعتدت طائفة منهم.

كيف رفع الطور فوق بني إسرائيل?

كيف رفع الطور فوق بني إسرائيل? قال تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} [النساء:154] ، كيف رفع الطور؟ ارتفع الجبل من على الأرض وتعلق في السماء وهدد به الإسرائيليون أن يسقط عليهم، فلما رأوا ذلك خروا سجداً، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف:171] . فالجبل نُتِقَ فوقهم، كأنه مظلل فوقهم، وهددوا أن يسقط عليهم، فمن أهل العلم من قال: خر الإسرائيليون سجداً على أعينهم اليسرى ونظروا بأعينهم اليمنى إلى الجبل خشية أن يسقط عليهم.

القرية التي أمر الله بني إسرائيل بدخولها

القرية التي أمر الله بني إسرائيل بدخولها قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء:154] : أي: باب القرية التي أمرهم الله عز وجل بدخولها، قيل: إنها بيت المقدس. وقيل: إنها القرية التي أمرهم نبيهم بدخولها، وهي المذكورة في قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:21-22] . فلما امتنعوا عن دخولها ضرب عليهم التيه في الأرض أربعين سنة، فتاهوا في الأرض، ثم تاب الله عليهم، وأمروا بدخول القرية شاكرين لله على نعمائه وشاكرين لله على ما فتح عليهم.

تحريف بني إسرائيل للكلم عن موضعه

تحريف بني إسرائيل للكلم عن موضعه قيل لبني إسرائيل: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] فدخلوا مبدلين ومغيرين لأمر الله عمداً، دخلوا يزحفون على أستاههم بدلاً من أن يدخلوا ساجدين، وقالوا: حبة في شعرة، مكان حطة، وفي بعض الروايات: قالوا: حنطة. وما معنى قولهم: حنطة مكان حطة؟ معنى حطة، أي: حط عنا خطايانا يا رب، لكنهم اتخذوا الأمر للسخرية، فقالوا: حنطة؛ تبديلاً وكفراً. أو قال قوم آخرون منهم: حبة في شعرة. وقد ورد الأثران في ذلك، فهو محمول على أن بعضهم قال: حطة، وبعضهم قال: حبة في شعرة، والقصد أن هؤلاء وأولئك حرفوا كلام الله سبحانه وتعالى، وكلهم ما دخلوا سجداً بل دخلوا يزحفون على أستاههم عياذاً بالله. أما أهل الإيمان فإذا فتح الله عليهم البلاد صلوا صلاة الشكر، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند فتح مكة هي صلاة الفتح، واستدلوا لذلك: بأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه روي عنه أنه لما فتحت مدائن كسرى صلى ثماني ركعات. وعندنا أهل الإسلام إذا بشر الشخص بأمر يسره خر ساجداً لله سبحانه، فلما بشر كعب بن مالك بتوبة الله عز وجل عليه خر ساجداً، فيشرع سجود الشكر، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في سجدة ص: (سجدها داود توبة ونسجدها شكراً) ، فسجود الشكر مشروع لنا، وقد أمر الله بني إسرائيل بذلك: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] أي: باب القرية التي فتحها الله لكم، فغيروا وبدلوا وحرفوا كما هو واضح. ومن أهل العلم من قال: إن قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] المراد به: ركعاً؛ لأنهم لا يقدرون به يدخلوا ساجدين؟ قالوا: لأن السجود والركوع قد يأتيان في الكتاب العزيز بمعنى واحد، فيأتي الركوع بمعنى السجود والسجود بمعنى الركوع، والركوع بمعنى الصلاة بالكلية، كما قال تعالى: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] أي: صلي مع المصلين، ونحو ذلك. فمن العلماء من قال: إن المراد بالسجود هنا الركوع. ومن العلماء من أبقاها على ظاهرها. والله تعالى أعلم. لكن لقائل أن يقول: إن الركوع إذا اقترن بالسجود فللركوع معناه وللسجود معناه المعلوم لدينا، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] ، فالركوع له معناه والسجود له معناه، لكن إذا انفصل أحدهما فإنه يحمل على المعنيين معاً، فقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] يدخل فيه الركوع على قول بعض العلماء.

تفسير قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم.

تفسير قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ.) قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:155] : دلت الآية على أن بني إسرائيل أو اليهود نقضوا ميثاقهم مع الأنبياء ومع الله سبحانه وتعالى، وقد حدث أن نقضوا عهوداً ومواثيق مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة، ولا يوفون بعهد ولا لهم ميثاق، فقد غدروا بأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام وخانوهم وقتلوهم، ولكن من يفقه ومن يعقل! قال الله سبحانه وتعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [النساء:155] والتقييد: (بغير حق) خرج مخرج الغالب، فالأنبياء لا يفعلون شيئاً حتى يقتلوا به، أو حتى لا يقال: مخرج الغالب، يقال: من باب تبشيع الجرم، لأنهم قتلوا الأنبياء مع أن الأنبياء لم يفعلوا شيئاً يقتلون به. قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء:155] . للعلماء في معناه قولان: أحدها: أن قلوبنا ممتلئة علماً لا تحتاج إلى علم من علمك، فهي أوعية للعلم. وثانيها: أنهم يريدون أن قلوبهم طمست فلا يصل إليها الخير. والقول الأول تداوله كثير من أهل التفسير: أعني أن مرادهم بقولهم: (قلوبنا غلف) أنها أوعية للعلم فلا يصل إليها شيء من علمك يا محمد، أو لسنا في حاجة إلى علمك، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83] {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85] . قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155] أي: هي ليست بمغلقة لأنها امتلأت علماً، بل مغلقة لأن الله طبع عليها وختم عليها فلا يصل إليها شيء من الخير بسبب كفرهم. فإذا قلتم يا يهود: إن قلوبكم غلف، أي: أوعية قد امتلأت علماً فلا يدخل إليها شيء من الذي تأتي به يا محمد. ف A أن قلوبكم تغلفت، لكن ليس لأنها امتلأت علماً، بل لأن الله هو الذي طبع عليها بسبب كفركم {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:155] .

تفسير قوله تعالى: (وبكفرهم وقولهم على مريم.

تفسير قوله تعالى: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ.) قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156] : وهذا البهتان العظيم هو وصفهم لمريم عليها السلام بالزنا، فقد رموا مريم عليها السلام بالزنا بـ يوسف النجار ووصفوا عيسى عليه الصلاة والسلام وبرأه الله مما قالوا حين وصفوه بأنه ولد زنا صلى الله عليه وسلم. وفقنا الله وإياكم إلى الالتزام بالشريعة، والتمسك بها، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وآله.

تفسير سورة النساء [166-176]

تفسير سورة النساء [166-176] الحذف قد يرد في مواطن متعددة من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويقدره العلماء بتقديرات مختلفة. وهناك من المفسرين من قال بأن المقصود بالحق الوارد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) بأنه القرآن، ومنهم من قال بأنه التوحيد، ومنهم من قال بأنه الإسلام، وكلها معانٍ يرجع بعضها إلى بعض، وقد يذكر المفسرون بعض أفراد العموم بينما العموم يضم ذلك كله. وقد اشتمل هذا المقطع من سورة النساء على بيان معنى الكلالة، والأحكام المتعلقة بها، وهناك فرق بين الكلالة التي وردت في أول السورة وفي آخرها، وغير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك.

تفسير قوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ.) بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

إثبات صفة العلم لله عز وجل

إثبات صفة العلم لله عز وجل (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) : فيها إثبات صفة العلم لله، وقد تواردت على ذلك أدلة لا حصر لها من الكتاب والسنة، لكن ما المراد بقوله تعالى: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) ؟ منهم من قال: أي أنزله عليك وهو يعلم أنك أهل لإنزال القرآن عليك، فهو يعلم حالك، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، هذا قول عدد من المفسرين، أن قوله: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي: أنزله عليك وهو يعلم أنك أهل لنزول القرآن عليك.

تسلية الله لرسوله مقابل تكذيب الكفار

تسلية الله لرسوله مقابل تكذيب الكفار وفي قوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: إن كفر هؤلاء بالذي نزل عليك يا محمد، فاعلم أن هناك من يشهد لك بصحة ما نزل عليك وهو الله سبحانه وتعالى، وفي هذا فضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي الآية تسلية لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وجهها: أن هناك من هو خير من الكفار يشهد لك إذا كفر هؤلاء بالكتاب. وهذه الآية في التسلية كقوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] ، وكقوله تعالى في باب التسلية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] مع الفارق. (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) شهادة الملائكة مقابل تكذيب أهل الكفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فشهادة الله وحدها تكفي: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:166] . والآية كقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:4] ، وكانت موالاة الله تكفي؛ لكن ضم إليها: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] . أي: فمع أن شهادة الله عز وجل لوحدها تكفي، لكن إن تظاهرتم عليه فهناك من الملائكة من يتظاهر ضدكم، وفوق ذلك كله رب العالمين سبحانه وتعالى. قال عز وجل: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي: بصدق ما أنزل إليك.

تقدير المحذوف في قوله: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك.

تقدير المحذوف في قوله: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ.) فيقول الله سبحانه وتعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:166] . قوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) من العلماء من قدر هنا محذوفاً فقال: وإن لم يقر لك الذين كفروا بالشهادتين وكذبوك فالله يشهد بما أنزل إليك فقد أنزله بعلمه، بني على أن هناك حذفاً في السياق. والحذف يرد كثيراً في مواطن من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويقدره العلماء بتقديرات مختلفة، فمثلاً: قول الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:1-3] ، أقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود، وبشاهد ومشهود، ما هو جواب القسم؟ للعلماء فيه وجهان: وجه يقول: إن جواب القسم مذكور في قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] ، أي: لُعن أصحاب الأخدود، فالله يقسم بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود، وبالشاهد والمشهود، أن أصحاب الأخدود لعنوا، أي: لعن الذين خدوا الأخاديد للناس. ومنهم من قال: إن جواب القسم هو قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] أي: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:1-3] جوابها: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] . ومن العلماء من قال: إن جواب القسم محذوف، وهو قول الطبري رحمه الله تعالى، فإنه قال: فُهم جواب القسم من السياق. فمن العلماء من قدر المحذوف، فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:1-3] ، لتُختبرُن يا أصحاب محمد كما اختبر من قبلكم من المؤمنين، ولينتقمن الله ممن ظلمكم وفتنكم كما انتقم الله سبحانه وتعالى ممن ظلم المؤمنين وخد لهم الأخاديد. فأحياناً يكون في الكلام حذف يفهم من السياق، ولا يقولن قائل: إن الحذف لا يوجد في كتاب الله، فالإجابة على ذلك: أن كتاب الله نزل بلسان عربي مبين، فما تحتمله لغة العرب يحتمله كتاب الله سبحانه وتعالى، فإنه قد نزل بلغة العرب. فقوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) أي: إن لم يقر هؤلاء الكفار بالقرآن ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن القرآن نزل من عند الله، فالله يشهد بما أنزل إليك.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله.

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:167] : من العلماء من قال: الآية عامة في كل كافر يصد عن سبيل الله، ومنهم من قال: هي خاصة باليهود؛ لأنهم كانوا يكتمون صفة محمد عليه الصلاة والسلام، ويكتمون أمر محمد عن الناس فيصدون بذلك عن سبيل الله، كما قال تعالى في آيات سبقت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51] ، فكانوا يصدون عن سبيل الله ويقولون لكفار قريش: أنتم أهدى سبيلاً من محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:167] أي: ابتعدوا عن طريق الصواب ابتعاداً شديداً.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم)

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا} [النساء:168] قال بعض العلماء: بكتمان صفة محمد، {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] .

كيفية الجمع بين قوله تعالى: (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا) وبين الواقع من إيمان بعضهم

كيفية الجمع بين قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا) وبين الواقع من إيمان بعضهم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء:168] كيف ذلك وهناك كفرة وظلمة قد هداهم الله سبحانه، فكيف يوفق بين الآية الكريمة: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] وبين الواقع الذي حدث وأنه قد آمن أقوام كفرة ظلمة؟ وA أن الآية محمولة على الذين كتب عليهم الشقاء وهم في بطون أمهاتهم، أي: فالذين كتبت عليهم الشقاوة وهم في بطون أمهاتهم {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] أي: سيموتون على الكفر ولم يغفر لهم، وهم الذين غلبت عليهم شقوتهم كما قالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] . وقولهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] أي: غلبت علينا الشقاوة المكتوبة علينا ونحن في بطون أمهاتنا، كما عليه جمهور المفسرين في هذه الآية، فجمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] قالوا: الشقاوة التي كتبت عليهم وهم في بطون أمهاتهم عن طريق الملك لما كتب شقياً أو سعيداً. ونحوها قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) . أما القرطبي فقد سلك في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] مسلكاً خالف فيه الجمهور وقال: غلبت علينا اللذات والأهواء حتى آلت بنا إلى الشقاوة، ولكن الجمهور خالفوه على النحو الذي ذكرنا. فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء:168] محمولة على الذين كتب عليهم أن يموتوا على الكفر، فيخرج منها الكفار الذين أراد الله لهم الهداية. ومن العلماء من أول تأويلاً آخر فقال: إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ما داموا قائمين على كفرهم وظلمهم، ولا ليهديهم سبيلاً إلا إذا سلكوا طريق الهداية، فالله يقول: (من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً) .

نوع الاستثناء الوارد في قوله تعالى: (إلا طريق جهنم)

نوع الاستثناء الوارد في قوله تعالى: (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) قوله تعالى: {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:169] . (إلا) إلا هنا هل هي من الاستثناء المنقطع؟ أي بمعنى: لكن يهديهم إلى طريق جهنم، أو من المتصل، فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه؟ كلاهما له وجه: فإذا قلت: إن الطريق هنا عامة تشمل جميع الطرق فسيكون الاستثناء من نفس الباب، فإن طريق جهنم هي إحدى الطرق، فتدخل عموم الطرق، وإن قلت المراد بالطريق في قوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] طريق الهداية، فسيكون استثناء من غير جنس المستثنى منه، كما قال القائل: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس أو: جاء القوم إلا حماراً، فالحمار ليس من جنس القوم، فالحكم على الاستثناء أنه استثناء منقطع -أي من غير جنس المستثنى منه- يبنى على تفسير الطريق، فإن قلت الطريق في قوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] تشمل كل الطرق، فالاستثناء غير منقطع، أي: إلا طريق جهنم أحد أجناس الطرق، أما إن قلت: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً من طرق الهداية، فيكون الاستثناء منقطعاً، وتكون إلا بمعنى: لكن. وقوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] الهداية هنا هداية الدلالة بأن يدلهم، وهداية التوفيق أيضاً، أي: لم يكن الله ليوفقهم إلى طريق من طرق الهداية.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ... )

المراد بالحق الذي جاء به الرسول

المراد بالحق الذي جاء به الرسول قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:170] ما هو الحق؟ من العلماء من قال: الحق هو القرآن، فالمعنى: يا أيها الناس قد جاء كم الرسول بالقرآن من الله سبحانه وتعالى. ومنهم من قال: الحق هو التوحيد. وكلها معان يرجع بعضها إلى بعض، سواء قيل بالإسلام، أو بالقرآن، أو بالتوحيد، أو جاء متلبساً بالحق، فكلها معانٍ يرجع بعضها إلى بعض. {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء:170] أي: الإيمان خير لكم من الكفر، قد يقول قائل: هل في الكفر خير حتى يقال إن الإيمان خير من الكفر؟ فالإجابة: إن هذا كقوله تعالى في سورة الفرقان: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] مع أنه ليس هناك وجه للمقارنة، ولا هناك أي خيرية للكفار.

غنى الله تبارك وتعالى عن الخلق

غنى الله تبارك وتعالى عن الخلق قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء:170] أي: آمنوا بالرسول وبما جاء به الرسول، {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء:170] أي: كفركم لن يضر الله شيئاً، ولن ينقص من ملك الله عز وجل شيئاً. ويفسر هذه الجزئية من الآية الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) ، فليس معنى أن يدعونا الله إلى الإيمان أن إيماننا ينفع ربنا بشيء. {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء:170] أي: هو غني عنكم سبحانه وتعالى وعن إيمانكم. فإذا قيل: ما هو الرابط بين قوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} [النساء:170] وبين قوله: {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء:170] ؟ فالإجابة: أن الكفر لن ينقص من ملك الله عز وجل شيئاً، وأن الإيمان لن يزيد في ملك الله عز وجل شيئاً، فهي كما قال تعالى في الحديث القدسي: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها) .

تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.) قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] : الخطاب هنا موجه للنصارى بالدرجة الأولى، ولقائل أن يقول بالتعميم وأن اليهود يدخلون فيه أيضاً، لكن السياق موجه للنصارى بدلالة قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} [النساء:171] ؛ لأن النصارى غالت في عيسى عليه الصلاة والسلام أشد الغلو. (لا تغلوا) : الغلو هو تجاوز الحد، ومنه: (غلا السعر على عهد رسول الله) ، أي: ارتفع السعر وتجاوز الحد، فقوله: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] أي: لا تتجاوزا الحد في دينكم. فطريق الاستقامة فوقه طرق ضلالة وتحته طرق ضلالة وهو وسط بين هذه الطرق، فهم تجاوزوا الحد في شأن عيسى، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان) ، فالشيطان يغري الشخص، فيعظم النبي حتى يخرج من حد التعظيم إلى حد تأليه الرسول عليه الصلاة والسلام، فيخرجك إلى حد الشرك والعياذ بالله، وتجعل البشر شريكاً لله سبحانه وتعالى. فالغلو قد يكون بالزيادة في الحق. ومن العلماء من قال أيضاً: إن الغلو قد يكون بالنقص من الحق كذلك، ومن ثم قال القرطبي: إن الآية عامة في أهل الكتاب يهوداً ونصارى، قال: أما غلو النصارى فكان في تأليه عيسى عليه الصلاة والسلام، وأما غلو اليهود فكان بالطعن في عيسى عليه الصلاة والسلام، فاتهمت اليهود عيسى بأنه ابن زنا، والنصارى قالوا: هو الله. فـ القرطبي رأى أن الغلو يشمل الإفراط ويشمل التفريط، وغيره من العلماء قالوا: الغلو هو المبالغة في التعظيم.

سبب اختصاص عيسى بأنه روح من الله

سبب اختصاص عيسى بأنه روح من الله قال تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] : وهذا هو الذي شكك النصارى أو شكك أهل الزيغ، فقالوا بأنه روح من الله، وما دام أنه روح من الله فهو ابن لله، وتركوا المحكم في هذا واتبعوا المتشابه. أما المحكم: فمنه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} [الزخرف:59] أي: ما هو إلا عبد، {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] ، ومنه قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] ، ومنه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، واتبعوا المتشابه: ألا وهو قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] . فالإجابة على هذه الجزئية (وروح منه) أن يقال: إن كل البشر روحٌ من الله وليس ذلك لعيسى فقط، بل محمد عليه الصلاة والسلام روح من الله، وكذلك عموم البشر. فإن قيل: لماذا اختص عيسى بأنه روحٌ من الله؟ فالإجابة: أن هذه الإضافة إضافة تشريف وتكريم لعيسى، كما قال صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] مع أن الأرض كلها لله، وكل النوق لله، لكن قيل: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] تكريماً وتشريفاً لهذه الناقة بعينها. وكما قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] مع أن كل البيوت لله، ولكن قيل عن البيت الحرام خاصة أنه بيت الله تشريفاً للحرم. وكما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] مع أن الأسواق لله، والبيوت لله، والشوارع لله، وكل ما بين السماء والأرض لله، لكن قيل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] تشريفاً للمساجد، فقوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] تشريف لعيسى صلى الله عليه وسلم، وثم أوجه أخر. قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء:171] لأن فريقاً منهم يقول: إن عيسى ومريم ورب العزة سبحانه ثلاثة أقانيم في أقنوم واحد، كالأصبع فيه ثلاث مفاصل، فيعبدون هذا الإله. قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171] (سبحانه) أي: تنزه.

غلو الشيعة واليهود

غلو الشيعة واليهود ومن هذا الباب غلو الشيعة في علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فالشيعة -عليهم لعنة الله- يؤلهون علياً ويخطئون جبريل عليه الصلاة والسلام، ويقولون: خان الأمين، ويفترون الكذب على ديننا، ويقولون: القرآن محرف، ويكذبون كذباً قذراً وقحاً، ويقولون: إن عندنا قرآن فاطمة وهو أضعاف قرآنكم الذي بين أيديكم، ليس فيه حرف من قرآنكم، وهي تسطر في أسطور كتبهم، فهم أيضاً لحقوا باليهود والنصارى، فغلوا في شأن علي غلواً كفروا به، فمنهم من أله علياً، ومنهم طائفة ما زالت تقول: علي حي وهو الذي يسير السحب، وعمومهم الآن من عباد القبور والمشركين بالله. فالشيعة أخذوا من كل الفرق قبائحها، أخذوا من اليهود القبائح التي في اليهود، ومن النصارى القبائح التي في النصارى، ومن المجوس القبائح التي في المجوس، ويجتمع عندهم دين ليس من دين الإسلام في شيء، فمعتقدهم في غاية الزيغ: فمع كتاب الله يتهمون القرآن بالتحريف والقصور، ومع الملائكة يطعنون في جبريل ويقولون: خان الأمين، ومع الرب سبحانه وتعالى يشركون آلهة أخرى، ويقولون: إن الأموات ينفعون ويضرون، ومع أصحاب رسول الله فالصحابة أو جل الصحابة عندهم كفار إلا خمسة من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام! وللأسف أن هذه الأفكار الزائغة تجد أُناساً أعمى الله بصائرهم يدعون إليها، وقلوباً كافرة تستقبل مثل هذا الكلام والأكاذيب على الله وعلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وليس بغريب أن يتواجد في بلادنا مثل هذه الأشكال. قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] ، غلو النصارى كان بتأليه عيسى، وغلو اليهود كان باستنقاص عيسى صلى الله عليه وسلم، والغلو له صور متعددة، أما الغلو المذكور في الآية فهو بشأن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سيأتي. واليهود قد غالت في دينها غلواً آخر، ففي حديث أبي موسى وغيره، أن اليهود كان إذا بال أحدهم ووقعت نقطة من البول على جلده يأتي بمقراض ويقرض الجلد الذي وقع عليه البول، فهذا أمر في غاية التشدد. وبعض فرقهم تحرم الزواج من المرأة إذا كان بينك وبينها إخوة إلى الجد السابع؛ ففي ديننا لا تتزوج أختك، لكن لك أن تتزوج ابنة عمك، وأما اليهود فلا تتزوج ابنة عمك ولا أي واحدة يربطك بها إخوة حتى الجد السابع. قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء:171] ، وهي قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] أي: كن عيسى فكان عيسى عليه الصلاة والسلام، كن ولداً فكان ولداً، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:50-60] ، فقوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ} [النساء:171] أي: الكلمة التي خلق الله عيسى بها، وهي كلمة كن.

إثبات عبودية المسيح لله سبحانه وتعالى

إثبات عبودية المسيح لله سبحانه وتعالى قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ} [النساء:172] : الاستنكاف يأتي بمعنى الاستكبار أحياناً، فقوله: (لن يستنكف) أي: لن يمتنع ولن يستكبر، {الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172] أي: سيجمعهم إليه جميعاً. وهذه الآية ختامها خبر يقتضي التهديد: {وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} [النساء:172] فكان الجزاء: {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172] وهذا متضمن تهديداً لهم في ثنايا الحشر، {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172] . ثم قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:173] : توفية الأجور بأن يجزي الحسنة بمثلها، والزيادة من فضله التضعيف، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها، فيوفيهم أجورهم على الأعمال ويزيدهم تضعيفاً للحسنات. ومن العلماء قال: يوفيهم أجورهم كما وعدهم أنه الحسنة بعشر أمثالها، ثم يضاعف لمن يشاء سبحانه وتعالى، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:173] . قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:173] ، والفقرة تبين العقوبة المذكورة وإن تأخرت بعض الشيء. ومعنى (أليماً) : مؤلماً موجعاً {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:173] .

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم)

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:174] : فالبرهان الحجة، ومن الممكن أن يقال: إن هذه الحجة هي القرآن، ويمكن أن يقال: البرهان محمد عليه الصلاة والسلام، فالآية تحتملهما. {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174] وهو القرآن، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15] . قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175] أي: يوفقهم، فالهداية هنا شاملة للتوفيق وللدلالة.

تفسير آية الكلالة

تفسير آية الكلالة قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء:176] أي: يطلبون منك الفتيا، وحذف المستفتى عنه، وهو الشيء المسئول عنه، فالمضمر: يستفتونك في الكلالة. {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] ، ففهم من الإجابة ماهو المضمر الذي سُئل عنه. وقد تقدم في أول السورة قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] . وهنا قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] . فقد يقول قائل: كيف يقول في الآية المتقدمة: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] ، وهنا يقول سبحانه: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ} [النساء:176] ، فهذه كلالة وهذه كلالة، فما الفرق؟ وA أن الكلالة المذكورة في أوائل سورة النساء إنما هي الأخت لأم أو الأخ لأم، أما الكلالة هنا فالإخوة الأشقاء، فالإخوة الأشقاء يخصهم الحكم الوارد في الآية الأخيرة من سورة النساء (آية الصيف) . {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] ، والكلالة جاء جزء من تفسيرها في الآية ألا وهو: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] هلك: بمعنى مات، (ليس له ولد) الجمهور يقولون: ليس له ولد ولا والد، الآية الكريمة ذكرت الوالد يموت وليس له ولد، لكن الجماهير على أن يضاف: (ولا والد) . الولد ذكر نصاً: (ليس له ولد) في الآية السابقة، والوالد يفهم بإمعان النظر في الآية؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] ، فإذا كان للميت والد فإن الأخت لا تأخذ النصف ولا ترث شيئاً، فترجح قول الجمهور للقرينة المذكورة في الآية، ألا وهي قوله: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] . فأصل الكلالة هنا: امرأة ماتت أو رجل مات ليس له والد ولا ولد، لا من أعلى ولا من أسفل، ولا جد ولا حفيد. وهذه الآية هي آخر آية نزلت على رأي البراء بن عازب، قال البراء بن عازب كما في الصحيحين: (آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) [النساء:176] ) . ومن العلماء من قال: إن آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] . أما آخر سورة نزلت فهي: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] . وثمّ قول آخر: أن آخر آية نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] إن قيل: كيف نجمع بين هذه الأقوال؟ فالإجابة: أن كل صحابي أفتى بالذي علمه، فأفتى البراء على الذي بلغه وعلمه أن آخر آية نزلت هي آية الكلالة. وذهب غيره إلى أنها آيات الربا التي في ختامها: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] . {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء:176] أي: مات، وكلمة (هلك) بمعنى مات قد تطلق أيضاً على المسلم، قال جابر لرسول الله: (إن أبي هلك يا رسول الله وترك تسع أخوات لي) ، لأن البعض يظن أن هذه خاصة بالكفار، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34] فهلك تطلق على من مات سواء كان مسلماً أم كافراً، وتطلق على الضياع، (هلكت قلادة لأسماء) أي: ضاعت وفقدت. قال تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] أي: ولا والد، {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] . {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء:176] أي: ولم يكن لها أيضاً أب، {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:176] بمعنى: كي لا تضلوا، وعلى ذلك جملة أدلة لغوية، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء:176] . الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد تقدم أن من الفروق بين آية الكلالة هنا وآية الكلالة التي في أوائل سورة النساء، أن الإخوة لأم هناك ذكرهم مثل أنثاهم في الميراث، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] أي: فالأخ له السدس والأخت لها السدس، أما هنا فهي في الإخوة الأشقاء، {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] . ومن الفروق بينهما: أن الإخوة لأم لا يتجاوز نصيبهم كلهم مجتمعين الثلث {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] أما هنا في حالة الإخوة الأشقاء فقد يحوزوا على الميراث كله، {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] . هذه الآية نزلت في جابر بن عبد الله، قال جابر: (مرضت فأغمي عليَّ فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين فقلت: يا رسول الله! إني أموت ولا يرثني إلا كلالة، فتوضأ وصب عليَّ من وضوئه، فنزلت آية الكلالة: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] ) . وهذه الآية مع السهولة التي سمعتموها في تفسيرها كما ذكر ذلك عدد من العلماء إلا أنها من الأمور التي خفيت على أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه بشدة، حتى قال: (ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، ما سألته عن الكلالة) وفي رواية: (ثلاث وددت أن النبي مات وقد عهد إلينا فيها عهداً: الكلالة، وأبواب من الربا، وذكر شيئاً ثالثاً) وفي الرواية الأخرى يقول: (كنت أكثر من سؤال النبي عن الكلالة حتى ضرب بيده في صدري وقال: (يا ابن الخطاب ألا تكفيك آية الكلالة التي في آخر سورة النساء) . فبهذا تنتهي سورة النساء، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله أن يتجاوز عن الأخطاء والهفوات والزلات، والأمر لله سبحانه وتعالى، ثم لإخواننا أن يقرروا هل سيحدث اختبار فيها أو لا، والكلام فيها عند الشيخ محمد غريب حفظه الله تعالى، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم غسل الزوج لزوجته والعكس

حكم غسل الزوج لزوجته والعكس Q هل يجوز أن يغسل الرجل زوجته والزوجة أن تغسل زوجها؟ A نعم يجوز، وقد وردت رواية -على ما أذكر- من طريق محمد بن إسحاق لما قالت عائشة: (وارأساه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: بل أنا وارأساه، قالت: والله ظننت أنك تريد موتي يا رسول الله، قال: ذاكِ لو كان وأنا حي لغسلتكِ وكفنتكِ) ففيها زيادة: (لغسلتكِ) في خارج الصحيحين، وإسنادها على ما يحضرني الآن أنه حسن، فبه يستدل على جواز أن يغسل الرجل امرأته. وقد ورد عن عائشة أنها قالت: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) وليس هناك دليل يمنع، والله أعلم.

حكم صلاة تحية المسجد وقت الكراهة

حكم صلاة تحية المسجد وقت الكراهة Q من الأوقات التي يكره فيها الصلاة؛ بعد العصر، فإذا دخلت المسجد في هذا الوقت فهل أصلي تحية المسجد؟ A بل صلها؛ فإن ذوات الأسباب تصلى حتى في أوقات الكراهية، قضى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الظهر بعد العصر لما شغله وفد عبد القيس. إلى هنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اسم الرميصاء ومصادر ترجمتها

اسم الرميصاء ومصادر ترجمتها Q من هي الرميصاء؟ وفي أي الكتب نقرأ عنها؟ A الرميصاء هي أم سليم رضي الله تعالى عنها. واقرأ عنها في فضائل الصحابة، واقرأ عنها في الطبقات الكبرى لـ ابن سعد، واقرأ عنها في الكتب المصنفة في الصحابة على العموم.

حكم استعمال الكلونيا

حكم استعمال الكلونيا Q هل الكلونيا المتداولة الآن حرام؟ A الكلونيا المتداولة الآن الحكم فيها مبني على إسكارها، هل هذه الكلونيا تسكر أو لا تسكر؟ فإن كانت لا تسكر فلا شيء فيها، وإن كانت تسكر فيأتي هنا قولان: قول لبعض أهل العلم أن الخمر نجسة نجاسة عينية وهم الجمهور، مستدلين بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] أي: نجس. وفريق من أهل العلم كـ الليث بن سعد وغيره من العلماء يرون أن النجاسة معنوية، فعليه إذا قلنا إن الكلونيا تسكر، أي: بمنزلة الخمر عند الليث بن سعد فلا حرج في استعمالها. أما الجمهور في حالة ما إذا كانت تسكر فهي تجري مجرى الخمر فتترك، والله أعلم.

حكم ارتداء المرأة قميصا رجاليا في الصلاة

حكم ارتداء المرأة قميصاً رجالياً في الصلاة Q هل يجوز أن أرتدي قميصاً رجالياً في الصلاة؛ وذلك لكونه أبيض وطويلاً وواسعاً، أم يعتبر ذلك تشبه بالرجال؟ A الظاهر الجواز، ما دامت لا تخرج تتشبه به عند الرجال، وكانت المرأة باقية في البيت، وتصلي فيه؛ لأنه ثوب واسع ومريح لها، فالظاهر أنه ليس من باب التشبه.

حكم ارتداء الزوجة لملابس زوجها في البيت للزينة

حكم ارتداء الزوجة لملابس زوجها في البيت للزينة Q هل إذا ارتديت بعض ملابس زوجي في البيت للزينة يعتبر تشبهاً بالرجال؟ A إذا كنتِ تتزينين للزوج فلتتزيني له بما شئتِ، وأظن أن ذلك لا يعد تشبهاً، قد تتوق نفسه إلى شيء من ذلك أحياناً، فإن فعلتِ فنرجو الله أن لا يكون تشبهاً؛ لأنكِ لم تخرجي به.

حكم تصوير الكتب والمجلدات

حكم تصوير الكتب والمجلدات Q هل يجوز تصوير الكتب والمجلدات لكونها غالية؟ A إذا كان للاستعمال الشخصي والشخص لا يستطيع أن يشتريها {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] والأمر إلى الجواز أقرب، أما إذا كان للاتجار والإضرار بالناس فلا يجوز، فإذا كنت ستضر بالتجار وتتاجر بها، فهو يتعب في صفها وتصحيحها وأنت تطبعها دون أن تبذل أي مجهود، فلا يجوز لك ذلك، أما إذا كان لاستعمالك الشخصي وأنت لا تستطيع شراء الكتاب الأصلي فجائز، والعلم عند الله تعالى.

حكم رفع اليدين في الدعاء عند خطبة الجمعة

حكم رفع اليدين في الدعاء عند خطبة الجمعة Q هل صح عن النبي أنه كان يرفع يديه في الدعاء عند خطبة الجمعة؟ A الذي أعلمه في ذلك أنه كان يرفع يديه في صلاة الاستسقاء لما استسقى في خطبة الجمعة، لكن غير ذلك لا أعلم فيه شيئاً.

حكم المسابقات الثقافية التي يعقد لها جوائز عينية

حكم المسابقات الثقافية التي يعقد لها جوائز عينية Q ماذا تقولون في المسابقات الثقافية التي تعقد وينصب لها جوائز عينية أو مالية؟ A إذا كان الذي يضع الجوائز أناساً غير المتسابقين جاز، مثلاً: رجل قال: سأعقد مسابقة وأدفع للفائزين هدايا من عندي، فهذا لا شيء فيه، أما إذا دفع هذا جنيهاً وهذا جنيهاً والفائز منهما يأخذ الجنيهين فلا يجوز.

معنى السفير وحكم عمله

معنى السفير وحكم عمله Q ما الحكم في السفير؟ A السفير هو الذي يرسل من بلدة إلى بلدة، فالسفير عمله مشروع ولا شيء فيه أبداً، وفي الإسلام سفراء حتى السفير لإسرائيل جائز، لأن السفراء بين الكفار والمسلمين كانوا يسمون الرسل على عهد الرسول، فمثلاً مسيلمة الكذاب أرسل رسولاً إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.

حكم من استسمح مسلما فلم يسامحه

حكم من استسمح مسلماً فلم يسامحه Q أذنبت ذنباً في حق مسلم فإذا لم يرض أن يسامحني من هذا الذنب حتى ولو أعطيه مالاً من أجل أن يسامحني؛ فهل أظل مذنباً؟ A الله أعلم بنيتك، إن يعلم الله في قلبك خيراً فسيؤتيك خيراً مما أخذ منك.

كيفية قضاء صلاة الوتر لمن نام عنها

كيفية قضاء صلاة الوتر لمن نام عنها Q من نام عن صلاة الوتر فمتى يصليها؟ A إذا نام عن صلاة الوتر فعنده نص عام: (من نام عن صلاة أو نسيها فصلاتها حين يذكرها) رواه البخاري ومسلم. ومن أهل العلم من قال: من نام عن صلاة الوتر صلى من النهار مثنى، فإذا كان يوتر بثلاث صلى من النهار أربعاً؛ لأن النبي كان إذا فاته حزبه من الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة.

حكم بيع أمواس الحلاقة

حكم بيع أمواس الحلاقة Q هل بيع أمواس الحلاقة حلال أم حرام؟ A حلال، وأما كونه حراماً فلا أعرف عنه شيئاً.

حكم الصلاة في مكان تمر عليه الكلاب

حكم الصلاة في مكان تمر عليه الكلاب Q شخص يعمل عند النصارى وفي العمل كلاب، والشخص يصلي في هذا المكان؛ فهل الصلاة صحيحة؟ A نعم الصلاة صحيحة، فقد فكانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك، إلا إذا استوطن الكلب في مكان فيرش هذا المكان الذي استوطن فيه الكلب، أعني أنه إذا عرف أن الكلب ينام في مكان ما فإذا جئت تصلي في المكان فلابد أن تنضح عليه، أما إذا كان يمر مجرد مرور فيه، فلم يكن الصحابة يرشون شيئاً من ذلك.

تفسير سورة يوسف

سلسلة تفسير سورة يوسف [1] سورة يوسف عليه الصلاة والسلام هي أحسن القصص كما وصفها الله عز وجل، وليس على هذا مزيد، وتبدأ هذه القصة برؤيا لهذا النبي الكريم، ثم تجري أحداث القصة لتكون هذه الرؤيا هي آخر شيء يفسر على أرض الواقع بعد سنين طويلة، وفي ثنايا هذه السنين تدور رحى الأحداث؛ لكن أول شيء في هذه القصة بعد الرؤيا هو حسد الإخوة لأخيهم وتآمرهم عليه بالقتل، ثم بإلقائه في الجب، ويوحي الله إلى يوسف بأنه سوف يخبرهم بفعلهم فيما بعد عندما ينجيه الله عز وجل.

من مكارم سورة يوسف عليه السلام

من مكارم سورة يوسف عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد: فسنتناول بمشيئة الله تبارك وتعالى سورة نبي الله يوسف صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بالتأويل والبيان، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. وابتداءً فنبي الله يوسف هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، كما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سئل صلوات الله وسلامه عليه: (من أكرم الناس يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكرمهم عند الله أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) وفي رواية: (نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله) . فهذا شيء من فضل نبي الله يوسف صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم، وقد أوتي شطر الحسن صلى الله عليه وسلم كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رؤيته له في ليلة المعراج عليه الصلاة والسلام. أما سورة يوسف فهي سورة مكية، وقد جمعت هذه السورة الكريمة قصة نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم، ولم ترد قصة نبي الله يوسف إلا في هذه السورة الكريمة، فثَم أنبياء من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام ذكرت قصصهم في عدة سور من كتاب الله، أما سورة يوسف فقد حملت قصة يوسف كاملة، ولم يأت شيء من قصة يوسف في غير هذه السورة الكريمة المباركة، وهي سورة مكية على رأي أكثر أهل العلم.

تفسير قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب المبين)

تفسير قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب المبين)

معنى قوله: (الكتاب المبين)

معنى قوله: (الكتاب المبين) قوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) ، أما الكتاب فهو القرآن، ومن معانيه: المظهر الموضح للأشياء، ومن هذه المعاني: أنه موضح للحلال والحرام، ومبين لأمور الاعتقادات، ومبين للعبادات، ومبين لأخبار من كان قبلنا، ونبأ من سيأتي من بعدنا. فقوله تعالى: (المبين) أي: المظهر الموضح للأشياء، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] ، أي: بالأفق المظهر الموضح للأشياء، وهو اتجاه طلوع الشمس.

أقوال أهل العلم في الأحرف المقطعة

أقوال أهل العلم في الأحرف المقطعة يقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] . أما (الر) : فهي أحرف مقطعة بدأت بها بعض سور الكتاب العزيز، وللعلماء فيها طريقان في التأويل: الطريق الأول: نعرض عن تأويلها ونكل الأمر في تأويلها إلى الله سبحانه وتعالى؛ إذ لم يرد شيء في كتاب الله صريح يفسرها لنا، وكذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صريح يفسر لنا الأحرف المقطعة. الطريق الثاني: ذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أنه ينبغي أن نلتمس لها تأويلات، ونحن مأجورون على كل حال، إن التسمنا تأويلاً فأصبنا فيه فلنا أجران، وإن أخطأنا فيه فلنا أجر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) . ثم هؤلاء الذين التمسوا تأويلات في هذه الأحرف المقطعة منهم من قال: إنها أحرف سيقت على سبيل التحدي، فكأن المعنى: (الر) أحرف تعرفونها وتقرءونها وتكتبونها، ولكنكم لا تستطيعون أن تؤلفوا منها قرآناً كما ألفناه، ولا حتى آية كما ألفنا، ودل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1-2] ، وقوله تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ} [السجدة:1-2] ، وهنا يقول سبحانه وتعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) ، هذا هو الوجه الأول من أوجه التأويل: أن الأحرف سيقت للتحدي. والوجه الثاني: أنها أحرف حملت اسم الله الأعظم، وليس ثَم دليل على هذا القول الثاني.

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه.

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه.) قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] . قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) يستدل به فريق من أهل العلم على علو الله سبحانه، وأنه سبحانه وتعالى في السماء، كما قال عن نفسه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ، وكما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، فالإنزال كما هو معلوم يكون من أعلى إلى أسفل. (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) : هذه منة من الله سبحانه وتعالى على العرب إذ نزل القرآن بلغتهم، وكما قال الله سبحانه وتعالى ممتناً على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى العرب: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] ، أي: لشرف لك ولقومك يا محمد أن نزل عليك هذا القرآن، وأن نزل بلغتك ولغة قومك. فشرف للعرب أن القرآن نزل بلغتهم، ولهذا شكر لا بد أن يقدم، فمن المعلوم من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النعم تستلزم مزيداً من الشكر، فكلما أنعم الله على قوم بنعمة لزمهم أن يقدموا لها مزيداً من الشكر، كما قال الله تعالى لمريم عليها والسلام: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42] ، فأمام هذا الاصطفاء والتطهير: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] . وكما قال الله سبحانه وتعالى ليحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] ، وكما قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ، فلأنا أعطيناك الكوثر: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] . وكذلك قال تعالى ممتناً على نبيه عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1-3] ، ثم ختمت السورة بقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7-8] . فكل من أنعم الله عليه بنعمة فإنه يلزمه أن يقدم لها شكراً موازياً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا أكل أحدكم الأكلة أن يحمده عليها، وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها) ، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] . فعلى العرب أن يشكروا نعمة الله عليهم؛ إذ أنزل القرآن بلغتهم، فلزاماً عليهم أن يحملوا عبء الدعوة إلى الله أكثر من غيرهم، فهي نعمة أسداها الله إليهم ولم تُسد إلى غيرهم؛ فجدير بهم إذاً أن ينهضوا إلى حمل دعوة الإسلام وبثها ونشرها في العالم، بل ويلزمهم ذلك، وقد قال الله تبارك وتعالى محذراً إياهم من التخاذل عن هذه المهمة: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] . من هنا ينشأ اعتزازنا بلغة العرب، لا لأنها لغة لجنسنا ولبني جلدتنا، ولكن لأنها اللغة التي نزل بها كتاب ربنا، والتي تحدث بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ثم لزمنا التمسك بها، ولزمنا بثها ونشرها من غير استحياء ولا استنكاف. قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، أي: لعلكم تفهمون، وكما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] .

تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك.

تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك.) {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] ، لهذه الآيات الكريمة سبب نزول ذكره سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه فقال: (نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فتلاه على أصحابه زماناً، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا؟ فأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، ثم تلاه النبي صلى الله عليه وسلم زماناً، فقالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] الآيات) ، هذا سبب نزول صحيح وثابت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه. وقد أورد بعض أهل العلم أسباب نزول أخر لا يكاد يصح منها سبب، منها: ما روي من طريق الضحاك عن ابن عباس: أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام فنزلت السورة، وفي هذا السبب ضعف، وليس ذلك بدافع أن يكون اليهود سألوا النبي عن هذه السورة، ولكن سبب النزول هذا فيه ضعف. قال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] . من أهل العلم من قال: كان من الغافلين عن هذا القرآن، وعن هذه القصص، وعن الإيمان جملة، واستدل قائل هذه المقالة بقول الله تبارك تعالى في كتابه الكريم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] .

رؤيا يوسف عليه السلام

رؤيا يوسف عليه السلام قال الله سبحانه: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ} [يوسف:4] ، وأبوه هو يعقوب عليه السلام كما تقدم.

أدب الأنبياء عليهم السلام مع والديهم

أدب الأنبياء عليهم السلام مع والديهم ومن قوله: (يا أبت) نلتمس أدباً في تخاطبنا مع آبائنا، أيضاً مع أمهاتنا، فلم يقل: يا بابا إني رأيت أحد عشر كوكباً، ولكنه قال: يا أبت! فجدير بنا أن نحيي لغة كتاب ربنا، ولغة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نتبع سنن الهلكى والحيارى. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي) ، ولم يقل: استأذنت ربي أن أزور قبر ماما، وكذلك قال الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] .

سبب تكرير قوله: (رأيتهم)

سبب تكرير قوله: (رأيتهم) قال يوسف: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف:4] ، رأى ذلك في رؤيا منامية، وقد قال فريق من أهل العلم كـ عبيد بن عمير وغيره: (رؤيا الأنبياء وحي) ، واستدلوا لذلك بقول الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] . فيوسف صلى الله عليه وسلم رأى هذا الذي يذكر في رؤيا منامية، فقال: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] أي: ورأيت كذلك الشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. وتكرار قوله: (رَأَيْتُهُمْ) : من أهل العلم من يقول: لما طال الكلام حسن أن يكرر كلمة: رأيت، كأن تقول -على سبيل المثال- قال فلان كذا وكذا وكذا، وترجع وتقول مرة ثانية: قال: كذا، لأن الأمد قد طال. ومن العلماء من قال: إن مضمراً يفهم من السياق، فلما قال يوسف: (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ، كأنه قيل له: كيف رأيتهم يا يوسف؟ فقال مبيناً: (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) .

حكم السجود في شريعتنا

حكم السجود في شريعتنا يطرح سؤال هنا، وهو: هل سجود المخلوق لمخلوق جائز؟ ف A أن هذا كان جائزاً على سبيل التحية في شريعتهم من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ونسخ في شريعتنا. أما جوازه في الأمم قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلما سيأتي من قول الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100] . أما منعه في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) ، من عظم حقه عليها، ثم للإجماع المنعقد على ذلك أيضاً. قال: (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) ، قال أبوه معلماً إياه، والأنبياء هم أعقل وأرشد الخلق عليهم الصلاة والسلام، قال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] ، أي: فيدبرون لك تدبيراً، ويأتمرون عليك مؤامرة، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] ، أي: إن الشيطان سيحملهم على الكيد لك، وسيوغر صدورهم تجاهك؛ إذ رأيت من الرؤى الطيبة ما لم يروا.

حكم التحدث بنعم الله

حكم التحدث بنعم الله وهنا يرد بحث عاجل وسريع يتعلق بمسألة التحدث بنعم الله تعالى على الأشخاص: فإذا أنعم الله على عبد بنعمة، هل يشرع له أن يحدث بهذه النعمة، أم أنه يكتمها ولا يحدث بها؟ عندنا نصوص تفيد أنه يجب علينا أن نتحدث بنعم الله تبارك وتعالى علينا، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، فهذا أمر بالتحديث بالنعمة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ، فهذا حث على التحديث بالنعمة. وهناك نصوص أخرى تجعلنا نحجم عن التحديث بالنعم، كقول يعقوب عليه السلام: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5] ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به من يحب) ، مفاده: ألا يحدث به من يكره. وفي الباب في معرض المنع من التحديث: حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي صحته نزاع، ونرى أنه ضعيف لا يصح، ألا وهو: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود) ، هذا الحديث وإن حسنه بعض الأفاضل من المعاصرين إلا أن أكثر الأولين على تضعيفه؛ كالإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما من العلماء. فالشاهد من ذلك: أن مسألة التحديث بالنعم لها فقه، فإذا كنت ترجو من الذي تحدثه بنعمة الله عليك أن يدعو الله لك بالبركة وأنه سيفرح لفرحك؛ فحينئذ حدثه بالنعمة، وإذا كنت تراه حاسداً يخطط لتدميرك ويسعى في الكيد لك؛ فلتكتم عنه هذه النعمة، ومن هنا قال يعقوب ليوسف: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5] ، ثم ذكر السبب قال: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] ، وقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، من العلماء من قال إن هذا من قول يعقوب. وهو الأظهر. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف:6] ، أي: يختارك ربك ويصطفيك من بين إخوتك، فالذي يجتبي ويختار هو الله، والذي يفضل هو الله، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] ، فليس لك إذاً أن تعترض على أقدار الله تبارك وتعالى. قال: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6] ، وتأويل الأحاديث هنا هو تأويل الرؤى، فقد أوتي يوسف صلى الله عليه وسلم فيها ومنها علماً عظيماً لا يبارى. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي: بالنبوة، فهي أعظم النعم، {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6] .

دلالة قصة يوسف على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

دلالة قصة يوسف على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثم بين الله سبحانه وتعالى قصة يوسف مع إخوته بمزيد بيان، فقال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف:7] ، آيات: أي دلالات للسائلين عن الآيات والدلالات، أو السائلين عن قصة يوسف صلى الله عليه وسلم. ففي قصة يوسف دلالات وآيات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن وجوه الإعجاز التي أيد الله بها نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام: الإخبار بما فات وبما هو آت، وهذه من دلائل النبوة التي يوردها العلماء في بيان معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: إخباره بأمور قد فاتت لا يعلمها هو ولا قومه، وأمور أيضاً هي آتية، كقوله سبحانه وتعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-4] ، وكإخباره عليه الصلاة والسلام فيما نزل عليه من القرآن بخروج دابة الأرض ويأجوج ومأجوج، وإخباره بالكاسيات العاريات، وإخباره بكثرة الأسواق، وبنحو ذلك. فقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) ، أي: دلالات على صدق ونبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تتمثل هذه الآيات في بيان عواقب الصبر والإحسان، وعواقب طاعة الله وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام. (آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) أي: للسائلين عن الآيات كما تقدم، أو للسائلين عن قصة يوسف على وجه الخصوص.

عدم مؤاخذة الله للعباد بالمحبة القلبية

عدم مؤاخذة الله للعباد بالمحبة القلبية قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] . أخوه هو أخوه الشقيق كما عليه جمهور المفسرين، ومن العلماء من يقول إن اسمه: بنيامين، ولم يرد في هذا خبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا خبر من كتاب الله، ولو كان في تسمية الأخ خيراً كبيراً لذكره الله عز وجل في كتابه، ولذكره نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سنته، وعلى كلٍ فقد ذكر جمهور المفسرين أنه بنيامين. (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) ، وهل ثم خطأ في محبة الرجل لبعض أبنائه أكثر من الآخر؟ ليس ثم خطأ ولا إثم في هذا؛ إذ المحبة محلها القلب، وقد عوتب النبي صلى الله عليه وسلم بسبب حبه لـ خديجة، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إني رزقت حبها) ، فالحب القلبي لا يؤاخذ عليه الشخص. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) . فلست مؤاخذاً إذا أحببت بعض ولدك أكثر من الآخر، وكذلك أيضاً لست مؤاخذاً في محبتك بعض نسائك أكثر من الأخرى، ولست بمؤاخذ في محبتك بعض الأصدقاء أكثر من الآخرين، فكما قال العلماء: (إن المقة من الله) واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] ، أي: محبة في قلوب العباد. إذاً: يعقوب عليه السلام لم يخطئ في محبته ليوسف، وهو نبي كريم صلى الله عليه وسلم.

مكيدة إخوة يوسف

مكيدة إخوة يوسف قال الله تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف:8] . (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي: ونحن جماعة، ومن العلماء من يقيد العصبة فيقول: عشرة، ومنهم من يزيد، ومنهم من ينقص، وعلى كل فالأليق هنا أنها الجماعة. فقالوا: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي: ينتفع بنا أبونا، فنحن أكثر نفعاً من يوسف وأخيه. {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ، والضلال: الذهاب عن القصد والصواب، أما المبين فمعناه: الواضح البين الظاهر. ثم قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف:9] ، أي: القوه في أرض بعيدة عن أعين الناس، أو عن أعين أبيه، {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9] . فمن عجيب أمرهم ما ذكره العلماء بشأنهم: أنهم أضمروا التوبة قبل فعل الذنب، ولعل الله أكرمهم بسبب ذلك، فإنهم قالوا: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) ، فطلبوا محبة الأب، وطلب محبة الأب شيء مرغب فيه، فمن وجهة نظرهم أنهم لا يرغبون في العقوق، بل يرغبون في إقبال أبيهم عليهم، ومن وجهة نظرهم أن يكونوا أيضاً قوماً صالحين فيما بعد.

بداية تنفيذ المؤامرة

بداية تنفيذ المؤامرة قال الله سبحانه وتعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:11-12] . أما قوله تعالى: (يَرْتَعْ) ، فمن أهل العلم من قال: يأكل، وذلك لما ورد عن ابن عباس: (أنه أتى على حمار أتان والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، قال: فدخلت في الصف وأرسلت الأتان ترتع) . ومن العلماء من قال: إن كلمة (يرتع) معناها: يسعى، وثَم أقوال أخر، والمعنى متقارب. {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، فيعقوب صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم أصل اللعب للطفل الصغير يوسف صلى الله عليه وسلم، فأخذ من عدم إنكاره ما ذكرته عائشة رضي الله تعالى عنها إذ قالت: (اقدروا قدر الجارية صغيرة السن الحريصة على اللعب) ، فالصغير له حق أن يُلاعب وأن يُداعب. ورسولنا صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثلاً حسناً في هذا، فكان يدخل على عائشة رضي الله تعالى عنها صويحباتها يلعبن بالبنات معها، وهي: العرائس الصغيرة التي صنعت من العهن، فيختفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسربهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة يلعبن معها. قالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:12-13] ، فتعلل يعقوب عليه السلام بعلتين لمنع يوسف من الخروج معهم، العلة الأولى هي: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} ، أي: يشق علي فراق ولدي يوسف صلى الله عليه وسلم، ولا أكاد أصبر على بعد ولدي هذه المدة، وشيء آخر: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) ، أي: منشغلون بجريكم وبصيدكم وبرعيكم. {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف:14-15] ، أي: اتفقت كلمتهم على هذا، وما الحامل لهم على هذا الاتفاق؟ تقدم من قبل أنهم قالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} ، فظهر أن الحامل لهم على هذا هو حسدهم ليوسف ولأخيه.

اتفاق الإخوة على إلقاء يوسف في الجب

اتفاق الإخوة على إلقاء يوسف في الجب قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} ، أي: يقبل عليكم أبوكم بوجهه، {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} ، أي: من أهل الصلاح والتقوى. {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف:10] ، والذي حمله على قوله: (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) ؟ هو الله سبحانه، فالله غالب على أمره، فهو سبحانه وتعالى الذي يصرف السوء عن عباده، ومن العلماء من يقول: إن القائل هو أخوهم الأكبر، وليس ثم دليل على ذلك ولا على نفيه، وإنما ذكر ربنا: (قَالَ قَائِلٌ) ، فالتكلف قد نهينا عنه، قال تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] ، فليس لنا أن نتكلف ونؤول ونتجشم المشاق حتى نحرر القول في هذا القائل من هو، هل هو الأكبر أو الأوسط أو غير ذلك؟ {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف:10] ، قال فريق من أهل العلم: أي: في أسفل الجب، والجب هو البئر كما هو معلوم. {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف:10] ، فكأنهم اتفقوا على هذا الرأي، بل قد اتفقوا عليه؛ لما سيفهم من السياق، ودل سياق الكتاب العزيز أنهم اتفقوا فيما بينهم على أن يلقوه في غيابة الجب.

تحرير مقولة: الغاية تبرر الوسيلة

تحرير مقولة: الغاية تبرر الوسيلة هنا يرد علينا بحث يتعلق بالمقولة التي اشتهرت: (الغاية تبرر الوسيلة) فهل الغاية الحسنة تبرر الوسيلة التي أصل بها إليها أم لا؟ الحقيقة أن الأمر فيه تفصيل وإن كان البعض يطلق أن الغاية لا تبرر الوسيلة، والبعض يطلق أن الغاية تبرر الوسيلة، وهذا مبحث فقهي دقيق لا يتسع المقام له الآن، ولكن نورد على كل رأي ما يعكر عليه، ونقرر في النهاية أن كل مسألة بحسبها. فعلى سبيل المثال: يرد على الذين يقولون: إن الغاية لا تبرر الوسيلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لي بـ كعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله. فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله! ولكن ائذن لي أن أقول فيك قولاً) فرخص له في ذلك. وكذلك مما ورد في هذا الصدد: ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الكذب من أجل الإصلاح، إذ قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً أو ينمي خيراً) فهذا من باب أن الغاية تبرر بعض الوسائل إليها. ومن باب أن الغاية لا تبرر الوسيلة قوله تعالى وقد نقم عليهم ذلك وكانوا من الجاهلين فيه-: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} . فالحاصل في هذه المسألة: أن كل مسألة بحسبها، وبحسب الملابسات المحيطة بها، ومن ثم يصدر حكم فقهي ينتظم جميع الأدلة الخاصة بهذه المسألة.

آفات الحسد

آفات الحسد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: يا حسن! أيحسد المؤمن؟ قال: سبحان الله ما أنساك لإخوة يوسف! أي أنهم حسدوا يوسف صلى الله عليه وسلم على ما أنعم الله به عليه من محبة أبيه له، فالحسد وارد حتى بين أهل الإيمان، والعين حق حتى بين أهل الإسلام، وقد ثبت: (أن سهل بن حنيف رضي الله تعالى عنه وكان رجلاً أبيض وسيماً جميلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قام يوماً يغتسل، فمر به عامر بن ربيعة فرأى زنده البيضاء الحسناء، فقال: والله ما رأيت جلد مخبأة كهذه الجلد! والله وكأنها زند جارية! فسقط سهل صريعاً في الحال، فذهب أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله! أدرك سهلاً صريعاً! قال: فمن تتهمون؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأتي به فقال: علام يحسد أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدعو له بالبركة، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ وأن يغسل ركبتيه وداخلتي إزاره، وأخذ الماء فصب على سهل بن حنيف، فقام وكأنما نشط من عقال) ، أي: كأنه كان مربوطاً بحبل وفك منه. فالحسد وارد حتى بين أهل الإسلام، ولكن على المسلم أن يجاهد نفسه، وإذا رأى من أخيه ما يعجبه فليدعو له أن يبارك له الله فيما رزقه، فإنه إذا أطلق لنفسه العنان في الحسد فقد يصل بحسده إلى الكفر والعياذ بالله، والذي حمل إبليس على الكفر إنما هو حسده لآدم صلى الله عليه وسلم، إذ قال متكبراً حاسداً: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61] ؟ فإذا رأيت الله سبحانه فضل بعض الناس عليك في مال أو جاه أو منصب أو ذرية أو صحة وعافية أو وسامة وجمال؛ فادع لهؤلاء بالبركة، ولترض بقضاء الله سبحانه الذي قسمه الله سبحانه وتعالى لك، ولتمتثل أمر نبيك عليه الصلاة والسلام: (إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه في المال والخلق، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) . فإذا رأيت أخاك المسلم في نعمة فلا تعترض ولا تحسد، ولتعلم تمام العلم أن الحاسد معترض على أقدار الله، فهو يحسد الناس على ما قدر الله لهم وآتاهم من الجمال، أو على ما قدر الله لهم من المال، فالحاسد معترض على أقدار الله. والحاسد كذلك مشابه للشيطان؛ فإن الشيطان يكره النعم التي ينعم الله بها على العباد، مشابه للكفار؛ فالكافر يكره النعم التي ينعم الله بها على أهل الإيمان، فإذا حسدت إخوانك المؤمنين فتلعلم أنك معترض على أقدار الله، وأنك متشبه بالشيطان بل ومن جنده، وأنك كذلك متشبه بالمشركين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من تشبه بقوم فهو منهم) . فليس التشبه في الزي أو الملبس هو المنهي عنه فقط؛ بل نهينا عن التشبه بهم في أصول الاعتقاد، وهو أعظم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:156] ، أي: لا تتشبهوا بالكفار النادمين على خروج إخوانهم وموتهم في الأسفار. فالكافر إذا خرج أخوه في سفر فمات قال: يا ليته ما سافر، يا ليته جلس، يا ليته ما خرج، يا ليتني كنت بجواره ويتأسف ويتحسر حسرات شديدة فينهانا ربنا عن التشبه بالمشركين في هذا المعتقد الرديء، فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156] . فالشاهد من ذلك أنه يحرم عليك أن تحسد إخوانك المسلمين المؤمنين على ما منَّ الله به عليهم وتفضل، وعليك إذا حسدت قوماً أن تستغفر الله، وأن تدعو لإخوانك بالبركة، وللحسد مباحث ستأتي في مظانها إن شاء الله تبارك وتعالى.

منهج القرآن في التسلية وجبر الخواطر

منهج القرآن في التسلية وجبر الخواطر قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} ، أي: اتفقت كلمتهم واشتركوا فيها جميعاً، {أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} [يوسف:15] . جمهور المفسرين يقولون: هذا وحي ليوسف صلى الله عليه وسلم، وهل يلزم من ذلك القول بنبوته أثناء ذلك؟ من العلماء من قال: إن الوحي في هذا الموطن لا يستلزم النبوة، وهو كالوارد في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] . وثَم وحي آخر: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:68] ، وثَم وحي ثالث في قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] . فمن العلماء من قال: لا يلزم حينئذ أن نقول إنه كان نبياً في هذا الوقت؛ لأنه كان صغيراً صلى الله عليه وسلم. قال الله تبارك وتعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) ، أي: إلى يوسف صلى الله عليه وسلم، فبماذا أوحى إليه؟ من أهل العلم من يقول: إن هذا الوحي لتثبيت يوسف ولجبر خاطره؛ فإنه ذاك المظلوم الذي أوذي من أخوته، فالذي يؤذى ويظلم يحتاج إلى جبر خاطر، ومن ثَم شرع لنا جبر الخواطر المنكسرة. وقد قال تعالى في جبر الخواطر المنكسرة كما في التي كسر خاطرها بسبب طلاقها: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] ، وقال تعالى جبراً لخاطر الأيتام والمساكين الذين يحضرون قسمة الميراث: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] . فالخواطر المنكسرة يلزمنا أن نجبرها، وهذا منهج أصيل في كتاب الله، وفي منهج رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول صلى الله عليه وسلم وقد تخاصم وتحاكم إليه ثلاثة من أصحابه الكرام في شأن ابنة لـ حمزة عام الفتح لما خرجت تتبع رسول الله وتناديه: يا عمي يا عمي! فأخذها علي وقال لـ فاطمة: دونك ابنة عمك، ثم جاء جعفر ينازع فيها، وجاء زيد بن حارثة ينازع فيها، فتخاصم الثلاثة الفضلاء كل يريد أن يأخذ ابنة حمزة رضي الله تعالى عنه. فالرسول عليه الصلاة والسلام يقضي بين الثلاثة الفضلاء من أصحابه، وبين يدي القضاء يجبر خواطرهم جميعاً، فيقول لـ علي: (يا علي! أنت مني وأنا منك، وقال لـ جعفر: أشبهت خلقي وخلقي، وقال لـ زيد بن حارثة: أنت أخونا ومولانا) وهذه توطئة طيبة بين يدي الحكم حتى يستقبل الحكم عن طيب نفس، ثم قال: (أعطوها لـ جعفر فإن الخالة بمنزلة الأم) ، وكانت خالتها زوجة لـ جعفر رضي الله تعالى عنه. فجبر الخواطر المنكسرة أمر أصيل في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، (وجبر الله خاطر نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي كسر بتكذيب قومه له وبإخراجه من بلدته، وجعل كلمة التوحيد باقية في عقبه، كما قال عز وجل: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] . فمن ثَم جاء الوحي إلى يوسف عليه السلام وهو يشتم من هذا ويضرب من هذا، ويأتي يلقي بنفسه على أخيه ينتظر منه رحمة أو رفقاً فلا يجد شيئاً بل يجد هذا يزجره وهذا ينهره وهذا يضربه، وليس له عند إخوته ملجأ، لكن ملجأه إلى الله، قال عز وجل: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] ، أي: أنك يا يوسف ستخبر إخوتك بصنيعهم هذا في وقت هم لا يشعرون فيه أنك أنت يوسف. وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أثر رواه الطبري رحمه الله في تفسيره -وإن كان لنا تحفظ عليه من جهة الإسناد-: أن يوسف عليه السلام لما أتاه إخوته كي يمتاروا لأهليهم، ويأخذون الطعام لهم، أتاهم بالصواع ونقر نقرة عليه بعد أن حملهم بالمتاع، قال: إن الصواع يخبرني أنه كان لكم أخ اسمه يوسف، وأنكم أخذتموه وألقيتموه في بئر. ثم نقر أخرى فقال: إن الصواع يخبرني أنكم ذهبتم إلى أبيكم وكذبتم عليه وقلتم: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:17] . ثم ضرب ثالثة وقال: إن الصواع يخبرني أن لكم أخاً اسمه كذا وكذا فائتوني به. وبعضهم ينظر إلى بعض، وبعضهم يتعجب من هذا الإخبار، والصواع لا يخبر وإنما يوسف عليه السلام يصل إلى مراده بهذه الحيلة كما لا يخفى، وإلا فالصواع لا يتكلم، والأثر موقوف على ابن عباس. قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) ، أي: إلى يوسف صلى الله عليه وسلم (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا) ، أي: بصنيعهم هذا الذي صنعوه فيك، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، وتأويل هذا في قول يوسف عليه السلام لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] ، فقد كانوا لا يشعرون، إلا أنهم فوجئوا بهذا القول، فقالوا: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] . ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سلسلة تفسير سورة يوسف [2]

سلسلة تفسير سورة يوسف [2] إن المتأمل في ثنايا هذه القصة ليرى أنها بنيت على قول الله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) كما يقول بعض أهل العلم، فإرسال يعقوب له مع إخوته، وإلقاء إخوته له في الجب بدل أن يقتلوه، وشراء العزيز له، وإكرامه، كل هذا دليل على أن الله غالب على أمره، ولكن مع الغلبة حكمة في إنجائه له من ابتلاء الجب والبيع والشراء، وأخيراً -وليس آخراً- ابتلاء امرأة العزيز أمام العزيز نفسه.

من أحكام الرؤى والأحلام

من أحكام الرؤى والأحلام المقدمة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا بحث مختصر يتعلق بالرؤى وبعض أحكامها؛ إذ قد كثرت في هذه السورة الكريمة، فمنها رؤيا يوسف صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم، ومنها رؤيا الملك، ومنها رؤيا صاحبي السجن، فلزاماً إذاً أن نورد بعض ما يتعلق بالرؤى من أحكام.

الزمن الذي تتحقق فيه الرؤى

الزمن الذي تتحقق فيه الرؤى هذا وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام حديث فحواه: (الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت فقد وقعت) ، وهذا الحديث ضعفه فريق من العلماء. هذا وقد تتحقق الرؤيا بعد مرور سنوات طوال، فإن يوسف عليه السلام رأى الرؤيا وهو صغير وتحققت بعد سنوات طويلة كما هو معلوم ومشاهد في هذه السورة الكريمة. وكذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رؤيا: رأى أنه سيدخل هو وأصحابه مكة محلقين رءوسهم ومقصرين، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج متجهاً إلى مكة صده المشركون عن مكة، فاصطلح معهم صلح الحديبية المشهور، فقام عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: ألم تكن تحدثنا أنا سنحج هذا العام، وسنأتي البيت ونطوف به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم حدثتك أنك ستحج، فهل أخبرتك أنك ستحج هذا العام؟ قال: لا. قال: فإنك ستحج وتطوف بالبيت) أو كما ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. فالشاهد: أن الرؤيا قد تتحقق بعد زمن طويل ولا يلزم أن تتحقق عقب رؤيتها، ولهذا شواهد متعددة.

ما يستأنس به في تأويل الحديث

ما يستأنس به في تأويل الحديث يستأنس بالأسماء التي ترى في الرؤى على تأويلها، ويسترشد بها على تأويلها، وكذلك يستأنس أحياناً بالألوان التي ترى في الرؤى، وبالأشخاص الذين يرون في الرؤيا، وبالكلمات التي تقال في الرؤيا، كل هذه مستأنسات يستأنس بها في تأويل الرؤى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت كأنا في بيت عقبة بن رافع، وأتي إلينا برطب من رطب ابن طاب، فأولتها أن الرفعة لنا في الدنيا، وأن العاقبة لنا في الآخرة، وأن ديننا قد طاب) ، هذا بعض ما يتعلق بالرؤى.

أقسام الرؤى وآداب كل قسم

أقسام الرؤى وآداب كل قسم الرؤى على ثلاثة أقسام، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ ورد عنه عليه الصلاة والسلام ما حاصله: أن الرؤيا: إما حديث للنفس، وإما رؤيا من الله، وإما حلم من الشيطان. ولكل آداب. أما الرؤيا التي هي من الله سبحانه وتعالى فمن آدابها: أن تحدث بها من تحب بعد حمد الله سبحانه وتعالى عليها، فمن ثَم لا تحدث بها من تكره. أما الرؤيا التي هي حلم من الشيطان، فالآداب المتعلقة بها خمسة: أولاً: أن تتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، ولا تحدث بها أحداً، وتتفل عن يسارك ثلاثاً، وتتحول عن جنبك الذي كنت عليه، فهذه خمسة آداب تتعلق بالرؤيا التي تكره. والرؤيا التي تكره قال في شأنها أبو قتادة رضي الله عنه: (كنت أرى الرؤيا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أثقل علي من الجبل، فلما سمعت حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا سريَّ عني) ، فحاصل الآداب المتعلقة بالرؤية المكروهة: أنك تتعوذ بالله من شرها، ولا تحدث بها أحداً، وتتحول عن جنبك الذي كنت عليه، وتتفل عن يسارك ثلاثاً، وإذا كانت الرؤيا مفزعة فقم وصلِّ ما كتب الله لك أن تصلي. أما الرؤيا التي هي حديث للنفس فهي في الغالب أضغاث أحلام ولا يلتفت إليها كثيراً، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وجاءوا أباهم عشاء.

تفسير قوله تعالى: (وجاءوا أباهم عشاء ... ) الآيات قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16] ، أي: جاء إخوة يوسف إلى أبيهم بعد أن فعلوا فعلتهم الشنيعة؛ من إلقاء أخيهم في غيابه الجب، ومن التفريق بين الوالد وولده، ومن عقوق الوالد المشاهد، ومن عدم رحمة الطفل الصغير؛ رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون، أي: يتباكون على الصحيح، فلم يكن بكاؤهم ببكاء، وكما قال الشاعر: إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى فكان بكاؤهم تباكياً وليس بكاء على الحقيقة، جاءوا متصنعين بهذا البكاء ملتمسين العذر عند أبيهم، وملتمسين العفو. وكما هو معلوم فإن القرائن تقدّم على الدّعاوى والأقوال، فكل قول ليس مدعماً ببينات وقرائن فهو قول متحفظ عليه، وليس مجرد البكاء بنافٍ للتهم عن المتهمين، فثَم أقوام يبكون عن حقيقة، وثَم آخرون يتباكون، فدائماً القرائن والبينات تقدم على الدعاوى والأحوال المصطنعة المتصنعة.

حكم بث الشكوى لغير الله تعالى

حكم بث الشكوى لغير الله تعالى لكن قد يرد في المسألة بحث متعلق ببث الشكوى: هل يجوز لنا أن نبث الشكوى لغير الله، أم أن ذلك غير جائز؟ الظاهر الجواز ما لم يكن فيه تسخط على أقدار الله، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله تعالى عنها يوماً وهي تقول: وا رأساه! أي تشكو رأسها، فقال: (بل أنا وا رأساه!) ، وكذلك ورد أن عائشة دخلت على أبي بكر في مرض أصابه لما قدم إلى المدينة وهو يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وقال بلال في نفس المرض: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وأردن يوماً مياه مجنة وهل تبدون لي شامة وطفيل وشامة وطفيل: جبلان بمكة.

الاستعانة بالصبر في الشدائد

الاستعانة بالصبر في الشدائد قال يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] : أي فهو الذي يطلب منه العون، به نستعين سبحانه لكنها استعانة بالصبر الجميل، واستعانة بالله وبذكره وبالصلاة له كما أمرنا ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] . عند الشدائد يستعان بالصبر وبذكر الله وبالصلاة، قال تعالى في كتابه الكريم: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39-40] ، وقبلها قال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] ، فيستعان على الشدائد بالصبر وبذكر الله، وبالصلاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97-99] ، أي: اعبد ربك صابراً على عبادته حتى يأتيك الموت، فمن أعظم الأمور التي يستعان بها على الشدائد الصبر والصلاة والذكر. دخلت سارة جدة يوسف عليه السلام على الجبار، قيل له: قد دخل بلادك اليوم امرأة هي أجمل امرأة على وجه الأرض، وليس على وجه الأرض امرأة مثلها، وكان معها إبراهيم عليه السلام خارج البيت لا يملك حولاً ولا قوة إلا بالله سبحانه، فقام خارج البيت يصلي ويدعو، وزوجته سارة تدعو داخل البيت: اللهم كف يد الكافر، فمد الكافر يده ليتناولها فقالت: اللهم كف يد الكافر، اللهم كف يد الكافر، فشلت يده، ومنعت من الوصول إليها، فقال: ادعي الله لي ولا أقربك بسوء، فدعت الله له، فمد يده ثانية ليتناولها فقالت: اللهم كف يد الكافر، ثلاث مرات ولم يستطع الوصول إليها، فقال: أخرجوها من هنا، والله لقد جئتموني بساحر ولم تأتوني بإنسان. وأخدمها هاجر أم إسماعيل -فيما بعد- فكان من نسلها إسماعيل عليه السلام، الذي من نسله نبينا محمد سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، ببركة الصلاة والذكر وتقوى الله سبحانه.

صبر يعقوب على مصيبته في يوسف

صبر يعقوب على مصيبته في يوسف {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:17-18] ، أي: بدم مكذوب ليس هو على الحقيقة. قال أبوهم -والأنبياء كما سلف هم أعقل وأزكى الخلق، وهم الذين اصطفاهم الله من خلقه عليهم الصلاة والسلام-: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ، أي: حسنت لكم أنفسكم أمراً سيئاً، وزينت لكم أنفسكم أمراً شريراً، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ، إلى من أشكو والذي خذلني هم أبنائي، إلى شامت يشمت فيّ؟ فكما قال الشاعر: قومي همُ قتلوا أميمة أخي فإذا رميت يصيبني سهمي أأشكو أبنائي إلى شامت أم إلى حاسد لا أشكوكم إلا إلى الله ولا أشكو أمري إلا إلى الله، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ، أي: صبر لا شكوى معه إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ فالصبر الجميل هو الصبر الذي لا تصاحبه شكوى للخلق. {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، فهو الذي يطلب منه العون على ما جئتم به، وعلى ما ادعيتموه.

خبر النبي في قضية الإفك

خبر النبي في قضية الإفك ومثل هذه المقالة قالتها عائشة رضي الله تعالى عنها لما خاض الناس في الإفك بالذي قد خاضوا به، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة بعد مضي شهر وهي في بيت أبيها وعند أمها، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فتشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، فقال: (يا عائشة! إني محدثك بأمر فإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب واستغفر الله غفر الله له، ثم ذكرها بحديث الإفك، فقالت عائشة رضي الله عنها لأبيها: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال أبوها: والله ما أدري ما أقول لرسول الله؟ فقالت لأمها: أجيبي عني رسول الله! فقالت أمها: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟) . وكانت عائشة تبكي بكاءً شديداً مريراً تظن أن سيفلق كبدها منه، فقالت: (والله لقد رميتموني بأمر يعلم الله أني منه بريئة، ولكن إن قلت لكم: إني بريئة لم تصدقوني، وإن قلت: إني ألممت بالذنب صدقتموني، فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ) ولم تكن تتذكر اسم يعقوب عليه السلام، فقد كانت جارية صغيرة؛ فأنزل الله سبحانه بكرمه وفضله براءتها في قرآن يتلى في المحاريب. قال يعقوب أمام هذه الصدمة العنيفة التي ابتلي بها، وقد كان من قبل لا يستطيع أن يفرط في ولده، فمجرد أن يذهب الولد زمناً يسيراً أو ساعات قليلة ثم يرجع يقول: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف:13] ، فأي حزن بعد فقدان طويل أي حزن بعد أن يدعي أبناؤه أن الذئب قد أكل أخاهم؟ حينئذ لا يطلب الصبر إلا من الله، ولا يطلب العون إلا من الله.

من أحكام السبق في الإسلام

من أحكام السبق في الإسلام إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف:17] ، أي: نتسابق فيما بيننا، وهل التسابق مشروع أم ليس بمشروع -وإن كان هذا ليس له مساس مباشر بالتأويل-؟ فالسباق مشروع، وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي ضمرت من الجيفاء إلى ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق، وهذا يؤخذ منه مراعاة التكافؤ، فلا تسابق بين شخص كبير وشخص صغير، وهكذا. فالسباق مشروع، ولا يجوز السباق على وجه الرهان إلا في ثلاثة أحوال، وهي المذكورة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) ، فقوله: (لا سبق إلا في خف) ، أي: في الدواب ذوات الخف، كالإبل، (أو حافر) : وهي الدواب التي لها حوافر كالخيل والحمير، (أو نصل) : وهو الترامي بالسهام، أما ما سوى ذلك فلا يجوز على وجه الرهان. وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله تعالى عنها؛ فسبقته مرة وسبقها مرة صلى الله عليه وسلم، وهذا مبسوط في مظانه، فـ عائشة رضي الله عنها تقول: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات فأمر الجيش بالتقدم، ثم قال: سابقيني يا عائشة! فسابقت النبي صلى الله عليه وسلم وكنت حينئذ خفيفة لم أحمل اللحم فسبقته، ثم لما تقدمت بي السن خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات فقال: سابقيني يا عائشة! فسبقني، وقال: هذه بتلك) ، فالمسابقة لا شيء فيها، ولكن لا تجوز على وجه الرهان إلا في الثلاثة التي ذكرت آنفاً.

عمل يعقوب بالقرائن لبيان كذب أبنائه

عمل يعقوب بالقرائن لبيان كذب أبنائه قال الله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} [يوسف:17] ، فيه أيضاً مشروعية توكيل شخص بحفظ المتاع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل) . {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:17] ، من العلماء من قال: لا يستحب لشخص أن يلقن شخصاً أموراً قد يحتج بها عليه، فإن فريقاً من أهل العلم ذكر أن إخوة يوسف لم يكونوا يضمروا بأن الذئب قد أكل أخاهم، ولكنهم ذكروا بقول أبيهم: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13] ، فلا ينبغي أن يلقن شخص، فإن قال قائل: قد صدرت من يعقوب عليه السلام وهو نبي؟ فالجواب عن ذلك: ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] ، أي: وما أنت بمصدق لنا، فمؤمن لنا معناه: مصدق لنا، ومنه قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83] ، فقوله تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى) أي: فما صدّق لموسى. {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ، أي: وما أنت بمصدق لنا، {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] ؛ لما استقر في نفسك من حبك الشديد ليوسف، فأي شيء سننقله لك عن يوسف فلن تصدقنا فيه. أخذ فريق من أهل العلم من سياقات هذا الحديث: أنه يعمل بالقرائن، فإن العلماء قد ذكروا أن يعقوب نظر إلى قميص يوسف، وإلى الدم الذي على القميص؛ فلم ير القميص مزق تمزيق ذئب، وإنما تمزيق بعض بني آدم، وأن الدم كذلك ليس بدم بشر، إنما هو دم حيوان آخر، وليس بدم يوسف صلى الله عليه وسلم، وكذلك أخذ من قولهم: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] ، هذه الأمور الثلاثة: نوع الدم، طريقة التمزيق، وطريقة الخطاب. فكلها قرائن تدل على كذبهم في دعواهم؛ فمن ثَم أعمل بعض العلماء القرائن. وهناك ما يدل على إعمال القرائن: كالولد في قصة سليمان عليه السلام مع المرأتين اللتين ذهب الذئب بابن إحداهما؛ فقد خرجت امرأتان ترعيان زمن داود عليه السلام، ومع هذه ابن لها، ومع تلك ابن لها، فعدا الذئب على ولد من الولدين فقتله وأخذه، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام وكل منهما تدعي أن الولد الباقي لها، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا من عند داود عليه السلام فمرتا بسليمان فاستوقفهما سليمان عليه السلام، وقال: أنا أقضي بينكما في هذا الولد المتبقي، ائتوني بسكين لكي أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله! فعلم من قرينة الرحمة التي بذلت من الصغرى أن الطفل لها، فقضى بالطفل للصغرى صلى الله عليه وسلم. فيعمل بالقرائن أحياناً وسيأتي لذلك مزيد إن شاء الله تعالى.

عدم جواز العمل بالرؤى

عدم جواز العمل بالرؤى وهذا يجرنا إلى شيء قد نستفيد منه في ديننا -على سبيل المثال-: وإذا كان مؤدى الرؤيا مخالفاً للشرع، كأن يرى شخص رؤيا أنه أتاه آتٍ بأمره أن لا يصلي غداً، فلا يبني في حال من الأحوال على هذه الرؤيا؛ لأن الله أمرنا بالصلاة، فإذا جاءت رؤى تخالف أمراً من كتاب ربنا فلا يعول عليها، وهي حينئذ حلم من الشيطان. وكذلك في هذا الباب: إذا كان ثَم امرأة متبرجة، ورأى شخص رؤيا -وهو من الصالحين- أن تزوج هذه المتبرجة؛ فلا يعمل حينئذ بهذه الرؤيا، لأنا أمرنا بنكاح ذات الدين كما أمرنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالنصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله والبينات والقرائن، تقدم على التظاهرات والدعاوى والأحلام.

قصة بيع يوسف بعد استخراجه من الجب

قصة بيع يوسف بعد استخراجه من الجب قال يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ، وأسدل الستار على يعقوب هنا. ثم قال تعالى في بيان يوسف والحال التي جرت بيوسف عليه السلام وهو في البئر المظلم الموحش: فالبئر عميق، وبه ماء، والآبار من العمق باردة، وهو طفل صغير صلى الله عليه وسلم، لكن إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يعز عبداً فلا مذل له، كما قال النبي محمد عليه الصلاة والسلام: (إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت) ، فأراد الله سبحانه ليوسف رفعة في الدنيا ورفعة في الآخرة، ولم يكن الله ليضيع أولياءه ولا الصالحين من عباده.

خروج يوسف من ابتلاء البئر

خروج يوسف من ابتلاء البئر قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} [يوسف:19] ، أي: الذي يبحث لهم عن الماء، ويرد به على أصحابه، والسيارة: القافلة التي تسير. {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف:19] ، أي: في البئر، فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو، فاستخرج الرجل يوسف عليه السلام، فإذا به يرى غلاماً ليس على وجه الأرض له مثيل ولا شبيه، غلام قد أوتي شطر الحسن صلى الله عليه وسلم، غلام بهي نجيب جميل يسر الناظرين، كأنه ملك كريم عليه الصلاة والسلام، فقال الوارد: {يَا بُشْرَى} [يوسف:19] ، أي: يا بشرى هذا وقتك وهذا يومك، فإن أنا أجد ولداً جميلاً وسيماً على هذا القدر من الجمال الخارق، وعلى هذا القدر الطيب وسماحة الوجه يا بشرى تعالي فهذا مقامك. وفي ضد ذلك قول الكافر: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] ، أي: يا حسرة تعالي وحلي وانزلي على نفس فرطت في جنب الله، وهنا في المقابل: يا بشرى هذا وقتك فتعالي وحلي وانزلي.

بخس السيارة ليوسف وبيعه

بخس السيارة ليوسف وبيعه {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف:19] ، أسروه: من الإسرار، والإسرار الكتمان، فمن الذين أسروه بضاعة؟ من أهل العلم من يقول: إن الذين أسروه بضاعة هم الوارد ومن معه، أي: أسروه عن سائر القافلة، وأخفوا عن سائر القافلة أنهم وجدوه في البئر، أي: كتموا أمره على أنه بضاعة وأنهم اشتروها وسيبيعونها، ولم يقولوا: إنا وجدناه في البئر، وهذا القول هو الأقرب إلى سياق الآيات الكريمات، والأقرب إلى ظواهرها. فالذين أسروه بضاعة على هذا القول هم: الوارد ومن معه، أو الوارد ورفقته الخاصة دون سائر السيارة، فكأنهم أظهروا أنهم اشتروه وسيبيعونه، ولم يقولوا: إنا وجدناه في البئر، فمعنى الإسرار الكتمان. وثَم قول آخر: أن الذين أسروه وكتموا أمره هم إخوته، وكيف ذلك؟ أورد بعض المفسرين -وليس ثَم دليل يشهد لذلك- أن أخا يوسف الكبير كان يتفقد أحواله يوماً بعد يوم؛ فيذهب إلى البئر فينظر إلى ماذا آل أمر أخيه يوسف، فلما وجد الوارد قد استخرجه أتى إليه سريعاً، وقال: هذا عبد لنا قد أبق، وأخفى أنه أخ له، وأخفى يوسف كذلك أنه أخوهم حتى لا يأخذوه ويقتلوه، فرضي بالبيع، ورضي أخوه بأن يبيعه. قال تعالى: {وَشَرَوْهُ} [يوسف:20] ، أي: باعوه، فـ (شرى) بمعنى باع. {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20] ، أي: الذين وجدوه باعوه، أو أن إخوته باعوه، على تأويلين للعلماء، والمعدودة معناها هنا: القليلة التي تعد، ومنه قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] ، أي: قليلات يأتي عليها العد. {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] ، وعلى هذا جوز بعض أهل العلم بيع السلعة النفيسة ذات القيمة الكبيرة بثمن قليل ما دام الرضا من البائع موجوداً ولا يوجد إكراه. وفي مقابل ذلك: الغبن الفاحش، هل هو جائز أو غير جائز؟ الظاهر أن الغبن الفاحش ترد به السلعة؛ لأنه نوع من أنواع الغش، بمعنى إذا كان مثلاً كيلو العنب يباع بجنيه أو بجنيهين فأرسلت ولداً لك يشتريه، فباع له البائع كيلو العنب بمائة جنيه، فلك أن ترد على هذا البائع السلعة وأن تسترد مالك؛ لأن هذا نوع من الغبن الفاحش، والذي به السلعة كما قال الفقهاء، لكن هذه تختلف عن صورتنا في هذا المقام.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذي اشتراه من مصر.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذي اشتراه من مصر ... ) الآيات قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} [يوسف:21] ، ومصر هنا المقصود بها هذه البلدة، وليست بلدة من البلدان كالواردة في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة:61] ، فإن المقصود بها: أي مصر من الأمصار وأي بلدة من البلدان، لكن هنا: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} [يوسف:21] ، المقصود بها: مصر المنسوبة إلى فرعون.

إحسان الله ليوسف بإيتائه العلم والحكمة

إحسان الله ليوسف بإيتائه العلم والحكمة قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:21-22] : وبلوغ الأشد من العلماء من قال فيه: يكون ببلوغ الحلم، ومنهم من قال: ببلوغ الثلاثين، ومنهم من استدل بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] ، فقالوا: إن بلوغ الأشد هو أربعون سنة، كما قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] ، ومنهم من قال: الحكم هنا من الحكمة، والعقل وضع الأمور في أنصبتها اللائقة بها. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] ، فيذكر الله سبحانه وتعالى الناس بالإحسان ويحثهم عليه، إذ المحسن يكرمه الله؛ فيبين الله سبحانه وتعالى في القصص القرآني الكريم أحوال أهل الصلاح ويعمم الحكم، فمن سار على مسيرتهم جوزي خير الجزاء، كما يذكر الله سبحانه أيضاً أهل الشر، ويتوعد من سار سيرهم كما قال تعالى في شأن الحجارة التي أرسلت على قوم لوط: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] . ويذكر الله سبحانه إنجاءه لعباده ويقول: {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:35] ، أي: من شكر جازاه الله بأنواع من الجزاء مثل هذا الذي صنعناه. فالله سبحانه ذكرنا بإكرامه لنبيه يوسف عليه السلام ثم قال: إن هذا العطاء منا ليس خاصاً بيوسف عليه السلام بسبب النبوة، بل الإنجاء والإكرام عام، فلما أبان الله الإكرام الذي أكرم به نبيه يوسف قال: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] ، فهذا لابد أن ينتبه له. فالقصص القرآني نأخذ منه العبر، ونتأسى بمن كان قبلنا من أهل الفضل والصلاح، فالله سبحانه ذكر قصة أيوب عليه السلام فقال: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] ، أي: يتذكرها العباد فيسيروا سيرهم. قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] ، المحسنون هم الذين يعبدون الله ويراقبونه مع عدم رؤيتهم له، ويعبدون الله كأنهم يرونه، ويخشون ربهم بالغيب المحسنون كاظمون للغيظ وعافون عن الناس. فتلك من شيمهم المحسنون يقابلون الإساءات بالإحسان، والسيئات بالعفو والغفران هؤلاء هم المحسنون!

إكرام العزيز ليوسف

إكرام العزيز ليوسف شاء الله أن يشتريه عزيز مصر: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف:21] ، أي: أكرمي مقامه، وأحسني إليه، {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] . ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه بسند يحتاج إلى بحث أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: (عزيز مصر إذ قال لامرأته في شأن يوسف عليه السلام: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] ، وابنة الشيخ الكبير التي قالت لأبيها في شأن موسى عليه السلام: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ، وأبو بكر لما استخلف عمر رضي الله عنهم أجمعين) . قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ، قال العلماء: كان هذا الرجل عقيماً لا ينجب، وكان هذا التبني موجوداً إلى أن نسخ في شريعتنا على لسان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] .

مراودة امرأة العزيز يوسف عن نفسه

مراودة امرأة العزيز يوسف عن نفسه بين الله سبحانه ابتلاءً يتعرض له المسلمون خصوصاً والناس عموماً في دنياهم ابتلاء من الابتلاءات التي تكثر في الناس، والتي خشي علينا منها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وهو الابتلاء والفتنة بالنساء، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) .

خطر النساء على الرجال

خطر النساء على الرجال يبين ربنا سبحانه فتنة تعرض لها يوسف عليه الصلاة والسلام، وحذرنا منها نبينا عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن لابد أن يبتلى في الدنيا، فقد يبتلى بضراء في بلد، وقد يبتلى بالسراء، أو بإغواء الغواة، أو بفتنة الفاتنين والمضلين، أو بمال، أو بمرض، أو بولد سيئ، أو بامرأة سليطة اللسان. أو تبتلى امرأة بزوج شرير مفسد. فالابتلاءات تتنوع، ويوسف عليه السلام ما لبث أن خرج من فتنة البئر ومن فتنة حسد إخوته له، ودخل قصر العزيز ينعم فيه بنعيم الدنيا من مطعم ومشرب وملاذ، لكن جاءته فتنة شديدة لا يصبر عليها إلا الصابرون، ولا يتقيها إلا المخلصون المحسنون إنها فتنة النساء. فتنة عظمى ابتلي بها يوسف صلى الله عليه وسلم، فقد أحبته امرأة العزيز حباً شديداً فوق كل حب، إذ أوتي شطر الحسن، وبشهادة النسوة: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] ، هكذا وصفه النسوة، ووصف نبينا أدق: (أوتي يوسف شطر الحسن صلى الله عليه وسلم) . فابتلي يوسف من وراء هذا الجمال بابتلاء: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] ، والمراودة هي المطالبة برفق ولين، وأحياناً تكون أشد وقعاً وتأثيراً من المطالبة بالعنف والشدة، أما العنيف فإنه يقذف الكراهية في قلب من يطلب منه الشيء؛ فالمراودة هي المطالبة بالرفق واللين. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] ، ولم يذكر اسمها صيانة لعرضها، وفي التعبير بقوله تعالى: (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) بيان أنه كان يفترض فيها أنه عبد عندها وعند زوجها وأن عليها أن تراقب الله فيه. وقد نال يوسف حظاً كريماً من قول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله) ، وقد نال يوسف عليه السلام قسطاً عظيماً من هذا الحديث النبوي الكريم.

امتناع يوسف من امرأة العزيز

امتناع يوسف من امرأة العزيز قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] ، أي: طلبت منه فعل الفاحشة معها، {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ، أي تهيأت لك وتزينت، فهلم وتعال. {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] ، أي: أعوذ بالله من هذا الصنيع، {إِنَّهُ رَبِّي} [يوسف:23] ، أي: زوجك سيدي قد اشتراني وأنا عنده عبد مملوك، فهذا تأويل، والتأويل الآخر: أن المراد بالرب هو الله سبحانه، وكلا التفسيرين له وجه من التأويل، وكلا التفسيرين صحيح. فعلى القول الأول: {إِنَّهُ رَبِّي} أي: سيدي قد أحسن إلي واشتراني بخالص ماله، فلم يكن لي أن أقابل الإحسان بالإساءة، ولا المعروف بالجحود والنكران، فهذا شأن كافري العشير؛ إذ هم الذين يقابلون الإحسان بإساءة، والإنعام بجحود ونكران وكفران، أما أنا فلا: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي: أكرم مقامي. وعلى التأويل الآخر: إنه الله كريم سبحانه وتعالى، أنقذني من غيابة الجب، وأنقذني من حسد الحاسدين، وأكرمني بالمقام عندكم، فلا أكفر نعمة ربي عليّ. فكلا التفسيرين له وجه، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] ، فالظالم هو الذي يكفر نعم الله، وكذلك يكفر نعم الخلق.

معنى قوله: (ولقد همت به.

معنى قوله: (ولقد همت به.) {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] ، ما هو الهم الذي صدر منها؟ وما هو الهم الذي صدر منه؟ الهم: القصد والإرادة، وقد يُصَاحب الهم بالفعل أحياناً، هم بالشخص ضربه أحياناً، فالهم كان منها ببذل جهدها وإبداء رغبتها، بل وبالسعي جاهدة وراء يوسف لنيل الفاحشة منه، بينما الهم منه كان حديث نفس على الظاهر من تأويل الآيات اللغوي، وحديث النفس معفو عنه ما لم يبرز، بل قد يبدل الهم بالسيئة إلى حسنات تكتب للشخص؛ وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (إن الله عز وجل يقول لملائكته: إذا هم العبد بالحسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له عشراً، وإذا هم عبدي بسيئة فارقبوه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإن لم يعملها فلا تكتبوها شيئاً) وفي رواية: (فاكتبوها له حسنة) ، وفي رواية أخرى: (فإنما تركها من جرائي) . فإذا ترك العبد السيئة خوفاً من الله كتبت له حسنات، ودل على ذلك أيضاً حديث ابن العم الذي جلس بين رجلي ابنة عمه، فقالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، ثم توسل بهذا الصنيع إلى ربه لما انطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار، ففرج الله عنهم. فالعبد إذا هم بسيئة وتركها لله كتبت له حسنات، كذلك يوسف حدثته نفسه كبشر بما شاء الله أن تحدثه؛ لكنه خشي الله وترك هذا خوفاً من الله؛ فبدلت هذه الأنواع من الهم إلى حسنات، هذا الظاهر والواضح، وهذا الذي لا يليق غيره بمقام النبوة الكريم؛ فالأقوال المفتراة على نبي الله يوسف، والإسرائيليات المبثوثة والمدسوسة على نبي الله يوسف لا تليق بنبي كريم، وإنما حدثته نفسه، ثم حول هذا التحديث إلى طاعة لله، ووجل من الله سبحانه، فحينئذ ترتفع درجاته عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] ، وما هو برهان ربه؟ لم يرد شيء صريح عن رسول الله في هذا البرهان، وللعلماء فيه أقوال متعددة، لا ينبني شيء منها على كبير دليل، ومؤداها أنه تذكر الله فذكر ورجع عليه الصلاة والسلام.

صرف الله السوء والفحشاء عن يوسف

صرف الله السوء والفحشاء عن يوسف {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] ، فالذي يصرف السوء هو الله. والذي يصرف الفحشاء هو الله، والسوء كل ما يسيئ، والفحشاء كل ما يستفحش ويستقبح ويستنكر من عظيم الذنوب، والسوء والفحشاء هو الزنا ومقدمات الزنا. السوء: المقدمات على رأي بعض العلماء، والفحشاء هي الفاحشة الكبرى، فطهره الله سبحانه وتعالى منها، ولم يقترف شيئاً من السيئات ولا من الفواحش، فهو نبي كريم بوصف نبينا محمد له: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) . قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] ؛ فالذي يصرف السوء هو الله، فلنلتمس منه صرف السوء عنا، وعن ذرياتنا ونسائنا وإخواننا وأخواتنا، والمسلمين والمسلمات. {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] ، أي: لسابقة خير صدرت منه عليه السلام، وهو اجتهاده في مرضاة ربه. {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] ، وهذا من خير ما يدل على نزاهة يوسف وبراءته؛ إذ هو يجري وهي تتابعه، فهل أدل على براءته من أن يجري هارباً وهي تلاحقه كي يفعل معها الفاحشة؟ إنه نبي كريم، منزه مبرأ من الخطأ! (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) : جرى صوب الباب كي يفتح ويهرب عليه الصلاة والسلام، فأدركته {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف:25] ، أي: قطعت قميصه من الخلف، وشاء الله وقدر: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] ، أي: وجداه، حيث فتح الزوج الباب لأمر قدره الله وشاءه، وإذا بيوسف وامرأة العزيز بعد يوسف تطارده وتجري بعده. فلما دخل زوجها إذا بها تلصق التهم بغيرها، تلصق التهمة بالبريء الكريم! فتقول مباشرة لزوجها ملصقة التهمة بيوسف عليه السلام: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] ، وهكذا معشر المسلمين تسجن العفة والطهارة معها، ويسجن البريء، لكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً؛ فتطالب بسجن يوسف أو بتعذيبه، ولم العذاب الأليم ولم يصنع يوسف عليه الصلاة والسلام شيئاً؟ ولكنه ابتلاء تلو ابتلاء، فليصبر الصابرون وليحتسب المحتسبون. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة في مرض موته: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة لـ حفصة: يا حفصة! قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يسمع الناس قراءته من البكاء! فمر عمر فليصل بالناس، فأعاد وأعادت عائشة وحفصة، وأعاد وأعادت عائشة وحفصة، فقال عليه الصلاة والسلام مشتداً: مروا أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف) . ويعني بذلك عليه الصلاة والسلام: أنهن يردن أمراً ويظهرن أمراً آخر، فـ عائشة تقول عن نفسها: (والله ما حملني على قولي: إن أبا بكر رجل أسيف إلا أني خشيت أن يأتي أبي بعد رسول الله يأمُّ الناس فينظر الناس من الذي جاء بعد رسول الله فيجدونه أبا بكر فيتشاءمون بـ أبي بكر، فأردت أن أبعد عن أبي هذا التشاؤم وليلصق هذا التشاؤم بغير أبي، فقلت لـ حفصة: قولي له مر عمر فليصل بالناس) ، ليس رفضاً للإمامة ولكن رفضاً لتشاؤم الناس بـ أبي بكر بعد رسول الله. فكان هذا نوعاً من الدهاء، ونوعاً من الكيد الذي يصدر من النساء، فليعلم كل سائسٍ للنساء أن كثيراً من النساء من ذوات الحيل يردن أمراً ويظهرن أمراً آخر، كما قالت حفصة لـ عائشة وكانتا في سفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر يركب مع عائشة على جملها، فعماد القسم في السفر النزول، كما أن عماد القسم في الحضر الليل، فكان الرسول يسير مع عائشة على الجمل في السفر، فأرادت حفصة يوماً أن تركب هي مع الرسول، فقالت لـ عائشة مظهرة أمراً آخر: يا عائشة! ألا تركبين بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر، أي تنظرين في اتجاهي وأنا أنظر في اتجاهك؟ ولم تقل: إني أريد الرسول، قالت: بلى، فركبت عائشة مكان حفصة وحفصة مكان عائشة، فأتى الرسول إلى بعير عائشة فركب معها فإذا هي حفصة، فسار معها طول الطريق واستحيا أن ينزل، وعائشة تنتظر الرسول يأتيها فلا يأتيها، فحزنت حزناً شديداً، ونزلت تضع رجليها بين الإذخر، أي: بين الحشيش الذي في الأرض وتقول: يا رب سلط علي عقرباً تلدغني، نبيك وما أستطيع أن أقول له شيئاً، فانظر كيف احتالت حفصة هي الأخرى على عائشة رضي الله عنهن أجمعين. والله تعالى أعلم.

سلسلة تفسير سورة يوسف [3]

سلسلة تفسير سورة يوسف [3] ما زالت فتنة النساء هي المحك الذي ربما يسقط فيه الكثير ممن لا يثبته الله تعالى، وقد ثبت الله نبيه يوسف عليه السلام أمام امرأة العزيز التي كانت ذات منصب وجمال أيضاً، وقد كانت نتيجة هذا الثبات السجن، ثم يثبته ويسليه في هذا السجن بمن يسجن معه، ولم يمنعه السجن عن الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له على ما كان عليه آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وذلك هو الذي أنجاه في بادئ الأمر وثبته.

تبرئة الله ليوسف عليه السلام

تبرئة الله ليوسف عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيقول الله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26-27] ، قول يوسف صلى الله عليه وسلم: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) مستعملاً ضمير الغائب إشارة إلى أدب جم كان عليه صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لها، ولم ينزل إلى مستوى المحاججة معها بقوله: (أنت راودتيني عن نفسي) ، فهي أياً كانت امرأة ناقصة عقل ودين، فترفع يوسف عليه السلام عن قول: (أنت راودتيني عن نفسي) .

شاهد يوسف ببراءته

شاهد يوسف ببراءته {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ، من هو هذا الشاهد؟ هل الشاهد طفل تكلم في المهد، كما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما؟ فقد ذكر عدداً من الذين تكلموا في المهد وقال: (وشاهد يوسف صلى الله عليه وسلم) ، أم أنه رجل آخر؟ أما الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلو صح لكان هو الفيصل، كما قال القائل: (قطعت جهيزة قول كل خطيب) ، ولكن الحديث اختلف في رفعه إلى رسول الله ووقفه على عبد الله بن عباس، واستظهر فريق من أهل العلم أنه موقوف على عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف:26] ، والشاهد من أهلها له دلالاته وله شهادته؛ لأن الذي من أهلها في الغالب أنه لن يجور عليها، أما إذا لم يكن من أهلها فاحتمال جوره عليها وارد، فقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ، لمزيد من الإثبات لبراءة يوسف صلى الله عليه وسلم، إذ الشاهد كان من أهلها. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف:26] ، فقدم ما يبرؤها به قبل ما يبرئ به يوسف صلى الله عليه وسلم، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:27] ، (من دبر) أي: من الخلف، وهذا من إعمال القرائن أيضاً، فالقرائن يعمل بها في الأحكام، وقد ورد أن شريحاً القاضي رحمه الله أتى إليه خصمان يختصمان في وشاح أحمر يغطى به الرأس، وكل يدعي أنه له، فقال لهذا: امتشط على ثوب أبيض، فامتشط، وقال للآخر: امتشط على ثوب أبيض، فامتشط، فالذي نزل من شعره حمارٌ زائد حكم له به، وهذا من إعمال القرائن.

خطورة كيد النساء

خطورة كيد النساء {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] ، أي: من كيدكن يا معشر النساء! {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ، فكيد النساء أقوى من كيد الشيطان، ويستدل من يقول بهذا بقول الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} للنساء، وبقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، وهذا الاستدلال عليه مأخذ، فقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} للنساء إنما هو فيما يتعلق بمعاملتهن مع الرجال، ولكن من ناحية الفروض، وإدارة الأعمال، والبلدان، ونواحي الصناعات ونحو ذلك، فتدبير الرجال أشد، وبأس الرجال أقوى، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن) . فهذا يبين لنا أنه لابد من استحضار سنة النبي عليه الصلاة والسلام عند تأويل الآيات، حتى لا نذهب مذهباً بعيداً في التأويل، بناء على ظواهر الآيات مع إغفالٍ لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولعمومات الشرع في هذا المقام.

تفسير قوله: (واستغفري لذنبك)

تفسير قوله: (واستغفري لذنبك) قال الله سبحانه وتعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف:29] ، أي: يا يوسف! أعرض عن هذا، {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف:29] ، من المفسرين من يقول: إن هذا الزوج كان متبلد الإحساس غير غيور على عرضه، لاكتفائه بقوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) ، ومن العلماء من التمس له عذراً في ذلك فقال: إن الجمال الزائد الذي رآه من يوسف عليه السلام جعله يعذر امرأته ويكتفي بقوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) . فما معنى قوله: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} ؟ من العلماء من أول ذلك بقوله: اطلبي مغفرة زوجك لك، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14] ، وكما قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي: اغفر له يا رسول الله! أو اعف عنه واصفح يا رسول لله! فهذا وجه ساقه بعض أهل العلم. فقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} توجيه، {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] ، لِم لَم يقل: من الخاطئات؟ من أهل العلم من قال: إن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث، مستدلاً بهذه الآية: {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] ، ولم يقل: من الخاطئات، وكذلك استدل بقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] ، ولم يقل: من القانتات، فاستدل بذلك فريق من أهل العلم على أن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث، فالتكليف الذي يأتي للذكور يشمل الذكور والإناث ما لم يأت نص يخصصه. ومن العلماء من قال: خطاب الذكور للذكور والنساء يلزمهن خطاب مستقل، واستدل هذا القائل بقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية، وبقوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ، وبقول الشاعر: ولا أدري ولست إخال أدري أقوم أهل حصن أم نساء فقال بناء على هذا: إن خطاب الذكور للذكور وخطاب الإناث للإناث، إلا أن الأولين وجهوا ذلك بأن قوله تعالى: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] ، من باب عطف الخاص على العام، وعطف الخاص على العام جائز، وهذا ينبني عليه اختلاف في بعض الأحكام الفقهية، ومن أمثل الأمثلة التي تساق لذلك: مسألة المجامع في رمضان، هل تلزم امرأته هي الأخرى بكفارة أم لا؟ فعلى قول من قال: إن خطاب الذكور للذكور والإناث يلزمها بكفارة هي الأخرى، وعلى قول من قال: إن النساء يلزمهن خطاب مستقل فسيقول: إن النبي لم يلزم هذه المرأة التي جامعها زوجها في رمضان بكفارة، ومن ثَم يتألق قول من قال: إن الكفارة عليهما معاً. والله أعلم.

ابتلاء يوسف بمجمع من النسوة

ابتلاء يوسف بمجمع من النسوة تسرب الخبر إلى الناس؛ إذ أخبار الملوك والرؤساء وذوي الوجاهات تتسرب سريعاً إلى الناس، فأعين الناس تتجه إلى بيوت أصحاب الوجاهات والمناصب والملوك والرؤساء والوزراء، وأخبارهم تنتشر أكثر من غيرهم؛ إذ الأنظار كلها تتجه إليهم: ماذا أكل؟ ماذا شرب؟ أين خرج؟ ماذا لبس؟ ماذا ركب؟ فأخبارهم على ألسنة الناس دائماً، ومن ثم تشعر بالعافية الذي أنت فيها إذا كنت بعيداً عن مثل هذه المناصب، فستكون في كثير من الأحوال بعيداً عن الأنظار وعن الانتقادات.

ما تمخض عنه مجلس النسوة الآثم

ما تمخض عنه مجلس النسوة الآثم قال تعالى: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ، فقالت بعد أن أخذت عليهن ما أخذت من تقطيع الأيدي، وهي شهادة ظاهرة بحسن يوسف صلى الله عليه وسلم تحتج بها المرأة، بل وتتفوه المرأة بكل قوة حينئذٍ بلسانها، فالأيدي هاهي مقطعة، فإذا كنتن لم تصبرن على رؤية يوسف وقطعتن الأيدي فالحمد لله الذي لم يجعلني أقطع يدي كما قطعتن أيديكن، فحينئذ جهرت المرأة بما في نفسها أمام هؤلاء النسوة قائلة: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:32] ، فاعترفت، والنساء في الغالب يستترن، لكنها لم تستطع أن تستتر، وجهرت بطلبها لعل النسوة يساعدنها على طلبها، ويتظاهرن معها على يوسف صلى الله عليه وسلم، فقالت معترفة للنسوة: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} ، أي: طلبت منه فعل الفاحشة {فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:32] ، أي: فامتنع، {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] ، أي: من الأذلاء الحقيرين المذمومين.

استجابة الله ليوسف وصرف كيد النسوة عنه

استجابة الله ليوسف وصرف كيد النسوة عنه ماذا قال يوسف والنسوة يتواطأن عليه ويتظاهرن عليه ويتفقن عليه، وكل منهن تلح أن يفعل الفاحشة معها ومع امرأة العزيز؟ حينئذ ليس ليوسف ملجأ من الله إلا إليه، فقال يوسف صلى الله عليه وسلم مقولة الكريم المحسن العفيف الطاهر الطيب: {قَال رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] ، أي: أميل إليهن، ومنه قول الشاعر: إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبا فاستفدنا من الآية الكريمة: أن المحفوظ من حفظه الله، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} ، وهذا المعنى مستفاد كذلك من الكلمة التي اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنها كنز من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فمن معاني تلك الكلمة المباركة الطيبة التي لا يدرك معناها كثيرون: لا تحول لي عن معصية الله إلا إذا حولني الله، ولا قوة لي على طاعة الله إلا إذا قواني الله، لا تحول لي عن أمر مهما كان إلا إذا حولني الله عز وجل، ولا قوة لي على أي عمل كان إلا إذا قواني الله عليه. وهذا المعنى معنى حسن ينبغي أن يتفطن له أهل الفطنة والإيمان، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (أتريدون أن تجتهدوا في العبادة؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وهذا المعنى فهمه أولو الألباب، وقد قال الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام:80] ، أنا لا أخشى أصنامكم ولا آلهتكم، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام:80] ، فإذا شاء الله لي أن أتحول إلى الشرك -والعياذ بالله- سيتحول الشخص إلى الشرك، فجدير بالمسلم أن يفهم تماماً هذا المعنى، أن الذي يصرف السوء هو الله، وأن الذي يعصم من الزلل هو الله، فليسأل ربه العصمة من الزلل، وليسأل ربه الثبات على الإيمان، فأنت يا عبد الله ضعيف، ولا قوة لك إلا بالله، فاطلبها منه واستمدها منه سبحانه وتعالى. قال يوسف الصديق: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} ، إذا خيرت يا رب بين الفاحشة وبين السجن فأنا أختار السجن، وهو أحب إلي مما يدعونني إليه، فإذا زلت قدم في الزنا تنزع النور والبهاء من قلب الزاني والعياذ بالله! ينزع الإيمان ويكون فوق رأسه كالظلة إذ هو يزني، وتجلب له نكداً وهماً في الدارين الدنيا والآخرة، وتتسبب في حرق فرجه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ومررت برجال ونساء عراة على مثل التنور يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم، فيسمع لهم ضوضاء وصياح، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني!) ، فهذا شيء من مصيرهم، قال تعالى: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] ، فعياذاً بالله من هذه الفاحشة! وعياذاً بالله من هذه الموبقة! قال يوسف الصديق: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} ، سجن لطاعته لربه يرث فيه إيماناً يجد حلاوته في قلبه، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} ، هنا يقول العلماء أو فريق منهم: لا إكراه على الزنا لهذه الآية، فإذا أكرهت على الزنا فلتسجن خير لك. وفي الآية دليل على أنهن تآمرن جميعاً عليه، وكدن لهن جميعاً، سواء كدن لأنفسهن أو كدن لأمرأة العزيز، بدليل قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} ، أي: أميل إليهن، {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، ليس المقصود بالجاهل هنا الذي خفي عليه حكم مسألة، إنما الجاهل هو الذي عصى ربه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17] ، فليس معناه الخطأ، فالمخطئ مرفوع عنه القلم، ولكن كما قال ابن عباس وغيره: (كل من عصى الله فهو جاهل) . {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34] ، فإنه مخير: إما أن تسجن وإما أن تزني، وكلاهما شر، فاختار أخف الشرين وهو السجن، ولهذه القاعدة شواهد، منها قصة موسى مع الخضر في شأن السفينة، فخرق السفينة وارد، واغتصابها وارد، فاختار الخضر خرق السفينة بدلاً من أن تغتصب، وكذلك في المرأة المختلعة، التي خافت ألا تقيم حدود الله مع زوجها، فهي بين الشرين: إما أن تتنازل الزوجة عن المال وهو المهر، وإما أن تضار في دينها، فدفعت الضرر عن دينها بمال دفعته لزوجها، قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] . وهذا أصل عظيم يعمل به في الملمات والشدائد، فلو أتاك رجل يجري وخلفه سفاح قاتل، فدخل الذي يجري بيتك وجاء السفاح فسألك: هل دخل بيتك فلان؟ فإذا أخبرته قتله، وإذا كذبت فقد كذبت والكذب إثم، فتختار أخف الضررين وهو الكذب دفعاً لمفسدة القتل، وهكذا تسير الأمور. فإذا تواردت المفاسد اخترنا أخف المفاسد، فالغلام كان سيرهق أبويه طغياناً وكفراً، وقتله إثم وجرم، ولكن اختير القتل على تكفير الأبوين وإرهاقهما، فإذا تواردت علينا الشرور والمفاسد اخترنا أخفها. وحينئذ قال الله تعالى في كتابه الكريم: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، السميع للأقوال، وللدعوات، الذي لا يخفى عليه دعاء داعيه، ولا سؤال سائله، العليم بالنوايا، وبالقلوب، علم ربنا من قلب نبيه يوسف عليه السلام أنه لا يريد الفاحشة، فصرفه الله عنها، فالتعويل في كثير من المسائل على القلوب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70] ، وقال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] .

انتشار خبر امرأة العزيز

انتشار خبر امرأة العزيز المهم أن الخبر شاء الله أن يتسرب، {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:30] ، من النسوة؟ نسوة لا نتكلف تسميتهن، إذ نهينا عن التكلف، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] ، ولا معنى لتسويد صفحات بأسماء هؤلاء النسوة، ولا لتضييع أوقات بذكر هؤلاء النسوة، فالمهم والشاهد: أنهن نسوة. {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} ، والنساء كثيرات الحديث أكثر من الرجال، {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} ، أي: تطلبه لنفسها، {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف:30] ، أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، وكما قال البعض: هو حجاب القلب، فوصل حب يوسف إلى شغاف قلب المرأة وتمكن حبه من قلبها. {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30] ، أي: في ذهاب عن القصد بعيد، وذهاب عن الصواب والحق.

أحداث خروج يوسف بين النساء

أحداث خروج يوسف بين النساء {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} [يوسف:31] ، أي: بخوضهن في عرضها، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف:31] ، مجلساً يتكئن عليه، وقدمت لهن أنواع الأطعمة والأشربة، وأنواع الفاكهة، {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} [يوسف:31] ، وهذا من دهاء هذه المرأة، فهي امرأة من ذوات الحيل، وقد ظهرت حيلها من سيرتها، لكن كلل الله أعمالها بالستر بعد ذلك. وهل لنا نحن أن نأكل ونحن متكئون؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لا آكل متكئاً) ، فيكره الأكل وأنت متكئ، لكنه لا يحرم، وفي الاتكاء قولان للعلماء: القول الأول: أن الاتكاء الميل بأحد الشقين على الأرض، والقول الثاني: الاتكاء هو: التربع. {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} ، أي: أعطت كل واحدة منهن سكيناً، {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} [يوسف:31] ، وهو عبد مأمور في بيت ساداته، فخرج يوسف صلى الله عليه وسلم، ولكن سياق الكتاب العزيز موجز، فلم يقل: فخرج عليهن، وإنما فهم ذلك من السياق، {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف:31] ، أي: أعظمنه وأجللنه، ورفعن شأنه، وهو مرفوع الشأن عليه الصلاة والسلام، (أَكْبَرْنَهُ) : أعظمنه إعظاماً شديداً لا يوصف. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، انظر كيف صنع جمال يوسف بعقول هؤلاء النسوة!! لقد ذهب بعقولهن، حتى إن المرأة منهن تقطع يديها وهي لا تشعر بألم القطع؛ إذ الذهن كل الذهن منصب على رؤية يوسف الصديق، وكما سلف: أنه قد أوتي شطر الحسن عليه الصلاة والسلام، ونصف الحسن الآخر قسم على العالم كله، أما يوسف فقد استأثر بشطر الحسن، فلم تشعر النسوة مع جمال يوسف ونظرهن إلى جمال يوسف بالأيدي وهي تقطع. {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] ، أي: ما هذا إلا ملك كريم، فما ظنك بالحور العين؟! وما ظنك بأهل الجنة ونسائها اللواتي وصفهن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يرى مخ سوقهن من وراء اللحم من الحسن) ؟!

ابتلاء يوسف عليه السلام بالسجن

ابتلاء يوسف عليه السلام بالسجن قال الله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] دخل الصديق يوسف عليه السلام السجن لا لذنب اقترفه، ولا لجرم ارتكبه، ولكن لعفته وطهارته، وبعده عن الخنا والزنا والعياذ بالله! لعفته وطهارته سجن، فلا جرم أن يسجن أحياناً البريء، فكم من بريء قد سجن، وكم من بريء قد اتهم، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، والعاقبة للتقوى. دخل يوسف السجن لعفته وطهارته، كما طالب قوم لوط إخراج لوط من قريتهم، لِم؟ {قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] ، فليخرج المتطهرون من البلدان، وهكذا يفعل بالأتقياء والأولياء.

هل تتحقق رؤيا الكفار؟

هل تتحقق رؤيا الكفار؟ ومما سبق يطرح سؤال مؤداه: هل رؤيا الكفار تتحقق؟ وكيف ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة؛ يراها العبد المؤمن أو تُرى له) ، ويقول: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) ، فكيف يتأتى ذلك للكافر إذاً؟ الجواب على مثل هذا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) ، وهذا على الغالب، ولا مانع أن تتحقق رؤيا الكافر لتحقق رؤيا هذين الفتيين، ولتحقق رؤيا الملك، وسوف تأتي إن شاء الله. قال الله: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] ، والبضع كما هو رأي كثير من العلماء: من ثلاثة إلى تسعة، وورد في هذا الباب: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قد رأى أن الروم ستغلب الفرس، فلما نزل قول الله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-4] ، وكان قد وقت خمس سنين، فلما مرت الخمس ولم تغلب الروم الفرس ذهب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأشار إليه: لو مددت إلى تسع، فما مرت التسع إلا وقد غلبت الروم الفرس، فاستأنس البعض بذلك على أن البضع أقل من العشرة، أي: من ثلاثة إلى تسعة، والله تعالى أعلم.

نسيان يوسف لذكر الله بعد تعبيره للرؤيا

نسيان يوسف لذكر الله بعد تعبيره للرؤيا قال الله عز وجل: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] ، أي: قل لسيدك، قل للعزيز أو للمك: إن في السجن شخصاً مظلوماً هو يوسف صلى الله عليه وسلم، عله أن يخرجني، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] ، فمن ثَم لا يتعلق شخص ببشر، إنما نكل الأمر إلى الله ربنا سبحانه كي يكشفه عنا، وننزل أحوالنا وأمورنا بالله؛ كي يكشفها عنا سبحانه. {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] ، وهل هذا من باب الأخذ بالأسباب المشروعة، أم أن ترك ذلك أولى؟ إن فعلنا ذلك ونحن مطمئنون إلى أمر الله راجون فرج الله، وجعلنا هذا فقط مجرد سبب؛ فلا بأس بذلك، أما أن نجعل هذا هو السبب الأعظم، ونتخلى عن دعائنا لربنا سبحانه وتعالى؛ فهذا فيه خلل كبير في القصد والمعتقد. وثم وجه آخر في تفسير قوله الله تبارك وتعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف:42] ، ألا وهو: أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف صلى الله عليه وسلم، فإن اعترض على هذا التأويل باعتراض: أن هذا نبي، وقد لا يتأتى في حقه هذا المذكور. ف A أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر، وأنسى كما ينسى البشر) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] .

تفسير يوسف لرؤيا الفتيين

تفسير يوسف لرؤيا الفتيين قال الله سبحانه وتعالى: وقال يوسف الصديق بعد هذا البيان في التوحيد، وبعد ذكر فضل الله عليه، وعلى آبائه وأجداده، قال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف:41] ، أي: سيخرج وينجو، ويرجع إلى بيت السيد الملك، ويسقيه خمراً مرة ثانية، ويقوم على خدمته ويناوله كئوس الخمر، {وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41] ، من أهل العلم من قال: إنهما لما أُخبرا بهذا التأويل قالا: ما رأينا شيئاً، فخاطبهما يوسف بقوله: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ، أي: قد حق تأويل الرؤيا عليكما، ولم نقف على شيء من السنة إنما هي آثار مأخوذة عن بعض السلف الصالح رحمهم الله.

دعوة يوسف للمسجونين إلى توحيد الله وعبادته

دعوة يوسف للمسجونين إلى توحيد الله وعبادته {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] ، وهذا من حسن الأدب في الخطاب، فيذكر هنا بشيء جامع له معهما، أي: يا صاحباي في السجن، وهذه لها أثرها في التأثير في النفوس، كما تقول: يَبْنَؤُمَّ! فتذكره بالرابطة التي بينك وبينه، أو: يا ابن أخي! يا ابن بلدي! يا مسلم مثلي! فكلها روابط تجعل النفس مؤهلة لقبول ما سيلقى عليها. {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} ، يا من ابتليتما مثلي بالسجن! فهذه رابطة يثيرها يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي أن نثير الروابط التي تفتح الصدور عند الخطاب، فإن الأنفس جبلت على التقارب من مثيلها ونظيرها، {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] ، أآلهة متعددة خير أم إله واحد؟ من نطيع من هؤلاء الأرباب؟ إن الله سبحانه ضرب مثلاً للموحد مع المشرك، فقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] ، أي: عبد يتنازعه جملة من السادة، {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر:29] ، أي: رجلاً يتلقى أوامره من رجل واحد، وآخر يتلقى أوامره من عشرة، هذا يقول له: افعل كذا، وهذا يقول له: بل افعل كذا، وثالث يقول له: بل افعل كذا، فإذا أطاع هذا أضر به ذاك، وإذا أطاع هذا أضر به الآخر، فأيهما أسلم وأحكم: أن أتبع إلهاً واحداً أم آلهة متعددة؟ وليس ثَم إله إلا الله فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، وكما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:42-43] . {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] ، الذي قهر كل شيء، وخضع له كل شيء، ثم قال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف:40] ، أسماء لا حقيقة لها، ولا تأثير لها، سميتموها واختلقتموها وادعيتم لها الربوبية، وليست من الربوبية في شيء، وليست من الألوهية بمكان، {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:40] ، فما أنزل الله في كتابه: أن اعبدوا اللات أو العزى، أو مناة الثالثة الأخرى، أو هبل، أبداً، ما أنزل الله ذلك في كتابه، ولا أنزل الله على لسان رسله: أن ادعوا الولي الفلاني من دون الله وإلى من كان يتقرب الخليل إبراهيم؟ وماذا قال الخليل إبراهيم؟ {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:80-81] سبحانه وتعالى جل شأنه وعز جاهه. {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ، وليس ثم حجة على ربوبيتها، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] ، الأمر والقضاء لله، والحكم حكمه، والخلق خلقه، والقضاء قضاؤه، والتشريع شرعه سبحانه وتعالى، {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40] ، القويم المستقيم، الموصل إلى مرضاة الله، (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أن نفرد الله بالألوهية وبالوحدانية، وأن نتحاكم إليه وحده لا شريك له. قال الله تبارك وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، وحق ما قاله ربنا؛ فأكثر الناس جهلة، وأكثر الناس في شرك وضلال، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وكما قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ، وكما قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان، والنبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر وليس معه أحد) ، ففي هذا تعزية وتسلية لأهل الإيمان، فأهل الإيمان أقلة، أهل الإيمان قلة على مستوى أو على مدار القرون والعصور، فلتتعز ولتتسل بقلة أهل الإيمان في كل زمان وفي كل مكان، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم في سائر الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض) . قال تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، فهم في غمرة ساهون، جهلة بعيدون عن الصواب والحق. ثم بعد هذا التقرير والتمهيد في أبواب التوحيد، لم يكن ليوسف عليه السلام أن يغفل دعوة التوحيد؛ فهؤلاء جهلة، ولهم حق علينا أن نعلمهم أمر دينهم، قوم لم يرد عليهم من يعلمهم الدين ولا التوحيد، فعلى نبي الله يوسف وعلى سائر الدعاة أن يعلموا أمثال هؤلاء الدين الحق؛ إذ الدعوة إلى الله لازمة، ثم هي شرف لفاعلها، فهي عمل المرسلين عليهم الصلاة والسلام: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ، فلم يمتنع يوسف لكونه في السجن من أن يبلغ دعوة الله ودين الله الحق، وما صده سجنه عن ذلك أبداً؛ بل أدى الرسالة صلى الله عليه وسلم كما أداها إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولم يمنعه السجن من إبلاغ دعوة الله بين يدي تأويل الرؤيا. فالأمور يقدم أهمها ثم الأهم؛ (فإن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، وثَم رجل يخبر بأنه سيصلب وتأكل الطير من رأسه، فليذكر مثل هذا بشيء عساه أن ينتفع به قبل الممات، كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفعل، فلقد عاد النبي عليه الصلاة والسلام غلاماً يهودياً كان يخدمه، فقال له (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام إلى أبيه كأنه يستأذنه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: لا إله إلا الله ثم مات. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) ، وهذا مقام ليوسف عليه السلام يفسر فيه رؤيا، وفي تفسيرها: أن أحدهما سيموت، فجدير به إذاً أن لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، بل يعلمهم وينتفع بذلك، فهو أولى من تعليم الرؤيا، وحينئذ قدم يوسف عليه السلام الأنفع وهو تعليم التوحيد قبل تأويل الرؤيا.

إعلام الله لأنبيائه ببعض علم الغيب

إعلام الله لأنبيائه ببعض علم الغيب نرجع فنقول: إن علامات الإحسان كانت بادية على يوسف صلى الله عليه وسلم مع ما هو فيه من جمال وعقل صلى الله عليه وسلم، فمن ثم قال الفتيان: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، فقال الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم معلماً وبالله مذكراً: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف:37] ، أي: أي طعام سيأتيكم سأخبركما به، ستأكلان غداً كذا وكذا، وستأكلان ظهراً كذا وكذا، وعصراً كذا وكذا فإن قال قائل: هذا علم غيب، وعلم الغيب لا يعلمه إلا الله، فما هو وجه قول الصديق يوسف لهما هذا القول؟! وA أن الله سبحانه وتعالى يستأثر أنبياءه ببعض أنواع العلوم التي لا يستأثر بها غيرهم، فالله يستأثر أنبياءه ويخصهم ببعض أنواع العلوم مما هو آت مما لا يعلمها غيرهم، إكراماً من الله لهم، ودليل ذلك من كتاب الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:26-28] ، فقول عيسى عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتلوه من كتاب حين نزل عليه: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-4] ، وإخبار النبي بأمور لم تكن وقعت، فوقعت بعد ذلك ما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، فمن ثم قال يوسف عليه السلام: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] ، أي: ليس من عند نفسي، إنما هذا العلم من الله، فهو يخبرهم عن الله، ويعلمهم بالله، فهم قوم يجهلون ربهم، ويجهلون معرفة الله، فقال لهم يوسف بالله معلماً ومذكراً: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37] .

ترك يوسف لملة الكفر واتباعه لملة الإسلام

ترك يوسف لملة الكفر واتباعه لملة الإسلام {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} الذين هم: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، فيجوز إذاً أن يطلق على الجد البعيد أب، وقد قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] ، وهذا له أثره الفقهي؛ ففي أبواب الفرائض منزلة الجد عند عدم وجود الأب، ومن العلماء من قال: إنه يحجب الإخوة في حالة عدم وجود الأب، وهذا قول فريق كبير من العلماء، ومنهم من أشركه مع الإخوة في الميراث. قال الله تبارك وتعالى: قال يوسف الصديق، وهنا نقول: هل الأصوب أن نقول: قال يوسف الصديق، أم نقول: قال الله تعالى إذا رمنا أن نقول: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} ؟ الظاهر أننا نقول مباشرة: قال يوسف الصديق: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، ولا نقول: قال الله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} ، ولا نقول أيضاً كما قال البعض أن هذا حكاية عن يوسف؛ لأن هذا ليس من صنيع الرسول، بل الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117] ، وقال عليه الصلاة والسلام كذلك: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] ) ، ولم يقل: إذ قال الله حكاية عنه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] ، وكذلك قالت عائشة فيما سلف بيانه: (فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ) ، ولم تقل: كما قال الله حكاية عن أبي يوسف، فمن ثَم نقول: قال يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} ، والملة هي: الدين، ولها معانٍ أخر. {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ، أي: ما كان ينبغي لنا أن نشرك بالله من شيء، ما صح وما جاز وما ينبغي لنا أبداً أن نشرك بالله من شيء، {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} ، وأكبر فضل على الإطلاق أن يرزقنا الله التوحيد سبب النجاة يوم القيامة؛ فمن لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار، والشرك ذنب لا يغفر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، ومن ثم فالفضل كل الفضل في توحيد الله سبحانه، فهي أعظم النعم على الإطلاق أن نرزق التوحيد، قال عليه الصلاة والسلام: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ} ، أي: ما رزقنا به من التوحيد من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، ويجعلون لله شركاء.

تسلية الله ليوسف بالفتيين في السجن

تسلية الله ليوسف بالفتيين في السجن وقوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} ، كما هو معروف أن الاشتراك في المصيبة يخففها ويهونها، ما دامت في مصيبة من مصائب الحياة الدنيا، وقد قالت الخنساء مقولتها المشهورة: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس منهم بالتأسي وأحسن من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (يا فاطمة! إنه قد حل بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً) ، أي: الموت، فيعزيها النبي صلى الله عليه وسلم ويسليها، وبأن الذي يصيب أباها يصيب غيره كذلك، ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34] . أرجع فأقول -وبالله التوفيق-: إن الاشتراك في المصيبة يهونها ويخففها، إلا مصائب الآخرة والعياذ بالله! فالله يقول لأهل الكفر: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] ، أي: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب يوم القيامة في التخفيف عنكم شيئاً، فدخول الفتيين مع يوسف السجن فيه نوع من التخفيف عنه صلى الله عليه وسلم. {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] ، فعلامات الإحسان تبدو على الوجوه، سواء في السجون أو في خارج السجون، وقد قال الله تعالى في شأن أهل الإيمان والصلاة: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] ، وكذلك علامات الصلاح تظهر من كلمات تخرج من الأفواه، فالرجل الطيب والمرأة الطيبة تعرفهم من طيب قولهم، إذ قال الله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] ، وقال في شأن أهل النفاق: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] .

دخول الفتيين السجن مع يوسف

دخول الفتيين السجن مع يوسف {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} ، الفتى هو الشاب، والفتاة هي الشابة، قال أحدهما ليوسف صلى الله عليه وسلم مستفسراً ومخبراً: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36] ، أي: يعصر عنباً، فيؤول العنب إلى خمر، وأطلق عليه خمر باعتبار ما سيؤول إليه، فأحياناً يطلق اللفظ باعتبار ما هو آت، وأحياناً يطلق باعتبار ما قد فات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] ، أي: باعتبار ما ستؤول إليه أموال اليتامى، فإنها ستؤول إلى نار في البطون، وباعتبار ما قد فات، كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] ، ولا يُؤتى اليتامى أموالهم إلا بعد البلوغ، ولا يتم بعد بلوغ، فأطلق عليهم يتامى باعتبار ما كان من أمرهم، كما أطلق على الرسول: يتيم أبي طالب، لكونه كان يتيماً عند أبي طالب، وكما قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:46] ، فأطلق عليهم سحرة باعتبار ما كانوا فيه من سحر، وإلا فلا سحر مع سجود. {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ، يعني: أعصر عنباً فيؤول العنب إلى خمر، {وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] ، فعلامات الإحسان وسيم الصلاح تصاحب المحسنين في السجون والبيوت والطرقات.

سلسلة تفسير سورة يوسف [4]

سلسلة تفسير سورة يوسف [4] صبر يوسف عليه الصلاة والسلام في السجن، وكانت العقبى هي الوزارة والملك وإظهار براءته على الملأ بأنه سجن بلا سبب يظهر للناس، وأبدله الله بالعبودية الملك والتمكين في الأرض، إذ هو أهل لكل ذلك ولا شك، وهذه سنة الله تعالى مع كل عبد صالح.

رؤيا الملك وتعبيرها

رؤيا الملك وتعبيرها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عليه وسلم الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف:43] ، هذا يقوله ملك مصر لملئه وحاشيته، {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} ، أي: في رؤيا منامية، {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} ، أي: ضعاف هزال، وهذا منظر ملفت للنظر: أن يرى شخص رؤيا مؤداها: أن سبع بقرات هزال يأتين على سبع سمان فيأكلنهن. {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} [يوسف:43] ، والملأ: هم الأشراف، {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} [يوسف:43] ، أي: أولوا لي رؤياي وعبروها لي، {إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43] ، إن كنتم من أهل العلم بتعبير الرؤى، لكنهم قالوا مقولة من لا علم له بهذا الباب: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [يوسف:44] ، ومرادهم بالأضغاث: الأخلاط، أي: أخلاط من التي تأتي المرأ في نومه، والضغث: هو الخليط، والضغث أيضاً جاء في قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] ، {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44] ، وهذه رؤيا قد ساقها الله إلى هذا الملك لأمر يريده ويدبره الله سبحانه، فالله هو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض.

تفسير قوله: (ذلك ليعلم أني لم أخنه.

تفسير قوله: (ذلك ليعلم أني لم أخنه.) قال الله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] ، قوله: ((ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)) هل هو استمرار لمقولة المرأة، أي: أنها تحرص على إرضاء يوسف في غيابه؟ هذا ما قال به فريق من المفسرين، أم هو قول يوسف عليه السلام: أي أني لم أخن سيدي بالغيب في امرأته؟ وهذا له وجه كذلك، ومن العلماء من استظهر له بنماذج من كتاب الله، وأن قول يوسف عليه السلام كقول الكفار: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] ، أي أن الملائكة تجيبهم إذ قالوا: ((مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)) ؟ ((هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)) ، فهنا تحول في الخطاب، وكذلك في قول الله تعالى: قالت ملكة سبأ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34] ، فهل قوله: ((وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)) من قول المرأة، أم إقرار من الله لها؟ فيه وجهان لأهل العلم، ونحو ذلك: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:34-35] ، فقول: ((فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)) هل هو من قول فرعون مستمراً في قوله، أم هو قول الملأ من قومه؟ لما قال لهم: ((إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)) ، أجابوه بقولهم: ((فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)) ؟ على لهجة من يعظمون الملوك ويخاطبونهم بلفظ الجمع. فقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] هل هو قول المرأة أو قول يوسف؟ فيه وجهان لأهل العلم: الوجه الأول: أن المرأة تحرص على إرضاء يوسف في غيابه، وتريد كذلك أن تكون وفية أمام يوسف عليه السلام. والوجه الثاني: أنه من قول يوسف حتى يبرئ ساحته ولا يكون قد خان سيده الذي كان يعمل عنده، وكما تقدم: أن تبرئة الساحات مطلوب خاصة لمن سيتقلد عملاً من الأعمال المهمة التي تهم العموم، والله أعلم. {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} ، ولا يوفق الخائن في تدبيره وسعيه، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف:53] ، هل هو قول يوسف أو قول المرأة؟ فيه قولان كذلك: فمن العلماء من قال: لما سمع يوسف ذلك قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ، ومنهم من قال: إن المرأة ما زالت مستمرة في تخطئة نفسها وإظهار براءة يوسف صلى الله عليه وسلم. {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53] ، وهم قليل، وغفور: أي كثير المغفرة رحيم بخلقه، فباب التوبة دوماً مفتوح، فليقبل على الله كل مذنب، وليقلع عن ذنبه، وليقبل إلى الله كل ظالم وليقلع عن ظلمه.

تبرئة الله للصالحين في كل موطن

تبرئة الله للصالحين في كل موطن قالت امرأة العزيز مبرأة ليوسف صلى الله عليه وسلم: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51] ، أي: وضح الحق وتبين، {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51] ، مفاد كلامها: أنها هي التي من الكاذبين، فحينئذ أظهرت الحق جلياً واضحاً، وكل ذلك بإذن الله، وكل ذلك نصرة من الله للمظلوم، وتبرئة من الله سبحانه وتعالى للمظلوم، وهكذا ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم، فليهدأ بالاً كل مظلوم فإن الله سبحانه وتعالى سيبرئه، كما برأ مريم مما اتهمت به، إذ قال لها قومها: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27] ، {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] ، فبرأها لله وأنطق لها وليدها في المهد قائلاً: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:30-31] ، وكما برأ الله سبحانه وتعالى عائشة رضي الله عنها مما اتهمت به من الإفك والبهتان في حديث الإفك في آيات تتلى في المحاريب. وبرأ الله جريجاً العابد كذلك؛ فقد أتته إحدى المومسات، وقالت لقومها: لأفتنن جريجاً، فذهبت إليه تدعوه إلى البغاء معها، فأبى عليها وامتنع، فأمكنت نفسها من راعي للغنم، فحملت منه وولدت، فأتاها قومها وقالوا لها: من أين جئت بهذا الولد؟ قالت: من جريج! فجاءوا إليه وأنزلوه من صومعته وضربوه وآذوه، وهدموا الصومعة، فقال: ائتوني بالطفل، فأتي به، فقال له: يا غلام من أبوك؟ قال: أبي الراعي! وبرأ الله جريجاً بذلك، فبنوا له صومعته وقالوا: إن شئت أن نبنيها من ذهب فعلنا، فقال: لا أعيدوها كما كانت. وبرأ الله سبحانه وتعالى زيد بن أرقم لما نقل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقولة أهل النفاق؛ إذ قال عبد الله بن أبي ابن سلول: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، فجاء ابن أبي وأنكر ذلك أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على زيد بن أرقم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن أرقم يقول له: (إن الله قد صدقك يا زيد) ، وبذلك كانت الأنصار تفتخر فتقول: (ومنا الذي أوفى الله له بأذنه) أي: صدق الله له أذنه. وكذلك كانت ثَم جارية زمن عائشة رضي الله عنها تأتي عائشة فتقول: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني وكانت تكثر من ذلك، فسألتها عائشة رضي الله عنها عن سبب قولها لهذا البيت، فحكت لها ما هذا معناه: أنها كانت عند قوم، ففقدوا وشاحاً من ابنتهم، فاتهموا به الجارية، قالت: ففتشوا كل شيء فيّ حتى فتشوا قبلي، قالت: وبينما هم كذلك إذ جاءت حديّة فألقت الوشاح علي وهم يفتشونني، فأظهر الله عز وجل براءتي. وهكذا ينجي الله المتقين، وهكذا يبرئ الله ساحة المظلومين، وإن كان هذا في الدنيا فهو في الآخرة آت يقيناً لا محالة، فربنا سبحانه ينصر أولياءه ويبرئ ساحاتهم.

استدعاء الملك ليوسف

استدعاء الملك ليوسف قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] ، والناظر إلى هذه الآية الكريمة وما سلف يتبين له بوضوح وجلاء: أن جمال يوسف صلى الله عليه وسلم كان سبباً في دخوله السجن جماله ثم عفته وطهارته، لكن علمه الذي آتاه الله إياه كان سبباً في إخراجه من السجن، فيظهر حينئذ فضل العلم على الجمال، وكذلك في مواطن أخر يظهر فضل العلم على المال، قال الله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، وقال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] ، وقال في الدنيا برمتها وما يُؤتاه ابن آدم فيها: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] . فمن ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، ولا يخفاكم -معشر الإخوة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، وقال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، ومن هنا تظهر فائدة العلم. قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف:50] ، أي: ارجع إلى سيدك الملك، {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50] ، ولم يقل: فاسأله ما بال امرأة العزيز؟ فالتعميم أولى من التخصيص؛ لأن التعميم أولى وأبعد عن التجريح والإهانة من التخصيص، ومن ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع من رجل شيئاً وأراد أن يخطب في الناس خطب فقال: (ما بال أقوام يصنعون كذا وكذا) ، ولا يسمي هذا الشخص باسمه، عليه الصلاة والسلام. فمن ثم قال يوسف عليه الصلاة والسلام معمماً غير مخصص: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي: ما شأنهن، {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] ، فسألهن الملك كما أفاده السياق، {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} [يوسف:51] ، أي: ما شأنكن {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] ، مظهرة للحق ومجلية له، ومعترفة بالذنب: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51] ، اعترفت هذه المرأة بالحق الذي كان من أمرها مع يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينصر الله سبحانه وتعالى الفضيلة، وهكذا ينصر الله الفضلاء، فهي تثني على من امتنع عن فعل الفاحشة معها، وثَم نساء يلعنَّ من فعل الفاحشة معهن، وثم نساء وفتيات يتلذذن لحظة من اللحظات بالفاحشة، ثم بعد ذلك يلعن من ارتكب معهن الفاحشة في الدنيا قبل أن يأتي يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، لكن ينصر الله الفضيلة، ويعز الله أهلها دائماً.

تعبير يوسف لرؤيا الملك

تعبير يوسف لرؤيا الملك {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف:46] ، أي: في رؤيا مؤداها: سبع بقرات سمان، {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف:46] ، أي: هزال ضعاف، {وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف:46] ، فيوسف صلى الله عليه وسلم قد علمه من قبل التوحيد وأظهر له أمر الدين والمعتقد، فالمقام حينئذٍ مقام دخول مباشر في تأويل الرؤيا، ولم يشترط يوسف للتأويل شرطاً، وهذا من كرم يوسف صلى الله عليه وسلم، وقد ورد بإسناد مرسل -والمرسل من قسم الضعيف- من طريق عكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد عجبت والله من كرم أخي يوسف وفضل أخي يوسف، لما أتاه السائل يسأله: أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، عبر له الرؤيا، ولو كنت مكانه لاشترطت الخروج من السجن، والله يغفر له،) (ولقد عجبت والله من كرم أخي يوسف وصبر أخي يوسف والله يغفر له، لما أرسل إليه الملك قائلاً: ائتوني به! قال: ارجع إلى ربك، ولو كنت مكانه لأجبت الداعي) ، وهذا الخبر مرسل كما سمعتم، وسيأتي بعضه متصلاً. قال الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم مفسراً الرؤيا ومعبراً لها: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف:47] ، أي: متصلة متواصلة، تثمر فيها الأرض باستمرار طول السبع سنين، {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:47] ، أي: فاتركوه في سنبله، وهذا من فن علم التخزين، فكتاب ربنا ما فرط الله فيه من شيء، فإن أصول العلوم في كتاب الله فأصل علم الحدادة في قوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] ، والهندسة والفواخير في كتاب الله: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] ، وكذلك قول الله تعالى: {صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] ، وأصل علم الزراعة كذلك في كتاب الله، وأصول الصنائع كلها في كتاب الله، وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:47] ، أي: اتركوه مخزنين له في السنبل، {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47] ، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف:48] ، أي: قحط شديد، {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:48] ، أي: تدخرون، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف:49] ، أي: يأتيهم الغيث، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:49] أي: يعصرون العنب فيصبح خمراً، ويعصرون القصب فيصبح سكراً. هكذا فسر يوسف صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا للمك: تزرعون سبع سنين متصلة، فما حصدتم فذروه في سنبله، فهو يعلمهم كذلك ولا يكتفي بالإخبار، فهل يجوز من ذلك بيان وجوه الانتفاع للكفار؟ استدل به على جواز ذلك؛ لأن يوسف عليه السلام علم الكفار ما ينفعهم وينقذهم من المجاعات، فعندئذ يجوز مثل هذا ما لم يكن الكافر محارباً، وسيأتي في ذلك مزيد بحث إن شاء الله تعالى. فيوسف أوَّل الرؤيا وعملهم كذلك طريقة العلاج أثناء هذه السنوات: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:47-49] .

مشروعية دفع الشبهات عن النفس

مشروعية دفع الشبهات عن النفس أعجب الملك بهذا التأويل إعجاباً شديداً، فأرسل ليوسف صلى الله عليه وسلم قائلاً: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] ، فلم يتعجل يوسف صلى الله عليه وسلم الخروج، بل قال لرسول الملك: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] ، هكذا أراد يوسف صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ساحته قبل الخروج، فأخذ من ذلك مشروعية دفع الشبهات التي ترد على الشخص، ولهذا أصل عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بل أصول؛ فمن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته زوجته صفية بنت حيي تزوره في معتكفه، فقضت معه ساعة، ثم خرج معها يقلبها إلى دارها، وكان بيتها قريباً من دار أسامة بن زيد، فبينا هو على باب المسجد إذ مر به رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها صفية) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، أو قال: شراً) ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع الشبهة عن نفسه حتى لا يظن به أحد الظنون، فأبان للصحابيين الجليلين أن المرأة التي معه إنما هي صفية بنت حيي. وكذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يقضي بينهما في مسألة العسيف المشهورة، فقال أحدهما: (يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا الرجل -أي: أجيراً عنده- فزني بامرأته، وإني قد أعطيت هذا الرجل مائة شاة ووليدة -أي: أمة فداء لابنه- ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني بغير ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وأقسم حتى يقذف في قلبيهما اليقين بالحكم الذي سيصدر- قال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: الشاة والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) . ومن ذلك أيضاً: سرور النبي صلى الله عليه وسلم الزائد؛ فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً تبرق أسارير وجهه من السرور، فسألته عائشة رضي الله عنها عن سبب سروره، فقال: (يا عائشة! أما شعرت أن مجززاً المدلجي نظر آنفاً إلى زيد وأسامة فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض) ، ومجزز هذا رجل قائف، أي: يقف الآثار، ويعرف قدم هذا من قدم ذاك، ويد هذا من يد ذاك، وكان زيد بن حارثة وابنه أسامة نائمين وغطيا أجسامها وبدت أرجلهما، وكان زيد -كما هو معلوم- أبيض شديد البياض، أما أسامة فكان أسود شديد السواد، فمن ثَم كان البعض يغمز في أسامة، فأتى مجزز المدلجي ورجل أسامة بادية وهي سوداء، ورجل زيد بادية وهي بيضاء، فقال مجزز: أشهد أن هذه الرجل من تلك الرجل، أي: أن هذا ولد لذاك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم لدفع الشبهة عن أسامة بن زيد رضي الله عنه. فكهذا ينبغي للشخص -خاصة من سيتقلد منصباً كيوسف صلى الله عليه وسلم- أن يبرئ ساحته حتى لا يتهم، وأن يبعد الظنون عن نفسه، فهذا مقصد شرعي، فلذلك لما أرسل الملك رسوله قائلاً: (ائْتُونِي بِهِ) ، لم يتعجل يوسف ولم يتسرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثنياً عليه في هذا الصنيع: (لو لبثت ما لبث يوسف لأجبت الداعي) ، وفي رواية: (ثم أتاني الداعي لأجبته) ؛ ففي هذا ثناء على يوسف عليه الصلاة والسلام، ومن العلماء من يقول: إن الشخص إذا لم يكن يتحمل السجن وأتاه الداعي فليخرج، وحمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا.

إرسال الملك الرسول إلى يوسف

إرسال الملك الرسول إلى يوسف حينئذ: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} [يوسف:45] ، أي: من الفتيين اللذين كانا مع يوسف صلى الله عليه وسلم؛ ففيه دليل على أن رؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام قد تحققت، {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] ، أي: تذكر بعد أمة، والأمة هي المدة الزمنية، وأحياناً تطلق الأمة على معانٍ أخر، منها: الجماعة من الناس، كما في قوله تعالى: {فوَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] ، وتطلق الأمة أيضاً على الملة، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52] ، على رأي كثير من المفسرين، أي: ملتكم ملة واحدة، وتطلق الأمة كذلك على الرجل الحنيف العاقل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] ، وهنا تطلق الأمة على المدة الزمنية؛ فالكلمة الواحدة من كتاب الله تتعدد معانيها، وينبغي أن تفسر في كل سياق بالمعنى المناسب لها، وإلا حدنا عن طريق الجادة في التأويل والتعبير والبيان. قال الله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:45] ، أي: فأرسلوني إلى يوسف في السجن واسمحوا لي بزيارته، فأفاد السياق أنهم أذنوا له وأرسلوه، فانطلق قائلاً: {يُوسُفُ} [يوسف:46] ، أي: يا يوسف! {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] ، أي: يا أيها الصديق! يا من بشرتني بالنجاة، وفيه ثناء على الشخص بين يدي الطلب منه.

تمكين الله ليوسف في الأرض

تمكين الله ليوسف في الأرض لما سمع الملك هذه الشهادة الطيبة من هؤلاء النسوة عموماً، ومن امرأة العزيز على وجه الخصوص، كل ذلك لما سمعه الملك بوضوح وجلاء، وبلا تدليس وغش، قال على إثر ذلك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54] ، أي: أجعله مستشاراً خاصاً بي أستشيره في أموري، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} [يوسف:54] ، إن يوسف عليه السلام قد رفع الله قدره في الدنيا فضلاً عن الآخرة أتى يوسف إلى الملك من سجنه، وكلم يوسف الملك، وكلم الملك يوسف صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] ، أي: عندنا ممكن أمين، أي: لك مكانة ووجاهة ومستأمن. وحينئذٍ سأل يوسف صلى الله عليه وسلم عملاً عند هذا الملك -وهو كافر- لمصلحة عامة يراها صلى الله عليه وسلم، ولأمر يريده الله سبحانه وتعالى.

أعطاء الله الملك ليوسف وتدبيره له

أعطاء الله الملك ليوسف وتدبيره له يوسف عليه السلام كان ينتظر سبعاً شداداً وقبلها سبعاً سماناً، فكان يحتاج إلى تدبير الأمور، وقد علمه الله ذلك، فحينئذٍ ليس هناك مانع في أن يظهر ما عنده من الكفاءات، وليس هذا من باب الرياء بل للصالح العام، وجائز أيضاً مساعدة من هم على غير الإسلام في كرب سيقعون فيه ما لم يكونوا من المحاربين. فأجابه الملك إلى طلبه، فهو عنده كما ذكر من قبل: مكين أمين، قال الله سبحانه وتعالى وهو الذي يولي الناس المناصب، وهو الذي ينزعها منهم، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، وما الملك إلا سبب، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} فالذي مكن له في الحقيقة هو الله وليس الملك، فما الملك إلا سبب من الأسباب، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف:56] ، أي: ينزل منها حيث أراد. {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:56] ، أي: نتفضل برحمتنا على من نشاء، ونصيب بفضلنا من نشاء، كما قال تعالى في السحاب المسخر الذي ينزل على أنه غيث فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، فالله يرزق من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ، فإذا علم الناس ذلك فعليهم أن يأتوا البيوت من أبوابها، ويطرقوا باب ربهم سبحانه وتعالى الذي لا يغلق، فإليه المنتهى في كل شيء: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] ، فخزائن كل شيء بيديه، والأمر في كل شيء ينتهي إليه سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56] ، فالمحسن لا يذهب إحسانه عند الله سدى، بل الله له شاكر، قال تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] ، فالله لا يضيع أجر المحسنين أبداً، بل يثيبهم على أجرهم، ويعجل لهم بالخيرات أحياناً، ويدخر لهم كامل الثواب أحياناً أخرى. فليفهم ذلك الفاهمون، وليعمل لذلك العاملون، وليحسن في الأبواب كلها المحسنون، وليس هذا في الدنيا فحسب؛ بل قال تعالى: {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:57] ، فلنحتسب الأجور عند الله، ولنقدم على عمل الصالحات والإحسان؛ فربنا رب شكور غفور {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم تولي الإمارة وتزكية النفس

حكم تولي الإمارة وتزكية النفس وهنا يرد سؤالان: السؤال الأول: كيف سأل يوسف عليه السلام الإمارة ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام يقول: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه) ، ويقول: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة، فإنك إن سألتها وكلت إليها، وإن أعطيتها بغير مسألة أعنت عليها) ، فكيف إذاً يسأل شخص الإمارة والنبي نهى عن ذلك؟ وA أن المقامات تختلف، فإذا كان المقام مقام ظلم متفش، وبتوليك للإمارة ستصلح ما أفسد غيرك من الناس، وترى في نفسك القدرة على ذلك؛ فلا بأس حينئذ بطلب الإمارة، وقد طلبها يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم. والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه: وهو قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ، فكيف زكى نفسه ورب العزة يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] ، ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:49] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أثنى رجل على رجل فأطرى وبالغ في الثناء-: (ويحك! قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، إن كان أحدكم لا محالة فاعلاً فليقل: أحسب فلاناً كذا وكذا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) . فكيف نوفق بين هذه النصوص وبين سؤال يوسف وبين تزكيته لنفسه؟ والجواب: أن المقام مقام يحتاج إلى بيان القدرات، وهذا من بيان القدرات، وليس من باب التعالي على الخلق، وأيضاً قد زكى النبي قوماً من صحابته كي تحفزهم هذه التزكية على ممارسة العمل ابتغاء وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عثمان: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) ، وقال في شأن علي: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ثم قال: أين علي؟) ، وقال في شأن أبي بكر: (آمن بي إذ كذبتموني، وأعطاني إذ منعتموني) ، وقال في شأن عمر: (ما لقيك الشطان سالكاً فجاً إلا سك فجاً غير فجك يا ابن الخطاب، إن الشيطان ليفر منك يا عمر) ، وقد قال عثمان يوم أن حوصر -وقد أشرف على الناس-: أناشدكم الله ولا أناشد إلا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام: هل سمعتم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حفر بئر رومة فله الجنة) ، فحفرتها؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أناشدكم الله ولا أناشد إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هل سمعتم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) ، فجهزته؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال: فبم يقتلونني؟ فأظهر بعض مناقبه حتى يدفع هؤلاء الأشرار الذين أرادوا قتله، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فقد قتله الثوار الخوارج لا جزاهم الله خيراً. إذاً: معشر الإخوة! تجوز التزكية أحياناً بحسب الاحتياج إليها، فقد يكون في التزكية -أحياناً- دفع للهمم وشحذ لها؛ لمواصلة العطاء، أما إذا كان في التزكية قطع للأعناق وتملق وتكلف، فتذم حينئذٍ التزكية، وينبغي أن ننزل الأمور المنزلة اللائقة بها، وهذا هدي نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. وجاء عدي بن حاتم الطائي وهو معروف بكرمه وببذله للإسلام وبعطائه، وقد ارتد قومه بعد وفاة الرسول وثبت هو، وحارب قومه إلى أن يسلموا، فجاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوجد أمير المؤمنين عمر معرضاً عنه، فناداه: يا أمير المؤمنين! أما تعرفني؟ فقال عمر: أعرفك وكيف لا أعرفك؟ أنت الذي أسلمت وثبت إذ كفروا، أنت الذي أعطيت إذ منعوا، أنت عدي بن حاتم، فقال: إذاً لا أبالي يا أمير المؤمنين! فأحياناً يحتاج الشخص إلى إظهار مناقبه وبيان قدراته لعمل يوكل إليه.

ما يشترط توفره في الأجير والعامل

ما يشترط توفره في الأجير والعامل قال يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] ، لِم؟ قال: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، ومن هنا يؤخذ شيء يتعلق بالفقه في العامل الذي يستأجر للعمل، فالعامل الذي يستأجر للعمل ينبغي أن يكون قوياً على هذا العمل، والقوة بحسبها، وينبغي أن يكون أميناً، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ، فلزاماً في الأجير أن يتوافر فيه الشرطان: القوة والأمانة، القوة بحسبها، والأمانة معروفة. وكشاهد آخر لهذا المعنى الذي ينبغي أن يكون في المستأجر: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل:39] ، وقال تعالى في شأن جبريل عليه السلام وهو السفير بينه وبين رسله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20] ، أي: قوي له مكانة، مطاع هناك في الملأ الأعلى، وأيضاً هو أمين، فَوُصف جبريل بالقوة والأمانة كذلك. وهنا يوسف عليه السلام يقول: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، حفيظ الأمانة، عليم القوة، وكما سلف فالقوة بحسبها، فقوة الطبيب لا تكون في بدنه بالدرجة الأولى؛ إنما تكمن في قدرته على تشخيص الأمراض، ووصف العلاج المناسب للداء، وقوة المهندس لا تكمن في بدنه بالدرجة الأولى بل في عقله وذكائه وقدرته على التخطيط، وقوة المدرس تكمن في علمه وإيصاله المعلومة إلى طلابه، وقوة العالم تكمن في حفظه وذكائه وعلمه بأحوال الناس، وإعطاء الفتيا المناسبة لكل حال من الأحوال، وهكذا فالقوة بحسبها وبمنزلتها، فقد يكون الشخص قوياً في دينه لكنه لا يصلح في جانب آخر من الجوانب. فعلى سبيل المثال: أبو ذر رضي الله عنه في دينه أقوى من خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد قال النبي في أبي ذر: (ما أقلت الغبراء -أي: الأرض- ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر) ، ولكن في الإمارة يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! لا تتأمرن على اثنين، ولا تتولين مال يتيم) ، وخالد كان يتولى الإمارة ويؤمره النبي صلى الله عليه وسلم على عدد هائل من فضلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. قال يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، أي: عليم بتسيير الأمور بإذن الله، فالسنوات القادمة سنوات شدة ومجاعة تحتاج إلى حفظ وعلم بالإدارة كذلك.

حكم العمل عند الكافر لمصلحة

حكم العمل عند الكافر لمصلحة وهنا يرد بحث: هل يسوغ لمسلم أن يؤاجر نفسه من مشرك؟ والجواب فيه تفصيل: فإن كان هذا العمل عند المشرك فيه إهانة لدين المسلم، فلا يسوغ له أن يعمل عنده. أما إذا لم يكن فيه إهانة وكان العمل في نفسه مشروعاً، فلا بأس بهذا العمل، فقد أورد البخاري في صحيحه باباً: (هل يؤاجر المسلم نفسه من مشرك في أرض الحرب؟) وأورد حديث خباب بن الأرت قال: كنت قيناً في الجاهلية، فعملت للعاص بن وائل، ثم جئت أتقاضاه فقال: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى قيناً: أي حداداً، والعاص بن وائل هو العاص بن وائل السهمي والد عمرو بن العاص، قال: فقلت له: لا والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم ييحيك، قال: أو أنا ميت ثم حي؟ قلت: نعم، ستموت ثم تحيا، قال: فعند ذلك أعطيك حقك؛ فأنزل الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:77-80] ، ففي قوله: (كنت قيناً فعملت للعاص بن وائل) ما يدل على الجواز. وقد ورد في هذا الباب أثر عن علي ينظر في إسناده: أنه كان جائعاً ذات يوم فعمل عند يهودي على استخراج ماء من بئر كل دلو بتمرة، فاستخرج إلى أن استجمع تمرات تكفيه، ثم ترك العمل. وهذا لم أبحثه بعد، ثم هو موقوف إن صح على علي رضي الله تعالى عنه.

سلسلة تفسير سورة يوسف [5]

سلسلة تفسير سورة يوسف [5] يوسف عليه السلام كريم كآبائه كما وصفهم النبي عليهم الصلاة والسلام جميعاً؛ فرغم كل ما صنعه به إخوته فقد أوفى لهم الكيل، وأكرمهم في المنزل، ورد إليهم بضاعتهم، وطلب منهم أخاً زيادة لهم في الكيل؛ فعادوا إلى أبيهم ليرسل معهم أخاهم؛ فأرسله معهم، لكن بعد أن استوثق منهم بالأيمان، ونصحهم بنصائح أخذاً بالأسباب، ولعلم علمه الله إياه؛ فهو نبي، وعنده من العلم الشيء الكثير.

مجيء إخوة يوسف ودخولهم عليه

مجيء إخوة يوسف ودخولهم عليه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فيقول الله تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58] ، بيانه أنه قد حلت بمصر وبالبلدان المجاورة لها مجاعة شديدة اشتهرت في التاريخ، وبها كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل إذا دعا على المشركين فيقول: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف) ، فهي سنوات شدة وجدب شديد، وهي التي عبرها يوسف عليه السلام للملك بقوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:48] . فحلت بمصر مجاعة شديدة، وعمت هذه المجاعة البلدان المجاورة لمصر، فجاء إخوة يوسف عليه السلام من بلاد كنعان إلى مصر من أجل التماس الطعام والزاد لأهليهم، قال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58] ، أي: لا يعرفونه، {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:59-60] ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يعني بذلك شقيقه الذي سماه جمهور المفسرين: بنيامين.

مزيد إحسان يوسف إلى إخوته

مزيد إحسان يوسف إلى إخوته {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف:62] ، أي: البضاعة التي أتوا بها من بلادهم كي يأخذوا مكانها زاداً وطعاماً براً أو قمحاً أو شعيراً؛ ردوها إليهم مرة ثانية في ثنايا الرحال، والرحل: هو الوعاء الذي يضع فيه الشخص متاعه، فبعد أن جهزهم يوسف عليه السلام بالزاد الذي أتوا من أجله وبالطعام الذي جاءوا راغبين فيه؛ أمر غلمانه بأن يدسوا الأموال التي أتى بها إخوته في ثنايا الرحال والطعام والبر والقمح والشعير، فقال لهم: (اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ) ، أموالهم التي أتوا بها وسلعهم التي أتوا لاستبدالها؛ ودسوها ثانية في أوعيتهم، لم؟ قال: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) . لسببين أمر يوسف صلى الله عليه وسلم أن تدس البضاعة في الرحال مرة ثانية: السبب الأول: لعلهم يعرفونها، ومن ثَم يعرفون كرمنا إذا رجعوا إلى أهليهم، فيطمئنوا أهليهم وأباهم أن أخاهم سيكون في يد أمينة، فهذا ملك لا يظلم، وعزيز لا يظلم، فقال لهم: {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} [يوسف:62] ، ومن ثم يعرفون كرمنا وإحساننا. هذا سبب. السبب الآخر: (لعلهم يرجعون) ، فنحن إذا أخذنا منهم الأموال ورجعوا إلى بلادهم قد لا يكون عندهم أموال أخرى ولا بضاعة أخرى يأتون بها كي يأخذوا مكانها القمح والشعير، لكن إذا وجدوا أموالهم رجعت إليهم رجعوا إلينا مسرعين بأخيهم كي يأخذوا طعاماً جديداً، هذا هو الذي ذكره العلماء في هذا الباب. غرضان من أجلهما قال يوسف لفتيانه: {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} ، الغرض الأول: لعلهم يستدلون على ذلك بإكرامنا وكرمنا، والغرض الثاني: حتى يسرعوا الرجوع إلينا بأخيهم، فإذا وجدوا بأيديهم أموالاً وبضاعة أتوا مسرعين لأخذ القمح مكانها، إذ الناس في أزمة وجوع شديد، وهذه حيلة من الحيل.

من أحكام الحيل في الشرع

من أحكام الحيل في الشرع وكذلك ستأتي حيلة في قوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] ، وهذه وتلك يؤخذ منها شيء، وهو: مشروعية بعض الحيل إذا لم يكن فيها مخالفات للشرع، والحيل على قسمين في الجملة: حيل مباحة ومستحبة أحياناً، وحيل مكروهة ومحرمة. أما أصل الحيل المباحة المشروعة في كتاب الله فما جاء في قصة أيوب عليه السلام، وكان أيوب عليه السلام قد أقسم في مرضه أن يجلد امرأته مائة جلدة لما تخلفت عنه لأمر لم يكن عن تعمد منها، فأقسم إن شفاه الله أن يجلدها مائة جلدة، وامرأته لا تستحق هذا العقاب الشديد، فقال الله له حتى لا يحنث في يمينه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] ، أي: شمراخاً به مائة عود، أو حزمة بها مائة عود، واضرب الزوجة بها ضربة واحدة تكن قد بررت في يمينك يا أيوب، (وَلا تَحْنَثْ) ، أي: ولن تقع في الحنث في اليمين الذي هو عدم الوفاء باليمين. فهذا من الحيل المشروعة. ومن الحيل المشروعة كذلك: التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها وهي ما زالت في عدتها، فكما هو معلوم أنه يحرم على شخص أن يتقدم لخطبة امرأة مات عنها زوجها وهي ما زالت في العدة، لكنه يجوز له أن يعرض، كما قال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} [البقرة:235] ، فإذا كانت المرأة على سبيل المثال طويلة وسمراء، ولها أولاد أيتام، فيأتي إليها الرجل معرضاً ويقول: والله وددت أنني تزوجت امرأة سمراء طويلة، أو وددت كذلك أن أكفل أيتاماً، فهذا تعريض، وهي الأخرى تقول: قد فهمت، لعل الله أن يجيبك إلى ما سألت، فهذه صورة من صور التعريض. وقد ورد عن بعض أبناء جعفر أنه جاء إلى امرأة مات عنها زوجها وهي في العدة يعرض لها فيقول ما معناه: أنا ابن جعفر الطيار، أي: أن أباه يطير بجناحيه مع الملائكة، وعمي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وابنا عمي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وعمي علي رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قالت المرأة: أتخطبني وأنا في العدة؟ قال: ما خطبتك إنما أنا أعرض، رضي الله تعالى عنه. الشاهد: أن هذه من الحيل الجائزة، لكن ثَم حيل محرمة ومكروهة: أما المحرمة فتلك التي صنعها الإسرائيليون؛ إذ ذكرهم الله سبحانه في قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف:163] ، أي: تأتي الأسماك ظاهرة على وجه الماء غير مختفية، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] ، فكان الإسرائيليون قد حُرِّم عليهم العمل يوم السبت، وابتلاهم الله في هذا اليوم بأسماك تأتي على وجه الماء ظاهرة وبادية في جماعات كثيرة، وفي غير يوم السبت لا تأتي؛ ابتلاء من الله بسبب الفسق الذي هم فيه، فاحتالوا حيلاً لصيد الأسماك -كما ذكر بعض العلماء ذلك- فنصبوا شباكاً يوم الجمعة؛ حتى يقع السمك فيها يوم السبت ثم يسحبونها يوم الأحد، وغير ذلك من الحيل المحرمة.

ضرورة استعمال الرفق والحزم في الأعمال

ضرورة استعمال الرفق والحزم في الأعمال قال يوسف عليه السلام: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:60] ، أي: لا تقتربوا مني ولا من بلادي، وأخذ العلماء من ذلك فقهاً يتعلق بمدراء الأعمال، أو برؤساء الهيئات والحكومات وبرب البيت كذلك، أخذوا فقهاً يتعلق بكل مسئول عن عمل ألا وهو: أن المسئول عن العمل عليه أن يلتزم بشيئين: بالرفق، وكذلك بالحزم إن احتيج إليه. فيتسم بالرفق إذ هو الأصل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، وإذا أراد بأهل بيت شراً حرموا الرفق) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في كل شيء ويكره التفحش) ، فالرفق يحبه الله سبحانه وتعالى، ويحبه رسوله صلى الله عليه وسلم. فعلى المسئول عن العمل أن يتسم به، ويكون رفيقاً بمن هم تحت يده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه) ، هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام. فجدير بالمسئول عن العمل أن يكون رفيقاً مرغباً، وأن يكون حازماً شديداً إذا احتاج الأمر إلى حزم وشدة، فإن الله قال لذي القرنين: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86] ، فماذا قال؟ {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:87-88] ، فاستعمل مبدأ الثواب والعقاب كذلك. وكذلك قال الله سبحانه في شأن نبيه سليمان: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20-21] ، فاستعمل طريقة العقاب كذلك؛ إذ الأعمال تصلح أيضاً وتسلم إذا كان ثم عقاب يُوقع على المخطئ. هذا وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحليم الرحيم بأمته مبدأ الشدة أحياناً، فقد أرسل رجلاً من أصحابه عاملاً يجمع له الصدقات من بني سليم، ويقال لهذا الرجل: ابن اللتبية، فرجع الرجل فقال: يا رسول الله! هذا المال لكم، وهذا المال أهدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا جلست في بيت أبيك أو بيت أمك حتى تنظر ما يهدى إليك، ثم قام في الناس خطيباً وقال: يا أيها الناس! ما بالنا نرسل الرجل يجمع الصدقات فيرجع قائلاً: هذا لكم وهذا أهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر ما يهدى إليه) ، فاستعمل الرسول الشدة في هذا اللفظ عليه الصلاة والسلام؛ إذ المقام يقتضي ذلك. وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم فرأى سعد بن أبي وقاص سيفاً فأعجبه، فقال: (نفلنيه يا رسول الله! فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ضعه، ثم قال سعد بعد مدة -وقد غلبته نفسه على هذا السيف-: أعطنيه يا رسول الله! فقال: ضعه، ثم بعد مدة قال سعد مرة ثالثة: نفلنيه يا رسول الله! فقال صلوات الله وسلامه عليه: ضعه من حيث أخذته، قال سعد: وحد بي رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته) ، أي في المرة الثالثة اشتد عليه النبي عليه الصلاة والسلام. فيوسف عليه السلام استعمل هذا الترغيب والترهيب قائلاً: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، ثم عرج على الباب الآخر الترهيب والتخويف بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:60] ، أي: لا تقتربوا مني! {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف:61] ، أي: سنطلبه من أبيه برفق وتلطف، وبشيء من الاحتيال كذلك، فهذا تقتضيه لفظة المراودة، وقد قدمنا معناها.

كرم يوسف عليه السلام

كرم يوسف عليه السلام أما قوله: {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، أي: خير من أكرم الأضياف وأنزلهم منازل حسنة، فإكرام الضيف من سنن المرسلين ومكارم الأخلاق، ومن ثم قال الله سبحانه في شأن إبراهيم عليه السلام: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:26-27] ، وقال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، وقال عليه الصلاة والسلام كذلك: (أيما رجل نزل بقوم فلم يقروه كان له أن يأخذ منهم بقدر قراه) ، أي: بقدر الذي ينبغي للضيف، وما زالت العرب والشعراء يثنون على من أكرم الأضياف، فيثني بعضهم على آل عبد المطلب قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف والرجاف: البحر، وما زال الناس يذمون البخلاء؛ بل ذمهم الله في كتابه، وذمهم النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني عمرو بن الجموح من سيدكم؟ قالوا: سيدنا الجد بن قيس على أنا نبخله يا رسول الله! قال: وأي داء أدوى من البخل، بل سيدكم فلان) ، فاختار لهم سيداً آخر غير هذا السيد البخيل. وقد قال شاعر يذم بخيلاً: رأيت الفضل متكئاً يناجي الخبز والسمكا فقطب حين أبصرني ونكس رأسه وبكى فلما أن حلفت له بأني صائم ضحكا وما زال الناس يذمون البخلاء؛ فيوسف عليه السلام لم يكن ببخيل صلى الله عليه وسلم، بل قال عن نفسه: (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) ، وكيف لا وجده الخليل إبراهيم عليه السلام من أوائل من أكرم الأضياف صلى الله عليه وسلم، وأحسن منازلهم وأكرهم مثواهم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وكما يقول العلماء: إن العرق نزاع، فيوسف صلى الله عليه وسلم اقتبس كرماً من كرم آبائه وأجداده عليهم الصلاة والسلام، واقتبس حلماً من حلم آبائه وأجداده صلى الله عليهم وسلم، واقتبس إيماناً من إيمان آبائه وأجداده عليهم الصلاة والسلام، وقال الله تعالى في شأن قوم من الأنبياء الفضلاء: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34] ، أي: في الخير والصلاح.

إيفاء يوسف للميزان والمكيال

إيفاء يوسف للميزان والمكيال ثم قال: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، فتمدح نفسه بصفتين: أولاهما: أنه يوفي الكيل، وهذه صفة محمودة، وقد ذم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الذين يطففون المكاييل والموازين وتوعدهم بأشد الوعيد، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6] . وأمر الله سبحانه وتعالى بإيفاء المكاييل والموازين في عدة سور من كتابه، فقال تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181-183] . وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] ، وبعث الله نبياً من أنبيائه كان محور دعوته بعد الدعوة إلى التوحيد: الأمر بإيفاء المكاييل والموازين، ألا وهو نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام. فيوسف صلى الله عليه وسلم قال لإخوته: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، أي: خير من أكرم الأضياف، وهذا ثناء على النفس احتيج إليه في هذا المقام لعلة من العلل، فلا بأس بالثناء على النفس أحياناً، وقد قدمنا ما يفيد ذلك عند تأويل قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] .

أحداث عودة إخوة يوسف إلى أبيهم

أحداث عودة إخوة يوسف إلى أبيهم قال الله عز وجل: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} [يوسف:62-63] ، وهل منع منهم الكيل حقاً؟ لا، ذلك أن يوسف عليه السلام جهزهم بجهازهم -كما سبق- وزيادة في الفضل منه رد إليهم أموالهم وبضاعتهم، فكيف قالوا إذاً: (يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) ؟ وجه A أنهم قالوا: منع منا الكيل باعتبار ما هو آتٍ، أي: يا أبانا! سيمنع منا الكيل، ولهذا نظائر في كتاب الله، فيطلق الشيء واللفظ باعتبار ما هو آتٍ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] ، فأطلق على أموال اليتامى ناراً باعتبار ما ستئوول إليه، وكذلك تقدم قول السجين ليوسف عليه السلام: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36] ، أي: أراني أعصر عنباً فيئول العنب إلى خمر، فأطلق على العنب خمراً باعتبار ما ستئول إليه. فقولهم: (يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) ، أي: يا أبانا سيمنع منا الكيل.

ثناء الله على يعقوب بأنه ذو علم

ثناء الله على يعقوب بأنه ذو علم قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف:68] ، حرصه على سلامتهم صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يتوهم متوهم أن يعقوب ليس على علم، فالله يدافع عن يعقوب، وكما هو الحال فالله يدافع عن أنبيائه وأوليائه، فيقول تعالى مثنياً على يعقوب: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ، حتى لا يأتي شخص يتهم يعقوب ويقول: أخطأ يعقوب، لماذا قال لهم كذا؟ ولماذا قال لهم كذا؟ فيقول ربنا: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ، فالله سبحانه وتعالى يدافع عن أنبيائه أوليائه. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم داود وسليمان فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78-79] ، وحتى لا يتوهم متوهم أن داود ليس عنده علم قال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:79-80] ، فهكذا يدافع الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه، وهكذا يدافع الله سبحانه وتعالى عن أوليائه. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ، فجدير بك أيضاً أن تستعمل هذا الأسلوب وهذا الأدب إذا كنت تحكم أو تقضي بين اثنين، أو ترجح بينهما، فرجح الراجح ثم بعد ذلك لا تحرم الثاني من نوع من أنواع الثناء جبراً للخاطر.

مشروعية الأخذ بالأسباب

مشروعية الأخذ بالأسباب عُلمنا من نبي الله يعقوب هدياً في هذا الصدد: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] ، وهذا من باب الأخذ بالأسباب، وإلا فالمقدر سيكون، فقد أمرنا بالأخذ بالأسباب كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] ، وكما قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] . وكما مر عمر مع صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام بأرض بها الطاعون فاستشار عمر أصحابه: أندخل الأرض التي بها الطاعون أم لا ندخل؟ فبعضهم قال: ندخل ونتوكل على الله، وبعضهم قال: لا ندخل ونحن أيضاً متوكلون على الله، فأخرجهم عمر وقال: أدخلوا علي مشايخ المهاجرين والأنصار، ثم استشارهم: أندخل القرية التي بها الطاعون أم لا ندخل؟ فقالوا: لا ندخل يا أمير المؤمنين! فأخذ عمر الجيش وانصرف إلى مكان آخر، فإذا بصائح يصيح ومناد ينادي قائلاً: أفراراً من قدر الله يا ابن الخطاب! فسكت عمر ونظر، فإذا القائل أمين هذه الأمة: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فتعجب عمر المسدد الملهم وقال: لو قالها غيرها يا أبا عبيدة! أي ما كانت هذه الكلمة تصدر منك يا أبا عبيدة، ثم قال: يا أبا عبيدة! أرأيت إذا نزلت بأرض خصبة وأرض أخرى جدباء في أيها ترتع إبلك وبعيرك أو غنمك؟ قال: في الأرض الخضراء، قال: إنك إن رعيتها في الأرض الجدباء رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها في الخضراء رعيتها بقدر الله، ثم بينما هم على ذلك إذ جاء رجل من بعيد يسرع، وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: عندي في هذا والله خبر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فاستبشروا إذ سمعوا الخبر عن رسولهم محمد عليه الصلاة والسلام، قالوا: هات! قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا وقع بأرض ولستم فيها فلا تدخلوها) ، فكبر عمر وحمد الله على ما وفق به؛ فالأخذ بالأسباب لا يخدش في التوكل على الله. قال يعقوب: {يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:67] ، أي: إذا كان الله أمر فأمر الله نافذ وإن أخذنا بالأسباب، فأمر الله سبحانه نافذ رغماً عنا، لكنها أسباب أمرنا بالتماسها، وأمر الله فوق كل أمر: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فنأخذ بالأسباب ونعتقد اعتقاداً جازماً أن أمر الله نافذ. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:67] ، الأمر والقضاء لله، يقضي كيف يشاء، يفعل ما يريد، يحكم كيف يريد سبحانه، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67] .

مشروعية تعويذ الأبناء من العين والحسد

مشروعية تعويذ الأبناء من العين والحسد قال موصياً أبناءه: {يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] ، لم أمرهم أن لا يدخلوا من باب واحد ويدخلوا من أبواب متفرقة؟ لأمرين ذكرهما العلماء: الأمر الأول: أن هؤلاء إخوة يوسف عليه السلام كانوا على درجة كبيرة من الجمال، وكذلك آتاهم الله بسطة في الأجسام، ومما يستأنس لذلك به قوله تعالى عن أجدادهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] ، أي: الأقوياء العلماء، فهؤلاء ذرية هؤلاء الأنبياء الأقوياء العلماء أولي الأيدي والأبصار. فكانوا على درجة كبيرة من الجمال، فجدتهم سارة، ثم كذلك كانوا من ذوي الأجسام الكبيرة والشارات الحسنة، فإذا دخلوا جميعاً من باب واحد الواحد تلو الآخر؛ اتجه إليهم أذى المؤذين وحسد الحاسدين، فإذا رآهم شخص قد يكيد لهم إذا رآهم على هذا المنظر، والأمر الآخر: قد يصيبهم عائن بعين. فالعين حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (العين حق، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا) ، وقال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51] ، وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام في وجه جارية لـ أم سلمة سفعة، أي: تغيراً وسواداً، فقال: (إن بها النظرة فاسترقوا لها) ، وقد مر حديث سهل بن حنيف الذي كان وسيماً وقام يغتسل، فمر به عامر بن ربيعة فقال: والله ما وجدت جلد مخبأة كهذا الجلد، ولا كأنها جلد جارية عذراء، فسقط سهل صريعاً في الحال، وجاء أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون له: أدرك سهلاً صريعاً يا رسول الله! فقال: (من تتهمون؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: علام يحسد أحدكم أخاه، إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة) ، ثم أمر عامر بن ربيعة أن يغسل ركبتيه بعد أن يتوضأ وداخلتي إزاره، ثم يؤخذ الماء ويصب على سهل بن حنيف، فقام كأنما أنشط من عقال، أي: حل من وثاق كان فيه، وقام منطلقاً سريعاً. ومن هنا يقول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (وإذا استغستلم فاغتسلوا) ، بمعنى: إذا شك أحد في أحد أنه أصابه بعين فله أن يقول له: توضأ لي أو اغتسل لي، ويأخذ هذا الماء فيغسل به نفسه، ولا ينبغي أن يمتنع من طلب منه الاغتسال، كما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (وإذا استغستلم فاغتسلوا) ، فللعين تأثير وهي حق بإذن الله. وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت جعفر بعد مقتل جعفر بثلاثة أيام يعزي أسماء بنت عميس زوجة جعفر، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءها بجوارها ضعافاً كأنهم أفراخ، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله! قال: فاسترقي لهم) ، فقد ترى الطفل يذهب إلى الأطباء فلا يجدونه مريضاً وليس ثم مرض بدني، ومع ذلك فالولد نحيف وضعيف بسبب داء آخر يلم به، ألا وهو عين العائنين وحسد الحاسدين. ولذلك ينبغي أن نعوذ أبناءنا كما علمنا نبينا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعوذ الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) ، ويقول: (إن إبراهيم عليه السلام كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق) ، فجدير بكل أب أن يعوذ أولاده وبناته، وأن تعوذ الأم أبناءها وبناتها، فلتمسح على رءوس الأولاد وأجسامهم قائلة: (أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) ، الحين بعد الحين، امتثالاً لصنيع نبينا محمد، والتماساً لهديه صلوات الله وسلامه عليه، ثم دفعاً للشرور عن الأبناء بإذن الله تبارك وتعالى. ثم بالمعوذات كذلك، فإن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان في سفر فقال: (يا عقبة بن عامر! قل. قال: ما أقول يا رسول الله؟ فقال ثانية: يا عقبة بن عامر! قل. قال: ما أقول يا رسول الله؟ فقال: يا عقبة بن عامر! قل. قال: ما أقول يا رسول الله؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] حين تصبح وحين تسمي تكفيك من كل شيء) ، وفي رواية: ( {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فما سأل سائل بمثلهما، وما استعاذ مستعيذ بمثلهما) ، فجدير بالأب إذا أراد أن يحفظ ولده -والمحفوظ من حفظه الله- أن يمسح رأسه بالمعوذات، وبالذكر الذي سمعتموه عن النبي آنفاً. قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] ، الوجه الذي ذكرناه أيضاً من قبل: أنهم إذا دخلوا من باب واحد قد يؤذيهم مؤذ، فإنك إذا دخلت بلدة من البلدان في بعض الدول تجد على مداخلها كمائن للشرط تستوقف الداخلين، فإذا رأوا عشرة عليهم ثياب بيضاء ومن الذين عليهم سيما الفضل والصلاح، ومتزينون بزينة رسول الله، ومتبعون لسنة رسول الله في لحاهم؛ إذا رأوهم يدخلون من باب واحد استوقفوهم وأحالوهم إلى الإدارات مما يسبب لهم بعض الأعطال.

طلبهم إرسال بنيامين معهم للكيل

طلبهم إرسال بنيامين معهم للكيل {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:63] ، وكما هو معلوم: فالأنبياء عليهم السلام هم أذكى الخلق وأكمل الخلق علقاً، وأفهم الخلق، عليهم الصلاة والسلام، وما كان ينبغي لمؤمن أن يلدغ من جحر واحد مرتين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين) ، وأيضاً ورد أن الزهري استدان فذهب إلى بعض أمراء بني أمية لقضاء الدين عنه، كي يقضي الأمير الدَّين عن الزهري، فأعطاه الأمير المال، لكنه أتبعه بكلمة قال فيها: يا زهري! تعود تدان، كلمة توجع، فالمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين. فلما قال إخوة يوسف لأبيهم: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، لم يأخذ يعقوب عليه السلام بقولهم هذا سريعاً، بل تثبت وقال مذكراً: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ} [يوسف:64] ، أي: أي أمن هذا الذي أتوقعه منكم؟! أهذا الأمن الذي وعدتموني به في شأن يوسف صلى الله عليه وسلم، ثم أضعتموه بعد ذلك؟ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] ، فلستم أنتم الحفظة وإن وعدتم بذلك. {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} [يوسف:65] ، أي: ماذا نطلب وماذا نريد بعد هذا الإحسان بإعطائنا غلالاً ورد ثمنها إلينا؟ ولا نريد البغي كذلك، وكل هذا محتمل، {مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:65] ، فهذا دليل على كرم هذا العزيز الذي على مصر، فهذه بضاعتنا ردت إلينا، (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا) أي: نجلب لأهلنا الزاد، والميرة: هي الطعام والزاد، (وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) ، أي: الكيل الذي أتينا به كيل قليل، وقيل: إن كيل أخينا وهو البعير الزائد سهلٌ على الملك.

أخذ يعقوب العهد من أبنائه بحفظ أخيهم

أخذ يعقوب العهد من أبنائه بحفظ أخيهم فماذا قال يعقوب عليه الصلاة والسلام؟ {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66] ، يعني: إلا أن تهلكوا عن آخركم، فالإحاطة بالشيء أحياناً يكون من معناها الإهلاك، كما قال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42] ، أي: هلك ثمره. {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف:66] ، أما الموثق فهو العهد المؤكد باليمين، ومن العلماء من قال: إن الموثق العهد المصحوب بإشهاد الله عليه، ومنه قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] ، فذكر بعض المفسرين أن الرجل كان يقول للآخر إذا زوجه ابنته أو موليته: عليك عهد الله أن تحسن إليها ولا تسيء، عليك عهد الله أن تمسكها بمعروف أو تسرحها بإحسان، وكما هو معلوم أن الأيمان تتأكد بصور من التأكيد، فأحياناً إذا قلت: أقسم بالله العظيم، وأردت أن تؤكده فإنك تؤكده بتكراره، وقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] ، قال: توكيدها: تكرريها، وأحياناً يتأكد اليمين بأن يكون بعد صلاة العصر؛ بأن يحبس الذي سيقسم في المسجد بعد أن يصلي صلاة العصر ويقسم اليمين التي تطلب منه، وهذا تأكيد ثانٍ. وتأكيد ثالث: وهو أن يكون اليمين بعد صلاة العصر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين صبر هو فيها كاذب -أي: على يمين قد حبس عليها وهو فيها كاذب- ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) . قال الله تبارك وتعالى في كتاب الكريم: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66] ، فلما أعطوه الموثق الذي طلبه منهم: (قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) ، فلهذا ينبغي أن تختم الاتفاقيات التي تبرم بين الأشخاص بهذا، كما قال موسى عليه السلام للعبد الصالح: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] ، فختمها بقول: والله على ما نقول وكيل.

سلسلة تفسير سورة يوسف [6]

سلسلة تفسير سورة يوسف [6] ما زال إكرام الله يتوالى على يوسف عليه السلام، فقد أنعم الله عليه بأخذ أخيه من إخوته، وفي مرجع إخوته إلى أبيهم بدون أخيهم دروس وعبر، ثم يظهر كرم الكريم مرة أخرى بعفوه عن إخوته، وبمعجزة من المعجزات بقميصه عليه السلام، ثم تنتهي هذه السنوات بآثامها باستغفار يعقوب لهم، وبعفو يوسف عنهم ولمِّ شملهم في ملك أخيهم.

عودة إخوة يوسف إليه مرة أخرى

عودة إخوة يوسف إليه مرة أخرى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للإنس والجن أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف:69] ، أي: ضمه إليه قائلاً: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف:69] ، أي: لا تحزن، ولا تتضايق، ولا تتبرم بالذي صنعه إخوتك معك، فهذا يدل على أن شقيق يوسف لقي عناءً وشدة وإهانة من إخوته بعد فراق يوسف كذلك، وبدليل الآتي: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] ، فلهذا كان شقيق يوسف يلاقي عناءً من إخوته بعد فراق أخيه يوسف صلى الله عليه وسلم.

يأس إخوة يوسف من إرجاع أخيهم

يأس إخوة يوسف من إرجاع أخيهم قال تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:80] ، فلما استيأسوا من إرجاع أخيهم إليهم ومن أن يستبدل أحدهم بـ بنيامين خلصوا نجياً، أي: يتسارون فيما بينهم ويتناجون فيما بينهم حيث لا يسمعهم أحد إلا الله، كما قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] ، فالتناجي في الآية الكريمة هو التسارر بحيث لا يسمعهم أحد إلا الله سبحانه وتعالى، والنجوى لها أحكام وفقه، فإذا لم يكن حاجة داعية إلى التناجي فلا تتناجى حتى لا تؤذ إخوانك، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر؛ فإن ذلك يحزنه) ، وكذلك قال العلماء: إذا كنتم أربعة فلا يتناجى ثلاثة دون الرابع، وإذا كنتم عشرة فلا يتناجى تسعة دون العاشر، وهكذا. قال الله سبحانه: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:80] ، يتناجون فيما بينهم، ويتسارون فيما بينهم.

تدبر السلف لكتاب الله

تدبر السلف لكتاب الله أعجبت هذه الآية الكريمة أعرابياً من الأعراب فقال: أشهد أن هذا القرآن من عند الله. فكان الناس يتدبرون آيات القرآن ويتفهمونها، ويحضرني في هذا المقام أثر في كيفية تدبر الصحابة للقرآن، وإن لم يسعفني النظر في إسناده، وهو عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ يبين كيف كان ابن عباس يتلقى هذا القرآن ويفهمه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جالساً وأصحابه بعد صلاة الفجر، فقد كان يصلي الفجر ثم يدخل معه حملة كتاب الله يستشيرهم في أموره، ويتدارس معهم كتاب الله عز وجل، وكان يدخل معه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فدخل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يوماً مع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع سائر الصحابة الذين هم من حملة كتاب الله، فإذا بقارئ يقرأ عليهم فبدأ بقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204-206] ، ثم قرأ القارئ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] ، فلما قرأ القارئ هذه الآية الكريمة ضرب ابن عباس برجل صاحبه الذي يجاوره وقال: اقتتلا والله اقتتلا والله!! استوقفت هذه الكلمة عمر رضي الله عنه، فقال لـ ابن عباس: ماذا قلت يا ابن عباس؟ فاستحيا ابن عباس، فأعاد عليه عمر: ماذا قلت يا ابن عباس؟ فاستحيا ابن عباس، فأعاد عليه عمر وأقسم عليه: ماذا قلت يا ابن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين! قلت: اقتتلا! قال: من اللذان اقتتلا؟ قال: اقتتلا يا أمير المؤمنين! قال: من اللذان اقتتلا؟ قال ابن عباس شارحاً الآيات: يا أمير المؤمنين! هذا رجل يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وتولى: أي خرج، أو أصبح والياً، فلما تولى مشى في الأرض يقتل هذا ويقتل ذاك، ويهلك حرث هذا ويهلك حرث ذاك، ويشتم هذا ويضرب ذاك يمشى على هذه الطريقة، يضرب ويقتل ويسمّ البهائم، ويحرق الأشجار، ويدمر الثمار، والناس تعبوا يقولون: اتق الله! خف الله! حرام عليك صنيعك هذا! فتأخذه العزة بالإثم ويزداد، فحينئذٍ لم يعجب هذا الصنيع رجلاً من الصالحين، فقام مشترياً نفسه ابتغاء مرضاة الله وقال: إني أوقف زحف هذا العدو الصائل الباغي، فقام متصدياً له، فحصلت المعركة، وحصل الاقتتال. فانظر إلى فهم ابن عباس وتمشيه مع كتاب الله، وتدبره لآيات كتاب الله العزيز، وانظر إلى حالك مع كتاب الله، إن الله يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] ، فلتستغفر الله يا عبد الله، لتستغفر الله حتى تزال الحجب التي على قلبك من جراء المعاصي، وتفهم كتاب الله على الوجه اللائق به، مستعيناً بالله ثم بالمذاكرة وبالمتابعة.

توسل إخوة يوسف برد أخيهم

توسل إخوة يوسف برد أخيهم {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} [يوسف:78] ، وهذا فيه جواز إطلاق العزيز على بعض البشر، وهناك أسماء لله يجوز إطلاقها على بعض البشر، مع أن الفارق بين الاسم والمسمى كالفارق بين الخالق والمخلوق. فالعزيز -على سبيل المثال- اسم من أسماء الله، وأطلق هنا العزيز على عزيز مصر فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} [يوسف:78] ، وكذلك المؤمن اسم من أسماء الله، وأطلق الله على عبادة المؤمنين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟) ، وربنا هو الأعلى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وقال الله لموسى: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] ، وهناك أسماء لله يتسمى بها ربنا لا يشاركه فيها غيره، كلفظ الجلالة: (الله) كما قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ، على الوجهين من أوجه التأويل، أي: هل تعلم أحداً تسمى (الله) ؟ أو هل تعلم له شبيهاً أو نظيراً؟ وكذلك الاسم الآخر: (الرحمن) فلا يتسمى شخص أحد بـ (الرحمن) ، ولما تشدق مسيلمة الكذاب ولقب نفسه برحمان اليمامة، فكان دائماً يوصف بالكذاب، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذاب. {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف:78] ، توسلوا بشيخوخة أبيهم إلى يوسف عليه السلام، فالكبير كان له حق، وما زال له حق، فقد جاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الأصغر منهما يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبِّر كبِّر) ، يعني: أن الأكبر هو الذي يتكلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيتني الليلة أتسوك بسواك، فجاءني رجلان فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبِّر كبِّر) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) ، أي: ليس على طريقتنا ولا على أدبنا هذا الشخص الذي لا يوقر الكبير، فللكبير حق. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن؛ أخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أتكلم فنظرت فإذا شيوخ القوم -وفي رواية: فإذا أنا أصغر القوم- فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) ، فانظر إلى حياء ابن عمر أن يتكلم بحضرة كبار السن رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فعلينا أن نتأدب بهذا الأدب مع الكبار، فكم صلى هذا الكبير لله من صلاة، وكم ركع لله من ركعة، وكم سجد لله من سجدة، وكم ابتلي فصبر فأجر على صبره، وكم سبح من تسبيحة، وكم كبر من تكبيرة وهلل من تهليلة! فجدير بنا معشر الإخوة! أن نوقر كبار السن، وأن ننزلهم منازلهم اللائقة بهم، فهذا هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فلنتأدب بأدب نبينا محمد عليه أفضل صلاةٍ وأتم تسليم. قال الله سبحانه وتعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف:78] ، حفاظاً على الميثاق الذي واثقوا به أباهم، {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] ، فعلامات الإحسان ظاهرة وبادية على يوسف عليه السلام، على وجه هذا الكريم الحليم العفيف عليه الصلاة والسلام علامات الإحسان بادية على وجه هذا المظلوم الذي رفعه الله سبحانه. {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:79] ، نعوذ بالله أن نظلم ونأخذ أحداً مكان أحد، فلا يصح هذا ولا يعقل، إن الله قال في كتابه الكريم: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:36-37] ، ماذا في صحف موسى؟ وماذا في صحف إبراهيم الذي وفى؟ قال تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38] ، فلا يؤخذ شخص بجريرة شخص آخر، {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:38-39] {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164] ، فما بال شخص يقتل آخر بريئاً من أجل شخص آخر، فلا يصح ولا يجوز، يعلمنا هذا نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم؛ فقد أمرنا بالاقتداء به كذلك. {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف:79] ، ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق، لكن قال: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79] ، أترضى لنا بهذا الظلم نأخذ شخصاً بريئاً ونترك مرتكب الجريمة؟ إنا إذاً لظالمون، لا يصح ولا يليق أبداً أن يؤخذ البريء ويترك المتهم، لا يؤخذ البريء ويترك الجاني، أي شرع هذا؟ فحاولوا معه وحاولوا، ولكن لم تجدِ المحاولات معه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم تجد محاولة من أراد أن يلقي ببريء مكان متهم.

حلم يوسف على إخوته

حلم يوسف على إخوته قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف:77] ، وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان وأهل العقل الراجح والمسئولون عن الأعمال، عليهم أن يكونوا حلماء، عليهم أن يكونوا من الصابرين ضابطي النفس غير المتهورين؛ فيوسف عليه السلام نبي عاقل كريم ليس سريع الغضب ولا سريع الانفعال؛ بل هو هادئ يستمع ويصبر على ما يلاقي من الأذى، وعلى ما يسمع من الكلمات الشديدة اللاذعة. {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف:77] ، لم يظهرها لهم يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي أن يتحلى المسئول عن العمل بالحلم وترك المعاجلة بالعقوبة؛ فالحليم: هو الذي لا يعاجل بالعقوبة، بل يصبر ويتريث، وينظر بعد ذلك هل الأمر هذا يستحق المعاقبة على فعله أو لا يستحق. وكما لا يخفى أن الله وصف إبراهيم عليه السلام الذي هو جد يعقوب أبي يوسف عليه السلام وصفه بالحلم، ومناسبة ذلك: أنه قد صدر من قوم لوط ما صدر من جرم وفحش ومنكر، ومرت الملائكة عليهم السلام بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم لتدمير مدائن قوم لوط، فسألهم إبراهيم عليه السلام إلى أين يذهبون، قالوا: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70] ، أي: لندمر عليهم مدائنهم، يقول تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74] ، أي: يطلب إمهال قوم لوط، ويطلب تأخير العذاب عن قوم لوط، فأثنى الله عليه بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] ؛ فالحليم هو الذي لا يعاجل بالعقوبة، لكن لم يجب إبراهيم إلى طلبه؛ لأن أمر الله قد جاء، قال الله: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:76] . فينبغي أن يتسم الفضلاء بالحلم، وألا يكونوا سريعيِّ الانفعال، إنما يتريث أحدهم ويدرس المسألة، ويعيد النظر وينظر مرة ثانية وثالثة: هل الأمر يستحق العقاب أو العفو؟ وما نوع العقاب الذي يستحقه الأمر؟ هل عقاب بالكلمة يكفي، أم عقاب بالسوط، أم عقاب بالسجن واللازم المطلوب؟ فينظر ويعيد النظر مرة بعد مرة. قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف:77] ، أي: لم يظهرها لهم عليه الصلاة والسلام، {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77] .

أخذ يوسف لأخيه بأمر الله وتدبيره

أخذ يوسف لأخيه بأمر الله وتدبيره {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف:75-76] ، لنفي التهمة والشبهة، حتى لا يقال: إن هذا أمر مدبر مخطط، فإذا أخر وعاء أخيه إلى آخر الأمر في البحث والتفتيش والتنقيب وفتش رحل الأكبر فوجده بريئاً، فحينئذٍ يطمئن الأكبر إلى عدل هذا الملك، ثم يتفش رحل الذي يليه فيجده بريئاً فيطمئن هو كذلك إلى عدل الملك، فإذا اطمأن الكل إلى أنه عادل: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف:76] . {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] ، أي: دبرنا ليوسف، فهذا التدبير كان من الله سبحانه وتعالى، وهذا الحكم باسترقاق السارق الذي حكم به إخوة يوسف كان بإذن الله أيضاً، فوُفق يوسف عليه السلام لهذه الحيلة بإذن الله تعالى. {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:76] ، أي: بالنبوة والعلم، فالعلم بعد الإيمان ومع الإيمان، نرفع درجات من نشاء بالعلم والفقه، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] ، كل عالم فوقه عالم، كل عالم فوقه عالم، وعلم الله فوق علم جميعهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن بعض أبواب العلوم كالطب مثلاً: (ما أنزل الله داءً وإلا وأنزل له دواء؛ علمه من علمه وجهله من جهله) ، فكل صاحب علم فوقه عليم، كما قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} . ثم قال إخوة يوسف وقد أظهروا ما بداخلهم تجاه أخيهم: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] ، يريدون يوسف عليه السلام، ويريدون أيضاً أن العرق دساس، {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} ، فأخرجوا ما بداخلهم تجاه أخيهم، ويوسف يعلم مرادهم عليه الصلاة والسلام.

تمهيد يوسف لأخذ أخيه منهم

تمهيد يوسف لأخذ أخيه منهم قال تعالى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ} [يوسف:74] ، أي: فما جزاء السارق إذا وجدناه متلبساً بالسرقة، {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف:74] ، قال إخوة يوسف: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} ، أي: جزاء السارق الذي سيوجد الصواع في رحله، {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] ، أي: أن الذي تجدون عنده الصواع خذوه كعبد مسترق عندكم مقابل هذه السرقة، وهذه الفعلة القبيحة التي صدرت منه. وهذا كان في شرع يعقوب عليه السلام، أما في شرع أمة محمد عليه الصلاة والسلام: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] ، لكن في شرع يعقوب عليه السلام كان السارق يؤخذ عبداً مسترقاً مقابل السرقة، فأنت إذا سرقت مني شيئاً فيحق لي أن آخذك كعبد عندي مقابل سرقتك، أبيعك إن شئت، أو أستخدمك في أعمالي إن شئت؛ على ما يقتضيه معنى العبد، فكان هذا في شرع يعقوب، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات؛ دينهم واحد وأمهاتهم شتى) ، أي: أصل دينهم التوحيد واحد، لكن الشرائع فيها بعض الاختلاف. فإخوة يوسف هم الذين اقترحوا العقوبة لما سئلوا: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:74-75] ، أي: خذوا من وجدتم الصواع في رحله كعبد لكم، {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:75] ، أي: في شريعتنا، فالذين اقترحوا العقوبة هم إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام بهذا الذي سمعتموه: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . كذلك نلفت النظر هنا إلى شيء لعله ينفع فيما بعد، وليس فيه خبر عن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وإنما نقله كثير من المفسرين: أن يوسف عليه السلام إذ كان صغيراً كانت عمته تربيه، فلما تقدم به السن بعض الشيء أراد أبوه أن يأخذه من عمته، وكانت عمته قد أحبته حباً زائداً؛ فطلبت من أبيه أن يبقيه عندها، فأبى، فألصقت به تهمة السرقة وأنه أخذ شيئاً منها، ومن ثم قبضته عندها في بيتها، ومن ثم قالوا: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] ، وهذا سيأتي، وتقدم أنه ليس فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه مأخوذ من الإسرائيليات، والله تعالى أعلم.

خطة يوسف لأخذ أخيه

خطة يوسف لأخذ أخيه {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف:70] ، والسقاية: هي الصواع الذي سيأتي ذكره، ومن أهل العلم من قال: إن الملك كان يشرب به ويكيل به أيضاً للناس، وهناك من تجشم أقوالاً فقال: كان من فضة، أو كان مرصعاً بالجواهر، إلى غير ذلك من الأقوال، والله أعلم بصحتها، والرحل: هو الوعاء الذي توضع فيه الأشياء ويحمل على البعير. {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} [يوسف:70] ، أي: نادى منادٍ، فالأذان هو الإعلام، {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] أي: يا أصحاب العير! يا أصحاب هذه الإبل! إنكم لسارقون، {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف:71] ، يؤخذ من قوله: ((قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ)) إعمال القرائن، فالمتهم البريء يكون جريئاً، فهؤلاء ناداهم المنادي: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] ، فلم يقفوا في مكانهم، ولم يهربوا؛ بل قالوا وأقبلوا عليهم، فالمتهم البريء يكون جريئاً في أكثر الأحيان، حتى العجماوات تفهم ذلك، يقول العلماء: إذا كان بجوارك هرة وأنت تأكل سمكاً فناولتها قطعة أكلتها آمنة مطمئنة بجوارك، لكن إذا سرقت الهرة سمكة هربت تأكلها بعيداً خفية عن عينك، فحتى العجماوات تفهم شيئاً من هذا.

حكم أخذ الأجر على إيجاد اللقطة

حكم أخذ الأجر على إيجاد اللقطة قال الله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] ، أخذ من ذلك: أن الشخص الذي وجد لقطة وأهدى إليه صاحب اللقطة شيئاً من غير مسألة ومن غير إيجاب، فلا بأس أن يقبلها، فإذا وجدت -على سبيل المثال- ألف جنيه، وجاء صاحب الألف وقال: من وجد الألف التي فقدت مني فله مني مائة، فلك أن تأخذ المائة إذا طيّب نفساً بذلك، أو أن تشترط، وليس لك أن تجبره على دفع هذه المائة، بل إن طاب خاطره بها فلا بأس؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه) ، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن اللقطة فقال: (عرفها حولاً -أي: سنة- فإذا جاء صاحبها فأدها إليه) ، ولم يقل: فخذ منه شيئاً. فإذا أعطاك صاحب اللقطة شيئاً بنفس طيبة من غير طلب منك ولا إلزام منك له بشيء، فاقبله ولا بأس بذلك، ودليل ذلك {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] ، أما قوله: زعيم، فمعناه: كفيل وضامن، ومنه قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) . فالزعيم معناها: الكفيل والضامن، فكأن المنادي ينادي ويقول: ولمن جاء بصواع الملك مكافأة، وهي: حمل بعير أزوده به، وأنا ضامن، وكفيل بذلك،: {قَالُوا تَاللَّهِ} [يوسف:73] ، أي: والله! {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:73] ، بل نحن قوم ضعفاء جئنا نلتمس الطعام لأهلينا وأسرنا، ولم نأت للسرقة، ولم نأت للفساد أبداً، {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:73] .

عودة إخوة يوسف إلى يعقوب عليه السلام

عودة إخوة يوسف إلى يعقوب عليه السلام قال تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ} [يوسف:80] ، أي: أكبرهم سناً، والذي يعرف قدر العهود والمواثيق -يفترض هذا- أكثر من غيره، قال كبيرهم مذكراً لهم: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] ، أي: لن أغادر هذه البلاد حتى يأذن لي أبي، {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف:80] ، برد أخي أو بالانتصار على عدوي، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:80] .

عتب يعقوب على أبنائه

عتب يعقوب على أبنائه {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف:83] ، أي: زينت لكم أنفسكم أمراً، وحسنت لكم أنفسكم تدبيراً ومكراً، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83] ، صبر جميل لا شكوى معه إلا الله، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83] ، العليم بحالي، العليم بكبر سني، العليم بما أصابني، وبالحزن والهم الذي حل بي. {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [يوسف:84] ، أي: أعرض عنهم وانصرف، فلم يقبل عليهم، وقد أصيب بسببهم برزيتين كبيرتين: بفقدان يوسف عليه الصلاة والسلام، ولم يدر ما صنعوا به، ثم بفقدان أخيهم واتهامه بالسرقة إلى من يشكو؟ إلى عدو شامت، أو إلى جار حاسد، أو إلى متربص يتربص به الدوائر؟ ومن يشكو؟ أيشكو أبناءه الذين هم من صلبه؟!! إلى من يشكو إلا إلى الله سبحانه وتعالى الذي يسمع ويرى. قال تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84] ، أنساه حب يوسف شأن بنيامين، (وَقَالَ يَا أَسَفَى) أي: يا أسف تعال وحل، تعال وحل يا ندم، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] ، أي: ممتلئ هماً وغماً وكرباً ونكداً، فالكظيم هو الممتلئ، ومنه قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] . {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] ، تبدل سواد العين بياضاً، وهو ممتلئ حزناً وهماً وغماً عليه الصلاة والسلام، {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} [يوسف:85] ، أي: حتى يبلى جسمك، {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف:85] ، {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] ، أشكو ما بداخلي من هموم وغموم وآلام وأحزان إلى الله، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] .

استشهاد إخوة يوسف بأهل القرية والعير

استشهاد إخوة يوسف بأهل القرية والعير {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:82] ، أي: اسأل يا أبانا أهل القرية، كما قال القائل: وسبحت المدينة لا تلمها رأت قمراً بسوقهم نهارا أي: سبح أهل المدينة. فقولهم: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) أي: واسأل أهل القرية، ومن أهل العلم من أورد وجهاً آخر فقال: واسأل القرية نفسها ببيوتها وأشجارها وأحجارها، فأنت نبي، والأنبياء لهم مثل هذه الخصائص، قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) ، فهذه من خصوصيات الأنبياء. {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} ، أي: فقد شاع الخبر فيها، وأي بلاء أشد من هذا البلاء؟! وأيضاً على يعقوب عليه السلام أي بلاء أشد من أن يؤخذ ولده بجريرة السرقة؟! فالبلدة كلها تتحدث، مصر تتحدث أن ثَم رجالاً قدموا من بلاد كنعان أحدهم قد سرق، هكذا يتحدث أهل هذه القرية، والعير أيضاً: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:82] ، فالعير وأصحاب القوافل يتحدثون أيضاً أن ولداً من أولاد يعقوب قد سرق، فتخيل أنت هذا المأزق وهذه المحنة، وهذا الابتلاء الشديد!! إذا أتاك آت وقال: ولدك سارق، ولدك أخذ كعبد مسترق من أجل السرقة إنه بلاء تلو بلاء يعتري الأنبياء وأهل الفضل والصلاح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبتلى الرجل على قدر دينه؛ فإذا كان في دينه صلابة زيد له في البلاء) ، وكما قال ابن مسعود: (يا رسول الله! ما لك توعك كما يوعك رجلان؟ قال: أجل؛ إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا الأجر كما يضاعف لنا البلاء) . فنبي الله يعقوب ابتلي بفراق يوسف، ثم ابتلي بفراق شقيق يوسف بنيامين، وليس بموته، فالموت كتبه الله على كل نفس، ولكن لسرقة ولاسترقاق ناله بعد هذه السرقة، وأصبح الناس يتحدثون، فالقوافل راجعة إلى بلادها تحمل الطعام والشراب، وإخوة يوسف يرجعون إلى بلادهم بتخلف أخيهم، وبحمل تهمة السرقة إلى أبيهم هكذا يبتلي الله سبحانه أهل الفضل والصلاح، وهكذا الحياة الدنيا، يصبر على ذلك الصابرون وييأس اليائسون.

إخبار إخوة يوسف يعقوب بخبر بنيامين

إخبار إخوة يوسف يعقوب بخبر بنيامين {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} [يوسف:81] ، أما أنا فلن أرجع، {فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} [يوسف:81] ، قال: قولوا: يا أبانا، ولم يقل: قولوا: يا (بابا) إن ابنك سرق، {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] ، أي: نحن ما رأيناه يسرق لكن رأينا صواع الملك في رحله، وهكذا ينبغي أن يكون الشهداء، فإذا شهدت على شيء فاشهد بالذي رأيته فقط، فليس لك أن تقول: إنه سرق قاطعاً بذلك، لكن تقول: إني وجدت الصواع استخرج من رحله، هذا هو الصحيح، فلا تبن على ذلك أنت ودع البناء للقاضي، فلا تقل: بما أني وجدت الصواع في رحله إذاً هو الذي سرق لا؛ بل قد يكون الصواع دس له في رحله، فالذي تشهد به هو الذي تراه بعينك أو تسمعه بإذنك، كما أنك ترى الشمس ساطعة والقمر بازغاً. {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81] ، فنحن وعدناك أن نحفظ أخانا ولكن ما كنا للغيب حافظين، فقد يقول العبد يوماً: إن شاء الله سأفعل كذا، ولا يشاء الله له أن يفعل، كما قال موسى عليه السلام للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] ، فمرت حالتان وقبيل الحالة الثالثة قال موسى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76] ، وما صبر موسى بعد الثالثة، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (وددنا والله أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أخباره) ، مع أن موسى قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف:69] ، لكن لم يشأ الله ذلك. فإخوة يوسف قالوا: نحفظ أخانا، ثم قالوا بعد ذلك: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81] .

أمر يعقوب لأبنائه بالبحث عن يوسف وذهابهم إلى يوسف

أمر يعقوب لأبنائه بالبحث عن يوسف وذهابهم إلى يوسف {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، فهكذا لا ينقطع رجاء الأنبياء والصالحين في الله أبداً، فاليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله كبيرة من الكبائر، سطرها الذين صنفوا في الكبائر في كتبهم، مستدلين بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] ، وبقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] . {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا} [يوسف:88] ، وانظر إلى هذه الذلة والمهانة والانكسار، وانظر كيف يرفع الله سبحانه وتعالى المظلوم وكيف يخفض الظالم! انظر إلى هذه الذلة والانكسار في قول إخوة يوسف الذين ظلموه يوماً ما، انظر إليهم وقد قالوا له: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88] ، أي: في الأبدان، أولادنا مرضوا، وآباؤنا تعبوا وأصيبوا بالعمى، {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:88] ، ونحن فقراء، فالبضاعة التي أتينا بها قليلة لا تستحق أن نعطى من أجلها طعاماً وزاداً، ولكن نرجو كرمك بعد كرم الله، و (مزجاة) أي: قليلة، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43] ، أي: يسوقه سوقاً قليلاً قليلاً ضعيفاً ضعيفاً حتى يضم بعضه إلى بعض، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف:88] ، هكذا يتسول الظالم من المظلوم، قال إخوة يوسف ليوسف: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88] .

استغفار يعقوب لأبنائه

استغفار يعقوب لأبنائه قال يعقوب عليه السلام: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96] ، {قَالُوا} [يوسف:97] ، أي: أبناؤه، {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:97-98] ، وعدهم أن يستغفر لهم صلى الله عليه وسلم. وإذا طرح سؤال مؤداه: لم أخر يعقوب عليه السلام الاستغفار لأبنائه؟ فمن أهل العلم من قال: شدة وجده وحزنه منهم لم تجعله يبادر لهم بالاستغفار في الحال، وهذا قول تكلم به البعض، ولكن آخرون -وهم الأكثر- قالوا: أخر الاستغفار إلى وقتٍ الإجابة فيه أجدر وأولى، وهو الثلث الأخير من الليل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأجيبه) ، هكذا يقول ربنا سبحانه إذا كان الثلث الأخير من الليل.

معجزات الانبياء وكرامات الصالحين

معجزات الانبياء وكرامات الصالحين {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف:93] ، إن قلت: كيف يأتي بصيراً بالقميص؟ فنقول: إن الله على كل شيء قدير، إن الذي أذهب بصره قادر على أن يرد عليه البصر، فالذي أذهب البصر هو الله، وما القميص إلا سبب من الأسباب، وهذه إجابتنا دائماً عن المعجزات التي يؤيد الله بها أولياءه، والتي يؤيد الله بها أنبياءه، إجابتنا عنها: أن الله على كل شيء قدير الله قادر على أن ينزل مائدة على عيسى من السماء فيها صنوف الطعام والشراب قادر على أن يسخر الريح لسليمان عليه السلام قادر على أن يجعل شجرة تأتي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتسعى حتى تقف بين يديه قادر على أن ينطق حجراً لرسول الله، كما قال الرسول: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) ، قادر على أن يشفي مريضاً طال سقمه، فربنا قادر على كل شيء. هذه هي إجابتنا على هؤلاء الذين ينكرون المعجزات التي تحدث للأنبياء وللأولياء الصالحين المتمسكين بكتاب الله، لا الأولياء المشعوذين المشركين الذين ينحرفون عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من معجزة أوتيها نبي إلا وأوتي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام معجزة من جنسها كما قال الإمام الشافعي، وقد ورد في سير أعلام النبلاء أن أحد أحفاد قتادة بن النعمان دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال له عمر بن عبد العزيز: من أنت؟ فقال له: من أنا، ألا تعرفني؟ قال: ما أعرفك، من أنت؟ قال: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أجمل الرد فعادت كما كانت لأول وهلة فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد قال العلماء -وهذا أحتاج إلى نظر في إسناده إلى الرسول بسند آخر غير السير-: إن الله رد على قتادة عينه ببركة دعاء رسولنا محمد بيد النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

قميص يوسف وما يحمله من بشارة

قميص يوسف وما يحمله من بشارة {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [يوسف:93-94] ، أي: خرجت العير عن مصر، وانفصلت عن بلاد مصر في طريقها إلى بلاد كنعان حيث يتواجد يعقوب عليه السلام وأسرته، {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ} [يوسف:94] ، أي: هناك في بلاد كنعان: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف:94] ، أشم ريح يوسف عليه السلام، {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94] ، أي: أن تفندوا دعواي، وتتهموني بالتخريف وبالجنون، إني أجد ريح يوسف حقيقة، وأشمها بأنفي. ترى من الذي أوصل هذه الريح من دولة إلى أخرى؟! إنه الله سبحانه، فهو قادر على كل شيء، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام حدثت له من هذا النوع معجزات ومعجزات، ففي اليوم الذي مات فيه النجاشي في الحبشة والرسول بالمدينة يخرج -وليس ثَم هواتف- إلى أصحابه فيقول: (إن أخاً لكم بالحبشة قد مات؛ فهلموا نصلي عليه) ، فيصفهم صفوفاً ثلاثة أو صفين، ويكبر عليه أربعاً، وكذلك لما استشهد الثلاثة الشهداء: زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة؛ خرج الرسول -وعيناه تذرفان- إلى أصحابه ينعي الثلاثة قائلاً: (إن إخوانكم قد لقوا ربكم عز وجل، ما يسرهم أنهم عندنا) . قال يعقوب: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا} [يوسف:94-95] ، أي: جلساؤه، {تَاللَّهِ} [يوسف:95] ، أي: والله {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] ، ما زلت تخرّف، والضلال: هو الذهاب عن القصد والصواب، {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف:96] ، بقدرة الله سبحانه، فماذا قال بعد أن ارتد بصيراً؟ ذكّر بنعم الله، وهكذا الأنبياء يعرفون نعم الله سبحانه، قال مذكراً بفضل الله: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96] ، فلا يتذكرون إلا فضل الله عليهم عند حلول الخيرات أو الملمات. وسليمان عليه السلام لما رأى عرش ملكة سبأ مستقراً عنده ماذا قال؟ {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] ، فهل قال ناجح في الامتحان ومتفوق فيه: هذا من فضل الله عليّ؟ هل قال قائل هذه المقولة لما بشر بنجاحه في الامتحان؟ هل قالها لأول وهلة؟! ما نجد أحداً يقول هذا إلا القليل النادر.

عفو يوسف عن إخوته

عفو يوسف عن إخوته قال: {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:90] ، فنسب الفضل إلى مسديه وهو الله سبحانه وتعالى، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] ، {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} ، فالمنة لله وحده، والفضل لله وحده، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ، درس آخر نتعلمه من نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام. {قَالُوا تَاللَّهِ} [يوسف:91] أي: والله {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] ، أي: فضلك الله علينا وإن كنا لخاطئين، اعتراف منهم بالذنب في كلمة قصيرة موجزة، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن قطعوا الأرحام، وفرقوا بينهم وبين أخيهم يوسف، وفرقوا بين الوالد وولده، فبعد أن قطعوا الأرحام وتسببوا في ذهاب بصر أبيهم، قالوا كلمة: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] ، فبماذا يجيب يوسف هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؟! قال يوسف معلماً لنا ومبيناً كيف تكون الأخلاق قال يوسف محسناً عافياً عن إخوته قال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] ، أي: لا تعيير ولا توبيخ مني أبداً عليكم! قضي الأمر، لا تتوقعوا بعد ذلك مني توبيخاً ولا تأنيباً ولا تجريجاً بكم، ولا تشهيراً أبداً، {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] . وهذا شأن المحسنين، يقابلون السيئة بالحسنة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، بهذا تنال الدرجات العلى من الجنان، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] ، {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] ، يغفر الله لكم ما قدمتموه، وهو أرحم الراحمين.

تواضع يوسف مع إخوته

تواضع يوسف مع إخوته ولكن كرم يوسف عليه السلام لا يسمح له بالاسترسال فيما هو فيه أمام هذا الضعف وهذه المسكنة التي صدرت من إخوته، قال يوسف عليه السلام: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] ، وصدق الله إذ قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] ، أي مفاجأة أكبر من هذه المفاجأة؟! {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} [يوسف:90] ، فقال بتواضع الأنبياء كلمات في كل فقرة منها أدب نتأدب به: {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي} [يوسف:90] ، أي تواضع أشد من هذا التواضع؟! لم يقل: أنا العزيز يوسف، ولم يقل: أنا الملك يوسف، ولم يقل: أنا الوزير يوسف، ولم يقل: أنا الدكتور يوسف، فإن هذه اللهجة من الكبرياء والتعالي التي يستعملها بنو زماننا وأولاد جلدتنا لم تكن من شأن الأنبياء، بل كان من شأنهم التواضع: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] ، نبي ملك تسخر له الجن والريح والطير معه، وكذلك الشياطين كل بناء وغواص، يرسل رسالة إلى امرأةٍ يقول فيها: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] ، لم يقل: من الملك الذي سخرت له الرياح أبداً، إنما بتواضع نتعلمه من أنبياء الله، إذ هم المعلمون، وهم القدوة صلوات الله وسلامه عليهم. ونظيره في قول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في رسالته لـ هرقل: (من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم) ، وفي مصالحته يوم الحديبية: (هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو) ، إنه أدب يبعدنا عن الكبر والفخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أقسم بالله عليهن: ما تواضع عبد لله إلا رفعه الله، وما زاد الله بعبد عفواً إلا عزاً، وما نقصت صدقة من مال) .

سلسلة تفسير سورة يوسف [7]

سلسلة تفسير سورة يوسف [7] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصف يوسف عليه السلام بالكرم يدل على أنه جدير وخليق بهذا الوصف؛ فهو لم يكتفِ بالعفو عن إخوته؛ بل واستقبلهم استقبال المتواضع، وخاطبهم خطاب الإخوة الذين لكل منهم حقه على الآخر، وشكر الله أن جمعهم بعد فرقة، ودعا دعاء الصالحين بحسن الخاتمة له ولهم. وقد ختم الله هذه القصة بأمور تكون بين الدعاة والمدعوين في كل زمان ومكان؛ ففي وقت دعوتهم للحق ينكرونه ويجحدونه؛ بل ويعرضون عن آيات الله المبثوثة في الكون، حالهم كما قال الله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف:106] .

استقبال يوسف لأبيه وعشيرته

استقبال يوسف لأبيه وعشيرته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للإنس والجن أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: قال الله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] .

شكر يوسف لنعم الله عليه

شكر يوسف لنعم الله عليه وثم نعمة أخرى أيضاً في قوله: ((إذ أخرجني من السجن)) ، فهي نعمة كبرى، فقد كان ثَم أوباش بالسجن ومجرمون ولصوص، ومجالس المجرمين واللصوص والأوباش تقسي القلب في كثير من الأحيان، فإحسان من الله أن يخرجه من السجن، فلا ينبغي أن نتمنى الفتن، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر) ، أي: فهنيئاً لهذا المبتلى الذي يصبر. {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] ، فإحسان من الله إلى يوسف أن يأتي إليه بآبائه من البدو، فسكنى البادية لا تستحب إلا عند الضرورات والملجئات، وقد حسن بعض العلماء حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن) ، وأحسن من ذلك الآية الكريمة: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97] ، فسكنى البادية في الغالب فيها شر أو قسوة للقلوب شيئاً ما، ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يرتد المهاجر أعرابياً.

تحقق رؤيا يوسف عليه السلام

تحقق رؤيا يوسف عليه السلام قال يوسف مذكراً: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] ، التي هي: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] . فقد تتحقق الرؤيا بعد سنوات طوال، أربعين أو خمسين، أو ستين أو سبعين، أو أقل أو أكثر، ولا يلزم أن ترى رؤيا فتتحقق في الحال، وقد يتأخر تحققها، ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا كما قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه الرؤيا، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمراً عام الحديبية هو وأصحابه، وكان فيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من الصحابة، فصُد النبي عند الحديبية عن المسجد الحرام، ومُنع من دخول مكة، وصالح المشركين صلحاً على أن يرجع من العام القادم، فقام عمر فقال: يا رسول الله! ألم تكن تخبرنا أنا سنعتمر؟! ألم تكن تخبرنا أنّا نأتي البيت ونطوف به؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (بلى أخبرتك، ولكن هل أخبرتك يا عمر أنك ستدخل الحرم هذا العام؟ قال: لا. قال: فإنك ستدخله إن شاء الله) ، ثم ذهب عمر إلى أبي بكر أيضاً وقال له: يا أبا بكر! ألم يخبرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: يا ابن الخطاب! ولكن هل أخبرك النبي صلى الله عليه وسلم أنك ستدخل الحرم هذا العام؟ قال: لا. قال: فإنك ستدخله إن شاء الله. ودخلوه في العام المقبل. فقد يتأخر تحقق الرؤيا سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات أو أربع، أو أكثر أو أقل.

وفاء يوسف في عفوه عن إخوته

وفاء يوسف في عفوه عن إخوته {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ، يعدد يوسف عليه السلام نعم الله عليه، فيقول: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ، ولم يقل يوسف: وقد أحسن بي إذ أخرجني من غيابة الجب؟! يقول العلماء: إن يوسف عليه السلام وعد إخوته عن قريب بقوله: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف:92] ، أي: لا تجريح ولا توبيخ ولا تأنيب عليكم بعد اليوم، فلو قال: وقد أحسن بي إذ أخرجني من غيابة الجب، لكان في ذلك تخجيل وتجريح وتثريب لإخوته وقد وعدهم بغير ذلك، فلم يكن له أن يخلف وعده، ولم يكن له أن ينقض غزله صلى الله عليه وسلم، فهو نبي كريم محسن، وليس من شيم الأنبياء العود في الهبات، والعود في المغفرات، عليهم الصلاة والسلام جميعاً.

خروج يوسف لاستقبال أهله أحسن استقبال

خروج يوسف لاستقبال أهله أحسن استقبال أخذ بعض العلماء من قوله: (ادْخُلُوا مِصْرَ) أن يوسف عليه السلام لم يجلس في مكانه حتى دخل عليه أبواه، إنما خرج مستقبلاً لهم خارج المدينة لإكرام العشيرة والآباء والإخوة والأهل، فلم يجلس على كرسي العرش حتى يأتي أبوه ويدخل عليه وهو على الكرسي، إنما خرج إلى مصر مستقبلاً أبويه وإخوته وأهل بيته أجمعين. فإن قال قائل: قوله: ((فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ)) قد يفيد غير ذلك. ف A أنه قد ينصب ليوسف عليه السلام سرادق ونحوه خارج مصر، ثم يأتي آباؤه وإخوته فيدخل معهم جميعاً إلى مصر، وهذا وجه حسن من أوجه الجمع. والشاهد من ذلك: أنه يؤخذ منه إكرام العشيرة، {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} . استقبلهم أحسن استقبال، ولم يتنكر لهم كما يتنكر كثير من المخذولين في أزماننا، فثم مخذولون إذا أولاهم الله مناصباً، أو أولاهم الله جاهاً، أو أعطاهم الله مالاً يستنكرون لقبائلهم وعشائرهم؛ بل قد ينكر بعضهم أباه وأمه، فثم طبيب أفنت أمه حياتها في خدمته وفي الإنفاق عليه، وباعت متاعها وذهبها وأثاث بيتها إنفاقاً عليه في دراسته، ثم بعد أن تخرج طبيباً إذا به يستنكر أمه، تأتيه إلى المستشفى التي هو بها كي تتعالج عنده فيقول لها: ما اسمك أيتها السيدة؟! وكأنها امرأة غريبة لا يعرفها؛ لكونها أتت إليه محجبة مرتدية ثياباً طيبة سابغة؛ ساترة لجسمها وبدنها، ولكن كان يريد منها أن تأتيه متبرجة حتى يفتخر بها أمام زملائه!! فأي تنكر للعشائر أشد من هذا التنكر؟! وأي خذلان أشد من هذا الخذلان؟! ففرق بين رجل صالح قلده الله منصباً فأتى إليه رجل من بلدته إلى مكتبه فقام بإكرامه وإنزاله منزلته اللائقة به، وبين شخص منكر لأبويه وعشيرته. فيوسف عليه السلام كان من الصالحين، وهو يعلمنا كيف يكون الأدب مع العشائر والإخوان. {ادْخُلُوا مِصْرَ} [يوسف:99] ، وهي مصرنا هذه، {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، هكذا يقول يوسف عليه السلام لأبويه ولإخوته، ولم يكتف بإدخالهم وتكريمهم واستقبالهم الحسن؛ بل قال كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100] ، أي: أجلسهم معه على سرير الملك، وهو أعلى مكان في القصر، فهكذا ننزل الآباء منازلهم اللائقة بهم، لا نتنكرلهم ولا نهضمهم حقوقهم؛ فللآباء حق ذكره الله تعالى بعد حقه في الكتاب العزيز: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:151] . (أي الذنب أعظم يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله، ثم أي يا رسول الله؟! قال: عقوق الوالدين) ، هكذا يظهر حق الآباء، ويوسف النبي الكريم يعرف هذا تمام المعرفة. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100] ، بإذن الله، فقد كان سجوداً مشروعاً في شريعتهم، وهو سجود تحية، وقد نسخ في شرعنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) ، فمنع سجود التحية في شرعنا، ولكن قال تعالى في شأن يوسف عليه السلام: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} .

خطاب يوسف الأخير مع أهله

خطاب يوسف الأخير مع أهله قال يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] ، رد الفضل إلى الله، فلم يقل: من بعد أن ظلمني إخوتي، بل جعل نفسه مع إخوته في مرتبة واحدة، حتى لا يجرحهم، وحمل الجريمة كلها للشيطان، فهو لها أهل وبها جدير ولها حقيق أن يتحملها، فهو الذي ينزغ بين العباد، ومن ثم قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53] . {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100] ، فهو رحيم بعباده، رءوف بهم، لطيف بهم، يعلم ما دق وما عظم عنهم، هكذا ربنا سبحانه حكيم في قضائه، حكيم في قدره، حكيم في شرعه، حكيم في تدبيره، يبتلي العباد حتى يرفعهم درجات، ويظهر المحسن من المسيء، يبتلى العباد لإكرامهم وتنقيتهم ورفعتهم، والحياة الدنيا كلها بما فيها من ابتلاءات في الآخرة قليلة، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل منهم من يجاوز ذلك) .

وحي الله لأنبيائه بأمور من الغيب

وحي الله لأنبيائه بأمور من الغيب {ذَلِكَ} [يوسف:102] ، أي: هذه الأخبار يا محمد التي قصصناها عليك، {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} [يوسف:102] ، أمور غابت عنك لا تعلمها أنت ولا قومك، {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102] ، أي: لم تكن حاضراً معهم يا محمد وهم يتفقون على إلقاء يوسف في غيابة الجب، وما كنت حاضراً معهم يا محمد إذ يخططون لقتل يوسف أو طرحه أرضاً، ولكنها أمور أوحيناها إليك. وهكذا يوحي الله إلى أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم بأمور من أمور الغيب لم يشاهدوها ولم يحضروها، وقد قال الله لنبيه في موطن آخر: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] ، وقال في موطن ثالث: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:45] ، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:46] ، فهي أمور يوحيها الله إلى أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم؛ لتأييدهم في دعوتهم وتقويتهم فيما يدعون إليه. قال تعالى: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ) أي: حاضراً متواجداً إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون، ولكن هل بعد هذا القصص الكريم آمن القوم؟ كلا! فما آمن إلا القليل.

حكم تمني الموت

حكم تمني الموت {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] . هل تمنى يوسف عليه السلام الموت أم أنه سأل الوفاة على الإسلام؟ قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسناً فلعله أن يزداد، وإن كان مسيئاً فلعله أن يستعتب) ، وكوي خباب بن الأرت سبع كيات في بطنه فقال: (لولا أن الرسول نهانا أن ندعو بالموت على أنفسنا لدعوت به) ، ولكن إذا خشي الشخص على نفسه الفتنة في الدين فله أن يتمنى الموت حينئذٍ، فقد قالت مريم عليها السلام: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي) ، وقال سحرة فرعون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126] ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر) . قال يوسف عليه السلام: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} ، أي: تأويل الرؤى، {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} .

دعاء يوسف والأنبياء بحسن الخاتمة

دعاء يوسف والأنبياء بحسن الخاتمة ثم إن نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى الشمل قد اجتمع، ورأى الملك قد اجتمع له، وأقر الله عينه بأبويه وبإخوته وبأهل بيته جميعاً؛ استشعر الآخرة والموت، ففي الغالب أن النعم إذا اكتملت يوشك الشخص أن يفارقها، فلما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، ما لبث النبي صلى الله عليه وسلم أن مات بعدها بثلاثة وستين يوماً، ولما نزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] ، استشعر الموت، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه السورة الكريمة نعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أجله. أي: أخبرته أنك يا محمد قد اقترب أجلك فاستغفر الله فالأجل قد اقترب، ونوح لما أغرق الله قومه وأقر الله عينه بالانتصار من الظالم قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28] . فلما اجتمع ليوسف عليه السلام الأمر وأقر الله عينه بوالديه وبإخوته وبأهل بيته أجمعين، وبالملك وبالعلم وبالنبوة، سأل الله سؤالاً دائماً يسأله أهل الصلاح من ربنا سأل الله حسن الختام، والوفاة على الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام مقولة الصالحين: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف:101] ، اعتراف من يوسف لربه بفضل الله عليه، ليس تكبراً ولا تجبراً؛ بل يرد الأمر إلى نصابه والحق إلى الله سبحانه، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يوسف:101] أي: يا فاطر السماوات والأرض، يا خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق، {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [يوسف:101] ، تولني يا رب بحفظك وبكرمك وبرعياتك وبفضلك، {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [يوسف:101] ، كما أنعمت عليَّ في الدنيا أنعم علي في الآخرة كما توليتني في الدنيا فتولني في الآخرة كما رحمتني في الدنيا ارحمني في الآخرة، {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف:101] ، أي: توفني على الإسلام إذا توفيتني يا رب، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] ، أي: لا تدخلني في عداد المجرمين يا رب، بل أدخلني في عداد الصالحين. وقد قالها سليمان عليه الصلاة والسلام لما تكلمت النملة له ففهم كلامها بإذن الله: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] ، وكما قالها المذكور الصالح في سورة الأحقاف، الذي بلغ أشده وبلغ أربعين سنة فقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15] ، هكذا فليختم أهل الصلاح حياتهم بالاستغفار كما ختمها رسولنا وهو في مرض موته إذ كان يقول: (اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى) ، فليتبرأ الشخص من أصدقاء السوء، وليطلب من الله أن يحشر في عداد الصالحين والطيبين، ليطلب من الله أن يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً هكذا طلب يوسف حسن الختام من ربه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف:101] ، ليس مني يا رب بل منك الفضل كله.

وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين

وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وإن قصصت عليهم ما قصصت يا محمد، وإن أتيتهم بكل آية، فأكثرهم لا يؤمنون، وهذه سنة الله في الخلق، فالقلوب لا يملكها إلا الله، فهو الذي يهدي وهو الذي يصرف عن الهداية سبحانه وتعالى. وقد قال الله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96-97] ، وقال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14-15] ، فهكذا الآيات والقصص والمعجزات والدلائل والبراهين كل ذلك لا يجدي مع من ختم الله على قلبه، فالمختوم على قلبه إذا جئته بكل آية لم تجدِ هذه الآيات معه. وإننا لنتعجب حقاً كيف يقص هذا القصص الكريم على قوم ولا يؤمنون بعد هذا القصص، لا يؤمنون بعد هذه المواعظ التي ترق منها القلوب وتذرف منها العيون! لكنه أمر قد قضاه الله سبحانه وتعالى وقدره: فريق في الجنة وفريق في السعير، فالآيات لا تجدي ولا تنفع مع من ختم الله على قلبه.

حرص الأنبياء على هداية الكفار

حرص الأنبياء على هداية الكفار قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، أي: ولو حرصت على إيمانهم، ولو حرصت على هدايتهم، فما أكثرهم بمؤمنين، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] ، فرسولنا حقاً لا يهدي من أحب، وليس لبشر أن يهدي من أحب، إنما الهادي هو الله سبحانه، ومن ثم ندرك لِم لَم تجد دعوة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وهو يقول له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:43-45] ، فلم تجدِ هذه النداءات، ولم تجدِ هذه الاستجداءات، فيقول أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] . وكذلك لم يجد دعاء نوح عليه السلام لولده إذ يقول: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] ، ويقول الغشوم: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} ، انظر إلى هذا الجهل والغباء، يقول: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] ، فيقول أبوه: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] . فليس لأحد سلطان على قلب أحد، إنما الهادي هو الله، فنوح عليه الصلاة والسلام لم يملك أمراً على قلب امرأته؛ بل خانته امرأته كما قال تعالى ضارباً مثلاً للذين كفروا بها: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] ، فليس لأحد سلطان على قلب أحد؛ بل الله يحول بين المرء وقلبه. فإذا علمت هذا فليطمئن قلبك إذا ابتليت بولد غير مؤمن أوبفتاة ليست بمؤمنة، فإن أمر القلوب مرده إلى الله، قال الله سبحانه وتعالى في ذرية إبراهيم وإسحاق: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113] ، أي: بعض ذريتهما، فصنف محسن وصنف ظالم لنفسه مبين؛ فالهادي هو الله. {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، فالأكثرية كافرة، والأكثرية بعيدة عن طريق الله، أكثرية الخلق على هذا النحو، وعلى هذه الشاكلة، وكما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ، فلا يستوحشن مستقيم طريق الاستقامة، ولا يستقل السالكين فيه، فهم قلة على مدار العصور والدهور، وقد تقدم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي الأمم؛ فرأيت النبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان، والنبي يمر وليس معه أحد) .

عفة الأنبياء والدعاة عما بأيدي الناس

عفة الأنبياء والدعاة عما بأيدي الناس قال تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [يوسف:104] ، أي: إنك يا محمد لا تطلب أجراً من قومك على هذا الكتاب الذي تتلوه عليهم لا تطلب أجراً من قومك على هذا القصص الذي تقصه عليهم لا تطلب أجراً من قومك يا محمد على بيان طريق الاستقامة. وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله لا يسألون الناس أجراً على دعوتهم إلى الله، بل ينبغي عليهم أن يتعففوا عما في أيدي الناس حتى يقبل الناس دعوتهم، قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72] ، وقال نوح عليه الصلاة والسلام: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود:29] ، فهكذا ينبغي أن يتعفف الدعاة إلى الله عما بأيدي الناس من أموال ومتاع زائل وفان. قال تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104] ، أي: وعظ وتذكير للعالمين.

تفسير قوله: (إن هو إلا ذكر للعالمين)

تفسير قوله: (إن هو إلا ذكر للعالمين) أما قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104] ، فليس هذا الذكر خاصاً بصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ بل للناس كافة، وليس للإنس فحسب؛ بل للإنس والجن كذلك، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] ، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] ، فالقرآن نذير لصحابة رسول الله ولمن بلغه بعد ذلك فمن أتى بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالقرآن تذكرة وموعظة للإنس والجن، سواء الذين كانوا في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقرآن عام، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف:158] . قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ، و (العالمين) تأتي على معانٍ شأنها شأن كثير من اصطلاحات الكتاب العزيز حين تتعدد معانيها، فأحياناً تطلق (العالمين) على الرجال، أو تطلق على البشر: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] ، وأحياناً تطلق (العالمين) على الإنس والجن: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] ، وأحياناً تطلق (العالمين) على كل ما بين السماء والأرض، بل والسماء والأرض كذلك، قال فرعون لموسى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23-24] .

حكم أخذ الأجر على تعليم القرآن

حكم أخذ الأجر على تعليم القرآن وقبل البدء في تفسير قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104] ، نتجه إلى بيان حكم أخذ الأجر على تعليم القرآن، وعلى التفرغ لذلك: فيرى جمهور العلماء: أن أخذ الأجر على تعليم القرآن جائز ولا بأس به، ومن أدلتهم على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وقد جاء ذلك في سياق قصة وهي: أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بقرية من القرى فسألوا أهلها القِرى، وهو الإكرام الذي ينبغي للضيف، فأبوا أن يقدموه لهم، فما لبث سيد هذه القرية وكبيرها أن لدغته حية أو عقرب، فجاء إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، وقال أصحابه لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن سيد هذا الحي لديغ، وفي رواية: سليم، - والعرب تقول: سليم على المريض واللديغ تفاؤلاً بالشفاء- فهل منكم من راق؟ قالوا: نعم، ولكنا سألناكم القرى فلم تقدموه لنا، فلن نرقيكم إلا أن تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم إن هم قاموا برقية هذا الشخص وشفي بإذن الله، فرقاه بعض الصحابة، وكانت لا تُعرف عنه رقية، ولا يعهد عنه أنه يرقي، فقام وقرأ عليه فاتحة الكتاب، وجمع بصاقه ورقاه، فبرأ بإذن الله، فأخذوا قطيع الغنم؛ فخرج بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قطيع الغنم هذا، وقالوا: كيف نأخذ أجراً على كتاب الله؟! فتصبروا حتى رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن حكم ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقسموا واضربوا لي معكم بسهم، إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، فهذا عمدة الجمهور القائلين بجواز أخذ الأجر على تعليم القرآن. وهذا -كما سمعتم- رأي جمهور العلماء. وقد منع من ذلك فريق من العلماء، واحتجوا بعمومات كقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90] ، ولكن أجيب على هذا: بأن باب الدعوة إلى الله ليس كباب تعليم القرآن، فالذي يدعو إلى الله ويشترط على الناس إذا اهتدوا أن يعطوه مالاً فهذا مرتكب لجرم، ومرتكب لمحرم، أما الذي يتفرغ لتعليم المسلمين الذين هداهم الله بتعليمهم كتاب الله ويأخذ أجراً مقابل تفرغه فهذا جائز. واستدل بعض أهل العلم الذين منعوا من ذلك بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وغيره من الصحابة أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! علمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً، فقلت: أجاهد بها في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحببت أن تتقلد قوساً من نار فاقبلها) ، لكن في هذا الحديث ضعف. وكذلك استدل بعض من منع من أخذ الأجر على تعليم القرآن بحديث: (اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه) ، لكنه وإن حسن إسناده عند فريق من العلماء إلا أنه قد حمل بعض العلماء قوله: (ولا تأكلوا به) على أنه تبديل الحلال بالحرام والحرام بالحلال من أجل متاع زائل وعرض فانٍ، كما كان يفعل اليهود، فقد كانوا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ونحو ذلك: (اقرءوا القرآن فإنه سيأتي قوم يتعجلونه ولا يتأجلونه) . فالحاصل من هذا البحث السريع الموجز: أن أخذ الأجر على تعليم القرآن هو رأي جمهور العلماء، وعمدة الجمهور في ذلك ما قد سمعتموه: (إن حق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وهو ثابت عند البخاري، والله تعالى أعلم.

إعراض الكفار عن آيات الله في الكون

إعراض الكفار عن آيات الله في الكون قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] ، فليست فقط القصص هي التي أعرضوا عنها، وإنما عموم الآيات في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون، لا يتفكرون فيها ولا يتدبرون. وقوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ) معناها: وكم، فالمعنى: كم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون! فكم من آية في السماوات تدل على قدرة الله وعلى وحدانية الله سبحانه وتعالى، فثم رعد وبرق ونجوم وشمس وقمر ورياح كل ذلك في السماوات، ثم شمس وقمر دائبان، هذا يتبع هذا، ثم ليل ونهار هذا يطول وهذا يقصر، هذا يتداخل مع هذا، وهذا يتداخل مع هذا، ثَم شمس لها منظر عند غروبها، ومنظر عند شروقها، وهناك الأفق المبين كذلك آيات تدعوا إلى التدبر، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، ثَم نجوم زينت بها السماء الدنيا، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] . ثَم سماء رغم اتساعها ليس فيها ثقب واحد، ليس فيها فرجة واحدة، وليس فيها تفطّر، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4] ، سماء مرفوعة بغير عمد ترونها، يمسكها الله سبحانه وتعالى آيات تدعو إلى تدبر وتفكر ليلة باردة، وليلة حارة، وليلة ذات ريح شديد، وليلة أخرى ذات برد شديد، وريح باردة طيبة أمور يدبرها الله ويصرفها عز وجل. سحب يتراكم بعضها فوق بعض غيث ينزل منهمراً أحياناً، وطل ينزل كذلك -وهو الندى- وطوفان يأتي من السماء جارفاً بإذن الله، وسحاب مسخر يسوقه الله إلى حيث يشاء ويريد فسحاب مسخر، شمس مسخرة، قمر مسخر، نجوم كذلك مسخرات، رياح مسخرات، قر وحر، للآيات تصريف يصرفه الله سبحانه وتعالى. وكذلك في الأرض آيات تدعو إلى التفكر جبال رواسٍ، معادن كامنة في بطن الأرض، ذهب يستخرج، حديد فيه بأس شديد، فضة يتزين بها، بحار وأشجار كذلك أرض فيها من كل زوج بهيج، يخرج منها الحلو والحامض، الأحمر والأصفر والأخضر وسائر الألوان، صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، هذا لذيذ الطعم وهذا دون ذلك، وهذا فوق ذلك، وكل ذلك بقدرة الله، صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، هذا له طلع نضيد، وهذا نجم وهذا شجر، هذه نباتات لها ساق، ونباتات ليس لها ساق، هذه نباتات زواحف، وهذه نخل باسقات شاهقات لها طلع نضيد، رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج. كذلك الحيوانات أسود ضارية مفترسة شرسة، ونسور ذات بأس شديد وبطش حديد، وعصافير تطير ضعيفة مستضعفة، وذباب أقل من ذلك وأحقر نمل ونحل، دواب هي فاسقات كحية وعقرب وفأرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكغارب وكحدية، فهذه فواسق خمس تقتل في الحل والحرم. وكذلك حيوانات مكرمة نهى نبينا محمد عن قتلها: النمل، والنحل، والهدهد، والصرد، فهذا طاووس شكله جميل، وذاك حمار صوته أنكر الأصوات هذا فيل ضخم الجسم إلا أنه بليد في الذهن هذا ثعلب ماكر، وهذا ديك يؤذن بالسحر، وينادي بالأسحار، وثَم قوم نيام وهذا ثعبان يزحف ويزعج، وهذه حية تفتك وتقتل، وفي باب مقابل حيوان أليف مألوف: شاة تحلب، وبقرة تسخر، وناقة تركب، كل ذلك يدبره الله سبحانه وتعالى، وكل هذا فيه دلالات وعبر وعظات. هذا سمك في البحار، وهذه حيتان، وهذه تماسيح، وكذلك سمك آخر ضعيف يُفترس، أسماك بأنواعها وزواحف بأنواعها وضروبها وأشكالها وألوانها، والكل سيموت والكل سيفنى، والكل بينه قصاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) ، فالشاة ذات القرن التي نطحت الشاة التي ليس لها قرن يقتص منها يوم القيامة. إنها أمور تدعو إلى التفكر والتدبر، انظر ذباب كثير، وبيضه وفير بالملايين، ثم إن عمره قصير، فيموت حيناً بعد حين بالملايين، لكن ثَم نسور بأسها شديد وعمرها مديد، ولكن بيضها يسير، فتخيل لو أن بيض هذه النسور كان كثيراً كالذباب ماذا كان يحدث للأرض ومن على وجه الأرض؟ لافترست النسور من على وجه الأرض، ولحل في الأرض الفساد، وكذلك الأسود والنمور، هذا حيوان مفترس لكنه قد يؤلف، وهذا حيوان مفترس آخر لكنه لا يؤلف، كل ذلك بتدبير وتقدير الله سبحانه. عيون تتفجر من أحجار فيخرج منها الماء، أحجار تشقق فيخرج منها الماء، وورق التوت يخرج منه الدود فيخرج حريراً، وتقف عليه النحلة فتخرج عسلاً، وتأكل منه البقرة فتخرج لبناً وبعراً، يدبر ذلك كله ربنا سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] . هذه قبور قد حوت أجداثاً لقوم ظالمين كانوا يساكنوننا ويجالسوننا ويعاشروننا، قال الله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] ، وقال تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76] ، أي: بطريق واضح يراه الناس المسافر والسائر. {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] ، ولكن كما قال ربنا سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ، فيجمعون مع الإيمان بالله شركاً. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سلسلة تفسير سورة يوسف [8]

سلسلة تفسير سورة يوسف [8] ختم الله عز وجل هذه السورة الكريمة بقواعد وأصول عامة في الشرع يستفيد منها كل داعية إلى الله ورسوله، وهي: جمع كثير من الناس بين الإيمان والشرك بعدة صور، ثم حذر هؤلاء النفر بغاشية من عذاب الله تأخذهم؛ ثم عقب ذلك بذكر مميزات وصفات للدعاة وأمور تلزمهم قبل الدعوة إلى الله وبعدها، وجعل ختام هذه السورة كأنه عطف على أولها بذكر النصرة لرسله الملازمة لهم، خصوصاً بعد تكذيب الأمم لهم.

تفسير قوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله.

تفسير قوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله.) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، فلما ذكر الله سبحانه وتعالى الإعراض عن الآيات التي في السماوات والأرض، ذكر ذلك في معرض ذم لقوم من المشركين، فكان من اللائق بنا أن نتدبر الآيات التي في السماوات والأرض، وكما قال قائل من أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى يستدل على وحدانيته بأمور منها: النظر في السماوات والأرض، وبصفة عامة: النظر في مخلوقاته سبحانه وتعالى والتأمل فيها. كما يستدل كذلك على وحدانيته بأسمائه وصفاته، فعلى سبيل المثال: إذا عرفت أن الله سبحانه وتعالى سريع الحساب، وأمعنت النظر في سرعة الحساب، وكيف يتم حساب الخلق جميعاً يوم القيامة، حتى إنه -كما سمعت- يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فاستدلل بذلك على وحدانية الله سبحانه، كيف ذلك؟ إنك إذا كنت محاسباً في شركة من الشركات قد تعجز؛ بل قد تعجز إذا عهد إليك وحدك بعمل هذه الشركة الكبيرة، فما ظنك برب العالمين، الذي يحاسب الخلق كلهم إنسهم وجنهم، وطيرهم ودوابهم، يحاسب الخلق جميعاً، وكذلك يعلم المستكن في الصدور، فإذا عرفت ذلك ظهر لك شيء من قدرة الله سبحانه وتعالى. فيستدل على قدرته ووحدانيته سبحانه بأسمائه وصفاته، وكذلك بشرعه الذي شرع، وحدوده التي حد، فحينئذ يجدر بالمسلم أن يتأمل ويتدبر في نفسه وفيما حوله من الآيات، قال الله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] .

تفسير الإيمان مع الشرك بالحلف بغير الله

تفسير الإيمان مع الشرك بالحلف بغير الله ووجه آخر في هذا الباب: أن قوماً ما يقرون بالله بأنه إله واحد وخالق ورازق ورب، ثم هم يحلفون بغيره، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بالأمانة فليس منا) ، وحسن بعض العلماء حديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف فقال: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) ، وجاء اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: يا محمد! إنكم تشركون وتنددون! قال: وكيف ذاك؟ قالوا: أصحابك يقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ويقولون: والكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده، ولا تقولوا: والكعبة، ولكن قولوا: ورب الكعبة) . فهذه صور من صور الشرك قد تتأتى إلى بعض المسلمين كذلك، ولكنها ليست بشرك مخرج عن الملة إلا إذا اعتقد صاحبها تعظيم المحلوف به كربه سبحانه وتعالى، فهذه صورة أخرى من صور الشرك، فربنا يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] ، فهذه صور كلها تدخل تحت قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، ومن ذلك: (لولا البط لسرقنا اللصوص) ، (لولا الديك لاعتدى علينا الجيران) ، هذه أيضاً صور من صور الشرك في الألفاظ ينبغي أن تتقى. ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد:14] ، أي: فكأنه يمد يديه إلى الماء ويقول: يا ماء تعال اصعد إلي يا ماء، والماء لن يصعد أبداً بحال، وهكذا الذي يدعو من دون الله أمواتاً وأنداداً.

تفسير الإيمان مع الشرك بالنفاق

تفسير الإيمان مع الشرك بالنفاق ووجه آخر للمفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} : أن هذا في أهل النفاق، الذين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، سواء كان نفاق العمل أو نفاق الاعتقاد، وقد قال الله في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) . ويقول الله سبحانه وتعالى للمرائين إذا جاء الناس بأعمالهم: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء) ، صلوات الله وسلامه على نبينا محمد؛ فشخص يعرف أن الله خالق رازق إله، ثم بعد ذلك يعمل أعمالاً يبتغي بها وجهاً غير وجه الله سبحانه! فهذا يدخل أيضاً في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . كما يدخل في ذلك ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين كان في الحديبية مع أصحابه رضي الله عنهم، فقال لأصحابه على إثر سماء أصابتهم من الليل -أي: مطر نزل عليهم من الليل-: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: قال ربكم: أصبح من عبادي الليلة مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وبنوء كذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب) ، فهذه أيضاً صورة داخلة تحت قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] . ومن العلماء من يقول قولاً آخر في ذلك فيقول: هذا في اليهود والنصارى، فإنهم يقرون بالله ولكنهم يقولون: عزير ابن الله، ويقولون: المسيح ابن الله، فهذا وجه أيضاً.

كيفية اجتماع الإيمان مع الشرك

كيفية اجتماع الإيمان مع الشرك يقول الله سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ، كيف ذلك؟ جمهور المفسرين يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ، ثم هم بعد ذلك يشركون بالله، ويدعون مع الله آلهة أخرى؛ فعلى هذا فقول جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . أن هذا في مشركي الجاهلية، فالله يقول في شأنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] ، وكما قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:88-89] . فهم يقرون بالله ويصدقون، ومع ذلك يشركون بالله، ويدعون مع الله آلهة أخرى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، يدعون مع الله آلهة أخرى لتقربهم بزعمهم إلى الله زلفى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] . فكان أهل الشرك يقرون بوجود الله، وأن الله سبحانه وتعالى خالق رازق، وأن الله هو الذي يحيي ويميت، كانوا يقرون بذلك، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] ، فكانوا يقرون بوجود الله سبحانه وتعالى، وكانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ويزيدون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك) ، فهذا وجه شركهم. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، فهذه صورة من صور الشرك مع الإيمان بالله: أنهم يدعون مع الله آلهة أخرى، كالذين يدعون في زماننا الأموات من دون الله، ويطلبون منهم الغوث والمدد وهم قد ماتوا، ولا نعلم إلى أين صاروا، هل إلى جنة أم إلى نار؟ فالله أعلم بذلك، لكن لا يسوغ لنا بحال أن ندعو أحداً سوى الله سبحانه وتعالى، فجمهور المفسرين ينزلونها على أهل الشرك الذين يقرون بأن الله سبحانه خالق رازق، ومع ذلك يدعون معه غيره.

تفسير قوله تعالى: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية.

تفسير قوله تعالى: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية.) قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} [يوسف:107] ، أفأمن هؤلاء المشركون، أفأمن هؤلاء الغافلون أن تأتيهم غاشية من عذاب الله؟! غاشية تغشاهم وعذاب يعمهم، فالغاشية المصيبة والداهية التي تغشى الوجود والخلق، {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} [يوسف:107] ، كما قال تعالى محذراً ومنذراً: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97-99] ، أفأمن هؤلاء المشركون الظالمون أن تأتيهم غاشية من عذاب الله، {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45-47] . ألا فلينتبه الغافلون، وليقبل الشاردون، ليقبلوا على طريق الله، فإن المصائب تأتي فجأة، والبلايا تحل سريعاً، والله ذو بأس شديد، وذو عقاب أليم، فهلموا أيها العصاة إلى طريق الله سبحانه وتعالى، وارجعوا عن عصيانكم، وارجعوا عن تمردكم إلى الله سبحانه وتعالى. {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ، أي: فجأة وهم لا يشعرون، كما قال الله سبحانه وتعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] ، فلو تمتعت أيها العبد العاصي، أيها العبد المشرك! إذا تمتعت كل حياتك فلتعلم أن كل ذلك سيذهب ويبقى العمل الصالح الذي قدمه الصالحون، قال الله في آيات تقشعر منها الأبدان وتذرف منها العيون: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205-207] ، كل هذه المتعة ذهبت وزالت، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: (يؤتى بأنعم رجل في الدنيا يوم القيامة -أي: ممن كُتب له الشقاء والعذاب في الآخرة- فيصبغ صبغة في النار ويقال له: هل وجدت نعيماً في حياتك قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما وجدت نعيماً في حياتي قط!! ويؤتى بأبأس رجل في الدنيا -أي: ممن كتب الله له الجنة- فيصبغ صبغة في الجنة ويقال له: هل وجدت بؤساً في حياتك قط؟ فيقول: لا يا رب! ما وجدت بؤساً في حياتي قط) ، فنعيم الآخرة باق لمن وجب له النعيم، وعذاب الآخرة باق كذلك لمن وجب عليه العذاب. قال الله تبارك وتعالى: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:107] ، بغتة أي: فجأة، سواء كانت ساعتهم هم أو الساعة التي هي الآخرة التي قد أزفت كما قال تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57-58] ، وكما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] ، وكما قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] .

تفسير قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله)

تفسير قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله) قال تعالى: {قُلْ} [يوسف:108] ، أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين، ولهؤلاء الغافلين، قل يا محمد للناس كافة: {هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] ، توحيد الله طريقي، والاستقامة على أمر الله منهجي، واتباع السابقين من رسل الله منهجي، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ، قل يا محمد لهؤلاء ولمن حولك وللناس كافة، ولا تخفي ذلك، ولا تستحي من ذلك، قل لهم: {هَذِهِ سَبِيلِي} . ولنقل نحن للناس كافة: هذه طريقنا، نحن مسلمون، كتابنا هو كتاب الله، سنتنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بالبعث وبكتاب الله وبالكتب التي نزلت من عند الله، ولا نفرق بين أحد من الرسل، ونؤمن بملائكة الله كما علمنا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ونؤمن ونشهد أن هذا القرآن من عند الله، قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] . وعجيب أمر المسلم ضعيف الإيمان، كيف يشعر اليهودي بيهوديته، والنصراني بنصرانيته، ويعلق هذا صلباناً، ويعلق ذاك نجوماً، والمسلم يستحي من اتباع سنة النبي محمد!! عجيب ضعف الإيمان هذا، وهنا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام ونحن له تبع: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} ، ومن سبيلي أيضاً الدعوة إلى الله؛ فهي من أشرف الأعمال على الإطلاق، فجدير بنا أن نغبِّر أقدامنا في الدعوة إلى الله، وأن نرطب ألسنتنا بعد ذكر الله بالدعوة إلى الله، جدير بنا ذلك. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} ، إلى طريقه وإلى شرعه وسنن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} ، لكن دعوتي إلى الله ليست دعوة همجية، وإنما هي على بصيرة، على علم ويقين وحجة، فهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله مستبصرين بما يدعون إليه، مستيقنين بما يريدونه من الناس ويدعون الناس إليه، فلا تدع بجهل فتضل وتضل غيرك، ولكن ادع إلى الله على بصيرة، وأتقن المسائل، وتعلم دينك: كتاب ربك، وسنة نبيك محمد، وأقوال صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوال أهل العلم والفقه في الدين، ثم ادع على بصيرة بعد ذلك. قال الله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] ، ربانيين بماذا؟ قال الله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] ، فدراسة وتعلم ثم بث ونشر للعلم، هكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، يتزودون بالعلم الشرعي ويتبصرون به، ثم يدعون الناس إلى طريق ربهم على بصيرة ليس بجهل وليس خبطاً عشوائياً. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] ، والبصيرة منها كتاب الله وسنة رسول الله؛ لقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام:104] ، فالآيات بصائر، وسنن النبيين بصائر كذلك يهتدى بها، قال تعالى في شأن كتابه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16] . فينبغي أن يكون الداعية على علم، وأن يتقن ما يبلغه للناس تمام الإتقان، كما أن على الطبيب أن يتقن طبه، وعلى المهندس أن يتقن هندسته وتصميمه، وعلى المدرس أن يتقن الدرس الذي سيلقيه، وكذلك على الداعي إلى الله أن يتقن المسائل التي سيدعو إليها، وأن يعرف إلى ماذا يريد أن يدعو، فعليه أن يتقن ذلك إتقاناً زائداً فإنه تقلد أفضل الأعمال، فعليه أن يوليها أحسن إتقان، وأن يبذل لها أطيب الجهد وأفضله. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ، فالذين اتبعوا رسول الله يسيرون على درب رسول الله، وعلى سيرة رسول الله في الدعوة إلى الله على بصيرة، فلنكن معشر الإخوة دعاة إلى الله، فهي أفضل الأعمال، حتى إن بعض أهل العلم يفضلها على الجهاد، مستأنساً بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب وقد أرسله لفتح خيبر: (انفذ على رسلك وادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، فهداية رجل واحد إلى طريق الله سبحانه خير من الغنائم، ومن أفضل أنواع الإبل. قال الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ، أي: ولست أنا وحدي بل أنا ومن اتبعني، فمن اتبعوا رسول الله عليهم أن يحملوا دعوة رسول الله، ويوجهوها إلى الخلق، ويأخذوا بأيدي الضال والتائه، قال: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108] ، أي: وأنزه الله سبحانه عن كل شريك وند ومثيل، أي: في دعوتك إلى الله نزه الله أيضاً عن الشركاء، وعن الأمثال والأنداد: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ} ، أنزه الله، فالتسبيح هو التنزيه تنزيه الله عن الشبيه والشريك والمثيل والند تنزيه الله عما يصفه به الواصفون القائلون بأن له ولداً وبأن له زوجة، القائلون بأن له شريكاً، القائلون بأن الملائكة بنات الله، الذين عبدوا معه غيره. فينبغي أيضاً أن ننزه الله عن كل نقص وعيب، وكذلك لنا في كل تسبيحة نسبحها صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولك بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة) ؛ فلنسبح الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) ، فجدير بنا أن نسبح الله باللسان وبالجنان. قال تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] ، بل أنا بريء من المشرك، بُرآء فنحن والحمد لله من الشرك ومن كل صنوفه، بُرآء من الشرك ومن المشركين كذلك.

إرسال الله الرسل إلى الأمم السابقة

إرسال الله الرسل إلى الأمم السابقة ثم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109] ، وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً.

نزول النصر على الرسل عند تكذيب الأمم

نزول النصر على الرسل عند تكذيب الأمم {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110] ، هنا قراءتان: وهل هي: (كُذِبُوا) مخففة، أم (كُذِّبُوا) مشددة؟ فـ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تستنكر القراءة (كُذِبُوا) بالتخفيف، وتقول: بل (كُذِّبُوا) ، وتقول: معاذ الله أن تظن الرسل بربها ذلك! أما ابن عباس رضي الله عنهما فكان يقرأ: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مخففة، يقول ابن عباس: كانوا بشراً، ويتلو قول الله تبارك وتعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . ومن العلماء من التمس تأويلات فقال: ظنت الرسل أن قومها قد كذبوها، فكل رسول ظن أن قومه قد كذبوه لما استبطأوا وعد الله بالنصر. فثَم وجوه في هذا التأويل، وحاصل ذلك كله: أن الأمر اشتد على المرسلين شدة شديدة، وتأخر النصر عليهم تأخراً شديداً شق على بعضهم مشقة بالغة، حتى إن نوحاً عليه السلام يقول الله في شأنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] ، فإلى أي حد وصل الأمر بنوح عليه الصلاة والسلام حتى ينادي ربه عز وجل قائلاً: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] ؟! إلى أي حد يصل الأمر بنوح إلى أن يقول هذا القول صلوات الله وسلامه عليه؟! فالشاهد: أن الرسل عليهم السلام بذلوا جميع ما في وسعهم، ولم يقصروا صلوات الله وسلامه عليهم؛ بل بذلوا الجهد كل الجهد، وتأخر النصر عليهم لحكمة يعلمها الله، وإلا فالله قادر على الانتصار لهم قادر على إهلاك عدوهم لأول وهلة، ولكن كما قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4] ، أي: من الكفار، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] ، فمن ثَم لا يستبطئ الدعاة إلى الله نصر الله تبارك وتعالى، فإن الله وعد به: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] . فوصل الأمر بالرسل عليهم الصلاة والسلام إلى أن ظنوا بأقوامهم أنهم قد كذبوهم، ومن العلماء من يقول: إن الرسل بشر حدثتها أنفسها بما شاء الله أن تحدث، لكنهم لم يظنوا أن الله يخلف الوعد، فالرسل أبعد الناس عن ذلك الظن بالله سبحانه وتعالى.

إرسال الرسل من أهل القرى

إرسال الرسل من أهل القرى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] أفادت الآية الكريمة أن الأنبياء الذين أوحي إليهم كانوا من أهل القرى، والمراد بالقرى هنا: هي البيوت المستقرة، فالبيوت المستقرة يقال عنها: القرى، سواء كانت في اصطلاحاتنا مدنناً أو قرى، فإن مكة قال الله في شأنها: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92] ، فالمراد بالقرى -والله أعلم بمراده- هي القرى المستقرة، أما البدو الرحل الذين لا يكادون يسكنون أماكن يستوطنونها فلم تكن منهم رسالات، كما قال تعالى: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فإن قال قائل: لم ذاك؟ ف A أن الأعراب كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في الجملة: أشد كفراً ونفاقاً، أشد كفراً فمن؟ وأشد نفاقاً فمن؟ قال فريق من المفسرين: أشد كفراً من كفر أهل المدينة، وأشد نفاقاً من نفاق أهل المدينة، لكن الكفار والمنافقين من الأعراب ينضم إلى كفرهم ونفاقهم جهل شديد وغباء، فاجتمع مع الكفر والنفاق جهل وغباء وقسوة في القلوب، كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم) ، وكما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام -فيما حسنه بعض العلماء-: (من سكن البادية جفا) . فلذلك يقول العلماء -على سبيل الشيء العارض-: إن النصراني الذي يساكن المسلمين في بلادهم يستحي من الزنا ويستحي إذا قيل له: إن ابنتك زنت، لكن النصراني الذي يساكن الملاحدة في روسيا لا يستحي من ذلك ولا يبالي به، ولا يهتم له. قال الله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109] ، كما قال تعالى: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] ، أهلكهم الله، أمم دمرها الله، أمم محاها الله، كما قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] ، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف:109] ، أي: أفلا تفهمون!

إرسال الرسل من أهل القرى

إرسال الرسل من أهل القرى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] أفادت الآية الكريمة أن الأنبياء الذين أوحي إليهم كانوا من أهل القرى، والمراد بالقرى هنا: هي البيوت المستقرة، فالبيوت المستقرة يقال عنها: القرى، سواء كانت في اصطلاحاتنا مدنناً أو قرى، فإن مكة قال الله في شأنها: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92] ، فالمراد بالقرى -والله أعلم بمراده- هي القرى المستقرة، أما البدو الرحل الذين لا يكادون يسكنون أماكن يستوطنونها فلم تكن منهم رسالات، كما قال تعالى: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فإن قال قائل: لم ذاك؟ ف A أن الأعراب كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في الجملة: أشد كفراً ونفاقاً، أشد كفراً فمن؟ وأشد نفاقاً فمن؟ قال فريق من المفسرين: أشد كفراً من كفر أهل المدينة، وأشد نفاقاً من نفاق أهل المدينة، لكن الكفار والمنافقين من الأعراب ينضم إلى كفرهم ونفاقهم جهل شديد وغباء، فاجتمع مع الكفر والنفاق جهل وغباء وقسوة في القلوب، كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم) ، وكما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام -فيما حسنه بعض العلماء-: (من سكن البادية جفا) . فلذلك يقول العلماء -على سبيل الشيء العارض-: إن النصراني الذي يساكن المسلمين في بلادهم يستحي من الزنا ويستحي إذا قيل له: إن ابنتك زنت، لكن النصراني الذي يساكن الملاحدة في روسيا لا يستحي من ذلك ولا يبالي به، ولا يهتم له. قال الله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109] ، كما قال تعالى: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] ، أهلكهم الله، أمم دمرها الله، أمم محاها الله، كما قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] ، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف:109] ، أي: أفلا تفهمون!

اختصاص الله الرجال من البشر بالوحي

اختصاص الله الرجال من البشر بالوحي أفادت الآية الكريمة أن الله سبحانه لم يرسل نبياً من النساء، ولا نبياً من الملائكة، ولا نبياً من الجن كذلك، وامتناع نبي من الجن في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8] ، فلم يأت رسول من الجن، ولم يأت رسول كذلك يدعو الناس مباشرة من الملائكة، إلا في بعض الحالات المستثناة كحديث الأقرع والأعمى، وأحاديث قليلة على هذا النمط، لكن كرسول ملك إلى الناس يدعوهم إلى طريق الله لم يكن هذا موجوداً من قبل، ولم يكن ثَم رسول من النساء ولا نبية من النساء. وهذا رأي جمهور المفسرين. أما الذي ورد بشأن الإيحاء إلى أم موسى في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] ، والوارد كذلك في شأن مريم عليها السلام: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] ، وكذلك الوارد في شأن سارة عليها السلام: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] ، فذلك كله باب فضل ليس بباب إثبات نبوة، والله تعالى أعلم، وقد ذكر الله سبحانه مريم في أعلى مقاماتها فقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75] ، فلم يقل الله عن مريم إلا أنها صديقة {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75] .

العبرة المأخوذة من قصص الأنبياء

العبرة المأخوذة من قصص الأنبياء قال الله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} [يوسف:110-111] ، أي: في قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] ، عبرة يعتبر بها أولو الألباب حتى يصبروا كصبرهم، ويؤمنوا كإيمانهم، ويصدقوا كتصديقهم، ويسيروا كسيرهم، ويكظموا الغيظ ويعفوا عن الناس ككظمهم وعفوهم، ويتخلقوا بأخلاقهم، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] ، حتى يوحدوا الله كتوحيدهم. (لأولي الألباب) : لأصحاب العقول النيرة الناضجة. {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111] ، ما كان ليفترى هذا القرآن أبداً، وليس بحديث مفترى كما زعم الزاعمون من الكفار، كما قالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، وكما قالوا: {إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4] ، ليس كهذا أبداً؛ فالرسول لم يفتر أبداً صلوات الله وسلامه عليه، بل قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47] ، فنبينا محمد لم يفتر أبداً، ولكنه تنزيل من حكيم حميد، فنقر ونشهد أن هذا القرآن من عند الله، وأنا متمسكون به إن شاء الله دائماً وأبداً، ونسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات. قال الله سبحانه: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111] ، أي: تصديق التوراة والإنجيل، فالقرآن مصدق للتوراة وللإنجيل ولسائر الكتب، وهي كذلك تصدقه فيما أتى به ذكره، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف:111] ، وقد قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ، فهدايته ينتفع بها أهل الإيمان، أما أهل الغباء والجهل فإن الله يقول في شأنهم: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125] ، فهكذا هداية القرآن لأهل الإيمان: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] . فنسأل الله أن ينفعنا بهذا الكتاب الكريم، وأن ينفعنا بهذا الذكر الحكيم، وأن ينفعنا بتنزيل رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين. نسأل الله سبحانه أن يلهمنا التأسي برسل الله عليهم الصلاة والسلام، والسير على نهجهم حتى الممات، فالموفق من وفقه الله. وبهذا الختام الطيب الجميل تختم سورة يوسف خير ختام؛ فلنلتمس الهداية والتوفيق من الله سبحانه، ولنلتمس سير العلماء بعد الأنبياء، فلنسر على سير الأنبياء، ولنقتبس منها كل هدى وخير وأدب وكل معتقد صحيح. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تفسير سورة النور

تفسير سورة النور [1-4] من المعلوم لدى كل من له أدنى معرفة بأحكام الدين أن الإسلام ما جاء إلا ليحفظ الكليات الخمس التي منها العرض، ولذا شرع حد الزنا صيانة من الوقوع في هذه الجريمة، وسورة النور من تلك السور التي تعالج مثل هذه القضايا، حيث جاء في أولها بيان حد جريمة الزنا، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغيرها من الأحكام.

سورة النور سورة مدنية

سورة النور سورة مدنية بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: سورة النور: سورة النور سورة مدنية، وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على كونها مدنية، وقد تقدم ضبط المدني والمكي بما حاصله: أن الأرجح من أقوال العلماء في تحديد المدني هو: ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، سواءً نزل عليه بالمدنية أو نزل عليه بتبوك أو نزل عليه بالحديبية، أو غير ذلك. وأن ضابط المكي هو ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، سواءً نزل عليه بمكة أو بالطائف، أو بغير ذلك. ومن العلماء من أطلق القول فقال: المكي ما نزل بمكة، والمدني ما نزل بالمدينة. على كل فسورة النور سورة مدنية بالإجماع، وقد نقل الإجماع في ذلك غير واحد من العلماء.

تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها)

تفسير قوله تعالى: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا) يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} [النور:1] من العلماء من قدر محذوفاً وقال: المعنى: هذه سورة أنزلناها. ومن العلماء من جعل السورة مبتدأ.

معنى السورة

معنى السورة أصل السورة مأخوذ من أحد أمرين: الأمر الأول: أن السورة مأخوذة من السور، لعلوها وارتفاع مكانتها، ومنه قول الشاعر: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فقوله: (ألم تر أن الله أعطاك سورة) أي: أنزلك منزلة، وأعطاك وجاهة ومنزلة. ومن أهل العلم من قال: إن السورة مأخوذة من السور لعلوها وارتفاع مكانتها. الأمر الثاني: أن السورة مأخوذة من السؤر لانفصالها وبينونتها عن الذي قبلها. فقولك مثلاً: سؤر المؤمن، أي: اللعاب الذي انفصل من فم المؤمن وخرج عنه. وقولك: سؤر الهرة: أي: اللعاب الذي خرج من فم الهرة وانفصل عنها، فيقال: سميت سورة: من السؤر؛ لأنها انفصلت عن السورة التي قبلها وتميزت عنها. لكن أكثر العلماء على أن السورة مشتقة من السور؛ لعلوها وارتفاع مكانتها.

وجه تخصيص ذكر الله عز وجل لإنزال هذه السورة

وجه تخصيص ذكر الله عز وجل لإنزال هذه السورة قال الله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] . إن قال قائل: كل السور أنزلها الله فلماذا خصت هذه السورة بالإنزال؟ ف A لبعض مخلوقات الله سبحانه وتعالى، ولبعض سور كتاب الله مناقب تستأثر بأن توصف بها مع اشتراك غيرها معها في ذلك الوصف، فمثلاً: من مخلوقات الله: ناقة الله التي أخرجها الله سبحانه وتعالى لقوم صالح، قال صالح لقومه: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] مع أن كل النوق نوق لله سبحانه وتعالى، ولكن لماذا قال عن هذه الناقة خاصة إنها ناقة الله؟ قال فريق من العلماء: إن الإضافة إضافة تشريف، فمثلاً: المساجد كلها لله، لكن لماذا أطلق على البيت الحرام خاصة إنه بيت الله؟ لمزيد التشريف، وإلا فالأرض كلها لله، مساجدها، وأسواقها، وبيوتها، وكل ما فيها لله، لكن لماذا قيل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] ؟ الإضافة هنا للتشريف، مع أن كل شيء لله. كذلك قوله تعالى في عيسى بن مريم روح الله، {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] مع أن كل البشر روح من الله، لكن إضافة روح الله إلى عيسى للتشريف. فمن العلماء من قال: إن اختصاص هذه السورة بالإنزال لبيان تشريفها ومكانتها بين السور، ولعدد من سور القرآن فضل تستأثر به على سائر السور، فقد تجد سورة لها فضل لا تجده في غيرها من السور، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لما سمع نقيضاً من السماء وكان جالساً هو وأصحابه قال: (هذا باب من السماء فتح لم يفتح قبل اليوم، نزل منه ملك فقال: يا محمد! أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: سورة الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة) ، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فقرأ عليهم: قل هو الله أحد) ، فلبعض سور القرآن مناقب وفضائل لا تشاركها فيها سور أخرى. قال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] . في قوله تعالى: (وفرضناها) قراءتان: القراءة الأولى: (وفرّضناها) بالتشديد. وقراءة: (وفرضناها) بالتخفيف. (وفرّضناها) : أي: قطعناها وبيناها ما فيها حكماً حكماً. (وفرضناها) (بالتخفيف) بمعنى: فرضنا ما فيها من أحكام، فكثير من أحكامها فرض، ففيها حدود: كحد الزنا، وحد القذف، وفيها أيضاً آداب: كأحكام النظر، وأحكام الاستئذان، وفيها جملة مسائل تأتي في ثناياها إن شاء الله تعالى، ومما ورد فيها: وجوب رد أي أمر مختلف فيه إلى حكم الله سبحانه وتعالى، وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر باتباعها التحذير من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك مما سيأتي. {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ} [النور:1] آيات: أي: دلالات. {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1] أي: واضحات ظاهرات، فالبينات: الواضحات، والمبين: هو الواضح الظاهر. {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] . أي: لعلكم بهذه الآيات تعتبرون وتتعظون وتنزجرون وتكفون عن المعاصي. وابتداءً فسورة النور لم يثبت في فضلها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما الوارد من قولهم: (لا تعلموا نساءكم الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف، وعلموهن الغزل وسورة النور) فحديث ضعيف جداً لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن متنه أيضاً في كثير من فقراته غير مقبول، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة: (ارقيها وعلميها حفصة كما علمتيها الكتابة) ففي قوله عليه الصلاة والسلام: (كما علمتيها الكتابة) دليل على أن النساء كان منهن من يتعلم الكتابة، وتعلم النساء الكتابة علم من العلوم، والذي عَلم علماً واستغله في طاعة الله يُحمد على ذلك، أما ما جاء من الشعر الماجن: ما للنساء وللخطابة والكتابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة فهذا بيت شعر ساقط لا وجه ولا مستند له لا من كتاب ولا من سنة، والأمر فيه كما قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:224-227] الآيات.

تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني.

تفسير قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي.) قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] .

حكم اللوطية

حكم اللوطية يلتحق بذلك أيضاً: من عمل عمل قوم لوط، ما حكمه؟ ورد في الباب حديث من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول) ، وهذا الحديث إسناده ظاهره الحسن، لكن انتقده عدد من أهل العلم وعدوه من مناكير عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، ومن ثم اختلف العلماء في مسألة من عمل عمل قوم لوط ما هي عقوبته؟ فمن قائل من العلماء: إنه يرجم إذا كان محصناً، ويجلد إذا كان بكراً إلحاقاً بالزنا. ومنهم من قال: يلقى من أعلى شاهق بالمدينة، ويتبع بالأحجار كما فعل بقوم لوط، إذ قال الله سبحانه: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74] . والرأي الثالث: هو القتل بكراً كان أم ثيباً عملاً بحديث ابن عباس عند من صححه من العلماء. والله تعالى أعلم.

من زنى بامرأة فهل له أن يتزوجها

من زنى بامرأة فهل له أن يتزوجها من المسائل التي تلتحق أيضاً بالمسائل التي نحن بصددها: رجل زنا بامرأة هل يتزوجها؟ القول الأول: قال كثير من أهل العلم لا بأس بذلك ويصدق عليهما قول من قال: أوله نفاح حرام وآخره نكاح حلال. هذا رأي فريق من العلماء، والله أعلم. وقد جاء في سبب نزول قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] ما أخرجه أبو داود بإسناد حسن: أن رجلاً من المسلمين كان يقال له مرثد بن أبي مرثد كان يحمل أسارى المسلمين من مكة إلى المدينة يهربهم، وكانت له صديقة في الجاهلية قبل أن يسلم يقال له عناق فذهب يوماً لنقل بعض أسارى المسلمين من مكة إلى المدينة فقابلته عناق في الليل فعرفته فقالت له: مرثد! قال: مرثد، قالت: هلم فبت عندنا الليلة يا مرثد، قال لها: يا عناق إن الله قد حرم الزنا، فهيجت عليه الناس، فقالت: يا معشر قريش! هذا رجل يحمل أسراكم إلى المدنية، فجرى فاختبأ في كهف فجاءوه فوقفوا عليه ولم يرونه، فانطلق بعد أن انصرفوا وحل أسيرية وحملهما وانصرف، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله! أأنكح عناقاً -يعني: أتزوج عناقاً - فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) ونزلت الآية الكريمة، فعلى هذا اختلف العلماء في تفسير النكاح في الآية على قولين: قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) وعلى ذلك فلا يجوز لرجل عفيف أن يتزوج بامرأة قد زنت، ولا يجوز لامرأة عفيفة أن تتزوج برجل قد زنى، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، واستدل له البعض بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله) . القول الثاني: وهو قول أكثر: ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالنكاح في قوله تعالى: (الزاني لا ينكح) . الجماع، ويكون المعنى: على أن الزاني لا يطاوعه على زناه إلا زانية مثله أو مشركة، والزانية لا يطاوعها على زناها إلا زان أو مشرك، فحملوا الزنا ضمناً على الجماع، فالزاني لا تطاوعه على الزنا إلا زانية مثله أو مشركة لا تعتقد حرمة الزنا، ويؤيد هذا القول: النظر في الآية الكريمة، فلو فسرنا النكاح بالزواج في هذا الموطن لكان المعنى: الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، ولكان في الآية الكريمة إباحة تزوج الزاني بالمشركة وهذا حرام؛ لأن الله يقول: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] ، ويقول: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ، وأيضاً لو قلنا بذلك: لأبحنا للزانية أن يتزوجها المشرك لقوله: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] وهذا حرام، فإن الله تعالى قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] ، وقال: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] . فهذا الذي حذى بنا إلى ترجيح رأي العلماء القائلين: إن المراد بالنكاح هنا الجماع، وليس المراد بالنكاح العقد، وكان من حجج القائلين بأن المراد من النكاح العقد هو: أن أغلب آيات الكتاب العزيز التي ذكر فيها النكاح محمولة على عقد التزويج، وهذا وإن كان يصح لهم في كثير من المواطن، لكن ثم مواطن لا يصح لهم ذلك، كقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] ليس معنى قوله (بلغوا النكاح) إلا بلغوا الحلم، والله أعلم. وكذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] المراد: العقد والجماع نفسه، بدليل حديث النبي صلى عليه الصلاة والسلام: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) والله أعلم. قال سبحانه: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] والزاني لا يساوي المشرك أبداً، فالزاني مسلم ولا يكفر بهذا الزنا إنما يكون قد ارتكب كبيرة من الكبائر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، وفي الثالثة قال: وإن رغم أنف أبي ذر) -أي: وإن ألصق أنف أبي ذر - في التراب، أما المشرك فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وتقدم شرح فقه هذا الحديث. قال تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] وقد تقدم أن الرجل إذا زنا بامرأة، فالتحرير في هذه المسألة يقتضي: أن له أن يتزوجها.

أقوال العلماء في التغريب

أقوال العلماء في التغريب أما قوله: (والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) أي: نفي سنة، فعليه بعض الملاحظات: أحدها: هل تغرب المرأة، أو لا تغرب المرأة؟ يعني: هل تنفى المرأة إذا زنت مع جلدها إذا لم تكن قد تزوجت، أو لا تنفى؟ أما الرجل فينفى لقوله عليه الصلاة والسلام: (جلد مائة وتغريب عام) أما المرأة: هل تنفى مع الجلد، أو لا تنفى؟ فجمهور أهل العلم: يرون أن المرأة تنفى أيضاً؛ لعموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (جلد مائة وتغريب عام) . ومن أهل العلم من قال: لا تنفى المرأة؛ لأن نفيها يحتاج إلى محرم، والمحرم ليس له ذنب في التغريب. فأجيب على ذلك: بأن لإمام المسلمين أن يعد لها من الاحتياطات ما تُحفظ به بإذن الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.

مشروعية البعد عن أصحاب السوء

مشروعية البعد عن أصحاب السوء وقوله عليه الصلاة والسلام: (والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) يفيد: مشروعية نفي أصحاب المعاصي، ومشروعية الابتعاد عن مجالسة أصحاب المعاصي، وعلى ذلك جملة أدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام منها: أن البكر ينفى حتى لا يتذكر موقع المعصية؛ لأنه كلما مر بموقع المعصية تذكرها، ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم مزهداً في جلساء السوء: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة -أو- نتنة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر) ، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث قاتل التسعة والتسعين نفساً: إن هذا القاتل لما أتم المائة قال له العالم: (اترك أرضك فإنها أرض سوء، واذهب إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم) . الشاهد: أنه حثه على ترك أرض السوء والذهاب إلى أرض أهلها أهل صلاح. وأيضاً قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] ، والآيات في هذا الباب منها أيضاً: قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] ففي الآية حث على عدم مجالسة أصحاب المعاصي؛ لأنه مشركة أو إذا تزوج زانية تأثر بأخلاقها، ففي قوله: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] دليل وإن لم يكن صريح فإنه ضمني في البعد عن أصحاب المعاصي وترك مجالستهم. والخلاصة: أن كل ما سبق: فيه دليل على مشروعية البعد عن أصحاب المعاصي وترك مجالستهم إلا على وجه التذكير والنصح كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود فجلس يذكرهم ويعظهم عليه الصلاة والسلام، والأدلة في هذا الباب متواترة وكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويلتحق بما تقدم من الآية: إيراد اعتراض بعض الملاحدة على آية الرجم، فيقول قائل الملاحدة: إن الإسلام فيه شدة وغلظة لما يأمر برجم الزناة. فالإجابة على ذلك من واقعهم هم أنفسهم، فهم أنفسهم أطباء وهؤلاء الملاحدة أحياناً يستأصلون لمريض من مرضاهم كليته، وأحياناً يبترون لمريض من مرضاهم رجله أو يده، ولماذا يبترون الرجل أو اليد؟ ولماذا يستأصلون الكلية؟ يفعلون ذلك عندهم إبقاء على حياة المريض، فإذا كان هذا هو فعلهم ببعضهم، فبرجم الزاني يحصل إبقاء لعموم البشر، لأنه استئصال لعضو فاسد. وما دام أن الآمر بالرجم هو الله -وهو الحكيم الحميد هو الخالق للعباد، وهو الذي يعلم ما يضرهم وما ينفعهم- فلا يسعنا إلا الامتثال لأمره.

هل يكفي في ثبوت حد الزنا وجود رجل مع امرأة في فراش؟

هل يكفي في ثبوت حد الزنا وجود رجل مع امرأة في فراش؟ تلتحق بالآية المتقدمة مسائل: منها أيضاً إذا وجد رجل مع امرأة في فراش تحت لحاف وهو أجنبي عنها، هل يُشهد بمجرد رؤيته على هذا الوضع أنه زنى بها؟ الصحيح: أنه لا يشهد بمجرد هذه الرؤية على الزنا، ولكن إن أقرت المرأة أو اعترفت أنها زنت فيقام الحد على من اعترف، أما مجرد النوم في فراش مع امرأة، أو خلوة مع امرأة، فهذا وذاك لا يثبت حد الزنا، والحدود تدرء بالشبهات، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن للإمام أن يعزر التعزير الذي يراه مناسباً لزجرهما وأمثالهما عن الوقوع في هذه المعصية -الخلوة بالأجنبية-، وللإمام أن يتخذ من التعزير ما يراه موائماً لردع أمثال هؤلاء من أهل الفسق، والله تعالى أعلم.

أقوال العلماء في الجمع بين الجلد والرجم لمن زنى وكان ثيبا

أقوال العلماء في الجمع بين الجلد والرجم لمن زنى وكان ثيباً وهنا مسألة: إذا زنى الثيب فهل يرجم فقط أم بجمع له بين الجلد والرجم؟ قد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني خذوا عني: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) ، فالثيب بالثيب: جلد مائة والرجم، لكن حديث: أن الثيب إذا زنا -والثيب هو من سبق له الزواج- يجلد على ما في الحديث مائة جلدة ويرجم، وهذا الحكم على غير المعهود من أن الثيب يرجم فقط، وللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: أن الثيب إذا زنا يرجم فقط ولا يجلد، وهذا قول جمهور العلماء، ودليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل فاجلدها ثم ارجمها. ودليل آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية لما زنت، ولم يرد أنه جلدها. ورجم ماعزاً لما زنى ولم يرد أنه جلده، فهذه أدلة الجمهور القائلين بأن الثيب إذا زنى يرجم فقط. القول الثاني: وذهب آخرون منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أن الثيب إذا زنى يجلد مائة جلدة ثم يرجم -أي: توقع عليه العقوبتان- واستدل بقوله: جلدتها بكتاب الله -أي: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويستدل له أيضاً بالحديث الذي هو: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، ولكن رأي الجمهور أقوى. والله أعلم.

الحث على الستر لمن ابتلي بارتكاب الحدود

الحث على الستر لمن ابتلي بارتكاب الحدود من ابتلي بشيء من هذه القاذورات: فهل يبحث عن شخص يقيم عليه الحد، أو يذهب للإمام يقيم عليه الحد، أم الأولى له أن يستتر؟ الظاهر والعلم عند الله: أن الأولى له أن يستتر ولا يحدث أحداً من الناس؛ وذلك لأن ماعزاً لما أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إنه قد زنى، أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فاتجه إلى الشق الآخر من وجه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناحية الأخرى مراراً، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك قبّلت، لعلك لمست أو لعلك كذا. ولعلك، ومع ذلك يصر ماعز على أن يقام عليه الحد. وفي بعض الروايات -التي ينظر في إسنادها- أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لبعض من أبلغه خبر ماعز: (هلا سترته بثوبك) ، ويدل على الستر أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون، قيل: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الرجل يذنب الذنب في الليل فيصبح وقد ستره الله عليه يتحدث في الناس عملت كذا وكذا البارحة) فهذا غير معافى، ويدل على الستر أيضاً: (إن الله حيي ستير -أو- إن الله يحب الستر) . ويدل على أفضلية الستر أيضاً: عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فعلى من ابتلي بشيء من ذلك أن يستتر ويستغفر الله عز وجل، خاصة في زماننا الذي عطلت فيه الحدود فإلى من ستذهب، ولن ينالك من الناس إلا الفضحية، والستر مأمور به، فعلى ذلك: إن ابتليت امرأة -والعياذ بالله- بالزنا، وكانت بكراً، وتقدم شخص للزواج بها فاختار بعض العلماء -وهم الأقل- أنها تستر على نفسها فالله حيي ويحب الستر سبحانه وتعالى، ولا يأتيها مفسد، ولا يأتيها رجل قليل الفقه بزعمه ويقول له: اذهبي فقولي للزوج إنك زنيت! فهل رب العزة يحب منك هذه الفضائح؟! كلا فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، وقد سمعتم قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ماعز: (هلا سترته بثوبك) .

قرائن يعرف بها زنا المرأة

قرائن يعرف بها زنا المرأة والزنا يعرف في المرأة بقرائن ثلاث: إما الحبل، وإما الاعتراف، وإما الشهود. وهذا قول أمير المؤمنين عمر، بيد أن كثيراً من العلماء قالوا: إن الحبل ليس قرينة لإقامة الحد على المرأة، فقد تكون المرأة أكرهت على الزنا، أو يكون فعل بها وهي نائمة، أو أعطيت مخدراً من المخدرات فأسكرها ففعل بها المحرم، فرأى فريق كبير من العلماء أن الحبل لا بد أن يصحبه الاعتراف، بينما اعتبر أمير المؤمنين أن الحبل قرينة. والله أعلم. وعلى كلٍ فهذا هو الرأي الآخر في الباب. (الزانية والزانية فاجلدوا) قلنا: للجلد صفات مبسوطة في كتب الفقه. (كل واحد منهما مائة جلدة) ولم يُقل: فاجلدوهما مائة جلدة؛ لأن قوله: فاجلدوهما قد يحتمل أنهما معاً يجلدان مائة جلدة فكل واحد منهما يتحمل خمسين، ففي مسائل الحدود يزال الغبش عن الأحكام وتتضح الأمور جلية. قال تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] أي: لا تأخذكم بهما رقة وشفقة فتتركون الحد، وليس المعنى أنكم تضربوهم ضرب الموت، فكما تقدم أن للضرب صفة، ولكن المعنى: ألا تأخذكم الشفقة بهما فتتركون الحد. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) : أي: في حكم الله، فالمراد بالدين هنا: الحكم، وتقدم معنا أن من معاني: الجزاء ما ورد في قوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي: لمجزيون. لكن (الدين) هنا: الحكم، كما قال تعالى {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:76] أي: في حكم الملك، أي: لا تأخذكم بهما رأفة في حكم الله وتسقطوا حكم الله عنهما لهذه الرأفة. {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] . في قوله (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) تهييج وإثارة للمؤمنين على إقامة الحدود. كما يقول لك قائل: إن كنت مسلماً فتصدق، فتثبت أنك مسلم فتقوم إلى الصدقة، فكأن الذي لا يقوم بتنفيذ هذه الحدود مطعون في إيمانه بالله واليوم الآخر. {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] قال بعض العلماء: الطائفة: ثلاثة فما فوقها، وقال فريق آخر الطائفة: المجموعة. والله أعلم. لكن لا بد من الشهود، (وليشهد) معناها هنا: وليحضر، فالشهادة لها معان: (شاهد ومشهود) مثلاً، الشاهد بمعنى: الحاضر المشاهد، والشاهد بمعنى: الشاهد الذي تثبت به الدعوى كالشاهد على المال، والشاهد على الدين، والشاهد على الحكم، فالشهادة لها معان، ومن معانيها: الحضور، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73] أي: عالم الذي غاب والذي حضر، ومن معاني الشهادة: الشهادة على البيوع والشراء ونحو ذلك. فقوله (وَلْيَشْهَدْ) أي: يحضر، (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني: إقامة الحد لا تكون سراً إنما تكون على رؤية وعلى عين طائفة من المؤمنين.

الزنا كبيرة من الكبائر

الزنا كبيرة من الكبائر قال الله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] الزنا: كبيرة بالإجماع، وتقدم ضبط وتحديد العلماء للكبيرة: فمن العلماء من قال: إن الكبيرة هي التي نص الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها كبيرة، كما قال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله، وقتل النفس ... ) الحديث، وكل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم نص بأنه كبيرة فيعتبر كبيرة، وهذا القول ظاهره السلامة، ولكن إذا أمعنت النظر تجد أن هناك أموراً متعددة لا تستطيع أنت ولا غيرك أن يصفها بكونها كبيرة أو صغيرة. مثاله: رجل تزوج بأمه فليس هناك نص صريح يفيد أن من تزوج بأمه ارتكب كبيرة، ولكن الإجماع على أنها كبيرة، ولا شك في ذلك عند العامي قبل العالم، وكذلك الزنا لم يأت فيه نص بعينه أنه من الكبائر، اللهم إلا الزنا بحليلة الجار وهو قسم خاص من أقسام الزنا، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قيل ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) ، لكن عموم الزنا لم يرد نص خاص على أنه كبيرة، لكن الإجماع منعقد على أنه كبيرة، فلذلك حدد بعض أهل العلم الكبيرة بقولهم: هي ما ورد فيها نص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو ما ترتب على فاعلها حد في الدنيا، أو ما توعد على فعلها بلعن أو طرد من رحمة الله سبحانه، أو بعذاب النار أو بغضب الله ونحو ذلك. ولذلك ورد عن ابن عباس أنه قال: (إنها -أي الكبائر- إلى السبعين أقرب منها إلى السبع) هذا وقد جاءت في الزنا جملة نصوص تحذر منه وتبين العقوبة الشديدة لمن فعله، قال سبحانه: {وَلا يَزْنُونَ} والذي يفعل ما ذكر في الآية ومنه الزنا: {يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68-69] وعلى ذلك يحمل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق) على أنه يدخل الجنة آخراً وإن زنى وإن سرق إذا أخذ قسطه من العذاب في النار إذا لم يغفر الله له. وقال الله سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكني رأيت البارحة رؤيا: أتاني رجلان فأخذاني. - الحديث وفيه- فمرا بي على مثل التنور -التنور الذي يخبز فيه وفيه نار- وإذا في أعلى التنور رجال ونساء عراة يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم فيسمع له صياح وضوضاء، فقلت: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء: الزناة والزواني يا محمد ... ) والحديث في صحيح البخاري وحاصله: أن من عقوبات الزناة أنهم كما استمتعوا بالفروج تأتي النار تحرق هذه الفروج التي استمتعوا بها في الحرام والعياذ بالله. وجاء في الحديث: (أي الذنب أعظم؟ فقال عليه الصلاة والسلام:. وأن تزاني بحليلة جارك) .

المقاصد الشرعية من تحريم الزنا

المقاصد الشرعية من تحريم الزنا للزنا مضار اجتماعية منها: اختلاط الأنساب، والحاق الولد بغير أبيه فيطلع على المحارم التي لا يحل له أن يطلع عليها، ويرث المال الذي ليس له ولا يحق له تملكه، وتنشأ من جراء الزنا مشاحنات وقتال بين الرجال الذين يغارون على أعراضهم، ولذلك سدت الشريعة جميع الطرق الموصلة إلى الزنا، وكما لا يخفى عليكم أن كل كبيرة من الكبائر لها حمى يحيط بها، فهذا الحمى يحذر من الاقتراب منه حتى لا تقع في المحرم الفعلي.

الأساليب الوقائية التي اتخذتها الشريعة لمنع جريمة الزنا

الأساليب الوقائية التي اتخذتها الشريعة لمنع جريمة الزنا لقد جعلت الشريعة الإسلامية بين العباد والذنوب حمى ومنعت من الاقتراب من هذا الحمى، ففالزنا له حمى والاقتراب من حماه حرام، فمثلاً: حرم السفر بدون محرم للنساء؛ لأن السفر بدون محرم يطمع الرجال في المرأة ويشجع المرأة ويوسوس لها بفعل المحرم، وحُرمت الخلوة بالأجنبية بدون محرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء، قال رجل: أرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت) ، وحرم النظر إلى الأجنبية فقال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] ، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] ، وحرم التبرج فقال صلى الله علهي وسلم: (صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) . فكل المقدمات المؤدية إلى الزنا حرمت، حتى الوصف فقد يصف رجل امرأته لغيره، أو تصف امرأة رجلاً وتتغزل في صورته، ويتغزل في صورتها، فيؤدي ذلك بهما إلى الوقوع في المحرم والفاحشة، والخضوع بالقول من المرأة، الذي يطمع الذي في قلبه مرض حُرم، قال تعالى: {َلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] . والمواجهة المباشرة والحديث المباشر بين الرجال والنساء وجهاً لوجه منعه أولى، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] . والغناء الذي يثير الفواحش ويهيج الرجال والنساء، ويصف الخدود والخمور حرام، فكل السبل التي تؤدي إلى الزنا سُدت، ولا يهلك على الله إلا هالك، ولا يقتحم هذه الأشياء كلها إلا رجل هالك، فلذلك قال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وهو أبلغ من قوله: ولا تزنوا، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة) أي: يضمن لي لسانه وفرجه، أضمن له الجنة. ومن الدواعي إلى الزنا في هذه الأزمان: النظر إلى التلفزيون، والفيديو والأفلام، والمجلات التي عليها صور النساء العاريات، فهذه يجب أن تحرق؛ لأنها تهيج الكامن، وتساعد على نشر الرذيلة، والاتجار في مثل هذه المجلات التي عليها صور العرايا حرام؛ لأنه نشر للفساد والرذيلة في الأرض. قال الله سبحانه وتعالى: (الزانية والزاني) أي: بهذه الصفة المخصوصة: الزاني الحر البكر العاقل.

من المقصود بالخطاب في قوله: (فاجلدوا)

من المقصود بالخطاب في قوله: (فاجلدوا) قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) صفة الجلد تداولتها كتب الفقه وتناولتها، والخطاب في قوله تعالى (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) لمن؟ كثير من أهل العلم يقولون: إن الخطاب لإمام المسلمين، وقد ورد في الباب حديث: (تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني منها فقد وجب) فاستدل بهذا على أن الذي يقيم الحد هو الإمام.

الأمة وحكمها الجلد بكرا أو ثيبا

الأمة وحكمها الجلد بكراً أو ثيباً ويستثنى أيضاً: الأمة بالنص، والعبد بالإلحاق، فقد جاء في كتاب الله عن الإماء قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] ، فالأمة إذا زنت تجلد خمسين جلدة؛ لأن الرجم لا يتجزأ، ورأي الجمهور أن الأمة ثيباً كانت أو بكراً إن زنت تجلد خمسين جلدة، وخالف في ذلك فريق مخالفة مضحكة، كـ: ابن حزم الظاهري رحمه الله وعفى عنه فإنه قال: إن الأمة إذا لم تكن متزوجة وزنت تجلد مائة جلدة على ظاهر الآية {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] وإن تزوجت وزنت جلدت خمسين جلدة لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] وهذا من عجيب القول وعجيب البرود الظاهري.

الطفل والمكره

الطفل والمكره ويستثنى أيضاً: الأطفال؛ لأن الحد مرفوع عن الطفل حتى يبلغ. ويستثنى أيضاً: المكره، وقد ورد أن أمير المؤمنين عمر بلغه أن امرأة من العابدات زنت فقال: (أراها قامت تصلي من الليل، فسجدت فهجم عليها فاسق من الفساق فزنا بها لما تنومت، فأتي بهذه المرأة فقالت كالذي قاله أمير المؤمنين عمر، فخلى عمر رضي الله عنه سبيلها) . فهذه الصور ممن يستثنى من حد الزنا الذي هو مائة جلدة، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية (الزانية والزاني) ناسخة لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:15-16] فكان في أول الأمر حد الزنا بالنسبة للمرأة أن تحبس في البيت، ولا تخرج حتى تموت (أو يجعل الله لهن سبيلاً) فهذا هو السبيل كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ... ) الحديث. فالسبيل هو نزول وتشريع حد الزنا. ومن العلماء من قال: إن آية النساء كانت مؤقتة بمعنى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} والسبيل فسر في الحديث، فعمل بها لوقت وأمد محدد، وجاء نهاية الوقت بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام.

المجنون ويسقط عنه الحكم

المجنون ويسقط عنه الحكم واستثني من الآية أيضاً: المجانين، فإن عمر رضي الله عنه أتي إليه بامرأة مجنونة قد زنت، فأمر بها كي ترجم, ورآها علي فقال: من هذه؟ قالوا: هذه مجنونة بني فلان أمر بها عمر أن ترجم، فقال علي: على رسلكم، ثم ذهب إلى أمير المؤمنين عمر، فقال: يا أمير المؤمنين: أما بلغك: (أن الحد رفع عن ثلاثة: منهم المجنون حتى يفيق) الحديث، فأقر له عمر بذلك، ولم ترجم المرأة المجنونة.

المحصن وحكمه الرجم

المحصن وحكمه الرجم ويستثنى من هذا النص: الرجال المحصنون والنساء المحصنات -أي: الذين سبق لهم الزواج- وأدلة ذلك كثيرة: الدليل الأول: آية الزنا التي نسخت لفظاً وبقيت حكماً وهي: (والشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما البتة جزاءً بما كسبا نكالاً من الله) كانت هذه آية تتلى فنسخت تلاوتها وبقي حكمها. الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) . الدليل الثالث: قول أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه: (إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب، وكان فيما أنزل: آية الرجم، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه، وإني خشيت أن يطول بالناس الأمد فيتركوا الرجم فيضلوا بترك سنة لنبيهم -أو بترك فرض من فروض الله سبحانه وتعالى- ولقد هممت أن أثبت آية الرجم في المصحف) ، لكنه رضي الله عنه لم يكن ليفعل شيئاً تركه النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع الناس على تركه، فحذر أمير المؤمنين عمر من التفريط في الرجم، وبين أن النبي عليه الصلاة والسلام رجم. الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً. الدليل الخامس: (أن النبي عليه الصلاة والسلام رجم الغامدية التي جاءت وأصرت على أن ترجم، فقالت: يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنها: قالت: يا رسول الله! لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله يا رسول الله! إني زنيت، وإن هذا الحبل الذي في بطني من الزنا، فشهدت على نفسها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى تضعني، فذهبت حتى وضعت، وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: ها أنا قد وضعت يا رسول الله. قال: اذهبي حتى تفطميه، فذهبت، وبعد أن فطمته جاءت به ومعه كسرة من الخبز، قالت: ها هو يا رسول الله قد فطم، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت، فطعن فيها بعض الصحابة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد تابت توبة لو تابها أهل السماوات لوسعتهم) وفي رواية: (لو تابها صاحب مكس لوسعته) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فكل هذه أدلة على أن المحصن لا تعلق له بهذه الآية، إنما له حكم خاص.

الحكمة من تصدير الآية بالزانية قبل الزاني

الحكمة من تصدير الآية بالزانية قبل الزاني بُدئ بالزانية؛ لأنها هي التي تدعو إلى هذه الفاحشة بالدرجة الأولى بما تظهره من تبرج وخضوع بالقول وتمايل وتغنج، فتطمع الرجال فيها، كما قاله جمهور المفسرين، وفي المقابل صدرت آية السرقة بالسارق؛ لأن السرقة تحتاج إلى جسارة وقوة وشجاعة، وهذه الأمور في الرجل أكثر منها في المرأة، فالمرأة تخاف في مثل مسائل السرقة، لكنها في الزنا هي الداعية إليه بالدرجة الأولى في الغالب.

تعريف الزنا

تعريف الزنا (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) الزنا: هو ولوج فرج في فرج لا يحل له، ونعني بالولوج: غياب ما يسمى بالمدورة من الرجل في فرج المرأة، سواء حدث إنزال أو لم يحدث، فبمجرد الولوج يجب الحد، وتترتب عليه سائر الأحكام المتعلقة به، أما المماسة الخارجية فلا توجب حداً، وللإمام أن يعزر فيها إذا بلغه الأمر. وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) نص عام.

ما يستثنى من قوله تعالى: (الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما)

ما يستثنى من قوله تعالى: (الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما) {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] نص عام، ومن المعلوم أن لكل عموم استثناء، فما الذي استثني من نص {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ؟

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات.

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ.) قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] .

حكم التعريض بالقذف

حكم التعريض بالقذف من عرض بالقذف كما تقدم بيانه مراراً الصحيح: أنه لا يحد؛ لأن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود -كأنه يعرض بنفي الولد عن نفسه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: وما الذي حذى به أن يكون أورقاً -أو كما قال- قال: لعله نزعه عرق، قال: ولعل ابنك هذا نزعه عرق) . فأخذ بعض العلماء من هذا الحديث: أن التعريض بالقذف لا يعد قذفاً، ومنهم من قال: يعد قذفاً؛ لأن قوم مريم قالوا لمريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] أي: أبوك ما كان رجل سوء وما كان أمك زانية، فعرضوا بأنها زنت، ولذلك حكى الله ذلك الافتراء في قوله: حكاية عنهم وقال في الآية الأخرى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156] قالوا: بالنظر في الآيتين معاً الآية الأولى: (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) ، والآية الثانية: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) نجد: أن قولهم (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) وصف بأنه بهتان عظيم، كذا قالوا وفي قولهم نظر، فإن الذين قالوا: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) لا يستلزم أن يكونوا هم الذين قالوا على مريم بهتاناً عظيماً وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شروط المقذوف

شروط المقذوف أما شروط المقذوف أو المقذوفة: أولاً الإسلام، أن تكون المقذوفة أو المقذوف مسلماً، فمن رمى كافرة لا يقام عليه الحد. وإذا رمى نصرانية هل يقام عليه الحد، أو لا يقام؟ هذا راجع إلى تفسير المحصنات، فمن فسر المحصنات هنا بالمسلمات قال: لا حد على من رمى النصرانية، ومن فسر المحصنات بالعفائف. قال: يحد من رمى النصرانية، وإذا قيل له: هل من دليل في كتاب الله يدل على أن النصرانيات منهن محصنات؟ قال: نعم؛ ثم دليل ألا وهو قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] فهنا قال: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) فدل على أن من الذين أوتوا الكتاب محصنات، فمن شروط المقذوف: أن يكون مسلماً عند فريق من العلماء عفيفاً، فإذا قذفت امرأة زانية ثبت عليها الزنا وحدت، وقال لها شخص: يا زانية فما كذب، فلا يحد، لكن هل يعاقب عقوبة أخرى دون الحد؟ للإمام أن يتخذ معه ما يردعه إذا كانت قد تابت وأعلنت توبتها. ومن شروط المقذوف عند بعض العلماء: أن يكون بالغاً، فلو رمى رجل طفلة صغيرة لا توطأ بالزنا: فهل يحد، أو لا يحد؟ من أهل العلم من قال: لا يحد؛ لأنها طفلة، ومنهم من قال: إذا كانت هذه الطفلة تشتهى أو يشتهى مثلها حُد من رماها. ومنها: ألا تكون قد جلدت من قبل.

شروط صيغة القذف

شروط صيغة القذف وأما شروط صيغة القذف: فهو أن يقال لها: إن فلانة زنت، أو إن فلانة فُعل بها كذا وكذا مما ذكر من فعل قوم لوط، فهذه شروط القاذف والمقذوف والمقذوف به.

ما المراد بالمحصنات؟

ما المراد بالمحصنات؟ هل المراد بالمحصنات: النساء المحصنات، أو المراد بالمحصنات: الأنفس المحصنات؟ على التأويل الثاني: يدخل في الأنفس المحصنات: الرجال الذين أحصنوا، فإذا رمى رجل رجلاً قد أحصن يقام عليه الحد كذلك، وهذا رأي الجماهير من العلماء. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} المراد بالرمي هنا: الرمي بالزنا، فيقال: فلانة قد زنت، أو فلان قد زنى، ويراد بالرمي أيضاً: ما هو في معنى الزنا، كأن يقال: فلانة قد ليط بها، أو فلان قد ليط به، فالحكم واحد عند كثير من أهل العلم. وهذه الآية -آية القذف- ترك العمل بها في بلاد المسلمين، وضيع العمل بها كما ضيع العمل بغيرها من آيات الحدود -عياذاً بالله- واستبدل العمل بها بقوانين وضعية أتت من دول الكفر ما نزلت على نبي من النبيين، ولا نزلت في دين من الأديان، أحكام يُعمل بها في المحاكم لم تأت بها ديانة من عند الله، لا مسلمة ولا ديانة يهودية ولا ديانة نصرانية ولا أي دين نزل من عند الله، إنما هي بقايا مخلفات العقل اليوناني والعقل الروماني يُعمل بها في المحاكم المصرية، قوانين قذرة قبيحة من أوساخ الرومانيين وزبالات الرومانيين يعمل بها في المحاكم ويقضى بها على عباد الله. فآية القذف تُرك العمل بها مع أنها آية محكمة، وأصبحت ترى في الطريق شخصاً يقول للآخر يابن فلانة، ويصف أمه بالزنا، والثاني يضحك ولا تهتز له شعرة، مع أن عقوبة من يقول هذه الكلمة الجلد كما سيأتي. قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) أي: الأنفس المحصنات، ويدخل فيها النساء المحصنات.

معاني الإحصان

معاني الإحصان الإحصان يطلق على معان: فالمحصنة هي: العفيفة قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12] أي: عفت فرجها عن الحرام. والمحصنة هي: الحرة، فالإحصان يطلق على الحرية، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] ، والإحصان يطلق على الإسلام، والإحصان يطلق على التبيين، وأصل الإحصان: من المنع، وهو مأخوذ من الحصن، فالزواج فيحصن المرأة عن الزنا، أي: كأنها دخلت في حصن إذا تزوجت، وهذا الحصن يفترض أنه يمنعها من الزنا ويمنع الزاني من الوصول إليها كالتي تحصنت بحصن، والتي أسلمت تحصنت بحصن أيضاً فيفترض أن الإسلام يمنعها من الزنا وتتحصن به، فخوفها من الله ومن لقائه ومن البعث يمنعها من الزنا، وكذلك الحرية تمنع النساء من الزنا، وكذلك العفة: فالمرأة العفيفة عفافها كالحصن لها يمنعها من الزنا كذلك. قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المراد بهن هنا: المسلمات العفائف. (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي: يقذفون، (الْمُحْصَنَاتِ) أي: المسلمات العفائف الحرائر وإن كان في الحرائر بعض النزاع. ما حكم الذين يرمون المحصنات؟ وهل كل من رمى امرأة يقام عليه حد القذف؟ A ليس كل من رمى امرأة يقام عليه حد القذف، فهناك شروط في القاذف وشروط في المقذوف، وشروط في صيغة القذف.

شروط القاذف

شروط القاذف فمن شروط القاذف: أن يكون بالغاً، فإذا جاء طفل ورمى امرأة بالزنا فلا نقول: إن الطفل يجلد؛ لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم رفع عن ثلاث. -وذكر منهم- وعن الطفل حتى يحتلم) . الشرط الثاني: أن يكون الرامي عاقلاً، فلو أتى رجل مجنون ويقول لفلان: يا زاني، أو لفلانة: يا زانية، فلا يقام عليه حد القذف.

تفسير سورة النور [5-11]

تفسير سورة النور [5-11] إن رمي المحصنات جرم عظيم رتب الشرع عليه ثلاث عقوبات، وهي: الجلد، ورد الشهادة، والوصف بالفسق. وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتهمت عائشة رضي الله عنها، فأنزل الله آيات في براءتها تتلى إلى قيام الساعة.

تابع تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات.

تابع تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات.) بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] ، والذين قالوا هذا لا يستلزم أن يكونوا هم الذين قالوا على مريم بهتاناً عظيماً، فإن الذين قالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} هم قومها، لقول الله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا} [مريم:27] أي: قال قومها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] ، أي: يا من تتشبهين بهارون في العبادة! ويا أخت هارون الصالح! {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] ، فالقائلون قومها. أما الذين حكى الله مقالتهم بقوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156] فهم اليهود؛ لأن سياق الآيات فيه: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء:156-157] ، والقائلون أنهم قتلوه هم اليهود، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] . الآيات. فهذه أوجه الاعتراضات على من قال: إن التعريض بالقذف يعد قذفاً، فاستدل هؤلاء القائلون بأنه يعد قذفاً لقول قوم شعيب لشعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعنون: إنك لأنت السفيه الضال، ويقال لـ أبي جهل يوم القيامة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] ، وهو ليس بعزيز ولا كريم، إنما قيل له تبكيتاً له، أو الذي كان يدعي أنه العزيز الكريم. واستُدِلَ لذلك أيضاً: بأن عمر أقام الحد -وهذا ينظر في إسناده- على الحطيئة الذي قال: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فظاهره المدح لكنه ذم أي: اقعد فإنك أنت المطعم المكسو كالنساء. أي: فإنك امرأة تجلس في البيت تطعم وتكسى. فالتعريض بالقذف الظاهر أنه لا يعد قذفاً. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] . ورد في رمي المحصنات حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منهن: وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) . ورد في قذف المحصنات أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:23-25] . فهذه جملة من النصوص في التحذير من رمي المرأة بالزنا فهو كبيرة من الكبائر، وهذا من محاسن ديننا الذي يحفظ أعراض النساء، بخلاف ما يتهم به الإسلام من قبل أعداء الله من الكفار والمنافقين بأنه ضيّع حق المرأة. كلا. ما ضيع الإسلام حق المرأة أبداً، فهذه الآية من أكبر الردود عليهم، فقد حذر الله الذين يرمون المحصنات أشد التحذير. ويكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال مكرّماً المرأة حين قال له قائل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك) فعقب بالأب في الرابعة. ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) ، وفرق عليه الصلاة والسلام بين أصابعه، ويكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بامرأة أتت عائشة تسألها صدقة، فتصدقت عليها عائشة بتمرة فقسمتها بين ابنتيها، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة) . فديننا ليس فيه هضم للمرأة أبداً، بل نقم الله على الكفار الذين حكى الله مقالتهم بقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58-59] .

حكم من قذف المحصنات المؤمنات

حكم من قذف المحصنات المؤمنات قال رب العزة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] ، فما حكمهم؟ قال تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] أي رجل يتهم امرأة بالزنا اجلدوه ثمانين جلدة، {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ، ثلاث عقوبات خطيرة: أولها: أن يجلد ثمانين جلدة. الثاني: أن تسقط شهادته في الناس. الثالث: أنه فاسق: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) . فالذي يقول عن امرأة أنها زنت هذه عاقبته، فالكلمة التي يستسهلها الناس على ألسنتهم قد يجلد أحدهم بسببها ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً، ويوصف بأنه فاسق إلا إذا جاء بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوها تزني، ورأوا ذلك كالميل في المكحلة، فإذا شهدوا بذلك الأربعة رفع عنه الحد وأقيم عليها وعلى الزاني بها الحد. فإذا جاء رجل باثنين يشهدون معه أقيم على الثلاثة الحد، وإذا جاءنا شخص وقال: رأيت في الطريق فلاناً يزني بفلانة، فإنه يجلد ثمانين جلدة حتى وإن أقسم مليون يمين، وإضافة إلى ذلك تسقط شهادته في الناس، ويعد من الفاسقين. وهذه الحادثة قد حصلت لبعض الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم: أبو بكرة الصحابي المشهور شهد هو وثلاثة من الصحابة على المغيرة بن شعبة أنه زنا وأن ستراً كان يستره مع المرأة فجاءت رياح وأزالت الستر، فجاء الشهود الثلاثة وتلكأ واحدٌ منهم ولم يدلِ بالشهادة الصريحة، فجلدوا الأربعة أو الثلاثة. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] . تقدم الكلام على صدر هذه الآية الكريمة بما حاصله: أن الذي يرمي امرأة بجريمة الزنا يجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً، ويعد من الفاسقين، فهي ثلاث عقوبات متوالية، الواحدة منها تكفي للحكم بأن هذا الفعل كبيرة من الكبائر. فمثلاً: الجلد بمقدار ثمانين جلدة إذا أقيم على شخص فمعناه أنه ارتكب كبيرة، ورد شهادة الشخص في الناس تفيد أنه ارتكب كبيرة، وإطلاق الفسق عليه يفيد أنه مرتكبٌ لكبيرة، فاجتمعت ثلاث عقوبات، فدل ذلك على قبح هذا الذنب وكبر هذا الجرم. وقوله: (المحصنات) من أهل العلم من قال: إن المراد بها: الأنفس المحصنة، فيدخل في ذلك الرجال والنساء، فلو قال رجل عن رجل: إنه زنى، فإنه يجلد ثمانين جلدة، وترد شهادته في الناس، ويعد من الفاسقين. وختام الآية الكريمة فيه إشارة إلى أن هناك فسق دون فسق. فالآية وسبب نزولها -كما سيأتي إن شاء الله- في المؤمنين، فعلى ذلك: قد يكون هناك مسلم فاسق. فقوله تعالى: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) منصب على المسلمين أو على الكفار، ويفيد أن هناك فسقاً غير كفر، وكما تقدم فإن قاعدة أهل السنة والجماعة: أن الفسق فسقان: فسق بمعنى الكفر، وفسق دون ذلك، قال سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ، فالفسق هنا كفر، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ، فدل على أنه كفر؛ لأن الخلود في النار لا يكون إلا للكفار. أما الدليل على أن هناك فسقاً ليس بكفر فمنه: هذه الآية، ومنه: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] . ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق) ، فدل ذلك على أن هناك فسقاً دون فسق.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك.) قال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور:5] .

الإصلاح بعد التوبة

الإصلاح بعد التوبة قال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور:5] ، فضم إلى التوبة الإصلاح، وهذا إذا كان الذنب يتعلق بالعباد فينبغي أن ترد المظلمة إلى العباد، ولا يكفي فيه أن تقول: (أستغفر الله) ، في نفسك، فإذا قال شخص: إن فلانة من الناس قد زنت -عياذاً بالله من ذلك- وهو يكذب عليها بقولته هذه، فإنه لا يكفيه أن يقول: أستغفر الله، بل عليه أن يظهر براءتها من التهمة التي نسبت إليها. قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور:5] ، ونحو ذلك: قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة:39] ، أي: تاب من ظلمه للعباد وأصلح {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة:39] ، ونحوه: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159-160] . ما هي صورة الإصلاح في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} ؟ من العلماء من قال: إن الإصلاح يستلزم أن يكذب الرجل الرامي نفسه. ويقول: هي ما زنت، وأنا كذبت عليها، وقد اشترط ذلك بعض العلماء، وقال آخرون: يكفي أن يسير بسيرة حسنة في الناس. ولقد ورد في عدة تراجم لـ أبي بكرة رضي الله عنه أنه رمى مع ثلاثة من الشهود -كما أسلفنا- المغيرة بن شعبة بالزنا، فتعثرت إقامة الشهادة فجلدوا ثمانين جلدة وردت شهادتهم، أما ثلاثة منهم فكذبوا أنفسهم بعد ذلك، وأبى أبو بكرة رضي الله عنه إلا أن يصر على موقفه الذي رآه، وورد بأسانيد ينظر فيها أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يطلب منه أن يكذب نفسه حتى تقبل شهادته ولكنه كان يصر على ما رأى وقال والله تعالى أعلم.

باب التوبة مفتوح لكل أحد

باب التوبة مفتوح لكل أحد تقدم أن أكثر الكبائر إذا ذكرت في كتاب الله وذكرت العقوبات الخاصة بها فإنه بعد ذلك يفتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] فيفتح الباب لمن أراد أن يتوب حتى لا يقنط أحدٌ أبداً من رحمة الله. قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59-60] ، ففتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب. وقال الله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:33-34] ، ففتح لقطاع الطريق باب التوبة ولم يغلق عليهم. وقال الله سبحانه في أكبر قوم وأعظم قوم أجرموا: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] أحرقوهم بالنار، وخدوا لهم الأخاديد، وأشعلوا فيها النيران، وجلسوا ينظرون ويتفرجون عليهم وهم يعذبون في النار، كما قال تعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:5-7] ، ومع ذلك فتح لهم باب التوبة فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] . فكما قال العلماء: إنهم لو تابوا مع أنهم حرقوا عباد الله بدون ذنب لقبل الله سبحانه وتعالى توبتهم، وقال سبحانه أيضاً في هذا الباب: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:4-5] ، ثم فتح لهم باب التوبة بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ} [الحجرات:5] ، أي: غفور لمن استغفر، إذا تقرر هذا فلا ينبغي أن يقنِّط أحد أحداً من رحمة الله أبداً، ولا يغلق أحد باب التوبة في وجه أحد أبداً، فباب التوبة باب مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها. (وقال الشيطان: وعزتك يا رب! لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال سبحانه: وعزتي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني) ، فلينتبه لذلك.

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم.

تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم.) {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] هذه الآية أو ما بعدها من العلماء من اعتبرها من الآيات التي بها يرتفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ووجه ذلك: أن الرجل يرى من امرأته ما لا يرى منها غيره، ويدخل عليها بدون إذن لا كغيره الذي يحتاج إلى إذن، فقد يدخل فيرى امرأته على حال تكره -أي: يرى معها رجلاً- فإذا ذهب يأتي بالشهود قضى الرجل حاجته وانصرف، وإن سكت سكت على غيظه، وإن قتله قتل به، فجاءت آيات ترفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام في شأن الزوج مع زوجته، وهذه أيضاً إحدى الاستثناءات من الآية العامة التي تقدمت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] ، فقد استثني منها: الزوج مع زوجته. ولكن إذا رمت المرأة زوجها بالزنا، فالراجح أنها لا تلاعنه، إذ من أسباب الملاعنة: نفي الولد، وهذا شيء لا يتعلق بالمرأة بل تأتي بالشهود أو يقام عليها الحد. قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] أي: يقذفون نساءهم بالزنا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6] .

حكم شهادة النساء في الحدود

حكم شهادة النساء في الحدود قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] . هل يجزئ في شهادات الحدود ثمانية نساء مكان الأربعة رجال؟ الجمهور من العلماء قالوا: إن ثمانية نساء لا يقمن مقام أربعة رجال في الحدود، وإن قامت المرأتان مقام الرجل في شهادات الأموال، فقيل لهم: لماذا هذا التقرير والتقعيد؟ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تدرأ الحدود بالشبهات، وقد قال سبحانه في شأن النساء: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] ، فلما كان هناك وجه ضلال من المرأة -أي: ذهاب عن الصواب- كان هذا شبهة لدفع الحد، فمن ثمّ قرر الجمهور من العلماء أن شهادات النساء في الحدود غير مقبولة على الإطلاق، ومن أهل العلم -كـ عطاء بن أبي رباح تلميذ عبد الله بن عباس - يرى إمضاء شهادات النساء في كل شيء: في الأنكحة، والطلاق، والحدود، والأموال. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] تقدم أن الرمي بأحد شيئين: إما أن يرميها بالزنا، أو يرميها باللواط، أو يصرح صراحة بنفي الولد، فهذا يقوم مقام الرمي، أما إذا عرض بنفي الولد فالتعريض على ما تقدم لا يقوم به حد القذف؛ لحديث الأعرابي الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (إن امرأتي وضعت غلاماً أسوداً يا رسول الله) الحديث. قال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] ، وقد تقدم التفصيل في تفسير اللعن بما حاصله: أن اللعن هو: الطرد من رحمة الله، وليس معنى ذلك أن المقسم كذباً والملاعن كاذباً يخلد في النار، فمن أصول أهل السنة والجماعة أنه مرتكب لكبيرة، والكبيرة قد يغفرها الله له، فقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين بعد أن ذكر البيعة على عدم الشرك والزنا. إلى آخر الأمور التي ذكرها: (فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله؛ إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وقال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت:21] ، فكل هذه الأصول تفيد أنه قد يغفر الله سبحانه وتعالى لهذا الشخص، وإن لم يغفر له فيجري عليه ما يجري على أهل التوحيد، من أنه يعذب إذا لم يغفر له لذنبه الذي ارتكب وبعد ذلك يكون مآله إلى الجنة لحديث: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله. الحديث) .

الفرق بين الشهادة واليمين

الفرق بين الشهادة واليمين من العلماء من قال: الملاعنة شهادة؛ لأن الله سماها شهادة، فقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:6] ، ومن العلماء من قال: إنها يمين وهم الأكثر. وهناك فرق بين الشهادة واليمين، فالشهادة تتطلب العدالة، أما اليمين فلا تتطلب العدالة، فإن اليمين قد تطلب من يهودي كافر. قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري في حديث القسامة المشهور: (أترضون بأيمان خمسين من يهود؟ قالوا: إنهم يهود يا رسول الله. فقال: مالكم إلا ذلك) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام، أما الشهادة فتستلزم العدالة؛ لأن الله يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] فإن قال قائل: قد سماها الله شهادة لقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:6] ، فالإجابة: أن الشهادة تطلق على اليمين في بعض الأحيان. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة:106] والآية مصدرة (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:106-108] . فأطلق على الشهادة يميناً، ثم إن قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6] ، يفيد أن اليمين يكون بالله. أما أقوى وجه لترجيح أن المراد بالشهادة اليمين فهو سبب النزول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تقسم أربعة أيمان بالله، فدل ذلك على أن المراد بالشهادة اليمين وليس المراد بها الشهادة التي هي كالشهادات على الطلاق ونحو ذلك، والله تعالى أعلم. وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6] ، الآية استلزمت خمسة شهود هنا، فالشهادات تختلف من شيء إلى شيء آخر والشهود كذلك، فمثلاً: الشهود على الأموال يتطلب شاهدين أو شاهداً ويمينه، أو رجلاً وامرأتين. قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] ، إلى أن قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ، في شهادات الأموال إما رجلان أو رجل وامرأتان، والجمهور إذا لم يكن هناك إلا رجلاً واحد فتكفي معه يمينه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد مع اليمين. شهادات الإرضاع: من العلماء من قال: يكفي فيها واحد لما أخرجه البخاري وفيه: (أن امرأة سوداء جاءت إلى رجل وقالت: إني أرضعتكما -أي: هو وزوجته- فقال النبي: كيف وقد قيل!) وفي الحدود لا بد أن يكون فيها أربعة شهود.

سبب نزول قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم.

سبب نزول قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم.) للآية سببان للنزول والمعنى المستخلص منهما واحد. السبب الأول: ما ورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! -وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد تلا هذه الآية في مجلس فيه مهاجرون وأنصار- لو وجدت رجلاً مع امرأتي أأتركه ولا أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله -يا رسول الله- لا آتي بأربعة شهداء إلا ويكون قد قضى حاجته منها ثم انصرف) . وفي الرواية الأخرى: (قال سعد: يا رسول الله! لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح -يعني: ليس بعرض السيف إنما بحد السيف- فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: انظروا ماذا يقول سيدكم! -أي: سعد بن عبادة فهو سيد الخزرج- فقالوا: لا تؤاخذه يا رسول الله، إنه رجل شديد الغيرة على النساء، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً -أي: لا يرضى أن يتزوج امرأة قد تزوجها رجل قبله- وما طلق امرأة قط وتزوجها أحد منا من شدة غيرته) ، فحاصل كلام سعد رضي الله عنه: والله -يا رسول الله- ما رددت أمر الله قط، ولكني نظرت إذا رجعت إلى بيتي فوجدت رجلاً مع امرأتي أأتركه وأذهب ألتمس الشهود؟ فسكت الرسول عليه الصلاة والسلام، فبينما هم على هذه الحال إذ جاء رجل من الأنصار مشهود له بالصدق والخير، شهد بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وتخلف عن غزوة تبوك بلا عذر، فلما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم ودخل الناس عليه يلتمسون المعاذير لتخلفهم دخل هو وقال: (تخلفت بلا عذر يا رسول الله) فمنع الناس من الكلام معه ومع صاحبيه مرارة بن الربيع وكعب بن مالك إلى أن نزل فيهم قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118] . الشاهد: أن هذا الرجل كان من المشهود لهم بالصدق والخير، وهو هلال بن أمية حيث دخل المجلس، فقال: (يا رسول الله! إني كنت في عملي فرجعت من عملي فرأيت رجلاً مع امرأتي، فرأيت بعيني -يا رسول الله- وسمعت بأذني -أي: رأى الفاحشة الكبرى- فلم أهيجه ولم أحركه فجئت إليك تقضي بما أراك الله. فقال الأنصار: ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، ابتلينا بما قال سعد بن عبادة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هات البينة -أي: الشهود-، قال: ليس عندي بينة يا رسول الله. قال: البينة أو حد في ظهرك) . فحاصل كلامه: أنني لو كنت في الجاهلية ورأيت هذا المنظر لقتلتهما معاً ولكني صبرت ونقلت إليك الخبر، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيب إذ هو مطبق لأمر الله لا يزيد على قول: البينة أو حد في ظهرك. هلال من ثقته بالله ومعرفته بالله يقسم بالله أن الله سيبرئ ظهره، والأنصار رأوا هلال بن أمية وقد أخذ كي يجلد، فبكوا من أجله، فقالوا: الآن يجلد هلال بن أمية ثمانين جلدة وتسقط شهادته في الناس ويعد من الفاسقين. وهلال ثابت واثق بربه يقسم أن الله سيبرئه، فأخذ هلال كي يجلد فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] وهذه القصة وقعت لـ عويمر العجلاني، فقد جاء وقال: (يا عاصم! سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً، إن سكت سكت على غيظ! وإن تكلم حددتموه -أي: أقمتم عليه الحد- وإن قتله قتلتموه! سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك، فذهب عاصم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهَ النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، فذهب عويمر إلى عاصم: فقال ماذا صنعت يا عاصم؟ قال: ما جئتني بخير، لقد كره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، فقال: والله يا عاصم لا أبرح حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب وسأله فنزلت الآيات) . ونرجع إلى قصة هلال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآيات قال: (أبشر يا هلال! فقد أنزل الله ما يبرئ به ظهرك، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ائتوني بالمرأة. فجيء بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب؟ فكلاهما أنكر، فبدأ بالرجل فقال له: أقسم أربعة أيمان بالله إنك من الصادقين، فأقسم أربعة أيمان بالله أنه من الصادقين، واستوقفوه عند الخامسة وقالوا له: يا هلال! ويحك عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، فأقسم هلال أربعة أيمان بالله أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فاتجهوا إلى المرأة بعد ذلك وقالوا: أقسمي أربعة أيمان أنه لمن الكاذبين، فأقسمت أربعة أيمان بالله إنه من الكاذبين، فقبل الخامسة استوقفوها وقالوا لها: اتقي الله، هذه هي الموجبة التي توجب عليك غضب الله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فوضع يده على فيها حتى لا تسرع باليمين، فتلكأت ساعة وترددت هل تفضح قومها أم أن تقبل العذاب؟ ثم أقسمت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) فيعلم من القرائن أنها فعلت لكن ليس لرسول الله عليه الصلاة والسلام -مع أنه يعلم صدق صاحبه هلال، ومع أن قرينة الحال يدل على أنها زنت- أن يتقدم بين يدي ربه، بل يمضي أحكام الله كما أمره، فبعد الخامسة فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وهذا التفريق -تفريق الملاعنة- تفريق أبدي لا رجعة بعده أبداً عند جماهير المسلمين؛ لأنه لا يجتمع ملعون مع بريئة، ولا تجتمع مغضوب عليها مع بريء، فالتفريق بينهما أبدي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فرقوا بينهما، وإن جاءت به خدلج الساقين نحيفاً سميناً -وكان هلال قد رماها برجل يقال له: شريك بن سحماء - فلا أراه إلا قد صدق عليها وقد كذبت، وإن جاءت به نحيفاً أو رفيع الساقين فلا أرى إلا أن هلالاً قد كذب وقد صدقت) وهذا مجرد رؤيا فقط، فجاءت به على نعت شريك بن سحماء، كما أن الغراب يشبه الغراب بالضبط، فقال عليه الصلاة والسلام -في بعض الروايات: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) فألحق الولد بالمرأة. وآيات الملاعنة لم ترد إلا في هذه السورة الكريمة، وفي هذا الموطن الكريم، إلا أن هناك آية المباهلة ولكنها ليست بين الزوجين فقط، بل على العموم، وهي في سورة آل عمران.

تفسير قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب.

تفسير قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب.) {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:8] أي: يدفع عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات {إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:8-9] . فإن قال قائل: لماذا خص الرجل باللعنة في قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] ؟ وخصت المرأة بالغضب في قوله تعالى: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ؟ من العلماء من قال: لأن المرأة متأكدة من نفسها أكثر من تأكد الرجل منها، فإنها إن أقسمت ستقسم على علم أدق، فإذا أقسمت على يمين كاذبة تكون قد حادت عن الحق على علم، كاليهود الذين حادوا عن الحق على علم. فغضب الله عليهم، وهي كذلك تكون قد حادت عن الحق على علم فيغضب الله عليها كما غضب على اليهود، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته.

تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته.) يقول الله سبحانه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10] . هنا مقدر محذوف، فالمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهلكتم ولحل بكم العنت، ولكن من فضل الله عليكم ومن رحمته عليكم ومن رحمته بكم أن أنزل آيات الملاعنة التي ذكرت حتى ترفع هذه الآيات الحرج عن الأزواج الذين يجدون رجالاً مع نسائهم ولا يمكنهم الإتيان بالشهود، فيقع في صدورهم الضيق، فلرفع الضيق والحرج نزلت آيات الملاعنة، قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} [النور:10] على من تاب، فالله حكيم في تشريعه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك.) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] . آيات الملاعنة كانت توطئة لحادث اشتهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهز المسلمين كافة، وهز بيت النبوة الطاهرة، بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع الوحي في أثناء الخوض فيه شهراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينزل عليه هذه الآيات أو هذا الحادث هو حادث الإفك.

حادثة الإفك

حادثة الإفك نسوق حديث الإفك بنوع تصرف واختصار. فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن، والمسانيد ما حاصله: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه -أي: أسهم بين نسائه- فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فأسهم بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوته وقفل راجعاً فقدت عقداً لي من جزع ظفار قد انقطع. قالت: فحبسني ابتغاؤه) . الحديث باختصار: أن أم المؤمنين عائشة رجعت مع النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، فنزلوا مكاناً ونزلت معهم أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحملوا الهودج الذي كانت فيه أم المؤمنين عائشة وظنوا أن عائشة فيه؛ لأن النساء كن خفافاً لم يثقلهن اللحم، فظن الصحابة أن عائشة رضي الله تعالى عنها في الهودج، فحملوا الهودج على الجمال وانطلقوا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل رجلاً من أصحابه يقال له: صفوان بن المعطل السلمي خلف الجيش لالتقاط الساقطة ولرد الضالة والشاردة، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يظنون أن عائشة معهم، فجاءت عائشة رضي الله تعالى عنها إذ كانت تلتمس العقد الذي ضاع منها فلم تجد بالأرض داع ولا مجيب، فجلست في مكانها، فغلبتها عيناها فنامت وليس بالمكان أحد لعلهم يفتقدونها فيرجعون إلى هذا المكان فيأخذونها منه. فجاء صفوان بن المعطل السلمي رضي الله تعالى عنه، فوجد إنساناً نائماً فرأى عائشة فعرفها، وكان يعرفها قبل نزول الحجاب، قالت: (فلما رآني صفوان خمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني صفوان بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه) ، أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فوطأ لها الراحلة -أي: برك لها الناقة- فركبت رضي الله عنها، وطفق صفوان يسحب الناقة إلى المدينة، فلما رآها بعض أهل السوء طعنوا فيها هذا الطعن، حيث بلغوا عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في المدينة بذلك فقال مقالته الخبيثة التي لا تصدر إلا من خبيث: والله ما نجت منه ولا نجا منها. وطفق أهل النفاق يتحدثون في هذا الحدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وشاء الله سبحانه وتعالى أن تأتي عائشة إلى المدينة فتمرض، فمكثت في بيتها مريضة لا تعلم شيئاً عن الحادث وعن الكلام الذي يتحدث به، فنامت مريضة والنبي صلى الله عليه وسلم تأتيه الأخبار أن عائشة فعلت كذا وكذا مع صفوان بن المعطل السلمي، واستمرت الوشايات شهراً كاملاً، ومما زاد الموقف تأزماً أن الوحي انقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشهر، فاتخذ أهل النفاق من ذلك ذريعة لتعزيز مقالتهم، فقالوا: ولأن البيت شابته الشوائب فقد امتنع الوحي عنه، ولما كثر كلام أهل النفاق انضم إليهم أيضاً بعض المسلمين وطفقوا يطعنون في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فانضم إليهم حسان بن ثابت رضي الله عنه، وطفق يطعن في أم المؤمنين عائشة ويتهمها هذا الاتهام، ودخلت في باب الطعن في أم المؤمنين حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين، وطفق بعض الذين شهدوا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعنون في عائشة، فقام منهم مسطح بن أثاثة وكان رجلاً شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفق يطعن في أم المؤمنين عائشة، فآذى هذا الوضع النبي صلى الله عليه وسلم غاية الأذى وآلمه غاية الألم، حتى استشار أقاربه ومن يحبهم في شأن عائشة، فاستشار علياً رضي الله عنه، فقال علي: (يا رسول الله! إن الله عز وجل لم يضيق عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية التي تلازمها في البيت -وهي بريرة - تصدقك) . ثم استشار النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد حب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أسامة: (أهلك -يا رسول الله- وما علمت عليهم إلا خيراً) فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم: بريرة، فقال: (يا بريرة! هل رأيت من عائشة شيئاً يريبك؟ قالت: ما رأيت منها إلا خيراً يا رسول الله، إلا أنها جارية حديثة تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله) أي: أن عائشة تغفل عن العجين فتأتي الشاة فتأكل هذا العجين. فاشتد الوضع على النبي صلى الله عليه وسلم فقام يخطب على المنبر ويقول: (من يعذرني من رجل بلغني آذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه-سيد الأوس-: أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان منا قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة -وكان رجلاً صالحاً كما وصفته أم المؤمنين عائشة، ولكن احتملته حمية الجاهلية- وقال: والله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير وقال لـ سعد بن عبادة: والله لنقتلنه، إنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان واشتدت الأزمة حتى كادوا أن يقتتلوا فيما بينهم، فاشتد حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وبدأ يخفضهم ويسكنهم، ثم رجع إلى أم المؤمنين عائشة، وعائشة تقول: ولا أشعر بالشر ولا أدري ماذا يحدث في الناس إلا أنه يريبني من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لا أجد منه اللطف الذي كنت أجده حين أمرض، إنما يدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ فيسلم ويقول: كيف تيكم؟ فذاك الذي يريبني، وتقول: مر عليّ شهر كامل وأنا مريضة، ثم خرجت يوماً مع أم مسطح قبل المناصع نتبرز فعثرت أم مسطح في مرطها، فلما كان ذلك قالت أم مسطح: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه! أولم تسمعي ما قال؟ قالت عائشة: فقلت لها: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فقلت لها: والنبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك القول؟ قالت: نعم، قلت لها: وأبو بكر علم هذا القول؟ قالت: نعم. قلت: وأمي علمت هذا القول؟ قالت: نعم. قالت: فازددت مرضاً على مرضي، وبقيت ثلاثة أيام لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، ثم استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! ائذن لي أن آتي أبواي. فأذن لي، فذهبت إليهما، فأخبراني بالذي قال أهل الإفك، أما أمي فقالت: يا بنيه! هوني عليك إنه لم تكن امرأة قط وضيئة عند زوج يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها -أمها تعزيها بهذا العزاء- فبينما هم على ذلك وهي مع أبيها وأمها ومع امرأة من الأنصار تزورهم، إذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس وتشهد ثم قال: يا عائشة! إني مخبرك بأمر إن كنت منه بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إن تاب تاب الله عليه، ثم أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، قالت: فانقطع دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، فقلت: يا أبي! أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أمي: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت: والله لقد رميتموني بأمر والله يعلم أني منه بريئة، وإن قلت لكم: إني بريئة لم تصدقوني، وإن قلت لكم: إني فعلت هذا الأمر صدقتموني، والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ، ثم انخرطت في البكاء وأبوها يبكي معها وأمها تبكي معها والأنصارية تبكي معهم، فكما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6] . فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ثم سري عنه فقال: أبشري -يا عائشة - فقد أنزل الله براءتك! ثم تلا هذه الآيات: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُم ... ) . الآيات. فقالت أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه، فقلت لها: والله لا أقوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحمده، إنما أحمد الله الذي أنزل براءتي، ونزلت آيات الإفك عشر آيات) والغرض منها ليس فقط إظهار براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإن كان هذا وارد فالله يدافع عن الذين آمنوا، فكما قالت أم المؤمنين عائشة: (والله ما كنت أظن يوماً أن الله سينزل في شأني وحياً يتلى، وغاية ما كنت أريد أن يري الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام رؤيا في نومه يبرئ الله بها ساحتي) ، ولكن الله كريم يبرئ المظلومين في الدنيا والآخرة. فقد برأ الله سبحانه وتعالى مريم مما وصفت به بأن أنطق عيسى عليه الصلاة والسلام في المهد، وبرأ الله عز وجل موسى مما وصف به فطار الحجر بثوبه، وبرأ يوسف صلى الله عليه وسلم مما رمي به، فشهد الشاهد من أهلها ليوسف صلى الله عليه وسلم، وبرأ الله تلك الجارية التي كانت تخدم عند قوم، وكانت قد انتقلت إلى الإسلام وجالست عائشة فكانت تكثر من قولها: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني قالت عائشة: (ما هذا البيت الذي

ما يستفاد من حادثة الإفك

ما يستفاد من حادثة الإفك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور:11] (والإفك) : معناه: الكذب، ويطلق الإفك على الصرف، قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] ، أي: يصرف عنه من صرف، وقال تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس:34] أي: تصرفون وتبعدون. و (الإفك) يطلق على الكذب، والأفّاك: الكذاب. {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور:11] أي: بهذا الكذب والافتراء على أم المؤمنين عائشة وعلى الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] (عصبة) : أي: مجموعة. {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] في قوله تعالى: (منكم) دليل على أن الافتراء قد يصدر من شخص يقول: "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فها هي أم المؤمنين عائشة قد افتري عليها من قوم يشهدون "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" من قوم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، بل من قوم منهم من شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعلى ذلك: لا ينبغي أن نزكي أنفسنا هذه التزكية، فإذا حصل خلاف بين أحد الإخوة وأحد العامة فإننا نخطئ العامي مباشرة، وهذا لا يصح بل يجب أن تقف مع الحق وتتحراه. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] ممن يشهدون "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" بألسنتهم. {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} فإن تكلم ثلاثة أو مجموعة بكلام يطعنون بهذا الكلام في عرض شخص، وإن كانوا جماعة فلا يقبل قولهم إلا بالقرائن والبينات الواضحات. {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11] لا تظنون أن هذا الذي حدث من التهم الباطلة والافتراءات الكاذبة، {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] ووجه الخيرية في هذه الحادثة: تعليم أمة محمد صلى الله عليه وسلم كيف تعمل إذا اتهم شخص منها ويكمن في تأدب أمة محمد بهذه الآداب عند اتهام شخص منها، ويكمن في الدفاع عن أعراض المؤمنين، فأعراض المؤمنين لها حرمة لا تنتهك، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فللمسلم حرمة، واللسان يجب أن يضبط، وليس كل ما يقال ينقل. قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] فكم من أمر ظاهره الشر وهو يحمل لك -يا عبد الله- كل الخير، والله يعلم وأنت لا تعلم. قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] ، وقال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19] ، فلقصر نظرك تقيس الأمور بمقياسك الخاطئ أو القاصر، أما رب العزة سبحانه وتعالى فيعلم وأنت لا تعلم، ألم تعلم أن موسى استنكر على الخضر قتل الغلام وكان في ذلك الخير؟!! واستنكر عليه خرق السفينة وكان في خرقها خير؟! واستنكر عليه بناء الجدار وكان في بنائه خير؟ وقد قال الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما أنقص هذا العصفور الذي نقر بمنقاره من البحر، فالله يعلم وأنت لا تعلم. وقوله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] أي: جزاء ما اكتسب من الإثم وعقوبة ما اكتسب من الإثم، فقد أقيم على البعض حد في الدنيا، فذكر عدد من العلماء أن حسان رضي الله عنه وحمنة ومسطح أقيم عليهم الحد، وبرأ حسان ساحة عائشة رضي الله عنها بقوله: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل تصبح غرثى. أي: جائعة؛ لأنها لم تغتب الناس ولم تأكل لحوم الناس الميتة. ومن العلماء من قال -وقد وردت بذلك رواية وينظر فيها- أن صفوان بن المعطل لما بلغه ذلك وأنه اتهم هذه التهمة قال: (والله ما كشفت كنف أنثى قط) ، وذهب إلى حسان فعلاه بالسيف على رأسه فشجه وقال: تلقَّ ذباب السيف عني فإنني غلام إذا ما هجيت لست بشاعر وكبر حسان وعمي فكانت عائشة رضي الله عنها تثني عليه، فقال لها عروة: يا أم المؤمنين! أليس قد قال ما قال وخاض مع من خاض في حديث الإفك؟ قالت: (يا ابن أختي! إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فلم يمنعها قول حسان من أن تثني على حسان بالذي تعلم فيه من الخير. وهكذا ينبغي أن يكون المسلم والمسلمة أهل إنصاف، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] وقال لها عروة: أليس قد قال الله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] ، وقال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] . قالت: يا ابن أختي! أليس قد عمي، تعني: أن من العذاب العمى الذي أصيب به رضي الله عنها، قال تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] أي: جزاء وعقوبة ما اكتسب من الإثم {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور:11] ، أي: الزعيم الأكبر الذي تولى نشر هذا الإفك والكذب واستوشاه وكان يجمعه ويبثه في الناس يسمع من هذا ويسمع من هذا، ويلفق الأكاذيب وينشرها، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور:11] وهو عبد الله بن أبي بن سلول له عذاب عظيم فكل بحسبه. ثم قال تعالى معلماً إيانا ماذا نصنع إذا اتهم أحد إخواننا في عرضه، فكلنا عرضة لمثل هذا من السفهاء، فقد لا يتورع سفيه أن يأتي ويقذفك بامرأة من النساء، وقد لا يتورع سفيه أن يأتي إلى امرأة من النساء ويقذفها برجل، فماذا يجب علينا في مثل هذه الأحوال؟ هل تكون أعراضنا ملعوبة في أيدي الفسقة؟ لا. فلنا دين ولنا آداب نتأدب بها في مثل هذه الأحوال: أولها: قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور:12] أي: هلا إذ سمعتموه {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] ، ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم، أي: بإخوانهم. كقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: ولا تلمزوا إخوانكم. {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] ، أي: ليقتل بعضهم بعضاً. {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: فليسلم بعضكم على بعض. إذاً: أول أمر يطلب إذا اتهم مسلم بشيء {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ} [النور:12] أي: بإخوانهم {خَيْرًا} [النور:12] فالمؤمنون كالجسد الواحد {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] يعني: إذا خبر في أخيك الذي يصلي بجوارك في المسجد بأنه قد زنى أو فلانة من اللواتي يحضرن الدروس معكم قد فعلت الفاحشة، فلأول وهلة عليك أن تظن بأخيك الخير، وتقول: هذا كذب عليه وافتراء، فهو رجل مصلٍّ، وتلك أخت تخاف الله فلا يصدر منها ذلك، هذا الظن الحسن لا بد أن يتوفر. ولذلك فإن عمر رضي الله عنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إن فلانة العابدة بالمدينة قد زنت. فقال عمر: (أظنها قامت تصلي من الليل فسجدت فتجشمها رجل، أو فنامت في صلاتها في الليل من طول القيام فوسد عليها فاسق من الفساق فزنى بها) . فدافع عنها في أول وهلة، فأرسل عمر إليها فجاءت فسألها عن الذي حدث فحكت نفس مقالة عمر بالضبط، فلأول وهلة ينبغي أن تظن بإخوانك الخير، وورد في إسناد ينظر فيه أن أبا أيوب الأنصاري كان يقول لزوجته: (أنتِ خير أم عائشة؟ فتقول له: عائشة خير مني، وتسأله هي: أنت خير أم صفوان؟ فيقول: صفوان خير مني، فتقول لزوجها ويقول لزوجته، إذا كان صفوان خير مني وعائشة خير منك وأنا وأنتي لا نقبل أن نزني، فمن باب أولى: أن الأفضل منا لا يقبلان على أنفسهما الزنا) . وفقنا الله لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة النور [12-30]

تفسير سورة النور [12-30] انتهاك عرض المسلم حرام، والواجب حسن الظن بالمسلم، وإن وقع مسلم في زلة فيجب ستره، ولا يجوز إشاعة زلته، وهذا من اتباع خطوات الشيطان، ومن تُكلِّم في عرضه بغير حق فصبر فله العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة. والقرآن يهدي للتي هي أقوم، ولم يفرط الله فيه من شيء، حتى إنه بين لنا فيه أحكام الاستئذان وآداب الدخول إلى البيوت.

حسن الظن بالمسلمين

حسن الظن بالمسلمين باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فقد ورد بإسناد ينظر فيه: أن أبا أيوب الأنصاري كان يقول لزوجته: أنت خير أم عائشة؟ فتقول له: عائشة خيرٌ مني، وتسأله هي: أنت خير أم صفوان؟ فيقول: صفوان خير مني. فتقول لزوجها ويقول لزوجته: إذا كان صفوان خيراً مني، وعائشة خيراً منك، وأنا وأنتِ لا نقبل أن نزني، فمن باب أولى أنهما لا يقبلان الزنا، لأنهما أفضل منا. فالواجب عليك أن تظن بإخوانك الخير، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ، أي: الظن السيئ، أما الظن الخيري فمطلوب في أول وهلة إذا اتُهم أخوك بالزنا. قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ} [النور:12] أي: كذب واضح ظاهر. قد تتشابك الأمور لكثرة الناقلين، فلان يأتي وينقل لي، وفلان يأتي وينقل لي، وفلان يأتي وينقل لي، فتكثر المقالات حتى أكاد أُغلب وأصدق بالطعن الذي طعن به أخي، فماذا عليّ إذا غلبت في هذه الحالة؟ قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13] ، فيا أيها المدعي لهذه التهمة! ائت بأربعة شهود يشهدون لك بأنك صادق وقد تقدم حكم القذف فيما سبق من الآيات التي هي كالتوطئة لحديث الإفك، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] . قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] ، وهذه الخطوة الثانية مع الظن الحسن، فإذا جاء من يتهم إخواني في أعراضهم فإني أوقفه، وأقول له: ائت على ما تقول بأربعة شهود، وإذا لم تأت بهم فأنت فاسق، وشهادتك ساقطة، وحكمك أن تجلد ثمانين جلدة. {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] أي: فيما تقولتم به بألسنتكم (عذاب عظيم) ، ولكن رحمة الله سبحانه بكم رفعت عنكم هذا العذاب وإلا فأنتم تستحقونه بخوضكم بألسنتكم في أعراض إخوانكم، أنتم تستحقون العذاب العظيم لما تخوضون في أعراض المؤمنين وأعراض المؤمنات، {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] فليس كل كلام يتكلم به. {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15] كل يأخذ المقالة بلسانه وينقلها ولا يتثبت {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] وليس الأمر كما زعمتم، أخرج البخاري حديثاً -وإن انتقده البعض- وهو: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً) ، فليس كل حديث يتحدث به. {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور:15] أي: تحسبون الخوض في أعراض المسلمين والمسلمات أمراً هيناً سهلاً، وهو عند الله عظيم! {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16] أي: ليس لنا وما ينبغي لنا ولا يليق بنا أن نتحدث بهذا الحديث في عرض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعرض الصديقة بنت الصديق. {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16] أي: ما ينبغي لنا هذا الحديث، كيف تسوّل لنا أنفسنا أن نخوض في أهل رسول الله؟ كيف تسول لنا أنفسنا أن نخوض في عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها؟ {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} أي: تنزهت -يا ربنا- عن أن يدنس بيت نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونزهت زوجة نبينا محمد عن الزنا، يا ربنا! سبحانك، وهذه اللفظة محمولة على التعجب. {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي: افتراء، فالبهتان: أن تذكر أخاك بما يكره وليس فيه. {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} [النور:17] ، يحذركم الله ويذكركم الله، {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] لا مع عائشة ولا مع غير عائشة، {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18] .

عقوبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين

عقوبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور:19] ، أي: يحبون أن تنتشر الفاحشة في الذين آمنوا. فبمجرد حبك الفضيحة لإخوانك ينالك العذاب، ولذلك قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] ، فلا تفرح إذا زلت قدم أخيك المسلم، ولا تنشر الفضيحة لقريبك ولا لزوجك، لا تتشف بسقطة سقطها أخوك المسلم، وتمزق عرضه بهذه السقطة، وتتشفى فيه من طرفٍ خفي أو جلي. فالذي يحب لإخوانه الفضيحة له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وانظر في نفسك -يا عبد الله- فأنت تعلم حال نفسك التي بين جنبيك، هل إذا حدثت زلة لمسلم من المسلمين تفرح بها وتذهب تنشرها، أم أنك تستغفر الله لصاحبها وتستر عليه؟ إذا كنت تستغفر الله له وتستر عليه؛ فاعلم أنك على خير، وإذا كنت تنشر الرذيلة وتفرح بها؛ فاعلم أن إيمانك ضعيف، وأن في قلبك مرضاً، وأنك تجلب لنفسك النكد والعذاب من الله سبحانه وتعالى. فانظر إلى قلبك وعالجه، فأنت طبيب قلبك بعد الله سبحانه وتعالى، فاستغفر الله إذا وجدت هذا الخلق الدنيء السخيف في قلبك، إذا وجدت أن الفرح بمصائب المسلمين وفضائح المسلمين والمسلمات يتسرب إلى قلبك، فاستغفر الله، فإن في قلبك مرضاً، وفي قلبك غِلاً، فاستغفر الله منه. أما إذا وجدت في قلبك شفقة على المسلم الذي سقط، أو على المسلمة التي فعلت شيئاً محرماً، وسترت السقطة، ولم تتحدث بها، فاعلم أن مآلك إلى خير، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور:19] أي: أن تنتشر الفاحشة {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] أي: عذاب قبل الآخرة عذاب يطاردهم في الدنيا، ثم في الآخرة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] . فهذه الآية تحذّر أشد التحذير من إشاعة الفاحشة في المؤمنين أي: من نشر الفاحشة في المؤمنين، وفي معناها قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] ، فالكلام السيئ والأفعال السيئة ينبغي أن تكتم، ولا تنشر في الناس، ومن ثم فصفحة الحوادث التي في الجرائد، ليس لها مستند شرعي، إذ هي تنشر الفاحشة في الذين آمنوا، وتنشر جرائم شخصٍ وتسميه، وقد يتوب هذا الشخص من هذا الذنب، وتبقى وصمة عارٍ في جبهته طيلة حياته، وقد تكون سبباً في الحيلولة بينه وبين التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى. فأفادت الآية الكريمة: أن الذي يحب للمؤمنين أن يفتضحوا {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] . {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20] ، هذه الآية خاتمة عشر آيات نزلت في حديث الإفك، وقد تقدم ذكره على مسامعكم باختصار.

من فوائد حديث الإفك

من فوائد حديث الإفك ومن الفوائد التي تؤخذ من هذا الحديث: أنه يجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المؤمنين، لقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] . ويؤخذ من الحادثة: الإنصاف، إنصاف عائشة رضي الله عنه مع من هجاها ورماها، فمع أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد رماها بالفاحشة، لكن لم يمنعها هذا من أن تُقر له بالفضل الذي له، إذ قد نافح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول لمن هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتهجوه ولست له بكفءٍ فشركما لخيركما الفداء فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء فـ عائشة رضي الله عنه لم تنس له هذه المنقبة، وهذا من شدة إنصافها رضي الله عنها. كذلك أم المؤمنين زينب بنت جحش لم تحملها الغيرة -وهي ضرّة لـ عائشة - على أن تتكلم في عائشة بغير الحق الذي تعلمه، فقالت: أحمي سمعي وبصري يا رسول الله! أهلك وما علمت فيها إلا خيراً! ويؤخذ من الحادثة أيضاً بعض الأحكام الفقهية التي سيقت في حديث الإفك، كالتأدب مع النساء، والسير أمام النساء، وترك السير خلفهن، فإن صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه لما وجد عائشة استرجع وأناخ الناقة ثم ركبت عائشة، وسحب الناقة ومشى أمامها، ولم يمش خلفها رضي الله تعالى عنه. فيؤخذ من هذا التأدب في المسير مع النساء، وفي الحديث مع النساء، ونحو ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في حديث الفتون الطويل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع ابنة الشيخ الصالح التي جاءت تدعوه قائلةً: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] ، ففي الأثر أن موسى عليه الصلاة والسلام مشى أمامها، ومشت خلفه رضي الله تعالى عنها، فيؤخذ من هذا التأدب في الحديث وفي المسير مع النساء، ولا يكثر الشخص من الكلام معهن إلا عند الحاجة إلى الكلام، فإن عائشة قالت: والله! ما سمعت من صفوان كلمةً غير استرجاعه، أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهي الكلمة الوحيدة التي سمعتها أم المؤمنين عائشة من صفوان بن المعطل السلمي. فيؤخذ منه التأدب في الحديث مع النساء وعدم الإكثار من الكلام معهن، إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك؛ وذلك لأنه قد يصدر من المرأة كلمة يفتن بها الرجل، أو يسوّل لها الشيطان فتخضع بالقول فيطمع فيها الذي في قلبه مرض، كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] ، وهذا من باب سد الذرائع الموصلة إلى الفساد، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء) . ويؤخذ من حديث الإفك: مشروعية سفر النساء مع أزواجهن، ولذلك مباحث واسعة. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ} [النور:19] أي: تنتشر، {الْفَاحِشَةُ} [النور:19] أي: الكبيرة، والفاحشة تطلق على الزنا، وتطلق على كل ما يفحش من الأقوال والأفعال، لكن في أكثر المواطن يراد بها الزنا، فمثلاً قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] ، الفواحش هنا أعم من الزنا. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] هذه الآية فيها دليلٌ على أن من أعمال القلوب ما يؤاخذ عليه العبد، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك، فللقلوب أعمال لا يؤاخذ عليها العبد، وهي الخطرات والوساوس التي تخطر على القلب وتمر به، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل) . لكن الأمور التي يجتمع عليها القلب، ويعقد العزم على فعلها، يحاسب عليها العبد، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] ، فلما عقد القلب العزم على فعلها أصبحت كسباً له فيؤاخذ عليها العبد، ولذلك يؤاخذ العبد ويحاسب على الحسد، وهو من أعمال القلب، ويحاسب العبد على حب شيوع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا الحب من أعمال القلب. ويثاب العبد على حب الرسول صلى الله عليه وسلم، والحب من أعمال القلب، ويثاب العبد على حب المؤمنين، وهو من أعمال القلب، ويثاب العبد على تمنيه فعل الخير كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم في الأجر حبسهم العذر) ، فكُتِبَ لهم أجر لحبهم الخروج مع رسول الله والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:91-92] الآيات.

التحذير من اتباع خطوات الشيطان

التحذير من اتباع خطوات الشيطان قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:21] ، يا: حرف نداء، وأيّ: منادى، والهاء للتنبيه. (الذين آمنوا) ، أي: آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وصدقوا وعد الله، وصدقوا بلا إله إلا الله، وصدقوا بالبعث وأيقنوا به. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] أي: طرق الشيطان ومسالك الشيطان، فطرق الشيطان أطلق عليها خطواته، فهي الطرق التي يرشد الشيطان إلى فعلها، وكلها طرق وخطوات توصل إلى النار والعياذ بالله، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء التحذير من اتباع خطوات الشيطان وأوامره في آيات في غاية الكثرة، قال تعالى محذراً من اتباع الشيطان: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] ، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] ، وقال تعالى محذراً إيانا منه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62] أي: خلقاً كثيراً، {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62] ، وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] . فجاءت آيات في غاية الكثرة تحذر من اتباع الشيطان واتباع خطواته، ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21] أي: فليعلم الذي يتبع خطوات الشيطان، أنه يأمر أي: يحث ويحض (بالفحشاء والمنكر) والفحشاء: كل ما فحش، والمنكر: كل ما استنكر. {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21] أي: ما طهر وما صلح منكم من أحدٍ أبداً، فأفادت الآية الكريمة: أن الصالح من أصلحه الله، وأن المهتدي من هداه الله، فإذا علم العبد ذلك ازداد تواضعاً لله سبحانه، فإذا علمت أن الذي هداك هو الله لم تستطل على الخلق، فهو سبحانه قادرٌ على إضلالك، وقادرٌ على إصلاح الآخرين، فليكن العبد متواضعاً لله، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] يا مؤمنون {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] ، فالذي كره الكفر والفسوق إليكم هو الله، {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7-8] ، أن منّ الله عليك بالإيمان {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:8] . قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا} [النور:21] أي: ما صلح وما تطهر من الذنوب، فالتزكي يطلق أحياناً على التطهر، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، وفي الآية ردٌ على القدرية نفاة القدر، الذين يقولون: إن الإنسان يختار لنفسه ما شاء، ولا تدخل للرب في ذلك! إنما الرب كالطبيب الناصح! وهذا القول خطأ، تقدم التنبيه على خطئه مراراً، فالله هو الذي يزكي وهو الذي يهدي، ولو كان الأمر كما قالوا، ما قلنا في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] . فلماذا نطلب الهداية إذا كان أمر الهداية بأيدينا؟! فدل هذا على بطلان قيلهم، وبطلان معتقدهم في هذا الباب، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] ، فالله سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والأمر في هذا كله لله، لا تقل: لماذا هدى الله فلاناً؟ ولماذا أغوى الله فلانا؟! فالله أعلم بالعباد، وأعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، وبمن يستحق الإغواء فيغويه، والعياذ بالله. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21] سميع للأقوال والحركات والسكنات، عليمٌ بالنيات، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.

تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة.

تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة.) ثم قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22] أي: ولا يحلف، فالإيلاء هو الحلف، قال الشاعر: قليل الألايا حافظٌ ليمينه -أي: قليل الأيمان حافظٌ ليمينه- وإن صدرت منه الألية ضرت أي: إن صدرت منه يمينٌ ضر بيمينه، وقال سبحانه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] أي: للذين يحلفون ألا يقربوا نسائهم مدة طويلة، ليس لهم إلا أن يتربصوا أربعة أشهر {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226-227] . ومعنى هذه الآية: أن الشخص إذا قال: أقسم بالله ألا أقرب زوجتي سنةً، نقول له: قف، ليس لك ذلك، إنما لك أربعة أشهر كحدٍ أقصى، فإن رجعت في خلال أربعة أشهر وجامعت أهلك فحيهلا، وإن لم تفعل توقف عند نهاية الأربعة أشهر وتجبر إما على الرجعة إلى زوجتك والجماع، وإما على الطلاق رغماً عنك، ومن أهل العلم من قال: يوقف المؤلي -يعني: الذي حلف- عند الأربعة الأشهر وإذا مرت الأربعة أشهرٍ ولم يرجع عدت طلقة عليه شاء أم أبى، هذان قولان لأهل العلم، ومحل بسطهما في كتب الفقه، فمادة (آلى) يعني: حلف، مثل حديث: (آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهراً) ، أي: حلف ألا يدخل على نسائه شهراً. فقال تعالى: (وَلا يَأْتَلِ) أي: ولا يحلف {أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22] أي: أصحاب الفضل منكم يا مؤمنون! {وَالسَّعَةِ} [النور:22] أي: أصحاب السعة، الذين وسع الله عليهم بالمال، والمعنى: لا يقسم الفضلاء ولا يقسم الأغنياء، لا يقسم أهل الغنى والفضل {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور:22] . وهذه الآية الكريمة نزلت في الصديق أبي بكر، فقد كان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان مسطح قريباً لـ أبي بكر الصديق، وكان ممن شهد بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع هذا طعن مسطح بلا علمٍ في أم المؤمنين عائشة، ووصفها بالزنا ظلماً وعدواناً. فلما برأ الله أم المؤمنين عائشة، قال أبو بكر: والله! لا أنفق على مسطح بعد اليوم، وكان معه حق، فرجلٌ محسن يحسن إلى شخص فاللائق بالشخص على أقل تقدير أن يجازيه بجزاك الله خيراً، ولا يذهب يطعن في ابنته بالزنا بلا علم، فقال أبو بكر لما نزلت براءة عائشة وتبين كذب مسطح رضي الله عنه: والله! لا أنفق على مسطح بعد اليوم، فنزل قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] أي: لا تقسموا يا أهل الفضل ويا أهل الصلاح ويا أهل الغنى أن تحرموا الفقراء والمساكين. والمذنب إذا لم يعترف بذنبه، فلا وجه للعفو عنه؛ لأنك والحالة هذه تكون قد نصرته ظالماً، ونصرة الظالم لا تجوز، ولكن إذا اعترف بذنبه وأقر بخطئه، فباب التوبة مفتوح، وينبغي العفو عنه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) ، والله أعلم. {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] ، في الآية الكريمة ردٌ على الخوارج، فإن قيل ما وجهه؟ فوجهه أن الخوارج يكفرون بالكبيرة، ووجه الرد عليهم أن مسطحاً ارتكب كبيرة، وهي قذف أم المؤمنين عائشة، ولم يخرجه ذلك عن دائرة أهل الإيمان، فقد وصفه الله بقوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] ، وهذه كلها صفات لـ مسطح بن أثاثة، فلم يخرجه الله عن عباده المؤمنين بالقذف الذي قذفه لـ عائشة. وهذا من إنصاف ديننا، فالشخص يحكم عليه بمجمل ما صدر منه، ولا يحكم عليه بزلة زلتها قدمه، إنما يحكم عليه بمجمل سيرته، فلا نأتي إلى مسطح ونطيح بكل حسناته وفضائله ومناقبه لكونه قذف، فليوضع القذف في كفة من الميزان، ولتوضع سائر الخيرات في الكفة الأخرى، ففي الكفة الأخرى هجرة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وجهاد مع رسول الله يوم بدر، وليرجح إما جانب الخير أو جانب الشر، وبهذا يحكم على الناس، فالله سبحانه جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمةً وسطاً. وهذا القول ينسحب على عموم الصحابة، وعلى عموم الناس، فمثلاً: إذا جئنا نزن معاوية، نجد أن من إنصاف أهل السنة أنهم قالوا: معاوية قاتل علياً، فأخطأ في قتاله لـ علي رضي الله عنهما، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تقتل عماراً الفئة الباغية) ، ولكن ينظر إلى مناقب معاوية الأخرى، فهو كاتب للوحي على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفتح الله على يديه جملة من بلاد الكفار، ودخل في خلافته ألوف مؤلفة من الكفار إلى الإسلام، فليوزن بمجمل أفعاله، لا بفعلة واحدة، فأهل الظلم والجور يزنون الشخص بعيب واحدٍ فيه، وبزلةٍ واحدة زلتها قدمه، فيظلمون الناس: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه على شعثٍ أي الرجال المهذب؟ قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} [النور:22] أي: يعطوا {أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] ، (والمساكين) هل المسكين أشد فقراً أم الفقير؟ يقول العلماء: إن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، والمعنى: إذا جاء ذكر المسكين والفقير في سياق واحد -كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] ، فللفقر معنى وللمسكنة معنى آخر، والمسكين أعلى حالاً من الفقير، فالفقير لا يكاد يجد شيئاً، أما المسكين فيجد الشيء الذي لا يكفيه، قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فوصفوا بالمسكنة. وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا جاء لفظ الفقير في سياق ليس فيه ذكر المسكين، دخل في هذا اللفظ المسكين، وكذلك إذا جاء لفظ المسكين في سياق ليس فيه ذكر الفقير، دخل فيه الفقير، كهذه الآية: {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور:22] ، فدخل في المساكين هنا الفقراء، وهذا معنى قولهم: إذا افترقا -أي: في السياق- اجتمعا أي: في المعنى. والمسكين: من أسكنته الحاجة، ومن أسكنه الفقر. قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] أي: وليعفوا الأغنياء وأهل الفضل، وليصفحوا. فجدير بمن آتاه الله جاهاً أو مالاً أن يتغاضى عن هفوات الفقراء والضعفاء، ولا يعدد عليه أخطاءهم حتى لا تعد عليه نعم الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أسماء: (تصدقي ولا توعي فيوعي الله عليك، ولا تحصي فيحصي الله عليك) . (وَلْيَعْفُوا) أي: ليطمسوا على أخطاء هؤلاء، (وَلْيَصْفَحُوا) أي: يعرضوا عنها، {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] أي: إذا أحببتم أن يغفر الله لكم فاغفروا للناس، فالجزاء من جنس العمل، إذا أحببت أن يغفر لك الله فاغفر لعباد الله، إن أحببت أن يستر الله عليك فاستر على الناس، وهكذا، فالجزاء من جنس العمل. وفي هذه الآية منقبة كبرى للصديق رضي الله عنه، لأنه أقسم أن لا ينفق على مسطح، فلما نزلت هذه الآية: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] ، قال: والله يا ربي! إني أحب أن تغفر لي، ولن أمنع عن مسطح الصدقة بعد اليوم، وهو الذي طعن في ابنته، وهو الذي اتهم ابنته بالزنا، ومع ذلك يقسم بالله ألا يمنع عنه النفقة بعد نزول قوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] . وهذا امتثال شديد من أبي بكر لكتاب الله ولأوامر الله، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا مولعين بشرب الخمر، فلما نزلت الآية بتحريم شربها قاموا إلى الدنان فكسروها، وهي ممتلئة خمراً، مع حبهم الشديد لها، وكانوا يلبسون خواتيم الذهب، فلما رءوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نزع خاتم الذهب، نزعوا خواتيمهم، وكانوا يصلون بالنعال مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنزع النبي نعله فنزعوا نعالهم، ثم بين لهم أنه إنما نزعها لعلة، وهي أن فيها أذى كما أخبره جبريل عليه السلام، فكان الصحابة شديدي الامتثال لرسول الله عليه الصلاة والسلام، أحدهم كان مع زوجته يجامعها فسمع داعي الجهاد: حي على الجهاد! فقام عن الزوجة مسرعاً لا يتمهل، حتى أنه لم يغتسل، بل أسرع وقاتل حتى قتل رضي الله عنه، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، رضي الله تعالى عنهم، وأسكنهم فسيح الجنان، وقاتل الله أهل التشيع البغيض الذين ينالون منهم. قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] أي: امتثلوا واعملوا بهذه الصفة، صفة الغفران والرحمة للناس.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات.) ثم قال تعالى مؤدباً الذين يخوضون بألسنتهم في أعراض أهل الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] . (الذين يرمون المحصنات) أي: العفيفات، (الغافلات) أي: اللواتي لا يشعرن بالشر ولا يشعرن بالتهمة التي اتهمن بها، كامرأة جالسة في بيتها لا تعرف شيئاً عن الشر، وإذا بشخص ماجن فاجر يرميها بالزنا، وهي غافلة عما رميت به. {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} ، ومن يرمي من يرمي غير الغافلات أيضاً داخل فيها، ويدخل في الآية أيضاً الذين يرمون الرجال بالإجماع، فكل من رمى رجلاً بالزنا تنسحب عليه هذه الآية أيضاً. (لعنوا) أي: أبعدوا عن رحمة الله، وطردوا {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] ، أصل العذاب المنع، يقال: أعذبوا نساءكم، أي: امنعوهن من الخروج. {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24] التي طعنوا بها في المؤمنات {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] ، فاليد تشهد، والرجل تشهد، واللسان يشهد، إذا أشرت أن امرأة زنت بيديك فكذلك الحكم ينسحب عليك، إذا مشيت برجليك تنقل الطعون في المؤمنين والمؤمنات، شهدت عليك رجلاك، وشهد عليك لسانك، وشهدت عليك يداك. {يَوْمَئِذٍ} [النور:25] أي: يوم القيامة {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25] أي: جزاءهم الذي يستحقونه {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] .

تفسير قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين.

تفسير قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين ... ) الآية {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] الكلمات الخبيثة لا تصدر إلا من الأشخاص الخبثاء، والخبيثون لا تخرج منهم إلا الكلمات الخبيثة، (والطيبون للطبيات) أي: لا تصدر من الطيبين إلا الكلمات الطيبة، ولا تصدر الكلمات الطيبة إلا من الطيبين. هذه الآية من العلماء من أولها على هذا التأويل وهم الجمهور، ومنهم من قال: إن هذا في الأزواج، فالرجل الصالح يحرص على الزواج بصالحة، والخبيث يحرص على الزواج بخبيثة، وكذلك الخبيثة السافلة المتبرجة تحرص على الزواج بسافلٍ مثلها، هذا في الأصل. فإن عكّر معكرٌ بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] ، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} [التحريم:11] ، فنقول إذا اخترنا التأويل الثاني: فهذا على العموم، وكل عموم له استثناءات، وقد يقع الشخص الصالح في امرأة شريرة وهو لا يدري، لقضاء قضاه الله ولأمر أراده الله. إذاً قال قائل: كيف يجمع بين قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} [التحريم:10] وبين قوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] ؟ فالإجابة من وجهين: أحدهما: أن المراد بـ (الطيبات للطيبين) الكلمات الطيبة تصدر من الطيبين. والوجه الثاني: أن الحكم على الغالب، ولكل غالب استثناءات، والله أعلم. قال تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] ، مبرءون في الدنيا والآخرة، برأ الله عائشة مما رميت به في الدنيا والآخرة، وبرأ الله موسى مما رمي به في الدنيا والآخرة، وبرأ الله مريم عليها السلام، وبرأ الله يوسف صلى الله عليه وسلم. {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [النور:26] فكل من طُعن فيه له مغفرةٌ على الطعون التي طعن بها إن كانت كاذبة، فإذا طعن فيك وأنت بريء؛ فبسبب الطعن فيك تكفر ذنوبٌ لك سالفة، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26] ، فلينم قرير العين من طعن فيه وهو بريء، فإن رب العزة يغفر ذنوبه ويجزل له الثواب، والله أعلم.

تفسير آيات الاستئذان

تفسير آيات الاستئذان يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:27-29] . قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا} سبق بيانه بما حاصله: أن الياء حرف نداء، وأي: منادى، والهاء: للتنبيه. (يا أيها الذين آمنوا) قال بعض أهل العلم: إن المرادف لها في التوراة، أي: الخطاب الذي كان يخاطب به اليهود في التوراة: يا أيها المساكين! فتيمن بعض أهل العلم بذلك وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لما خاطب هذه الأمة بـ (يا أيها الذين آمنوا) كان هذا مشعراً بأن الأمن يحل عليها، وأن اليهود الذين خُوطبوا بـ (يا أيها المساكين) ، ضربت عليهم الذلة والمسكنة. وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين) هو حديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صحح إسناده بعض أهل العلم المتأخرون، ولكنهم جعلوا متن هذا الحديث لسند آخر سهواً منهم، وقد تراجع بعضهم عن ذلك.

الاستئذان في كل البيوت

الاستئذان في كل البيوت قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، هذا عام في كل البيوت إلا بيتك. فإذا كان لأمك بيتٌ مستقل، شرع لك أن تستأذن عليها؛ لأن الله فصل بيوت الأمهات عن بيوتك، فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور:61] ، فإذا كان للأم بيتٌ مستقل، وجئت إليها، شرع لك أن تستأذن عليها، وإذا كانت أمك تعيش معك في البيت فالجمهور والأكثرون على أنه يستحب لك أيضاً أن تستأذن عليها، قال ابن عباس: أتحب أن تراها عريانة؟! وقال حذيفة: ما على كل أحوالها تحب أن ترى، وأبو هريرة رضي الله عنه جاء إلى أمه فاستأذن عليها كما في قصة إسلام أمه، فقالت: على رسلك! فسمع صوت اغتسالها بالماء، وإذا لم تستأذن عليها ربما رأيت ما تكره، وقد ترى منها منظراً يسيئك، ويسيئها هي الأخرى، فيشرع الاستئذان على الأم. ويشرع الاستئذان أيضاً على الأخت، وفي الأثر أنه أتى رجلٌ إلى جابر فأمره أن يستأذن، وقال: إن لم تستأذن رأيت ما تكره! قال الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ} [النور:27] أي: الاستئذان {خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27] أي: تتعظون، فالتذكر يطلق على الاتعاظ.

من آداب الاستئذان

من آداب الاستئذان هذا، ويكره للمستأذن أن يقول: أنا، إذا سئل: من أنت؟ ففي الصحيح: أن جابراً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه، فقال النبي: (من؟ قال: أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا!! كأنه كرهها عليه الصلاة والسلام) . فيكره أن تقول: أنا، وليست الكراهية على الإطلاق، إنما هي في باب الاستئذان، بل قل: أنا فلان. أما قول القائل: أنا فعلت كذا، فلا بأس بها، وقول بعضهم: أعوذ بالله من كلمة أنا، لا أعلم له مستنداً، إلا إذا كان على سبيل الغرور والكبر والاختيال فيذم، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) . روى الخطيب البغدادي في جامعه: أن علي بن عاصم طرق على شعبة الباب، فقال شعبة: من؟ قال: أنا، قال: ليس لي صاحب اسمه أنا! حدثني محمد بن المنكدر حدثنا جابر بن عبد الله قال: أتيت رسول الله، فذكر الحديث. والإذن إنما شرع لأجل البصر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعُل الإذن من أجل البصر) ، وقد ورد حديث ينظر في إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذن أحدكم فلا يأت الباب من قبل وجهه، إنما يأتيه من يمينه أو عن يساره) ، وهذا أدعى إلى عدم وقوع البصر على شيء يكره، والله أعلم. قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28] ؛ حتى إذا كان البيت مفتوحاً يشرع لك أن تستأذن، وإذا لم يأذن لك أحدٌ، ولم يرد عليك شخصٌ، ولم تجد في الباب أحداً؛ فلا تدخل حتى يؤذن لك، فإن البيت ولو كان فارغاً ودخلته قد تكون مظنة للاتهام، وقد تحدثك نفسك بالسرقة منه، وقد تضع نفسك في مواطن الريب والشكوك، قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا} [النور:28] . ثم سؤال آخر: إن وجدت فيه أحداً وأذن لك بالدخول، فهل تدخل؟ الأمر فيه تفصيل: إذا وجدت في البيت امرأةً بمفردها، وقالت لك: ادخل، وأنت وحدك؛ فلا يشرع لك الدخول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء! قال قائل: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟! -أي: قريب الزوج- قال: الحمو الموت) . أما إذا أتيت أنت وزوجك إلى رجلٍ في بيته، فلم تجدا في البيت إلا امرأته، وأذنت لكما بالدخول، فتدخل أنت وزوجك، وتجلس زوجك معها، وأنت تنتظر داخل البيت في مكان آمن، وإذا كان مجموعة رجال، والفتنة مأمونة، والبيت به امرأة واحدة، وأذنت بالدخول برضا زوجها بذلك؛ جاز لهم الدخول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يلجن رجلٌ على مغيبة بعد يومي هذا، إلا ومعه الرجل أو الرجلان والثلاثة) ، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل هو وأبو بكر وعمر بيت أبي التيهان الأنصاري رضي الله عنه في غيابه، لما أذنت لهم المرأة، وهذا محله عند أمن الفتنة، والله لا يحب الفساد. قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28] : صاحب البيت هو سلطان بيته، وهو سيد بيته، وهو المسئول عن بيته، وهو أدرى بما فيه، وهو أحفظ لعورته، وأعلم بانشغاله من غيره، فإذا استعمل هذا اللفظ الشديد بلا مقدمات وقال لك مباشرة: ارجع، لزمك أن ترجع، من العلماء من قال: ترجع وأنت راضٍ مسلم لحكم الله سبحانه، فإن هذا هو أمر الله، أما إن رجعت وأنت متضايق متبرم، وذهبت تغتابه عند الناس، وتقول: أنا طرقت عليه الباب وقال لي: ارجع، أو لم يرد عليّ؛ فأنت مخطئ، قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] . {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] أي: أطهر لكم، فالزكاة تطلق على التطهير، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] . {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28] ، أي: عليمٌ بقلوبكم، وعليمٌ باتجاه أبصاركم، وعليم بنياتكم. ثم قال سبحانه مرخصاً في بعض الدور: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النور:29] أي: ليس عليكم إثم، وليس عليكم حرج، {أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:29] ، ما هي البيوت غير المسكونة المرادة في الآية الكريمة؟ من العلماء من قال: هي السقائف التي كانت على الطرقات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان أهل الفضل وأهل الخير ينشئون سقائف وبيوتاً على الطرقات، فينتفع بها المسافرون للاستظلال بها وللراحة فيها، ويضعون فيها متاعهم، فمن العلماء من قال: إن المراد بالبيوت الغير مسكونة السقائف، كسقيفة بني ساعدة، التي هي سقيفة سعد بن عبادة وأسرته. ومن العلماء من قال: إنها الدكاكين التي لا يحتاج الداخل إليها إلى إذن، والنوادي التي يرتادها المرتادون ولا تحتاج إلى إذن، وبصفة عامة: هي الأماكن العامة التي لا تحتاج إلى إذن. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:29] ، هنا تقدير أي: غير مسكونة بأحدٍ بعينه، فلا يلزم إذنٌ بالدخول إليها، {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] ، قال بعض العلماء: ليس المراد بالمتاع: الجهاز الذي يُتجهز به فقط، إنما المراد بالمتاع: كل ما يتمتع به، فقد يتمتع الشخص بالنوم مثلاً، قد يتمتع بالثياب، قد يتمتع بالمأكل، قد يتمتع بالاستظلال، والدنيا كلها متاع، فليس معنى قوله تعالى: (متاع) أي: حاجة من الأمتعة المعلومة لدى الناس، بل الأمر أعم من ذلك. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:29] .

معنى: الاستئناس

معنى: الاستئناس (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لأهل الإيمان الذين هم: أهل التصديق بالله، وبرسل الله، وبكتب الله، وبملائكة الله، وبالغيب، يا من هذه صفتهم! {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27] سماها الله بيوتاً، ولم يسمها فللاً، إنما هي بيوت. قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، ما معنى تستأنسوا؟ من العلماء من قال: إن (تستأنسوا) بمعنى: تستأذنوا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أخطأ النساخ! إنما هي: تستأذنوا، ودفع قول ابن عباس رضي الله عنهما جماهير أهل العلم، واستدلوا على تخطئة قوله بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، وبقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وبقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:17-19] ، وابن عباس نفسه فسَّر الآيات الأخيرة بقوله: إنّ علينا أن نجمعه لك في صدرك، ثم إنّ علينا أن نبينه، فاستدل بذلك وبإجماع القراء على أن الآية: (حتى تستأنسوا) كما نقله البعض، وعلى تخطئة القول بأن النساخ قد أخطئوا. على كلٍ فمن العلماء من قال: معنى (تستأنسوا) تستأذنوا، ومنهم من قال: هو الاستئذان بتنحنح ونحوه من الكلمات والهمهمات والأصوات التي بها يعرف الداخل. ومن العلماء من قال: إن الاستئناس بمعنى: الاستعلام، أي: حتى تستعلموا، أي تعلموا من فيها بدخولكم، وأخذ هذا من قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] . أي: إن علمتم منهم رشداً، وقول موسى صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:10] هو بنفس المعنى. ومن العلماء من قال: إن الاستئناس هو مقابل الاستيحاش، فالشخص يقول مثلاً: دخلت مكان كذا وكذا فاستوحشته إذا لم يجد من يأنس إليه، فهو من الأنس الذي هو ضد الاستيحاش. فهي ثلاثة أقوال: فمن العلماء من قال: إن الاستئناس هو الاستعلام، وقيل: هو الاستئذان، وقيل: هو ضد الاستيحاش. {وَتُسَلِّمُوا} [النور:27] السلام هنا المراد به: سلام الاستئذان، وهو المراد أيضاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا سلم سلمّ ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً) . فالمراد بقول الراوي: (كان النبي إذا سلم سلّم ثلاثاً) ، سلام الاستئذان، وليس معناه أنه إذا التقى بشخص في الطريق يقول: السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم! إنما المراد: سلام الاستئذان، دل على ذلك حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: (أنه أتى إلى أمير المؤمنين عمر يستأذن عليه، فقال: السلام عليكم، فلم يأذن له، ثم قال: السلام عليكم أنا عبد الله بن قيس، فلم يأذن، ثم قال: السلام عليكم، فلما لم يؤذن له في الثالثة انصرف، فأرسل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه في أثره من يطلبه، فأتي به، فقال له: ما منعك أن تثبت، قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) ، قال عمر: لتأتيني على هذا ببينة أو أوجعتك ضرباً، فرجع أبو موسى مذعوراً إلى مجلس الأنصار وفيهم أبي بن كعب وهو من سادات الأنصار، فقال: من يشهد لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) ، قال أبي: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا! قم يا أبا سعيد! فقام أبو سعيد فشهد عند عمر بذلك، فقال عمر رضي الله عنه: ألهاني الصفق بالأسواق! فدل ذلك على أن المراد بالسلام هنا سلام الاستئذان، ونحو ذلك الحديث الذي يحسن بمجموع طرقه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى بيت سعد بن عبادة رضي الله عنه، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد بن عبادة سراً ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادها النبي مرة ثانية، فرد سعد سراً، فأعادها النبي ثالثة فردها سعدٌ سراً، وبنوه بجواره يقولون له: ائذن للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: دعوه حتى يكثر علينا من السلام، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يؤذن له بعد الثالثة، فتبعه سعدٌ وقال: والله يا رسول الله! ما من مرةٍ سلمت فيها عليّ إلا رددت عليك السلام، ولكني لم أُسْمِعك حتى تكثر علينا من السلام) ، فالشاهد منه: أن السلام هنا يراد به سلام الاستئذان، وأنه يكون ثلاثاً. ومن معاني الاستئناس أيضاً: التجول بالبصر في الغرفة وفي البيت، كما في حديث عمر عندما استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذن له بالدخول -كما في الصحيح- قال: أأستأنس يا رسول الله؟! فأذن له النبي بالاستئناس، فجال ببصره في الغرفة، قال: فلم أجد شيئاً يرد البصر إلا ثلاثة أهبٍ، وحفنة من شعير، وذكر الحديث، فلما كان الاستئناس بعد السلام حمل هذا بعض العلماء على أن يقولوا: إن المراد بالاستئناس الاستئذان، فالمعنى: حتى تستأذنوا وتسلموا، وقالوا: إذا قلنا: إن المراد بالاستئناس: التجول بالبصر أو الذي هو ضد الاستيحاش، كان ذلك بعد السلام ولا يكون قبل السلام، فكان سياق الآية سيكون إذا كان هذا هو المعنى: حتى تسلموا وتستأنسوا. لكن أجيب على هذا بأن الواو لا تقتضي الترتيب، إنما تقتضي مطلق التشريك، وقد أسلفنا القول في ذلك عند تأويل قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [آل عمران:55] ، وقول العرب: جاء زيد وعمرو لا يريدون به الترتيب، بل يعنون: أن هذا جاء، وهذا جاء، وقد يكون أحدهما جاء قبل الآخر.

تفسير قوله تعالى: (قل للؤمنين يغضوا من أبصارهم)

تفسير قوله تعالى: (قل للؤمنين يغضوا من أبصارهم) والأمر بالاستئذان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) . وبعد أن جاء الأمر بغض البصر ضمنياً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27] ، جاء صريحاً في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] : (يغضوا) أي: يقصروا، من غض الطرف ومنه: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان:19] أي: اخفض من صوتك، ومنه أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات:3] أي: يخفضون أصواتهم. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] أي: يخفضوا من أبصارهم، و (من) هنا اختلف في موقعها في معناها: فمن العلماء من قال: إن (من) هنا زائدة، والمعنى: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم. القول الثاني: إن من هنا للتبعيض، والمعنى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] أي: يغضوا أبصارهم أحياناً، وليس في كل الأوقات، إنما يغضونها عن المحرمات فقط؛ لأن البصر لا يغض دائماً، بل البصر يباح له النظر حيث شاء في المباح، فالرجل يباح له أن ينظر إلى أي شيء من امرأته، أما حديث: (النظر إلى فرج المرأة يورث العمى) ! فهو حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة النور [30-35]

تفسير سورة النور [30-35] لقد أمر الله سبحانه وتعالى في هذا المقطع من الآيات بغض البصر للرجل والمرأة، ثم بين الله المحارم الذين يجوز للمرأة أن تنظر إليهم وتختلي به وتسافر معهم، وأن ما عدا ذلك فلا يجوز لها أن تظهر زينتها أمامهم، فإنهم ليسوا بمحارم لها، وقد حث الله عز وجل على سد ذرائع فساد النظر إلى الحرام والزنا بالنكاح المشروع في الكتاب والسنة المطهرة.

تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.

تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.) باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فقال: (اصرف بصرك) وقد ورد في الباب حديث علي وفي إسناده كلام: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) وهو حديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عليه الصلاة والسلام في معرض بيان غض البصر: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) ، ومن الجهل والقبح والعار أن ترى رجالاً ونساء عراة، أو رجالاً يسبحون في البحر عراة كما ولدتهم أمهاتهم، وفي الأنهار والترع كالبهائم والعياذ بالله. قال الله سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] قد يقول قائل: إن حفظ الفرج آكد من غض البصر؛ لأن عدم حفظ الفرج كبيرة، أما إطلاق البصر ليس من الكبائر عند كثير من العلماء، لأن ابن عباس فسر اللمم بحديث أبي هريرة: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة: فالعين تزني وزناها النظر) فقال: ما رأيت أشبه باللمم المذكور في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] مما قال أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ... ) الحديث، فلماذا قدم الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج، مع أن حفظ الفرج أهم من غض البصر؟! صحيح أن حفظ الفرج أهم من غض البصر، لكن النظر هو الوسيلة إلى المحرم. فالفرج لا يتحرك إلا بعد نظر، وكما قال الشاعر: ومعظم النار من مستصغر الشرر فالأمر بغض البصر أمر بسد الذريعة إلى الوصول إلى المحرم، فالزنا جعل له حمى حتى لا يقع شخص فيه، فلا تدخل بيت شخص إلا إذا استأذنت، ولا تنظر إلا إلى الذي أبيح لك، وقد قدمنا أن من الحمى الذي وضع للزنا: مصافحة المرأة الأجنبية، فإنها لا يجوز، والخلوة بالمرأة الأجنبية لا تجوز، سفر المرأة بدون محرم لا يجوز، والغناء الذي يثير الكامن ويهيج على الفاحشة لا يجوز، فللزنا حمى فليبتعد عنه الشخص، ومنه غض البصر. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] فيه أن ذكر الرجل يطلق عليه الفرج خلافاً لمن كره ذلك من العلماء، فمن أهل العلم من كره أن يقال عن عورة الرجل فرج، وقال: الفرج هو ما انفرج، أي: ما فتح، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] فقال: إن الفرج مختص بالمرأة، لكن هذه الآية ترد عليه، لأن الله جل ذكره قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] . والمقصود أن يحفظوها عن الزنا، وعن اللواط، وعن الاستمناء، وعن نظر الأجانب إليها، وعن نظر من لا يحل له النظر إليها، وبالجملة عن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى عليهم، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما تقدم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل) . وقد ورد في الباب حديث محمول على الاستحباب، ألا وهو حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: (يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق -وذكر الحديث وفيه:- عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟) يعني: ما هو الشيء الذي يرى، وما الشيء الذي يترك؟ قال: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: الرجل يغتسل عارياً يا رسول الله؟! قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس) فمن العلماء من قال: وإن كنت وحدك استحب لك أن تستتر ولا تباشر السماء بفرجك، ولا تكن مكشوفاً، وحمل هذا على الاستحباب لا على الإيجاب؛ لأن نبي الله موسى اغتسل عرياناً، ولأن نبي الله أيوب اغتسل عرياناً، وهذا حيث لا يراهما الناس، لكن الكلام على الاستحباب في شريعتنا، والله تعالى أعلم. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ، هذا التعقيب بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [النور:30] لأن للأعين خائنة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فقد تكون ماشياً مع شخص في طريق ولعينه خائنة وأنت لا تشعر بها، ولا تستطيع أن تضبطه بحال، يسارق النظر وأنت لا تشعر، كما قال سبحانه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] فختمت الآية بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] فمهما أخطأت على الناس فإن الله يعلم حالك ويطلع عليك.

رسول الرجل إلى الرجل هل يعد إذنا له؟

رسول الرجل إلى الرجل هل يعد إذناً له؟ في الباب أيضاً رسول الرجل إلى الرجل هل يعد إذناً له؟ مثاله: أنت في بيت قلت لفلان: اذهب فادع لي فلاناً من الناس، فجاء الرجل الذي أرسل إليه، هل يلزمه أن يستأذن أو يدخل مباشرة عليه؟ من العلماء من قال: يدخل مباشرة؛ لحديث: (رسول الرجل إذنه) وقد حسنه البعض من مجموع طرقه. والرأي الآخر أنهم يستأذنون، لما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي هريرة: (ادع لي أهل الصفة يا أبا هريرة، فذهب أبو هريرة يدعوهم، فأتوا واستأذنوا عند دخولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، هذه وجهة القائلين بالاستئذان، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] . ومن العلماء من فصل بين طول زمن الفترة التي أرسل إليها الرسول وقصرها، قالوا: إذا كان قومٌ بالباب فقلت: ادعهم فدعاهم، لم يحتاجوا إلى الإذن، لكن إذا إرسلت إليهم فأتوا بعد خمس ساعات، فهذا يحتاج إلى استئذان، والله سبحانه وتعالى أعلم.

مسألة استئذان الصغير المميز

مسألة استئذان الصغير المميز كذلك في أبواب الاستئذان أيضاً مسألة، وهي: هل يستأذن الصغير المميز أو لا يستأذن؟ قال كثير من العلماء: إذا كان الصغير مميزاً فيستأذن؛ لأن أنساً كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الحلم، ولما نزلت آية الحجاب قال أنس: (فجئت أدخل عند النبي صلى الله عليه وسلم عليه مع زوجه زينب بنت جحش، فضرب الحجاب بيني وبينها) ، قالوا: فالصبي إذا كان مراهقاً مناهزاً للاحتلام يستأذن أيضاً. وفي الباب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] الآية.

حكم من اطلع إلى بيت قوم بغير إذنهم

حكم من اطلع إلى بيت قوم بغير إذنهم ففي أبواب الاستئذان مسألة فقهية حاصلها: إذا اطلع شخص في بيت قوم بغير إذنهم فما حكم ذلك؟ معلوم أنه حرام، ومن العلماء من قال: إذا فقأ القوم عينه فلا جناح عليهم ولا إثم، ولا قصاص، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أيما رجل اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه، لم يكن عليهم جناح) وقال بهذا طائفة من أهل العلم. بينما ذهب آخرون إلى أن هذا الحكم على سبيل التغليظ وليس القصد منه فقأ العين على الحقيقة، وذلك لقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] ولقوله تعالى أيضاً: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45] قالوا: وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي روي عنه بإسناد ينظر فيه: (أن رجلاً أتى إلى النبي وكان حاد اللسان متكلماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: قم فاقطع لسانه) قالوا: ومعنى قول النبي: (قم فاقطع لسانه) أي: أعطه شيئاً حتى يسكت، قالوا: فليس المراد فقأ العين حقيقة، إنما المراد التغليظ في بيان العقوبة، هذا وجه قولي العلماء في هذا الباب.

تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)

تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) يقول الله سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] .

أولو الإربة المذكورون في الآية

أولو الإربة المذكورون في الآية قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] في تفسيرها أقوال: أحدها: الخدم الذين ليس لهم حاجة في النساء، أو المخنثون، والتخنيث على قسمين: تخنيث جبلي: يعني: رجل في خلقته مخنث. تخنيث مكتسب: رجل يتشبه بالنساء ويتمايل كما تتمايل النساء، ويتكسر كما تتكسر النساء. فالأول وهو المخنث تخنيثاً جبلياً لا حاجة له في النساء من أصل خلقته، فتظهر له المرأة زينتها، أما المخنث تخنيثاً مكتسباً فلا تظهر له المرأة زينتها، وإن اكتشف أن المخنث تخنيثاً جبلياً يصف المرأة منعت المرأة من إبداء زينتها له أيضاً، فكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مخنث يقال له: هيت (كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ذات يوم لـ عبد الله بن أبي أمية: يا عبد الله! إذا فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بـ ابنة غيلان) يعني: إذا غنمتم فاحرص على أن تكون من نصيبك ابنة غيلان وهي بادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي الذي كان متزوجاً بعشر نسوة، فهي إحدى بناته، (عليك بـ ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان) يصف تكسرات جسمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن هذا عليكم) فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول على أزواجه، وفي بعض الروايات: (لقد غلغلت إليها النظر يا عدو الله!) فإن اكتشف أن المخنث على هذا النحو فيمنع. من العلماء من قال أيضاً: إن التابعين غير أولي الإربة أي: غير ذوي الحاجة في النساء، يدخل فيهم الشيخ الكبير الفاني الذي انقطعت حاجته في النساء، أو الرجل الأهطل الأبله الذي لا يفكر في النساء ولا يخشى منه، فهناك كم من شخص أهطل أبله لا يلتفت إلى النساء، إنما حاجته لقمة يأخذها من البيت أو نحو ذلك، فهذا أدخله أيضاً بعض العلماء في التابعين غير أولي الإربة من الرجال. فعلى ذلك للمرأة أن تبدي زينتها لمثل هؤلاء المذكورين في كتاب الله عز وجل. {أَوِ الطِّفْلِ} [النور:31] الطفل هنا اسم يطلق للمفرد ويطلق للجمع، لكن المراد به هنا الجمع بمعنى الأطفال، بدليل قوله تعالى: {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] . والأطفال على نوعين: - طفل مميز يفهم أمور النكاح وقد تهيج به الشهوة أحياناً وإن لم يكن بالغاً. - وطفل لا يفهم شيئاً من ذلك، فالطفل الذي ظهر على عورات النساء، فيعرف عورة المرأة، ويعرف الجماع ونحو ذلك؛ فهذا لا تظهر له المرأة زينتها، كالمراهق ابن العشر السنين، أو ابن إحدى عشرة سنة، أو اثنتي عشرة سنة، أما الطفل الذي لا يميز شيئاً من هذا فتظهر له الزينة. {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} [النور:31] يعني: لا تضرب المرأة برجلها ليعلم ما تخفي من زينتها، وكانت المرأة تلبس الخلخال، فإذا مرت برجال وضربت برجلها أحدث الخلخال صوتاً فيلتفت إليها الرجال ينظرون إلى عراقيبها وإلى ساقيها من أسفل، وهذا من حيل النساء، كان هذا في زمان رسول الله وقبل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرأة اليوم تكشف مباشرة إلى ما فوق الركبة، ولا تحتاج إلى أن تضرب بالخلخال، حتى ينظر شخص إلى موطن الخلخال. قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فأي شيء يدعو إلى إظهار المخفي من الزينة تنهى عنه المرأة، مثلاً إذا جاءت المرأة ورفعت بعض ثوبها لتري الناس الثوب الأسفل أو قميص اليوم مثلاً أو أي شيء من ذلك دخلت في الذنب -والعياذ بالله-، وإن تطيبت حتى يلتفت إليها الناس دخلت في الذنب، وإن وضعت على شعرها ما يلفت النظر إليها ويظهر ما قصي من زينتها دخلت في الذنب. قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور:31] أي: لا يزكي أحد منكم نفسه، فإن ابن آدم كتب عليه نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] فاللمم يقع فيه الجميع، ومن اللمم النظر، فجاء بعد الأمر بغض البصر أن هناك تجاوزات ستحدث، ولا يستطيع أحد أبداً أن يطبق الآية (100%) ، بل لابد أن يظهر منه خلل، فإن النبي قال في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر ... ) الحديث، فلذلك جاء التذييل في الآية بالتوبة التي تجب ما قبلها، وذلك لما يعتري التطبيق من خلل، ولا أخال أحداً قد نجا، فلابد وأن يكون صدر شيء من ذلك من الشخص، فجاء التذييل بقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] ويدخل في الخطاب المؤمنات.

المراد بقوله: (أونسائهن أو ما ملكت أيمانهن)

المراد بقوله: (أونسائهن أو ما ملكت أيمانهن) {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] : من أهل العلم من قال: إن المراد بهن نساء المؤمنين، يعني: النساء المؤمنات بصفة عامة، فللمرأة أن تبدي الزينة للمؤمنات، وعلى هذا القول لا يجوز للمرأة أن تبدي زينتها لامرأة كافرة، فما بالنا المرأة تبدي زينتها لرجل كافر، تذهب ليلة الزفاف لمصور نصراني يصورها، عياذاً بالله من ذلك! . ومن العلماء من قال: إن المراد بنسائهن جنس النساء، وأيد هذا القول بأن يهودية كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها. أهل القول الأول قالوا: لا تدخل النساء الكافرات؛ لأن النساء الكافرات قد يصفن المرأة للكفار ويفشين أسرارها، فأجيب على ذلك بأن من النساء المسلمات أيضاً فاسقات قد يفشين سر المرأة للأجانب، وهذا محرم في حق الجميع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) . قال سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] : من العلماء من قال: إن المراد الإماء المسلمات، يعني: للمرأة أن تظهر زينتها للأمة المسلمة. ومنهم من قال: ملك اليمين هنا عامة، للمرأة أن تظهر زينتها لعبدها أيضاً، واستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن فاطمة أنه كان لها خادم، وكان لها في البيت ثياب قصيرة إذا غطت رأسها بدت رجلاها، وإذا غطت رجليها بدا رأسها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هو أبوك وغلامك) ولكن ينظر في صحة هذا الحديث، فأنا بعيد عهد به، والله أعلم.

المحارم الذين يجوز للمرأة أن تظهر زينتها أمامهم

المحارم الذين يجوز للمرأة أن تظهر زينتها أمامهم {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] البعل يرى كل شيء من المرأة، فقد تقدم بيان بطلان حديث (نظر الرجل إلى فرج امرأته يورث العمى) فهو حديث ضعيف جداً بل حكم البعض بوضعه. قوله: {أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] يرى الأب من ابنته كما قال كثير من أهل العلم، ما يظهر منها غالباً، كمواضع الوضوء وشعرها، ورجليها، وذراعيها ونحو ذلك، فهذا هو الذي يظهر غالباً منها، واستدل لهذا القول بحديث ابن عمر رضي الله عنهما في البخاري: (كان الرجال والنساء يتوضئون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً) فهذا الحديث إما أن يحمل على ما قبل الحجاب، وإما أن يحمل على المحارم، وفي الحالين يتم الاستدلال به، ولما جاء بعض محارم عائشة يسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت بينها وبينهم ستراً، فاغتسلت وأظهرت لهم رأسها، وصبت على رأسها الماء، هذا مستند القائلين بأن المحرم يرى ما يظهر من المرأة غالباً كما ذكر. ثم إن هناك بعض المواطن التي تمتنع المرأة فيها عن إظهار بعض أجزائها أو جسمها لمحرمها، وهذا إذا كان المحرم فاسقاً يخشى منه أن يعتدي على محرمه، فحينئذٍ تتستر المرأة منه دفعاً لشره ولفساده، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال لـ سودة بنت زمعة: (واحتجبي منه يا سودة) أي: من ابن وليدة زمعة والله أعلم. قوله: {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] وهو أبو الزوج، أما أن يذهب أبو الخاطب كما يفعل بعض الجهلة يريد أن يرى مخطوبة ابنه قبل العقد، ويطمئن على شكلها وجمالها فليس هذا من حقه، فليس له أن يراها إلا إذا عقد ولده عليها، أما أن يراها وليست هناك صلة محرمية بينهما فلا يجوز له ذلك. قوله: {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31] أي: المرأة مع ابنها، ويرى ابنها منها زينتها، هذا الأمر مرده إلى الأعراف السائدة وإلى الملابسات التي تحيط بكل أسرة، فليس معنى أن الابن يرى زينة أمه أنها تتبرج له تبرجاً زائداً مزرياً، فيتحرك الشيطان في نفسه بسبب هذا التبرج، فهنا تتدخل نصوص عامة لتحسم هذه المواقف كقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] (لا ضرر ولا ضرار) . ((أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ)) [النور:31] أي: ابن الزوج من امرأة أخرى. ((أَوْ إِخْوَانِهِنَّ)) [النور:31] أخوها. ((أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ)) [النور:31] ابن أخيها أو ابن أختها. قال بعض أهل العلم: لم يذكر العم والخال لأنه قد ينعت المرأة لأبنائه، وهذا التعليل واه، والله أعلم، والصواب أن السنة قد بينت أن العم والخال له أن يرى أيضاً، وله أن يدخل أيضاً على بنت أخيه أو بنت أخته، من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أفلح أخي أبي العقيس لما كان عماً لـ عائشة من الرضاعة، وعائشة منعته من الدخول عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه عمك ليلج عليك) فإذا كان العم من الرضاعة يدخل فالعم من النسب من باب أولى. المحارم المذكورون في الآية من النسب، وإذا كانوا من الرضاعة، فيجري عليهم نفس الحكم، يعني: إذا كان الرجل ابنها من الرضاعة وابن أخيها من الرضاعة وابن أختها من الرضاعة، فكل هؤلاء يدخلون عليها أيضاً وتبدي لهم الزينة.

وجوب تغطية الرأس والوجه للمرأة

وجوب تغطية الرأس والوجه للمرأة قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} [النور:31] الخمر: جمع خمار وهو ما تتغطى به المرأة، فقد تخمر المرأة رأسها فيكون الخمار هو ما خمر الرأس أي: غطاه، فالخمار الشيء الذي يغطي، قالت أم المؤمنين عائشة: (فلما رأيت صفوان بن المعطل خمرت وجهي بجلبابي) أي: غطيت وجهي بجلبابي. {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} [النور:31] الضرب: من معانيه التغطية، ومنه قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] أي: أفنهمل ذكركم؟ ومنه قول الرجل لولده: اضرب على هذا الحديث يعني: امحه، وقوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11] فقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ} [النور:31] أي: وليغطين. {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] والجيب: فتحة الصدر التي يدخل منها الشخص رأسه وهو يلبس الثوب، ومنه قول الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12] فهو فتحة الصدر، فقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] أي: يغطين بخمرهن على فتحات صدورهن. أما الدليل على تغطية الوجه فهو المقطع الأول للآية: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال الإمام أحمد رحمه الله كما نقل عنه القاضي أبو يعلى: المرأة كلها عورة حتى ظفرها، لا يحل لها أن يظهر منها شيء حتى الظفر. هذا رأي الإمام أحمد رحمه الله تعالى. {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] . من العلماء من فصل في مسألة الزينة وقسمها تقسيماً حاصله: أن الزينة منها ما هو خلقي -يعني من أصل الخلقة- ومنها ما هو مكتسب، فالمكتسب: كالكحل وأنواع المكياج الذي تتزين به المرأة ونحو ذلك، والخلقي: ما كان من أصل خلقتها، فمن العلماء من قال: إن الزينة هنا الزينة الخلقية، ومنهم من عمم، وسيأتي. {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] البعل: هو الزوج، كما قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء:128] فالبعل: الزوج. وقوله تعالى: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] . من العلماء من سلك هنا مسلك النظر وقال: إن الزينة التي تظهر من المرأة تختلف من محرم إلى محرم آخر، ولم يكن هناك نص يحدد ذلك، لكن الزينة التي يراها البعل من امرأته أوسع من الزينة التي يراها أبوها منها إجماعاً، فللزوج أن يرى من امرأته كل شيء، أما أبوها فلا يحل له أن يرى مثلاً عورتها المغلظة، وكذلك أشياء من الأجزاء في جسدها لا يراها الأب. كذلك قال العلماء: إذا كانت هناك امرأة متزوجة برجل له أولاد من امرأة أخرى فهم محارم لامرأة أبيهم، لكن لا يرون منها القدر الذي يراه أبواها منها، فأبو المرأة محرم وابن زوجها محرم، لكن أبوها يرى منها أكثر مما يرى منها ابن زوجها، وليس على هذا نص صريح من الكتاب والسنة، ولكنه مبني على مسألة المفاسد، والله أعلم، فالمفسدة من ابن الزوج أعظم، وهي من الأب أخف، لأن الأب لا يفكر في الاعتداء على ابنته، لأنها عرضه، أما ابن الزوج فقد يتجرأ على امرأة أبيه، وكلاهما محرم، لكن الشر المتوقع من ابن الزوج أعظم من الشر المتوقع من الأب في الغالب، فهذا وجه تفصيل من فصل، ومبناه على النظر الصحيح عنده، والله تعالى أعلم.

المراد بالزينة المذكورة في الآية

المراد بالزينة المذكورة في الآية {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] ما المراد بهذه الزينة المذكورة في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] ؟ لأهل العلم في ذلك أقوال: أقوى هذه الأقوال من ناحية السند وصحته قول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن هذه الزينة هي الرداء والثياب) فمن شأن العرب أن نساءهم كن يلبسن العباءة السوداء وتحتها ثوب ملون، فأحياناً يظهر ذيل الثوب الملون من أسفل العباءة، ويشق على المرأة ستره، فهذا الذي فسر به ابن مسعود الآية، فمن النساء الآن من تلبس العباءة السوداء وتأتي عند الرجال وتفتحها، فيرى الرجل الثوب الذي بداخلها فيفتن، فإذا كان شيء من ذلك يشق على المرأة ستره ولا تتعمد التبرج به جاز لها إظهاره، هذا قول عبد الله بن مسعود روي عنه بإسناد على شرط مسلم. أما ابن عباس رضي الله عنهما فقد روي عنه بأسانيد في كل إسناد منها مقال وضعف، فذهب إلى أن ما ظهر منها هو الوجه والكفان. وانتصر للقول الأول بأن الزينة التي على الشيء تكون خارجة عن أصله، فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7] فالذي على الأرض ليس من أصل الأرض، إنما هو شيء منفصل عنها، فليكن كذلك في تفسير الثياب للزينة فهو شيء منفصل عن المرأة، فالثوب والكحل والخلخال مثلاً، كل هذه الأشياء من الزينة لأنها خارجة عن المرأة، أما وجه المرأة في حد ذاته فلا يقال: إنه زينة؛ لأنه من أصل خلقتها. هذا الذي انتصر به بعض المفسرين بالقول الأول كـ الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب أضواء البيان وغيره من العلماء، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6] والكواكب ليست هي السماء الدنيا بل منفصلة عنها. أما حديث: (يا أسماء! إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا) وأشار إلى وجهه وكفيه فهو إسناد تالف مسلسل بالعلل، فهو من طريق الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة، والوليد بن مسلم مدلس وقد عنعن، وسعيد بن بشير ضعيف، وقتادة مدلس وقد عنعن، وخالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها، ثم هو بعد ذلك كله هل هو قبل الحجاب أو بعده؟ في ذلك أيضاً بحث، فالإسناد لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حفظ المرأة فرجها من المحرمات حتى ملك اليمين

حفظ المرأة فرجها من المحرمات حتى ملك اليمين {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وحفظ الفرج عن المحرمات، وتختلف المرأة في حفظ فرجها عن الرجل من ناحية ملك اليمين، فالرجل لا يحفظ فرجه عن ما ملكت يمينه، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5-6] أما المرأة فيجب عليها إجماعاً أن تحفظ فرجها من عبدها، وقد أتي في زمن عمر بن عبد العزيز بامرأة مكنت عبدها من نفسها، فسألها عن سبب ذلك، فاحتجت بالآية فعذرها بالجهل، وأظن أنه أقام عليها حد الجلد أما الرجم فلم يقمه عليها، وأقام حد الزنا على العبد. وقوله سبحانه: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] أي: حتى من نظر النساء إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) فالمرأة لا تنظر إلى عورة المرأة إلا عند الضرورة التي لابد منها، مثال ذلك: أن تكون المرأة تلد ولا بد لها ممن يولدها، فحينئذٍ تلجأ إلى امرأة تولدها، إذ القوابل كن معروفات على عهد السلف، أما أن تبادر بالذهاب إلى رجل كالرجال الذين وجدوا هذه الأيام وتخصصوا دناءة في التوليد، ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا قوابل؛ فأن تبادر المرأة سريعاً بعرض فرجها على الرجال يعبثون بها، فهذا من المستقبح المستهجن. والله سبحانه وتعالى أعلم.

نظر المرأة إلى الرجل

نظر المرأة إلى الرجل قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] الأمر قد توجه للمؤمنين بغض البصر، وكان بالإمكان القول بأن النساء يدخلن في خطاب الرجال فيكفي ذكر المؤمنين إذ يدخل فيه المؤمنات، ولكن الله تعالى نص ثانياً على النساء لانسحاب الحكم عليهن حتى لا يظن ظان أن النساء خارجات من الحكم. فللتأكيد على أن الحكم ينسحب أيضاً على النساء قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] ونحو هذا مع بعض فارق في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] فالنساء يدخلن في القوم، ولكن نص عليهن للتأكيد، ولبيان أن السخرية منهن بعضهن من بعض أكثر. قال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] والغض الخفض كما تقدم و (من) هنا: للتبعيض، فلم يقل: (يغضضن أبصارهن) لأن للمرأة أن تنظر إلى زوجها، فلذلك من العلماء من قال: إن (من) هنا للتبعيض. يعني: لا يغضضن أبصارهن كلية، بل يغضضن أبصارهن عما حرم عليهن فقط، أما الذي لم يحرم عليهن فلهن أن ينظرن إليه، وهم الأزواج. وبهذه الآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] استدل فريق من العلماء على أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال أصلاً، لا بشهوة ولا بغير شهوة، إلا ما دعت إليه الضرورة، وأيد أصحاب هذا القول قولهم بحديث فيه ضعف ألا وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ورأى عندهما ابن أم مكتوم فأنكر ذلك عليهما، فقالتا: إنه رجل أعمى يا رسول الله! قال: أفعمياوان أنتما) . ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منعهما من النظر إلى الأعمى، إلا أن هذا الحديث ضعيف الإسناد، وهو من طريق نبهان مولى أم سلمة، وهو ضعيف، هذا مجمل أدلة القائلين بمنع المرأة من النظر إلى الرجال أصلاً. وضموا إلى هذين الاستدلالين أصلاً عاماً وهو: أن النظر طريق إلى الفساد وإلى الفاحشة، فمنعه من الأصل سداً للذريعة أي: ذريعة الوصول إلى المحرم، فأصبح هناك نصان وأصل عام، ألا وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ومنه قاعدة سد الذرائع. بينما رأى فريق من أهل العلم جواز نظر المرأة إلى الرجال إذا أمنت الفتنة، ولم يكن ذلك بشهوة، واستدلوا (بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حمل عائشة ووضع خدها على خده وجعلها تنظر من شق الباب إلى الأحباش وهم يلعبون في المسجد) . واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فاطمة بنت قيس: (اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده) فرأى هذا الفريق جواز نظر المرأة إلى الرجال إذا لم يكن مع ذلك شهوة، أما إن وجدت الشهوة فيمنع، أو إن كان النظر سيولد الشهوة فيمنع كذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم.

تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم.) يقول الله سبحانه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] . قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا} [النور:32] أي: زوجوا. والمراد بالنكاح في أغلب آيات الكتاب العزيز عقد التزويج، وفي هذا عموم آيات الكتاب العزيز، إلا في مواطن ثلاثة: الموطن الأول: هو قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] فالمراد بالنكاح الحلم. الموطن الثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فالمراد بالنكاح على ما بينته السنة: الوطء الذي هو الجماع. الموطن الثالث: وفيه نزاع، وهو قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] المراد به الجماع، أي: لا يطاوعه إلى زناه وإلى الجماع معه إلا زانية أو مشركة، أما ما سوى هذه الآيات فالمراد بالنكاح عقد التزويج. قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا} [النور:32] أي: زوجوا. فالخطاب للأولياء، وبه استدل كثير من أهل العلم على وجوب الولاية في النكاح، وهناك ما هو أصرح منه سواء من الآيات أو من الأحاديث، أما من الآيات: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] أي: لا تزوجوا أيها الأولياء المشركين حتى يؤمنوا، فاستدل بها أبو جعفر الباقر على إثبات الولاية في النكاح، أما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا نكاح إلا بولي) فهذه النصوص بنى عليها جمهور العلماء وجوب الولاية في النكاح على الثيب وعلى البكر، وأما أبو حنيفة فخالف بعض المخالفة في ذلك. فعلى ذلك ما يطلق عليه اليوم بالزواج العرفي وهو: أن البنت تأتي إلى شاب في حضرة زميلين لهما كما يحدث في بعض الجامعات وتزوجه نفسه بحضرة شهود بدون ولي، فهذا النكاح باطل! باطل! قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور:32] والأيم: هو من لا زوج له من الرجال أو من النساء، أما من النساء ففي الحديث: (لما تأيمت حفصة بنت عمر من زوجها عبد الله بن خنيس) ، فالشاهد: قوله: (لما تأيمت) أي: مات عنها زوجها وأصبحت بلا زوج، فالأيم من لا زوج له من الرجال أو النساء.

الزواج سبب من أسباب الغنى

الزواج سبب من أسباب الغنى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] هذه الآية هي التي يلتمس منها أن الفضل والغنى من الزواج. أما الأحاديث الواردة في هذا الباب (تزوجوا فقراء يغنكم الله) فلا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك حديث: (اطلبوا الرزق في الزواج) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما حديث: (ثلاثة حق على الله عونهم: وذكر منهم: الناكح يريد العفاف) فحديث ثابت بإسناد حسن عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الفقراء من أصحابه، فزوج الصحابي الذي جاء وقال: (ما عندي إلا إزاري هذا يا رسول الله! أقسمه بيني وبينها نصفين) فوصل إلى هذه الدرجة من الفقر! ومع ذلك زوجه الرسول صلى الله عليه وسلم على ما معه من القرآن. قال سبحانه: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] فواهب العطاء عليم بمن يصلحه المال ممن يفسده، فينزل بقدر ما يشاء.

إشارة الآية إلى منع الاستمناء

إشارة الآية إلى منع الاستمناء ثم أرشد الله سبحانه وتعالى إلى التعفف والاستعفاف وطلب العفة لمن لم يجد النكاح: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33] أي: مؤن النكاح وتكاليفه. وفي الآية من طرف خفي إشارة إلى منع الاستمناء؛ لأن الله عز وجل أرشد إلى التعفف ولم يرشد إلى الاستمناء، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج. ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ولم يرشد إلى الاستمناء، وأصرح من ذلك في المنع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] والاستمناء من وراء ذلك. فعلى ذلك ما يفعله شرار الشباب والنساء من العبث بأنفسهم الأمر فيه كما قال الشافعي: أنه محرم. استدلالاً بالآية الكريمة: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] فجدير بمن تسول له نفسه فعل هذا أن يذكر أن الله رقيب عليه، وأن لله ملائكة تراقب ولا تفارق الشخص، فعليه أن يذكر ذلك ويستحي من الله ومن ملائكة الله سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33] ومن يستعفف يعفه الله، يعني: من سلك طريق التعفف وابتغاه أعانه الله عليه ويسره له، أما من أتبع نفسه شهواتها فيوشك أن تزل قدمه والعياذ بالله! {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33] أي: لا يجدون مؤن النكاح وتكاليفه {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] . {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور:33] أي: يطلبون الكتاب، والمراد بالكتاب المكاتبة، وهي ما تكون بين العبد وسيده، يكاتب العبد سيده، أي: يتفقان على أن يشتري العبد نفسه من سيده بمبلغ من المال، ويكتبان ذلك، ويبدأ في السعي لسداد ما عليه من الدين، فإذا انتهى المال الذي تكاتبا عليه أعتق، هذا المراد بالكتاب، أي: المكاتبة التي تكون بين العبد وبين سيده حتى يتحرر به العبد. ورب العزة يقول: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} [النور:33] أي: يطلبون المكاتبة {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33] أي: لا تتباطئوا في مكاتبتهم، فإنه قد يتباطأ السيد ويقول: لا أكاتب؛ متحكماً في رقبة عبده، فرب العزة يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33] . وهل الأمر بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33] أمر إيجاب؟ رأى ذلك بعض أهل العلم واستدلوا بما صنعه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع أنس بن مالك وعبده سيرين، أبي محمد بن سيرين فـ سيرين كان عبداً عند أنس وكان لـ سيرين مال كثير، وعلم أنه إذا مات وهو عبد عند أنس فسيأخذ أنس ماله، فأراد سيرين أن يكاتب عن نفسه، فأبى ذلك أنس، فترافعا إلى أمير المؤمنين عمر فقال لـ أنس: لتكاتبنه أو لأوجعتك ضرباً، فكاتب أنس ابن سيرين، ورب العزة يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] . قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] فيه للعلماء تأويلات: أحدها: أن المراد بالخير المال، واستدل له بأن عموم ذكر الخير في الكتاب العزيز يراد به المال، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] أي: المال. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] خيراً: مالاً. فمن العلماء من قال: إن معنى قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] أي: إن علمتم عندهم مالاً. ولا تكاتبوهم وتتركوهم يتسولون ويسرقون حتى يأتوا بالمال الذي كاتبوكم عليه، والحالة هذه فيها دفع الفساد من سرقتهم، ودفع الفساد من تسولهم، لكن إن كنتم ترون أنهم يعملون أعمالاً تدر لهم مالاً فكاتبوهم، هذا وجه في التأويل. والوجه الآخر: أن المراد بالخير الصلاح، أي: فإن كانوا أهل صلاح فكاتبوهم وأعتقوهم، فهذا هو المعنى الثاني. قوله: {وَآتُوهُمْ} [النور:33] أي: أعطوهم من مال الله الذي آتاكم، وما المراد بمال الله؟ هل المراد به الزكاة؟ أي: أن من كاتب عن نفسه قد أصبح من أهل الزكاة، فليعط منها، قال بذلك فريق من العلماء لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] هذا بند في الرقاب أي: لتحرير الرقاب، ومن العلماء من قال: يتصدق عليه صدقة عامة. {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] من العلماء من قال: تترك له الربع أو العشر فمثلاً: كاتبته على ألف جنيه فاترك له مائة أو مائتين أو ثلاثمائة إحساناً منك إليه. {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:33] والفتيات المراد بها: الإماء، فالفتاة أحياناً أو في الغالب تطلق على الشابة، والفتى يطلق على الشباب، وأحياناً يقال: فتاي أي: عبدي وفتاتي أي: أمتي، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي ولكن ليقل: فتاي وفتاتي) فالغالب أن الفتاة شابة، والفتى هو الشاب حراً كان أو عبداً لكن المراد هنا الإماء، {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} [النور:33] أي: إمائكم {عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:33] أي: على الزنا. فالبغاء هو الزنا، ومنه قول قوم مريم لمريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] أي: زانية. وهل كان هناك أحد يكره فتاته على البغاء؟ نعم. كان ذلك موجوداً. فكان السادة الذين لهم عبيد وعندهم إماء إذا أتاهم الضيف فمن الإكرام الذي يكرمونه به أن يقدموا له الإماء يزني بهن، ومنهم من كان يرسل فتياته الإماء ليزنين بالإكراه، إكراه منه لهن حتى يتقاضى الأجور من ورائهن، كـ عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كان عنده إماء، وكان يكرههن على الزنا تشرفاً بذلك عند أضيافه، وطلباً للمال من الذين يستأجرونهن. فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] المراد بالتحصن هنا: العفة، فهنا يطرح Q إذا لم ترد المرأة تحصناً هل له أن أكرهها؟ فالإجابة: أن قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] خرج مخرج الغالب، فإذا لم تكن هي مريدة للتحصن فلا وجه للإكراه، إذا كانت هي زانية فهي ستزني باختياره واختيارها فانتفى الإكراه، وهذا ليس مباحاً بل حرام، لكن هذا وجه قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] فإنها خرجت مخرج الغالب. قال سبحانه: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] أي: عفة وطهارة وامتناعاً من الزنا. {لِتَبْتَغُوا} [النور:33] أي: لتطلبوا {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: متاع الحياة الدنيا، وقيل له عرض لأنه كالجملة الاعتراضية بين الجمل من الممكن أن تقوم الجمل بدونها، وكذلك الدنيا عرض زائل، كما قال القائل: (الدنيا ظل زائل) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب استظل بظل شجرة ثم قام وتركها) . {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيها وجهان: أحدهما: غفور رحيم للفتاة إذا أكرهت، فتكون الآية من آيات رفع الحرج عن العباد. والوجه الثاني: غفور رحيم لمن أكرههن ثم تاب من هذه الفعلة بعد نزول الآية، ففيها الوجهان. {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] : هل هناك فرق بين الرجل إذا أكره على الزنا، وبين المرأة إذا أكرهت على الزنا؟ فرق بينهما، فالمرأة قد تكره على الزنا وتزني رغماً عنها، بأن يتسلط عليها شرار المفسدين وتزني رغماً عنها، أما الرجل فلا ينتشر ذكره إلا إذا أراد هو من داخله ذلك، أي: لا يستطيع أحد أن يكره الرجل على أن ينتشر ذكره للجماع، هذا وجه التفريق. فمن العلماء من قال: لا يلتمس للرجل عذر في أنه أكره على الزنا، ومنهم من قال: إذا كان العذر قد التمس له إذا نطق بكلمة الكفر فلأن يلتمس له عند الزنا من باب أولى، وهناك تفريقات محلها كتب الفقه. {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:34] واضحات ظاهرات مزيلات للإشكال، {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34] والموعظة هي الشيء الزاجر الذي يزجر الشخص ويخوفه.

الحث على النكاح في نصوص القرآن والسنة

الحث على النكاح في نصوص القرآن والسنة {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور:32] أي: زوجوا من لا زوج له، فيؤخذ منه إما الاستحباب وإما الوجوب، إذ الأمر في الغالب إما للإيجاب أو للندب، أو للإباحة في بعض الأحيان، فهل النكاح واجب أو مستحب أو مباح؟ من العلماء من قال: تنسحب عليه الأحكام الخمسة، فيجب إذا كان الشخص سيفتن في دينه إذا لم يتزوج، فحينئذٍ يجب عليه الزواج، سداً للذريعة الموصلة للفساد، وأحياناً يستحب، والأصل في هذا الباب أن الأمر بالنكاح محمول على أنه مستحب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) ولقول عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] ولقول زكريا عليه الصلاة والسلام: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. ، منها: ولد صالح يدعو له) . ولقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] ولقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] . ولأن النكاح سنة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظغون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) ، ولقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (تزوجوا فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءا) ، ولقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يبق من حياتي إلا ليلة لأحببت أن يكون لي فيها زوجة) . فكل هذه النصوص تدفع في نحر من قال إن ترك الزواج أولى، ويستدلون ببعض الأفعال مع السلف لهم فيها أحوال خاصة، ويجعلونها أصولاً، والأصل دائماً مع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا معنى لبرود شخص يقول: إن ترك النكاح أولى ويتشبث بخيوط أوهى من خيوط العنكبوت، فخير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما العلماء الذين قالوا: إنه مباح فقط، فقالوا: إن شأن النكاح شأن الأكل والشرب والتلذذ بهما، فكما أن للشخص أن يأكل ويشرب ويتلذذ بالأكل والشرب، فله هذا أيضاً مع النكاح إن شاء ترك وإن شاء فعل، لكن النصوص الواردة: (إني مكاثر بكم الأمم) وجمعه صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة عنده، كل هذا يؤيد الاستحباب. {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] فيها نص على استحباب تزويج أهل الصلاح. : {مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] أي: من العبيد، وقد وردت قراءة فيها ذلك (من عبيدكم) لكن الأصح: {مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] والمراد بها العبيد. {وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] الإماء: جمع أمة وهي المملوكة، أي: زوجوا العبيد والمماليك، وهل للثيب أن يزوج عبده ويجبره على الزواج؟ قال جمهور العلماء بذلك، وخالف في هذا فريق من العلماء وقالوا: ليس للثيب من مملوكه إلا الخدمة على ما ورد في الأحاديث، وهل له أن يزوج أمته؟ فقال الجمهور: له أن يزوج أمته ويجبرها على الزواج؛ لأن له فيها حق الصداق.

تفسير قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض) {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] من العلماء من قال: أي منور السماوات والأرض، وفيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وفي الحديث: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ... ) الحديث. وفي الباب قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر:69] . {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] ثم ضرب لنوره مثلاً، والأمثال يتجوز فيها بعض التجوز عند المفسرين، فلا يلزم أن يتحد المفسرون على وجه واحد في تفسير المثل، بل في هذا الباب فسحة لأهل التفسير ما لم يخالفوا نصاً شرعياً أو أصلاً من الأصول في الكتاب والسنة، فلهم فسحة في تفسير الأمثال وتقريبها إلى الأذهان، والله أعلم. ورب العزة يقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وكان بعض السلف إذا مر به مثل من الكتاب العزيز ولم يفهمه يتأسف على نفسه ويقول: إن الله عز وجل قال في كتابه الكريم: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] فعلى ذلك ليس هو من العالمين إذا لم يفهم المثل. {مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] قال بعض العلماء: هنا مضمر، والتقدير: مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح، والمشكاة باتفاق المفسرين على ما ذكره عدد منهم هي الطاقة التي في الغرفة: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] فعندنا الآن غرفة فيها طاقة، والطاقة فيها زجاجة مصباح، عندنا ثلاثة أشياء أو أربعة، غرفة بداخلها طاقة أي: كوة كالتي كانت من قبل في بيوت أهل القرى، هذه الطاقة فيها زجاجة، الزجاجة زجاجة مصباح وبداخلها المصباح، وفتيلة مصباح موضوعة في الزجاجة. {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] المشكاة مثل لها بعض العلماء بصدر العبد، والزجاجة التي بداخل المشكاة هي قلب العبد، ونور المصباح هو نور الإيمان الذي في القلب، هذا تفسير بعض أهل العلم، وهو مضمون تفسير ابن القيم رحمه الله تعالى، في تفسيره القيم وفي غيره. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة النور [35-47]

تفسير سورة النور [35-47] لقد وصف الله سبحانه وتعالى قلب المؤمن وشبهه بالزجاجة، من حيث الرقة والبياض والصلابة، فالمؤمن ذو قلب رقيق رحيم بإخوانه المؤمنين، وذو قلب أبيض نقي من الغل والحسد والحقد وغيرها، وذو قلب صلب شديد على الكفار من يهود ونصارى ومنافقين ومشركين وغيرهم من أعداء الله، وعلى المؤمن أن يعلم أن القلب يصدأ ويصاب بالران بسبب الذنوب والآثام التي يرتكبها، فعليه حينئذ أن يقوم بمعالجة قلبه، وتنظيفه من تلك الشوائب، وذلك بالتوبة والاستغفار والمسارعة بفعل الطاعات والخيرات، وكذلك بترك المنكرات والموبقات. ولقد وصف الله أصحاب هذه القلوب البيضاء بأنهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن الحامل لهم على ذلك هو خوفهم من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهو يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض.

تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] . تقدم الكلام على مطلع هذه الآية بما حاصله: أن من أهل العلم من قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] أي: منور السماوات والأرض، واستدل له بقوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69] ، واستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) ، واستدل له بالأثر إن ثبت هذا الخبر: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات) ، ونحو ذلك.

حقيقة وقود المصباح المذكور في الآية

حقيقة وقود المصباح المذكور في الآية قال الله سبحانه وتعالى: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِة} [النور:35] ، ما هو وقود هذا المصباح؟ ما هو (الكيروسين) الذي يشتعل به؟ قال تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] فوصف رب العزة سبحانه شجرة الزيتون بأنها شجرة مباركة، وقد جاء ذكرها في سور أخرى من الكتاب العزيز، قال الله سبحانه: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حسنه بعض العلماء: (كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة) يعني عليه الصلاة والسلام: زيت الزيتون. وقد ذكر له الأطباء الأوائل جملة هائلة من الفوائد في التفاسير، وكذا ذكروا للتين أيضاً جملة كبيرة جداً من الفوائد، ذكرها الرازي في تفسيره عند تفسير قول الله جل ذكره: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3] . قال الله سبحانه: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] والبركة لها معنيان: أحدهما: ثبوت الخير في الشيء، يقول لك قائل مثلاً: بارك الله فيك، يعني: ثبت الله الخير فيك. ثانيهما: تطلق البركة على الازدياد والنمو، على النمو الذي هو الكثرة والازدياد، فهذان من معاني البركة، وشجرة الزيتون على هذا يرحمك الله! فيها بركة ثابتة فيها، كما قال تعالى: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور:35] والخير فيها ثابت، وقد استعمله كثير من المرضى الذين كانوا يستعملون المناظير، استعملوا زيت الزيتون وشربوه في الصباح على الريق، وأضافوا إلى ذلك بعض العسل وبعض الحبة السوداء؛ فكان سبباً في شفائهم، والله سبحانه أعلم. قال الله سبحانه: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: أنها لا تأتيها الشمس من ناحية المشرق ولا من ناحية المغرب، بل هي وسط بين ذلك، لا تتعرض مباشرة للشمس، وأهل الاختصاص يقولون: وهذا أحسن ما يكون من الزيتون، وهو الذي لا يتعرض للشمس تعرضاً مباشراً، أي: يأخذ منافع الشمس ولا تحرقه الشمس. قال الله سبحانه: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] أي: من صفاء زيتها وجودة زيتها وحسن زيتها يكاد من صفائه يشتعل ويتوهج من دون أن تمسه النار، وهذا يتنزل على قلب المؤمن الذي بداخله مادة الإيمان، إذا كان القلب أبيض، وفيه الإيمان والفطرة السليمة، يكاد هذا يتوافق مع هذا، مادة الإيمان والفطرة السليمة مع قلب أبيض، يكاد هذا الرجل يتكلم بالحكمة قبل أن يأتيه الدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا كان الشخص متخففاً من الذنوب، متخففاً من أثقالها، متخففاً من المعاصي ومظالم العباد، بداخله فطرة سليمة وإيمان يكاد ينطق بما يوافق الدليل قبل أن يأتيه الدليل من الكتاب والسنة. فإذا أتى إلى زيت الزيتون وأشعله (بالكبريت) فإنه يتوهج ويعطي أحسن الإضاءة، كذلك إذا جاءت المؤمن -الذي فطرته سليمة- الأدلةُ من الكتاب والسنة ازداد نوراً على نور، فمثلاً: عمر لفطرته السليمة وإيمانه العظيم، كان يتكلم بالحكمة قبل أن يأتيه الدليل من رسول الله، فإذا جاء الدليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم توهج هذا مع ذاك، قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى يا رسول الله! فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ) ، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أمرت نساءك بالحجاب يا رسول الله! فتنزل آية الحجاب) ، قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تقبل الفدية من أُسارى بدر يا رسول الله! فينزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] ) وهكذا تأتي موافقات عمر لربه سبحانه، يتكلم بمقتضى الدليل قبل أن يأتي الدليل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرب العزة يقول: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] ، فإذا مسته النار فتوهج فأصبح هناك: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] ، كذلك القلب المتخفف من الذنوب والآثام والمعاصي، المليء بالإيمان، إذا جاءه علم الكتاب والسنة ازداد بهاءً على بهائه، وحسناً إلى حسنه، فالله يقول: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] ، لكن هذا النور المتفضل به في الأصل هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يهدي لنوره من يشاء، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33] ، وكما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100] ، وكما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] . فهذا النور أصله من الله سبحانه وتعالى، فهو المتفضل به على العباد، ومن ثم يقول أهل الإيمان في أُخراهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يسأل ربه عز وجل هذا النور فيقول: (اللهم! اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، اللهم! أعظم لي نوراً) كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو ربه عز وجل بهذا؛ لأنه يعلم تمام العلم أن المتفضل به والواهب له هو الله سبحانه وتعالى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ذلك النور ضل) ، وهنا ليست المسألة عشوائية، لم يرش النور بدون حكمة، لكن الأمر كله يجري بتدبير الله سبحانه وتعالى، هو أعلم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية، فقد مضت سنته سبحانه وتعالى على أن فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] أي: خلقنا لجهنم أقواماً، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] تجد في الطفل من الصغر علامات الشقاوة وعلامات الكفر لائحة عليه، وآخر علامات الهدى وعلامات الشفقة والرحمة من الصغر لائحة وبادية عليه، قال سبحانه: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] ، وقوله تعالى في ختام الآية: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] لهذا الختام وجهان: الوجه الأول: أن الله عز وجل يضرب الأمثال للناس، وهو سبحانه العليم بتأويل هذا المثل، فالله سبحانه قال بعد قوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] أي: عليم بمن أول المثل تأويلاً صحيحاً، وبمن أوله تأويلاً غير صحيح، هذا وجه. الوجه الثاني: أن قوله سبحانه: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] راجع إلى قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] فالمعنى: أنه قد يتسرب إلى شخص فهم رديء ويقول: ما ذنب هذا الذي لم يهده الله لنوره حتى يعذب؟ فجاء الله بالآية الكريمة: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] أي: عليم بمن يستحق الهداية فيهديه، وعليم بمن يستحق الغواية فيغويه سبحانه وتعالى، يهب لهذا الإيمان، وهذا تزل قدمه في الكفر والعياذ بالله! {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] فلا تعترض إذاً إذا علمت ذلك.

معنى المشكاة ووجه الشبه بين قلب المؤمن والزجاجة

معنى المشكاة ووجه الشبه بين قلب المؤمن والزجاجة ثم قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] قال بعض العلماء: أي: في قلب المؤمن، {كَمِشْكَاةٍ} [النور:35] وهي: الكوة التي في الغرفة، {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] كأن هنا غرفة بها كوة، الكوة فيها زجاجة مصباح، الزجاجة بداخلها مصباح، وتقدم تأويل ذلك بما حاصله: أن الزجاجة هي قلب المؤمن، والمشكاة صدر المؤمن، والمصباح هو نور الإيمان الذي فيه. وقدمنا أن الزجاجة التي شبه قلب المؤمن بها جمعت ثلاثة أوصاف: الوصف الأول: الرقة، لكونها زجاجة مصباح، وزجاج المصابيح رقيق. والوصف الثاني: البياض، إذ هي كالكوكب. والوصف الثالث: الصلابة، إذ هي كالدرة. فهذه ثلاثة أوصاف وصفت بها هذه الزجاجة التي يشبهها قلب المؤمن، فقلب المؤمن قلب رقيق، قلب صلب، قلب أبيض، رقيق لأهل الإيمان وللأقارب والأرحام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأهل الجنة ثلاثة: رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومؤمن) ، وقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ، فقلب المؤمن لين رقيق لأهل الإيمان والأرحام، قلب صلب في الثبات على الحق، وصلب لمجابهة أهل الشرك والنفاق. ومن صفات قلب المؤمن: أنه في الأصل قلب أبيض كزجاجة المصباح، فهي بيضاء كالكوكب.

تنظيف القلب من الذنوب والمعاصي كما تنظف زجاجة المصباح

تنظيف القلب من الذنوب والمعاصي كما تنظف زجاجة المصباح المعهود قديماً عند أمهاتنا اللواتي كن يستعملن المصابيح في الكوات، أن زجاجة المصباح يومياً تتسخ، يترسب عليها سواد، فتحتاج إلى أن تمسح وإلى أن تنظف، فكان من الورد اليومي للأمهات في الصباح أن تمسح زجاجة المصباح، تأتي بخرقة وتضع فيها بعض الماء القليل ثم تمسح بها زجاجة المصباح، كذلك قلب المؤمن يترسب عليه كل يوم سواد الذنوب، وآثار المعاصي التي لا بد وأن ترتكب، وقولنا: لا بد وأن ترتكب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم) ، لا بد وأن تذنب؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] ؛ ولقوله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً) ؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، فهذه نصوص تدل على أن العبد لا بد وأن يذنب، أما حديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فهو حديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وإن كان معناه صحيحاً. إذاً: لابد وأن تذنب النفس، هذه الذنوب ترسب على القلب سواداً، كما يترسب على زجاجة المصباح السواد، فيحتاج القلب إلى غسيل كما تحتاج زجاجة المصباح إلى غسيل، حتى تشع الضوء الذي بداخلها كاملاً إلى الكوة، والكوة تشع الضوء بدورها إلى الغرفة، أما إذا كانت زجاجة المصباح سوداء معتمة فلا يخرج منها ضوء إلى المشكاة، ولا يخرج منها ضوء إلى الغرفة، كذلك الإيمان الذي في القلب، ومعرفة الله التي بداخله، يحتاج الإيمان إلى أن يخرج من القلب إلى الجسد؛ حتى يملأ الصدر والجسد نوراً، فإذا كان العبد مذنباً فالأمر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أذنب العبد ذنباً نكتت على قلبه نكتة سوداء، فإن تاب وأقلع محيت، وإن عاد وأصر نكتت نكتة أخرى حتى يغطى القلب كله، ثم تلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، فقال: هذا هو الران الذي ذكر الله في كتابه) . فالسواد على القلب يمنع الإيمان ونور الإيمان من الخروج من القلب إلى الصدر، فتجد الصدر مظلماً، كما أن المشكاة تكون مظلمة إذا كانت الزجاجة سوداء، فتجد اليد تتحرك في ظلمة، والرجل تخطو في الظلمات، والعين تنظر في الظلمات، وهكذا يتحرك كبهيمة عمياء إذا كان القلب قد اسود من المعاصي، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة) ، وفي رواية: (إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة) ، وجاءت النصوص التي تحث على التوبة والاستغفار بكثرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا استغفر الشخص فقد غسل قلبه، فيخرج نور الإيمان منه إلى الصدر ويمتد هذا النور إلى الجوارح، فتجد الرِجْل لا تخطو إلا في طاعة الله، والعين لا تنظر إلا إلى ما يحبه الله، واليد لا تبطش إلا فيما يرضي الله، واللسان لا يتكلم إلا بما يرضي الله، وهذا النور يصاحبك في قبرك، فيأتيك عملك في صورة رجل حسن الثياب حسن الوجه، هذا النور يصاحبك عند المرور على الصراط، بحسب هذا النور وقوة الإضاءة التي معك تمر على الصراط، فمن الناس من يمر على الصراط كالريح، ومنهم أسرع كالبرق، ومنهم أقل كأجاويد الخيل، إلى آخر ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. أما إذا كان القلب مظلماً مغطىً بسواد المعصية التي لم تغسل بالتوبة، ولم تغسل بالاستغفار، ولم تغسل برد المظالم إلى أهلها؛ ففي هذا الوقت الصدر يظلم، فاليد لا تدري ماذا تصنع؟! هل تصنع خيراً أم شراًً؟ كل الجوارح كذلك، ويأتيك عملك في القبر في صورة رجل أسود الوجه، دنس الثياب، يقول لك: أنا عملك السيئ، ينطفئ نورك منك يوم القيامة والناس أحوج ما يكونون إلى هذا النور.

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع.

تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع.) ثم قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ} [النور:36] من هم الذين في بيوت؟ الذين في بيوت هم الذين تقدم ذكرهم، ووصفت قلوبهم بأنها كزجاجة المصباح الموضوع في مشكاة، فهؤلاء الذين وصفت قلوبهم بالبياض، وبالرقة لأهل الإيمان، وبالشدة على أهل الكفر، أين يتواجدون؟ أين يتواجد هؤلاء الذين هداهم الله لنوره؟ قال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ} أي: تواجدهم في بيوت، ما هي هذه البيوت؟ هي المساجد على رأي جمهور المفسرين، أي: أنك إذا سألت عنهم: أين أهل الإيمان هؤلاء؟ أين أصحاب القلوب البيضاء؟ أين أصحاب القلوب الرقيقة للمؤمنين ولذوي الأرحام؟ أين أصحاب الصلابة في الحق؟ إنهم موجودون في بيوت الله، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] قوله: (أذن) هنا بمعنى: أمر، فالمعنى: إن الله عز وجل أمر أن ترفع هذه المساجد.

الأمور التي يجوز فعلها في المساجد من أمور الدنيا

الأمور التي يجوز فعلها في المساجد من أمور الدنيا لم تبن المساجد للسباب ولا للشتائم، ولم تبن المساجد للجدل، صحيح أنه يجوز فيها بعض الأمور التي ورد الدليل بجوازها، كالتقاضي في المسجد جائز، فهذا كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه، وارتفعت أصواتهما في المسجد، فخرج إليهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا كعب! ضع من دينك هكذا، قال: فعلت يا رسول الله! وقال لـ ابن أبي حدرد: قم فاقضه) ، وبوب له العلماء بباب التقاضي والملازمة في المسجد. وكذلك يجوز ربط الأسير في المسجد، ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال في المسجد، فلا يجوز إلا ما جاء فيه الدليل، والله أعلم. {أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] وقد جاء الحث على ذكر الله بعد الصلاة وقبل الصلاة وفي الصلاة، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ} [النور:36] قال أكثر العلماء: التسبيح يطلق على الصلاة؛ وذلك لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] ، والمراد بها: صلاة الفجر وصلاة العصر، ومنه قولهم: سبحة الضحى، وقول ابن عمر: لو كنت مسبحاً -أي: مصلياً النافلة- لأتممت الفريضة في هذا السفر. فقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور:36] أي: يصلي له فيها، ولا يمتنع أن يدخل فيها التسبيح المعهود كذلك، {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] بالغدو أي: في الصباح، الآصال جمع أصيل وهو قُبيل الغروب على الراجح من أقوال العلماء، فمن العلماء من قال: صلاة العصر، وعلى هذا الأكثرون، ومنهم من قال: الآصال الظهر مع العصر، ومنهم من قال: الآصال العشي؛ لما في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] ، وهنا: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] (بالغدو) هو الغداة، فمن العلماء من حملها على العشي، فالعشي عندهم المغرب والعشاء.

بعض أحكام المساجد

بعض أحكام المساجد وما معنى: {تُرْفَعَ} ؟ أحد الأقوال في تأويلها أن (ترفع) معناها: تعظم وتمجد وتشرف، من قولهم: رفع الله قدرك، أي: شرفك الله، ورفع لك قدرك، يعني: أمر الله سبحانه بأن ترفع هذه المساجد وتعظم، وتوقر، وتحترم، فلا يكون فيها لفظ بذيء، ولا يكون فيها إثم ولا فسوق، ولا يكون فيها تخطيط للبطش بالمؤمنين والمؤمنات، هذا المعنى الأول لقوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] . وقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تؤيد هذا المعنى، فأمر عليه الصلاة والسلام بتنظيف المساجد، وكانت امرأة على عهده عليه الصلاة والسلام تقم المسجد، وأمر بتطييب المساجد، وبتبخير المساجد، ونهى عليه الصلاة والسلام عن البزاق في المساجد، ونهى مَنْ أكل ثوماً أو بصلاً أن يأتي إلى المسجد حتى لا تتأذى منه الملائكة، جملة أمور شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لصيانة هذه المساجد، فهذا الوجه الأول لقوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] . التأويل الثاني: أن معنى: {تُرْفَعَ} : تبنى وترفع جدرانها، الشاهد عليه من التنزيل: قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] ، فيرفع إبراهيم القواعد من البيت أي: يبني البيت، فعلى هذا الوجه الثاني المراد: البنيان، وقد جاءت فيه جملة نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث المتواتر: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) ، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:18] الآيات، على التأويلين: العمارة بالبناء، والعمارة بالعبادة والذكر وتلاوة القرآن. ترد بعض المباحث عند هذه الآية من ناحية التشييد الزائد للمساجد، ومن ناحية زخرفة المساجد، وعمل المآذن للمساجد، فمن ناحية زخرفة المساجد جاء في الخبر: (لتزخرفنها كما زخرفتها بنو إسرائيل) ، وجاء أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في شأن مسجده: (عريش كعريش موسى صلى الله عليه وسلم) ، وقال عمر رضي الله عنه: إياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- لما جيء إليه بخميصة لها أعلام يصلي عليها قال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي، وأتوني بأنبجانية أبي جهم بن حذيفة بن غانم) . فالزخارف في المساجد كرهها كثير جداً من العلماء، ومن العلماء من أشار إلى نوع من الترخيص في ذلك، محتجاً بما فعله بعض أمراء بني أمية، كـ عبد الملك بن مروان لما بنى مسجد دمشق، ونقل عن عمر بن عبد العزيز أنه أدخل زخارف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والأخبار تحتاج إلى تمحيص عن هؤلاء الأمراء، لكن الوارد مرفوعاً وكذا عن أمير المؤمنين عمر النهي عن الزخارف، وخير الهدي وأكمل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله سبحانه وتعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] كلمة: أذن، تأتي في الكتاب العزيز وفي السنة بعدة معانٍ، تأتي بمعنى: الإذن أي: السماح، أذنت لك أي: سمحت لك، وأذن بمعنى: أمر، {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أي: أمر الله أن ترفع، وأذن تأتي بمعنى استمع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به) يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما استمع إلى شيء كما استمع إلى نبي حسن الصوت بالقرآن يقرأ قرآناً ويتغنى به، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، لكن هنا بمعنى: أمر. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] يعني: هذه القلوب وأصحابها تواجدهم كما سمعتم في بيوت، ليسوا في مقاهٍ، ليسوا على النادي الذي يجمع شرار الخلق ويجمع سقط الناس، وليسوا على المقاهي التي تجمع الخمارين والحشاشين واللصوص، إنما تواجدهم في بيوت {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] فالمساجد بنيت لذكر الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بنيت المساجد لذكر الله وإقام الصلاة وتلاوة القرآن) ، هذا الأصل الذي بنيت له المساجد، لم تبن المساجد كي يباع فيها أو يشترى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من وجدتموه يبيع أو يشتري في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) . ومعذرة إن كنا نعيد على الأسماع هذه الأحاديث المعروفة؛ لأننا نفاجأ بين الحين والآخر أن من إخواننا من يجهل البدهيات، وهاهو بالأمس القريب أحد إخواننا تزوج، وخرج يصلي في جماعة، فجاءه أحد الإخوة الذين يحضرون معنا الدروس أحياناً وقال له: لماذا تصلي في جماعة؟ معك رخصة أن تجلس أسبوعاً تصلي في بيتك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً) ! من الذي أفادك أن معنى حديث: (أقام عندها) أي: لا يخرج أبداً من البيت، ولا يخرج إلى الصلاة؟! الحديث معناه: إذا تزوج البكر على الثيب فيقسم للبكر سبعاً، ويقسم للثيب ثلاثاً عليه الصلاة والسلام، فما أدراك؟! فالشاهد: أننا نعيد على الأسماع بعض الأحاديث -وإن كانت معلومة- حتى ينتفع بها المؤمنون، والذكرى تنفع المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.) {رِجَالٌ} [النور:37] ففيه أن المساجد مختصة بالرجال في الأصل، ومجيء النساء إليها تبع، يعني: ليس أصلاً، إنما (إن استأذنت امرأة أحدكم الخروج إلى المسجد فليأذن لها) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. وما قلت بالأمس للأخوات ليس على وجه التشريع أبداً، وأستغفر الله منه، بل مصلحة مرسلة، ونرجع عن كل شيء يخالف الكتاب والسنة. قال سبحانه وتعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37] يعني: إذا باعوا أو تاجروا لا تأخذهم التجارة ولا يأخذهم البيع والشراء ويشغلهم عن ذكر الله وإقامة الصلاة، بل هم قوم عقلاء أذكياء يعلمون أن هناك يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، فيخافون هذا اليوم، {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] ، والمراد بإقام الصلاة: إقامتها في أوقاتها، أي: صلاتها في أوقاتها بأركانها، وبالركوع والسجود، والطمأنينة فيها، {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] ، أي: يوم القيامة، {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] وما معنى هذا التقلب؟ من العلماء من قال: إن القلوب والأبصار تتقلب بين الخوف والرجاء، فتارة في موقف يوم القيامة تتقلب خائفة من هول المطلع وعظيم الموقف، وتارة تتقلب طامعة في رحمة الله سبحانه وفي فرج الله عز وجل، أحياناً تتقلب الأبصار وتدور، وأحياناً تشخص الأبصار وتركز على شيء واحد، {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] يعني: الحامل لهم على ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة خوفهم من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهذا يوم لا محالة آت، ولا شك في وقوعه أبداً، ولا يشك فيه إلا كافر.

تفسير قوله تعالى: (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا.

تفسير قوله تعالى: (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا.) {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] اللام في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ} [النور:38] من العلماء من قال: إنها لام العاقبة، ولام العاقبة من أوضح الأمثلة لها قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] ، فآل فرعون لم يلتقطوا موسى ليكون لهم عدواً وحزناً، إنما التقطوه: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] ، فكانت العاقبة أنه كان لهم عدواً وحزناً، فسميت اللام في قوله تعالى: ((لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)) [القصص:8] لام العاقبة. فهنا قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} [النور:38] أي: هم صلوا وآتوا الزكاة وذكروا الله في المساجد لتكون عاقبتهم {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] يعني: يعطيهم الله سبحانه وتعالى على أفضل الأعمال التي عملوها. وما المراد بقوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] ؟ من العلماء من قال: إن المراد بأحسن ما عملوا: الحسنات، فالله يجازيهم بالحسنات ويكفر عنهم السيئات. ومن أهل العلم من قال: إن الله سبحانه وتعالى يجازيهم على خير الأعمال التي عملوها، يجازيهم أحسن الجزاء أو يزن لهم الأعمال على أعلى درجات الأعمال التي عملوها. والقول الأول أشهر عند المفسرين، فالمعنى عند جمهور المفسرين: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] أي: ليجزيهم الله على الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات. والمعنى الثاني حاصله: أنهم إذا كانوا عملوا أعمال برٍ على مراتب مختلفة، يرفع الله درجات أعمالهم إلى أعلى مستوى عملوه، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38] هناك جزاء على الأعمال مع التجاوز عن السيئات، وهناك زيادة من فضل الله سبحانه وتعالى، كما قال جل ذكره: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، فلهم مقابل إحسانهم الحسنى، ومع هذا المقابل لهم زيادة على الحسنى، ألا وهي كما قال جمهور المفسرين: النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، فالعبد المؤمن يجازى على إحسانه حسنات، ويزيده الله سبحانه وتعالى من فضله زيادات، وهذه الزيادات تفضل من الله سبحانه وتعالى، وكرم منه عز وجل، يتفاوت هذا الفضل من شخص إلى آخر، فإن الله تبارك وتعالى قال: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، فالحسنة بعشر أمثالها، ولكن الله سبحانه يضاعف لمن يشاء إلى سبعمائة ضعف، بل إلى أكثر من ذلك. قال سبحانه: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] ، فقد يأتي رجل يوم القيامة مرتفعاً في الدرجات مع أن أعماله قليلة، فتقول: كيف وصل هذا إلى هذه الدرجة العليا؟ فهذا {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] ، فالله يرزق من يشاء بغير حساب. كان هذا مثلاً لأهل الإيمان ومطلعه قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] أي: في قلب المؤمن على ما تقدم، فهذا الصنف انتهى ما جاء فيه إلى هذه الآية: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] ، وهم أهل الإيمان.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب.) قوم آخرون وهم أهل الكفر ضُرِبَ لهم مثلان هنا: ألا وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] ، والمثل الثاني: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40] ، وهذان المثلان في القرآن للكفار قد ضربا في سورة البقرة، ضرب لهم في أوائل سورة البقرة مثل مائي، وضرب لهم مثل ناري، وكذلك ضرب لهم المثلان في سورة الرعد، أما في سورة البقرة ففي ختام الربع الأول: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا} [البقرة:17] فهذا المثل الناري، والمثل المائي في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:19-20] ، وكذلك في سورة الرعد في قوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17] ، وهذان أيضاً مثلان هنا: المثل الأول: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] . والمثل الثاني: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور:40] . قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] ثم قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور:40] فهل هذان مثلان مضروبان لصنف واحد من الكفار أو هما صنفان من الكفار لكل صنف مثَلُهُ؟ الذي عليه كثير من المفسرين: أنهما مثلان لصنفين من الكفار، هما: الصنف الأول: الكفار الذين يعملون أعمالاً ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فهم يجتهدون في كفرهم وفي ضلالهم ويحسبون أنهم مهتدون. والثاني: الكفار الجهلة. فالمثل الأول ألا وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] والقيعة: هي المكان المستوي من الأرض، وقال البعض: إنها المكان المنخفض من الأرض، والقول الأول هو رأي كثير من المفسرين، ففي الظهيرة إذا سرت في مكان مستوٍ من الأرض فاشتد بك العطش أو لم يشتد بك العطش، ونظرت من بعيد حسبت أن هناك ماء، فإذا جئت إلى هذا المكان الذي ظننت أن به ماءً لم تجده ماءً، فالسراب هو الذي يراه الرائي من بعيد أنه ماءٌ وليس بماء، وهذا كثيراً ما يُرى في الأسفار، المسافر يرى من بعيد المكان كأنه ماء، فالله سبحانه وتعالى يمثله فيقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] . فالكافر يعمل أعمالاً ويرجو لها ثواباً، أو يظن أنه يحسن صنعاً، فإذا جاء يوم القيامة لم يجد لأعماله أي ثمرة، كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18] لا يقدرون على تحصيل شيء مما كسبوا، وكما قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104] ، فقوم اجتهدوا في طاعات وفي ظنهم أنها تقربهم من الله، ومع ذلك كان سعيهم ضالاً، وكدهم خائباً، وفعلهم طائشاً، وكما قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] . {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] ، ويا ليته لم يجده شيئاً فحسب، بل {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يوم القيامة كأنها السراب، فيقال لليهود: ماذا كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من ولد، فماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا -أو انطلقوا- فيتساقطون في جهنم، إذ هم يحسبونها شراباً، ويقال للنصارى: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم) ، فهذا مثل مضروب لليهود والنصارى الذين يجدون ويجتهدون في عبادة ربهم على ضلال، وعلى بعدٍ عن الصواب، فأعمالهم حسرات عليهم يوم القيامة، فهذا المثل مضروب لطائفة من الكفار يجتهدون في الأعمال على غير هدىً، ويظهر فضل العلم بالله سبحانه وتعالى وفضل الإيمان به في ثنايا هذه الآيات. {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] وإذا أردت أن تعلم سرعة الحساب يوم القيامة، فتخيل أن الأولين والآخرين يجمعون في صعيد واحد يوم القيامة، فلا يأتي وقت القيلولة إلا وأهل الجنة قد استقروا في جنتهم، كما قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] .

تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي.

تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي.) قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] طائفة أخرى من الكفار أعمالهم وحالهم كظلمات في بحر لجي، واللجي هو العميق الذي لا يدرى أين قعره، {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور:40] أي: يعلوه ويغطيه، كما قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] ، وكما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189] ، وكما قال تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16] . وقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40] فالبحر في نفسه عميق، والعمق يسبب ظلمة، والموج يسبب ظلمة أخرى، والموج الذي فوقه يسبب ظلمة ثالثة، والسحاب يسبب ظلمة هو الآخر، فهي ظلمات متراكبة، فالكافر عمله ظلمة، مدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، وقوله ظلمة، ومصيره والعياذ بالله! إلى الظلمات، كما قال كثير من أهل التفسير: اجتمعت عليه خمس ظلمات: عمله ظلمة، فكلام الكافر كلام بجهل كلام مظلم، وفعله فعل مظلم، ومدخله مدخل مظلم، ومخرجه مخرج مظلم، ومصيره إلى الظلمات، تلاحقه الظلمات في القبور، تلاحقه الظلمات عند الصراط، تلاحقه الظلمات في جهنم والعياذ بالله! فهذا حال الكافر، كافر جاهل كل أفعاله ظلمات، لا يدري أين يذهب!! ولا يدري أين يُذهب به!! ويلتحق به المنافق، الذي يؤتى به في قبره ويُسأل: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! سمعت الناس يقولون قولاً فقلت مثل قولهم، فرب العزة يقول في هذه الآيات: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] (يغشاه) أي: يعلوه موج، (لم يكد يراها) من شدة الظلام، أي: من لم يرد الله له الهداية فأنى تأتيه الهداية؟! وأنى يهتدي؟! {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] فانتظمت الآيات فريقين: الفريق الأول: كفار على علم وعلى عناد، كاليهود علموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقرءوا التوراة، والنصارى قرءوا الإنجيل وكفروا بالله على علم، واجتهدوا في حرب دين الله على علم وعن عمد، ويلتحق بهم أيضاً كفار علموا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجحدوها، كما قال الله فيهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] . الفريق الثاني: كفار مقلدون جاهلون.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض.) قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] لماذا صفت الطير؟ لأنها بين السماء والأرض، فكل دابة تدب على الأرض تسبح، وكل ما درج في السماوات يسبح، والطير أثناء صفها لأجنحتها تسبح، قال الله سبحانه: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] ، وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41] هل (مَنْ) هنا تحمل على العاقل فقط أو هي عامة؟ كثير من العلماء جنح إلى التعميم مستدلاً بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، فاستدل بهذه الآية على أن الجمادات تسبح وتذكر الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] واستدل قائل هذا القول بأدلة منها: حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ) ، وبحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الصحيح: (وكنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) ، وحديث: (حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) . أما الدواب فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نقيق الضفادع تسبيح) ، وقد أتى الجمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه صاحبه، وأنه يجيعه، وقد جاءت الشجرة تشق طريقها حتى وقفت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والأدلة في هذا الباب كثيرة، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] ، فاستدل بهذه الأدلة على تسبيح الجمادات لله سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} [النور:41] الرؤيا هنا المراد بها: العلم عند فريق من أهل العلم، فالمعنى: ألم تعلم أن الله يسبح له من في السماوات، وهم الملائكة. وقوله: يسبح، ما المراد به هنا؟ من العلماء من قال: يراد بالتسبيح: التمجيد المضمن في قولنا: سبحان الله. ومن العلماء من قال: إن المراد بالتسبيح: الصلاة، ودل على التفريق قوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] . {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41] والطير تسبح وهي صافات، وقد قال تعالى في شأن نبي الله داود، {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10] أي: رجعي التسبيح معه، فهو يسبح وهي تردد التسبيح وراءه صلى الله عليه وسلم، وهذا من فضائل نبي الله داود، {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] فكانت الطيور إذا سبح داود تسبح معه، والجبال إذا سبح داود تسبح معه صلى الله عليه وسلم. {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] أي: صافات أجنحتها كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:19] أي: تصفُّ أجنحتها، وتقبض الأجنحة، {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] كل قد عرف الطريق التي يصلي بها ويسبح بها لله سبحانه وتعالى، {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] فعلم الله سبحانه لم يقف على علم ما تصنعه أنت فقط، ولا على ما صنعه الأولون والآخرون فقط من الثقلين، وهم الإنس والجن، بل كما قال تعالى: {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] . {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42] .

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحابا.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً.) وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43] قوله: (يزجي) أي: يسوق، والإزجاء هو السوق، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] (يؤلف) يعني: يجمع، فالله سبحانه وتعالى يسير السحاب، ثم يجمع بينه أي: يضم بعضه إلى بعض، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] أي: يجمع بينه، ومنه قولهم للمؤلف: مؤلف؛ لأنه يجمع بين الأخبار التي في موضوع واحد، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] فالتأليف يطلق على الجمع أيضاً، كقوله تعالى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ} [الأنفال:63] أي: ما جمعت، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43] أي: متراكماً بعضه فوق بعض، كما قال سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أي: بعضه يعلو بعضاً. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43] يعني: أولاً يسير السحاب، ثم يجمع بينه، ثم يعلو بعضه بعضاً بإذن الله، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43] و (الودق) : هو المطر عند الجمهور، ومن أهل العلم من قال: إن المراد به الرعد، لكن جمهور العلماء على أن (الودق) هو المطر، {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43] أي: من بينه، {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] ، وأنت إذا ركبت الطائرة ونظرت إلى السحاب أسفل منك وجدته تماماً كالجبال بعضه يعلو بعض، وتحصل فيه منخفضات ومرتفعات كالجبال تماماً.

سوق السحاب وتصريفه وتسخيره دال على عظمة الخالق سبحانه

سوق السحاب وتصريفه وتسخيره دال على عظمة الخالق سبحانه قال سبحانه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] ، فالذي يسوق السحاب هو الله، والذي يصرفه عن الخلق هو الله سبحانه وتعالى، ومن ثم وصف السحاب في آيات أخرى بأنه مسخر قال سبحانه: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164] ، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم -ويا ليت عاملاً يعمل به-: (بينما رجل كان يمشي إذ سمع صوتاً من فوقه يقول لسحابة: اسقي أرض فلان بن فلان! فتعجب لما سمع هذا الصوت! فمشى مع السحابة، كلما اتجهت إلى مكان اتجه معها، فوجدها قد جاءت إلى منتصف الأراضي، وأفرغت ماءها في أرضٍ ما، فجاء وصاحب الأرض يحول الماء بمسحاته، فسأله: ما اسمك؟ قال: اسمي فلان، للذي سمع في السحابة، فقال: أخبرني بالذي تصنع في أرضك فإني سمعت صوتاً يقول: اسقي أرض فلان، فقال: إني أعمد إلى ما يخرج من الأرض فأجزئه ثلاثة أجزاء: أعطي ثلثاًً للفقراء، وثلثاً لعيالي، وثلثاً أرده في الأرض مرة ثانية) أي: تكاليف الزراعة، فانظر كيف بارك الله سبحانه له!!

الأسباب الجالبة للرزق

الأسباب الجالبة للرزق كيف تصبح ثرياً من الأثرياء، وغنياً من الأغنياء، بأمور ذكرها الله في كتابه وذكرها صلى الله عليه وسلم في سنته؟ احفظها بالدليل إذا أردت أن يوسع الله عليك، وكن موقناً بسعة الرزق، فالله لا يخلف الميعاد، من هذه الأمور التي بها تصبح ثرياً ويبتعد عنك شبح الفقر بإذن الله: الأول: الإكثار من الاستغفار، قال الله سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود:3] ، وقال نوح لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10-12] . الثاني من الأمور التي بها تصبح ثرياً كبيراً من الأثرياء: الإنفاق في وجوه البر، قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً) ، وقال الله في الحديث القدسي: (ابن آدم أَنفق أُنفق عليك) . الثالث: إذا أردت أن تصبح ثرياً صل الأرحام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) . الرابع: شكر نعمة الله، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] . الخامس: تقوى الله وترك المحارم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] فهذه أسباب سعة الرزق، والبركة في الرزق، فافعلها تصبح ثرياً من الأثرياء فهي أسباب مضمونة. ولكن كما هو معلوم أن الشخص إذا ذهب إلى طبيب يعالجه، فوصف لك الطبيب جرعة من الدواء، زجاجة دواء، وقال: اشربها جميعها على فترات، فإذا شربت منها ملعقة وتركت لم تشف، أما الشفاء فبإذن الله ثم بشربها كاملة، كذلك في شأن هذه الأسباب، لا تستغفر مرة أو مرتين، ولا تشكر مرة أو مرتين، ولكن واصل الذكر، وواصل الشكر، وواصل صلة الأرحام، وواصل الإنفاق على الفقراء، فكل هذه المواصلة سبب أكيد ومضمون في سعة رزق الله لك، فليعقلها من أراد لنفسه الثراء، والله سبحانه خير الرازقين. قال تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] قوله: (سنا) المراد به هنا: الضوء، {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] لشدته.

تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار.

تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار.) وقوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور:44] يأخذ من طول هذا فيزيد في هذا، ويأخذ من طول هذا فيزيد في ذاك، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور:44] ، ويقلب الله سبحانه وتعالى أيضاً الأحوال في الليل والنهار، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالعصر، وما المراد بالعصر؟ للعلماء في تأويل العصر تسعة أقوال: الأول: أن المراد بالعصر: الدهر كله، أي: الزمن الذي تقع فيه حركات بني آدم. الثاني: أن المراد بالعصر: جزء من الزمن، فمنهم من قال: هو زمن محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هو عمر الإنسان، ومنهم من قال: هو العشي، ومنهم من قال: من وقت الزوال إلى العشي، وفريق قال: إنه وقت صلاة العصر، وفريق قال: هو صلاة العصر نفسها، إلى آخر الأقوال. الشاهد: لماذا أقسم الله بالعصر؟ قال كثير من أهل العلم: أقسم الله بالعصر؛ لأن الأحوال تتقلب فيه، هذا اليوم يكون المرءُ غنياً آمناً معافىً في بدنه، وهو بالغد القريب فقيراً فقراً مدقعاً، خائفاً خوفاً شديداً، مبتلىً في جسده، وعكس ذلك كذلك، فالله يقلب الأيام، ويقلب الأحوال سبحانه وتعالى، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44] ، وليس المراد بالأبصار هنا: العيون، إنما المراد بها: البصيرة التي يبصر بها الشخص، التي هي قلبه وعقله الذي يعقل به.

تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء.

تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء.) وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] ، ما المراد بالماء؟ هل المراد به المني كما هو رأي كثير من أهل العلم أو المراد به الماء الذي يبشر به الناس؟ كلاهما له وجهه، فالماء الذي خلق منه الإنسان ذكره الله سبحانه في قوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:6-7] ، وقوله: (خلق من ماء دافق) أي: مدفوق، وهو المني الذي يخرج من بين الصلب والترائب، وهذا هو الأوجه، والله سبحانه وتعالى أعلم. {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} [النور:45] ، والدابة هي التي تدب على الأرض، فخرج من ذلك الملائكة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خُلقت الملائكة من نور) ، خرج من ذلك أيضاً آدم صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل خلقه من طين، لكن قد يقول قائل: إن آدم خُلق من ماء، كما قال سبحانه: {خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11] وقوله: (من طين لازب) أي: تراب خلط بالماء فأصبح طيناً ثم تُرك حتى أنتن وتغيّر، فهذا يؤيد الوجه الثاني. فالشاهد: أن الدابة ما يدب على الأرض، وألحق بها العلماء ما يسبح في البحر، والله أعلم. الله جل ذكره يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور:45] ، من الذي يمشي على بطنه: الحيات، الثعابين، وسائر الزواحف، وقد وردت أخبار موضوعة تالفة الأسانيد فيها أن الحيات كانت من أحسن الدواب خلقاً، ثم لما طرد إبليس من الجنة دخل في بطن الحية ودخل معها الجنة فمسخت إلى هذه الصورة وأصبحت من الزواحف، وهذه أخبار تالفة، لا يثبت منها شيء عن المعصوم عليه الصلاة والسلام. {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور:45] كابن آدم وكالطيور، وأحسنها من يمشي على رجلين، فإن الله قال في شأن الإنسان: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] أي: معتدل القامة، أما غيره فيضرب بوجهه إلى الأرض، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور:45] كالأبقار والأغنام والإبل، وغيرها من الحيوانات، قال سبحانه: ((يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45] .

تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات.

تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات.) يقول الله سبحانه: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46] ، في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46] دليل على أن أمر الهداية موكول إلى الله سبحانه وتعالى، فالمهدي من هداه الله، والضال من أضله الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] ، ففي هذه الآية رد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان يختار فعل نفسه، ويتصرف كيفما شاء. فالإجابة عليهم: أن الله هو الذي يهدي من يشاء، وقد أسلفنا أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، ففي هذه الآية دليل على أن المهدي من هداه الله سبحانه وتعالى، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46] ، وقوله: (صراط) أي: طريق.

تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا.

تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا.) قال سبحانه: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] ، من هم الذين يقولون؟ هم أهل النفاق، بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] ، أما على العموم فالذين يقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] كل أهل الإيمان، لكن المراد بهم في هذه الآية أهل النفاق. أما دليل كون أهل الإيمان يقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] ، ففي أواخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] ، فهذا دليل على أن أهل الإيمان قالوا: سمعنا وأطعنا، وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) ، لكن المراد بالقائلين هنا في هذه الآية: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] هم أهل النفاق لما أفاده ختام الآية، فختام الآية بين أن القائلين هم أهل النفاق. {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] ، أطعنا الله وأطعنا الرسول، {ثُمَّ يَتَوَلَّى} [النور:47] أي: يعرض، {فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] ، فإن المعرضين ليسوا بمؤمنين. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة النور [48-64]

تفسير سورة النور [48-64] هناك فرق واضح وبون شاسع بين موقف المؤمنين وموقف المنافقين عند تحاكمهم إلى شرع رب العالمين، فموقف أهل الإيمان السمع والطاعة والإذعان، وموقف أهل النفاق الإعراض والنشوز والعصيان، ويتخذون من الأيمان الكاذبة الفاجرة وسيلة لخداع المؤمنين. ولقد وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والتمكين إن قاموا بما أمرهم الله به حق القيام. وقد تناولت هذه الآيات الآداب والأحكام المتعلقة بالاستئذان داخل المحيط الأسري.

إعراض المنافقين عن التحاكم إلى شرع رب العالمين

إعراض المنافقين عن التحاكم إلى شرع رب العالمين باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يقول الله سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] ، فهذا دليل على أن أهل الإيمان قالوا: سمعنا وأطعنا، وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] ) ، لكن المراد بالقائلين هنا في هذه الآية: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] : هم أهل النفاق لما أفاده ختام الآية، فختام الآية بينت أن المراد بالقائلين هم أهل النفاق. {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] أطعنا الله وأطعنا الرسول، {ثُمَّ يَتَوَلَّى} [النور:47] أي: يعرض، {فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] فإن المعرضين ليسوا بمؤمنين. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور:48] إذا حلت بهم نازلة، فقيل لهم: هلم نتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهلم نتحاكم إلى الشرع، {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] ، كما تقول للناس الآن: هيا -يا معشر الناس- نتحاكم إلى كتاب الله، ونتحاكم إلى سنة رسول الله، فيأبون عليك ذلك أشد الإباء، ويتحاكمون إلى قوانين كفرية جاءتهم من بلاد اليونان، وجاءتهم من بلاد الفرنجة، ومن بلاد الكفار، فهذا شأن أهل النفاق، بألسنتهم يقولون: آمنا بالله وبالرسول، بألسنتهم يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإذا قيل لهم: هلم نتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فريق منهم معرضون. وشأنهم ذكر أيضاً في سورة النساء قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60-61] ، فهذا شأن أهل النفاق، شأنهم الإعراض عن التحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] ، لماذا لم يثن الضمير المفرد هنا (ليحكم) ، ولم يقل (ليحكما) ؟ ذلك لأن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حكم الله سبحانه وتعالى، فهو حكم واحد إذاً، كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62] ، ولم يقل: (أحق أن يرضوهما) ؛ فإن رضا رسول الله من رضا الله سبحانه وتعالى، وطاعة رسول الله من طاعة الله عز وجل. {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طائعين، وهذا شأن كثير من أهل النفاق الآن، فهم في الأصل لا يتحاكمون إلى الكتاب ولا إلى السنة، لكن إن أرادوا تشريعاً جديداً أو شيئاً جديداً ووجدوا لهم متنفساً في الكتاب والسنة طفق علماؤهم يرفعون الآيات ويرفعون الرايات! فمثلاً: عندما تصالحوا مع اليهود إذا بالأيادي ترفع: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61] ، فإذا وجدوا أي شيء من الكتاب والسنة يشهد لأفعالهم تمسكوا به مع بعدهم عن كتاب الله جملة وتفصيلاً. قال سبحانه: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم فيه، ((مُذْعِنِينَ)) أي: طائعين خاضعين. {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [النور:50] ، ما الحامل لهم على الإعراض عن التحاكم إلى الله ورسوله؟ هل هو مرض في قلوبهم؟ ((أَفِي)) الهمزة الاستفهامية هنا المراد منها: التوبيخ. {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} [النور:50] أي: هل شكوا. {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] أي: خافوا أن يظلمهم الله أو يظلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا كان ذلك فالله ورسوله لا يظلمان الناس {بََلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50] . ومن العلماء من قال: إن (أم) في قوله تعالى: {أَمِ ارْتَابُوا} بمعنى: بل، فعلى هذا يكون السياق تأويله كالتالي: أفي قلوبهم مرض: شك وكفر ونفاق، بل ارتابوا، بل يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، وتكون بل بمعنى الواو، {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} الارتياب هو: الشك، {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ} أي: يظلم، {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50] .

موقف المؤمنين عند التحاكم إلى شرع الله

موقف المؤمنين عند التحاكم إلى شرع الله {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] ، سواءً كان لهم الحق أو كان عليهم، شأنهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، فعلى ذلك: أي شخص يُدعى إلى الكتاب والسنة ليحكم فيه، فعليه وجوباً -وليس مخيراً في ذلك- أن يذعن لحكم الله ولحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن بعض الإخوة أحياناً يقدم رأيه على نصوص الكتاب وهو لا يشعر، فبالأمس القريب حدثت مشكلة بين الإخوة في المحل، أحدهم طلق زوجته وهي ما زالت في العدة، فجاء وراجعها قبل انتهاء العدة بيوم أو يومين أو ثلاثة، فإذا بإخواننا يغضبون، وكلهم يقفون ويقولون: لا ترجع إليه! لماذا ورب العزة يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] ؟ أي: في العدة، {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] ؟ فلا قول مع قول الله، وهي ما دامت في العدة فهي ما زالت زوجة لمن طلقها إذا كان الطلاق رجعياً، ولا يحل لها هي بنفسها أن تقول: لا أرجع له، ولكن أحياناً الهوى يعصف بالدليل عند كثير من الناس. قال الله سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] ، وليس سمعنا وأطعنا فقط، بل سمعنا وأطعنا وقلوبهم بذلك راضية، قال الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] ، وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، فليس فقط أنك ترضى في الظاهر بحكم الكتاب والسنة، لكن أيضاً قلبك يكون مطمئناً راضياً، قال سبحانه: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، فهذا الواجب أمام حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليك أن تسمع وأن تطيع، ويكون قلبك من الداخل راضياً بحكم الله، وراضياً من الداخل بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورب العزة يقسم على هذا، والمسائل التي يقسم فيها الرب قليلة، والقسم فيها دل على أهميتها، فرب العزة يقسم على قيام الساعة لأهمية الساعة: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] ، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] ، وقال هنا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ليس ذلك فقط، بل {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، هذا هو الإيمان النابع عن رضا من القلب، وعن سمع وطاعة في الظاهر والباطن. قال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وإنما تفيد الحصر، أي: ليس لهم قول إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] والمفلحون: هم الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب، الرجل المفلح: هو الرجل الذي فاز بما يطلب، ونجا مما يرهب، فهو يطلب الجنة ويرهب من النار، فهذا غاية مراد أهل الإيمان. {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] . {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} يتقي ما يجلب له العذاب كذلك {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .

اتخاذ المنافقين الأيمان وسيلة للخداع والتمويه

اتخاذ المنافقين الأيمان وسيلة للخداع والتمويه وقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [النور:53] أي: أهل النفاق، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور:53] يعني: أنهم بالغوا في الأيمان وأكدوا الأيمان. {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:53] أقسموا واجتهدوا في اليمين لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن معك. {قُلْ لا تُقْسِمُوا} [النور:53] أي: كفانا من أيمانكم، فإنكم كما قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة:16] ، وكما قال تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96] . {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] في تأويل قوله تعالى: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} قولان: القول الأول: خير لكم من القسم أن تطيعوا الله عز وجل، وتطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة ظاهرة، أي: امتثلوا الأمر إذا طلب منكم فقط، لا نريد منكم إلا أنكم إذا أمرتم بأمر فامتثلوا له. والقول الثاني: أي: طاعتكم طاعة معروفة، إنما هي غش وكذب، كما يعدك شخص ميعاداً ويقول لك: سآتيك في وقت كذا وكذا، فتقول له: مواعيدك معروفة، ما معنى مواعيدك معروفة؟ يعني: أنك تعد وتخلف، أو يهددك شخص، فتقول له: تهديدك معروف، يعني: طالما هددت لم تنفذ شيئاً، فكذلك قوله: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أي: طاعتكم التي تزعمون طاعة معروفة لدينا إنما هي أكاذيب ووعود مخلفة، طاعتكم طاعة معروفة، أي: ليس لكم طاعة، وليس لكم عهد، وليس لكم ميثاق. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53] . وهذه الآية أفادت: أن هناك أقواماً يقسمون بالله أيماناً، وهم مع قسمهم كذبة؛ لأن هؤلاء أقسموا بالله جهد أيمانهم، أقسموا وعقدوا الأيمان، والله سبحانه وتعالى قال لهم: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} ، وقال في الآية الأخرى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي: وقاية يتقون بها، وهناك أقوام يحلفون بالله كذباً، فينبغي أن يعلم المسلم ذلك، ليس كل من يحلف بالله يعتبر صادقاً، فلا تُخدعن كما خدع أبوك آدم لما أقسم له إبليس: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] ، فأقبل وأكل من الشجرة، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، إذا لدغ أبوك آدم عليه السلام وهو أعقل الخلق فلا ينبغي أن تلدغ، صحيح أن المؤمن يصدق المؤمنين في الظاهر لكن إن كان هناك من القرائن ما يدفع ذلك، فالقرينة مقدمة على اليمين. فمثلاً: إذا جاء شخص متهم بجريمة، والشهود شهدوا عليه، فحلف فإنه إذا أقيمت عليه البينة فلا اعتبار باليمين، يعني: إذا جيء بمتهم، والبينات محيطة بأنه مرتكب للجريمة، فحينئذ لا تنفع الأيمان، يقسم مهما يقسم لا اعتبار ليمينه أبداً ما دام الشهود قد قاموا بإثبات الجريمة عليه. {لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53] .

مهمة الرسول البلاغ

مهمة الرسول البلاغ {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} [النور:54] أي: ما كلف به، وهو البلاغ، قال الله سبحانه: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وقال سبحانه: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] . {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] .

تفسير قوله تعالى: (ليستخلفنهم في الأرض.

تفسير قوله تعالى: (ليستخلفنهم في الأرض.) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] أي: يجعلهم خلفاء في الأرض، ويجعلهم يملكون الأرض. من هم المعنيون بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} ؟ هل المعنيون بها فئة معينة من المؤمنين أم المعنيون بها عموم من آمن وعمل صالحاً؟ لأهل العلم قولان: أحدهما: أن المعني بها أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد وعدهم الله بذلك، ووفى لهم سبحانه وتعالى، فملكوا ملك كسرى وقيصر، وطردوا الفرس والروم، وأبدلوا دول الكفر بدول الإسلام، ودخل الناس على أيديهم في دين الله أفواجاً. القول الثاني: إن المراد عموم المؤمنين، فكل من آمن وعمل صالحاً ليستخلفنه الله في الأرض، إلا أن هذا الأخير يعكر عليه الواقع الذي نعيشه، فإن قال قائل: كيف هذا والمسلمون ضربت عليهم الذلة في هذه الأزمان؟ فالإجابة: إن عموم المسلمين الآن لا يعملون الصالحات، فخرجوا من تحت هذه الآية، إنما كما قال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، فأكثرهم ابتعد عن كتاب ربه وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وابتعد عن العمل الصالح، وإن شئت فانظر أيهما أكثر عمراناً المساجد أو ملاعب الكرة؟! وهل المحاضرات التي تبث في التلفزيونات والإذاعة أكثر أم أكثر ما يبث اللهو والمجون؟ فالإجابة: أن الأغلب لم يعملوا صالحاً، والحكم للأغلب كما هو مقرر في الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيش الكعبة) الحديث. فلهذا يقال: إن وعد الله لا يتخلف، ولكن إذا كانت الكثرة لأهل الإيمان والعمل الصالح كما كان الحال في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل سيستخلفهم، ووعده لا يتخلف سبحانه. فهذان هما التأويلان في الآية الكريمة، أحدهما: أن المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا لا إشكال في تأويل الآية، فقد أعطاهم الله سبحانه وتعالى ما وعدهم. والثاني: أن المراد عموم المؤمنين، وقد يرد إشكال وهو: انفصام الواقع عن الآية، ولماذا لم يستخلف المؤمنون الآن؟ فالإجابة: أن أكثر المسلمين الآن حادوا عن طريق الله، وحادوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخلف شرط العمل الصالح عن شرط الإيمان، والله تعالى أعلم. {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] أي: يجعلهم خلفاء في الأرض.

قدرة الله على الكافرين

قدرة الله على الكافرين {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [النور:57] معجزين أي: فائتين أو هاربين، أي: أنهم لن يفوتوا الله عز وجل، لا تظن أبداً -يا محمد- أن الذين كفروا فائتون، إنما اعلم تمام العلم أن الله قادر عليهم وعلى الانتقام منهم، وعلى الانتصار منهم. {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:57] .

وعد الله بارتفاع راية الإسلام

وعد الله بارتفاع راية الإسلام {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] أي: سيمكن الله عز وجل لهذا الدين، والدين هو: الإسلام كما في قوله تعالى -على منهج الذين يفسرون القرآن بالقرآن وهو منهج جيد-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] . {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} أي: أن راية الإسلام ستعلو، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من بيت وبر ولا مدر إلا وسيدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] ، وهذا قد كان في زمن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيكون أيضاً بين يدي الساعة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي وردت في أشراط الساعة وما يتعلق منها بالمهدي، ونزول عيسى صلى الله عليه وسلم. {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] ، فهل كان الصحابة يخافون؟ الإجابة: نعم، كان الصحابة في بداية الأمر يخافون أن يتخطفهم الناس: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال:26] . قال سبحانه: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] من كفر بعد هذا التمكين فأولئك هم الفاسقون.

العلاقة بين الصلاة والزكاة والتمكين في الأرض

العلاقة بين الصلاة والزكاة والتمكين في الأرض {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] من يربط بين الآية والتي قبلها يقول: إن من أسباب التمكين في الأرض: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ومنهم من يقول شيئاً آخر حاصله: أنك إذا مكنت عليك أن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] ، فكل من مُكن في الأرض أي نوع من التمكين عليه أن يقيم الصلاة في المكان الذي هو فيه، ويؤتي الزكاة كذلك ويحث عليها. الطبيب في المستشفى عليه أن يحث الذين تحت يده، المدير في المدرسة عليه أن يحث الذين تحت يده، كل مسئول عليه أن يحث رعيته على إقامة الصلاة وعلى إيتاء الزكاة قدر استطاعته.

المعنيون بقوله تعالى: (كما استخلف الذين من قبلهم)

المعنيون بقوله تعالى: (كما استخلف الذين من قبلهم) ومن المعنيون بقوله تعالى: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] ؟ قال جمهور المفسرين: إن المراد بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه وتعالى قال في شأنهم: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:5] ، وهم الإسرائيلون الذين كانوا يذبحون، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5-6] فأحد القولين: أن الذين استخلفوا من قبل أمة محمد هم بنو إسرائيل وكما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] . ومن المفسرين من قال -وله وجه-: إن الذين استخلفوا من قبلهم أعم من كونهم بني إسرائيل، فبنو إسرائيل صحيح أنهم استخلفوا، لكن قصر الآية عليهم غير جيد، فإن هناك من استخلف وليس من بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى، صحيح أن يوسف من أبناء إسرائيل، لكنه ليس المعني في تفسير الجمهور القائلين بأنهم الذين كانوا في زمن فرعون، ويوسف قد مكن أيضاً {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56] ، لكن الأشهر هو قول الجمهور كما سمعتم.

الآداب والأحكام المتعلقة بالاستئذان داخل البيوت

الآداب والأحكام المتعلقة بالاستئذان داخل البيوت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:58] وهذا حكم الاستئذان داخل البيوت، وقد تقدم حكم الاستئذان من خارج البيوت. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يا من آمنتم بالله، ورضيتم به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهم: العبيد والإماء. {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] ، الأولاد الصغار الذين لم يبلغوا الحلم، وبلوغ الحلم معروف إما أن يكون بالاحتلام، وإما بالإنبات، وفريق يرى أنه ببلوغ خمس عشرة سنة، فالذين أقل من هذه السن، وهم مميزون، فالآية في حقهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] أي: الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم الذين يميزون، أما الأطفال الرضع فالآية لا تتعلق بهم؛ لأنهم لا يعرفون معنى الاستئذان. {ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58] ، أي: عليكم -يا أهل الإيمان- أن تعلموا أولادكم المميزين الاستئذان ثلاث مرات، إذا جاء الطفل يدخل على أمه وعلى أبيه في هذه الثلاثة الأوقات عليه أن يستأذن، ولا يكون الأمر فوضى، فإن الولد قد يهجم على الغرفة فيجد أمه وأباه في موضع يكرها أن يُريا فيه، فيخرج ما رأى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] في هذه الأوقات على الأم والأب أن يعلما ولدهما الاستئذان. {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} استدل بها بعض العلماء أن الشخص إذا كان في خلوة يجوز له أن تنكشف عورته شيئاً ما إذا كان لا يراه أحد، ومن العلماء من قال: الأفضل أن يستتر في الخلوة أيضاً؛ لأن الملائكة تراه، بل لأن الله سبحانه وتعالى يراه، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الله أحق أن يستحيا منه) . وقوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58] لأن هذه الأوقات الثلاثة مظنة انكشاف العورات، الرجل يدخل ينام ويخلع ثيابه، فقبيح بالأب أن يرى ولدُه عورته، وقبيح بالأم أن يرى ولدها عورتها، فهذا قبيح وإنما يفعله من لا خلاق له. {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور:58] ، في غير هذه الأوقات الثلاثة لا تشقوا على الأطفال أن يستأذنوا في كل وقت، إنما الأطفال يستأذنون في هذه الأوقات الثلاثة، أما الكبار فيستأذنون في كل وقت. في غير هذه الأوقات الثلاثة الأمر متجه إليك أن تستر عورتك، في غير الأوقات الثلاثة عليك -يا رجل- وعليك يا -امرأة- أن تستترا، لكن في الأوقات الثلاثة على الولد أن يستأذن على أبويه، وهذا منحى شرعي ينحى في عدة مسائل، فالرسول صلى الله عليه وسلم حكم أن ما أتلفته الماشية بالنهار فلا جزاء على صاحب الماشية، يعني: في النهار أنت تحرس بستانك وتحرس حقلك، فإذا جاءت الماشية واعتدت عليها يمكنك أن تطردها أنت، لكن إذا اعتدت الماشية ليلاً فأتلفت أرضاً فيعزم صاحب الماشية؛ لأنه كان ينبغي عليه أن يربطها، ولذلك يحكم في الديات الآن في بلاد السعودية: لو أن جملاً كان يمشي في الطريق وجاءت سيارة بسرعة فصدمت الجمل، ينظر في تحديد الأحكام: هل كان هذا ليلاً أو نهاراً؟ إن كان هذا نهاراً فيغرم صاحب السيارة أرشاً إن كان الجمل مجروحاً، ويغرم قيمة الجمل إذا قتل الجمل، وإن كان هذا ليلاً فيغرم صاحب الجمل الإتلافات التي في السيارة، وإن مات من في السيارة يتحمل صاحب الجمل دية الذين ماتوا؛ لأنه أرسل ماشيته ليلاً فأضرت بالعباد. فهذا المنحى الشرعي: ففي هذه الأوقات الثلاثة التي هي من حقك أنت لا يعتدى عليك، فمن حق الرجل أن يسكن مع امرأته في هذه الأوقات الثلاثة، إذا جاء الولد يدخل فعليك أن تعلمه الاستئذان، أنت لست كل وقت مع زوجتك، ففي غير هذه الأوقات الثلاثة لا تحرج على الولد إذا كان طفلاً أن يستأذن، فإن ذلك يشق عليه. قال الله سبحانه: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور:58] ، ففي غير هذه الأوقات الثلاثة: ليس عليكم ولا عليهم جناح، والمراد بالجناح: الإثم، أي: ليس عليكم ولا عليهم إثم بعدهن. {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور:58] أي: من شأن الأطفال أن يطوفوا على أبويهم، هذا يدخل عليه وهذا يخرج، فكونهم طوافين عليكم يشق على الطواف أن يطرق دوماً، فخفف عن الأطفال لهذا الغرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الهرة: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) . {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58] . {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] أي: في كل وقت. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59] من أهل العلم كـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من يقول: إن هذه من الآيات التي ترك الناس العمل بها، وهي آية محكمة في كتاب الله عز وجل لم تنسخ، كذا قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، هي وآية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ترك الناس العمل بها وقالوا: إن أكرمكم أغناكم وأوجهكم. وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] ترك الناس العمل بها، إذا جئت والناس يتقاسمون الميراث، لا أحد من الذين يتقاسمون الميراث يقول: يا جماعة! أنتم تتقاسمون عشر قطع من الإرث، هيا نتصدق منها على الفقراء، ما أظن هذا يحدث الآن، هذه من الآيات التي ترك الناس العمل بها مع أنها محكمة لم تنسخ على الصحيح، أما تعليل البعض بأن الأبواب قديماً كانت من الستور، وكان الأطفال يهجمون فيدخلون على أمهاتم وآبائهم مباشرة، أما الآن فأصبحت الأبواب لها أقفال ونحو ذلك فلا يحتاج إلى إذن، فهذا ليس بجيد أيضاً، فقد يغلق الوالد الباب وينسى أن يقفله بمفتاح، فإذا جاء الولد وفتحة رأى ما يكره، والله سبحانه وتعالى أعلم. وهذه الآية أصل في حفظ تصورات الأطفال، وإبقائها نظيفة، وهذه الآية تبين محاسن ديننا، فمن محاسن الدين: أن يبقى فكر الولد نظيفاً جميلاً يفكر فيما يرضي الله، ولا يفكر في العبث والفجور والمجون، وهذه الآية فيها إرشاد إلى أنه ينبغي أن نمنع أبناءنا من النظر إلى شاشات التلفاز وما فيها من فضائح، فمنع الله الطفل من الدخول على أمه وأبيه حتى لا يرى مناظر مكروهة، فمن ثم كل مكروه يأخذ نفس الحكم، إذا كان الطفل سيرى في شاشات التلفاز رجلاً فوق امرأة، أو الطفلة سترى في التلفاز رجلاً يقبل امرأة فنفس الحكم، فيجب أن يمنع الابن والبنت من رؤية التلفزيون، والله أعلم.

أحكام القواعد من النساء

أحكام القواعد من النساء يقول الله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60] . قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} فيه مقدر: حكمهن أنه ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة. {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} لأهل العلم أقوال في تحديد القواعد من النساء: فمنهم من قال: إن القواعد من النساء هن النساء اللواتي يئسن من المحيض. ومنهم من قال: قد تكون المرأة يئست من المحيض ومع ذلك فهي تشتهى وبها قوة، فلا تكن من القواعد. ومنهم من قال: إن القواعد من النساء هن النساء اللواتي لا يستشرفن للنكاح ولا يرجونه، أي: هي المرأة التي لا تريد النكاح ولا ترغب فيه، يعني: انقطعت حاجتها في الرجال. ومنهم من قال: هن النسوة اللاتي كبرن حتى صرن لا يُشتهين، فهذه بعض أقوال العلماء في تحديد القواعد من النساء. قال سبحانه: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي: لا يرغبن في النكاح، ولا يشتهين النكاح، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} أي: ليس عليهن إثم، فالجناح هو الإثم. {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} والمراد هنا قطعاً: بعض ثيابهن، فليس معنى (أن يضعن ثيابهن) كل الثياب، إنما المراد: أن ينزعن بعض ثيابهن، أو ثيابهن الخارجية التي هي بمثابة الجلباب، فالمرأة في الغالب ترتدي درعاً أي: قميصاً، وليس المراد به: قميص النوم، إنما ترتدي ثوباً وفوق الثوب ترتدي جلباباً، فيجوز لها أن تخلع الجلباب وتبقى بالثوب -ثوب البيت- ومعه الخمار من غير تبرج. فمن أهل العلم من قال: إن الثوب الموضوع هو الجلباب الخارجي، فمثلاً: نساؤنا يلبسن ثوباً أسود، وتحته ثوب آخر، فلا جناح عليهن إذا كن من القواعد أن يضعن ثيابهن الخارجية، ومع ذلك يحتطن، ولا يكن متبرجات بزينة، والتعفف أفضل كما لا يخفى، فإن جرير بن حازم أخرج عنه البيهقي بسند صحيح: أنه دخل على حفصة بنت سيرين وكانت من القواعد آنذاك، فرآها وهي مرتدية للنقاب والجلباب فقال لها: يا أماه يرحمك الله! ألم يقل الله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] ؟ فقالت له هذه المرأة الرشيدة: أكمل الآية، فأكملها: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] قالت: فهو إثبات النقاب. فالاستعفاف مع ذلك خير، فكما قال فريق من العلماء: إن لكل ساقطة لاقطة، فقد تكون المرأة لا تشتهى في نظرك ولا تشتهيها نفسك، ولكن ثم أنفس أخر تشتهيها وترغب فيها، فلذلك قال سبحانه: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أي: يستعففن ولا يضعن شيئاً من جلابيبهن. قال سبحانه: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ} [النور:60] التبرج: يطلق على التكشف، ويطلق على الظهور والبروز، قال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ، فأطلق عليها بروجاً لارتفاعها، قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر:16] فمن معاني التبرج: التكشف وإظهار ما خفي، فهذا من معاني التبرج. فالمرأة القاعد وإن جاز لها أن تضع جلبابها إلا أنها مع وضعها الجلباب لا تتبرج، فلا تظهر حليها مثلاً للأجانب، كالعقد الذي يكون في صدرها، والقرط الذي يكون في أذنها. {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60] سميع للأقوال، عليم بما في النيات وما في الضمائر وما في السرائر، فهو يعلم هل وضعها لثيابها لأنه يشق عليها أو تبرج منها؟ العليم بذلك هو الله سبحانه وتعالى، الله سميع لقولها إذا تكلمت، هل تريد بكلامها خضوعاً في القول، وجذباً للرجال إليها، ولفت أنظار الرجال إليها؟ عليم بنياتها وبضميرها وما تكنه نفسها {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

نوع الحرج المرفوع عن الأعمى والمريض والأعرج

نوع الحرج المرفوع عن الأعمى والمريض والأعرج وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61] ما هو الحرج؟ أسلفنا أن الحرج الإثم، فالحرج والجناح بمعنى واحد، ومن معانيه الإثم، قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور:61] الآية. فأفادت الآية أن الحرج المرفوع هو الحرج في الأكل، أما آية الفتح فالحرج المرفوع فيها هو الحرج في التخلف عن الجهاد، وهذه الآية الكريمة سبب نزولها هو ما أخرجه البزار في الزوائد: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يخرجون للغزو، ويتخلف المرضى وذوي العاهات، فيعطي الغزاة مفاتيح بيوتهم لهؤلاء الزمنى والمرضى الذين بقوا، ويرخصون لهم في الأكل من البيوت، فيتحرج هؤلاء الزمنى والمرضى من الأكل من البيوت، ويقولون: لعلهم أعطونا مفاتيح بيوتهم وأذنوا لنا في الأكل من البيوت عن غير طيب نفس، فيتحرجون من الأكل، فأنزل الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور:61] الآيات. فقال بعض العلماء: إن الحرج الموضوع هو الحرج في الأكل، ومنهم من قال: إن الأعمى كان يذهب إلى بيت السليم المعافى، فيأخذه المعافى ويذهب به إلى بيت أقارب له ليأكل عندهم، فيقول الأعمى: إنما يأخذنا إلى بيت غيره, ويستنكف من الأكل في هذا البيت. وقال آخرون: إن المبصرين والأصحاء كانوا يتحرجون من الأكل مع العميان، وتحرجهم كان على قسمين: فقسم منهم يتحرج من الأكل مع العميان تقذراً، فإذا مد الأعمى يده إلى لقمة قد لا يضبط يده ويضعها في وسط الطعام، أو تتلوث يده بالطعام فيتقذر الصحيح ويمتعض من الأكل معه. وقسم كانوا يتحرجون من الأكل مع العميان ليس للسبب المذكور، إنما يقولون في أنفسهم: قد نأكل مع العميان فتمتد أيدينا إلى طعام أفضل من الطعام الذي يأكله الأعمى لأنه لا يرى، فيمتنعون عن الأكل معهم تورعاً. فهناك طائفة تمتنع تورعاً، وطائفة تمتنع تقذراً، فهذا قول في الآية أن الحرج المرفوع في الطعام. ومن العلماء من قال: إن الحرج المرفوع عن الأعمى في الشيء الذي يفعله المبصر ولا يستطيعه الأعمى، إذا كان هناك أي شيء يُفعل بناءً على الرؤية بالنظر وتركه الأعمى، فالأعمى معذور فيه ولا يؤاخذ، وإذا كان هناك أي شيء يفعله صحيح الرجلين فالحرج مرفوع عن الأعرج في كل شيء يفعله صحيح الرجلين. فمثلاً: صحيح الرجلين يصلي وهو قائم، الأعرج لا يستطيع ذلك فيصلي وهو جالس. صحيح الرجلين يجاهد، الأعرج رجله تعوقه عن الجهاد فيرتفع عنه الحرج في الجهاد، فهذا قول أيضاً في الباب. وكذلك المريض في كل شيء يعوقه المرض ويخلفه عنه؛ لا يؤاخذ فيه. إذاً: حاصل الأقوال في الحرج المرفوع عن الأعمى والأعرج والمريض: أنه في الطعام، وأُذن لهم أن يأكلوا مع الناس، وأُذن للناس أن يأكلوا معهم، ورفع الحرج أيضاً في كل ما يتخلفون عنه بسبب العلة التي بهم. {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61] فعلى ذلك لا يؤاخذ العميان كما يؤاخذ أصحاب البصر. {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61] وهذه الآية من آيات رفع الحرج الواردة في كتاب الله.

جواز الأكل في بيوت المذكورين في الآية بحسب العرف

جواز الأكل في بيوت المذكورين في الآية بحسب العرف قال تعالى: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] ، الآية أفادت أنه يجوز لك أن تدخل هذه البيوت، وأن تأكل منها ولو لم تستأذن، لكن هل الأمر على إطلاقه أو فيه تفصيل؟ لا شك أن في الأمر تفصيل، ففرق العلماء بين الطعام الذي يقع به الحرج والطعام الذي لا يقع به الحرج، فقد يقول مثلاً: تمري موضوع في البيت في مكان عام في البيت، فلا بأس أن تأكل من هذا التمر الموضوع في البيت بدون استئذان، لكن قد تكون الأم -مثلاً- أو الأخت أو الصديق اشترى مثلاً كيلو سمن بلدي غالي الثمن، أو كيلو عسل يستعمله للعلاج ويحفظه في صندوق بعيد عن الأيدي؛ فلا تأت وتكشف الصندوق وتلتهم الكيلو العسل أو الكيلو السمن! هنا فرق قال كثير من العلماء في مثل هذه الحالة الأخيرة: يُحتاج إلى إذن. ومنهم من قال: إن المسألة مسألة عرفية، يعني الحكم فيها مردود إلى الأعراف السائدة. فمثلاً: في بلادنا إذا دخل أخوك عندك وأكل خبزاً أو أرزاً أو بطاطساً، فهي أشياء لا تؤثر في العادة في نفسية الذي أُكل عنده، أما إذا اشترى شخص مثلاً كيلو لحم -وهو يشتري في الشهر كيلو لحم- وحفظه في موطن ما، وجاء أخوه في غيابه والتهمه، لا شك أن الحكم في هذه الحالة يختلف، فقال بعض العلماء بهذا التفصيل الذي سمعتموه لعمومات أخر دلت مع الآية، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي صححه بعض أهل العلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه) ، ووضعوا للآية ضوابط. ومنهم من قال: ترجع المسألة إلى نفسية صاحب البيت، وإلى الصداقة الموجودة بين الداخل وبينه، والله سبحانه وتعالى أعلم. لكن على التقعيد يجوز لك أن تأكل ما تعارف عليه الناس من بيوت المذكورين، والله أعلم. {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61] ، الزوجة تأكل من بيت الزوج بغير إذنه؛ لأن البيت أصلاً منسوب إليها، وكما قال راوي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق مع صفية بنت حيي ليقلبها إلى بيتها، وكان بيتها قريباً من دار أسامة بن زيد كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] ، فنسب البيوت إليهن، وعليه: فالمرأة تأكل من بيت الزوج مطلقاً بغير إذن. قال سبحانه: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور:61] يعني لو أن شخصاً أمه متزوجة برجل آخر يجوز له أن يدخل عندها ويأكل. {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور:61] ، وهذا بالنسبة للقهرمان الذي هو بمعنى الخادم، في بيوت الأثرياء يضعون غرفة للطعام فيها مثلاً: الأرز والسمن وكل متعلقات البيت بكميات، ويجعلون عليها خادماً، وإذا احتاجوا شيئاً أو أمره صاحب البيت أن يعطي فلاناً شيئاً من هذا الخبز أعطاه، فالقائم على هذا الذي بيده مفاتيح هذه الأمكنة يجوز له أن يأكل منها، وهذا يتفق مع عمومات الشرع كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ولي الخادم طعام أحدكم فليناوله منه اللقمة وليناوله منه اللقمتين) ، فكما أن الخادم يقوم على حفظ طعام البيت فيجوز له أن يأكل منه. {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا} [النور:61] أي: مجتمعين {أَوْ أَشْتَاتًا} [النور:61] أي: متفرقين. إذاً: يجوز لك أن تأكل مع جماعة، ويجوز لك أن تأكل بمفردك، إلا أن التجمع على الطعام أولى (اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه) ، فالتجمع على الطعام أولى.

تفسير قوله تعالى: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم) وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] ما المراد بالبيوت هنا؟ من العلماء من قال: إن المقصود عموم البيوت، فوُجه إليه القول: هل يسن إذا دخلنا بيتاً مسكوناً فيه أناس أن نقول: السلام علينا فنسلم على أنفسنا؟ فقال قائل هذا القول: إن المعنى سلموا على إخوانكم، فإن المؤمنين كالجسد الواحد كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد،) وكما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] أي: يقتل بعضكم بعضاً، وليس المراد الانتحار، وكما قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: لا يلمز بعضكم بعضاً، وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ} [النور:12] أي: بإخوانهم، فقال قائل هذا القول: إذا دخلت بيتاً أي بيت كان فسلم على من فيه، فالمعني بالنفس: المؤمنون الذين هم داخل البيت. ومن العلماء من قال: إن المراد بالبيوت المسكونة ما تقدم في قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] وهذه الآية التي بين أيدينا في البيوت غير المسكونة، يعني: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد، فقال هذا الفريق من العلماء: قل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أي: سلم على نفسك، على ظاهر الآية. ومنهم من قال: إن هذه البيوت هي المساجد، أما كون المساجد يطلق عليه بيوت، فهذا في كتاب الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] قالوا: فإذا دخلت المسجد فسلم عند دخولك المسجد على من في المسجد، وقال آخرون أيضاً: إن المراد بالبيوت: بيوت الداخلين، إذا دخل الشخص بيته يسلم على أهله التي هي بمنزلة نفسه، وقال ابن العربي رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى أطلق البيوت ولم يقيدها، فعم ولم يخص فقال سبحانه: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} [النور:61] فأي بيوت يدخلها الشخص يسلم على من فيها، سواء كان فيها أشخاص أو لم يكن فيها أشخاص، وهذا القول بالعموم في هذا الموطن قول قوي؛ إذ ليس هناك ما يمنع التعميم، والله أعلم.

من ثمار السلام

من ثمار السلام وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً} [النور:61] أي: أن الأمر بهذه التحية إنما هو أمر من الله سبحانه وتعالى. {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً} [النور:61] وقد تقدم أن البركة: ثبوت الخير في الشيء، وتطلق البركة على النمو والازدياد، فمعنى بارك الله فيك أي: نمى الله الخير فيك، وزاد الله الخير فيك، وثبت الله الخير فيك. {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] ، تطيب بها أنفس من دخلت عليهم، فإذا دخلت على قوم فسلمت عليهم، أو إذا مررت بقوم فسلمت عليهم، طابت نفوسهم تجاهك، وارتاحت نفوسهم لحديثك، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) ، فإفشاء السلام سبب في إيجاد المحبة بين المسلمين والمسلمات، فكم من ضغينة دفنت بسبب قول: السلام عليكم، وكم من بلية تُجنبت بسبب قول: السلام عليكم، وكم من فتنة قامت واشتعلت بسبب ترك السلام! قال سبحانه: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور:61] .

تفسير قوله تعالى: (على أمر جامع)

تفسير قوله تعالى: (على أمر جامع) ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:62] أي: إنما المؤمنون الذين كمل إيمانهم. {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62] وهذا الأصل، ثم شيء آخر {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ} [النور:62] أي: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور:62] ما المراد بالأمر الجامع؟ الأمر الجامع هو الأمر الذي يجتمع الناس عليه، فعلى ذلك الأمر الجامع: هو الأمر ذو الأهمية الذي يجمع الناس. فمن ذلك مثلاً: صلاة الجمعة أمر جامع، الدعوة للجهاد والخروج إليه أمر جامع، الاجتماع لحفر الخندق أمر جامع، فهناك أمور جامعة كان يجتمع عليها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الأمر الجامع مثلاً أن يقال: هيا -يا إخوان- نحفر قواعد المسجد، فتأتي أفواج أهل الصلاح، ويستحي قوم فيدخلون في وسطهم فيبدأ العمل، فتجد قوماً يتسللون لواذاً، يهرب الواحد بعد الآخر، يتسلل ويهرب، هذا من ناحية، وهذا من ناحية أخرى، وهذا يستتر وراء هذا ويهربان، وكذلك كان الحال كما قال بعض العلماء في الجمعة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كان بعض الجالسين من أهل النفاق، هو أصلاً متبرم من الجمعة ومتبرم من الصلوات، فيتسلل هرباً، ويأتي آخر ويهرب بعده، ويأتي آخر ويستظل بهذا حتى يهربا معاً، كذلك في حفر الخندق، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفر الخندق مع أصحابه، فيأتي قوم يريدون الكيد للإسلام يتسللون لواذاً، هذا يهرب بعد هذا، وهذا يهرب بعد هذا، وهذا يظهر في الأعمال الجامعة دائماً، تجد قوماً من ضعاف الإيمان هذا ديدنهم وهذا شأنهم، ليس لهم في الخير نصيب، مثلاً يقال: هيا -يا إخوان- نكنس المسجد، تجد فئة مؤمنة تقوم وتجتهد وتتفانى في طاعة الله سبحانه وتعالى، وفئة بليدة محرومة عندها غضاضة، تهرب واحدة تلو الأخرى، فالأمر الجامع هو الأمر الذي يجتمع المسلمون عليه، ففي هذا الأمر الجامع قوم مقبلون على الخير، وقوم أهل كبر وأهل غطرسة محرومون من الخير يهربون واحداً تلو الآخر، وهذا في أعمال البر بصفة عامة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:62] أي: كاملو الإيمان {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62] ، يعني يقولون: ائذن لي -يا رسول الله- معي كذا وكذا، أما خلسة وهروباً فهذا فعل أهل النفاق، {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} ، وهذا أيضاً من الأدلة الدالة على رفع الحرج، فمع أن الأمر أمر جامع جاز للإمام أن يأذن لذوي الأعذار، قد يكون الشخص مشغولاً فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [النور:62] أي: للانصراف لمشاغلهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62] ، فإذا كان المستأذن مؤمناً بالله واليوم والآخر، فما بالك بغير المستأذن الذي يمكث يعمل فهو من باب أولى أشد إيماناً. فهنا ثلاثة أصناف: قوم بقوا في العمل مع النبي صلى الله عليه وسلم وبقوا معه في الأمر الجامع. وقوم تسللوا لواذاً. وقوم استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأعذارهم. {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62] ، ليسوا كلهم يؤذن لهم، إنما يؤذن لمن تراه أنت، وهذا موكول إلى اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي تراه محتاجاً إلى الإذن ائذن له، فهذه الآية خيرت الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعت الحرج عن الرسول أيضاً؛ لأن الرسول قد يأذن لشخص من غير أصحاب الأعذار تستر بعذر، فالله لم يقل له فأذن لأصحاب الأعذار منهم، فإن الرسول لا يعلمهم، إنما فيها أيضاً رفع الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أباح الله له أن يأذن لمن شاء منهم. {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور:62] ، فيه دليل على أن هذا الاستئذان في نفسه فيه خلل لترك العمل الجامع، فلذلك جبر هذا الخلل؟ باستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فهنا عمل خير، والناس مجتمعون عليه، فلما جاءه قوم يستأذنونه أذن لهم، فالاستئذان في نفسه قصور منهم، فيجبر هذا القصور بأن يستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62] .

تفسير قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا)

تفسير قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) وقال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] الدعاء هنا المراد به: نداء النبي صلى الله عليه وسلم لكم، يعني: إذا دعاكم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر فلا تظنوا أن دعوته لكم لهذا الأمر كدعوة غيره، يعني: إذا دعاك زيد من الناس فليست دعوة زيد لك -تعال يا فلان- كدعوة رسول الله، إنما الواجب مع رسول الله أن تسمع له وأن تطيع، ففرق بين معصيتك ومخالفتك لرسول الله وبين إجابتك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا سعيد بن المعلى يصلي فدعاه، فلم يخرج أبو سعيد من صلاته، فقال له النبي بعد أن انصرف من الصلاة: (ما منعك أن تجيب؟! قال: إني كنت في صلاة يا رسول الله! قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] ) ؟ فهذا رشح أن المراد بالدعاء في الآية: المناداة، أو الدعوة التي هي: تعال يا فلان! وقيل: إن المراد بالدعاء: دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام على الناس أو للناس، فإذا دعا الرسول على قوم أو دعا الرسول لقوم فليست دعوته كدعوة غيره عليه الصلاة والسلام، إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم انتقم من فلان، أو اللهم اغفر لفلان، فدعاؤه عليه الصلاة والسلام أو دعوته بهذا الصدد ليست كدعوة غيره عليه الصلاة والسلام. ومن العلماء قال في هذا الباب: دعوة أهل الصلاح ليست كدعوة غيرهم، فمثلاً: أنت تؤذي عبداً من عباد الله الصالحين، فدعوته عليك ليست كدعوة غيره، فهو صالح مظلوم، ويستدل لهذا المعنى بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] . ففي الآية تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، والحث على توقيره عليه الصلاة والسلام، وعلى تعظيمه صلى الله عليه وسلم، ولهذا شاهد آخر من التنزيل، وهو قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] ، فليس قول الرسول عليه الصلاة والسلام كقول غيره، ليست مناداته صلى الله عليه وسلم للناس: تعالوا أيها الناس! كدعوة غيره، وليست دعوته صلى الله عليه وسلم على الناس: اللهم افعل بهم وافعل! كدعوة غيره {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} .

تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا)

تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً) وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ} [النور:63] ، قد هنا للتحقيق أي: قد علم الله، كما قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] ، ليست على الشك، إنما هي للتحقيق {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] والتسلل: هو الهروب بخفية، تسلل فلان إلى مكان كذا وكذا، تسلل من بين الأشجار، فالتسلل هو الهروب خفية، ولاذ فلان بفلان يعني تستر به: يا من ألوذ به فيما أؤمله ويا من أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره فألوذ به من معانيها: أستتر به {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] فاللواذ: هو التستر في الهرب، يعني شخص يريد أن يهرب فيمشي خلف شخص حتى يستتر به ويهرب. مثلاً: شخص أراد أن يخرج يوم الجمعة ولكنه خائف أن يخرج مباشرة، فينظر إلى اثنين أو ثلاثة خارجين، ويجعل نفسه في وسطهم ويخرج هرباً!

عاقبة مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام

عاقبة مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] كلمة عن هنا: هل هي زائدة أو لها معنى؟ من أهل العلم من قال: عن زائدة، والمعنى: فليحذر الذين يخالفون أمره، قالوا: ولغة العرب منها أحرف زائدة، والقرآن نزل بلسان عربي مبين. ومن العلماء من قال: عن هنا بمعنى بعد، فليحذر الذين يخالفون بعد أمره، كما قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] ، على أحد الأقوال في تأويلها: أي: بعد أمر الله له بالطاعة فسق. ومنهم من قال: هنا محذوف مقدر، فالمعنى: فليحذر الذين يخالفون معرضين عن أمره، قال: فعن تضمنت الإعراض، ولكن حذف الإعراض، فليحذر الذين يخالفون معرضين عن أمره عليه الصلاة والسلام، هذه ثلاثة أقوال في الآية. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] الفتنة: الكفر، وقد تطلق الفتنة على أشياء أخر، تطلق الفتنة على: التعذيب بالنار، وتطلق الفتنة على الشرك {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161-163] . لئن فتنتني لهي بالأمس قد فتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم فقوله: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ، أي: صرف عن الدين، أو كفر وشك ونفاق في قلوبهم، وذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى أن المراد بالفتنة هنا: الشرك، وفكر قليلاً كيف أن مخالفة أمر الرسول تجلب لهم الشرك؟! ففسرها على ما ورد عنه: أن المخالفة في الأمر الصغير تجلب مخالفة في الأكبر حتى يصل الأمر والعياذ بالله إلى الشرك. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ، شك وريب وشرك في قلوبهم، وصرف لقلوبهم عن الحق إلى الباطل. {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] وجع للأبدان مؤلم موجع، أو عذاب أليم في الآخرة. {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور:64] تضمنت التهديد. {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [النور:64] كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] ، وكما تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49] . {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:64] . وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير جزء الذاريات

تفسير سورة الذاريات [1] سورة الذاريات من السور التي تتعرض لآيات الله في الكون التي توجب لمن تدبرها معرفة الله عز وجل، وتتعرض -في أولها- لما أعده الله لمن أعرض وكذب بهذه الآيات من العذاب والنكال الأليم، وتعرض أيضاً صورة مشرقة لما أعده الله للمؤمنين المتقين الصادقين في الدار الآخرة، وبيان سبب ذلك النعيم مما كانوا عليه من الطاعات.

تفسير قوله تعالى: (والذاريات ذروا)

تفسير قوله تعالى: (والذاريات ذروا) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فسورة الذاريات سورة مكية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:1-6] . أما الواو في قوله تعالى: {والذاريات} فهي واو القسم، يقسم الله سبحانه وتعالى بالذاريات، كما أقسم الله سبحانه وتعالى بالنجم في قوله: {وَالنَّجْمِ} [النجم:1] ، وكما أقسم بالسماء وبالشمس وبالقمر في جملة آيات، فالواو: هي واو القسم، وأحرف القسم ثلاثة: الواو، والباء، والتاء.

هل لله عز وجل أن يقسم بمخلوقاته

هل لله عز وجل أن يقسم بمخلوقاته فإن قال قائل: كيف يقسم الله سبحانه وتعالى بالذاريات وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بالأمانة فليس منا) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: والكعبة، بل قولوا: ورب الكعبة) ، فكيف يقسم الله سبحانه وتعالى بالذاريات؟! وهل يؤخذ من قسم الله بالذاريات، جواز القسم بغير الله، أم لا؟! فالإجابة: أن لله سبحانه أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، وليس لنا نحن أن نقسم إلا كما علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) . والذاريات: هي الأشياء التي تذرى.

أقوال العلماء في ((الذاريات))

أقوال العلماء في ((الذاريات)) وللعلماء في معنى الذاريات أقوال:- القول الأول: إنها الرياح التي تذري البخار، أي: تخرج البخار من البحار وتخرج البخار من الأنهار وترفعه إلى أعلى، أو تذريه إلى أعلى. فمن العلماء من قال: إنها الرياح تذري البخار إلى أعلى، وتذري الغبار كذلك إلى أعلى، وتذري الأشياء، بمعنى تفرقها وتنشرها وترفعها. والقول الثاني: الذاريات هن النساء اللواتي يذرين الأولاد، أي: يخرجن الأولاد متتابعين، فينشرن الأولاد في الأرض. أما: ((ذرواً)) فهي: من التذرية، أي: والذاريات يذرين الأشياء تذريةً.

تفسير قوله تعالى: (فالحاملات وقرا)

تفسير قوله تعالى: (فالحاملات وقراً) {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:2] ، والوقر: هو الحمل، كما يقال: حملني فأوقر لي راحلتي، أو حمّل راحلتي فأوقرها لي، أي: حمَّلها أقصى ما تستطيع حمله،. {فالحاملات وقراً} أي: الحاملات أقصى ما يستطاع من حمل. وعلى ذلك فمن العلماء من قال: إن الحاملات وقراً، هي: الرياح التي تحمل السحب التي أثقلتها وأوشكت أن تسقط، أو السحب التي حمّلت بالماء. ومنهم من قال: إن الحاملات: هن النساء الحوامل اللواتي أشرفن على الوضع، أو حملن حملاً ثقيلاً، كما قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189] . {فالحاملات وقراً} الوقر: هو الحمل، أوقر لي راحلتي، أي: أتم حملها، والمعنى: فالحاملات حملاً ثقيلاً.

تفسير قوله تعالى: (فالجاريات يسرا)

تفسير قوله تعالى: (فالجاريات يسرا) {فالجاريات يسراً} أي: الجاريات بسهولة وبيسر، وما هي هذه الجاريات بسهولة وبيسر؟ قال بعض العلماء: إنها السحب تجري جرياً سهلاً يسيراً. ومنهم من قال: هي الكواكب التي تسير سيراً سهلاً يسيراً. ومن العلماء من قال: إن الجاريات هي السفن، بدليل قول الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32] ، وبدليل قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] . فمن أهل العلم من قال: إن الجاريات هي السحب تجري بما تحمله. ومنهم من قال: إن الجاريات هي السفن تجري بسهولة ويسر. ومنهم من قال: إن الجاريات هي الكواكب والنجوم التي تجري. ومنهم من أضاف الشمس والقمر، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] .

تفسير قوله تعالى: (فالمقسمات أمرا)

تفسير قوله تعالى: (فالمقسمات أمراً) ثم قال سبحانه: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4] ، للعلماء أيضاً فيها أقوال: القول الأول: إنها الرياح التي تقسم الأرزاق على العباد بإذن الله، فالرياح تأتي بالمطر تسقطه في مكان، كما قال تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] ، فمن العلماء من قال: إن المقسمات أمراً هي الرياح تقسم الأرزاق بأمر الله وبإذن الله، أي: تقسم الأمطار التي تأتي منها الأرزاق بإذن الله. القول الثاني: إن المقسمات أمراً هي الملائكة التي تقسم الأرزاق على العباد بأمر الله سبحانه وتعالى. إذاً مما ظهر يبدو أن للعلماء قولاً مطرداً في هذه الكلمات الأربع: والذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسمات، فمن العلماء من حملها كلها على شيء واحد ألا وهي الرياح، فقال: إن الذاريات: هي الرياح تذري البخار، ثم تضمه بعضه إلى بعض فيحمل بالسحب، ثم تجري بالسحب بإذن الله، ثم تنزله في المكان الذي أراده الله سبحانه. ومن العلماء من قال: الجاريات والحاملات هن النساء الحوامل. {فالجاريات يسراً} كل ما جرى بتيسير الله سبحانه، سواءً كان الشمس أو القمر أو النجوم أو الرياح، أو كل شيء يجري بأمر الله سبحانه وتعالى. أما المقسمات أمراً، فقول إنها الملائكة، وقول إنها الرياح. أقسم الله بذلك على ماذا؟

تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لصادق)

تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لصادق) قال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] ، أي: إن الشيء الذي وعدتم به لصدق، أي إن الحديث عن البعث لحديث صدق. {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] ، أقسم الله بهذه الأشياء على أن البعث آت، وعلى أن الساعة آتية لا ريب فيها، ليس البعث والساعة فحسب، بل كل شيء وعدنا الله به فهو وعد صدق، فصادق هنا بمعنى: صدق، كما في قوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] ، أي: في عيشة مرضية. وقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] ، فيه تذكير بالبعث، فإن المرء إذا ذكر بالبعث وتذكر البعث عمل لأخراه فاستقامت أحواله وصلحت سريرته. {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6] ، أي: الحساب والجزاء واقع، يقسم الله سبحانه وتعالى على أن الدين لواقع، يعني: الجزاء لآت وقائم وحادث. فيقسم الله على أن البعث آت كما أقسم في آيات أخر وقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] ، وأمر نبيه أن يقسم ويقول: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} وكما أكد ذلك بقوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7] ، فهنا يؤكد هذا المعنى الذي تأكد في أغلب سور القرآن الكريم. {إن الدين لواقع} أي: إن الحساب والجزاء لكائن.

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك)

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك) ثم أقسم الله سبحانه وتعالى قسماً آخر فقال: {وَالسَّمَاءِ} [الذاريات:7] ، أقسم الله بالسماء (ذَاتِ الْحُبُك) . أما الحبك: فللعلماء فيه أقوال:- القول الأول: الطرق والمسالك والمدارات التي تسير فيها النجوم والكواكب والشمس والقمر. والقول الثاني: أن المراد بالحبك: الزينة. والقول الثالث: أن المراد بالحبك: الحبك، وهو الشد والإحكام، كما تقول: هذا الشيء محبوك، أي: مضموم بعضه إلى بعض بشدة، وكما تقول: احبك الثياب، أو هذا ثوب محبوك، أو كما يقول العامة: فلان محبكها، يعني: مضيق الأمر فيها. فالحبك: الشد والإتقان والإحكام، كما قال تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12] ، فهذه بعض الأقوال في تفسير الحبك وهي أشهر تلك الأقوال.

تفسير قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف)

تفسير قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف) {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] ، يقسم الله سبحانه وتعالى على شيء ألا وهو {إنكم لفي قول مختلف} ، هل هناك علاقة بين المقسم به والمقسم عليه؟ البعض من المفسرين أحياناً يلتمس علاقات بين المقسم به والمقسم عليه، فمن العلماء مثلاً من يورد هنا: {والسماء ذات الحبك} على رأي من قال: والسماء ذات الطرق المختلفة والمتنوعة. {إنكم لفي قول مختلف} أي: كما أن السماء فيها طرق ومدارات مختلفة، وقول آخر على رأي من قال: إن الحبك هو الشد والإتقان، فيكون والسماء التي أتقن صنعها إنكم لفي قول متفرق مشتت، فيحدث ربط والله سبحانه أعلم بذلك. {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] ، هذا القول المختلف هو قولهم في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، فمنهم من يقول: إنه ساحر، ومنهم من يقول: إنه كاهن، ومنهم من يقول: إنه شاعر، ومنهم من يقول: إنه مجنون. ومنهم من يقول: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، ومنهم من يقول: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] ، ومنهم من يقول: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:6-7] . فأقوالهم في القرآن وفي الرسول عليه الصلاة والسلام ليست بمتحدة وليست بمطردة، إنما هي أقوال متشتتة ومتفرقة.

تفسير قوله تعالى: (يؤفك عنه من آفك)

تفسير قوله تعالى: (يؤفك عنه من آفك) {يُؤْفَكُ عَنْهُ} [الذاريات:9] ، ليس المقصود القول المختلف، بل قدر العلماء محذوفاً. قالوا: {يؤفك عنه من أفك} يؤفك هنا بمعنى: يصرف، فالمعنى: يصرف عنه من صرف، كقوله تعالى: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] ، أي: فأنى يصرفون. قال فريق من العلماء: يصرف عن الحق، ويصرف عن القرآن، ويصرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم. من صرف، أو يضل عنه من ضل. وقوله: {من أفك} يفيد أن المصروف من صرفه الله سبحانه وتعالى، وأن الضال والزائغ من أزاغه الله سبحانه وتعالى. {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] .

تفسير قوله تعالى: (قتل الخراصون)

تفسير قوله تعالى: (قتل الخراصون) ثم قال سبحانه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] ، قتل: كما تقدم في أكثر آي الكتاب العزيز، معناها: لعن، ومعنى ذلك: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] . والخراصون: هم الذين يقولون بالتخمين، ولا يبنون الأقوال على حقائق، بل يقولون بالتخمين والظنون بلا دلائل ولا بينات، فيكذبون القرآن بالظنون، ويكذبون القرآن بالتخمين، فالله يقول: ((قتل الخراصون)) والخراصون أيضاً: المتشككون المرتابون. {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} [الذاريات:10-11] ، في الآية محذوف تقديره، الذين هم في غمرة من الجهل، وغمرة من الكفر وغمرة من الغباء، والمعنى: وهم في جهل وكفر قد غمرهم وغطاهم.

تفسير قوله تعالى: (يسألون آيان يوم الدين)

تفسير قوله تعالى: (يسألون آيان يوم الدين) {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات:12] ، متى هذا اليوم؟ قال سبحانه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يحرقون ويعذبون. {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] أي: ذوقوا عذابكم، والفتنة لها معانٍ متعددة، الفتنة تطلق على الصرف وتطلق على التعذيب بالنار، وتطلق على الشرك، وغير ذلك. فالفتنة لها معانٍ كثيرة متعددة، يفهم معناها من السياق {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161-163] أي: بصارفين عن الدين. لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم والفتنة هنا الصرف. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يعذبون، {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] ، ذوقوا عذابكم أو ذوقوا جزاء انصرافكم، {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:14] ، أي: هذا اليوم الآخر وهذا العذاب الذي كنتم به تستعجلون. فإن قال قائل: وهل الكفار كانوا يستعجلون العذاب؟ فالإجابة: نعم، فقد كانوا يقولون: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] ، وكانوا يقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] . {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:15-16] . يرى الطبري رحمه الله تعالى أن قوله: {آخذين ما آتاهم ربهم} أي: عاملين بالفرائض التي افترضها عليهم ربهم، وهذا القول قول ضعيف في هذا المقام، كما ضعفه الحافظ ابن كثير وغيره؛ وذلك لأن الجملة حالية، فهم آخذين ما آتاهم ربهم أثناء وجودهم في جنات وعيون، فعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى والله أعلم بقوله: ((آخذين ما آتاهم ربهم)) أي: آخذين ما أنعم ومنَّ الله به عليهم في الجنان. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} [الذاريات:16] ، أي: في الحياة الدنيا، {مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] ، وما هي أوجه الإحسان التي كانوا يفعلونها وبها استحقوا لفظ الإحسان؟ للإحسان وجوه عدة والمقصود به هنا -والله أعلم- ما كانوا عليه في الحياة الدنيا من الطاعة، التي تحلوا بها وتحققت.

حال السلف مع القرآن

حال السلف مع القرآن وقد جاء عن السلف أنهم كانوا ينزلون الآيات على أنفسهم، فهذا أحدهم مر على قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ} [آل عمران:134] ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] ، فقال: أنا لست من أهلها. ومر بعضهم على الآيات التي تتحدث عن الأشقياء والفجار فقال: الحمد لله لست من أهلها، ومر على قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] ، فقال: أنا من أهل هذه الآية، كما هو حالنا فإنه يقوم أحدنا في الصباح ويصلي الفجر ويقرأ الأذكار بعد الصلاة، ويتلو ما شاء الله من كتاب الله، ثم يخرج إلى عمله، وفي الطريق تعتريه الفتن، وينظر إلى هذه وينظر إلى تلك، ويتحدث بحديث فيه اغتياب للمسلمين واغتياب للمسلمات، ويغضب ويثأر لنفسه، فيسقط مرة ويقوم مرة، فلا ينطبق عليه إلا هذه الآية: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102] .

صور الإحسان في الكتاب والسنة

صور الإحسان في الكتاب والسنة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في سؤال جبريل له عن الإحسان؟ قال: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه) ، فقوله تعالى: ((إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)) أي كانوا في حياتهم الدنيا يعبدون الله سبحانه وتعالى على هذا النحو، يعبدونه موقنين ومستحضرين أن الله يرى مقامهم ويسمع كلامهم، كما قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، ففي ممشاهم يشعرون أن الله يراهم، وفي مجلسهم يشعرون أن الله يراهم، وفي عبادتهم يشعرون أن الله يراهم، وهذه من صور الإحسان. ومن صور الإحسان التي تخلقوا بها: العفو عن الناس، فإن هذا من أخلاق المحسنين، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] . ، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] فالعدل: القصاص، والإحسان: هو العفو، فتخلقوا أيضاً بهذا الخلق الكريم الذي هو العفو عن الناس، فلم يثأروا لأنفسهم في كل وقت وحين، ولم ينتصروا لأنفسهم من إخوانهم بالحق وبالباطل، إنما هضموا حقوق أنفسهم طلباً لثواب الله، وعفواً عمن ظلمهم ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأيقنوا وأتقنوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه) . ومن صور الإحسان كذلك: أنهم كانوا رحماء في معاملتهم مع الناس، بل مع كل شيء حولهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) ، فتخلقوا بهذا الخلق في دنياهم، ومن ثم أخذوا ما آتاهم ربهم في أخراهم، ثم وردت لهم صفات أخر: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] أي: لا ينامون، وقد استوقفت هذه الآية الكريمة الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى، إذ كان الأحنف يقرأ القرآن قراءة المتدبر المتأمل، فلما مر على هذه الآية الكريمة: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} قال معترفاً: أنا لست من أهل هذه الآية. وهكذا نحن أيضاً ينبغي أن نقبل على كتاب الله فننزل آياته على أنفسنا لننظر: هل نحن من أهلها؟ وهل نحن من العاملين بها، أم لسنا كذلك؟ فهل نحن من أهل قول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] ، ويقولون: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] ؟ هل نحن أيضاً من أهل قول الله سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] ؟ فاقرأ القرآن قراءة المتأمل المتدبر المتفكر، ولا تكثر من الثرثرة ولا تكثر من الضحك والصياح والعويل والافتخار بنفسك، فأكثر ديدنك الثناء على نفسك، إظهار بطولاتك، قف مع كتاب الله، لتنظر هل أنت من الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107-109] ؟ هل أنت أيضاً ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] ؟ هل أنت كذلك من أهل هذه الآية: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ؟ فاقرأ القرآن قراءة المتدبر المتأمل واعمل به.

تفسير قوله تعالى: (كانوا قليلا من الليل.

تفسير قوله تعالى: (كانوا قليلاً من الليل.) قال الله في شأن أهل الإيمان: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ، أي: لا ينامون. ولماذا لا ينامون؟ ألكونهم يتاجرون؟ أم لكونهم يخافون؟ أم لكونهم يصلون؟! الآيات الأخر أفادت وأوضحت الذي أجمل {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:64-65] ، لا ينامون لكونهم يخافون اليوم الذي هو آتٍ وموعود، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] ، ساعات الليل، {سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9] ، طول ساعات الليل أو في ساعات الليل، لماذا هو ساجد ولماذا هو قائم؟ {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] ، هذا هو حاله، ساجد وقائم في ساعات الليل الطويلة خوفاً من شيء ورجاء لشيء {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} . هكذا كانوا يصنعون، وهذا كتاب الله سبحانه ليس فيه آية ضعيفة ولا فيه خبر موضوع، إنما هو كلام الله عن هؤلاء الناس، الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] . لماذا يتركون الفرش الدافئة؟ لماذا يؤثرون التعب والإرهاق وتورم الأقدام، على الراحة والنوم في الفراش الدافئ مع النساء الحسان؟ قال الله سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] ، وهذا يدل على أننا جميعاً نحتاج إلى تزكية أنفسنا، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] ، ونحتاج إلى نهيٍ لأنفسنا عن الهوى، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] ، وجدير بنا أن نقف مع أنفسنا، ونراجع أنفسنا مع قيام الليل، ويصلي أحدنا لله ما استطاع من ركعات، مستحضراً أن الله يراه وأن الله يسمع كلامه وأن الله يسمع دعاءه، ويتعوذ بالله من دعاء لا يسمع. وإذا وجد في القلب قسوة فليتعوذ بالله من قلب لا يخشع، وإذا وجد أن العين أصبحت لا تدمع فليتعوذ بالله من عين لا تدمع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ذلك، وقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وعين لا تدمع، وقلب لا يخشع) ، فجدير بنا أن نمعن النظر في هذه التعوذات التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله منها. ولنقرأ كتاب الله قراءة المتدبر المتأمل، خاصة في صلاة الليل عندما تكون بمفردك.

تفسير قوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون)

تفسير قوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) قال تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ} [الذاريات:18] أي: في أوقات السحر التي هي أحلى الأوقات وأشهى الأوقات للنوم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يقومون في السحر عندما يناديهم ربهم سبحانه: هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ فلا ينامون كالجيف، ولا ينامون كالرمم، ولا ينامون والشياطين تبول في آذانهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عنده شخص نام حتى أصبح، فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) . فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وفي الآية الأخرى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] ، فجدير بنا أن نطبق كتاب ربنا على أنفسنا.

تفسير قوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)

تفسير قوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] . هل هذا الحق هو الزكاة المفروضة، أو غير الزكاة المفروضة؟ هناك قرينتان في الآيات: قرينة توضح أنها الزكاة المفروضة، وقرينة توضح أنها ليست الزكاة المفروضة، بل هو مال آخر غير الزكاة، فمن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] ، يؤخذ أن فعل الإحسان يقتضي أن يزيد المحسن على الفرض شيئاً ليس مفروضاً عليه، فهذا يقوي قول من قال: {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] ، إنهم جعلوا على أنفسهم في أموالهم حقاً معلوماً، فاقتطعوا جزءاً من أموالهم لم يوجبه الله سبحانه وتعالى عليهم، وجعلوه لأهل الفقر، ولأهل المسكنة، وللمحرومين والسائلين. فهذه القرينة التي هي: ((إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)) حملت بعض المفسرين على أن يقولوا: إن الحق المعلوم هنا حق آخر سوى الزكوات المفروضة، شأنهم شأن ذلك الرجل الذي ورد ذكره في الحديث الذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يتماشى في الصحراء أو في البرية إذا رأى سحابة من فوقه وسمع فيها صوتاً، وإذا بهذا الصوت يقول للسحابة: اسقي أرض فلان، فتعجب لهذا الصوت وتبع السحابة فوجدها قد جاءت وأسقطت كل مائها في أرض من الأراضي، وإذا برجل قائم في أرضه يحول الماء بمسحاته، فسأله عن اسمه فقال: اسمي فلان -للذي سمع اسمه في السحابة- فقال: أخبرني ماذا تصنع فإني سمعت في السحابة صوتاً يقول: اسقي أرض فلان لأرضك، قال: أما وقد سمعت، فإني أعمد إلى ما يخرج من الأرض فأجزئه أثلاثاً: جزء أرده إلى الأرض، وجزء أقتات به أنا وأهل بيتي، والجزء الآخر أخرجه للفقراء والمساكين) . فقد جعل هذا الرجل على نفسه حقاً معلوماً لم يوجبه الله سبحانه وتعالى عليه، وإنما كان الواجب عليه الزكاة. أما الوجهة التي قوى بها العلماء الرأي القائل بأن هذا الحق هو الزكاة المفروضة، فهو كلمة (معلوم) أي: حق محدد، حدد بأنصبة الزكوات. فالله سبحانه أعلم، لكن على كل فأهل الإحسان فيهم الصفتان، فإنهم يؤدون الواجب ويزيدون عليه بغيره، فإذا فعل العبد هذا الأمر استحق أن يكون من أهل الإحسان.

تفسير قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين.

تفسير قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين.) {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ} [الذاريات:20] أي: دلالات، {لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20] ، لأهل اليقين. وهي دلالات على قدرة الله سبحانه وتعالى، ودلالات على البعث، ودلالات على الموت، ودلالات على الحساب. {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ} [الذاريات:20-21] كذلك آيات للموقنين، {أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] .

تفسير قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون)

تفسير قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] اختلف العلماء في الآية على قولين: أما القول الأول: إن الرزق هو المتمثل في المطر الذي ينزل إلى الأرض، فيخرج الله به النبات، وأما قوله: {وما توعدون} فمحمول على العذاب الذي ينزل على أهل الكفر، وينزل على أهل الظلم، فحمل قوله: ((وفي السماء رزقكم)) على الرزق، وحمل قوله: ((وما توعدون)) على العذاب. القول الثاني: أن الآية عامة في الأرزاق، وعلى ما أعده الله في الجنان، وقد تحمل على ما كتب وسطر على بني آدم وأنه يلحق بهم.

تفسير قوله تعالى: (فورب السماء.

تفسير قوله تعالى: (فورب السماء.) {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الذاريات:23] يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه، فيقول: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ} [الذاريات:23] وقد اختلف العلماء في عود الضمير في قوله: (إنه) على أقوال: القول الأول: إنه راجع إلى كل ما تقدم. القول الثاني: إنه راجع إلى القرآن. القول الثالث: إنه راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. القول الرابع: إنه راجع إلى الآية التي سبقتها وهي الأرزاق، والقول بالعموم أولى وأشمل وأكمل والله أعلم. {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] ، أي مثل ما أنكم تتكلمون. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة الذاريات [2]

تفسير سورة الذاريات [2] تضمنت سورة الذاريات قصة إبراهيم عليه السلام مع الملائكة، وفيها من أدب الضيافة ما يدل على رفعة خلق إبراهيم عليه السلام، بل جعل كثير من العلماء هذه الآيات أصلاً من الأصول التي تستخلص منها آداب الضيافة.

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم.

تفسير قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:24-28] . يستخرج العلماء من هذه الآيات كثيراً من آداب الضيافة، وكذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:69-70] . فيتعرض المفسرون عند هذه الآيات لآداب الضيافة ولأحكامها. يقول الله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] ، من العلماء من قال: إن (هل) هنا بمعنى: قد، ومنهم من قال: إن (هل) على بابها وأشير بها للتنبيه، فعلى الأول: (قد) أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، ومن هم ضيف إبراهيم عليه السلام؟ هم الملائكة الذين تمثلوا له في صورة بشر أثناء ذهابهم إلى مدائن قوم لوط لتدميرها ولإنزال العذاب عليها، فمروا مسلّمين عليه ومخبرين له بما سيحدث لهذه القرى من عذاب، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74] ، فلما علم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ما سيحدث، بدأ يجادل أو يدافع عن قومه أو يطلب التمهل في إنزال العقوبات على قوم لوط على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. الشاهد: إن الملائكة تصورت في صورة رجال، وتصور الملائكة في صورة رجال وارد في جملة آيات وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن تأتي الملائكة في صورة البشر، قال الله سبحانه وتعالى في شأن مريم: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] ، وكذلك هنا الملائكة تشكلت في صورة بشر، ولما ذهبوا إلى لوط أيضاً تشكلوا له في صورة بشر. وقال عمر رضي الله عنه: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) ، وفي آخر الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) . وكذلك كان جبريل يتمثل للرسول صلى الله عليه وسلم بصورة دحية الكلبي، وكذلك الثلاثة نفر: الأقرع والأبرص والأعمى، الذين ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، فتمثل لهم الملك في صورة رجل ليبتليهم، وقد تمثلت بعض الملائكة في صورة بشر في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصل تشكل الملائكة في صورة البشر وارد وجائز كما في هذه النصوص. يقول الله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:24-25] ، أي: أنكم بالنسبة لنا مجهولون لا نعرفكم. وبالنسبة لسؤال الشخص للداخلين عليه -من أنتم؟ ومن أي البلاد- له أدلته في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (من القوم أو من الوفد؟ قالوا: وفد عبد القيس يا رسول الله، قال: مرحباً بالقوم أو بالوفد) ، (ولما جاءت أم هانئ تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من هذه؟ قالت: أم هانئ يا رسول الله، قال: مرحباً بأم هانئ) ، ولما ذهبت زينب امرأة عبد الله بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في بعض المسائل وأرسلت بلالاً وقالت له: قل له: إن ابن مسعود يزعم أنه أحق من تصدقت عليه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (من هذه؟ قال بلال: زينب، قال: أي الزيانب هي؟) . إذاً: يجوز السؤال عن الشخص القادم أو عن الشخص المستخبر، ولا مطعن في هذا ولا لوم على السائل.

حكم التكلف في إكرام الضيف

حكم التكلف في إكرام الضيف أما مسألة التكلف في إكرام الضيف، هل هي مشروعة أو غير مشروعة؟ فقد ورد ما سمعتموه من قول الله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، وكذلك فعل أبو التيهان الأنصاري لما ذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر في ظهيرة يوم من الأيام، قام إلى شاة ليذبحها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب) لكنه أقره على ذبح الشاة، وقد ورد في الباب أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نهينا عن التكلف للضيف) ، وهو بهذا اللفظ منازع في صحته، وقد حكم بعض العلماء على هذا الحديث بالضعف وهو الذي تستريح إليه النفس الآن، أما النصوص الثابتة فعمومها يحث على إكرام الضيف. أما حديث: (نهينا عن التكلف للضيف) ، على فرض ثبوته فهو منزل على معنىً معين وهو ما إذا كنت ستستدين ديناً كبيراً ترهق عن سداده فلا تفعل حينئذ، فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] ، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد ثبت أن سلمان رضي الله عنه قال لـ أبي الدرداء: (إن لزورك عليك حقاً -أي: إن لضيفك عليك حقاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) . يقول الله سبحانه: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، وفي الآية الأخرى: {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] ، والحنيذ: هو المشوي، فأخذ العلماء منه أدباً يتعلق بالضيافة: وهو أن على أهل البيت أن يتقنوا الطبخ الذي يقدمونه للضيف، فلا تأت المرأة -مثلاً- بلحم نيئ -غير ناضج- تقدمه للضيف، حتى يأكل قطعة أو لا يكاد يأكل ويترك لها الباقي، فتنضجه هي بعد أن ينصرف فإبراهيم صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، بل جاء بعجل حنيذ وهو العجل الذي شوي شياً وأنضج إنضاجاً، والله سبحانه وتعالى أعلم. {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:26-27] من قوله تعالى: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أخذ العلماء فقهاً آخر من فقه الضيافة ألا وهو: أن صاحب البيت نفسه يستحب له أن يباشر خدمة الأضياف بنفسه، ولا يجعل الخدم فقط هم الذين يتولون تقديم الطعام، فإن مباشرة صاحب البيت تقديم الطعام بنفسه للأضياف تفهمهم مدى حفاوته واهتمامه بهم، وإن كان المؤدى واحد، لكن حسن الاستقبال مع القيام على الخدمة كل ذلك يشعر الأضياف باهتمام صاحب البيت بهم، وهذا ينعكس بمودة ومحبة في قلب الضيف، لأن المضيف جمع له بين الحسنيين حسن الضيافة، وحسن البشاشة والاستقبال والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبسمك في وجه أخيك صدقة، وقال: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) ، ثم تقديم الطعام الذي هو نوع من الواجب عليك كما قال بعض العلماء، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تشديد النبي عليه الصلاة والسلام على إكرام الضيف

تشديد النبي عليه الصلاة والسلام على إكرام الضيف قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، في الآية أيضاً: أن الضيف يكرم بأفضل ما عندك، لأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم جاء بعجل سمين، فلم يأت بعجل هزيل ولا بعجل نحيف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حاثاً على إكرام الضيف: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الضيافة ثلاثة أيام جائزته يوم وليلة) ، أي: يبالغ في إكرام الضيف في اليوم الأول والليلة الأولى ويتحفه بما يستطيع من إتحاف، أما سائر الأيام فكسائر طعامك وشرابك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل نزل بقوم فلم يقروه فحق له أن يأخذ منهم بقدر قراه) أي: بقدر ضيافته، ولا يخفى عليكم أن خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أوصى ولده إسماعيل أن يغير عتبة بابه، -يطلق امرأته-، ومن أسباب هذا التغيير، عدم احتفائها بالأضياف وعدم إكرامهم للأضياف، وقد ورد عن الخليل صلى الله عليه وسلم: أنه أول من أضاف الأضياف، وبالغ في إكرامهم وتأسيس أصول ضيافتهم، وهذا حفيده يوسف صلى الله عليه وسلم يقول لإخوته: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، أي: وأنا خير من أنزل الأضياف منازلهم وخير من أكرم الأضياف. وها هو لوط عليه السلام يقف مغتماً مهتماً لما سيصيب الأضياف من مكروه، بل ويفديهم ببناته ويقول لقومه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:71] ويقول أيضاً: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] ، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله سائل فيقول: (يا رسول الله!! إنا ننزل بأقوام فلا يقدمون لنا ما ينبغي للضيف، فقال: إذا نزلتم بقوم فلم يقدموا لكم ما ينبغي للضيف فخذوا منهم بقدر قراكم) ، أي: بقدر ضيافتكم، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. بل إن من العلماء من وضع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) في كتاب المظالم اعتقاداً، إلى أن الشخص الذي لا يكرم ضيفه قد يكون ظالماً، لأنه بخس الضيف حقه.

من آداب الضيافة

من آداب الضيافة قال تعالى: {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:25-26] ، هذا من آداب الضيافة. قوله: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ) راغ: من الروغان، وهو التسلل خفية، فلم يقل لهم: ماذا تريدون أن تأكلوا؟ ولم يعرض عليهم أتريدون كذا أو كذا. فيزهد الضيف في الطعام، إنما تسلل عليه الصلاة والسلام في خفية وسرعة، وهو المفهوم من قوله تعالى: (فَرَاغَ) من الروغان، تركهم وفي خفة وسرعة دخل على أهله صلى الله عليه وسلم. {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، ومن كلمة (راغ) -أي: تسلل في خفة وسرعة- أخذ العلماء شيئين: الأول: عدم إحراج الضيف وسؤاله عن الطعام الذي يأكله أو الشراب الذي يشربه. الثاني: في إحضار ما عندك للضيف حتى لا يمل من المجلس ويضجر ويخرج من البيت. قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] ، المراد بالأهل هنا: الزوجة، ومنه: قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران:121] ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من عند عائشة. ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ والله ما علمت من أهلي إلا خيراً) ، يريد عائشة وقد يطلق أحياناً على ما هو أعم من الزوجة؛ كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى بـ الحسن والحسين وفاطمة وعلي ووضع عليهم كساءً وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) ، فالأهل: قد تطلق على الزوجة، وقد تطلق الأهل: على الأبناء والأقارب، وقد تطلق على ما هو أعم من ذلك. {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] ، المعني بالأهل هنا: أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل بيته صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، أما قوله: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ) أنه أتى بالطعام من عند الأهل والزوجة المساعدة في ضيافة الضيف، وقد قال العلماء في معنى قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] ، أي: قائمة على خدمة الأضياف، وكان هذا حال النسوة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كن يخدمن الأضياف، وقد زار النبي صلى الله عليه وسلم عرساً في ليلة عرسها وكانت هي التي تخدم الأضياف، وكانت قد نقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمرات من الليل. وكذلك أم سليم كانت تضيف أضياف أبي طلحة، لما ذهب إليها الأضياف الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك امرأة جابر كانت تضيف أضياف زوجها، فأخذ من هذه النصوص مع قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] ، أي: قائمة بخدمة الأضياف، أنه يستحب للزوجة أن تعين زوجها على إكرام أضيافه. {فَجَاءَ بِعِجْلٍ} [الذاريات:26] ، كثير من أهل العلم يقولون: إن المراد بالعجل هنا من البقر، إن كان كذلك فهو مخالف لما جاء في الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن البقر وفيه: (لحومها داء وألبانها دواء وشفاء) ، وقد روي عن رسول الله حديث بهذا اللفظ في شأن البقر: (لحومها داء وألبانها دواء وشفاء) ، وهذا الحديث ضعيف الإسناد، ولبعض فقراته شواهد ألا وهي: (ألبانها دواء وشفاء) أما لفظة لحومها داء فإسنادها تالف ضعيف جداً، إضافة إلى ذلك فمعناه أيضاً باطل منكر. فإن الله سبحانه وتعالى أنزل لنا من الأنعام ثمانية أزواج -أي: حلالاً طيبة لنا- وفصلت هذه الثمانية أزواج بقوله تعالى: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ، وبقوله تعالى: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144] ، ومن البقر -أي: الثور والبقرة- فإذا كان الله سبحانه قد أنزلها لنا حلالاً مع ما أنزل، فالله سبحانه وتعالى يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث، وثبت كذلك في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر) ، وثبت أيضاً في حديث الجمعة: (من راح في الساعة الثانية يوم الجمعة فكأنما قرب بقرة) ففي كل هذه النصوص ما يدل على تضعيف معنى: (لحومها داء) ، فضلاً عن ذلك فلا شاهد لهذه الفقرة من الحديث فإسنادها تالف ساقط.

تفسير قوله تعالى: (فقربه إليهم قال ألا تأكلون)

تفسير قوله تعالى: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) قال الله سبحانه وتعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] ، فيه أيضاً: التلطف في خطاب الأضياف، ففي قوله: (أَلا تَأْكُلُونَ) لم يطلب منهم الجلوس للطعام ولم يسألهم هل أكلوا أم لم يأكلوا إلى غير ذلك من الأسئلة السمجة المحرجة التي تجعل الضيف ينفر منك ومن طعامك قبل أن تأتي به، فالأولى أن تقرب ما عندك وتتلطف كما تلطف الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ قال: (أَلا تَأْكُلُونَ) .

تفسير قوله تعالى: (فأوجس منهم خيفة)

تفسير قوله تعالى: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:28] ، وفي الآية الأخرى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود:70] ؛ وذلك لأن الضيف إذا لم يأكل عندك فالعرف السائد بين الناس أنه يضمر لك شراً، أما إذا أكل عندك فلا يجدر به أن يغدر بك إبقاءٍ لهذا الذي أسديته إليه.

مراقبة الضيف أثناء الأكل

مراقبة الضيف أثناء الأكل وهنا يجدر بنا التنبيه على مسألة وهي: هل يشرع النظر إلى الأضياف وهم يأكلون؟! الفقه في هذه المسألة أنه إذا كان النظر إلى الأضياف وهم يأكلون يحرجهم ويشق عليهم كما يفعل أرباب البيوت البخلاء، إذ يعدون اللقيمات التي أكلها الضيف عداً مما يسبب إحراجاً للضيف الذي يرى أن الجميع ينظر إليه ويعد عليه اللقيمات عداً، فيقوم محرجاً قبل أن يقضي حاجته من الطعام، ففي هذه الحالة الأولى أن يكف المضيف عن نظره عن ضيفه ويتركه حتى يأكل براحته. أما إذا كان الضيف لا يأكل بالكلية؛ فلك أن تسأل لماذا لا تأكل؟ فلعله أن يكون مثلاً صائماً أو مريضاً ولا يشتهي إلا نوعاً من الطعام غير موجود، أو لعله يرغب في طعام غير هذا الطعام تستطيع أن تأتي به، فلهذا فقه يقتضيه مقام الضيافة، والله سبحانه وتعالى أعلم. فالشاهد: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما {رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] ، ففيه إثبات الخوف الجبلي، والخوف الجبلي يرد حتى على الفضلاء وأهل الصلاح، فالخليل إبراهيم عليه السلام أوجس خيفة في نفسه من هؤلاء الأضياف، وفي موسى عليه السلام يقول الله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] ، وكذلك قال موسى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء:21] ، وكذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال:26] . فالخوف الجبلي الذي يتوارد على أبناء آدم لا يخدش في دينهم وتقواهم، وإن كان ينبغي لهم أن يقاوموا أنفسهم في هذا الخوف لعموم قوله تعالى: {َفلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] . {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ} [الذاريات:28] ، على الضيف أيضاً: أن يطمئن صاحب البيت ولا يدخل عليه الرعب والإزعاج بل عليه أن يطمئنه ويذهب عنه الروع.

تفسير قوله تعالى: (قالوا لا تخف وبشروه بغلام.

تفسير قوله تعالى: (قالوا لا تخف وبشروه بغلام.) قال تعالى: {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] ، الغلام العليم هنا هو: إسحاق صلى الله عليه وسلم، كما في الآية الأخرى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] ، فهي صريحة في أن الغلام العليم هو إسحاق صلى الله عليه وسلم, والعليم: ذو العلم الكثير الغزير الوفير، وقد كان نبي الله إسحاق صلى الله عليه وسلم عالماً. قال تعالى: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ) . الغلام يطلق على الصغير تأسيساً، ويطلق على الكبير مجازاً كما قال علي فيما روي عنه: أنا الغلام القرشي المؤتمن أبو حسين فاعلمن والحسن وكما قالت ليلى الأخيلية تصف الحجاج الثقفي: إذا حل الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها وكما قال صفوان بن المعطل السلمي لـ حسان بن ثابت لما قذفه ورماه قال: تلق ذباب السف عني فإنني غلام إذا ما هجيت لست بشاعر {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] .

تفسير قوله تعالى: (فأقبلت امرأته.

تفسير قوله تعالى: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ.) قال تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات:29] أي: في صيحة. ، أقبلت تصيح وتئن. {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات:29] أي: ضربت وجهها وليس المقصود بالصك هو اللطم الذي يفعل عند المصائب، فهو منهي عنه كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، إنما هو ضرب للوجه على سبيل التعجب، كما قاله كثير من المفسرين. {َفصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29] . من العلماء من أخذ فقهاً للرؤى من هذه الآية، قال: إذا رأت امرأة لا تلد رؤيا أنها لطمت وجهها فلا تؤلها على التأويل المكروه، ولكن تؤلها بأنها ستبشر بغلام كما بشرت سارة عليها السلام بغلام عليم (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) .

الجدال المحمود

الجدال المحمود قال تعالى: {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:29-30] ، فلا معنى للجدل ولا معنى للمراجعات، فإن الجدل والمراجعات إذا كانت تجزي فلتجادل ولتراجع، لكن إذا كان هناك أمر قد قضاه الله ونفد فلا معنى للجدل ولا معنى للمراجعات، ويؤخذ من هذه الآية: فقه الخطاب والتحاور مع الناس، فإذا كان كلامك مع الناس له جدوى أو إذا كان إلحاحك سيأتي بفائدة فلتلح ولتجادل، لكن إذا كان الجدل والكلام ليس من ورائه فائدة، فحينئذ أمسك عليك لسانك، وبهذا جاءت نصوص الكتاب العزيز. قال الله في شأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} [هود:74] بالغلام {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:74-75] ، والحليم: هو الذي يتأنى ولا يبادر في إنزال العقوبات على الناس، فإبراهيم لما أخبرته الملائكة أنهم متجهون إلى المؤتفكات -مدائن قوم لوط- لتدميرها، بدأ يجادل عن قوم لوط ويطلب المهلة لهم، كما قال تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:74-76] أعرض عن هذا الجدل، {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:76] ، فلا معنى للمناقشة والجدل، فليقف الجدل ولتقف المناقشات التي ليس وراءها كبير طائل وكبير جدوى، وكذلك قال الملك لمريم عليها السلام لما قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20] قال الملك: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21] ، فلا معنى للجدل بعد أن قضى الله سبحانه وتعالى الأمر، وكذلك قال ربنا سبحانه وتعالى لزكريا صلى الله عليه وسلم: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] ، فلا معنى للجدل ولا للكلام إذا لم يكن من وراء الجدل كبير فائدة ولا كبير طائل. قال الله سبحانه وتعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:28-30] .

إطلاق لفظ (العجوز) على المرأة الكبيرة

إطلاق لفظ (العجوز) على المرأة الكبيرة قال تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ} [الذاريات:29] ، وفي الآية دليل على إطلاق لفظ عجوز على المرأة الكبيرة، أما قول من يقول: رجل عجوز، وإن كانت اللغة تقتضيه من بعض الوجوه لكنها ليست بالأفصح، إنما الأفصح في شأن الرجل أن يقال: شيخ والمرأة عجوز، كما قالت سارة عليها السلام: {يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:72-73] .

تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبكم.

تفسير قوله تعالى: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ.) قال موجهاً الخطاب إليهم: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الذاريات:31] ، بعد أن قدم لهم الطعام والشراب وآنسهم واستأنس بهم، بدأ يسألهم عن وجهتهم. (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ) أي: ما شأنكم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) ؟ لماذا أتيتم إلى هنا؟ {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الذاريات:32] ، أي: نحن مررنا بك في طريقنا إلى قوم مجرمون {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:32-34] ، مسومة أي: معلمة.

تفسير قوله تعالى: (فأخرجنا من كان.

تفسير قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ.) {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] في قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) مسألة يجب التنبه لها وهي: إذا كان هناك قوم أهل إجرام وفي أوساطهم قوم مسلمون، هل تغزى الديار بما فيها من أهل الإسلام وهل تدمر بمن فيها من أهل الإسلام؟ أو يخرج أهل الصلاح منها ثم تشن الغارات على أهل الشر والفساد؟ قد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في جملة مواطن: يقول سبحانه: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] ، نحن ما سلطناكم على المشركين عام الفتح لوجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات في أوساط الكفار، فإذا شننتم الغارات على الكفار قتلتم إخوانكم المؤمنين وقتلتم أخواتكم المؤمنات فأصابتكم منهم معرة -مضرة أو إثم- بغير علم، ولكن تمهلنا وتم صلح الحديبية حتى يخرج أهل الإيمان وحتى يتميز الكفار ومن ثم تأتي الضربات عليهم، {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] ، وكذلك في هذه الآية {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] ، وفي المقابل فيجوز شن الغارات على البلاد وإن كان فيها قوم صلحين إذا كثر فيهم الخبث كما في قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:27-99] ، وقد نزلت هذه الآيات في قوم من أهل الإسلام كانوا مستضعفين أجبروا على الخروج مع أهل الشرك لقتال المسلمين، فكان المسلم يرمي فيصيب أخاه فيقول: قتلنا إخواننا ويحزن لذلك أشد الحزن، فأنزل الله الآية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) في شأن هؤلاء الذين خرجوا مع الكفار يكثرون سوادهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، قالت عائشة: يا رسول الله! يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم، قال: نعم إذا كثر الخبث) ، وفي رواية أخرى: (يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم) ، وقد ورد أيضاً في الباب حديث: (الرجل الصالح الذي كان في بلدة ولكنه كان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر فقيل للملائكة: به فابدءوا) ، لكنه لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالحاصل بعد إيراد هذه النصوص يتضح لنا أن المقامات تختلف، فإذا كان المقام مقام غزو وأزمته بأيدي أهل الإيمان فلهم أن يتمهلوا في شن الغارات على الكفار، حتى يُخرجوا أهل الإيمان، وإن كان المقام مقام آخر وسيحدث أذىً لأهل الإسلام من وجود هذه الفئة المتعالية التي تمترست بالمسلمين فيجوز حينئذ اختيار أخف الأضرار، وقد صدرت فتوى في هذا الصدد من الأزهر أثناء الحروب مع اليهود لما احتل اليهود جزيرة بمصر يقال لها جزيرة شدوان، وكان بها بعض المسلمين، فنزلت قوات اليهود بها فصدرت فتاوى آنذاك من الأزهر بضرب الجزيرة بمن فيها من المسلمين والقوات اليهودية، ومثل هذه الفتاوى صدرت حينما احتل الإرتيريون جزيرة باليمن وغلب عليها أهل الصليب، فصدرت فتاوى بأن تضرب الجزيرة بمن فيها من المسلمين الذين تترس بهم، ففي المسألة فقه يختلف بحسب المقام والله أعلم. قال الله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] ، وهذا وإن كان على المستوى المتسع فهو على المستوى الضيق كذلك، كأن يكون هناك شخص صالح في وسط أقوام أهل شر وفساد، فهل يلقى القبض عليهم جميعاً وهو معهم أو يحاول إبعاده منهم ثم إنزال العقوبات على الآخرين؟ قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] ، وهو بيت لوط صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد أسلم مع لوط صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا عتاة، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يسلم معه أحد إلا لوط عليه الصلاة والسلام، ولوط ذهب إلى بلاد الأردن يدعو إلى الله فيها، وما آمن به أحد صلى الله عليه وسلم إلا أهل بيته، أما الآخرون فكانوا من الفضاضة والغلظة والقذارة بمكان كبير.

الفرق بين الإسلام والإيمان

الفرق بين الإسلام والإيمان هذه الآية دليل لمن يقول: إن الإسلام يأتي بمعنى الإيمان؛ لأن الله قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] ، وفي الحقيقة أن هذه المسألة سبق الكلام عليها: وهي أن مسمى الإيمان والإسلام قد يتحدان في المعنى وقد يفترقان، فإذا جاءا في سياق واحد افترقا في المعنى، وإذا لم يأتيا في سياق واحد اتحدا في المعنى، ففي حديث جبريل اجتمعا في سياق واحد فأخذ الإيمان معنى أن تؤمن بالله وملائكته إلى آخر الحديث، وأخذ الإسلام معنى آخر: أن تشهد. إلخ أركان الإسلام الخمسة، فانصرف معنى الإيمان إلى أعمال القلب والإسلام إلى الأعمال الظاهرة، ويدل على ذلك أيضاً: قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، ولكن إذا جاء الإيمان في سياق مستقل، فيشمل أيضاً الإسلام ويكون داخلاً فيه كما جاء في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) .

تفسير قوله تعالى: (وتركنا فيها.

تفسير قوله تعالى: (وَتَرَكْنَا فِيهَا.) قال تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} [الذاريات:37] ، أي: دلالة وعبرة {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات:37] فكانت هذه القرية على مرأى من القرشيين أثناء رحلاتهم للتجارة في أسفارهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] ، وكما قال في شأن قرى أخرى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:79] أي: بطريق واضح للمارة يمرون عليه، {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات:37] .

تفسير قوله تعالى: (وفي موسى إذ أرسلناه.

تفسير قوله تعالى: (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ.) (ووَفِي مُوسَى) أي: وفي قصة موسى عبرة وعظة كذلك للذين يخافون العذاب الأليم {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الذاريات:38] ، أي: بحجة بينة واضحة، وهي الآيات التي أمدة الله بها من العصا التي تلقى فتصبح حية تسعى، ومن اليد التي تخرج بيضاء للناظرين، وسائر الآيات التي أمده الله بها. {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الذاريات:38] (مبين) أي: واضح.

تفسير قوله تعالى: (فتولى بركنه.

تفسير قوله تعالى: (فتولى بركنه.) قال تعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:39] ، والركن هنا المراد به: الجمع، كما قال لوط صلى الله عليه وسلم: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] ، قالوا الركن الشديد: هو القوة القبلية والعشيرة والجمع، ومن أهل العلم من قال: إن الركن هنا المراد به: الإعراض بالوجه، كما قال الله سبحانه: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] ، أي: معرض بوجهه استكباراً واستنكافاً ليضل عن سبيل الله.

أقوال العلماء في تفسير الركن

أقوال العلماء في تفسير الركن قوله تعالى: (بِرُكْنِهِ) فيه قولان: القول الأول: هو الجماعة والعشيرة والجند والقوم. القول الثاني: الوجه. أي: الإعراض بالوجه. (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي: لا يخلو أمرك يا موسى من أحد شيئين: إما أنك ساحر وإما أنك مجنون، وهكذا قال أهل الكفر دائماً للأنبياء، كما قال سبحانه: {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52-53] . قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الذاريات:40] ، أي: طرحناهم مهملين لذكرهم، (فَنَبَذْنَاهُمْ) فالنبذ: الطرح والإلقاء بإهمال، {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40] ، (في اليم) . أي: في البحر. (وهو مليم) ، أي: وقد صب عليه اللوم.

تفسير قوله تعالى: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم)

تفسير قوله تعالى: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) قال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:41] . هي ريح الدبور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) ، ووصفت بالدبور؛ لأنه لا خير فيها على الإطلاق، لا تلد أي نوع من أنواع الخير. والرياح على أقسام ثمانية ذكرها المفسرون في تفاسيرهم، {وأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] ، هناك رياح لواقح تلقح، أما هذه فريح عقيم لا فائدة فيها ولا خير، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41-42] أي: كالعظام المتفتتة البالية.

تفسير قوله تعالى: (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين)

تفسير قوله تعالى: (وَفِي ثَمُود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين) قال تعالى: {وَفِي ثَمُود} [الذاريات:43] ، أي: في قبيلة ثمود كذلك آية، ((وَفِي ثَمُود) هي: قبيلة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم.

أقوال العلماء في تفسير الحين

أقوال العلماء في تفسير الحين قال تعالى: {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات:43] ، ما هو هذا الحين؟ من العلماء من قال: إن الحين هو: وفاتهم، ومن العلماء من قال: إن الحين بعد ثلاثة أيام؛ لأنهم لما عقروا الناقة قال لهم نبي الله صالح: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] ، فمن العلماء من حمل الحين على الثلاثة الأيام التي وعدوا بها من نبيهم صالح إذ قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] ، ومنهم من قال: إن الحين: هو انتهاء الأجل، والأمر في ذلك كله قريب. {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} [الذاريات:44-45] .

تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل.

تفسير قوله تعالى: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ.) قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات:46]-أي: وقوم نوح أيضاً فيهم آية وعظة، وتسرد سير أهل الإجرام للاعتبار والاتعاظ، فهي أمم قد أهلكها الله وقرون قد أبادها الله سبحانه وتعالى بكاملها، وبين هؤلاء قرون وأمم أخرى، كما قال سبحانه: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:38-39] ، فقرون دمرت وأبادها الله سبحانه وتعالى عبرة للمعتبرين وتذكرة للمتذكرين، {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات:46] .

تفسير قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد)

تفسير قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] أي: بقوة، ومن العلماء من قال: إن المراد (باليد) هنا الجارحة، لكن القول الأقوى هنا أن المراد باليد: القوة وليس في هذا نفي صفة اليد عن الله سبحانه، بل هي ثابتة بنصوص أخرى، لكن قد جعل بعض العلماء خلق آدم بيده تكرمة لآدم، مما اختص به صلى الله عليه وسلم؛ لأن أهل الإيمان يقولون له: (أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربك) ، قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:47-48] ، فلا يقتصر خلق الزوجين على الذكر والأنثى فحسب بل كل شيء كذلك، فالخير والشر متقابلان، والحر والبرد متقابلان والمعروف والمنكر كذلك، والإثم والعدوان والبر والتقوى كذلك، فمن كل شيء خلق الله سبحانه وتعالى زوجين حر وبرد، كر وفر. إلى غير ذلك مما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه، سماء وأرض، ذكر وأنثى، لكن: (هو سبحانه وتر يحب الوتر) ، سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ففروا إلى الله.

تفسير قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ.) قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] أي: بالتوبة والإنابة والرجعة {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:50-52] ، هكذا الاتهامات تنصب على الرسل، {أَتَوَاصَوْا بِه} [الذاريات:53] أي: بهذا القول، كأن أهل الكفر وصى بعضهم بعضاً بهذا الافتراء الذي يواجهون به المرسلين. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] أي: قد تجاوزوا الحد في الظلم والافتراء والكذب، {فَتَوَلَّ عَنْهُم} [الذاريات:54] أي: أعرض عنهم. {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54] أي: لا لوم عليك إذا أعرضت عنهم.

تفسير قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] .

متى تشرع الذكرى

متى تشرع الذكرى ومتى تنفع الذكرى،؟ وهل تعرض في كل حين؟ بل كما قال الله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22] . {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] للذكرى فقه على الإجمال، فإذا كان الذي أمامك إن ذكر بالله يتمادى في غيه ويسب الله ويسب الدين، فالله لا يحب الفساد، وحمل بعض أهل العلم قوله تعالى: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] أي: حيث تنفع الذكرى، فإذا ظننت ظناً راجحاً أن التذكير سيؤدي إلى مفسدة أعظم فالأولى ألا تذكر، كأن يكون هناك شخص منفعل إذا ذكر بالله من الممكن أن يشتم الله سبحانه وتعالى، فحينئذ لا تعين الشيطان عليه، ولكن محل التذكرة حيث يتوقع أن تنفع، أما إذا لم يتوقع أن تنفع ولم يتوقع مفسدة كذلك، فالأصل أن الأمر بالتذكير هو المتعين، والله سبحانه أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس.

تفسير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس.) قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليطيعوني فيما أمرتهم به وينتهوا عما نهيتهم عنه. {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57-58] . قال بعض العلماء: (المتين) : الشديد، وقال آخرون: القوي. {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات:59] والذنوب بالفتحة معناه: الدلو العظيمة، ومنه: (ألقوا على بوله ذنوباً من ماء) فالذنوب: الدلو الكبير والقدر العظيم. (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا) : أي: نصيباً كبيراً من العذاب يصب فوقهم (ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ) أي: لهم ذنوباً من العذاب، أي: نصيباً من العذاب كنصيب أصحابهم الذين سلفوا. {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات:59] . قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات:60] ، فإن قيل: وهل الكفار كانوا يستعجلون العذاب؟ فالإجابة بنعم. فقد قالوا: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] ، وقالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] . عافانا الله وإياكم من العذاب وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم نظر المحرم إلى ثدي المرأة

حكم نظر المحرم إلى ثدي المرأة Q هل ثدي المرأة عورة مع المحارم وكذا مع المرأة؟ A لا، ثدي المرأة ليس عورة مع المحارم، بل للمحرم أن يرى من محرمه ثديها، كأن تكون مرضعة واشتهى طفلها أن يرضع فلا بأس بأن تبرز ثديها أمام محارمها.

حكم صلاة المأموم إذا لم يقرأ بالفاتحة في الصلاة السرية

حكم صلاة المأموم إذا لم يقرأ بالفاتحة في الصلاة السرية Q مأموم لم يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاة سرية: فهل تبطل صلاته؟ A المسألة فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: أن عليه أن يأتي بركعة جديدة على رأي من قال: إن من لم يقرأ بفاتحة الكتاب لا تحسب له ركعة، وهو الإمام البخاري. والقول الثاني: أن صلاته صحيحة، اعتماداً على حديث أبي بكرة لما أدرك النبي صلى الله عليه وسلم راكعاً فقال له الرسول: (زادك الله حرصاً ولا تعد) .

زكاة عروض التجارة

زكاة عروض التجارة Q كيف يخرج أصحاب محلات الأثاث زكاة أموالهم؟ A محلات الأثاث -الموبيليا- هي عروض تجارة، فيخرجون زكاتها كما تخرج زكاة عروض التجارة، بأن تُقوَّم على رأس الحول ويخرج إن شاء من أعيانها على رأي لبعض الأئمة، فمثلاً إذا كانت عنده أربعين غرفة نوم، فله أن يخرج الزكاة من نفس وذلك الأثاث الذي يبيعه، وهو رأي قوي لبعض العلماء، وله استدلالاته من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام على عهده كان يخرج زكاة البر براً، وزكاة الذهب ذهباً، والفضة فضة، فأجروا هذه على نفس المجرى والله أعلم، وإما أن يقيمها على أنها عروض تجارة ويقدر السعر تقديراً ويخرج على أساس السعر. والله أعلم.

حكم ساب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

حكم ساب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم Q ما موقفنا من خطيب يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر؟ A إن الذي يتطاول على أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الزندقة أقرب منه إلى الإسلام والعياذ بالله، وقد نهى رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (لا تسبوا أصحابي) فهذه وصيته عليه الصلاة والسلام لنا جميعاً، (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، بل وربنا سبحانه يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، والنصوص في فضائل الصحابة لا تحصى، فمثلاً: أكثر الصحابة حملاً لسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام هو عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول عنه أبو هريرة: ما سبقني أحد في حفظ سنة الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ما كان من ابن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب، فكيف يقف شخص -يتقلد رأي المعتزلة الشراذم الذين خالفوا نهج أهل السنة- ويطعن في عبد الله بن عمرو بن العاص الذي لا ذنب له نعلمه رضي الله عنه، بل كان في الحرب التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما معتزلاً للفتنة، مع أن أباه شارك في حرب تلك الفتنة، بل عبد الله بن عمرو كان يجابه والده، ولما قُتل عمار بن ياسر جهر بحديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه: (تقتلك -يقصد عمار بن ياسر - الفئة الباغية) فقال معاوية لـ عمرو بن العاص: أبعد عنا مجنونك هذا، وذهب معاوية يقول له: يا مصفر استه إنما قتله الذين أخرجوه، قال: إني سمعت رسول الله يقول، فذكر الحديث ولم يبال، ولما عاتبوه لماذا تخرج معنا إذاً؟! قال: إني أخرج معكم ولست أقاتل، وقد كان والده شكاه للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (أطع أباك ما دمت حياً) ، فقال: وأنا أخرج كما أمرني أبي لكنني لا أشارك في قتال. ويأتي في زماننا قوم لا علم لهم بكتاب الله ولا علم لهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يوقرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتكلمون في صحابي جليل مثل عبد الله بن عمرو بن العاص الذي نقل لنا أغلب سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيرى أحدهم القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ففي الحقيقة لا ندري كيف نجيب؟ فلا نقول إلا: سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا ندري من أين نبدأ وإلى أين ننتهي مع هؤلاء الأقوام؟ وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة الطور

تفسير سورة الطور أقسم الله عز وجل بعظيم مخلوقاته على وقوع العذاب على الكافرين، بسبب عنادهم وطغيانهم وتكذيبهم، وعلى العكس فإن الله وعد المتقين بجنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولكن هذه الجنة تحتاج إلى صدق وصلاة وتسبيح وصبر في الدعوة إلى الله ومجاهدة الكافرين.

قسم الله بعظيم مخلوقاته

قسم الله بعظيم مخلوقاته الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة الطور في صلواته، وكان كثيراً ما يقرأ بها في صلاة المغرب، قال جبير بن مطعم رضي الله عنه: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، حتى بلغ قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فكاد قلبي أن يتصدع. وفي رواية: كاد قلبي أن يطير) ، وكان آنذاك مشركاً. يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {وَالطُّورِ} [الطور:1] ، الواو للقسم، فيقسم الله سبحانه وتعالى بالطور، وقد تقدم أن الله سبحانه له أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، أما نحن فليس لنا أن نقسم بجبل ولا بشجر ولا بحجر ولا بأب ولا بنبي ولا بأخ، ولا بأي شيء إلا بالله أو بأسمائه أو بصفاته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، لكن لربنا أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالطور.

موضع البيت المعمور

موضع البيت المعمور قال تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4] ، هو بيت في السماء السابعة أو فوق السماء السابعة على الراجح من أقوال العلماء، وهو قول الجمهور، كان الخليل إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إليه، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال أثناء المعراج، فكان الخليل عليه الصلاة والسلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وهو بيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون.

المقصود بالسقف المرفوع

المقصود بالسقف المرفوع قال تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:5] ، المراد به السماء، كما قال تعالى في كتابه الكريم: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] ، فالسقف المرفوع: هو السماء التي رفعها الله سبحانه. قال تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] للعلماء فيه أقوال، تقدم كثير منها عند قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] ، فمن الأقوال التي فيها: امتلأت وفاضت فاختلط عذبها بمالحها. ومن الأقوال: أن (البحر المسجور) هو المتأجج ناراً، وهكذا يكون يوم القيامة، تشتعل البحار ناراً على ما قاله فريق كبير من العلماء.

المراد بالكتاب المسطور

المراد بالكتاب المسطور قال الله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:2] (المسطور) : هو المسطر المكتوب، وما المراد بالكتاب المسطور؟ من أهل العلم من قال: إنه الكتاب الذي كتبت فيه مقادير الخلائق، كما قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52-53] ، على أحد الأقوال في تأويلها، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) . ومن العلماء من قال: إن الكتاب المسطور هو القرآن الكريم. ومنهم من قال: إن الكتاب المسطور هو الكتاب الذي تكتب فيه أعمالنا الآن وتسطر، وتنشر يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] .

معنى الرق المنشور

معنى الرق المنشور قال تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] الرق: هو الجلد أو الورق الذي يكتب فيه، أو هو الرقاع التي يكتب فيها، فكل ما كتب فيه يطلق عليه الرق، سواء كان ورق شجر، أو ورقاً أبيض كالذي بين أيدينا، أو جلداً، أو أي شيء يكتب عليه يسمى رقاً، والرق المنشور الذي ينشر يوم القيامة، أي: يفتح، كما قال الله سبحانه: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10] .

معنى الطور

معنى الطور الطور على رأي جمهور المفسرين: هو جبل، والمراد به طور سيناء الذي كلم الله سبحانه وتعالى عنده نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. وقد قال فريق من العلماء: إن الجبل إذا كان عليه نبات أطلق عليه الطور، فالطور على هذا القول: اسم لكل جبل ينبت، والذي لا ينبت يطلق عليه جبل. لكن المعني بالطور هنا على رأي جمهور المفسرين هو طور سيناء، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص:46] أي: نادينا نبينا موسى عليه السلام.

تفاوت مخلوقات الله

تفاوت مخلوقات الله الله يقسم بالطور، وكما تقدم فإن الله سبحانه وتعالى يقسم بعظيم مخلوقاته، فيقسم بالشمس، وبالقمر، وبالنجم، وبالسماء، وبالأرض، ويقسم في الجملة بعظيم المخلوقات، ولا تكاد ترى قسماً بالذباب ولا بالبعوض ولا بنحو ذلك، وإن كان الكل من خلق الله، لكن خلق الله سبحانه وتعالى يتفاوت في العظمة، كما قال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] . فالخلق يتفاوت، وكذلك القرآن وهو كتاب الله يتفاوت في الفضل، فسورة الفاتحة هي أعظم سورة في الكتاب العزيز، وآية الكرسي هي سيدة القرآن الكريم، فكل هذا الأمر فيه لله يتصرف فيه كيف يشاء سبحانه وتعالى. والجبال المذكورة في كتاب الله منها الطور، كما في هذه الآية، ومنها الجودي، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] ، ومن الجبال المذكورة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جبل أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه) ، ومنها جبل يقال له: جمدان، مر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (سيروا هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) . فالجبال تتفاوت فيما بينها في الفضل، كما أن سائر الخلائق بينها تفاوت في الفضل، وكما قدمنا أن الله سبحانه وتعالى فضل بعض البلاد على بعض، فأم القرى مكة ليست كالمنصورة مثلاً، وفضل بعض المساجد على بعض، فالمسجد الحرام يفوق غيره من المساجد في الفضل، وهذا {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] . فأقسم الله سبحانه وتعالى هنا بالطور.

وقوع عذاب الله للكافرين

وقوع عذاب الله للكافرين أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الأشياء على شيء واحد تكرر القسم عليه في عدة سور ألا وهو: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] ، فأقسم الله بهذه الأشياء على هذا الشيء، وتكرر هذا الشيء المقسم عليه في عدة آيات من سور الكتاب العزيز، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور:7-9] أي: تتحرك السماء تحركاً، وتضطرب اضطراباً، {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9-10] تزاح عن أماكنها وتسير، كما قال سبحانه: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] .

معنى الوعيد بالويل

معنى الوعيد بالويل قال تعالى: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11] في هذا الوقت: الويل للمكذبين، والويل المراد به العذاب الشديد، وقد وردت جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في إسناد كل منها مقال، وفحواها: أن الويل وادٍ في جهنم تستغيث منه جهنم، وتستجير جهنم من حره، لكن الأسانيد فيها مقال، فمن العلماء من حسنها أو صححها بمجموعها، ومنهم من أبقاها في حيز الضعف، وقال: إن الويل المراد به التوعد بالعذاب الشديد، {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11] ، أي بالعذاب الشديد في يوم الدين.

دخول الكافرين النار بسبب كفرهم بالله

دخول الكافرين النار بسبب كفرهم بالله قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:12-13] أي: يدفعون إليها دفعاً، {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:14-15] كلام يقال لهم على سبيل التعيير والتوبيخ، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور:16] فإن الصبر لا فائدة فيه آنذاك؛ وعدم الصبر لا فائدة فيه آنذاك، لأن العذاب واقع لا محالة، فالصبر على العذاب قد يخفف العذاب في الدنيا، واحتساب الأذى في سبيل الله قد يخفف العذاب في الدنيا، والتجلد قد يخفف العذاب، أما في الآخرة فليس كذلك، فصور التخفيف التي بها يخفف العذاب في الدنيا لا تنفع بشيء في الآخرة. فمن صور تخفيف العذاب في الدنيا: الاشتراك في المصائب، إذا اُبتليت تأملت، فإذا رأيت بلاء غيرك أعظم من بلائك هان عليك بلاؤك، أما في الآخرة فلا ينفع هذا الاشتراك، كما قال الله سبحانه: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] ، كذلك الصبر قد يخفف العذاب في الدنيا ولكنه لا يخففه في الآخرة، قال أهل الكفر: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] ، وهنا يقول سبحانه: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16] أي: يستوي عليكم، الصبر وعدمه، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16] أي: إنما تجزون جزاء كسبكم، وجزاء عملكم.

حال المتقين في الآخرة

حال المتقين في الآخرة قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الطور:17-18] (فاكهين) أي: منعمين مسرورين بما آتاهم ربهم، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور:18-20] صفوفهم متقابلة، كما قال سبحانه: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] .

طعام وشراب أهل الجنة

طعام وشراب أهل الجنة وقال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} [الطور:22-23] (كأساً) أي: كأس خمر، وإذا أطلق الكأس فالمراد به: كأس الخمر في الكتاب العزيز، {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] ، فخمر الدنيا تجلب اللغو لشاربها، فشارب خمر الدنيا يهذي ويلغو، وكذلك يرتكب الآثام، ويقول الفحش والمنكر من القول، أما خمر الآخرة فلا يصاحبها لغو ولا إثم، وكذلك لا يصاحبها الصداع كما قال تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] . فقوله سبحانه: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا} [الطور:23] (فيها) بمعنى: معها، أي: لا يصاحب خمر الآخرة، (لغو) كخمر الدنيا، ولا يصاحبها إثم كذلك، فالجنة كما قال الله عنها: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25-26] . قال تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] ، وليس المراد بالتنازع المعروف في الدنيا، إنما المراد بالتنازع هنا -والله أعلم- التناول؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] . قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24] (غلمان) أي: خدم، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} [الطور:24] أي: من الخدم الذين يخدمونهم، {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24] من شدة البياض الذي هم فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19] من كثرتهم كأنهم لؤلؤ رش في الجنة من شدة البياض، وكثرة الخدم. قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] أي: أقبل أهل الجنة بعضهم إلى بعض كلٌ يسأل الآخر ويكلم الآخر، فالمراد بالتساؤل هنا التخاطب والتحادث.

الخوف من عذاب الله من أسباب دخول الجنة

الخوف من عذاب الله من أسباب دخول الجنة قال سبحانه: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] أي: كنا في حياتنا الدنيا في أهلنا خائفين، ومن أهل العلم من قال: هنا مقدر محذوف، وتقديره: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] قال بعض العلماء: أقبل كلٌ منهم على الآخر يسأله ويقول له: أتدري متى غفر لنا؟ غفر لنا يوم أن جلسنا بمجلس كذا وكذا نستغفر الله، غفر لنا يوم أن كنا نحن وأنت في مكان كذا وكذا ودعونا الله، غفر لنا يوم سرنا في طريق كذا وكذا وأمطنا الأذى عن الطريق، غفر لنا يوم أن اتبعنا الجنازة، أو يوم أن عدنا مرضى، فكلٌ يذكر الآخر بالوقت الذي غفر له فيه، هذا قول، لكن صريح الآيات لا يعارضه، ولكنه أقوى منه في المأخذ، والله أعلم. قال تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] (قبل) أي: في حياتنا الدنيا، (في أهلنا) أي: في وسط أهلنا، (مشفقين) أي: خائفين من عذاب الله، فهذا الشعور ينبغي أن ينتاب المؤمن، ألا وهو الخوف من عذاب الله سبحانه، شعور يجب أن ينتاب المؤمن في حياته الدنيا. هاهم أهل الإيمان يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26-27] و (السموم) هو الحر الشديد، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28] و (البر) قال بعض العلماء: المراد به اللطيف، فجمعوا بين خصلتين، {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] (مشفقين) أي: خائفين، ومع ذلك: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} [الطور:28] أي: كانوا يدعون ربهم مع خوف وإشفاق، كما قال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] . فعلى المسلم أن يوطن نفسه على هذه الأحوال، ألا وهي: دعاء الله سبحانه وتعالى مع الخوف والشفقة من عذابه، فهذا هو حال أهل الإيمان، وقد دلت عليه عشرات النصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على المسلم أن يدعو ربه دعاء الخائف من عذابه الراجي رحمة ربه.

ما يتبع الميت من حسنات بسبب الذرية الصالحة

ما يتبع الميت من حسنات بسبب الذرية الصالحة قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] أفادت هذه الآية شيئاً وهو: أن الشخص قد يستفيد بكسب غيره أحياناً. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] أي: إذا كان الأب صالحاً وبلغ درجة عالية في الجنة، وابنه مؤمناً، ولكن هذا الابن قصر ولم يبلغ منزلة أبيه في الجنة، فإكراماً من الله سبحانه وتعالى للآباء، وتفضلاً منه سبحانه وتعالى على الأبناء، يلحق الأبناء بالآباء، ولا يلت الآباء من أجورهم شيئاً، أي: ولا ينقص الآباء من أجرهم شيئاً، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] ، أي: للدرجات العُلى، فأفادت الآية ما أفادته غيرها أن الابن ينتفع بصلاح الأب، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] ، فالابن الصالح ينتفع بسعي أبيه، وكذلك الأب ينتفع بسعي ولده كذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ومنها: ولد صالح يدعو له) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حسنه بعض أهل العلم: (إن الرجل ترفع درجته يوم القيامة، فيقول: يا رب! أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك) ، وحديث: (يقول الله يوم القيامة لملائكته: أدخلوا هؤلاء الصغار الجنة، فيمتنع الصغار عن دخول الجنة، فيقول الله سبحانه: ما لي أراهم واقفين -أي: ممتنعين مترددين- فيقولون: يا ربنا! لا ندخلها حتى يدخلها آباؤنا وتدخلها أمهاتنا، فيقول الله سبحانه: أدخلوا معهم آباءهم وأمهاتهم) ، فالولد الصالح ينتفع بصلاح أبيه، والأب ينتفع بصلاح الولد. إذاً: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، فيه استثناءات وإضافات، وله إيضاحات، فقد ينتفع الرجل بسعي غيره، فإن الرجل قد يحج عن الآخر فينتفع بحجه، والرجل قد يتصدق عن الآخر فينتفع بصدقته، والرجل قد يدعو للآخر فينتفع بدعائه، والرجل قد يسدد الدين عن الآخر فيجزئ سداد الدين عنه، والرجل قد يشفع في الآخر فتقبل شفاعته فيه، وقد أورد بعض أهل العلم ما يقارب سبعة وعشرين وجهاً لاستفادة الشخص بسعي غيره، كلها بأدلة من الكتاب والسنة. يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور:21] ما المراد بالذرية؟ هل الذرية المراد بها الأبناء فحسب أم المراد بها التسلسل؟ أحياناً يذكر الذرية ويراد بها أبناء الشخص فحسب، ذريتك هم أبناؤك، وأحياناً تمتد الذرية إلى أحفاد أحفاد الأحفاد، كما قال الله لنا: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] ، وبيننا وبينهم قرون كثيرة، فقوله سبحانه: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور:21] ، هل المراد بها الذرية المتسلسلة إلى قيام الساعة أو المراد بالذرية الأبناء؟ الظاهر أنه الثاني، والله سبحانه وتعالى أعلم، وإلا لاستوى أهل الصلاح كلهم في الفضل يوم القيامة، إذ كلهم يرجعون إلى المحمولين مع نوح، والمحمولون مع نوح عليه السلام في درجة عالية من الجنة، فلو قلنا بتسلسل الذرية إلى الأحفاد وأحفاد الأحفاد لاشترك الجميع في المنزلة، ولكن الذي يبدو ويظهر أن المراد بالذرية هنا هم الأولاد، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] (وما ألتناهم) أي: وما أنقصناهم، بل كلٌ مرتهن بعمله وبكسبه.

وصف الحور العين في الجنة

وصف الحور العين في الجنة وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور:20] من العلماء من قال: إن المراد بالتزويج هنا الاقتران، أي: جعلنا لكل منهم قرينة وهي من الحور العين، ومنهم من قال: إن التزويج هنا بمعنى الإنكاح، ولكن التزويج أعم من الإنكاح، فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر:88] أي: أصنافاً. قال سبحانه: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور:20] الحورية هي: التي تكون عينها شديدة البياض، وحدقتها شديدة السواد، فالحور تطلق على شدة البياض، ومنه قال فريق من أهل العلم: سبب تسمية الحواريين بذلك، لشدة بياض ثيابهم، وقال الشاعر: فقل للحواريات يبكين غيرنا ولا تبكين إلا الكلاب النوابح فقوله: (فقل للحواريات) أي: للجواري البيضاء، فالحواري هو شديد البياض، فالحورية هي: شديدة بياض العين، شديدة سوادها كذلك.

دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لقومه وتكذيبهم له

دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لقومه وتكذيبهم له قال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29] ، قد تقدم حكم التذكير ومحل التذكير، فقوله تعالى: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الطور:29] أي: بحمد ربك، وهي جملة اعتراضية، فذكر فما أنت -بحمد الله- بكاهن ولا مجنون، كما قيل لـ علي: كيف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح -بحمد الله- بارئاً. فجملة: (بحمد الله) اعتراضية يصلح السياق بدون ذكرها، وتفهم من سياقات أخرى، فيجوز أن تقول: أصبح بارئاً، لكن إضافة بحمد لله لرد الفضل إلى الله سبحانه، فكذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الطور:29] أي: بفضل الله عليك لست بكاهن ولا بمجنون، كما قال في سورة القلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم:1-2] أي: بحمد الله لست بكاهن، وبحمد الله لست بمجنون. قال سبحانه: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29] (الكاهن) هو الذي يدعي علم الغيب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) ، وقد ورد بلفظ: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) ، وهذا الأخير تكلم فيه بعض العلماء، قال سبحانه: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29] أي: كما يصفك هؤلاء الواصفون.

عدم سؤال النبي لقومه أجرا

عدم سؤال النبي لقومه أجراً قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40] أفادت الآية الكريمة أن الداعي إلى الله عليه أن يكون حراً طليقاً، غير خاضع للناس، وغير طالب لأموالهم، فلا تذهب تحاضر -أيها الأخ الداعي إلى الله- في مكان، وتمتد عينك إلى أهل الثراء أصحاب المسجد الذي أنت فيه، ولا أصحاب المكان الذي أنت فيه، بل عليك أن تكون عزيزاً بما آتاك الله من تُقى، وبما آتاك الله سبحانه وتعالى من علم، أما إذا استشرفت نفسك أُهنت لما في أيدهم، وزهدوا فيما عندك من العلم، وحملوا هموم مجيئك، في كل مرة يرتبون لك هدية ومالاً فحينئذٍ تهون عندهم ويسأموك، وبعد أن كانوا يجلونك ويوقرونك يزهدون فيك وفي علمك؛ بل ويتكلمون أمامك ومن خلفك -والعياذ بالله-. فلذلك على الأخ الداعي أن يجعل العلم فوق كل شيء بعد تقوى الله سبحانه وتعالى، ولا تمتد عينه إلى ما متع به أزواجاً منهم، فالمال زائل، والعلم الذي يُبتغى به وجه الله باقٍ، وقد قال الله سبحانه لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ولم يقل له: وقل رب زدني مالاً، بل قال في شأن المال: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] ، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة:269] . فعلى إخواننا الدعاة إلى الله أن ينزهوا أنفسهم من أخذ المال مع إعداد أنفسهم علمياً كذلك، وإلا سقطت هيبتهم، وذهب وقارهم، وداسهم الناس بالأقدام والعياذ بالله! قال الله سبحانه: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [الطور:40] أي: تطلب منهم أجراً على البلاغ، {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40] أي: خائفون من غرامة يؤدونها إليك، {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:41-42] أي: يكيدون يا محمد وأهل الإسلام، فإذا كانوا يكيدون بك وبأصحابك فاعلم تمام العلم وأيقن تمام اليقين أن الذين كفروا هم المكيدون، كما قال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ، وكما قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] ، قال الله سبحانه وتعالى كذلك: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] ، وقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81] ، ألا فليعلم كل من يكيد بالإسلام أن الله سبحانه وتعالى يكيد به، وكل من يخطط لأذى المسلمين فالله سبحانه وتعالى يدبر له ويحكم له خططاً، فالله سبحانه وتعالى هو الحفيظ لأوليائه، وهو متولي الصالحين.

تكذيب المشركين بالآيات

تكذيب المشركين بالآيات قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطور:43-44] إن يرى هؤلاء الكفار العذاب نازلاً عليهم من السماء، قد تقطع عليهم وسقط قطعاً قطعاً؛ لكذبوا أيضاً مع مجيء هذه الآيات، وقالوا: {سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أي: متراكم بعضه فوق بعض! فيرون العذاب نازلاً ولكنهم يلحدون كذلك، كما يفعل أهل الإلحاد والعلمنة في هذا الزمان، يرون الزلازل من تحت أرجلهم، ويقولون: هزات أرضية! هكذا أهل الكفر دائماً، {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الطور:44] أي: قطعاً من السماء متساقطة عليهم بالعذاب {يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] ولا يقرون أنه عذاب من عند الله سبحانه وتعالى، فهكذا أهل الإلحاد الذين يجحدون اليوم الآخر وينكرون عذاب الله فإنهم يصرفون العذاب إلى اصطلاحات سموها هم وآباؤهم. قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أي: أن الآيات لا تنفعهم بشيء، كما قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96-97] . قال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الطور:45-46] ، {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:47] أي: إن للذين ظلموا عذاباً في الحياة الدنيا أقل من عذاب الآخرة، وما هو العذاب في الحياة الدنيا الذي ذكره الله بقوله: {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] ؟ قال فريق من العلماء: هو ما أصابهم يوم بدر، وقال آخرون: هو ما أصابهم من جوع لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) . قال سبحانه: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] أي: قبل عذاب يوم القيامة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:47] .

بيان الحجج العقلية في الرد على المشركين

بيان الحجج العقلية في الرد على المشركين قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] أي: لا يصدقون، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور:37] يرزقون من شاءوا ويمنعون من شاءوا، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37] ، فخزائن الله لا يملكها أحد إلا هو سبحانه، كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] ، وكما قال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:100] ، وكما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] فخزائن كل شيء بيده، فمن ثم سل الله من خزائنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى سحاء الليل والنهار -أي: تصب الخير بالليل والنهار- أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض! فإنه لم يغض ما في يمينه شيئاً -أي: لم ينقص ما في يمينه شيئاً- وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض) ، فالخزائن كلها بيد الله، فإن شئت الثراء فسل الله الثراء، وإن شئت الغنى فسل الله الغنى، فخزائن كل شيء بيديه، ولا ينبغي أبداً أن يفارقك هذا الظن، ويبتعد عنك هذا اليقين، وأن يزول عنك هذا التصور، بل عليك دائماً أن توقن أن خزائن كل شيء بيديه، وكل أنواع الفتوحات من عنده سبحانه وتعالى، من الأرزاق والأموال والأفهام والأخلاق والكلمات الطيبة، وكل شيء خزائنه عند الله سبحانه وتعالى. قال الله سبحانه: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور:37] يتحكمون في الخلق، ويرزقون من شاءوا ويمنعون من شاءوا، {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37] أم هم المغالبون على الدنيا يذلون من شاءوا ويهينون من شاءوا ويعزون من شاءوا؟ لا، بل الله هو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو الذي يرفع، وهو الذي يخفض، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، هذا ذو منصب الآن وفي الغد وضيع، هذا ذو جاه الآن وفي الغد ذليل حقير -والعياذ بالله-، فالأيام يصرفها ربنا كيف يشاء، ويداولها سبحانه كيف يشاء، يعز ويذل، ويقبض ويبسط، يميت ويحيي سبحانه وتعالى. قال سبحانه: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37] على الكون وعلى الحياة وعلى الخلق، {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور:38] أي: هل لهم سلم يصعدون عليه، ويستمعون إلى ما يدور في الملأ الأعلى، وينقلون الوحي إلى الناس به؟ {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ} [الطور:38] أي: مدعي هذا الاستماع {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:38] أي: بحجة بينة موضحة للذي قال وزعم. قال تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور:39] فقد كان أهل الكفر يدعون لله البنات، ومنهم من يقول: إن الملائكة إناث، وأنها بنات لله سبحانه، وهناك طائفة تقول: البنات في الجملة بنات الله، وطائفة تقول: إن الملائكة إناث، وهؤلاء الإناث هم بنات لله سبحانه، قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] ، وكان هذا اعتقاد قبيلة خزاعة من المشركين، كانت تعتقد هذا المعتقد الرديء.

تحدي الله للمشركين أن يأتوا بآية مثل القرآن

تحدي الله للمشركين أن يأتوا بآية مثل القرآن قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:34] ، قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى تحدى المشركين بأنواع من التحديات، وتحداهم أن يأتوا بحديث مثل هذا القرآن فلم يأتوا، فتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يأتوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فلم يأتوا، وتحداهم أن يأتوا بآية من مثله فلم يأتوا، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] . ولما طفق مسيلمة الكذاب يختلق الاختلاقات، ويكذب على الله، ويدعي قرآناً نزل عليه من عند الله، فطفق يقول: يا ضفدعة بنت ضفدعين، نقي كما تنقين، نصفكِ في الماء ونصفكِ في الطين، لا الماء تعكرين، ولا الشارب تمنعين، كذبه أقرب أصحابه إليه، فقالوا: نشهد على قفاك أنه قفا كذاب على الله سبحانه، أين هذا من قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:1-4] ؟ كذلك لما طفق يكذب ويقول: والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، فالآكلات أكلاً، إن قريشاً قوم يعتدون! كذبه أحب أصحابه إليه وأقرب أصحابه إليه، ووسم بسمة لا تفارقه إلى يوم الدين ألا وهي سمة: مسيلمة الكذاب والعياذ بالله من الكذب على الله.

طغيان المشركين

طغيان المشركين قال سبحانه: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} [الطور:32] أي: هل عقولهم وصلت بهم إلى هذا الحد وحملتهم على أن يقولوا هذا القول؟ {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور:32] أي: تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان، {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور:33] أي: قاله واختلقه من عند نفسه، {بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:23-34] ، وكل هذه الآيات فيها تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له.

اتهام النبي بأنه شاعر

اتهام النبي بأنه شاعر قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] ، قالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، و (أم) هنا بمعنى: بل، أي: بل يقولون: شاعر نتربص به ريب المنون، و (نتربص) أي: ننتظر، و (ريب المنون) أي: مصائب الدهر، فكأنهم يقولون: انتظروا فسيموت محمد عن قريب، وتستريحون من محمد ومن شره! هكذا يقولون، (نتربص به ريب المنون) أي: ننتظر به مصائب الدهر التي تحل به، كما قال شاعر كان مولعاً بامرأة قد تزوجت: تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوماً أو يموت حليلها فقوله: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] أي: حوادث الدهر، أي: ننتظر به حوادث الدهر تحل به، وكما قال سبحانه وتعالى معقباً على مقالتهم وعلى ظنهم السيئ الرديء: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ، وكما قال الشاعر: فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا فالموت سيأتي الجميع. قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِر} [الطور:30] أي: بل يقولون شاعر، {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا} [الطور:30-31] أي: انتظروا، {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] أي: من المنتظرين.

الاستعانة على الشدائد بالصبر والصلاة

الاستعانة على الشدائد بالصبر والصلاة وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] هذه الآية تصبِّر النبي صلى الله عليه وسلم أيما تصبير، وتطمئنه غاية الاطمئنان، وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] قال فريق من أهل العلم: على مرأى منا، فنحن نراك ونرى ما يصيبك، ونحن نحفظك، ونحن مطلعون عليك، فما يحدث لك ليس بغائب عنا، وليس بخافٍ علينا، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] أي: بحفظنا، وليس المراد بهذا التأويل نفي صفة العين لله، وإنما إثباتها مع بيان آثارها، كقول الرجل للآخر في الحياة الدنيا: ولدك في عيني، أي: اطمئن على ولدك فهو بإذن الله في حفظي بعد الله سبحانه، فأنا أرعاه وأحيطه بالنصح وبالتوجيه، فالله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] . وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] للعلماء في تفسير قوله تعالى: {حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] أقوال، منها: حين تقوم إلى الصلاة، فإذا قمت إلى الصلاة فاستفتح الصلاة كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) . ومن العلماء من قال: حين تقوم من المجلس، قل: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. ومن العلماء من قال: حين تقوم من نومك صل لله سبحانه وتعالى، فالآية فيها: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] . والآية أفادت شيئاً أفادته غيرها من الآيات وهو: أنه يستعان على الشدائد والمصائب بالصبر والصلاة، وهذا الأصل قد أُكد عليه في عدة آيات وأحاديث، فيستعان على المصائب والشدائد والبلايا بشيئين: بالصبر وبالصلاة، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] أي: لقضاء ربك، اصبر على قضاء ربك، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الطور:48] ، قال فريق من أهل العلم: أي صل، وهذا المعنى مذكور في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:97] فما العلاج؟ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:98-99] أي: اصبر على عبادة ربك حتى يأتيك اليقين. وهذا المعنى كذلك في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130] ، ومن الآيات ما هو أصرح كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] ، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] وقد فعل ذلك سلفنا الصالح رحمهم الله، فكان ابن عباس في سفر له، فلما أتاه خبر أخيه قثم بن العباس، فقيل له: إن أخاك قد مات، فتنحى عن الركب وقام يصلي، فقيل له: لماذا تصلي وقد بلغك خبر موت أخيك؟ قال: إن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] ، وقال الله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] . فهذا أصل أُكد عليه في آيات كثيرة، ولما دخلت سارة عليها السلام على الجبار قام الخليل إبراهيم عليه السلام يصلي، فحينئذٍ إذا كان ذلك كذلك فليثبت الشخص مع هذا الأصل، وليداوم عليه عند الشدائد، فهو سلاحه، وهو معينه بإذن الله، ألا وهو الاستعانة بالصبر وبالصلاة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] أي: اصبر لقضاء ربك، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] نحن نتولاك ونرعاك. قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [الطور:48-49] أي: فصل له في الليل، كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:49] ، من العلماء من قال: إن المراد بإدبار النجوم: الوقت الذي أدبرت فيه النجوم، وسيأتي بعده النهار. ومنهم من حمل ذلك على ركعتي الفجر؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) . ومنهم من حمله على صلاة الفجر؛ لقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] . ومن العلماء من حمله على ركعات قبل الفجر، عندما توشك النجوم على الإدبار؛ لأن الله قال: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:49] أي: عقب ذهاب النجوم، والكل محتمل، وله وجه من الصحة، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم منع المرأة من الذهاب إلى المسجد وحضور الدروس والمحاضرات

حكم منع المرأة من الذهاب إلى المسجد وحضور الدروس والمحاضرات Q رجل عندما رأى زوجته المتنقبة تلبس زيها كاملاً، ولكن البيشة رقيقة على العينين بحيث تظهر عيناها وجزءاً من الوجه، وكان زوجها قد حذرها في مشوار الذهاب أن يُرى منها ذلك عند الإياب، ولما لم تستجب ناسية أو منشغلة عزم على ألا تخرج أسبوعاً لتستمع للعلم الشرعي خلال يومي الثلاثاء والجمعة تأديباً لها حتى لا تكرر هذا الأمر، فهل الزوج محق أم مخطئ؟ A الزوج اجتهد في تقدير العقوبة على الزوجة، لكن نراه جانب الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، فهو إن كان يقرها على خروجها لطلب العلم الشرعي أو يقرها على خروجها للمساجد لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، وقد ذكر أن عدم استجابتها للنسيان أو للانشغال، فجدير بمن شعر أن أخاه قد نسي أن يلتمس له العذر، فإن الله سبحانه رفع عن الناسي وعن المخطئ القلم، (رفع القلم عن ثلاثة) ، ولما قال أهل الإيمان: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله سبحانه: (قد فعلت) . فهو أخطأ من وجهين -فيما أرى والله أعلم- وإلا فهو مجتهد، أخذته الغيرة -جزاه الله خيراً- لكن الخطأ أنه آخذ الناس، مؤاخذة الناس لا ينبغي أن يتشدد فيها الشخص، والثاني أنه عاقب بعقوبة النبي صلى الله عليه وسلم ضيف فيها الباب وقال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) . والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير سورة النجم

تفسير سورة النجم الضحك والبكاء من الصفات التي جبل الله عليها الخلق، وهناك أمور تكون أسباباً للضحك والبكاء. ولقد أهلك الله تبارك وتعالى الأمم المكذبة كعاد وثمود وقوم نوح والمؤتفكات، ومن فصاحة القرآن وبلاغته أنه عبر عن تدميرها بكلمة واحدة، ثم ضرب الذكر عنها صفحاً إلى أن تلقى ربها يوم القيامة.

مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه

مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه الحزونة والابتسامة والضحك صفات جبل الله سبحانه وتعالى عليها الخلق، فمن الناس من هو كثير الضحك، وأصل ذلك من الله سبحانه. وكذلك كثير الأحزان، (وقد جاء جد سعيد بن المسيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: اسمي حزن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي، قال سعيد: فما زالت فينا الحزونة) . فالذي يضحك كثيراً فذلك من الله، والذي يبكي كثيراً فالأصل أن ذلك من الله، فإنه سبحانه هو الذي أضحك وأبكى، ولكن ثم أمور تكون أسباباً للضحك وأخرى أسباباً للبكاء، وإلا فأصل الضحك وأصل البكاء من الله سبحانه وتعالى، فهذه الأمور كالتذكير مثلاً بالموت، والتذكير بالمصائب، والتذكير بالآخرة، كل ذلك يُحزن وإنما هو أسباب فقط، وإلا فهناك من الناس مهما أتته من أسباب الحزن لا يبكي، ومن الناس من إذا أتته كل أسباب السعادة لا يضحك؛ فهذه فقط أسباب. وهذه الآية الكريمة احتج بها عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما مؤيداً لرأي أم المؤمنين عائشة، في مسألة عذاب القبر، فقد ذهبت أم المؤمنين عائشة إلى نفي عذاب القبر على من نيح عليه، فإنها لما بلغها رضي الله عنها أن عمر وابن عمر رضي الله عنهما يذكران الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أو ببعض بكاء أهله عليه) ، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن: إنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في يهود، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم ماتت لهم امرأة يهودية، فكانوا يبكون عليها، فقال: إنهم يبكون عليها وإنها لتعذب الآن في قبرها، واقرءوا إن شئتم: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] . كذا قالت أم المؤمنين عائشة، فاستطرد ابن عباس متماً لحديثها بقوله: وقد قال الله سبحانه، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] يعني أن الضحك والبكاء لا يؤثران في الميت؛ لأن الضحك والبكاء أصلهما من الله سبحانه وتعالى. وفي الحقيقة أن لهذه المسألة فقهاً، وهي مسألة هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه؟ فقد قال فريق من أهل العلم: إذا كان النوح من سنته، وأوصى الناس بالبكاء عليه بعد موته، فإنه يأثم بكون سنته البكاء على الأموات، ويأثم لوصيته بمخالفة السنة، كما كان قائل الجاهلية يقول: إذا أنا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد قال سبحانه: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] ، ومن العلماء من قال: إن هذا الضحك والبكاء يكون يوم القيامة، لكن الأكثرين على أنه عام.

منشأ خلق الإنسان ووقت النشأة الأخرى

منشأ خلق الإنسان ووقت النشأة الأخرى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:44-46] : تُمنى؛ أي: تُسال وتُراق. قوله: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم:47] ، قال كثير من أهل العلم: ذلك يوم القيامة.

الفرق بين قوله تعالى: (أغنى وأقنى)

الفرق بين قوله تعالى: (أغنى وأقنى) قال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم:48] ، أما الغنى فمعروف، وأما قوله تعالى: (وأقنى) فالإقناء أن تقتني شيئاً إضافياً فوق الغنى الذي أنت فيه، فتصبح مقتنياً لسيارة، أو مقتنياً لعمارة. فالغنى هو الاستغناء عن الناس، وفوق الغنى الاقتناء هو مزيد من الاستغناء عن الناس، بحيث يكون عندك أشياء فوق الاستغناء عن الناس، بل أنت الذي تعطي الناس وتتفضل عليهم، فمعنى (فأقنى) : جعله يقتني ما اقتناه.

معنى الشعرى وسبب تخصيصه بالذكر

معنى الشعرى وسبب تخصيصه بالذكر قال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] . والشعرى: كوكب كبير في السماء، فلو قال قائل: إن الله سبحانه وتعالى هو رب كل الكواكب، ورب كل النجوم، فلماذا قال سبحانه: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] ؟ ف A أنه لا إشكال في هذا؛ فإن الشعرى خصت بالذكر لكونها من أكبر الكواكب وأكبر النجوم، فكونه سبحانه ربها فهو رب ما دونها من الكواكب؛ ولأن القوم كانوا يعظمونها، ومنهم من كان يتيامن بها أو يتشاءم بها إلى غير ذلك من المتعلقات بها.

أقوال العلماء في تعدد قبيلة عاد

أقوال العلماء في تعدد قبيلة عاد قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:50-51] ، اختلف العلماء في عاد هل هما عادان أم عاد واحدة؟ من أهل العلم من قال: إن عاداً عادان: عاداً الأولى: وهي التي أُطلِق عليها إِرم كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:6-7] ، فهي قبيلة إرم بن سام بن نوح؛ فعاد الأولى هي عاد التي أبوها إِرم. وأما عاد الثانية: فهي التي كانت تسكن الأحقاف، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21] ، وهي بلاد حضرموت باليمن. ومن العلماء من قال: إنها عاد واحدة، وليست هناك عاد أولى وعاد أخرى، إنما عاد قبيلة واحدة أُطلِق عليها (عاداً الأولى) باعتبار ترتيبها الزمني بالنسبة للأمم التي جاءت من بعدها. فليست هناك على هذا التأويل الثاني عاد أولى وعاد آخرة، إنما هي عاد واحدة، وهي المنسوبة إلى إِرم بن سام بن نوح، وهي نفسها التي كانت تسكن الأحقاف، وأُطلِق عليها الأولى باعتبار تقدمها على سائر الأمم التي ذكرت في كتاب الله سبحانه وتعالى، كثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبع وغير ذلك من القبائل.

هلاك الأمم المكذبة

هلاك الأمم المكذبة {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:50-51] . أي: ما أبقاها هي الأخرى، فهذه كلمات موجزة دلت على إهلاك الله لأمم طاغية أشد الطغيان، فأُجمِل أمرها في كلمة واحدة. فعاد تلك القبيلة العاتية عبِّر عن تدميرها بكلمة واحدة فصيحة، وهذا من بلاغة القرآن الكريم: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} ، وقبيلة أخرى يُعبَّر عن تدميرها أيضاً بكلمة واحدة قال تعالى: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} . وقبيلة ثالثة: وهي قبيلة نوح قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:52-53] . فقبائل وشعوب وقرون عاتية في الظلم والجبروت، يُعبر عن إهلاكها بكلمة واحدة، ويضرب عنها الذكر صفحاً إلى أن تلقى ربها سبحانه وتعالى يوم القيامة. والقبيلة الرابعة: قوم لوط قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] . فالمؤتفكات: هي مدائن قوم لوط، والمؤتفكة هنا كبرى مدائن قوم لوط، وهي التي ذكِرت في قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} [الحاقة:9] ، أي: والمؤتفكات أيضاً جاءوا بالخاطئة. والمراد بقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] ، أنّ هذه المؤتفكات -مدائن قوم لوط- أهواها الله سبحانه، قال جمهور المفسرين: اقتُلِعت أرضهم وارتفعت إلى السماء، وجعل الله سبحانه وتعالى عاليها سافلها حتى سُمِع للصبيان صياح، وللكلاب نباح، وقُلبت رأساً على عقب، وأتبعت كما قال سبحانه بحجارة من سجيل منضود. وقوله: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:54] ، أي: حل بها ما حل، ونزل بها من العذاب والبلاء والكرب ما نزل، فغشاها وأصابها ما أصابها، ولحق بها ما لحق بها، و (ما) هنا لتعظيم الذي لحق بها، وبيان عظم الدمار الذي لحق بها، وعظم العذاب الذي حل بها.

اقتراب موعد الساعة

اقتراب موعد الساعة قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:55] : والمراء من الجدل، أي: فعلام يجادلك هؤلاء؟ والآلاء: النّعم. {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:56-57] ، أي: اقتربت الساعة. قوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:58] ، أي: مانعة تمنعها.

حكم البكاء والتباكي عند تلاوة القرآن

حكم البكاء والتباكي عند تلاوة القرآن وقوله تعالى {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم:59-60] ، في معرض الذم لمن يضحك وهو يتلو كتاب الله، ولمن لا يبكي وهو يتلو كتاب الله سبحانه، ففيها الحث ضمناً على التباكي عند قراءة كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد دلت على ذلك آيات، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107-109] . فيشرع التباكي عند تلاوة القرآن لهذه الآيات الكريمة، ولقوله أيضاً: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] ، وقد قال القائل: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل) ، زاد أحد الرواة في هذا الحديث (من البكاء) ، فيشرع التباكي عند تلاوة القرآن. قوله: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61] ، سامدون فيه أقوال، أحدها: لاهون، والآخر: تغنون، يعني يستبدلون الغناء بتلاوة القرآن.

حكم سجود التلاوة وكيفيته

حكم سجود التلاوة وكيفيته قال تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] ، هذه الآية الأخيرة قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فسجد وسجدوا ومن كان معهم من المشركين، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية بالمدينة كما في حديث زيد بن ثابت، فلم يسجد فيها صلى الله عليه وسلم. هذه الآية قرأها النبي بمكة كما في حديث ابن مسعود وسجد صلوات الله وسلامه عليه فيها، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث زيد بن ثابت في البخاري أيضاً ولم يسجد فيها. فمن العلماء من قال: إن السجود كان مشروعاً فيها بمكة ونسخ في المدينة، ومنهم من أبى النسخ وقال: بل تركه صلى الله عليه وسلم لبيان جواز عدم السجود فيها، وأما الأمر فهو على الاستحباب لا على الإيجاب. وهذا هو الأصح على ما يظهر من تصرف أمير المؤمنين عمر، إذ قد قرأ أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه سورة النحل، فجاء إلى السجدة التي فيها وكان يخطب على المنبر فنزل عن المنبر وسجد وسجد المسلمون معه، ثم لما كانت الجمعة المقبلة قرأها أمير المؤمنين عمر فتهيأ الناس للسجود فقال: يا أيها الناس! إنا نمر بالآية فيها السجدة، فمن سجد فهو حسن ومن لم يسجد فلا شيء عليه، وترك أمير المؤمنين عمر السجود في آية النحل التي سجد فيها في الجمعة السابقة. فالذي يترجح: أن سجود التلاوة سنة مستحبة وليس بواجب، واستنبط العلماء من سجود النبي صلى الله عليه وسلم وعموم أصحابه وسجود المشركين معه استبعاد أن يكونوا كلهم على وضوء آنذاك، وأن سجود التلاوة لا يلزم له وضوء، إذ يصعب ويشق أن يقال إن الجميع كانوا على وضوء. وهل يهوي الشخص إلى سجود التلاوة مكبراً أو يسجد بدون تكبير؟ الأمر في ذلك واسع. أما بالنسبة لهذا السجود في الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد عنه حديث فيه ضعف من حديث عبد الله بن عمر العمري عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر عند الهوي لسجود التلاوة، واستؤنس لهذا التكبير بعموم الصفات المروية لصلاة رسول الله أنه كان يكبر عند كل خفض ورفع، فأُخِذ من هذا العموم مع خصوص حديث عبد الله بن عمر العمري إثبات مشروعية التكبير عند الهوي لسجود التلاوة، أما خارج الصلاة فالأمر فيها واسع، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد ثبت أن النبي سجد في هذه السجدة كما قدمنا، وترك السجود فيها أيضاً، وثبت أنه سجد في سجدة (ص) ، وثبت أنه سجد في الانشقاق، وكذلك في العلق، وما وراء ذلك من السجدات فموقوفات على أصحاب رسول الله. وانعقد الإجماع على بعضها كالإجماع المنقول في سجدة فصلت (حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . ونقل بعض العلماء الإجماع على السجود في سجدة (ألم * تنزيل) خارج الصلاة، وفي داخل الصلاة اختلفوا هل يُسجد فيها أو لا يُسجد؟ على قولين لأهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير سورة القمر [1]

تفسير سورة القمر [1] معجزة انشقاق القمر من المعجزات العظيمة التي أيد الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وما كان من قريش أمام هذه الآية الباهرة إلا أن استمروا على كفرهم وعنادهم، وزعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم سحرهم، ولكن سيعلم هؤلاء المشركون عاقبة تكذيبهم عند خروجهم من قبورهم وجلة قلوبهم ذليلة أبصارهم، ثم يكون مصيرهم إلى جهنم وبئس القرار.

معجزة انشقاق القمر

معجزة انشقاق القمر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأعياد بسورة ق وسورة القمر. يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، قوله سبحانه: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) كقوله سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] ، وكقوله سبحانه وتعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت أنا والساعة كهاتين) وقرن بين السبابة والوسطى. أما قوله تعالى: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فهذه من كبرى المعجزات التي أيد الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ألا وهي معجزة انشقاق القمر، فقد سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فانشق القمر لرسول الله، فقال المشركون: سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم! فقالت طائفة منهم: إن يكن محمد سحرنا فإنه لم يسحر السفار، فلما أتى السفار -أي المسافرون- إلى مكة سألهم أهل الشرك: هل رأيتم القمر منشقاً؟ قالوا: نعم رأيناه منشقاً، فلقة على هذا الجبل، وفلقة على هذا الجبل، فلقة في هذه الناحية، وفلقة في تلك الناحية، وحديث انشقاق القمر من الأحاديث المتواترة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي انشقاق القمر من عدة طرق عن أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد أيد الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بطائفة من المعجزات كحنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، ومجيء الأشجار إليه صلى الله عليه وسلم، وبكاء الجمل عنده صلى الله عليه وسلم، وبالإسراء وبالمعراج، وبغير ذلك، وكانت المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي هذا القرآن الذي بين أيدينا، يدعو إلى كل خير، وينهى عن كل شر، ويخبر بأنباء ما قد مضى، وبأنباء ما هو آتٍ، فهو المعجزة الباقية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حفظ الله به العقول والدماء والأبدان والأموال والأعراض، فكله خير، فلله الحمد والشكر على ذلك.

موقف الداعية ممن أصر على عناده رغم تكرر تذكيره

موقف الداعية ممن أصر على عناده رغم تكرر تذكيره قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:4] ، لقد جاءهم من الأنباء ما فيه زاجر وواعظ لهم عن شركهم وعن غيهم، ولكنهم لم يستجيبوا لتلك المواعظ {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5] ، كما قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] . {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6] ، يعني: أعرض عنهم يا محمد! والآية أفادت فقهاً في الدعوة إلى الله وهو: أن الشخص إذا وضح للقوم الآيات، وذكر القوم بالله وبحدود الله وبشرعه برفق ولين، وكرر عليهم ذلك، فأبوا إلا الرفض وأبوا إلا العناد وأبوا إلا النيل منه والطعن فيه، بل والطعن في الشرع ومن جاء به، فله حينئذٍ أن يعرض عنهم ولا يستمر في النصح والتذكير، ولا لوم عليه؛ لأن الله قال هاهنا: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:6] ، بعد قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:4-5] ، فبعدها قال سبحانه: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:6] ، وفي الآية الأخرى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54] ، وفي الآية الثالثة يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] ، فمحل ذلك التولي والإعراض عنهم كما في قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء:81] ، وهنا {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:6] ، وكما في قوله تعالى الذي سمعتموه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] ، تفيد هذه الآيات فقهاً في الدعوة إلى الله، ألا وهو: إذا كان من أمامك متمرداً وعاتياً على شرع الله، ومتبرماً من التذكير بالله، وقد بذلت معه الجهد في هذا الباب؛ فحينئذٍ أعرض عنه ولا لوم عليك كما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الذاريات:54] ، أي: فأعرض عنهم {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54] ، أي: لا لوم عليك، فحينئذٍ هناك وقت على الداعية إلى الله فيه ألا يهين نفسه، وألا يهين أيضاً دعوته التي يحملها إذا كان من أمامه يستعملون البذاءات، ويستعملون الألفاظ السخيفة للطعن فيه وفي الدين، فحينئذٍ أمر الله وتوجيه الله لنا: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) .

موقف المشركين من معجزة انشقاق القمر

موقف المشركين من معجزة انشقاق القمر قال الله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2] وهذا في الكفار، (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) أي: معجزة، ((يُعْرِضُوا)) أي: يعرضوا عنها (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ، المعجزات لا تنفع من ختم الله على قلبه، ولذلك قال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14] ، أي يصعدون {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15] ، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] ، فقوله سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2] يبين أن الآيات لا تنفع من أراد الله له الغواية والعياذ بالله! وقوله تعالى: {يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي: سحر ذاهب، أي سحر مستمر فيه صاحبه، ويعنون به: محمداً صلى الله عليه وسلم، و (مُسْتَمِرٌّ) فيها أكثر من قول، أحدها: سحر ذاهب، والثاني: سحر مستمر فيه صاحبه ألا وهو عندهم محمد صلى الله عليه وسلم. {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:3] ، أي: كل أمرٍ من الأمور له نهاية وله استقرار كما قال سبحانه: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67] كل خبر له نهاية وله مستقر، سواء من أخبار هذه الحياة الدنيا أو أخبار الآخرة أو الأنباء التي ذُكِرت في كتاب الله فلها وقت تتحقق فيه، فهذا يتنزل على أمور الدنيا وعلى أمور الآخرة، كل مشكلة من المشاكل في نهاية المطاف لها منتهى ولها استقرار، حتى بالنسبة لمسائلنا الشخصية، ترى الفتاة حسناء وجميلة ويتخاطفها الخطاب، وهذا ينظر، وهذا ينظر، والمشاكل حولها كثير، وما هي إلا أيام أو سنوات أو شهور، وينتهي أمرها بزواجها أو بموتها أو بذبولها أو بأي شيء من الأشياء، تنتهي قصتها ويُطوى الذكر عنها، وكذلك الشاب تراه متمرداً وذاهباً إلى هنا، وها هنا، ويعصي بهذا، ويؤذي بهذا، وفي النهاية لكل ظالم نهاية، ولكل عابث نهاية. وكذلك أمور الآخرة التي حكاها ربنا في كتابه، ووعد بها لا بد أن يأتي وقت تتأتى فيه هذه الأمور، وتستقر فيه هذه الأنباء، قال الله سبحانه: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} ، كل أمر له نهاية وله استقرار.

تفسير قوله تعالى: (يوم يدع الداع إلى شيء نكر)

تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ) ثم الله سبحانه وتعالى هددهم تهديداً ضمنياً {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6] ، (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) عندها وقف لازم كما قال كثير من العلماء، ثم قوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) أي: وانتظر بهم وتأنّ بهم إلى يومٍ يدعو فيه الداعي إلى شيءٍ نكر، وهو يوم القيامة، ومن هو الداعي المذكور في قوله سبحانه: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) ؟ الداعي هنا لم يُفسر من هو، فمن العلماء من قال: الداعي هو الله سبحانه وتعالى، ومنهم من قال: الداعي ملك من الملائكة موكل بدعوة الناس للخروج من القبور، ومنهم من قال: الداعي هو إسرافيل الذي ينفخ في الصور {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] ، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال مشهورة، أحدها: أن الداعي هو الله سبحانه، الثاني: أن الداعي هو ملك من الملائكة مختص بذلك، الثالث: أن الداعي هو إسرافيل عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى أعلم. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6] ، (إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ) للعلماء فيه قولان: أحدها: إلى شيء فظيع عظيم، لا يعلم حجمه وعظمه إلا الله سبحانه وتعالى، شيء مخيف عظيم لا يعلم مدى بشاعته ومدى فظاعته إلا الله سبحانه وتعالى، فنُكِّر لبيان عظمته، القول الثاني: يوم يدعو الداعي إلى شيء لا يفهمه هؤلاء، لماذا يناديهم هذا المنادي؟ يقول: هلموا تعالوا، فيخرجون من القبور، لماذا يخرجون؟ لا يدرون إلى أين يتجهون، إلى الداعي فقط، لا يعرفون لماذا هم ذاهبون إلى هذا الداعي، هل يدعوهم هذا الداعي للمكافئة والإثابة أو يدعوهم هذا الداعي للعقاب والجزاء؟ أمر مستنكر عندهم.

حال الكافرين عند خروجهم من قبورهم

حال الكافرين عند خروجهم من قبورهم وكما قال سبحانه في الآية الأخرى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7] ، قال سبحانه: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر:7] ، أي ذليلة أبصارهم {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} أي: القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7] ، الخشوع محبوب في الدنيا، فلماذا هو مذموم في الآخرة، الله سبحانه وتعالى حمِد الخاشعين له في الدنيا، وقال في آية أخرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2-4] ، فكيف هي خاشعة ومع ذلك تصلى ناراً حامية؟! العلماء قالوا: إن الخشوع في الدنيا يجلب الأمن في الآخرة، وعدم الخشوع في الدنيا لله سبحانه يجعل الشخص ذليلاً خاشعاً في الآخرة، فلا إشكال، فهذا خشوع الدنيا وذاك خشوع الآخرة. قال سبحانه: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ) أي: ذليلة أبصارهم، (يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ) أي من القبور، (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) يعني: مسرعين كأنهم جراد منتشر، وتقدم الجمع بين هذا الوصف في هذه الآية: (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) وبين الوصف في الآية الأخرى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] ، فالفراش المبثوث له طريقة في انتشاره، والجراد المنتشر له طريقة في انتشاره، فالفراش دائماً يطير بشكل غير منظم، يتجه فريق منه إلى اليمين، وفريق منه إلى الشمال، وفريق إلى أعلى وفريق إلى أسفل، أما الجراد في مسيره وانتشاره فانتشاره منظم، تجد أسراب الجراد تمشي كلها إلى وجهة محددة، فكيف الجمع بين قوله: (يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) ، أي: متجهون وجهة محددة، وبين قوله: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) ، أي: الفراش المنتشر أيضاً؟ العلماء يقولون: إذا دعاهم الداعي خرجوا كلهم من القبور متجهين في خط واحد إلى الداعي الذي دعاهم، لا ينحرفون عنه يمنة ولا يسرة، إذا دعاهم الداعي لا ينحرفون عنه يميناً ولا يساراً بل كلهم يتجهون أسراباً وأفواجاً إلى هذا الداعي، لكن في مواقف أخر، مثلاً: حين تتطاير الصحف، أو حين يُدعى للمرور على الصراط، أو حين يدعى للميزان، فحينئذٍ الأفئدة تطير وتذهب، وكل يجري في وجهة لا يدري إلى أين يذهب، ولا يدري إلى أين يفر. {مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين {إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] ، أي: شديد، وهذه كلمة موجزة من الكفار تدل على مدى الهم الذي هم فيه، ومدى النكد الذي يعيشونه، ويلامسونه، كلمة موجزة: (هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي: يوم شديد وشاق والعياذ بالله! وقوله سبحانه عن الكافرين: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] ، هل هو عسِر على الكافرين فقط كما قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:9-10] أم هو عسِر أيضاً على أهل الإيمان؟ للعلماء في هذا الإشكال أقوال: أقواها: أنه عسِر على الجميع، لكن وصِف بأنه على الكافرين غير يسير، وأن الكافرين يقولون: هذا يوم عسر؛ لأن عسره لن يزول عن الكافرين، أما العسر الذي لحق بأهل الإيمان فإنه عسر زائل، والعسر الزائل لا يُطلق عليه عسرٌ إذ مآله إلى الزوال، أما العسر الملازم فهو الذي يطلق عليه العسر، كما روي عن رسول الله أنه كان يستعيذ بالله من جار السوء في دار المقامة، فإن جار السفر يوشك أن يزول، الجار في السفر والصاحب في السفر وإن كان مؤذياً فبانتهاء السفر يزول، أما الجار الذي يساكنك ويجاورك طيلة حياتك، الجار المؤذي هو هذا الذي يستعاذ منه، فمن أهل العلم من قال: إن اليوم عسير على الجميع لكن عسره على أهل الكفر أشد، أما عسره على الجميع فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، قلت: يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) ، فهذا عام لـ عائشة ولغيرها، وقال الله سبحانه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34-36] ، وقول آدم صلى الله عليه وسلم وكذا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام جميعاً: نفسي نفسي، كلهم يقول: نفسي نفسي، من هول المطلع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تعرض نوح لأذى قومه

تعرض نوح لأذى قومه قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] ، أي: زجروه وأهانوه وآذوه صلوات الله وسلامه عليه، ووصفوه بالجنون يعني: أن الأذى باللسان كان وارداً، والزجر كذلك بكل أنواعه، وقوله: (وَازْدُجِرَ) هو: أبلغ الزجر، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] ، دعا ربه دعوة مظلوم بقوله: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) .

الأسئلة

الأسئلة

حكم حديث من أخذ على تعليم القرآن قوسا

حكم حديث من أخذ على تعليم القرآن قوساً Q بالنسبة لموضوع من أخذ على تعليم القرآن قوساً من العلماء من حسنه؟ A أعلم أن من العلماء من حسّنه، لكن تحسيننا لحديث لا ينبني على تحسين عالم واحد فقط، فليس معنى أنه موجود في كتاب، وصاحب الكتاب صححه أنه يقيناً صحيح، هناك عدد كبير جداً من أهل العلم ضعفوا هذا الحديث. إلى هنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم الحج بمال مختلس

حكم الحج بمال مختلس Q شخص اختلس مالاً كي يحج، هل حجه صحيح؟ A نعم حجه صحيح، لكن عليه الدين.

طالب جامعي طلب منه نحت تمثال

طالب جامعي طلب منه نحت تمثال Q طالب في كلية التربية مقرر عليه مادة النحت، وطلب منه وضع تمثال أو ما شابه ذلك فما الحكم؟ A يظهر أنها ضرورة تقدر بقدرها، وحاول ألا تتقِن صنعته، حتى لا يُبعث إلى مكان وتتحمل إثمه، والله أعلم.

حكم صبغ بعض الشعر ببعض الألوان

حكم صبغ بعض الشعر ببعض الألوان Q هل صبغ بعض الشعر ببعض الألوان يجوز أم لا؟ A يجوز إذا لم يكن فيه تدليس وغش للخطاب، وأما مسألة السواد ففيه قولان للعلماء، فاتق السواد وما سوى ذلك فلا بأس به.

حكم من أرغم زوجته على إسقاط جنينها

حكم من أرغم زوجته على إسقاط جنينها Q عندي طفل صغير يبلغ عاماً وثلاثة أشهر، وزوجي يأبى أن أحمل مرة أخرى، ويعزم على إنزال أي جنين يأتي، فما حكم طاعته، وإذا رفضت الإجهاض ممكن أن يصل الأمر إلى مشاكل كثيرة جداً؟ A الذي يظهر -والله سبحانه أعلم- أن الولد من حق الزوجة كما أنه من حق الزوج أيضاً، فلها أن تحتال وأن تخفي عليه الأمر؛ لأن الولد من حقها كما أنه من حقه، يعني من حقها أن تحمل وترزق بالولد كما أن من حقه أن يُرزق بالولد. وإذا خشيت من الطلاق هذه مسألة أخرى تقدر هي مصلحتها ومفسدتها.

حكم الاستمناء لمن هو محاط ببيئة فيها نساء

حكم الاستمناء لمن هو محاط ببيئة فيها نساء Q لقد سمعنا في أمر العادة السرية آراءً مختلفة، فبالنسبة لشاب أعزب محاط بالفتن من النساء هل هي مباحة له أم محرمة؟ A هذه التسميات المحدثة، كالعادة السرية، ونداء إنساني، والإخوة على الساحة، -حتى الدعاة يستعملونها- هذه الألفاظ لابد أن نجل أنفسنا عنها، الألفاظ نأخذها من كتاب ربنا ومن سنة نبينا ومن سيرة سلفنا الصالح، بعض الإخوة يقول لك: الإخوة الدعاة العاملين على الساحة، ساحة ماذا؟! عبِّر بألفاظ منتقاة من كتاب الله ومن سنة رسول الله لا منتقاة من الملاعب! فالشاهد: أن العادة السرية اسمها في الشرع الاستمناء. وبالنسبة لمسألة الاستمناء، الوارد فيها من كتاب الله ما احتج به الإمام الشافعي قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] ، استدل بها الإمام الشافعي على المنع؛ لأن الله قال: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ) ترجع إلى الأزواج أو ما ملكت الأيمان (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) . وأيضاً قال النبي: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ما أرشد إلى هذه المسألة. تبقى مسائل أُخَر وهي النظر في السؤال الذي ذكره الأخ خاصة، وفي الحقيقة أننا نخشى من الحديث فيه، ومن الاسترسال في الحديث فيه كما قال القرطبي رحمه الله: قد أصبحت قيلاً ويا ليتها لم تُقل، ولكن فقط من باب أن شخصاً تورط في مخالطة النساء، فالأولى له ثم الأولى أن ينقذ نفسه من التواجد في وسط النساء، وهذا من أنجح الحلول، ويعتصم بالله سبحانه وتعالى، ويكثر من الصيام، ويدعو بدعاء يوسف صلى الله عليه وسلم: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] ، ويتزوج ويبادر بالزواج، ولو من ثيب إلى أن يوسع الله سبحانه وتعالى عليه، ثم إن شاء أن يتزوج أخرى بعد ذلك تزوج، لكن نقول: إذا كانت هذه العملية حراماً لاستدلال الشافعي رحمه الله، وهناك حرام أعظم سيقع فيه الشخص وهو الزنا، فلا نريد أن نقول له: افعلها؛ لأنه سيفهم خطأً، وسيعيش دائماً يفعلها، ودائماً هو مع النساء، فسيعيش دائماً في معصية. لكن القواعد الكلية للشرعية تقول باختيار أخف الضررين عند توارد الأضرار، اختر أخفها، لكن نصيحتي أن تترك المكان، وقد سُئل ابن عباس فأجاب بإجابة نحو التي ذُكِرت، قال: (هي خير من الزنا، ونكاح الإماء خير منه) ، يعني: إن لم يكن معك مال تتزوج فاشتر أمة رخيصة خير من الاستمناء، مع أن الله سبحانه أمر بالصبر عن نكاح ملك اليمين: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] يعني: من الإماء {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ} [النساء:25] إلى أن قال: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25] ، يعني صبركم عن نكاح الإماء خير من إقدامكم على نكاح الإماء، لكن نقول: الثيبات الحرائر موجودات، واحدة زوجها مات، اكسب أجراً في الأيتام وفي المرأة، وعندها بيتها، وعندها أثاثها، أما إذا قالت لك أمك: يا ابني! أنت ستفضحنا تتزوج ثيب!! فقل لها: الرسول صلى الله عليه وسلم ما فضح أهله أبداً لما تزوج خديجة بنت خويلد. وتعفَّف خير لك من أن تقع في المحرم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم وصل شعر الشارب بشعر اللحية

حكم وصل شعر الشارب بشعر اللحية Q ما حكم وصل شعر الشارب بشعر اللحية؟ A الذي يصل شعر الشارب بشعر اللحية، سيكون قد أطلق الشارب، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (قصوا الشارب) ، والله أعلم.

حكم الاقتراض من البنك لمساعدة من مر بضائقة مالية

حكم الاقتراض من البنك لمساعدة من مر بضائقة مالية Q طلب مني شخص يمر بضائقة مالية أن أقوم بعمل قرض من البنك له على أن يقوم بسداده لي؟ A لا تفعل.

حكم قراءة الإمام من المصحف لعدم حفظه

حكم قراءة الإمام من المصحف لعدم حفظه Q هل تجوز القراءة من المصحف لإمام يخطئ؟ A أجاز الجمهور ذلك استدلالاً بأن النبي كان يصلي وهو يحمل أمامة، وبأن ذكوان كان يؤم عائشة من المصحف، وأبطل الصلاة ابن حزم، وقال: إنه نوع من العبث في الصلاة، لكن رأي الجمهور أقرب إلى الصواب، والله أعلم، ولكن الأقرب أن ينحى الإمام ويؤتى بإمام حافظ ليصلي بالناس إذ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) .

حكم الوضوء لسجدة الشكر

حكم الوضوء لسجدة الشكر Q ذكرتم أنه لا يجب الوضوء في سجدة التلاوة، ماذا عن سجدة الشكر وتلاوة القرآن؟ A سجدة قراءة القرآن نفس سجدة التلاوة، ونفس الحكم في سجدة الشكر. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بُشِّر بأمر خر ساجداً، ويشق أن يقال أيضاً: إنه في كل مرة كان يبشر كان على وضوء عليه الصلاة والسلام. وبالنسبة لسجدة التلاوة لم يصح فيها ذكر معين، وسجدة الشكر كذلك لم يصح فيها ذكر معين، إنما هي كسائر السجدات.

حكم تلاوة القرآن بغير وضوء

حكم تلاوة القرآن بغير وضوء Q هل تجوز تلاوة القرآن بلا وضوء؟ A نعم تجوز تلاوة القرآن بلا وضوء، والأفضل الوضوء، أما الجواز فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث عائشة كان يذكر الله على كل أحيانه، ولأنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: (بت عند خالتي ميمونة فقلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم في طولها، ثم قام فجعل يمسح النوم عن وجهه، ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من آل عمران حتى ختم، ثم أتى شناً معلقاً) فدل ذلك على أنه قرأ العشر آيات قبل أن يتوضأ، والله أعلم.

حكم مس المصحف بغير وضوء

حكم مس المصحف بغير وضوء Q هل يجوز مس المصحف بلا وضوء؟ A التلاوة فصلنا فيها الآن بقي المس. مس المصحف بدون وضوء من منعه استدل بشيئين: الشيء الأول: قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ، والشيء الثاني: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، كما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. أما قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] فجمهور المفسرين على أنه في الكتاب المكنون الذي عند الله والمطهرون هم الملائكة، فلا يستدل بالآية على المنع، أما حديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، فأكثر أهل العلم على تضعيفه، فأصبح الباب الآن فارغاً من الأدلة المانعة، إذاً: فلا بأس بمسه.

حكم إزالة شعر الوجه

حكم إزالة شعر الوجه Q أعلم جيداً أن نتف الحواجب من النمص، فهل يجوز لي يوم عرسي فقط أن أزيل شعر وجهي إلا حواجبي؟ A إذا كانت تعلم أن عمل الحواجب هو المحرم فقط، والسؤال ليس فيه أنها ستزيل شعر الوجه فلا إشكال إذاً، لكن كتفصيل للسؤال: شعر الوجه على أقسام، شعرٌ تحرم إزالته، وشعر على نزاع بين العلماء في إزالته، وشعر تستحب إزالته عند الأكثرين، أما الشعر الذي تحرم إزالته بالإجماع شعر الحواجب لحديث: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات ... ) ، أما الشعر الذي فيه الخلاف، وفيه قولان للعلماء، فهو شعر الجبهة باستثناء الحواجب، فمن العلماء من قال: إن معنى النمص اللغوي يتطرق إلى الإزالة، ومنها إزالة شعر الوجه بصفة عامة، ومنهم من قال: إن النمص مختص بالحاجب، والشعر الذي استحب كثير من العلماء إزالته إذا نبت للمرأة شارب أو نبتت لها لحية، قالوا: حتى لا تقع في التشبه بالرجال، وقد لعن النبي المتشبهات من النساء بالرجال. قد يقول قائل: إن معنى النمص اللغوي يقتضي أن إزالة أي شعر من الوجه محرم إذ النمص الإزالة، لكن على هذا القائل تعقُّب، فيقال له: إذا قلت: إن النمص إزالة فبناءً على هذا عليك أن تحرم على المرأة أن تزيل شعر رجليها، والمسطر في كتب العلماء أن النساء كن يزلن شعور الأرجل أحياناً للتزين، ويزلن شعر الذراعين للتزين، ولم يُستنكر ذلك، فالذي يظهر -والله سبحانه أعلم- أن المحرم يقيناً شعر الحواجب، وأن شعر الشارب أو اللحية تستحب إزالته، وأن شعر الوجه في الخد ونحوه إن تركته فمن باب الورع، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، وإلا فالقطع بتحريمه فيه نظر.

حكم التجارة في اللحوم المجمدة

حكم التجارة في اللحوم المجمدة Q ما هو حكم اللحوم المجمدة والتجارة فيها؟ A التجارة في اللحوم المجمدة في النفس منها شيء، ونفس الحكم السابق، من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، إذا كانت اللحوم المجمدة تذبح في مصر، فالأصل في مصر أنها بلاد مسلمة، وأن ذبحها حلال، لكن إذا كانت مستوردة ففي الدولة التي استوردت منها تفصيل، إن كانت مستوردة من دول الملاحدة، فلا تؤكل أصلاً، ولا يُتاجر فيها، وإن كانت مستوردة من دولة كتابية، فيبقى النظر في طريقة التذكية التي ذكيت بها الذبيحة هناك، فإن قطع أهل اختصاص بأن التذكية ليست على الشريعة، لا أعني التسمية عند الذبح من عدمها فقط، بل أعني التذكية الشرعية، أو هل هي لم تذك بمعنى: أنها قُتِلت بطريقة الصعق أو غير ذلك، فتكون بمنزلة الوقيذ، ففيها تفصيل، ولا أعلم طريقة الذبح التي تُذبح بها هذه البهائم في دول أهل الكتاب، فليُسأل عنها أهل الاختصاص. لكن دائماً معنا حديثان لرسول الله نتحرك بهما: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) .

حكم من فاته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة

حكم من فاته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة Q رجل دخل ليصلي الجنازة وقد سُبق ببعض التكبيرات فإذا كبر معهم ماذا يصنع؟ A هذه المسألة كنا نفتي فيها أولاً بأحد شيئين: قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) ، فنقول: إما أن تكبر: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر إلى أن تتحد مع الإمام في التكبيرة التي هو فيها، إذ القراءة بين التكبيرات ليست بواجبة؛ لأن هذا قول، فتكبر عدة مرات وبعدها تتفق مع الإمام وتفعل ما يفعل الإمام، أو الرأي الآخر: كبِّر واصنع كما يصنع الإمام، وما فاتك فأَتِم بعد الإمام، لكن بعد مراجعة صفة صلاة الجنازة باتساع، ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كبَّر على الجنازة أربع تكبيرات، وورد أنه صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن أرقم عند مسلم صلى على الجنازة فكبر خمس تكبيرات، ومن العلماء من يدعي أن الخمس منسوخة، لكن رد ذلك بأن: حديثها ثابت في مسلم، والقول بالتنويع أولى من القول بالنسخ. لكن الآثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين أفادت أشياء تريح الصدر جداً، منها أن من السلف من كان يكبر على الجنازة تسعاً، ومنهم من كان يكبر عليها سبعاً، ومنهم من كان يرى التكبير ثلاثاً، ومنهم من كبر على الجنازة مرتين، ومنهم من يرى قراءة الفاتحة في الصلاة على الجنازة، ومنهم من لا يرى قراءة الفاتحة في الصلاة على الجنازة، يعني: ورد أن بعضهم كان يدخل التكبير ومباشرة يدعو للميت، وورد أن بعضهم كان يكبِّر ويصلي على رسول الله ويدعو للميت، فالمسألة أصبح فيها اتساع، حتى روى ابن عباس -كما في البخاري - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُتِي إليه بجنازة فصلى عليها، وجهر بفاتحة الكتاب، وقال: إنما جهرت بفاتحة الكتاب لتعلموا أنها سنة، فلم أجد أحداً من العلماء قال ببطلان الصلاة على الجنازة إذا لم تقرأ فيها بالفاتحة، فليست الفاتحة ركناً من أركان الصلاة على الجنازة كما أنها ركن من أركان الصلوات المعتادة، بينهما خلاف، فجهر ابن عباس وقوله: لتعلموا أنها سنة، ليس صريحاً في الإيجاب، ثم يدل على أن منهم من كان لا يصنعها أصلاً، فالأمر في ذلك واسع، والله أعلم.

المادة الأولى في صناعة أحمر الشفاه

المادة الأولى في صناعة أحمر الشفاه Q لقد قرأت في إحدى الجرائد على لسان طبيب أن المادة الأولى في أحمر الشفاه هي براز الإنسان بعد المعالجة الكيميائية؟ A فليُبحث عند الأطباء عن صحة هذا الكلام، إذا كان أحد من إخواننا يعرف شيئاً عن ذلك فليفدنا.

حديث: (لحومها داء، وألبانها دواء، وسمنها شفاء)

حديث: (لحومها داء، وألبانها دواء، وسمنها شفاء) Q حديث (ألبانها شفاء، وسمنها دواء، ولحومها داء) لا يصح منه إلا الجملة الأولى، ولكن قرأنا في بعض الكتب أنه صحيح، فما رأيكم؟ A لا نعرف أن من العلماء من صحح حديث (لحومها داء، وألبانها دواء، وسمنها شفاء) في البقر، لكن بعد مراجعة هذا الحديث، والبحث في الطرق التي وردت، وجدنا أن اللفظ الأول أقرب إلى الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الثابت (ألبانها دواء، وسمنها شفاء) ، أما (لحومها داء) فحديثياً ليست بثابتة، من ناحية العلل والرجال ليست بثابتة بحال من الأحوال، ومن ناحية النظر أيضاً وعموم الشريعة لا تثبت، فإن الله قال: {وأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] فُسِّرت بقوله: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144] ، والنبي ضحى عن نسائه بالبقر، وإبراهيم راغ إلى أهله فجاء بعجل حنيذ، على رأي من قال: إن العجل الحنيذ من البقر، وهو رأي أكثر العلماء، والله أعلم.

حكم الزغاريد

حكم الزغاريد Q قلتم أن الزغاريد يمكن أن تكون وسط الأخوات، وقد أخذ بعض الناس من ذلك الحجة، ولكن أخبرتم أن الزغاريد مهما كانت ذات صوت منخفض يُسمع صوتها لمن في الشارع، فأرجو التوضيح لبعض الأخوات؟ A بالنسبة للزغاريد، غاية ما ورد فيها: (صوتان ملعونان: صوت رنة عند نعمة، ورنة عند مصيبة) ، أولاً ليس صريحاً أنه في الزغاريد، ثانياً: الحديث ليس بثابت، فبقي شيء في مسألة الزغاريد الذي يبنى عليه الحكم الشرعي، وهو مسألة الافتتان بها من عدمه، هل سيفتن الرجال بهذه الزغاريد أو لا؟ فكانت الإجابة: إذا كانت الزغاريد في وسط النساء بعيداً عن الرجال، لا يفتن بهن الرجال، فما المانع إذاً؟ إذ ليس في الباب الآن خبر، وهو ليس من أنواع اللهو، وقد قال الرسول لـ عائشة في يوم العرس: (يا عائشة! ما كان معكم لهو؟! فإن الأنصار يعجبهم اللهو) ، فما بقي معنا شيءٌ صريح يمنع، لكن السائل يقول: إن الزغاريد يسمعها من في الشارع، إذا كان يسمعها من في الشارع خرجنا عن إجابتنا السابقة، الإجابة كانت مشروطة بألا يُفتن بهن الرجال، لكن إذا كان سيفتن بهن الرجال فلسنا مسئولين عن ذلك، فما نستطيع أن نحرم من أجل الأخت التي قالت: إنه قد يسمعها رجل؛ لأن هذه من مسائل الأخوات التي فيها إفراط وتفريط.

حكم شهادات الاستثمار لمجموعة (ج) عديمة الفوائد

حكم شهادات الاستثمار لمجموعة (ج) عديمة الفوائد Q ما الحكم في شهادات الاستثمار المجموعة (ج) عديمة الفوائد، علماً بأن هناك حكماً أجاز حلها على اعتبار أنها بمنزلة القرعة التي ارتضاها الجميع؟ A ليست بمنزلة القرعة التي ارتضاها الجميع، بل الأرباح التي توزع على الفائزين منشؤها من الربا.

حكم الصلاة على جنازة موضوعة خلف الإمام وأمام المأمومين

حكم الصلاة على جنازة موضوعة خلف الإمام وأمام المأمومين Q هل تصح صلاة الجنازة والجنازة وراء الإمام وأمام المأمومين؟ A هذا أمر محدث ومبتدع، فالسنة أن تكون الجنازة أمام الإمام هو يصلي إليها، والمأمومون يصلون خلفه، كيف يصلي هو والجنازة خلفه؟ كيف تتأتى هذه الصورة؟ فهذه صورة لم ترد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويخشى إن كانوا قد تعمدوا ذلك أن تبطل صلاة الجميع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كيفية الصلاة على أكثر من جنازة متعددة الأجناس

كيفية الصلاة على أكثر من جنازة متعددة الأجناس Q كيف تكون الجنازة مما يلي الإمام إذا تعددت الأجناس رجالاً ونساءً أو صبياناً؟ A الرجال أولاً ثم النساء ثم الصبيان.

جد الزوج لأمه محرم لزوجته

جد الزوج لأمه محرم لزوجته Q هل يعتبر جد الزوج لأمه محرماً لزوجته؟ A نعم، جد الرجل لأمه محرم للزوجة.

حكم الزواج بابنة العم وقد رضع من جدته لأبيه

حكم الزواج بابنة العم وقد رضع من جدته لأبيه Q ابن رضع من جدته لأبيه، فهل يجوز له الزواج من ابنة عمه؟ A لا يجوز؛ لأنه أصبح أخاً لعمه من الرضاعة، فهو عم لبنت عمه من الرضاعة.

حكم إقامة الزاني حد الجلد على نفسه

حكم إقامة الزاني حد الجلد على نفسه Q شخص -والعياذ بالله- ابتلي بفاحشة الزنا من امرأة متزوجة، ويريد أن يقام عليه الحد، ويقول: أعلم أنك ستقول عليك بالتوبة والاستغفار، ولكن بالله عليك أرجوك أن تصف لي كيف يقام الحد؟ هل أجلد نفسي مائة جلدة أو مائتين؟ وبم أجلد (أبكرباج) أم بأي شيء؟ A قلت ستجلد نفسك، ولكن الخطاب في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] لإمام المسلمين، ليس الخطاب هنا للأفراد، لكن إن كنت لا تقنع بكلام رسول الله، فماذا نفعل لك؟ إذا كان الرسول أمر من هو مثلك أن يستر على نفسه، وأنت تأبى إلا أن تفتضح؛ لأن عند جلدك لا بد كما قال سبحانه: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] ، فعظِّم رغبتك فيما عند الله سبحانه وتعالى، وسله المعافاة والعافية في الدنيا والآخرة، وأكثر من عمل الصالحات، إن كان الله قد وسع عليك فاذهب واعتمر أو اذهب وحج، واعمل أي عمل صالح يدمر هذه الكبيرة، والله سبحانه وتعالى يتجاوز عن سيئاتك، أما الفضيحة أن أقول لك: اجلد نفسك بكرباج، وهل يليق بي أن أقول لك: اجمع عدداً من الحارة، وقل لهم: يا أيها الناس! أنا زنيت وتعالوا اجلدوني، وهم ليسوا بحكام، وليسوا أولياء أمور، افعل ما أمرك به رسولك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

حكم نكاح امرأة متزوجة نكاح متعة

حكم نكاح امرأة متزوجة نكاح متعة Q رجل يعمل في السوق، وتعمل معه امرأة متزوجة وهو غير متزوج، فابتلي بالزنا معها، وهذه من مفاسد الاختلاط في الأعمال، وهو يتعاشر معها ويبكي، ولكن تراوده فكرة أنه ينكحها نكاح متعة، حيث أنه يعطيها هدايا وأموال، فما الحكم؟ A ليس هذا نكاح متعة بحال من الأحوال؛ لأن نكاح المتعة لم يكن مع مثل هذه المتزوجة، ونكاح المتعة من أصله منسوخ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حرم الله نكاح المتعة يوم خيبر إلى الأبد، فحُرِّم نكاح المتعة تحريماً أبدياً. فالذي تفعله إنما هو زنا -والعياذ بالله- ولا يسول لك الشيطان ويزين لك سوء عملك، فاستغفر الله، وأكثر من عمل الصالحات.

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن Q هل يجوز أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن؟ A نعم يجوز أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن، وذلك لعموم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وذلك في قصة اللديغ الذي رقاه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، أما المانعون فحججهم دائرة بين الضعف وعدم الصراحة، فمن حجج المانعين حديث: (علمت رجلاً القرآن فأهدى إلي قوساً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار فرددتها) ، وهذا الحديث الراجح أنه ضعيف، وأكثر العلماء على تضعيفه. الحديث الثاني للمانعين: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به) ، وهذا الحديث وإن كان حسن الإسناد إلا أنه ليس بصريح، فالأكل بالقرآن له وجوه مشروعة، ووجوه غير مشروعة، ولو كان على عمومه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) ، فتبين بحديث (اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) ، أن قوله: (ولا تأكلوا به) ، محمول على شيءٍ خاص، وهو أن تبدل حرامه حلالاً رغبة في الأكل به كما قال الله سبحانه عن اليهود: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:174] ، أو الابتداع في هذا القرآن كالذي يُفعل في بعض المناسبات التي لم يُشرع فيها أن يذكر الله سبحانه بهذا النحو الذي يفعلونه، فهذه أقوى حجج القائلين بالمنع والجمهور على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن. وطائفة توسطت في الباب وقالت: إن اشترط المعلم فاشتراطه غير جائز، وإن لم يشترط فلا بأس بذلك، وطائفة أخرى قالت بالتفصيل: إن كان التعليم فرض عين -أي أنه يعلم الناس الفاتحة من أجل أن يصلوا بها ويتعبدوا ربهم- فليس له أن يطالب بأجرٍ على تعليمهم، أما إذا كان متفرغاً للتعليم فلا بأس، لكن جمهور أهل العلم على مشروعية أخذ الأجرة على تعليم القرآن مستدلين بحديث: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) .

تفسير سورة القمر [2]

تفسير سورة القمر [2] قص الله في كتابه قصصاً لأنبيائه ورسله، وما عانوه من آلام وشدة في سبيل تبليغ دين الله تعالى، وذكر في كتابه الدعوات التي ادعاها الرسل على أقوامهم لما لم يستجيبوا لهم، ووصف العذاب الذي عذبهم به؛ كل هذا من أجل أن يتسلى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم بمصاب أولئك عن مصيبتهم، ولتكون عبرة يعتبرها الطغاة من بعدهم.

قصة قوم نوح

قصة قوم نوح الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:9-10] .

يسر ألفاظ القرآن وسهولة عبارات الشرع

يسر ألفاظ القرآن وسهولة عبارات الشرع ثم قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، وهذا كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (إن كثيراً من آي الكتاب العزيز غني بذاته عن التأويل) ، كقول الله سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وكقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] ، وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] ، كل هذه آيات لا تحتاج إلى كبير تأويل ولا إلى كبير تفسير، فهي مفهومة يفهمها العرب إذ هي لغتهم، فكثير من آي الكتاب العزيز غني بذاته عن التأويل، وينبغي للخطيب وللمعلم وللمذكر أن يذكر الناس بالسهل اليسير، ولا يتعمد الإتيان بألفاظ يفكر فيها أياماً حتى يُخرجها للناس، ولا تخرج من قلبه بل تخرج من لسانه، ثم الناس لا يفهمونها ولا يفقهونها، فالفقيه حق الفقيه والرباني كل الرباني هو الذي يقدم للناس مادة علمية سهلة تُفهم، ولذلك ترى مقالات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست كمقالات غيره، مقالات النبي صلى الله عليه وسلم مقالاتٌ سهلة ويسيرة ومفهومة، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، كلام سهل ويسير ومفهوم. أما هؤلاء الذين يتشدقون في خطبهم ويأتون بغريب الألفاظ حباً في ثناء الناس عليهم، فإنهم مذمومون من جملة من الوجوه: الوجه الأول: إن قصدوا الرياء فعملهم حابط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله سبحانه: من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) . الوجه الثاني: أنهم مبتعدون عن قول الله سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، ومبتعدون عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم. الوجه الثالث: أنهم واقعون تحت طائلة السجع المذموم الذي حذر منه ابن عباس وغيره، فقد قال ابن عباس لبعض التابعين: (وانظر إلى السجع من الدعاء فاجتنبه؛ فإني عهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك) . أما التكلف الممقوت، وتمكث شهراً تفكر في بيت شعر، أو يوماً تفكر في قافية توافق قافيتك، أو تأتي بأسلوب صعب شاق على الناس، فسعيك غير مشكور، وعملك غير محمود، والسهولة كل السهولة واليسر كل اليسر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلما دخلت إلى أقوال علم الكلام ازددت بعداً عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا التعقيد الزائد لا معنى له ولا حاجة. وتوجد كتب أُثني عليها، وهي في الحقيقة جدير بها أن يثنى عليها من باب تأصيلها للعقائد، وتوضيحها للمناهج؛ ككتاب العقيدة الطحاوية وشرحها، لكن شابتها الألفاظ المعقدة زائدة التعقيد التي تجعلك تتهم نفسك عند قراءتها، ولو كان الكاتب قد أوجز وعبر بأساليب سهلة مفهومة لكان قد اجتمع إليه الحسن إلى الحسن، ولكنها تعقيدات في الألفاظ، حتى وأنت تقرأ -أيها الذكي- قد تتهم نفسك لعدم فهم هذه الألفاظ، وهذا الشيء أيضاً شاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في أجزائها الأول، فهي أجزاء حملت تعقيداً وألفاظاً معقدة كان من الأولى أن ينقى الكتاب منها، إلا أنها لما كانت في معرض الرد على أهل الكلام أُبيح له ذلك واستجاز ذلك رحمه الله تعالى، فلا تتهم نفسك أبداً وأنت تقرأ مثل هذه المقالات، فالعيب ليس فيك، إنما العيب في الذي لم يفهمك مراده، ولم يفهمك مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الباب. وعلى هذه المسائل فلتقس الأمور، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، أي: هل من معتبِر؟

حكم زيارة ديار القوم الكافرين

حكم زيارة ديار القوم الكافرين فلو قلنا: إن المراد من هذا كله تذكير الناس بمصارع الظالمين والطغاة، وبإنجاء الله للمؤمنين؛ فحينئذٍ يوجَّه سؤال ويُطرح: هل لنا حينئذٍ أن نزور مصارع القوم الظالمين بقصد الاعتبار والاتعاظ؟ يعني: إذا علمنا مثلاً أن قوماً ما أهلكهم الله، فهل لنا أن نزورهم؟ ومن ثم تأتي مسألة زيارة الأهرامات وغيرها من آثار أهل الظلم والكفر والفراعنة، هل تُشرع الزيارة للاتعاظ والاعتبار أم أنها من أصلها لا معنى لها؟ القائل بالجواز يستدل ويبني قوله على أمور، منها: قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم:42] ، وكما قال سبحانه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] ، {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} [القمر:15] إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالسير في الأرض للاعتبار والادكار. ولقائل آخر أن يمنع مستدلاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه لأصحابه لما مر بديار ثمود: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم) ، فهذا الحديث يمنع من الدخول عليهم بقصد النظر، إنما فقط يجوز الدخول عليهم مع الحالة المصاحبة لك من الخوف والبكاء أو التباكي، وللاتعاظ والاعتبار، فيقال: إن الأصل هو المنع، إلا إذا كنت باكياً كما أشار إليه حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فهذا وجهٌ آخر أيضاً وهو قويٌ، والمسألة لا تخلو من الأخذ والرد، لكن الذي يذهب فقط للإعجاب بحضارة الكفار الفراعنة، ثم يرجع معجباً بهم، ومتغنياً بتراثهم، فهذا يُخشى عليه أن يلحقه -والعياذ بالله- شعبة من النفاق، أو شعبة من محبة الكفر والكافرين، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال سبحانه: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:15] ، أي: فهل من متعظ؟ وهل من معتبر؟

الاعتبار بهلاك الأمم

الاعتبار بهلاك الأمم ثم يقول سبحانه: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} [القمر:15] ، أي: عبرة وعظة يُعتبر بها ويدَّكر، ودلالة وعلامة على قدرتنا على إنجاء أوليائنا وإغراق أعدائنا. قال فريق من أهل العلم: إن السفينة استمرت على جبل الجودي بالهند لقرون طويلة، بل لآلاف السنين حتى يعتبر بها المعتبرون ويدَّكر بها المدكرون، وقد تقدم شيءٌ من الحديث في هذا الباب، ألا وهو: باب ترك شيءٍ للاتعاظ وللاعتبار، فالله جل ذكره قال في شأن فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92] ، فجعل الله سبحانه جسد فرعون آية ودلالة على إغراق كل ظالم، وإهلاك كل طاغية؛ فجسد فرعون تُرِك آية، وكذلك سفينة نوح تُرِكت آية، وكذلك مدائن قوم لوط كما قال الله عنها: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] ، وديار ثمود كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:79] أي: بطريقٍ واضح، يمر عليهما المارة أثناء أسفارهم، وأثناء ذهابهم وإيابهم.

نصرة الله لأنبيائه وأوليائه

نصرة الله لأنبيائه وأوليائه قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] ، دعوة موجزة لكنها صدرت من مظلوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إياك ودعوة المظلوم! فإنها ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله سبحانه فوق الغمام، ويقول: بعزتي! لأنصرنك ولو بعد حين) ، فليحذر الشخص دعوة مظلوم قد ظلمه، فإن هذه الدعوة تطاردك ولو بعد زمن طويل، وتلاحقك، وتنزل بك فجأة وعلى غرة، فليؤد كل شخص المظالم إلى أهلها. قال سبحانه: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11-12] ، تصوير بليغ: تُفتح أبواب السماء بماءٍ منهمر، والأرض تفجر عيوناً، فيلتقي الماء على أمرٍ قد قُدِر، ماءٌ يغطي أعالي الجبال، كما قال نوح لولده إذ قال له: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] ، فالذي ينزل الماء هو الله، والذي يفجر الأرض عيوناً هو الله سبحانه، والذي يسخر السحب ويسيرها هو الله، والذي يفجر الأرضين هو الله سبحانه وتعالى، فليكن الملتجأ إليه دائماً. قال الله سبحانه: {وَحَمَلْنَاهُ} [القمر:13] أي: حملنا نوحاً عليه الصلاة والسلام ومن معه كما في الآية الأخرى، {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء:119] . قال سبحانه: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13] هي: السفينة، وهي: الفلك، وهي الجارية، فقد أُطلِق عليها كل ذلك، وأُطلِق عليها: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13] ، وأُطلِق عليها: الفلك المشحون، أي: المملوء، من قولهم: شحنتُ الباخرة، أو شُحِنت الباخرة، وأُطلِق عليها: الجارية لقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] ، والفلك كما في قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] . قال سبحانه وتعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] قال كثير من المفسرين: أي تجري على مرأى منا، وبحفظنا وبرعايتنا لها، كما قال الله سبحانه وتعالى لموسى صلى الله عليه وسلم: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] ، وكما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ، فقوله سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، و {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} كل ذلك كقول الشخص -مع ملاحظة الفارق- في الحياة الدنيا: ابنك في عيني، أي: أنا أحفظه وأرعاه لك بإذن الله فاطمئن عليه. فالله سبحانه وتعالى يقول: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، أي: بحفظنا وبرعايتنا. {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14] ، والجزاء هنا بمعنى: الثواب، والجزاء أحياناً يطلق بمعنى: العقاب، أي: إكراماً منا لمن كان كَفَر به قومه وهو نوح صلى الله عليه وسلم.

ما رمى أعداء الأنبياء به رسلهم

ما رمى أعداء الأنبياء به رسلهم (وَقَالُوا) أي: عن نوح صلى الله عليه وسلم (مجنون) ، وهي مقولة يوسم بها كل من سلك طريقه إلى الله سبحانه، وكل من وحّد الله ودعا إليه وسلك سبيله، وسلك سنن رسله عليهم الصلاة والسلام، يُتهم بالتخلف العقلي وبالجنون، وفي الوقت ذاته يصفون أنفسهم بالتقدم وبالرقي، ويصفون مخالفيهم بالتأخر والرجعية، وخفي على هؤلاء أن التقدم هو التقدم الذي يقربنا إلى الله سبحانه، والتخلف هو التخلف الذي يصدنا عن طريق الله وعن سنة رسوله، ويؤخرنا عنها، وأن الرقي هو الرقي في درجات الجنان، وأن الهبوط والانحدار هو الهبوط إلى الجحيم، والعياذ بالله! قال سبحانه: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] أي: وزجر نوحٌ صلى الله عليه وسلم من قومه أبلغ الزجر، وانتهروه غاية الانتهار، وأغروا به السفهاء، وسلطوا عليه الحمقى والصبيان، يرمونه بالبعر، ويضربونه بالأحجار صلى الله عليه وسلم.

مواساة الله لنبيه بذكر قصص الأنبياء

مواساة الله لنبيه بذكر قصص الأنبياء الآية في مطلعها تحمل مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له وتصبيراً، فإن الشخص إذا ابتلي بابتلاء من الابتلاءات وشاركه فيه غيره هانت عليه بلواه، وهانت عليه مصيبته، كما قالت الخنساء وهي ترثي أخاها صخراً: فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس معهم بالتأسي ولذلك كثرت المواساة، وكثر التذكير بأخبار الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لتصبيره، فقال الله له: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام:34] ، وفي الآية الأخرى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة عند موته: (يا فاطمة! إنه قد حل بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً، ألا اصبري فالذي نزل بأبيك لن ينجو منه أحد) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ، فكل هذه من أنواع المواساة التي يواسي ربنا سبحانه وتعالى بها عباده ورسله، ويصبِّرهم الله سبحانه وتعالى بها. فلذلك شرعت أشياء لخدمة هذا الأصل، من عيادات المرضى، واتباع الجنائز، فإذا فقئت عينك مثلاً، ودخلت المستشفى وأنت تتألم، ثم دخل بعدك رجل فقئت عيناه؛ تهون عليك بلواك. وإذا دخلت وقد كُسرت رجلك، ورأيت رجلاً كسرت رجلاه، وبُتِرت يداه، هانت عليك مصائبك. هذا منهج من مناهج التصبير، ألا وهو المواساة، وكان الرسول يصبر نفسه بهذا المبدأ، فلما أوذي عليه الصلاة والسلام قال: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) . وهذا يعطينا فقهاً للتعامل مع الناس، ألا وهو مواساة الناس بمصائب غيرهم، فإذا جاءك شخص يشكو من مرضٍ متألماً منه، فاحك له قصصاً تصبره بها، وذكِّره بعبر فيها أقوام قد أُصيبوا بأشد وأشد من الذي ابتلي به، فحينئذٍ تهون عليه تلك المصيبة التي هو فيها، ويحمد الله سبحانه وتعالى على ما أصابه. وهذا مضمن في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر:9] أي: كذبوا عبدنا نوحاً عليه الصلاة والسلام، فكما أن محمداً صلى الله عليه وسلم كُذِّب، فقد كُذِّب أيضاً نوح، وكما أن المشركين كذّبوا محمداً فقبلهم أهل شرك كذبوا نوحاً صلى الله عليه وسلم. {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر:9] فيه إشعار بالعبودية لله.

قصة قوم عاد

قصة قوم عاد ثم قال سبحانه: (كَذَّبَتْ عَادٌ) تلك القبيلة العاتية الظالمة {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:18] أي: كيف كان عذابي لهم؟ وكيف كان إنذاري تلك القبيلة العاتية؟

إهلاك الله لعاد لما كذبوا الرسل

إهلاك الله لعاد لما كذبوا الرسل قال الله سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:18] ، أي: ونذري، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19] ، فالعذاب الذي أُهلكت به قبيلة عاد الريح كما وصفها ربنا بقوله: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:41] ، أي: التي لا فائدة فيها، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم: الدبور كما في الحديث: (نصرت بالصبا) أي: الريح التي سلطها الله على الأحزاب هي: ريح الصبا: (وأُهلكت عاد بالدبور) ، فاسمها: الدبور، وصفتها: عقيم كما سمعتم في قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41-42] . وهي القبيلة العاتية التي قالت عن نفسها: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] ، فكانت في منتهى القوة، وكانوا في منتهى الطول، وذكروا في تراجمهم أشياء تدل على قوتهم، وإن كانت الأسانيد ليست بثابتة، لكن جاءت بها جملة أقوال للمفسرين منها: أن أحدهم كان يحمل الصخرة بيديه ويلقيها على القوم فيهلكهم والعياذ بالله، فقالوا مفتخرين منكرين لنعمة الله عليهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] ، قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:15-16] . قال سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} شديدة البرودة محرقة {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19] ، قال فريق من أهل العلم: كيف يوسم اليوم بأنه يوم نحس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله: لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره) ؟ فكيف وُصِفت الأيام هنا بأنها أيام نحس وفي الآية الأخرى {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16] ، وفي الحديث القدسي: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار؟) . فالإجابة من وجوه: الوجه الأول: أن الذي وصف الأيام بأنها أيام نحس هو الله سبحانه وتعالى، فلا راد لوصفه، ولا راد لحكمه، ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى. الوجه الثاني: أن النهي عن سب الدهر إذا كنت تعتقد أن الدهر هو المتصرف في الأمور، وأن الدهر هو الذي كان سبباً في تسليط هذه الأشياء عليك، لكن إذا رددت الأمر لله سبحانه وتعالى فلا جناح عليك. وهذا كأوجه الجمع التي وردت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) ، وبين حديث الرسول: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ، فمن أوجه الجمع بين هذه الأشياء: أن تعتقد أن العدوى مؤثرة بذاتها، وتجعل ذلك بمعزل عن إرادة الله سبحانه وتعالى، فنفيت العدوى بهذا الاعتبار، وقال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) على أنه من باب الأخذ بالأسباب. قال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:19-20] ، وقوله: (في يوم نحس) : يدل على أنها كانت أياماً وليست بيوم، كما قال: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7] ، وكذلك قال تعالى: ((فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ)) [فصلت:16] ، فيوم في هذه الآية اسم جنس، قال تعالى: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ) أي: ترفعهم وتنزعهم، وكأنهم كانوا مثبتين في الأرض وهي تنزعهم من جذورهم، {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:20-22] .

المقصود بقوم عاد عند العلماء

المقصود بقوم عاد عند العلماء وللعلماء في عاد قولان مشهوران: أحدهما: أن قبيلة عاد قبيلتان: عاد الأولى، وعاد الآخرة؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم:50] ، وقالوا: إن عاداً الآخرة هي عاد التي نزلت الأحقاف، ومن أهل العلم من قال: إنها كلها قبيلة واحدة لكن وُسِمت بأنها الأولى لتقدم زمنها، وهي التي نزلت في الأحقاف، وقال: سبحانه في شأنها: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الأحقاف:21] .

قصة قوم ثمود

قصة قوم ثمود ثم يذكر الله سبحانه قوماً آخرين عتوا وطغوا وبغوا، وهم قبيلة ثمود، تلك القبيلة الظالمة العاتية، هي الأخرى قال سبحانه في شأنها: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] ، قال الله جل ذكره: (فَهَدَيْنَاهُمْ) ، أي: دللناهم على طريق الخير لكنهم استحبوا العمى على الهدى. قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23] ، وقد كذبوا بنذير واحد وهو صالح صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت الإجابة على هذا الإشكال: بأن الذي كذب بنذير واحد أو برسول واحد فقد كذب بجميع الرسل وبجميع النذر؛ لأن رسالتهم واحدة، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب جميعهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الأنبياء إخوة لعلات؛ دينهم واحد، وأمهاتههم شتى) ، يعني: إخوة من الأب، فالأب المراد به هنا التوحيد الذي دعت إليه كل الرسل، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع.

إهلاك الله لثمود لما عقروا الناقة

إهلاك الله لثمود لما عقروا الناقة قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:30-31] ، ومن شأنهم: أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم ثلاثة أيام بعد قتل هذه الناقة، لقول نبي الله صالح لهم: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] ، وقال الله جل ذكره في هذه الآيات: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) ، والمحتظِر: هو الرجل الذي يصنع الحظائر، والحظيرة كانت تصنع من عيدان الحطب، فيتساقط منها ورق ينفضه الرجل عن العود الذي ينشئ به الحظيرة؛ فيداس ويمتهن وتأكله البهائم، فهكذا أصبحت قبيلة ثمود كما وصفها ربنا سبحانه وتعالى كهشيم المحتظِر، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:32] .

تكذيب ثمود بآية صالح عليه السلام

تكذيب ثمود بآية صالح عليه السلام قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر:23-27] ، والناقة قد طلبوها من نبيهم صالح صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء:59] ، طلبت قبيلة ثمود من نبيها صالح صلى الله عليه وسلم أن يخرج لهم آية ألا وهي: أن يخرج لهم ناقة عشراء من بطن هذه الصخرة يحلبون لبنها فيكفيهم جميعاً، فدعا صالح صلى الله عليه وسلم ربه فخرجت ناقة عشراء من بطن صخرة كبيرة، خرجت ناقة لا مثيل لها في العظم وحسن الخَلْق، وتقاسمت قبيلة ثمود، ماء البئر مع هذه الناقة، يوم تشرب قبيلة ثمود ماء البئر، وفي اليوم التالي تشرب لبن الناقة، والناقة تشرب من البئر، واليوم الذي لا تشرب فيه قبيلة ثمود من البئر تشرب لبن الناقة، فتكفيهم جميعاً، فسئمت القبيلة هذا! وتمالئوا على إبعاد الناقة عن البئر، وأرادوا الاستئثار بماء البئر؛ فتمالئوا على قتل الناقة وعقرها، واتفقوا كلهم على ذلك، فقال لهم رسول الله صالح عليه الصلاة والسلام محذراً إياهم من مغبة هذا الأمر ومن مغبة الإقدام عليه: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس:13] أي: احذروا الاقتراب من ناقة الله، {وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13] أي: احذروا أيضاً الاقتراب من سقياها، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس:14] دمّر الله عليهم بيوتهم بسبب هذا الذنب، فسوى بلادهم ودمرها وأبادها، {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:15] أي: لا يخاف ربنا العقوبة من أحد، ولا عاقبة ما صنع بهم، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في شأن هؤلاء القوم: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) نبتليهم بها (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر:28] أي: يوم لهم ويوم للناقة {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر:28] ، ثم قال: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} [القمر:29] دعت قبيلة ثمود رجلاً منهم وهو أشقى هذه القبيلة كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، انبعث لها رجل شرير عارم في قومه وهو أشد الرجال منعة في قبيلة ثمود، قال المفسرون: اسمه قدار بن سالف، وحرضوه على قتل هذه الناقة، قال الله سبحانه وتعالى (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى) وللعلماء قولان في قوله تعالى: (فتعاطى) ، أحدهما: تعاطى السيف الذي طعن به الناقة، والثاني: تعاطى كأساً من الخمر قبل أن يقدم على قتلها، {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29] أي: فأقدم على الناقة فعقرها.

الأسئلة

الأسئلة

استحباب الزواج المبكر

استحباب الزواج المبكر Q هناك فتاة منقبة، وعندما يتقدم لها رجل للزواج يوافق على كل شيء، ولكن عندما يعلم أن أمها مريضة بفشل كلوي يتخيل أن المرض معدي، فادع الله أن يرزقها بشخص يوافق، وقد قرأت كتاباً يقول: إن التفكير في الزواج حجاب بين الله وبين العبد؟ A ليس حجاباً بين الله وبين العبد أبداً، في الحقيقة ينبغي على الدعاة أن يحثوا الناس على الزواج المبكر، ويحثوا الناس على تعدد الزوجات من هذه الحالات، وإن كان البعض يحزن لكن ديننا فيه علاج لكل هذه المشاكل. ربما ابنتك في ثالث ثانوي، وتحمل همها، المدرس يخلو بها أو لا؟ الاختلاط، زَوِّجها وانتهِي، وكم من شخص يرغب في الزواج بهذه التي هي في سنها، وديننا يشجع على ذلك، وأنت تقول: أنا لن أوظف ابنتي، ولن أجعلها تعمل، فلماذا إذاً تجعلها تدرس أربع سنوات، ثم تتخرج ولن تعمل؟!

حكم الزواج بدون إشهار

حكم الزواج بدون إشهار Q رجل تزوج امرأة زواجاً شرعياً، لكنه لم يعلم الناس، والأمر سري، ويخفيه عن كثير من الناس، هل يجوز هذا الزواج؟ A إذا كان بولي وشاهدي عدل فالزواج صحيح، وإذا كان بدون ولي فالزواج باطل، لكن يستحب له إذا كان صحيحاً على النحو الذي ذكرنا أن يبادر بالإعلان، ويُخبَر ولا يخفي، والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.

إسناد حديث: (لا تؤمنوا حتى تراحموا)

إسناد حديث: (لا تؤمنوا حتى تراحموا) Q ما صحة حديث: (لا تؤمنوا حتى تراحموا) ؟ A أعرف أن في إسناده كلاماً.

كيفية تدريس منهج التاريخ للأمم الكافرة

كيفية تدريس منهج التاريخ للأمم الكافرة Q أنا مدرس تاريخ في الثانوية، والمنهج الذي أدرسه خاص بحضارة الفراعنة، فكيف أصنع؟ A اشرح الدرس، وبين لهم أن الفراعنة كفار.

حكم النظر إلى عورة الطفل الصغير

حكم النظر إلى عورة الطفل الصغير Q هل يجوز أن تظهر عورة الصبيان الصغار، والبيت به فتيات مراهقات فينظفون للطفل مكان البول ونحو ذلك؟ A الصبي الصغير ابن سنة أو سنتين جرى العمل على عهد رسول الله أن الأطفال أمهاتهم وأخواتهم ينظفن لهم، فما ورد هذا التشديد الذي يريده الأخ السائل، فالأمر قريب، والطفل الذي لا يُشتهى ابن سنة ابن سنتين إذا انكشفت عورته لا بأس بذلك، ولا نشق على الطفل نقول واجب عليك أن تستتر؛ لأنه ليس مخاطباً بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم استخدام وسائل منع الحمل للحاجة

حكم استخدام وسائل منع الحمل للحاجة Q زوجة حالتها الصحية ضعيفة، وأنجبت طفلاً وازدادت حالتها سوءاً أثناء الرضاعة، فهل تستخدم وسيلة لمنع الحمل خلال مدة الرضاعة؟ A لها ذلك، إذا لم تكن الوسيلة مضرة.

حكم زواج المسيار

حكم زواج المسيار Q ما هو رأي الشرع بالنسبة للزواج المسمى بالمسيار؟ وهل هو زواج متعة لبعض النساء؟ A أما تسميته بالمسيار فهذه تسمية لا وجه لها، ونحن نريد له اسماً كان على عهد السلف الصالح حتى نناقشه مناقشة موضوعية بناءً على أقوال علماء السلف، أعرف أنه انتشر في السعودية في الفترة الأخيرة، وكان البعض أطلق عليه زواج المسيار، ونحن لا نوافق على هذه التسمية من الأصل، فليصاغ السؤال صيغة أسهل وأقرب للفهم من السائل؟ وممكن أن يعرف بالتالي: امرأة تعرض نفسها على رجل ليتزوجها دون أن تفرض عليه مهراً، ولا نفقات ولا قسمة. نعيد السؤال مرة أخرى: امرأة أرادت أن تتزوج رجلاً فعرضت عليه نفسها وقالت له: تزوجني، قال: أنا فقير، قالت: سامحتك في المهر، قال: لا أستطيع أن أنفق عليك، قالت: أنا ثرية أنفق على نفسي. قال: لا أستطيع أن آتيك في كل ليلة فأنا متزوج ومن بلد بعيدة، قالت: أنا أسامحك، المتيسر من وقتك قبلته، بهذه الصورة التي ذكرت، مَن عنده شيءٌ يمنع من مثل هذه الصورة؟ امرأة تنازلت عن صداقها، هل لتنازلها عن الصداق وجه شرعي أو ليس له وجه؟ قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، إذاً: سقطت هذه الجزئية، وقد تزوجت أم سليم على إسلام أبي طلحة، فهذه تزوجت لإعفاف نفسها. هذا شيء، الشيء الثاني مسألة النفقة: باتفاق العلماء أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، قالت: أنا أعرف، إلا أنني متنازلة أيضاً عن النفقة، ولنا من السلف من سلك هذا، قالت امرأة لأحد أولاد أبي طالب أظنه عقيل بن أبي طالب أو من آل العباس: أنفق عليك، ولا تتزوج عليّ، قال: قد فعلت، قالت: وأنا قد فعلت. بقيت الثالثة وهي مسألة القسمة: هذه رضيت بساعة، ويجوز لها أن تسقط كل أيامها كـ سودة بنت زمعة فإنها أسقطت أيامها لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لا تريد ساعة ولا ساعتين، وقالت: يومي لـ عائشة يا رسول الله! إن جاءها بعد ذلك فهو فضْل منه. بعد هذا التقنين أو التقعيد الذي فحواه: أنه ليس هناك نهي، يبدأ النظر في مسألة المفاسد والمصالح، يعني إذا كان هذا هو الإطار الكلي للفتيا، فما هي المصلحة المترتبة من وراء هذا الزواج أو المفسدة المترتبة من وراء هذا الزواج. يعني: إذا كانت القواعد الكلية تفيد المشروعية، إذاً: نبدأ في النظر مرة ثانية إلى المفاسد والمصالح، فمن المصالح التي قد ترد في هذا الباب قول القائل: أنا أذهب لأندونيسيا، وهناك نساء متبرجات تبرجاً مزرياً، وأبيت في الفندق، وفي الليلة الواحدة تطرق على باب الفندق مائة امرأة بكل أنواع الجمال الذي تريد، فأريد أن أُعِف نفسي، وأنا أبقى مدة للاستيراد أو التصدير فأتزوج امرأة على كتاب الله وعلى سنة رسول الله، هذا لأنني أعطيها صداقاً، وأعف نفسي بها، وهي تفرح بالصداق، حتى إنها تفرح بالمبلغ الذي هو بالنسبة لأهل بلادها طائل، وأبقى على هذه الحال، وقد أُرزق منها بولد، وقد لا أُرزق منها بولد، وقد أطلقها، وقد لا أطلقها، لكن في نيتي أنني سأفارقها ولم أُبرزه، هل أحاسب عليه شرعاً؟ سؤال: شخص تزوج امرأة وفي نيته الفراق، لكن ما قصد بالزواج أنه يدمرها، لكن قصد أن يتعفف، قال: سأتزوج وأعطيها صداقاً ثم يمكن أن أطلقها -لم يقل باللسان بل في ذهنه- وإن كانت جميلة بقيت، وإن كانت العكس أفارقها، هذا الزواج من أصله ينعقد أو لا ينعقد؟ الإمام الشافعي يرى أن هذا الزواج ينعقد ولا غبار عليه، استدلالاً بقصة ذي الرقعتين التي وردت بإسنادين كلاهما مرسل، كما عند الشافعي في الأم: أن رجلاً قرشياً كانت تحته امرأة من قريش، فكان يؤذيها ويضربها، فطلقها ثلاث تطليقات، فتعسر الأمر وانتهى، فقالوا: نبحث عن محلل يحلل هذه المرأة لزوجها، فبحثوا فما وجدوا أحداً يضمنون أنه يتزوج ويطلق إلا رجلاً كان يلبس ثياباً مرقعة ويقم المسجد -يكنس الجامع- فذهبت إليه امرأة وسيطة، وقالت: هل لك أن تبيت الليلة مع امرأة تأتيها وتجامعها ونعطيك ثوبين جميلين وتطلقها في الصباح؟ قال: لا حرج، فدخل بها وبات معها، فقالت له في الليل لما أعجبها وأعجبته: إنهم سيطرقون علينا الباب الفجر ويقولون: اخرج وطلِّق، فقل لهم: لن أطلق، واذهب إلى أمير المؤمنين عمر، فقاموا في الفجر، وضربوا الباب، فقال: ما أنا بخارج، هي زوجتي، قالوا: طلق، قال: ما أنا بمطلق، فارتفع الأمر إلى أمير المؤمنين عمر، فأمضى الزواج، مع أنه دخل وفي نيته أن يطلق في الصباح، فأمضى الزواج وجلد المرأة التي كانت وسيطة تعزيراً لها، وأمضى الزواج واستدل بها الشافعي على أن الشخص إذا تزوج وفي نيته أن يطلق أن الزواج صحيح، وقال: ربما نيته تتغير وهو داخل ينوي الطلاق، فقد ينوي الإمساك بعد ذلك، واستدل أيضاً بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس لا يؤاخذ به أحد. فالسؤال المطروح: ما المفسدة المترتبة على زواج المسيار؟ هذا له شروط غير شروط زواج المتعة؛ لأنه لابد في زواج المسيار من الولي، وهو أبوها أو أخوها الذي يزوجها، وهنا تنازلت عن الصداق، وزواج المتعة تأخذ المرأة فيه الصداق. وإذا وجد الأطفال وجب على الأب شرعاً ما يجب عليه تجاه أي طفل، وهذه مسألة سابقة لأوانها، أليس الخليل إبراهيم عليه السلام كان تاركاً لإسماعيل وسارة في مكة، وهو وزوجته في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وكان يذهب لتفقده بمكة. يعني أنت الآن متزوج واحدة مستقرة هنا، وجاءت أخرى قالت: أنا يتيمة أدركني، تزوجني بأي طريقة، أنقذني من الذي أنا فيه، تزوجتها وجعلتها في شقتها التي هي فيها، وتذهب إليها وقت الفراغ أيحرم؟ إذاً: هو ليس بزواج متعة؛ لأنه بولي وشهود، وتعتد بعده العدة الشرعية، وإذا رُزق ولداً فهو ولده. وهذه المسألة أول ما قرأتها، كنت مستنكراً لها أشد الاستنكار، ولما تقرأ أقوال الأئمة تجد الجمهور على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) . وكم من شخص يدخل بالمرأة، وفي نيته المعاشرة فيطلق في اليوم التالي، وكم من شخص يدخل وفي نيته الفراق ويمسك، ويحبها بعد ذلك، وتلتئم المعيشة. إذاً: هل العقد صحيح؟ وهل الطلاق حرام؟ ليس حراماً، إذاً ما هو الإثم؟ ولماذا يبطل العقد؟ ما حددنا مدة، ولا أتينا بكلمة بها بمسحة من أثر المتعة. وكما أن نية الطلاق موجودة فإن نية الإمساك موجودة، ثم أنت ما لك وللنية التي في الداخل، نحن قلنا: إن الطلاق غير محرم، وهناك توهمات أحياناً يتوهمها الشخص، أحياناً توجد مفاهيم استقرت وهي خطأ، واحد الآن زوجته تعيش معه في غاية الانضباط، ما عملت أي شيء خطأ، وزوجة جميلة وحسناء ورحيمة، فجأة قال: أنا لا أريدها، لماذا؟ قال: لا أريدها، أنتِ طالق، هل هو آثم؟ ليس آثماً، لكن هل هو أحسن؟ لا، ما أحسن، وليس هو بتصرف المحسنين، لكن التأثيم يحتاج إلى دليل؛ لأن الله قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] . ونكرر بأن التحديد بمدة لا يجوز؛ لأن هذا داخل في زواج المتعة، فإن قال: أتزوجك وأطلقك بعد ثلاثة أيام، لا يجوز أبداً. وأنا أذكر مثالاً لكن مع الفارق الدقيق: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، وإني تزوجت بعده بـ عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله! يا رسول الله ما معه إلا مثل هذه الهدبة، وأشارت إلى طرف من ثوبها، تعني أنه كذا وكذا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) ، فالمرأة تطلقت ثلاثاً من رفاعة، ودخلت على هذا الزوج الجديد عبد الرحمن بن الزبير وفي نيتها أن تفتعل أي مشكلة حتى تطلق وترجع إلى زوجها الأصلي، والرسول كان يبتسم وهي تحكي له، وسعيد بن خالد جالس فنهر وزجر هذه المرأة التي تجهر عند رسول الله بهذا، ولم يعجبه هذا الكلام، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبتسم، هل قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: أنت آثمة؟ المرأة ليس بيدها من أمر النكاح شيء، لكن ممكن تفتعل مشكلة وتجعل عيشتك سوداء حتى تطلقها، لكن تحريم الزواج بناءً على نيتها المسبقة ليس فيه دليل على أنها آثمة، ولا أثمها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا وصفها بأنها محلِّلة، وهي ليس لها من أمر عقد النكاح أي شيء، لكن إذا الزوج تزوجها بنية التحليل هو الذي يأثم، والمحلَّل ملعون، كما في حديث: (لعن الله المحلِّل والمحلَّل له) والملعون هو: المطرود من رحمة الله، والله أعلم.

توجيه ما ورد عن أهل العلم من عبارات معقدة

توجيه ما ورد عن أهل العلم من عبارات معقدة Q أريد أن توضح كيفية الكلام الذي ورد عن صاحب العقيدة الطحاوية والكلام الذي ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فلا شك أن شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب العقيدة الطحاوية من أئمة المسلمين في هذا الباب رحمهما الله تعالى، ولا يطعن فيهم أحد أبداً رحمة الله تعالى عليهم، لكن كان كلامنا على شدة الألفاظ التي نحتاج إلى تيسيرها، فهم كانوا يخاطبون قوماً يحتاج للحديث معهم إلى مثل هذا الأسلوب، لكن مرادنا أن الشراح الذين يشرحون هذه الكتب لا ينبغي أن يتقيدوا بالألفاظ التي وردت فيها، ولكن يبسطونها ويسهلونها للناس حتى تُفهم، ولا تنقل الألفاظ حرفياً، وأنت لا تفهم معناها.

حكم الصلاة خلف من عرف منه المجاهرة بالمعاصي

حكم الصلاة خلف من عرف منه المجاهرة بالمعاصي Q هل تصح الصلاة وراء إمام إذا كان معروفاً أنه منافق؟ A ماذا تقصد بقولك: معروف أنه منافق؟ ولماذا لا تصلي خلفه؟ إن كان به عيب ظاهر، فلينظر إلى هذا العيب، هل هذا العيب يستدعي ترك الصلاة خلفه أم لا يستدعي؟ وأخونا يذكر أنه يدخن السجائر علناً أمام كل الناس، وهؤلاء الصلاة وراءهم صحيحة، لكن إذا وُجِد رجل صالح يصلي بالناس أفضل منه فليصل الناس وراء الصالح، لكن إذا لم يوجد إلا الذي يدخن السجائر، وستصلي منفرداً إذا لم تصل خلفه، فصل خلفه فصلاتك صحيحة، وإثمه على نفسه.

حكم عمل المرأة مندوبة مبيعات

حكم عمل المرأة مندوبة مبيعات Q هل عمل المرأة مندوبة مبيعات حلال أم حرام؟ A المرأة التي تعمل مندوبة للمبيعات تعرض نفسها لفتن كبيرة، وتعرض غيرها أيضاً لفتن كبيرة؛ لأنها تخرج وتروج لسلعتها التي تبيعها؛ فالخروج من أصله لا يُشرع إلا للضرورة، قالت ابنتا العبد الصالح: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] ، ثم في خروجها خاصة لمثل هذا العمل التي تجابه فيه الرجال، وتواجه فيه الرجال، يستدعي الأمر منها أن تخضع بالقول أحياناً أو تبتسم في وجه العميل أحياناً حتى تروج لسلعتها، فذلك يجرها إلى مفسدة عظيمة، والله سبحانه أعلم.

حكم الجنب إن اغتسل ولم ينو غسل الجنابة

حكم الجنب إن اغتسل ولم ينو غسل الجنابة Q رجل اغتسل للجمعة وكان جنباً ولم ينو غسل الجنابة، ونسي وصلى، هل عليه غسل آخر؟ A الصلاة ما أجزأته، وعليه أن يغتسل غسلاً آخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) ، وهو ما قصد بغسله رفع الجنابة إنما نوى الاغتسال للتطهر، يعني: إذا نوى الاغتسال لرفع الجنابة فإنها ترتفع ويكون قد تطهر أيضاً، لكن التطهر لا يجزئه للصلاة، فيلزمه غسلٌ آخر، والله أعلم. وإذا قلنا: إنه ما اغتسل وما زال جنباً، فإن النبي قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) ، فإثم التخلف عن الجمعة لا يلحقه؛ لأنه اجتهد في المسألة أو نسي، لكن عليه أن يغتسل وعليه أن يعيد الصلاة، ويصليها ظهراً، وإن خرج الوقت.

حكم نظر الرجل إلى الرجل وحدود العورة

حكم نظر الرجل إلى الرجل وحدود العورة Q هل يجوز للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل، أو أن تنظر المرأة إلى عورة المرأة مع الأخذ في الاعتبار أن عثمان دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم فغطى النبي فخذه؟ A لا يجوز أن ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) ، لكن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع عثمان في الفخذ ليس في العورة المغلظة، والخلاف قائم في الفخذ، هل الفخذ من العورة أو ليس من العورة؟ وردت أحاديث ثابتة صحيحة تفيد أن الفخذ ليس من العورة؛ إذ قد رأى أبو بكر فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورآه عمر، وكان النبي راكباً على فرس لـ أبي طلحة وحسر عن فخذه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس، أما حديث: (الفخذ عورة) ، فقد تكلم فريق من العلماء في إسناده، وعلى فرض ثبوته، فقد جمع بعض العلماء بين الحديثين بوجوه من الجمع، فقال البخاري رحمه الله: حديث جرهد الذي هو: (الفخذ عورة) أحوط، وحديث أنس الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه أسند، يعني أقوى من ناحية الإسناد، فجعل حديث: (الفخذ عورة) من باب الاحتياط؛ لأنه يؤدي إلى انكشاف ما بعده. وسلك ابن القيم رحمه الله مسلكاً آخر في الجمع، فقال ما حاصله: إن العورة عورتان، عورة مخففة وهي الفخذ، وعورة مغلظة وهما السوءتان. وهذا قول له وجاهته، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير سورة القمر [3]

تفسير سورة القمر [3] ما زال الله تعالى يقص في كتابه مصارع الظالمين وإهلاك الطغاة والمتجبرين؛ عبرة لكل معتبر، وذكرى لكل مدكر يعلم بأن وعد الله حق، وأن وعده لأوليائه لا يتخلف، ثم يختم الله هذه السورة ببيان أن ما حدث من عذاب في الدنيا لأولئك الناس إنما هو بداية العذاب، وأن ما في الآخرة أشد وأبقى.

قصة قوم لوط

قصة قوم لوط بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:33-34] . لوط هو نبي الله صلى الله عليه وسلم الذي آمن بإبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فمن ثمرات دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، أُرسِل لوط صلى الله عليه وسلم إلى قوم يفعلون الخبائث المستبشعة، ألا وهي إتيان الذكران من العالمين! فحذرهم نبي الله لوط من مغبة فعلهم، ومن سوء عاقبتهم، فكان منهم ما قال الله سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} [القمر:33] .

العذاب الذي أهلك الله به قوم لوط

العذاب الذي أهلك الله به قوم لوط قال سبحانه: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} [القمر:37-38] أي: في صبيحة اليوم الذي خرج فيه لوط عليه الصلاة والسلام صبحهم عذاب الله عز وجل، وقد ذكر الله صورة هذا العذاب في آيات أخر، قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] . ثم قال الله: {عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:38] ما المراد بالعذاب المستقر؟ قال فريق من المفسرين: استقر بهم العذاب، ولم يُنزع عنهم ولم يرفع من يومها إلى أبد الآبدين، إلى يوم الدين، ويوم الدين أيضاً يعذبون، فاستقر عليهم العذاب -والعياذ بالله- لا يفارقهم من وقتها إلى أبد الآبدين، فهم مخلدون في جهنم، وقبل ذلك هم في قبورهم يعذبون، وعن الصراط ناكبون، وساقطون في الجحيم، فالعذاب استقر بهم حيث كانوا؛ عياذاً بالله سبحانه وتعالى من نقمته ومن عذابه! فهذا المراد بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:38] ، أي: ملازم لهم لا يفارقهم، قد تقتل أنت في الدنيا لكن بعد القتل تستريح في القبر، ولكن أهل الكفر ليسوا كذلك، فإذا نزل بهم العذاب استمر بهم ولازمهم ولم يفارقهم بحال من الأحوال -والعياذ بالله- مثلاً: قتِل اليهودي كعب بن الأشرف، ولازمه العذاب في قبره وعند قتله إلى أبد الآبدين، ولا يأتي وقت إلا وهو أشد من الذي قبله، فعذاب القبر ينسيه عذاب القتل، وعذاب جهنم ينسيه عذاب القبر، فهكذا تكون الأمور، فهذا المعنى -والله أعلم- كما ذكره جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ) . {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:39-40] ، أي: سهلناه وبيناه لكم، فاقرءوا ما فيه، واتعظوا بأخبار هؤلاء الفسقة الظلمة واعتبروا بهم، فيا من سولت لك نفسك اقتراف الفواحش وارتكاب الآثام! انظر كيف فعل بقوم لوط! ويا من سولت لك نفسك الكبر والطغيان! انظر كيف كان عاقبة قوم عاد! ويا من سولت لك حضارتك ومدنيتك التعالي على الله والكبر على العباد! انظر إلى ثمود الذين جابوا الصخر بالواد! فهؤلاء ذكرهم الله سبحانه وقص علينا من أنبائهم ومن أخبارهم حتى نتعظ، فعدة آيات يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:40] أي: بينا في هذا الكتاب العظيم بأسلوب سهل ميسر مفهوم عاقبة هؤلاء الظلمة الذين حادوا عن طريق الله وعن هدي رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومن ثم كرر قوله سبحانه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) ، ثم يستحث الله العباد فيقول: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:40] ، كما يستحثهم في آيات أخر: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] ، وكما ذكر في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} [الرحمن:13] .

حكم من فعل فعل قوم لوط

حكم من فعل فعل قوم لوط قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا) هنا يرد مبحث سريع في عقوبة من فعل فعل قوم لوط. قال فريق من أهل العلم: عقوبته ما ذُكِر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المروي من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يأتي البهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) و: (ومن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) ، فذهب فريق من أهل العلم إلى القول بمقتضى هذا الحديث، ألا وهو: أن من فعل فعل قوم لوط حده القتل، الفاعل والمفعول به سواء، ومحله في المفعول إذا كان مطاوعاً، أما إذا كان مكرهاً فللمكره أحكام أخرى، إلا أن بعض أهل العلم قالوا بغير هذا القول، وطعنوا في ثبوت هذا الحديث، فقالوا: هذا الحديث وإن كان من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب -وهو حسن الحديث في الجملة- إلا أن هذا الحديث من الأحاديث التي استنكرت عليه، فقد اتهمه بعض العلماء بهذا الحديث، وذكر فريق من أهل العلم كـ ابن عدي هذا الحديث في كتابه الكامل في الضعفاء، وعموم من ترجم لـ عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ذكروا هذا الحديث كأنهم يشيرون إلى أنه من مناكيره، فلما حكموا عليه بالضعف اتجه لهم Q ماذا نصنع مع من فعل فعل قوم لوط؟ قالوا: نقيسه على الزاني، إن كان ثيباً رُجِم، وإن كان بكراً جلد وغرِّب عاماً؛ شأنه شأن الزاني. وقال آخرون: نفعل به ما ذُكِر في كتاب الله سبحانه، ألا وهو أنه يُلقى من أعلى مكان في المدينة ثم يُتبع بالحجارة؛ لأن الله قال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] ، فهي ثلاثة أقوال في حكم من فعل فعل قوم لوط. ولا شك أن المخاطب بهذه الأشياء هو إمام المسلمين، فليس من حقك أنت كأحد أفراد الرعية أن تقيم هذا الحد على شخص فعل هذا الفعل.

المراد بآل لوط في القرآن

المراد بآل لوط في القرآن قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ) ، قال العلماء: المراد بآل لوط هنا بنات لوط، وهنا نورد بحثاً يتعلق بالآل من هم؟ وهل الزوجة تدخل في الآل أو لا تدخل؟ فابتداءً زوجة لوط يقيناً لا تدخل في قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34] ، لا تدخل يقيناً في الآل الذين أنجاهم الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في شأن امرأة لوط وامرأة نوح: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] ، فامرأة لوط يقيناً لا تدخل في الآل الذين أنجاهم الله سبحانه والذين ذكرهم الله سبحانه في قوله: (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) . يبقى بعد ذلك من المراد بالآل؟ قال بعض العلماء: إن آل الرجل هم أهل بيته، أي: أبناؤه وبناته، وأدخل البعض الزوجات مستدلاً بقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] ، إلى قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] ، على اعتبار أن المراد بالآل هم الأهل، قالوا: واستُثني من آل لوط زوجته بنص كتاب الله سبحانه وتعالى.

إنجاء الله لآل لوط المؤمنين

إنجاء الله لآل لوط المؤمنين قال الله سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34] ، أي: في وقت السحر، وهذا الوقت قد أنجى الله سبحانه وتعالى فيه عددا كبيراً من أوليائه رحمهم الله ورضي عنهم، وقت السحر وقت ينزل ربنا سبحانه وتعالى فيه إلى سماء الدنيا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) ، فدعاء المحتاجين في هذه الأوقات أقرب إلى الاستجابة منه في غيره، فهناك أوقات مظنة الإجابة فيها أكثر من أوقات أُخر. قال الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:34-35] ، ألا وهو لوط صلى الله عليه وسلم، جازاه الله بإنجائه وإنجاء أهل بيته وإهلاك أعدائه، نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر، ثم بين الله سبحانه وتعالى أن لوطاً عليه السلام ما قصَّر في النصح، بل أدى صلوات الله وسلامه عليه ما عليه من النصح لقومه، فقال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} [القمر:36] خوفهم من عذابنا: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} [القمر:36] ، جادلوا واستخفوا بالنذر، واستخفوا بالعقوبات التي حذرهم منها لوط صلى الله عليه وسلم، وجادلوا في شأن هذه العقوبات، وشككوا أيضاً في وقوعها واستخفوا بها. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} [القمر:37] طلبوا منه أن يخلي بينهم وبين أضيافه الذين هم الملائكة، وهم لا يعلمون أنهم الملائكة، وقصة المراودة مذكورة في آيات أخر، قال الله: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:78-80] الآيات. فيقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر:36-37] قال جمهور المفسرين: ضربهم جبريل صلى الله عليه وسلم بجناحه فأعمى أبصارهم.

المراد بالنذر في القرآن

المراد بالنذر في القرآن وما المراد بالنذر؟ قال فريق من أهل العلم: إن النذر هي الأشياء التي خوفهم بها لوط صلى الله عليه وسلم، وهي العقوبات التي تأتي من الله سبحانه، فحذرهم أن عقوبات الله تعالى ستحل بهم، وأن المصائب ستنزل عليهم إذا هم استمروا على فعلهم، فكذبوا بهذه النذر كما قال سبحانه. ومن العلماء من قال: إن النذر جمع نذير، والمراد بالنذير: الرسول كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] ، وعلى هذا التأويل يأتي إشكال؛ إذ كيف يقال: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) وهم إنما كذبوا بنبي واحد ألا وهو لوط عليه الصلاة والسلام؟ فهذا الإشكال مدفوع كما تقدم مراراً بما حاصلة: أن من يكذب بنذيرٍ واحد فقد كذب بالنذر جميعاً، وأن الذي يكذب برسول واحد فقد كذب بالرسل جميعاً، كما قال سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] ، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] ، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] ، إلى غير ذلك. فعلى هذا هناك تأويلان لتفسير قوله تعالى: (بِالنُّذُرِ) : أحدهما: أن النذر هي العقوبات التي خوَّف بها لوط صلى الله عليه وسلم قومه، فلم يبالوا ولم ينتهوا بهذه العقوبات التي حذرهم منها لوط عليه الصلاة والسلام، والثاني: أن النذر جمع نذير، والنذير هو الرسول. {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر:33-34] ، قال بعض العلماء: حجارة تحصبهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] ، ففسر بعض أهل العلم الحاصب بما ذُكِر في الآية الأخرى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] .

قصة فرعون وقومه

قصة فرعون وقومه ذكر الله أيضاً قوماً من الطغاة ولِّي عليهم طاغٍ جبار عنيد، بل هو أكبر طاغية عرفه العالم والتاريخ وهو فرعون، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر:41] ، ويخرج من آل فرعون هنا امرأته، لما ذكره الله سبحانه وتعالى عن امرأة فرعون: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] .

هداية الله لامرأة فرعون

هداية الله لامرأة فرعون إن الذي يتلو كتاب الله ويتدبره يدرك تماماً أن الهادي هو الله سبحانه وتعالى، امرأة تحت نبي من الأنبياء، ومن أولي العزم من الرسل وهو نوح صلى الله عليه وسلم، وهي -والعياذ بالله- كما قال الله عنها: {ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] ، امرأة تحت أفجر وأظلم رجل عرف في التاريخ وتقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] ، وتكون من سيدات نساء أهل الجنة. كما أن نبياً كريماً أبوه نبي وجده نبي وولده نبي، وهو يعقوب صلى الله عليه وسلم، أبوه إسحاق الكريم وجده إبراهيم الكريم الحليم، وولده يوسف الصديق الكريم، ومع ذلك من أحفاده من مسخوا إلى قردة وخنازير! تخيل وتصور أن نبياً من ذريته من يمسخ إلى قردة وإلى خنازير، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60] ، من هم هؤلاء؟ هم ذرية يعقوب صلى الله عليه وسلم! فأمر الهداية لا يملكه أي شخص كائناً من كان إلا الله سبحانه وتعالى، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ما من قلب أراد أن يُقيمه إلا أقامه، وما من قلب أراد أن يزيغه إلا أزاغه، وقصص القرآن الكريم تؤيد لنا هذا المعنى حتى لا نأسى على القوم الكافرين، وحتى لا تذهب أنفسنا على قوم حسرات، تخيل نبياً كريماً خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء؛ ينزل إلى الأرض وهو نبي كريم تائب تلقى كلمات من ربه فتاب عليه، ويُبتلى ببلية عظمى، ما هي هذه البلية؟ أحد أبنائه يقتل الآخر! تخيل لو حدثت لك هذه الحادثة، جاء أحد بنيك وقتل الآخر ظلماً وعدواناً! على من تبكي يا ترى؟! على القاتل الذي أوجب لنفسه بفعله النار، أو على المقتول الذي ذهب ولم يعد إلى يوم الدين، بل قد تتجه إليك أنت التهم، في حياتنا الدنيا إذا جاء ولد من أبنائك وقتل الآخر، تجد التهومات تنصب عليك أنت، لعله كان يكسب من الحرام، لعل أحدهما ولد زنى، لعل لعل تأتي التهومات لك في بيتك وفي داخل دارك، فالهادي هو الله سبحانه وتعالى، ليس لنا من أمرنا شيء، والواقع يثبت لنا ذلك، تجد فاجراً من الفجار وابنه في غاية الصلاح، وتجد رجلاً في قمة الصلاح وابنه شرير مفسد. فالهادي هو الله سبحانه وتعالى، وإن وضع المربون للتربية قواعد، وإن أسسوا لها الأسس، فإنما هي أسباب يؤخذ بها ولكن يُعتقد دائماً أن الهادي هو الله سبحانه وتعالى؛ {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] .

تكذيب فرعون وقومه بآيات موسى

تكذيب فرعون وقومه بآيات موسى قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} [القمر:23-42] ، كذبوا بكل الآيات التي جاءتهم، وأعظمها تسع آيات كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101] ، وهي آيات مفصلات، لم تأت دفعة واحدة إنما فصِّلت تفصيلاً، تأتي آية ثم يُترك القوم لعلهم أن يعتبروا فلا يعتبروا، فتأتي الآية الأخرى ثم يترك القوم كي يعتبروا فلا يعتبر القوم، كما قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133] يعني: ليست دفعة واحدة، إنما كل آية بينها وبين الأخرى فاصل زمني حتى يتوب الناس إذا كشف عنهم البلاء، ولكن لا توبة ولا رجعة ولا إنابة لمن ختم الله سبحانه وتعالى على قلبه. قال الله جل ذِكره في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر:41] الأشياء المخوفة التي ترهبهم، ونفس القول في تأويل النذر كالقول السابق في قوم لوط صلى الله عليه وسلم.

إنذار الله لقريش بالعذاب

إنذار الله لقريش بالعذاب قال الله تعالى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42] ، فذكر الله سبحانه أهل الكفر أمة تلو الأخرى، ثم وجه الخطاب إلى مشركي قريش بقوله سبحانه: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) أي: هل أنتم أفضل أو أقوى من هؤلاء الكفرة الذين أبادهم الله سبحانه؟ وهذا القول يوجه إلى كل كافر وإلى كل طاغ في كل زمان، والله سبحانه لما أنزل على قوم لوط ما أنزل قال في شأن هذه الأحجار {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] ، ليست هذه الأحجار ببعيدة عن الظالمين في أي زمان بل هي قريبة منهم. قال الله جل ذكره في كتابه الكريم موجهاً الخطاب إلى المشركين: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) الذين أهلكهم الله أم تظنون أنه قد كُتبت لكم براءة في الكتب؟ هل سطر في الكتب أن مشركي قريش لن يمسهم العذاب؟ {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43] ، أي: في الكتب التي سبقت، هل قرأتم في الكتب التي نزلت على الأنبياء أنكم -يا معشر قريش- كتبت لكم براءة ولن تعاقبوا ولن تؤاخذوا؟ وهذا أسلوب تهكمي فيه سخرية من هؤلاء القوم ومن أفكارهم. {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر:44] ، (أم) هنا تختلف في تأويلها عن (أم) في الآية التي قبلها، فـ (أم) في الآية التي قبلها: (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) استفهامية تحمل معنى الاستنكار والتوبيخ والتقريع، أما (أم) هنا في: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) بمعنى: بل، فالمعنى: بل يقولون: نحن جميع منتصر، أي: أن هؤلاء الكفار يقولون: (نحن جميع) : أي: نحن جمعٌ، بدليل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر:45] ، فقولهم (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي: باجتماعنا معاً سننتصر على محمد بل على العقوبات التي تأتينا بل على الملائكة كما قال أبو جهل لرسول الله: أتتوعدني وأنا أكثر هذا الوادي نادياً، فقال الله سبحانه وتعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17-18] ، وكما ذكر بعض المفسرين في تأويل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] ، قالوا: إن أهل الشرك لما نزلت هذه الآية فُتِنوا بها، وقالوا: نحن أكثر عدداً، نحن تسعة عشر ألفاً أو نزيد، فكل ألفٍ منا يوكلوا بأحد هؤلاء الخزنة، ونحن جميعٌ منتصر؛ لأن عددنا أكثر من هؤلاء الملائكة، وسننتصر عليهم! يا لهذا الجهل وهذا الغباء! والعياذ بالله. {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر:44] فرد الله عليهم: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] ، هذه الآية تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان أهل الشرك قد جمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه جموعاً، وكان من الصحابة من يقول لما نزلت هذه الآيات قبل أن تتحقق: أي جمعٍ هذا الذي سيهزم؟ ومتى سيهزم؟ ولما جاء يوم بدر، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه إلى السماء قائلاً: (اللهم! إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) ، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر سيهزم الجمع ويولون الدبر) ، وما هي إلا لحظات في يوم بدر حتى هُزِم الجمع وولوا الأدبار كما وعد الله سبحانه وتعالى. وإن لحقت بهم الهزيمة فهذه الهزيمة لا تقارن بعذاب الآخرة، قال سبحانه: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] ، أي: أشد وأعظم.

كيفية دخول أهل الكفر النار

كيفية دخول أهل الكفر النار قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:47-48] ، وهذا التعبير يبين كيفية دخول الكافرين النار؛ سحبٌ على الوجوه! كما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سُئل: (يا رسول الله! كيف يمشي الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟) ، قال سبحانه: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) وهذا تصوير لا يكاد يتخيله شخص، ثم وهم على وجوههم في النار يُقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48] .

تقدير الله للأمور وحكمته في ذلك

تقدير الله للأمور وحكمته في ذلك قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، هذه الآية تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين يوم أن أتوا إليه يخاصمونه في القدر، فعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم هدياً قيماً طيباً في طريقة جدال القدرية، ألا وهو: عدم الاسترسال في جدالهم، فلما أتوا يخاصمون رسول الله في القدر، ويقولون: كيف الأمور مقدرة؟ كيف نحاسب؟ كيف وكيف؟ أنزل الله سبحانه: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48-49] ، كما تقول لشخص: اضرب رأسك في الحائط فكل شيءٍ مقدر، فالله يقول: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48-49] ، فكل شيءٍ بقدر حتى العجز والكيس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، كل شيء في هذه الحياة الدنيا مقدر، نشاط الرجل لجماع أهله مقدَّر، وكسله مقدر، كل شيءٍ في هذا الكون يجري بقدر، فالله سبحانه وتعالى يبسط الأرزاق بقدر، ويضيق في الأرزاق بقدر، ينصر أقواماً على أقوام بقدر، يُنزل المطر ويمنعه بقدر، كل شيءٍ عند الله سبحانه وتعالى مقدر موزون، كما ذُكِر في عدة آيات من كتاب الله سبحانه وتعالى. قال الله جل ذكره: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وكل شيء مُثبَت كما روى عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) .

أمر الله لا يرد ولا يتكرر

أمر الله لا يرد ولا يتكرر قال الله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] ، يعني: إذا أردنا أمراً لا نكرر الكلام كثيراً، إنما أمرنا بكلمة واحدة، أما أمر الملك في الدنيا أو أمر الرئيس في الدنيا قد يكرر، افعل يا أيها الوزير! افعل، لم لا تفعل؟ وكذلك المدرس قد يكرر الأمر على الطلبة مرات ولا يستمعون لقوله، وطالب ينفذ، ومائة طالب لا ينفذون! أما ربنا سبحانه وتعالى فيقول: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] ، كلمة واحدة يتكلمها ربنا سبحانه وتعالى فيتحقق الأمر كما في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (كان رجل فيمن كان قبلكم لم يعمل خيراً قط، فقال لبنيه عند الموت: يا بني! أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإذا أنا مت فاحرقوني واسحقوني فإذا كان في يوم ريح عاصف فذرونيفي البحر) ، أي: اسحقوني بعد أن أُحرق، واطحنوني وخذوا دقيقي وجزيئات جسمي في يوم فيه ريح شديدة وتعالوا إلى وسط البحر وذروني فيه، (قال: فمات ففعل به ذلك، فقال الله له: كن، فكان كأسرع من طرفة العين، فقال الله: يا عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ فقال: مخافتك أي رب! قال: فما تلافاه أن غفر له) . فالشاهد قوله: (كن رجلاً) فكان في الحال! {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، الله قادر في شأن هذا المريض الذي عظم مرضه واستعصى على الأطباء أن يقول له: اشف، فيُشفى بإذن الله بكلمة كن {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، كن غنياً، كن فقيراً، كن ملكاً، كن وزيراً، فلتُقتَل فلتمت فلتحيا، كل ذلك بأمر الله، ومن العلماء من قال: إن أعظم هذه الأمور على الإطلاق أمر الساعة، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل:77] .

مصير كل ظالم في الآخرة

مصير كل ظالم في الآخرة قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} [القمر:51] أسلافكم وأمثالكم وعشائركم والذين كانوا يشايعونكم ويظاهرونكم، فكل هذه تحتملها كلمة الأشياع (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، هل من معتبر؟ زملاؤك قد أهلكهم الله، وأجدادهم وآباؤهم وآباؤك قد أهلكهم الله، فهل من رجل عاقل ذكي يعتبر؟ هل من رجل فاهم فاضل يعرف أن الموت آتٍ، وأن الأجل منتهٍ؟ ثم يبين سبحانه أن هذا الإهلاك ليس بنهاية للمطاف، فيقول سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52] ، لم يقتصر الأمر على إهلاكهم، بل كل شيءٍ فعلوه مسطر عليهم، وسيلاقونه يوم القيامة، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52-53] ، هكذا يبين ربنا سبحانه وتعالى أن الهلاك ليس بنهاية للمطاف، وأن الموت ليس بنهاية للمطاف، إنما: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:52-55] . وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية ضبط التسبيح بعد الصلاة

كيفية ضبط التسبيح بعد الصلاة Q رجلٌ سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (معقبات لا يخيب قائلهن (أو فاعلهن) دبر كل صلاة مكتوبة ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة) ، فقال: أنا كلما أذكر الذكر الذي بعد الصلاة، لا أعرف أضبطه، هل يجوز لي أن آتي بمسبحة كي أعد عليها التسبيحات حتى أصل إلى هدي رسول الله في هذا الباب؟ A تعلمه بأن في كل أصبع ثلاث عقد، وثلاثة في خمسة بخمسة عشر. وهل يأتي بمسبحة يتعلم بها ضبط العد؟ وأنا لم أقل: إنها مستحبة، أنا أقول: شيءٌ أضبط به العد الذي أرشدني إليه الرسول، الرسول أرشد إلى ثلاثة وثلاثين، وأنا لا أعرف أن أضبط الثلاثة والثلاثين، أريد أن أصل إلى طريقة أمتثل بها حديث الرسول، وأبتعد بها عن الشكوك. وقد دخل ابن مسعود المسجد فوجد قوماً قد جمعوا أكواماً من الحصى، فيقولون: نسبح مائة، فيسبحون مائة ويحضرون أحجاراً ويرموا بها، وهذه الصورة تختلف عن مسألتنا، ثم إنهم في الآخر كانوا من الخوارج، يعتريهم ما يعتري الخوارج من مسائل التباهي بالأعمال والإكثار من الذكر، وقد قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم) ، فإنكار ابن مسعود ليس من أجل الحصى الذي تضبط به التسبيحات التي حث عليها الرسول، إنما هو لأمر استحدثوه وهو أنهم جلسوا وجمعوا أكواماً من الحصى ويقولون: يا جماعة! نسبح مائة، ويسبحون مائة ويرمون بالأحجار، فتختلف المسألتان. فالشاهد: أن هذه المسألة قابلة للأخذ والرد، والفتيا بالتحريم حقيقة صعبة، لك أن تقول بالتحريم إذا أتيتنا بعالم قبلك من أوائل سلفنا الصالح قال بتحريم هذه الطريقة لتحديد الذكر بعد الصلاة، ليس كفعل الخوارج الذي انتقده ابن مسعود على الأقوام الذين جمعوا الحصى، هذه تختلف يقيناً عن مسألتنا كمنظر وكهيئة وكواقع من كل الجوانب. فالمسألة إذاً قابلة للأخذ والرد. ولذلك ترى بعض العلماء أجازها كشيخ الإسلام ابن تيمية، لكن نحن نقول: إن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعقد التسبيح باليد، ومن لم يستطع تكون حالته خاصة، تكون الفتيا له خاصة، وإلا هدي رسول الله أكمل وأتم هدي. وهو خلاف الأولى في حقي وفي حقك، لكن في حق رجل لا يستطيع العد، هل هي خلاف الأولى؟ في حق رجل مستطيع العد وإتقان العد هي خلاف الأولى، لكن في حق رجل لا يستطيع الوصول إلى العدد إلا بهذه الطريقة لا يقال: إنها خلاف الأولى. وهي مثل مسألة الخط في المسجد، هذه فقهيات لازم تُفهم حتى لا تصطدم بالعامي، الخط الذي يخط في المسجد لضبط القبلة، قد يأتي أحد المشايخ ويقول: الخط بدعة، لماذا؟ يقول: لأنه لم يكن في مسجد رسول الله خط، فنقول: حقاً لم ينقل أن مسجد الرسول كان فيه خطوط لضبط القبلة، لكن مسجد الرسول كانت قبلته في الأمام مباشرة، لكن هذا المسجد فيه انحراف، القبلة إلى اليمين قليلاً أو إلى اليسار كثيراً، أنا لا أستطيع أقدر الميول كم هي؟ فصنعت خطاً لضبط القبلة، هل أنا آثم بهذا الخط؟ أو هل أنا مبتدع لكوني حرصت على ضبط قبلتي؟ الاحتجاج بأن مسجد الرسول ليس فيه خط لا ينسحب علي هنا؛ لأن المقامين مختلفان، القبلة هنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام مستقيمة للأمام، والقبلة عندي الآن فيها ميول، فالمقامات تختلف، فلذلك هذه المسألة تحتاج إلى إمعان نظر، ولا تحتاج إلى تقليد في كل الأحوال؛ لأن لنا علماء، ومن فضل الله أن علماءنا ليسوا بواحد ولا باثنين ولا بثلاثة فقط، إنما لنا علماء لهم اجتهادات، عندك مثلاً مالك، الشافعي، أحمد، اقرأ أقوال هؤلاء العلماء في المسائل، ولا تتحجر على عالم واحد، بل اطلع وافهم، وهذا المطلب الذي أردناه، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضاه.

حكم من نام على جنابة من جماع

حكم من نام على جنابة من جماع Q هل يجوز للرجل أن يجامع أهله ثم ينام على الجنابة إلى الفجر؟ وهل صحيح أن الملائكة تلعن من فعل ذلك؟ A أما كون الملائكة تلعن من فعل ذلك فليس بصحيح. أما هل يصح أن ينام الرجل على جنابة؟ فهذا أيضاً سؤال إجابته تحتاج إلى فهم الحديث لا إلى التسرع فيه. يجوز مع الكراهة، ولماذا الكراهة؟ لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لما سُئل هذا السؤال، قال له السائل: (يا رسول الله! أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ) ، قد يتوهم متوهم أن قوله: (نعم، إذا توضأ) أنه حرام عليك أن تنام إلا إذا توضأت، والصواب أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كان قال: (لا، إلا إذا توضأ) يفيد التحريم، لكن حينما قال: (نعم، إذا توضأ) ، فكأنه بقوله: نعم، يشير إلى الجواز، وبقوله إذا توضأ استحباب الوضوء قبل النوم، فإذا استدل به مستدل على المنع والتحريم لا يكون استدلاله في محله؛ لأن الحديث ما أفاد نهياً صريحاً عن النوم، لكن قال: (نعم) ثم قال: (إذا توضأ) ، فلا يساوي (لا، إلا إذا توضأ) والفرق واضح بين اللفظين، فدقة فهم أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام تستطيع من خلالها أن تصل إلى الحكم المراد. ثم في الباب أدلة أُخر: سُئلت عائشة: (أكان النبي صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب) ، أي: ينام قبل أن يغتسل أم يغتسل قبل أن ينام؟ قالت: (ربما فعل هذا، وربما فعل ذاك) ، قال: (الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة) .

وقت صلاة العشاء

وقت صلاة العشاء Q متى ينتهي وقت صلاة العشاء؟ A مسألة متى ينتهي وقت العشاء فيها: قولان: قيل: قبل الفجر بقليل، وقيل: عند منتصف الليل. وسؤالي هنا: متى منتصف الليل؟ وفي حديث الرسول: (وقت العشاء إلى منتصف الليل) ، الليل يكون من أذان المغرب إلى أذان الفجر. لكن كيف أحدد نصف الوقت هذا؟ نقسم الوقت من المغرب إلى الفجر، مثلاً: المغرب يؤذن الساعة الخامسة، والفجر يؤذن الساعة الرابعة، فيكون المجموع إحد عشرة ساعة، ونقسم على اثنين، ويكون هذا منتصف الليل، وهل الصحابة كانوا يفعلون ذلك؟ لا، ما كان الصحابة يعملون ذلك، والرسول يقول: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) ، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام أخَّر العشاء يوماً إلى منتصف الليل، وقال: (هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي) ، ما المراد بقوله: (هذا وقتها) ؟ أي: هذا وقتها المستحب. فهل وقتها المستحب يكون آخر الوقت الذي بعده تصبح قضاءً؟ وكيف كان الصحابة يكتشفون منتصف الليل وليس معهم ساعات، رجل نام ساعتين في الليل، ثم وقام، كيف يعرف أن منتصف الليل جاء أو لا؟ هل يصلي قضاءً أو يصلي حاضرة؟ فاتضح صحة رأي الجمهور في تحديد وقت صلاة الفجر، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى) ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يأتي وقت الصلاة الأخرى، باستثناء الفجر بالإجماع؛ فوقتها ينتهي بطلوع الشمس، ويكون حديث عبد الله بن عمرو: (وقت العشاء إلى منتصف الليل) ؛ على أنه وقت استحباب لا وقت تحريم. مع العلم أن الأمور التقريبية هذه لا تضبط بها نهايات الأوقات ولا بدايتها، وقد ورد في الأحاديث: (حتى ذهب من الليل نصفه) (حتى ذهب من الليل ثلثه) ، (حتى ذهب من الليل أكثره) ، شيء تقريبي، وتحديد أوقات الصلوات أشياء ثوابت يعرفها العوام بلا ساعات وبلا منبهات وبلا إذاعة ولا أي شيء، الفجر إذا ظهر الخيط الأبيض من الأسود، الظهر عند الزوال، العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، المغرب إذا غربت الشمس، العشاء إذا سقط الشفق، وهذا كله تستطيع أن تتعلمه في يوم واحد، لكن منتصف الليل شيء لا يُتعلم بالسهولة واليسر.

الحق في كل مسألة واحد وإن تعددت أقوال المجتهدين

الحق في كل مسألة واحد وإن تعددت أقوال المجتهدين Q هل في كل مسألة لابد أن يكون الحق والصواب واحداً أو ربما يتعدد فيها الحق؟ A الحق والصواب عند الله واحد، أما اجتهاداتنا في الدنيا فقد تختلف وتتنوع، والموفق منا للحق والصواب مأجور أجران، والذي لم يوفق للحق والصواب له أجر كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام.

صحة حديث: (إنما الطاعة في المعروف)

صحة حديث: (إنما الطاعة في المعروف) Q هل حديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) صحيح؟ A معناه صحيح، لكن ليس بهذا اللفظ، إنما لفظه: (إنما الطاعة في المعروف) ، وهو ثابت في صحيح البخاري.

خال الزوج ليس بمحرم

خال الزوج ليس بمحرم Q هل يجوز للزوجة أن تسلم على خال زوجها أو تكشف عن وجهها عليه مع العلم أنه رجل كبير في السن؟ A خال الزوج ليس بمحرم، ويجوز له أن يتزوج بالمرأة إذا مات زوجها، فهو أجنبي عن المرأة.

من أحكام التعزية

من أحكام التعزية فضيلة الشيخ! مصطفى العدوي تعودنا مع إخواننا أن نطرح مسائل فقهية على سبيل المناقشة، ومعرفة كيفية الاستدلالات، ومعرفة ما هو المكروه وما هو المحرم، وإن خالف هذا المستقر في الأذهان في مسألة من المسائل، فطرح المسائل بهذه الطريقة إن شاء الله يوصل إلى نتيجة محمودة، وإلى اتساع في الآفاق بمشيئة الله تعالى، والحمد لله أن إخواننا الجالسين طلبة علم، وليس فيهم كثير عوام، فلنطرح مسألة ونوجه السؤال فيها إلى أحد إخواننا، ونرجو ألا يجد في نفسه علينا، إذ المجال مجال مناقشة ومجال وصول إلى الخير إن شاء الله تعالى بالدليل من الكتاب أو السنة. وQ رجل من أهل القاهرة، ومن وجهاء القاهرة، له شقة يمتلكها هناك، فمات له ميت وله أصدقاء من المنصورة، ومن الإسكندرية وطنطا، تربطهم به صداقة قوية، فلما مات له الميت توقَّع يقيناً أنه سيأتيه أصحابه إذ قد علموا بالوفاة التي حدثت له مع العلم أن هذه الشقة مليئة بالأغراض المعيشية، فمات له ميت وله أصدقاء سيأتونه يقيناً من عدة بلدان بعيدة، وسيأتيه عدد ضخم من الزوار والمعزيين، فقال لي: ماذا أصنع لاستقبال هؤلاء الأضياف الذين أتوني للتعزية، والسؤال لك: هل التعزية في الميت مشروعة أو ليست بمشروعة؟ A ورد حديث: (لا عزاء بعد ثلاث) وهو ضعيف، فعلى كلٍ أننا في اليوم الأول أو الثاني، والتعزية مشروعة. وأنا لست بمخطئ إذا ذهبت إليه من المنصورة كي أعزيه في القاهرة، وأنا ما شددت إليه رحلاً، وأما حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ، ما هو المستثنى منه؟ هل شد الرحال لطلب العلم حرام؟ وزيارة أخي في القاهرة مثلاً أو زيارة عمي في الإسكندرية ما المانع منه؟ إذاً: إذا ذهبت أنا وإخواني لتعزية صديقي في القاهرة، فوجدنا البيت ضيقاً لا يسع، هل يجوز لي أن اعمل لهم خيمة في الشارع يجلسوا فيها؟ الآن البيت ضيق، وما وجدت في البيت سعة، والجو حار، فوضعنا خيمة تغطينا من الحر أو البرد هل هذا جائز أو هناك خلاف؟ وهل هناك شيء شرعي يمنع؟ ثم إن وجدت الناس في الخيمة يتكلمون ويلغون بالكلام، فقلت: أحضر مسجلاً مع شريط للحصري يتعظون به هل يجوز أو لا يجوز؟ وربما هناك من يقول: إن استماع القرآن خير من اللغو. الآن: أنا كسائل من العوام طرحت المسألة بكل حيثياتها، هل هذا الشيء بهذه الملابسات المحيطة حرام؟ هناك حديث جرير رضي الله عنه: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) ، والحديث ضعيف فيه هشيم بن بشير وهو مدلِّس وقد عنعنه، وأحمد بن حنبل رحمه الله قال في إجاباته لـ أبي داود في العلل: لا أرى لهذا الحديث أصلاً. فالحديث ضعيف، وعلته عنعنة هشيم بن بشير عن إسماعيل بن خالد، وقال بعض العلماء: سقط بينهما شريك، وقيلت أقوال أُخر، وقد حسنه البعض، فهذا رأي الإمام أحمد، والدارقطني أيضاً فإنه ذكر كلاماً حول هذا الحديث في العلل. الحقيقة -يا إخوة- الفتوى بالتحريم لا تُطاق، وتعليم الناس السنة ينبغي أن يكون شيئاً فشيئاً. وأما أمر التعزية على المتيسر، ويجوز أن تعزي بالتلفون أو الطريق أو البيت، أو العمل، على المتيسر، لكن الفتيا بالتحريم دائماً تحتاج إلى تمهل وتريث، وقبل أن تفتي بالتحريم مع هذه الملابسات المحيطة بمسألتنا لابد أن تعلم أن كل مسألة تقدر بقدرها، وتكون هذه وصفة خاصة بالجواز لمن هذه حاله، ولا تطَّرد فيما سواها، والله أعلم. ويجب ملاحظة أننا لا نقول فتوى عامة: أن الخيمة جائزة، ويقف صف طويل يعزي، وبالسيارات الفارهة التي جاءت تعزي، لا، لم نقل بهذا، تكلمنا على فتوى معينة في ملابسات معينة، والأصل في التعزية على ما تيسر، في البيت في العمل بالهاتف في الطريق في اليوم الأول اليوم الثاني اليوم العاشر كله جائز. شخص مثلاً يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ عزاء جعفر بن أبي طالب في المسجد! أقول: إن هذا لم يثبت، ومن وجده فليأتنا به. إذاً: السنة أن التعزية على ما تيسر كما سمعت، والرسول لما مات جعفر أمهل ثلاثاً ثم ذهب إلى أهله يعزيهم، فالسنة أن تعزي كما جاء، لكن إن جاءنا شخصٌ له ملابسات خاصة يجوز لنا أن نفتيه بفتاوى خاصة على قدر حاجته وانتهى الأمر، والله أعلم.

الاسم الشرعي للشاذ جنسيا

الاسم الشرعي للشاذ جنسياً Q ما الاسم الشرعي للشاذ جنسياً؟ وكيف تكون معاملته مع الرجال والنساء؟ A هذه المصطلحات التي أتت إلينا من بلاد الكفر ينبغي أن توزن بوزنها في الشرع، فالشاذ جنسياً، والعلاقات الجنسية؛ كل هذه مصطلحات دخيلة علينا وعلى شرعنا، وهم إنما أطلقوا على الزنا علاقة جنسية للتهوين من أمره ومن شأنه، واسمه في الشرع: زنا، والشاذ جنسياً اسمه: مخنَّث، فلا نحب أن تُسحب هذه الاصطلاحات الواردة إلينا من بلاد الكفر وتطغى على اصطلاحاتنا الشرعية، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهانا أن تغلبنا الأعراب على اسم صلاتنا العشاء، فقال: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء يسمونها العتمة لإعتام الإبل) مع أن الرسول سمى العشاء: العتمة. فجدير بنا ألا نصبغ أسئلتنا بهذه الأخلاق السيئة، فكلٌ له حكم، والمخنث الذي هو بين الرجال والنساء له حكم، والمخنث من الرجال الذي يؤتى له حكم آخر، ففي المسألة تفصيل: وأما معاملاته من الرجال والنساء وهو شاذ فعلى حسب شذوذه، إن كان لا يشتهي النساء ولا يصفهن، فله حكم، وإن كان يشتهيهن أو كان يصف النساء لا يدخل عليهن؛ لحديث: أن مخنثاً قال: إذا فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بـ ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، فقال الرسول: (لا يدخلن هذا عليكن) .

تفسير سورة الرحمن [1]

تفسير سورة الرحمن [1] لله سبحانه وتعالى أسماء فمنها ما قد يشاركه فيها البشر مثل: الرحيم، الكريم، الرءوف، ومنها ما يختص به سبحانه مثل: الرحمن، فالرحمن لا يتسمى به أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وفي القرآن سورة تسمى بسورة الرحمن، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه السورة على نفسه، وليس للبشر والخلق أن يثنوا على أنفسهم إلا لضرورة، وبعد أن أثنى سبحانه وتعالى على نفسه بدأ بتعداد بعض نعمه التي لا تحصى على خلقه، فاستفتح بنعمة عظيمة وهي نعمة تعليم القرآن لخلقه وتيسير حفظه، فهذه النعمة بها يرضى الله عنا، وبها ندخل الجنة، فهي النور والهداية إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، ثم امتن الله تعالى بنعمة خلق الإنسان ثم بتعليمه البيان، ثم ذكر ما يحتويه هذا الكون العلوي والسفلي من سماء، وما فيها من كواكب ونجوم وأرض، وما فيها من بحار وأنهار وزروع وثمار، وهذا يدل على أن نعم الله كثيرة لا تحصى، فالواجب على المسلم شكر الله على هذه النعم.

مقدمة تفسير سورة الرحمن

مقدمة تفسير سورة الرحمن باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فسورة الرحمن مدنية على رأي أكثر العلماء، سميت باسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، وهذا الاسم من أسماء الله لا يشاركه فيه أحد، وهناك أسماء لله سبحانه وتعالى قد يشاركه فيها البشر، كالعزيز، فإنه اسم من أسماء الله وصفة لبعض خلقه: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51] ، وقال إخوة يوسف: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88] ، وكذلك الكريم اسم من أسماء الله وصفة لبعض خلقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام) ، وثم أسماء أخرى على هذا المنوال. لكن اسم الرحمن لا يتسمى به أحد إلا الله سبحانه وتعالى، ولما تشدق مسيلمة الكذاب وأطلق على نفسه رحمان اليمامة وُصِفَ دائماً بأنه كذاب، فلا يقال: إلا مسيلمة الكذاب. واسم الرحمن كان مستنكراً عند المشركين، ومن ثم استنكره سهيل بن عمرو في صلح الحديبية عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبه في الاتفاقية، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل بن عمرو: لا ندري ما الرحمن؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم) . وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] ، وقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60] ، فاسم الرحمن كان مستنكراً عند أهل الشرك من أهل مكة، عند مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم.

تفسير قوله تعالى: (الرحمن.

تفسير قوله تعالى: (الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان) قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1-2] . يثني الله سبحانه وتعالى على نفسه، ويمدح الله سبحانه وتعالى نفسه، ليس ذلك للبشر، فليس لنا أن نمدح أنفسنا، ولا أن نثني عليها، إلا إذا دعت ضرورة لذلك، كما قال يوسف الصديق عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، وكما قال عثمان رضي الله عنه: (أناشدكم الله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أناشدكم الله، هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزته؟ قالوا: اللهم نعم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: اللهم نعم، قال: ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: اللهم نعم) إلى آخر الحديث، فالثناء على النفس الأصل أنه ممنوع إلا إذا دعت حاجة إليه، لكن ربنا سبحانه وتعالى يثني على نفسه، فهو المنان سبحانه، فيقول سبحانه: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن:1] ، ثم يعدد نعمه على خلقه، فيقول سبحانه في بداية هذه النعم، وأوائل هذه النعم: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2] ، فهي أكبر نعمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها علينا، هي تعليمنا القرآن، ولولا تعليمنا القرآن لكنا من أهل النيران والعياذ بالله! وأي خسار بعد هذا الخسار أن يودع الشخص في سجين والعياذ بالله؟! فأول نعمة ذكرت في هذه السورة الكريمة -التي يطلق عليها بعض العلماء: سورة النعم- هي نعمة تعليم القرآن، ففي تعليم القرآن فضائل ذكر بعضها في كتاب الله. أما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها: (خيركم من تعلّم القرآن وعلمه) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين) . فيقول سبحانه: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2] فهو سبحانه علم الطب وعلم الهندسة وعلم الزراعة والصناعة والحرف، ولكن لم يكن الامتنان الأول بقوله: علم الطب، ولا علم الزراعة، ولا علم الهندسة، إنما صدر بقوله تعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2] ، وبضمينة حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وبضمينة قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] تظهر فضل تعلم القرآن. {عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:2-3] فذكر تعليم القرآن وفضله قبل خلق الإنسان.

تفسير قوله تعالى: (علمه البيان) وبيان نوعي البيان

تفسير قوله تعالى: (علمه البيان) وبيان نوعي البيان {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] ، البيان بيانان كما قال العلماء، والبيانان هما الأشهر، وإن كانت ثمّ أنواع أخر من أنواع البيان، فالبيانان الأشهر أحدهما: بيان باللسان، والآخر: بيان بالقلم. وأصل البيان: إظهار ما في نفس الشخص للآخرين، وهذا يكون إما عن طريق اللسان، وإما عن طريق القلم، فالامتنان بالتعليم بالقلم ذكر في سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، فنعمة من الله إذ امتن علينا بتعليمنا البيان بكل أنواعه، وبهذا يفارق بنو آدم سائر العجماوات، من البهائم وسائر الدواب. فإن قال قائل: إن الله سبحانه وتعالى امتن علينا بتعليمنا البيان بنوعيه كما ذكرتم، وكما أسلفنا ثمّ أنواع أخر من أنواع البيان كالإشارات وكالنظرات، لكنها ليست بتلك الشهرة، إذ كتاب الله يذكر الغالب الأشهر. فإذا قال قائل: إن الله امتن علينا بتعليمنا البيان، كما امتن على عيسى صلى الله عليه وسلم بقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [المائدة:110] ، فإذا كانت هذه نعماً فسؤال يطرح: لِم لم يعلمها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ بل قال الله في شأنه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف:157] ؟! فلماذا لم يمتن الله على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بتعليمه البيان بالقلم؟! العلة من ذلك ظهرت في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:48-49] . الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعلم البيان بالقلم لعلة ألا وهي: دفع الشكوك عن الذين كانوا يزعمون أن بشراً يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص على ذلك في كتاب الله بقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] .

تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان)

تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان) يقول سبحانه: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] ، هنا فعل مستتر أو مقدر، فالمعنى الشمس والقمر يجريان بحسبان، أي: يجريان بحساب، ليس جريهما عشوائياً، إنما يجريان بحساب وبتقدير، كما قال سبحانه: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، فهذا المعني بقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] أي: يجريان بحساب.

تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان)

تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان) قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] ، ما المراد بالنجم هنا؟ النجم على رأي أكثر العلماء هنا ليس المراد به الثريا، وإن كان هذا القول قد قال به فريق من العلماء، وليس المراد به النجم الساطع في السماء الذي أقسم الله به بقوله: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] ، إنما النجم هو النبت الذي لا ساق له في الأرض، وذلك كالحشيش الذي في الأرض، فهذا نبت، قال كثير من أهل التفسير: إن كل نبات ليس له ساق يطلق عليه نجم، وكل نبات له ساق يطلق عليه شجر، فذكر الله شيئين في السماء: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] ، وشيئين في الأرض وهما: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] ، وقد قال بعض أهل العلم بالقول الأول، لكن الأكثرون على أن المراد بالنجم النبت الذي لا ساق له. وأصل تسمية النجم مأخوذة من النجوم وهو الظهور، نجم النبات عن نزول المطر، أي: ظهر بسبب نزول المطر، نجمت هذه المشكلة عن شيء، أو نجم هذا الشيء عن مشكلة حدثت أي ظهر. أثبتت الآية الكريمة أن الشجر يسجد، وأن النجم يسجد صراحة، فالله يقول: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] ، وقد قال الله جل ذكره: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] . وقد حنّ الجذع لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وثمّ أدلة أخر في الجمادات وغيرها قد تقدمت، قال صلوات الله وسلامه عليه: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ، إني أعرفه الآن) . وقال الله سبحانه في شأن الأحجار: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] .

تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان)

تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان) قال الله سبحانه: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:7] ، الميزان ما المراد به؟ من أهل العلم من قال: إن المراد بالميزان الحق والعدل، شرعه الله سبحانه، فوضعه هنا أي: شرعه للناس، شرع للناس الحكم بالعدل، فشرع لهم الحكم بالقسط. ومن أهل العلم من قال -وهذا قول لا تشهد له كثير أدلة-: إن الميزان الذي له كفتان نزل مع آدم صلى الله عليه وسلم، مع السندان مع أشياء أخر، لكن الآثار بذلك مقطوعة، أي: من أقوال بعض التابعين لا يثبت منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (ألا تطغوا في الميزان)

تفسير قوله تعالى: (ألا تطغوا في الميزان) قوله تعالى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن:8] أي: أن لا تجوروا وأن لا تزيدوا، فالطغيان تجاوز الحد بصفة عامة.

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن:9] أي: بالعدل والحق، {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] أي: ولا تنقصوا الميزان.

تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام)

تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام) قال تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10] أي: للخلق، مهدها الله سبحانه وتعالى لهم، وجعلها قابلة لموتاهم إن ماتوا: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25-26] أي: جعلناها لكم كفاتاً في حياتكم وبعد مماتكم، فإذا متم قبرتم فيها، والله قادر على أن لا يجعلها تقبل أحداً أبداً إذا شاء الله سبحانه للأرض أن تلفظ الخلق، فإنها تلفظهم ولا تقبلهم في بطنها، وهذا يكون يوم القيامة في حق جميع الخلق، كما قال سبحانه: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:3-4] قوله: (ألقت ما فيها) أي: ما في بطنها وتخلت. ويكون في الدنيا كذلك في حق بعض الناس، فهذا نصراني كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ثم إنه انتكس وارتد نصرانياً، وطفق يطعن ويقول: ما يدري محمد ما كتبت له؟ فلما مات ودفنوه أصبحوا وقد لفظته الأرض على وجهها، فقال أصحابه: هذا فعل محمد وأصحاب محمد، فأعمقوا له الحفر ثم دفنوه، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فقالوا أيضاً: هذا فعل محمد وأصحاب محمد، ثم أعمقوا وأعمقوا فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فعلموا أن الأرض لفظته، فألقوا عليه الحجارة على وجه الأرض.

تفسير قوله تعالى: (فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)

تفسير قوله تعالى: (فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام) قال الله سبحانه: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن:11] والأكمام هي: أوعية الطلع، التي يكون بداخلها الطلع، وبالتعبير الدارج بيننا وبمثال مقرب: كوز ذرة يكون فيه أوراق، هذه الأوراق تسمى: الأكمام، والذرة بداخلها، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن:11] .

تفسير قوله تعالى: (والحب ذو العصف والريحان)

تفسير قوله تعالى: (والحب ذو العصف والريحان) قال سبحانه: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} [الرحمن:12] أي: الذي يكون منه بعد ذلك العصف، والعصف هو التبن، والآيات مفسرة بقوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] . قوله: {وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن:12] إذا قلت: إن الريحان هنا بالضم كما هو مثبت في المصاحف التي بين أيدينا: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن:12] فتكون (الريحان) هنا لها تأويل يختلف شيئاً ما عما إذا قلت: (والحب ذو العصف والريحانِ) حيث تكون الريحان صفة للعصف، ويكون المراد بها على قول لفريق من المفسرين: الاخضرار، فيقال: والحب ذو الخضرة وذو اليبس، فهو أولاً يكون أخضر، ثم بعد ذلك ييبس ويصبح عصفاً. أما على قراءة من قرأها معطوفة على الحب، فيقول: إن المراد بالحب النبات الأخضر، أو يقول: الريحان المعهود ذو الرائحة الطيبة.

تفسير قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] (فبأي آلاء) أي: فبأي نعم الله سبحانه وتعالى عليكما تكذبان، فالخطاب بالتثنية موجه إلى الإنس والجان. وقد ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب في صحته نزاع، لكن تشهد لمعانيه عمومات، ألا وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآيات على أصحابه وسكتوا، قال: إن الجن كانت أحسن قيلاً منكم، قالوا: وكيف؟ قال: لما تليت عليهم هذه الآيات قالوا: لا نكذب بشيء من آلائك ربنا) أي: لا نكذب ولا نجحد بشيء من نعمك يا ربنا. والحديث وإن كانت أسانيده فيها بعض الأقوال وبعض النزاع، إلا أن هناك نصاً عاماً تندرج تحته مثل هذه الأجوبة، من هذه النصوص العامة التي تندرج تحتها هذه الأجوبة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل فلا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ) عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار)

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) قال الله سبحانه: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] قوله: (خلق الإنسان) اللام في الإنسان هنا للعهد كما هو معلوم، وليست للجنس، فأحياناً تأتي كلمة (الإنسان) ويراد بها إنساناً معهوداً بعينه، وأحياناً تأتي ويراد بها جنس الإنسان. كما يقول الله سبحانه وتعالى (الكتاب) فأحياناً يأتي ذكر الكتاب ويراد به كتاباً معهوداً بعينه، وأحياناً يأتي ذكر الكتاب مراداً به جنس الكتب، فمثلاً: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113] فالمراد بالكتاب هنا القرآن، فالمراد به كتاب معهود نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن. لكن: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [الحديد:25] فالكتاب هنا اسم جنس، لا يراد به كتاباً معهوداً بعينه، إنما يراد به كل الكتب التي نزلت من عند الله سبحانه وتعالى. وكذلك الإنسان أحياناً يأتي ذكر الإنسان ويراد به إنساناً بعينه وهو آدم صلى الله عليه وسلم أو غير آدم، وأحياناً يأتي ذكر الإنسان للجنس، فمثلاً: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] الإنسان الذي خلق من صلصال كالفخار هو آدم صلى الله عليه وسلم، لكن قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] فالإنسان هنا ذرية آدم. فقوله سبحانه: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] إن قال قائل: كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] ، {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] و {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26] ، فالصلصال من حمأ مسنون: الطين المتغير المنتن؟! نقول: إن هذه مراحل خلق الإنسان، خلق من تراب: عجن التراب بالماء، فأصبح طيناً، ثم ترك الطين حتى أنتن فأصبح حمأً مسنوناً، خلق منه الإنسان وترك حتى يبس فأصبح صلصالاً كالفخار، إلى غير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وخلق الجان من مارج من نار)

تفسير قوله تعالى: (وخلق الجان من مارج من نار) قال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] المارج قال فريق من أهل العلم: هو طرف اللهب، وهو أقوى شيء في النار، فالنار المجاورة للمصدر مباشرة هي الأضعف، وطرف اللهب هي الأقوى، فيقولون: إن المارج من نار هو طرف هذا اللهب أو طرف النار. قوله سبحانه: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] بهذه الآية وبقول إبليس: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف:12] يقوى قول من قال: إن إبليس من الجن كما دل عليه الكتاب العزيز صراحة في قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] . أما الإشكال الذي قد يرد ألا وهو: إن الله سبحانه وتعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فإبليس لم يكن على هذا الزعم موجهاً له الخطاب؛ لأنه ليس من الملائكة، فلماذا يُعَاْقَبُ وهو ليس من الملائكة والله يقول: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] ؟ الإجابة على هذا الإشكال: أن الله وجه إليه الأمر بالسجود كذلك مع الملائكة، فلما امتنع عوقب بامتناعه. قال الله سبحانه وتعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] قد يأتي شخص ويقول: كيف يعذب الجان وهو مخلوق من نار؟ نقول: هذا من الممكن؛ فأنت يا من خلقت من طين قد تعذب بالطين وبالأحجار الطينية، وقد عذب قوم لوط بحجارة من سجين، أي: من طين منضود متحجر.

تفسير قوله تعالى: (رب المشرقين ورب المغربين)

تفسير قوله تعالى: (رب المشرقين ورب المغربين) قال الله سبحانه وتعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:16-17] إن قيل: هناك مشرق ومغرب، ومشرقان ومغربان، ومشارق ومغارب فكيف الجمع؟ الجمع أيسر من أن يتكلف: فالمشرق والمغرب لها تأويلات أحدها: مشرق الشمس ومغربها، والمشرقان والمغربان أي: مشرق الشمس والقمر ومغربهما، والمشارق والمغارب مشارق الشمس والقمر والنجوم ومغاربها، هذا قول. وقول آخر: أن الشمس لها في الجملة مشرق ومغرب، وعلى التفصيل كل يوم يختلف مشرقها عن مغربها أي: يختلف مشرقها عن اليوم الذي قبله، فالشمس اليوم لها مشرق، وغداً لها مشرق، وبعد غد لها مشرق، وإن كانت الاختلافات طفيفة لا يعلمها إلا الله، لكنها على كلٍ مشارق ومغارب، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان)

تفسير قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:18-19] المرج يطلق على الخلط أحياناً، وقيل: إن معنى (مرج البحرين يلتقيان) أي: أقبل هذا البحر على ذاك، والبحران هنا المراد بهما العذب والمالح، وعبر عن النهر بالبحر هنا. فأولاً من ناحية اللغة: يطلق البحر على النهر كذلك، فإن البحر مأخوذ من الاتساع، والنهر كذلك مأخوذ من الاتساع، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم أن سمع صوتاً في المدينة فامتطى فرسه وكان عريان -أي: الفرس- وتتبع أثر الصوت فقال: (ما وجدنا شيئاً، إن وجدناه لبحراً) أي: وجدنا الفرس سريع الخطى، واسع الخطى، فالواسع يطلق عليه بحر، ومنه قول العامة: هذا بحر في العلم، أي: علمه واسع. والنهر كذلك يطلق على الاتساع والشدة، قال عليه الصلاة والسلام: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السنَّ والظُّفُرَ) فما أنهر الدم أي: ما أخرج الدم بغزارة، فالبحر يطلق على النهر أحياناً، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الجنة-: (فيها بحر اللبن، وبحر العسل، وبحر الخمر، وبحر الماء) ، وفي الكتاب العزيز: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] فعبر عن البحر بالنهر، وعن النهر بالبحر. فإما أن يقال: أطلق على النهر والبحر بحران تغليباً كما يقول العرب: جاء العمران ويقصدون: أبا بكر وعمر، وكما نقول نحن الوالدان أو الأبوان، ونريد بالأبوين: الأب والأم، فأطلق عليهما الأبوان تغليباً، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) والمراد بهما الأذان والإقامة.

تفسير قوله تعالى: (بينهما برزخ لا يبغيان)

تفسير قوله تعالى: (بينهما برزخ لا يبغيان) قال سبحانه: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] البرزخ: الحاجز، والبرزخ: الفاصل كذلك، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] وهو وجودهم في المقابر إلى يوم البعث. قال تعالى في شأن البحرين: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] أي: يحجز الملح عن العذب، فلا يتداخلان، وإلا لو دخل الملح على العذب لوصل الملح إلى بلادنا ولأفسد علينا سقيانا ومزارعنا، ولكن من حكمة الله الحكيم الحميد أنه سبحانه جعلهما في الحياة الدنيا لا يبغيان. أما بين يدي الساعة فكما قال فريق من أهل العلم: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] قال بعضهم: اختلط مالحها بعذبها، ودخل مالحها في عذبها. أما هذه الآية الكريمة: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] فهي من الأدلة على قدرة الله سبحانه وتعالى، ولو شاء الله لخلطهما.

تفسير قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)

تفسير قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:21-22] . قال فريق من أهل العلم: إن اللؤلؤ لا يخرج إلا من البحار، فكيف قيل: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22] ؟ فالإجابة من وجوه: أحدها: ما تقدم، ألا وهو أنه أطلق: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22] تغليباً، وإن كان يخرج من البحر. والثاني: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22] قال البعض: ثبت الآن أن اللؤلؤ أيضاً يخرج من الأنهار، فالله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وله الجوار المنشآت.

تفسير قوله تعالى: (وله الجوار المنشآت.) قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الرحمن:23-24] . قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ} أي: السفن، جمع جارية كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] وسميت جارية لجريها، كما أطلق على الفتاة جارية لجريها في خدمة أبويها، وعلى الأمة جارية لجريها ولسعيها في خدمة سيدها، فيطلق على السفن، والجواري، والفلك، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] . الأعلام المراد بها الجبال، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولينزلن قوم إلى جنب علم) فالعلم هنا هو الجبل، فالجوار المنشآت في البحر كالجبال هي لله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:33-34] إن يشأ الله يغرقها وإن يشأ الله يسيرها.

تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك.

تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك.) قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:25] ثم القرار: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] . كما قال الله سبحانه لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ، وكما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ، وكما قال الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] . فهنا يذكر سبحانه لفظاً عاماً في كل الخلائق: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] الجلال مأخوذة من الإجلال، وقولك: أنا أجل الشخص عن كذا، أي: أنزهه وأرفعه عن هذا المستوى، فتقول: أنا أجلك عن هذا الفعل، أي: أرفع قدرك، فلا يليق بك أن تنزل إلى هذا المستوى الرديء وتفعل هذا الفعل، فأنت أجل من هذا الفعل، وأعظم من هذا الفعل، فالجلال هنا من هذا المعنى. وكذلك: الإكرام، بمعنى: أنا أكرمك أن تصنع هذا الصنيع، وأن تنزل إلى هذا المستوى، فربنا أجل وأكرم، فهو لا يتطرق إليه سبحانه عيب ولا نقص بحال من الأحوال، منزه عن كل قبيح، ومنزه عن كل نقص، ومنزه عن كل عيب سبحانه وتعالى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) أي: ألحوا في الدعاء وأكثروا في الدعاء، من قول: يا ذا الجلال والإكرام، فتقول مثلاً: يا ذا الجلال والإكرام افعل لي وافعل، كما تقول بعد الصلاة: اللهم! أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فتخلل بها أدعيتك.

تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السماوات والأرض.

تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السماوات والأرض.) قال الله سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن:29] وهذه الآية تبين لك عظمة ربك سبحانه وتعالى، فكل شيء في السماوات والأرض يسأل الله، أنا وأنت وأبي وأبوك وأخي وأخوك وأمي وأمك والخلائق أجمعون، الشمس والقمر، الملائكة والجن، والسمك والحيتان، والجراد والنمل والقمل والدود، كل ذلك يسأل الله سبحانه وتعالى في آن واحد، والله يجيبه، والله يسمعه، ويعلم سره ونجواه. أما أنا وأنت إذا حدّثنا شخصان في آن واحد، نقول لأحدهما: اسكت، حتى ينتهي الآخر من حديثه، حتى أفهم مراده؛ لأنه كما قال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] . لكن ربنا سبحانه وتعالى ليس كذلك، فكل من في السماوات والأرض يسألون ربهم، وهو يسمعهم ويجيبهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ، {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32] .

الأسئلة

الأسئلة

حكم من حلف بالطلاق

حكم من حلف بالطلاق Q أريد الحكم في هذه الأيمان الثلاثة التي ألقاها الزوج لزوجته وهي متفرقة، عندما يقول الزوج: عليّ الطلاق لم يحصل هذا الشيء، والزوجة متأكدة أنه حصل؟ A هو كذاب، لكن لا تقع به طلقة.

حكم الصلاة في البنطلون الواسع والضيف والمسبل

حكم الصلاة في البنطلون الواسع والضيف والمسبل Q ما حكم الصلاة في (البنطلون) ؟ A الصلاة (بالبنطلون) صحيحة، لكن إذا كان ضيقاً ومسبلاً كرهت، لكنها أيضاً مع الكراهية صحيحة.

حكم إقامة جماعة ثانية في مسجد قد صلي فيه

حكم إقامة جماعة ثانية في مسجد قد صلي فيه Q هل تجوز إقامة جماعة ثانية في مسجد أقيمت فيه الجماعة الأولى؟ A نعم تجوز؛ لحديث: (من يتصدق على هذا؟) ولم ينه رسول الله عليه الصلاة والسلام عن ذلك.

حكم من تحايل على حقوق الفقراء واستعمل الغش والتزوير

حكم من تحايل على حقوق الفقراء واستعمل الغش والتزوير Q لقد اشتريت منذ فترة (بجامة) نوم من صندوق الضمان الاجتماعي، وذلك بدون أي رخصة من الضمان الاجتماعي، وإنما قمت بعمل بحث مزور مع أني غير محتاج، فهل أنا قد أخذت شيئاً ليس من حقي؟ A نعم أخذت شيئاً ليس من حقك، إن هذا موضوع للفقراء، وأنت لست بفقير، فأنت تدخلت على حق الفقراء وأخذته ببحث مزور. السائل: ولما سألت الموظف عن ثمن (البجامة) علمت أنها بثمانية وثلاثين جنيهاً وكان معي (بجامة) أخرى بواحد وثلاثين فخلطتهما وأخذت (البجامة) ذات السعر ثمانية وثلاثين بواحد وثلاثين؟! الشيخ: يعني غش الموظف السائل: وقد مر على هذا الموضوع عامان فماذا أفعل في السبعة جنيهات؟ الجواب: تصدق بها؛ لأنه الآن يصعب الوصول إلى الموظف الذي خدع، فتصدق بها ويصل ثواب الصدقة إلى الموظف الذي غش، والله أعلم. وقد حضرتني في هذا الباب مسألة لرجل غل من غنيمة بعض المعارك، في زمان أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه، فلما قسمت الغنائم سمع حديث الغلول والوعيد الوارد فيه، فأراد التوبة، فذهب إلى أمير المؤمنين معاوية وقال: معي غلول، لا أدري ماذا أصنع به وقد تبت إلى الله. قال: ما أدري أنا كيف أصنع والغنيمة قد قسمت. فذهب إلى بعض الصحابة فأفتي: أن تصدق بها والله يقبل التوبة عن عباده، وثوابها يصل إلى المجاهدين إن شاء الله.

حكم من خرج من المسجد بعد الأذان ليصلي في مسجد آخر

حكم من خرج من المسجد بعد الأذان ليصلي في مسجد آخر Q إذا كنت أحضر درساً في المسجد، وأذن المؤذن فهل يجوز أن أخرج من المسجد وأصلي في مسجد آخر قريب من عملي حتى لا أتأخر عن العمل؟ A نعم، يجوز لك ذلك إذا كنت ستصلي في جماعة أخرى في مسجد آخر. أما حديث الرجل الذي خرج من المسجد بعد سماع المؤذن وقول الصحابي: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) فمحمول على أنه خرج بلا عذر، وأنه خرج ولم يصلها في جماعة. أما إذا خرج لعذر وخرج قاصداً الصلاة في جماعة أخرى وأدرك شيئاً من الصلاة في هذا المسجد فلا بأس بذلك، والله أعلم.

تفسير أهل السنة لقوله تعالى: (تجري بأعيننا)

تفسير أهل السنة لقوله تعالى: (تجري بأعيننا) Q تحدثتم عن قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فقلتم أي: تجري بحفظنا وعنايتنا، الشاهد: هل هذا ليس بتأويل؟ A لا، ليس بتأويل أبداً؛ لأنه قد جرى على هذا كلام العرب، وهذه أقوال مفسري أهل السنة، وإن شئت فاقرأ كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، وإلا فما معنى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] عندك أيها السائل؟ فالعلماء من أهل السنة يقولون: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] أي: تجري بحفظ الله وبرعايته، وعلى مرأى منه، هذه أقوال أهل السنة.

حكم اللقطة

حكم اللقطة Q شخص وجد مالاً في الطريق وعليه دين فأخذ المال، فهل يسدد دينه من هذا المال، وهل له نصيب فيه؟ A هذا المال يسمى اللقطة، فيجري عليه حكم اللقطة، فيعرفه عاماً إن كان مالاً يعرف، أما إذا كان مالاً لا يعرف كنصف أو ربع جنيه أو جنيه فكيف تعرفه عاماً؟ هذا ضرب من الجنون أن تبقى لمدة سنة تقول: الذي ضيع جنيهاً فليأت ليأخذه. لكن إذا كان المال كثيراً مما يجعل صاحبه يظل يبحث عنه طيلة هذه المدة، فحينئذ يعرف المال عاماً فإن أتى صاحبه وإلا فليستمتع به بعد الحول.

حكم نظام البحث المعمول به في تقسيم الأراضي الزراعية

حكم نظام البحث المعمول به في تقسيم الأراضي الزراعية Q ما هو الموقف من نظام البحث المعمول به في تقسيم الأراضي الزراعية، حيث أنه في أغلب الأوقات تأخذ المرأة أكثر من أخيها الرجل بحجة أنها مبحوثة، وفي بعض الأحيان يأخذ أخ دون أخ بحجة أنه عمل بحث؟ A بالنسبة لهذه المسألة فالأراضي هذه تعتبر هبات، وللحكومة أن تهب ما تشاء لمن تشاء، أعني: من الرعية، أي: أن للوالي أن يهب ما يشاء، فإذا جاء والٍ وقال: كل أم من الأمهات لها فدان مثلاً، أو كل بنت كبيرة من أسرة مكونة من بنات، نعطيها ألفي جنيه، الوالي يقول: أنا أختار البنت الكبيرة من الأسر، وقرر هذا القرار، من الناحية الشرعية -بغض النظر عن حكومتنا وما فيها من قول- ليس هناك ما يمنع من ذلك شرعاً، والله أعلم.

حكم عفو المرأة عمن طلقها في النفقة

حكم عفو المرأة عمن طلقها في النفقة Q تزوج شخص من موظفة واختلفا على مرتبها، وانتهى الزواج بعد أن أنجبا طفلين بالطلاق، وتزوج من أخرى وأنجب منها طفلتين، وقد حصلت الزوجة الأولى على نفقة -وبحمد الله- عليه مبلغ كبير، وأخذت عليه حكماً بالحبس، فهل تمد له يد المساعدة أم يترك يحبس؟ وهل هي في مساعدتها له تكون ممن يسكت على ظلم؟! A الأورع لها والأتقى أن لا تحبسه؛ لأن الله يقول: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] هذا من ناحية. ثم إن الأحكام التي صدرت ليست -من حيث الأصل- شرعية من الدرجة الأولى، ففيها بعض ما يعتري هذه المحاكم. فالأولى لها أن تصبر وتعفو: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237] كما قال الله سبحانه وتعالى.

حكم أخذ الزوج من راتب زوجته

حكم أخذ الزوج من راتب زوجته Q هل لي أن آخذ نصف راتب زوجتي؟ A إن هي اشترطت عليه قبل بداية الزواج أنها ستعمل فهي أحق براتبها، وإن لم تشترط عليه أنها تعمل فالأمر بينهما على ما يتفقان عليه؛ لأنه من حقه أن يمنعهما من العمل كزوجة، لكن هذا الحق الذي له يسقط إذا اشترطت قبل الزواج أن تعمل؛ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحق الشروط بالوفاء ما استحللتم به الفروج) . لكن إذا تزوجها وهي موظفة ولم يحدث اشتراط، ولم يحدث أي شيء ثم دخل بها، فقال لها: قد أنجبنا فاجلسي في البيت، قالت: أنا أريد الوظيفة، فمن حقه شرعاً أن يجلسها في البيت، فإن اتفقا على نصف المرتب فلا حرج ولا بأس على ما اتفقا عليه.

عدم وجوب تغطية المرأة لشعرها عند تلاوة القرآن

عدم وجوب تغطية المرأة لشعرها عند تلاوة القرآن Q هل يجب على المرأة أن تغطي شعرها عند قراءة القرآن كما في الصلاة؟ A لا يجب على المرأة أن تغطي شعرها عند تلاوة القرآن؛ إذ لا دليل يلزم بذلك، لكنه من تمام الزينة التي ذكرها العلماء ضمناً، في قول بعض السلف الصالح كـ ابن عباس وغيره، أو قول عروة: الله أحق من تزين له. لكن كدليل يلزم أو يوجب على المرأة أن تغطي رأسها عند تلاوة القرآن، لا أعلم دليلاً يدل على ذلك.

حكم من أراد التصدق بمبلغ معين فأعطى السائل أكثر منه

حكم من أراد التصدق بمبلغ معين فأعطى السائل أكثر منه Q شخص وضع يده في جيبه ليعطي سائلاً مبلغاً قدره: خمسة وعشرين قرشاً، ولما عاد لمنزله وجد أنه أعطى السائل ورقة بمائة (دولار) ، فعلى أي الورقتين يكون ثوابه؟ A نرجو أن يثيبه الله سبحانه وتعالى، صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات ... ) وهو أعطى السائل مائة (دولار) وليست له نية إلا في الربع جنيه، فهو مثاب على الربع جنيه، لكن فضل الله أوسع، والله سبحانه وتعالى كريم.

حكم من سعى في الصلح ولم يوفق وطلب منه الشهادة

حكم من سعى في الصلح ولم يوفق وطلب منه الشهادة Q إذا دخل رجل وسعى في الصلح وقد سمع من طرف واحد، وسمع من الطرف الآخر، ولم يوفق في الصلح، ولجأ طرف إلى المحكمة ثم طلب منه الشهادة، فهل سماع القول يلزم السامع أن يقول ما سمعه منه وتعتبر شهادة ملزمة، أم أن القول المسموع عند التدخل لحل المشكلة ولم تُحلَّ لا يلزمه القول به؟ A الصحيح أن تقول: أنا جلست بينهما مصلحاً، وسمعت من هذا كذا، وسمعت من هذا كذا، إلا إذا كانت هناك خدعة خُدِعَ بها شخص، فأحياناً نوجد مخرجاً لهذا الشخص في بعض الحيل، لو أن شخصاً قال: الأخ فلان استلف من فلان ألف جنيه، وهما الاثنان أصدقاء لي، لكن أنا ما رأيتهما عندما أسلف أحدهما الآخر، لكن ثقتي فيهما كبيرة جداً، فجاء واحد وقال: فلان استلف مني ألف جنيه فاشهد على ذلك، فشهدت على الألف جنيه، وبعدها حصلت مماطلة، فأخونا الدائن ذهب إلى المحكمة يشكو المدين، فالقاضي استدعاني، فكيف أشهد أنا الآن؟ وكيف أصنع أمام القاضي؛ فإنه سيطلب مني الآن اليمين؟ فأنا واقع بين خطرين: إن شهدت أنه اقترض ألفاً فأنا ما رأيت، وإذا لم أشهد سيقول لي القاضي: لماذا وقعت؟ فله أن يذهب ويحتال على المدين، ويقول له: أنت لماذا لم تسدد الدين لصاحب الدين؟ قال: والله ليس عندي ما أدفعه، فهنا الحمد لله ثبت أنه أخذ الألف جنيه، فحينما يشهد؛ لأنه بعد ذلك يكون أخف الأضرار.

حكم صلاة المرأة في البنطلون

حكم صلاة المرأة في البنطلون Q هل تجوز صلاة المرأة في (البنطلون) ؟ A إذا كان (البنطلون) واسعاً وسابغاً في البيت فلا بأس.

حكم الزواج بأخت من رضع من أمي

حكم الزواج بأخت من رضع من أمي Q أرضعت والدتي ابن خالتي وهو أكبر مني، فهل يجوز لي الزواج من بنت خالتي التي تصغره؟ A نعم يجوز لك الزواج من بنت خالتك؛ لأن ابن خالتك هو الذي رضع من أمك، فهو أخوك من الرضاعة فقط، لكن لو أنت الذي رضعت من خالتك فتكون أخاً للبنت فتحرم عليك، لكن الصلة المذكورة ليست كذلك فلك أن تتزوج بنت خالتك.

حكم تسمية سورة النحل بسورة النعم

حكم تسمية سورة النحل بسورة النعم Q يسمي البعض سورة النحل بالنعم؟ A هذه تسمية صحيحة.

حكم حديث: (من أراد الدنيا فعليه بالقرآن.

حكم حديث: (من أراد الدنيا فعليه بالقرآن.) Q حديث: (من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن) ؟ A لا أعلم له الآن سنداً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

حكم لبس النساء غير السواد من الثياب

حكم لبس النساء غير السواد من الثياب Q سئلتم عن لبس النساء اللون الأسود والخروج به، وهل يجوز استعمال اللون الكحلي أو البني أو الأبيض، وقلتم: المسألة فيها سعة، أما الأبيض فمحل نظر، فما الضابط في اللباس بالنسبة للمرأة؟ A بالنسبة للبس النساء بصفة عامة يجوز للمرأة أن تلبس الأسود، وهو الأحب؛ لأنه فعل نساء الأنصار ونساء المهاجرين الأول، النساء المهاجرات الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نزلت آية الحجاب خرجن كأن على رءوسهن الغربان من السواد، لكن إن لبست المرأة لبساً آخر غير الأسود فلا مانع أبداً منه، إلا إذا كان يلفت أنظار الناس إليها، ويحدث فتنة بها، فمثلاً: لو لبست امرأة ثوباً أحمر -وإن كان سابغاً- وهو فاتح ومشت في الشارع، كل الناس سينظرون إليها، وهي مأمورة أن تصرف أنظار الناس عنها؛ لقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] . لكن إن لبست ثوباً بنياً ولم يكن بلافت للنظر فلا بأس بذلك، وقد طافت عائشة بثوب مورد، ليس معناه: أن فيه ورداً، إنما هو في الجملة وردي، لكنه محمول على أنه وردي ليس بملفت للنظر، روى ذلك عنها -أظنه- عطاء بن أبي رباح، قال: رأيت عائشة تطوف وقد لبست ثوباً مورداً. إذاً إن وجدت الفتنة منع هذا الثوب، وإن لم توجد الفتنة لبس الثوب قال تعالى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] . إلى هنا وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

تفسير سورة الرحمن [2]

تفسير سورة الرحمن [2] من عظيم شأن الله سبحانه وتعالى أنه يسمع أصوات المخلوقات ودعاءها في آن واحد، فلا تختلط عليه الأصوات والدعوات، وهذا دليل على عظمة الله وقدرته. ولقد تحدى الله سبحانه وتعالى الخلق جميعاً بأن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض، وأن يخرجوا من ملكه ومن قهره فلم ولن يستطيعوا ذلك، فالجن والإنس مؤمنهم وكافرهم في قبضة الله سبحانه وتعالى، وتحت تصرفه، لا مفر ولا مهرب لهم من الله إلا إليه، وهذا التحدي هو في يوم القيامة يوم يجمع الله الأولين والآخرين.

تفسير قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيها الثقلان)

تفسير قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيها الثقلان) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول سبحانه وتعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31] ، قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أشكل على بعض العلماء، فقال بعضهم: كيف يقول ربنا: سنفرغ؟ أبالله شغل عن خلقه حتى يقول: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن:31] ؟! فلذلك أوّل بعض العلماء هذه الآية، فقال بعضهم: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن:31] أي: سنحاسبكم وسنقضي بينكم. ومن أهل العلم من قال: هي حاملة لمعنى التهديد ولمعنى الوعيد، فالله سبحانه ليس به شغل، ولكنه يتوعد العصاة ويهددهم بقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31] . فعلى ذلك: أشهر الأقوال في تفسير قوله سبحانه: (سَنَفْرُغُ) قولان: أحدهما: أنها على معناها لكنها مضمنة للتهديد ومضمنة للوعيد. والآخر: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أي: سنحاسبكم وسنقضي بينكم. و (الثَّقَلان) هم الإنس والجن كما تقدم.

تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس.

تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس.) {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:32-33] ، متى هذا؟ من أهل العلم من قال: هذا الكلام يوجه للثقلين في الآخرة، فيقول الله لهم في الآخرة: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن:33] ، {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:8-9] ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] . حينئذٍ يحاول الإنسان الهرب، ويحاول الجان الهرب، فلا يستطيعون الفرار، كما قال الله سبحانه: {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:10-12] . فمن أهل العلم من قال: إن قوله سبحانه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] هذا كلام يوجه إلى الإنس والجن الآن، ويوم تشقق السماء، وبين يدي الساعة عند حدوث الأشراط الكبرى لها، فلا يستطيعون الفرار كما قال تعالى: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] أي: وليس ثمّ مفر. فهذا قول. {لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] على هذا التأويل قالوا: إن المراد بقوله: {لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] أي: لا تنجون إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، فهذا هو التأويل الأول لهذه الآية، أن هذا الكلام محله بعد أشراط الساعة الكبرى، يوم أن تشقق السماء بالغمام. وثمّ قول آخر ألا وهو: أن هذا القول في الحياة الدنيا، فيبين الله سبحانه وتعالى أنه لا طاقة ولا قدرة للإنس ولا للجن على اختراق السماوات، وعلى التنصت عليها كما كان الجن يفعلون قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مسترقو السمع من الجن -كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يعرجون إلى السماء واحداً فوق الآخر كما وصفه سفيان راوي الحديث بوضع إحدى كفيه على الأخرى إلى أن يصلوا إلى السماء، فيتصنتون على سماء الدنيا، ويستمعون إلى الملائكة وهم يتحدثون في العنان بما سيكون، فيخطفون الخبر من هؤلاء الملائكة ثم يمضون سريعاً إلى الكهنة والسحرة، فيلقون الخبر ومعهم مائة كذبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم شددت الحراسة على السماء كما قالت الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] ، وكما قال الله سبحانه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:6-9] ، فمن حاول اختراق السماوات سلطت عليه الشهب وأرسلت عليه النجوم فكانت رجوماً له، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] . فالقول الثاني في تأويل هذه الآية: أن هذا في الحياة الدنيا، وهو تحدٍ للإنس والجن، وبيان عجز الإنس والجن عن اختراق السماوات واختراق الأرض. وبهذه الآية وبضمينتها في سورة (ص) استدل الشنقيطي رحمه الله تعالى على بطلان المدّعى الذي فحواه: أن الإنسان صعد إلى القمر، ووصف هذه الأقوال بأنها أكاذيب، محتجاً بقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} [ص:10] والارتقاء: الصعود، والأسباب: الطرق الموصلة إلى السماء، ثم قال تعالى: {جُندٌ مَا} [ص:11] نُكِّر الجند للتعميم، {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص:11] ، أي: أن من يفكر في غزو السماء واختراق السماء الدنيا محكوم عليه بالهزيمة، كما قال تعالى: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص:11] ، واستظهر أيضاً بقوله تعالى في هذه السورة: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} [الرحمن:35] ، والله أعلم بصدق هذا المدّعى الذي ادعوه وهو الصعود إلى القمر، فقد ثارت في بعض الأزمنة محاولات لغزو الفضاء يعرفها كبار السن منكم إبان التنافس في غزو الفضاء بين الروس والأمريكان، فقد كانت ترسل الأولى سفناً للفضاء والأخرى ترسل، وبعد زوال ما يسمى: بالاتحاد السوفييتي، ماتت كل هذه الأشياء، ولم يعد لها الآن أي ذكر على الإطلاق. وقد ذكر أن بعض الصينيين ألف كتاباً يثبت فيه: أن هذه كانت محاولات تجريها المخابرات الأمريكية والأمريكان في صحراء نيفادا، وليس للصعود على القمر حقيقة، فالله أعلم بصحة هذه الادعاءات، هو وحده سبحانه أعلم. أما كوننا نجبر على تصديق الأمريكان في دعواهم فليس عندنا في ديننا ما يجبرنا على تصديقهم، فهم من حيث الأصل كفار، لهم أخبار تصدق وأخبار تكذب؛ إذ من شأنهم القول المشحون بالصدق مع الأكاذيب، وليس في ديننا ما يثبت ذلك، أما ما ينفيه فقد سمعتم ما ينفيه، والمسألة ما زالت محل نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (يرسل عليكما شواظ من نار.

تفسير قوله تعالى: (يرسل عليكما شواظ من نار.) قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} [الرحمن:35] ، والشواظ على التحرير أنها جمع شظية، والشظية معروفة: وهي التي تلقيها الطائرات في دنيانا من قنابل ونحوها فتخرج منها الشظايا، لكن شظايا جهنم والعياذ بالله! وصفها بعض أهل العلم بأنها كالجبال. وكما قال تعالى أيضاً في كتابه: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] كالقصور، فالقصر مفرد قصور: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33] . قال الله سبحانه: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن:35] أما النار فمعروفة، وأما النحاس فمن أهل العلم من قال: هو الدخان، لكن كثير من أهل العلم يذهبون إلى أنه النحاس المعهود لدينا.

تفسير قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء.

تفسير قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء.) {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:36-37] ، فقوله: (إذا انشقت السماء فكانت وردة) أي: كانت وردة في لونها، وكالدهان في سيرانها، فقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] شبهت بالدهان من جانب، وبالوردة من جانب آخر. فلم تشقق السماء؟! قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25] فتتشقق السماء بالغمام وتنزل منها الملائكة. ومن أهل العلم من قال: إنها تتشقق لشدة الحر الذي فوقها، فتذوب كما يذوب الدهن الذي مسته الحرارة، فالدهن إذا مسته الحرارة سال وانصهر، وتحول من الحالة الجامدة إلى الحالة السائلة، وفي هذا التحول تحت النار الشديدة تعتريه ألوان، فيتلون أثناء تغيره من الحالة الجامدة إلى الحالة السائلة، فكذلك السماء مما يعتريها من حر جهنم تسيل وتكون كالمهل، وتأخذ لون الورود لاحمرارها الزائد، وتتلون كما يتلون الدهن على حسب شدة لهب النار أو انخفاضها، فكلما اعتراها حر شديد أخذت لوناً، وإذا اعتراها حر آخر أخذت لوناً آخر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان)

تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) قال الله جل ذكره: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39] قد تشكل هذه الآية مع قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] فآية أثبتت Q {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] وكذلك قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92] ، وآية نفت السؤال وهي قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39] ، وكذلك قوله تعالى: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78] ، فكيف التوفيق بين هذه الآيات؟ للعلماء في ذلك مسالك: أحد هذه المسالك: أن المواقف يوم القيامة تتعدد وتتنوع، فاليوم كألف سنة مما تعدون، فلا يمتنع أن يسأل هؤلاء في موطن، ويترك سؤالهم في موطن آخر. والوجه الثاني من أوجه الجمع: أن الله سبحانه وتعالى لا يسأل العبد المجرم: هل عملت كذا أو لم تعمل كذا؟ لكن إذا سئل سؤالاً يسأل للتوبيخ، وترك السؤال هو سؤال الاستفسار: هل عملت أم لم تعمل؟ أما هذا فقد يعكر عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سبحانه وتعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب! فيقول الله سبحانه: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) .

تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم.

تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم.) قال سبحانه: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] السِّيمَا: هي العلامة، سيماهم أي: علاماتهم، فلأهل الإيمان علامات يوم القيامة، ولأهل الكفر علامات يوم القيامة، ولأهل الفسق علامات يوم القيامة. ومن علامات أهل الإيمان: الغرة والتحجيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل: (كيف تعرف أمتك من بين الأمم يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمتي تأتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء) ، فتأتي الوجوه بيضاء، والأيدي بيضاء، والأرجل بيضاء من آثار الوضوء، وكذلك علامات الإيمان تظهر في الوجوه، كما في قوله سبحانه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] . أما أهل الفسق فلهم علامات كذلك: فالغادر يحشر يوم القيامة معلماً بعلم عند استه، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) . ومانع الزكاة يعرف فيطوقه الشجاع الأقرع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا سائر أصحاب الكبائر: (من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) . أما أهل الكفر فلهم علامات منها: زرقة العيون، كما قال الله سبحانه: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] أي: نحشرهم زرق العيون، وسود الوجوه، كذلك قال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] . قال الله جل ذكره: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] ومن هم المجرمون؟ هل هذه الآية تنزل على الكفار فحسب؟ نقول: الإجرام هنا أعم من أن يكون منزلاً على الكفار فحسب، فتارك الصلاة مجرم بنص كتاب الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38-43] وإن الحكم عليه بالإجرام لا يعني أنه كافر مخلد في النار، فقد يدخل النار إذا لم يغفر الله له، ثم يخرج برحمة الله سبحانه وتعالى, على ما تقدم من تفصيل في حكم تارك الصلاة. {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] أي: تضم الناصية إلى القدم ويقذف به في النار، فقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] حذف ما بعده وفهم المراد من السياق ومن دلالته، فلم يقل الله سبحانه: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] ثم يقذفون في النار؛ لأن الجميع يعلم أنه يؤخذ بالنواصي والأقدام ثم يأتي بعد ذلك القذف في النار، فلكون السامعين يعلمون ذلك حذف من السياق. فتضم ناصية الشخص -وهي مقدم رأسه- إلى رجليه ويقذف في النار، وإن كان أبوه نبياً، وإن كان ولده نبياً، فالله يقول: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166] ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة، فيقول له: يا أبتِ ألم أقل لك: لا تعصني، فيقول: أما اليوم فلن أعصيك أبداً، فيقول: يا رب أبي الأبعد ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون؟ فيقال: يا إبراهيم! انظر بين رجليك، فإذا بذيخ منتفخ -والذيخ هو ذكر الضبع، منتفخ أي: ملوث بعذرته وحاجته التي يخرجها من الدبر- ثم يؤخذ به ويلقى في جهنم والعياذ بالله!) .

تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون)

تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) قال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} [الرحمن:43] أي: التي يكذبون بها في دنياهم، قد رأوها في أخراهم، فماذا كان لما رأوها في أخراهم؟ قال الله جل ذكره: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27] أي: لرأيت منظراً عظيماً مروعاً بشعاً، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] . انظر إلى حكمة الله سبحانه في تعذيبهم، فهم قد رأوا النار وعاينوها بأعينهم، ومع ذلك يقول سبحانه: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] ، فيرون النار بأعينهم، وربنا أصدق القائلين يقول: وهم بعد رؤيتهم للنار وبعد وقوفهم عليها ومعرفتهم لحقيقتها، لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.

صفة تردد المجرمين بين جهنم وبين الحميم الآن

صفة تردد المجرمين بين جهنم وبين الحميم الآن يقول الله جل ذكره: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} [الرحمن:43] ، {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] أي: يترددون بينها وبين الحميم الآن، فيذهبون إلى جهنم يأكلون فيها من زقوم، فيملئون منها البطون، ثم يطلبون الشراب، فيذهبون إلى الحميم الآن، يذهبون إلى الماء الذي بلغ أعلى درجات الغليان، فقوله: (آن) في أصله: ناضج، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] فإناه أي: نضجه واستواءه، أي: لا تنتظروا وقت استواء الطعام وتستأذنوا على رسول الله حتى ينزل الطعام وتدخلوا على الأكل مباشرة، وهذا فيه ذم للطفيليين، وفيهم كتاب مؤلف للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى. فقوله: (آن) أي: بلغ أعلى درجات الغليان، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43-44] أي: يصلون حرها، ويأكلون من زقومها، ثم يتجهون إلى الشراب كي يخفف عنهم فإذا هو بالحميم الآن، الذي يقطع الأمعاء، ويشوي الوجوه قبل وصوله إلى الأفواه، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] .

تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان)

تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:45-46] . وهذا مقابل أهل العصيان والتمرد، وكما قال فريق من أهل العلم: إن القرآن أطلق عليه مثاني؛ لكونه يأتي بالشيء وبمقابله، فيأتي بأهل النار ثم يأتي بذكر حال أهل الجنة، ويأتي بذكر البرد وبعده يأتي بذكر الحر، فيأتي بالأشياء ومقابلتها، يذكر حال الأبرار ثم يذكر حال الأشرار، فلذلك سمي القرآن: مثاني، على قول فريق من العلماء. فالله سبحانه بين الله حال الأتقياء، حيث قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] .

صفة الجنتين المذكورتين في الآيتين

صفة الجنتين المذكورتين في الآيتين قال الله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] قال بعض العلماء: إن هاتين الجنتين من ذهب، أما الجنتان اللتان دونهما المذكورتان في قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] فهما من فضة؛ لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) . ومن العلماء من قال: إن الجنتين جنة له لمقامه كمؤمن، وجنة ورثها من الكافر أو اليهودي أو النصراني كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] وكما قال الرسول صلى الله عليه على آله وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد أعد له مقعده من الجنة ومقعده من النار) ، فإذا دخل المسلم الجنة ورث مقام النصراني أو اليهودي فيها، وورث النصراني أو اليهودي أو الكافر مقامه من النار فيكون للمؤمن إذاً جنتان، جنته الحقيقة المعدة له، وجنته أيضاً التي ورثها من الكافر أو اليهود أو النصراني.

الرد على من زعم أن الجنتين جنة واحدة

الرد على من زعم أن الجنتين جنة واحدة {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] الآية الصريحة أفادت أنهما جنتان، وقد جاء عن بعض المفسرين الأوائل وادعى: أنها جنة واحدة، ونسب هذا القول إلى الفراء، وهو قول ممقوت ومذموم، فالآية الصريحة أفادت أنهما جنتان، وهو قد قال: هما جنة واحدة إنما ذكرت التثنية لتوافق رءوس الآيات، وهذا القول منكر من القول وزور؛ وذلك لمصادمته الآية الكريمة؛ ثم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رداء الكبرياء على وجهه سبحانه وتعالى) . وكذلك قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52] قال: التثنية على سبيل التوافق. إذاً: قول الفراء مردود من ثلاث وجوه: أحدها: النص بأنهما جنتان. الثاني: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للجنتين. الثالث: قوله تعالى: (فيهما) . فلا معنى لمثل هذه الأقوال التي تصادم صريح الكتاب العزيز.

معاني خوف مقام الله سبحانه وتعالى

معاني خوف مقام الله سبحانه وتعالى وللعلماء في هذه الآية أقوال: أحدها: أن من اعتقد أن الله يراه ويراقبه سبحانه وتعالى في السر والعلن، فله جنتان، فهذا للمسلمين الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فهؤلاء خافوا مقام ربهم في السر والعلن، وقويت مراقبتهم لله سبحانه، ففي كل وقت وفي كل حين يشعرون بقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، ويشعرون بقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] ويوقنون كذلك بقوله تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] . فهذا فريق من العباد قويت عنده مراقبة ربه سبحانه وتعالى، فأيقن أن الله معه في كل وقت وحين، فانزجر عن المعاصي وانكف عن الآثام، ويدخل فيهم الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم لما رأى برهان ربه وخشيه بالغيب، ويدخل فيهم ذلك الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ويدخل فيهم ذلك الرجل الذي قعد بين رجلي ابنة عمه، فلما قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، قام وتركها، ويدخل فيهم الكفل من بني إسرائيل، وإن كان الحديث فيه ضعيفاً، لكن معناه ثابت من نصوص أخر، والله لا يعجزه شيء، وفحوى حديثه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع عن ذنب عمله -أي: لا يبالي بأي ذنب- فجاءته امرأة يوماً تستسلفه مالاً، فراودها عن نفسها مقابل المال، فوافقت تحت ضغط الحاجة، فلما قعد بين رجليها أرعدت وبكت، فقال لها: ما لك؟! أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكنه شيء ما حملني عليه إلا الحاجة، فقام من فوقها وقال: لا جرم لا أعصين الله بعد هذه الليلة أبداً، ومات من ليلته فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله قد غفر للكفل) . الشاهد: أن خوف مقام الرب سبحانه تندرج تحته كل هذه المفردات وغيرها. وأيضاً من خوف مقام الرب معنى آخر وهو: تذكر لقائه يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري من حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر من أمامه فلا يرى إلا النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بكلمة طيبة فليفعل) ، فهذا أيضاً داخل في الخوف من مقام الرب سبحانه، ومن لقاء الرب سبحانه وتعالى.

الأسئلة

الأسئلة

مقدار التشهد الأوسط

مقدار التشهد الأوسط Q التشهد الأوسط هل يتمم أو إلى قوله: أشهد أن محمداً عبده ورسوله؟ A الراجح عندي والله أعلم أنه ينتهي إلى قوله: أشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ لما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال -لما علم التابعي التشهد ووصل إلى قوله: أشهد أن محمداً عبده ورسوله-: إذا بلغت ذلك فقم. وأنا إلى الآن ما علمت أحداً من العلماء الأوائل قال بإتمام التشهد الأوسط إلى نهايته، لكن المسألة ما زالت محل بحث، وأنا ما زلت أبحث في هذه المسألة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصبحه أجمعين.

حكم الاتجار بالحمام الذي يستخدم للزينة

حكم الاتجار بالحمام الذي يستخدم للزينة Q ما حكم الاتجار بالحَمَامِ الذي يوضع للزينة؟ وهل المكسب من الناحية الشرعية حرام؟ A إذا كان الحَمَامُ يوضع للزينة فالاتجار فيه لا بأس به؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى بيت أنس بن مالك وله أخ يقال له: أبو عمير له طائر يلعب به يقال له: النغير، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن طائره: (يا أبا عمير! ما فعل النغير) ؟! فالتجارة في حَمَامِ الزينة لا بأس به. أما الاشتغال بمهنة صيد الحمام والأبراج على السطوح التي لها صفير، والتي فيها سرقة لحمام المسلمين، فقد كرهها أكثر العلماء، ومنهم من وصف فاعلها بالفسق؛ لما يعتريه من أكل للحرام، ولما يعتريه من أخلاقيات لهؤلاء الناس من الصفير والغزل، والله أعلم.

حكم العمل بالقميص الإفرنجي والبنطلون

حكم العمل بالقميص الإفرنجي والبنطلون Q هل يجوز العمل في القميص (الإفرنجي) و (البنطلون) ؟ A نعم، يجوز العمل في القميص (الإفرنجي) وفي (البنطلون) إذا كان واسعاً وسابغاً.

حكم إمامة الصبي في الصلاة

حكم إمامة الصبي في الصلاة Q قال لي زميل في العمل: كيف أن صبياً صغيراً مثل فلان يؤم الناس في صلاة الجمعة، وهناك من المأمومين من هو أكبر منه وأعلم منه وأفقه منه، فقلت له: إن الإمامة من شروطها: أحفظكم لكتاب الله، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبياً إماماً لقومه؛ لأنه أحفظ لكتاب الله، فما سند هذا الحديث وما تخريجه وهل هو صحيح؟ A الحديث ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤمكم أقرؤكم؟ قال عمرو بن سلمة: فكنت أنا أصغر القوم فأممتهم في الصلاة لكثرة ما كنت آخذه من المسافرين والمارة من القرآن) ، وكان عمره آنذاك ست سنين، لكن هل أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي؟ لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن سلمة أن يصلي بالناس، إنما قال الرسول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، فهم الذين اختاروا الأقرأ فكان هو الأقرأ مع صغره. وهذه المسألة انبنى عليها خلاف فقهي طويل: فمن الفقهاء من يمنع غير البالغ من إمامة الناس إذا كان فيهم من هو بالغ ومتقن للإمامة، وإذا احتججنا عليه بهذا الحديث يقول: ما أدراكم أن الرسول عليه الصلاة والسلام علم أن عمرو بن سلمة كان يؤم القوم في الصلاة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمره بذلك أو علم به؟ فاستدل عليه الجمهور بأن جابراً قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) أي: لو كان العزل حراماً لنزل فيه قرآن، فمن أجوبة الجمهور قولهم: وكذلك لو كانت إمامة عمرو ليست بجائزة لنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن يبين عدم جوازها، فالمسألة مسألة أخذ ورد. فالذين قالوا بعدم الإمامة قالوا: إن الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم) موجه للبالغين كسائر أنواع الخطاب، لكن بعض الصحابة فهم أنه عام، لكن في الشرع الخطاب موجه للبالغين، قإذا قلنا: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، والصبي هذا ليس بمكلف من حيث الأصل، فإن له أن يصلي بالناس وينصرف ويتركهم قبل إتمام الصلاة، هذه وجهة نظر الذين قالوا بعدم إمامة الصبي، وهم الحنابلة، وطائفة من أهل الظاهر كذلك. فأجابوا على حديث عمرو بن سلمة بأمرين: أحدهما: ما أدرانا أن الرسول علم ذلك وأقره؟ ثانيهما: أن الخطاب في الشرع موجه للبالغين. أما المجوزون وهم الجمهور، فاستدلوا بعموم الحديث وقالوا: إن عمرو بن سلمة أمّ قومه والرسول عليه الصلاة والسلام أقره، لعدم وجود نهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك حراماً لنزل فيه قرآن. فالمسألة فيها وجهتان لأهل العلم، أما الحديث فهو ثابت كما هو معلوم، والله سبحانه أعلم.

حكم حديث: (كلكم على ثغر من ثغور الإسلام)

حكم حديث: (كلكم على ثغر من ثغور الإسلام) Q حديث: (كلكم على ثغر من ثغور الإسلام فليحذر أحدكم أن يؤتى الإسلام من ثغره) ؟ A لا أعلم عنه شيئاً.

حكم حديث: (دينك دينك لحمك ودمك)

حكم حديث: (دينك دينك لحمك ودمك) Q حديث (دينك دينك لحمك ودمك) ؟ A لا أعلم عنه شيئاً أيضاً.

حكم القنوت في صلاة الفجر

حكم القنوت في صلاة الفجر Q هل القنوت في صلاة الفجر جائز، بمعنى: لو قنت الشخص فلا إثم عليه؟ A أما الإثم فلا إثم عليه، فإن المسألة خلافية بين أهل العلم، فبعض أهل العلم ذهب إلى عدم القنوت إلا في وقت النوازل، ويكون حينئذٍ في عموم الصلوات.

حكم المداومة على قراءة سورة السجدة فجر يوم الجمعة

حكم المداومة على قراءة سورة السجدة فجر يوم الجمعة Q ما الحكم على المداومة على سورة السجدة في فجر الجمعة؟ A ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في فجر الجمعة بالسجدة وهل أتى على الإنسان، لكن لم يرد أنه كان يداوم عليهما أو لم يكن يداوم، هكذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في فجر الجمعة بالسجدة وهل أتى على الإنسان، فإن قرأتهما فلا بأس، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قرأت غيرهما فالله يقول: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم حرق الحشرات الضارة بالنار

حكم حرق الحشرات الضارة بالنار ف Q تقوم وزارة الزراعة بحرق أحطاب القطن التي عليها لوز مصاب بديدان اللوز، أي: أنها تحرق هذه الحشرات وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حرق هذه الحشرات بالنار، أو التعذيب بالنار، فهل يجوز في مثل هذه الأحوال حرق هذه الديدان الضارة التي تسبب خسارة كبيرة للمحصول، علماً بأنه توجد طرق أخرى لكبس هذه المخلفات في صورة قوالب؟ A إذا لم توجد وسيلة لدفع الضرر إلا بالنار فيجوز إحراقها بالنار؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لدغت نملة نبياً من الأنبياء فأمر ببيت النمل فأحرق، فأوحى الله إليه: هلا نملة واحدة؟ أهلكت أمة من الأمم تسبح) ، فأخذ العلماء من هذا الحديث: أن النملة التي آذت النبي يجوز أن تستثنى من عموم النهي عن الحرق بالنار، أو عموم القتل، فإذا قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) فمحل هذا إذا كانت هناك وسيلة أخرى تقوم مقام الحرق بالنار في نفس المفعول. أما إذا قال القائل: إن الكبس لا يقضي تماماً على هذه الحشرات التي تذهب بمحصول المسلمين، فحينئذٍ نتجه إلى الحرق بالنار، إذا لم توجد وسيلة أحسن وأفضل من هذه الوسيلة للقضاء على مثل هذا أو تشابهها، والله أعلم.

حكم ما تفرد به الطبراني في الأوسط

حكم ما تفرد به الطبراني في الأوسط Q ما حكم حديث: (ذهب الشيطان إلى الشام فطرده أهل الشام، وذهب إلى العراق فقضى فيها حاجته, وذهب إلى مصر فباض وفرخ) يقول: رواه الطبراني في الأوسط؟ A ما مرّ علي هذا الحديث، لكن للمعلومية مسانيد الطبراني في الأوسط أغلبها ضعيفة، فإذا تفرد الطبراني في الأوسط بحديث على أقل تقدير (90%) مما تفرد به الطبراني في الأصل ضعيفة.

تفسير سورة الرحمن [3]

تفسير سورة الرحمن [3] لقد أعد الله سبحانه وتعالى لمن خاف مقام ربه جنتين ذاوتي أغصان، فيهما عينان تجريان، ويتخلل هاتين الجنتين أنواع كثيرة لا تحصى من الفواكه، وليس هذا فحسب؛ بل إنهم يتنعمون بالحور العين على الفرش التي بطائنها من إستبرق، ولقد وصف الله الحور العين بالياقوت والمرجان في الحسن والجمال. وهناك جنتان أدنى من الأوليين أعدهما الله لعباده المؤمنين. وختم الله سبحانه وتعالى هذه السورة بأنه هو الذي تبارك وتقدس ذو الجلال والإكرام، تكرم على عباده بهذه الجنان وما فيها، فما على المؤمن إلا أن يجد ويجتهد؛ حتى يكون من أهلها.

تفسير قوله تعالى: (ذواتا أفنان)

تفسير قوله تعالى: (ذواتا أفنان) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] ، الأفنان: هي الأغصان الدقيقة. وهل الجنتان ذواتا أفنان، أو أن هنا شيء مقدر محذوف؟ من العلماء من يقدر فيقول: أشجارهما ذواتا أفنان. ومن العلماء من يقول: إن الجنة هي في الأصل الشجر المجتمع فلا حاجة إلى تقدير، فأصل معنى الجنة: الشجر المتشابك الملتف المجتمع الذي يجن من دخل فيه، ومعنى يجن من دخل فيه: أي: يغطي على من دخل فيه، وهذا من معاني الجنة، ولهذا أطلق على الجن جناً لاستتارهم واختفائهم، وأطلق على المجنون مجنوناً وللتغطية التي على عقله. إذاً: من العلماء من قال: إن الجنة هي الشجر الكثير الملتف المجتمع، الذي من كثرته يغطى على من دخل فيه، فلا حاجة إلى تقدير على هذا المعنى، ومن قال: أشجارهما ذواتا أفنان فمعناه صحيح أيضاً.

تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان تجريان.

تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان تجريان.) قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:49-52] أي: صنفان، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:44-54] والإستبرق نوع من الديباج أو الحرير كما قال بعض أهل العلم. قال فريق من العلماء: عبر بالباطن ليدل على حسن الظاهر، فإذا كان الباطن من إستبرق فالظاهر أفضل منه بلا شك، فمن الناس مثلاً عندما ينجدون مرتبة يدخلون في داخل المرتبة أي شيء قطن أو حشو أو إسفنج أو أي شيء، لكنهم يهتمون بالمظهر الخارجي. فإذا كان الباطن من إستبرق فما بالك بالظاهر كما قال كثير من أهل العلم؟ فيعبر بالأدنى للدلالة على الأعلى كما قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] فإذا كان عرضها السماوات الأرض فما بالك بطولها؟ العرض يكون أدنى من الطول وأقصر. فالله يقول: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) أي: ثمر الجنتين متدلٍ.

تفسير قوله تعالى: (فيهن قاصرات الطرف)

تفسير قوله تعالى: (فيهن قاصرات الطرف) {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:55-56] وقاصرات الطرف: النساء اللواتي غضضن أبصارهن إلا على الأزواج، وقصرن طرفهن فلا ينظرن إلا إلى الأزواج، وهذا أدب ينبغي أن يتوافر في نساء الدنيا.

الرد على شبهة أن بإمكان الجني افتضاض بكارة الإنسية

الرد على شبهة أن بإمكان الجني افتضاض بكارة الإنسية قوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) أي: لم يفتضهن إنس قبلهم ولا جان، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:57] . لقد أثيرت هنا مسألة وفي الحقيقة لا معنى لإثارتها، لكنها قد ذكرت ونذكرها عرضاً على وجه السرعة، ألا وهي مسألة: هل الجني يفتض إنسية؟ وهل يمكن أو يتصور أن جنياً يفتض إنسية ويفض بكارتها ويعتدي عليها أو أن هذا لا يتصور؟! في الحقيقة أن مثل هذه المسائل التي يفترض أن تكون موجودة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ الجن كانوا موجودين على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والنساء والفتيات كن موجودات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل في أية حالة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع شيئاً من هذا ولا أفتى فيه صلوات الله وسلامه عليه. يعني: لم يرد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً أن امرأة افتضها جني، وما ورد ذلك بحال من الأحوال، ولا سقط الحد أبداً عن امرأة اتهمت بأنها زنت وقالت: إن حملي من جني، أو إن افتضاضي من جني، ولا تسقط الحدود بمثل هذه الأقوال. فغاية ما ورد في هذا الباب بما قد يستأنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة التي تحيض ولا تطهر ويستمر دمها ويستمر نزيفها، قال: (ذاك ركضة من ركضات الشيطان) لكن إسناد هذا الخبر من طريق راوٍ يقال له: عبد الله بن محمد بن عقيل، والراجح عند أكثر العلماء أنه ضعيف الحديث. فعلى ذلك لا يثبت في افتضاض الجني للإنسية في الدنيا أي شيء، ومن ثم مسألة زواج الإنسي بالجنية أو الجني بالإنسية فكل هذا لم يثبت فيه خبر أبداً. أما الوارد عن سليمان عليه السلام، أو عن ملكة سبأ التي أطلقوا عليها بلقيس، وأن أباها كان من الجن وأمها من الإنس أو عكس ذلك، فكل ذلك لا يثبت بحال من الأحوال، وليس له دليل من الأثر الثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا أعلم ذلك أيضاً عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالذين قالوا بجواز تزوج الإنسي بالجنية منهم من يحتج بهذه الآية فيقول: المفهوم المخالف يفيد أن الجني قد يطمث، لكن عدم ورود شيء من ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلنا نمنع، بل ولا نثيره، لكن شاء الله أن يثار.

حكم نظر المرأة للرجال الأجانب والرجل للنساء الأجنبيات

حكم نظر المرأة للرجال الأجانب والرجل للنساء الأجنبيات هنا تثار مسألة فقهية نتناولها على وجه السرعة ألا وهي: حكم نظر المرأة إلى الرجال الأجانب. فمن العلماء من يشدد ويهول في نظر المرأة إلى الرجال الأجانب، ويشدد في نظر الرجل إلى النساء الأجانب. فأيهما أعظم: نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي أو نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية؟ النصوص والتقارير تفيد في الجملة أن الكل ممنوع؛ وذلك لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ، ولما رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فقال: اصرف بصرك) . وورد بإسناد ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وعليك الآخرة) . وورد بإسناد أشد ضعفاً بل هو تالف وإن كان المعنى صحيحاً ألا وهو: (النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من اتقاها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه) وقد أخرجه الطبراني بإسناد ضعيف واه، لكن معناه ثابت صحيح. هذا بالنسبة لمسألة النظر على وجه الجملة، والوارد فيه من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وأيضاً: (كان النبي صلى الله عليه وسلم متجهاً من عرفات إلى مزدلفة في الحج، وقد أردف خلفه الفضل بن عباس وكان رجلاً وسيماً وضيئاً، فكان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت امرأة من خثعم -أي: من قبيلة خثعم- وكانت أيضاً حسناء وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض مسائلها، فطفق الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فحول الرسول صلى الله عليه وسلم وجه الفضل) . ولم يرد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغض بصرها في هذا الحديث، لكن النصوص الأخرى العامة كقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ، وقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] تفيد الأمر بالغض. فنرجع إلى مسألتنا: أن من العلماء من قال: إن الأمر الموجه للنساء بغض البصر أخف منه بالنسبة للرجال؛ وذلك لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تنظر إلى الأحباش في المسجد وهم يلعبون، والنبي صلى الله عليه وسلم يحملها ويضع خده على خدها، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية النسائي بسند صحيح: (يا حميراء تشتهين تنظرين؟ فتنظر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى الأحباش وهم يلعبون، حتى كانت هي التي ملت) . أما الحديث الوارد الذي فيه: (أن ابن أم مكتوم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده بعض أزواجه، فأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بغض البصر، فقلن: يا رسول الله، إنه رجل أعمى، فقال: أفعمياوان أنتما؟) فهو حديث ضعيف الإسناد من طريق نبهان مولى أم سلمة وهو ضعيف. وفي الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: (اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده) فلا شك أنها كانت ستراه أو كانت تراه؛ لأنها تعتد في بيته. هذا بالنسبة لما ورد في مسألة النظر. إذاً: محل نظر النساء إلى الرجال عند أمن الفتنة، ويرجع بعض العلماء إلى قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] فكلمة (من) المراد منها التبعيض: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ} [النور:31] أي: يغضضن بعض أبصارهن؛ لأنه يباح للمؤمنات أن ينظرن إلى أشياء، فيباح للمرأة بل يستحب لها أن تنظر إلى زوجها كي تعف نفسها، ولها أيضاً أن تنظر إلى محارمها إذا أمنت الفتنة، ولها أن تنظر إلى الرجال عموماً إذا كان الفتنة مأمونة، أما إذا كانت النظرة ستجر إلى فتنة، فالنظرة من أصلها تمنع، والله لا يحب الفساد. ولكون عائشة رضي الله عنها نظرت إلى الأحباش وهم يلعبون، قال بعض العلماء: إن الخطب في شأنهن يسير شيئاً ما إذا كانت الفتنة مأمونة، لكن على الإجمال فالمستحب لهن غض البصر إلا لما دعت إليه الحاجة، فإن الله وصف نساء الجنة بأنهن قاصرات الطرف أي: يغضضن الأبصار إلا عن الأزواج. {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] . الطمث: هو الافتضاض، أي: افتضاض الأبكار، وهو الجماع مع نزول الدم كما هو معلوم. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] تجوز بعض العلماء وأطلق الطمث على كل جماع، سواء صحب هذا الطمث بافتضاض أو كان مجرد جماع أطلق عليه طمث، وإذا أطلقت الطامث على الحائض فيقولون: امرأة حائض، وامرأة طامث، كل ذلك يعني: أنها حائض.

تفسير قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان.

تفسير قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان.) ثم قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:57-58] أي: في الحسن والبهاء.

أصل ودليل الجزاء من جنس العمل

أصل ودليل الجزاء من جنس العمل {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:59-60] هذه الآية أصل في أن الجزاء من جنس العمل، وأن المحسن يجازى بالإحسان، وفي المقابل المسيء يجازى بإساءته، هذا الأصل وهذا التقعيد. وقد قال ذو القرنين لما قال الله سبحانه وتعالى له: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:86-88] . فهذا هو الأصل والتقعيد: أن المحسن يجازى لإحسانه، وأن المسيء يجازى على إساءته، إلا أنه أحياناً تتدخل قرائن فتجعل العقوبة مثلاً تتضاعف، أو قرائن تجعل العقوبة تخف بل قد تزال أحياناً، ولهذا عشرات الأدلة بل تكاد تصل إلى مئات الأدلة ألا وهي: مسألة تضعيف العقوبات، أو تخفيف العقوبات، أو تضعيف الثواب أو الجزاء فقط على قدر العمل. وهذه مسألة قد يفهمها شخص على غير وجهها، وإن كان دخولنا إليها عرضاً في التفسير، فمثلاً: رجل يبيع ويشتري، فجاءه شخصان فباع لأحدهما السلعة بعشرة، وفي نفس الوقت باب من الآخر بخمسة. فقد يتوهم البعض أن هذا خطأ، ولكنه صواب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولك أن تبيع بما شئت، فالله يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فالإكراميات قد تختلف، والعقوبات قد تختلف. وقد سبق أننا بينَّا: أن الزنا حرام بالاتفاق والإجماع، ولكن صدور الزنا من شيخ كبير السن أشد جرماً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ملك كذاب، وشيخ زانٍ، وعائل مستكبر) ، والزنا محرم لكنَّ الزنا بحليلة الجار أشد تحريماً، والزاني يجلد مائة جلدة، لكن إذا كانت الزانية أمة فإنه يخفف عنها العقوبة، وهكذا سائر الأمور والأحوال، فقد تزيد العقوبات وقد تخف، وقد يزيد الإحسان وقد يخف، وقد تزيد المكافآت وقد تقل. وعلى كل من ولّاه الله سبحانه وتعالى عملاً أن ينظر فيمن تحت يديه بهذا المنظار، فإن الله سبحانه وتعالى كما أفادنا محمد عليه الصلاة والسلام: (لما عمل اليهود من الصباح إلى الظهر وأعطاهم الله أجرهم، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر وأعطاهم الله أجرهم، وجاءت أمة محمد فعملت من العصر إلى المغرب وتضاعف لها الأجر، فاحتج اليهود والنصارى: يا رب! عَمَلُنَا أكثر وأَجْرُنَا أقل، قال الله لهم: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء) . فمن كان على عمل له أن يكافئ وله أن يعاقب على قدر مصلحة العمل، وعلى قدر الأسباب المترتبة من هذا العمل. لكن القاعدة الكلية التي تحكم هي قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58] ، فالآية أفادت: أن الجزاء من جنس العمل. ومن الأحاديث الدالة على أن الجزاء من جنس العمل: قوله عليه الصلاة والسلام: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) ، وقوله: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) وقوله: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وقوله: (المستكبرون في الدنيا يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأخفافهم) كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من النصوص.

تفسير قوله تعالى: (ومن دونهما جنتان)

تفسير قوله تعالى: (ومن دونهما جنتان) قال تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:61-62] أي: أقل من الجنتين الأوليين، هما جنتان أدنى منهما منزلة، فالجنتان الأوليان أعدت للمقربين: والجنتان الأخريان هذه أعدت لأصحاب اليمين، فالناس على ثلاثة أقسام كما سيأتي في سورة الواقعة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] . فجنتان هنا للمقربين: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] لأصحاب اليمين، والدون: هو الأقل، كقوله: فلان دون فلان. أي: أقل من فلان.

تفسير قوله تعالى: (مدهامتان)

تفسير قوله تعالى: (مدهامتان) {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:63-64] ، قال العلماء: أي: خضراوان، ومن المفسرين من قال: سوداوان، وجمع بعض العلماء فقالوا: قد اجتمع فيهما الخضار مع السواد، فالأشجار حينما تروى وتشبع من الماء، فاخضرارها من شدته يميل شيئاً ما إلى السواد، وذلك من شدة الري الذي أصابها، فهذا المعنى والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان)

تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان) {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:65-66] أي: فوارتان {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:67-68] تقدم أن هذا من عطف الخاص على العام، فالفاكهة عامة يدخل فيها النخل والرمان، ولكن ذكر النخل والرمان تنصيصاً لبيان فضل النخل والرمان. أما النخل فقد ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للمؤمن بقوله: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن فأخبروني ما هي؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) . فعطف النخل والرمان على الفاكهة من باب عطف الخاص على العام. تقول: جاء القوم وزيد. لماذا نصصت وذكرت زيداً بالاسم؟ لبيان أهمية زيد وفضل زيد. فعطف الخاص على العام لبيان فضل الخاص وشرفه. كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7] ، ونحوه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} [النساء:163] فكله من باب عطف الخاص على العام لبيان فضل الخاص.

تفسير قوله تعالى: (فيهن خيرات حسان.

تفسير قوله تعالى: (فيهن خيرات حسان.) {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:69-70] أي: حسان الوجوه وخيرات الأخلاق. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:71-72] إذاً: إذا وُصِفَتْ نساء الجنة فإنهن يُوْصَفْنَ بأنهن حور في أغلب الأحيان، وهذا مما يدل على -بالنسبة لناشدي الجمال- أن جمال المرأة أيضاً يتمثل في نظرها وفي عينها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة: (اذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) يعني الصغر، أي: أن أعين نساء الأنصار صغيرة. فالذي ينشد الجمال في عين المرأة، فالله سبحانه وصف نساء الجنة بأنهن حور مقصورات في الخيام، والحور كما قال العلماء: شدة بياض في شدة سواد، يعني: عيناها سوداء شديدة السواد، والبياض الذي فيها شديد البياض، وأصله مأخوذ من البياض، فإن العلماء الذين ذكروا الحواريين، قالوا: أُطْلِق عليهم أنهم حواريون من شدة بياض ثيابهم، ومنهم من قال: كانت لهم عمائم بيضاء، وقد أطلقوا على بعض الدقيق الأبيض شديد البياض دقيق حواري، أي: دقيق أبيض. والله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] . وهل يذم من طلب امرأة -مثلاً- جميلة أو عينها جميلة عند الزواج أو لا يذم؟ A لا يذم من طلب ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (اذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) فحث الرسول صلى الله عليه وسلم على النظر إليها، هذه مسألة قد يفهمها البعض على غير وجهها، وقد ينتقص بعض إخواننا من يطلب ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم صعد النظر إلى المرأة التي وهبت نفسها وصوبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

معنى قصر الحوريات في الخيام وما يستفاد من الآية

معنى قصر الحوريات في الخيام وما يستفاد من الآية قال الله سبحانه وتعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] يستفاد منه: أن الحور مقصورة في خيمتها، وهذا الأصل في النساء: القرار في البيوت، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] أي: نحن لا نخالط الرجال ولا نزاحمهم، فسننتظر حتى ينتهي القوم من سقياهم، وبعد ذلك نسقي، والذي حملنا على ذلك وعذرنا في ذلك أن أبانا شيخ كبير، فهذه المقالة جمعت معنيين طيبين من هاتين الفتاتين. أولهما: قولهما: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] أي: حتى ينتهي الرعاء من سقياهم وينصرفوا، فليس لنا أن نزاحم الرجال ونخالطهم. ثانيهما: حين أومأتا إلى الحامل لهما والعذر لهما في هذا الخروج من أصله بقولهما: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] فلم تكن إحداهن ولاّجة ولا خراجة، لم تكن إحداهن كثيرة الخروج وكثيرة الدخول، بل كن مستقرات في البيوت، وإذا حملتهن الحاجة على الخروج استترت وخرجت، وهذا أمر قد قدر عليهن رضي الله عنهن. وقد قال الله لنساء نبيه -وهن خير أسوة-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] ، وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) فكل هذه النصوص تحمل أهل الإيمان وأصحاب الغيرة على أن يقروا نساءهم في البيوت، وأن لا يخرجوا النساء إلى الأعمال التي فيها مزاحمة للرجال كما في المصالح الحكومية، وفي المدارس، والمواصلات، فيتعلمن الرجولة التي تذم في النساء: (فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء) . فمن وسع الله عليه ولم يكن في حاجة إلى عمل زوجته إلا الاستزادة من عمل الدنيا، فليعلم أن هذا هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر ربنا إذ قال لنساء نبينا وهن خير أسوة: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} [الأحزاب:33] ، وقال الله سبحانه عن نساء الجنة: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] ، والخيام جمع خيمة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، لا يراهم الآخرون) ، وفي رواية: (الخيمة لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون لا يراهم الآخرون) . وفي هذه اللفظة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للمؤمن فيها أهلون لا يراهم الآخرون) ، استدل بعض العلماء على أن الحور المعدة لكل رجل تفوق الاثنتين، فقد وقف بعض أهل العلم مع قوله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لكل امرئ منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن) ، فَقَصْرُ الحورِ المعدة لكل رجل على زوجتين ضعيف من وجوه: أولاً: في حديث رسول الله: (للمؤمن فيها أهلون لا يراهم الآخرون) . ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الشهيد: (إنه يزوج اثنتين وسبعين من حور العين) . وهنا على سبيل الجمع: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:72-75] .

تفسير قوله تعالى: (متكئين على رفرف خضر.

تفسير قوله تعالى: (متكئين على رفرف خضر.) {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] ، والاتكاء كما هو مقرر ومعلوم عند كثير من أهل العلم: هو الميل بأحد الشقين على الأرض، ومن العلماء من قال: إن الاتكاء المراد به التربع، يعني: جلسة الرجل المتربع بلغتنا.

حكم الأكل مع الاتكاء

حكم الأكل مع الاتكاء وهذا ينبني عليه حكم فقهي ألا وهو: مسألة الأكل متكئاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا آكل متكئاً) فهل قوله: (إني لا آكل متكئاً) أي: لا آكل وأنا مائل بأحد شقي على الأرض، أو لا آكل وأنا جالس جلسة المتربع التي يسميها أهل بلادنا؟ فأكثر العلماء على أن الاتكاء هو الميل بأحد الشقين على الأرض؛ لقول الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور) ، ففرق في هذا الحديث بين الاتكاء وبين الجلوس. أما الذين قالوا: إن الاتكاء هو التربع فمنهم: الخطابي رحمه الله تعالى، وابن القيم رحمه الله تعالى، فعلى رأيهما يكره الأكل متربعاً، لكن على رأي الجمهور: أن المكروه هو الأكل وأنت مائل على أحد الشقين إلى الأرض، لكن هل يحرم هذا الأكل وأنت متكئ؟ رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا آكل متكئاً) ، فهو يتحدث عن نفسه صلى الله عليه وسلم، وهل حديثه عن نفسه يفيد التحريم؟ لا يفيد التحريم إلا مع نص آخر يقوي هذا التحريم، وهذا يجرنا إلى بعض المسائل الفقهية التي فيها أمور تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل مجرد تركه لها صلوات الله وسلامه عليه يجعلها محرمة؟ سنذكر مثالاً لذلك: الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم ليصلي على رجل قد مات، يسأل: (هل عليه دين؟ فإن قالوا: نعم، قال: هل ترك لدينه وفاءً؟ فإن قالوا: لم يترك لدينه وفاءً، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه) لكن مع امتناعه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عليه يقول: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) ، فهو نفسه عليه الصلاة والسلام لم يصلِّ عليه وإنما قال: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) فلماذا ترك الرسول عليه الصلاة والسلام الصلاة على من عليه دين؟ هل لأن الصلاة على من عليه دين حرام؟ ليست حراماً؛ إذ لو كانت حراماً لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) ، ولكن المفهوم والله سبحانه أعلم بالمراد: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما امتنع من الصلاة عليه حتى يزجر عن الاستدانة، وحتى يرهب من مسألة الاستدانة، وحتى يحذر من مسألة المماطلة في سداد الديون، وهذا المفهوم بدليل أنه قال للصحابة: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) . ننتقل إلى مسألة أشد وهي: مسألة المنتحر: (أتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد قتل نفسه بمشاقص، كي يصلي النبي عليه عليه الصلاة والسلام، فلم يصلِّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، لكنه ما نهى الناس عن الصلاة عليه، وما أمر الناس بالصلاة عليه، فلم يقل كما في الحديث السابق: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) ، ولم ينه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عليه، فلذلك اختلف الفقهاء في مسألة الصلاة على المنتحر: فقال فريق منهم: لا نصلي عليه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة عليه. وقال آخرون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نهانا، والأصل أن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فهذا رجل مسلم، فمادام مسلماً فالأصل أنه يصلى على المسلمين. فرأي جمهور العلماء أنه يصلى على المنتحر، وإن ترك بعض أهل الفضل الصلاة عليه؛ زجراً لأمثاله وترهيباً لهم من الانتحار، فلأهل الفضل ذلك؛ حتى ينزجر الناس، وحتى ينكف الناس عن الانتحار، وهذا مأخذ طيب ومأخذ عليه أدلة كثيرة جداً. وهذا يضطرنا ويسوقنا إلى بيان أفعال لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وسنرجع كرة إلى مسألة العقوبات الرسول عليه الصلاة والسلام جلد شارب الخمر نحواً من أربعين جلدة، فجاء عمر ووجد الناس قد تساهلوا في شرب الخمر، فجلد شارب الخمر نحواً من ثمانين جلدة، وكذلك كان الطلاق الثلاث في المجلس الواحد في عهده عليه الصلاة والسلام طلقة واحدة كما قال ابن عباس في صحيح مسلم، فلما كان في خلافة عمر قال: (أرى الناس قد استعجلوا على هذا الأمر الذي كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضى عمر الثلاث طلقات) . فنرجع إلى المسائل التي فعلها الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يأمر بها ولم ينه عنها: فالأصل أنها تسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لكن ينظر بعد هذا في عمومات أخرى، هل تعارض بهذه المسائل أو لا تعارض؟ وهذا سيجرنا عن قريب إن شاء الله إلى مسألة الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة الليل في رمضان، وسيأتي حولها بحث طويل إن شاء الله. نرجع إلى قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] فالعبقري الحسان: هي الفرش والوسائد التي يتكأ عليها والبسط الرقيقة، كل هذه مجملة في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] ، فأقوال العلماء كلها تدور على أنها السجاجيد التي تبسط والوسائد التي يتكأ عليها، أي: أنها أقرب إلى المجالس العربية من (الأنتريهات) ومن (الصالونات) أنها: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] .

تفسير قوله تعالى: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام)

تفسير قوله تعالى: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:77-78] من العلماء من قال: إن قوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) بمعنى: تبارك ربك، وكلمة (اسم) أصحبت كما في قول الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكي حولاً كاملاً فقد اعتذر وقد تقدم الكلام على هذا البيت الشعري بما حاصله: أن الشاعر يقول فيه: تمنى ابنتايا أن لا يموت أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما وقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر فقوله: (إلى الحول) يعني: اعملوا الذي تريدون لمدة سنة. (ثم اسم السلام عليكما) يعني: ثم السلام عليكم، وانتهى أمركم بعد سنة فلا تبكوا ولا تفعلوا شيئاً، وهذا كان في الجاهلية. إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكي حولاً كاملاً فقد اعتذر هذا البيت الشعري بالنسبة لمعناه منقوض في الشرع، فإن المرأة لا تحد على أحد أكثر من ثلاثة أيام إلا زوجاً أربعة أشهر وعشراً، لكن كان في الجاهلية الإحداد لمدة حول كامل، ولذلك يقول الأب: (إلى الحول ثم اسم السلام عليكما) فمن العلماء من قال: إن (اسم) هنا مصحبة، فالمعنى: إلى الحول ثم السلام عليكما. فقالوا: إن كلمة: (اسم) هنا في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] أي: معناها: تبارك ربك ذو الجلال والإكرام.

معاني البركة ومن أي شيء تؤخذ وتكسب

معاني البركة ومن أي شيء تؤخذ وتكسب والبركة لها معنيان: أحدهما: الكثرة والازدياد، أي: كثر خيره وازدادت بركته. والمعنى الثاني: البركة ثبوت الخير في الشيء. فمن أهل العلم من يقول: إن اسم هنا في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78] على بابها، وأخذوا منه: أن كل شيء يبدأ فيه باسم الله يبارك فيه، واستؤنس لهذا المعنى بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم بيته فذكر الله عند دخوله قال الشيطان: لا مبيت لكم اليوم، فإذا ذكر الله عند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم اليوم ولا عشاء، فإذا دخل البيت فلم يذكر الله عند دخوله ولا عند طعامه قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء) . فقالوا: إن ذكر اسم الله سبحانه يجلب البركة في الأشياء، حتى عند الجماع كذلك، فإن الشخص إذا جامع زوجته وقال: باسم الله عند الجماع، حصلت البركة ولم يشركه شيطان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً) . وقوله: {ذِي الْجَلالِ} [الرحمن:78] أي: الذي يجل عن كل نقص وعن كل عيب، وقوله: (وَالإِكْرَامِ) الذي يكرم كذلك عن كل نقص وعن كل عيب، كما تقول لشخص إذا ذكرت سيئاً: أكرمك الله، أو أجلك الله، أو أنا أجلك عن كذا وكذا، والله سبحانه أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

عدم التعارض بين كروية الأرض وقوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس)

عدم التعارض بين كروية الأرض وقوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) Q يقول تبارك وتعالى في سورة الكهف: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:86] هل هذا يتعارض مع ما وصفه العلماء أن الأرض كروية؟ A ليس هناك أي تعارض، واقرأ تفسير الآية فلن تجد أي تعارض. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حكم حديث: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)

حكم حديث: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) Q ما حكم حديث: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) ؟ A حديث: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ومن العلماء من استنكر معناه، لكنه مع ثبوته عن النبي عليه الصلاة والسلام مصروف عن الوجوب، فليس واجباً أن كل واحد قبل أن يجف عرقه يعطى أجره؛ لأن هذا الحديث محمول على استحباب التبكير بإعطاء الأجير أجره. ومن العلماء من ذكر صوارف الوجوب لحديث: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) ، ومنها: حديث صيام رمضان: أن الله سبحانه وتعالى يثيب الصائمين في آخر ليلة من رمضان، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأجير يأخذ حقه بعد انتهاء العمل، فهو صام أول يوم من الشهر وما أخذ الأجر إلا آخر الشهر، لكن هذا الحديث الأخير ضعيف. واحتج الطحاوي في كتابه: (مشكل الآثار) على أن الأجير لا يعطى أجره قبل أن يجف عرقه، أي أنه يجوز لك أن تؤخر شيئاً ما إن دعت الضرورة إلى ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر علياً أن يأمر الجزار بذبح الهدي وقال: (لا يعطى الجزار منها شيئاً ونحن نعطيه من عندنا) أي: نحن نعطيه من عندنا فيما بعد. لكن على كلٍ فاستحباب إعطاء الأجراء أجرهم عليه أدلته، فالله سبحانه وتعالى قال في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم ومنهم: رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره ... ) .

حكم من أخذت من مال زوجها دون علمه بقدر ما أخذ من مالها

حكم من أخذت من مال زوجها دون علمه بقدر ما أخذ من مالها Q والدتي له مرتب وزوجها يسرق من مرتبها، فقامت وأخذت من ماله من ورائه بدل المبلغ الذي أخذه، ولها بنت متوفية ولها أبناء، فوالدتي تصرف عليهم من هذا المال الذي أخذته من الزوج، فهل هذا حلال أم حرام؟ A لا يجوز له أن يأخذ من هذا المال شيئاً، إلا إذا طابت نفسها بذلك، فهو معاشها تتصرف فيه كيف تشاء، فليس للزوج أن يأخذ منها شيئاً، فإذا أخذ منها فهل لها أن تأخذ من ماله بقدر ما أخذ من مالها؟ وهذه يسميها العلماء: مسألة الظفر، وحاصلها: إذا جاء شخص وأخذ مالك، ثم تمكنت أنت منه هل لك أن تأخذ من ماله بالقدر الذي أخذه من مالك؟ مثال ذلك: رجل يشتغل بقالاً عند شخص وله في الشهر مائة جنيه، اتفقوا على هذا، جاء في نهاية الشهر، فقال: هذه سبعون جنيهاً فقط، ولا أعطيك غيرها، فقال له: أعطني المائة التي اتفقنا عليها، فلم يرض، فاحتال هذا الرجل الأجير وقال في نفسه: أصبر هذا الشهر، وبعد فترة احتال وأخذ الثلاثين السابقة ووضعها في جيبه، فهل هذا الفعل جائز؟ هذه التي يسميها العلماء: مسألة الظفر. فمن العلماء من يجيزها لعدة أدلة: من هذه الأدلة قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] ، {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] ولحديث هند بنت عتبة رضي الله عنها أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: خذي ما يكفيكِ وولدك بالمعروف) . فهي عمومات: الجزاء من جنس العمل، يعني: الانتصار على قدر المظلمة. ومن العلماء من يكره ذلك تورعاً، ويحتج بحديث فيه ضعف: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) ، لكن في هذا الحديث ضعف.

حكم الاستعاذة في الصلاة لمن سمع نهيق الحمار

حكم الاستعاذة في الصلاة لمن سمع نهيق الحمار Q من سمع صوت الحمار وهو في الصلاة فهل عليه أن يستعيذ؟ A إن استعاذ بالله من الشيطان الرجيم فالصلاة صحيحة، وإن لم يستعذ فلا جناح عليه. وقد ورد أن أمير المؤمنين علياً كان يصلي فمر به رجل من الخوارج فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] ، فالرجل يقول لـ علي: سواء صليت أو لم تصل فأنت كافر، الخارجي يقول لـ علي هكذا، وعلي يصلي، فقال علي وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] فأجابه علي بآية في الصلاة. فإذا كان هذا جائزاً في الدفاع عن نفسه بآية، فلأن يكون امتثال حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان) في الاستعاذة أيضاً في الصلاة من باب الجواز وليس من باب الاستحباب، فالصلاة صحيحة.

الثواب المترتب على المشقة

الثواب المترتب على المشقة Q يسأل عن الثواب على قدر المشقة؟ A نعم، الثواب على قدر المشقة، لكن لا بد أن تكون المشقة شرعية أيضاً، أي: أن يكون لها دليل من الشرع، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أجرك على قدر نصبكِ) ، وفي الرواية الأخرى: (أجرك على قدر نفقتك) ، لكن لابد أن يكون العمل نفسه مشروعاً. لكن إذا كان هناك شخص واقفاً في الشمس ونذر أن يظل واقفاً في الشمس إلى الليل، فهذا ليس له ثواب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه) .

حكم استعمال العطور المخلوطة بالكحول

حكم استعمال العطور المخلوطة بالكحول Q ما حكم العطور المخلوطة بالكحول؟ A بالنسبة للحكم في الكحول تقدم الكلام فيه بكثرة، لكن اختصاراً: الذي أراه -والله سبحانه وتعالى أعلم- أن العطور الكحولية مكروهة، ولا أطيق القول بالتحريم؛ لأن القائلين بالتحريم يبنون الفتوى على أنها خمر، والقطع بأنها خمر لا نتحمله ولا نقول به، فلذلك أنا أقول: إنها تكره. هذا على قول من قال: بأن النجاسة في الخمر نجاسة حسية، أما من قال: بأن النجاسة في الخمر نجاسة معنوية فالأمر عنده مباح، والله أعلم.

حكم طلب الزوج من زوجته التنازل عن المؤخر من المهر

حكم طلب الزوج من زوجته التنازل عن المؤخر من المهر Q هل يجوز للعاقد إذا حدثت مشاكل بينه وبين أهل العروسة، وكانوا هم السبب في هذه المشاكل، وكلما تم حل المشاكل أظهروا مشكلة أخرى، هل يجوز أن يطلب من زوجته التنازل عن المؤخر و (الشَبكة) كي يضمن حقه إذا حدث الطلاق، مع العلم أن أهل العروس هم سبب المشاكل التي حدثت؟ A لا يجوز له أن يخدع العروس ويجعلها تكتب تنازلاً له سراً، لا يجوز ذلك أبداً، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] فهي التي تفتدي به، وكذلك قال تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] فالبنت ما أتت بفاحشة مبينة. فلا يجوز لك أن تخدعها ولا أن تعضلها فحرام، وإن كنت لا تريدها فطلقها ولها نصف صداق.

الجمع بين تعلم أمور الدين والدنيا

الجمع بين تعلم أمور الدين والدنيا Q فتاة في الكلية تريد أن تحضر مجالس الذكر ووالدتها لا توافق وتقول: عليكِ بالمذاكرة، فالمذاكرة أهم وأنتِ تتفرغين للكلية فقط، فحاولت أن تقنعها فلم تفلح؟ A لها أن تجمع بين الفعلين وتسدد وتقارب، تتعلم أمر دينها وتتعلم أمر دنياها، وتطيب خاطر الوالدة بالكلام الطيب، والله أعلم.

حكم التحميد لمن عطس في الصلاة

حكم التحميد لمن عطس في الصلاة Q هل الذي يعطس في الصلاة يحمد الله؟ A نعم يحمد الله، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً من أصحابه عطس في الصلاة فقال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد رأيت بضعة عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها الأول) ، وهذا الحديث ورد في موطنين: الموطن الأول ما سبق. والموطن الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً قام من الركوع فقال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال: لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها الأول) ، وكلا الحديثين صحيح.

حكم دفع الرشوة لاستخراج حق

حكم دفع الرشوة لاستخراج حق Q رجل ذهب لاستخراج شهادة خبرة فطلب منه الموظف المختص رشوة فأعطاه، لأنه إذا لم يعطه لعطل عليه استخراج الشهادة وهو بحاجة إليها؟ A إذا كان يأخذ شهادة الخبرة وليست عنده خبرة فالمال المدفوع حرام، وآخذها آثم، ومعطيها آثم، وإن كان يأخذ شهادة الخبرة وهي من حقه وأبى الموظف إلا مع دفع المال، فليدفع والإثم على الموظف، لكن إن استطاع أن يأخذها بدون أن يدفع فهو الأفضل، للتناهي عن الإثم والعدوان، لكن إن لم يستطع إلا بالدفع فيدفع والإثم على من أخذ؛ لأن الدافع لا يدفع إلا لأخذ حقه، ولا يدفع لسلب حق آخرين.

حكم إعطاء الطبيب شهادة مرضية لشخص لم يمرض

حكم إعطاء الطبيب شهادة مرضية لشخص لم يمرض Q طبيب يقول: جاءني شخص موظف من الموظفين، وذهب بدون أن يأخذ إجازة من العمل؛ ذهب ليصلح بين قوم كادت تحدث بينهم مقتلة، فاستمرت مدة الإصلاح شهراً بدون أن يأخذ إجازة، ففصل من العمل، فقالوا: لا رجوع له إلى العمل إلا بشهادة مرضية، ونعرف يقيناً -الطبيب يقول:- أنه كان يصلح بين قوم وستحدث بينهم مقتلة والله أصلح به، ورجع بعد شهر، فهل أعطيه شهادة على أنه كان مريضاً أو أتركه يفصل من العمل؟ A هو سيفصل من العمل، أو يعطى شهادة غير حقيقية، فما رأيك وما فقهك في هذه المسألة؟ أحد الحاضرين: يعطى؛ لأنه ليس له عمل آخر. أحد الحاضرين: هو ذهب ليصلح بينهم، والصلح خير، فأرى أنه يعطى شهادة مرضية. الشيخ: الإصلاح محبوب، لكن لا أتكلم عن الإصلاح بل نقول له: جزاك الله خيراً على الإصلاح، الطبيب يسأل ويقول: أعطيه شهادة على أنه كان مريضاً أو أتركه يفصل والله يسهل له؟ أحد الحاضرين: ما دام أنه يجوز الكذب للإصلاح؛ فيجوز أخذ شهادة مرضية؛ وذلك لتعلقها بالإصلاح. الشيخ: يجوز الكذب للإصلاح بين الناس، هل هناك شخص عنده إجابة ثالثة؟ أحد الحاضرين: الضرورات تبيح المحظورات. الشيخ: الضرورات تبيح المحظورات، أحسنت، هل هناك إجابة رابعة؟ أحد الحاضرين: يجوز إعطاؤه شهادة مرضية؛ لأنه أخف الضررين. الشيخ: أخف الضررين، هل هناك إجابة خامسة؟ أحد الحاضرين: لا يجوز إعطاؤه. الشيخ: أي أن تلك الشهادة باطلة، وينفصل من العمل. الشيخ: إخوانكم استدلوا بأدلة جزاهم الله خيراً. الأخ الكريم استدل بفعل الخضر، فإن الخضر خرب السفينة، فهل التخريب هذا جائز والله يقول: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ، لكنه خرب، ولماذا خرب؟ قال تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] . وأخوكم الله يبارك فيه استدل بشيء آخر: أن الكذب من أصله للصلح جائز، فمتبوعات، الصلح من الكذب لأخذ شهادة مرضية جائزة؛ وذلك لتتميم الصلح، والرسول عليه الصلاة والسلام رخص في الكذب في الإصلاح. والأخ الآخر زاد زيادة أخرى وهي: مسألة اختيار أخف الضررين، فلو أن شخصاً أخذ سكيناً وقال لك: سأقتلك إذا لم تدفع ألف جنيه، نقول: ادفع الألف جنيه، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة المال) ، ولا يجوز لي أن أدفع الألف جنيه؛ لكن دفعتها خوفاً من القتل. اليوم قرأت في الأقضية قصة طريفة ذكرت عن أمير المؤمنين علي في القضاء، والقضاء يحتاج إلى ذكاء، فأمير المؤمنين علي اختصم إليه قوم، فقال أحدهم: إنا أعطينا هذا الرجل مبلغاً من المال وقلنا له: تصدق بما أحببت من هذا المال، فالرجل أخذ تسعة أعشار لنفسه وتصدق بعشر. مثلاً: أعطوه عشرة آلاف جنيه وقالوا له: تصدق بما أحببت من هذا المال، فأخذ العشرة آلاف وتصدق بألف ووضع التسعة آلاف في جيبه واستمتع بها، فذهبوا به إلى أمير المؤمنين علي وقالوا: نحن لا نقبل أن يأخذ التسعة آلاف ويتصدق بألف، ولكننا رضينا أن يأخذ النصف وهي خمسة ويتصدق بخمسة. فقال أمير المؤمنين علي: قد أنصفوك، أي: أحسنوا معك التصرف. فقال: لا، يا أمير المؤمنين، هي حقي! لأنهم قالوا: تصدق بما أحببت. فـ علي رضي الله عنه وجد من الرجل تعنتاً وإصراراً على أن يأخذ المال كله، فقال: اسمع، لك فقط العشر وتأتينا بتسعة أعشار. قال: كيف تحكم بهذا؟ فقال: هم قالوا لك: تصدق بما أحببت، وأنت أحببت تسعة آلاف، فنأخذ منك التسعة آلاف التي أحببتها، ونترك لك الألف التي لم تحبها. فكان القضاء فيه نوع من الذكاء، وهذه القصة أوردها ابن القيم رحمه الله في كتابه: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. أحد الحاضرين: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات دون ماله فهو شهيد) . الشيخ: (من مات دون ماله فهو شهيد) أنت حر، هل قلنا لك: إنك تأثم إذا لم تعطه الألف جنيه؟

حديث: أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين

حديث: أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين Q نرجو توضيح المقصود من قوله صلوات الله وسلامه عليه: (أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين) ؟ A تقدم بيان أن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد ذكره العلماء. أما على فرض حسنه فمعناه: أنا بريء من المسلم الذي يعيش بين ظهراني المشركين، يعني: إن أصابه من المشركين شيء أو سوء أو مكروه فأنا لست مسئولاً عنه، فعهدتي بريئة وذمتي بريئة من الضرر الذي يصيب هذا المسلم، فلست منتصراً له إذا أصابه ما أصابه، كقول الله سبحانه وتعالى في شأن الذين لم يهاجروا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72] ، فنفس المعنى مضمن في هذه الآية الكريمة.

حكم السفر إلى بلاد الكفر للعمل أو الدراسة

حكم السفر إلى بلاد الكفر للعمل أو الدراسة Q هل يجوز السفر إلى بلاد الكفر للعمل أو الدراسة؟ A إذا دعت الضرورة إلى ذلك فالضرورة تقدر بقدرها، وإذا لم تكن هناك ضرورة لذلك، فبلاد الكفر فيها الشر والفساد، وفيها الامتناع من الجمع والجماعات، فالمسألة بقدرها وبحسبها.

حكم صلة المرأة التي تزوجت بغير إذن وليها

حكم صلة المرأة التي تزوجت بغير إذن وليها Q شخص له أخت تزوجت رغماً عنه، وذلك مع كونه الولي، فهل يقاطعها لقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة:22] ؟ A الأخت التي تزوجت رغماً عن أخيها هل يقال: إنها حادت الله ورسوله حتى ننزل عليها الآية؟ وما معنى حاد الله ورسوله؟ حاد الله ورسوله، أو شاق الله ورسوله بمعنى واحد، فحاد الله ورسوله: كأن يكون في جهة، وشرع الله وسنة رسول الله في جهة أخرى، وهذا عن عمد وقصد، وكذلك من شاق الله ورسوله يكون في جهة وشرع الله وسنة رسول الله في جهة أخرى، وهذا عن عمد وقصد. لكن هذه الفتاة التي تزوجت بغير إذن أخيها، وتزوجت في المحكمة ومعها أمها أو أخوالها أو غير ذلك، فهي مخطئة لا شك في ذلك؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا نكاح إلا بولي) ويقول: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) . لكن أما وقد تزوجت عند مأذون ودخل بها زوجها وحملت منه وانتهى أمرها، فهذه لا يقام عليها حد الزنا؛ لأنها دخلت في شبهة وهي شبهة الزواج بغير إذن الأخ، لكن زوجها المأذون؛ فيرتفع عنها حكم الزنا؛ لأن النكاح نكاح شبهة، وإن كان في أصله باطل، لكن أما وقد انتهت الأمور، فما بقيت إلا الأرحام التي توصل؛ لأنه لا يشترط في صلة الرحم أن تكون الرحم صالحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما أوليائي المتقون، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) ، أي: أصلها بصلتها. ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] مع المجاهدة منهم لك وإنما: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] . ففي مثل هذه الحالة انتهى الأمر، ولو كان الأمر في بدايته لقلنا لك: قاطعها واشتد عليها، بل واضربها إذا أرادت أن تتزوج بغير إذن ولي، مادام الأمر محتملاً ومطاقاً، لكن الأمر قد تم ودخلت بزوجها وانتهت الأمور، فما بقيت إلا صلة الأرحام، والله المستعان.

درجة عبد الله بن محمد بن عقيل عند المحدثين

درجة عبد الله بن محمد بن عقيل عند المحدثين Q ما القول في عبد الله بن محمد بن عقيل؟ A أنصح الأخ السائل الذي يريد معرفة ترجمته بتوسع أن يقرأ فقط ترجمته في: تهذيب التهذيب، وسيخلص أن الرجل ضعيف.

حكم التسمية عند الوضوء

حكم التسمية عند الوضوء Q ما حكم التسمية عند الوضوء؟ A التسمية عند الوضوء مستحبة، وليست بواجبة، أما الدليل على استحبابها فما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا باسم الله) . أما المحتج على إيجابها فيحتج بحديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ، وهذا الحديث له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة طرق، تفوق عشرين طريقاً، لكن ما سلم منها أي طريق، وبعضها تالف وضعيف، وبعضها يعل بعضاً، فلهذه الإشكالات في هذه الطرق حكم فريق من أهل العلم على هذا الحديث بالضعف الشديد. وبعضهم لكثرتها حسن الأحاديث الواردة فيها؛ بل وصححها، وألّفت كتب في هذا الحديث، فقد ألف بعض إخواننا الأفاضل كتاباً في إيجاب التسمية، وفي تفصيل درجة هذا الحديث، وألف آخرون كتاباً في أن التسمية لا تجب، وأن حديث التسمية ضعيف واه. وفي الحقيقة أن كل طرق الحديث -كما سمعتم- ضعيفة وتالفة، وبعضها يعل بعضاً، لكن أيضاً إجمال القول على كثرتها منهم من حسنه بمجموعها وصححه بمجموعها، ومنهم من أبقاها في حيز الضعف. والكلام على هذا الحديث ليس من الكتاب المعاصرين فحسب؛ بل تكلم عنه الأوائل من أهل العلم المتقدمين، فمنهم من حكم على الحديث بالضعف جملة، ومنهم من حكم عليه بالصحة. نرجع إلى مناقشة المسألة فقهياً: فإن صح الخبر، فالنفي في هذا الحديث لا يعني نفي الأصل، إنما يعني نفي الكمال، لماذا قلنا: إنه لا يعني نفي الأصل إنما يعني نفي الكمال؟ لأن كل صفات الوضوء التي رويت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ كحديث عبد الله بن زيد، وكحديث ابن عباس، وكحديث عثمان رضي الله عنهم جميعاً، لما وصفوا وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يذكر واحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الله عند الوضوء، فلما لم يذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الله عند الوضوء؛ استفيد أن الأمر ليس بأمر حتم وإيجاب، إنما هو أمر -إن صح- إرشاد واستحباب. أمر آخر: نقل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وغيره من الشافعية الإجماع على أن من نسي التسمية وتوضأ وصلى أنه لا يعيد الصلاة، فلو كان حديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) نفي الوضوء من أصله، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول) إذاً لبطل الوضوء من أصله، ثم بطلت الصلاة، لكنهم أجمعوا -حتى القائلين بتصحيح الحديث- على أن الصلاة صحيحة، فهذا هو الحكم في هذه المسألة، والله سبحانه أعلم.

تفسير سورة الواقعة [1]

تفسير سورة الواقعة [1] يوم القيامة يوم لا شك في مجيئه، وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف: المقربون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة ما أعده للصنفين الأولين من نعيم أبدي سرمدي، وما أعده للصنف الثالث من عذاب أليم.

ضعف أحاديث فضل سورة الواقعة

ضعف أحاديث فضل سورة الواقعة باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: نفسر سورة الواقعة، والواقعة المراد بها من الناحية اللغوية: السقطة العظيمة الشديدة، ومنه قولهم: وقع الشيء، وقولهم أيضاً: واقعة الحرة، فالواقعة: هي السقطة الشديدة العظيمة، لكن المراد بالواقعة هنا: القيامة بلا اختلاف على ما علمته بين أهل العلم. سورة الواقعة ورد في فضلها بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل منها مقال، ومن هذه الأحاديث التي وردت في سورة الواقعة: ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لما دخل عليه عثمان في مرض موته فقال له عثمان: ماذا تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي، قال: وما ترجو؟ قال: أرجو رحمة ربي، قال: ألا نأتي لك بالطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: أفلا نأمر لك بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه، منعتني منه في صحتي فتعطيه لي عند موتي! قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: إني لا أخشى على بناتي الفاقة بعد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة) ، لكن هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ورد حديث في تصحيحه نزاع، إذ في كل طرقه مقال، ألا وهو الحديث المشهور: (شيبتني هود والواقعة) إلى آخر الحديث، فقد تكلم فيه بعض العلماء كذلك.

تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة.

تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة. ليست لوقعتها كاذبة) يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] : قال بعض أهل العلم: إن المراد: إذا قامت القيامة. وقال آخرون قولاً قريباً من هذا القول إن لم يكن هو نفسه: إن المراد بالواقعة: النفخة. فالقولان متلازمان. {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] للعلماء فيها أقوال: أحدها: ليس لوقوعها نفس تكذب هذا الوقوع إذا وقعت، أي: إذا وقعت الواقعة لم يعد هناك منكر ينكر وقوعها، بل الكل أيقن بهذا الوقوع، فليس عند وقعتها نفس مكذبة لهذا الوقوع، فقد انتفت عنهم الشكوك، وزالت عنهم الريب، وأيقن الجميع بوقوع الواقعة. القول آخر: إن المراد بقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] كالمراد بقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:1-2] أي: ليس له من يدفعه، فكذلك ليس هناك من يدفع وقوع هذه الواقعة، وثم أقوال أخر. {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3] ، خافضة لأقوام قد ارتفعوا في الدنيا، ورافعة لأقوام قد انخفضوا في هذه الحياة الدنيا، والواقعة لا تخفض ولا ترفع، إنما الذي يخفض ويرفع هو الله سبحانه وتعالى، فهذا مفهوم من السياق، ومفهوم لكل مسلم، لكن لما كان هذا الخفض والرفع يحدث يوم القيامة فنسب إليها، والله يقول: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3] ، فكم من رجل مرتفع في هذه الحياة الدنيا يذل ويهان في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأخفافهم) ، فكم من ملك وكم من أمير وكم من رئيس وكم من وزير قد ارتفع في هذه الحياة الدنيا يحشر يوم القيامة كأمثال الذر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكم من طغى عليه بالمال في دنياه يحشر يوم القيامة فقيراً وكم من مكسو في هذه الحياة الدنيا يحشر يوم القيامة عارياً! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه: (لا إله إلا الله من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة!) ، أي: كم من نفس مكسوة ومستورة في هذه الحياة الدنيا تتعرى يوم القيامة وتفضح! لخلوها من الثواب، ولخلوها من العمل الصالح، فالآخرة فيها خفض لأقوام ورفع لآخرين، فيحشر هذا المؤذن الذي يزدريه الناس ويحتقرونه أطول الناس عنقاً يوم القيامة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة) . قال الله سبحانه وتعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] ، والرج هو: الهز الشديد، فرجت الأرض رجاً، أي: حركت تحريكاً شديداً، وهزت هزاً شديداً، {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:5] ، أي: فتتت الجبال تفتيتاً، كما قال الله سبحانه: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14] ، وكما قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105-107] ، فقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:5] أي: فتتت الجبال تفتيتاً، هذه الجبال الصلبة الجامدة تدمر وتفتت تفتيتاً من شدة الأهوال. {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6] (الهباء) قال بعض أهل العلم هو: التراب، وقال آخرون: هو الغبار، وقال غيرهم: هو هذا الغبار المتطاير الذي يرى في شعاع الشمس كالذرات. {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6] أي: منتشراً متفرقاً.

أصناف الناس يوم القيامة

أصناف الناس يوم القيامة أما أحوال الناس يوم القيامة فينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام، وكل قسم تحته أقسام، لكن التقسيم الكلي إلى ثلاثة أقسام: قال سبحانه: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] أي: أصنافاً ثلاثة، أي: وكنتم -يا معشر الإنس والجن- أصنافاً ثلاثة. قال سبحانه: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:8-11] ، فهذه هي الأصناف الثلاث، أصحاب الميمنة وهم جمهور وأكثر أهل الجنة، وأصحاب المشأمة وهم أهل النار، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11] ، وهم أصحاب المراتب العالية في الجنان، قال سبحانه: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا} [الواقعة:7] أي: أصنافاً، فالأزواج تطلق على الأصناف في كثير من الأحيان، وتطلق على الأقران كذلك، وتطلق على الزوجات والأزواج بالاصطلاح المعهود لدينا. فقوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه:131] أي: أصنافاً منهم. قال سبحانه: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:7-8] وهم الذين يتلقفون الكتب بالأيمان.

المقربون وما لهم يوم القيامة

المقربون وما لهم يوم القيامة قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10-12] تأخر السابقون في الذكر عن أصحاب الميمنة وعن أصحاب المشأمة، لكن شرح حالهم وبين حالهم قبل أصحاب الميمنة، وقبل أصحاب المشأمة، فالله سبحانه وتعالى قال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8] ، ثم قال: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:9] ، ثم قال: {وَالسَّابِقُونَ} [الواقعة:10] ، وفصل حال السابقين قبل أن يفصل حال أصحاب اليمين، وقبل أن يفصل حال أصحاب الشمال، وهذا مما يسميه علماء البلاغة: اللف والنشر، فاللف والنشر فحواه: أن الذي يلف آخراً عند فرده، ينشر أولاً، كأنك أتيت بشريط تلفه، فالذي لف في آخره، إذا أردت أن تفرده يخرج أولاً، وكمثال حسن له قوله تعالى في سورة آل عمران: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} [آل عمران:106] فذكر أهل الوجوه السود بعد أهل الوجوه البيض، ثم لما ذكر الجزاء قدم أهل الوجوه السود في الذكر على قاعدة اللف والنشر كما هنا. قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] السابقون قطعاً هم السابقون بالخيرات والدرجات، والسابقون إلى الإيمان، والتصديق، فلأهل السبق في الخيرات دائماً فضل، ولذا يراعى تقدير أهل السبق في الإسلام، فمن طال عمره في طاعة الله واتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لابد أن يحفظ له هذا القدر، ولا يسفه ولا يزدرى ولا ينتقص، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فالذين أنفقوا قبل الفتح لابد وأن يحفظ لهم هذا الإنفاق، إذ أنهم أنفقوا في وقت شدة، فإسلامهم متقدم، وإنفاقهم نافع في حينه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ خالد لما كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فقال له خالد: أتعيرونا بأيام سبقتمونا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لـ خالد: (لا تسبوا أصحابي -مع أن خالداً رضي الله عنه من الصحابة لكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أسبق- قال: لا تسبوا أصحابي، والذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفة) . ومن هذا الباب أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأنصار: (إن الأنصار قد أدوا ما عليهم، وبقي الذي لهم، فمن ولي منكم أمراً فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم) وفي رواية: (فليكرم كريمهم، وليتجاوز عن مسيئهم) ، فأهل السبق لهم فضل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فذكر الحديث وفيه: (فأقدمهم هجرة) ، فجعل لقدم الهجرة قدر. وعلى ذلك فلتكن تعاملاتنا مع الناس، يوقر ويقدر من له سابقة في الخير، ومن شاب شيبة في الإسلام لا يزدرى ولا ينتقص، قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] ، وهذا حث على الامتثال السريع لأمر الله ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع تحت قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] . قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11] وهم في أعلى الدرجات وأعلى المراتب {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:12-13] ، الثلة المراد بها: الجماعة. {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14] .

تفسير قوله تعالى: (ثلة من الأولين.

تفسير قوله تعالى: (ثلة من الأولين. وقليل من الآخرين) من المراد بالأولين والآخرين؟ قال فريق من أهل العلم: إن المراد بالأولين: الأمم التي تقدمت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن المراد بالآخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأيد هذا القائل مقالته بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ، وهذا القول تقلده بعض أهل العلم، واحتجوا له أيضاً ببعض الاحتجاجات مثل: الأوائل كانوا يصلبون على الخشب، وينشرون بالمناشير، ويوضع المنشار فوق رأس أحدهم فيشق نصفين، ولا يتزحزح عن دينه، وتخد لهم الأخاديد ويقذفون في النار، ولا يتزحزحون عن دينهم، لكن هذا قول مرجوح. والراجح قول من قال من أهل التفسير: إن قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:13] أي: من الأولين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: من صدر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14] أي: من متأخري أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة) ، قال ذلك لأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وهذه الآية فسرت عند كثير من أهل العلم بآية فاطر التي هي: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ، فالطوائف الثلاث داخلة في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] ، والذين اصطفاهم الله من العباد هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الأولى وهو الأقوى، فيقال: إن قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:13] أي: من أوائل هذه الأمة الذين آمنوا بالله وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلى ذلك: تظهر هذه الآية فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يفشو الكذب) ، وأما حديث: (مثل أمتي مثل الغيث لا يدرى أوله خير أم آخره) ، فليس بثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك حديث: (المتمسك بما أنتم عليه له أجر خمسين منكم ... ) إلى آخره؛ فهذا أيضاً الراجح ضعفه وعدم ثبوته عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:13] أي: جماعة من صدر هذه الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم الذين آمنوا به وصدقوه، فإنفاقهم خير إنفاق، وجهادهم خير جهاد، وثباتهم خير ثبات؛ فمن جاء من بعدهم فالفضل لله ثم لهم في وصول الدين إلينا. وقد ناقش بعض أهل العلم مسألة تبين هذا المعنى، فلما قارنوا بين عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ورحمه الله ومعاوية رضي الله عنه، كان التقرير: أن مشهداً شهده معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من مائة مثل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله. وكذلك عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قالوا في ترجمته: اجتمعت فيه خصال الخير، فكان يحج عاماً، ويجاهد عاماً، وختموا الترجمة النيرة له بقولهم: ولم يسبقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا برؤيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس من جاهد مع الرسول كمن جاهد بعد رسول الله؛ بدليل الآية الكريمة: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] ، ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن البدريين: (يا عمر! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم!) .

غربة الدين آخر الزمان

غربة الدين آخر الزمان قال الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:10-14] هذا فيه بيان لانصراف الناس عن الدين في آخر الزمان، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ، فبسبب بعد العهد عن الرسالات ينسى الناس كثيراً مما ذكروا به، كما قال الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد:16] أي: طال عليهم الأمد بينهم وبين الرسل الذين كانوا يذكرونهم، فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون. فبالبعد عن أزمنة الخير ينسي الناس كثيراً مما ذكروا به، فكما قال القائل: تزينت الدنيا لخطابها، فنسي الناس كثيراً مما ذكروا به، وانغمسوا في ملذاتها وشهواتها، فقل منهم الصابرون على تعاليم الدين، وقل منهم الصابرون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أصبحوا موضع اتهام لاتباعهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فطعن فيهم الطاعنون، وأرجف وضحك منهم المرجفون، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29-32] ، فلم يصبر كثير من الناس على ازدراء أهل الغفلة، ولم يصبر كثير من الناس على ظلم أهل الظلم والعدوان، فنكصوا على أعقابهم، ورجعوا تاركين وراءهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وتاركين لكتاب ربهم، فقل أهل الفضل وأهل الخير، وقل أهل الثبات والصلاح في الأمم المتأخرة وأصبحوا غرباء. فلذلك قال سبحانه وتعالى في شأن المقربين: {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14] أي: قلة قليلة من الأمم التي بعد عهدها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخرت أزمانها عن أزمنة أصحابه رضي الله تعالى عنهم، ثم قال سبحانه في بيان ما أعد الله لهؤلاء المقربين {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:15] أي: منسوجة، قال العلماء: منسوجة بالذهب {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} [الواقعة:16] وتقدم تفسير الاتكاء. وفي قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16] أدب من آداب المجالسة، فإذا جالست قوماً أو تخاطبت مع قوم فأقبل عليهم بوجهك، وأصغ إليهم بسمعك، لا تقابلهم وأنت ثاني العطف كما قال تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] ، ولا وأنت مصعر لخدك كما حذر لقمان ولده من ذلك {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18] ، فكل هذه من المقابلات المذمومة، ولكن فصل الخطاب مع الناس وحسن اللقاء معهم يستلزم منك أن تقبل عليهم بوجهك، وأن تصغي لهم بسمعك، فالله يصف أهل الجنة بقوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16] أي: بعضهم يقابل بعضاً، وبعضهم يقبل بوجهه على بعض.

تفسير قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون)

تفسير قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون) {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17] ، وصف الولدان بأنهم مخلدون لبيان أن الهرم والشيب لا يتسرب إليهم كأهل الدنيا، فأهل الدنيا قال الله في شأنهم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] ، فترى الولد من أهل الدنيا وسيماً، ثم ما هي إلا سنون تمر عليه حتى يبدأ في الضعف والانهيار، ثم بعد ذلك في الانحناء كما قال الشاعر: يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا ما رام القيام ويحمل أما غلمان الجنة وخدمها الذين يطوفون على أهلها فهم مخلدون في سن واحدة، لا يكبرون ولا يشبون ولا يهرمون. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17-18] ، الأكواب هي التي لا عرى لها، أي: لا أيدي لها، والأباريق هي التي لها الأيدي {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] قال بعض أهل العلم: هي الخمر الصافية، ومن العلماء من قال: إن الكأس لا يطلق عليها كأس إلا إذا كانت مليئة بالشراب، أما إذا كانت فارغة فلا يطلق عليها كأس، {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} [الواقعة:18-19] أي: لا يصابون بالصداع من جراء تناولها، {وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] أي: ولا تذهب بعقولهم كما تفعل خمر الدنيا. {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] قال بعض أهل العلم: يستدل بذلك على أن الشخص له أن يتخير من أنواع الفاكهة التي تقدم له في الدنيا، فإن الله أجاز ذلك في الآخرة، ولعل المعنى يتضح بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) فقول صلوات الله وسلامه عليه: (وكل مما يليك) له فقه بلا شك، أي: إذا لم تتعدد الأصناف فلا تأكل إلا مما يليك، وأما إذا تعددت الأصناف فلك أن تمد يدك إلى صنف بعيد، وقد ورد بذلك حديث فيه ضعف، وآخر ثابت صحيح: أما الذي فيه ضعف وكلام فهو حديث: (أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: عكراش، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثريداً، فكان يمد يده من بعيد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عكراش! كل مما يليك فإنه طعام واحد، ثم أتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برطب وبتمر، فقال له: يا عكراش! كل حيث شئت، فقد تعددت الأصناف) ، لكنه حديث فيه ضعف. أما الثابت الصحيح فهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمت إليه قصعة طعام وفيه الدباء، فكان يتتبع الدباء من أطراف القصعة صلى الله عليه وسلم) ؛ فعلى ذلك إذا كان على المائدة عدة أصناف، وصنف منها مرغوب لديك، وهو ليس أمامك، فلك أن تمد يديك إلى البعيد، وتأتي بالصنف الذي تشتهيه، أما إذا تساوت الأطعمة وكان الطعام واحداً فكل مما يليك كما أدبنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكذلك إذا قدمت إليك أنواع من الفواكه، وكان هناك صنف منها بعيد عنك، فلك أن تتخير منها ما شئت كما قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] . وقوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] ، فيه أن الطير جائز، ومرغوب فيه في الدنيا وفي الآخرة، وقد تقذر رجل من أكل الدجاج، ولكن رد عليه هذا الاستقذار أبو موسى رضي الله تعالى عنه، وكان يأكل دجاجاً رضي الله تعالى عنه، أما الجلالة فلها أحكامها، وقد تقدم شيء من أحكامها. {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] تقدم أن بعض أهل العلم يقول: قدم ذكر الفاكهة على اللحم، فيؤخذ أن صاحب البيت يقدم الفاكهة قبل تقديم الطعام؛ لأن الله قدمها في الذكر بقوله: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20-21] ، وهذا من الناحية الشرعية فيه نظر، فإن الواو لا تقتضي الترتيب في كل الأحوال؛ بل قد تقتضي مطلق التشريك، كأن تقول: جاء زيد وعمرو، ولا تعني أن زيداً جاء أولاً ثم تبعه عمرو، فقد تعني أنهما أتيا معاً، فكذلك قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20-21] لا يقتضي أن الفاكهة تقدم أولاً، ثم على إثرها لحم الطير، إلا أن بعض المشتغلين بالطب يقرر أن استفادة الجسم من الفاكهة قبل الطعام أسرع من استفادته منها إذا قدمت بعد الطعام، فالله سبحانه وتعالى أعلم بذلك، والأمر مباح ما دمت تقصد إكرام الضيف، إلا إذا قصدت بخلاً كما يفعل البعض، إذ يملئون الأجواف بالماء والتمر حتى إذا أتى الطعام تقلل الضيوف من أكلهم، فلك نيتك، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) . وقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22-23] تقدم الكلام على ذلك، وذكرنا أن المكنون هو: المحفوظ الذي لم تمسه الأيدي. {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24] . أفادت الآية الكريمة أن هذا النعيم المذكور جزاءً بما كانوا يعملون، فكيف يجمع بين هذه الآية الكريمة وبين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ؟ جمع بعض أهل العلم بين هذا الحديث الأخير وبين تلك الآية بأوجه من الجمع منها: أن دخول الجنة أولاً يكون برحمة الله سبحانه وبفضل الله سبحانه، ثم الترقي في الدرجات يكون بناءً على الأعمال كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] .

أصحاب اليمين وما أعده الله لهم

أصحاب اليمين وما أعده الله لهم ثم قال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27] تعظيماً لشأنهم، وهم الدرجة الثانية من أهل الجنة الذين يعبر عنهم في بعض المواطن بالأبرار، كما قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:5-6] فالأبرار هنا هم أصحاب اليمين، وعباد الله الذين ذكروا في قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] هم المقربون. فأهل اليمين {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:28] ، وقد تقدم أن بعض الأعراب ذكر لبعض السلف الصالح رحمهم الله هذه الآية وقال: كل ما في القرآن حسن، لكني أقرأ آية فيها {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14] ، والسدر شجر ذو شوك وهو مؤذٍ، فقال له العالم رحمه الله تعالى: ألم تقرأ قوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:28] ؟ فالمخضود الذي أزيل شوكه، أي: الذي أبعد شوكه. فلما أبعد منه الشوك ما بقي منه إلا الحسن، كما تقدم في تأويل قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14] أي: شجرة السدرة التي تغشاها من أمر الله ما تغشاها، فأصبحت لا تكاد توصف، بل لا توصف مما حل بها من البهاء والحسن والجمال. قال الله سبحانه وتعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29] ، والطلح -على رأي الأكثرين- الموز، أما المنضود فمعناه: المتراكب بعضه فوق بعض، ومنه قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] أي: متراكب بعضه فوق بعض، فالطلح المنضود هو الموز، إذ يكون بعضه مركباً فوق البعض الآخر كما هو معلوم ومشاهد. قال تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها) ، قال أبو هريرة، وفي بعض الروايات أن القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] ) فالظل الممدود هو الظل الطويل كما بينه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:31-33] . يقول الله سبحانه: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34] من العلماء من قال: إن المراد بالفرش السرر كما فسرتها الآية الأخرى {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] ، وقد يكون المقصود أنها مرفوعة المكان والقدر، ومن ذلك يستفاد أنه يجوز في الدنيا أن تنام على سرر مرفوعة، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سرير ينام عليه صلى الله عليه وسلم. {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:34-35] يقيناً أنها لا ترجع إلى الفرش لقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] ، فقوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] أي: خلقناهن خلقاً جميلاً، وهو راجع إلى شيء محذوف مفهوم من السياق، إذ يستحيل أن يرجع إلى ما قبله؛ لأن الله قال: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:35-36] ، إلا أن قائلاً قال: إن المراد: من ينام على الفرش، لكن الأولى والأوجه أن يقال: إن قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] أي: خلقناهن خلقاً جميلاً ووسيماً وفيه كل صفات الحسن عائد على شيء محذوف مفهوم من السياق. وهذا يتكرر كثيراً جداً في كتاب الله، وقد ضربت له أمثلة: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] أي: حتى توارت الشمس بالحجاب، {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] ، فالتي بلغت الحلقوم هي الروح، وقد فهمت من السياق، وكذلك هنا {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] ، فبعد أن كن نساء الدنيا عجائز، وكن عمشاً ورمقاً -كما قال العلماء- ردهن الله سبحانه وتعالى رداً جميلاً وخلقهن خلقاً حسناً، فقال: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] أي: رددن إلى البكارة مرة ثانية، {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37] ، والعرب من النساء هن المتحببات إلى الأزواج، وهن النساء اللواتي أحببن أزواجهن، وتلطفن مع أزواجهن بالمقال وبالأسلوب والعبارات، وهن المتغنجات للأزواج كما قال العلماء. وهذا كله يستحب في زوجة الدنيا، أي: يستحب أن تتحبب إلى زوجها، وتتعمد ذلك بالكلام الطيب الهادئ المريح، بل يشرع لها أن تبالغ في ذلك بل وأن تكذب في ذلك كي يقبل عليها زوجها ويحبها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص في كذب المرأة على زوجها، ومحل هذا أن تظهر له عظيم محبتها وودها له. {عُرُبًا} [الواقعة:37] أي: متحببات إلى الأزواج {أَتْرَابًا} [الواقعة:37] في سن واحدة، {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38] .

حوار مع أحد الطلاب

حوار مع أحد الطلاب ونطرح الآن الأسئلة والنقاش في مسائل تفتح الأذهان بإذن الله.

جواز رفع القبور للضرورة

جواز رفع القبور للضرورة الشيخ: ما رأيك في المقابر المرتفعة التي يدفن فيها الناس الآن، هل هي على السنة أم أنها تخالف السنة؟ الطالب: غير شرعية. الشيخ: ماذا نصنع كي تكون شرعية؟ الطالب: لا نرفعها. الشيخ: عندما حفرنا في الأرض متراً خرج من الأرض ماء فهل نحفر أيضاً أم ماذا؟ يعني: شخص بلدته لا يرشح الماء فيها، وكل المقابر في البلدة عالية، ولا يسمح له بحفر قبر جديد، فاشترى أرضاً، وحفر خمسة قبور في هذه الأرض، فأصبحت مقابره فقط هي الدفينة في الأرض، فجاء الأطفال ولعبوا فوقها، وجاء الناس ومشوا من فوقها، فهم لا يعرفون أنها مقابر، فصارت لا توقر، والكلاب تقبل وتدبر عليها، فهل يتركها هكذا أم يرفعها؟ الطالب: تترك كما هي ولا يرفعها. الشيخ: تقول: الأفضل أن تترك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، فتحرق جلده؛ خير له من أن يجلس على قبر) . لكن ما مناط الحكم في المسألة؟ فالمشكلة في انخفاضه وليس في ارتفاعه، فماذا يصنع؟ الطالب: يتركها منخفضة الشيخ: الأطفال يلعبون عليها، والناس يمشون فوقها! الطالب: يرفع قليلاً. الشيخ: الرفع للضرورة فقط يجوز، وإلا فرفع القبور محرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) .

الأسئلة

الأسئلة

من أمثلة الطلاق البدعي

من أمثلة الطلاق البدعي Q هل هناك طلاق بدعي وطلاق سني؟ A نعم الطلاق البدعي المخالف للسنة، والسنة هي ألا تخالف سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من الطلاق البدعي: طلاق المرأة في طهر جامعها فيه، أو طلاق المرأة وهي حائض، أو طلاق الثلاثة مجتمعة في مجلس واحد، فهذه كلها من صور الطلاق البدعي التي لا توافق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام. والطلاق البدعي منه طلاق يقع، وطلاق لا يقع، فطلاق الرجل لامرأته في طهر جامعها فيه يقعد عند جماهير السلف والخلف، وطلاق الحائض لا يقع عند بعض العلماء مع مخالفة بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم، لكن جماهير السلف والخلف على أن طلاق الحائض يقع.

حكم الولد المولود من جماع المخطوبة قبل العقد

حكم الولد المولود من جماع المخطوبة قبل العقد Q هل ينسب الولد لأبيه إذا كان الأب قد جامع الأم أثناء الخطبة قبل العقد؟ A العبرة بالولادة، فإذا ولد الولد على فراش الزوجية، أي: أن أباه وأمه على فراش الزوجية فالولد للفراش، أما إذا ولد على غير فراش الزوجية فلا ينسب لأبيه.

حكم التتابع في القضاء

حكم التتابع في القضاء Q شخص أفطر أربعة أيام فهل يلزم التتابع في القضاء؟ A لا يلزم.

حكم صلاة المرء في بيته لعجز أصابه

حكم صلاة المرء في بيته لعجز أصابه Q يوجد لدينا مسجد تحت البيت، وأنا رجل مقعد، هل تصح صلاتي وأنا بالطابق الذي فوق المسجد مباشرة وتحسب جماعة أم لا؟ A أنا متوقف في هذه المسألة.

اتصال الصفوف ليس شرطا في صحة الصلاة

اتصال الصفوف ليس شرطاً في صحة الصلاة Q ما الدليل على أن اتصال الصفوف شرط في صحة الصلاة؟ A عندما نقول: ينبغي أن تتصل الصفوف، فلا يعني ذلك أن نجعلها شرطاً في البطلان، في الحرم المكي الناس يصلون أمام باب الملك عبد العزيز، وآخرون في شارع أجياد على بعد مائة متر، فقد جاء مستعجلاً فيركع، وهكذا صفوف أخرى، فأنا أسأل: ما هو الدليل على أن اتصال الصفوف شرط في صحة الصلاة؟ الطالب: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) . الشيخ: حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ، النفي هنا عند الجمهور نفي الكمال لا نفي الصحة؛ لأن أبا بكرة جاء وركع خلف الصف ثم دخل في الصف وهو راكع، فالعلماء يستدلون بهذا الحديث ويقولون: لو كانت الصلاة باطلة خلف الصفوف لبطلت تكبيرة الإحرام التي عقدها أبو بكرة خلف الصف، فلما أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم فهم أن (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) على سبيل نفي الكمال لا نفي الصحة. وبالمناسبة: فإن بعض أهل العلم سئل عن صلاة الملوك في القصور التي خلف الحرم، فقال: جائزة، وفي جلسة خاصة: سئل: على أي أساس أجزتها؟ قال: لأنه إذا نزل فسوف يؤذي المصلين كلهم، فالجنود سيبعدون المصلين ويشتتونهم، فليصل الملك في قصره، وهذا بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وهذا منطق مسدد لعلة درء المفسدة. وعلى ذلك نقول: اتقوا الله ما استطعتم، فيجوز لي أن أصلي منفرداً ولي أجر الجماعة، أي: إذا صليت منفرداً وربي يعلم من حالي أني أريد الجماعة كتبت لي جماعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج أحدكم من بيته يريد الجماعة فوجد الناس قد صلوا كتب له أجر الجماعة) وهذا لأصحاب الأعذار.

حكم ترك صلاة الجماعة من أجل الحراسة

حكم ترك صلاة الجماعة من أجل الحراسة Q جندي في الجيش عندما يكلف بالخدمة لا يتمكن من أداء الصلاة جماعة، فماذا يفعل؟ A صل على قدر استطاعتك، ولا تلزم بالجماعة ما دمت مكلفاً بالحراسة، فصل قبل أن يخرج وقت الفريضة.

حكم الأكل في بيوت من يتعاملون بالربا

حكم الأكل في بيوت من يتعاملون بالربا Q كثيراً ما نتعرض لدخول بيوت إخواننا ونأكل منها، فهل يحرم علينا أن نأكل من بيوت من غلب على ظننا أنهم يتعاملون مع البنوك؟ A كل والإثم عليهم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام دخل وأكل من بيت امرأة يهودية، ولم يستفصل عليه الصلاة السلام، والمعهود من اليهود أنهم يرابون، وقد ورد أثر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يؤيد هذا المعنى حيث قال: (كل وخذ ما أعطاك، والإثم عليه) ، أورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وإن كانت المسألة لا تخلو من نزاع، لكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأكله عند اليهودية يقوي الرأي القائل بأننا نأكل، اللهم إلا إذا كانت هناك مصلحة مرجوة في عدم الأكل، كأن يكون في عدم الأكل زجر لهذا الرجل عن الربا، فحينئذٍ يفعل الأصلح، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم صلاة المرأة بعباءة البيت

حكم صلاة المرأة بعباءة البيت Q هل يجوز للمرأة أن تصلي في عباءة البيت وعليها خمار فقط؟ A يجوز أن تصلي في عباءة البيت، وعليها خمار.

هيئة الجلسة بين السجدتين

هيئة الجلسة بين السجدتين Q ما هو الصحيح في هيئة الجلسة بين السجدتين؟ A لك أن تفترش اليسرى وتنصب اليمنى، ولك أن تنصبهما معاً، وهاتان الصفتان وردتا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم قطرة العين للصائم

حكم قطرة العين للصائم Q ما حكم قطرة العين للصائم؟ A قطرة العين ليست بطعام ولا بشراب ولا بشهوة، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر فيما روي عن ربه تبارك وتعالى: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) ، وهي ليست بطعام ولا بشراب ولا بشهوة.

حكم وضع ميت في قبر قد دفن شخص فيه من قبل

حكم وضع ميت في قبر قد دفن شخص فيه من قبل Q حفرت خمسة قبور لمن يموت من عائلتنا، فإذا دفنا خمسة فيها، هل يجوز لنا أن نفتح هذه القبور مرة أخرى ونضع فيها موتى آخرين؟ A عائلتك لها خمسة قبور، ثم فجأة مات منكم هذا الشهر خمسة فدفنوا في هذه القبور الخمسة، وبعد شهر مات ثلاثة فإذا جئت تفتحها فإن الرائحة في غاية الكراهة، فماذا تصنع؟ نقول: يوجد مقابر صدقة فتدفن الميت فيها.

عدم ثبوت حديث: (تحترقون تحترقون)

عدم ثبوت حديث: (تحترقون تحترقون) Q حديث (تحترقون تحترقون ثم تحترقون ثم إذا صليتم الظهر) . A الحديث لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

حكم تأخير قضاء الصوم حتى مجيء رمضان الآخر

حكم تأخير قضاء الصوم حتى مجيء رمضان الآخر Q امرأة وضعت قبل رمضان الماضي بشهر ونصف وما زالت في حالة رضاعة حتى الآن، فهل تكفر عن رمضان الماضي مع العلم بأنها ضعيفة البدن؟ A شخص عليه صيام من رمضان الماضي يجب عليه قضاؤه، وسيدخل عليه رمضان الآتي وهو لم يصم القديم، فكثير من الفقهاء يفتون فيقولون: إذا دخل عليك رمضان جديد ولم تصم فلتكفر بإطعام، لكن هذا القول ليس عليه دليل، فهل منكم أحد يذكر دليلاً يشهد لهذا القول المتداول؟ فرب العزة يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، فالآية الكريمة أطلقت قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] لم يحدد الله لنا سنة أو سنتين أو ثلاثة، بل الآية الكريمة أطلقت، فالذي يقيدنا ويقول: لزاماً أن تصوم قبل رمضان القادم؛ عليه أن يأتينا بالدليل، والذي يقول: عليكم بكفارة إذا دخل رمضان ولم تصوموا، فعليه بالدليل، فالدليل هو الحكم {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، والبعض يستدل بقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان يكون عليّ الأيام من رمضان فلا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان، للشغل برسول الله عليه الصلاة والسلام) لفظة: (للشغل برسول الله عليه الصلاة والسلام) ليست من قول عائشة وإنما ذكرها يحيى القطان، وهو الذي فهم ذلك، لما قالت: (لا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان) ، قال يحيى: للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، هي لم تقل هذه اللفظة، لكن على فرض أنها قالتها أم لم تقلها ليست هذه محل المناقشة، وإنما قولها: (لا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان) ، لا يفيد إيجاب القضاء قبل دخول رمضان، وإنما هو فعل استحبته عائشة، فاستحبت ألا تتراكم عليها ديون من رمضان السابق مع رمضان الآتي، لكن جعله كدليل يوجب كفارة على من أخر الصوم السابق حتى دخل الآخر لا يصح، ولا أعلم دليلاً، والآية صريحة في هذا {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، فأطلقت لنا ولم تقيدنا، والذي يقيد عليه أن يأتي بالدليل، والمجال مفتوح لمن عنده أي دليل يلزم به. وأما قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] ليست في محل النزاع في الأصل، فهذا كان في أول الإسلام، فالشخص في أول الإسلام كان مخيراً بين صيام رمضان وبين الإطعام، وإن كان مستطيعاً للصيام، لكن نسخت بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، لكن قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ليست منسوخة. فما دام أنكم لا تحفظون دليلاً لا من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله، والله يأمرنا عند النزاع أن نرد الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالأصل أن الذمم بريئة، وتقضي متى شاءت، لكن ينبغي أن الديون تؤدى سريعاً، فصحيح من هذا الباب، لكن أن تفرض عقوبة فهذا ليس عليه دليل. وأما إذا مات قبل أن يقضي ما عليه من صيام فالنزاع في شأنه قائم على تفصيل واسع، فمن العلماء من يستدل بعموم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، فيقول: يقضي عنه أولياؤه، وبعض أهل العلم يفصل تفصيلاً آخر فيقول: إذا جاء رمضان وانتهى وهو مريض وأفطر فيه، ثم استمر به مرضه بعد رمضان إلى أن مات فليس عليه ولا على أوليائه أي نوع من أنواع القضاء، إذ مرضه متواصل، ولم تأتِ فرصة كي يصوم فيها، أما إذا جاء رمضان وأفطر فيه أياماً ثم انتهى رمضان وشفاه الله زماناً يمكن فيه القضاء ولم يقضِ فقد أصبح القضاء معلقاً في الذمة، فيقضي عنه الأولياء إذا مات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وكذلك المرأة التي أتت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن أمي ماتت ولم تحج قال لها: أفرأيتي لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: فدين الله أحق أن يقضى) ، وهل يؤخذ من هذين الحديثين أن على الأبناء أن يحجوا وأن يصوموا عن آبائهم الذين فاتوا وعليهم صوم وحج أم أن هذا على الاستحباب؟ الجواب: هذا على الاستحباب على قواعد الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصيام، فقال له قائل: (هل عليّ غيره؟ قال له: لا؛ إلا أن تطوع) ، فهو على الاستحباب لا على الإيجاب، والله لم يوجب على شخص ثلاث حجات: حجة عن نفسه، وحجة عن أمه، وحجة عن أبيه، إنما هو على سبيل الاستحباب.

حكم أخذ مال فاسق بدون حق

حكم أخذ مال فاسق بدون حق Q سائق تاكسي أوصل امرأة إلى بيتها، ثم طلبت منه أن يدخل البيت ويحمل الحقيبة، فحملها وفجأة قالت له: إما أن تمارس الفاحشة وإلا سأصرخ! فوافقها، فأعطته نقوداً ليشتري لها طعاماً، فأخذ النقود وهرب، فهو يسأل عن حكم هذه النقود؟ A تصدق به عنها لعل الله أن يكفر بهذا المال عنها.

حكم معالجة الطبيب للمتبرجات

حكم معالجة الطبيب للمتبرجات Q أنا طبيب أمراض جلدية، وتأتي إليَّ نساء متبرجات لديهن مشاكل في جلد الرأس، فأعطيهن العلاج لذلك، فهل عليّ وزر إذا أعطيتهن العلاج، علماً بأن جلد الرأس إذا لم يعالج فإن شعرها سيتأذى، فهل أعطيهن علاجاً كي يتقوى شعرهن أم يتركن بلا علاج؟ A الظاهر -والله أعلم- أنه يعالجهن ويذكرهن بالله؛ لأن الأصل أن نأخذ المسألة بدليل أيضاً، فالأصل: أنه يجوز أن تعالج شخصاً كافراً، يعني أتاك نصراني أو ملحد أو كافر كي تعالجه، وهذا النصراني ليس بمحارب للمسلمين، أما إذا كان محارباً فاتركه يهلك، أما إذا كان كافراً غير محارب فيشرع علاجه لحديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه البخاري لما مر على قوم، وفيهم لديغ، فرقاه أبو سعيد بفاتحة الكتاب على قطيع من الغنم، فهؤلاء النسوة خذ منهن أجرتك وعالجهن، وادعهن إلى الله سبحانه وتعالى.

حكم الحج بمال مستدان

حكم الحج بمال مستدان Q هل يصح الحج إذا اقترضت مبلغاً من المال من أجل الحج أم يكون الحج فاسداً؟ A الحج صحيح، لكن لم يوجب الله عليك أن تقترض، فإن كنت تطمع في فضل الله سبحانه وتعالى وفي رزقه وكان عندك ميراث إذا مت يسد منه الدين فلا بأس، والحج صحيح.

تفسير سورة الواقعة [2]

تفسير سورة الواقعة [2] لقد بين الله في سورة الواقعة ما أعده من عذاب شديد لأصحاب الشمال، فذكر طعامهم وشرابهم ومأواهم، وأنه حميم في حميم؛ وذلك لأنهم كفروا بالله تعالى ولم يلتزموا بشرعه ولا بأمره ونهيه. ثم ذكر الله تعالى جملة آيات دالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته.

مصير أصحاب الشمال، وصفاتهم

مصير أصحاب الشمال، وصفاتهم باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يذكر الله سبحانه وتعالى الصنف الثالث من أهل الآخرة، فيقول سبحانه: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:41-45] . قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41] أطلق عليهم أصحاب الشمال كما قال فريق من أهل العلم: لأنهم يتلقون كتبهم بشمالهم. وكيف يجمع بين تلقيهم الكتب بالشمال كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] وبين قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] ؟ فمن العلماء من قال: يؤتاه بالشمال من وراء ظهره كذلك، فتمتد اليد الشمال خلف الظهر ويتلقى الكتاب على هذه الحال والعياذ بالله! {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41] ، تكريرها لبيان هول وعظم ما أعد لهم، أي: وأصحاب الشمال وما أدراك ما حال أصحاب الشمال؟! إنه حال سيئ ومذل ومخز، والعياذ بالله! حالهم {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:42] (السموم) : الريح الحارة الشديدة، و (الحميم) : الماء الحار الشديد الذي قد انتهى إلى أعلى درجات حرارته. {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:43] الدخان الأسود الشديد، وهذا هو الذي يظللهم، فريح حارة شديدة، والظل الذي يستظل به دخان أسود كثيف مؤذٍ، والماء الذي ظن أنه يتبرد به من الحميم. {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:43-44] هذا مصيرهم في الآخرة.

طعام أهل الشمال في الآخرة وشرابهم

طعام أهل الشمال في الآخرة وشرابهم قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:51-52] ، والضالون هنا ليس المراد بهم النصارى الضالون فحسب، بل المراد عموم من ابتعد عن كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكفر بالله، فدخل في ذلك أهل الشرك وأهل الإلحاد واليهود والنصارى {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} [الواقعة:51] أي: المكذبون بالبعث {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:52] ، والزقوم وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43-46] وقال تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] فسرها بعض العلماء بشجرة الزقوم، وهي شجر وليست شجرة، كما قال الله: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:52] ، وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:66] ، وقال الله في صفة هذه الشجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] ، وقد جعلها الله فتنة للظالمين، حيث قال أهل الظلم: كيف تنبت الأشجار في وسط النيران؟! وخفي عليهم أن الله على كل شيء قدير، وقوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65] هذا تصوير لها وإن لم نرَ نحن رءوس الشياطين لكننا جميعاً نتصور أن رءوس الشياطين شيء مزعج ومخيف ومرهب، فوصفت برءوس الشياطين مع كوننا لا نعرف كيف رءوسهم، ولكنه تصوير لما انقدح في الذهن واستقر في القلب من أن الشياطين ورءوسها أشياء مخيفة. قال الله سبحانه وتعالى: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:52-55] والحميم هو الماء الذي يغلي. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة:51-53] كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] ؟ فآية الغاشية {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:52] فكيف الجمع؟ بعض أهل العلم يقول: فريق من أهل النار طعامهم الضريع وليس لهم إلا هذا الضريع، وفريق آخر من أهل النار طعامهم شجر الزقوم، فهم أصناف، وكل صنف اختص بأكلة معينة على حسب جرائمه التي اقترفها، أو يحمل على أنهم في سنين ما يأكلون إلا الطعام من ضريع، وليس لهم إلا هو، وفي سنين أخر يأكلون من شجر الزقوم وليس لهم طعام إلا هو، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تعالى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:54-55] ، الهيم من الإبل: شديدة العطش التي تشرب ولا تكاد تروى. {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56] أي: هذه مكرمتهم التي يكرموا بها!

إنكار المشركين للبعث

إنكار المشركين للبعث قال تعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47] ، ينكرون البعث أيضاً، فكانوا يشركون بالله وينكرون البعث، وإنكار البعث بمفرده كفر، والشرك بالله بمفرده موجب للخلود في النار. {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47] استبعاداً للبعث، وهذا يفترق به المسلمون عن غيرهم من أهل الديانات، وإن كان بعض أهل الممل كاليهود يقرون بالبعث، لكن تصورهم للبعث تصور خاطئ، فقد زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وزعموا أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات، أحسنوا العمل أم لم يحسنوه، قالوا بزعمهم: إن النار تمسهم سبعة أيام، وهي تلكم الأيام التي عبدوا فيها العجل، ثم يخلفهم فيها المسلمون بزعمهم! وقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47] كقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:79-83] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال رجل ممن قبلكم لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: كنت خير أب، قال: فإن الأبعد لم يفعل خيراً قط، والله! لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فإذا أنا مت فحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم في يوم عاصف، فلما مات وصنعوا به ذلك أحرقوه، ثم طحنوه، ثم أخذوا ترابه في يوم عاصف، وأتوا إلى البحر فذروه في البحر فلما فعلوا به ذلك قال الله له بكلمة واحدة: كن رجلاً، فإذا هو رجل قائم بين يدي الله سبحانه، فقال الله له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك يا رب! فغفر الله له) . قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:47-50] ، كل الأوائل والأواخر سيجتمعون في صعيد واحد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي) داعٍ واحد يدعوهم والكل يستمعون إلى قوله، بجمع كل من كان من عهد آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49-50] ، وهذا دائماً يذكر به الله في ثنايا الآيات؛ لأن التذكير بالبعث واليوم الآخر يحمل على إحسان العمل.

الإصرار على الذنوب

الإصرار على الذنوب هذا بحث عاجل وسريع حول مسألة الإصرار على الحنث العظيم على تأويل من فسر الحنث العظيم بأنه الذنب وليس الشرك، أما تفسير الحنث العظيم بأنه الشرك فلا إشكال فيه؛ لأن نصوص الشريعة تشهد بأن من أصر على الشرك ومات عليه فإنه من أصحاب الشمال، لكن التوجيه على رأي من قال: إن الحنث العظيم هو الذنب العظيم ما دون الشرك، فهل الإصرار على الذنب العظيم الذي هو دون الشرك يجلب لصاحبه الخلود في النار؟ A القواعد الكلية لأهل السنة والجماعة تفيد أن الإصرار على الذنب العظيم الذي هو دون الشرك كالإصرار على الزنا مثلاً أو الإصرار على القتل، فالإصرار على ذلك ليس بموجب للخلود في النار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] ولقول الله سبحانه وتعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:284] ولقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ؛ ولحديث البطاقة الذي فيه: (أن الله سينادي رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيقول الله سبحانه وتعالى: انشروا له صغار ذنوبه، وأخفوا عنه كبارها، فيخرجون سجلات طويلة سجلت فيها معاصيه وذنوبه، طول هذه السجلات مثل مد البصر! فيقول الله سبحانه وتعالى له: أظلمناك شيئاً؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! يقول الله: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب! فتوضع في كفة، ثم يقول الله له: إن لك عندنا حسنة، وإنك اليوم لم تظلم، فتخرج له بطاقة فيها: لا إله إلا الله فتوضع في الكفة الأخرى، فتطيش بتلك السجلات، ولا يثقل مع اسم الله شيء) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا الحديث قد يفهم على غير وجهه، كما فهمه بعض أهل الإرجاء، ولكن فهمه عند أهل السنة أنه مثال لرجل أراد الله أن يغفر له، وليس بلازم أن يغفر الله لكل مجرم، وليس بلازم أن يغفر الله لكل مسرف على نفسه، بل كما سمعتم {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] ، فالمصر على المعصية حتى يموت عليها، ولم يتب منها؛ ليس بلازم عند أهل السنة والجماعة أن يعذب. والمقام مقام تحرير المسائل العلمية، ليس مقام تخويف ولا ترهيب، فنحن في وسط إخواننا طلبة العلم، فالمقام مقام تحرير مسائل علمية، فمن أصول أهل السنة والجماعة ما سمعتموه، ويشهد لهذا المعنى حديث البغي التي كانت تتكسب من الزنا والعياذ بالله! فمرت ذات يوم بكلب يلهث من العطش، فنزعت موقها وملأته ماءً من بئر وسقته، فشكر الله لها، فغفر لها، وأدخلها الجنة، ولم يذكر في الحديث أنها تابت من هذا الذنب، فأمر ذلك إلى الله سبحانه، لكن {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] .

ترف أهل الشمال

ترف أهل الشمال ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} أي: في دنياهم {مُتْرَفِينَ} ، وهل كل مترف في الدنيا يعذب في الآخرة؟ قطعاً ليس كل منعم في الدنيا يعذب في الآخرة، ولكن كما قال فريق من أهل العلم: إن عموم أهل الترف على الشر والفساد، فأهل الترف مفسدون وأهل شر، ولا يستثنى منهم إلا القليل، فدل على هذا الأصل قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:83] ، أي: الإنسان إذا أنعمنا عليه بنعمة أعرض ونأى بجانبه، وكما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] أي: من رأى نفسه مستغنياً عن الله بدأ في التمرد والطغيان؛ ولذلك يقول الله جل ذكره: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] من العلماء من يقول: أمرنا مترفيها بأوامرنا ونواهينا فعصوا تلك الأوامر وأقبلوا على تلك المناهي فخالفوا أمرنا بذلك، فحق على هذه القرية القول {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] . ومنهم من يقرأها بالتشديد (أمّرنا مترفيها) أي: جعلنا المترفين أمراء فسعوا في الأرض بالفساد، فليس مجرد الترف -الذي هو النعمة في الدنيا- سبباً للعذاب، لكن سياقات الكتاب العزيز تبنى على العموم، كما قال الله جل ذكره: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، مع أنه أثبت لبعض الأعراب إيماناً في قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} [التوبة:99] ، فليس الترف والنعيم والتنعم والاستمتاع بالدنيا وحده جالب للعذاب، فإذا أدى هذا المنعَّم في الدنيا حق الله عليه في ماله وفي صحته فهو على خير، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) ، وجاءه الفقراء يشكون ما لإخوانهم الأثرياء من الأجر بقولهم: (ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى والنعيم المقيم) ، وفي آخر الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ... ) . فليس كل منعم في هذه الحياة الدنيا من أهل النار، وليس كل شقي في هذه الحياة الدنيا من أهل الجنة، فكم من رجل -والعياذ بالله- جمع بين شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة، وكم من شخص في هذه الحياة الدنيا جمع بين النعيمين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. فها هو نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام آتاه الله ملكاً لم يعطَ لأحد من بعده، ولم يحزه أحد من قبله فيما علمنا، ومع ذلك هو نبي صالح يقول: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] وها هو ذو القرنين كذلك كما قال الله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] ، ومكنه الله غاية التمكين في الأرض، وهو رجل صالح أثني عليه خيراً في كتاب الله سبحانه. وهذا يجرنا إلى شيء ألا وهو: إن هناك أحاديث فيها الوعيد لأصحاب جرائم ورد في ذكرهم جملة من الخصال خصلتان أو أكثر، فهل يعذبون بسبب الخصلة الواحدة أم لابد من اقتران الخصلتين معاً؟ مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر الزمان أقوام لهم حواصل كحواصل الطير، يصبغون بالسواد، لا يريحون راحة الجنة) هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح. فهل مجرد الصبغ بالسواد هو الذي يجعلهم لا يريحون رائحة الجنة أم يضم إليها أيضاً أنهم يحلقون لحاهم ويتركون في نهايتها شيئاً مستديراً كالذي يفعله بعض السعوديين الآن، ويصبغ الشعيرات التي في آخر اللحية بالسواد؟ هل هذا الصبغ بالسواد فقط هو الذي حذا بهم إلى أنهم لا يريحون رائحة الجنة أو نضم إليه أيضاً أنهم يحلقون لحاهم، ولا يبقون إلا مثل حواصل الطير؟ أو أن فيهم أشياء أخرى لم تذكر في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام إنما ذكرت العلامات فقط؟ أي: أن هناك خصالاً لهؤلاء الناس الذين ذكروا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لم تذكر في الحديث، ومن سيماهم: أنهم يصبغون بالسواد، وأن لهم حواصل كحواصل الطير؟ في الحقيقة أن هذا ينبني عليه فقه واسع، ليس في هذه المسألة فحسب بل في عدة مسائل، هل الصفات التي ذكرت هي وحدها الكفيلة بمنعهم من الجنة، ومنعهم أن يشموا رائحتها أم هناك صفات أخر استترت في الحديث ولم تبين، ولكن ظاهرهم أنهم يصبغون بالسواد؟ مثال آخر: وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:38-46] ،فهل الصفة الواحدة من هذه الأشياء المذكورة كفيلة بالحكم عليهم بالإجرام وبالحكم عليهم بالخلود في النيران؟ قطعاً هذا محل نظر، فإن بعض الأشياء التي ذكرت في قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] إلى آخر الآيات منها صفات مكفرة بالاتفاق، موجبة للوصف بالإجرام وللخلود في النيران، كقولهم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:46] ، وصفات أخر مكفرة على خلاف بين العلماء وهي قولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] ، وصفات أخر وهي قولهم: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] ليست مكفرة على رأي الجماهير. فهل اشتباك هذه الصفات معاً هو الذي يحكم عليهم بالإجرام وبالخلود في النيران أو أن بعض الصفات هي التي تحكم عليهم بذلك؟ لكل مسألة من هذه المسائل ملابساتها الخاصة، فينبغي إمعان النظر في مثل هذه الأحوال حتى يخرج الشخص بفقه صحيح متفق مع النصوص العامة والقواعد الكلية لأهل السنة والجماعة، والله أعلم. الشاهد: أن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] ، إذا فسرنا الترف بأنه مجرد التنعم فلا شك أن التنعم وحده ليس بكافٍ ولا بكفيل للحكم عليهم أن يكونوا من أصحاب الشمال، فكم من منعم في هذه الحياة الدنيا كان مصيره إلى الجنان! فهذا أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه من أصحاب الأموال الطائلة، وكذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من أصحاب الأموال الطائلة، قيل: كان لـ عثمان ألف جارية! وثم صحابة آخرون آتاهم الله مالاً غزيراً، ومع ذلك أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية الثناء. فقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] ، ضموا مع هذا الترف {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] ، من العلماء من قال: إن الحنث العظيم هنا المراد به: الشرك، ومن العلماء من قال: إن أصل الحنث هو الذنب، يقول الشخص: حنثت، أي: وقعت في الذنب لكوني أقسمت وخالفت يميني، فالحنث أصلاً هو الذنب، لكن لاقترانه بالعظيم فسر بعض أهل العلم الحنث العظيم بالشرك، ومنهم من قال: هو الذنب العظيم، {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] .

آيات تقر بربوبية الله سبحانه

آيات تقر بربوبية الله سبحانه قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:57-58] تمنون أي: تقذفون المني وتسيلونه، ومنه قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:37] أي: يهراق ويسال ويندفع. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة:58-60] ، أي: وما نحن بعاجزين كما قول بعض أهل العلم {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] أي: نحولكم إلى صور أخرى لا تتخيلونها ولا تتوقعونها كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:66-67] ، فقوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] أي: ننشئكم في صور أخرى من الخلق لا تعلمونها، قد تطمس وجوهكم فترد كالقفا كما صنع بأقوام من قبل، وليست الآية الكريمة دليلاً على المبدأ الهندوسي الكافر الذي يتبناه الكفرة من أهل الهند بقولهم بتناسخ الأرواح، أي: أن الشخص عندهم إذا مات وكان صالحاً فإن روحه تحل في شيء طيب، وإن كان فاسداً ومات، فإن روحه تذهب إلى كلب أو قط أو حية أو ضفدعة، والأرواح الطيبة بعد أن يموت صاحبها لا تموت هي، بل تتحول إلى أشياء بحسب صلاح الشخص أو فساده. والآية لا تدل على هذا المبدأ الكافر، فالله سبحانه وتعالى يحذر من مسح الأجساد في هذه الآية {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] كما مسخ بني إسرائيل إلى قردة وخنازير، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:62] أي: علمتم كيف خلقناكم أول مرة فلولا تتعظون وتعتبرون. وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:63] ذكرت الآية الكريمة الحرث، ولم تنتقص من يحرث ويزرع، وقد أورد بعض الألمان الكفرة شبهة على أحد المسلمين قليلي العلم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال هذا الألماني الكافر لرجل من المسلمين: ما هو أصح كتبكم المعتمدة بعد القرآن الكريم؟ قال: صحيح البخاري. قال: إن في صحيح البخاري حديثاً فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على قوم، فوجد عندهم في البيت سكة من حديد -وهي بمعنى: آلة الحرث- فقال: (لا يدخل هذه الآلة قوم في بيوتهم إلا أصابهم الذل) ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هاهو دينكم يدعو إلى التخلف، كيف لا يدخل القوم آلة الحرث إلا أدخلوا على أنفسهم الذل؟ فالرجل علمه بالسنة ضعيف، فحاول أن ينكر هذا الحديث، فلما أثبت له أن هذا الحديث في صحيح البخاري حاول أن يؤول أو يدعي أن الحديث مدسوس، والحديث ثابت صحيح، ولكن آفة عدم الفهم هي التي تسربت إلى هذا الرجل، فهذا الحديث بعينه يدعو إلى التقدم وإلى التسلح، فمعناه: أنكم -يا معشر المسلمين- إذا رضيتم بالزرع، وتركتم آلات القتال وآلات الحروب، إذا عمدتم إلى المزارع وإلى الفئوس وإلى آلة الحرث فقط، وتركتم صناعات الحروب كالسيوف والدروع وملحقات ذلك الآن كالطائرات والصواريخ، ونحو هذه الأسلحة التي تكف شر عدوكم بإذن الله، وانعكفتم على الحرث؛ فإن عدوكم سيتسلح ويتسلط عليكم، فيسلب ما بأيديكم وينزل بأسه بكم، ولكن إذا تسلحتم وتقويتم مع هذه الآلة فإنكم ستأمنون شر أعدائكم، فهذا هو الفهم الصحيح، أما ديننا فإنه يدعو إلى الزرع والحرث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -وهي: النخلة الصغيرة التي لا تنبت إلا بعد سنوات طويلة- فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها) ، فلا يتركها، فإما أن يزرعها هو وإما أن يمنحها أخاه. إلى غير ذلك من النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، وهي نصوص في غاية الكثرة. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة:63-64] أي: تنبتونه وتخرجونه {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:64-65] محطماً مدمراً {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:65-67] أي: لظلتم تتعجبون مما حدث وتضربوا بيد على الأخرى قائلين (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) . وقوله تعالى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة:66] فيه قولان: قيل: إننا كنا ننتظر الناتج للثمرة حتى نسدد بها الديون، والآن قد دمر هذا الزرع، فوقعنا في الغرم وهي الاستدانة، فطائفة منهم يقولون: إنا لمغرمون، وطائفة أخرى تقول: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:67] ، وقيل: هي طائفة واحدة تقول هذا ثم تقول: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:67] . قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:68] استدل بذلك بعض أهل العلم على أن الشرب يكون بعد الأكل، وقد خالف بعض أهل الطب في ذلك فقالوا: إن الشرب بعد الأكل مضر، ولكن من العلماء من استأنس بهذه الآية، وبقوله تعالى -مع الفارق-: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:51-52] إلى قوله: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة:54] ، وهنا قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:63] ، ثم عقب بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:68] . {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69] فالله هو الذي سخر السحاب، وهو الذي أنزل منها ماءً ثجاجاً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تجديد عقد الزواج بعد الإسلام

حكم تجديد عقد الزواج بعد الإسلام Q النصراني إذا أسلم هل يعقد مع زوجته عقداً جديداً؟ A إذا أسلم النصراني فإنه لا يعيد العقد؛ وذلك لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا كفاراً كلهم قبل البعثة، ولما أسلموا لم يؤمر أحد منهم بعقد جديد، والأثر الذي ورد أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدت عقداً جديد على زوجها أبي العاص بن الربيع بين عبد شمس لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحكم بعد زواج المرأة بدون ولي والبناء عليها

الحكم بعد زواج المرأة بدون ولي والبناء عليها Q إذا تم الزواج بدون ولي، وقد دخل بها الزوج وانتهى الأمر، فهل يستمر الزواج أم لا؟ A في الحقيقة أن هذه قرائن تحملنا على شيء معين، صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا نكاح إلا بولي) ، وصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل) ، فقد ورد في النهي عدة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قد تم الزواج، وبنى بها الزوج، وأنجبت منه، ثم بعد ذلك هدى الله الزوج والزوجة للبحث في الدين فوجد أنه لم يتزوج بولي، وفي الحقيقة أن مثل هذه المسألة يرجى أن تدخل تحت نكاح الشبهة، ويستمر العقد صحيحاً ما دام أنه قال به بعض أهل العلم، لكن كإبعاد لأي شبهة وأي شك؛ يقول الولي لهذا الزوج: زوجتك ابنتي، ويقول الزوج: قبلت، وينتهي الإشكال. ذات مرة اتصل أحد الإخوة يسأل سؤالاً ويقول: كان في أمريكا هو وزوجته، وبعدها طلق هذه الزوجة، ورجعت إلى مصر، وبعد أن رجعت إلى مصر أقنعه أصحابه أن يرجع لزوجته، فوكل أخاه بإتمام موضوعات الزواج، فتمت الموضوعات، وأرسلت الزوجة بعقد رسمي موثق من المأذون الشرعي إلى أمريكا مرة ثانية، فعاشرها ثلاث سنوات جديدة، ثم علم بعد ذلك أنها هي التي زوجت نفسها، فاتصل بأحد الإخوة المشايخ -الله يغفر له- وحكى له الموضوع. فأجاب هذا الشيخ وقال له: ترجعها حالاً، فالعقد باطل! فرجع الرجل مع زوجته من أمريكا يسأل: ماذا يصنع؟ سبحان الله (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ، فكان المفروض أن يقول هذا الشيخ لهذا الرجل: اتصل بوليها من عندك وأخبره الخبر، ثم يقول: اطلب منه أن يقول: زوجتك ابنتي أو أختي على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إلى المجيء من أمريكا، لكن كلفه هذا الشيخ عفر الله له سفراً من أمريكا هو وزوجته إلى مصر، صحيح أنه قد تم النكاح، ونحن نرى أن هذا رأياً مرجوحاً، لكن من العلماء من يجيزه، كـ أبي حنيفة أما نحن فلا نجيزه ابتداءً، لكن في مثل هذه الأحوال يؤخذ بالقول الذي يعمل به في البلاد كالمحاكم وإن كان مرجوحاً؛ لأنه لا بد من قواعد تضبط الناس. فالشاهد: أن المسألة فيها تفصيل واسع، والأحناف يستدلون بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (الثيب أحق بنفسها) ، وإن كان الجمهور من أهل العلم فسروا قوله عليه الصلاة والسلام: (الثيب أحق بنفسها) بقولهم: لها الحق أن تنتقي الزوج الذي تريد، لكن ليس لها حق في العقد، أما الأحناف فقد استدلوا بعمومه على جواز الزواج بلا ولي للثيب خاصة، وهذا رأي مرجوح لكن قد تم الزواج عند المأذون الشرعي، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له) فعقد المأذون يقوم مقام الولي في غياب الولي، وليس في حضور الولي، فكان الأيسر أن يفتى في مثل هذه المسألة بقوله: اجعل وليها يزوجك في الهاتف؛ فالتزويج غيابياً جائز، والطلاق غيابياً جائز، فإن كانت المرأة في دولة كأمريكا -مثلاً- وأولياؤها في مصر، ولم تستطع أن تتصل بهم، ولم يستطع أهلها أن يأتوا إليها، ولكن لا تعلم رفضاً منهم، فيجوز في مثل هذه الأثناء أن توكل شخصاً بتزويج نفسها. وقد عرضت هذه المسألة مرة في امرأة عضلها أولياؤها بلا سبب شرعي، ولا يريدون منها أن تتزوج، وقالوا لها: أنتِ تزوجتِ وأخذتِ نصيبكِ، فلا تتزوجي مرة ثانية! وهناك أولياء جهلة يمنع البنت من الزواج مع أنها ستقع في فتنة، فبحثنا بحثاً شديداً عن مخرج لهذه المسألة، إلى أن وفق الله إلى قول طيب للإمام مالك رحمه الله! فقد قال مالك: إنها تنصب لنفسها ولياً آخر ويكون رجلاً صالحاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل جعفر وابن رواحة وزيد بن حارثة قال: على القوم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فـ جعفر، فإن أصيب جعفر فـ عبد الله بن رواحة، فشاء الله أن يقتل الثلاثة، قتل زيد ثم قتل جعفر ثم قتل ابن رواحة، فوقف المسلمون بلا أمير، وليس هناك أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاصطلح المسلمون على خالد، فأخذ منها مالك أن المسلمين يصطلحون على تنصيب ولي لهذه المرأة أو تنصب ولياً شرعياً إذا كان الرفض ليس له مبرر شرعي، مثلاً: قالوا لها: لا نريدك أن تتزوجي، ففي مثل هذه الحالة نقول: إن الله لا يحب الفساد، والله أباح لها أن تتزوج، لكن إذا قالوا لها: لا نريد منك أن تتزوجي بفلان بعينه، ففي هذه الحالة نقول: معكم حق إذا كانت الكفاءة غير موجودة في هذا الشخص بعينه، والله أعلم. وكذلك البكر؛ إذا كان أبوها لا يريد منها أن تتزوج أبداً دون أي سبب شرعي! قلنا لها: وكلي أي شخص، فتنتقل الولاية إلى الأخ، فإذا كان الأخ غير موجود فتنتقل إلى العم، فتنتقل الولاية للعصبات واحداً تلو الآخر، فإن فقد الأولياء تماماً، أو أن كلهم لا يريدون لها أن تتزوج أبداً، وهي تريد أن تعف نفسها بالزواج وقالت: اختاروا لي أي شخص أتزوجه، فأبوا جميعهم، فعند ذلك: (السلطان ولي من لا ولي له) .

حكم الصلاة بالنعال

حكم الصلاة بالنعال Q هل أصلي في النعل، وخاصة أن الظروف تتاح لذلك؛ لأن معظم صلاتنا على الأرض، ولكن ذلك أثار فتنة شديدة حولي، فهل أستمر على ذلك؟ A بالنسبة للصلاة في النعال، الأدلة عليها تقارب خمسة عشر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا كان فيها أذى تزيل الأذى وتصلي فيها، وإذا كان المسجد سيتسخ بالتراب الذي على النعلين فقد أمرنا على الجملة بتطهير المساجد وتنظيفها وتوقيرها، وإذا لم يكن هناك اتساخ وكانت النعل نظيفة لا تؤثر على فراش المسجد فلا بأس أن تصلي في النعلين بشرط: ألا تحدث فتنة في المسجد، فالناس قد لا يفهمون وجهة نظرك، أما إذا كان الشخص غبياً فيحاربك إذا بينت السنة، فعليك أن تتلطف في إظهار سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً ثم تقدم على فعل السنة، بمعنى: لا بأس أن تقيم محاضرة في مسألة شرعية الصلاة في النعال وتبين المسألة من جميع الوجوه، وبعد ذلك تقدم على الصلاة في النعال. ومن الأدلة على جواز الصلاة بالنعلين: ما ورد في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أنه: (سئل: أكان النبي يصلي في النعلين؟ قال: نعم) .

حكم زواج المرأة بدون ولي

حكم زواج المرأة بدون ولي Q هل يجوز للمرأة أن تزوج نفسها؟ A قال الرسول: (لا نكاح إلا بولي) ، فلا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها.

الحث على حفظ كتاب الله مع مواصلة دراسة الجامعة

الحث على حفظ كتاب الله مع مواصلة دراسة الجامعة Q أخونا يقول: إنه يدرس الدراسة الجامعية، ويريد أن يؤهل نفسه أثناء الدراسة لحفظ القرآن، فبماذا تنصحونه؟ A احفظ القرآن مع مواصلة دراستك في الجامعة.

حكم لبس (الكرفتة)

حكم لبس (الكرفتة) Q ما حكم لبس (الكرفتة) ؟ A الكرفتة تخنقك فقط كما قال بعض المشايخ حفظه الله، وقد سئل شخص عن رجل يلبس (البنطلون) فقال: انظروا إلى هذا الغبي؛ فإنه يوسع حيث يحتاج الأمر إلى تضييق، ويضيق حيث يحتاج الأمر إلى توسيع! فالكرفتة ما هي إلا خنقة تخنق بها نفسك.

النصح أولا

النصح أولاً Q لي زميل في العمل يسرق، فقمنا بإبلاغ المدير عنه فنهره المدير بشدة في أول الأمر، ثم اعتذر لهم مع علمه بالسرقة، واعتدل الزميل فترة من الزمن ثم عاد من جديد إلى السرقة، والآن المدير يعلم، ولكن شخصيته ضعيفة أمامه ولا يستطيع عمل شيء، فهل نقوم بإبلاغ صاحب الشركة؟ A أولاً تنصح، فإذا ما قبل نصحك بلغ صاحب الشركة: (فمن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) .

حكم إعانة شخص على شراء تلفاز

حكم إعانة شخص على شراء تلفاز Q شخص يريد مني المساعدة في شراء التلفاز لمشاهدة كرة القدم، فهل أساعده؟ A لا تساعده؛ لأنه ليس لك ثواب في مساعدته، بل عليك عقاب.

عدم اشتراط الصلاة على النبي بعد الانتهاء من الدعاء

عدم اشتراط الصلاة على النبي بعد الانتهاء من الدعاء Q هناك حديث أن الدعاء لا يقبل إلا إذا انتهى بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام؟ A ليس هذا الكلام بصحيح، فإن النبي قد دعا بعدة دعوات ولم يصلِّ فيها على نفسه، والصحابة دعوا بعدة دعوات ولم يصلوا فيها على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الأفضل والأولى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم رفع اليدين عند الدعاء في خطبة الجمعة

حكم رفع اليدين عند الدعاء في خطبة الجمعة Q مسألة الإشارة بالأصبع في الدعاء؟ A روى أبو داود ومسلم أنه: (رأى عمارة بن رؤيبة بشر بن مروان رافعاً يديه يدعو بها في خطبة الجمعة، فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو وما يزيد على أن يشير بأصبعه) ، وهذا الحديث في الحقيقة فهمه مشكل شيئاً ما، فـ عمارة في الحقيقة صحابي مقل، رأى بشر بن مروان -وهو أمير- يدعو في خطبة الجمعة رافعاً يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر لا يزيد على أن يشير بإصبعه) هذا الحديث كيف سيفهم؟ حمل هذا الحديث بعض العلماء على ظاهره، لكن أولاً عمارة بن رؤيبة ما أورد أن الرسول نهى أن ترفع يديك، ما أورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: لا ترفع اليدين معاً أثناء الدعاء لكن عمارة رأى أن هذا إحداث لكون بشر بن مروان خالف مكان رفع الإصبع ورفع اليدين، لكن هل الرسول صلوات الله وسلامه عليه نهى عن رفع اليدين معاً أثناء الدعاء؟ أم أن عمارة رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في منظر فبنى عليه أنه لا يجوز خلاف هذا المنظر أو هذا المشهد؟ وعلى كل، ذكر العظيم أبادي في شرحه لسنن أبي داود في عون المعبود معنيين للحديث، وهناك اختلاف في رواية هذا الحديث، فبعض الروايات أنه قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه في الخطبة) ، ورواية أخرى تقول: (يشير بأصبعه في الدعاء في الخطبة) ، فالرواة الأكثر والأثبت رووا بلفظ: (يشير بأصبعه في الخطبة) ، وبعض الرواة -ولا تعارض- قيدها بالدعاء، أي: بعض الرواة أطلق، وبعض الرواة قيد، فمن العلماء من قال: إن الأصبع يشار بها أثناء الدعاء، ويكره أن تمد يديك، هذا قول بعض العلماء، واعترض عليه بوجوه: قالوا: لم يكن من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يشير بأصبعه عند الدعاء، فما ورد في أي حديث أنه كان يشير بأصبعه عند الدعاء إلا في هذا الحديث. ثم إن عموم المرويات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الدعاء أنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه. ثم شيء ثالث، قالوا: من الأوجه لتوجيه هذا الحديث هو: أن هذا من شأن الخطباء الذين يقبلون ويدبرون بأيديهم في خطبهم كي يلفتوا أنظار السامعين، فاختار شمس الحق العظيم أبادي في تعليقه هذا الوجه وحاصل قوله: إن بشر بن مروان، كان يفعل هذا، ويشير باليدين معاً كإيضاحات لمن يستمعون خطبة الجمعة، فيشير يميناً ويساراً ومقبلاً ومدبراً، ويفتح يديه ويغلقهما كما يفعله سائر الوعاظ في خطبهم، فنهاه عمارة بن رؤيبة عن هذا النوع من الإحداث وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه فقط، فالمعنى الأول: أنه يشير بأصبعه على ظاهره، أي: أنك إذا دعوت فإنك تشير بإصبعك أثناء الدعاء، ولا تفتح اليدين، واعترض على هذا المعنى من وجوه: أولاً: الرسول لم ينه عن رفع اليدين معاً، وإنما هذا فهم فهمه عمارة بن رؤيبة. ثانياً: أن أكثر الرواة رووا الحديث مطلقاً بالخطبة، وليس مخصوصاً بالدعاء. ثالثاً: أن هناك وجهاً آخر وهو أن بشر أحدث شيئاً لم يكن من هدي عليه الرسول عليه الصلاة والسلام من الإيضاحات باليد إقبالاً وإدباراً وتأخراً وتقدماً ورفعاً وخفضاً، فهذا الذي استنكره عمارة على بشر بن مروان. وعلى كلِّ: فالمسألة من أصلها استنكار من عمارة بن رؤبية لـ بشر، فـ عمارة هو الذي رأى أن هذا مستنكر، ويعاقب بالتقبيح، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك، فلو جاء شخص وأقبل بيديه وأدبر بهما في الخطبة، فهل نقول له: لعن الله هاتين اليدين، بناءً على أن بعض الصحابة رضي الله عنهم فهم هذا الفهم؟ هذا لو نقله صحابة مجالسون للرسول صلى الله عليه وسلم عن الرسول في عموم خطبه لقبلنا منه هذا القول، لكن هذا صحابي رضي الله عنه مقل، صحيح أن قوله ثقة لا شك؛ لكنه مقل، وقد جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه ما عاشره كبير معاشرة، ومثل هذا حديث الرجل الذي جاء والرسول عليه الصلاة والسلام فاتح الأزرار، فذهب هذا الرجل -وهو معاوية بن قرة - وما أغلق أزراره في صيف ولا شتاء، فهو مأجور على كل حال، لكن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ما نقلوا هذا عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فلنفهم الأحاديث على وجهها ليست الصحيح خير لنا من أن نلعن ونقبح، والصحابي له اجتهاده في اللعن أو التقبيح، ولعله رأى صورة من الصور ليست مرئية لدينا، إذ الأمويون كانوا مشهورين بالإحداث في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.

مسألة جلسة الاستراحة

مسألة جلسة الاستراحة Q ما حكم جلسة الاستراحة؟ A هذه الجلسة لخدمة القيام وليست ركناً ولا واجباً، وهناك قولان في هذه المسألة، فهناك مرجحات لمن قالوا بجلسة الاستراحة، قالوا: إن الرسول قال لـ مالك بن الحويرث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وقد رآه مالك مالك وهو جالس جلسة الاستراحة، ولو كانت هناك صورة مستثناة لبينها الرسول عليه الصلاة والسلام، فأجاب الأولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) بالجملة، ولا يلزم من هذا التقييد؛ فمثلاً: إذا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة لا يكون لزاماً علينا أن نقرأ بها، فهذان القولان للعلماء في جلسة الاستراحة، ومما يؤيد وجهة من قال بجلسة الاستراحة أن في بعض طرق حديث أبي حميد الساعدي ذكر جلسة الاستراحة، فالمسألة فيها الوجهان لأهل العلم، فإن اخترت أي القولين فلا بأس عليك ولا جناح عليك، وإن كان الذي يستقر في نفسي أنني أجلس، لحديث البخاري الصريح في ذلك، لكن لا أستنكر الوجهة الأخرى. واسمحوا لي بالحديث عن وضع اليد اليمنى على اليسرى، فوضع اليد اليمنى على اليسرى الأمر فيها محسوم إلى حد كبير؛ لحديث سهل بن سعد: (أمرنا بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) وحديث وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى) ، لكن هنالك من الفقهاء من قال: إن اليد اليمنى وضعها الرسول على اليسرى من أجل الدم، أي: من أجل أنه كان يقف ويطيل الوقوف فإذا وقف وأطال الوقوف، نزل الدم من يديه إلى أطراف الأصابع، فكان حينئذٍ يرفع اليد حتى يرجع الدم مرة ثانية إلى سائر اليد، كما يقول -مثلاً- أطباء العظام في اليد المكسورة أنها ترفع لأعلى حتى لا يتسرب الدم إليها فتثخن أو تمتلئ دماً، فهذا قول من الأقوال، لكنه قول مرجوح لحديث: (أمرنا بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) . وهنا أحد الإخوة يسأل عن العمرة وأركانها من أول النية وحتى العودة، فأرجو من الإخوة القائمين على المسجد حفظهم الله تعالى كالشيخ محمد غريب والشيخ فتحي أن ينظموا محاضرة في كيفية عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحتاج إلى محاضرة أخرى في قيام الليل كتوطئة لدخول شهر رمضان.

تفسير سورة الواقعة [3]

تفسير سورة الواقعة [3] أقسم الله تعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم، ثم ذكر أن هذا قسم عظيم، والمقسم عليه هو القرآن الكريم كلام الله تعالى، فأقسم الله أنه قرآن كريم، محفوظ في لوح مصون من أي تلاعب أو تحريف، وأنه نزل من عند الله تعالى، وفي هذا تعظيم لشأن القرآن الكريم. ثم ختم الله سبحانه وتعالى سورة الواقعة بتلخيص لأحوال الأصناف الثلاثة الذين ذكرهم في بداية السورة، فذكر مصيرهم يوم القيامة، وهم: المقربون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال.

نار الدنيا تذكر بنار الآخرة

نار الدنيا تذكر بنار الآخرة باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] (تورون) من العلماء من قال: معناها: تقدحون. أي: تقدحونها أو تستخرجونها، كما في قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:1-2] (فالموريات) : هي الخيل التي تضرب بحوافرها على الحجارة فيخرج منها ذلك الشرر، فيقال: إن الخيل أورت هذه النار. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} [الواقعة:71-72] من العلماء من قال: إن المراد بالشجرة هنا: الشجرة التي توقد فتخرج منه هذه النيران، ومنهم من قال: هي شجرة مخصوصة كان يؤخذ منها بعض الخشب وبعض المواد فباحتكاكه تستخرج النار. قال تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] ما المراد بقوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] ؟ جمهور العلماء قالوا: تذكرة بنار جهنم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: إن كانت لكافية يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً) ، فقوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] أي: جعلناها تذكرة بنار الآخرة. وقال تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] المقوون هم: المسافرون. {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] فالمقوون هم: المسافرون، ولقائل أن يقول: إن هذه النار هي متاع للحاضرين وللمسافرين، فكما أن المسافر يحتاج إليها فكذلك الحاضر يحتاج إليها، فلماذا قيل: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] ؟ هذا كما قدمنا يلفت نظرنا لشيء ألا وهو: أن المستفيد الأعظم والأكبر من النار هم أهل الأسفار الذين كانوا يقطعون الفيافي والقفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في أسفارهم يحتاجون إلى النيران، للاستضاءة، والتدفئة والطهي عليها، فاحتياجهم إليها أكثر من أهل الحضر، فقال تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] لأن المستفيد الأكبر منها هم المسافرون، ومن ثم قال موسى لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7] ، فالحاضر مستفيد والمسافر مستفيد، لكن المستفيد الأكبر هم أهل السفر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك نسبت الاستفادة إليهم، ونسب المتاع إليهم، وهذا وارد في عدة آيات وعدة أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، فقد يقول قائل: إن هذا الحديث يفيد الحصر فلا يشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم -في ظن هذا القائل- إلا لأهل الكبائر، ثم يرد أيضاً كيف (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) والنبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن شفاعته: (إنها نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك بالله شيئاً) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليّ، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة) ، وهذا ليس من أهل الكبائر، فلقائل أن يستمر في سؤاله فيسأل: ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ؟ فيجاب عليه بما يجاب في قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] أن شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأهل الكبائر ولغير أهل الكبائر، لكن المستفيد الأكبر من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الكبائر، فصحيح أن هناك أناساً ترتفع درجاتهم في الجنان بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المستفيد الأكبر من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الكبائر فنسبت الشفاعة إليهم لكونهم المستفيد الأعظم من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونحوه في الحديث الذي في إسناده بعض الكلام: (ألا إنها ليست للمتقين ولكنها للمتلوثين الخطائين) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إنها ليست للمتقين) أي: ليس المستفيد منها بالدرجة الكبرى المتقون، فالمتقون يستفيدون من شفاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن الذي يستفيد أكثر وأكثر هم الذين قد استوجبوا النار أو قد ورد في شأنهم أن النار لازمة لهم فأنجاهم الله بفضل شفاعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذاً: اندفع الإشكال الوارد في قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] ، وقدمنا أن التذكرة هي التذكرة بنار الآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم التسبيح في الركوع والسجود

حكم التسبيح في الركوع والسجود قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] {فَسَبِّحْ} أي: نزه {بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} : من العلماء من قال: إن (الباء) هنا زائدة، والمراد: سبح اسم ربك العظيم، أي: نزه اسم ربك العظيم عن كل ما يلحد به الملحدون في أسمائه سبحانه وتعالى، ونزه اسم ربك عن كل نقص وعن كل عيب، فلا تفعل كما يفعل أهل الشرك إذ يشتقون من اسم الله اللات ويطلقونها على صنم، أو يشتقون من اسم العزيز العزى ويطلقونها على صنم آخر، فقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] من أهل العلم من قال: معناها سبح اسم ربك العظيم، وقد ورد نحو هذا في قول الشاعر: تمنَ ابنتاي ألا يموت أبوهما وهل أنا إلا من ربيع أو مضر فقوما وقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتبر وقد قدمنا ما في ذلك، قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (اجعلوها في ركوعكم) ، وكذلك لما نزل عليه {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في سجودكم) . وهل قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم) يفيد الوجوب؟ كثير من أهل العلم يرون أن ذلك للاستحباب لتنوع الأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركوع، والسجود، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) وثبت أنه كان يقول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) ، وثبت أنه كان يقول: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي) ، إلى غير ذلك من الأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركوع، فلتنوع هذه الأذكار ذهب كثير من العلماء إلى أن {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قولها ليس بواجب، ومن تركها فصلاته صحيحة، وإن لم يقل شيئاً أصلاً فالصلاة كذلك صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم المسيء في صلاته فقال: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر) ، ثم جاء إلى الركوع فقال: (اركع حتى تطمئن راكعاً) ، ولم يوجب عليه في هذا الركوع شيئاً، وقد قال كثير من أهل العلم: إن حديث المسيء صلاته قد جمع أركان الصلاة، هذا والله سبحانه وتعالى أعلم. أما من استبدلها، فمثلاً: استبدل (سبح اسم ربك العظيم) بسبحان ربي الأعلى، فقال: (سبحان ربي الأعلى) في الركوع، وقال: (سبحان ربي العظيم) في السجود، فهل يلزمه سجود سهو أو لا يلزمه؟ ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يلزمه أن يسجد للسهو، وذلك لأن (سبح اسم ربي الأعلى) في الركوع داخلة أيضاً في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب) ، وكذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا، يذكره ما لم يكن يذكر، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحد فليسجد سجدتين -وفي بعض الروايات- قبل أن يسلم -وبعضها- بعد التسليم) . فالشاهد في: (حتى لا يدري كم صلى) فهي في الأركان، والله سبحانه وتعالى أعلم، ثم إن الخلاف في هذه المسألة وارد أيضاً.

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم)

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم) قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] من أهل العلم من قال: إن معنى الآية الكريمة: أقسم بمواقع النجوم. وقد يقول قائل: كيف يقول ربنا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] وتقولون: تأويلها: أقسم بمواقع النجوم؟ وكيف يقول الله سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] وأنتم تقولون: معناها أقسم بهذا البلد، فقلبتم النفي إثباتاً؟ فالإجابة: إن الحامل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أقسم بمواقع النجوم وأقسم بالبلد، فهذا الذي حملنا على أن نقلب هذا الذي زعمت أنه نفي إلى إثبات، أما قسمه بالبلد فقد قال الله تعالى، وقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3] . أما قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] فقد قال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] . فأقسم بالنجم عند سقوطه، وقال سبحانه: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] فأقسم الله أيضاً بالطارق وهو النجم الثاقب كما في الآية الكريمة، فهذا يلزمنا أن نأتي بتأويل وجيه لقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] ، وقد تقدمت أمثلة لهذا متعددة، فمن العلماء من قال: إن كلمة (لا) هنا زائدة، وفي لغة العرب تأتي أحرف أحياناً زائدة، ومن العلماء من قال: إنها صلة لتقوية الكلام كما قدمنا مراراً، أي: إذا قلت: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] أقوى من أن تقول: فأقسم بمواقع النجوم، فجاءت (لا) صلة لتقوية الكلام، كما أقول لك: إذا ما جئتني أكرمتك، ويصلح أن أقول: إذا جئتني أكرمتك، لكن قوة: إذا ما جئتني أكرمتك أقوى من قولنا: إذا جئتني أكرمتك. ولهذا أمثلة ونماذج قدمناها مراراً كما في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] أي: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك. وكما في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد:29] فالمعنى: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء، وكما في قوله تعالى كذلك: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: أنهم يرجعون، أي: محرم على قرية أن أهلكت إن يرجع أهلها مرة ثانية إلى هذه الحياة الدنيا. فقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] قسم، ومن الأدلة على أنه قسم: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] ، (مواقع النجوم) من العلماء من قال: أماكن سقوط الثريا، أي: الأماكن التي تسقط فيها هذه النجوم، أو التي تدور فيها هذه النجوم، ومن العلماء من نحى منحى آخر فقال: إن المراد بقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] مواطن نزول الآيات، فقال: إن القرآن نزل منجماً، فكانت الواقعة تحدث فتنزل فيها الآية، فهذه الأوقات والمواطن التي تنزل فيها الآيات عند حدوث الوقائع تسمى نجوماً، فيقال: القرآن نزل منجماً، يعني: مفرقاً على حسب الوقائع، فقال فريق من أهل العلم: إن مواقع النجوم أوقات نزول الآيات. {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] في هذا ما يشير إلى أن الأقسام منها أقسام عظيمة، ومنها أقسام دونها في العظم، فالأيمان تتفاوت، فهناك لغو يمين، وهناك يمين منعقدة، فاليمين المنعقدة أقوى من لغو اليمين بل لغو اليمين لا يؤاخذ عليها العبد، والأيمان المنعقدة -في نفسها- تنقسم إلى أقسام، فالأيام المنعقدة التي تتكرر كأن تقول: أقسم بالله العظيم. أقسم بالله العظيم. أقسم بالله العظيم؛ أقوى من قولك: أقسم بالله. مرة واحدة. ومن العلماء المالكية من فسر قوله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] قال: توكيد اليمين هو تكريرها. والأيمان التي تنشأ ابتداءً أقل رتبة في العظم من الأيمان المصبورة التي يحبس عليها صاحبها، والأيمان المصبورة التي حبس عليها صاحبها أيضاً تتفاوت في العظم، فمثلاً: إذا حبس شخص بعد الصلاة كما قال الله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة:106] أي: صلاة العصر، فإذا حبس في مسجد كمسجد التوحيد -مثلاً- فليس ذلك كمن يحبس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقواها رجل حبس على يمين بعد صلاة العصر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه أعظم من اليمين الأخرى، وإن كانت كلها أيمان منعقدة. قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:76-78] والمكنون هو: المحفوظ.

تفسير قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون)

تفسير قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) قال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] والمس له معان متعددة، فأحياناً يطلق على اللمس باليد، ومنه قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (والله! ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط) ، فالمس هنا أطلق على اللمس باليد، وأحياناً يطلق المس على الجماع كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فالمس هنا المراد به: الجماع، وأحياناً يطلق المس على التذوق، وأحياناً يطلق المس على عموم التعامل كما في قول موسى عليه السلام للسامري: {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] أي: لن يتعامل معك أحد، ولن يقترب منك أحد، على قول بعض المفسرين. فقول تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] . من العلماء من قال: إن المراد بالمس في هذه الآية اللمس باليد أو بالجارحة، ثم قال: إن المراد بالمطهرون هنا هم الملائكة. واختلف المفسرون في قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] اختلفوا في (الهاء) التي في قوله: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] إلى من ترجع؟ فمن العلماء من قال: راجعة إلى المصحف الذي بين أيدينا، ومنهم من قال وهم الأكثر: إنها راجعة إلى المذكور في الآية وهو الكتاب المكنون، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77-78] أي: كتاب محفوظ لا يمس هذا الكتاب المكنون إلا المطهرون وهم الملائكة، واستدلوا لذلك بقول الله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:13-16] ، فآيات سورة عبس فسرت بها آيات سورة الواقعة، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77-78] أي: محفوظ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] وهم الملائكة، والسفرة: هم الملائكة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة) ، فهذا وجه للمفسرين، وعليه أكثرهم. ثم أيدوا قولهم بأن قالوا: في الحياة الدنيا قد يتجرأ كافر ويلمس القرآن، فقد يأتي نصراني نجس أو يهودي جنب أو مشرك خبيث المعتقد ويمس القرآن، بل الآن هناك من يطبع القرآن في دول الكفر، وأفخر الطبعات للمصاحف تأتي من بلاد الأوروبيين. وأوردوا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الشرك) مخافة أن يناله المشركون بالتدنيس والتلويث. ومن العلماء من قال: إن المراد بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] أي: المصحف الذي بين أيدينا، ثم اختلفوا في (المطهرون) من هم؟ فقال فريق من أهل العلم: إن المراد بالمطهرين المؤمنون، وغير المطهرين هم المشركون؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] . ثم قال فريق منهم أيضاً: إن قوله: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] أي: لا يتذوقه ولا يعرف حلاوته ولا يفهمه إلا أهل الإيمان، أما من حجب عن هذا القرآن من أهل الكفر فلا يفهم معانيه ولا يتأملها. قول ثالث: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] أي: لا يلمسه إلا المطهرون من الأحداث، أي: من الجنابة ومن الحدث الأصغر، واستدلوا بهذا القول بحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، وهذا الحديث بكل طرقه لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو ضعيف من كل الطرق وأشار إلى هذا الضعف الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، فتبين -والله سبحانه أعلم- أن المراد بـ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] الكتاب المكنون، والمطهرون هم: الملائكة؛ وذلك لأن سياق الآيات يدل على أن القرآن الكريم في الكتاب المكنون، وقوله: (لا يمسه) الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والثاني: أنه فسر بآيات سورة عبس، وثم وجوه أخر لترجيح هذا الوجه، وقد قال به جمع كبير من المفسرين، والله سبحانه وتعالى أعلم. على ذلك: إذا جاء شخص يقول: هل لغير المتوضئ أن يمس المصحف؟ فلقائل أن يقول بناءً على هذا التأويل السابق الذي هو تفسير المطهرين بالملائكة: لا أعلم دليلاً صحيحاً صريحاً يمنع من مس المصحف، أما من اختار أن المطهرين هم المطهرون من الأحداث وغيرها، فحينئذٍ يمنع الجنب والذي ليس على وضوء من مس المصحف، وكذلك يمنع الحائض، أما الذي يرى التأويل الأول فحينئذٍ لا يمنع من مس المصحف. فعلى ذلك: هذه المسألة خلافية، فإذا تبين لك رأي فخذ به، ولا تشدد على من تبنى الرأي الآخر.

تفسير قوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون)

تفسير قوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) وقوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81] هذا الخطاب لمن؟ هل هو لأهل الإيمان أم هو لعموم الخلق أم هو لأهل الكفر؟ من العلماء من قال: إنه لأهل الإيمان، فمعنى (مدهنون) من الإدهان وهو: الممالأة لأهل الباطل كما قال سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] أي: تميل فيميلون، أو تلين فيلينون، أو تقرهم على باطلهم فيقرون، فمن العلماء من قال: الخطاب موجه لأهل الإيمان، والله سبحانه وتعالى يتعجب من أهل الإيمان في قوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81] أي: عندما تداهون هؤلاء الكفار في هذا الكتاب العزيز!

التحذير من استعمال نعم الله في معصيته

التحذير من استعمال نعم الله في معصيته قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] رزقكم هنا من العلماء من قال: شكركم، أي: تجعلون الشكر الذي ينبغي أن يقدم على نعم الله تجعلون مكان هذا الشكر تكذيباً، {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة:82] يعني: نصيبكم من نعم الله عليكم التكذيب، وكما في قصة الحديبية، عندما أصبحوا على إثر سماء فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال ربكم: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فهذا مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب) أي: النعم تأتي إليكم ويفترض أن تقدموا لها شكراً، لكنكم تقدمون لهذه النعم تكذيباً، فهل هذا يليق؟! بعض العلماء يجعل هذه الآية الكريمة أصلاً في أنه لا يستعان بنعم الله على معصية الله، فكثير من الناس يقع في هذا الجرم، فيستعين بنعم الله على معصية الله سبحانه وتعالى، فمثلاً: رجل ينعم الله عليه بأن يدخل بيته تلفوناً، فهذه النعمة من الله سبحانه يقلبها إلى نقمة ويجعل شكرها أنه يتصل بالفتيات والنساء للغزل، ولقبيح الكلام، وللهجر من القول، وآخر ينعم الله عليه بسيارة فيمشي بها مختالاً فخوراً متكبراً على الناس، فنصيبه من هذه النعمة التكبر والتعالي على الناس والغرور والتباهي، وآخر ينعم الله عليه بأن يأخذ مثلاً درجة أستاذ في الكلية فتجده يمشي وقد انتفخ وانتفش كأن ما على الأرض إلا هو، وكأنه سيخلد في الحياة الدنيا، وما شعر أن من تواضع لله رفعه، وأن الله ما زاد بعبد عفواً إلا عزاً، ولا يشعر بهذه المعاني أبداً إلا أنه يجعل حظه الثناء من الناس وحب الفخر وحب الظهور. فهناك طائفة كبيرة من الناس بل هم أكثر الخلق يجعلون رزقهم أنهم يكذبون، ويستعينون بنعم الله سبحانه على معاصيه عز وجل، فربنا يذكرنا ويحذرنا من ذلك، فقال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة:82] أي: حظكم التكذيب مع نعم الله عليكم التي يفترض أن تقدموا بالشكر لله عليها، فهل يليق هذا بمؤمن عاقل؟ إنه يفترض إذا أنعم الله عليك نعمة أن تقدم شكراً لله عليها، فالنبي الكريم سليمان صلى الله عليه وسلم لما رأى عرش ملكة سبأ مستقراً عنده ما تباهى ولا تطاول بل قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] ، وكما قال لما أفهمه الله لغة النمل تبسم ضاحكاً من قولها وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] ، فلا ينبغي أبداً أن تقدم على نعم الله كفراً وتكذيباً، إنما يجب أن تقدم لله شكراً وتواضعاً، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] .

تفسير قوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم)

تفسير قوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم) ثم ذكرنا الله سبحانه وتعالى وحذرنا فقال: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] وحذف المشار إليه لفهم العرب له، فالذي بلغ الحلقوم هو الروح، والكل يفهم ذلك، فإذا كان الكل يفهم ذلك، فلا معنى لإيراد هذه الكلمة ما دام الناس يفهمونها، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين. {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] أي: الروح بلغت الحلقوم. {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:84] وأنتم -يا أهل الميت- تنظرون إليه وهو محتضر، وتنظرون إليه والروح عند الحلقوم، {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:84-85] من العلماء من قال: إن المراد بـ (نحن) : ملائكتنا؛ لأن الله قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، ومنهم من قال: نحن أقرب إليه منكم، أي: بعلمنا ورؤيتنا واطلاعنا وإحاطتنا، فإن الله سبحانه مستوٍ على العرش، وهو في السماء كما وصف نفسه في جملة من الآيات. ويؤيد المعنى الأول -أن المراد: ملائكتنا- أن الله سبحانه قال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] لرأيت منظراً عظيماً {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93] أي: بالضرب: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] ، وقال في الآية الأخرى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال:50] لرأيت منظراً بشعاً {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] ، ضرب على الوجوه وضرب على الأدبار في ساعة الاحتضار، وأنت جالس ولكنك لا ترى هذه المناظر البشعة! وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا أتته ملائكة سود الوجوه، معهم مسوح ... ) الحديث إلى آخره، وفيه: (فيجلسون منه مد البصر، فيأتي ملك الموت فينتزع الروح من الجسد كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا يدعونها في يده طرفة عين) كل هذا يحدث وأنت جالس، ولكنك لا ترى شيئاً! يقول الله سبحانه: {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86] أي: لله سبحانه وتعالى، قيل: مجزيين، وقيل: محاسبين، وقيل: غير مدينين بفضل الله {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:87] .

أصناف الناس عند الموت

أصناف الناس عند الموت قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88] أي: أهل الدرجة العليا في الجنة هم المقربون الذين سلف ذكرهم في مطلع هذه السورة الكريمة في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11] ، فالجزاء في قوله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:89] . {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:90-91] للعلماء فيها أقوال: أحدها: فسلام لك قادم من أصحاب اليمين، أي: أصحاب اليمين يرسلون إليك السلام، ويستقبلونك بالسلام، سلام لك واصل وقادم إليك من إخوانك أصحاب اليمين، فهم يقرئونك السلام، ويبلغونك إياه. وقول آخر: (فسلام لك) أي: هنيئاً لك يا من دخلت في عداد أصحاب اليمين! وأمان لك يا من دخلت في عدادهم! وقال بعض أهل العلم: إن هذا السلام من الله سبحانه ومن الملائكة كذلك، فإن الله قال: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24] . ثم قال تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:92] أعاذنا الله وإياكم منهم {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة:93] هذه الإكرامية التي يكرم بها (نزل من حميم) أي: ماء يغلي وقد بلغ أعلى درجات الغليان، {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:94] يشوى على الجحيم -والعياذ بالله- ويصلاها، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة:95] قد سبق الكلام على حق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين بما حاصله: إذا ذكرت الكعبة، فكثير منا من رآها، ومنا من لم يرها، فالذي لم يرها يعلم يقيناً أن بمكة كعبة، فهذا علم يقين، لكن الذي رأها ارتقى في العلم من علم اليقين إلى عين اليقين؛ لأنه رآها بعينه، فإذا جاء ودخلها أو لمسها بيده صار عنده حق اليقين، فلذلك يسمع الناس أن هناك ناراً، فهذا لأهل الإيمان علم يقيني، فإذا رآها أصبحت عنده عين اليقين، فالذي دخلها في حقه تكون حق يقين، فالله سبحانه وتعالى قال عن كتابه وعبر عن هذا الكتاب بأعلى مراتب العلم فقال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة:95] .

الأسئلة

الأسئلة

صحة حديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا.

صحة حديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً.) Q ما صحة حديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً) ؟ A (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً) ، الحديث ثابت صحيح، لكن هذا في الشعر المذموم الذي قال الله في أهله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] ، أما سائر الشعر فإن الله استثنى فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] .

حكم تقبيل المرأة وهي حائض

حكم تقبيل المرأة وهي حائض Q هل يجوز للرجل أن يقبل امرأته وهي حائض؟ A نعم يجوز له ذلك.

حكم اتباع جنازة تحدث فيها بدع

حكم اتباع جنازة تحدث فيها بدع Q ما حكم المشي في الجنازة التي تقام فيها البدع؟ A امشِ فيها، وإن استطعت أن تغير البدعة بيدك أو بلسانك فافعل، فإذا لم تستطع فغيرها بقلبك، وامشِ فيها؛ لأن اتباع الجنازة من أجل الميت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تبعها حتى يصلى عليها، وتدفن فله قيراطان) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

الفرق بين اليمين المؤكدة ويمين اللغو

الفرق بين اليمين المؤكدة ويمين اللغو Q ما الفرق بين اليمين المؤكدة ويمين اللغو؟ A اليمين المؤكدة: أن تقسم بالله وتعقد القلب على هذا القسم، أما يمين اللغو كأن يقال لك: تعال واشرب معي الشاي، فقلت: لا، والله! فبهذه الصورة لا كفارة عليك.

عدم ثبوت حديث: (خير أمتي في المدن)

عدم ثبوت حديث: (خير أمتي في المدن) Q ما حال حديث (خير أمتي في المدن) ؟ A لا يثبت.

حكم لبس المرأة للجيبة

حكم لبس المرأة للجيبة Q أخت تريد أن تلبس بدل الجلباب (جيبة) وخماراً طويلاً فما رأيكم؟ A إذا كانت (الجيبة) واسعة ولا تجسم فلا بأس، وإذا كان الخمار طويلاً ويغطيها فالأمر واسع في ذلك.

تدليس الأعمش وسفيان

تدليس الأعمش وسفيان Q قال لي شخص: إن الأعمش وسفيان كانا مدلسين، فهل هذا صحيح؟ A الأعمش كان مدلساً، أما سفيان فتدليسه نادر جداً جداً، أما معنى المدلس، أن يحذف شخصاً حدثه، ويذكر شيخ شيخه، ويكون قد سمع من شيخ شيخه بعض الأحاديث، فالتدليس له صور فمثلاً: أشرف سمع الحديث من علي، وعلي سمع الحديث من خالد، وأشرف معاصر لعلي وخالد، وهو يسمع أحياناً من خالد، وأحياناً يسمع من علي، لكن هناك كلام معين بعينه سمعه أشرف من علي عن خالد، فجاء وقال: قال: خالد، وحذف علياً، فأنا أظن أن خالداً هو الذي حدثه مباشرة، لكنه أخفى عليّ أنه أخذه من علي، وعلي أخذه من خالد، فيقال: أشرف دلس في الإسناد، أي: حذف الواسطة، وقال: عن، فالتدليس له صور.

حكم إطلاق لفظة (عاقد القران)

حكم إطلاق لفظة (عاقد القران) Q ما رأيك بكلمة (عاقد القران) ؟ A لم ترد هذه الكلمة لا في الكتاب ولا في السنة، ولكن لنبدلها بما ورد في الكتاب والسنة: عقدة النكاح، فقد قال الله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235] أو تقول: عقد زواج. هذا، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدعاء للميت بعد دفنه

الدعاء للميت بعد دفنه Q هل الدعاء بعد دفن الميت عند القبر سراً أم يكون دعاءً جماعياً؟ A السنة بعد الدفن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح من حديث عثمان -: (استغفروا لأخيكم، وسلوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل) ، فيشرع لك أن تستغفر لأخيك الميت وتسأل الله له التثبيت، ولم يرد الدعاء الجماعي عن رسول الله ولا عن الصحابة رضوان الله عليهم.

صفة التيمم

صفة التيمم Q ما هي صفة التيمم؟ A أقوى صفات التيمم: أن يضرب الأرض ضربة واحدة، وينفخ فيها، ثم يمسح بهما الوجه واليدين إلى الرسغين، وقد بوب البخاري في صحيحه بباب: التيمم ضربة واحدة، وأورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عمار مع عمر لما أجنب عمار وتمرغ كما تتمرغ الدابة، قال: (إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك هكذا ضربة واحدة ومسح) .

حكم القراءة من المصحف في صلاة النافلة

حكم القراءة من المصحف في صلاة النافلة Q هل يمكن قراءة القرآن من المصحف في صلاة النوافل لمراجعة الحفظ؟ A أجازه فريق من أهل العلم.

استحباب صلاة الرجل للنافلة في بيته

استحباب صلاة الرجل للنافلة في بيته Q أيهما أفضل صلاة الرجل في البيت أم في المسجد بالنسبة لصلاة النافلة؟ A قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، هذا هو الذي يستشهد به؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام صلاها أصلاً في المسجد ثلاث ليال، وما امتنع عنها إلا خشية أن تفرض، وقد قال أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه: نعمت البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل. وقد سئل الإمام أحمد: أيصلي الرجل وحده في بيته أم يصلي مع الجماعة؟ قال: سنة المسلمين أحب إليّ.

استحباب صلاة المرأة في بيتها

استحباب صلاة المرأة في بيتها Q هل صلاة المرأة للتراويح في البيت أفضل أم في المسجد؟ A صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع الجماعة في المسجد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) ، ولكن إذا كانت الصلاة في المسجد تنشطها أو كانت لا تحسن الصلاة في البيت، ففي هذا وجه للأفضلية.

حكم المتاجرة باللحوم المستوردة

حكم المتاجرة باللحوم المستوردة Q ما حكم الاتجار في اللحوم المستوردة؟ A في الحقيقة: في النفس شيء من الاتجار في اللحوم المستوردة، لكن لا نستطيع أن نحرم، بل الأمر فيه كراهية لعدم معرفة مصدر هذه اللحوم بالضبط، وهل هي مذكاة شرعاً أم ليست مذكاة، فلا نقول بالتحريم، ولكن الأصل في اللحوم المستوردة إذا كانت من عند أهل الكتاب قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] ، ولكن الإشكال الذي يرد الآن ليس أن أهل الكتاب لا يذكونها على اسم الله فحسب، بل لا يذكونها على الطريقة المشروعة في التذكية، فالله أعلم إن كانت اللحوم المستوردة مذكاة شرعاً، فإن كانت مذكاة تذكية شرعية على طريقة أهل الكتاب فلا بأس، أما إذا كانت ليس مذكاة بل ماتت بالصعق أو نحو ذلك فهي حرام، لكن على ما هو حاصل الآن الأولى الابتعاد عنها، لكن القطع بالتحريم لا نطيقه.

الحث على سماع أشرطة الشيخ محمد حسان

الحث على سماع أشرطة الشيخ محمد حسان Q نريد نبذة عن المسيح الدجال؟ A أحيلكم على شرائط أخي الشيخ محمد حسان حفظه الله تعالى فقد اتسع في هذا اتساعاً طيباً، نسأل الله أن يبارك فيه.

صحة حديث: (أمتي هذه أمة مرحومة)

صحة حديث: (أمتي هذه أمة مرحومة) Q حديث (أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلالزل والقتل) . A الحديث في إسناده كلام، ثم إن النبي ذكر المفلس من أمته، فقال: (من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا ... ) الحديث.

النساء من أعظم الفتن

النساء من أعظم الفتن Q هل يجوز التعامل مع الفتيات في الجامعة بإعطائهن ورقة مراجعة ومذاكرة بغرض المساعدة من باب العطف عليهن؟ A قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) .

حكم المرور من أمام المأمومين أثناء الصلاة

حكم المرور من أمام المأمومين أثناء الصلاة Q ما حكم المرور أمام الصف الأول أثناء صلاة الجماعة للمضطر؟ A إذا لم يمر أمام الإمام فلا بأس بذلك إن دعت الضرورة إليه، وقد أرسل ابن عباس أتاناً له يمشي بين يدي الصف.

المعاصي سبب في زوال النعم

المعاصي سبب في زوال النعم Q هل المعاصي يمكن أن تمنع العبد من صلاة الفجر؟ A المعاصي سبب لزوال النعم، ومن نعم الله الصلاة في جماعة، فقد تمنع المعاصي من صلاة الفجر، وقد تمنع من صلاة الجماعة، وقد تمنع من التصدق.

من شروط المسح على الخفين

من شروط المسح على الخفين Q هل من شروط المسح على الخفين النية؟ A قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) .

حكم الإهلال من ميقات المدينة لغير أهلها

حكم الإهلال من ميقات المدينة لغير أهلها Q أريد الذهاب للعمرة ولكن لظروف أو لأخرى سأذهب أولاً إلى المدينة ثم إلى مكة لأداء العمرة، هل عليّ شيء إذا ذهبت إلى المدينة ثم أحرمت من ميقات أهل المدينة للعمرة؟ A ليس عليك شيء لأنك لم تنشئ نية العمرة إلا من المدينة، فحينئذٍ يكون ميقاتك ميقات أهل المدينة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة) ، فأنت أثناء مرورك بميقات المصريين الذي هو رابغ وأنت في الباخرة لن تنشئ نية العمرة؛ لأنك في نيتك أن تذهب إلى المدينة أولاً، كشخص يريد الذهاب إلى اليمن، فمر أثناء ذهابه إلى اليمن بميقات أهل مصر، فلا يلزمه أن يهل إلا إذا نوى فعلاً أن يبدأ في العمرة، فحينئذٍ يهل من الميقات الذي سيمر عليه، والعلم عند الله.

حكم قطرة الأنف للصائم

حكم قطرة الأنف للصائم Q ما حكم قطرة الأنف بالنسبة للصائم؟ A قطرة الأنف بالنسبة للصائم تكره، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، فيستفاد منه أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق وما قام مقام الاستنشاق، لكن هل تفطر؟ هي ليست بطعام ولا بشراب ولا بشهوة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في شأن الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) .

حكم عقد الزواج لمن حصل بينهما فاحشة قبل موعد العقد

حكم عقد الزواج لمن حصل بينهما فاحشة قبل موعد العقد Q فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها تقدم شاب ليخطبها، فوافق أبوها وأبرم معه موعداً للعقد، ورفض أن يعقد العقد قبل مجيء الموعد، وللأسف حدث بينها وبين الخطيب فاحشة -والعياذ بالله- فهل نذهب إلى المأذون الشرعي لنعقد أم ماذا نصنع؟ A لا يعالج الفساد بفساد، إذا لم تكن حاملاً فعليها أن تنتظر الموعد الذي أبرمه أبوها للعقد وتتزوج فيه، هذا إذا لم تكن قد حملت، فإن حملت والحمل دون الأربعة أشهر، فحينئذٍ تكون هذه الفتاة في حيز ضيق، وليس إسقاط الجنين على العموم كما يفعله بعض الناس كما في الصحف، ولكن حالات الاضطرار لها أحكامها، ما لم ينفخ في الجنين الروح، أما إذا نفخ فيه الروح فيحرم الإسقاط، فلا تعالج الخطأ بخطأ، وكل ما هنالك أن تذكر الوالد بموعد العقد، ولا يمنع العقد؛ لأنها هي الآن زانية وهو أيضاً زان والعياذ بالله!

ورود حديث الجساسة في صحيح مسلم

ورود حديث الجساسة في صحيح مسلم Q هل هناك حديث عن تميم الداري أنه كان في سفر في عرض البحر ثم نزلوا بجزيرة هنالك؟ A الحديث في صحيح مسلم، وهو حديث الجساسة الطويل.

حكم إعطاء الطفل (البزازة) التي ليس فيها حليب

حكم إعطاء الطفل (البزازة) التي ليس فيها حليب Q الأم التي تعطي ولدها (بزازة) ليرضع هل هذا نوع من أنواع الخداع؟ A ليس هذا من أنواع الخداع بل من المصالح، كإبعاد الإزعاج، فإذا أسكت الطفل (ببزازة) كي لا يزعجني فلماذا آثم وهو الذي يؤذيني بالبكاء؟! ولعل البعض يحاول الاستدلال بحديث: (أن أماً دعت طفلها فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا تريدين أن تعطيه؟ قالت: أريد أن أعطيه تمرة. قال: أما أنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة) ، لكن الحديث هذا ضعيف، وإن اشتهر على ألسنة كثير من إخواننا.

جواز العقيقة بشاة واحدة للذكر

جواز العقيقة بشاة واحدة للذكر Q هل يجوز أن أشتري العقيقة شاة واحدة لطفلي حينما يتيسر الحال ثم أشتري الثانية؟ A إذا كانت عقيقة فلا بأس.

قضاء الصوم عند الاستطاعة

قضاء الصوم عند الاستطاعة Q زوجتي لم تصم نصف رمضان الماضي وهي الآن في فترة نفاس، وتستمر حتى نزول القصة البيضاء، فما الحل فيما إذا صامت شعبان ثم رمضان وهي ترضع الصغار؟ A إذا أطاقت الصيام صامت، وإن أفطرت لنفاس فالصوم ما زال باقياً في عنقها فلتصمه متى تيسر لها، أما إن أفطرت نتيجة إرضاع ففيها أقوال ثلاثة للعلماء، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.

حكم الزواج العرفي

حكم الزواج العرفي Q تزوجت زواجاً عرفياً، وعندما عرفنا أن الزواج حرام تركت هذا الزواج، فهل يلزمه أن يطلقني؟ A إذا كان الزواج العرفي هو: أن المرأة تزوج نفسها بلا ولي، وعلمت بأن الزواج هذا حرام، فلا يلزمه أن يطلقها؛ لأن العقد مفسوخ من الأصل.

ضعف حديث: حفظ القرآن

ضعف حديث: حفظ القرآن Q هل هناك دعاء لحفظ القرآن، والذي نهايته قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ علي: (مؤمن ورب الكعبة) ؟ A الحديث ضعيف لكن كما قدمنا: خير وسيلة لحفظ القرآن ومراجعته القيام به في صلاة الليل كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه) .

استحباب لبس القواعد للنقاب

استحباب لبس القواعد للنقاب Q امرأة في الخمسين من عمرها، فهل يجب عليها لبس النقاب؟ A الله يقول: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] ، بهذه الفقرة الأخيرة استدلت حفصة بنت سيرين على استحباب النقاب عندما دخل عليها جرير بن حازم وقد تنقبت -كما في سنن البيهقي بسند صحيح- فقال لها: يا أماه! أليس الله يقول: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] ؟ قالت له: أكمل الآية قال: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] قالت: هذا هو إثبات النقاب.

حكم دفن الميت ليلا

حكم دفن الميت ليلاً Q ما حكم دفن الميت ليلاً؟ A إذا مات الشخص ليلاً أو نهاراً وأريد أن يدفن ليلاً فالنهي الوارد في ذلك للتنزيه وليس للتحريم؛ وذلك لأن امرأة كانت تقم المسجد أو رجل فمات فدفنه الصحابة ليلاً دون الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح عليه الصلاة والسلام قالوا: (مات فدفناه وكرهنا أن نوقظك يا رسول الله! فقال: أفلا آذنتموني) ، ولم ينكر عليهم أنهم دفنوه ليلاً، فمن أراد الدفن ليلاً وتحقق وجود عدد كبير من المصلين على الميت فلا بأس حينئذٍ بأن يدفن ليلاً، قال بعض أهل العلم: العلة من المنع من الدفن ليلاً قلة المصلين على الميت، فالنبي أقر من دفن ليلاً، فأخذنا من هذا الإقرار جواز الدفن ليلاً، وقد ذكر البعض -والله سبحانه أعلم- أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عندما ماتت دفنت ليلاً.

حكم من جامع امرأته وهي حائض

حكم من جامع امرأته وهي حائض Q هل كفارة من أتى امرأته وهي حائض نصف دينار؟ A حديث: (من أتى حائضاً فكفارته نصف دينار) ، حديث ضعيف وقد تبنى القول بمضمونه فريق من العلماء، فهناك من المعاصي ليست عليها كفارات منصوص عليها، ولكنها في نفسها آثام ومعاص، فيجتهد العالم في تحديد الكفارة التي تليق بهذا الإثم أو بهذه المعصية، فقدمنا مثلاً: أن من أتى امرأة وهي حائض فإنه آثم، وبالنسبة لكفارة هذا الإثم ففريق من العلماء يقول: يستغفر، وفريق يقول: الاستغفار فقط ليس بكاف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر الرجل الذي قبل امرأة أن يستغفر ويصلي ركعتين، فمن ثم ننصح هذا الذي أتى امرأته وهي حائض بفعل أي نوع من أنواع البر الذي يوازي هذه السيئة التي اقترفها؛ لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فيتصدق بمال يقدره العالم بما يوازي هذه المعصية ويمحو أثرها بإذن الله. فلا يقال: إن الذي أتى امرأة وهي حائض لا شيء عليه؛ لأن الحديث ضعيف، ولكن يقال: إن عليه أن يفعل فعل بر، فإن شئت أن تفتيه بأن يتصدق أو يصوم أو يصلي عدداً من الركعات، فهذا اجتهاد من باب أن عمل الخير يدفع السوء بإذن الله.

تفسير سورة الحديد [1]

تفسير سورة الحديد [1] للقرآن الكريم أساليبه الفريدة في طرح القضايا، ومن تلك الأساليب غرس عظمة الله عز وجل في القلوب ببيان كونه محموداً منزهاً مقدساً في السماوات والأرض، وبيان أسماء الله وصفاته التي فارق بها خلقه، وبيان سعة علمه تعالى ورقابته، وتدبيره للكون، ثم بعد ذلك يجيء الأمر بالإيمان به تعالى وبرسله، والحث على أعمال الخير كالإنفاق ونحوه، فهو يبني العقيدة ثم يجيء بأحكام الشريعة، وهذا يظهر جلياً في سورة الحديد.

بين يدي السورة

بين يدي السورة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فسورة الحديد أطلق عليها هذا الاسم لورود ذكر الحديد فيها، كما أطلقت الأسماء على غيرها من السور لورود الاسم فيها، فسورة البقرة سميت بذلك لورود ذكر البقرة فيها، وآل عمران سميت بذلك لذكر آل عمران فيها، وكذلك النساء والمائدة والأعراف والأنعام، كما سميت بعض السور بمطالعها، أو بالحروف المقطعة التي بُدئت بها.

تفسير قوله تعالى: (سبح لله ما في السماوات والأرض.

تفسير قوله تعالى: (سبح لله ما في السماوات والأرض.) قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد:1] . قوله تعالى: ((سبح)) أي: نزه. فالمعنى: نزه الله سبحانه وتعالى كل من في السماوات ومن في الأرض عن كل عيب وعن كل نقص، وعن الشريك، وعن الولد، وعن الصاحبة. وهذا يفيد أن الجمادات أيضاً تسبح، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فدلت هذه الآية الكريمة على أن الجمادات تسبح، وقال تعالى في كتابه الكريم: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] ، وقال سبحانه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] ، وقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ) ، ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يثبت لأعرابي نبوته قال له: (اذهب إلى هذه الفسيلة فادعها) ، فذهب إليها فدعاها فأتت تشق طريقها حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعت، وثبت أن الجذع حنّ لما فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسُمع له صوت كصوت العشار إلى أن نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق المنبر فاحتضنه، والأدلة في هذا كثيرة، وكلها تثبت أن للجمادات أنواعاً من الإدراكات، وأنواعاً من التسبيحات والسجود، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، وقال في شأن نبي الله داود عليه السلام: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] ، وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (كنا نسمع للطعام تسبيحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤكل) ، والحديث ثابت صحيح. قال تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد:2] .

تفسير قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن.

تفسير قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن.) قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] . أحسن ما فسرت به هذه الآية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) . وقد كثرت أقوال المفسرين في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} . إلا أن تفسير ذلك من حديث النبي صلى الله عليه وسلم السابق، هو الأولى، فقوله: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) ، ويفسر المراد بـ (الأول) ، وقوله: (وأنت الآخر فليس بعدك شيء) يفسر المراد بـ (الآخر) ، وقوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء) يفسر المراد بـ (الظاهر) ، وقوله: (وأنت الباطن فليس دونك شيء) يفسر المراد بـ (الباطن) . ومما فسرت به قول بعض العلماء: (الباطن) : العالم ببواطن الأمور وما خفي وما غاب منها. و (الظاهر) : القاهر الذي يَغلب ولا يُغلب، ويعلو سبحانه وتعالى ولا يعلى عليه، وعلى بعض هذه الألفاظ بعض المآخذ. قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . الآيات التي تثبت علم الله سبحانه وتعالى تتكرر مراراً في سور الكتاب العزيز، وكل معنىً تكرر في الكتاب العزيز يدل تكراره على أهمية عظمى له، فإذا فهم العبد ذلك وأيقن به، ولازمه هذا الشعور وهذا العلم بأن الله تعالى عليم استقامت أموره، وحسنت سرائره، ومن ثم صلحت له دنياه وصلحت له أخراه، فكم من آية ختمت بقوله تعالى: (والله عليم حكيم) ، وبقوله تعالى: (والله عليم خبير) ، وبقوله تعالى: (إنه عليم بذات الصدور) ، وكم من آية سيقت لإثبات هذا المعنى، كقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] ، وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61] ، وقد تكاثرت الآيات المثبتة لهذا المعنى غاية الكثرة، وكلها لتأسيس شيء في الأذهان وتثبيته وترسيخه، ألا وهو مراقبة الله سبحانه وتعالى، والعلم بأنه يراك ويطلع على أحوالك، ويعلم سرك ونجواك، قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] .

تكرار صفة علمه تعالى

تكرار صفة علمه تعالى قال الله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد:6] . قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} أي: يدخل الليل في النهار، وقوله تعالى: {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي: يدخل النهار في الليل، فهذا يأخذ من طول ذاك، وهذا يأخذ من طول ذاك، فالليل يطول في بعض أيام السنة ويأخذ من النهار، والنهار يطول في بعض أيام السنة ويأخذ من الليل. قوله تعالى: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في هذا تكرار الإخبار بعلم الله سبحانه. فالآيات السابقة تتضمن الإخبار بأن الله سبحانه عليم يعلم الظاهر كما يعلم الباطن، ولكن تصرف الآيات وتتنوع وتتعدد أساليبها، فمن لم يفهم من هذا السياق فهم من السياق الآخر، ومن لم يتذكر بهذه الآية فليتذكر بتلك، ومن لم يدرك هذه الفقرة فليدرك تلك، وكلها -كما سلف- لتأسيس شيء وترسيخه، ألا وهو العلم بأن الله تعالى عليم، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام:60] .

الأمر بالإيمان، مفاده وعلاقته بالإنفاق

الأمر بالإيمان، مفاده وعلاقته بالإنفاق قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7] . قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الخطاب هنا موجه لأهل الإيمان على قول بعض أهل العلم، فيرد على هذا القول إشكال فحواه: كيف يوجه لهم الأمر بالإيمان وهم في الأصل مؤمنون؟! فمن العلماء من أجاز ذلك على أن المراد: زيدوا في إيمانكم بالله ورسوله، وزيدوا تصديقاً لله تعالى، وزيدوا تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] ، فالمعنى إذاً: ليزدد إيمانكم بالله ورسوله. وعليه فيكون في هذا الدليل دليلٌ لأهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص، والأدلة على هذا متعددة، كقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، وقال تعالى حكاية عن الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] . قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ذكر بعض أهل العلم أن بينها وبين قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} رابطاً قوياً، وهو أن قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: صدقوا الله ورسوله وأنفقوا. فنصدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الإنفاق أيضاً، فقد قال لنا ربنا سبحانه وتعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [التغابن:17] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس وإلا وبجنبتيها ملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) ، فإذا كنت موقناً بأن الله تعالى يخلف على المتصدق، وبأن الملك يدعو للمتصدق بأن يخلف الله تعالى عليه، وازداد بذاك يقينك وإيمانك حملك ذلك على استقبال قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ، بالأنفاق السريع، وبالامتثال السريع. وهذا يفيد في مسائل من الدعوة إلى الله تعالى، وفي مسائل التعامل مع الخلق. فيمهد للتعامل مع الخلق بالتذكير بالله تعالى بالإيمان به، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل في معاملته مع الناس، ومعاملته مع أهل الإيمان، وأحكامه في القضايا، فكان دائم التذكير بالإيمان بالله تعالى قبل أن يفصل في القضايا، فمن ذلك قوله الله عليه وسلم في قصة المتلاعنين قبل أن يقضي بينهما، وقبل أن يبدأ اللعان: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) . وفي سائر قضاياه يقول للمتخاصمين قبل الحكم: (إنكم تختصمون لدي ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار، فإن شاء قبلها وإن شاء ردها) ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر الناس بالله تعالى، ويذكر الخصوم بالله تعالى قبل أن يبدأ في فضّ النزاع والقضاء بينهم. فلهذا يشرع التذكير بالله تعالى قبل إبداء الأوامر، وقبل إبداء النصائح، حتى مع العدو الصائل، أو مع من يخشى معه الشر، فيشرع تذكيره كذلك بالله تعالى، فقد حكى الله تعالى عن مريم عليها السلام لما تمثل لها الملك بشراً سوياً قولها: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: ألجأ وأستجير بالرحمن منك. وفي حديث صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي جلس بين رجليها ابن عمها ليرتكب معها المحرم قالت مذكرة له بالله تعالى: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: صدقوا الله ورسوله فيما أخبراكم به على وجه العموم، وصدقوا الله ورسوله فيما أخبراكم به من أن المنفق يخلف الله سبحانه وتعالى عليه. ثم جاء الأمر بالإنفاق فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ، وفي هذه الآية تجريد لك من المال الذي بين يديك، فليس لك الحق في المال الذي بين يديك تعبث فيه كما تشاء، وتتصرف فيه كما تريد، فقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن الإسراف فقال تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] ، ونهانا عن التبذير فقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27] ، وقال سبحانه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الاقتصاد والسمت الحسن جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) ، فليس لك أن تتصرف بالمال الذي بين يديك يمنةً ويسره كما تشاء، فأنت مسئولٌ عن الاستخلاف في هذا المال وبما عملت فيه، ومسئولٌ عن طريق اكتسابه، ومسئولٌ عن موضع إنفاقه. والذين ينفقون الأموال في الإضرار بالمسلمين والإضرار بمن استرعاهم الله تعالى إياهم كلهم مسئولون أمام الله تعالى عن خيانة هذه الأمانة التي حملهم الله تعالى إياها. قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} في الآية إيماء بالرد على المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان كبيرة، ولا ينفع كذلك -عند بعضهم- مع الإيمان كبير عمل. كما أن فيها أن الإنفاق بدون إيمان لا ينفع صاحبه، فقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: ابن جدعان كان يقري الضيف ويفعل ويفعل، فهل نفعه ذلك؟ فقال: لا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) ، فلا بد مع الإنفاق من إيمان، وإلا فرب العزة يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، ويقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18] ، ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .

تفسير قوله تعالى: (وما لكم لا تؤمنون بالله.

تفسير قوله تعالى: (وما لكم لا تؤمنون بالله ... ) ومعنى الميثاق قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد:8] . تعددت أقوال العلماء رحمهم الله تعالى في المراد بالميثاق، ومتى أخذ، ومن الذي أخذه. فقال بعضهم: إن الذي أخذ الميثاق على الإيمان هو ربنا سبحانه وتعالى، كما قال تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172-173] . وفي معناه وتفسيره قال فريق من أهل العلم: إن الميثاق هو الميثاق المأخوذ على ذرية آدم وهم في صلب أبيهم آدم عليه السلام، فأخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا بالله تعالى وأن يوحدوه؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما خلق الله آدم مسح على ظهره فاستخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها، ثم نثرهم بين يديه كالذر، ثم أشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إن كنا عن هذا غافلين) . وخالف في هذا المعتزلة فقالوا: ما الذي أدرانا أن هذا الميثاق قد أخذ ولا يذكره أحد من الخلق؟! وهذا ضرب من التأويل باطل؛ إذ يصح أن يقال -بناءً على هذا الزعم الباطل-: وما الذي أدرانا أن آدم عليه السلام خلق من تراب؟ وهذا كله من أنواع الباطل. فمنهج أهل السنة في ذلك أن الله تعالى أخذ من ذرية آدم وهم في صلب أبيهم آدم عليه السلام الميثاق على الإيمان وعلى التوحيد. ومما يؤسف له أن بعض مفسري أهل السنة والجماعة المشهود لهم بالتوفيق في تفسيرهم سلك في هذه الآية مسلك المعتزلة في تأويلها، وهو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى، في تفسيره (تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن) ، فلينبه على هذه الزلة في هذا التفسير الذي هو في عمومه طيبٌ ومبارك. وثمّ قولٌ آخر في الميثاق أنه الميثاق الذي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار ليلة العقبة، وقال بعض أهل العلم: إن قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} [الحديد:8] خطاب موجهٌ لأهل الكتاب، والميثاق هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] . فأخبر الأنبياء أممهم بهذا الميثاق، وأخذوا على أممهم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بُعث، فكان يهود يستفتحون على الذين كفروا من الأوس والخزرج، ويقولون: سيخرج نبيٌ عن قريب نتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:9] . قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: واضحات ظاهرات جليات، وقوله تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الإيمان ونور الطاعات.

فضيلة السابق في الإيمان، وموقف الشيعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

فضيلة السابق في الإيمان، وموقف الشيعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد:10] . هذا أيضاً تذكيرٌ بأن المال زائلٌ عنك، وأن الله سبحانه يرث السماوات والأرض، وتكرر هذا المعنى كثيراً حتى تزهد فيما هو في يديك، ومن هذا قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] . فلماذا تتخلف عن الإنفاق والوارث للسماوات والأرض هو الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] هذه الآية تدلنا على أصل، وتؤدبنا بأدب، ألا وهو احترام أصحاب السوابق في الخير، فمن أفنى عمره في طاعة الله تعالى، ومن أفنى عمره في الدعوة إلى الله تعالى، ومن أفنى عمره في الصلاة والصيام، على الناس أن يوقروه، ويقيلوا عثرته إذا زلت قدمه، وعلى الناس أن ينزلوا الناس منازلهم، فالرجل الكبير الطاعن في السن الذي ابيض شعره واشتعلت لحيته شيباً كم سجد لله من سجدة، وكم صام لله تعالى من شهر، وكم سبح لله من تسبيحة، وكم حج، وكم اعتمر، فلا ينبغي أن يُساوى مع الأحداث الذين قلّ ذكرهم وطاعتهم لله تعالى، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) ، وكان الناس يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الصغير منهم يتكلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (أراني أتسوك الليلة فأتاني رجلان فدفعت السواك إلى الأصغر منهما فقيل لي: كبر) أي: أعط الأكبر. وفي هذه الآية ردٌ على الشيعة البغضاء البعداء -قاتلهم الله عز وجل وانتقم منهم- في انتقاصهم لـ أبي بكر، ولـ عمر رضي الله تعالى عنهما، فمن الذي نال الحظ الأكبر والنصيب الأوفر من هذه الآية الكريمة سوى الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقد كان -كما حكى الله تعالى عنه-: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له -كما حكى الله عنه-: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر) ، أي: ما نفعني مالٌ قط كما نفعني مال أبي بكر، وصَدَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر السماء ليلة أسري به وعرج به، وأنزل الله تعالى براءة ابنته من فوق سبع سماوات، فأبى أهل الظلم من أهل التشيع البغيض المقيت كل ذلك، وحقدوا على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، واتهموه بما لا يليق به رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وخالفوا في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) . والجهل حين ينتشر يقبل قول كل ناعق، والذي يؤسف غاية الأسف أن يكون في الجامعات من يتشدق بالنيل من أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من ذوي المراكز هنالك، ولا يوجد من ينكر عليه ذلك من الزملاء الأفاضل، والإخوة الأتقياء الأبرياء البررة. فجديرٌ بكل مسلم أن يكون ذابا دائماً عن صحابة النبي الكريم رضي الله تعالى عنهم؛ ليكون له نصيب من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] . فإذا كان رب العزة يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، فهل الصديق رضي الله عنه منهم أم لا؟ أليس منهم الخليفة البار الراشد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أم لا؟ ويأتي شيعي بغيض مقيت -قاتله الله عز وجل وقاتل أتباعه وأشياعه- يصف هذين الكريمين سيدي شيوخ أهل الجنة بما لا يليق بهما، ويقول: إنهما الجبت والطاغوت، فقاتل الله عز وجل أهل الظلم وأهل العدوان، وكل من شايعهم، وكل من سايرهم. ولو كان مثل هذا الزنديق موجوداً على عهد السلف الصالح رحمهم الله تعالى لنكلوا به، ولكنها دولة الفوضى ينعق فيها كل ملحد بما يريد، وينعق كل نصراني بما يريد، وكل شيعي بما يريد، ولا أحد يوقف هذه الهمجية وهذا العبث في النيل من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهذا خالد بن الوليد رضي لله تعالى عنه سيف من سيوف الله تعالى المسلولة سله الله تعالى على المشركين، كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه شيء، وعبد الرحمن أحد العشرة السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فقال خالد لـ عبد الرحمن بن عوف: أتعيروننا بأيام سبقتمونا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ونال من عبد الرحمن، فبلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) ، ولكن شاء الله تعالى أن يأتي قوم رعاع ينالون من خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل من أفضلهم بالإجماع، وشارك هذا الناعق اللئيم اليهود في نيلهم من أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم.

الأدب مع المفضول عند التمايز

الأدب مع المفضول عند التمايز قال تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . في هذا تسلية وتعزية لمن أنفق من بعد الفتح وقاتل، وهذه التسلية والتعزية تأتي في جملة من مواطن الكتاب العزيز، ومن ذلك قوله سبحانه في شأن داود وسليمان عليهما السلام: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78-79] ، ثم أثنى على داود عليه السلام بقوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79] . فهذه الأخلاق تستفيد منها في التعامل مع الناس، فإن مايزت بين اثنين فينبغي عليك أن تثني على الطرفين بما يسري على النفوس، وقد جاء معاذ ومعوذ ابني عفراء رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتلهما لـ أبي جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمسحا سيوفكما. ثم نظر إلى السيفين فقال: كلاكما قتله) ، ثم أعطى سلبه لأحدهما مع قوله صلى الله عليه وسلم: (كلاكما قتله) ، فهذا أدبٌ يتأدب به مع الناس الذين هم دون في الفضل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حال حديث: (يا علي! لا تنم إلا على خمسة.

حال حديث: (يا علي! لا تنم إلا على خمسة.) Q ما صحة حديث (يا علي: لا تنم إلا على خمسة) ؟ A حديث ضعيف. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تصفيق النساء وزغردتهن في الأعراس

تصفيق النساء وزغردتهن في الأعراس Q هل التصفيق للنساء في العرس محرم؟ A لا، فالتصفيق للنساء في العرس مباح، بل يستحب لهن، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في نصٍ عام -وإن كان ورد في الصلاة-: (إنما التصفيق للنساء) ، وقال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: (ماذا عندكم من اللهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) . السؤال: هل الزغاريد حرامٌ في العرس؟ الجواب: الزغاريد لا أعلم في منعها حديثاً صحيحاً، وحديث: (صوتان ملعونان) ، فيه نظر من ناحية الإسناد، وإن صح فدخول الزغاريد ليس واضحاً فيه، والكلام في الزغاريد مبني على المفسدة والمصلحة، فإن كانت النساء فيما بينهن فليزغردن وليصفقن كما شئن، وأما إذا كنّ سيفتن الرجال فهذا نوع من أنواع الفساد، والله لا يحب الفساد.

عقوبة الأمة المحصنة عند زناها

عقوبة الأمة المحصنة عند زناها Q هل ينصف الرجم على الأمة المحصنة؟ A الرجم لا يتنصف، والجمهور على أن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، فإذا زنت فليجلدها، فإذا زنت فليجلدها، فإذا زنت فليبعها ولو بحبل من ظفير ولا يثرب) أي: لا يوبخها ويعيبها. والحكمة في الأمر ببيعها إذا زنت في الرابعة هي أنَّ سيدها قد يكون ضعيفاً لا يستطيع إعفافها، فيشتريها من يستطيع إعفافها، أو ربما كان ضعيف الشخصية لا تهابه، فيبيعها من شخص مهاب لا تستطيع عنده أن تلتفت يمنه أو يسرة.

الزواج بواسطة التلفونات

الزواج بواسطة التلفونات Q هل يجوز الزواج بواسطة التلفون الحديث المرئي؟ A يجوز بالمرئي وبغير المرئي إذا كان التلفون له سماعة يسمعها الشهود كذلك، فيجوز الزواج بهذه الطريقة.

لفظ النكاح الوارد في قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة.

لفظ النكاح الوارد في قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ... ) والمراد به Q ما معنى قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] ؟ A قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن النكاح هنا المراد به: الزواج. لكن يرد عليه أن نقول: كيف تقول -رحمة الله عليك-: إن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة؟! فأنت بهذا تحل للزاني المسلم أن يتزوج بمشركة، وتحل للزانية المسلمة أن تتزوج بمشرك، وهذا لا يقره الشرع، فالزانية ما زالت مسلمة، فإذا قلت: إن المعنى أن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة اختل عليك المعنى؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ، وقال: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] . فالذي عليه الجمهور وهو رأي الحافظ ابن كثير وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى- أن الزاني لا يطاوعه على زناه إلا زانية ترضى بالزنا، أو مشركة لا تعتقد حرمة الزنا أصلاً، والزانية لا يطاوعها على الزنا إلا زانٍ أو مشرك.

الصلاة عند القبر

الصلاة عند القبر Q ما حكم الصلاة في المقابر، أو في حجرةٍ بها مقبرة؟ A القبر إذا نُبش جازت الصلاة عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بني مسجده على نخيلٍ قد سوي وقبور نُبشت، فإذا نبش القبر جازت الصلاة، أما إذا لم ينبش القبر فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) ، وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) ، وقال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) ، وقال: (لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا إليها) ، إلى غير ذلك من النصوص، وأقوال العلماء رحمهم الله تعالى في الصلاة على القبور دائرة بين التحريم والكراهة.

تأويل الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته)

تأويل الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته) Q على أي شيءٍ يرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) ؟ A من أهل العلم من يقول (على صورته) ، أي: على صورة المضروب؛ لأن لفظ الحديث: (إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمنّ الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته) . أي: خلق آدم على صورة هذا الذي ضربته؛ لأنك ضربت هذا فكأنك ضربت آدم صلى الله عليه وسلم، لكن هذا التأويل شيء، وإثبات أسماء وصفات الرب سبحانه وتعالى من نواح وأدلةٍ أخر.

قبض تعويض شركات التأمين

قبض تعويض شركات التأمين Q شخص يعمل في شركة قطاع خاص مُؤمَّن عليه، وأصيب في حادث إصابة شديدة، وعلم أن شركة التأمين تصرف مبلغاً كتعويض إصابة عمل، وهو متخوف من قبضه، فماذا يعمل؟ A اقبضه. ونسأل الله تعالى أن يتم شفاءك.

الزواج من المشركة أو الكتابية

الزواج من المشركة أو الكتابية Q هل الزواج من مشركة جائز؟ A الزواج من مشركة لا يجوز، ولكن الزواج من يهودية أو نصرانية عفيفة جائز؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] . فإن قيل: إن الله سبحانه وتعالى وصف النصرانية أو اليهودية بأنها مشركة، فقال الله تعالى في كتابه الكريم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] . فأفادت هذه الآية أنهم أهل شرك، وكذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] . قلنا: إن كل عام في الشرع تأتيه تخصيصات. فقول الله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، ليس على عمومه؛ فهناك زناة لا يجلدون في الأصل وهم المجانين، وهناك زناه يرجمون، وهناك زناه يجلدون خمسين جلدة وهم العبيد والإماء، فكل عام له استثناءاته. فعلى وجه الإجمال لا يجوز لك أن تتزوج بمشركة، لكن استثني من أهل الشرك النصارى واليهود بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] أي: العفيفات. وفهم ذلك أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد تزوج حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه بيهودية، فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، فكأنه نهى عن ذلك، فلما بلغ حذيفة أن عمر يشير إلى النهي ولم يأت صريح النهي قال له: أحرامٌ هو يا ابن الخطاب؟ قال: لا، ولكني خشيت أن تتعاطوا المومسات منهن، أي: خشيت أن تتزوجوا الزواني. كما أن آية المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] بعد آية البقرة: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] . فمن أحب نصرانية، وكانت تريد الزواج به، ويريد الزواج بها وواجهتهما مشكلة إشهار الإسلام لخوف المرأة، فممكن أن يتزوجها على حالها هذه وهي نصرانية، ولكن يتأكد من عفتها؛ لأن الله تعالى لما أباح نكاح الكتابية قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] أي:: العفيفات من الذين أتوا الكتاب. فإن ذكرها بالإسلام فإنه يؤجر على إسلامها. وأما مقولة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى، فقد بناها على أنه كان هناك من بعض السلف من يقول: إني آكل ذبائح كل النصارى إلا ذبائح بني تغلب. وقول الشيخ أحمد شاكر ليس بصحيح، بل مصادم للآية الكريمة، فهل أهل الكتاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين؟ والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] . فالذين أوتوا الكتاب كانوا كفاراً على عهد رسول الله، كما قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] ، فمقولة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى التي بثها في كتبه، وتلقفها الشباب الذين عندهم شدة في المسألة ليست بصحيحة، وإن كان قد صح أنه ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما المنع، إلا أنه ورد عن حذيفة رضي الله تعالى عنه الزواج فعلا بيهودية. كما أن التفريق في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] ، يفيد أن أهل الكتاب شيء وأهل الشرك شيء آخر، ولكن لا يمنع هذا من دخول أهل الكتاب في ضمن المشركين بنص آية براءة، إلا أن الذي يحسم مثل هذه القضية هو أفعال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كلمة حول كثرة الجماعات واختلافها

كلمة حول كثرة الجماعات واختلافها Q أنا متحير بين كثرة الجماعات الموجودة، فماذا أفعل؟ A لا تدخل لتتحير بين جماعة من الجماعات، بل تعلم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واحضر مجالس العلم ومجالس الفقه في الدين، وآخ كل المسلمين فيما تستطيعه وتطيقه، وفيما يقره الشرع، أما أن تلزم نفسك بجماعة وأمير فهذه بدعة أصبحت بالية والحمد لله تعالى، فقد استنار المسلمون، ولنتعاون مع المسلمين على البر والتقوى فيما يقره الشرع، وفيما تطيقه وتتحمله.

مدى صحة حديث: (زمزم لما شرب له) ، وحديث: (الدال على الخير كفاعله) ، والأحاديث الواردة في ليلة نصف شعبان

مدى صحة حديث: (زمزم لما شرب له) ، وحديث: (الدال على الخير كفاعله) ، والأحاديث الواردة في ليلة نصف شعبان Q ما صحة حديث: (زمزم لما شرب له) ؟ A حديث: (زمزم لما شرب له) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضعيف، وله شاهد من حديث معاوية رضي الله تعالى عنه موقوفاً عليه، وبعض أهل العلم يجعل الموقوف شاهداً للضعيف، ويرقيه به إلى الحسن، وبعض العلماء يرى أن الضعيف يبقى ضعيفاً، ونحن نقول: الصحيح أنه موقوف على معاوية رضي الله تعالى عنه، ونحن مع الرأي الأخير. السؤال: ما صحة حديث: (الدال على الخير كفاعله) ؟ الجواب: حديث صححه بعض أهل العلم. السؤال: ما صحة الأحاديث الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان؟ الجواب: الأحاديث الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان كلها ضعيفة، وقد تكلم صاحب (سنن المبتدعات) عليها كلاماً جيداً، فليراجعه من شاء.

استحلال قتل النفس

استحلال قتل النفس Q ما الحكم فيمن قتل نفسه مستحلاً لذلك؟ A المستحل يكفر، ولكن ما أدراك أنه مستحل أو غير مستحل؟!

حلول للتائب عن المعصية المجاهد لنفسه

حلول للتائب عن المعصية المجاهد لنفسه Q شابٌ تاب عن المعصية، وأصبح يعاني من المجاهدة في غض البصر، فماذا يفعل؟ A يبحث عن زوجةٍ يتزوجها بكراً كانت أم ثيباً على قدر سعته، وعليه أن يكثر من الصيام، ويعتقد تمام الاعتقاد أن تعالى الله رقيب عليه.

مدى صحة حديث الأوعال

مدى صحة حديث الأوعال Q هل يصح حديث الأوعال؟ A حديث الأوعال ليس بصحيح.

الشطرنج وأقوال العلماء فيه

الشطرنج وأقوال العلماء فيه Q هل الشطرنج حرام؟ A لم يرد في مسألة الشطرنج حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت أو غير ثابت فيما علمت، وورد عن علي رضي الله تعالى عنه بإسناد فيه ضعف: أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ ولكن بنى العلماء قولهم في الشطرنج على أنه نوع من أنواع اللهو المضيع للأوقات، والمذهب للصحة والأذهان، فذهب الجمهور إلى منعه لهذه الأسباب؛ للعمومات الشرعية، ثم منهم من قال بالتحريم، ومنهم من قال بالكراهة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سلس الريح وحكمه

سلس الريح وحكمه Q أحتاج بشكل دائم إلى إخراج الريح، وهذا ينقض الوضوء، فماذا أفعل؟ A إذا كانت مصاباً بسلس الريح فلك حكم، وإذا كان خروج الريح منك وقتياً فلك حكم آخر، فإذا كنت تكثر إخراج الريح كما لو كان في كل دقيقة يخرج الريح، ويأس الأطباء من علاجك، فستكون مصاباً بما أطلقوا عليه (سلس الريح) ، وحينئذٍ من العلماء من سيسلك معك مسلك من به سلس البول، وسلس البول ليس فيه دليل أصلاً، وإنما سلكوا بمن به سلس البول مسلك المستحاضة، ويقول: تتوضأ وتسد الدبر بشيء أثناء الصلاة حتى لا يخرج منك شيء، وإن خرج بعد السد بالقطن شيء، فلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

مسائل متعلقة بكفارة اليمين

مسائل متعلقة بكفارة اليمين Q هل يجوز إخراج قيمة الطعام في كفارة اليمين؟ وهل هي وجبة أو أكثر؟ وما صفة هذا الطعام؟ وهل يجوز تقديم الصيام على الإطعام؟ A إما إخراج القيمة في كفارة اليمين فجمهور العلماء على أن القيمة لا تجزئ؛ لأن الله تعالى قال: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] . أما الأحناف فذهبوا إلى أن القيمة تجزئ، لكن هناك تعليل يطرح في هذه المسألة لتقرير رأي، ولا لترجيح رأي على آخر، وهو أن الجمهور الذين قالوا بإخراج الطعام قد يكون من توجيهاتهم أن المال قد يكون متوفراً عندك، بخلاف الطعام، فرأى الجمهور إخراج الطعام لهذه العلة، فإذا توفر المال ولم يتوفر الطعام {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، والآية صريحة في إخراج الطعام دون المال. أما إن كان المال متوفراً والطعام متوفراً، فإن حدة القول بأن القيمة لا تجوز ستخف قليلاً وهذا رأي له وجاهته من ناحية المعنى، وقد قال به الأحناف، فنكون بهذا وقرنا قول الأئمة الثلاثة بقولنا: كفارته إطعام عشرة مساكين في حالة عدم توفر الطعام. فإذا كان الطعام متوفراً والأموال متوفرة، ومن الممكن أن الفقير يختار مكان الطعام الذي سيأتي إليه أي نوع هو يشتهيه، فهل سيصبح في فسحه أم في غير فسحة؟ وهذا كله لا يقاوم النص: (فكفارته إطعام عشرة مساكين) ، ولكن القضية في فهم هذا النص، وهو الإطعام عند عدم الاستفادة من العملة. يوضح هذا: أنك تكون أمام الحرم لتخرج زكاة الفطر، وتخرجها في الغالب أرزاً، فتجد أمام الحرم من يبيع أكياس أرز، والكيس بثمانية ريال، فتأخذ الكيس منه ثم تسلمه لواحد من الفقراء، فيعود الفقير إلى البائع ويبيعه منه بستة ريال، ثم يذهب لمتصدق آخر؛ إذ يجوز للفقير أن يبيع زكاة الفطر ويستفيد منها، فلقائل أن يقول: لو أنا أخذنا برأي الأحناف وسلمنا الرجل ثمانية ريال كاملة لكان لذلك وجهه! وخلاصة المقال أن الجمهور على أن الكفارة إطعام فحسب، ولكن نحن نورد أن مخرج كلام الجمهور في أزمنة قد تكون الأطعمة فيها أقل من الأموال، كما نقول: إن حالة وجود المال والطعام الجمهور فيها على أن الكفارة كذلك لا تكون إلا طعاماً. وأما مقدارها فهي وجبة واحدة لكل فرد أي: عشر وجبات. وأما صفتها فقد قال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] . وأما تقديم الصيام على الإطعام فلا يجوز ما دمت تستطيع الإطعام.

قبض تعويضات حرب الخليج

قبض تعويضات حرب الخليج Q ما حكم تعويضات حرب الخليج؟ A خذها واستمتع بها.

الزيادات الواردة في أحاديث افتراق الأمم

الزيادات الواردة في أحاديث افتراق الأمم Q ما صحة حديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار) . A كل الزيادات التي وردت في هذا الحديث بعد قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) فيها نظر، فالحديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) إلى هذا القدر حسنٌ، وكل زيادة بعد ذلك، كزيادة (وكلها في النار) ، و (الجماعة) ، و (السواد) ، متكلمٌ فيها، ليست متكلماً فيها من المعاصرين، بل من الأوائل رحمهم الله تعالى، وقد أفردت رسائل لبعض إخواننا في بيان ذلك كله، فليراجعها من شاء.

عورة المرأة المسلمة عند النصرانية وحدودها

عورة المرأة المسلمة عند النصرانية وحدودها Q ما هي عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة النصرانية؟ وهل المراد بالنساء في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] جنس النساء، أو المراد بالنساء نساء المؤمنين؟ A فيه قولان لأهل العلم، والذي يترجح أن المراد جنس النساء؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها دخلت عليها يهودية فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كذبت يهود) ، ثم أوحيَ إليه أن هذه الأمة تبتلى في قبورها. ففي هذا الحديث كانت اليهودية تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها. فالحاصل أن عورة المسلمة بالنسبة لغير المسلمة على هذا التأويل الثاني تكون كعورتها بالنسبة لسائر النساء، وهو ما يظهر غالباً من المرأة للمرأة، والله أعلم.

السنة في لبس العمائم

السنة في لبس العمائم Q كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة؟ A لا أعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة، إلا أن هناك حديثاً أورده ابن القيم في زاد المعاد من طريق مجاهد عن أم هانئ قالت: (دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وله عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه له أربع غدائر) ، إلا أن مجاهداً لم يسمع من أم هانئ، فالبس العمامة كما تيسر لك، إلا أن ما يتعمم به جماعة التبليغ كأنه الأقرب إلى السنة، والله تعالى أعلم.

الصغار وخواتيم الذهب

الصغار وخواتيم الذهب Q هل يجوز إهداء الطفل الصغير خاتم ذهب؟ A يجوز إهداء الطفل الصغير خاتماً من ذهب؛ لما جاء في الحديث (أن النبي عليه الصلاة والسلام أتاه خاتم من عند النجاشي فناوله أمامة بنت ابنته زينب كالكاره له) . لكن هل يلبس الصغير ما يحرم على الكبار؟ الجواب: ورد في الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:، فقال له: ادع لك الصغير -أي: الحسن أو الحسين - فذهب أبو هريرة رضي الله عنه يدعوه، فإذا بـ فاطمة رضي الله تعالى عنها تخرجه وقد ألبسته سخاباً) ، والسخاب -كما يقول بعض العلماء- هو كالعقد، فالطفل يُتجوّز في حقه بعض التجوزات في مسائل الملبس خاصةً، وإن كان العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى يكره الذهب للأطفال حتى لا ينشأوا على هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

معنى ورود جهنم المذكور في سورة مريم

معنى ورود جهنم المذكور في سورة مريم Q ما معنى الورود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] ؟ A قال فريق من أهل العلم -ويكاد ينعقد قول الجمهور على ذلك-: إن المراد بالورود: المرور على الصراط، والله سبحانه وتعالى أعلم.

أذان الفجر ولقمة الصائم في فمه

أذان الفجر ولقمة الصائم في فمه Q إذا نوى رجلٌ الصيام، وكان في فمه طعامٌ فأذن لصلاة الفجر هل يلفظ ما في فمه أم يأكله؟ A يأكله ولا حرج.

إحباط العمل بترك صلاة العصر ومعناه

إحباط العمل بترك صلاة العصر ومعناه Q هل ترك صلاة العصر يُحبط العمل؟ A نعم. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) . السؤال: ما معنى إحباط عمل تارك صلاة العصر؟ الجواب: إحباط عمل تاركها ينبني على أشياء. فإن كان ترك صلاة العصر جحوداً لها فتحبط جميع الأعمال ويكفر بذلك، وإن كان ترك صلاة العصر تكاسلاً فقد قال فريق من أهل العلم: يحبط عمل يومه ذلك. والقواعد الكلية لأهل السنة والجماعة تفيد عدم التكفير إلا عند الجحود، وهذا رأي الجمهور.

صلاة سنة الفجر بعد الفريضة

صلاة سنة الفجر بعد الفريضة Q هل يجوز أداء ركعتي سنة الفجر بعد صلاة الفجر؟ A نعم. يجوز ذلك؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها) .

إيثار الدعاء بين الأذان والإقامة على السنة القبلية

إيثار الدعاء بين الأذان والإقامة على السنة القبلية Q هل يجوز ترك السنة القبلية لأجل الدعاء بين الأذان والإقامة؟ A لا يشرع ذلك، بل يكره كراهية شديدة.

الجمع بين ملك النخل وقوله تعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير)

الجمع بين ملك النخل وقوله تعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) Q إذا كان الإنسان يملك النخل بأكمله فما الجواب على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] ؟ A السائل بعيد، فالإنسان لا يملك شيئاً، بل يموت ويترك كل شيء لله سبحانه وتعالى.

مدى صحة النهي عن صيام يوم السبت، وما ورد مما يخالفه

مدى صحة النهي عن صيام يوم السبت، وما ورد مما يخالفه Q ما صحة ومعنى حديث: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) ؟ A الحديث ضعيف حكم عليه خمسة من الأئمة الأولين بالضعف، فقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى فيه: هذا حديث كذب، وقال أبو داود رحمه الله تعالى: هذا حديث مضطرب. فضعفه خمسة من الأوائل، وإن كانت له أسانيد يُحكم عليها في الظاهر بالحسن إلا أن هؤلاء الخمسة الأئمة على تضعيف هذا الحديث. وأما من ناحية المعنى فإن المعنى ضعيف كذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يصومن أحدكم الجمعة إلا ويوماً قبله أو يوماً بعده) ، واليوم الذي بعده هو السبت يقيناً، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوما) ، فمن حافظ على هذا فسيصوم السبت يقينا، وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالثلاث البيض من كل شهر) ، وبالمحافظة عليها يأتي فيها السبت يقيناً على مدار العام. أما أن يفهم من هذا الحديث أنه لا يصام السبت حتى وإن كان يوم عرفة فهذا فهم خاطئ، ولم يقل به السلف، بل جماهير السلف رحمهم الله تعالى على خلافه، والله سبحانه وتعالى أعلم. فإن صح الخبر فهو منزلٌ على من يخصص يوم السبت لاعتقاد منه على أن في ذلك خيراً، فسيكون قد خصص السبت وشابه اليهود في تخصيصهم السبت من دون الأيام؛ إذ اليهود يسبتون يوم السبت، ويؤخرون الأعمال فيه، ويعتقدون أن في السبت فضيلة، فإن فعلت وأنت تعتقد هذا الاعتقاد اليهودي فلا شك أنك مذموم.

تفسير سورة الحديد [2]

تفسير سورة الحديد [2] الصدقة من أعظم أعمال البر، لكنها لا تقبل إلا بشروط يجب توافرها، والمؤمنون يحرصون على تحقيق هذه الشروط، ولذا فأعمالهم الصالحة يقبلها الله منهم، ويكون لهم بذلك نور يوم القيامة، بخلاف المنافقين الذين ينطفئ نورهم على الصراط، وهم في أمس الحاجة إليه، فيقعون في جهنم وبئس المصير. وقد رغب الله عباده في الخشوع، وعاتبهم على ضعفه في قلوبهم، وحذرهم من قسوة القلوب، ومن كمل إيمانه فهو من الخاشعين الصديقين، والصديق أعظم رتبة من الشهيد، فعلى المسلم أن يتعاهد قلبه بأسباب الخشوع.

تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا)

تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11] . هذه الآية فيها حث وترغيب على الإنفاق في سبيل الله، فيقول الله سبحانه: ((مَنْ ذَا الَّذِي)) أي: من هو هذا الرجل؟ ومن هو هذا الشخص ((الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)) ؟

شروط القرض الحسن

شروط القرض الحسن والقرض الحسن ضبطه العلماء بضوابط، فقالوا: كي يكون القرض حسناً ينبغي أن تتوافر فيه شروط: منها: أن يكون هذا القرض من كسب طيب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب لمثل ذلك؟!!) ، وفي مطلع هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، فمن شروط القرض الحسن أن يكون من كسب طيب. ومن شروط القرض الحسن: أن يبتغى به وجه الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] . ومن شروط القرض الحسن: ألا يتبعه منٌ ولا أذى؛ فإن المنّ والأذى يبطلان الصدقات، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] . وأيضاً: ألا يكون مع هذا القرض الحسن هتك ستر ولا فضيحة لمن تُصدق عليه، ولذلك جاءت الأوامر بإخفاء الصدقات، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) فللقرض الحسن شروط، وقد فهم هذه الآية الكريمة صنفان من الناس، فصنف فهمها على الوجه اللائق بها، وعلى مراد الله سبحانه وتعالى، وصنف آخر جاهل فهمها على وجه آخر، وهذا الصنف الغبي الجاهل هم اليهود، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! إن ربك فقير يسألنا الصدقة. وفيهم يقول ربنا سبحانه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:181-182] . والصنف الآخر الذي فهمها على الوجه اللائق بها هم أهل الإيمان، فلما سمع أبو الدحداح الأنصاري رضي الله تعالى عنه هذه الآية قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله سبحانه وتعالى يقول: ((مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ)) وإني أشهدك -يا رسول الله! - أن حائطي -أي: بستان له كان به نخل كثيرة- صدقة لله ورسوله أرجو برها وذخرها عند الله سبحانه. فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليه بقوله: (ربح البيع أبا الدحداح) ، فانطلق هذا الرجل إلى زوجته وأولادهما في البستان، فقال لهم: إني قد أقرضت ربي عز وجل هذا الحائط. فخرجت تجمع عليها ثيابها وتأخذ بين يديها أولادها، مثنية على فعل زوجها، راضية بهذا الفعل، وتركوا الحائط لله ورسوله! فالله سبحانه يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} . والتضعيف قد يصل إلى سبعمائة ضعف، وقد يزيد على السبعمائة ضعف، وقد يكون إلى عشرة أضعاف فقط، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] ، وقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ، ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من تصدق بصدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها منه، فيربيها له كما يربي أحدكم مهره أو فلوّه، حتى تأتي يوم القيامة كالجبل العظيم) ، ولا اعتراض على أفعال الله سبحانه، ولا على رزق الله سبحانه، فقد تتصدق بجنيه واحد، ويتصدق أخ لك بجوارك بجنيه، وثالث يتصدق بجنيه، لكن ربنا يضاعف لهذا صدقته إلى ملايين، ويضاعف لذاك صدقته إلى سبعمائة، ويضاعف لهذا صدقته إلى عشر أمثالها، وذلك كله مرده إلى الله سبحانه وتعالى، فجدير بمن تصدق أن يطلب من الله سبحانه تضعيف الأجر ومزيد الثواب.

تفسير قوله تعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم)

تفسير قوله تعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم) قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] ، وهذا يكون يوم القيامة كما قال جمهور المفسرين، فأهل الإيمان يتقدمهم نورهم إلى الأمام وعن الأيمان، وهذا النور على قدر الأعمال، فمن كانت أعماله الصالحة كثيرة فإن النور يشتد له، ويمر بهذا النور على الصراط، ويجتاز بهذا النور الظلمات، ومن قلّت أعماله قلّ نوره، ومنهم من يطفأ نوره مرة. ويضيء أخرى، فالله سبحانه يقول: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] ، ومعنى: (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي: أمامهم، ودعاؤهم بقولهم: ((رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) إذا تدبرته وعلمت ملابساته، لم تفارق الدعاء به في حياتك الدنيا، فمتى يصدر هذا الدعاء من أهل الإيمان؟ ومتى يقول أهل الإيمان هذا الدعاء؟ ما ذكر المفسرون في هذه الآيات أن النور يقسم على كل من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، في مكانٍ ما، وكلٌ يأخذ حظه من هذا النور على قدر أعماله، وينطلق بهذا النور كي يجتاز به الظلمات، ويمر به على الصراط، فيمرون على الصراط، فمنهم من يمر على الصراط كالبرق، ومنهم من يمر على الصراط كالريح، ومنهم من يمر على الصراط كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر مسرعاً، ومنهم من يمر ماشياً، ومنهم من يمر بطيئاً، ومنهم من يمر زاحفاً، ومنهم من يتعثر مرة ويمر مرة، ومنهم من يسقط مكدوساً في جهنم والعياذ بالله، فهذا النور على قدر الأعمال، فهناك مكان تقسم فيه الأنوار، وكلٌ يأخذ نوراً على قدر عمله، فينطلق أهل الإيمان ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وينطلق معهم أيضاً من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) بلسانه من أهل النفاق، ففجأة تطفأ أنوارهم، فيقولون لإخوانهم من أهل الإيمان -كما حكى الله تعالى عنهم- ((انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)) قد فقدنا الأضواء التي كنا نستضيء بها. وفي قراءة: (انظرونا) ، وفي قراءة: (أمهلونا) ، وفي ثالثة: (ارقبونا نقتبس من نوركم) . {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] . اختلف العلماء في القائل: (ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً) ؟ من أهل العلم من قال: إن الله هو القائل. ومنهم من قال: إن الملائكة هم الذين يقولون. ومنهم من قال: إن أهل الإيمان هم الذين يقولون. لكن أُبهم القائل في السياق، فلا معنى للبحث عن القائل، وعلى كلٍ لا يقال شيء بغير أمر الله سبحانه وتعالى. {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} فيذهب أهل النفاق إلى حيث كانت الأنوار تقسم فلا يجدون أنواراً، فيرجعون مسرعين إلى أهل الإيمان؛ كي يستضيئوا بنورهم مرةً ثانية، {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} أي: تجاه أهل الإيمان {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:13-14] ، فهذه الخدعة يخدع الله بها أهل النفاق، كما قاله كثيرٌ من أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، فهذه أكبر خدعةٍ يخدع بها أهل النفاق في الآخرة والعياذ بالله، فلما يرى أهل الإيمان أن أنوار أقوام أطفئت يتوسلون إلى ربهم، ويتجهون إلى ربهم، ويجأرون إلى ربهم بالدعاء قائلين: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] . فقوله تعالى: ((يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى)) أي: أهل النفاق ينادون أهل الإيمان: (ألم نكن معكم) ؟ ((قَالُوا بَلَىوَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ)) أي: شككتم في البعث وشككتم في التوحيد، قال تعالى: ((وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ)) ، أي: تلك الأماني الكاذبة التي تضل أهلها، قال تعالى: ((حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)) . قال تعال: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد:15] ، أي: فداء، {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:15] .

تفسير قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)

تفسير قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) ثم قال تعالى حاثاً عباده المؤمنين على الإيمان، ومستبطئاً لهم في عدم مبادرتهم إلى الخشوع: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] ، أي: ألم يحن لهذه القلوب القاسية أن تلين لذكر الله وما نزل من الحق؛ فإن هذا الذي نزل من الحق، يليّن الحجارة إذا نزل عليها، كما قال سبحانه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] ، وكما قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] . فيقول الله لأهل الإيمان: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ، وبهذا يكتشف المؤمن نفسه، ويعرف المسلم نفسه، وقد قدمنا أنه لم ينزل عليك وحيٌ يفيدك أنك على خير، ولكن ثم نصوصٌ تستطيع بها قياس نفسك ومعرفة أمرها، فالله ذكر أهل الإيمان فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، فقس نفسك على هذا، فهل أنت من هذا الصنف الذي قال تعالى فيه: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، أم أنك لست منهم؟ كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأهل الجنة ثلاثة -وممن ذكر منهم-: رجلٌ رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم) ، فانظر هل أنت هذا الرجل الرحيم رقيق القلب، تحزن إذا أصيب أخوك المسلم بمصيبة، وتحزن إذا حلت بأخيك المسلم فضيحة، أم أنك لست من هذا الصنف؟ فهذه مقاييس تقيس بها نفسك، قال الله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] ، فانظر إلى نفسك واكتشفها في حياتك الدنيا، فهل دمعت عينك لله سبحانه؟ وهل رقّ قلبك لذكر الله سبحانه؟ وهل رق قلبك للأيتام وللأرامل وللمساكين؟ أم لست من هذا الصنف؟ قس نفسك فأنت بها أخبر، وأنت لها طبيبٌ بإذن الله، قال الله سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] . وفي قوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} قولان مشهوران لأهل العلم: أحدهما: طال عليهم الأمد في النعيم، فلما طال عليهم الأمد في النعيم نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً. أي: نعّموا وأغدقت عليهم النعم، فلما نعّموا وأغدقت عليهم النعم كفروا ربهم وخالقهم سبحانه، فلم يقوموا بشكره، ولم يتضرعوا إليه، كما قال الله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، وكما قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:83] ، إلى غير ذلك من الآيات. فعلى هذا القول يكون المعنى: طال عليهم الزمن في النعيم، فمتعوا متاعاً طويلاً، ولم يصابوا بالمصائب، ولم يبتلوا بالبلايا، ولم يتضرعوا إلى الله، ولم يشعروا بحال الضعفاء وبحال المساكين وبحال المرضى؛ فإن المصائب وأنواع الفقر وأنواع البلايا التي يصاب بها الإنسان تردّ الإنسان رداً جميلاً إلى الله سبحانه وتعالى، وتذكره بأحوال إخوانه الجائعين، وبأحوال إخوانه العارين، وبأحوال الأيتام، وبأحوال المساكين، وقد قال ربنا جل ذكره: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27] . فهذا هو المعنى الأول في تفسير قوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} أي: فطال عليهم العمر في النعيم، كقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:44] ، فطال عليهم العمر في النعيم؛ فنسوا ذكر الله، ولم يرفعوا أيديهم إلى الله سبحانه، ولم يسألوه ولم يرجوه. والمعنى الثاني في قوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} أي: طال عليهم زمن البعد عن التذكير، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم، كلما هلك نبيٌ خلفه نبيٌ آخر) ، فكان الأنبياء من بني إسرائيل يذكرون بني إسرائيل إلى أن جاء عيسى عليه الصلاة والسلام، فرفع الله عيسى صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بين عيسى صلوات الله وسلامه عليه وبين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أنبياء، فهذه المدة التي لم يأت فيها أنبياء بين عيسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قل فيها المذكرون بالله، فطال على بني إسرائيل وعلى أهل الكتاب الأمد -وهو الزمن- وبعدوا عن التذكير وعن الذكرى، فلما طال عليهم الأمد في البعد عن التذكير قست قلوبهم. فيؤخذ من هذا أن الذي يبتعد عن التذكير، ويبتعد عن مواعظ الذكر يقسو قلبه، ولذلك يتعين على كل مسلم أن يحافظ على الواعظ التي فيها تذكير بالله سبحانه، وفيها تذكير بلقاء الله، وفيها تذكيرٌ بالموت، وبذلك وعلى ذلك حثنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب ربنا الحث على ذلك، وقد قال تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] ألا وهي تذكر الدار الآخرة. وكان النبي عليه الصلاة والسلام (يتخول أصحابه بالموعظة كراهية السآمة عليهم) أي: يعظهم بين الحين والآخر، قال العرباض بن سارية رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) ، وفي الحديث (أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل فوعظهم موعظةً بليغة حتى أبكاهم) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] ، فينبغي أن يحافظ المرء منا على المواعظ التي فيها وعظ وفيها تذكير بالله وفيها فوائدٌ، وفيها تذكير بلقاء الله وبالموت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) ، فينبغي أن تحافظ في هذا الجانب بين الحين والآخر، واستمع إلى المواعظ حتى يرق قلبك؛ فإن الله سبحانه ذكر سبب قسوة القلب في هذه الآية فقال: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: لما ابتعدوا عن الذكر قست هذه القلوب؛ فإن التذكير يطهر القلوب ويحييها، وكذلك المصائب تحيي القلوب، فلذلك هذه الآية الكريمة جمعت المعنيين معاً، فطال عليهم زمن البعد عن التذكير، وطال عليهم الأمد في النعيم، فقلت عليهم المصائب، فماتت قلوبهم لقلة البلايا والمصائب، والبلايا والمصائب قد تحرك القلب، فقد لا يتحرك القلب أحياناً بموعظة ولكنه يتحرك بابتلاء، وقد لا يتحرك القلب بسماع آية من كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا فوجئ الشخص -مثلاً- أن المصباح قطع فإنه حينئذٍ يبدأ بالتضرع والرجوع واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وقد لا يتحرك الشخص من موعظة، ولكنه لما يرى أولاده مرضى أو جياعاً أمام عينيه يتحرك قلبه! قال تعالى: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] أي: خارجون عن الطاعة. وقد روي أن هذه الآية كانت سبباً في هداية طائفةٍ من السلف، ومن أشهرهم الفضيل بن عياض العابد المشهور في تاريخ المسلمين، كان يقطع الطرق، ويسطو على البيوت، ويغازل النساء، ويفعل المحرمات والموبقات، ويرعب الناس المارة في الصحاري وفي البراري وفي القفار، فسطا يوماً على منزل من المنازل، وبينما كان يصعد الجدران للسطو على منزل لإيذاء أهله سمع تالياً يتلو هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ، وأراد الله له الهداية، فقال: بلى -يا رب! - قد آن أن يخشع قلبي لذكرك. وعاهد الله ألا يعصي بعد ذلك، ولا يسفك دماً، ولا يقطع طريقاً، فنزل عازماً على التوبة، فمر به قومٌ وهو مستترٌ عن أعينهم فقالوا: أسرعوا في المسير؛ فإن هذا المكان به قاطع الطريق المشهور الفضيل بن عياض، فازداد حسرةً وندامة على ما صنع، وعندما سمع منهم هذه المقالة عزم على العكوف في بيت الله الحرام يتلو آيات الله آناء الليل ويركع ويسجد، واستقام على ذلك إلى أن قبضه الله سبحانه وتعالى، وثم قصص لغيره أيضاً.

تفسير قوله تعالى: (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها)

تفسير قوله تعالى: (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها) قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] . اختلف العلماء في وجه الربط بين قوله تعالى: ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) ، وقوله تعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)) ؟ فمن أهل العلم من قال: لا يلزم أن يكون هناك ربطٌ بين الآية والآية التي تليها، لكن أحياناً يكون هناك ارتباطٌ وثيق، وهنا ارتباط وثيق بين هذه الآية والتي تقدمتها، فالله يقول: ((اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)) أي: فكما أن الأرض يحييها الله سبحانه وتعالى بالماء الذي ينزل من السماء فكذلك القلوب يحييها الله سبحانه وتعالى بالوحي الذي ينزل من السماء. وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل عليه بالغيث في قوله: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً) . الحديث، فكما أن الأرض يحييها الله سبحانه وتعالى بالماء فكذلك القلوب يحييها الله سبحانه وتعالى بالإيمان، ويحييها الله بالوحي وبالقرآن، قال الله سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122] . {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: أحياها الله سبحانه بهذا الوحي، قال جبير بن مطعم: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الطور، وكنت آنذاك مشركاً، فلما قرأ قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] كاد قلبي أن يتصدع، وفي الرواية الأخرى: أن يطير، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17] .

تفسير قوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا)

تفسير قوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً) قال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18] . اشتملت الآية على ذكر النساء أيضاً لحثهن على الصدقة، وكان يكفي أن يقال: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ) ويدخل فيهم النساء، لكن نص على ذكر النساء أيضاً لحاجتهن إلى التصدق، فقد خصهن رسول الله أيضاً بذلك، وبعد أن خطب خطبة العيد اتجه إلى النساء فقال: (يا معشر النساء: تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار. قلن: بم يا رسول الله؟! قال: تكثرن اللعن، وتكفرنّ العشير ... ) .

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون) قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . في هذه الآية يقال: هل الوقف على قوله تعالى: (الصِّدِّيقُونَ) أم على قوله: ((وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) ، فهل يقال: إن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، ثم جاء أجرٌ آخر للجميع: فقال تعالى: ((لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)) ، أم يقال: إن الوقف عند قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، وتم المعنى، ثم قال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، ثم ذكر صنفاً ثالثاً فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . فالوقف كثيراً ما يكون للعلماء فيه وجهان، ولذلك نقول: إن علامات الوقف الموضوعة في المصاحف لا تؤخذ -فقط- من أهل التجويد ومن أهل القراءات، بل أيضاً من علماء التفسير، فعلماء التفسير يستطيعون ضبط المعاني، ومن ثم ضبط علامات الوقف، فأحياناً يكون عالم من علماء القراءات -مثلاً- يفهم الآية على معنىً من المعاني، ويكون في التفسير متسع، فيقول بوضع علامة الوقف على كلمة، ويخالفه آخرون في موضع الوقف لفهمهم الآية على معنى آخر. مثال ذلك: علامة الوقف اللازم عند قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] ، فمن العلماء من يضع فوق قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} ، علامة الميم التي تعني: الوقف اللازم، وهذا ينبني على أن الذي قال: (إني مهاجرٌ إلى ربي) ، هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ لأنك إذا وصلت فقرأت: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} ، فالضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو لوط صلى الله عليه وسلم، فيكون القائل: إني مهاجرٌ إلى ربي، وهو لوط صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء على أن الذي قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} ، هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ، لكن هذا أيضاً ليس بنافٍ أن يقول لوط عليه الصلاة والسلام: (إني مهاجر إلى ربي) ، خاصةً أن لوطاً صلى الله عليه وسلم كان في بلدة ليست له فيها قبيلة، وهذا أحد الأقوال في تفسير قول لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] ، قال فريق من المفسرين: لم تكن له قبيلة في هذه البلدة؛ فقال هذه المقالة، والله سبحانه وتعالى أعلم. وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، يقال: هل كل مؤمن بالله ورسله يعد صديقاً من الصديقين، أم أن في هذا الأمر تفصيلاً؟ والجواب لاشك أنه لا يقال: إن كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يعد صديقاً من الصديقين. وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام وصف بعض أصحابه فقط بالصديقية، فقال عليه الصلاة والسلام لما صعد جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء. قالوا: تلك منازل الأنبياء -يا رسول الله- لا يبلغها أحد غيرهم! قال: كلا. والذي نفسي بيده. رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) . والمؤمنون في الجنة، لكنهم في درجات دون هذه الدرجات العلى. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) ، ففيه إشعار بأنه لا يكتب كل شخصٍ صديقاً، إنما الذي يصدق ويتحرى الصدق، يؤول به التحري للصدق إلى أن يكتب عند الله صديقاً، وكذلك قال الله سبحانه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] ، فوصفت مريم عليها السلام بالصديقية، فلا يقال يقيناً: إن كل من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صديق من الصديقين. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)) ؟ قلنا: المعنى: والذين كمل إيمانهم بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم. ويؤيد هذا المعنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع، وذكر منهن مريم عليها السلام) ، فقد كمل إيمانها فكانت صدّيقة، وأبو بكر رضي الله عنه لما كمل إيمانه، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام في خبر الإسراء والمعراج بلا تردد وصف بالصديقية. فيقال في قوله تعال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} أي: الذين كمل إيمانهم بالله ورسله أولئك هم الصديقون.

أيهما أرفع الصديق أم الشهيد؟

أيهما أرفع الصديق أم الشهيد؟ جاء ذكر الشهداء فقال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، فهل الصدّيق أرفع درجة أم الشهيد؟ والظاهر من سياق الآيات أن الصديق دائماً يقدم على الشهيد في الذكر، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، وقال تعالى هنا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، وقال عليه الصلاة والسلام: (اثبت أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ، وقد وصف في القرآن يوسف صلى الله عليه وسلم بالصديقية، وهو نبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أنه قُتل شهيداً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى حكاية عن رسول الملك إلى يوسف: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] ، ووصفت مريم بالصديقية وهي كاملة الإيمان عليها السلام، فأحياناً قد يفوق الشخص الشهداء وهو لم يقتل في سبيل الله، فإذا كان الإيمان في قلبه كبيراً هائلاً فقد يفوق الشهداء في الرتبة. وإن لم يقتل فـ أبو بكر رضي الله عنه لم يقتل شهيداً رضي الله عنه، فلم يقتل بضربة سيف ولا بطعنة رمح، ومع ذلك فـ أبو بكر -باتفاق أهل السنة- أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل من الصحابة الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرتبة أبي بكر أعلى من مراتبهم، بدليل حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أبو بكر وعمر سيدا شيوخ أهل الجنة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم) رضي الله تعالى عنهما، وفي الحديث: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله: هذا خير. فإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد) . الحديث، وفيه أن أبا بكر يدعى من تلك الأبواب جميعها. فهذا يفيد أن أعمال البر -سواء أعمال القلوب أو أعمال البدن- قد تدخل الشخص عالي الجنان وإن لم يقتل شهيداً، بل ويفوق مراتب الشهداء، فهذا لا بد أن يوضع في الاعتبار، فلا تأخذ الأحاديث الواردة في فضل الشهيد في سبيل الله وتترك سائر الأحاديث الواردة في أصناف أُخر من الدعاة إلى الخير، ومن القائمين على الأيتام، ومن القائمين على الأرامل، ومن القائمين على مشاريع الخير، ومن العاملين لأعمال البر، فهذه أبواب، (وكلٌ ميسر لما خلق له) ، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} . أبهم ذكر أجرهم لعظمته، فلهم أجرهم الذي تكفل به ربنا سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ، كأنه قد عقدت صداقة بينهم وبين الجحيم، فقيل عنهم: إنهم أصحاب الجحيم. أي: أصدقاء الجحيم بينهم وبينها صداقة، فهي تتولاهم، وهم نزلاؤها وهم سكانها، وهي مولاهم وبئس المصير. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

فضيلة العمرة في رمضان

فضيلة العمرة في رمضان Q ما حكم العمرة في رمضان؟ A تفاصيل العمرة لا يتسع الوقت لذكرها، لكن ما يصنعه إخواننا المصريون على وجه الخصوص من الذهاب إلى مسجد التنعيم ليأتوا بعمرة أخرى بعد أن يعتمروا عمرتهم التي أهلوا بها من الميقات، وكلٌ يأتي من مسجد التنعيم بعمرة، أو بعمرتين، أو بعشر عمرات عن أمه، أو عن أخته، أو عن خالته لم يرد عن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي يقول بذلك عليه أن يثبت لنا ذلك بآثار عن الصحابة تفيد ذلك، فما ورد إلا فعل أم المؤمنين عائشة، وكان لعلة لا تخفى، فإن أم المؤمنين عائشة خرجت حاجة، فلما أهلت بالحج واقتربت من مكة حاضت، فلما حاضت انتظرت، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ، فانتظرت ودخلت عليها أيام الحج، وقد أهلت بعمرة، وقالت في الميقات: (لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة) ومشت، وعلى المعتمرة أن تطوف وأن تسعى، لكنها حاضت، فلما حاضت ونهاها الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطواف حال حيضها لم تطف طواف عمرتها، فدخلت عليها أيام الحج، وجاء يوم التروية فبدأ الناس يهلون بالحج: (لبيك اللهم لبيك، لبيك حجاً) ، وعائشة رضي الله عنها أهلت بالعمرة، تكن انتهت منها بعد، فإن انتظرت حتى تطهر، فقد لا تطهر إلا بعد يوم عرفة، فيفوتها الحج، فسألت النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا أصنع؟ قال لها عليه الصلاة والسلام: (ارفضي عمرتك) ، أي: انقضي عمرتك. وفي رواية أنه قال لها: (أهلي بالحج) ، فرفضت العمرة، أو أقرنت بالحج -أي: أدخلت على عمرتها الحج- فقالت: (لبيك اللهم لبيك، لبيك حجاً) ونقضت العمرة التي لم تنته منها، فذهبت إلى عرفات، ورجعت من عرفات إلى منىً، ورمت الجمار مع المسلمين، وبعد أن طهُرت طافت بالبيت طواف الحج، وبعدها أراد الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه أن ينصرفوا، فدخل عليها فإذا هي تبكي، فقال: (لم تبكي؟!) . قالت: كل أزواجك يرجعن بحجة وعمرة، وأنا أرجع بحجة يا رسول الله! قال: (اذهب بها يا عبد الرحمن إلى التنعيم فأعمرها من التنعيم) ، فذهب بها عبد الرحمن إلى التنعيم، فأعمرها من التنعيم، ولم يرد أن عبد الرحمن نفسه أحرم معها بالعمرة، ولو كان فيه خير لاعتمر معها رسولنا عمرة لنفسه إضافية، فالعمرة مأجور فاعلها، فجاءت عائشة بعمرة أخرى من التنعيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه مكان عمرتك التي نقضتيها) ، فتمسك بهذا بعضهم وقالوا: يشرع أن تعمل عمرة من التنعيم؛ لأن أم المؤمنين فعلت ذلك، ويذهب إخواننا كل يوم -وأنت في المسجد الحرام معتكف- من مكة إلى التنعيم، وبعضهم يأتي في اليوم بخمس أو ست عمرات، أو بعشر عمرات، فبأي دليل هذا؟ ومَن مِنَ الصحابة فعل ذلك؟! وأين الأسانيد إليهم بهذه الأفعال؟! وهل فعلها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو لم يفعلها؟! والرسول عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمرات، فاعتمر عليه الصلاة والسلام عمرة القضية، ويسمونها عمرة القضاء، وهي العمرة التي كانت بعد العمرة التي صد فيها عن المسجد الحرام يوم الحديبية، فصده أهل مكة عند الحديبية، ووقع بينهم الصلح المشهور، واتفقوا أن يأتي من العام القادم بعمرة مكان تلك العمرة التي صد فيها عن المسجد الحرام، وسميت عمرة القضية للمقاضاة التي وقعت بين الرسول وبين أهل الشرك، وسميت عمرة القضاء لأنها قضاء عن العمرة التي صُدّ عنها الرسول عليه الصلاة والسلام. والخلاف في هذه التسمية -أي: تسمية عمرة القضية قضاء- ينبني عليه أن يقال: من ذهب إلى عمرة وحيل بينه وبين تمامها، فهل يشرع له أن يعتمر من العام المقبل مكانها، أم لا يشرع؟ فالذين قالوا: سميت بعمرة القضاء لأنها قضاء عن العمرة السابقة. قالوا: يستحب له أن يقضي العمرة التي فاتته. ومن قال من أهل العلم: سميت بعمرة القضية للمقاضاة التي دارت بين رسول الله وبين المشركين قالوا: لا يشرع له القضاء عن التي أحصر عنها، بل يتحلل ولا شيء عليه.

حكم تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة

حكم تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة Q هل يصلي تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة؟ A قد أتى نص عن رسول الله: (إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين) ، فهذا نص عن النبي عليه الصلاة والسلام في جواز تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة.

جندي في الجيش لم يذهب إلى البوسنة تحت رعاية الأمم المتحدة

جندي في الجيش لم يذهب إلى البوسنة تحت رعاية الأمم المتحدة Q عندما كنت بالجيش عُرض عليّ أن أذهب إلى البسنة مع الجيش المصري الذي يعمل هناك تبعاً للأمم المتحدة، فرفضت أن أذهب خوفاً من أن أقتل، فهل هذا فرار من الجهاد؟ A لست فاراً من الجهاد، ولا شيء عليك؛ لأن القوات المصرية كانت تحت رعاية الأمم المتحدة، والأمم المتحدة قيادتها كافرة بلا شك، ولا تستطيع أن تذهب ونيتك الجهاد؛ لأنك هناك مأمور، وكيف تضرب المسلمين بالرصاص وتقول: نيتي جهاد؟! فالنية لابد أن تكون صالحة، ويكون العمل صالحاً أيضاً.

حديث: (أنتم شرقي نهر الأردن وهم غربيه)

حديث: (أنتم شرقي نهر الأردن وهم غربيه) Q حديث (أنتم شرقي الأردن وهم غربيه) ما حاله؟ A لا يثبت، هو حديث ضعيف تالف جداً، وما أدري من أين يأتي الإخوان بالأحاديث هذه؟! فهي أحاديث ضعيفة واهية، وبعض المشايخ -الله يغفر لهم- يحدثون بها، وهي أحاديث تالفة جداً.

صوم التطوع بدون تبييت النية من الليل

صوم التطوع بدون تبييت النية من الليل Q هل يصح عقد صيام التطوع بدون نية من الليل؟ A هذه المسألة للعلماء فيها قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لحديث حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صيام لمن لم يبيت النية) ، ولكن الصحيح فيه أنه موقوفٌ على حفصة من كلامها، وقد روي عنها عن رسول الله، لكن أورد الإمام النسائي في سننه ما يؤكد من خلال الطرق التي أوردها أن الصواب فيه الوقف على حفصة من قولها، لكن قال بعض العلماء، وبهذا الحديث، وقال آخرون: يجوز أن تصوم ولو لم تعقد النية من الليل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام (كان يصبح، فيسأل أهل بيته: هل عندكم طعام؟ فإن قالوا: لا. قال: إني صائم) ، فاستدل به على هذا. والله سبحانه أعلم.

نقل الزكاة

نقل الزكاة Q هل يجوز نقل الزكاة من بلدةٍ إلى أخرى؟ A لا أعلم دليلاً يمنع من ذلك، والمانعون يستدلون بحديث: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ، لكن التقدير في قوله عليه الصلاة والسلام: (فترد على فقرائهم) يرجع إلى فقراء المسلمين، لا إلى فقراء البلدة، وهذا قول كثير من أهل العلم، ومن العلماء من أعاد الضمير إلى فقراء البلدة، لكن ثبت (أنه كانت تجبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زكوات بعض البلدان، أو جزية بعض البلدان،) كما أتى أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه بمال الجزية من البحرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم على من حضره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم) .

المشي في المسجد والإمام يخطب

المشي في المسجد والإمام يخطب Q هل يجوز أن يمشي أثناء خطبة الجمعة؟ A لا يجوز أن يمشي في أثناء الخطبة، وكذلك حامل صندوق الزكاة والخطيب يخطب لا يجوز له ذلك.

رد السلام والإمام يخطب يوم الجمعة

رد السلام والإمام يخطب يوم الجمعة Q رجلٌ سلم علي أثناء خطبة الجمعة فماذا أفعل؟ A هذه مسألة مختلف فيها بين العلماء. فبعض العلماء يرى أنك لا ترد عليه لكي لا ينشغل الناس، ولحديث: (من قال لصاحبه: أنصت، والإمام يخطب فقد لغى) ، ومن أهل العلم -كـ ابن حزم وغيره- من رأى جواز رد السلام، وجواز تشميت العاطس، وجواز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء من قال: ترد إشارةً كالمصلي الذي يرد على من سلم عليه.

رد السلام أثناء الصلاة

رد السلام أثناء الصلاة Q هل يجوز رد السلام في الصلاة؟ A يجوز رد السلام في الصلاة، فالرسول عليه الصلاة والسلام ثبت عنه في الحديث أنه: (كان إذا سُلم عليه وهو يصلي رد السلام هكذا) ، وفسرها الراوي بأنه عليه الصلاة والسلام يضع بطن يده اليمنى إلى أسفل وظاهر كفه إلى أعلى، وهذا في الصحيح.

رد السلام إشارة في غير الصلاة

رد السلام إشارة في غير الصلاة Q هل يجوز الرد إشارة في غير الصلاة؟ A يجوز أن ترد إشارة في رأيي، لكن من أهل العلم من يرى كراهية الإشارة التي ليست مصحوبة بتلفظ، كرجل يمشي ويسلم على الثاني بيده لأنه بعيد لا يسمعه، ومن العلماء من يقول: حتى لا تقع في محظور قل: (السلام عليكم مع هذه الإشارة) وإن لم تسمعه؛ لأنه ورد حديث حسنه بعض العلماء كالشيخ ناصر حفظه الله تعالى، وهو حديث: (لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى؛ فإن تسليم اليهود بالأكف، وتسليم النصارى بالإشارة) ، وهذا محمول في ظني -والله أعلم- على الإشارة المجردة عن السلام، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام قد (سلم على نسوة من النساء قعود) وفي رواية من طريق شهر بن حوشب (فألوى بيده في التسليم) عليه الصلاة والسلام، فإذا رددت إشارة فقل معها: وعليكم السلام.

حكم الطلاق ثلاثا

حكم الطلاق ثلاثاً Q ما حكم الطلاق ثلاثاً؟ وهل تقع طلقة واحدة كما قال شيخ الإسلام؟ A أصاب شيخ الإسلام في هذه المسألة لموافقته الدليل الصريح الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كان طلاق الثلاث في المجلس الواحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، فلما جاء عمر قال: أرى الناس قد تتابعوا على أمرٍ كانت لهم فيه أناه، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم عمر.

حكم تعليق ورقة في المسجد لبيان وقت الإقامة

حكم تعليق ورقة في المسجد لبيان وقت الإقامة Q عندنا مسجد على طريق المسافرين ودائماً يستعجل المسافرون في إقامة الصلاة، فهل يمكن أن نعلق ورقة ونكتب فيها: الفرق بين الأذان والإقامة في الظهر خمس عشرة دقيقة، والعصر خمس عشرة، والمغرب ركعتان، ونحو ذلك؟ A هذا أمرٌ محدث لم يكن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن فعل في مساجد بعض البلاد الإسلامية! فليست مساجد تلك البلاد الحكم ولا الدليل، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رآهم تقدموا صلى، وإذا رآهم تأخروا أخر الصلاة) أي: على حسب حال المصلين، فإذا رأى أهل بلدة أن من المصلحة أن تضبط أوقات إقامة الصلاة، فلا آتي واعمل بذلك في بلدي على أنه سنة عن رسول الله، وإنما أجاز علماء تلك البلاد هذا بسبب خلافات حصلت في المساجد؛ لأنهم يجبرون على إغلاق المحلات، وهذا فعل حسن جداً، ليس كما عندنا في بلاد الفوضى، فعندهم تقفل المحلات ساعة الصلاة، فكان من الممكن أن يتلاعب العامل ويقول: أنا خرجت أصلي، والإمام أخر إقامة الصلاة نصف ساعة، ويأتي الآخر يقول: ما أخرها نصف ساعة، بل صلاها في وقت كذا، فأرادوا تثبيت الأوقات لمراعاة مصلحة العمل مع رؤساء العمل، فلهم وجهتهم، ولهم اجتهادهم، لكن كوني آتي في بلدي وأنقل نفس ما يفعلون بدون النظر إلى ملابسات أفعالهم فهذا خطأ وتقليد لا وجه له، فإذا احتيج إلى عمل شيء ينظر فيه وفي أقوال أهل العلم، فهنا المسافرون في حاجة إلى الإسراع، فكونك تأتي وتقول للمسافر: انتظر بين الأذان والإقامة ربع ساعة فيه مشقة على المسافر، دعه يصلي في جماعة، أو يصلي الإمام بهم جماعة -ما دام المسجد على الطريق- صلاةً تتناسب مع أحوال المسافرين، لكن ليس لهم أن يصلوها قبل وقتها.

حديث: (دلع ابنك سبعا)

حديث: (دلع ابنك سبعاً) Q ما صحة حديث: (دلع ابنك سبعا وعلمه سبعاً واضربه سبعاً) ! A لا يثبت.

حديث: (اذكروا الفاجر بما فيه)

حديث: (اذكروا الفاجر بما فيه) Q ما صحة حديث: (اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس) . A لا يثبت، والمسألة مبنية على المفاسد والمصالح.

حكم سنة الجمعة القبلية والبعدية

حكم سنة الجمعة القبلية والبعدية Q ما الحكم في صلاة سنة الجمعة القبلية والبعدية؟ A ليست هناك سنة قبلية للجمعة، لكن إذا أتيت المسجد فصلّ ما كتب الله لك أن تصلي؛ لحديث: (إذا ذهب أحدكم إلى المسجد يوم الجمعة فصلى ما كتب الله له أن يصلي) . الحديث، فصلّ ركعتين، أو صل أربعاً، أو صل ستاً، أو صل ما كتب الله لك أن تصلي، وهذا بالنسبة للقبلية. أما البعدية التي بعد الصلاة فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه (أنه صلى ركعتين، وثبت عنه أنه صلى أربعاً) ، ومن أهل العلم من يفصل ويقول: إذا صليت ركعتين فصلهما في البيت، وإذا صليت أربعاً فصل في المسجد. لكن الصحيح أن هذا من فعل عبد الله بن عمر، وليس من فعل رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين أو أربعاً حيثما تيسر له، لكن ابن عمر كان إذا صلى في المسجد صلى أربعاً، وإذا صلى في البيت صلى ركعتين.

صلاة النافلة بنيتين

صلاة النافلة بنيتين Q هل تجوز صلاة النافلة بنيتين؟ A تختلف النوافل بعضها عن بعض، فمثلاً: يجوز أن تصلي الاستخارة مع أي ركعتين من النوافل، ويجوز أن تصلي ركعتي الوضوء مع أي ركعتين من النوافل، ومع الاستخارة كذلك، ويجوز أن تصلي تحية المسجد مع ركعتين من السنن.

مقدار خطبة الجمعة

مقدار خطبة الجمعة Q ما الوقت المحدد المدة لخطبة الجمعة؟ A ليس هناك وقتٌ محدد، لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قصر خطبة الرجل وإطالة صلاته مئنة من فقهه) يعني: متوقفة على فقه الرجل. لكن إذا كان الإمام أو الخطيب ليس فقيهاً لن تستطيع أن تقول له: حرام عليك فانزل وإنما يبنى الحكم على قدر المشقة للمصلين، وقدر الكلام الذي يهدى به، فقد يتكلم كلاماً فيه هذيان وثرثرة، وهذا لا يصلح ولو تكلم خمس دقائق، ولو تكلم آخر ربع ساعة، وخطبته كلها من كلام الله وكلام رسوله ولم يطل على الناس فإنه يحمد، والمسألة نسبية، لكن الأصل العام يفيد استحباب التقصير. والله أعلم.

حكم العادة السرية

حكم العادة السرية Q ما الحكم في العادة السرية للشباب؟ A هذه التسمية ليست مشروعة، وليست على وفق التسميات التي درج عليها العلماء، وإنما يطلقون على هذا الفعل: الاستمناء. وحكمه حرام كما قال الشافعي، واستدل بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] ، وعلاجه الصوم، قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) ، ثم مراقبة الله قبل كل شيء.

حكم حضور المحاضرات بدون إذن الأب

حكم حضور المحاضرات بدون إذن الأب Q طالبة في الجامعة تسكن بجوار الجامعة، ووالدها لا يوافق على حضورها مجالس العلم، وهي تحضر، وتقوم بزيارة أخت لها في الله، وتسافر إليها بدون إذن والديها على أساس أن هذا عمل لله، فما حكم حضورها لمجالس العلم؟ وما حكم زيارتها لأختها في الله بدون إذن الأبوين الذين لم يقتنعا بذهابها، ولم يوافقا عليه؟ A إذا كان والدها يمنعها من مجالس العلم لعلةٍ ظاهرة لديه، كأن يخاف عليها من الطرقات، أو يخاف أن يعتدي عليها شخصٌ، فحينئذٍ تطيع الوالد ولا تحضر مجالس العلم التي يخشى من ورائها أن يُعتدى عليها، لكن إذا كان والدها يأذن لها أن تخرج للتبرج والاختلاط في الجامعة، ولا يأذن لها في الحضور لمجلس علم تقوي به دينها فالله يقول في مثل هذا: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، فينظر إلى سبب نهي الأب، أما السفر فلا تسافر لزيارة أختها في الله؛ إذ السفر يحتاج إلى محرم، ويحتاج إلى استئذان المرأة من زوجها، أو أبيها إن لم يكن لها زوج، وزيارة الأخت في الله ليست بواجبة، بل ليست بمستحبة في مثل هذا الحال. والله أعلم.

غسل المعاق

غُسل المُعاق Q لي أخٌ معاق لا يستطيع أن يقوم بأداء الكثير من حوائجه، فأقوم بعملها له، ولكن إذا غسلته تتكشف عورته، وأنا أقوم بتطهيره تحت الإبط والعانة، فما الحكم؟ A اتق الله ما استطعت، وهل تريد أن تتركه يمرض من القاذورات؟ ولكن غض بصرك، وضع شيئاً على العورة المغلظة، واغسل من تحت هذا الشيء، وإذا رأيت شيئاً من عورته رغماً عنك فالله سبحانه وتعالى يتجاوز عن السيئات.

حديث: (ورأيت رجلا يعذب في قبره فأنقذه الوضوء)

حديث: (ورأيت رجلاً يعذب في قبره فأنقذه الوضوء) Q حديث فيه: (ورأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر، فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك) ، فما حاله؟ A هذا الحديث الطويل حديث ضعيف واهٍ.

الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة الليل

الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة الليل Q ما حكم الزيادة في صلاة الليل على إحدى عشرة ركعة؟ A الرسول عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه زاد على إحدى عشرة ركعة، وصلى ثلاث عشرة ركعة، وثبت أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وثبت أنه قال: (إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة) .

وقوع الطلاق في الحيض

وقوع الطلاق في الحيض Q رجل طلق زوجته ثلاث تطليقات متفرقات، فسئل عن ذلك مدرس في الفقه فقال: خذوا برأي الظاهرية وابن حزم، وهو أن الطلاق في الحيض لا يقع. فما صحة ذلك؟ A الطلاق في الحيض يقع، وليس هناك أبداً دليل صريح يفيد أن الطلاق في الحيض لا يقع، فلا يوجد دليل صحيح صريح يفيد أن الطلاق في الحيض لا يقع. وفي الحديث أن ابن عمر: طلق زوجته في حيضها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (مره فليراجعها) ، فلا مراجعة إلا بعد طلاق، وهو رأي الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، فكيف يفتي بعد وقوع الطلاق في هذه الحالة؟ والقول بعدم وقوع طلاق الحائض قال به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم هو الذي أحدث هذه المشكلة في كتابه زاد المعاد؛ لأن ابن القيم رحمه الله حسن التصرف في المسائل التي يتناولها، وينتصر لرأيه انتصاراً طويل النفس في تقرير مذهبه والمسألة التي يريد إثباتها، فـ ابن القيم رحمه الله أطال النفس في زاد المعاد في هذه المسألة، فتلقفها آخرون بعدم تدقيق ونظر في الآثار التي أوردها، وقد قدمنا أن هناك جزئيات مأخوذة على ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة. وقد احتج ابن القيم بالأثر وهو أنه سئل ابن عمر عن طلاق المرأة وهي حائض فقال: لا يعتد بتلك. فقال ابن القيم: لا يعتد بتلك، أي أن ابن عمر لم يعتد بهذه التطليقة، لكن الأثر روي مختصراً، وهذا الاختصار أخل بالمعنى تمام الإخلال، والأثر موجود عند ابن أبي شيبة في المصنف تحت باب الأقراء لمن أراد أن يراجعه مطولاً، وفيه: سئل ابن عمر -وهو من نفس الطريق- عن طلاق المرأة في حيضتها فقال: (لا يعتد بتلك الحيضة) ، فالرواية المختصرة أسقطت منها كلمة (الحيضة) ، فأحدث ابن القيم تقديراً بناءً على فهمه وهو أنك لا تعتد بتلك التطليقة، وهذا خطأ، إنما الرواية: (لا يعتد بتلك الحيضة) ، على أنها من زمن العدة، فهذا كمثال للفهم الذي بنى عليه ابن القيم رأيه، فالحديث لما روي مختصراً قدر هو تقديراً من عنده، وأخطأ في هذا التقدير، وخالف الأئمة الأربعة في قوله هذا، وابن عمر يقول في الرواية الأخرى الصريحة: حسبت عليّ تطليقة. والله أعلم. ومن التعقبات على ابن القيم استدلاله بأثر أبي الزبير أن ابن عمر ذكر طلاق امرأته وهي حائض قال: (فلم يره النبي شيئاً) وهذه اللفظة عند جماهير المحدثين معلة ضعيفة.

حكم من تسحر بعد طلوع الفجر جاهلا

حكم من تسحر بعد طلوع الفجر جاهلاً Q رجلٌ صام نافلة ثم تبين له أنه تناول طعام السحور بعد الفجر؟ A يتم صومه ما دام نافلة، وهو قد أخطأ، لكن يتم صومه؛ لأن حكمه حكم الناسي. والله أعلم.

من هو الذي شرب الخمر من أبناء عمر بن الخطاب؟

من هو الذي شرب الخمر من أبناء عمر بن الخطاب؟ Q من الذي شرب الخمر من أولاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ A ليس الذي شرب الخمر عبد الله بن عمر يقيناً، ولكنه أخٌ لـ عبد الله بن عمر، فقد ثبت أنه شرب الخمر في مصر عند عمرو بن العاص، وأقيم عليه الحد، لكن كان الحد قد أقيم سراً، فبلغ ذلك عمر، وكان عمرو بن العاص يحلق شعر من شرب الخمر ويحده على ملأ، لكنه أقام على ابن عمر الحد سراً، فدعاه أبوه وأقام عليه الحد علانية، وفعل به ما يفعل بالناس، فمات بعد وقت من إقامة الحد عليه، فظن بعضهم أنه مات بسبب الجلد الذي جلده به عمر، وقال البيهقي: إنما كان به مرضٌ آخر فمات من هذا المرض ولم يمت من أصل الجلد، وهذه الآثار أوردها البيهقي رحمه الله تعالى في سننه، وأسانيدها ثابتة.

حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)

حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) Q ما حال حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ؟ A حديث: (إذا انتصف شعبان لا تصوموا) لا يثبت، فالإمام أحمد ويحيى بن معين رحمهما الله، وغيرهما من أهل العلم حكموا عليه بالنكارة، واستنكروه على راويه: العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب القاري رحمه الله تعالى، فالرجل وإن كان صدوقاً من رجال مسلم إلا أن هذا الحديث أخذ عليه فيه. ويؤيد التضعيف من ناحية المعنى قول أم المؤمنين عائشة: (ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً بعد رمضان إلا شعبان، كان يصومه كله) ، وفي رواية (إلا قليلاً) ، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) ، فدل ذلك على جواز الصوم في النصف الأخير من شعبان.

حكم من تردد بين التوبة والمعصية

حكم من تردد بين التوبة والمعصية Q شاب ظاهره الصلاح، وعاهد الله على التمسك بدينه مرات كثيرة، ولكنه سرعان ما يعود وينتكس ويقع في بعض المعاصي الخفية، وفي كل مرةٍ يعود تائباً إلى الله، فهل له من توبة بعد تلك العهود؟! A له توبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، فكلما تعصي الله تب، ولما قال إبليس: (وعزتك! لا أبرح أغوي العباد ما دامت الأرواح فيهم! قال الله سبحانه وتعالى: (وعزتي! لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني!) ، فلا تيأس من روح الله؛ {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] . واتق مواطن الفتن، واعلم الأعمال الصالحة، وسل الله سبحانه وتعالى الستر، ولا تحدث أحداً بجرائمك ومعاصيك ((فإن كل الأمة معافى إلا من جاهر بمعصيته) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.

تفسير سورة الحديد [3]

تفسير سورة الحديد [3] في سورة الحديد مواعظ وعبر ودروس، منها: حقيقة الدنيا، وفيها تنبيه على بعض أعمال الكافرين وأهل الكتاب -وخاصة اليهود-، كما تضمنت بعض أحوال الأنبياء مع أممهم.

تفسير قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة.

تفسير قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فهناك من يتكلف لبيان التناسب بين الآيات تكلفاً شديداً، أو يحاول جاهداً أن يأتي بصلة بين كل آية والآية التي سبقتها وبينها وبين التي تليها، حتى جمع بعض أهل العلم كتباً في تناسب الآيات والسور، وقد انتقد هذا المنهج وهذا المبدأ بعض أهل العلم، كـ الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه فتح القدير، وذكر ما حاصله أنه لا يلزم أن تكون هناك صلات بين كل آية والآية التي سبقتها، فأحياناً تكون هناك مناسبات وروابط تربط بين الآية والتي تلتها، وأحياناً لا تكون هناك صلات ولا روابط بين الآية المتأخرة والآية التي تقدمت، فإن وجدت صلة ظاهرة فالحمد لله، وإن لم توجد صلة ظاهرة فالأمر في ذلك واسع، والله أعلم. ومن العلماء من ذكر هنا وجهاً للربط بين قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد:20] إلى آخر الآية، وبين الآية التي تقدمتها في خاتمتها، وهي قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] ، فقال: لما كانت الدنيا تشغل أهلها عن الجهاد في سبيل الله وعن مقالات الحق والصدق التي بها يبلغ العبد مرتبة الربانيين؛ إذ العبد يضن بكلمة الحق حرصاً على الدنيا، ويضن بنفسه كذلك حرصاً على الدنيا جاءت الآية الكريمة: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) لكي يصرف العبد عن هذا التقاعس، ولكي يصرف العبد عن هذا الجبن الذي به يمتنع عن الجهاد، وبه يمتنع عن كلمة الحق إذا علم أن الدنيا فانية، وأن متاعها زائل وفان، فقال تعالى: (اعلموا) أي: يا من آثرتم دنياكم على أخراكم، ويا من آثرتم التعويق والتثبيط على الإقدام والبذل والجهاد (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم) أي: تفاخر بأمورها من مال وجاه ومنصب ونحو ذلك. قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] الكفار: هم الزراع، وقوله تعالى: (نَبَاتُهُ) أي: النبات الذي نتج بسبب هذا الغيث أعجب الكفار وهم الزراع، وأطلق عليهم الكفار لكونهم يضعون البذرة في الأرض ويغطونها، فهذه التغطية تسمى الكفر، فالكُفر من معانيه التغطية قوله تعالى: (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) أي: بعد أن ييبس ترى العود الأخضر قد تحول إلى عود أصفر، وقد اتجه إلى الذبول بعد النضرة والاخضرار، (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) ، فهذا مثل الحياة الدنيا بصفة عامة، ومثل الحياة الدنيا في الشخص نفسه كذلك، فكل شخص تنسحب عليه هذه الآية، وينطبق عليه هذا المتن، وتصديق ذلك في قول الله جل ذكره: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] ، فهذه الآية توضح آية الحديد التي نحن بصددها، وكذلك آية الحج في هذا المعنى أيضاً: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5] ، وكذلك قال سبحانه في آية الحج: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5-6] .

تفسير قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم.

تفسير قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم.) قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] ، أي: أخبرناكم بهذا -يا أهل الإيمان-: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:23] ، وأيضاً: {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] لا تغتروا بما آتاكم الله، فمن كان ذا مال فلا يغتر بهذا المال، فالمال قدره الله له، ومن كان في منصبٍ لا يغتر بهذا المنصب؛ فالمنصب قد قدره الله له، ومن كان له أولاد وذرية فلا يغتر بأولاده ولا بذريته؛ فالأولاد والذرية قدرها الله سبحانه وتعالى له، ومن كان في صحة وعافية لا يغتر بهذه الصحة والعافية؛ فالصحة والعافية قد قدرها الله سبحانه وتعالى له.

تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.

تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.) قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد:24] ، وهذا كقوله سبحانه: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] . وأما وجه الربط بين هذه الآية والآيات التي تقدمت فمن العلماء من يجعل السياق هذا كله في اليهود، ويقول: إن اليهود أصيبوا بمصيبة كبرى، وخيبة أمل عظمى لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل عليه السلام، فكانوا ينتظرون مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرفون صفته، ويعرفون ما سيأتي به في الجملة، وقد أُخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا به إذا بعث فيهم، كما قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89] ، فيقولون للذين كفروا: سيخرج منا نبي فنتبعه ونقتلكم نحن وهو قتل عاد وإرم، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل، ولم يأتِ من بني إسرائيل شرقوا لذلك، وكفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيهم نزل سياق الآيات عند كثير من المفسرين. وهذه المصيبة التي حلت بهم لظنهم أن النبوة سلبت منهم وأعطيت لبني إسماعيل قد ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة النساء في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:54-55] ، ولما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل بخلوا -أي اليهود- بالعلم، ولذلك قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [النساء:37] ، والمعنى عند فريق من المفسرين: يبخلون بالعلم، ويبخلون بإظهار صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، ولا يقتصرون على أنفسهم، بل ويأمرون الناس بالبخل، فكانوا يتواصون فيما بينهم بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويتعاهدون فيما بينهم على أن لا يخبروا أحداً بصفة هذا النبي، ويبخلون ويأمرون الناس بالبخل، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] أي: من العلم الذي آتاهم الله إياه. فهذا وجهٌ من أوجه التأويل، ومن العلماء من حمل البخل على معناه الأشهر وهو البخل بالمال، وهذا أيضاً كان في اليهود -أعني البخل-، وكان البخل من عادتهم. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدَُ} [الحديد:24] ، أي: يعرض عن الإيمان والهدى فإن الله هو الغني عنه وعن إيمانه، كما قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيئاً) . فقوله تعالى: (هُوَ الْغَنِيُّ) أي: عن من أعرض عن الهداية. وقوله تعالى: (الْحَمِيدُ) أي: يحمد لكل مؤمن ولكل مقبل عليه صنيعه وإقباله وطاعته. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25] . قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) أي: الأمور البينة الواضحة والدلائل البينة الواضحة. وقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) ، الكتاب هنا اسم جنسٍ، والألف واللام لبيان الجنس لا للعهد، أما قوله تعالى في شأن النبي محمد عليه الصلاة والسلام: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النساء:113] فالألف واللام في كلمة (الكتاب) للعهد، وتدل على كتاب معهود هو القرآن، أما قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) ، فالمراد بالكتاب هنا الجنس. أي: الكتب، وليس كتاباً مخصوصاً، بل عموم الكتب التي نزلت على الرسل عليهم الصلاة والسلام. قوله تعالى: (وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) . من العلماء من قال: المراد بالميزان: العدل، ومنهم من قال: إن الميزان نزل من السماء مع ما نزل على آدم صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] ، فمن العلماء من قال: إن هذه الأنعام خلقت. ومنهم من قال: نزلت. والله سبحانه وتعالى أعلم بتأويل كتابه. ومن العلماء من قال: نزل مع آدم لما نزل الميزانُ والسندانُ. وذكروا أشياء أخر، وليس في هذا خبرٌ ثابت عن رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام، إنما هي أخبار إسرائيلية، وآثار على بعض التابعيين رحمهم الله تعالى. قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) . هذه الآية استدل بها العلماء على الشدة إذا لم تُجدِ البينات والأقوال الحسنة والدلائل الظاهرة، وأساليب الإقناع، وأعرض الشخص عن هذا جدلاً ومراءً، وضرب بآيات الله عرض الحائط كما يقال، فلا يصلح مع مثل هذا إلا البطش والشدة، فلذا قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) فمن لم يتذكر بالبينات، ولا بالكتاب الذي أنزله الله سبحانه لا يصلح له إلا الحديد، ففيه بأسٌ شديد ومنافع للناس، فهذه قاعدة يسار عليها، فهي أن وسائل الإقناع تطرح أولاً ويُبدأ بها، ومن عاند وأصر على مواقف الشر فليس له إلا الحديد. قال تعالى: (بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) فالشدة لها مواطن، والرفق واللين لهما مواطن، وقد تقدم شيءٌ من ذلك، كما قال ذو القرنين: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:87-88] . وقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20-21] . وقال الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:59-60] ، فكل هذه أمور فيها شدة، وفيها رفق، فللرفق مواطن، وإذا لم يُجدِ الرفق فحينئذٍ يتجه إلى الشدة. فمن يعبث في الفصل -مثلاً-، أو يعبث في البيت تكلمه بالكلام الحسن وبالكلام الطيب، فإن كان لا يجدي معه ولا ينفع فحينئذٍ تترقى إلى شيء آخر، وهو الضرب بحسبه، وقد قال الله أيضاً في شأن النساء النواشز: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] . قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} . بعد نزول الحديد يعلم الله من يجاهد بهذه السيوف في سبيله سبحانه وتعالى، علماً ينبني عليه الثواب. وحتى لا يتوهّم شخص كما توهم أهل الجهل من اليهود أن الله فقير لما حثهم الله على الصدقة دفع الله هذا التوهم هنا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25] ، فلا يحتاج إلى من ينصره، بل هو سبحانه وتعالى ناصرٌ لعباده، وهو سبحانه وتعالى القوي العزيز الذي لا يمانع، ولا يغلب سبحانه فهو القهار.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب.) قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} [الحديد:26] . هذا عطفٌ للخاص على العام، فقد تقدم قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) ، وجاء هنا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ) ، ونوحٌ وإبراهيم من الرسل. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26] ، فالنبوة بعد نوح كانت من ذريّة نوح عليه الصلاة والسلام، فلذلك لقائل أن يقول: إن هوداً عليه الصلاة والسلام من ذرية نوح، وإن صالحاً عليه الصلاة والسلام من ذرية نوح كذلك، وإبراهيم كذلك من ذرية نوح صلى الله عليهم وسلم. قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون} [الحديد:26] أي: من الذرية من هو مهتدٍ، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) فالآية فيها تسلية وتعزيةٌ لمن ولد له ولدٌ شقي، ولمن نتج له نتاج شقي، فنوح وإبراهيم عليهما السلام كانت النبوة والكتاب في ذريتهما، لكن أكثر الذرية فسقة، كما قال تعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ، ويعقوب الذي هو إسرائيل عليه الصلاة والسلام كان من ذريته -كما ذكر الله سبحانه وتعالى- من مسخوا قردة وخنازير، فالهادي هو الله سبحانه وتعالى، والمهتدي من هداه الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا.

تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا.) قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} [الحديد:27] . أي: أتبعناهم برسلنا، ثم قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27] ، فمن الذي يجعل الرأفة والرحمة في القلوب؟ الذي يجعلها في القلوب هو الله، فالله سبحانه يلين قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن والماء، ويختم على قلوب أقوامٍ آخرين حتى تكون أقسى من الحجارة والجبال والحديد، كما قال موسى عليه السلام: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] ، فإذا أردت أن يلين قلبك فعليك أن تطلب إلانته من الله سبحانه وتعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من قلبٍ لا يخشع) ، وكان يتعوذ بالله من قسوة القلب صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) والرأفة: الرقة، ثم قال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) ، هنا يقال: هل الواو هنا عاطفة أو هي ابتدائية؟ أي: هل يقرأ بالعطف: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) ، أو يقال: إن الابتداء من قوله تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) ، أي: جعلنا في قلوبهم رحمة، وهم ابتدعوا رهبانية، واخترعوا رهبانية، ونحن ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية، ولكنهم هم الذين كتبوها على أنفسهم، أي: ألزموا أنفسهم بها؟ وقد ورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في شأن عيسى أنه كان جالساً مع بني إسرائيل، أو كان جالساً مع بعض الحواريين، وقال لهم: من منكم -أو أيكم- يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ فقال شابٌ: أنا. إلخ. فذكر في آخر هذا الحديث أن فئةً من الفئات شهدت أن لا إله إلا الله وأن عيسى رسول الله، فتظاهرت عليها الفئات الكافرة فقاتلتها، فمنهم من صمد وصبر أمام القتال، ومنهم من اتجه إلى القفار والبراري يعبد الله فيها، وتعاقد مع أولئك الظلمة عقداً على أن يمكث في الصحراء والقفار والبراري لا ينزل إلى المدن ولا إلى البلدان، ويعيش فيها يعبد ربه في الصوامع حتى يأتيه الأجل، فأقر على ذلك، فأنشأوا لأنفسهم صوامع، وألزموا أنفسهم بأنواع من العبادات، فمنهم من ألزم نفسه أن يصوم الدهر، ومنهم من ألزم نفسه أن لا يأكل اللحم، ومنهم من ألزم نفسه أن لا يتزوج النساء، فهذه الرهبانية هم الذين اخترعوها وابتدعوها وألزموا أنفسهم بها بمثابة النذر في شرعنا، لكنهم اختلقوا هذه الرهبانية، فلما ألزموا أنفسهم بها ألزمهم بها ربنا سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) ، فتكون (إلا) هنا من باب الاستثناء المنقطع، كما يقول القائل: جاء القوم إلا حماراً. فـ (إلا حماراً) هنا: استثناء منقطع؛ لأن الحمار ليس من جنس المستثنى منه، و (إلا) هنا في الآية من باب الاستثناء المنقطع. قوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) أي: لكن كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله، أي الحرص على طلب رضوان الله سبحانه، فهم رأوا أن هذا الترهب يقربهم من الله سبحانه وتعالى. وهذه الرهبانية لم تكتب على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فقد جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في التبتل، أو في الانقطاع للعبادة، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الصحابة: لو أذن له الرسول لاختصينا، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا رهبانية في الإسلام) ، فهذا الترهب ليس في ديننا، وقد أنكر رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام على النفر الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر: أما أنا فأعتزل النساء. وقال الثالث: أما أنا فأقوم ولا أنام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخشاكم وأتقاكم وأعلمكم بالله أنا، ولكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) أي: لما ألزموا أنفسهم بها، فمنهم -مثلاً- من قال: لن أتزوج النساء، وليته لم يتزوج النساء، بل زنى والعياذ بالله. والرهبان الذين يبقون في الصوامع والكنائس ويدعون أنهم لا حاجة لهم في النساء، وأنهم ترهبوا وانقطعوا للعبادة، وبعد ذلك يفعلون الفواحش ويزنون يتركون المباح من الزواج الذي أباحه الله سبحانه أمام الناس (وإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) ، قال تعالى: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) ، الذين وفوا بهذه الأمور آتيناهم أجرهم، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) . فهذه شهادة الله سبحانه وتعالى في هؤلاء الذين ترهبوا، ولذلك قال ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] . فمنهم من أصبح مختلساً للأموال وهو في صورة الراهب، ومنهم من أصبح من الزناة وهو في صورة الراهب، ومنهن من أصبحت من البغايا وهي في صورة الراهبة المتبتلة. (وكثيرٌ منهم فاسقون) فهذا حالهم كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله.) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} [الحديد:28] . من أهل العلم من حمل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) على أن المراد بالذين آمنوا هنا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فيكون التأويل: يا أيها الذين آمنوا بعيسى وآمنوا بموسى آمنوا أيضاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وشهد لهذا التأويل قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] ، والكفل هو النصيب، وإن كان الكفل يطلق على نصيب الشر في بعض الأحيان، لكن في أحيانٍ أُخر يطلق على النصيب، سواءٌ من الخير أو من الشر. أما إطلاقه على نصيب الخير فلهذه الآية: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، وأما إطلاقه على نصيب الشر فكقوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] ، فعبر عن الحسنات بالنصيب، وعبر عن السيئات بالكفل. فقوله تعالى: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، يفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: ورجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم) ، فهذا يرجّح قول من قال: إن المراد بالذين آمنوا -هنا في الآية- هم اليهود والنصارى. ومنهم من قال: إن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) ، خطابٌ موجه لأهل الإيمان. أي: ليزدد إيمانكم بالله، وليزدد إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ازداد إيمانكم تضاعفت أجوركم.

تفسير قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب.

تفسير قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب.) قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:28-29] . قوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) ، معناه: ليعلم ومن قال: إن (لا) صلة وتوكيد تفيد تقوية الكلام فـ (لئلا يعلم) معناها: ليعلم، كما تقدم نظيره في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12] أي: ما منعك أن تسجد. وكما قال تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: يرجعون. ففي الآية دخلت كلمة (لا) لتقوية الكلام. قال تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ، فليسوا متحكمين في الخلق كما يقولون، قال تعالى: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) ، فهو الذي اختص النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، قال تعالى: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم استبدال الذهب مع دفع فارق

حكم استبدال الذهب مع دفع فارق Q هل يجوز استبدال مائة جرام ذهب قديم بمائة جرام ذهب جديد مع دفع الفرق؟ A لا يجوز. ولكن بع الجرامات القديمة وتسلم قيمتها، ثم اشتر كيف تشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ويداً بيد) .

حكم الطلاق عبر الهاتف

حكم الطلاق عبر الهاتف Q رجل قال في التلفون لأخته: زوجتي طالق فهل وقع الطلاق؟ A نعم. فإذا كان يقصد الطلاق وقال لأخته: زوجتي طالق فالطلاق واقع.

حكم قبول الهدية ممن يتعامل بالربا

حكم قبول الهدية ممن يتعامل بالربا Q هل تقبل الهدية مع من يتعامل بالربا حتى وإن كانت أكلاً؟ A الذي يظهر أنها تقبل والإثم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعته امرأة يهودية إلى شاة فأكل منها صلى الله عليه وسلم.

حكم أخذ الرجل من وديعة لديه بغير إذن مودعها

حكم أخذ الرجل من وديعة لديه بغير إذن مودعها Q رجلٌ أعطى رجلاً مالاً وديعة، فاحتاج الرجل إليها لشدة ألمت به، ولم يستأذن صاحب المال، وبعد أن فرج الله كربته وضع المال، ولم يشعر صاحب المال، فهل هذا جائز أم لا؟ A إذا كنت متأكداً أنك عند طلب صاحب المال لماله أنك تؤديه إليه فلك أن تأخذ منه بقدر الحاجة وترده إليه، وإذا لم يكن بوسعك أن ترد فأد الأمانة ولا تعبث بها، واسأل منه إذا أردت أخذ شيء منه. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضاه.

حكم العمل الحكومي

حكم العمل الحكومي Q كيف نرد على من يقول: إن الدولة كافرة والعمل في وظائفها حرام؟ A دولتنا مختلطة، فيها قوانين باطلة كفرية، وفيها قوانين شرعية، والمثال واضح في المحاكم، فقوانين الزنا التي في المحاكم قوانين كفرية، وقوانين الطلاق والأنكحة قوانين شرعية، فالدولة مختلطة، وأما بالنسبة للعمل فهو جائز -حتى عند الكفار- إذا لم تكن فيه مهانة لدينك، فقد قال يوسف الصديق عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، وقال خباب بن الأرت رضي الله عنه: كنت قيناً -أي: حداداً- بمكة، فعملت لـ للعاص بن وائل أسيافاً ثم جئت أتقاضاه، فقال: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. فالمرتب الذي تتقاضاه هو مقابل عملك.

مواطن أداء المسافر زكاة الفطر

مواطن أداء المسافر زكاة الفطر Q شخص يريد أن يسافر للعمرة، فهل يخرج الزكاة في الموطن الذي صام فيه وأفطر، أو يجوز له أن يخرج الزكاة في بلده التي هو منها؟! وهل يجوز له أن ينقلها إلى بلدة أخرى؟ A الذي تطمئن إليه النفس -مع أن الأمر فيه سعة- أن تخرج في أي مكان تيسر لك فيه الإخراج؛ حملاً للضمير في قوله عليه الصلاة والسلام: (تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم) ، على أنه يرجع إلى عموم المسلمين.

تفاوت الكفارة في الثواب

تفاوت الكفارة في الثواب Q هل الإطعام والكسوة في كفارة اليمين سواء؟ A قال تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران:115] ، فلو كان هناك رجلان كلاهما ثري، فأخرج أحدهما زكاته أرزاً، والآخر أخرجها زبيباً، فمن ناحية الإجزاء كلاهما قد أجزأه فعله لكن هل الله يثيب هذا كما يثيب ذاك؟ وإن كان الكل قد سقط عنه فرض زكاة، لكن هل من تيمم الطيب وتصدق به كمن تيمم الأدنى وتصدق به؟ قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] . وكذلك هل نقول: إن من كسا عشرة مساكين في كفارة اليمين كمن أطعمهم؟ فالإجزاء تم، لكن هل يستوي الثواب؟ أما إخراج القيمة بدلاً عن الطعام فأفهام صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام تلقي ضوءاً على المسألة باتساع، والإمام البخاري مع الذين يرون أن القيمة تجزئ، ومن الاستدلالات التي استدل بها البخاري أثر منقطع علقه البخاري: أن معاذاً لما ذهب إلى اليمن -وهذا ليس في زكاة الفطر، إنما في زكاة أخرى- قال لأهل اليمن: ائتوني بثياب خميصة -نوع من أنواع الثياب التي كانت تصنع في اليمن- أيسر عليكم، وأنفع لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فمن العلماء من بنى على هذا الأثر أنه يجوز إخراج القيمة وفي سند الأثر: طاووس، وهو لم يدرك معاذاً، لكن ما زلنا بصدد البحث عنه. وفي سنن النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أن من لم يجد بنت لبون فليخرج كذا وكذا، وحدد أشياء، فالمسألة -إن شاء الله- نذكر منها أقوال للسلف الصالح، ليس -فقط- أصحاب المذاهب الأربعة رحمهم الله -وإن كان منهم الأحناف الذين قالوا بالجواز-، لكن من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم. والخلاصة أننا احتياطاً لديننا نخرج كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، ونحتاط لديننا في ذلك. والله أعلم.

حال حديث: (الذنب لا يكتب إلا بعد ست ساعات لكي يتوب المذنب)

حال حديث: (الذنب لا يكتب إلا بعد ست ساعات لكي يتوب المذنب) Q حديث (الذنب لا يكتب إلا بعد ست ساعات لكي يتوب المذنب) هل هو صحيح؟ A صححه الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى.

المقصود بالمصلى في فضل الجلوس بعد الفجر حتى الشروق

المقصود بالمصلى في فضل الجلوس بعد الفجر حتى الشروق Q حديث: (من جلس يذكر الله في مصلاه من بعد صلاة الفجر كان له أجر حجة وعمرة تامة) ، هل المقصود بمصلاه مكانه الذي صلى فيه حيث لو انتقل داخل المسجد لسقط الأجر؟ A المراد عموم المسجد؛ لأن الله قال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ، ومقام إبراهيم من المعلوم أنه الحجر الذي كان ملصقاً بالكعبة، ثم أبعد عنها وأحيط بالإكليل، فكل من صلى خلف المقام يكون متخذاً من مقام إبراهيم مصلى.

الجمع بين حديث: (لم يضره شيطان) لمن ذكر الدعاء المأثور عند الجماع، وحديث: (إلا وطعنه الشيطان في خاصرته، فيستهل صارخا غير مريم وابنها)

الجمع بين حديث: (لم يضره شيطان) لمن ذكر الدعاء المأثور عند الجماع، وحديث: (إلا وطعنه الشيطان في خاصرته، فيستهل صارخاً غير مريم وابنها) Q كيف نوفق بين حديث الرسول في الدعاء عند الجماع أن من قاله فقدر له ولد لم يضره شيطان، وحديث: (ما من مولود يولد إلا ويطعنه الشيطان في خاصرته، فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها) ؟ A الضرر في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يأتي أهله فيقول -كما أمره النبي عليه الصلاة والسلام-: باسم الله. اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما ولد لم يضره شيطان) ، المراد به: لم يضره شيطان بشرك، أو بكبيرة لا يتوب منها، لكن الضرر الواقع من المعاصي لابد منه، ولزاماً أن يذنب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، فالضرر المنفي في قوله: (لم يضره شيطان) أي: لم يضره شيطان بشرك أو بكبيرة لم يتب منها، كما قال كثير من أهل العلم، وقد استشهد بعضهم في ذلك بقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111] ، فقالوا: إنهم يضرون بأذى، لكن لا يضرون ضررا مخرجاً عن ديننا إن شاء الله. وقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161-163] .

حكم الصدقة على الكافر

حكم الصدقة على الكافر Q هل يجوز التصدق على الجار النصراني إذا كان في ضائقة شديدة؟ A إذا كنت تقصد بالصدقة صدقة غير الزكوات المفروضة فجائز، فالصدقة غير المفروضة جائزة، أما إذا كنت تقصد زكاة المال فزكاة المال لا تعطى للنصراني، إلا إذا كان من المؤلفة قلوبهم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلمهم أن الله افترض عليهم زكاةً في أموالهم تؤخذ من غنيهم وترد على فقيرهم) أي: فقير المسلمين. والله أعلم.

حكم توريث أبناء البنت

حكم توريث أبناء البنت Q ماتت ابنتي في حياتي وتركت أولاداً، فهل هؤلاء الأولاد يرثون من تركتي بعد موتي، وأنا جدهم لأمهم، أم لا ميراث لهم؟ A شرعاً لا أعلم لهم نصيباً في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الحكومة تقضي لهم بالوصية الواجبة، وهي أن لهم ثلث التركة مجتمعين.

مسائل في زكاة الفطر

مسائل في زكاة الفطر Q ما حكم إخراج زكاة الفطر نقوداً؟ زكاة الفطر لا تخرج مالاً؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من طعام على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين) . ولا يجوز الإخراج قيمةً، وهذا رأي مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى. لكن هناك اعتبارات لا بد من ملاحظتها، وهي أننا في الحرم المكي، وبعد أن ننتهي من صوم آخر يوم من رمضان نخرج لإخراج الزكاة، فنجد أمام الحرم أقواماً يبيعون أرزاً، كل كيس يحوي صاعاً، فأشتري كيس الأرز بثمانية ريالات، وأبحث عن فقير، فإذا بأناس فقراء بجوار البائع، فأُسلم الكيس لأحدهم، وبهذا برئت ذمتي. وأمام عيني يأخذ الفقير الكيس ويبيعه للتاجر الذي اشتريت أنا منه، ومن حق الفقير أن يبيع، فيأخذ التاجر الكيس منه بستة ريالات، ثم أرجع أشتري مرة ثانية لكي أتصدق عن زوجتي، أو عن أولادي، وأشتري من نفس التاجر، وأعطي الفقير يردها إلى التاجر، وهكذا، وفي كل حالة يستفيد التاجر. فلماذا لا أسلم للفقير الثمانية الريالات وانتهي؟ لأن التاجر ليس بحاجة إلى الصدقة، والفقير أحوج منه، فهذا وجه للنظر. وأنا موقرٌ لأقوال القائلين بأن زكاة الفطر لا تخرج إلا من الأصناف التي ذكرها الرسول، لكن لهذا فقه ولهذا محل، وأحياناً القيمة لا تجزئ، فإذا كانت السيولة متوافرة والمطعومات شحيحة فقد أقول لك: لا تجزئ القيمة. لكن إذا كان الطعام متوافراً من كل الأصناف، وهو يستطيع أن يشتري الذي يناسبه ويتناسب مع أسرته، ألا يجزئ في هذه الحالة أن يأخذ برأي الأحناف؟ صحيح أن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه رأى أن نصف صاع من بر الشام يعدل صاعاً من تمر المدينة، لكنه اجتهد في مصادمة نص صريح؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من طعام) ، ومعلوم يقيناً أن قيمة الصاع من الزبيب تختلف عن قيمة الصاع من التمر، فالمسألة ليست مسألة قيمة؛ لأن صاع التمر يختلف عن صاع الزبيب من ناحية الثمن، فصاع الزبيب يمكن أن يأتي بخمسة وعشرين جنيهاً، وصاع التمر يمكن أن يأتي بخمسة جنيهات، أو بعشرة جنيهات. وأنا لا أقرر المسألة، لكن أذكر الأقوال في المسألة، أما أنا فلا أخرج إلا طعاماً، لكن لا أستطيع أن أقول: إن من أخرج الزكاة قيمة تبطل زكاته؛ لأنه أولاً بنى على اجتهاد علماء أفاضل، وعليه مذهب من المذاهب، لكن متى نحكم أن القيمة لا تجزئ؟ إذا لم يكن الطعام متوافراً؛ لأنها لم تفد الفقير بشيء. وأقول: نحن نخرج كما أخرج رسول الله عملاً بظاهر النص: (فرض رسول الله صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب) . وأيضاً أراعي أحوال الناس من ناحية كون القيمة يستطاع الانتفاع بها، أو لا يستطاع؟ وأمر ثالث: لا أثبت هذه القيمة بشيء ثابت، فمن شاء أن يخرج قيمة الزبيب أخرج، ومن شاء أن يخرج قيمة البر أخرج، لكن القطع ببطلان من أخرج القيمة وأن زكاته لا تجزئ لا أستطيعه، ولا أتحمله. وأنا آخذ برأي أكثر العلماء، وأخرج الأنفع للفقير، وهو ما نص عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن لا أستطيع القطع ببطلان من أخرج القيمة ولا أتحمله. وتحديد القيمة بـ (دينار) ليس بصحيح؛ لأن العملة تتغير من زمن إلى زمن، فأحياناً الأرز -مثلاً- يباع بدينار، وأحياناً الدينار لا يأتي بربع صاع الأرز، على حسب اختلاف العملات. وهب أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال -مثلاً-: صدقة الفطر دينار. والدينار يعادل -مثلاً- نصف ريال سعودي، فالريال السعودي كان إلى عهد قريب تستطيع أن تشتري به كميات هائلة من الطعام، أما الآن فما تستطيع أن تشتري الذي كنت تشتريه بالريال من قبل. فإذا أثبتنا القيمة يأتي زمن والقيمة لا تنفع الفقير بحال من الأحوال. أما وقت إخراج الزكاة فأنسب الأوقات وأنفعها بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان إلى صلاة العيد. أما الوقت المختار عند الأكثرين فهو قبل العيد بيوم أو يومين، ومن العلماء من أجازها طيلة رمضان. وهناك مسائل في الشرع ليس هناك أحد يفكر فيها، حتى أهل الإحسان، وهي كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فما هناك أحد يفكر أبداً أنه يكسو عشرة مساكين من أجل كفارة يمين. حتى الأثرياء يكفر أحدهم بإطعام عشرة مساكين، أما أن يكفر بتحرير رقبة عن يمين فهذا مستحيل، لكن ورد من تصرفات أم المؤمنين عائشة أنها كانت أقسمت أيماناً وعقدت الأيمان ألا تكلم عبد الله بن الزبير لأنه قال: لتنتهين أم المؤمنين عن كذا وكذا أو لأحجرن عليها، فأقسمت وعقدت أيماناً ألا تكلمه طيلة حياتها، ثم احتال عليها عبد الله بن الزبير بحيلة حتى يدخل عليها؛ إذ هي خالته، فجاء مع بعض أحد محارم أم المؤمنين من الرضاعة، فطرق عليها الباب فقالت له: من؟ قال: أنا فلان. قالت: ادخل، قال: أدخل ومن معي؟! قالت: أدخل ومن معك. فدخل عبد الله بن الزبير معه، ووثب على رأسها يقبل رأسها ويبكي؛ وهي تبكي وتقول: يميني ماذا أصنع بها؟ ثم إنها أعتقت في هذا اليمين عدة رقاب. فمن العلماء من يقول: يستحب مضاعفة الكفارة وليس إيجاباً. أي أن اليمين إذا كانت مغلظة تغليظا شديداً كفّر عنها بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم كما قال الله، ولكن لا مانع من أن تكفر عنها بما هو أفضل من ذلك، ولك ثواب. وهذه اليمين التي تكفر ليست اليمين الكاذبة، فاليمن الغموس لا كفارة لها عند الجمهور، واليمين الغموس: هي اليمين التي أقسمها رجل ليقتطع بها مال امرئ مسلم ولا كفارة لها إلا إذا ردت المظلمة إلى أهلها. وإذا أقسم كاذباً ليس لاقتطاع حق امرئٍ مسلم وإنما ستراً على شخص مثلاً، أو لأي سبب فهو آثم؛ لأنه كاذب، لكن كونه يكفر بكفارة مادية لإطعام عشرة مساكين، أو لا يكفر فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى يرى أنه يكفر؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة:89] ، وجمهور العلماء يرون أن هذه لا كفارة لها.

تفسير جزء قد سمع

تفسير سورة المجادلة [1] لقد بين سبحانه وتعالى في بداية سورة المجادلة أنه يسمع تحاور المتحاورين، وشكوى الشاكين، وهذا دليل على عظمة الله سبحانه وتعالى وقدرته، ولقد بين حال المؤمنين إذا ألمت بهم المعضلات كيف أنهم يلجئون إليه سبحانه، ويشكون إليه ويدعونه ويستغيثون به؛ ليكشف ما بهم من بلاء وهم وغم؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أن الله وحده هو الذي يفرج همهم وينفس كربهم ويقضي حوائجهم، وهذا ما فعلته المجادلة عن نفسها حين لم تجد جواباً عند النبي صلى الله عليه وسلم، ففزعت إلى ربها واشتكت إليه، فإذا برب العزة والجلال وفي الحال يجيب شكواها ويرفع بلواها ويجبر كسرها، ويرحم عجزها وضعفها، ويبقي لها زوجها؛ حتى لا تكون وحيدة لا تجد من يأويها ويقوم برعايتها. فلابد إذاً من اللجوء إلى الله في كل وقت وفي كل حال، فهو النافع والضار، وهو الرحيم بعباده سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها.

تفسير قوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فنحن في استهلال تفسير الجزء الثالث من كتاب الله عز وجل بعد أن أنهينا الجزء الأول، والثاني، أعني الثلاثين، والتاسع والعشرين. سورة المجادلة على رأي أكثر أهل العلم سورة مدنية نزلت على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة. وقد استثنى بعض أهل العلم بعض آياتها وقالوا في بعض آياتها: إنها نزلت بمكة. لكن كما سمعتم أكثر أهل العلم على أنها سورة مدنية، وهي تتعلق بالأحكام والمعاملات بين المؤمنين، كما هو شأن أكثر السور المدنية، بينما تتعرض السور المكية في أكثر أحوالها إلى مناقشة أمور العقائد، والتذكير بالجنة وبالنار في الجملة. يقول الله سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [المجادلة:1] .

ثبوت صفة السمع والبصر لله، وتعزيز مبدأ المراقبة له سبحانه

ثبوت صفة السمع والبصر لله، وتعزيز مبدأ المراقبة له سبحانه قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، الآية أثبتت كغيرها ما هو من بدهيات الإسلام: صفة السمع لله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، فهذه الآية مع غيرها من الآيات تعزز مبدأ مراقبة الله عز وجل، وعليك أن تعبد الله على هذا النحو، تعبده عبادة المحسنين، إن لم تكن تراه فإنه يراك، قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:218-220] ، وقال سبحانه: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور:64] ، وقال جل شأنه: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} [هود:5] أي: وهم متغطون بثيابهم. {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] . وهذا المعنى قد لقنه لقمان لولده: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] ، وأيضاً: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61] ، والآيات في باب الحث على مراقبة الله سبحانه وتعالى لا تكاد تنتهي، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] ، آيات لا تحصى ولا تنتهي، تفيد أنك مراقب بدقة وأي دقة، مراقب مراقبة دقيقة من كل صوب ومن كل اتجاه، وكل الحركات منك محسوبة عليك، بل ما بداخلك مطلع عليه ربك سبحانه وتعالى، قال جل جلاله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، فأنت يا ابن آدم ضعيف كما قال ربك سبحانه، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأنت عجول، ومع هذا كله فأنت مراقب مراقبة صارمة ودقيقة في غاية الدقة. قال الله سبحانه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] ، والمحاورة: هي إرجاع الكلام إلى الطرف الآخر، هو يتكلم وأنت تحاوره، أي: ترد الكلام عليه، كما قال الشاعر في وصف فرسه: لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ، (وقد تلا النبي صلى الله عليه وسلم آية ختامها يشابه هذا الختام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] ولما تلاها النبي عليه الصلاة والسلام وضع إبهامه على أذنه وسبابته على عينه) ، فاستنبط بعض العلماء من هذا الحديث: إثبات السمع والبصر لله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] .

سبب نزول الآيات الأولى من سورة المجادلة وفيمن نزلت

سبب نزول الآيات الأولى من سورة المجادلة وفيمن نزلت أخرج البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات -وفي رواية: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات- لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادله وتحاوره وأنا في ناحية البيت، لا أسمع ما تقول، ولا أدري ما تقول، حتى نزل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [المجادلة:1] ) . وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، قد هنا للتحقيق كما هو واضح، وكذلك إذا دخلت (قد) على المضارع في كثير من الأحيان تأتي للتحقيق: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] ، {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْه} [النور:64] ، وهنا {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] . المجادِلة على رأي جمهور المفسرين هي: خولة بنت ثعلبة، والأسانيد بهذه التسمية وإن كان في كل منها مقال، إلا أن رأي جمهور المفسرين أن المجادلة هي خولة بنت ثعلبة، وزوجها على رأي الجمهور هو أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وعبادة بن الصامت هو الصحابي الجليل المشهور أحد نقباء الأنصار الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، فأوس أخوه، وجملة الأسانيد -كما قلنا- لا يخلو سند منها من مقال، لكن بجملتها تعطي هذا المعنى الذى قلناه وتقلده أكثر المفسرين، وسبب نزول الآية وهو: (أن خولة بنت ثعلبة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! زوجي وابن عمي، أفنى شبابي، وأكل مالي، ونثرت له بطني، فتركني حتى ضعفت قوتي، ورق عظمي، ثم جاء وظاهر مني وقال: أنت عليَّ كظهر أمي) . وكان في الجاهلية إذا قال قائل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، يعد طلاقاً وفراقاً، فجاءت تشتكي -بعد هذه العشرة الطويلة مع زوجها- مقالة زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً، إلا الشيء الذي كان متبعاً وهو إتمام الفراق، فجادلت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك علها تجد رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم في البقاء مع زوجها، فما وجدت شيئاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاتجهت بشكواها إلى ربها سبحانه وتعالى، إلى الله أشكو حالتي، إلى الله أشكو ضعف قوتي، إلى الله أشكو فراق ابن عمي، واتجهت بشكواها إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا هو شأن أهل الصلاح، إذا انقطع رجاؤهم في البشر فإن رجاءهم في الله لا ينقطع، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بعد سماعها مقالة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك: (يا عائشة إن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً، وإن العبد إذا أذنب واستغفر الله غفر الله له) ، فقالت بعد مجيء هذه المقولة من أحب الناس إليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخر من كانت تتوقع أن يقول هذه المقالة، قالت مقالتها الشهيرة: (لقد قلتم قولاً واستقر في أنفسكم، والله يعلم أني منه بريئة، ولو قلت لكم: إني بريئة ما صدقتموني، ولو قلت لكم: إني فعلت الذي تريدون مني لصدقتموني، فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ) ، ونحو هذه المقولة أيضاً قالها هلال بن أمية الواقفي رضي الله تعالى عنه لما رأى رجلاً مع زوجته، وجاء وأخبر النبي بذلك، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هات البينة. قال: ما عندي بينة يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام مكرراً: هات البينة. قال: ما عندي بينة يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: البينة أو حد في ظهرك) وأخذ ليقام عليه الحد، ولكن رجاؤه في الله لم ينقطع فأخذ كي يقام عليه الحد، ويقسم بالله وهو في طريقه لإقامة الحد عليه: أن الله سيبرئ ظهره وقد كان، فنزلت آية الملاعنة فرجاً ومخرجاً لـ هلال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] . وهكذا ينبغي أن نكون، إذا انقطع رجاؤنا في البشر فلا ينقطع رجاؤنا في ربنا سبحانه وتعالى، فبابه مفتوح، وعنده خزائن كل شيء، ويجعل دائماً بعد العسر يسراً سبحانه وتعالى. شكت المجادلة حالها إلى ربها سبحانه وتعالى، واستمع الله سبحانه وتعالى لشكواها كما نص على ذلك في هذه السورة الكريمة. وقد ورد في بعض الأسانيد التي ينظر فيها: أن عمر كان في سفر مع بعض رجالات قريش وأكابر قريش، وفي بعض الروايات أنه خرج لبعض مغازيه فاعترضته امرأة في الطريق، فأوقفته طويلاً وخاطبته وهي عجوز، فقالت له: يا ابن الخطاب! قد كان يقال لك وأنت صغير: يا عمير! ثم قالوا لك: يا عمر! لما كبرت، ثم قالوا لك: يا أمير المؤمنين! فاتق الله يا ابن الخطاب! فإن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وطال مقامها معه حتى عاتبه بعض رجال قريش، وقال: يا أمير المؤمنين! تحبس الجيش على امرأة عجوز مثل هذه، فقال له عمر: أتدري من هذه التي أوقفتني؟ إنها التي استمع الله إلى قولها من فوق سبع سماوات، ونزل في ذلك قرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، أفيستمع ربنا سبحانه وتعالى إلى قولها ولا يستمع عمر إليها؟.

تفسير قوله تعالى: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم.

تفسير قوله تعالى: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم.) قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] أي: الذي يقول لزوجته ما كان أهل الجاهلية يقولونه: أنت عليّ كظهر أمي، أي: أنت محرمة عليّ كما أنه يحرم عليّ أن آتي أمي وأجامعها، فأنت كذلك، وعبر بالظهر؛ لكونه المركوب، وإلا الذي يركب هو البطن في الغالب. {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] ، في قوله: (من نسائهم) إبطال لكل ظهار على غير الزوجة، فإذا قال رجل من الناس: فلانة عليّ كظهر أمي إن تزوجتها، فلا اعتبار لهذا الكلام؛ لأنها ليست من نسائه، وربنا يقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] ، ثم إنه قبل أن يتزوجها هي محرمة عليه، إن لم يكن التحريم كتحريم الأم، فاستفيد من الآية: أن المظاهر من غير امرأته لا اعتبار لظهاره، وكذلك مطلق غير امرأته، كمن يقول: فلانة طالق إن تزوجتها، كذلك يأخذ نفس الحكم. {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:2] أي: الذي يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، كذاب، فزوجته ليست هي أمه. {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُم} [المجادلة:2] يعني: أمك هي التي ولدتك، ولا يعكر على هذا قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتنا في المحرمية، ولسن أمهاتنا من النسب، ولكنهن محرمات علينا تحريماً أبدياً كتحريم الأمهات، كما قال تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53] ، لكن ليس مقتضى هذه المحرمية أننا نراهن؛ فتحريم رؤيتهن استنبط من دليل آخر ألا وهو: {َإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} [الأحزاب:53] . قال تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُم} [المجادلة:2] ، ويستنبط من هذه الآية منع التبني بالنسبة للنساء، فكون امرأة تأتي وتلتقط طفلاً وتنسبه إليها على أنه لها ولد فهذا باطل، فكما أن الله حرم التبني بالنسبة للرجال بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] ، كذلك الأمر بالنسبة للنساء. {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ} [المجادلة:2] أي: المظاهرون الجهلة، {لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] أي: يقولون قولاً كذباً ومنكراً ومزوراً. {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] ، فالظهار فضلاً عن الأحكام الفقهية المترتبة عليه هو في نفسه إثم، لكونه قولاً منكراً وقولاً وزوراً.

دعوة أصحاب الكبائر إلى التوبة وعدم اليأس من رحمة الله

دعوة أصحاب الكبائر إلى التوبة وعدم اليأس من رحمة الله قل تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2] وهذا التذييل لهذه الآية الكريمة مطرد في كتاب الله يفتح باب التوبة لكل مذنب، فكلما ذكرت كبيرة في كتاب الله وذكرت عقوبتها؛ ذيلت آياتها بفتح باب التوبة حتى لا يقنط شخص من رحمة الله، ولا ييئس شخص من رحمة الله، فاليأس من رحمة الله كبيرة {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] ، فحتى ينتفي هذا المعنى ألا وهو اليأس والقنوط من رحمة الله، فتح باب التوبة بعد ذكر الكبائر، فإلى هؤلاء الذين جهلوا وارتكبوا الذنوب، ويحتاج الذنب إلى رمضان يكفره، أو إلى عمرة تكفره، أو إلى حج يبيده ويزيله، وقد يعجز حتى الحج عن تكفير الذنب، فأمره يوكل إلى الله سبحانه وتعالى. وقد جاءت فتاوى العلماء على هذا النمط في عدة مسائل، ليست عليها أدلة في الكفارات، كأن تذنب ذنباً فتبحث عن فتاوى العلماء في هذا الذنب تجدها متعددة، فكلٌ قيَّم الذنب بحسبه، من ذلك -مثلاً-: كفارة من جامع زوجته وهو محرم، لم يرد فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عموم قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] ، لكن كم هي الكفارة؟ من العلماء من قال: يذبح جملاً. فكما أسلفنا أن عظم الكفارة تدل على عظم الذنب، والكفارات التي لم تحدد في الشرع، أو الفروض التي لم تحدد لها كفارات في الشرع، تقدر بقدرها، ويفعل الشخص حسنات توازيها أو تزيد عليها حتى تمحى وتزال، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ؛ ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ، وكما أسلفنا أن فتاوى العلماء أحياناً تختلف في مسألة من المسائل، مثلاً: تجد شخصاً قد أذنب ذنباً فذهب إلى الإمام الشافعي، فقال: كفارته كذا وكذا، وليس هناك دليل على هذه الكفارة التي ذكرها الإمام الشافعي، أو دليل على بيان حجمها، والإمام مالك رحمه الله تعالى يفتي بكفارة من نوع آخر، وأحمد يفتي بكفارة من نوع ثالث، فالكل نظر إلى حجم الذنب وإلى قدر الحسنات التي توازيه، فرأى هذا القدر يتمثل في كذا وكذا. ومن هذا الباب ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً أتاه فقال: يا ابن عباس! إني أذنبت ذنباً كبيراً كلما تذكرته اقشعر جلدي، قال: وما هو؟ قال: رزقت ببنت من زوجتي وكانت حسناء، فأصابني ما يصيب أهل الجاهلية من العار، وهممت بوأدها، ولكني تصبرت حتى كبرت وأصبحت ذات جمال، فقلت لأمها ذات يوم: جمليها وألبسيها أحسن الثياب، فجملتها وألبستها أحسن الثياب، ثم أخذتها فلما رأت أمها في وجهي الشر قالت: اتق الله ولا تمس ابنتك بسوء، فوعدتها خيراً، وذهبت بها بعيداً إلى حافة بئر، فأردت أن أقذفها في البئر، فتعلقت بثيابي وقالت: يا أبتِ! ماذا تريد أن تصنع بي؟ فأمسكت عنها، وأخذتني الرأفة، ثم ذهبت بها بعيداً وعاودني ما يعتري أهل الجاهلية من الجهل والعار فجئت لأدفعها فتعلقت بثيابي قائلة: يا أبت! ماذا تريد أن تصنع بي؟ فأخذتني الرأفة، ثم تحاملت على نفسي وقذفتها في البئر وقتلتها، فماذا عليّ يا ابن عباس؟ فـ ابن عباس استعظم الذنب -وهذا هو الشاهد- فقال: اذهب فلا أجد لك شيئاً، فانطلق الرجل ثم دعاه ابن عباس فقال: هل لك أم حية؟ قال: لا، فانصرف الرجل ثم رجع إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس! وماذا تريد مني بسؤالك: هل لك أم حية؟ قال: لا أعلم شيئاً يوازي الذي صنعت إلا برك بأمك. فـ ابن عباس رضي الله عنهما نظر إلى حجم الذنب، ونظر إلى حسنة تكافئ هذا الذنب أو تزيله وهو البر بالأم، فمن ثم بين للمذنب هذه الحسنات وهذه الخيرات التي تباد بها هذه السيئات. إذاً: إذا علمت هذا؛ فلا يعد خلافاً بين العلماء أن يفتي عالم بفتاوى وبكفارة معينة في المسائل التي ليس فيها نص، ويفتي عالم آخر بكفارة أخرى في نفس المسألة التي ليس فيها نص، فيكون هذا قد اجتهد في تحديد حجم الكفارة، وهذا قد اجتهد في تحديد حجم الكفارة. أما أن تأتي وتقول: المسألة ليس فيها دليل فيكفي أن تستغفر الله، صحيح أن المسألة ليس فيها دليل، لكن نهاية الكلام فيه قصور، فالاستغفار قد لا يكفي في أكثر الأحيان مع الذنوب الكبار، إلا إذا شاء ربي شيئاً آخر. فمن ثم جاءت عقوبة الظهار تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فدل على عظم ذنب من قال لزوجته هذا القول المنكر: أنت عليّ كظهر أمي، فهي مقولة لا تصدر إلا من أهل الجهل وأهل الغباء، إذ هي في نفسها مقولة قبيحة مستقبحة مستنكرة، هي منكر من القول كما وقال ربنا، وإضافة إلى النكارة فهي زور {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] .

تفسير قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام شهرين.

تفسير قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام شهرين.) قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4] ، المراد: بالشهور العربية، وليس بالشهور الميلادية، فإن كان الهلال يتراءى فابنِ على رؤية الهلال، وإن كان الهلال مهملاً لا يتراءى في أكثر الشهور، فقال كثير من العلماء: تصوم ثمانية وخمسين يوماً، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا، الشهر هكذا، الشهر هكذا، وخنس الإبهام في الثالثة -أي: تسعة وعشرون يوماً- فإذا غم عليكم فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ} [المجادلة:4] ، والاستطاعة في الحقيقة يعلمها ربك، فكثير من الشباب يفعل فعلة تستوجب الصيام، والله يعلم من حاله أنه يطيق الصيام، فيتجه إلى الإطعام، فليعلم مثل هذا أن الاتجاه إلى الإطعام مع استطاعة الصيام لا يجزئ؛ لأن الله يقول: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [المجادلة:4] . فكذلك أصحاب الكفارات الأخرى، مثل: المجامع في رمضان، وقاتل الخطأ، كأن يصدم شخصاً بسيارته فيموت المصدوم، كل هؤلاء في حقهم الكفارة المغلظة التي هي صيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فحينئذ يتجه إلى إطعام ستين مسكيناً، {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة:4] أي: فلا تعتدوها ولا تتخطوها، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:4] عافانا الله وإياكم منه!

الأسئلة

الأسئلة

حكم من قتل جرادة أثناء العمرة ولم يذكر التحريم

حكم من قتل جرادة أثناء العمرة ولم يذكر التحريم Q كنت في العمرة في رمضان، وأثناء الطواف قتلت جرادة ماشية، ولم أتذكر التحريم فهل عليّ شيء أفعله؟ A إذا كنت ناسياً فإن الله وضع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم الخطأ والنسيان، وإذا كنت عالماً فابعث مع من يذهب إلى مكة ليتصدق بقيمته في مكة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] . وهذا إذا قلنا بالكفارة.

معنى العج والثج

معنى العج والثج السؤال ما هو العج والثج؟ A الثج: كثرة إراقة الدماء في الحج، والعج: رفع الصوت بالتلبية.

رجل سافر مع إحدى زوجتيه هل يقضي للأخرى أيامها؟

رجل سافر مع إحدى زوجتيه هل يقضي للأخرى أيامها؟ Q زوجي كان معي في العمرة على نفقتي، وعند عودتنا يريد أن يمكث مدة مثل التي قضيناها في العمرة عند الزوجة الأخرى، فهل له ذلك؟ A يعني زوجته أنفقت عليه وأخذته للعمرة على نفقتها، ثم رجع من العمرة فيريد أن يقضي الأيام التي قضاها معها في العمرة عند الأخرى، فإذا كانت الأخرى اشترطت عليه ذلك ووافقت المعتمرة على ذلك؛ فله أن يقضي الأيام عند الأخرى، وإن لم تكن اشترطت وخرج بموافقتها فلا قضاء عليه، إذا خرج بموافقة الباقية هنا، لو قالت له: اخرج ولم يحدث بينهما شروط ولا اتفاقيات فلا قضاء عليه، والله أعلم.

حكم من تلفظ بالطلاق وهو في حالة تفكير عميق

حكم من تلفظ بالطلاق وهو في حالة تفكير عميق Q تلفظ شخص مع نفسه وفي حالة من التفكير في موضوع بلفظ: أنت طالق يا فلانة باسمها، وهو وحده ليس معه أحد أثناء تفكيره بالانفصال عن زوجته التي لم يبن بها؟ A أخونا السائل موسوس! ولا شيء في طلاقه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل) وهو موسوس كما قال العلماء فلا شيء في ذلك.

حكم أخذ المرتب أثناء العطلة الصيفية

حكم أخذ المرتب أثناء العطلة الصيفية Q نعمل في التربية والتعليم، فما الحكم في المرتب أثناء الإجازة الصيفية فنحن لا نذهب؟ A المرتب حلال لك.

حكم الاستمناء وكيفية الابتعاد منه

حكم الاستمناء وكيفية الابتعاد منه Q يسأل الأخ عن حكم الاستمناء؟ A نذكره بمراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، فإذا راقبت ربك استحيت من نفسك، فأنت تستحي أن يراك رجل من صالحي قومك على حال سيئة، كيف والرقيب شهيد سبحانه وقد قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] ، وإذا ابتليت بشيء من ذلك فأتبعه بفعل حسنات، وإكثار من الصلاة والصيام، واعمل بنصيحة النبي عليه الصلاة والسلام (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) .

حكم تعاطي ما يمنع الحمل لإتمام الرضاع

حكم تعاطي ما يمنع الحمل لإتمام الرضاع Q زوجة لها ابن لم يبلغ السنتين وتريد أن تأخذ ما يمنع الحمل حتى تستطيع أن تعطيه حظه من الرضاعة، هل عليها في ذلك إثم؟ A إذا كان لإتمام الرضاع، والوسيلة المستعملة لا تضر بها ولا بطفلها بشهادة الأطباء العدول الثقات، فلا بأس بذلك إلى أن ينقضي العامان والله أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم حلق الشارب

حكم حلق الشارب Q هل ورد شيء في حلق الشارب بالكلية؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم قال (قصوا الشوارب) ، والذي أعلمه فقط مقولة الإمام مالك: من حلق الشارب يؤدب، والمسألة محل بحث، والله أعلم.

حكم من سرق شيئا قبل البلوغ وأراد التوبة

حكم من سرق شيئاً قبل البلوغ وأراد التوبة Q يقول الأخ: سرقت وأنا في سن الثالثة عشرة، وتبت ورجعت إلى الله، ولكن عند المعرفة بأن توبة السارق لا تقبل إلا برد ما أخذه مع عظم الشعور بالذنب، ولم أعد أفكر في أي ذنب إلا هذا الذنب الذي بدد عليّ رجوعي إلى الله، وحال بيني وبين الله، مع العلم بأني قلت لنفسي: حينما يخلف الله علي سأقضي الدين، ولكن أخشى الموت قبل سداد الدين، ولا أستطيع الاعتراف لهم بسرقتي؛ لأني شديد الحياء؟ A لا تعترف بسرقتك الآن، واستر على نفسك إلى أن يوسع الله عز وجل عليك، وسدد إليهم المال إذا وسع الله عليك، ولا تقنط من رحمة الله، واطلب مسامحتهم إجمالاً، ولا تحدد أنك سرقت وأنت ابن ثلاثة عشر عاماً. وعندنا مخرج آخر، لكن أخبرك به أنت وحدك، إلا إذا كان هنا لا يوجد صغار، وهو: إذا كنت دون البلوغ فالأمر أخف، والله أعلم.

حكم الجمع بين تحية المسجد وسنة الوضوء

حكم الجمع بين تحية المسجد وسنة الوضوء Q هل يجوز الجمع بين تحية المسجد وسنة الوضوء بنية واحدة؟ A نعم يجوز الجمع بين تحية المسجد وسنة الوضوء، بل وسنة الظهر القبلية، بل والاستخارة مع هذه كلها بنية واحدة، يعني: يجوز أن تصلي ركعتين هي سنة الظهر القبلية، وهي تحية المسجد، وهي سنة الوضوء، وهي استخارة، يجوز أن تجمع بين هذه الأشياء. أما قضاء رمضان مع الست من شوال فلا؛ لأن هذه مسألة أخرى، لا يجوز الجمع بين النيتين في مسألة قضاء رمضان مع الست من شوال.

حكم الصفرة والكدرة بعد الطهر وقبله

حكم الصفرة والكدرة بعد الطهر وقبله Q تقول امرأة: إنها في فترة نفاس، ورأت الطهر في اليوم الثلاثين صباحاً، وفي نفس اليوم وجدت إفرازات لونها متغير صفراء حمراء، فتركت الصلاة، تقول: لكن أرى هذه الإفرازات مرة على لونها الطبيعي ومرة متغيرة، فإذا كان ما رأيته هو الطهر فماذا أفعل في الصلوات التي فاتتني؟ وكيف أتأكد من الطهر الذي قبل الأربعين؟ A إذا رأت المرأة الطهر في صبيحة الثلاثين كما ذكرت، وبعد أن رأت الطهر وتأكدت منه نزلت إفرازات، أو نزلت الصفرة والكدرة، فالصفرة والكدرة إذا كانت أثناء النفاس أو أثناء الحيض فحكمها حكم الحيض أو النفاس، وإذا كانت بعد رؤية الطهر فلا اعتبار لها، فتبني على الطهر. الحاصل في مسألة الصفرة والكدرة: إذا كانت أثناء الحيض فهي حيض، وإذا كانت بعد الطهر فلا اعتبار لها، ولا تمنع المرأة من طهرها. فنقول لها: لا تعتذر بالصفرة والكدرة، بل عليها أن تصلي، أما بالنسبة للأيام التي تركت الصلاة فيها، فإن كان قد مضى زمنها من مدة طويلة فلا شيء عليها؛ لأنها اجتهدت وأخطأت في هذا الباب، وإن كانت قريبة العهد بذلك تقضي مع كل صلاة صلاة.

حكم زيارة المقابر في يومي الخميس والجمعة

حكم زيارة المقابر في يومي الخميس والجمعة Q هل هناك فضيلة في زيارة المقابر يوم الخميس أو الجمعة أو بعد صلاة فجر السبت؟ A ليست هناك فضيلة في ذلك؛ بل قد تكون إلى الابتداع أقرب لتخصيص يوم بمراسم معينة، ولكن جاءت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عامة (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة) ، فلم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بوقت دون آخر.

عدم لزوم صلاة الظهر لمن طهرت بعد المغرب بقليل

عدم لزوم صلاة الظهر لمن طهرت بعد المغرب بقليل Q إذا طهرت الحائض وقد دخل وقت المغرب بقدر ركعة، فهل يجب على المرأة أن تصلي الظهر والعصر جمع تأخير أم يستحب ذلك؟ A هذه المسألة فيها أقوال كثيرة للعلماء، لكن ليس هناك دليل يلزم المرأة التي هذه حالتها بأن تقضي الظهر ولا العصر، ليس هناك دليل، فعليه ليس في ذمتها إلا فرض المغرب.

حكم إزالة المرأة الشعر من الرجل واليد وما بين الحاجبين

حكم إزالة المرأة الشعر من الرجل واليد وما بين الحاجبين Q الشعر الذي ينبت في رجل المرأة ويدها وما بين حاجبيها، هل يشرع لها إزالته؟ A أما الذي في رجلها ويدها فيجوز لها أن تزيله، وما بين الحاجبين من حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، فلتبتعد عن الشعر الذي بين الحاجبين، فمن العلماء من يحكم بأن إزالته نمص، وأما الذي في اليد أو الرجل لها أن تزيله.

عدم ثبوت ذكر معين عند إقامة الصلاة

عدم ثبوت ذكر معين عند إقامة الصلاة Q هل يشرع ذكر معين عند إقامة المؤذن للصلاة؟ وماذا يجب عند سماع الإقامة؟ A لا يثبت في ذلك حديث، وحديث: (أقامها الله وأدامها) حديث ضعيف. ويجب عليك أن تقوم عند سماع الإقامة.

حكم من رضع مرتين مع امرأة وأراد التزوج بابنتها

حكم من رضع مرتين مع امرأة وأراد التزوج بابنتها Q خطبت ابنة عم لي، وبعد الخطبة بعام قمت بإلباسها الذهب علانية، ثم تبين لي الآن أني وأمها قد رضعنا من طرف خارجي - يعني: الولد صار خالها من الرضاعة الآن -، مع العلم أن رضاع الأم مشكوك فيه جداً إذ نفتها إحدى السيدات من بيت المرضعة بأدلة، وأنا قد رضعت من الطرف مرتين فقط؟ A المثبت مقدم على النافي، فإذا كان هناك امرأة أثبتت أنها أرضعتك، وجاءت أخرى وقالت: أنتِ لم ترضعيه، فالمثبت مقدم على النافي، وهو يقول: أنا رضعت من هذا الطرف مرتين فقط، وما أدراك؟ فهل يجوز العقد أم لا؟ مع العلم أن عدم إتمام العقد ينشأ عنه أضرار كثيرة جداً. (جاء رجل وقال: يا رسول الله إني تزوجت ابنة أبي إهاب بن عزيز وجاءت امرأة سوداء فزعمت أنها أرضعتني -هكذا نص السؤال: زعمت امرأة سوداء أنها أرضعتنا- وهذا الرجل يقول كما قال أخي في السؤال-، يقول: وهي كاذبة يا رسول الله! -وما أدراك أنها كاذبة؟ - فقال الرسول: كيف وقد قيل؟ دعها عنك) أي: اتركها، فالاحتياط لك أن تتركها. لكن إن جئنا عند التحرير، إن كان حقاً ما تقول: إنك رضعت مرتين فقط، ففي شأنك نزاع، الجمهور يقولون أيضاً: تحرم عليك؛ إذ عند الجمهور: أن الرضعة الواحدة تحرم، ولكن بعض المذاهب فقط هو الذي سيبيح لك ذلك؛ لحديث (لا تحرم المصة ولا المصتان) ، وإن كان الجمهور يحملون المصة على الشفطة لا على الرضعة الكاملة، ولكن القوي في الباب حديث عائشة (كان فيما أنزل من القرآن أن عشر رضعات مشبعات يحرمن فنسخ بخمس معلومات) ، فعلى ذلك الاحتياط ألا تتزوجها، إلا إذا كنت أنت تحبها حباً شديداً، فإذا جئت عند التحرير فكما سمعت، إن كنت رضعت رضعتين فقط فبعض المذاهب يجيز لك الزواج بها، لكن ستبقى طول حياتك في قلق واضطراب.

حكم صوم يوم السبت تطوعا

حكم صوم يوم السبت تطوعاً Q ما حكم صوم يوم السبت في التطوع؟ A تقدم الكلام عليه، فمن صام يوم السبت لا إشكال فيه، لا إشكال في صومه، والحديث الوارد في هذا الباب قد ضعفه فريق كبير من العلماء: كالإمام مالك، وأبي داود، ألا وهو حديث (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض عليكم) قال الإمام مالك: إنه حديث كذب، وغيره من العلماء تكلموا فيه، وفي حالة صحته فهو محمول على من يتشبه باليهود ويخصص السبت بالصيام، وقد تقدم الكلام بمزيد من الإيضاح، وأن الحديث معارض بما هو أقوى منه بمراحل (لا يصومن أحدكم الجمعة إلا ويوماً قبله ويوماً بعده) . (أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ، وهذا قول عامة أهل العلم: أن صوم يوم السبت جائز، والله سبحانه أعلم.

حقيقة النهي في حديث: لا تصوموا السبت.

حقيقة النهي في حديث: لا تصوموا السبت. Q هل يقع النهي على من صام السبت منفرداً؟ A متن الحديث الذي يستدلون به على المنع لا يقتضي ذلك؛ لأن متنه: (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض) فهم يقولون: إن الصيام قبله بيوم ما زال نفلاً، فالقول معكر عليه أيضاً بنفس متن الحديث، يعني: لا أنت مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.

عدم صحة حديث: إخفاء الخطبة وإعلان النكاح

عدم صحة حديث: إخفاء الخطبة وإعلان النكاح Q ما صحة هذا الحديث (إخفاء الخطبة وإعلان النكاح في المساجد) ؟ A لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير سورة المجادلة [2]

تفسير سورة المجادلة [2] لقد بين سبحانه وتعالى في سورة المجادلة أنه يعلم ما يتناجى به الناس، سواء كانوا ثلاثة أو أقل أو أكثر، وهذا دليل على سعة علم الله وإحاطته بخلقه. وبين كذلك أن النجوى من الشيطان، وأن الهدف منها إحزان المؤمنين وهمهم وغمهم، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن النجوى، لكن اليهود والمنافقين لم ينتهوا عنها، وتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأمر الله سبحانه المؤمنين بأن يتناجوا بالبر والتقوى. ثم بين سبحانه وتعالى أدب المجالس والإفساح لأهل العلم والفضل، وذلك لمكانتهم العظيمة عند الله سبحانه وتعالى، حيث رفع درجاتهم في الآخرة، وبوأهم المكانة العظيمة في الدنيا، وأمرنا الشرع أن ننزل الناس منازلهم.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] . قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [المجادلة:7] ، وفي ختام الآية: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] ، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: بدأت الآية بالعلم، وختمت بالعلم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7] فحمل فريق من المفسرين قوله تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] على أن المعية في الآية الكريمة معية علم، أي: يعلم أحوالهم، فيكون التأويل: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم يعلم أحوالهم، وليس المراد: (معهم) أو (رابعهم) بذاته سبحانه وتعالى، فقد قال الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقال سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] ، ولما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية قائلاً لها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) . فبعض أهل البدع من شبههم التي يثبتون بها أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان هذه الآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] ، مع قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84] . فقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] أي: وهو الذي في السماء معبود وفي الأرض معبود، أي: معبود في السماء، ومعبود في الأرض، أي: يعبده أهل الأرض، ويعبده أهل السماء، وهذا من قولهم: ألهت إلى فلان، فعلى ذلك فهذه الآية التي بين أيدينا لا دليل فيها لمن ذهب إلى أن الله في كل مكان، كما هو مذهب طائفة من المعتزلة والمبتدعة. ثم إن قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] أي: يعلم مناجاتهم التي يتناجون بها. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7] ، تقدم أن الرؤية أحياناً تأتي بمعنى العلم، نحو: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] ، ليس المراد: رؤيا البصر، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ير الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [البقرة:246] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما رأى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، فالمراد بالرؤيا هنا: العلم، أي: ألم يأتك خبر هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف؟ وثم أقوال أخر.

حقيقة المعية في الآية وأقسامها

حقيقة المعية في الآية وأقسامها قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] أي: يعلم الشيء الذي يتناجون فيه، ومن العلماء من ضم إلى معية العلم معية الرؤية والإحاطة والسمع كذلك، فالله يعلم سرهم ويعلم نجواهم ويراهم، ويعلم ما تكنه صدورهم وما يعلنون. والمعية معيتان: معية نصر وتأييد، ومعية علم وإحاطة. فمعية العلم والإحاطة عامة، فبهذا المفهوم الله سبحانه وتعالى مع كل من يتناجى أو لا يتناجى، يعلم سره ويعلم حاله، لكن قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] المعية هنا معية نصر وتأييد، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر رضي الله عنه في الغار: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، فـ (لا تحزن إن الله معنا) معية نصر وتأييد وعلم وإحاطة أيضاً، لكن في شأن الكفار تنتفي معية النصر والتأييد، فلا يقال: إن الله مع الكافرين، ولا إن الله مع الظالمين، وبهذا تتضح معاني المعية، فهي معيتان: معية نصر وتأييد وهي لأهل الإيمان، ومعية علم وإحاطة وهي عامة لأهل الإيمان وأهل الكفر، والله سبحانه أعلم.

حقيقة النجوى وتفسيرها

حقيقة النجوى وتفسيرها قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} [المجادلة:7] ، النجوى: هي التناجي وهي الحديث في السر، وقد سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن النجوى فذكر: أن أقرب ما تفسر به النجوى هو ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (يدني الله سبحانه وتعالى المؤمن يوم القيامة -أي: يقرب الله المؤمن منه يوم القيامة-، ويضع عليه كنفه ويستره عن الناس، ثم يقرره بذنوبه: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! فيقول الله سبحانه: أنا سترتها لك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) ، وأما الكفار والمنافقون فكما قال الله: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] . فالتناجي هو الحديث في السر، وأغلب ما يتناجى به الناس فيه إثم وعدوان، قال الله سبحانه: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] ، أكثر الأحاديث التي يتناجى بها الناس لا خير فيها، {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] . {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] أي: معية علم وإحاطة أيضاً. {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7] أي: ثم يخبرهم بما صنعوا وما تحدثوا يوم القيامة، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] .

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى.) وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة:8] ، من هؤلاء الذين نهوا عن النجوى؟ وما هي صورة النجوى التي نهوا عنها؟ لأهل العلم في ذلك أقوال: من هذه الأقوال: أن هناك عمومَ نهي عن النجوى، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر؛ فإن ذلك يحزنه) ، ويلتحق بذلك إذا كنتم أربعة فلا يتناجى ثلاثة دون الرابع، وكذلك إذا كنتم عشرة فلا يتناجى تسعة دون العاشر؛ لأن الحزن وارد بصورة أكبر في التسعة إذا تركوا الواحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر فإن ذلك يحزنه) ، ونحن مأمورون بدفع كل ما يحزن المسلم، كل شيء فيه جلب الحزن للمسلمين أمرنا بالابتعاد عنه، وكل شيء فيه إدخال السرور على المسلمين أمرنا بفعله، وجاء الترغيب فيه والحث عليه، ومن ثم شرعت المواساة بعيادة المرضى وبالتعزية للجنائز، وبالزيارات ابتغاء وجه الله، وبالهدايا التي تدخل السرور، وبإفشاء السلام الذي يجلب المودة ويدفع الهموم ونحو ذلك. لقد كان أهل النفاق يجلسون مع بعضهم البعض يتحدثون جهراً، فإذا مر بهم مسلم من المسلمين تناجوا فيما بينهم وتركوا المسلم، فيغتم لذلك المسلم، ويظن أنهم يريدون به السوء، ويظن أنهم يتحدثون في أمر من الأمور التي ستجتاح المسلمين، فيصاب بالحزن وبالهمّ لهذه المناجاة، وكان اليهود أكثر من يستعمل ذلك على عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يجلسون مع بعضهم البعض وإذا مر بهم المسلم بدءوا في التناجي، ولا حاجة لهم إلى التناجي؛ ولكن يتناجون كي يغتم المسلم، ويجلبوا له الهم والنكد، فيفكر المسلم ويقول: ماذا يريدون بي؟! لعلهم يتآمرون لقتلي لما علموا بسفري! فيغير خط سيره في السفر، لعلهم يتحدثون عن مؤامرة ضد المسلمين فيغير أعماله، فكان قصدهم من التناجي هو إيذاء المسلمين بصورة من الصور. فعلى ذلك قد يتجه بعض إخواننا إلى هذا التناجي المذموم، وخاصة في أوساط النساء اللواتي يتحدثن سراً، وتريد امرأة أن تكيد أخرى فتجلس وتناجي ثالثة، فكل هذا سلفه اليهود، هم الذين بثوا هذا الأذى في المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

مرد تعجيل العذاب للمجرمين وتأخيره إلى الله سبحانه

مردّ تعجيل العذاب للمجرمين وتأخيره إلى الله سبحانه فالآية الكريمة أفادت أنه ليس كل مذنب يعذب في الدنيا، ولا يلزم أن يعذب كل مجرم في الدنيا على جرائمه، بل قد يدخر العذاب للمجرمين إلى يوم القيامة، فأنت -يا مسلم- قد يظلمك شخص، فتقول: ها هو جالس يظلمني، يضربني، ويأكل مالي، وينتهك عرضي، فلماذا لم يعذبه الله سبحانه وتعالى؟! ولماذا يتركه الله سبحانه وتعالى ويمد له من النعيم مداً؟! فالإجابة: أنه ليس كل ذنب تعجل عقوبته في الدنيا، بل هناك من الذنوب ذنوب تؤخر وتدخر لأصحابها العقوبات إلى الآخرة، ونحو ذلك ورد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] قال كثير من المفسرين: إن الذين خدوا الأخاديد للمؤمنين، وأضرموا فيها النيران وقذفوهم فيها، لم يذكر أنهم عذبوا بعذاب صريح في الدنيا، فعلى ذلك فعذابهم مدخر في الآخرة. وقد قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] قولاً مرجوحاً مطروحاً وهو: أنهم بعد أن قذفوا المؤمنين في النار تطاير عليهم من شررها فأحرقهم وهم قعود ينظرون إلى أهل الإيمان، ولكنه قول مطرح، والله سبحانه وتعالى أعلم. فالشاهد: أنه ليس كل مجرم يعذب في الدنيا، بل قد يدخر العذاب للمجرمين في الآخرة؛ ولذلك لما قالوا في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، أجابهم الله بقوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8] . فليس للمسلم من أمره شيء، فقد يدخر الله العذاب لظالمه وقد يعجله، ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من ظلموه باللعنة فقال (اللهم! العن فلاناً وفلاناً، نزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ) ، وكما في الآية الأخرى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] ، وقال تعالى في الآية الثالثة: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر:77] ، أي: قبل أن نرينك الذي وعدناهم من العذاب، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] ، فقوله سبحانه: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77] ، أي: يا محمد! قد نشفي لك صدرك في الدنيا بأن نريك في عدوك ما يريحك ويذهب غيظ قلبك، ونريك فيه العذاب قبل مماتك، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر:77] قبل أن ننزل العذاب عليهم، وقد كان هذا وذاك، فشفى الله صدر نبيه محمد من أقوام قد ظلموه وآذوه ولعنوه وسبوه، فهاهو يقف يوم بدر على بئر قد ألقيت فيه جيفُ المشركين: أبو جهل، وعتبة، وشيبة، فيناديهم: (يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا أبا جهل بن هشام! ويا أمية بن خلف! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً؟) الحديث. وثم أقوام آخرون كـ مسيلمة الكذاب اغتم الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنه شيئاً ما، واطمأن لما رأى في يديه سوارين فنفخهما فطارا، فأولهما كذابين يخرجان من بعده، فكان صاحب صنعاء الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، ولكن مسيلمة ما قتل إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى ذلك قوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] ، مع قوله سبحانه: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8] ، فيهما ما يعزى به المسلم الذي أصيب من ظالم، أو الذي انتهك عرضه ظالم، فلتقر عين كل مظلوم فإن الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر. قال تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8] ، أي: بئس المصير الذي يصيرون إليه.

الدلالة على كون الآية نزلت في اليهود وبيان مكرهم وسخفهم

الدلالة على كون الآية نزلت في اليهود وبيان مكرهم وسخفهم وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] وهذا يؤيد أن الآية في اليهود؛ لأن اليهود كانوا يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يحيه به ربه، كان أحدهم يأتي ويقول: السام عليك يامحمد! أي: الموت واللعنة والهلاك عليك يامحمد! فهذا مضمون قوله تعالى: {وإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] ، وفي الصحيح (أن عائشة: كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه قوم من اليهود فقالوا: السام عليك يا محمد! فقالت: وعليكم السام واللعنة! فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة! إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ قال: قد سمعت، وقلت: وعليكم، فيستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا) ، هكذا قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا معني قوله تعالى: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} [النساء:46] ، فكانوا يلوون ألسنتهم بالسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحولون السلام إلى مقصد آخر ذميم وهو اللعن والهلاك. {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] فيؤخذ من الآية: أنه ينبغي بل يتعين على المسلمين أن يحيي بعضهم بعضاً بما حياهم الله به، تحيتهم وتحية أبيهم آدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهي أتم صيغة، وعليها ثلاثون حسنة، ودونها: السلام عليكم ورحمة الله، ودونها: السلام عليكم، هذه تحية المسلمين. {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] . هذه الآية فيها تسلية للمؤمنين، وتصبير لكل مبتلى، وما هو وجه ذلك؟ وجهه أن الله سبحانه وتعالى ذكر مقالة اليهود إذ قالوا في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، أي: أن اليهود يقولون في أنفسهم: نحن نسب محمداً وندعو عليه باللعنة، وندعو عليه بالهلاك، فإذا كان محمد نبياً فلماذا لم يعذبنا الله بسبنا لمحمد، وبشتمنا لمحمد، وبدعائنا على محمد باللعنة والهلاك؟! فهذا حاصل قولهم {لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] ، فأجابهم الله بقوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8] ، أي: تكفيهم جهنم.

الفرق بين الإثم والعدوان

الفرق بين الإثم والعدوان قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة:8] ، الإثم: هو الذنب الذي يقترفه الشخص في حق نفسه، والعدوان: هو الذنب الذي يقترفه الشخص في حق الآخرين، وهو من باب التعدي. ومنه قول الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] . ولكن كما سمعتم آنفاً: أن اصطلاح الإثم قد يتسع ويحمل المعنيين: فيحمل معنى الذنوب التي يقترفها الشخص في حق نفسه، ويحمل معنى التعدي على الآخرين، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] ، فكبائر الإثم تدخل فيها الجرائم التي فيها تعدٍ إلى الآخرين، من سطو ونصب وغش ونحو ذلك. وقوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} [المجادلة:8] ، أي: يتواصون فيما بينهم بمعصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتواصون فيما بينهم بالتشويش على القرآن كما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] ، أي: شوشوا عليه حتى لا يستمع إليه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم.) ثم جاء الخطاب إلى أهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:9] يا أيها الذين آمنتم بي، وصدقتم برسلي، وأقررتم بكتابي. {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا} [المجادلة:9] كما يتناجى اليهود وأهل النفاق. {بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُول} [المجادلة:9] ، لا تتشبهوا بهم في هذه المناجاة السيئة، ولكن: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة:9] ، وهنا تذكير بالحشر، وما يتبع ذلك من أمور مهولة وعظيمة.

تفسير قوله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان.

تفسير قوله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان.) قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:10] أي: أن أصلها من الشيطان، هو الذي حرض عليها، وهو الذي دفع إليها، إذ هو يريد دائماً إحزان المسلم، لا يريدك سعيداً يوماً من الأيام، إنما دائماً يريد أن يجلب النكد والهم والغم لأهل الإيمان.

كيفية الاحتراز من الشيطان وأعوانه

كيفية الاحتراز من الشيطان وأعوانه قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10] ، فالشيطان يدفع اثنين إلى التناجي ويذهب إلى الثالث يوسوس له، لم يتناجيان؟ هما يتآمران ضدك، فانتبه له واحذر منه، فالشيطان يفعل ذلك؛ {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] . من العلماء من جعل من الحروز التي يحترز بها العبد من الحسد ومن عموم الأعداء، ألا يكثر الانشغال بهم والالتفات إليهم، فيقولون: من علاج الحسد ألا تنشغل كثيراً بالحاسد، فهو يريد شغلك والاستحواذ على فكرك حتى تفكر فيه، فأهمله واعتصم بالله وتوكل عليه، فهذا نوع من أنواع العلاج، لا تشغل نفسك كثيراً بعدوك، بل خذ ما شرع لك من الأخذ بالأسباب، وتوكل على الله وليطمئن خاطرك، قال تعالى: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] ، فإذا رأيت اثنين يتناجيان فلا تلتفت إلى المناجاة، وانصرف وأقبل على الله سبحانه وتعالى فهو خير حافظ يحفظك، لا تنشغل كثيراً ولا تهتم كثيراً بمناجاة من يتناجى، ولكن أقبل على الله، واعتصم بالله، واعلم أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الله سبحانه وتعالى يحفظهم، وأنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، فأقبل إليه وتوكل عليه، ولا تكثر من الانشغال بهذا الذي يتناجى كي يؤذيك وكي يغمك ويجلب لك النكد، {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] .

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا.) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُم} [المجادلة:11] ، وهذا من أدب المجالس، إذا قيل لك: تفسح في المجلس شيئاً ما، فتفسح، وليس للقادم أن يشق المجلس ويفرق بين اثنين إلا بإذنهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) ، ولكن يحث على التفسح مذكراً بآية من كتاب الله ويقول: افسح يفسح الله لك، فحينئذ تقبل بقلب طيب، وتفسح له أنت وأخوك، وكان الصحابة يجلسون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل يضن بمجلسه ولا يريد أن يفسح لأحد، كل منهم يريد أن يقترب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما أحياناً تأخر بعض الفضلاء، فالناس مراتب ودرجات، فضل الله سبحانه وتعالى بعضهم على بعض، وإن كانوا في الخيرية من ناحية صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، لكن في الصحبة أيضاً تفاضل، فربما تأخر بعض الأفاضل أحياناً كـ أبي بكر رضي الله عنه، أو عمر رضي الله عنه أو غير هؤلاء من كبار الصحابة، تأخروا شيئاً ما لعذر، فيأتون إلى مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد سبقهم غيرهم، فيضن الناس بمجلسهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يريد أحد أن يفسح لإخوانه، فأرشدوا إلى هذا الأدب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] ، أي: افسحوا لهؤلاء كبار السن، ولما لهؤلاء السابقين الأولين من حق وقدر، فلكل كبير حق، ولكل سابق بالخيرات قدر، وديننا من أصوله إنزال الناس منازلهم، من الأصول التي دعت إليها وحثت عليها سنة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ إنزال الناس منازلهم، الكبير له حق، والجار له حق، وكل له حق مشروع في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكون أحد هؤلاء الفضلاء، أحد هؤلاء السابقين الأولين، أحد هؤلاء كبار السن؛ يأتي وقد سبقه الصغار، فيطلب من الصغير أن يفسح له وهو لا يفسح فأدبه فيه خلل، ولذلك أُرشدوا إلى هذا الخلل كي يتقوه وكي يبتعدوا عنه. ومن ثم كان أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه -كما في سنن النسائي بسند صحيح-: (يأتي إلى الصلاة وقد أخذ الناس مصافهم في الصفوف فيأتي ويسحب شخصاً من الصف شاباً ويقف مكانه -وقد فعل ذلك أثناء الصلاة- فلما انقضت الصلاة التفت إليه الشاب مغضباً، وأبي كما هو معلوم من سادات الأنصار، وأعلم الصحابة بكتاب الله، أعلمهم بالقراءات، قال عمر: أقرؤنا أبي بن كعب، أضف إليه ما ورد فيه من الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبي إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، قال: أو قد سماني الله لك يا رسول الله؟! قال: نعم، فبكى أبي بن كعب، فشخص مثل هذا الذي سماه الله لنبيه، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: اقرأ القرآن على أبي بن كعب، جدير بأن يوقر، وجدير بأن يفضل، وجدير بأن يحترم، فقال لهذا الشاب: يا ابن أخي! لا يسوءك، إنه عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه في الصلاة) . فإذا جاء وطلب منك يا صغير أو يا متأخر الإسلام أو يا حديث عهد بالإسلام أن تفسح له، فلا يليق بك أن ترده خائباً، وأن تكسر خاطره، فكما سمعتم أن مراعاة المشاعر والأحاسيس عليها أكثر من مائة دليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أدلة متوافرة في مراعاة المشاعر وإنزال الناس منازلهم، وقد سمعتم طرفاً من ذلك فيما قبل.

هل يقدم الأعلم على كبير السن أو العكس؟

هل يقدم الأعلم على كبير السن أو العكس؟ وهل يقدم في المجالس ونحوها الذي آتاه الله علماً أم كبير السن؟ فمن العلماء من قدم هذا، ومنهم من قدم ذاك، فالذين قالوا يقدم كبير السن حجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) ، ومن حججهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أراني الليلة أتسوك، فأتاني رجلان، فدفعت السواك إلى الأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر) ، ومن أدلتهم: مجيء حويصة ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أصغرهما يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر، كبر) ، أي: أكبرهما سناً هو الذي يتكلم، فهذه حجة من قال يقدم الكبير. ومن حجج الذين قالوا يقدم العالم: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد -عندما كان يجعل الثلاثة والأربعة في القبر الواحد-: (قدموا أكثرهم قرآناً) ، ومن حججهم أيضاً هذه الآية: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ، ومن حججهم أيضاً: أن عمر رضي الله عنه كان يقدم ابن عباس في مجلس الشورى على من هم أكبر منه سناً، والمسألة محتملة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

رفع الله للمؤمنين وأهل العلم درجات

رفع الله للمؤمنين وأهل العلم درجات وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ، ما هو وجه إيراد هذه الفقرة من الآية في هذا الموطن بعد قوله: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ؟ أولاً: الآية فيها منقبة كبرى لأهل العلم، ومثلها قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] . {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ، أي: في الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن معاذ بن جبل يتقدم العلماء رمية بحجر يوم القيامة) . فمن العلماء من قال: إن قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] خبر، ومع كونه خبراً يحمل معنى الأمر، وما هو وجه ذلك؟ إن الله سبحانه وتعالى قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] أي: عليكم أن تفسحوا لهم في المجالس، وأن تجلسوهم في المجالس، هذا قول. القول الثاني: أن الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم هم الذين فهموا قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] أي: أنهم الذين عقلوا عن الله أمره، وامتثلوه؛ فتفسحوا في المجالس، ونشزوا حينما طلب منهم النشوز، هؤلاء أهل فقه، وأهل علم، وأهل امتثال لأمر الله، هؤلاء يرفعهم الله سبحانه وتعالى درجات. فهذان وجهان، وكل وجه منهما له قوته وله وجاهته، والله أعلم.

دلالة الآية على أن الجزاء من جنس العمل

دلالة الآية على أن الجزاء من جنس العمل قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] ، في قوله: (تفسحوا في المجالس يفسح الله لكم) دليل على أن الجزاء من جنس العمل، فمن تفسح لأخيه فسح الله له يوم القيامة، وفي الدنيا كذلك، والأدلة على هذا كثيرة، حتى إن بعض المصنفين صنفوا كتباً أسموها: الجزاء من جنس العمل. وعلى ذلك جملة أدلة من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. فمن كتاب الله قال الله سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] . ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) ، وقوله: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

معنى النشوز الخاص والعام في الآية

معنى النشوز الخاص والعام في الآية قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ، النشوز في الأصل: هو العلو والارتفاع، ومنه قولهم للمرأة: امرأة ناشز، أي: مرتفعة ومتعالية على أمر زوجها، والأرض النشز: الأرض المرتفعة، {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء:128] ، أي: كبراً عليها، أو تعالياً عليها، أو إعراضاً عنها. فقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ما المراد به؟ من العلماء من فسره بتفسير عام، ومنهم من فسره بتفسير خاص. فالذين فسروه بتفسير خاص قالوا: قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: قوموا وانهضوا إلى الجهاد وإلى القتال مع نبيكم صلى الله عليه وسلم فقوموا ولا تترددوا. القول الثاني: {إِذَا قِيلَ انشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: قوموا وانهضوا إلى الصلاة. القول الثالث: {إِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: قوموا وتفسحوا لإخوانكم. القول الرابع: {إِذَا قِيلَ انشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: قوموا إلى فعل خير دعيتم إليه ولا تترددوا. والذين فسروه بتفسير عام قالوا: إن هذه المفردات كلها تدخل في قوله تعالى {إِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: إذا دعيتم إلى أي عمل فيه بر أو فيه خير فقوموا إليه، وانهضوا إليه، وسارعوا إليه، واستبقوا إليه، وهذا المعنى العام أولى وأليق والله سبحانه وتعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إنجاز العمل في أقل من المدة المقررة له

حكم إنجاز العمل في أقل من المدة المقررة له Q امرأة تعمل في الحكومة وعملها مُعْظَمُهُ مأموريات، تأخذ المأمورية في عشرة أيام وتنهيها في خمسة أيام، كذلك ممكن يصرف لها بدل سفر عن العشرة أيام، فما حكم المأمورية؟ A والله أعلم، إذا كانت تقوم بالمأمورية على أكمل وجه، وعلى وجه يرضي الله، فيجوز لها أن تنجزها في خمسة أيام، وتستريح الخمسة الأيام الأخرى، فمثال ذلك: شخص كلف أن يقرأ في كل يوم مثلاً عشرة عدادات فقرأ مائة عداد واجتهد كي يستريح اليوم الآخر، فالظاهر -والله أعلم- أن العمل مادام يؤدى على أكمل وجه فلا بأس بذلك، والله أعلم.

حكم من فاتته الظهر وصلى مع جماعة العصر

حكم من فاتته الظهر وصلى مع جماعة العصر Q رجل فاتته صلاة الظهر ثم وجد الناس يصلون العصر، فهل يدخل معهم بنية الظهر ثم يصلي العصر بعد ذلك أم يصلي معهم العصر ثم يصلي الظهر بعد ذلك؟ A أسلفنا بأن الأئمة الأربعة رحمهم الله: مالكاً وأبا حنيفة والشافعي وأحمد يرون - كما نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى -: أنك تصلي معهم صلاتهم التي يصلون ثم تقضي ما فاتك، ولا يجب عليك الترتيب في مثل هذه الحالة؛ لأنك مأموم، فصلِّ معهم ثم ما فاتك فأتمه، هذا رأي الأئمة الأربعة في مثل هذا الموطن، والله أعلم. أما الترتيب فمحل تعينه إذا كنت تصلي منفرداً، أو كنت تصلي إماماً، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم ما يسمى بالوكيرة

حكم ما يسمى بالوكيرة Q اشتريت شقة جديدة وعلمت أنه من السنة ذبح ذبيحة تسمى: وكيرة، وما هي شروط الذبيحة؟ A ليست من السنة، بل هي من البدعة، ليس هناك دليل على أنك تذبح ذبيحة عند شراء الشقة الجديدة.

كيفية رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام

كيفية رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام Q كيف أرى رسول الله في منامي عليه الصلاة والسلام؟ A سل الله ذلك.

حكم قراءة القرآن في الصلاة من المصحف

حكم قراءة القرآن في الصلاة من المصحف Q ماحكم قراءة القرآن من المصحف في الصلاة؟ A سبقت الإجابة عليه. إلى هنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الهدي النبوي في اليوم السابع للمولود

الهدي النبوي في اليوم السابع للمولود Q ما هو الهدي النبوي في اليوم السابع للمولود؟ A من الهدي في اليوم السابع للمولود: أن يماط عنه الأذى، وأن تذبح له عقيقة، وإن شئت أن تسميه في اليوم السابع سميته، وإن شئت أن تسميه قبل ذلك سميته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم) ، فهذا دليل على أنه سماه فور الولادة، وأما التسمية في اليوم السابع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعق عنه يوم سابعه ويسمى) .

بيان عورة المرأة عند المرأة والرجل عند الرجل

بيان عورة المرأة عند المرأة والرجل عند الرجل Q ما هي عورة المرأة بالنسبة للمرأة، والرجل بالنسبة للرجل؟ A جمهور العلماء على أن عورة الرجل بالنسبة للرجل من السرة إلى الركبة؛ لحديث أبي داود: (إذا زوج أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن من سرته إلى ركبته من عورته) ، احتج الجمهور بهذا على أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وأجرى البعض القياس على المرأة فقال: والمرأة كذلك بالنسبة للمرأة، وثم أقوال أخر: فمن العلماء من استثنى من الرجل الفخذ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه عليه الصلاة والسلام كما في حديث أنس، وكما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة دخول عثمان رضي الله تعالى عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم. وجمع بين هذه الأدلة بعض أهل العلم، فهناك حديث: (الفخذ عورة) ، وهناك حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً حاسراً عن فخذه فدخل الصحابة، فلما دخل عثمان غطى) ، قال البخاري: حديث جرهد أحوط الذي هو (الفخذ عور) ، وحديث أنس أسند، أي: أصح إسناداً، فقال ابن القيم رحمه الله: العورة عورتان: عورة مخففة وهي الفخذ، وعورة مغلظة وهما السوأتان، والله أعلم.

حكم وضع اليدين بعد الرفع من الركوع على الصدر

حكم وضع اليدين بعد الرفع من الركوع على الصدر Q ما حكم وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع؟ A أمثل ما في ذلك قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: إن شاء وضع اليمنى على اليسرى، وإن شاء أرسلهما. وفي الحقيقة أن هذا قول وجيه، وهو الذي تنتظم معه جملة الأدلة، فإن شاء وضع اليمنى على اليسرى وله من الأدلة ما يشهد له، وهو حديث وائل العام: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى في الصلاة) ، وحديث سهل بن سعد الساعدي العام كذلك: (أمرنا بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) . وقوله: وإن شاء أرسلهما له ما يشهد له: (كان إذا قام من الركوع رجع كل مفصل إلى موضعه) ، فهذه وجاهة قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

حكم صيام الإثنين كل أسبوع

حكم صيام الإثنين كل أسبوع Q هل صيام يوم الإثنين من كل أسبوع بدعة؟ A ليس ببدعة بل هو سنة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين، ولصومه الإثنين علتان: العلة الأولى: أنه ولد فيه، والعلة الثانية: أن الأعمال الصالحة ترفع فيه، فيحب أن يرفع عمله وهو صائم صلى الله عليه وسلم.

حكم لبس الحرير الصناعي

حكم لبس الحرير الصناعي Q هل يجوز لبس الحرير الصناعي؟ A نعم يجوز لبس الحرير الصناعي؛ إذ هو ليس بحرير حقيقة، ولكن من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه، فاجعل بينك وبين الحرام حجباً، والله أعلم.

حكم قراءة القرآن وإهداء ثوابه للميت

حكم قراءة القرآن وإهداء ثوابه للميت Q هل يجوز أن يقرأ الولد الصالح القرآن ليصل ثوابه إلى والده الميت؟ A لم يرد هذا على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.

حكم إقامة صلاة الفجر بعد ربع ساعة من الأذان

حكم إقامة صلاة الفجر بعد ربع ساعة من الأذان Q في مسجدي الذي أصلي فيه تقام صلاة الفجر بعد خمسة عشر دقيقة من الأذان، فهل يكون قد دخل الوقت الفعلي لصلاة الفجر؟ A نعم، يكون قد دخل.

حقيقة جملة: المعية هنا معية العلم والإحاطة

حقيقة جملة: المعية هنا معية العلم والإحاطة Q المعية هنا معية العلم والإحاطة، هل هذه الجملة قول لأحد الصحابة أم قول لأحد التابعين؟ A هي قول لبعض المفسرين، لا أعلمها عن صحابي، ولا عن تابعي، ولا أنفيها أيضاً، لكنها قول لكثير من أهل التفسير.

ضرورة نصيحة الغاصب قبل الإبلاغ عنه

ضرورة نصيحة الغاصب قبل الإبلاغ عنه Q اغتصب جار لنا قطعة أرض لجار لنا آخر، فهل من واجبي أن أبلغ صاحب الأرض المغتصبة، مع العلم بأن صاحب الأرض يسكن في المدينة ونحن نسكن في القرية؟ A عليك أن تنصح المغتصب بالحسنى، وإن لم تستطع فبلغ صاحب الأرض أيضاً بالحسنى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: كيف ننصره ظالماً يا رسول الله؟! قال: تمنعه من الظلم) .

حكم تأخير بعض الصلوات عن أول وقتها للحاجة

حكم تأخير بعض الصلوات عن أول وقتها للحاجة Q تأخير وقت الصلاة في بعض الظروف هل هو جائز، كأن يؤذن لصلاة العصر ونحن في المحاضرة؟ فهل نترك المحاضرة فور سماع الأذان أم ننتظر إلى بعد المحاضرة، فهناك إخوة قالوا: ننتظر، واستدلوا على ذلك بتأخير صلاة العشاء مثلاً عندما تكون هناك محاضرة دينية؟! A بالنسبة لتأخير الصلاة عن وقتها في المسألة تفصيل، فإذا كنت تؤخر الظهر إلى آخر وقتها الذي هو قبيل وقت العصر فلا بأس بذلك عند الضرورة؛ لحديث عبد الله بن عباس في الصحيح: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء سبعاً وثمانياً، من غير عذر من خوف، ولا مرض، ولا مطر، ولا سفر) فقال له قائل: يا ابن عباس! لعله أراد ألا يحرج أحداً من أمته؟ قال: وأنا أظن ذلك، فيجوز لك أن تعمل بهذا الحديث في بعض الأحيان، سواء على رأي من قال: إنه جمع صوري، أو سواء على رأي من قالوا: إنه مطلق الجمع، فيجوز لك أن تستعمل هذا الحديث في وقت الضرورات، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد كان ابن عباس في درس، فجاءه رجل وقال: (الصلاة يا ابن عباس! الصلاة يا ابن عباس! وابن عباس لا يلتفت إليه، فلما كان في الثالثة قال له عبد الله بن عباس: أتعلمني بالسنة لا أم لك؟! لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء سبعاً وثمانياً، من غير عذر من خوف، ولا مرض، ولا سفر) .

حكم من اشتهر وعرف باسم الأولى تغييره

حكم من اشتهر وعرف باسم الأولى تغييره Q اسمي عبد العال، فما وجه الحرمة فيه؟ A عبد العال، العال أو العالي ليس من أسماء الله الحسنى، لكن إذا كنت قد سميت بهذا الاسم واشتهرت به فلا إثم عليك، وما دام الناس قد عرفوك به فلا إثم عليك، فقد عُرِفَ الرسول بأنه ابن عبد المطلب عليه الصلاة والسلام، وكان من أصحابه رجل يقال له: عبد العزى بن قثم، والعزى صنم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] ، وثم أسماء أخر، فإن كان باستطاعتك أن تغيره فلتغيره، فإن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تغيير الأسماء إلى ما هو أحسن، فقد غير جملة أسماء: مثل حزن أمره أن يغير اسمه إلى سهل عليه الصلاة والسلام، وبرة غيرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى زينب، وثم جملة أسماء غيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

تفسير سورة المجادلة [3]

تفسير سورة المجادلة [3] لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، ومن محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة مناجاته، لكن لما كان هذا الفعل منهم يؤدي إلى مشقة تحصل للرسول صلى الله عليه وسلم أمروا بأن يقدموا بين يدي نجواهم صدقات، ثم إن الله تعالى خفف عنهم فنسخ هذا الأمر بالآية التي بعدها. ثم إن الله عز وجل لفت أنظار المسلمين إلى وجود الطابور الخامس، وهم المنافقون، وبين أنهم يوالون أعداء الله من اليهود والمشركين وغيرهم، وأنه يجب الحذر منهم. ثم بين سبحانه بعض صفات المؤمنين الذين لا يوادون من عصى الله ورسوله، ولو كانوا أقرباء لهم، وأنه كتب الإيمان في قلوبهم وأيدهم، ورضي عنهم ورضوا عنه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12] . هذه الآية على رأي جماهير أهل العلم منسوخة، فكل مفسر ساق في تفسيره قول من قال بالنسخ، نسختها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة:13] . وقد وردت جملة أسانيد، وإن كان في كل منها مقال، تفيد: أن الذي عمل بهذه الآية هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحده دون سائر الصحابة؛ وذلك أنه عندما نزلت آية النجوى هذه: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] عمد رضي الله عنه إلى دنانير فقسمها، وكان إذا أراد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم قدم صدقة بين يدي مناجاته، ثم نسخت الآية، قالوا: ولم يعمل بها غير علي رضي الله تعالى عنه، وقد ورد ذلك كما أسلفنا من عدة طرق، وإن كان في كل منها مقال، لكن بعض العلماء حسنها بمجموعها، فالله سبحانه وتعالى أعلم. وكان سبب نزول هذه الآية فيما ذكره المفسرون -وإن لم يرد بذلك إسناد صحيح- أن الناس كانوا يكثرون من مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيشق ذلك على رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأراد الله ضبط هذه المسألة، ورفع المشقة عن سائر المسلمين الذين يريدون شيئاً من وقت الرسول عليه الصلاة والسلام، ورفع العناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية لضبط أمر المناجاة، فمن ثمّ لم يقدم إلا من كانت له حاجة ماسة إلى المناجاة، وإلا فسيعرض عن المناجاة من الأصل. فإن قال قائل: ما هو وجه المشقة على المسلمين في إطالة بعضهم المناجاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالإجابة: أن المناجاة في حد ذاتها في الجملة فيها أذى، في الغالب إذا رأيت اثنين يتناجيان ذهبت بك الظنون واستحوذ الشيطان عليك في كثير من الأحيان، ولذلك فالمناجاة في الغالب أو في الجملة تذم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] ، فحتى أهل الإيمان إذا رأى بعضهم اثنين يتناجيان دخل في قلبه شيء، ودخل له الشيطان من هذا المدخل، وقال: بم يتناجيان؟ لعلهما يتناجان في أمر يخصك ويريدان كتمان هذا الأمر عليك، لعلهما، لعلهما، لعلهما!! فالمسلمون كذلك مع الرسول عليه الصلاة والسلام، كثرة إطالة المناجاة قد تحمل البعض على أن يفكر: هل هناك عدو يريد أن يداهم بلاد المسلمين؟ هل أصيب الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء؟ هل آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أصابهم شيء؟ هل نزل شيء جديد من كتاب الله؟ ما الذي حدث؟ كانت تسبب أيضاً مشاكل ووساوس في صدور البعض، وخاصة صدور من قلّ علمهم بالله وقلّ علمهم برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيشق الأمر على المسلمين، فنظمت الأمور بصدقة تقدم بين يدي المناجاة على النحو الذي سمعتموه.

بعض المسائل المعاصرة تحتاج إلى اجتهاد لتنظيمها

بعض المسائل المعاصرة تحتاج إلى اجتهاد لتنظيمها ونستطرد إلى بعض المسائل النازلة التي تهمنا في عصرنا، هناك مسائل نزلت بالمسلمين ليست لها نصوص صريحة في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المسائل النازلة التي نزلت بالمسلمين تحتاج إلى أنواع من الأقيسة، على مسائل مشابهة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتحتاج أيضاً إلى اجتهادات لأهل العلم. فمثلاً من المسائل التي من الممكن أن تدخل في بابنا هذا: قول مدير العمل مثلاً أو المسئول عن مصلحة من المصالح: لا تكلمني ولا تخاطبني إلا على عرض حال دمغة، فهل عرض حال الدمغة تصرف صحيح، فلا تكلم المسئول ولا تكتب طلباتك إلا على عرض حال دمغة؟ فقد يقول قائل من إخواننا: إنه ليس هناك دليل في الشرع على مسألة الخطاب بعرض حال الدمغة، فحينئذ يجوز لي أن أنزع الدمغة، أو أستغفله وأقدم الكلام بدون عرض حال دمغة أو شيء من هذا، إلا أن مصلحة الأعمال تقتضي أنك إذا تكلمت تكتب على عرض حال دمغة؛ لضبط الأمر؛ ولبيان جدية العمل، وليس هناك نص شرعي يخالفها، لسنا نستدل بآية المناجاة: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] ، ولكن نستدل بأشياء أخر، فالآية منسوخة كما سمعتم، ولكن مسألة المصالح المرسلة، إذا كنت مسئولاً وبابك مفتوح، فالكل سيأتي يتكلم، قد يأتي الذي له حاجة، والذي ليست له حاجة، فيضر الذي ليست له حاجة بالذي له الحاجة، وتضيع الأوقات سدى. فإذا قال قائل بجواز هذا الأمر، فلا يتكلم الشخص إلا على عرض حال دمغة؛ تنظيماً للأعمال، فلا يقال حينئذ: إنه مبتدع، أو قد أحدث حدثاً في الدين، وغاية ما يقال: إنها مسألة اجتهادية، تعد من المصالح المرسلة، وليست تشريعات تصادم الكتاب والسنة، بل هي تندرج في الجملة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، فعلى الأقل إذا أثيرت مثل هذه المسألة، فيقال: في المسألة وجهان: وجه بالجواز تنظيماً للأمور وترتيباً للمصالح، ووجه بالمنع؛ لأن الآية منسوخة، وللتعسير الذي يأتي على الفقراء، فحينئذ تمتص المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] هل كان ذلك قبل النجوى أو مع النجوى؟ وكم هي الصدقة؟ لم تحدد، فكل على حسب سعته، كل على حسب قدرته وطاقته، وقوله تعالى: {ذَلِكَ} [المجادلة:12] أي ذلك التقديم. {خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة:12] ، فالصدقة تثبت في صحائفكم، وهو طهرة أيضاً لأموالكم. {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12] ، أي: غفر الله لكم ولا يكلفكم إلا وسعكم، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] .

تفسير قوله تعالى: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات.

تفسير قوله تعالى: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات.) قال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة:13] ، أي: أبخلتم أو أخشيتم الفقر من تقديم صدقات قبل كلامكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة:13] ، أي: برفع هذه الصدقة عنكم، فهناك بدائل أخر تغنمون بها الثواب وتكسبون بها الأجر، قال سبحانه: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة:13] ، هناك الصلاة لمن لم يجد الصدقات، وآتوا الزكاة التي فرضها الله عليكم، يعني: هناك صدقات، وهناك زكوات، فإن لم تستطع فعل النفل وقد نسخ، فافعل الفرض لزاماً، فلزاماً أن تقيم الصلاة المفروضة وأن تؤدي الزكاة المفروضة كذلك. {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [المجادلة:13] .

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم.) ثم قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة:14] ، القوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود، والقوم الذين تولوهم هم المنافقون، فالمنافقون تولوا اليهود، وصادقوهم، وناصروهم، وواعدوهم بالنصرة، فالآية في شأن المنافقين، ألم تر إلى هؤلاء المنافقين الذين تولوا وناصروا وآزروا قوماً غضب الله عليهم وهم اليهود؟ وقد وسم اليهود بأنهم مغضوب عليهم في عدة آيات، فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ( {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] قال: المغضوب عليهم هم اليهود) ، وكذلك قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] ، وهؤلاء اليهود؛ لأن الله عز وجل مسخ اليهود إلى قردة وخنازير، فالمغضوب عليهم هم اليهود، فلماذا خصوا بغضب الله عليهم، مع أن أهل الكفر كذلك مغضوب عليهم، والنصارى كذلك مغضوب عليهم؟ لماذا وصفوا ووسموا بهذه السمة والوصف؟ قال كثير من أهل العلم: لأنهم كفروا وجحدوا نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم على علم. وهذا التعليل أيضاً ورد في الملاعنة، لماذا قال الله سبحانه وتعالى في آيات الملاعنة في شأن الرجل: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] ، وقال في شأن المرأة: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9] ؟ فلماذا المرأة خاصة اختصت بغضب الله عليها إن كانت كاذبة؟ لأن الرجل لا يكون متيقناً اليقين التام في زنا امرأته كالمرأة، فقد يرى الرجل رجلاً يفاخذ امرأته ويظن أنها زنت، فلا تكن قد زنت، لكن هي تعلم يقيناً الذي حدث، وقد ينفي الرجل الولد عن نفسه؛ لظنون ظنها، ويقول: هذا الولد ليس ولدي، أنا تزوجت ووضعت زوجتي بعد ستة أشهر، وينفي الولد عن نفسه، ويلاعن من أجل ذلك، لكن المرأة تعلم يقيناً ممن هذا الولد؛ فلذلك إذا أنكرت المرأة وأقسمت ستقسم على علم، فمن ثم حل عليها غضب الله إذا أقسمت اليمين الخامسة وهي كاذبة؛ لكونها متيقنة تماماً بالذي حدث.

المقصود من قوله: (ما هم منكم ولا منهم.

المقصود من قوله: (ما هم منكم ولا منهم.) قال تعالى: {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:14] ، أي: المنافقون الذين تولوا اليهود ليسوا منكم وليسوا من اليهود، هذا قول قتادة رحمه الله تعالى، كما وصفهم الله بقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] ، فقوله: (ما هم) أي: أهل النفاق، وهذا كما سمعتم قول قتادة رحمه الله. وقول آخر: أن قوله: (ما هم) راجعة إلى اليهود، أي: اليهود ليسوا منكم يا مسلمون! لم يسلموا إسلاماً حقيقياً، وليسوا من المنافقين، إنما لهم اتجاه آخر وهو أنهم مغضوب عليهم، لكن القول الأول أظهر. {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] ، أي: يقسمون أيماناً كاذبة لكم وهم يعلمون أنها كاذبة.

تفسير قوله تعالى: (أعد الله لهم عذابا شديدا.

تفسير قوله تعالى: (أعد الله لهم عذاباً شديداً.) قال الله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة:15] ، أي: ساء هذا الفعل وساء هذا الصنيع. فالآية إذاً ذمت كل من يتولى اليهود، ويلحق بهم كل من يتولى الكفار أو النصارى ويناصرهم، ويؤازرهم، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على ذلك، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:51] أي: يا من آمنتم بي وصدقتم رسلي، وأقررتم بكتبي. {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51-52] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] ، أي: أتريدون أن تجعلوا لله سبباً يسلط عليكم بسببه العذاب؟ وقال الله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] الآيات، وقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118] ، أي: لا يقصرون في إغوائكم وإضلالكم: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ، أي: رغبوا في نزول العنت والمشقة بكم، {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:118-119] ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:54-55] ، هؤلاء هم أولياؤكم، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] ، والآيات في هذا الباب لا تكاد تحصر، فالله سبحانه وتعالى يقول في شأن المنافقين الذين اتخذوا الكافرين أو اليهود أولياء: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة:15] ، أي: ساء صنيعهم من اتخاذهم اليهود أولياء من دون المؤمنين، ساء صنيعهم من موالاتهم اليهود والنصارى.

تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله.

تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله.) قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16] ، أي: أهل النفاق أقسموا أيماناً بالله كي تقيهم من القتل، فإذا بقوا على كفرهم فدماؤهم حلال، وأموالهم حلال؛ فحتى يقوا أنفسهم من القتل، وحتى يحافظوا على أموالهم؛ أقسموا أيماناً بالله إنهم على الإيمان، وأنهم أهل إسلام، فجعلوا الأيمان وقاية لهم من القتل، فالجُنة: بمعنى الوقاية، الجُنة: بمعنى الشيء الذي يتقى به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (حتى تجن بنانه) ، أي: حتى تخفي بنانه، وكما تقدم قيل للجَنة: جَنة؛ لأنها تجن من دخل فيها، أي: تغطيه بكثرة أشجارها، وقيل للجن: جن؛ لاستتارهم. فقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:16] ، أي: وقاية يتقون بها السيف، ويحفظون بها أموالهم.

صور الصد عن سبيل الله

صور الصد عن سبيل الله قوله سبحانه: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16] فيها للعلماء قولان مشهوران: القول الأول: (فصدوا عن سبيل الله) أي: أعرضوا عن طريق الإسلام والمسلمين وعن طريق الهدى والخير، ففسر الصدود بالإعراض. القول الثاني: (فصدوا عن سبيل الله) أي: منعوا غيرهم عن الدخول في الإسلام، فهم أظهروا الإسلام بألسنتهم، وخالفوه وناقضوه وصرفوا الناس عنه، إما أنهم صرفوا الناس بقيلهم، وإما أنهم صرفوا الناس بأفعالهم، صرفوا الناس بقيلهم فتراهم يذهبون إلى شياطينهم كما حكى الله سبحانه وتعالى قولهم لهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ، فهؤلاء يصرفون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصرفون الناس عن المؤمنين بتشويشهم على القرآن كما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] ، شوشوا عليه حتى لا يفهم، {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] ، فصرفوا الناس عن كتاب الله بقولهم، وصرفوا الناس عن كتاب الله بأفعالهم، فالشخص إذا كان في ظاهره مسلماً وهو يغش، وهو يكذب، وهو يسرق، وهو يزني، وهو يطعن في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويطعن في الإسلام؛ فهو يصرف الناس عن الدين، وإذا كان هناك شخص مسلم، صورته صورة المسلم، شخص ملتح، ويرتدي الثوب الأبيض، ويأتي بالموبقات، وتراه ينصب على الناس، ويغش الناس، ويكذب على الناس، ويغدر بهم؛ فهذا بلا شك سيسبب للناس نفوراً عن الدين، وطعناً في طريق المتبعين لسنة النبي الأمين محمد عليه الصلاة والسلام، فهم يظهرون للناس أنهم على الإسلام، ويطعنون في الإسلام، بالكذب، وبتشويه صورة المسلمين، وبإخلاف المواعيد، وبإلصاق التهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وبالسباب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان قائلهم يصف الرسول وأصحابه فيقول: ما نرى أصحابنا هؤلاء إلا أكذب ألسنة، وأوسع بطوناً، وأجبن عند اللقاء، حتى نزل فيهم قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] ، فالشاهد: أنهم لكونهم أعلنوا راية الإسلام، وقالوا بألسنتهم: لا إله إلا الله، وصاروا من المعدودين على المسلمين، فمن ثم بدءوا يشوهون صورة المسلمين، وهذا مسلك قد سلكه اليهود من قبل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] ، فإذا آمنتم بكتابهم في الصباح وكفرتم به في المساء فقد شكّكتم الناس في هذا الكتاب؛ فيرجعون عن دينهم. قال تعالى: {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16] ، أي: لهم عذاب مذل ومخزٍ.

تفسير قوله تعالى: (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم.

تفسير قوله تعالى: (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم.) قال تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المجادلة:17] ، أي: يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة للكافر: أرأيت لو أن لك ما في الأرض جميعاً ومثله معه أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم يا رب! كنت أفتدي به، فيقال: قد سئلت أيسر من ذلك، سئلت ألا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي) ، فكما قال الله سبحانه: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام:70] ، أي: إن تفتدي النفس الكافرة بكل فدية لا تقبل منها هذه الفدية، وقد قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] . {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المجادلة:17] ، كأن بينهم وبين النار صداقة قديمة، فالمصاحبة لطول الملازمة.

تفسير قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعا.

تفسير قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعاً.) قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة:18] أي: يحلفون لله في الآخرة كما يحلفون لكم في الدنيا، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18] أي: يحسبون أنهم بأيمانهم سيخدعون بها الرب سبحانه وتعالى في الآخرة، كما خدعوكم بها -بزعمهم- في الدنيا! وقوله: (فيحلفون له) تفسيرها في قوله تعالى: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] وهذا على منهج من يفسر القرآن بالقرآن، وهذا منهج حسن في هذا المقام. {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} [المجادلة:18] ، قائلين: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] ، فهم ينكرون في الآخرة شركهم! {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18] ، في هذه الآية سبب نزول أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل حجرة من حجر نسائه، فقال: يدخل عليكم الآن رجل أزرق، ينظر بعيني شيطان، فدخل رجل بنفس الوصف، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ قال: والله! ما شتمتك، ثم انطلق وأتى بأصحابه كلهم، فأقسموا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ما شتموه) فنزل قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18] .

تفسير قوله تعالى: (استحوذ عليهم الشيطان.

تفسير قوله تعالى: (استحوذ عليهم الشيطان.) قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة:19] ، أي: غلبهم وقهرهم وسيرهم وأحاط بهم، وإذا قلت: استحوذ فلان من الناس على الشيء، أي: أخذه بكامله وأحاط به، وقد وصف عمر بأنه كان رجلاً أحوذياً رضي الله تعالى عنه، أحوذياً بالذال أو بالزاي على رواية، أي: أنه كان محيطاً بأمره، مجتمعاً عليه أمره رضي الله تعالى عنه. {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19] ، أي: فحملهم الشيطان على ترك ذكر الله، والنسيان هنا ليس النسيان المعهود، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يرحم الله فلاناً! لقد أذكرني آية كيت وكيت من سورة كيت وكيت كنت أنسيتها) ، فهنا النسيان: بمعنى الترك، {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19] ، أي: حملهم على ترك ذكر الله، وما المراد بذكر الله هنا؟ فيه أقوال: أحدها: أنه على بابه الذكر المعهود. والثاني: ذكر الله هو القرآن. والثالث: ذكر الله هو توحيد الله سبحانه، والكل محتمل وصحيح. {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19] .

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله ورسوله.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله ورسوله.) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20] ، الأذل: المهان الصاغر. وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] ، كتب هنا بمعنى: كتب في اللوح المحفوظ، وقضى في اللوح المحفوظ. {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] ، قال العلماء: الغلبة على قسمين: غلبه باللسان والبيان، وغلبة بالسيف، فالرسل الذين أمروا بقتال غلبوا جميعهم، وكانت لهم العاقبة في آخر أمرهم، كانت الأيام بينهم وبين عدوهم دولاً، ثم كانت العاقبة والنصر لهم. أما الرسل أو الأنبياء الذين لم يؤمروا بقتال فغلبوا باللسان والبيان، ومنهم من قتل ومنهم من مات، قال سبحانه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] ، وقال الله سبحانه في كتابه الكريم: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181] ، فقتل فريق من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكنهم لم يؤمروا بقتال، فغلبوا بالحجة والبيان، وهذا وجه دفع الإشكالات في مثل هذا الموطن، ونحوه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] ، مع أن منهم من قتل، قال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] * إلى قوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148] . قال سبحانه: ((كَتَبَ اللَّهُ)) [المجادلة:21] ، أي: في الكتاب الذي قضاه، في اللوح المحفوظ، وقدر سبحانه وقضى {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] (قوي) أي: على نصرة أوليائه، (عزيز) أي: منيع الجناب، عظيم السلطان، لا يغالب ولا يمانع من شيء أراده سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله.

تفسير قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله.) ثم قال سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] ، هذه الآية فيها وقفات: أحد هذه الوقفات: أنه ينبغي أن يعلم أن المودة غير البر والصلة، فالبر والصلة شيء، والمودة والمحبة القلبية شيء آخر، فالبر والصلة مشروعتان للمسلم في حق الكافر غير المحارب؛ وذلك لقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] ، وقالت أسماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن إمي أتتني وهي راغبة - فيها قولان: هل راغبة في الإسلام، أو راغبة عن الإسلام؟ - أفأصل أمي يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: صلي أمك، ونزل قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة:8-9] ) ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل هدايا اليهود، ويقبل هدايا الكفار، ويهدي أيضاً لليهود، ويهدي أيضاً للكفار عليه الصلاة والسلام، قَبِلَ من المقوقس مارية رضي الله تعالى عنها، وقبل أيضاً من اليهودية شاة دعته إليها، وقبل من ملك أيلة بغلة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يركبها، وقبل هدية أيضاً من أكيدر دومة الجندل، وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص ذبح ذبيحة، فقال لأهل بيته: (أهديتم لجارنا اليهودي؟) ، فهي نصوص عامة، فهناك فرق بين البر والصلة، وفرق بين الموالاة والمحبة القلبية، فالبر والصلة أمرنا به وحثنا عليه شرعنا مع غير المحاربين من الكفار، أما الموالاة القلبية فلا، والله أعلم. يقول الله سبحانه وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان} [المجادلة:22] ، أي: أثبت الله في قلوب هؤلاء البراءة من الكفر وأهله، وإن كانوا من الأقارب أو العشائر، وكتب الله الإيمان في قلوب هؤلاء الذين تبرءوا من الكفار. وقوله: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان} [المجادلة:22] ، أي: جعله في قلوبهم، ومن العلماء من يقدر محذوفاً فيقول: كتب في كتابه أنهم أهل إيمان، ولكن هي كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] .

ذكر بعض أسباب نزول الآية وبيان ضعفها

ذكر بعض أسباب نزول الآية وبيان ضعفها من العلماء من ذكر لهذه الآية أسباب نزولٍ، وإن كان في أكثرها ضعف: كالقول بأنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح عندما قتل أباه يوم بدر. وقول آخر أنها نزلت في أبي بكر الصديق؛ وذلك حين تعرض لقتل ابنه عبد الرحمن في بدر أيضاً. وقول ثالث: أنها نزلت في عمر وأنه قتل قريباً له. وقول رابع: أنها نزلت في عمر أيضاً لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر: (أرى أن تمكنني -يا رسول الله- من فلان قريب لي فأقتله، وتمكن علياً من عقيل، وتمكن حمزة من فلان، وتمكن أبا بكر من فلان، فهؤلاء صناديد الكفر، وأئمة الضلال) ، وثم أقوال أخر، لكن ما ذكر من سبب نزول الآية كلها ضعيفة، ولم أقف إلى الآن على سند صحيح يثبت لي أن أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر، رضي الله عن أبي عبيدة، فهذا يحتاج إلى إثبات، وإن كان الأمر في الجملة على ما ذكره المفسرون من أن هذه الخصال توافرت في أهل الإيمان، ولو تعرض لهم آباؤهم لقتلوهم إذا أمرهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثم أسباب نزول أخرى أيضاً فيها مقال منها: (أن عبد الله بن عبد الله بن أبي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يشرب فقال: يا رسول الله! أبق فضلة أسق منها أبي لعل الله ينفعه بها، فأبقى له فضلة فذهب بها إلى أبيه، فقال له أبوه المنافق رأس المنافقين: ما هذه الفضلة؟ قال: فضلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك تشربها، فقال: لو أتيتني ببول أمك كان خيراً لي! ثم ردها، فرجع عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتل أبيه، فقال: بل استوص به خيراً) . وهذا أيضاً ضعيف الإسناد لا يثبت. قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] ، ومعنى حاد الله: أي: كان في حد وأوامر الله سبحانه في حد آخر، كما في قوله: {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13] ، أي: جعلوا أنفسهم في شق معادٍ لله ومعادٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ} [المجادلة:22] أي: قواهم ونصرهم. وقوله تعالى: {بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] ، ما المراد بروح منه؟ للعلماء فيها جملة أقوال: أحدها: أن المراد بقوله سبحانه: (بروح منه) أي: بنصر منه. والثاني: أن المراد: (بروح منه) أي: بجبريل عليه السلام، فإن الله سبحانه وتعالى أطلق عليه الروح في عدة مواطن: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، (اهجهم وجبريل معك) ، (اللهم! أيده بروح القدس) ، إلى غير ذلك. {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المجادلة:22] هذه الآية فيها دليل على أن الجنة مخلوقة الآن، وثم أدلة أخر تدل على ذلك، منها قوله عليه الصلاة والسلام: (يفسح له في قبره، ويأتيه من الجنة ومن طيبها) ، وثم دليل آخر: (احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟) الحديث إلى آخره، وفيه: (قال الله لها: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء) ، ومن الأدلة على ذلك كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء) ، إلى غير ذلك من الأحاديث. قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المجادلة:22] ، قوله: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ، من العلماء من قال: إن الله سبحانه وتعالى عوضهم خيراً بفراقهم لأهاليهم وعشيرتهم وذويهم، فلما تركوا قرابتهم لله سبحانه، أبدلهم الله خيراً من قرابتهم تفضلاً منه، وقد صح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تترك شيئاً اتقاء الله سبحانه إلا أبدلك الله خيراً منه) ، وهذا الذي يرويه الناس بالمعنى: (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) . قال تعالى: {وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] ، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.

الأسئلة

الأسئلة باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

التوفيق بين حديث ابن عباس وأحاديث وجوب صلاة الجماعة

التوفيق بين حديث ابن عباس وأحاديث وجوب صلاة الجماعة Q ذكرتم في الدرس الماضي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء سبعاً وثمانياً، من غير عذر من خوف، ولا مرض، ولا مطر) الحديث، فكيف يوفق بين هذا الحديث والأحاديث الدالة على وجوب صلاة الجماعة؟ A بسهولة ويسر أن كل عام يخص، وهذه صورة مخصوصة ومستثناة عند وجود الأعذار فلا إشكال، والله أعلم. السائل: وهل الأخذ بهذا الحديث في بعض الأحيان دون الأخرى يعتبر تلوناً في الدين؟ الجواب: حسبنا الله! كيف يكون تلوناً في الدين؟ الرسول عليه الصلاة والسلام نَوّع العبادات عليه الصلاة والسلام؛ لأجل أن يرفع بها الحرج عن أمته صلى الله عليه وسلم، فليس معنى كوننا أخذنا بحديث في ظروف معينة أو في ملابسات خاصة أننا نتلون في الدين.

حكم بناء القبر بالطوب الأحمر

حكم بناء القبر بالطوب الأحمر Q أرض المقابر عندنا أرض زراعية ونخشى سقوط الحاجز، أو حدوث شق لرطوبة الأرض، هل يجوز أن نبني فوق الأرض بالطوب الأحمر؛ لأنه لا يتأثر؟ A إذا دعت الضرورة أو بدون ضرورة بناء القبر بالطوب الأحمر ليس هناك دليل يمنع منه، يتوهم البعض أن الطوب الأحمر لا يستخدم في القبور؛ لأنه دخل في النار فلا يجوز بناء القبر به، وليس على المنع دليل إن احتيج إليه فلا بأس، هذا إذا استجزنا رفع القبر عن الأرض، وأحياناً يكون مستجازاً رفع القبر عن الأرض لضرورة، صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها) ، ولكن الآن إذا جئنا -كما ذكر أخونا السائل حفظه الله- وحفرنا القبر في الأرض في بلدة مستوى الأرض فيها منخفض، فستأتي المياه تفسد الجثة وتسبب نتناً للميت، فالضرورة قد تلجئنا أحياناً لبعض الأشياء، ونحن مع الضرورة نسير، ألا ترى أن الضرورة ألجأتنا إلى أكل لحم الميتة عند اضطرارنا؟ ألا ترى أن الضرورة ألجأتنا إلى أكل لحم الخنزير عند اضطرارنا؟ ألا ترى أن الضرورة تلجئ إلى النطق بكلمة الكفر عند الاضطرار؟ من هذا الباب فقط. بالمناسبة هنا زيادة أفادنا بها أحد إخواننا اليوم، وراجعناها معه مراجعة دقيقة شيئاً ما، وهي زيادة: (وبركاته) عند التسليم من الصلاة، وهذه الزيادة لا تثبت، زيادة: (وبركاته) عند التسليم من الصلاة لا تثبت، وهذا رأي أكثر الشافعية، وعدد كبير من العلماء، وهي وردت من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيح أن لها إسناداً عن ابن مسعود ظاهره الصحة، لكن كل الطرق الأخرى عن ابن مسعود نفسه أوردت الحديث بدون الزيادة، (كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله) ، فأكثر الطرق عن ابن مسعود فيهما الاقتصار على: السلام عليكم ورحمة الله، ففي مثل هذه الحالة لا يناقش الإسناد استقلالاً، وهذه فائدة لإخواننا دارسي الحديث، مثلاً: إذا كان للحديث عشرون طريقاً عن ابن مسعود، تسعة عشر طريقاً مثلاً رووا الحديث عن ابن مسعود بلفظ: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله) ، وأحدها روى الحديث بلفظ: (كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ، ففي هذه الحالة نحن مع التسعة عشر راوياً. فضلاً عن هذا فهناك من العلماء كـ شعبة بن الحجاج ينكر رفع الحديث بكامله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: هو موقوف على ابن مسعود، فكيف بثبوت هذه الزيادة؟! وورد الحديث من طريق آخر، من طريق وائل بن حجر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله) ، وهذا الحديث أيضاً اختلف في إثبات هذه الزيادة من عدمها، لكن العلة التي هي أشد قدحاً: أنه مروي من طريق علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه وائل بن حجر، وقال يحيى بن معين رحمه الله: علقمة لم يسمع من أبيه وائل، وثم طريق ثالثة من طريق حذيفة أو عمار بن ياسر وفيها ضعف أشد من الضعف في الأولين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم الجمعيات التعاونية والمسابقات

حكم الجمعيات التعاونية والمسابقات Q هل هناك ما يجعل المسابقات والجمعيات داخلة في الربا؟ A أما الجمعيات فليست داخلة في أبواب الربا، والجمعيات التي يفعلها الناس للتعاون فيما بينهم حلال، لا نعلم دليلاً صريحاً على تحريمها، وهي من باب التعاون على البر والتقوى، أما المسابقات فبحسبها، إن كان كل من يدفع مبلغاً يأخذ الفائدة فهذا يعد نوعاً من الميسر، أما إذا دخل معهم محللاً فبحسبه، وفي المسألة تفصيل أوسع.

حكم حديث: (لا عزاء فوق ثلاث)

حكم حديث: (لا عزاء فوق ثلاث) Q يسأل أخونا عن حديث: (لا عزاء فوق ثلاث) ؟ A ضعيف لا يثبت، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة الحشر [1]

تفسير سورة الحشر [1] اليهود في كل زمن أهل لؤم وخسة وغدرٍ وخيانة، ولقد عرض لنا القرآن الكريم أنموذجاً لهذه الطباع في يهود بني النضير، فقد عاندوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى حلت بهم نقمة الله تعالى وغضبه، فأخرجهم من ديارهم، وجعل أموالهم فيئاً للمسلمين، وسلط رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم على نخيلهم وأشجارهم فقطعوها وأحرقوها عظة وعبرة لأولي القلوب والأبصار.

بين يدي السورة

بين يدي السورة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: سورة الحشرة يطلق عليها سورة بني النضير، وبنو النضير طائفة من اليهود كانت تقطن جانباً من جوانب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن الكفار في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فور مقدمه كانوا على ثلاث طوائف: - طائفة ناصبت الرسول صلى الله عليه وسلم العداء، وانشغلت بحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم المشركون الذين بقوا على شركهم. - وطائفة أخرى صالحت الرسول عليه الصلاة والسلام وتحالفت معه تحالفات، وهم اليهود. وطائفة ثالثة أمسكت، فلم تعاد ولم تصالح، وبقيت تترقب إلى أي شيءٍ سيئول الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم المنافقون. وطوائف اليهود هم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، أما بنو قينقاع فقد حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بدر، وأما بنو النضير فكان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حلف فغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهمّوا بقتله والفتك به عليه الصلاة والسلام، كما ذكر جمهور أهل السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب يستعين بهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل سبعين من القراء مع قوم فقُتِل القراء في بئر معونة، ونجا منهم عمرو بن أمية الضمري، فلقي رجلين من بني عامر فقتلهما، ولم يكن يعلم بالحلف الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب الرسول عليه الصلاة والسلام يستعين بيهود بني النضير في أداء شيءٍ من الدية لأولياء العامريين، فغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ورتبوا أمرهم على أن يُلقوا على رأسه صخرة وهو جالس فيقتلوه غدراً، فأطلع الله سبحانه وتعالى نبيه على ذلك، وكان هذا -على ما ذكره جمهور أهل السير- سبب جلاء بني النضير، فحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم حصاراً طويلاً، وآل بهم الأمر في النهاية إلى الاستسلام على ما سيأتي بيانه، فنزل مطلع سورة الحشر في هذه الحوادث. والحشر معناه: الجمع، كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22] أي: اجمعوا، وقال تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53] أي: قوماً يجمعون الناس ويحشرونهم.

تفسير قوله تعالى: (سبح لله ما في السموات وما في الأرض.

تفسير قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ.) قال الله سبحانه وتعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:1] (سبح) أي: نزَّه ومجَّد وعظَّم، فالمعنى: أن ما في السماوات وما في الأرض كل ذلك نزَّه الله ومجّد الله وعظَّم الله عن كل ما لا يليق به من اتخاذ الشريك، واتخاذ الصاحبة، واتخاذ الولد، ونزَّه الله عن كل نقص وعن كل عيب. فكل شيء في السماوات وفي الأرض يسبح لله، وهذا المعنى مثبت في عشرات السور، كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] ، وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15] ، حتى الجمادات تسبِّح لله، وتنزِّه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الضفادع: (نقيقها تسبيح) ، والنصوص من الكتاب والسنة في هذا في غاية الكثرة، لا تكاد تُحصر ولا يأتي عليها العد.

مناسبة ذكر العزيز الحكيم في مقدمة السورة

مناسبة ذكر العزيز الحكيم في مقدمة السورة وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:1] العزيز: منيع الجناب، عظيم السلطان، القوي الذي لا يُغَالَب، ولا يُردُّ شيءٌ أراده سبحانه وتعالى، إذا أراد أمراً فلا بد وأن يقع، وهذا وجه الاستهلال بهذه الآية في مقدمة قصة الحشر وإجلاء اليهود، فالله سبحانه وتعالى أراد إجلاء اليهود فلا راد لقضائه، ولا مانع لأمره سبحانه وتعالى، ولن يقف أحد في طريق إرادته سبحانه وتعالى، فلهذا استهلت الآية بـ (العزيز) و (الحكيم) ، فكل شيء يفعله بحكمة، وكل أمر يقضيه لحكمة سبحانه وتعالى، فإن قال قائل: لماذا أراد الله سبحانه إجلاء اليهود من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: إن ذلك لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، وهو العزيز الحكيم سبحانه وتعالى، فلا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يفعل شيئاً بغير حكمة، وهو أعلم بخلقه، وأعلم بقلوب خلقه، وأعلم بمن يستحق العذاب، ومن يستحق العقاب، ومن يستحق الإجلاء، ومن يستحق الإخراج، وهو العزيز الحكيم.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أخرج الذين كفروا.

تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا.) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] المراد بالكفار هنا: صنف مخصوص من الكفار وهم اليهود، وصنف مخصوص من اليهود وهم يهود بنو النضير، فإن قال قائل: وهل اليهود والنصارى كفار؟ قلنا: نعم؛ لأن الله قال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] ، فوسِموا بالكفر في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] ، وكذلك قال تعالى في شأن النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] . فقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحشر:2] ، عام أُرِيد به الخصوص، فالمراد هنا طائفة مخصوصة، وهم يهود بني النضير. وقوله تعالى: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) الكتاب المراد به: التوراة، وهو كتاب اليهود الذي نزل على نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: (مِنْ دِيَارِهِمْ) هي: المتاخمة للمدينة في أطرافها. وقوله تعالى: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال عكرمة رحمه الله تعالى، ونُقِل القول أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غير واحد من أهل العلم: من شك أن الشام هي أرض المحشر فليقرأ هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي: لأول الجمع، فالحشر حشران: الأول هو حشر اليهود وجمعهم في الشام، والحشر الثاني هو حشرهم يوم القيامة مع الخلائق، وذلك أن يهود بني النضير أُخرِجوا وأجلوا إلى الشام حين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم حصاراً شديداً بعد ظهور الغدر منهم، فنزلوا على حكمه بإجلائهم مع حمل ما أقلّته ركابهم وخيولهم إلا السلاح.

إثبات القياس في العقوبات والأحكام

إثبات القياس في العقوبات والأحكام وقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: اعتبروا أن يصيبكم مثل الذي أصابهم إن أنتم ظلمتم، وإن أنتم غدرتم، وإن أنتم خنتم رسولكم محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن نقضتم العهود والمواثيق مع الله سبحانه وتعالى فاحذروا حينئذٍ أن يصيبكم مثل ما أصاب الذين نقضوا العهود وخالفوا العقود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالظلم عاقبته وخيمة، والغدر عاقبته أليمة، ونقض العهود والمواثيق مع الله ومع رسل الله عليهم الصلاة والسلام من أكبر الكبائر، ومن أعظم المصائب التي تسبب للشخص العذاب في الدنيا والآخرة، فقوله سبحانه وتعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: اتعظوا، وانظروا إلى أحوالهم، وما حل بهم لظلمهم! ومثل هذا يحل بكل باغ، وما هي من الظالمين ببعيد. وقد استدل جمهور الأصوليين بهذه الآية الكريمة (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) على مشروعية القياس، وعلى ذلك جمهور أهل العلم، أي: انظروا يا أولي الأبصار! فإذا ظلمتم وبغيتم وغدرتم حل بكم مثل الذي حل بمن ظلم وبغى وغدر، فهؤلاء اليهود، انظروا إلى أمرهم! وتفكروا فيه وتدبروا! فإن أنتم صنعتم مثل صنيعهم حل بكم مثل الذي حل بهم، فالأمور تقاس على مثلها، ومن هنا استدل الجمهور على مشروعية القياس. أما أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى فطفِق يتهكم على الاستدلال بهذه الآية، فقال -جرياً على ظاهريته-: من الذي قال: إن معنى قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) قيسوا يا أولي الأبصار؟! ويجاب عن قوله: بأنه ليس المراد أن لفظ (اعتبروا) بمعنى (قيسوا) ؛ ولكن المراد النظر فيما حل بسابق الأمم الظالمة، وسيحل بكم إن فعلتم فعلهم مثل الذي حل بهم. وليست هذه الآية هي دليل القائلين بالقياس فحسب، بل لهم أدلة أخرى، ومن ذلك ما جاء في الحديث: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على راحلة، أفأحج عن أبي؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: فدين الله أحق أن يقضى) . ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هششت فقبلت وأنا صائم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمضت؟) ، فقاس قبلة الصائم على المضمضة. ومن ذلك ما ورد: (أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، وإني أنكرته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال إن فيها لورقاً، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول الله! عرق نزعها. قال: ولعل هذا عرق نزعه) ، ولم يرخص له في الانتفاء منه. والأدلة في هذا الباب كثيرة، والقياس -كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى- لا يُصار إليه إلا عند الضرورة، كما يصير الرجل إلى التيمم عند فقدان الماء، فلا يُصار إلى القياس مع وجود النص، وأما قول القائل: إن من قاس فهو إبليس، ويتهكم بذلك على من يقيس فقولٌ غير سديد، وإن كان أول من قاس هو إبليس لمّا أُمِر بالسجود فأبى وقاس وقال كما حكى الله تعالى عنه: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، وكذلك حكى الله تعالى عنه قوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61] أي: كما أن النار أفضل من الطين بزعمه، فكيف يسجد من خُلِق من شيءٍ أفضل لمن خلِق من شيءٍ أدنى؟ والإجابة: أن هذا قياس باطل فاسد؛ لأنه قياس مع وجود النص، ووجود الأمر من الله سبحانه وتعالى؛ إذ قال الله سبحانه وتعالى له وللملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] ، فلا اجتهاد ولا قياس مع النص بحالٍ من الأحوال.

قدرة الله تعالى فوق الأسباب المادية

قدرة الله تعالى فوق الأسباب المادية وقوله تعالى: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي: لم تكونوا -يا أهل الإيمان- تتوقعون في يوم من الأيام أن هؤلاء اليهود سيخرجون من ديارهم لقوة حصونهم ولشدة بأسهم، فقد كانوا متحصنين وأقوياء، لهم حصون شديدة منيعة، ونخل باسقات لها طلع نضيد، وكانوا ذوي رسوخ في بلادهم، وذوي صداقات مع أهل الكفر وأهل النفاق، فقد أسسوا صداقات مع عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، وأسسوا صداقات ووثقوا علاقات مع سائر قبائل الكفر، ومع سائر الأحزاب المتألبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بلادهم كانوا مُمَكَّنين، ومع جيرانهم كانوا متظاهرين ومتعاونين ومتحالفين، فلم يكن يخطر ببال أحد أنهم سيجلون عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قال الله سبحانه وتعالى: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) ، فعلى المسلم ألا ينقطع أمله أبداً في الله سبحانه، ولا ينقطع رجاؤه أبداً في الله سبحانه وتعالى، فالذي أخرجهم مرة قادر على أن يخرجهم مرات، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:8] ، وقال تعالى عن الحجارة المرسلة على مدائن قوم لوط: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] . وقوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) أي: أيقنوا، والظن هنا بمعنى: اليقين؛ إذ الظن ظنان: ظن بمعنى اليقين، وظن بمعنى الشك، ويأتي في كتاب الله تعالى بأحد المعنيين، فقد يأتي بمعنى الشك كما في قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ، وأحياناً يأتي الظن بمعنى اليقين كقوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] أي: أيقنوا، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] . أي: أيقنت، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] أي: يوقنون، فاليهود هنا كانوا مستيقنين أنهم لن يُخرَجوا أبداً لقوة حصونهم وشدة منعتهم، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، أي: من مكان ومن مصدر لا يتوقعونه، فقد تأتي البلايا إلى الشخص الظالم المبير من حيث لا يحتسب، كما قال تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26] ، فالظالم قد يحتاط من باب من الأبواب، ويحرص غاية الحرص على غلق هذا الباب حتى لا يأتيه منه الشر والبلاء، فإذا بالبلاء يأتيه من باب آخر لم يكن يتوقعه، ولم يكن يتخيله! أما المؤمن فهو محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى، بل يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، كما قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] . وقوله تعالى: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الرعب سلاح قوي أيد الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أُعطِيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر ... ) الحديث، أي: يكون بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العدو مسيرة شهر، ويقذف الله عز وجل في قلب العدو الرعب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قُذِف الرعب في قلب العدو؛ انهارت قواه، وتفتتت سواعده، وكانت الهزائم من نصيبه. وقوله تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وجه ذلك أن الصلح الذي صالحهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من بنوده: أن يحملوا معهم من المتاع ما أقلته ركابهم، وحملته خيولهم، فكانوا ينتقون أثمن شيء وأعز شيءٍ في البيت ويأخذونه، فإذا رءوا عِرقاً قوياً من خشب هدموا السقف حتى يأخذوا هذا العِرق، ولا يتركوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان تخريب البيوت بأيديهم من ناحية، وبأيدي المؤمنين من ناحية أخرى.

تفسير قوله تعالى: (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا.) قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:3-4] . قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) هذه الآية الكريمة فيها رد على القدرية الذين يزعمون أن لا قدر، وأن الأمور لم تكتب على العباد، فهذه الآية أفادت أن الأمور مكتوبة ومسجلة على العباد، فقد جفت الأقلام، وطويت الصحف كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52] ، ومعنى الآية الكريمة: لولا أن الله سبحانه وتعالى قدر عليهم قبل أن يُخلقوا أنهم سيخرجون من المدينة، ويجلون إلى أرض الشام لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي والأسر، ولكنه سبحانه وتعالى كتب عليهم الجلاء، فلا بد من إمضاء ما كتبه الله سبحانه. ومثل هذا قوله سبحانه وتعالى للمسلمين لما قبلوا الفدية من أسارى بدر: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68] ، أي: أنه لا يعذبكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] ، وأفادت هذه الآية كذلك أن الأمور مكتوبة ومقدَّرة على الإنسان، ففيها ردٌ على القدرية. فقوله تعالى: (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا)) أي: لبقوا في المدينة، وحلّ بهم ما حل بسائر أصحابهم من اليهود كالقرظيين الذين حُكِم في مقاتلتهم بالقتل، وفي ذراريهم ونسائهم بالسبي. وقوله تعالى: (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، هذا مصير كل من يشاقق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فله في الدنيا خزي، وفي الآخرة عذاب النار، وهذا التعليل لا ينسحب على اليهود فحسب، بل على كل معاند لله، وكل معاند لشرع الله، وكل معاند لرسل الله عليهم الصلاة والسلام أياً كان. فقوله تعالى: (ذَلِكَ) أي: ذلك العذاب الحال بهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .

تفسير قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة.

تفسير قوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ.) قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5] . هذه الآية فيها تسلية وتسرية عن أهل الإيمان، وذلك أن أهل الإيمان وُبِّخوا من عدوهم لعمل عملوه وصنيعٍ صنعوه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني النضير، وامتنعت بنو النضير من النزول من حصونهم، قطّع النبي صلى الله عليه وسلم النخل وحرّقه، قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه في ذلك: وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير وقال في ذلك أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنه: أدام الله ذلك من صنيعٍ وحرق في نواحيها السعير فشق ذلك على اليهود أيما مشقة، وكانت مقالة تقاولتها العرب، وطعنوا بها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: كيف يقطِّع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم النخيل؟ ولكن لله في الأمر حِكَمٌ، ومن المعلوم أن المفاسد إذا تواردت على محل اختار الشخص أخفها، فكان الأخف هو تحريق نخيل بني النضير، فحينئذ سرَّى الله عن المؤمنين، وأذهب عنهم الهموم والأحزان بقوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) واللينة: النخلة، وقال فريق من العلماء: هي الشجرة، فأفادت الآية أن هذا أمر قدره الله وقضاه، فليس لكم -يا أهل الإيمان- أن ترتابوا في فعل نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فما فعله لم يكن يخرج عن إذن الله، ولا عن إرادة الله، وعلى فرض كونكم أخطأتم فهذا مقدر عليكم، وعلى كل حال فـ (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) فلتطمئن خواطركم.

تفسير آيتي الفيء

تفسير آيتي الفيء قال تعالى: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الحشر:6] الفيء يختلف شيئاً ما عن الغنيمة، فالفيء هو: مال العدو الذي يأتي إلى المسلمين على وجه مشروع بلا قتال، أما الغنيمة فهي التي تأتي للمسلمين من أموال العدو بعد قتال، وكل له مصارفه. قول تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي: من بني النضير، وقوله تعالى: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) الإيجاف: الإيضاع، وهو: الإسراع، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج: (فإن البر ليس بالإيضاع) أي: ليس البر بالإسراع، و (ما) في قوله تعالى: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ) نافية، أي: ما غرتم إغارة على هذه القرية قرية بني النضير بخيولكم ولا بركابكم، ولا بذلتم فيها زاداً للقتال، وما أجهزتم على عدوكم بقتلٍ بخيولكم أو بإبلكم، ولا سافرتم لعدوكم سفراً طويلاً أو قصيراً بخيولكم ولا بركابكم، فقد كانوا في أطراف مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي كان أنهم استسلموا ونزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوا معهم ما استطاعت إبلهم وخيلهم أن تحمله، وغادروا المدينة؛ بقي هناك فيء في بيوتهم، وهذا الفيء كله له حكم، فالله هو الذي سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قذف في قلوبهم الرعب حتى خرجوا وتركوا الأموال وذهبوا، كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] . هذه الآية مع الآية السابقة مختلف في كونهما متغايرتين أو أن مؤداهما واحدٌ، والذي عليه فريق من العلماء أن الآية الأولى هي في بني النضير، وهي قوله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي: من بني النضير، (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) والتقدير: وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال يهود بني النضير، فهذا الفيء الذي أتى إلى رسول الله من بني النضير كله خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لكم منه أي شيء يا أهل الإيمان! فالله هو الذي يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيءٍ قدير. وأما الآية الأخرى وهي قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) فهي في القرى الأخرى كقريظة وخيبر، فهذه مصارفها لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين. فعلى هذا القول يكون فيء بني النضير خاصةً خاصٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما أيد هذا القول أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما أتى إليه العباس وعلي رضي الله عنهما يطلبان ميراثهما من رسول الله قال لهما: (قد كانت أموال بني النضير خاصة لرسول الله) . وأما ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى الأخرى كبني قريظة وخيبر وسائر الأمصار والقرى ففيئها على التقسيم المذكور في قوله تعالى: (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) . وأما الغنائم التي ذكر الله في كتابه فمحل تقسيمها في سورة الأنفال في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. } [الأنفال:41] ، فالأنفال التي غنمت عن طريق الحروب بين المسلمين والكفار تُقسَّم خمسة أقسام، أربعة أخماس الغنيمة للمحاربين، والخمس الخامس يُقسَّم خمسة أخماس، لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولذي القربى -أي: قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونهم محرومين من الزكوات، فليس لآل البيت زكاة- واليتامى والمساكين وابن السبيل. وهناك اتجاه آخر وهو اتجاه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فحواه أن الفيء في الآية الأولى -وهو فيء بني النضير- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفيء الآية الثانية يقسم خمسة أخماس، فأربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والخمس الخامس يُقسم خمسة أخماس، يدفع منها خمسٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصير له صلى الله عليه وسلم من كل الفيء أربعة أخماس وخمس الخمس، والباقي يصرف في المصارف المذكورة في قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع للمجاهدين الذين يسدون الثغور، ويصرف في تعبيد الطرق وتشييد المستشفيات ونحوها من المجامع التي يحتاج إليها عموم المسلمين. وفي الحقيقة آيات الأنفال والفيء من الآيات التي أُهدِر العمل بها في هذا الزمان؛ إذ المشروع في حالة انتصار دولة مسلمة على دولة كافرة أن المجاهدين يُقسم لهم كلٌ بحسب جهاده وقتاله، فالمشاة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان لهم قسم من الغنيمة يختلف عن الركبان، ومن بذل في الجهاد واشترى فرساً يجاهد به فيعطى قسماً للفرس، ويعطى قسماً لنفسه، وكلٌ بحسب ما بذل واجتهد، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في المعارك أو في بعضها: (من قتل قتيلاً فله سلبه) . وكل هذه المسائل أضاعتها الأنظمة العلمانية في العالم كله، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة التي أضاعت مثل هذه الأشياء، وكان من دعاوى الحكومة الإيرانية التي ذهبت أدراج الرياح مع أكاذيب الحكومة الإيرانية: أن نظام الأنفال سيعود، وكانوا يدندنون بهذا في مطلع ثورتهم، ولكنه ذهب أيضاً مع الريح، وعاد إليهم العبث الذي عاد إلى غيرهم، أو الذي هم نشئوا فيه من الأصل. قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) هي قريظة وبنو النضير وغيرهما من القرى، وقوله تعالى: (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) أي: قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونهم لا يأخذون من الصدقة، وهم: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس. وقوله تعالى: (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو المسافر الذي انقطعت به السبل، أو الذي ليس معه مال يوصله إلى بلده، فيأخذ من المال ما يكفيه للرجوع إلى بلده. وقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) أي: نحن قسّمنا لكم أموال الفيء حتى لا يتسلط الأغنياء أصحاب النفوذ والسلطة على الفيء فيأخذونه غنيمة، ويتداولونه فيما بينهم، كما يحدث في الدول، فأكابر الناس والأغنياء منهم يتسلطون على الأموال وعلى الأراضي وعلى المؤسسات فينهبونها لأنفسهم، فالله جعل للفيء مصارف حتى لا يتسلط عليه الأغنياء، ويصبح مال الفيء دولةً بين الأغنياء، أي: يتداوله الأغنياء فقط، فالله سبحانه وتعالى يقول ما معناه: إنما أظهرت لكم مصارف الفيء كي لا يتسلط الأغنياء الأقوياء على مال الفيء فيستحوذون عليه دون الفقراء، ويقسمونه ويتداولونه فيما بينهم، فإلغاءً لهذا بيّنا لكم مصارف الفيء.

وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم

وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي: امتثلوا أمره، واتبعوا شرعه، وما أرشدكم إليه فاعملوا به، وما أعطاكم فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا عنه، وما منعكم منه فلا تأخذوه، فالآية وإن كان ظاهرها في الفيء إلا أن معناها عام، وقد قال العلماء: العبرة بعموم الألفاظ وليس بخصوص أسباب النزول، وقد احتج ابن مسعود رضي الله عنه بعموم هذه الآية الكريمة على امرأة يقال لها: أم يعقوب، فقد روى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله ... ) الحديث. فجاءت المرأة فقالت: يا ابن مسعود! ما لك تلعن الناس؟! قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ قالت: في كتاب الله؟ والله! لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت ذلك في كتاب الله! قال: إن كنتِ قرأتِه فقد وجدتهِ، ألم تقرئي قول الله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ؟ قالت بلى، قال: فهو ذاك، أو كما قال رضي الله تعالى عنه. فالاستشهاد بعموم الكريمة رأي الجمهور، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك رجلٌ متكئٌ على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله -أي: يعرض عن السنة، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله- فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله) ، وقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] .

الأسئلة

الأسئلة

إسلام مارية القبطية رضي الله تعالى عنها

إسلام مارية القبطية رضي الله تعالى عنها Q كيف تم إسلام السيدة مارية القبطية رضي الله تعالى عنها ملك يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ A لا أعلم كيف تم إسلام السيدة مارية رضي الله تعالى عنها ملك يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المسروق الذي لا يعلم صاحبه

المسروق الذي لا يعلم صاحبه Q سرقت وأنا في الجيش جاكتاً قبل الالتزام ولبسته، ولا أعرف صاحبه، فماذا أفعل؟ A إذا كنت سرقت الجاكت ولا تعرف صاحبه، فإما أن تتصدق بالثمن عن صاحبه، أو تتصدق بالجاكت، حتى لا يكون ملبسك حراماً، فتدعو الله سبحانه وتعالى فلا يستجيب لك، والله تعالى أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طريق الأخذ بزيادة الثقة، والخلاف في زيادة (وبركاته) في السلام من الصلاة

طريق الأخذ بزيادة الثقة، والخلاف في زيادة (وبركاته) في السلام من الصلاة Q من المعلوم أن زيادة الثقة مقبولة طالما أن هذه الزيادة لا تخالف ما جاء به باقي الثقات، فكيف نوفق بين هذه القاعدة وما ذكرتموه في مسألة زيادة (وبركاته) عند التسليم من الصلاة؟ A التقرير الذي قرره السائل بأن زيادة الثقة مقبولة بالشروط التي ذكرها ليس بصحيح، وفي الحقيقة كل زيادة ثقة لها ملابستها الخاصة بها، ولا بد من النظر إلى أقوال الأئمة والعلماء فيها، بيد أن الاستدراك الأقوى الذي يمكن أن يرد على الكلام السابق هو أن هناك خلافاً في سماع علقمة بن وائل من أبيه رضي الله تعالى عنه، وهو أمثل طريق جاءت فيه هذه الزيادة، فمن العلماء من أثبَت السماع، ومنهم من نفى السماع، وممن نفى السماع يحيى بن معين رحمه الله تعالى، فقال: (لم يسمع من أبيه) ، وأما الإمام البخاري رحمه الله تعالى اضطرب عنه القول، ففي رواية أنه قال: (سمع أباه) كما في التاريخ الكبير له، ونقل الترمذي رحمه الله تعالى في سننه عن الإمام البخاري أنه قال في علقمة بن وائل عن أبيه: ما أدرك أباه، أو قال ما معناه: مات أبوه وأمه حاملة به في ستة أشهر. واحتج من أثبتت له السماع من أبيه بإخراج مسلم رحمه الله تعالى عدة أحاديث من طريق علقمة عن أبيه، فقال الآخرون: ينظر هل هي من الأصول أو هي من المتابعات؟ فطريقة الإمام مسلم رحمه الله تعالى التساهل في المتابعات، وبعض النسخ فيها زيادة (وبركاته) عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه، وبعض النسخ بدونها، فالأمر فيها مريب، والذي عليه الجمهور هو الاقتصار على (السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله) .

تفسير سورة الحشر [2]

تفسير سورة الحشر [2] هناك فارق بين التربية الإيمانية، وبين عادات الجاهلية والكفر، فقد عرض لنا القرآن الكريم وهو يبين بعض مصارف الفيء صورة قوم آثروا فضل الله تعالى ورضوانه على أموالهم وديارهم حين أخرجوا منها، وسلبوا حقهم، وآخرين جعلوا أموالهم وديارهم حقاً مشتركاً بينهم وبين إخوتهم في العقيدة، وآثروهم على أنفسهم حباً لا بغضاً، وطواعية لا كراهية، ثم صورة جيل آت بعدهم يترضى عنهم ويستغفر الله تعالى لنفسه ولهم، وهذه هي روابط الإيمان. كما عرض لنا القرآن الكريم صورة أهل الكفر في أقبح ما تكون، وذكر صفاتهم القبيحة، من وعود كاذبة وجبن عند اللقاء، وخوفهم من غير الله تعالى لحرصهم على الدنيا وطمعهم فيها.

تفسير قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين.

تفسير قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8-9] . الفيء هو: المال الذي دخل على المسلمين من عدوهم بوجهٍ مشروع من غير إيجاف خيل ولا ركاب ولا قتال، وأما الغنيمة فهي: المال الذي يدخل على المسلمين من عدوهم من جراء القتل والقتال، ومصارفها كما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] ، فهؤلاء المذكورون لهم خمس، والأربعة الأخماس الباقية للمجاهدين الغزاة، أو المجاهدين بصفة عامة، وفيما يلي ذكر لبعض الأصناف المستحقة للفيء. قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) الفقر أمر نسبي يختلف من بلدة إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن آخر، ففي زمن قد يكون من ملك دينارين غنياً، وفي زمن آخر قد يكون من ملك عشرة دنانير فقيراً، ومرجع ذلك إلى العرف ويترتب على هذا تحديد الفقير الذي تُخرج له الزكاة فيكون مصرِفاً من مصارفها. وقوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) أي: تركوها رغماً عنهم، فلم يكونوا يحبون الخروج من ديارهم ولكنهم أُخرِجوا منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الحزورة وهو ينظر إلى مكة: (والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت) ، فقوله تعالى: ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا)) أي: أخرجهم غيرهم، والإخراج ليس لذنب اقترفوه ولا لإثم ارتكبوه، ولكن كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] . وقوله تعالى: (وَأَمْوَالِهِمْ) أي: أخرجوا من أموالهم كذلك، أي: تركوها. وقوله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي: ينصرون شرع الله، وينصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته. قال تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ، فهؤلاء الفقراء لهم نصيب من الفيء.

تفسير قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان.

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ.) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] الدار هي دار الهجرة، وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى (تَبَوَّءُوا الدَّارَ) أي: سكنوها، وهم الأنصار، فقد كانوا سكان المدينة قبل قدوم المهاجرين إليهم، فعمَّروا المدينة بالإيمان، وفتحوا بيوتهم لتلاوة القرآن، وأقاموا فيها الصلاة. وقد ذهب جمهور العلماء رحمه الله تعالى إلى أن المهاجرين على الإجمال أفضل من الأنصار، وفي كلٍ خيرٌ، وذلك بدلالة تقديمهم في عموم الآيات على الأنصار، ومنها في هذه السورة، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون هناك أنصاري أفضل من مهاجري بخصوصه، فلا يخدش هذا في التقعيد، كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم) ، فهذا على وجه الإجمال؛ إذ لا يُمتنع أن يأتي زمان خير من الزمان الذي قبله، كما كان الزمان الذي عقِب موت الحجاج بن يوسف الثقفي أفضل من زمن الحجاج، وكما هو معلوم أن زمان المهدي خير من الزمان الذي قبل المهدي، وكذلك الزمان الذي فيه رسول الله خيرٌ من الزمان الذي لم يكن فيه الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) ، هذه هي حال الأنصار، قلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئاً على إخوانهم المهاجرين لكونهم فضِّلوا عليهم ببعض الفضائل.

مدح الله للأنصار بالإيثار

مدح الله للأنصار بالإيثار وقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الخصاصة: الحاجة الشديدة، وأمثلة هذا الإيثار سطِّرت بها كتب السنن، وجاءت نماذج منها في كتاب الله سبحانه وتعالى، فمما سطِّرت به كتب السنن ما أخرجه البخاري ومسلم: (أن ضيفاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل أزواجه: هل في بيت إحداكن طعام؟ فكلهن قلن: والله! يا رسول الله! ما عندنا إلا الأسودان التمر والماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا رجل يضيفه هذه الليلة؟) ، وفي هذا رفع للكلفة بين المسلمين، بل وقذف للمحبة بين المسلمين، فإذا جئت إلى أخيك وقلت له: حل بي ضيف وليس في بيتي طعام، فهل تستطيع إكرامه؟ فلا شك أن المودة تزداد والمحبة تتمكن، ففعلك هذا دليل على محبتك لأخيك، وعلى محبة أخيك لك. (. فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله!) وفي بعض الروايات: (أن هذا الرجل هو أبو طلحة، وزوجته هي أم سليم رضي الله تعالى عنهما، فأخذ الضيف فانطلق به إلى بيته، ولم يكن الطعام في البيت كافياً، فقال لامرأته: نوِّمي الصِّبْية، وذلك حتى لا يشاركوا الضيف في الطعام، فنوّمت الصِّبْية، وأطفأت المصباح، وقعدا يريان الضيف أنهما يأكلان وهما يتلمظان ويضربان بأسنانهما بعضها على بعض! حتى فرغ الضيف وشبع، ثم أصبح أبو طلحة فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد عجب الله عز وجل من صنيعكما البارحة! فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ) . ومن ذلك ما فعله سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما بعد أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما عندما آخى بين المهاجرين والأنصار عند مقدم المهاجرين إلى المدينة، فقد قال سعد لـ عبد الرحمن: قد علمت -يا عبد الرحمن - أني من أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وأن لي زوجتين، فأشاطرك مالي، وانظر أي امرأتي شئت فأنزل لك عنها حتى تتزوجها! فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك! ولكن دلوني على السوق الحديث. ولما فتح الله سبحانه وتعالى على نبيه الفتوحات، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يُقطِع للأنصار البحرين، قالوا: لا -يا رسول الله- حتى تعطي إخواننا من المهاجرين مثل ذلك! فقوله سبحانه وتعالى: (وَيُؤْثِرُونَ) أي: يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

ذم الشح والبخل

ذم الشح والبخل وقوله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، في هذه الآية ذم الشح، وهو نظير البخل، ومن العلماء من قال: إن الشح هو البخل مع حرص وطمع فيما أيدي الآخرين، فيبخل بما معه، ويحرص أيضاً على أخذ ما في أيدي الآخرين. وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالكعبة وله دعوة واحدة يدعو بها، يقول: اللهم! قني شح نفسي، اللهم! قني شح نفسي، اللهم! قني شح نفسي. فقال له قائل: لم تدع بهذه الدعوة يا عبد الرحمن؟! قال: إنك إن وُقِيت شح نفسك فقد أفلحت كل الفلاح -أو كما قال رضي الله تعالى عنه-، وقد قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم! فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح! فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم) . وأما ذم البخل فقد وردت جملة هائلة من الأحاديث تحذر منه، بل ومن الآيات كذلك، فقد قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:37] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً) . وجاء بنو سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (من سيدكم يا بني سلمة؟! قالوا: الجد بن قيس، على أنا نُبَخِّلهُ يا رسول الله! -أي: نصفه بالبخل-، قال: وأي داء أدوأ من البخل؟) ، ثم جعل سيدهم بدله عمرو بن الجموح، وكان عمرو على أصنامهم في الجاهلية، وكان يولم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج. وثم جملة نصوص في ذم البخل ثابتة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. كما جاء ذم البخل بلهجات شديدة على ألسنة الشعراء، ومن ذلك قول أحدهم: رأيت الفضل متكئاً يناجي الخبز والسمكا فقطب حين أبصرني ونكس رأسه وبكى فلما أن حلفت له بأني صائم ضحكا والأبيات في هذا كثيرة لا تكاد تُحصَر. وفي مقابل البخل الإيثار والكرم، وقد تحلى بالإيثار والكرم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وأهل الفضل والخير والصلاح، وهذا في الحقيقة منهم لأنهم أيقنوا بأن الخلف من الله سبحانه وتعالى، وأن ما يُفعل من خير فلن يُكفَر، وأن من عمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن عمل مثقال ذرة شراً يره، فدل هذا الكرم، ودل هذا الإيثار، ودل هذا الإنفاق على صدق الإيمان وحسن اليقين، والله أعلم. والشح ليس بالمال فحسب، بل وبالمناصب والمستحقات من أي شيء، فقد قال الله سبحانه وتعالى في شأن الزوجين المتشاحنين: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، فقوله سبحانه: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) أي: كل نفس تسرَّب إليها شحها؛ فنفس الرجل أتاها الشح، ونفس المرأة أتاها الشح، وذلك أن الآية نزلت في الرجل تكون عنده المرأة لا يحبها، ويريد فراقها، فتقول له: أمسكني لا تطلقني، وأنت في حلِّ من شأني، فيقبل منها ومع قبوله يحضر نفسه شحها، ونفس المرأة يحضرها شحها، فالرجل يمسكها بلا طلاق وهو يبغضها ويكرهها، فينفق عليها إذ هي زوجة ليست بمطلقة، فيقول في نفسه: لماذا أنفق عليها وأرهِق نفسي بالإنفاق؟ ويعدد على نفسه الأشياء التي يصنعها فيها، وهي الأخرى يحضرها الشح فتقول: أنا زوجة له، فلماذا لا ينفق علي؟ ولماذا لا يأتيني في كل ليلة كما يأتي الزوجة الأخرى؟ فكل نفس يحضرها الشح، فالشح عام، وغالباً ما يراد به الخصوص، كما هو الشأن في أكثر مواضع الكتاب العزيز، بل وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الآية الكريمة بيان لصرف الفيء في الأنصار أيضاً، فلهم نصيب منه.

حق السلف على الخلف

حق السلف على الخلف قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: أهل الإيمان الذي جاءوا من بعدهم. وقوله تعالى: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) استدل الإمام مالك رحمه الله تعالى بهذه الآية على أن الروافض والشيعة البعداء البغضاء ليس لهم نصيب من الفيء، ووجه استدلاله أن الله ذكر مصارف الفيء فقال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) ، فالذين يقولون: ربنا العن إخواننا الذين سبقونا! ليس لهم من الفيء شيء، وهؤلاء الشيعة البغضاء البعداء الروافض يلعنون أبا بكر، ويلعنون عمر رضي الله تعالى عنهما، وهم ممن سبقونا بالإيمان، فـ أبو بكر وعمر من السابقين الأولين إلى الإسلام والإيمان، فالشيعة يلعنونهما في صلواتهم، ومن مقالاتهم السخيفة التي هي مردودة عليهم بلا شك، أنهم يقولون: (اللهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وابنتيهما) ، ويريدون بذلك أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فلا شك أنهم يُحرمون من الفيء، وهذا أقل ما يُفعل بهم. وأفادت الآية أيضاً أنه يسن لمن جاء بعد القرون المفضلة، وبعد المهاجرين والأنصار؛ أن يدعو لإخوانه السابقين بالمغفرة، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) ، وهي تشمل كل مؤمن سبقك وصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن ووحّد قبلك، فإذا فعلت، فمن قال بعد موتك: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) لحِق بك نصيب من هذا الدعاء الطيب.

القلوب أوعية يصرفها الله عز وجل

القلوب أوعية يصرفها الله عز وجل وقوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، هذا الدعاء ينم عن شيء، وهو أن ما في القلوب إنما هو من الله سبحانه وتعالى، ولا يرفعه إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يثبته إلا الله سبحانه وتعالى، فالمحبة التي في قلبك لشخص هي من الله، والبغض الذي في قلبك لشخص هو من الله سبحانه وتعالى، وإن كان لذلك أسباب، ولكن قد تُفعل الأسباب ويتخلف المطلوب، والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] ، فأنت -يا عبد الله- لا تستطيع التسلط على قلبك الذي بين جنبيك فضلاً عن قلوب غيرك، فالصديق يوسف عليه السلام يقول: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] ، وقال صلى الله عليه وسلم -وإن كان فعلاً-: (اللهم! هذا قسمي فيما أملك، ولا تلمني فيما تملك ولا أملك) ، وهو المحبة القلبية. وقال صلى الله عليه وسلم في شأن خديجة رضي الله تعالى عنها لما كان يكثر من ذكرها، وتغار أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إني قد رزقت حبها) ، والذي رزقه حبها هو الله سبحانه وتعالى. فالأشياء التي في القلوب من محبة وبغض، كل ذلك أصله من الله سبحانه وتعالى، لا يثبِته إلا الله، ولا ينزعه إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هذا قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] . فأهل الإيمان لما فطِنوا لهذه المسألة طلبوا من الله سبحانه وتعالى أن يظهر لهم قلوبهم؛ إذ هو القادر على ذلك، ولا أحد يقدر على هذا إلا هو سبحانه وتعالى، فقالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، ولا يليق أن يكون في قلب المؤمن غلٌ على أخيه المؤمن، ولكن من ناحية تواجده قد يتواجد، والله يقول في شأن أهل الإيمان يوم القيامة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] . وقد أخذ بعض العلماء رحمهم الله تعالى من هذه الآية مشروعية الدعاء للنفس قبل الغير؛ إذ هم قالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا) فدعوا لأنفسهم ثم لإخوانهم.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا.

تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا.) قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11] . قوله تعالى: (أَلَمْ تَر) هذه الجملة تأتي أحياناً بمعنى: (ألم تعلم) ، وأحياناً يراد بها الرؤية بالبصر، فمن الأول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:246] ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما رآهم، وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} [البقرة:243] ، ومن الثاني قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، فقد ذكر بعض العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مميزاً أثناء هذه الحادثة. قوله تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) أي: إن طُردتم من بلادكم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي: من يطلب منا شيئاً في شأنكم فلن نطيعه أبداً، بل سنؤازركم، وسنواليكم، وسنناصركم، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11] . ثم قال تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:12] هذا عام في عموم أهل الكفر، فأهل الكفر هذا شأنهم، بعضهم يبغض بعضاً ولا يحبه وإن أظهر ذلك، كما قال الله سبحانه وتعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] ، أي: تحسبهم مجتمعين في الظاهر لكن قلوبهم متفرقة، وكما قال سبحانه: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] ، يقول العلماء في تفسير قوله تعالى: (فَأَغْرَيْنَا) : كأن العداوة والبغضاء بينهم أُلصِقت بالغراء، فكأن القلوب أُثبِتت بها العداوة والبغضاء كما أن الخشب يضم إلى بعضه ويلصق بالغراء، فهي ثابتة في قلوبهم تجاه بعضهم. وكذلك عموم أهل الظلم، يجلسون جميعاً، ثم بعد التفرق كلٌ يلعن الآخر ويسب الآخر، وكل يخون صاحبه في الغالب، ومنهم الذين يضحكون ويسخرون من أهل الإيمان.

الغفلة عن الله تعالى تورث جبنا وحرصا على الحياة

الغفلة عن الله تعالى تورث جبناً وحرصاً على الحياة قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] . أي: يا أهل الإيمان! أنتم (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ، فمن غبائهم أنهم يخافون منكم -يا أهل الإيمان- أكثر من خوفهم من الله سبحانه وتعالى! فمن غباء اليهود وجهلهم، ومن جهل أهل النفاق، ومن جهل الكفار بصفة عامة أنهم يعملون للمؤمنين حساباً أكثر من هذا الذي يعملونه لربهم سبحانه وتعالى! فهم يرهبون السيف ولا يرهبون الرب سبحانه وتعالى، ويرهبون البشر ولا يخافون من رب البشر، وهذا دليل على ضعف الإيمان في قلوبهم، وعلى جهلهم وقلة علمهم، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) . قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14] . أفادت هذه الآية أن اليهود وأهل النفاق جبناء، وهذا الجبن منشؤه حب الدنيا وقلة اليقين في الآخرة، فهم يريدون أن يستمتعوا بحياتهم الدنيا كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] . فقوله سبحانه: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) هذا في شأن اليهود، فهم أشد الناس حرصاً على الحياة، وقوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) فيها تأويلان: أحدهما: أن المعنى: لتجدن اليهود أشد الناس حرصاً على الحياة، وأشد من الذين أشركوا، ويكون قوله تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) راجعاً إلى اليهود، فكلها تكون في اليهود. الثاني: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا الذين يود أحدهم لو يعمّر ألف سنة، فالذين أشركوا -على التأويل الآخر- يطمع أحدهم أن يعيش ألف سنة، واليهود أشد منهم حرصاً على هذه الحياة، فمصدر الجبن عندهم حبهم الحياة. قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14] سبب هذا القتال (مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) هو -كما سبق- الجبن المستكن في نفوس اليهود وصدورهم، وهذا الجبن سببه الحرص على الحياة، فإذا كان هناك يقين بالآخرة وبلقاء الله، فسيتحول الأمر كما تحول مع عمير بن الحمام رضي الله تعالى عنه لمّا سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض) ، وكان بيده تمرات يأكلهن فقال: والله! إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات، ثم ألقاهن وقاتل حتى استشهد رضي الله تعالى عنه. وكما قال سحرة فرعون لما أيقنوا بلقاء الله واليوم الآخر: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] ، فالجبن المستكن في الأنفس، وحب الدنيا وحب الاستمتاع بها؛ هو الذي حملهم على القتال من وراء جدُر، فالتلذذ بالحياة والدنيا غاية المراد عندهم؛ إذ لا يقين عندهم بالله تعالى، ولا باليوم الآخر، وأما أهل الإيمان فليسوا كذلك، بل علموا أن الدنيا بما فيها كلها سجن للمؤمن وجنة للكافر. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

الرخص والتوسع في الأخذ بها

الرخص والتوسع في الأخذ بها Q هل الأخذ بكل الرخص الواردة في السنة المطهرة يقدح في إيمان المسلم؟ A المسألة تحتاج لضبط أوسع، والمقام لا يتسع لها.

أخذ الأم من مال بنتها خفية

أخذ الأم من مال بنتها خفية Q لأحد إخواني زوجة، وعندها طفلة في سن الرضاعة، ولكنها لا ترضع من ثديها، فترسل إليها أختٌ لي متزوجةٌ، بلبن لها، ولكن هذا اللبن يقع في يد أمي فتُنقِص منه مقدار كوب أو كوبين لنا، وتضع بدلاً منهما ماءً، فما حكم الإسلام؟ A إذا كانت الأم تأخذ من لبن أرسلته ابنتها فلا إشكال؛ لأنها تأخذ من مال بنتها، إلا أن في ذلك إثماً خفيفاً؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر) ، فهي لم تأخذ اللبن فقط، بل تضع الماء مكانه، فالغش وصل بها إلى أن تضع الماء حتى تستر على نفسها، فدل ذلك على وجود الإثم. ويصل هذا إلى التحريم إذا أفتى الإطباء أن اللبن إذا شِيب بالماء بهذه الصورة يضر بالطفلة، فيقع حينئذٍ الإثم، فإن قالوا: فيه مصلحة للطفل، يتغير الحكم. وأخذها هذا صورته صورة السرقة، إلا أنه يخف حجم هذه السرقة؛ لأنه من ابنتها فقط، والمخرج من هذا أن يشتري للجدة لبناً لتخرج من الحرج.

المشي مع المرأة لأجل خطبتها

المشي مع المرأة لأجل خطبتها Q هل يمكن المشي مع فتاة لغرض الخطوبة؟ A لا يجوز.

حديث قدسي، ومدى صحته

حديث قدسي، ومدى صحته Q ما صحة الحديث القدسي المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أمتك سلكت إلي من كل طريق، واستفتحت علي من كل باب، فلن أفتح لهم إلا أن يأتوا خلفك) . A لا يثبت.

البيع والشراء في المسجد

البيع والشراء في المسجد Q هل يجوز البيع والمزايدة في المسجد؟ A لا أعلم دليلاً على هذا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المسجد.

النوم عن صلاة الفجر مع أخذ الاحتياط لها

النوم عن صلاة الفجر مع أخذ الاحتياط لها Q نمت متأخراً لسبب شرعي، بعد أن توضأت وقلت أذكار النوم، ونويت الاستيقاظ للصلاة، وضبطت المنبه لذلك، لكن لم أستيقظ إلا الساعة الثامنة، فهل عليّ إثم؟ A في الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ) الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها) ، ثم تلا قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] .

الفرق بين الآفاق والأفاك

الفرق بين الآفاق والأفَّاك Q ما الفرق بين الآفاق والأفاك؟ A أما الآفاق كما في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت:53] فجمع أفق، وهي أقطار السموات والأرض، ومنه كذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] ، فالأفق المبين هو: اتجاه السماء المُظهِر للأشياء، وهو جهة طلوع الشمس، وأما الأفَّاك فهو الكذاب.

أحاديث وزيادات، ومدى صحتها

أحاديث وزيادات، ومدى صحتها حديث: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة) ضعيف، لكن معناه ثابت، كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} [الأعراف:55] ، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا} [الأنبياء:90] ، أي: طلباً لما عندنا، فالمعنى صحيح لكن الإسناد فيه ضعف. وحديث: (رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين) إسناده ضعيف كذلك. وحديث: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) ضعيف أيضاً. وحديث: (اللهم إني أسألك خير المولج ... ) عند دخول المنزل، إسناده منقطع. وحديث: (سبحانك اللهم وبحمدك ... ) بعد الوضوء، في إسناده ضعف. وزيادة: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) بعد الفراغ من الوضوء، ضعيفة. وحديث: (وأعوذ بك أن أقترف إثماً أو أجره إلى مسلم) لا يحضرني الحكم عليه.

الوضوء عند قراءة القرآن

الوضوء عند قراءة القرآن Q ما دليل استحباب الوضوء عند قراءة القرآن؟ A الدليل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر) .

المدن الجامعية وسكن الطالبات فيها

المدن الجامعية وسكن الطالبات فيها Q ما حكم الطالبات اللاتي يسكن في المدينة الجامعية، ويتغيبن بها لفترة طويلة بعيداً عن أهلهن، وربما تصل إلى شهر في فترة الامتحانات؟ A إن كُنّ في مكان آمن، وقد أوصلهن أهلهن، ويأخذونهن عند الرجوع، والمكان آمن فلا بأس؛ إذ لم يرد في تحديد المدة خبر إلا عمومات كخوف الفتنة.

تشبيك الأصابع في المسجد والصلاة، والوارد في ذلك

تشبيك الأصابع في المسجد والصلاة، والوارد في ذلك Q هل تشبيك الأصابع منهيٌ عنه في الصلاة فقط؟ أم منهيٌ عنه مطلقاً؟ A لا أعلم حديثاً يخص الصلاة بعينها في النهي عن تشبيك الأصابع، وإنما في الباب حديث: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة) ، أو بلفظ قريب منه، فإذا أُخِذ المنع على أن النهي عن تشبيكهما في الطريق إلى المسجد بسبب أنه في صلاة، فيكون النهي عن التشبيك في الصلاة من باب أولى. إلا أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى أومأ في صحيحه إلى تضعيف هذا الخبر، حيث بوّب: (باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) ، واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يغربلون فيه غربلة يبقى منهم حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه) ، وهي أسانيد ثابتة صحيحة، والآخر في تصحيحه نزاع طويل.

تفسير الألوسي تحت الضوء

تفسير الألوسي تحت الضوء Q ما رأيك في تفسير الألوسي؟ A تفسير الألوسي من التفاسير البعيدة عن تفاسير أهل السنة والجماعة، وفيه خلل كثير، فلينتبه إلى مثل هذه التفاسير، ومن الأمثل والأقرب والأيسر تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى، وتفسير القرطبي رحمه الله تعالى على ما فيه من خلل في مسائل الأسماء والصفات، وانتصارٍ في كثير من المسائل الفقهية للمذهب المالكي، لكن على وجه الإجمال هو تفسير حسن، وقد هُذِّب إلى حد كبير في تفسير فتح القدير للشوكاني رحمه الله تعالى، واختصر تفسير فتح القدير إلى تفسير فتح البيان لـ صديق حسن خان رحمه الله تعالى، وعلى العموم فإن المبتدئ يستحسن له تفسير ابن كثير، كما يستحسن له تفسير الشيخ الجزائري حفظه الله تعالى.

حكم الطلاق بعد العقد خشية الظلم والضرر

حكم الطلاق بعد العقد خشية الظلم والضرر Q شاب خطب فتاة وعقد عليها ولم يبن بها، ولكنه لم يشعر تجاهها بمودة، ولا توافق في الطباع، ولا اتفاق في الأفهام، فلا يقدر على الاستمرار معها ويخاف أن يظلمها فيما بعد، فهل له أن يقلل من الضرر الذي يمكن أن يحدث فيما بعد ويفارقها؟ وهل يكون ظالماً إذا طلقها؟ A نعم له ذلك، فإذا كان يشعر أن هناك ضرراً سيلحق باستمرار طول الحياة، فارتكابه بعض الضرر الذي هو إحزان لهذه الفتاة شيئاً ما، أولى من أن يعيش مكفهر الوجه طول حياته معها. ولا يكون ظالماً لها إذا أعطاها حقوقها الشرعية، وما دام أنه قد عقد عليها؛ فإذا كان سمى الصداق فلها نصف الصداق، إلا إذا عفت هي، أو عفا هو وأعطاها الصداق كاملاً، والله تعالى أعلم.

ما للمرأة إذا طلقت قبل الدخول عليها؟

ما للمرأة إذا طلقت قبل الدخول عليها؟ Q ما حقها إذا طلقها وقد قدم لها هدية من الذهب، وعليه صداق مؤخر، ولم يدخل بها؟ A إذا قدم لها هدية، فإن كانت الهدية هبة، فالراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه كما قال عليه الصلاة والسلام، وأما إذا كان عرفه وعرف أهل بلده يعتبر أن الشبكة من الصداق، فلها نصف الصداق الذي يشمل الشبكة ويشمل المؤخر المسمَّى، ويشمل أيضاً ما إذا كانوا قد اتفقوا على عفش معين، كل هذا ينصّف نصفين، ولها النصف.

تجهيز البنت للزواج ومعارضته لأداء فريضة الحج

تجهيز البنت للزواج ومعارضته لأداء فريضة الحج Q رجل يعيش على راتبه الشهري، وعنده ولدان متزوجان، ولكن له بنتان يجهزهما، وهو يريد أن يسافر إلى الحج، فأيهما يقدم؟ A الحج فرض، وتجهيز البنتين مستحب، وليس بواجب على الولي، فالفرض يقدم على المستحب، ولا شك.

الوارد في جبن المؤمن

الوارد في جبن المؤمن Q ما صحة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم) ؟ A الحديث إلى آخره ضعيف.

نفاق الأعمال ونفاق الاعتقاد

نفاق الأعمال ونفاق الاعتقاد Q صفات المنافقين الأربع المذكورة في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) إذا وجدت في شخص، فهل يُحكم عليه بالنفاق؟ A نعم، يحكم عليه بالنفاق، ولكن ليعلم أن النفاق على قسمين: نفاق عمل، ونفاق اعتقاد، فنفاق العمل لا يخلد صاحبه في النار، ولكن نفاق الاعتقاد -أي: أن تبطن الكفر، وتظهر الإسلام- هو المخلد صاحبه في النار حتى وإن صدق، ولم يخلف العهد، ولم يخن الأمانة، ولم يفجر في الخصومة، لكن الذي يفعل هذه الخصال الأربع، وقلبه فيه إيمان وتوحيد، فهو منافق نفاق عمل، ونفاق العمل لا يخلِّد صاحبه في النار، والله تعالى أعلم.

حمل العصا وأصله في نظر الشرع

حمل العصا وأصله في نظر الشرع Q إنا نرى كثيراً من الشيوخ والشباب، وبالأخص الملتحين يحملون العصي في أيديهم ويحثون على حملها، فهل لهذا دليل من السنة؟ وهل يسوغ حملها للشاب أم للشيخ؟ A العصا ليست للشباب ولا للشيوخ، بل من احتاج إليها حملها، ومن لم يحتج إليها فلا يحملها، فموسى عليه السلام لما سأله ربه تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17-18] ، وسليمان عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى عنه: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ:14] ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يتكئ على العصا إذا كان متعباً، وإذا كان يخطب أحياناً، ولكن من الجهل بالشرع أن تحمل العصا في الطرقات وليس لك فيها فائدة، ومن الجهل أن تحول الشيء الجبلي، أو سنة العادة إلى سنة عباده، فتحول حمل العصا إلى سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحث الناس على حملها. فحمل العصا من أمور العادات، فإن احتجت إليها حملتها، وإن لم تحتج إليها فلا تحملها، بل قد تزري بنفسك حين تمشي وأنت تعمل شيئاً لا فائدة فيه، فجعلها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة، وحث الناس عليها، هذا -والله تعالى أعلم- قولٌ غير موفق للغاية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير سورة الحشر [3]

تفسير سورة الحشر [3] من رحمة الله تعالى بعباده بيانه لهم ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، فبين أيدينا آيات حث الله تعالى العباد فيهن على تقواه، وبين لهم كيد الشيطان في انتزاع التقوى من قلوب العباد، وذكر المؤمنين بيوم القيامة، ووصفه بما يفيد قربه، ونهاهم عن نسيانه تعالى والغفلة عنه، وذكر عباده بأن سبيل المؤمنين أهل الجنة هو سبيل الفوز والفلاح دون سبيل أهل النار، ثم وصف لخلقه كلامه وهو القرآن الكريم، وعقبه بذكر بعض أسمائه الحسنى الدالة على عظمته وإلهيته، كل ذلك ليسلك العباد طريقاً موصلة لهم إلى رضا ربهم تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر.

تفسير قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ.) يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في شأن اليهود: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16-17] . أي: مثل اليهود في انخداعهم بأهل النفاق، وذهاب وعود أهل النفاق عنهم كانخداعهم بالشيطان وذهاب وعود الشيطان عنهم وتبرؤه منهم، فكما أن أهل النفاق خدعوا اليهود وقالوا لهم: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ، فكذلك خدع الشيطان الإنسان وقال له: (اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) ، وقد ساق العلماء عند تفسير هذه الآية آثاراً، وهي لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من الآثار الإسرائيلية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم وفي أمثالها: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا) الآية) ، أو كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالإسرائيليات منها ما يُحكى ولا يصدق ولا يكذب، ومنها ما يصدق قولاً واحداً، ومنها ما يُكذَّب قولاً واحدا. فالإسرائيليات التي تصدق قولاً واحداً هي: الأخبار التي أقرّها ربنا وأقرّها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما وافقه الشرع منها فإنه يصدق؛ إذ قد حكاها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. والتي تكذب قولاً واحداً هي الإسرائيليات التي خالفت كتاب الله تعالى، وخالفت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والتي بين ذلك هي: أخبار إسرائيلية لم يكذبها الله في كتابه، ولا رسوله محمد عليه الصلاة والسلام في سنته، ولم يرد في الكتاب والسنة ما يثبتها، فهذه تُحكى ولا تُصدق ولا تكذَّب. ومن هذا القسم الذي لا يصدق ولا يكذب: ما ورد عند تفسير هذه الآية أنه كان في بني إسرائيل عابد من العباد يعبد الله في صومعته، وكان في بلدته فتاة حسناء، ولها إخوة أربعة، فأراد إخوتها السفر، فقالوا: لن نأمن على أختنا أفضل من هذا العابد، فذهبوا إليه في صومعته، فأبى أشد الإباء أن يقبلها أو يتفقد أحوالها، فأصروا عليه، فآل الأمر إلى أن قبل رعاية أختهم وهي في بيتها، فانطلقوا مسافرين، وذهب يتفقد أحوالها اليوم بعد الآخر ويطمئن على حالها، فزيّن له الشيطان سوء العمل، وقال: سلها، فلعلها مستوحشة من فقدان الرفقة، فصار بعد أن كان يترك الطعام على باب دارها يسألها عن حالها، ثم آل به الأمر إلى أن دخل وخلا بها وارتكب معها الفاحشة، فلما حملت خشي من الفضيحة فقتلها ودفنها، فلما جاء إخوتها سألوه عن أختهم، فقال لهم: قد ماتت، وقد أحسنت إليها وقمت بدفنها وبالصلاة عليها فصدّقوه، ثم إن الشيطان أتى إخوتها في منامهم، وأوعز إليهم بالذي كان وحدث، وقال: إن أختكم في مكان كذا وكذا، فذهبوا واستخرجوها، فأتوا به إلى الملك فقرر قتله بعد أن اعترف، فأُخِذ ليقتل فجاءه الشيطان وهو في طريق القتل وقال: أنا الذي حملتك على الخلوة بها، وأنا الذي حملتك على الزنا بها، وأنا الذي حملتك على قتلها، فإن أطعتني الآن أنجيتك، قال: وما تريد مني؟ قال: تسجد لي سجدة واحدة، فسجد له فقتل وهو ساجد للشيطان، قال تعالى: (فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) . وهذه القصة -كما أسلفنا- ليست واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من الإسرائيليات، والعبرة منها مأخوذة، فالشيطان يغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه يوم القيامة، كما قال تعالى عنه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:36-39] ، فقوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي: الشياطين، وقرناء السوء، وقوله تعالى: (جَاءَنَا) وقرئ: (جاءانا) ، فكل خليل مبطل وقرين سوء يتبرأ من خليله وقرينه يوم القيامة، وقد جاء من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه السيوطي أن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط رجلاً حليماً لا يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفره، وكان مشركو مكة إذا جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم آذوه ونالوا منه، وكان لـ عقبة خليل غائب بالشام، فرجع خليله من الشام فسأل امرأته: كيف حال فلان وفلان من أهل مكة؟ فأخبرته، فقال لها: وكيف حال أخي عقبة؟ قالت له: لقد صبأ، ثم إن عقبة أتى يحيِّي صاحبه القادم من السفر، فدخل عليه يحييِّه فلم يرد عليه التحية، فقال: مالي أحييك ولا ترد علي تحيتي؟ قال: كيف أرد عليك التحية وقد صبأت؟! أي: دخلت دين محمد، وتركت دين قومك، قال: فماذا يرضيك عني حتى ترد علي تحيتي؟ قال: لا أرضى عنك بحال حتى تذهب إلى محمد في مجلسه فتسبه بأقبح ما تعلم من سبٍّ، وتشتمه بأقبح ما تعلم من شتائم، وتبصق في وجهه، فذهب الغويُّ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسبّه بأقبح السب، وشتمه بأقبح الشتائم، وبصق في وجهه، فما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن مسح البزاق عن وجهه وقال: (لئن أدركتك خارج جبال مكة لأقتلنك صبراً) ، فلما كان يوم بدر أراد المشركون أن يُخرجوا عقبة بن أبي معيط معهم، فأبى وتذكر مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطوه أفضل الإبل وقالوا: إن كانت لنا الدولة والدائرة شاركتنا المغنم، وإن كانت علينا فررت على هذا الجمل، فشاء الله أن يقع عقبة بن أبي معيط في الأسر، فقدِّم كي تضرب عنقه من بين الأسارى الذين قدموا الفداء، فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال: (نعم بما بزقت في وجهي) ، ونزل قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29] ، فكل خليل يتبرأ من خليله يوم القيامة، وكل قرين يتبرأ من قرينه يوم القيامة، كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] . فجدير بكل واحد منا أن ينظر في أصدقائه وخلانه قبل أن يأتي يوم القيامة، فيلعن بعضهم بعضاً، كما قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] .

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي: يا من آمنتم بالله وصدقتم المرسلين، (اتَّقُوا اللَّهَ) أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، والوقاية تكون بكل أعمال البر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ، وقد تلا النبي هذه الآية مع آية النساء الأولى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] في قصة، وقد تنزل الآية من عند الله سبحانه وتعالى في عدة وقائع، وقد تنزل عدة آيات في واقعة واحدة. جاء وفد من غطفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أثر الفقر والفاقة مجتابي النمار، أي: يلبسون جلود النمور من الفقر والفاقة، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى ما بهم من فاقة، ورأى الفقر الشديد يعلوهم، ورأى حالة المسكنة والانكسار تخيم عليهم، فخرج على أصحابه فتلا هاتين الآيتين: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ، فعمَد رجلٌ إلى صدقة فتصدق بها، فتبعه الناس على ذلك، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وأشرق وأضاء، ثم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) . قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي: ليوم القيامة، وعُبِّر عنه بالغد لقرب وقوعه، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل:77] . وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) تأكيد على الأمر بتقوى الله، وآيات الكتاب العزيز متعددة وفي غاية الكثرة تأمر بتقوى الله، فهي وصية ربنا لنا، ووصية الأنبياء لأممهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] . وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) هذا الختام يعظم مراقبة العبد لربه، وينبغي أن يكون العبد على هذه الحال من المراقبة، وهي مرتبة الإحسان التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وكما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:217-219] ، أي: ويرى تقلبك مع الساجدين، فجدير بالعبد أن يعبد الله سبحانه وتعالى على هذه الصفة كأنه يرى ربه، فإن لم يكن يرى ربه فإن ربه سبحانه وتعالى يراه، وكما قال تعالى: {يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19] .

عاقبة نسيان الله تعالى

عاقبة نسيان الله تعالى ثم قال سبحانه محذراً إيانا من التشبه بأهل الكفر الذين نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] ، أي: تركوا العمل للقائه سبحانه، ونسوا ذكر ربهم كذلك. ومن العلماء من حمل النسيان هنا على الترك، أي: تركوا العمل للقاء الله، وتركوا ذكر الله سبحانه وتعالى، فأنساهم الله سبحانه وتعالى العمل لأخراهم.

تمايز أهل الجنة وأهل النار

تمايز أهل الجنة وأهل النار قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] هذه الآية قد تكرر معناها في جملة آيات، من ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] ، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19] ، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] ، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ، وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] ، إلى غير ذلك من الآيات.

عظمة القرآن ومقصد ضرب الأمثال

عظمة القرآن ومقصد ضرب الأمثال قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] . قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) أي: لو جعلنا للجبل إدراكاً، وأنزلنا هذا القرآن عليه وأوحيناه إليه لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، بعكس بني آدم، قال بعض أهل العلم: إن الجمادات لها إدراك يعلمه الله، ويعلم صفته، فإن الله سبحانه وتعالى قال في شأن الجبال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72] ، فدل ذلك على أن للجبال إدراكاً، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أحدٌ جبل يحبنا ونحبه) ، وقال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن) ، وقد حن الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (كنا نسمع للطعام تسبيحاً وهو يؤكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فاستُدِل بهذه الآيات مع قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] على أن الجمادات لها إدراك يعلمه الله، ويعلم ماهيته، كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، وقال تعالى في شأن الجبال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] . قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] ، فهذا المقصد من وراء ضرب الأمثال للناس، ولذلك قال كثير من المفسرين: ينبغي أن نفكِّر في الآيات وفي الأمثال، ونبحث عن معانيها الغامضة، فإن القرآن نزل ليُتدبر، ونزل ليُتأمل ويُتفكر فيه، كما قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، وكما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] ، وكما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] .

أسماء الله الحسنى

أسماء الله الحسنى قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] . هذه إحدى آيات توحيد الإلهية، وهي في كتاب الله في عدة مواطن، قال الله جل ذكره: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98] ، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:2-3] ، إلى غير ذلك من الآيات. فقوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي: عالم الظاهر والباطن، ويعلم ما ظهر ويعلم ما استتر سبحانه وتعالى، كما قال تعالى حكاية عن لقمان في موعظته لولده {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] ، فهو يعلم ما لطَف أي: ما دَقَّ، خبير بموطنه ومكانه سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] قال فريق من العلماء: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، ومن أهل العلم من قال: إن الرحمن أعم من الرحيم، فالرحمن رحمته عامة بالمسلمين وبالكافرين في الدنيا، أما الرحيم فأخص من الرحمن؛ لقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] ، وعلى هذا بعض المآخذ، تأتي في محلها إن شاء الله. واسم الرحمن قد اختص به ربنا سبحانه وتعالى، فقد قال فريق من أهل العلم إن مسيلمة الكذاب لما تشدق وتطاول، وأطلق على نفسه (رحمان اليمامة) وُسِم بالكذب ووصِف به إلى يوم الدين، فلا يُقال إلا: مسيلمة الكذاب، مع أن هناك كذابين آخرين، ككذاب اليمن الأسود العنسي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وكلهم كذابون، لكن لفظة (الكذاب) كانت أشد التصاقاً بـ مسيلمة؛ لدعواه أنه رحمان اليمامة. قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23] الملك: هو المالك المتصرف في كل شيء، والقدوس: هو المطهَّر، ومنه قولهم: لا قُدِّست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها، أي: ما طُهِّرت، ومنه قولهم: العاصمة المقدسة، أي المطهَّرة، وقوله تعالى: {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} [طه:12] ، أي: المطهَّر، فالقدوس هو المُطَّهر. وقوله تعالى: (السَّلامُ) للعلماء في المراد به أقوال: فمنهم من قال: هو المسلَّم من كل عيب ومن كل نقص، ومنهم من قال: هو الذي يسلِّم عباده المؤمنين من النيران، ويدخلهم الجنان، إلى غير ذلك من الأقوال. وقوله تعالى: (الْمُؤْمِنُ) في معناها أقوال لأهل العلم كذلك، فمنهم من يقول: هو الذي يؤمِّن عباده المؤمنين، وقيل: هو الذي يصدق المؤمنين فيما ينقلونه عن ربهم سبحانه وتعالى، وثم أقوال أخر. وقوله تعالى: (الْمُهَيْمِنُ) هو: الرقيب والشاهد، وقوله تعالى: (الْعَزِيزُ) أي: الذي لا يغلبه شيء ولا يُمانَع من شيءٍ أراده، وقوله تعالى: (الْجَبَّارُ) أي: الذي أجبر الخلق كلهم على أي شيء يريده، (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) . قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24] (البارئ) بمعنى الخالق، ومن العلماء من أضاف إليها معنى وهو: إظهار ما برأ، بخلاف أهل الدنيا، فقد يخترع الشخص شيئاً، أو يأتي بفكرة الشيء ولا يستطيع إظهاره، أما ربنا تعالى فليس كذلك، فهو الذي ينفِّذ ما أراد، ويُخرِج ما خلق. وقوله تعالى: (لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) الحسنى: جمع الأحسن. والتحرير يقتضي أن أسماء الله الحسنى لا يعلم عددها إلا هو، بدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب أحداً هم ولا حزن فقال: اللهم! إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فالله سبحانه استأثر عنده في علم الغيب بأسماء له لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى. فأسماء الله الحسنى لا يحصيها إلا هو، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) ، فهذا في فضيلة تسعة وتسعين اسماً من الأسماء من أحصاها دخل الجنة. ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحصاها دخل الجنة) اختلف فيه العلماء، قال بعضهم: أي: من عمل بها مع معرفته لها، فتعرض من اسم التواب لأفعال تجلب له توبة الله عليه، وتعرَّض من اسم الرحيم لأفعالٍ تجلب له رحمة الله عليه، فليس مجرد العلم هو المعني بقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحصاها دخل الجنة) . وهنا فائدة ينبه عليها، وهي أن الله جل ذكره قال في كتابه الكريم: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] ، فإذا جئت تدعو باسم من أسماء الله الحسنى فعليك أن تأتي باسم يوافق المسألة التي تريد، ومن هنا لم يستحب العلماء أن تقول عند الذبح: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن الرحيم في هذا الموطن لا يتناسب مع الألم الذي جُرَّ إلى البهيمة، وإنما تقول: باسم الله، والله أكبر. أي: إن كنت تظن أنك كبيرٌ على هذه المذبوحة، فالله سبحانه وتعالى أكبر منك، وأعظم منك، كما قال تعالى في شأن النساء: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] أي: كبيراً عليكم إذا أنتم طغيتم على نسائكم وظلمتموهن، فالدعاء باسم من الأسماء الحسنى ينبغي أن يوافق المسألة التي تريد، مثال ذلك: (اشف أنت الشافي) ، (هازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم) ، (ارزقنا وأنت خير الرازقين) ، (اغفر لنا وأنت خير الغافرين) ، ولا تقل كما يفعل المقلدة من أئمة المساجد: اللهم! أذل الشرك والمشركين برحمتك يا أرحم الراحمين. فكيف يذل الشرك بالرحمة؟! إنما يقال: وأذل الشرك والمشركين بعزتك يا رب العالمين! فالاسم ينبغي أن يوافق المسألة كما قال عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114] ، وكما قال موسى عليه الصلاة والسلام: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155] . ومن آداب الدعاء أن تتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى بين يدي الدعاء. وقوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز: منيع الجناب، عظيم السلطان، الذي لا يُغالب ولا يُمانع، والحكيم: الذي يفعل كل شيءٍ بحكمة، وأصل الحكمة: المنع، ومنه قيل للعاقل: (الحكيم) ؛ لأن عقله يمنعه من ارتكاب المحاذير، ومنه قولنا للحبل الذي تربط به الدابة: (الحَكَمَة) ؛ لأنه يحكِمها، ومنه قول الشاعر: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكمو أن أغضبا

الأسئلة

الأسئلة

الدعاء عقب الصلوات المكتوبات

الدعاء عقب الصلوات المكتوبات Q هل الدعاء دبر الصلوات المكتوبة جائز أم غير جائز؟ A الدعاء دبر الصلوات المكتوبة بعد الأذكار فيه شيءٌ من النزاع، وأكثر أهل العلم على جوازه؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! لا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك) ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من الصلاة قال: (رب! قني عذابك يوم تبعث عبادك) ، وورد من حديث علي رضي الله عنه أنه أيضاً كان يقول: (اللهم! اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت) .

تكبير الإمام سرا في نفسه بعد تكبيره جهرا

تكبير الإمام سراً في نفسه بعد تكبيره جهراً Q إمام كبّر مرة جهراً وكبر الناس خلفه، ثم كبر مرة ثانية سراً، فما حكم الصلاة؟ A الصلاة صحيحة، وإن كان خالف المسنون، لكن الصلاة صحيحة لا غبار عليها.

فوات الظهر مع إدراك الإمام في صلاة العصر

فوات الظهر مع إدراك الإمام في صلاة العصر Q رجل أدرك صلاة العصر جماعة ولم يصل صلاة الظهر، فكيف يصلي الصلاتين؟ A الأئمة الأربعة يقولون: يصلي مع الإمام الذي يصلي صلاة العصر، ثم بعد أن ينصرف من صلاة العصر يصلي الظهر الذي فاته.

ترك سجدة في الصلاة، والانتباه لها بعد السلام

ترك سجدة في الصلاة، والانتباه لها بعد السلام Q إمام نسي السجدة الأخيرة في آخر ركعة، ثم سلم، وبعد الصلاة نبهه المصلون، فماذا يفعل؟ A رأى بعض أهل العلم أنه يأتي بركعة جديدة؛ لكونه نسي ركناً من أركان الصلاة، ومن العلماء من يقول في هذه الحالة خاصة: يسجد ثم يتشهد.

حكم الوصية قبل الموت

حكم الوصية قبل الموت Q ما حكم من لم يوص قبل موته بوصية؟ A الوصية ليست بواجبة، وإنما هي في حق من له شيء يوصي فيه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) . فالوصية ليست بواجبة على كل أحد.

حكم ترك سنة العشاء والوتر

حكم ترك سنة العشاء والوتر Q ما حكم ترك سنة العشاء وصلاة الوتر؟ وهل يقضيهما؟ A ترك سنة العشاء وترك صلاة الوتر مكروه، لكن لا إثم فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال الأعرابي: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص -أي: الخمس الصلوات- قال: (أفلح إن صدق) ، أو (دخل الجنة إن صدق) . أما قضاء سنة العشاء الأخيرة فإنها تقضى قياساً على قضاء النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر.

الشراء لشخص مع الزيادة في السعر دون علمه

الشراء لشخص مع الزيادة في السعر دون علمه Q شخص قام بشراء أشياء لأشخاص دون سابق تحديد السعر، فهل له أن يزيد على السعر الأساسي نتيجة التعب والسفر وتكاليف السفر، علماً بأنه ليس بتاجر، ولكنه كلِّف بالصداقة؟ A هذا المشتري لا يخلو من أمور: فإما أن يكون وكيلاً فلا يزيد على السعر بحال من الأحوال، بل يقول: اشتريت بكذا، وسافرت بكذا، وأتعابي كذا، فيكون صريحاً، فله أن يزيد أو ينقص في أتعابه، ولكن يوضح أنها أتعاب، أما أن يغش، ويقول لهم: السلعة بكذا، وهي ليست بهذا الثمن! فهذا حرام. فيحدد السعر الذي اشترُيت به السلعة، ويناقشهم في أمر الوكالة وأجرتها. وأما إذا كان تاجراً يبيع لهم ويشتري منهم، فله أن يزيد، ولكن يخيرهم، فيقول: السلعة أمامكم، فإن شئتم خذوها بمائة، أو إن شئتم بخمسين، لكن هذه ليست مسألتنا، فالسائل قال: إنه ليس بتاجر.

الوصايا الجاهزة المبيعة في المكتبات

الوصايا الجاهزة المبيعة في المكتبات Q ما حكم الوصايا الجاهزة المكتوبة في بعض الأوراق التي تبيعها المكتبات؟ A لا يلزم أن تكون وصية كل شخص مثل هذه الوصية التي في الورقة التي تبيعها المكتبات، فهذه الوصية برمتها ليست ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كل شخص تختلف وصيته عن الشخص الآخر، وإن كان هناك أمور عامة، لكن لا يلزم أن توصي بها عند الموت، فيعقوب عليه الصلاة والسلام وصَّى عند الموت جميع أبنائه، وقال لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] ، وإبراهيم عليه السلام وصّى عند الموت أبناءه، فقال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] ، وجاءت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم عند الموت لأمته بالصلاة فقال: (الصلاة وما ملكت أيمانكم) ، ووصى بأهل بيته عليه الصلاة والسلام، وأوصى ابنته فاطمة رضي الله عنها وقال لها: (اتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك) . أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وعبد الله بن حرام قال في غزوة أحد لابنه جابر رضي الله عنهما: أراني يا جابر! غداً مقتولاً، فاستوص بأخواتك خيراً، فاستشهد رضي الله عنه، وعمل جابر بوصية والده، فتزوج امرأة ثيباً، وضحى براحته من أجل أخواته. فكل شخص تختلف وصيته عن الشخص الآخر، فكوني آتي بورقة مكتوبة مسجلة مسطرة وأُلزِم بها الناس، أو أفشيها في الناس؛ لا يصح أن أفعل هذا، إلا إذا كانت مأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وتلك الوصايا منها المأثور ومنها غير المأثور، ومنها الثابت ومنها غير الثابت، فليست بلازمة على كل شخص، وإنما لك أن تُجمل القول عند الموت، فتقول: اتبعوا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دفني، أو توصي بقضاء الديون إذا كان عليك ديون.

رضاع الرجل من زوجته

رضاع الرجل من زوجته Q ما حكم رضاع الرجل من زوجته؟ A يرضع كما يشاء، ففي الحديث: (إنما الرضاعة من المجاعة) ، أي: الرضاعة المحرمة هي التي كانت في الصغر، والتي إذا تخلفت حدثت للطفل مجاعة، فالرضاعة المحرِّمة هي ما دون الحولين. وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم.

اشتراط حل المطعم لإجابة الدعاء

اشتراط حل المطعم لإجابة الدعاء Q ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أطب مطعمك تُجب دعوتك) ؟ A الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن استجابة دعوة سعد بن أبي وقاص على وجه الخصوص قد وردت في عدة مواطن، فلما دعا على من ظلمه وقال: (اللهم أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، واجعل فقره بين عينيه) استجيبت دعوته في هذا الرجل -كما في صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله- حتى طال عمره، وسقط حاجبه على عينه، وكان مع هذا الكبر يمشي في الطرقات يغمِّز الفتيات، ويقول: أصابتني دعوة المبارك سعد. وكان هذا شيئاً مشهوراً بين الصحابة رضي الله عنهم، حتى إن بعض بني مروان عوتِبوا في تصرفهم غير السديد في أموال المسلمين، فكان ممن عاتبهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال له مروان: إن هذا المال مالنا نعطي من شئنا، ونمنع من شئنا! فقال سعد: بل هو مال الله يعطيه الله من يشاء ويمنعه الله ممن يشاء، فقال: بل هو مالنا نعطيه من شئنا، ونمنعه من شئنا! فاتجه سعد ورفع يديه إلى السماء كي يدعو، فوثب مروان من على السرير، وقال له: لا تدعُ، هو مال الله يعطيه الله من يشاء، ويمنعه الله ممن يشاء. وفي مستدرك الحاكم بسند صحيح أن سعداً رضي الله عنه رأى رجلاً يدعو على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يسب علياً، فقال له: يا هذا! أتسب علياً؟ قال: نعم، قال: أتسب ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: زوج ابنته-؟ قال: نعم، قال: أتسب رجلاً شهد بدراً؟ قال: نعم، فقال سعد: اللهم! لا تفرق هذا الجمع حتى ترينا فيه آية، فاضطربت به فرسه في الحال وأسقطته، وداست عليه فمات في الحال. وعلى كل حالٍ فالحديث المذكور معناه أن من لوازم إجابة الدعاء، أو من شروط إجابة الدعاء -وإن كان الله يستجيب بدون شروط، وإنما هي الأسباب والمسببات- تطييب المطعم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب له؟) .

أحاديث متفرقة، ومدى صحتها

أحاديث متفرقة، ومدى صحتها باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فحديث: (يؤتى يوم القيامة بناكح يديه ويداه حبلى) لا يثبت. وحديث: (الجهاد مختصر طريق الجنة) لا يثبت. وحديث: (لعن الله العقرب! لا تدع نبياً ولا مصلياً إلا لدغته) يحتاج إلى مراجعة. وحديث: (تشهد يوم القيامة كل قطرة مني، وتقول لصاحبها: أين أبي وأمي؟) لا أعلم له أصلاً.

ترك طواف الوداع بعد العمرة

ترك طواف الوداع بعد العمرة Q قام والداي بأداء عمرة في رمضان، وأديا المناسك، وعند مغادرة مكة لم يطوفا بالبيت، فما حكم ذلك؟ A طواف الوداع للعمرة مستحب وليس بواجب، والعمرة صحيحة. وأما طواف الوداع للحج فهو واجب؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا ينفر أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت) .

الاختلاف اليسير بين الإمام والمأموم في جهة القبلة

الاختلاف اليسير بين الإمام والمأموم في جهة القبلة Q هل الاختلاف -ولو كان قليلاً- في اتجاه القبلة بين الإمام والمأمومين يفسد الصلاة؟ A الاختلاف القليل في اتجاه القبلة لا يفسد الصلاة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) . وهذا القليل يبعدنا عن الوسوسة، حتى لا يأتينا من يقول: أنتم انحرفتم نصف درجة أو درجة! فالتشديد في الاتجاه بهذه الدرجة، أو التشديد في أوقات الصلاة، فيقال: نصف دقيقة حتى يجيء العِشاء، أو بقي ربع دقيقة، فكل هذه التشديدات في غير محلها، وغير محمودة.

تفسير سورة الممتحنة [2]

تفسير سورة الممتحنة [2] في هذه السورة العظيمة يثبت الله لعباده المؤمنين مبدأ الولاء والبراء كيف يكون في الإسلام؟ وأن من آمن بالله فلا يجوز له أن يتعاطف مع المشرك والكافر الحربي وإن كان أقرب قريب، وضرب لنا مثلاً بإبراهيم عليه السلام حيث تبرأ من أبيه وقومه ومن أفعالهم، ثم ختم الله تعالى السورة ببيان أنواع الكفر، ومن هم الذين يجب التبرؤ منهم والذين يجوز برهم وصلتهم، وبيان كذلك بنود البيعة للنساء والأحكام المتعلقة بها.

تفسير قوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه.

تفسير قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4-5] .

عدم الاقتداء بإبراهيم في استغفاره لأبيه المشرك

عدم الاقتداء بإبراهيم في استغفاره لأبيه المشرك قال الله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، أي: لا تتأسوا بإبراهيم في قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، هذه الجزئية لا تتأسوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فيها، وفيه دليل على أن الرجل الصالح إذا فعل فعلة ليست وفق الكتاب والسنة لا يتبع فيها ولا يتأسى به فيها أياً كان شأنه، فهذا خير البرية كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه دعاه رجل فقال: يا خير البرية! فقال: ذاك إبراهيم صلى الله عليه وسلم) ، فمع إن إبراهيم خير البرية، لكن لما استغفر لأبيه -والاستغفار لأبيه خطأ إذ هو استغفار للمشرك- عن موعدة وعدها إياه، أمرنا ربنا ألا نتأسى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الفعلة. إذاً: إذا جاء شيخ وفعل فعلة مخالفة للكتاب والسنة فمن باب أولى ألا يتبع أبداً، والكتاب والسنة هما الحكم على كل شخص، وليس الشخص هو الحكم على كتاب الله وعلى سنة رسول الله، أصحاب نبينا محمد عليهم رضوان الله فعلوا واجتهدوا، فعلوا جملة أفعال واجتهدوا جملة من الاجتهادات، ولكن صدرت من بعضهم فتاوى جانبت الصواب، فلا يتبع أحدهم على هذه الفتيا. فمثلاً: صدر عن ابن عمر القول بإباحة إتيان المرأة في دبرها! وهذا خطأ، ولا يتبع عليه ابن عمر رضي الله عنهما، وسائر أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام خالفوه في ذلك، وجماهير أهل العلم على خلافه في هذه المسألة؛ لأن حديث: (لعن الله من أتى امرأة في دبرها) بمجموع طرقه يصح، والحرث ما هو إلا موطن الزرع، فلا يتبع في مثل هذه الزلة مع فضله وورعه وعلمه وكثرة اتباعه للسنة، لكن هذا لا يمنع أن تزل قدمه في بعض المسائل. وابن عباس ورد عنه الأمر بجواز نكاح المتعة، وخالفه في ذلك سائر الصحابة حتى قال له علي: (إنك رجل تائه) ، فلا يتبع في هذه الحيثية. وأبو طلحة كان يرى أن البرد لا يفطر الصائم أي: الثلج النازل من السماء، لكن لا يتبع على هذه الفتيا، كان يقول: إنه ليس بطعام ولا بشراب، وهكذا كل من فعل فعلة وإن كان صالحاً من أفضل الصلحاء، لكن فعلته تخالف هدياً عاماً في الكتاب أو في السنة لا يتبع في هذه الجزئية، وليس هذا بخادش في عموم فتياه، فكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه. فربنا سبحانه وتعالى نهانا أن نتأسى ونقتدي بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، فمن مات أبوه على الشرك لا يحل له أن يستغفر لأبيه المشرك، والدليل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، فاستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فبكى وأبكى من حوله) عليه الصلاة والسلام، ودليل آخر: قول الله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] . وإذا احتج أحد باستغفار إبراهيم لأبيه حين قال: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، وقال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86] ، فيرد عليه بقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] . فليس في الدين مجاملات حتى مع أقرب الأقربين، حتى مع الآباء والأبناء، نوح لما سأل ربه: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] عوتب أشد عتاب بقوله تعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] فتاب نوح وأقلع: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] ، فمع أقرب الأقربين لا مجاملة في أصل المعتقد بحال من الأحوال. قال الله سبحانه: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة:4] ، هذا القول: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة:4] قول من؟ من أهل العلم من يقول: إنه قول إبراهيم والذين معه. ومنهم من يقول: إنه أمر للمؤمنين، أي: فقولوا: أيها المؤمنون! {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة:4] ، أي: اعتمدنا في أمورنا عليك، {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة:4] ، أي: رجعنا، {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4] ، أي: يوم القيامة.

التأسي بإبراهيم عليه السلام

التأسي بإبراهيم عليه السلام قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة:4] الأسوة: هي القدوة التي يقتدى بها، أي: لكم قدوة في إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فاقتدوا وتأسوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن قال قائل: هل الأمر بالتأسي بإبراهيم عليه الصلاة والسلام عام في كل شيء أم في أشياء مخصوصة؟ هذا سؤال مطروح. الآية التي بين يدينا تفيد أن التأسي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم إنما هو في شيء مخصوص: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] ما هو الشيء المخصوص؟ {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] أي: في تبرئه من المشركين ومن الآلهة التي يعبدها المشركون، لكن هناك آيات أخر تعمم التأسي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، كقول الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر إبراهيم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} [الأنعام:83-84] إلى آخر الآيات، ثم قال الله سبحانه عقبها: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] أي: تأسى واتبع. وكذلك يقول الله سبحانه: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] أي: اسلك طريق من رجع إليَّ، وممن أناب إلى الله بالإجماع إبراهيم صلى الله عليه وسلم. فأمرنا أن نتأسى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام أمراً عاماً، ولذلك لما أثار العلماء مسألة: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم أن شرعنا فيه أحكام ملزمة لنا وشرع من قبلنا فيه أحكام ملزمة لهم؟ فمن العلماء من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا إلا إذا جاء في شرعنا ما ينسخه، يعني: أي شيء كان في شريعة إبراهيم أو في شريعة موسى أو في شريعة عيسى أو في أي شريعة سبقت، هو شرع لنا، إلا إذا جاء في شرعنا حكم آخر ينسخ الحكم الموجود في الشرائع السابقة، فنصير مع الحكم الجديد لكون شريعة محمد عليه الصلاة والسلام مهيمنة على كل الشرائع، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] ، فالهيمنة دائماً لكتاب الله الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يأتِ في شرعنا شيء ينسخ ما جاء في شرعة من قبلنا فلنأخذ به. ومن العلماء من منع ذلك وقال: إن الله قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] . وقال آخرون: إن شرعة إبراهيم خاصة تلزم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل ذكره: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] .

الولاء والبراء في الشرع

الولاء والبراء في الشرع قال الله: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة:4] أي: تبرأنا منكم: {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] ، لقد ذكرنا من قبل بحثاً في مسألة التبرؤ: أن المسلم إذا فعل خطيئة في الشرع يتبرأ من فعلته، أما الكافر فيتبرأ منه ومن فعلته على وجه العموم، يعني: في الجملة وإن كانت هناك بعض الاستثناءات، فإذا تبرأت من شيء فعله المسلم تتبرأ من الفعل، وإذا تبرأت من شيء فعله الكافر يجوز أن تتبرأ من الفعل وأن تتبرأ من الكافر ومن فعله، دل على ذلك قول إبراهيم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] أي: لكفركم. أما بالنسبة للمسلم؛ فلأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل خالداً إلى بعض البلاد في بعض الغزوات، فخرج أهلها يقولون: صبأنا صبأنا، إذ لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وقد عنوا بقولهم: صبأنا أي: دخلنا في الإسلام، أسلمنا! أسلمنا! فطفق خالد يقتل فيهم، ويأسر، فبلغت هذه الفعلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمد يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) فلم يقل: إني أبرأ إليك من خالد، إنما قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) ، ولا يؤثر على هذا ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة) ، فالصالقة مسلمة هنا، والحالقة كذلك؛ لأن التبرؤ هنا ليس من معين إنما هو في الجملة، واللعن في الجملة جائز: (لعن الله الكاسيات العاريات، لعن الله النامصة) ، فاللعن في الجملة جائز، لكن التبرؤ من الأعيان أو لعن الأعيان هو الذي عليه هذا التحفظ. {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فإذا آمنتم بالله وحده، وأقررتم بشرعته، ووحدتموه، فقد زالت العداوة والبغضاء التي بيننا، أما إذا بقيتم على كفركم فها نحن نعلن البراءة منكم ومن آلهتكم التي تعبد، فهي قوة في الصدع بالحق، وقوة في اتخاذ طريق الحق المستقيم، ليس فيها ضعف وليس فيها هوان، إنما هو خط واحد واضح، أنا مؤمن بالله كافر بالطواغيت، وكافر بكل ما يعبد من دون الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112] ، {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106] ، {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43] ، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] فهو خط واحد واضح في التبرؤ من الشرك، والتمسك بالإيمان: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] . فجدير بكل مؤمن وكل مسلم أن يتخذ هذا الخط، موالاة الله وموالاة رسل الله، واعتناق شرع الله والرضا بقضاء الله وبشرعه وبسنة نبيه، ورفض كل شيء مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله، وإعلان هذا بوضوح بلا غموض، فهو خط واضح صريح سلكه الأنبياء من قبلنا عليهم الصلاة والسلام، فلا يليق بنصراني أن يعلق صليباً في عنقه مظهراً نصرانيته وأنت كمسلم تستحي أن تظهر نفسك متمسكاً بالإسلام، ومتمسكاً برسول الإسلام محمد عليه أفضل صلاة وأتم سلام، فتأسوا بإبراهيم في هذه الأفعال.

المراد بالذين آمنوا مع إبراهيم في الآية

المراد بالذين آمنوا مع إبراهيم في الآية يقول الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] ، أي: تأسوا بإبراهيم وبالذين مع إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ومن هم الذين مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ لأهل العلم فيها قولان مشهوران: أحدهما: أن المراد بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] ، الأنبياء الذين جاءوا من بعده وهم من ذريته. القول الآخر: أنهم قوم آمنوا مع إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ورجح الأولون قولهم بأن الذين آمنوا مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام قلة لا تكاد تذكر، بل لم يذكر أي شخص آمن لإبراهيم عليه السلام إلا لوط وسارة، وسائر أبنائه الذين هم من ذريته كإسحاق وإسماعيل عليهما السلام، أما لوط فلقول الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، وأما زوجته سارة فإنها لما أوشكت أن تدخل على الجبار، قال لها: (إنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، فإن سألني عنكِ فسأقول: إنكِ أختي، فأنت أختي في الإسلام، فليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك) ، فهذا الحديث حمل فريقاً من المفسرين على أن يفسروا: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] ، أنهم الأنبياء الذين اتبعوه على ملته وشريعته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن هناك قوم آمنوا مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما ألقي في النار خرج منها وما معه أحد من الذين آمنوا به، وقال حينئذٍ: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] ، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ، فهو ترك البلاد وغادرها، وكان هو وزوجته فقط عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا.

تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا.) {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] ما المراد بقوله سبحانه حاكياً قول أهل الإيمان: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] ؟ أشهر الأقوال في تفسير هذه الآية: لا تنصرهم -يا ربنا- علينا، فيغتروا بهذا النصر ويظنون أنهم على الحق، لا تنصرهم علينا فإنك إذا نصرتهم علينا قالوا: لو كان هذا نبياً حقاً ما هزم، وما قتل وما قتل أصحابه، فيفتنون بذلك ويثبتون على كفرهم، فهو -إذاً- دعاء مضمن لجزئيتين: أولهما: ألا نكون فتنة للكفار فيستمروا على كفرهم. الثاني: ألا نهزم من هؤلاء الكفار. {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] ، ويلتحق بها أيضاً سوء التصرفات التي تزل فيها بعض أقدام أهل الإيمان، فأنت -يا مؤمن- في ظاهرك مؤمن ملتزم، وإذا زلت قدمك في مسألة ونظر إليك أهل الفسق وقدمك قد زلت ارتدوا على أدبارهم، يعني: إذا رآك أهل الكفر -وأنت مسلم في ظاهرك- تعبث بالفتيات، أو ترتكب المحرمات، أو تشرب الخمور أمام الناس انتكسوا وفتنوا بفعلك، وتركوا الطريق الذي أنت عليه لهذه الأفعال الشاذة الصادرة منك، فهذا أحد الأوجه أيضاً في تفسير قوله سبحانه: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا} [الممتحنة:5] ، أي: واغفر لنا يا ربنا! فهذه دعوات يستحب لك أن تدعو بها، فعلى قول بعض المفسرين كما سمعتم أن: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة:4] هو أمر من الله لنا نحن المؤمنين أن نقول هذه الكلمة، قولوا أنتم يا أتباع إبراهيم: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4-5] أي: يا ربنا! فهو أمر لنا أن نقولها على أحد الأوجه في التفسير.

تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة.

تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.) قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الممتحنة:6] ، فالتأسي بهم قد يجلب لك بعض ما جلب إليهم، التأسي بالخليل إبراهيم، والتأسي بأهل الفضل والصلاح؛ قد يجلب لك نوعاً من الابتلاء الذي ابتلوا به، لكن هذا الابتلاء يهون إذا ذكرت اليوم الآخر: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الممتحنة:6] ، فالتأسي بأهل الفضل والصلاح يجلب للعبد كثيراً من الابتلاءات، فتهون هذه الابتلاءات عليه إذا علم أن هناك حساباً، وأن هناك ثواباً على الصبر، وعقاباً على النكول عن الطريق، ولذلك قال ربنا سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] ، فهذا تهييج وتحريض على التأسي مع التذكير باليوم الآخر. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] ، من تولى فكما قال الرسول فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) . فالشاهد: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} [الممتحنة:6] ، عنه وعن عبادته، {الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] ، الحميد لأفعال عباده الذين آمنوا به وصدقوه وارتضوا شرعه ومنهجه، فإنك إذا صليت حمد الله لك صلاتك، وإذا تبرأت من عدو الله حمد الله لك تبرؤك، إذا سعيت بين الصفا والمروة فإن الله شاكر لفعلك عليم به، إذا حججت فإن الله عليم بك وحامد لفعلك، فلذلك هو الحميد يحمد أفعال عباده المؤمنين التي فعلوها، وغني عن أهل الشرك والكفر، حميد يحمد للمؤمنين أفعالهم: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] .

تفسير قوله تعالى: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة)

تفسير قوله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] ، فهؤلاء القوم الذين عاديتموهم لله قد تكون عداوتكم لهم سبباً في إخراجهم من الزيغ والضلال الذي هم فيه، واتجاههم إلى الإيمان، فهذا الفعل تدل عليه القاعدة التي تقول: (الزجر بالهجر) ، فاهجروهم وتبرءوا منهم، فإنكم إن فعلتم ذلك سيفكرون في أمرهم: لماذا هجرنا إخواننا؟! لماذا قاطعونا وابتعدوا عنا؟! لماذا فاصلونا ولم يحضروا مجالسنا؟! فكل هذه التساؤلات تثار في أذهان العقلاء، وتثار في أذهان من أراد الله لهم الهداية، فيفكروا، فقد يرجح رجل منهم وجهتكم التي أنتم عليها، فيأتي إلى طريقكم: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:7] ، على ذلك، فالذي يقذف العداوات هو الله، والذي يقذف المحبات في القلوب هو الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث الذي حسنه بعضهم وإن كان في التحسين نظر لكن المعنى له وجاهته: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) ، يعني: لك أن تعادي، لكن لا تبالغ في العداوات كل المبالغة بل اترك شيئاً لعله يرجع منه، وكذلك في أبواب المحبات، والناظر في السير سواءً في أبواب المحبات أو العداوات أو الحروب أو القتال يرى العجب من هذا! ذكرنا في الدرس السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل علياً والمقداد والزبير إلى روضة خاخ، حتى يأتونه برسالة حاطب التي أرسلها مع امرأة إلى المشركين، فانطلقوا جميعاً: علي والزبير والمقداد تعادي بهم خيولهم، حتى ينفذوا أمر رسول الله، وأتوا برسالة من المرأة إلى رسول الله، فانظر إلى اتحاد الزبير مع علي في هذا الموقف. وأيضاً لما قتل حمزة في أحد، ومثل به أيما تمثيل، حزنت أخته صفية بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنها، وهي عمة علي بن أبي طالب، وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما. فالشاهد: من الذي أخبر صفية بما حل بـ حمزة، وقد جاءت تسأل عن حمزة وتبحث في القتلى عن حمزة، فإذا رأته بهذه الصورة ربما انزعجت؟ فقال علي: أخبر أمك يا زبير! وقال الزبير: بل أخبر عمتك أنت يا علي! الشاهد: أنهما متحدان في الموقف، وكلٌ منهم يقول: إني أخاف على عقلها. وأيضاً لما ترك عمر الأمر شورى في ستة وهم: علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، تنازل الزبير بالخلافة لـ علي، ومع ذلك يشاء الله سبحانه أن يقتتلان فيما بعد، وأحد جنود علي يقتل الزبير! فهذه أمور يدبرها ربنا. كذلك في باب العداوات وكيف تقلب، هذا سهيل بن عمرو أتى إلى صلح الحديبية ممثلاً عن المشركين، والرسول يقول لـ علي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) ، فوقف سهيل معترضاً على هذه اللفظة وقال: لا تكتب: (الرحمن الرحيم) ، اكتب: باسمك اللهم، ثم يكتب علي: (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فيقول: لا تكتب: رسول الله، لا نصدق لك برسالة!) ، وعمر ينظر إلى هذا الرجل الذي صدرت منه هذه المقولات ويريد أن يقطع لسانه، ويعرض عمر لـ أبي جندل كي يقتل أباه، ويقول: لو كان أبي لفعلت به، يهيج أبا جندل كي يقوم ويقتل أباه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات والآثار وينظر في أسانيدها أن الرسول قال لـ عمر: (لعل الله أن يسمعك منه مقالة تقر بها عينك) ، ويشاء الله أن يكون هذا، فبعد ذلك أسلم سهيل، ولما مات النبي عليه الصلاة والسلام، أراد أهل مكة أن يرتدوا، فقام سهيل فيهم خطيباً وثبتهم. فربنا سبحانه قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] . وكذلك ورد في بعض الآثار أن أول من حارب المرتدين هو أبو سفيان بن حرب لما كان راجعاً من بعض الأسفار، وعلم أن قوماً قد ارتدوا بعد وفاة رسول الله فحاربهم كما ذكر ذلك صديق حسن خان في فتح البيان وغيره.

تفسير قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين.

تفسير قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ.) قال الله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] نزلت هذه الآية في أسماء بنت أبي بكر وأمها قتيلة، أتت وهي مشركة إلى أسماء تزورها، فذهبت أسماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه فقالت: (يا رسول الله! إن أمي أتتني وهي راغبة -وهي مشركة- أفاصل أمي يا رسول الله؟! قال: صلي أمكِ) وقولها: (وهي راغبة) فيه قولان: أحدهما: راغبة عن الشرك، أي: تطمع في الإسلام. والآخر: راغبة في الدخول في الإسلام، وكلا القولين محتمل، لكن قوله: (وهي مشركة) يفيد أنها ما زالت على شركها، فقال لها الرسول: (صلي أمكِ) .

مسائل في التعامل مع أهل الكفر

مسائل في التعامل مع أهل الكفر فنأخذ من هذا الحديث جملة من الأحكام في التعامل مع أهل الكفر، فأهل الكفر منهم طوائف محاربون، ومنهم طوائف ليسوا بمحاربين، وينسحب على النصارى أو اليهود الذين يجاوروننا في بعض البيوت أو بعض البلاد، فما هو الحكم مع النصارى الذين لا يحاربوننا، باعتبارنا أشخاص ليس على مستوى الدول، فليس لنا في الدولة شيء، والسياسات ليست بأيدينا، إنما نتكلم عنا كأفراد فـ أسماء فرد تتعامل مع امرأة مشركة فرد. ففي الحقيقة أن لهذا جملة من الأحكام: فتجوز عيادة اليهود أو النصارى إذا مرضوا، وكذلك تجوز عيادة المشركين إذا مرضوا، فإن غلاماً يهودياً كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري، وقال له: (أسلم، فنظر الولد إلى أبيه فقال: أطع أبا القاسم! فأسلم، ثم مات فقال الرسول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) . فتجوز عيادة مرضاهم، ويجوز الإصلاح بينهم إذا تخاصموا، مثلاً: لك جار نصراني حدثت خصومة بينه وبين زوجته، هل يجوز لك أن تتدخل لكي تصلح بين النصراني وبين زوجته؟ التحرير يفيد الجواز؛ لأن الآيات الآمرة بالإصلاح آيات عامة: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فهو عام {إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] ، وأيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، تعدل بين اثنين صدقة) ، وأطلق النص ولم يقيد، كذلك قول الله سبحانه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] فهو أمر بالعدل عام، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة الذين يعدلون في حكمهم) ، وهو عام، وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] ، وقيل: إن الإعراض عنهم منسوخ، لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] ، فيجوز التدخل للإصلاح بينهم. ويجوز الإهداء لهم وقبول الهدية منهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، وهو نص عام لعموم الجيران، وكذلك العموم في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36] ، فهي نصوص عامة. وفعل عبد الله بن عمر الخاص لما ذبح ذبيحة وقال لأبنائه: أأهديتم لجارنا اليهودي؟ أأهديتم لجارنا اليهودي؟ أأهديتم لجارنا اليهودي؟ ثلاث مرات. وعموم قوله الله سبحانه وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] ، يفيد أننا نتخاطب معهم بأدب وبإحسان أيضاً، لكن لا يُبدءوا بالسلام كما جاء بذلك النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه بعض الأحكام المتعلقة بهم. أما قبوله هداياهم، فقد قبل النبي مارية من المقوقس ملك مصر، كما أهدى إليه بغلة فقبلها منه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، فالإهداء لهم، والإصلاح فيما بينهم إذا تخاصموا، والصلح أحياناً معهم؛ كله جائز، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم) ، وكل هذه المسائل مبنية على مسألة المفاسد والمصالح العامة، لكن أنت كفرد عليك أن تفرق بين الكتابي المحارب لك، وبين الكتابي المسالم الذي لا يحارب: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة:8] ، وهنا تقييد: {لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] ، فإن قاتلوك في الدنيا، مثل: تخاصم رجل من المسلمين ورجل من النصارى في ثمن ثلاجة مثلاً؛ فهذه المسألة لا تنسحب عليها الموالاة والمعاداة الكلية. إنما: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة:8] ، أي: عن برهم: {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] ، (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا) ، والمقسطون غير القاسطين، فالقاسطون هم الظالمون: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15] ، فالإقساط في الحكم بين المسلمين والكفار مطلوب شرعاً، وقد ورد بإسناد فيه ضعف أن ابن رواحة أرسل إلى اليهود يحكم في قضية بينهم وبين رسول الله، فقال لهم: (والله يا معشر يهود لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إليَّ، والله يعلم أنكم أبغض خلق الله إليَّ، ولكن لا يمنعني حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضي لكم أن أقول فيكم بالحق الذي أراده الله، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض يا ابن رواحة!) . قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا} [الممتحنة:9] أي: عاونوا {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] أي: تعاونا عليه {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] أي: معاوناً، {وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9] أي: الذي يتولى الحربي من الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9] .

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ.) ثم جاء حكم آخر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] ، وهذا قبل الفتح، إذ الآية نزلت بعد صلح الحديبية، (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) ، ما هي صورة الامتحان في قوله: (فَامْتَحِنُوهُنَّ) ؟ من العلماء من قال: تقسم المرأة المهاجرة بالله أنه ما أخرجها من بيتها بغض زوج ولا حب رجل آخر ولا كره ديار وحب ديار أخرى، ولكن الذي أخرجها هو حبها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمتحن النساء في هذه المسائل، فتقسم بالله على هذه الأشياء. ومن الممكن أن تمتحنهن، ولكنك قد تخطئ في التصحيح، فقال الله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10] ، فأنت تحكم بالظاهر فقط، أنت عليك أن تحكم بالظاهر الذي صدر لك، (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ) ، فالاحتراز يفيد أن الشخص الذي يمتحن قد يخطئ في النتيجة التي يصل إليها حتى وإن كان من الصالحين، فالرسول يقول: (إنكم تختصمون لديَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من النار، فإن شاء قبلها وإن شاء ردها) . فكان من شروط الصلح كما في البخاري أن سهيل بن عمرو قال للرسول عليه الصلاة والسلام: لا يأتيك رجل منا أو أحد منا -أي: من المشركين- مسلماً إلا رددته إلينا، ولا يأتينا منكم -أيها المسلمون- رجل مشرك ارتد فلن نرده إليكم، أي: إذا جاءنا منكم شخص قد ارتد لن نرده، أما أنتم إذا أتاكم منا شخص أسلم فلابد أن تردوه، فوقع الرسول على هذه الاتفاقية، وعمر ممتلئ غماً كما قال عن نفسه، كيف هذا الظلم في الظاهر؟ لكن الرسول أقر. فبعد أن وقع الرسول على هذه المعاهدة وهذا الصلح، والحبر ما قد جف كما قال فريق من العلماء، جاءت امرأة يقال لها: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت عاتقاً أي: لم تتزوج، فألقت بنفسها عند المسلمين تشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فجاء في إثرها أخواها الوليد وعمارة يطالبان بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الآثار التي فيها كلام من حيث الإسناد قالت: (يا رسول الله! إني امرأة لا أتحمل ما يتحمله الرجال، لعلي أفتن وهم يضربونني ويؤذونني، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10] ، فمنع النبي هذه المرأة أن ترد إلى المشركين، قالوا: كيف وقد اتفقنا معك؟ لكن الآية منعت) . وقال كثير من أهل العلم: إن هذا مثال للقرآن الذي نسخ السنة، فهذا المثال الوحيد للقرآن الذي نسخ السنة، فكانت السنة تقتضي أن كل من هاجر من المشركين إلى رسول الله يرد، فجاءت هذه الآية تمنع النساء من أن يرجعن إلى أهل الكفر. قال الله سبحانه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10] ، يعني: الكافر الذي دفع مهراً لهذه المرأة يعطى المهر الذي دفعه لها، فقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10] ، أي: من المهور {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [الممتحنة:10] أيها المسلمون {أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة:10] ، يعني: لكم -أيها المسلمون- أن تتزوجوهن إذا آتيتموهن أجورهن، ففيه أيضاً دليل على وجوب الصداق. {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] أنتم أيضاً إذا كانت تحت رجل منكم امرأة كافرة فليطلقها وليطردها: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ، فطلق عمر يومها امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان وكان آنذاك كافراً، وتزوج الأخرى صفوان بن أمية، {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] أي: عصمة المرأة الكافرة، اتركوها تذهب. {وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10] ، يعني: المهور التي دفعتموها، لكم أن تطالبوا الكفار بها، والكفار كذلك لهم أن يطالبوكم بالمهور التي أعطوها لنسائهم، هذا معنى قوله: {وَاسْأَلُوا} [الممتحنة:10] ، أي: طالبوا {مَا أَنفَقْتُمْ} [الممتحنة:10] ، أي: ما أعطيتم من مهور وصداق لأزواجكم اللواتي طلقتموهن {وَلْيَسْأَلُوا} [الممتحنة:10] ، أي: الكفار أيضاً لهم أن يطالبوكم بمهور النساء اللواتي تزوجوهن وفارقوهن {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10] ، هذا الحكم حكم الله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة:10] .

تفسير قوله تعالى: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار.

تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ.) وقوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة:11] ، أي: أنتم -يا مسلمون- لو ذهبت امرأة رجل منكم إلى الكفار فعاقبتم، والعقاب هنا المراد به: المجازاة، أي: فجازيتم {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:11] يعني: عوضوا الرجال الذين هربت أزواجهم إلى بلاد الكفر بشيء من المال، ففيه أيضاً مواساة ومشاركة في المصائب، يعني: إذا كان منكم واحد زوجته شردت عليه وهربت، فهذا أصبح بدون زوجة، فساعدوه وعوضوه عن المال الذي أنفقه لهذه الزوجة التي هربت {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة:11] .

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ.) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة:12] ، هذه هي البيعة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع بها النساء، يبايعهن على ما ذكر الله في كتابه، دون أن تمس يد امرأة منهن يد رسول الله، روت أميمة بنت رقيقة قصة البيعة وفيها: (ألا تصافحنا يا رسول الله؟! قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة) ، وفي الصحيح عن عائشة: (والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط) . فبايع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء على هذه الأمور المذكورة في كتاب الله: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة:12] ، الشرك بالله معروف، والسرقة معروفة {وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة:12] ، وهذا الذي قد يكون غامضاً بعض الشيء. فمن العلماء من فسر البهتان الذي تأتيه المرأة من بين يديها ومن بين رجلها: الولد الذي تنسبه إلى زوجها وهو ليس له بابن، يعني: امرأة تزني، ثم تقول لزوجها: هذا ولدك، هذا بهتان تأتي به من بين رجليها، أو تلتقط ولداً بيديها من الطريق وتقول لزوجها: هذا ولدك. إذاً: البهتان المفترى بين الأرجل هو الذي ارتكبت فيه المرأة جريمة الزنا، وأتت بولد من الزنا فتلحقه بالزوج، والبهتان المأتي من بين الأيدي هو الملتقط الذي تلحقه الزوجة بزوجها، فكانت المرأة تلتقط ولداً من الطريق إذا خشيت مثلاً أن يطلقها الزوج لعدم الإنجاب وتقول له إذا سافر ورجع: هذا ولدك. ومن العلماء من قال: البهتان المأتي من بين الأيدي والأرجل هو السحر. ومنهم من قال: إنه النميمة، لكن على الأول جمهور المفسرين. {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] ، نص عام في جواز أخذ البيعة من النساء، على عدم العصيان في أي معروف يأمر به الشخص. وهناك أمور أُخر لم تذكر في كتاب الله وذكرت في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالت أم عطية: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح، فما وفت منا امرأة إلا خمس نسوة فقط) ، وفي هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يمد يده لبيعتهن، ولم يصافح أحداً منهن عليه الصلاة والسلام، وقال: (إني لا أصافح النساء) ، وفي الحديث الآخر أنها قالت: (يا رسول الله! إن فلانة أسعدتني) أي: أريد أن أذهب فأنوح معها أيضاً، يعني: واحدة كانت تنوح معي عند وفاة زوجي أو عند وفاة ابني فأريد أن أذهب فأقضي لها أو أفعل لها، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليها، فقالت: أم عطية: (أخذ علينا رسول الله عند البيعة ألا ننوح، فما وفت منا إلا خمس نسوة) ، فتخيل من المبايع؟! الرسول يبايع النساء، ومع ذلك كلهن نقضن البيعة ولا وفى منهن بالبيعة للرسول إلا خمس نسوة فقط، فهذا يدل على قلة التزام النساء بالعهود والمواثيق. أيضاً تقدم أن الرسول أسر إلى عائشة وحفصة وقال: (لا تخبري بهذا السر أحداً) ، فهي توافق وتقول: لن أخبر أحداً، فإذا هي تخبر بالسر الذي كان بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم! فالشاهد: أن تعرف كيف تتعامل مع النساء في هذه الأمور، فالتثريب والتعيير يكون عليهن أقل. وأوردوا قصة هند في هذا الباب في بيعتها للرسول عليه الصلاة والسلام عندما أخذ عليها البيعة وقال: {وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة:12] ، فقالت: وهل تزني الحرة يا رسول الله؟! ثم قال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} [الممتحنة:12] قالت: قد ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً، تعني: قتلى بدر وما بعدها من المشركين، وفي هذا السند نوع من الضعف، لا نسترسل في إيراده من أجل هذا. قال الله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12] .

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا.) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا} [الممتحنة:13] ، أي: لا تتخذوا قوماً، {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} [الممتحنة:13] ، أي: أنكروا البعث وشكوا في أمر البعث، {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] ، فقوله: {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] من العلماء من قال: كما يئس الكفار من بعثة أصحاب القبور مرة ثانية، فإذا مات الكافر يئس الكافر الآخر من لقائه، فلا لقاء عندهما على الإطلاق، لا دنيا ولا آخرة، فهم لا يعتقدون بالآخرة. ومنهم من قال: إن قوله: {يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] وصف للكفار الذين هم أصحاب القبور، فالكفار الذين هم في القبور يئسوا من الرحمة، ويئسوا من النجاة من النار: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] . وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله.

الأسئلة

الأسئلة

حال حديث: (بشر قاتل ابن صفية بالنار)

حال حديث: (بشر قاتل ابن صفية بالنار) Q حديث: (بشر قاتل ابن صفية في النار) ؟ A في تصحيحه بعض النزاع.

حكم دعوة النصارى لطعام الوليمة

حكم دعوة النصارى لطعام الوليمة Q هل يجوز دعوة النصارى للطعام والوليمة وغيرها؟ A نعم يجوز، وحديث: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) فيه نظر من الناحية الإسنادية، وإن حسنه بعض العلماء، لكن على فرض تحسينه فالرسول صلى الله عليه وسلم أطعم ثمامة إذ كان أسيراً، ودعته امرأة يهودية إلى شاة مسمومة فأكل منها الرسول عليه الصلاة والسلام، أما مشاركتهم في الأعياد فلا تجوز، فالرسول لم يشارك اليهود ولا النصارى في أعيادهم.

القتال الذي بين علي والزبير لم يكن عن بغض

القتال الذي بين علي والزبير لم يكن عن بغض Q هل كان الزبير يحارب علياً بغضاً له؟ A لا، ما وجد أي شيء يدل على أن الزبير كان يبغض علياً أو أن علياً كان يبغض الزبير أثناء القتال، إنما خرج الزبير رضي الله عنه في بداية أمره للإصلاح مع طلحة، ولكن ذلك كان شاهدي في إيراد القتال الذي دار بين الأحبة، والله أعلم.

تفسير سورة الصف [1]

تفسير سورة الصف [1] إن الإسلام مذ نشأ كانت نشأته على أساس صلب من تلاحم الصفوف ووحدة الكلمة ورصِّ الصف أمام الأعداء، وهذا هو ما دعت إليه سورة الصف في بدايتها وأثنائها، وما تتجرعه الأمة الآن من الغصص والآلام إنما هو نتيجة محتمة ناتجة عن واقعها المر من الفرقة والشتات حتى على مستوى الجماعات العاملة في الساحة؛ ولا عزة ولا تمكين إلا بأن يكون الكل بنياناً مرصوصاً أنصاراً لدين الله عز وجل على أرض الواقع.

ذم الله تعالى لمن يقول ما لا يفعل

ذم الله تعالى لمن يقول ما لا يفعل باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: سورة الصف من السور المدنية، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الصف:1] ، أي: نزه الله سبحانه وتعالى كل من في السموات ومن في الأرض، وعظمه سبحانه وتعالى، وهو العزيز الذي قهر، وغلب كل شيء، الحكيم في فعله وخلقه وتدبيره، كل شيء في السموات والأرض نزه الله عن كل نقص وعيب وضعف، ونزه الله عن كل مولود، وعن الوالد والزوجة والشريك كذلك. ثم هنا عتاب لأهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] ، يا من آمنتم بي، وصدقتم برسلي، وأقررتم بكتبي! (لم تقولون ما لا تفعلون) ، {كَبُرَ مَقْتًا} ، وكبر: أي عظم، والمقت: هو أشد البغض. {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] ، وقد تضافرت النصوص على هذا المعنى، وذم كل من قال ولم يفعل، بل وتذم المتشبع بما لم يعط، والذي يحب أن يحمد بما لم يفعل، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] ، وقال شعيب صلى الله عليه وسلم لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل من أهل النار يوم القيامة، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه -أي: تخرج أمعاؤه من بطنه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه- فيطيف به أهل النار ويكونون من حوله، ثم يسألونه: يا فلان! ما لك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: بلى، ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) . وقد تضافرت أيضاً أشعار العرب في ذم من هذه سبيله وطريقه، فقد قال الشاعر: ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم والأشعار في هذا الباب كثيرة. فنصوص الكتاب ونصوص السنة المطهرة وأقوال الأفاضل والعلماء كلها تذم من قال قولاً ولم يعمل به، بل وتذم -كما سمعتم- من تشبع بما لم يعط، قال الله سبحانه: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) . قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُو} [الصف:2-3] ، ما هو الشيء الذي تكلم به المؤمنون ولم يفعلوه حتى عوتبوا بهذه الآية الكريمة؟ ما هو الشيء الذي من أجله عوتب المؤمنون هذا العتاب بقوله سبحانه لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا} اشتد غضب الله وعظم بغضه سبحانه وتعالى لمن قال ما لم يفعل؟ قال فريق من أهل العلم: إن هذا الشيء هو تمنيهم فرض الجهاد، وتمنيهم الإذن به، فلما أذن لهم في القتال وأذن لهم بالجهاد فر كثير منهم، كما قال سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} [محمد:20] أي: سورة فيها إذن لنا بالقتال، {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:20-21] ، فكان منهم من تمنى أن يؤذن له بالجهاد، فلما أمروا بالقتال تولوا، كما حكى تعالى قول طائفة من أهل الإيمان: {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20-21] . وقال الله سبحانه أيضاً في هذا المعنى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] أي: لا تنتصروا ممن ظلمكم، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:77-78] . وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآية الأخيرة نزلت في عبد الرحمن بن عوف مع أصحاب له، أوذوا في الإسلام فقالوا: لم لم يؤذن لنا في الانتصار ممن ظلمنا، وقد كنا أعزة في الجاهلية -أي: لم يكن أحد ينال منا في الجاهلية- فلما أسلمنا أصبحنا أذلة؟ فلما فرض عليهم القتال، نكلوا عنه أو نكل فريق منهم عنه، فنزل قول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا} [النساء:77] . وكذلك قال الله سبحانه وتعالى في شأن بعض أهل المدينة يوم الأحزاب: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15] ، وقد كان فريق منهم عاهد الله ألاَّ يولي الأدبار، فلما جاءهم الأحزاب يوم الأحزاب قالت طائفة منهم: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13] . فهذه النصوص مجتمعة تبين أن العتاب في قوله سبحانه: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3] منصب بالدرجة الأولى على الذين تمنوا الإذن في الجهاد، أو تمنوا فرض القتال، فلما فرض نكلوا عنه وقصروا فيه، وإن كان عموم الآية يخرجها إلى كل من قال ما لم يفعل. ويؤخذ من هذا: أن الشخص لا يشرع له أن يتمنى البلاء، فقد يبتلى ولا يقدر عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما أخرجه أبو داود بسند صحيح: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) ، فلا يجوز لك أن تتمنى مزيداً من البلاء، فإن الله قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] ، فإذا فعلت ما أمرت به ولم تطلب المزيد كان في هذا خير لك وتثبيت، وكذلك قال تعالى في الآية المشابهة: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:21] أولى لك من أن تتمنى أشياء هي فوق طاقتك {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21] ، فلا يشرع لك أن تتمنى البلاء، ولا يشرع لك أن تتمنى الفتن، فرسولنا يقول في دعائه المأثور: (اللهم! إذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) . فلا تدري ما تؤول إليه الفتنة معك، هل تصبر أمامها أم تضعف وترتد على الأدبار، والعياذ بالله. ولا تنافي بين هذا وبين تمني الشهادة في سبيل الله، فتمني الشهادة في سبيل الله محمود ومرغب فيه، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ، فتمني الشهادة مشروع للرجال وللنساء، فقد تمنت أم حرام بنت ملحان الشهادة في سبيل الله، وعندما ذكر النبي الغزاة الذين يركبون ثبج البحر الأخضر، قالت: (ادع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله! قال: أنت منهم) ، فكان مآلها إلى الشهادة في سبيل الله.

تفسير قوله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً) ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] ، جمهور المفسرين على تأويل هذه الآية على ظاهرها، أي: أن الله يحب من المؤمنين إذا هم قاتلوا عدوهم أن يكونوا صفوفاً متلاحمة متماسكة حتى لا يخترقهم عدو. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي: صفاً واحداً متلاحماً حتى لا يخترقهم العدو، هذا رأي أكثر المفسرين، لكن مع هذا الرأي وقفات، وآراء أخر لأهل التفسير؛ إذ الحروب تختلف في طرقها، والكر والفر أثناء القتال يستدعي مخالفة الصف، ويستدعي التقدم أو التأخر، أو الاحتيال من أجل لقاء العدو، فربنا سبحانه يقول في كتابه الكريم: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121] فقوله سبحانه: (وإذ غدوت) أي: خرجت في الغداة، (من أهلك) أي: من عند أهلك، وهي عائشة رضي الله عنها كما في التفسير والأحاديث، (تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) أي: تنزل المقاتلين منازلهم. فهل يلزم هذا الآن في صور القتال التي تختلف عن تلك الصور التي كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ صور القتال على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تتمثل في الضرب بالسيوف، والرمي بالسهام، والاتقاء بالدروع، ونحو ذلك، وهذه لا تتلاءم الآن مع أنظمة الحروب كما أسلفنا، فالكر والفر يستدعي أن تتقدم أو تتأخر. وبعض المفسرين حملوا الآية على عموم الوحدة والتآلف بين المؤمنين، التآلف القلبي والتآلف الظاهري، وعلى الوحدة القلبية والوحدة الفكرية، والسمع والطاعة للإمام، وعدم الخروج عليه أثناء القتال. فثم أقوام تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى! كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن أهل الكتاب: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] أي: تحسبهم في الظاهر مجتمعين على قلب رجل واحد، ولكن قلوبهم متفرقة. والشاهد: أن من المفسرين من قال -وهو قول قوي في غاية القوة- المراد: التلاحم والتآلف بين القلوب، مع ما يترتب عليه من امتثال الأوامر الظاهرة حين يضعهم الإمام ويرتبهم، كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل، حيث كان ينزل الرماة منازلهم ويبوئ المؤمنين أماكنهم للقتال.

تفرق المسلمين في الوقت الحاضر

تفرق المسلمين في الوقت الحاضر تفشت إلينا في أزماننا هذه بدع ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان، وتحزبات وجماعات شتت المسلمين، وفرقت شملهم؛ فتجد في المدينة الواحدة مائة جماعة، هذه جماعة الإخوان المسلمين، وتلك جماعة السلفيين، وتلك جماعة الجهاد، وتلك الجماعة الإسلامية، وتلك الجمعية الشرعية، وهذه التكفير والهجرة، أسماء ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان، ونحن من هذا الموقع نظهر ديننا، وندعو إخواننا إلى ما دعانا إليه ربنا. اسمعوا -يا مسلمون- لسنا منتظمين مع أي جماعة من الجماعات على الإطلاق، المسلمون كلهم لنا إخوة كما قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات:10] نتعاون مع كل مسلم في حدود استطاعتنا، وفيما يقره شرعنا، وهذه المسميات أورثت تعصبات وحزبيات وعداوات لا حصر لها، يأتي العالم ممن ليس في جماعتك فلا تحضر له درساً، ولا تسمع منه آية ولا حديثاً، ثم يأتي عالم أو جاهل من جماعتك ومن حزبك فتقوم له وتقعد، وتدعو إليه القاصي والداني، وهذا ليس من الإنصاف في شيء، فربنا أمرنا أن نكون كما قال: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135] . إمارات شتت المسلمين وفرقت جمعهم، وكل يدعي أن عمله الجماعي دعا إليه الإسلام، حقاً العمل الجماعي دعا إليه الإسلام، ولكن أي جماعة هي؟ إنها الجماعة العامة للمسلمين، ليست جماعة ولا حزباً يضحك عليه ويأمرِّ عليه أميراً، ويبدأ العمل السري الذي هو أخطبوط لا تدري ما مصدره ولا منتهاه. صحيح أن العمل الجماعي مستحب، ولكن بين عموم المسلمين، والعمل الجماعي ليس محصوراً في فئة يضحك عليها شخص أنه أمير لها، ويأتي حدث من الأحداث يعين أميراً للدقهلية، أو أميراً للغربية، ويفرح بالإمارة ويبدأ في تجميع الناس حوله. أصبحت هذه بدع بالية والحمد لله، طغت عليها كلها أقوال سلفنا الصالح من أصحاب رسول الله، ومن التابعين لهم وأتباع التابعين. وقد كان سبب ذهاب دولة الأندلس ومطالعه وبشائره السيئة هذه الفرقة التي حدثت في بلاد المسلمين الآن، جماعات متعددة، الكل يتناحر، والكل يغتاب الآخر، والكل بعيد عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فدعوة -معشر الإخوة- إلى الالتمام والانطواء تحت كتاب الله وسنة رسول الله، والسير على ما سار عليه أصحاب نبينا، وأتباع نبينا؛ إذ هم خير القرون، قال عليه الصلاة والسلام (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب) كما قال الرسول عليه أفضل صلاة وأتم تسليم. وإنه لعجب أن يتجه أقوام إلى دينهم، يخرجون من الجاهلية، ومن لوث المعاصي، ويبتدئون في الاتجاه إلى الدين، وإذا بالأنياب تختطفهم، هذا يريدهم مع الإخوان المسلمين، وهذا يريدهم مع الجهاد، وهذا يريدهم مع التنظيم السلفي، وهذا يريدهم مع أنصار السنة! أشياء تشتت على الشخص فكره، وتشعب على المبتدئ فكره وعقله، ومن الذي يعلم الناس كتاب الله؟ ومن الذي يعلمهم سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فمعشر الإخوة! رجعة إلى أصحاب رسول الله، ورجعة إلى منهج أصحاب رسول الله. ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حدثت بينه وبين ابن الزبير خلافات، فحواها وسببها: أن ابن الزبير لما مات معاوية، وولي ابنه يزيد الخلافة عن غير إمرة شرعية حقيقية، بل كانت سنة غير متبعة، حينها بويع لـ ابن الزبير من أهل مكة، ومن أهل الحجاز قاطبة، ومن أهل العراق، ومن عدة دول، وامتنع عليه أهل الشام في طائفة، فجيء لـ ابن عباس كي يبايع، فقال: لا أبايع حتى يجتمع المسلمون كلهم على إمام واحد، وانضم إلى ابن عباس في هذه الوقفة محمد بن الحنفية العالم الحبر الكريم ابن علي بن أبي طالب، وكان مآلهما إلى أن أخرجا وأبعدا إلى الطائف رحمة الله ورضوانه عليهما. الشاهد: أن ابن عباس لم يرض أن ينطوي تحت لواء إلا إذا اجتمع المسلمون كلهم على هذا اللواء. ثم يأتي من يشغب بأحاديث يفهمها للناس على غير وجهها، يشعب عليهم بحديث الرسول (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ، وهذا التشغيب مرفوض، فما هي البيعة؟ هل يصح أن آخذ ثلاثة أو أربعة، أو مائة أو ألفاً، وأخدعهم وأقول لهم: أنا أميركم بايعوني وإلا فستموتون ميتة جاهلية؟ من الذي قال ذلك؟ الإمام أحمد روي أنه قال في شرحه لهذا الحديث: هذا في الإمام الذي يجتمع عليه المسلمون، ويشار إليه بالأصابع. أما التشعبات والتفرقات فقد قال فيها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) ، فمن هو الخليفة الآن؟ إنها أصبحت فوضى، كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث حذيفة بن اليمان إذ قال له: (فماذا تأمرني يا رسول الله؟ قال: اعتزل تلك الفرق، ولو أن تعض على أصل شجرة) ، لكن العلماء يضبطون هذا الحديث: اعتزلهم في الشر، وشاركهم في الخير، شارك المسلمين في جنائزهم، شاركهم في أعمال البر التي يقومون بها، ولا تحكر نفسك على جماعة بعينها، كتاب الله ليس فيه أن جماعة باسمها يجب أن تتبع دون غيرها، سنة رسول الله بين أيدينا هي الحكم على القاصي والداني، إن زلت قدم شخص كائناً من كان أو وقع في شيء من هذه الأمور فإنه لا يتبع، هذا الله قد وطأ لذلك بفعل الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما استغفر لأبيه، فقال الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] . أيها الإخوة! مضت عهود البدع والخرافات، والضحك على الشباب، والضحك على الأخوات، مضت هذه العهود بما فيها، أيام كان الجهل فيها يغطي على الأفئدة، والآن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهرة للجميع، الكل لنا إخوان مسلمون، الكل إخواننا في الله، نحبهم بقدر ما فيهم من صلاح، ولا نحمد فيهم خصالهم السيئة، كذلك جعلنا ربنا أمة وسطاً. قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] .

إثبات صفة المحبة لله تعالى

إثبات صفة المحبة لله تعالى في قوله سبحانه: (يحب) إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، وقد نفاها قوم وأولها آخرون، وليس هذا التأويل بمقبول، فصفة المحبة لله ثابتة في جملة مواطن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: ياجبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء ... ) . الشاهد: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل) ، فصفة المحبة ثابتة لله بنصوص الكتاب ونصوص السنة، وكذلك صفة البغض. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] . أي: في تشابكهم واجتماعهم وتآلفهم، كما في الحديث (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (المؤمن للمؤمن) تعميم للأخوة، قال سبحانه: {كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} .

النصوص الدالة على وجوب وحدة الصف

النصوص الدالة على وجوب وحدة الصف إذاً: فيلزمنا نحن كمسلمين أن نكون على قلب رجل واحد، لا مسلمو مصر فحسب بل مسلمو العالم أجمع، وقد جاءت نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا، إذاً: لابد هنا من وقفة: فقد جاءت نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وجاءت آيات الكتاب العزيز تحث على الوحدة بين عموم المسلمين، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تسموا بما سماكم الله، هو سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله) . وحذرنا ربنا سبحانه وتعالى من التفرق والاختلاف في جملة آيات، قال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوه} [آل عمران:105] ، وقال سبحانه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] . وقال صلوات الله وسلامه عليه: (عليكم بالجماعة! فإن يد الله مع الجماعة) وأي جماعة هي المرادة؟ هي جماعة المسلمين العامة؛ إذ لم تكن ثم أحزاب ولا تكتلات على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة) المراد به جماعة المسلمين العامة، التي ينطوي تحتها كل مسلم، هذا معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ -كما أسلفنا- لم تكن الأحزاب، ولا التكتلات، ولا العصبيات، ولا القوميات موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صلوات الله وسلامه عليه (الجماعة رحمة، والفرقة عذاب) ، أي جماعة هي الرحمة؟ هي جماعة المسلمين العامة؛ إذ لم ينص في الكتاب العزيز ولا في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام على جماعة بعينها، إذ لم تكن -كما أسلفنا- هناك تحزبات ولا تكتلات على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

ذم الرسول للنعرات الجاهلية

ذم الرسول للنعرات الجاهلية أثيرت نعرة من النعرات الجاهلية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من حملة هذه النعرة قوم مسلمون، مع أنها نعرة تنادي بأسماء أثنى الله عليها، لكنها لما كانت تنطوي على بث للفرقة والخلاف بين المسلمين وصفها الرسول بالنتن، كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في سفر، فاختلف مهاجري مع أنصاري، فكسع المهاجري الأنصاري، فنادى الإنصاري: يا للأنصار! فاجتمع إليه قومه، ونادى المهاجري: يا للمهاجرين! فاجتمع إليه قومه، فتضاربوا فيما بينهم بالجريد والنعال، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة) . مع أن هذا الشعار الذي رفع: يا للأنصار! وقد أثنى الله عليهم في جملة مواطن، والمهاجرون أيضاً أثنى عليهم الله في جملة مواطن، لكن لما ولَّد هذا الشعار المرفوع فرقة واختلافاً بين المسلمين شجبه الرسول صلى الله عليه وسلم وذمه أيما ذم، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنتن بقوله: (دعوها فإنها منتنة) ، وكان من الذين أججوا شعار هذه الفتنة عبد الله بن أبي بن سلول؛ إذ قال لما رأى هذا الموقف المختلف: أو قد فعلوها؟ -يعني: المهاجرين- لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فنزل قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] ، فأصول ديننا كلها تدعونا إلى الاجتماع تحت اسم واحد، هو اسم الإسلام، ومسمى المسلمين، هذه نصوص كتاب الله كلها تنطق بذلك: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْل} [الحج:78] (هو) : راجعة إلى من؟ قال كثير من أهل التأويل: إن (هو) راجعة إلى الله سبحانه، أي: الله الذي سمانا المسلمين، ويدل عليه حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، عن الحارث الأشعري مرفوعاً: (تسموا بما سماكم الله به، هو سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله) .

حرص الكفار على تفريق المسلمين

حرص الكفار على تفريق المسلمين لما شعر أعداء الله بأن في اتحاد المسلمين قوة لهم كما لا يخفى، مزقوهم إرباً، مزقوهم إلى قوميات، واشتعلت في تركيا جماعة تركيا الفتاة التي تبث القومية التركية في تركيا، وتفصلها عن الإسلام، واشتعلت في بلاد العرب ما يقاوم القومية التركية، وهي القومية العربية؛ ففضلوا العربي النصراني على التركي المسلم، وتقسموا إلى دويلات كل دويلة ترفع شعارها الجاهلي، فمصر ترفع الشعار الفرعوني، والعراق ترفع الشعار البابلي كل حزب بما لديهم فرحون، كما قال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] . ولم يقف الأمر إلى هذا الحد، بل المذاهب أيضاً التي يفترض فيها جميعها أن يكون منطلقها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الفتيا ثم أقوال الصحابة تعصب لها أهلها غاية التعصب، تعصب الشافعية في أوقات للمذهب الشافعي أيما تعصب، وتعصب الأحناف للمذهب الحنفي أيما تعصب، وكذلك الحنابلة، وكذلك المالكية، حتى صدرت جملة من الفتاوى تحرم على بعض أهل المذاهب الزواج من المذهب الآخر، وقد شكى من هذا الصنعاني رحمه الله تعالى صاحب كتاب سبل السلام وهو ابن الأمير الهاشمي المشهور، وذكر رحمه الله تعالى أبيات شعر يتوجع فيها غاية التوجع من أهل زمانه الذين ناصبوه العداء، لا لذنب اقترفه، ولا لإثم ارتكبه، إلا لكونه متبعاً للدليل الوارد من الكتاب والسنة فقال -رحمه الله تعالى- ناعياً على قومه، وناعياً أيضاً على أقربائه من آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام الذين تعصبوا للمذهب الزيدي، قال فيهم وفي غيرهم من المتعصبة الذين نبذوا الأدلة وراء ظهورهم: وأقبح من كل ابتداع رأيته وأنكاه من قلب المولع بالرشد مذاهب من رام الخلاف لبعضها يعض بأنياب الأساود والأسد فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ويرميه أهل النصب بالرفض والجد وليس له ذنب سوى أنه غدا يتابع قول الله في الحل والعقد فإن كان هذا ذنب فحبذا به ذنب يوم ألقاه في لحدي وفي ثناياها أبيات أخر سقطت: يصب عليه سوط ذم وغيبة ليجفوه من قد كان يهواه عن عمد الكل يصب عليه سياط الاغتياب، والقيل والقال، والكذب والافتراء، حتى يرفضه الآخرون وينبذونه. وتوجع آخر فقال: إن يسألوا عن مذهبي لم أبح به وأكتمه وكتمانه لي أسلم ونحن لا نوافقه على مسألة الكتمان تلك، قال: إن يسألوا عن مذهبي لم أبح به وأكتمه وكتمانه لي أسلم فإن حنفياً قلت قالوا بأنني أبيح الطلا وهو الشراب المحرم وإن مالكياً قلت قالوا بأنني أبيح لهم لحم الكلاب وهم هم وإن شافعياً قلت قالوا بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم وإن حنبلياً قلت قالوا بأنني ثقيل بغيض حلولي مجسم وإن قلت من أهل الحديث وحزبه قالوا تيس ليس يدري ويفهم عجبت من هذا الزمان وأهله فمن ذا الذي من ألسن الناس يسلم

الجماعة المأمور بلزومها في النصوص

الجماعة المأمور بلزومها في النصوص إن الجماعة العامة التي نادانا الله بها، وطالبنا الله بالانضمام تحتها هي جماعة المسلمين العامة، ليس إلا ذلك، ومن عارض فهذا كتاب الله بين أيدينا، وتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، هما حكم على الجميع، والأدلة كلها تحث على الوحدة بين المسلمين جميعاً، والمسلم يحب بقدر ما فيه من طاعة، ويبغض بقدر ما فيه من معصية. ولكن شاء الله سبحانه -ولا راد لقضائه-: أن تتفتت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتتفرق إلى شيع وأحزاب، كما تفرق من كان قبلها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثاً؛ فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته ألا يجعل بأس أمتي بينها فمنعنيها) ، ولما نزل قول الله جل ذكره: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك! ولما قال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك! ولما قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] قال النبي عليه الصلاة والسلام: هذه أهون!) . فشاء الله أن يقتل بعض أمة محمد بعضاً، وأن يسبي بعضهم بعضاً، وأن يغير بعضهم على بعض، حكمة الله وسنة الله تعالى في خلقه، ولكن ليس لنا مخرج إلا الاجتماع تحت كتاب ربنا وسنة نبينا، والتآلف مع عموم المسلمين.

إيذاء بني إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام

إيذاء بني إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام قال الله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} [الصف:5] إذ موسى عليه السلام من الإسرائيلين، وقومه هم بنو إسرائيل، ويرجع نسبهم إلى يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا فائدة وهي: أن تلين في الخطاب مع أهلك وأقاربك: يا أحبابي! يا أقاربي! يا قومي! {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ} [الصف:5] (قد) : هنا للتحقيق وللتأكيد، أي: وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم، أي: مع علمكم برسالتي.

صور من إيذاء بني إسرائيل لموسى

صور من إيذاء بني إسرائيل لموسى {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} ، ما هي صورة إيذاء الإسرائيليين لموسى صلى الله عليه وسلم؟ آذوه عليه الصلاة والسلام في رسالته، وآذوه عليه الصلاة والسلام في عرضه، وآذوه عليه الصلاة والسلام في خلقه. فآذوه في رسالته بقولهم: {جْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] ، وآذوه في رسالته بقولهم كذلك: {هَذَا إِلَهُكُمْ} [طه:88] لما تبعوا السامري على عبادة العجل، وآذوه في رسالته بقولهم كذلك: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة} [البقرة:55] ، وآذوه في رسالته بجملة من الأمور في الدين. وفي العرض كذلك، فمنهم من اتهمه بأنه قتل هارون! وأنه زنا بامرأة! وفي خلقه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن موسى النبي كان رجلاً حيياً، فكان يستحي أن يغتسل عرياناً، فقال الإسرائيليون: ما يمنع موسى من الاغتسال عرياناً إلا أن بجسمه أُدره -يعنون أن إحدى خصيتيه أعظم من الأخرى- لذلك يمتنع عن الاغتسال أمامنا عرياناً، فالله سبحانه وتعالى أراد لتبرئته فذهب يغتسل وأبعد، واستتر بحجر ووضع ثيابه عليها، فشاء الله -والله على كل شيء قدير- أن تفر الصخرة بثياب موسى ومعه العصا، فجرى وراء الحجر يضربه ويقول: ثوبي يا حجر! ثوبي يا حجر! حتى رآه الإسرائيليون على أكمل خلق، وعلى أتم خلق، وعلى أجمل خلق، ففيه يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] ، هكذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما العقلانيون، والأصح ألا يقال عنهم: العقلانيون، بل هم أهل الجهل والغباء، الذين جهلوا قدرة ربهم سبحانه وتعالى، وللأسف تبعهم فريق من الكتّاب الذين كتبوا في الدين وفي الإسلام مقالات؛ إذ أنكروا كل ما لا تتصوره عقولهم، فحكموا ظلماً وعدواناً وكذباً وزوراً وبهتاناً على هذا الحديث بالضعف، لا لشيء في إسناده، ولكن قالوا: كيف يفر الحجر؟! وهذا منهم عجيب! عجيب جهلهم بقدرة الله سبحانه الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون! ألم يجعل ربنا سبحانه النار برداً وسلاماً على إبراهيم؟ ألم يجعل ربنا سبحانه الجبال تأوب مع داود عليه الصلاة والسلام، ويلين لداود الحديد عليه الصلاة والسلام؟ فالجهل بالله وبقدرة الله هو الذي حملهم على هذا الغباء، وهو الذي حملهم على هذا النفي. الشاهد: أن هذه إحدى صور الإيذاء التي آذى بها الإسرائيليون نبي الله موسى صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم.

فقه خطاب المدعوين

فقه خطاب المدعوين قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} [الصف:5] ، يخاطبهم بالرابطة التي تربطه بهم: يا ابن عمي، يا ابن أمي، وهذا من أسلوب الدعوة النافع، أنك تهيج صلات الربط بينك وبين الناس، تذهب لابن عمك: يا ابن عمي، فحينئذ يلين لك، وهذا المنطق والمنطلق استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال لقومه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: القربى التي بيني وبينكم، راعوا هذه القربى، واعملوا لهذه القربى حساباً، لا أريد منكم أجراً، ولكن كفوا عني أذاكم فأنا قريب لكم، فهذه العاطفة تلين الخصم الذي أمامك، تلينه كي يرجع إلى طريق الله سبحانه وتعالى، فلتُستعمل في دعوتنا لأقاربنا وقد قال هارون لموسى: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] . قال الله جل ذكره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ} [الصف:5] ، و (قد) : هنا ليست للتقليل ولا للتقريب ولكنها للتحقيق، أي: وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم، فهم كانوا يقرون برسالة موسى؛ إذ أنجاهم الله على يديه، وأغرق الله عدوهم أمام أعينهم على يد موسى صلى الله عليه وسلم، فشهادتهم له بالرسالة كائنة وثابتة. ((وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) يعني: هم لم يكونوا في شك من رسالة موسى صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (والله لا يهدي القوم الفاسقين)

معنى قوله تعالى: (والله لا يهدي القوم الفاسقين) قال الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، إن قال قائل: ما المراد بالهداية هنا؟ قلنا: الهداية هنا هداية التوفيق، فالله سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية الدلالة {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] ، فالمراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، أي: لا يوفق القوم الفاسقين. يأتي سؤال آخر: كيف لا يوفق ربنا الفاسقين وقد آمن قوم من أهل الكفر والظلم؟ فكيف يقال: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] ؟ فالإجابة: أن المراد بالفاسقين هنا: الفاسقون الذين سبق في علم الله أنهم يموتون على الكفر والفسق، فهؤلاء كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96-97] ، فالمسلك هنا كالمسلك في: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264] ، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] ، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] ، كلها على هذه الوتيرة عند أكثر المفسرين، يحملون (الفاسقين) هنا على من سبق في علم الله أنهم سيموتون على الفسق والكفر، هؤلاء لا يهديهم الله سبحانه ولا يوفقهم. والفسق أنواع: يأتي بمعنى الكفر ويأتي دون ذلك، قال الله سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ، فالفسق هنا الكفر، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) ؛ فسباب المسلم ليس بكفر مخرج عن الملة، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ؛ فالفسق هنا دون الكفر، وإسنادها ثابت بلا شك، وقد نزلت في رجال مسلمين، وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ، نزلت أيضاً في رجل مسلم، والحديث حسن بمجموع طرقه. وهذا من قواعد أهل السنة كما تقدم تقريره مراراً: أن هناك فسق دون فسق، وكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، ونفاق عمل، ونفاق اعتقاد، وشرك أكبر، وشرك أصغر، وهذه كلها أصول يسار عليها في تقرير المسائل والأحكام، فليس حديث: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر) ينسحب عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] ، ليست الآية منسحبة على مثل هذا؛ لأن ربنا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فهي أصول لابد أن تفهم، إذ بها جمع أهل السنة والجماعة بين مئات من الأدلة التي ظواهرها التعارض، وبين مئات من المسائل التي أشكلت على كثير من الفرق، فوقعت بسببها إما في الإرجاء، وإما في الرفض، وإما في بدعة الخوارج، وإما في بدعة النصب عياذاً بالله من ذلك كله! وصلى الله على نبينا محمد وسلم.

مجازاة الله للعبد بما يستحق

مجازاة الله للعبد بما يستحق قال الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، فهنا كما يقول الناس: معادلة، زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، تسببوا لأنفسهم في زيغ فأزاغهم الله، سلكوا طريق الزيغ فأزاغهم الله كما قال الله: {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة:127] ، {ُثمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم:10] . فالشخص إذا سلك طريق الزيغ أزاغه الله، وإذا سلك طريق الهداية هداه الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، فإذا سلكت طريق الشر ذلل لك، وإذا سلكت طريق الخير يسره الله سبحانه وتعالى لك، وعلى ذلك جملة من النصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة:127] ، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] ، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ، فإذا سلكت طريق الخير أعانك الله سبحانه وتعالى على المضي فيه، وإذا سلكت طريق الشر والعياذ بالله، نالك منه كبير حظ ووفير نصيب.

تفسير سورة الصف [2]

تفسير سورة الصف [2] حكى الله في هذه السورة موجز ما حدث لاثنين من أولي العزم من الرسل عليهم السلام، وهم موسى وعيسى؛ فموسى أوذي وعيسى بلغ بقومه الطغيان إلى أن تجرءوا على قتله فرفعه الله إليه، وهكذا هم بنو إسرائيل قتلة للأنبياء وعبدة للطاغوت، ولكن البشرى لأهل الإيمان بنصرة الله تعالى، وقد كان لنا مثل في عيسى مع الحواريين لما نصروا الله فأيدهم على عدوهم وأصبحوا ظاهرين، وهكذا هي العقبى لأهل الإيمان في كل زمان ومع كل نبي إن هم صبروا ونصروا.

معاناة موسى من قومه وأذيتهم له

معاناة موسى من قومه وأذيتهم له الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] . في قول موسى عليه الصلاة والسلام: {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} ، خطاب لقومه؛ فموسى صلى الله عليه وسلم إسرائيلي النسب، أي: ينتهي نسبه إلى إسرائيل وهو يعقوب عليه الصلاة والسلام، فيعقوب صلى الله عليه وسلم هو إسرائيل، وهو المذكور في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93] ، فإسرائيل هو يعقوب عليه الصلاة والسلام، وبنوه كانوا من المفضلين على العالمين، كما قال الله جل ذكره في شأن بني إسرائيل -وهم أولاد يعقوب وذريته-: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] ، وقال سبحانه: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] ، فكانت هذه القبيلة التي هي سلالة وذرية إسرائيل عليه الصلاة والسلام أفضل الأمم في زمانها بنص الكتاب العزيز: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . قال موسى عليه الصلاة والسلام لقومه: {يَا قَوْمِ} فهم قبيلته. {لِمَ تُؤْذُونَنِي} ، وقد تقدم أن الأذى كان أذى في العقيدة، وأذى شخصياً أيضاً، فاجتمع له أذى في شخصه، وأذى في صلب الدين، كما في قولهم: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] ، وكما في قولهم في شأن العجل: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] ، وكانوا يؤذونه في عموم الدين عليه الصلاة والسلام كما ذكر الله سبحانه وتعالى في جملة مواطن إذ قالوا لموسى: {َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] . وآذوه أيضاً في شخصه فاتهموه باتهامات ذكرها المفسرون، منها: أنهم اتهموه بعدم كمال الخَلق في جسده، فقالوا: إنه آدر، أي: عظيم الخصية، واتهموه أيضاً بأنه زنا بامرأة أرسلها له قارون كما في بعض الآثار، واتهموه بأنه هو الذي قتل هارون عليهما السلام. فيقول لهم: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُون} و (قد) هنا للتحقيق، فهم يعلمون أنه رسول الله إليهم؛ إذ أنجاهم الله على يديه من فرعون. وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، أي: لما سلكوا طريق الزيغ سُهل لهم هذا الطريق، وقد تقدمت المباحث في هذا، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل.) قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6] . إن قال قائل: لماذا قال موسى: يا قوم، وقال عيسى: يا بني إسرائيل؟ فالإجابة واضحة: لأن عيسى لم يكن من بني إسرائيل، فهو عليه السلام ولد من غير أب صلى الله عليه وسلم، أما موسى عليه الصلاة والسلام فهو إسرائيلي كما أسلفنا.

اتهام بني إسرائيل لعيسى بالسحر

اتهام بني إسرائيل لعيسى بالسحر يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الصف:6] أي: بالحجج الدالة على صدقه ونبوته. وتفسير هذه البينات كما قال تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49] . {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا} قالوا: مقالة الكافرين السابقين للأنبياء، ومقالة الكافرين اللاحقين للأنبياء، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} . كما قال الله سبحانه: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] ، وكما قال تعالى في شأن موسى وهارون وقومهما: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48] .

أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام

أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام اسم الرسول صلى الله عليه وسلم محمد، والآية تقول: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} ، فكيف يدفع الإشكال بين هذا وذاك؟ أمثل ما قيل في هذا لدفع الإشكال: هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر، وأنا العاقب) ، فقد ذكر الله سبحانه نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام في كتابه العزيز باسم محمد وباسم أحمد، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] . وأحمد: من الحمد، أي: أحمد الناس لربهم، وأكثرهم حمداً لربهم هو عليه الصلاة والسلام محمد. ومحمد بمعنى: محمود يحمده غيره، فتحمده الملائكة في الملأ الأعلى، ويحمده من آمن به عليه الصلاة والسلام، فالمادة واحدة، فأحمد من: أحمد الناس لربهم سبحانه، ومحمد من: المحمود، وهو المحمود ممن آمن به، ومحمود من ملائكة الله عليهم السلام. فلا إشكال؛ فأحمد هو محمد كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وكما قال ربنا سبحانه.

من أحكام الأسماء في الشرع

من أحكام الأسماء في الشرع وقول عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} نحتاج إلى وقفة تتعلق بالأسماء، فللأسماء فقه متسع، ولا يسوغ لك أن تسمي كما تشاء، بل لزاماً عليك كمسلم أن تتقيد بالقيود الشرعية التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأسماء. فالأسماء منها أسماء مستحبة، ومنها أسماء مكروهة، ومنها أسماء محرمة لا يحل لك أن تتسمى بها ولا أن تسمي أبناءك بها. وابتداءً التسمية من حق الأب، ولكن اتفاق الأب مع الأم على الاسم فيه اتساع، هذا شيء. ومتى يسمى الطفل؟ يجوز أن تسميه فور ولادته، ويجوز أن تسميه في اليوم السابع، ويجوز أن تسميه بعد ذلك، ويجوز أن تسميه قبل أن يولد. أما التسمية قبل أن يولد: فإن الله سبحانه وتعالى قال لزكريا عليه السلام: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم:7] ، وقال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:71-72] فكانت البشارة بإسحاق وبيعقوب عليهما السلام قبل أن يولد إسحاق وقبل أن يولد يعقوب، وكانت تسمية يحيى قبل أن يولد يحيى عليه السلام. أما التسمية فور الولادة فلقول النبي صلى الله عليه وسلم (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام) ، وكذلك قال أبو موسى رضي الله عنه: (ولد لي غلام فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله) . وكذلك تجوز التسمية في اليوم السابع لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (كل غلام مرتهن بعقيقته، تعق عنه يوم سابعه، ويسمى) وقد روي هذا الحديث بلفظ: (ويدمى) ، وهو خطأ، والصواب: (ويسمى) أي: ويسمى يوم سابعه، والأمر في هذا واسع. والأسماء كما أسلفنا منها المستحب، ومنها المحرم، ومنها المكروه. والأسماء المستحبة تنقسم إلى الآتي: القسم الأول: أحبها على الإطلاق: وهي ما أخرجه مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن) ، وقد ورد في غير مسلم زيادة: (وأصدقها الحارث وهمام) ، والتحرير يقتضي أن هذه الزيادة ضعيفة، وقد حسنها بعض أهل العلم لكونها مما لا يتعلق بالأحكام، لكن التحرير أن زيادة: (وأصدقها الحارث وهمام) متكلم فيها. أما الثابت فهو ما في صحيح مسلم: (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن) ، فهذان هما أحب الأسماء إلى الله على الإطلاق. القسم الثاني: كل ما عُبِّد لله سبحانه فهو مستحب، مثل: عبد الرحيم، عبد الكريم، عبد العظيم، ونحو ذلك. أما حديث: (خير الأسماء ما عُبِّد وما حمد) ؛ فحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. القسم الثالث: أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالتسمي بأسماء الأنبياء مستحب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولد لي الليلة غلام؛ فسميته باسم أبي إبراهيم عليه السلام) . وقد ورد حديث بلفظ: (تسموا بأسماء الأنبياء) ، وهو بهذا اللفظ متكلم فيه، والراجح عدم ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنما يؤيد التسمي بأسماء الأنبياء قوله عليه الصلاة والسلام: (تسموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي) ، فحث عليه الصلاة والسلام على التسمي بمحمد، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن شأن مريم فهي ابنة عمران، وموسى هو ابن عمران، ومريم أخت هارون، وموسى هو أخٌ لهارون، فكيف يلتئم هذا مع البون الشاسع والزمن البعيد بينهما؟ فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنهم كانوا يتسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين منهم) ، فكان اسم عمران من أسماء الصالحين في بني إسرائيل، وكان اسم هارون من أسماء الصالحين من بني إسرائيل، فيستحب التسمي بأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويستحب كذلك التسمي بأسماء الشهداء وأهل الفضل، فإن الشخص يحن إلى من تسمى باسمه. القسم الرابع: تستحب التسمية بالأسماء ذات المعاني الحسنة الطيبة، فإن الاسم له مدلول على المسمى، ولما قدم سهيل بن عمرو في صلح الحديبية كي يتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام -فيما رواه البخاري من طريق عكرمة مرسلاً-: (قد سهل لكم من أمركم) أي: كان متفائلاً باسم سهيل بن عمرو، وقال عليه الصلاة والسلام في القبائل: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله) ؛ فللمسمى صلة بالاسم حتى في الرؤيا، قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت وأنا في دار عقبة بن رافع، فأتي لنا برطب من رطب ابن طاب، فأولتها أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب) ؛ فللاسم صلة بالمسمى، ويتفاءل بالأسماء الحسنة حتى في الرؤى. القسم الخامس: الأسماء المحرمة: مثل التسمي بشاهنشاه أي: ملك الأملاك، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن أخنع اسم عند الله سبحانه وتعالى رجل تسمى بشاهنشاه، أي: ملك الأملاك) . وألحق بعض العلماء بهذا الاسم ما كان على وزنه ومعناه: كسيد السادات، وسيد الناس، إلى غير ذلك مما كان على هذه الشاكلة. وكذلك الأسماء المعبدة لغير الله سبحانه وتعالى تحرم: كعبد الحسين، وعبد المسيح، وعبد العزى ونحو ذلك، فكلها أسماء محرمة؛ لكونها عبدت لغير الله سبحانه وتعالى. كذلك أسماء الكافرين التي هي خاصة بهم: كاسم جورج، وبطرس، وزرجس، وغير ذلك من الأسماء التي أصبحت خاصة بالكافرين، فيحرم على المسلم أن يتسمى بها. كذلك التسمية بأسماء الأصنام: كشخص يسمي ولده اللات، أو العزى، إلى غير ذلك من مسميات الأصنام. كذلك التسمي بأسماء الله التي هي خاصة بالله سبحانه وتعالى: ككون شخص يسمي ولده الرحمن، فالرحمن لا يليق إلا بالله، ولذلك وسم مسيلمة الكذاب بأنه كذاب مع ادعاء غيره للنبوة، لكن لم يوسم أحد بهذه الصفة وتلازمه هذه الملازمة الطويلة كما لازمت مسيلمة؛ لكونه لقب نفسه برحمان اليمامة، فلما نازع الرب سبحانه وتعالى في هذا الاسم؛ لحقه العار إلى يوم القيامة. القسم السادس: أسماء مكروهة ومستنكرة: وهذه قد ذكرها العلماء، منها: تلكم الأسماء التي تثير السخرية كأسماء الحيوانات؛ كمن يسمي ولده: البغل! أو الجحش! أو يسمي ولده: الحمار! فكل هذه أسماء مستقبحة ومستهجنة وليست بلائقة أبداً بل فيها إهانة لمن تسمى بها. كذلك الأسماء التي لا معنى لها: كاللوح، أو برج، أو حائط، ونحو ذلك، فهي أسماء كذلك مستهجنة ومستقبحة. كذلك هذه الأسماء المائعة الرخوة التي هي إلى الميوعة والتخاذل والتهافت أقرب: كزوزو، وفيفي، وسوسو، ونحو ذلك، فهي أسماء متخاذلة متهافتة مائعة. كذلك هذه الأسماء المتتركة التي أخذت من الترك: كجودت، وشوكت، ورأفت، وحكمت ونحو ذلك، فهي في الأصل عربية إلا أنها زيدت فيها التاء، وأصبحت بهذه التاء التي ألحقت بها متتركة، كما أسلفنا في رأفت، وجودت، وحشمت، وحكمت، ونحو هذه الأسماء. كذلك هذه الأسماء المختومة بالياء: كفوزي، ووجدي، ومجدي، ورجائي، ونحو هذه الأسماء فكرهها أيضاً كثير من السلف؛ لعدم عربيتها. كذلك أسماء الكافرات: كزاكالين، وأنديرا، وسوزان، وجيهان، ونحو هذه الأسماء، فهي أيضاً أسماء كرهها كثير من أهل العلم؛ إذ هي في معانيها غير عربية، فذكر كثير من العلماء أن سوزان معناها: الإبرة! القسم السابع: أسماء تافهة لا تقرها أذواق العرب: كفانيا نانسي، وغير هذه الأسماء التي لا يستحبها العرب، إنما هي إلى الرخاوة والميوعة أقرب، كما قال القائل: أمن عوز الأسماء سميت فانيا فشر سمات المسلمين الكوافر فالاسم يدل على مدى إيمان الذي سماه، فرجل سمى ابنته نانسي، ما هو حجم عقله إذ قاده إلى أن يسمي بهذا الاسم التافه؟ أو يسمي بزوزو، أو سوسو، أو فيفي، أو نوزين، أو شرين، أو شريهان، أو غير ذلك من الأسماء. كذلك أسماء أهل الظلم والجور، فإن التشبه بأسماء أهل الجور والظلم محرم في كثير من الأحيان، ومكروه في أحيان أخر وبحسب الحال، فلا شك أن من سمى ولده بفرعون أو هامان أو قارون أنه قد أساء إلى ولده غاية الإساءة. ومن سمى ولده أو ابنته باسم ممثل فاسق أو ممثلة فاسقة، أو راقصة ماجنة، فكذلك له من الإثم والوزر نصيب، إذا كان يقصد التشبه. وكذلك الأسماء التي تحمل معاني ليست بلائقة: كشادي، وشادية، وغير ذلك، فقد ذكر البعض أن شادية بمعنى المغني، وأن شادي بمعنى القرد! فهذه أسماء كلها ينبغي أن يمعن الشخص النظر فيها، ويسمى ولده باسم يحبه الله ويرضاه، ويحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرضاه. ومن أهل العلم من كره أيضاً كل اسم ألحقت به كلمة (الدين) : كشهاب الدين، وهو أشد كراهية؛ إذ أن الشهاب من النار، وكره فريق منهم: نور الدين، وعلم الدين، وتقي الدين، ومحيي الدين؛ لأنه اسم عظيم فيه وصف للشخص أكثر مما يستحق. وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم اسم زينب إذ كان اسمها برة، فقيل: تزكى - أي تزكى بهذا الاسم - ويقال: دخل عند برة وخرج من عند برة، فغير النبي صلى الله عليه وسلم برة إلى زينب صلوات الله وسلامه عليه. كذلك التسمي بالأسماء التي لها معاني سيئة أو معان تجلب النكد والحزن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما التقى بـ حزن جد سعيد بن المسيب قال له: (ما اسمك؟ قال: حزن. قال: بل أنت سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي) . قال: فما زالت الحزونة فينا. أي -لازمتنا الحزونة لهذا

فقه دعوة الناس بما يحبونه

فقه دعوة الناس بما يحبونه وفي قوله: (يا بني إسرائيل) فقه الدعوة إلى الله، فقد تقدم أنك تهيج الناس بمآثر آبائهم الصالحين، كما تقول: يا ابن الشجاع! بارز الأبطال، يا ابن العلماء! تعلم، يا ابن المحسنين! تصدق، فعيسى عليه السلام يقول لقومه: يا أولاد هذا الرجل الصالح الطيب! يا أبناء هذا النبي الكريم إسرائيل! فإذا ذكرهم بأبيهم الصالح إسرائيل هاجوا لفعل الخير إن كان فيهم صلاح، كما تأتي أنت الآن إلى رجل من أهل بلدك تقول له: أبوك كان عاقلاً، وكان محسناً، أنشأ مسجداً، وأنشأ مستشفى، وأنشأ مدرسةً؛ فتصدق مثله، حينئذ إذا ذكرته بمآثر أبيه الصالح دفعته إلى الخير دفعاً، وعلى العكس من ذلك، إذا قلت له: أبوك كان لصاً، أو مجرماً، أو غادراً، قطعاً لن يستجيب لك بحال من الأحوال. فتهييج الناس بما فيهم من الخير عليه جملة من الأدلة من كتاب الله ومن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] ، فيخاطبنا ربنا بقوله: يا ذرية القوم الصالحين المحمولين مع نوح كونوا صالحين، فإنه ما حمل مع نوح إلا صالح.

رسل الله يصدق بعضهم بعضا

رسل الله يصدق بعضهم بعضاً قال الله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} (مصدقاً لما بين يدي) : أي لما سبقني، ومصدقاً للتوراة التي سبقتني، فمجيئي شاهد بصدق التوراة، فالتوراة قد أخبرت بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، فمجيء عيسى ومجيء رسول الله صلى الله عليها وسلم تصديق للتوراة، فلو لم يأت عيسى ولو لم يأت محمد لكان في التوراة إخبار بما لم يكن؛ فيتهم من تلاها بالكذب، لكن مجيء عيسى محمد صلوات الله وسلامه عليهما وبعثتهما دليل على صدق التوراة التي أخبرت بمجيئهما، وأيضاً ما جاء به عيسى من الدعوة إلى توحيد الله، وما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الدعوة إلى توحيد الله، يصدق ما في التوراة؛ إذ الذي في التوراة الدعوة إلى توحيد الله، والإنجيل والقرآن يصدقان التوراة، والتوراة كذلك تصدق الإنجيل وتصدق القرآن، فكل كتب الله سبحانه يصدق بعضها بعضاً. قال عيسى عليه الصلاة والسلام: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} ، لست بإله. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف:6] ، وهنا جملة من المباحث:

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب.) قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ} [الصف:7] ، صيغة: (ومن أظلم) وردت في هذا الموطن؛ لتفيد: أنه لا أحد أبداً أظلم ممن افترى على الله الكذب، ولكن جاءت هذه الصيغة في مواطن أخر، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114] ، وحديث: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؛ فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة) ، ونحو هذا كثير، فكيف يجمع بين هذه الأشياء؟ وأيهما أظلم: هل أظلم الناس من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أو أظلم الناس من افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم، أو أظلم الناس من ذهب يخلق كخلق الله؟ لقد جمع العلماء بين هذه النصوص بعدة أوجه، منها: أنهم قد يكونون كلهم في الظلم سواء، وكلهم في الدرجة العليا من الظلم، أي: ينزل على الاختصاص، بمعنى: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا أحد من الكاذبين أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم، ولا أحد من المصورين أظلم ممن ذهب يخلق كخلق الله ويباهي بخلق الله؛ فينزل على الاختصاص. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ} ، توجه له الدعوة بالخير وهو يأبى، ويقلبها إلى جحود وكفر! قال الله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف:7] ، الإجابة على قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} كما تقدم في قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . لكن قد يرد إشكال: كيف هذا والله قد هدى بعض الظالمين، بل كثيراً منهم؟ فكيف يلتئم قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} مع الواقع الذي فحواه: أن من الظالمين من هداه الله؟ فالإجابة من وجهين: الوجه الأول: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، الذين سبق في علم الله أنهم سيموتون على الكفر، هؤلاء لن يهديهم الله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96-97] . الوجه الثاني: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، ما داموا قائمين على ظلمهم ولم يسلكوا سبل الهداية. هذان هما الوجهان، والله أعلم. ويراد بالظلم هنا: الشرك، وإطلاق الظلم على الشرك وارد في كتاب الله، قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] أي: بشرك، كما فسرها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] . وقد تقدم مراراً أن أهل السنة والجماعة على وجود ظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكفر دون كفر، وشرك أكبر وشرك أصغر، ونفاق عمل ونفاق اعتقاد، وتقدم تقرير ذلك.

إكمال الله نوره وإتمامه لدينه

إكمال الله نوره وإتمامه لدينه قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] ، (يريدون) أي: أهل الكفر، وما المراد بنور الله في هذه الآية الكريمة؟ للعلماء فيها أقوال خمسة: القول الأول: أن المراد بنور الله: القرآن. القول الثاني: أن المراد بنور الله: الإسلام. القول الثالث: أن المراد بنور الله: محمد عليه الصلاة والسلام. القول الرابع: أن المراد بنور الله: حجج الله، وآيات الله سبحانه، وأدلة القرآن الكريم التي يستدل بها في كتاب الله وفي السنة. القول الخامس: أن هذا مثل مضروب لمن أراد أن يذهب الخير بفيه. قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] . {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ} أي: ليعليه، فالظهور هو العلو، ومنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) . {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ، والدين هنا المراد به: كل الأديان.

التجارة مع الله

التجارة مع الله قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] ، ذكر بعض العلماء سبباً لنزول في هذه الآية الكريمة وهو: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تساءلوا فيما بينهم: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله سبحانه وتعالى لتقربنا إلى الله سبحانه وتعالى به، فنزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:10-11] . ثم فكيف قيل لهم: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:11] وهم في الأصل مؤمنون؛ إذ صدر الخطاب لهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الصف:10] ؟ فكيف يقال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} ، ثم يقال لهم: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:11] ؟ فالإجابة كالإجابة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] ، فمعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] ، أي: اثبتوا على إيمانكم أو زيدوا من الإيمان، فهذا من هذا الباب. فإذا كان على هذا التأويل الثاني: زيدوا من إيمانكم، ففيه دليل على زيادة الإيمان، وزيادة الإيمان من معتقد أهل السنة والجماعة، وجمهورهم على أن الإيمان يزيد وينقص، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم} [محمد:17] ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، إلى غير ذلك من الأدلة.

وجوب نصرة الله

وجوب نصرة الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} في هذا أيضاً تهييج للمؤمنين ومخاطبتهم بصفة يحبونها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] من العلماء من قال: هنا مقدر محذوف، والمعنى: كونوا أنصار دين الله، أي: انصروا دين الله، وانصروا كتاب ربكم وسنة نبيكم، وملة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّين} [الصف:14] ، من العلماء من قال: إن الآمر بالكون هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فقدروا حينئذ مقدراً محذوفاً فقالوا: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا نبيكم إذ قال لكم: كونوا أنصار الله كما أطاع الحواريون عيسى بن مريم لما قال لهم: كونوا أنصار الله. والمقدرات تأتي في كتاب الله في مواطن وتستاغ، وتأتي في مواطن أخر وتكون مرجوحة، وبحسب السياق الذي وردت فيه يحكم عليها بما تستحق. {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف:14] أي: من ينصرني في بلاغي لدين الله؛ فعلى هذا يجوز للنبي أو للرجل الصالح أن يطلب مساعدة قومه له كي يبلغ الدين، يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام، ويجوز للشخص الصالح أن يطلب المعاونة والمؤازرة من قومه وأتباعه وأحبابه لتبليغ هذا الدين، وفي هذا الباب يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ألا هل من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي عز وجل؟ ألا هل من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي عز وجل؟) فطلب مثل هذا لا يكره ولا يخدش في توكل الشخص على الله، بل هو من باب الأخذ بالأسباب. قال عيسى للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ والحواريون المراد بهم: الأنصار، وهذا الرأي الراجح في تفسير الحواري، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل نبي حواري، وحواري الزبير بن العوام) ، فالحواري هو الناصر، والحواريون هم الأنصار. وثم أقوال أخرى في سبب تسميتهم بالحواريين: منها: أنهم سموا بالحواريين لبياض ثيابهم، وقال آخرون: سموا بالحواريين لبياض عمائمهم، وهذه الأقوال كلها وردت بها آثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين، لكن لا يثبت فيها خبر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي: يختبر ما عندهم، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] من أهل العلم من المفسرين من أورد هنا أثر ابن عباس الذي روي عنه بإسناد صحيح عند ابن أبي شيبة وغيره: (أن عيسى عليه الصلاة والسلام خرج على أصحابه الحواريين ذات يوم فقال لهم: من يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ يعني: انتدبهم، فقال شاب: أنا يا رسول الله! فسكت عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم قال: من يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ فسكت القوم، وقال نفس الشاب: أنا يا رسول الله! فسكت، ثم قال: من يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ قال: أنا يا رسول الله! فأغفى القوم كلهم إغفاءة -أي: أخذتهم سنة من النوم- وألقي شبه عيسى على هذا الغلام، ورفع الله سبحانه وتعالى عيسى إليه) ، كما قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ، فرفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقي شبهه على هذا الغلام، فدخل اليهود الذين كانوا قد أصدروا حكماً بصلب عيسى على الحواريين، فرءوا هذا الشاب وقد تصور بصورة عيسى، وألقي عليه شبه عيسى كما قال تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، فأخذوه وصلبوه، وادعوا أنهم صلبوا عيسى. فاختلف الحواريون الجلساء في الأمر، فقال فريق منهم: هو الله كان بيننا ما شاء أن يكون ثم صعد، وقال آخرون: لا، بل هو ابن الله أرسله الله سبحانه كي يذبح أو يصلب تكفيراً لخطيئة آدم، وقال آخرون: هو عبد الله ورسوله. فالطائفة التي قالت: هو الله. هم اليعقوبية، والطائفة التي قالت: هو ابن الله. هم النسطورية، والطائفة الثالثة هي الطائفة المسلمة، فتعاضدت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة التي قالت: هو عبد الله ورسوله فقاتلوها، فمنهم من ثبت في القتال وقاتل حتى قتل، ومنهم من هرب إلى الفيافي والقفار والصوامع يعبد الله سبحانه وتعالى، وما زال الأمر مطموساً إلى أن أيد الله سبحانه وتعالى هذه الفئة المؤمنة ببعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا عند طائفة من المفسرين هو المراد بقوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا} أي الذين آمنوا بعيسى أيدناهم ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام إليهم، {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي: فوق عدوهم، وذلك ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء:157] ، وهذا كلام ربنا سبحانه، وهذا الفارق بين الإسلام والنصرانية، وهو من أقوى الفوارق بعد قضايا التوحيد الكبرى، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} ، هذا كلام الله سبحانه، فكل من ادعى أن المسيح قد صلب فهو كذاب أشر، مخالف لكلام الله ومخالف لكلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وثم وجه آخر من أوجه التأويل: أن التأييد والظهور بالحجة والغلبة والبيان، وأن: التأييد سيكون بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، كما قال ربنا سبحانه في كتابه الكريم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61] . قوله: ((وَإِنَّهُ)) ، للعلماء فيها قولان: الأول: أنها راجعة إلى عيسى، وأن نزوله من علامات القيامة، وأن مبعثه ومخرجه علامة على اقتراب الساعة. الثاني: من العلماء من قال: هي راجعة إلى الرسول، لكن القول الأول هو الأشهر. وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها) ، والقلاص هي الإبل. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أنواع الجهاد في سبيل الله

أنواع الجهاد في سبيل الله وقوله تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:11] ، هذه الآية تبين أن مفهوم الجهاد لا يتمثل فقط في الجهاد بالسيف. وهذا من المسائل التي أخطأ فيها المترجمون الذين ترجموا معاني مفردات القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن الترجمة الخاطئة أن يترجم الجهاد بمعنى (Trajel) فقط، ويحصر مفهوم الجهاد في القتال. وهذا مفهوم قاصر، فالجهاد أعم من القتال، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن) ، وهناك صور من صور الجهاد غير القتال، كالجهاد بالمال، والجهاد بالكلمة، ومنها حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر) . ومن هذا الباب: مجيء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! إني أريد الجهاد معك، فقال له عليه الصلاة والسلام: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) ، فهناك مجاهدة بصور متعددة؛ فترجمة الجهاد إلى (Trajel) بمعنى القتال، تفسير قاصر، وترجمة قاصرة من المترجم الذي قام بها. ولذلك قال كثير من العلماء المعصرين: إن التفاسير التي ترجمت الآن من بعض الإخوان وإن كانوا على درجة من الخلق الحسن والصلاح، لكن لقلة علمهم بالمدلولات الشرعية أخطئوا في كثير من الألفاظ حين ترجموها، ولكن استدركوا على مثل هذه الترجمة القاصرة بعموم سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وبعموم سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بين أن من الجهاد جهاد بالنفس قضى هذا البيان على حصر الجهاد في الجهاد بالسيف. وهنا يقول الله سبحانه: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:11] ، وكذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] ، فقدم الجهاد بالمال في بعض الآيات على الجهاد بالنفس، وفي بعض الأحيان يقدم الجهاد بالنفس على الجهاد بالمال كل بحسبه؛ فلذلك إذا سمعت حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) ؛ فلا تظن أنه انتهى بعدم وجود المعارك بل عليك أن توقن بحديث نبيك محمد عليه الصلاة والسلام وأنه مراده به كل أنواع الجهاد. وفي الحقيقة أن هذا باب مفتوح لمن أراد أن يجاهد الآن، فلا تركز على مطعمك ومشربك ومنكحك وبيتك وتهمل الدعوة إلى الله، وتهمل نصرة كتاب الله وسنة رسول الله، فباب الدعوة لهذا الغرض مفتوح ومتسع، ويستنزف كل أموالك، بل كل حياتك، حتى إذا اشتريت مائة شريط في السَنة ووزعتها على سائقي السيارات، تبث من خلالها كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنشر بها خيراً، أو تنشيء مصالح خيرية، أو تساعد في مصالح خيرية؛ فإن الجهاد بالمال ماض أيضاً إلى يوم القيامة، وهو أحد أقسام الجهاد. كذلك كلمة الحق التي أخذها الله سبحانه منك، ومن كل من تعلم وأوتي نصيباً من العلم، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] ، فإذا خصصت جزءاً من حياتك للتفقه في دينك، وجزءاً من مالك لنشر كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم؛ فإنك مجاهد حينئذ، وأنت على ثغر من الثغور وإن كان لا يشعر بك أحد من الناس. قال الله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف:11-12] ، ومعنى عدن: إقامة، عدنت في مكان كذا، أي: أقمت في هذا المكان، أي: هي جنات إقامة وخلود لا يخرج منها الشخص، فإن الموت يذبح كما في الصحيح وغيره، قال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح، فيوقف على قنطرة بين الجنة والنار، فينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. هذا الموت، وينادى: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. هذا الموت، فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار، ثم تلا الرسول عليه الصلاة والسلام {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39-40] ) ؛ فجنات عدن: أي جنات إقامة. {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف:12-13] أي: وبشارة أخرى تلحقكم إذا أنتم آمنتم وجاهدتم بالأموال وبالأنفس. ما هي هذه الأخرى التي تحبونها؟ {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} [الصف:13] ، في الحياة الدنيا، {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13] ، ما المراد بالفتح القريب؟ قال فريق من أهل العلم: إن المراد بالفتح القريب هو فتح مكة. وقال آخرون: هو أعم من ذلك، وهو عموم الفتوحات التي فتحها الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة الذين جاهدوا معه، ومن بعده. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] ، البشارة إذا أطلقت فهي بشارة بالخير، وإذا قيدت البشارة فعلى حسب ما قيدت به، فإذا قلت: أبشر يافلان، فهذه البشرى معناها بشرى بالخير، لكن إذا قيدت فعلى حسب ما قيدت به، كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3] ، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17-18] ، وللبشرى فقه وأحكام متسعة وليس المقام مقامها. قال سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] ، يؤخذ من هذا استحباب التبشير بالخير. أما التبشير بالشر وبما يكره، هل يستحب أو يكره؟ الظاهر أن له فقهاً وأحوال، فقد تدافع علي والزبير رضي الله عنهما لما قتل حمزة، ومثل به، وشقت بطنه، واستخرجت كبده، فجاءت أخته صفية تبحث في القتلى عن أخيها حمزة، وعن الذي أصابه، فرآها علي والزبير، فقال علي للزبير: أخبر أمك بشأن أخيها حمزة، وقال الزبير لـ علي: بل أخبر عمتك أنت؛ إني أخاف على عقلها. ، الحديث إلى آخره. فهل البشارة بالسوء يتحفظ فيها الشخص؟ نعم. اللهم إلا إذا قوي إيمانك وإيمان من سيلقى إليه الخبر، فلهذه المسائل فقه، ولها أحوال، والله سبحانه أعلم. أما البشارة بالخير فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، كما في حديث: (ائذن له وبشره بالجنة) ، إلى غير ذلك.

تفسير سورة الجمعة [2]

تفسير سورة الجمعة [2] لقد سميت هذه السورة بسورة الجمعة برهاناً على عظم يوم الجمعة، وأنه ينبغي للمسلمين أن يتفرغوا فيه لذكر الله سبحانه، وأن يراعوا التبكير إلى الصلاة، مع الامتثال لأحكام الجمعة من غسل وتطيب وتجمل وليس أحسن الثياب، ثم إذا قضى العبد الصلاة على أكمل وجه فلا مانع من انتشاره في الأرض طلباً للرزق والمعاش، فإن شرع الله لا يتعارض مع ذلك؛ بل يحث العبد على أن يكسب ويأكل من عمل يده، وأن ينفق على زوجه وأولاده من كسب يده.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] .

مسألة صلاة السنة بعد الجمعة

مسألة صلاة السنة بعد الجمعة ترد هنا مسألة وهي: السنة التي بعد الجمعة. ذكر البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا صلى في المسجد صلى أربعاً، وإذا صلى في البيت صلى ركعتين) ، وهذا التقييد غير جيد وغير صحيح، وبعد تحرير القول في هذه المسألة فالحاصل فيها أنك إن شئت صليت أربعاً في المسجد أو اثنتين، وإن شئت صليت في البيت أربعاً أو ركعتين، والتقييد هكذا ليس بمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يحضرني الآن على ما يغلب على ظني أنه من فعل ابن عمر نفسه، وليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالشاهد: أنك تصلي إما ركعتين في البيت أو أربعاً، وإما ركعتين في المسجد أو أربع ركعات. {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، الخيرية هنا لا تقتضي مجرد التفضيل، فقد تقول مثلاً: زيد خير من عمرو، فقولك: زيد خير من عمرو تفيد أن عمراً فيه خير، لكن زيد أفضل من عمرو، أما قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة:9] لا يفيد أن هناك خيرية في ترك الجمعة أبداً، بل قال الرسول: (من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً طبع الله على قلبه) ، والأحاديث في ذم التخلف عن صلاة الجمعة قد تقدمت، وهي كثيرة مشهورة جداً، ولكن كما قال الله سبحانه: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] ، فأهل النار ليسوا في شيء من الخيرية بحال.

استحباب جماع الرجل لزوجته يوم الجمعة

استحباب جماع الرجل لزوجته يوم الجمعة هل يستحب للشخص أن يجامع زوجته يوم الجمعة وهو متجه إلى الصلاة، أو في نهار الجمعة، أو في ليلة الجمعة؟ ورد حديث فيه: (من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم أتى إلى الجمعة فاستمع وأنصت، ولم يفرق بين اثنين، ثم صلى مع الإمام فإنه لا يخطو خطوة إلا كتب له بها أجر سنة قيامها وصيامها) . أخذ بعض العلماء من قوله: (غسل واغتسل) أي: غسل زوجته - تسبب لها في أن تغتسل وذلك بالإتيان الذي يترتب عليه الجنابة فمن ثم تغتسل، وهو كذلك سيغتسل، فحملوها على هذا المعنى. وهذا الحديث -في الحقيقة- صحيح من حيث سلامة الإسناد، لكن في القلب من متنه شيء، وذلك لأن النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد ثابتة صحيحة كالجبال، عمومها يفيد أن الخطوة تحط خطيئة وترفع درجة، وهي في الصحيحين أو في غيرهما، لكن هذا الحديث خارج الصحيحين. وهذا الحديث فيه زيادة وهي: (أن كل خطوة بها يكتب أجر سنة صيامها وقيامها) ، فهذا من ناحية المعنى لا يتفق مع الوارد في الصحيحين بأسانيد أثبت وأصح من هذه الأسانيد أن كل خطوة تحط خطيئة أو ترفع درجة. وقد قال الذهبي في تعليقه على مستدرك الحاكم في شأن هذا الحديث: وهذا الحديث له علة مهدرة يعني: أنه لا يقبل العلة المهدرة التي فيه. وفي الحقيقة أن بعض أهل العلم يقولون: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنهم من يقول: إن من العلماء من جعل من القرائن التي تحكم على الحديث بالضعف الأجر الكبير جداً مقابل العمل اليسير، أو العذاب الشديد جداً مقابل الذنب اليسير، فيجعلون ذلك من القرائن على الحكم على الحديث بالوضع أو بالضعف. ومن ثم فضعف بعض العلماء حديث السوق (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتبت له ألف ألف حسنة، ورفعت له ألف ألف درجة، ومحيت عنه ألف ألف سيئة) إلى آخر الحديث. مع أن الحديث الثابت في صحيح مسلم: (له بكل تهليلة صدقة) فالأحاديث الثابتة (لك بالتهليلة صدقة، وبالتسبيحة صدقة، وبالتحميدة صدقة) بينما ذاك جعل لك ألف ألف حسنة، ومحا عنك ألف ألف سيئة، ورفعت بذلك ألف ألف درجة، بيد أن الحديث في إسناده عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير، وهو ضعيف، وهو غير عمرو بن دينار صاحب الصحيحين. فمن العلماء من يجعل الأجر العظيم جداً مقابل العمل اليسير فيه إشارة إلى ضعف الحديث، لكن على كل حال: إسناد الحديث حتى الآن ثابت، وهو إما صحيح أو حسن، ولا ينزل عن الحسن، إلا أن البحث ما زال جارياً عن علة لعدم طمأنينة النفس إلى هذا الحديث، كعدم طمأنينة النفس من قبل إلى حديث: (الربا سبعون باباً أيسرها أن يأتي الرجل أمه) هذا الحديث أصلاً مخالف من ناحية المعنى لثوابت أخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أكبر الكبائر قال (الشرك بالله، ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، ثم أن تزاني حليلة جارك) فجعل الزنا بحليلة الجار مقدم على الربا، ولا شك أن الزنا بالمحرم كالأم أو الأخت أعظم من الزنا بحليلة الجار، إذاً قدم على الربا بعمومه، فكيف تقول: أيسر شعبة في الربا بسبعين زنية بالمحرم؛ الأم أو الأخت؟ فلهذا ضعفه فريق من العلماء من هذا الباب فضلاً عن ما في أسانيده من ضعف، وثم رسالات مؤلفة في هذا الحديث. على كل حال: استحب فريق من أهل العلم الجماع يوم الجمعة؛ لما يجره الجماع من اغتسال، ولما يجره الاغتسال من ثواب سواء للرجل أو للمرأة، والله سبحانه وتعالى أعلم. شذ ابن حزم هنا شذوذاً غريباً خالف فيه جماهير العلماء وفحوى شذوذه: أن من جامع زوجته في يوم الجمعة فعليه غسلان، غسل لرفع الجنابة، وغسل آخر للجمعة، وهذا من القول الغريب العجيب إذ لم يرد أن الرسول اغتسل غسلين صلوات الله وسلامه عليه يوم الجمعة، لكن لعله بنى على أنه لا يصلح أن تكون هناك نيتان لعمل واحد، فقال: هذه الجنابة يلزمها غسل بنية، والجمعة يلزمها غسل بنية أخرى، لكن على كل حال هذا قول شاذ ومطرح ومنبوذ.

الاستدلال بالمفهوم المخالف من أضعف الاستدلالات

الاستدلال بالمفهوم المخالف من أضعف الاستدلالات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] المفهوم المخالف لا يعمل به هنا، يعني: إذا لم ينادى إلى الصلاة ليس معناها لا أسعى إليها، ولهذا قال فريق من أهل العلم: إن الاستدلال بالمفهوم المخالف يكون من أضعف الاستدلالات. ومعنى المفهوم المخالف يتمثل أو يتضح عند قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ، إن جاءنا عدل بنبأ هل لا نتبين من الأصل، أو يجوز لنا أيضاً أن نتبين؟ فالمفهوم المخالف يقول: إن جاءك عدل بنبأ فلا تتبين، لكنه ضعيف، وليس بصريح في تقرير القاعدة التي جلبت من ورائه. فكذلك هاهنا: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] لا يفيد أنه: إذا لم ينادى إلى الصلاة لا تسعوا، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) . وبهذا استدل العلماء على التفريق بين البدن والبقر، فقالوا: البدن: الإبل، لكن أحياناً قد يأتي التغليب وتكون البدن أو البدنة تطلق على البقرة: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] ، للعلماء فيها القولان. قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] تقدم الكلام على قوله سبحانه: (وذروا البيع) {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، يعني: إن كانت عندكم عقول وكنتم تفهمون أن متاع الدنيا زائل، وأن ما عند الله خير وأبقى، فإن كنتم تعلمون فإقبالكم على الجمعة خير لكم من اللهو ومن التجارة. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:10] ، تقدم الكلام على ذلك أيضاً.

خلاف العلماء في غسل يوم الجمعة

خلاف العلماء في غسل يوم الجمعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] يلحق بنا هنا مبحث سريع في غسل الجمعة وهل هو واجب أو غير واجب؟ يرى جمهور العلماء أن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب، ومن العلماء من يرى الوجوب. أما أدلة الجمهور القائلين بالاستحباب: فمنها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان الناس يأتون من العوالي - عوالي المدينة - مسافات طويلة يمشون، فيعلوهم الغبار فيأتون إلى المسجد ولهم روائح - أي روائح كريهة من العرق والحر الشديد والغبار الذي خالط الأجسام - فقيل لهم: لو اغتسلتم) . وأوردوا أيضاً في الاستدلالات على أنه مستحب وليس بواجب حديثاً آخر: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل) وهو حديث ضعيف. وأوردوا حديثاً ثالثاً في بيان الاستحباب وعدم الإيجاب وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ في بيته ثم أتى إلى المسجد فصلى ما كتب الله له أن يصلي فلا يخطو خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة) ، فمن لفظه عليه الصلاة والسلام: (من توضأ في بيته) ولم يذكر (ومن اغتسل) . فأصبحت عمدة القائلين بأن الغسل - غسل الجمعة - ليس بواجب ثلاثة أحاديث: حديث أم المؤمنين عائشة وحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) لكن في إسناده ضعف، وحديث: (من توضأ ثم أتى إلى المسجد فصلى ما كتب الله له أن يصلي ثم استمع وأنصت) الحديث. قالوا: إن فيه (من توضأ) وليس فيه من اغتسل. أما أدلة القائلين بالوجوب فمنها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) . والثاني: (حق لله على كل مسلم أن يغسل جسده في كل أسبوع يوماً) . والثالث: حديث ابن عمر: (من أتى إلى الجمعة فليغتسل) . والرابع: أثر عمر لما كان يخطب فدخل أمير المؤمنين عثمان وهو يخطب، فلما رآه عمر دخل متأخراً بعد الأذان - بعد صعود الإمام المنبر - قال له: (أية ساعة هذه؟) أي: لماذا تأخرت حتى إن الملائكة طوت الصحف؟! قال: (والله يا أمير المؤمنين! ما زدت على أن توضأت. قال: (توضأت وقد علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل) ، فأخذوا من قوله: (أن الرسول كان يأمر بالغسل) على أن الأمر أمر إيجاب إلا إذا صرفه صارف. هذه عمدة القائلين بوجوب غسل الجمعة. وكما أسلفنا فالجمهور على أن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب. قد يقول قائل: كيف يسوغ للجمهور أن يقولوا: إنه مستحب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ؟! فأجاب الجمهور على ذلك: بأن كلمة (واجب) من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعني نفس المدلول الاصطلاحي الذي أصله الفقهاء والأصوليون، فكلمة (واجب) بمعنى (حق) ولا تعني الوجوب الاصطلاحي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه. وثم جملة اصطلاحات للرسول صلى الله عليه وسلم، بل للكتاب العزيز فيها مدلولات وللأصوليين فيها مدلولات أخر. فمثلاً كلمة الكراهية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33] ، {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] ، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:34] ، في آخر الآيات: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] ، فالكراهية هنا تدل على التحريم يقيناً، وليس الكراهية الاصطلاحية الموضوعة في مباحث الفقهاء. هذه إجابة الجمهور على الاستدلال بحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) . أما حديث: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) ، أو حديث: (قد علمت أن الرسول كان يأمر بالغسل) فهذا وذاك قد صرفهما صارف، ألا وهو حديث عائشة: (قيل لهم: لو اغتسلتم) أو الحديث الآخر: (من توضأ في بيته ثم أتى إلى المسجد) . فالمسألة هذا حاصلها، وثم أقوال أخر فيها، والله أعلم. الحاصل أن رأي الجمهور على أن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب، ومن العلماء من ذهب إلى الوجوب لظواهر الأحاديث التي سمعتموها، وقد علمتم توجيهها. يستحب للساعي إلى الجمعة أن يلبس أحسن الثياب، وذلك أنه: (لما قدمت على الرسول حلل سيراء من عطارد قال عمر يا رسول الله! خذ هذه فتجمل بها للوفود والأعياد والجمع، فردها الرسول لعلة أنها كانت من حرير، وقال: إنما يلبسها من لا خلاق له) فيستحب للجمعة لبس أحسن الثياب، وقد ورد حديث وإن كان فيه مقال: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوباً ليوم الجمعة غير ثوب مهنته) . فيستحب للشخص أن يلبس أجمل الثياب، وأن يتطيب بأحسن ما يجد من الطيب، وأن يستاك بالسواك أو ما يقوم مقام السواك في حالة غياب السواك، فهذه سنن حث عليها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

المراد بالسعي المأمور به إلى صلاة الجمعة

المراد بالسعي المأمور به إلى صلاة الجمعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، قوله سبحانه: (فاسعوا) قد تقدم الكلام عليه، وكيف يجمع بين قوله سبحانه وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) ؟ ويجاب على هذا الإشكال بأن السعي تتعدد معانيه، فالسعي أحياناً يطلق على المشي، وأحياناً السعي يطلق على العمل، وأحياناً السعي يطلق على الجري: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] ، أي: تجري وتضطرب. {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فللسعي معانٍ عدة. فالسعي المنهي عنه في قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تأتوها وأنتم تسعون) يعني: تسرعون في المشي وتجرون. أما {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: فامضوا واذهبوا إلى ذكر الله. قال فريق من أهل العلم: وهكذا هي في قراءة ابن مسعود (فامضوا إلى ذكر الله) .

من فوائد الآية عدم ذكر الأشخاص بأسمائهم وتجريحهم في الخطبة

من فوائد الآية عدم ذكر الأشخاص بأسمائهم وتجريحهم في الخطبة قوله سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] يؤخذ منه أدب يتأدب به الخطيب ويتأدب به المستمعون، فالخطيب الذي يقف على المنبر ويتناول الأشخاص بأسمائهم غير موافق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالف للشرع من وجوه: أولاً: أن الله قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ولم يقل: اسعوا إلى ذكر فلان وفلان، وكذلك ينسحب هذا على الإطراء الزائد على المنابر، إذا وقف شخص وجلس يمدح على المنابر أشخاصاً بأسمائهم في يوم الجمعة هذا أيضاً مخالف؛ لأننا ما أمرنا أن نذهب للاستماع إلى سباب فلان وفلان، أو إلى الثناء على فلان وفلان، فإن فعل فيكون عارضاً على حسب الحاجة إليه، ولا يكون أصلاً، إن الله قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فالغالب في الجمع أن يكون فيها ذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر جنته وناره. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر شخصاً باسمه على المنبر في يوم الجمعة أياً كان هذا الشخص، فما ذكر شخصاً من الذين عاصروه من الكفار أو أهل النفاق باسمه، فأشد الناس نفاقاً وأعظمهم وهو عبد الله بن أبي ابن سلول، لما فعل فعلته القبيحة وقذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عمل أمراً مؤلماً وموجعاً غاية الإيجاع والإيلام، إلا أن الرسول ما صعد المنبر وذكر يوماً واحداً أو مرة واحدة اسم عبد الله بن أبي ابن سلول، حتى إنه لما قام على المنبر في حديث الإفك قال: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً؟!) حتى إن الصحابة الذين كانوا يحضرون المجلس في مسجد الرسول ما عرفه إلا بعضهم، حتى قام سعد بن معاذ وقال: (يا رسول الله! أخبرنا من هو إن كان منا -أي: من الأوس- قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فقتلناه؛ فقام سعد بن عبادة يدافع. الشاهد: أن الصحابة منهم من لم يكن يعرف من هو هذا الرجل، مع أنه رئيس المنافقين، ومع أنه ارتكب فرية بقذف محصنة غافلة مؤمنة عللاوة على أنها زوجة نبي صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: أن النبي ما ذكر شخصاً باسمه على المنبر أياً كان هذا الشخص، وعلى هذا فأخونا الذي يقف على المنبر ذاكراً مساوئ أحد الناس يكون قد خالف الشرع، وهذا القول مني على إطلاقه وليس حباً في وزير، أو دفاعاً عن رئيس أو وزير فكل منهم له شأن ولنا شأن. أقول: الذي يقف على المنبر ويقول في خطب الجمعة -وكان هذا متفشٍ في بعض الأزمنة-: فلانة زوجة فلان فعلت كذا وكذا وصورتها في كذا وكذا كل هذا من العبث والمخالفة للشرع التي يجهلها الخطيب ويظن أنه يحسن صنعاً وهو مسيء غاية الإساءة، بتشويشه على أفكار الناس. ثم إن الله عز وجل قال في كتابه الكريم: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148] وقد تقدم أن كثرة الحديث على المفاسد والمعاصي على المنابر تسبب للناس فقدان حساسية تجاه هذه المعاصي والكبائر. تقدم أن بعض المفسرين ذكر عند قول الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] قال: كنت ببلدة صغيرة لا يعرف أهلها الخمر، وكنا إذا سمعنا أن شخصاً أتى من الخارج مثلاً وشرب خمراً في البلدة، فكل البلدة بالإجماع تقاطعه، إذا تقدم يتزوج امتنعنا عن تزويجه، وإذا تقدم ليصلي لا نصلي وراءه، فلما ذهبت إلى بعض البلدان وجدت الخمر تباع في الطرقات، والسكارى يمشون في الشوارع، عندها قلَّت كراهيتي لشارب الخمر يوماً بعد يوم بعد يوم إلى أن تلاشت كراهيتي لشارب الخمر. فكثرة الحديث في مسألة تهونها على السامعين، فمثلاً قد تستبشع إذا سمعت أن شخصاً ما زنى، ثم بتكرار الكلام في مسائل الزنا والعياذ بالله، فلان زنى فلانة زنت أصبح الأمر عندك سهلاً، فتأتي تريد أن تسمع خبراً أبشع من الزنا، فيلفت نظرك خبر آخر أن رجلاً زنى بامرأة من محارمه فتستبشع الخبر، فيضربون على هذا الوتر مرات ومرات حتى يسهل عندك الأمر، ثم يقولون: فلان زنى بامرأة واغتصبها في الطريق فتستبشع ذلك، ولهذا عيبت الصحف وانتقدت جرائد الحوادث وصفحات الحوادث التي تروج للرذيلة من حيث لا تشعر، وتنشر الفساد في الأرض من حيث لا تشعر، والرسول يقول: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) . فتسمية الأشخاص على المنابر أمر غير محمود وغير مشروع، ونحن نحاجج من يريد أن يحاجج بأن يأتينا بأثر واحد عن رسول الله أنه سمى شخصاً واحداً على المنبر في يوم الجمعة في رواية ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم. فالفقه في الدين واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلب شرعي، فقد تصعد على المنبر وترتكب المخالفة، وتسب مثلاً وزير الداخلية باسمه، وبعد أن تسب وزير الداخلية تعتقل، وفي الحقيقة أنك اعتقلت أصلاً -أو أيضاً- لمخالفتك للشرع، لأنك ما وافقت سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا اتبعت سنته في الهدي، وفي التصحيح والتقويم. إذا كان هناك أمر ما مخالف للشرع فنبه على هذا الأمر المخالف للشرع لا تُمنع من ذلك أبداً، بل لزاماً عليك أن تنبه، لكن لا يلزمك أبداً ولا يتعين عليك أن تسمي الشخص باسمه، وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل هدي. ثم لعل هذا الذي قذفته يتوب، فيجد بينه وبين التوبة حائلاً وهو شريطك المنتشر في العالم كله والذي تفضحه فيه وتشهر به، قد تسب شخصاً على المنبر الآن وتلعن فيه، وتسب راقصة وتلعن فيها، والله يتوب على من تاب، فالغالب أنها تتوب، فكيف تصنع أنت بشريطك الذي شهرت بها فيه وشرحتها فيه تشريحاً؟! فتكون حينئذ سلكت سبيل الذين يصدون عن سبيل الله، وينشرون للمرأة التائبة أو للممثلة التائبة أشرطتها كي يصدونها عن سبيل الله بهذه الأشرطة الفاضحة التي أخذوها عليها، فسنة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها خير هدي. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وهذا المنع يشمل باب الذم وباب الإطراء، فلا تقف على المنبر تسبح بحمد الأشخاص، وتثني على الأشخاص، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (احثوا في وجوه المداحين التراب) ، وقد ورد في أثر صححه البعض وضعفه آخرون: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) ، فلا تسرف في الحب ولا في البغض، فالاقتصاد مطلب شرعي علمنا إياه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن المغالاة في الحب تحملك على الدفاع عن المحبوب ولو بالباطل، والمغالاة في البغض تحملك على هضم الحق وإماتته الحق والعياذ بالله. ولكن انظر إلى اتزان الرسول صلى الله عليه وسلم والرزانة والوقار، يحب ابنته فاطمة حباً جماً عليه الصلاة والسلام، وكلما دخلت عليه قبلها وأجلسها، وكلما ذهب إليها قامت إليه فقبلته وأجلسته، لكنها محبة منضبطة بالشرع يقول: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة سرقت لقطع محمد يدها) . يحب أسامة بن زيد غاية المحبة، يعثر أسامة فيجرح أنفه على عتبة الباب، ويذهب الرسول يمص دم أسامة بفيه، ومع ذلك يقول لـ أسامة: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟!) . فالشاهد: لا تبالغ في الطعون ولا تبالغ في الثناءات، فالقصد القصد كما حث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.

هل خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث؟

هل خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث؟ قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (يا) دائماً تكون حرف نداء، و (أي) منادى، والهاء للتنبيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] هنا يثار مبحث فقهي أصولي، فحواه: هل خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث، أم أن خطاب الذكور للذكور، ويلزم أن يكون هناك خطاب آخر للإناث؟ أي آية فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هل يدخل فيها الرجال والنساء أم هي خاصة بالرجال، ويلزم أن يكون هناك خطاب آخر يتعلق بالنساء؟ هذه قاعدة أصولية تنبني عليها جملة من الأحكام الفقهية. من الأحكام التي تترتب على هذه القاعدة: مسألة المجامع في رمضان، أي: الرجل الذي جامع امرأته في رمضان، فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم شهرين متتابعين، فلما لم يستطع أمره أن يطعم ستين مسكيناً. الشاهد: هل المرأة هي الأخرى تؤمر بصيام شهرين متتابعين؟ أو هل المرأة هي الأخرى تؤمر بإطعام ستين مسكيناً؟ فإذا قلنا: إن خطاب الذكور للذكور والإناث فسيكون مقتضى أمر النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بصيام شهرين متتابعين أن المرأة هي الأخرى تصوم شهرين متتابعين، وإذا قلنا: إن الرجل يطعم ستين مسكيناً في حالة عدم استطاعته الصيام فالمرأة هي الأخرى تطعم ستين مسكيناً. وهي مسألة طويلة جداً طال فيها النزاع بين العلماء، وكان من أسباب طول النزاع الوارد فيها اختلافهم في أصل المسألة: هل خطاب الذكور للذكور والإناث، أم خطاب الذكور للذكور وخطاب الإناث للإناث؟ فالذين قالوا: إن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث استدلوا بأدلة منها: أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فكُتب على الجميع. وأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] ولم يقل: وكانت من القانتات. وكذلك قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] ولم يقل: كنت من الخاطئات. فدخلت امرأة العزيز في الخاطئين، ودخلت مريم مع القانتين، فهذا بعض مستندات القائلين: إن خطاب الذكور للذكور والإناث. وأما الذين قالوا: إن خطاب الذكور للذكور وخطاب الإناث للإناث فاستدلوا بأدلة منها: قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] . وبقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية. فلو كانت المسلمات داخلات في المسلمين لابتدئ بذكر: إن المسلمين والمؤمنين والقانتين والصادقين إلى آخر الآية، فهذه بعض استدلالات القائلين بأن خطاب الذكور للذكور فقط، وخطاب الإناث للإناث فقط. وأجاب أصحاب القول الأول على هذه الاستدلالات بقولهم: إن قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ، من باب عطف الخاص على العام، والخاص يعطف على العام لبيان أهميته، فعطفت النساء على العام الذي هو القوم لكون السخرية في النساء أكثر منهن في الرجال، كأن تقول: جاء القوم وزيد، وزيد في الأصل جاء مع القوم، لكنك خصصت زيداً بالذكر لأهمية مجيء زيد مع القوم. وأحسن من ذلك قول الله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] ، فمحمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم من النبيين، لكن نص عليهم أو خصوا بالذكر؛ لأنهم من أولو العزم من الرسل. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163] ، هذا من باب عطف الخاص أيضاً على العام. وكذلك قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] ، والنخل والرمان داخلان في الفاكهة، فكانت هذه إجابة فريق من العلماء على استدلال المستدل بقوله تعالى: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ، أنه من باب عطف العام على الخاص لكثرة السخرية في الإناث. أما إجابتهم على قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] ، قالوا: هذه الآية نزلت لأن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال الرجال يذكرون يا رسول الله! ولا نذكر؟ فنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35] الآية إلى آخرها) . وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] ، إذا سلمنا أن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث ورد إشكال شهود النساء للجمعة، لكن قد انعقد الإجماع هنا أن هذا الخطاب لا تدخل فيه النساء. وقد نقل ابن قدامة والخطابي والنووي وغير واحد الإجماع على أن النساء لا يدخلن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فالتحرير في مسألة خطاب الذكور هل هو للذكور والإناث أو هو للذكور فقط، ينبني على أن لكل خطاب ملابساته المحيطة به وقرائنه المحتفة به، وهي التي تستصدر الحكم الخاص في لكل قضية بعينها، يعني: فكل مسألة وجزئية ملابساتها الخاصة التي تستوجب قولاً من الأقوال. فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] ، بالإجماع لا يدخل فيه النساء، فلا تجب الجمعة على النساء بالاتفاق. وإذا شهدت المرأة الجمعة أجزأت عنها أيضاً بالاتفاق، فلا تؤمر بإعادة صلاة الظهر. إن قال قائل: هل صح حديث في أن المرأة يعفى عنها أو لا تؤمر بحضور الجمعة؟ فالإجابة: قد وردت جملة أحاديث فيها أن الجمعة لا تجب على المرأة ولا على الصبي ولا على العبد. إلخ، لكن يثبت من هذه الأحاديث حديث واحد. وقال فريق من أهل العلم: إن نقل الإجماع كافٍ عن الأحاديث الضعيفة في هذا الباب. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد) وهذا عام تدخل فيه الجمعة كما تدخل فيه غيرها من الصلوات.

تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض.

تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ.) {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] فيه حث على الاكتساب، وعلى الضرب في الأرض للبحث عن الرزق وقد تقدم الكلام على ذلك. وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأكلون من عمل أيديهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (ما بعث الله من نبي إلا وقد رعى الغنم) كان داود صلى الله عليه وسلم حداداً يعمل سابغات ويقدر في السرد، وكان زكريا صلى الله عليه وسلم نجاراً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عيسى عليه الصلاة والسلام طبيباً بإذن الله يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، إلى غير ذلك من الأعمال، فكلهم كانوا يمتهنون، والسلف الصالح كانوا يعملون نظام الحمالة في الأسواق، فـ أبو مسعود عقبة بن عمرو البدري يقول: (لما نزلت آية الصدقة كنا نذهب إلى الأسواق نحامل على ظهورنا، فنأتي بالمال ونتصدق به) ، وكان سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى تاجراً يتاجر في الزيت، كلهم كان يمتهن مهنة ويأكل من عمل أيديهم من الحلال. وكان بعضهم له أرض يكريها ويؤجرها كـ رافع بن خديج، وكانت لهم مهن متعددة، وليس في شيء من ذلك عيب، إنما العيب مد اليد للناس: (فاليد العليا خير من اليد السفلى) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والعيب امتهان مهنة حرام، ككتابة الربا وأكل الربا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن آكل الربا، وكاتبه، وموكله، وشاهديه) ، لعن المصور صلى الله عليه وسلم، ونهى عن التجارة في أشياء بعينها كالتجارة بالأصنام، ونهى عن التجارة بالكلاب، وحرم ثمن الكلب، وثمن الدم صلى الله عليه وسلم.

مشروعية القيام للخطيب حال خطبة الجمعة

مشروعية القيام للخطيب حال خطبة الجمعة قال الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] ، استدل العلماء بهذا على أن الخطيب يشرع له أن يقف في الخطبة، ولا يخطب جالساً، فإن السنة في خطبة الجمعة أن يخطب الخطيب قائماً، هكذا قال الجماهير من العلماء. ومنهم من أجاز له الجلوس لعلة، كأن يكون به مرض أو نحو ذلك؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام رخص لمن هو أشد من الخطيب تلبساً بالعبادة وهو المصلي أن يصلي جالساً إذا لم يستطع الصلاة قائماً، لكن لا يتجه إلى الصلاة جالساً إلا لعذر عدم القيام، فأخذ العلماء من قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] مشروعية قيام الخطيب وهو يخطب خطبة الجمعة.

صلاة الجمعة تنعقد بما تنعقد به صلاة الجماعة

صلاة الجمعة تنعقد بما تنعقد به صلاة الجماعة هنا مسألة فقهية استنبطها العلماء من سبب نزول الآية ومن قصة النزول: وهي بم تنعقد الجمعة؟ قال بعض العلماء: إن الجمعة لا تنعقد إلا باثني عشر رجلاً؛ لأن الرسول ما ثبت معه إلا اثنا عشر رجلاً، وهذا القول في الحقيقة قول غير جيد؛ لأنه هب أنه لم يبق مع الرسول إلا ثلاثة، هل معنى ذلك أن الجمعة لا تنعقد إلا بالثلاثة أو أن الرسول كان يترك صلاة الجمعة؟ فهذا محل نظر. نفس هذا النظر يرد في الأيام التي تقصر فيها الصلاة، فبعض العلماء يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سافر تسعة عشر يوماً يقصر فيها الصلاة، فإذا سافرنا تسعة عشر يوماً قصرنا، وإذا زدنا أتممنا، فنفس الإجابة ترد عليه، وما أدراك أن الرسول كان إذا زاد سيتم؟ من الذي أعلمك أن الرسول لو كان زاد وسافر خمسين يوماً كان سيتم؟ فالتحديد بتسعة عشر يوماً في الأيام التي تقصر فيها الصلاة أو باثني عشر رجلاً لانعقاد الجمعة محل نظر؛ إذ هو ليس بنص عن رسول الله، وليس بصريح حتى عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. والذي رآه كثير من أهل العلم أن الجمعة تنعقد بما تنعقد به الجماعة، والله سبحانه وتعالى أعلم. {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] أي: قائماً تخطب. {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] . وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سبب نزول قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها.

سبب نزول قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا.) {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] أي: انصرفوا إليها. نزلت هذه الآية -كما في الصحيحين وغيرهما- بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وأصحابه معه في المسجد، وكانوا في حال من القلة -قلة المال والطعام- فسمعوا بعيرٍ قد قدمت من الشام، ومن العلماء من ذكر أن الذي كان قادماً بالعير هو عبد الله بن سلام، ومنهم من قال أقوالاً أخر. والعير لها جلبة وهي آتية أصوات وصبيان ينادون: التجارة وصلت والبضاعة جاءت إلى آخر هذه الضجة التي تصاحب التجار، وإلى غير ذلك من الصخب الذي هو معهود من أهل الأسواق، فخرج المصلون من عند رسول الله وتركوا الخطبة، وذهبوا إلى التجارة، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلاً، فهذا يفيدك إفادة أن الصحابة رضي الله عنهم بشر، يجري عليهم ما يجري على البشر، فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم بشر، فالملتحون أيضاً بشر، والسنيون أيضاً بشر، إذا كان الصحابة رضي الله عنهم صدر من بعضهم أشياء فأولى ثم أولى أن تصدر من السنيين، فلا تستغرب إذا قيل: إن هناك سنياً سارقاً، وردت أشياء مثل ذلك على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: قطعت يد المخزومية رجل من الصحابة رضي الله عنهم أقسم يميناً كاذبة امرأة على عهد الرسول اتهمها زوجها بالزنا وتلاعنا عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وكل أقسم أربعة أيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقف يذكر بالله، والمذكر هو رسول الله! سيد ولد آدم! والزوج وزوجته معاً أمام رسول الله وأمام المسلمين، والرسول يقول لهما: (الله يعلم أن أحدكما كاذب) ، مؤكد يقيناً أن أحدهما كاذب، (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) ، ولم يتنبها لهذه المسألة، وأقسما، فإذا كان هذا هو شأن خير القرون، إذاً نحن من باب أولى لسنا بمعصومين، ولذلك إذا قال ربنا سبحانه في شأن أهل الإيمان: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] ، فدليل على أنهم عملوا أعمالاً سيئة، {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح:5] وهذا واضح. فالشاهد: عند مناقشتك للأشياء أو عند إصلاحك بين الناس لا تجعل للحية مرتبة لا تنخرم، لا بل هم بشر، والمسلمون كلهم بشر يجري عليهم ما يجري على البشر. أصحاب رسول الله رأوا تجارة أو لهواً وانفضوا إليها وتركوا الرسول يخطب، لا أظن أن هناك من هو أحسن خطبة من رسول الله أبداً بحال من الأحوال عليه الصلاة والسلام، كلهم خرجوا، وما بقي إلا اثنا عشر رجلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] ، قال عليه الصلاة والسلام في بعض الروايات: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) .

الدين شامل لجميع مناحي الحياة

الدين شامل لجميع مناحي الحياة {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] وهذا فيه إشارة يشير إليها العلماء وهي: أن العبادات إذا انتهت لا تظن أنك ابتعدت عن ربك سبحانه، فلست مع الرب في الصلاة فقط كما يقول أهل الكفر وغيرهم الذين يرون أن الصلاة في المساجد فقط، وخارج المساجد لا دخل للدين بالحياة، ولا دخل للدين بالسياسة، بل ربنا يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] أي: فليكن ذكر الله منك على بال في عملك وفي طرقك. وهكذا أيضاً قيل في الحج: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200] ، إذا قضيتم المناسك وانتهيتم من أعمال الحج لا تظنوا أن الرب غاب عنكم، أو أنكم غبتم عنه وابتعدتم عن الرب، بل: {إِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200] . كذلك بعد الانتهاء من الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] . كذلك دبر الصلوات، وبعد أن تنتهي من الصلاة، ويبوب العلماء لذلك: باب الذكر بعد الصلاة، وقد قال ابن عباس: (كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير) ، وفي رواية أخرى: (إن رفع الصوت بالتكبير عند الانتهاء من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) . فكلما انتهيت من عبادة بعد أن تلبست بها لا تظن أنك فارقت الذكر، بل حث ربنا على الذكر في كل المواطن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] تبدأ عملك باسم الله، أنت الشافي يا رب! أنت المعين يا رب! تدعو الله عز وجل، تجعل ذكر الله دائماً لك على بال، لا تفارق الذكر، فإنك مهما كنت معتصماً بالذكر فشيطانك مهزوم، وتعلوه سياط التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، أما إذا غفلت نشط عليك الشيطان وتمكّن منك، فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بالخناس في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ) * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1-4] يخنس: أي: يختفي عند ذكر الله سبحانه وتعالى. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] فأفادت الآية أن ذكر الله كثيراً يجلب لك الفلاح، والفلاح: هو الفوز بالمطلوب والفرار من المرهوب. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:10-11] لِم لم يقل: وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليهما؟ فالإجابة على هذا كالإجابة على قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ولم يقل: وإنهما. وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء:112] ولم يقل: ثم يرم بهما بريئاً. وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62] ولم يقل: والله ورسوله أحق أن يرضوهما. وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا} [التوبة:34] ولم يقل: ولا ينفقونهما، وكذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون:50] ولم يقل: آيتين، إلى غير ذلك. فقال العلماء: اجتزئ بأحدهما لدلالته على الآخر، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: وتقيكم أيضاً البرد، {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل:81] فالسرابيل تقي الحر كما أنها تقي أيضاً من البرد، فحذف البرد لدلالة الحر عليه، وكذلك تقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] أي: ونساء كثيراً، حذفت كثيراً لدلالة السياق عليها، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم شق المرأة ثيابها حال الغضب

حكم شق المرأة ثيابها حال الغضب Q عجوز شقت ثوبها في حالة الغضب فماذا تفعل؟ A تستغفر الله وتفعل حسنات تضاهي شق الثياب، فشق الثياب كبيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب) والمراد بالجيوب فتحة الصدر في الثوب، فعليها أن تعمل عملاً صالحاً يوازي هذه الكبيرة، فتتصدق مثلاً لو هي ثرية فتخرج مائة جنيه، أو تصلي عدداً كبيراً من الركعات، أو تصوم أياماً تكفر به هذا الذنب الكبير.

حكم من جامع في نهار رمضان ولم يجد كفارة

حكم من جامع في نهار رمضان ولم يجد كفارة Q جامع رجل في نهار رمضان مرتين مكرهاً لزوجته، علماً بأنه يعمل في البناء وعمله شاق وهو فقير جداً، لكن هناك من أهل الخير من يتطوع بإخراج الكفارة عنه، هل يقوم أهل الخير بإخراجها أم من وقعت عليه الكفارة يخرجها بنفسه؟ A هو أصلاً يخاطب بالصيام، إذا لم يستطع الصيام يكفر، ثم إذا ما استطاع أن يكفر يكفر عنه غيره وانتهى الأمر.

حال حديث: (إذا حليتم المصاحف.

حال حديث: (إذا حليتم المصاحف.) Q حديث: (إذا حليتم المصاحف وزينتم المساجد، دمرتم دنياكم) . A ضعيف.

حال حديث: (لو أن أمتك سلكت إلي كل طريق.

حال حديث: (لو أن أمتك سلكت إليَّ كل طريق.) Q حديث قدسي: (لو أن أمتك سلكت إلي كل طريق، واستفتحت علي كل باب، ما فتحت لها إلا أن يأتوا خلفك) . A ضعيف.

حكم نزع الشخص من الصف والوقوف مكانه في الصلاة

حكم نزع الشخص من الصف والوقوف مكانه في الصلاة Q ما حكم نزع الشخص من الصف والوقوف مكانه؟ A نزع الشخص من الصف والوقوف مكانه، أو نزع الشخص من الصف للوقوف معه أجازه بعض العلماء لحديث أبي بن كعب في سنن النسائي بسند صحيح من حديث قيس بن عباد قال: (كنت أصلي في الصف الأول، فجاء رجل فجذبني من الصف ووقف مكاني -يعني قيس واقف في الصف الأول وجاء شخص سحبه ووقف مكانه - فلما انقضت الصلاة التفت إليه مغضبا، فإذا هو أبي بن كعب، فقال له أبي: يا بن أخي! لا يسوءك إنه عهد النبي الأمي إلينا أن نليه في الصلاة) ، فـ أبي جذبه من الصف وهو له منزلة، يعني: سيد القراء، إذا كان الله سبحانه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ سورة البينة على أبي بن كعب! حتى إن أبياً سأل الرسول: (أسماني لك يا رسول الله؟! -يعني: قال لك فعلاً اقرأ عليَّ بالاسم- قال: نعم سماك لي، فبكى أبي) . الشاهد: أن أبياً جذب الشخص ووقف مكانه، فهذا دليل مستند يدل على الجواز.

حكم المرأة إذا امتنعت عن الجماع لمرض

حكم المرأة إذا امتنعت عن الجماع لمرض Q امرأة تعتذر لزوجها عن الجماع نتيجة مرض بجسدها أو تعبها الشديد من العمل في المنزل، فهل تعاقب عليه بلعنة الملائكة؟ A الأصل أنها لا تمتنع، فإذا جاء شيء فوق طاقتها فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، إذا كانت لا تطيق فحينئذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وتكون معذورة.

استحباب طلب الدعاء من الصالحين

استحباب طلب الدعاء من الصالحين Q ما حكم طلب الدعاء من الصالحين؟ A طلب الدعاء من الصالحين مستحب خلافاً لمن كرهه، أما الدليل على استحبابه فقول عمر (استغفر لي يا أويس!) ، وكذلك ورد في حديث فيه ضعف: (يا أخي! أشركنا في دعائك) قاله الرسول لـ عمر، لكن في إسناده ضعف، ثم قول أم الدرداء لرجل مسافر: (ادع لنا فإني سمعت الرسول يقول: (دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجاب، عند رأسه ملك موكل يقول: آمين ولك بمثل) .

استحباب التسمي بالأسماء الحسنة

استحباب التسمي بالأسماء الحسنة Q هل اسم محمد من الأسماء الواجب تسميتها في كل أسرة؟ A أما الوجوب فلا يجب، لكن الاستحباب أن يسمى بهذه الأسماء المباركة: عبد الله، وعبد الرحمن، وإبراهيم، ومحمد، وأحمد، يعني: يكون في البيت اسم من هذه الأسماء الطيبة.

حكم فتاة تترك الصلاة وعمرها ستة عشر سنة

حكم فتاة تترك الصلاة وعمرها ستة عشر سنة Q فتاة عمرها ستة عشر سنة لا تستطيع أن تداوم على الصلاة، وهي شديدة الكذب، مع العلم أنها حجت ثلاث مرات؟ A لابد أن تداومي على الصلاة، وتسألي الله العون على الصلاة، وتقولي: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتختلطي بالصالحات اللاتي يذكرنك بالله سبحانه وتعالى، وفي الكذب تتذكري قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) .

حكم من طاف طواف الوداع ثم مكث يشتري شيئا مما يحتاجه

حكم من طاف طواف الوداع ثم مكث يشتري شيئاً مما يحتاجه Q امرأة أدت مناسك الحج كاملة، ثم طافت طواف الوداع، وقبل الرحيل احتاجت جوارب لتلبسها، فذهبت تشتري واحداً لستر قدميها من الحمامات الموجودة أسفل الحرم، فأعجبها السعر فاشترت ثلاثاً، وبعد ذلك حاولت إعادة طواف الوداع فلم تتمكن من الزحام وضيق الوقت فهل عليها شيء؟ A ليس عليها أي شيء، لأنها ما أطالت المكث بعد الوداع، فالعلماء يرخصون في ساعة وساعتين وثلاث ساعات، إذا كنت في طريقك خارجاً من مكة، وعلى ذلك فليس عليها أي شيء.

حكم استعمال العطور التي تحتوي على الكحول

حكم استعمال العطور التي تحتوي على الكحول Q هل العطور التي بها كحوليات تنقض الوضوء؟ A لا تنقض الوضوء. وهل هي محرمة الاستعمال في التطيب كحرمتها في الشرب؟ هي عندنا مكروهة لا تصل إلى التحريم؛ لأن إجراءها مجرى الخمر قولاً واحداً لا نطيقه ولا نتحمله.

جواز الجمع بين نية السنة ونية تحية المسجد

جواز الجمع بين نية السنة ونية تحية المسجد Q هل يجوز عند دخول المسجد لصلاة الفرض صلاة ركعتين بنية تحية المسجد وسنة الفرض؟ A نعم يجوز، صل سنة الظهر تسقط عنك تحية المسجد، فإن الرسول ما قال: صلوا ركعتين تحية المسجد، وإنما قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين) ، فكانت الركعتان سنة الوضوء، وسنة الظهر، أي ركعتين.

حكم أخذ العوض الناتج عن التفريط

حكم أخذ العوض الناتج عن التفريط Q كثيراً ما نسمع مقولة: أنا لا أقبل العوض، فنرجو معرفة هل التعويض، عن إتلاف آلة معينة أو ضرر حصل بالسيارة نتيجة حادث أو شخص استعار شيئاً وأتلفه حرام أو مكروه؟ A العوض ليس بحرام ولا بمكروه، فالديات شرعها الله سبحانه، وسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، الديات قال الله سبحانه: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ، صحيح أن الأفضل الترك: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] ، {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] ، لكن إذا قبلت تعويضاً من شخص أخطأ في مالك، مثلاً: لو كنت تمشي بسيارتك في طريقك مستقيماً وجاء شخص مخالف بسيارة، فسبب لك فساداً، ليس هناك أدنى حرج أن تأخذ منه قيمة التلف الذي حدث، إذا كنت أنت لا تقبل العوض أنت حر، لكن هي جائزة لا إشكال فيها، صحيح أن تركها أفضل وأكمل، لكن هي ليست بمكروهة.

الغناء المباح والمحرم

الغناء المباح والمحرم Q ورد في بعض فتاوى المفتين الاستشهاد بقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] على أن الغناء مباح، بناء على أن الناس كانوا يستقبلون القوافل في المدينة بالغناء وهو اللهو فما حكم ذلك؟ A مسألة الغناء فيها تفصيل لابد منه، فليس كل غناء محرم، وليس كل غناء مباح. فلا يشك عاقل أن الغناء الذي يهيج على الفواحش ويثير الكامن محرم؛ لأنه من الفساد والله لا يحب الفساد. والغناء الذي في الأفراح، والذي ليس فيه مخالفات للشرع حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ماذا كان معكم من اللهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو) .

حكم صلاة المرأة الحامل جالسة

حكم صلاة المرأة الحامل جالسة Q ما حكم الصلاة جالساً إذا كانت المرأة حاملاً ولا تقدر على الوقوف، أو كان بها مرض في الساقين مثل الروماتيزم أو خلافه، وهل تأخذ نصف الثواب؟ A تأخذ الثواب كاملاً إذا كانت لا تستطيع القيام، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) .

حكم أكل الكوارع

حكم أكل الكوارع Q ما حكم أكل الكوارع؟ A الكوارع حلال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراع لقبلت، ولو أهدي إلي ذراع لأكلت) وقال: (لا تحقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة) والفرسن يطلق على الحافر عند بعض العلماء.

باب التوبة مفتوح

باب التوبة مفتوح Q ما الحكم في المداومة على نفس المعصية؟ بمعنى أنه يفعل الذنب ثم يتوب منه ويعود إليه؟ A كلما أذنبت فارجع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما: (أذنب عبد ذنباً فقال يا رب! أذنبت ذنباً فاغفره لي، قال الله سبحانه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً فقال: يا رب! أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله سبحانه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثلاثاً وفي الآخرة قال: فليعمل عبدي ما شاء) أي: ليس معناه إباحة المعصية كما قدمنا، ولكن إذا أذنبت فاستغفر.

حكم من طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد وهي حائض

حكم من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد وهي حائض Q ما حكم رجل طلق زوجته ثلاث تطليقات في جلسة واحدة وهي حائض؟ A حائض أو ليست بحائض فالطلقة واقعة، وهذا رأي الجماهير من العلماء، ورأي الأئمة الأربعة، صحيح أن الذي يطلق امرأته في أثناء حيضتها مخالف للسنة، لكن مع مخالفته الطلقة أيضاً واقعة، فمخالف السنة لا يكرم ويقال له: طلقتك ليست واقعة، بل يقال له: طلقتك واقعة، وإذا طلقتها عند الطهر واقعة أيضاً لرأي الجمهور؛ لأن ابن عمر قال: (حسبت علي تطليقة) ، هذه واحدة. والثانية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مروه فليراجعها) ولا مراجعة إلا بعد وقوع، وقد قدمنا الكلام على هذا باستفاضة، ولكن أكرر التنبيه على الوهم الذي وهم فيه العلامة ابن القيم رحمه الله تبعاً لـ أبي محمد بن حزم رحمه الله تعالى، فهو وهم نشأ عن اختصار مخل أفسد الاختصار. مما استدل به القائلون بأن طلاق المرأة في حيضتها لا يقع: ما ورد عن ابن عمر أنه سئل عن طلاق المرأة وهي حائض أيعتد بتلك؟ فقال: (لا يعتد بتلك) هكذا روي الأثر مختصراً عند ابن حزم بهذا اللفظ: (لم يعتد بتلك) ، والأثر لما وقفنا عليه مطولاً عند ابن أبي شيبة وغيره، وفيه: (سئل ابن عمر عن رجل طلق امرأته وهي حائض أيعتد بتلك الحيضة؟) يعني: يعتد بتلك الحيضة كقرء من الأقراء وتحسب كما في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فهو سأل: هل يعتد بتلك الحيضة من زمن التطليقات أم لا؟ فقال: (لا يعتد بتلك) ، أي: لا يعتد بالحيضة التي طلقت فيها المرأة، وهذا إشكال! لما اختصر المتن، وقع ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هذا الوهم؛ لأنه قد شنع بهذه الرواية تشنيعاً غير مقبول؛ لما سمعتموه من أن دلالة السياق المختصرة أخلت بالمعنى إخلالاً كبيراً. فنقول للرجل: أشهد شاهدي عدل أنك طلقت زوجتك مرة وراجعتها.

ضابط السفر الذي تقصر به الصلاة

ضابط السفر الذي تقصر به الصلاة Q أسافر مسافة خمسة عشر كيلو وأعود في نفس اليوم هل أقصر الصلاة، لأنه يطلق عليه سفر؟ A على رأي فريق من أهل العلم أنك تقصر الصلاة إذا كان مرد السفر إلى العرف، فكل ما يسمى سفر عند فريق من أهل العلم تقصر فيه الصلاة.

حال حديث: (عليكم بمزاحمة الأقدار)

حال حديث: (عليكم بمزاحمة الأقدار) Q ما حكم هذا الحديث: (عليكم بمزاحمة الأقدار فإن أرزاق أمتي في الأسواق) ؟ ما أعرف عنه شيئاً، ولم أسمع عنه إلا الآن.

تفسير سورة المنافقون

تفسير سورة المنافقون سورة المنافقون من السور المدنية التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنفاق لم يكن موجوداً بمكة وإنما نشأ في المدينة حينما قويت شوكة المسلمين فيها. وأهل النفاق يهتمون اهتماماً بالغاً بالمظهر دون المخبر، فهم ذوو أجسام حسنة وهيئات بهية، ولكنهم كالخشب المسندة التي لا فائدة منها، وأما أهل الإيمان فهم حريصون غاية الحرص على القلب والعمل الصالح، وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة جملة من صفاتهم وأخلاقهم وما فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نحذر منهم ومن أن نكون مثلهم.

أقسام النفاق

أقسام النفاق باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فسورة المنافقين من السور المدنية التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنفاق لم يكن موجوداً بمكة، إنما نشأ النفاق بالمدينة لما قويت شوكة المسلمين فيها، والنفاق ينقسم إلى قسمين: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل. ونفاق الاعتقاد: هو الذي يخلد صاحبه في النار، وهو الذي ورد فيه قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] . أما نفاق العمل: فهو مثل الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ، وكالوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً) إلى آخر الحديث. فنفاق العمل يلحق بالمعاصي والآثام، ولا يخلد صاحبه في النار؛ وذلك لأن الكذب وإخلاف المواعيد ونحو ذلك، معاصٍ تكاد تصل إلى حد الكبائر، لكن لا توجب لصاحبها خلوداً في النار. أما نفاق الاعتقاد، وهو إضمار الكفر وإظهار الإسلام، فهو الذي يخلد صاحبه في النار، وهو الذي تتعلق به هذه السورة الكريمة، وكذلك أكثر الآيات الواردة في ذكر النفاق في كتاب الله سبحانه إنما تتعلق بنفاق الاعتقاد، أما نفاق العمل فوروده في كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير أوائل سورة المنافقين

تفسير أوائل سورة المنافقين يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] . (نشهد) هنا بمعنى: نحلف، أحياناً يكون معنى الشهادة هو معنى الحلف، وأحياناً تختلف الشهادة عن الحلف، وما هو وجه اختلاف الشهادة عن الحلف أحياناً؟ من المعلوم عند المحاكمات أن أيمان اليهود وأيمان النصارى تجزئ ويُطلب منهم الأيمان، لكن شهادتهم لا تعتمد في كثير من المسائل، فمثلاً: في مسائل الطلاق يقول الله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، فأحياناً يتحد معنى الشهادة ومعنى الحلف، وأحياناً تأخذ الشهادة معنىً والحلف معنىً آخر. فمثلاً: في آيات الملاعنة يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6] ، (فشهادة أحدهم) أي: يمين أحدهم، وكذلك في قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ} [المائدة:106] ، والآية مصدرة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة:106] ، وفي ختام الآية: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة:106] ، فالشهادة هنا هي اليمين.

سبب اعتقاد المنافقين كل صيحة عليهم

سبب اعتقاد المنافقين كل صيحة عليهم {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] . وهذا شأن كل أثيم، كل أثيم كما يقول المثل العامي المصري: (الذي على رأسه بطحاء يحسس) ، فأنت تتكلم مثلاً في عقوبة الزنا، وفي عقوبة السرقة، وفي عقوبة المرتشي، وليس في ذهنك شخص، ولكن هناك شخص مرتش وزان جالس فيحسب أن الكلام الذي يقال منصب عليه: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] ، وكما قال سبحانه في آية أخرى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة:64] . وهنا يقول الله سبحانه: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] ، أي: كل آية تنزل يظنونها نزلت فيهم، فقد اجتمعت فيهم الموبقات، وعلى حسب الموبقات التي تراكمت عليهم يكون خوفهم وفزعهم، فأنت إذا كنت قد ارتكبت ذنباً واحداً فلن تحسب كل صيحة عليك، وإنما تحسب أن الحديث في هذا الذنب خاصة موجه إليك، لكن إذا كنت قد ارتكبت كل الذنوب، من سرقة وشرب خمر وربا. إلخ، فكل آية يتكلم بها الشخص تحسبها عليك. فقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] ، أي: لكثرة الموبقات التي ارتكبوها، فإنهم كذبوا على رسول الله، وآذوا رسول الله، وحدثوا فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، واؤتمنوا فخافوا، وأضمروا الكفر وأظهروا الإسلام، فكل شيء ينزل في أهل نفاق يحسبونه موجهاً لهم. قوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] ، لا يعني نفي عداوة غيرهم، وإنما يعني بيان عظيم العداوة التي يكنونها للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يتفطن إليه فيتصدق عليه) ، فالذي ترده اللقمة واللقمتان مسكين، لكن الأشد منه مسكنة هو الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يتفطن إليه فيتصدق عليه. وكذلك حديث: (ليس الشديد بالصرعة) ، وحديث: (أتدرون من الرقوب فيكم؟ قالوا: الرقوب من لم يولد له يا رسول الله، قال: ولكن الرقوب الذي لم يقدم شيئاً من الولد) أي: الذي لم يمت له أولاد. فقوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] ، من هذا الباب، أي: هم كاملو العداوة لك؛ لأن الكفار أظهروا أمرهم وأظهروا عداوتهم لك، لكن هؤلاء أبطنوا العداوة وأظهروا الإسلام، فكانت عداوتهم أشد وأبشع.

الإرشاد إلى عدم الاغترار بالمظاهر

الإرشاد إلى عدم الاغترار بالمظاهر وربنا يقول في آية أخرى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) ، ويقول: (التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا, وأشار إلى صدره ثلاث مرات) صلى الله عليه وسلم. وقد ضحك الصحابة رضي الله عنهم من دقة ساق ابن مسعود؛ لما صعد شجرة وكشفت الريح عن ساقه، فرأى الصحابة دقة ساقه فعجبوا منها وضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من دقة ساقيه؟! لهي والله في الميزان أثقل من جبل أحد) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة، وتلا قول الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] ) . وقال الشاعر: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير فالمعول عليه دائماً هو الإيمان، فلا تعجب ببدانة شخص، ولا بضخامة جسم شخص، ولا ببهاء شخص، فقد كان أهل النفاق ذوي أجسام حسنة، وذوي هيئات جميلة، وشارات حسنة بهية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] ، أي: فعندهم ألسن يصيغون الكلام صياغات، ويتكلفون الكلام تكلفات.

إعراض المنافقين عن العلم النافع

إعراض المنافقين عن العلم النافع {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] ، وما المراد بالخشب المسندة؟ الخشب المسندة على الجدران، فهي خشب لا فائدة منها إلا شغل المكان، فالخشبة قد يكون لها فائدة، وهي أنها تحمل سقفاً مثلاً، أو خشبة قامت مقام العمود الذي يحمل السقف، لكن هؤلاء خشب مسندة على الجدران لا فائدة منها إلا أنها شغلت المكان فحسب. وعند هذه الآية أثار العلماء بحثاً، ينصب هذا البحث على أدب الجلوس لطلب العلم، فإذا كان هناك أقوام جلوس في المسجد أثناء درس علم مثلاً، كلٌ قد أخذ له مكاناً مريحاً، هذا وراءه عمود، وهذا ذهب إلى جدار في مكان مريح ليس غرضه أن يفهم، المهم أن يستريح جسمه، وليس حريصاً على العلم، فلا يبالي فهم أو لم يفهم؛ فكان أهل النفاق هكذا، أهم شيء عند المنافق منهم أن يبحث عن مكان مريح يجلس فيه في المسجد، فلا يبالي! كما قال الله سبحانه في شأن الفئات الأخرى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [محمد:16] جالس يستمع في المسجد، {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16] ، أي: هذا الرجل ماذا كان يقول؟ هذا مضمون كلامهم. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ} [محمد:16] ، فهم جالسون يستمعون خطب الرسول عليه الصلاة والسلام وأقواله، ولكن أهم شيء عندهم الجلوس في مجلس مريح، فلا يبالون بالحديث من أصله، {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16] صاحبكم هذا ماذا كان يقول في المجلس؟ فهذا شأنهم، وصفهم ربنا سبحانه فقال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] ، أي كأنهم خشب مستندة إلى جدار. وفي حديث الثلاثة الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يدرس أصحابه أدب لطلاب العلم، فأحدهم وجد فرجة في المجلس فأقبل وجلس فيها، والآخر جلس في آخر المسجد، والثالث أدبر وأعرض، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فأقبل فأقبل الله عليه، وأما هذا فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما هذا فأعرض فأعرض الله عنه) . فللجلوس في مجالس العلم آداب، منها ما يستنبطها العلماء من حديث جبريل ومجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه) ، ثم بدأ يسأل صلى الله عليه وسلم، ولا يمتثل كل ما جاء في حديث سؤال جبريل عليه الصلاة والسلام، وإنما يؤخذ منها أدب السؤال كما صنع جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] .

اتقاء المنافقين بالأيمان الكاذبة

اتقاء المنافقين بالأيمان الكاذبة {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ} [المنافقون:1] أي: نحلف لك بالله، {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] أي: نقسم ونحلف أنك رسول من عند الله، وهو تستر منهم وراء الأيمان، وهذا شأن أهل النفاق وأهل الكذب والغدر، يتسترون دائماً وراء الأيمان، كما قال الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:2] ، (اتخذوا أيمانهم جنة) أي: وقاية يتقون بها أهل الإيمان، وبطش أهل الإيمان، ويتقون بها حدود الله، إلى غير ذلك، فمن شعار أهل النفاق أنهم يكثرون من الأيمان، ولذلك كره جمهور أهل العلم الإكثار من اليمين. ومن حججهم وأدلتهم على كراهية الإكثار من اليمين: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10-11] ، فالحلاف: هو كثير الحلف. ومن أدلتهم على ذلك: أحد الوجوه في تفسير قول الله سبحانه: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] ، وإن كان جمهور المفسرين في تفسير الآية على أن المعنى: لا تجعلوا اليمين بالله حائلاً بينكم وبين فعل الخير، لكن ثمّ وجه آخر من أوجه التأويل بأن المعنى: لا تكثروا الأيمان. ثالث أدلة القائلين بكراهية الإكثار من اليمين: أنه فعل أهل النفاق، وقد نهينا عن التشبه بأهل النفاق، ولا يمنع هذا أن تقسم أحياناً حتى وإن لم يطلب منك القسم ولا يثرب عليك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك مراراً، فحين جاءه رجلان يختصمان، فجاء الرجل وقال: (يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فقضوا أن على ابني مائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: -وهذا وجه الاستشهاد- والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل) ، ولم يطلب منه اليمين. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) دون أن يطلب منه القسم، فقد يكون هناك داعٍ يدعو إلى تثبيت الحكم فيقسم الشخص، لكن لا يكون هذا القسم شعاراً له ولا ديدناً، فهو شعار وديدن المنافقين، يتقون بأس المسلمين بأيمانهم الكاذبة. {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ} [المنافقون:1] ، وهي: نحلف عند الجمهور من المفسرين، ومن المفسرين من قال: إن معناها نقر ونعترف، لكن أكثر المفسرين قالوا: (نشهد) أي: نحلف. {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:1-2] ، والجُنَّة هي الوقاية، ومنه ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، (في المتصدق الذي يلبس ثياباً تجن بنانه) أي: تخفيها وتغطيها، وهذا أصل مادة الجن والجُنَّة فكلها منشؤها الإخفاء، ومنه قولهم: للجن جن لاستتارهم وخفائهم، وقيل للجنة جنة؛ لأنها تجن من دخلها لكثرة أشجارها. فقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2] ، أي: وقاية يتقون بها أهل الإسلام، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:2] ، وذلك؛ لأنهم في الظاهر أهل إسلام، ومع إسلامهم يقسمون بالله أيماناً كاذبة فيظن ضعيف العلم والإيمان أنهم على حق في مقالتهم، فينصرف عن الدين وراءهم للأيمان التي يقسمونها وللشهادات التي يشهدونها في الظاهر. فلأهل النفاق علامات ذكرها الله في مواطن متعددة من كتابه، قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] . فقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) ، أي: إن جاءته بلية أو مصيبة في بدنه أو في ماله، فلضعف إيمانه بالله يسوي بين هذه البلية وبين عذاب الله، فيترك الإيمان ويرجع إلى الكفر والردة والعياذ بالله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] ، والآيات في وصف المنافقين في غاية الكثرة والوقت لا يتسع لها، فنحن بصدد تفسير سورة المنافقين فقط. قال الله جل ذكره: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:2] ، أي: صدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} [المنافقون:2-3] ، بألسنتهم، {ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون:3] ، بقلوبهم، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:3-4] ، هذا شأنهم وهذا حالهم، كانوا على درجة كبيرة من الحسن والبهاء والجمال، إذا نظرت إليهم أعجبك منظرهم، وإذا رأيت أولادهم أعجبك منظر أولادهم.

لا منافاة بين الحذر من المنافقين وبين التوكل

لا منافاة بين الحذر من المنافقين وبين التوكل قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] . قوله تعالى: {فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] ، أمر بأخذ الحذر، والله يقول في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] ، فالأمر بأخذ الحذر والحيطة لا ينافي التوكل، فإن قوماً فهموا هذا الباب على غير وجهه، ففهموا أن التوكل ينافي الأخذ بالأسباب، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث في البخاري وغيره: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، فجاء سعد بن أبي وقاص وسمع لمجيئه صوت السلاح، قال: جئت أحرسك يا رسول الله) . ومن الناس من يستدل بأقوال لا أعلم لها أصلاً، وخاصة الوارد عن عمر لما رآه أحدهم نائماً فقال: (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر) ، فلم يجد عنده حراس ولا غير ذلك، وهذا الأثر لا أعلم له سنداً، والأسانيد الثابتة إلى عمر بخلاف ذلك، فإن عمر كان يتخذ الحجبة والبوابين، ففي الصحيح أن عمر كان في مجلسه وله غلام يقال له: يرفأ، فقال: يا أمير المؤمنين هذا عثمان يستأذن عليك، قال: فأذن له، ثم قال: هذا عبد الرحمن بن عوف يستأذن عليك، قال: فأذن له. وأيضاً أراد عيينة بن حصن الفزاري أن يدخل على عمر فلم يستطع، فقال لابن أخيه الحر بن قيس: يا ابن أخي! إن لك وجاهة عند هذا الأمير فاستأذن لي في الدخول عليه، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن الفزاري في الدخول على عمر. وأيضاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه، جاءه آتٍ فقال: يستأذن عليك ابن جرموز قاتل الزبير بن العوام فقال: ائذن له وبشره بالنار، فالشاهد في قوله: يستأذن عليك فلان. فاتخاذ الحجبة واتخاذ الحرس لا ينافي التوكل على الله، بل أمرنا الله أمراً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] ، فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى، وهنا يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] ، فلا يُفهم التوكل على غير وجهه الصحيح، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو خير المتوكلين يؤمر بالحذر من المنافقين. {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [المنافقون:4] : من العلماء من يطلق القول فيقول: كل آية فيها (قتل) ، مثل: (قاتلهم الله، أو قتل الخراصون، أو قتل الإنسان ما أكفره) فمعناها: لعن، فمعنى {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] : لعن الخراصون، {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] ، أي: لعن الإنسان ما أشد كفره. {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] من العلماء من يجري المعنى الأصلي على هذا فيقول معناها: لعنهم الله أنى يؤفكون، و (يؤفكون) معناها: يصرفون، مثل قوله سبحانه: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] ، أي: يصرف عنه من صرف.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله.) قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5] : هذا حالهم، لا يبالون باستغفار رسول الله ولا غيره لهم، ومن أمثالهم: الجد بن قيس صاحب الجمل الأحمر، الذي ورد له ذكر في صلح الحديبية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد بيعة الرضوان فله الجنة -وفي بعض الروايات- إلا صاحب الجمل الأحمر) . قال فريق من المفسرين: إن صاحب هذا الجمل الأحمر هو الجد بن قيس، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ضل بعيره يوم الحديبية فذهب يبحث عنه، فقال له الناس: هذا رسول الله يبايع المسلمين تعال فبايع، وسل الرسول أن يستغفر لك، فقال: لا والله لأن أجد جملي أحب إليَّ من أن يستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا هو صاحب الجمل الأحمر، وقد ورد فيه هذا الحديث. والجد بن قيس هو الذي عزله الرسول عن السيادة، فقال لبني سلمة: (من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: يا رسول الله! الجد بن قيس على أنّا نبخله، قال: وأي داءٍ أدوى من البخل؟! بل سيدكم فلان) وسمى لهم سيداً آخر؛ بسبب بخل هذا الرجل. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5] ، فحالهم أنهم يرفضون استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، والله يقول: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:6] ، أي: يستوي في حقهم {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] ، وهذه الآية كقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:80] .

ترتب الثواب على الدعاء وإن لم يستجب

ترتب الثواب على الدعاء وإن لم يستجب فقد يقول قائل: مالي أدعو ربي ولا يستجيب دعائي؟! فنقول له: إن الله يقول أولاً: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41] ، ثم إن أجرك في الدعاء ثابت أُجيبت الدعوة أو لم تستجب، فإذا قلت: يا رب ارزقني، فأجرك ثابت رزقت أو لم ترزق، وذلك إذا استوفيت شروط الإجابة من الطعام الطيب، ومن عدم الدعوة بإثم ولا بقطيعة رحم، إلى آخر ما ورد في شرائط إجابة الدعاء. فالدعاء عبادة تثاب عليها إذا استوفيت شروطها، ثم إن استجيبت دعوتك فأنت مثاب، وإن لم تستجب فأنت مثاب، شأن ذلك شأن الشفاعة، قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اشفعوا تؤجروا) ، اشفع، أي: توسط، لكن الشفاعة بالحق هي الشفاعة الحسنة، وليس لك تسلط على المشفع فيه ولا على الشافع، قال عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله ما شاء) أي: أنت إذا شفعت أُثبت سواء قبلت منك الشفاعة أو ردت شفاعتك، فأنت مثاب على كل حال، ومسألة قبول الشفاعة أو رد الشفاعة ليست لك ولا للذي تشفع عنده، إنما مردها إلى الله، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ويقضي الله ما شاء) . ولذلك شفع النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات، مع أن شفاعته ردت عليه الصلاة والسلام، وذلك كما في قصة مغيث مع بريرة: كان مغيث رجلاً أسود وكان يحب بريرة حباً جماً، فشاء الله أن تعتق بريرة، والسنة في المعتقة أن تخيّر بين البقاء مع زوجها أو الفراق، فاختارت الفراق، فمن شدة حبه لها كان يطوف خلفها في الأسواق يبكي وتبلّ دموعه خده ولحيته، فرآه الرسول على هذه الحال، وكان الرسول يمشي مع عباس، فقال الرسول للعباس: (يا عباس! ألا تعجب من حب مغيث لـ بريرة وبغض بريرة لـ مغيث؟ فقال: يا رسول الله! لو شفعت، فذهب الرسول يشفع، قالت: تأمرني يا رسول الله؟ قال: لا. إنما أنا شافع، قالت: لا حاجة لي فيه) ، فالشاهد: أن أجر الرسول عليه الصلاة والسلام ثابت في شفاعته وقد ردت. فكذلك في الاستغفار لقوم، لكن أهل النفاق الذين عُلم بنص الكتاب العزيز أنهم أهل نفاق لا يستغفر لهم، كذلك أهل الشرك لا يستغفر لهم، وقد تأثم إذا استغفرت لأهل الشرك؛ لأن الله يقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] . فالدعاء يثاب عليه الداعي حصلت الاستجابة أو أُجلت، فإذا دعوت الله وقلت: يا رب ارزقني، يا رب احفظني، يا رب أكرمني، فأنت مثاب أُجيبت الدعوات إجابات عاجلة، أم اُُدخرت، أم صرف عنك من السوء شيء كان سينزل بك. قال الله سبحانه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] .

مسألة استجابة الله لكل دعوات الأنبياء

مسألة استجابة الله لكل دعوات الأنبياء يقول الله سبحانه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6] ، وهنا يثار بحث سريع: هل كل دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم استجيبت؟ أو هل كل دعوات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم استجيبت؟ تحرير الإجابة: أنه لم تستجب كل دعوات الأنبياء، فثم دعوات دعا بها الأنبياء فلم يستجب دعاؤهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته: أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها، -وفي بعض الروايات: ولكن يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً) الحديث. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما قال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] . ونوح لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] ، قال الله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] .

تفسير قوله تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله)

تفسير قوله تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله) قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] . وهذا المسلك مسلك أهل النفاق، ويسلكه الشيوعيون دائماً لصرف الناس عن الأديان، يشغلونهم بمسائل الطعام والشراب، ويجوعونهم حتى يصرفوهم عن الأديان، فسلفهم في هذا هم أهل النفاق الذين قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] ، أي: حتى يذهب كل واحد ليبحث عن عمل وينصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمسلك التجويع لصرف الناس عن الأديان، ومسلك رفع الأسعار لصرف الناس عن الأديان مسلك قديم، فعله المشركون لما حاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، ودعا إليه أهل النفاق لما قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] . وأكثر مسالك الكفار لها أصولها من عهد المرسلين، فهي مسالك قديمة، وعلاجها أيضاً معروف في كتاب الله ومعروف في سنة رسول الله، ولذلك جاء الحث على الصبر في البأساء والصبر في الضراء في عدة آيات. قوله سبحانه: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] . فيه حث على الإنفاق على أهل الدين حتى يثبتوا على دينهم، ومن هنا شرعت مسائل تأليف القلوب بالأموال، فلما كان نداء الكفار: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] ، كان لأهل الإيمان شعار مقابل: (إنما المؤمنون إخوة) ، وفي الحديث: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) .

موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه

موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] وهذه أيضاً قالها عبد الله بن أبي لما قال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فتشاجروا فيما بينهم، فقال عبد الله بن أبي: نافسونا في ديارنا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأيضاً أصحاب الدعوة إلى العصبيات الجاهلية سلفهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والدعاة إلى النعرات القومية إمامهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين. قد وردت في ذلك روايات مشهورة يتحدث بها بعض المفسرين، وإن كان في إسنادها ضعف، أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان رجلاً مؤمناً، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! لقد بلغني أن أبي قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولقد بلغني يا رسول الله! أنك تريد قتله، فإن كنت تريد قتله يا رسول الله فدعني أنا أقتله، فإني أخشى أن يقتله رجل من المسلمين فتأخذني الحمية فأقتله، فأقتل مسلماً بكافر فأدخل النار، ولكن دعني يا رسول الله آتيك برأسه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لا ولكن نستوصي به خيراً) أو كما قال.

سبب نزول قوله تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله.

سبب نزول قوله تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله.) يقول زيد بن أرقم: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، فتشاجر مهاجري مع أنصاري، فالأنصاري نادى الأنصار والمهاجري نادى المهاجرين، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أوقد فعلوها، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وأيضاً قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، فذهب زيد بن أرقم وأخبر عمر بذلك، فذهب عمر وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم فحدثه بالذي كان. فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ابن سلول ومن قالوا هذه المقولة، فأتوا إلى الرسول وأقسموا بالله ما قالوا هذه المقالة، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه مسلم وكذب زيد بن أرقم، قال أصحاب زيد بن أرقم وأعمامه ماذا جنيت؟ مقتك رسول الله وكذبك رسول الله، قال: فبت بشر ليلة، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] ، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (إن الله قد صدقك يا زيد) وفي هذا يقول الأنصار: ومنا الذي سمع الله له بأذنه، يعني: صدق الله سماعه وأنزل الله ما يؤيد صحة سماعه. وفي الآية معنىً، وهو أن الله سبحانه وتعالى يبرئ ساحة المظلوم، ويبرئ ساحة الصادق، فـ زيد كان صادقاً مع رسول الله فبرأه الله سبحانه وتعالى. وعائشة أنزل الله براءتها. ويوسف برأه الله سبحانه إذ قالت امرأة العزيز: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51] . وموسى أيضاً برأه الله وكان عند الله وجيهاً. وتلك الجارية التي قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فقد كانت هذه الجارية لـ عائشة وكانت تكثر من ترديد هذا البيت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني والوشاح هو: نسيج عريض تلبسه المرأة. فسألتها عائشة رضي الله عنها: مالكِ ترددين هذا البيت؟ قالت: والله لقد كنت عند قوم، ففقدوا وشاحاً لابنة من بناتهم، فاتهموني بسرقة هذا الوشاح، وفتشوا كل شيء في جسمي حتى فتشوا قبلي، واتهموني بسرقته، فبينما هم على هذه الحال، إذا جاء طائر وألقى بالوشاح فوقهم وهم يفتشونني، فبرأني الله بذلك، فحفظت هذا البيت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فلتقر عين كل من ظُلم! فإن الله سبحانه وتعالى يبرئ ساحته عاجلاً أو آجلاً، فالله سبحانه وتعالى حكم عدل. {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7] . إن الذي يقسم الأرزاق هو الله، وكل الخزائن أمرها بيد الله، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] ، فالذي يبسط الأرزاق هو الله، والذي يضيق على العباد هو الله سبحانه وتعالى، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27] ، فالمرزوق من رزقه الله، والمحروم من حُرم، فأمر ذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى. {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] .

تفسير قوله تعالى: (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله)

تفسير قوله تعالى: (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:8-9] ، أي: كما ألهت أهل النفاق، وكما شغلت أهل النفاق، فقد يكون هذا هو وجه الربط بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] ، وبين موضوع السورة. وبعض أهل العلم ومنهم: الشوكاني في تفسيره فتح القدير، وتبعه وأخذ ذلك منه صديق حسن خان في فتح البيان لا يقولون بلزوم التناسب، بل وألّف قبلهما مؤلفون في مناسبة الآية مع التي قبلها. قال الشوكاني رحمه الله تعالى ما حاصله وفحواه: لا يلزم أن يكون هناك ترابط بين كل آية والآية التي بعدها، صحيح قد يكون هناك ترابط بين الآية والآية التي سبقتها والآية التي تتلوها، ولكن ليس هذا في كل وقت وحين. فقد تأتي آيات مستقلة تنشئ معنىً جديداً كما في سورة البقرة، حيث ترى آيات تتعلق بالطلاق، وآيات أُخر تتعلق بالربا، وآيات تتعلق بالجهاد، وآيات نصفها عن الربا ونصفها في الحث على تقوى الله، فأحياناً تجد آيات لها صلة بالآيات التي قبلها في المعنى، ولكن ليس هذا بلازم، فلا يلزم في كل وقت أن يكون هناك مناسبة في المعنى بين كل آية والتي بعدها. فإن التمس وجه للمناسبة في المعنى فبها ونعمت، وإن لم يكن هناك اتصال ولا مناسبة فليس هناك شيء ملزم من الكتاب والسنة يقول إنه لابد أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى، أو منفصلة عما قبلها في المعنى.

مسألة ترك العمل والاتكال على ما في اللوح المحفوظ

مسألة ترك العمل والاتكال على ما في اللوح المحفوظ {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:10-11] . وهنا بحث أصولي عقائدي ذو أهمية، قوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] ، إذا كان الأجل لا يؤخر، فلماذا يدعو الرسول بطول العمر، ويقول في شأن أنس: (اللهم أطل عمره) ؟ ولماذا ندعو أيضاً بسعة الأرزاق، ونقول: يا رب ارزقنا وأنت خير الرازقين؟ والرزق مقدر لنا ونحن في بطون أمهاتنا، وعلى شاكلتها جملة من المسائل. إذا كان الشفاء مقدراً في وقت بعينه، فلماذا أرفع يدي وأقول: يا رب اشفني؟ وإذا كان النجاح مقدراً، فلماذا أقول: يا رب نجحني في الامتحان؟ مسائل في الحقيقة أورد بعض المفسرين عندها إشكالات في غاية الطول، والمخرج منها اتباع الوارد عن رسول الله. أما الإجابة على ما سبق فإجابة إجمالية ثم تفصيلية. الإجابة الإجمالية: أولاً: أننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن الآجال مقدرة وأن الأرزاق مقدرة، ومع هذا الاعتقاد نعمل كما أمرنا ربنا وكما أمرنا رسولنا، وليس لنا وراء ذلك شيء، وبهذا أرشد رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لما سأله سراقة بن مالك فقال: (يا رسول الله أرأيت العمل الذي نعمل، عمل جرت به المقادير، وجفت به الأقلام، وطويت عليه الصحف، أم عمل مستأنف؟ قال: بل عمل طويت عليه الصحف، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل إذاً يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) . فأهل الإسلام والذي سار عليه أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم هو اعتقاد أن الأمور مقدرة، والعمل كما أمرهم الله وكما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعون ما وراء ذلك الخوض في الفلسفات التي تأتي من وراء ذلك، والله أعلم. أما الإجابة التفصيلية ففي وقت لاحق إن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،

الانشغال بمتاع الدنيا عن ذكر الله

الانشغال بمتاع الدنيا عن ذكر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] . هذا نداء من الله لجميع المؤمنين، فإن الناس الآن قد شغلوا بدنياهم وأموالهم شغلاً ألهاهم عن ذكر الله، فتجد مثلاً أخاً من إخواننا التجار شغلته تجارته حتى عن المكتوبات، وتجد أخاً طبيباً شغله طبه عن مجالس العلم حتى هجر مجالس العلم تماماً، وتجد أخاً مهندساً شغلته هندسته عن تلاوة جزء من كتاب الله في كل يوم. فلابد أن تنظم نفسك، وتنظم وقتك، وتنظم عملك، ولا تجعل الدنيا والأموال تلهيك، طبيب مثلاً يفتح العيادة من العصر إلى الساعة الواحدة في الليل، ليس من أجل المرضى، بل من أجل جيبه في الدرجة الأولى، ولا يعنيه شأن المرضى في كثير من الأحيان، إلا من رحم الله، فإذا لم تضبط نفسك وتدخر لأخراك شيئاً، أتيت يوم القيامة من المفلسين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9] ، والآية الأخرى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] . فلا ينبغي أن تُشغل عن ذكر الله بأي شيء و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] ، وقد يبارك الله في المال القليل الذي تصحبه دعوة بالبركة فيه، وتصحبه آية من كتاب الله قد تليت، أو حديث لرسول الله قد حفظ. وهذه الآية الكريمة آية محكمة عند الجميع، ليست بمنسوخة بالاتفاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9] .

فقه الإنفاق

فقه الإنفاق قوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون:10] ، بعض العلماء يقول: (من) هنا للتبعيض، أي: لا تنفقوا كل ما رزقناكم، ولكن أنفقوا شيئاً مما رزقناكم، وهي الزكوات المفروضة عند فريق من المفسرين، وهي كقوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] ، فقوله تعالى: (وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) ، أي: لا يسألكم إنفاق جميع أموالكم، إنما يسألكم جزءاً من أموالكم، فـ (من) للتبعيض، أي: أنفقوا شيئاً مما رزقناكم. وقد تقدم أن للإنفاق فقهاً، متسعاً يدور حول قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29] ، وأيضاً يحكمه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِه كَفُوراً} [الإسراء:27] ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دينار تصدقت به، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك) . ويضبطه أيضاً: (ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) ومع ذلك: (الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، فتسبك هذه المسائل سبكة فقهية مأخوذة من هذه الأحاديث، حتى تعرف متى تنفق وفي أي موطن تنفق، ومتى تسعى في الكسب ومتى تفرغ وقتاً للطاعات والعبادات؟

الأسئلة

الأسئلة

حكم إعطاء المتزوج بهاشمية من الزكاة والصدقة

حكم إعطاء المتزوج بهاشمية من الزكاة والصدقة Q شخص زوجته من بني هاشم، فهل يحرم إعطاؤه من الزكاة أو الصدقة؟ A نعم يجوز إعطاؤه من الصدقة، ولا يجوز إعطاؤها هي من الصدقة، فهو يعطى من الصدقة، لأن مسئولية البيت في الإنفاق عليه هو وليست عليها، (والنبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته، فقرب إليه طعام، وكان قد رأى برمة -يعني: صحفة فيها لحم- فقال: ألم أر البرمة؟ قالوا: لحم تصدق به على بريرة يا رسول الله، قال: هو لها صدقة ولنا هدية) ، فاستحالت الصدقة من بريرة إلى هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

حكم قتل القطة المؤذية

حكم قتل القطة المؤذية Q لدينا قطة كثيرة المشاكسات، وتصيب الطيور عندنا، وربما أكلتها واحدة تلو الأخرى، فهل يحل قتلها أم يحرم؟ A يحل قتلها، فإن النمل التي هي أشد احتراماً من الهرة -إذ النبي قد نهى عن قتل النمل- إلا أن النبي قد رخص في قتل المؤذي منها لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لدغت نملة نبياً من الأنبياء فأمر ببيت النمل فأحرق، فأوحى الله إليه: هلا نملة واحدة?) ، فاستدل به على جواز قتل المؤذي حتى من الأشياء المحترمة، فالنمل أشد احتراماً من القطة، أما القطة فهي من ذوات الأنياب.

حكم زواج رجل من فتاة رضع أخوه من أمها

حكم زواج رجل من فتاة رضع أخوه من أمها Q أريد أن أتزوج من فتاة ولكن أخي رضع مع أختها من أمها رضعات كثيرة، فهل يحل لي أن أتزوج منها؟ A نعم يحل لك؛ لأن أخاك رضع من أمها، لكن إذا كانت البنت رضعت من أمك فإنها تحرم عليك.

حكم صلاة الوتر قبل النوم في أول الليل ثم التهجد بعده

حكم صلاة الوتر قبل النوم في أول الليل ثم التهجد بعده Q هل يمكن أن أصلي الوتر في أول الليل قبل النوم؟ A نعم، لحديث أبي هريرة قال: (أوصاني خليلي بثلاث وذكر منها: أن أوتر قبل أن أنام ... ) . السؤال: ثم إذا منّ الله علينا باليقظة فهل نصلي تهجدنا؟ الجواب: نعم إذا منّ الله عليك باليقظة فصل مثنى مثنى ولا توتر مرة أخرى، إذ لا وتران في ليلة.

حكم رجوع زوج سب الدين إلى زوجته بعقد جديد

حكم رجوع زوج سب الدين إلى زوجته بعقد جديد Q زوجي سب الدين، وعلمت أن سب الدين كفر، فقلت له: إنني محرمة عليك إلا أن تتزوجني مرة أخرى بعقد جديد، هل هذا صحيح؟ ولو كان صحيحاً ماذا أفعل؟ A ليس بصحيح، إذا تاب فلا يلزم إنشاء عقد جديد للزواج؛ لأن الكفار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسلمون ويبعد أن يقال: إن كل الكفار أسلموا مع أزواجهم في آنٍ واحد، فهذا يسلم الآن وزوجته تسلم مثلاً بعد شهر أو بعد يوم أو بعد سنة أو بعد سنتين، وبعدها ترجع إليه، ولم يرد في حديث ثابت أنه أنشأ أحدهم عقداً جديداً لرجعة زوجته إليه. ورد حديثان في شأن زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما ضعيف، وكل منهما يضاد الآخر، لكن أراحنا ضعفهما لتضادهما. الأول: أن النبي أعاد زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بعقد جديد وبصداق جديد، وهذا ضعيف. والثاني: أنه أعادها إليه بالعقد الأول والصداق الأول، وهذا أيضاً ضعيف. لكن عموم أحوال سائر الصحابة رضي الله عنهم تدل على أنه ما ورد أن واحداً جدد عقده مع زوجته بعد أن أسلم، فإذا سب هذا الشخص الدين فلابد من النظر إلى المخرج، وإن كان بعض العلماء يقولون: نشدد في الزجر ولا نحلل في مثل هذه المسألة حتى لا يتهاون الناس بها، لكن لأن المجلس مجلس علم فلابد أن تعرف الأحكام. هناك فرق بين من يسب الدين لكونه دين الإسلام، ويسب الإسلام قاصداً بذلك الإسلام، وبين شخص يسب الشخص في صورة سب الدين، كلفظة جرت على اللسان، فهذه النية تختلف عن تلك النية. فالشاهد: أنه لا إعادة للعقد إذا تاب من سبته.

الجمع بين كون سعد بن أبي وقاص حارسا للنبي وبين قوله: (والله يعصمك من الناس)

الجمع بين كون سعد بن أبي وقاص حارساً للنبي وبين قوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) Q كان سعد بن أبي وقاص يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هل يدل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] على عدم اتخاذ الحجاب؟ A قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ} [المائدة:67] ، لا تمنع من اتخاذ البوابين، فالرسول أيضاً في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله، جاء عمر فقال لغلام أسود يقال له رباح: يا رباح استأذن لي على رسول الله، قال: قد استأذنته فلم يأذن، فلا يمنع أن تتخذ حرساً أحياناً وأن تترك الحرس أحياناً، على حسب الحال.

حكم لعب الأطفال

حكم لعب الأطفال Q هل لعب الأطفال حرام؟ A لعب الأطفال ليست محرمة.

حكم من قال لزوجته: أحضري أهلك وفي ستين داهية

حكم من قال لزوجته: أحضري أهلك وفي ستين داهية Q حدثت مشكلة بيني وبين زوجتي، فرفعت صوتها وقالت: طلقني، وأنا حريص وحذر جداً من إطلاق هذا اللفظ، ولكني غضبت وقلت لها: (أحضري أهلك وفي ستين داهية) ، ولما ذكرت ذلك لها أقسمت بالله أنها لم تطلب مني الطلاق، مع العلم بأنها لم تخرج من المنزل ولم يأت أحد من أهلها، فما حكم الإسلام في ذلك؟ A ليس فيما ذكر شيء، وهي ما زالت زوجته ولم تقع طلقة.

أحاديث ضعيفة

أحاديث ضعيفة Q ما هو حكم حديث: (أول من يأخذ كتابه بيمينه عمر) ، وحديث: (الملك الذي طاف في الجنة سبعين سنة، ثم تعب فاستراح، فأتت حوراء من حور العين) ، وحديث: (الدابة التي أمرها الله أن تبتلع السماوات والأرض) ؟ A كل هذه الأحاديث الثلاثة المذكورة ضعيفة.

حكم الدعاء أثناء الإقامة

حكم الدعاء أثناء الإقامة Q ما هو حكم حديث الدعاء أثناء الإقامة؟ A هناك دعاء إسناده حسن.

حكم حديث: (كان النبي إذا صلى المغرب ذهب إلى بيته.

حكم حديث: (كان النبي إذا صلى المغرب ذهب إلى بيته.) Q حديث: (كان إذا صلى المغرب ذهب إلى بيته ولا يكلم أحداً حتى يصلي ركعتين) ؟ A لا يحضرني الحكم عليه.

حكم رواية الحديث بالمعنى

حكم رواية الحديث بالمعنى Q هل تجوز رواية الحديث بالمعنى؟ A نعم تجوز رواية الحديث بالمعنى إذا كنت عالماً بما يحيل المعنى، يعني: عالماً بالألفاظ ومدلولات الألفاظ.

حكم رد المشتوم على الشاتم

حكم رد المشتوم على الشاتم Q كانت لي بنت مخطوبة ولم يحدث نصيب وأرجعنا لهم الشبكة، وبعدها انهال الخطيب عليَّ بالشتم المقذع في الهاتف، وللأسف رددت عليه شتمه، وقلت له: يا ابن (ال ... ) ، المهم أني شتمته بأمه، وأخاف من القصاص يوم القيامة، فهل أطلبها وأعتذر لها، مع العلم بأن في ذلك إحراجاً لنا وضرراً علينا؟ A البادئ أظلم، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم) ، فإذا رأيتِ أنكِ ستمته بالقدر الذي شتم فهذه بتلك والبادئ أظلم، وإلا فالتحلل من المظالم وذلك إذا شعرتِ أنكِ ظلمتيه، كما حث على ذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

حكم إصلاح سيارات الشرطة

حكم إصلاح سيارات الشرطة Q أنا (ميكانيكي) وتأتي إليَّ سيارات الشرطة لأصلح ما بها من أعطاب، فهل عليَّ إثم؟ A ليس عليك إثم.

حكم قراءة الفاتحة على روح المتوفى

حكم قراءة الفاتحة على روح المتوفى Q هل قراءة الفاتحة على روح المتوفى من السنة؟ A لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المحارم مؤقتا وحكم جلوس المرأة معهم بدون نقاب

المحارم مؤقتاً وحكم جلوس المرأة معهم بدون نقاب Q من هم المحارم المؤقتون للمرأة، وهل يجوز أن تجلس معهم بدون نقاب؟ A المحرم المؤقت للمرأة لا يحل له السفر بها ولا الخلوة بها، بل هو مؤقت، يعني: أنت محرم مؤقت لأخت زوجتك؛ لأنك لا تجمع بينها وبين أختها، ومع أنك محرم مؤقت لها فلا تسافر بها ولا تخلو بها، فقد تعجبك بها فتطلق الزوجة وتتزوجها، وكذلك عمة الزوجة وخالة الزوجة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها) .

حدود عورة المرأة مع المرأة

حدود عورة المرأة مع المرأة Q هل عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل؟ A الجمهور يقولون: إن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل.

حكم ربط المحبلة أو استئصال الرحم

حكم ربط المحبلة أو استئصال الرحم Q هل عملية ربط المحبلة أو استئصال الرحم حرام أم حلال؟ A يُنظر إلى السبب من وراء هذه العملية، والغرض الذي من أجله تمت هذه العملية، وعلى ذلك يأتي الحكم، والله أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله،،،

تفسير سورة التغابن

تفسير سورة التغابن سورة التغابن هي إحدى سور القرآن العظيمة، حيث افتتحت بتسبيح الله وتمجيده والثناء عليه، ثم عرجت على ذكر يوم القيامة وهو يوم التغابن الذين يغبن فيه أهل الجنة أهل النار، كما اشتملت هذه السورة على ذكر طاعة الله ورسوله وخطر التولي عنهما، وفي آخرها بينت أعداء الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وأن الواجب على الإنسان أن يكون مع ربه ويتقيه حتى يسلم من شرور الأعداء.

تفسير قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات.

تفسير قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ.) يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] . هذه السورة هي سورة التغابن، وهي كما قال بعض العلماء: آخر سورة من المسبحات، وقد ورد في فضلها حديث ضعيف تالف الإسناد، ألا وهو: (ما من مولود يولد إلا وتشتبك عند رأسه خمس آيات من سورة التغابن) . يقول الله سبحانه وتعالى في مطلع هذه السورة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [التغابن:1] أي: ينزه الله سبحانه وتعالى كلٌّ من في السموات ومن في الأرض، عن كل عيب وعن كل نقص، {لَهُ الْمُلْكُ} [التغابن:1] أي: ملك السموات والأرض وما بينهما، {وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن:1] أي: الثناء من جميع الخلائق، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] . فإن قال قائل: هل يثني ربنا سبحانه وتعالى على نفسه في قوله سبحانه: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن:1] ؟ فالإجابة: نعم، إن الله سبحانه وتعالى يثني على نفسه وليس لنا أن نثني على أنفسنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لك الحمد أنت كما أثنيت على نفسك) ، فربنا يثني على نفسه، أما نحن فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] .

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر.

تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ.) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن} [التغابن:2] . قال جمهور المفسرين: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن} [التغابن:2] أي: خلقكم فمنكم كفار ومنكم مؤمنون وهم في بطون الأمهات، أو حتى قبل أن تخلقوا في بطون الأمهات، فإن الله سبحانه وتعالى قد مضى أمره وجرت سنته في الخلق، على أن من الخلق من خلق كافراً ومنهم من خلق مؤمناً، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] ، (ذرأنا) أي: خلقنا، وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] أي: سبق في علمنا وفي كتابتنا أن لهم الحسنى، (أولئك) عن النار (مبعدون) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود المتفق عليه: (فيسبق عليه الكتاب -أي: المكتوب عليه- فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، أو يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ، والشقاوة والسعادة مقدرتان. فمن أهل العلم من قال: إن قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} [التغابن:2] أي: خلق خلقاً هم في أصل خلقتهم كفار، قال عليه الصلاة والسلام عن الغلام الذي قتله الخضر: إنه طُبع كافراً، وخلق خلقاً آخرين في أصل خلقتهم، هم أهل إيمان، وهذا رأي جمهور المفسرين في هذا الباب. بينما اختار آخرون رأياً آخر، وقالوا إن معنى قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} [التغابن:2] ، لما خلقكم اختار قوم منكم الكفر، واختار قوم منكم الإيمان، وأوردوا شاهداً لهذا، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] ، أي: لما خلقها من ماء بدأ بالتقسيمات فقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45] . واستشهد قائل هذه المقولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ، إلا أن الاختلاف حدث في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) ، ما معنى الفطرة؟ وما المراد بها؟ فرأى بعض أهل العلم: أن المراد بالفطرة: الإسلام. ورأى آخرون: أن الفطرة: هي الخلقة التي خلقه الله عليها، سواء كانت الإسلام أو غير الإسلام، وفي هذا تفصيلات أخرى لعلها تأتي في باب أوسع إن شاء الله. لكن رأي الأكثرين مبني على أن أصل الخلق منهم كافر في تقدير الله وفي علم الله سبحانه وتعالى، ومنهم مؤمن كذلك في علم الله وفي تقدير الله سبحانه. فإن قال قائل: فما فائدة العمل إذاً والأمور مقدرة؟ قلنا: العمل امتثال لأمر نبينا صلى الله عليه وسلم لما سأله الشابان الأنصاريان: (ففيم العمل إذاً يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .

تفسير قوله تعالى: (خلق السموات والأرض بالحق.

تفسير قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ.) قال الله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3] . الباء في قوله تعالى: (بالحق) ، من أهل العلم من قال: إنها بمعنى اللام، أي: خلق السموات والأرض للحق، فلم يخلقها عبثاً ولا لهواً، بدليل قوله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16] ، وقوله: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] ، وتقدم مزيد من التفسير لهذه الآية. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) هذه الآية كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] ، ومن أهل العلم من جعل الضمير في قوله تعالى: ((وصوركم)) راجعاً إلى آدم صلى الله عليه وسلم؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11] ، فآدم عليه السلام صور في أحسن تقويم وفي أتم خلق، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم واصفاً خلق آدم: (خلق آدم وطوله في السماء ستون ذراعاً، فما زال الخلق في تناقص حتى الآن) . ومنهم من قال: هو راجع إلى ذرية آدم، فربنا سبحانه وتعالى خلقها في أحسن الصور، ليست منكبة على وجوهها في الأرض، ولا تمشي على أربع، بل خلقها معتدلة حسنة الاستواء وقوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3] : فيه دليل على أن الذي يصور هو الله سبحانه وتعالى، فليس لك من أمرك أيها الوسيم الجميل شيء، وليس لك من أمرك أيها الدميم شيء، فالذي صورك هو الله، والذي جملك هو الله، والذي خلقك على هذه الخلقة التي أنت عليها هو الله سبحانه وتعالى، فمن ثم لا يزدرى شخص لدمامته، ولا يغالى في حب شخص لوسامته وجماله؛ ولذلك يقول العلماء في تربية الأبناء: لا ينبغي أن تحتقر ولداً من أولادك لقلة جماله ودمامته، ولا أن تغالي في حب ولد لوسامته، فالذي يصور في الأرحام هو الله سبحانه وتعالى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6] ، ثم إنه سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الصور والأجساد، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3] أي: المرجع والمآب.

تفسير قوله تعالى: (يعلم ما في السموات والأرض.

تفسير قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.) قال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن:4] . (ذات الصدور) أي: الأمور التي تكنها الصدور ولا تكاد تخرجها حتى لأنفسها، فهي أمور ملاصقة للصدور لا تفارقها، فالله سبحانه وتعالى عليم بها، فثم أمور تسرها أنت وتبالغ في الإسرار بها حتى لا تريد أن تحدث بها نفسك، فالله عليم بهذه الذوات.

تفسير قوله تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا.

تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.) قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التغابن:5] . النبأ: هو الخبر، أي: ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبل، قوله: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [التغابن:5] أي: سوء عاقبتهم وعملهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التغابن:5] أي: مؤلم موجع. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:6] ، أي: بسبب تعجبهم لكون الرسول من البشر، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:24] ، وقوله: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] . فكان اعتراضهم على إرسال الرسول من البشر، وقد أجاب الله سبحانه وتعالى على هذا الاعتراض، فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] ، قال سبحانه: {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6] .

تفسير قوله تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا.

تفسير قوله تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا.) {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] . قوله: (زعم) بمعنى: ظن، والزعم يأتي في كتاب الله وفي سنة رسول الله وفي لغة العرب على معانٍ متعددة: فأحياناً يأتي (الزعم) ويراد به الكذب الصراح، وأحياناً يأتي (الزعم) ويراد به مطلق القول صدقاً كان أو كذباً، وأحياناً يأتي (الزعم) ويراد به القول المشوب بالكذب. قالت أم هانئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (زعم ابن أمي -أي: علي رضي الله عنه- أنه قاتل رجلاً قد أجرته يا رسول الله، قال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) . فالزعم هنا بمعنى: الظن، وقد ورد في الأثر وبعضهم رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئس مطية الرجل زعمه، يعلق عليها كل شيء) . قوله: {أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] أي: أن لن يكون هناك بعث ولا جمع ولا حساب. قال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن:7] : هذه إحدى ثلاث آيات أمر الله فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه، ألا وهي قوله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن:7] فالواو: واو القسم، والآية الثانية: هي قوله تعالى في سورة يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53] ، والآية الثالثة: هي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] ، فهي ثلاث آيات في كتاب الله أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقسم فيها بربه. قال تعالى: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] . أي: لتخبرن بما صنعتم في دنياكم، وهذا في حق المؤمن، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يدني الله المؤمن يوم القيامة ويضع عليه كنفه ويستره من الناس، ثم يقرره بذنوبه، أعملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا؟ فيقول: بلى يا رب، أعملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا؟ فيقول: بلى يا رب، حتى يظن أنه قد هلك، فيقول الله له: أنا سترتها لك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) . وأما الكفار والمنافقون فقال تعالى عنهم: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال للعبد يوم القيامة: عملت كذا وكذا، فيقول: لا، فيختم على فيه بعد أن يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم، فيقول الله له: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً منها، فيختم على فيه فتنطق فخذه بما أحدث) . وكما قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21] . فالكل ينبأ بما عمل يوم القيامة، أهل الإيمان ينبئون بما عملوا يوم القيامة، وأهل الكفر ينبئون بما عملوا يوم القيامة، كما قال الله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ، وكما قال سبحانه: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ، وقال: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] .

تفسير قوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله.

تفسير قوله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.) قال سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:8-9] . أما يوم الجمع: فهو يوم القيامة بالاتفاق، ففيه يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجمع نوح ويجمع آدم ويجمع رسولنا ويجمع المسيح ابن مريم ويجمع الخلق كلهم في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، أي: المنادي الواحد يسمع جميع الخلق هؤلاء.

معنى الغبن

معنى الغبن {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] : التغابن: من قوله: غُبن فلان: أي: خسر، غبن فلان فلاناً، أي: انتقصه من حقه، وجدير بنا هنا أن نبين بعض أحكام الغبن في التجارات؛ إذ هذا محلها. فالغبن: أن تشتري سلعة لها ثمن معين، فتشتريها بثمن شديد البخس، مثل سلعة قيمتها مائة، فتشتريها إما بعشرة أو بألف، فإن اشتريتها بألف فقد غبنت أنت، وإن اشتريتها بعشرة فقد غبنت صاحبها، فهذا يرد البيع به عند أكثر الفقهاء، بل ادعى فريق منهم الإجماع على رد السلعة بالغبن الفاحش. فمثلاً: متعارف على أن الكيلو السكر بجنيه ونصف أو باثنين، ذهبت إلى بقال فباع منك الكيلو بعشرة جنيهات، فيكون قد غبنك غبناً فاحشاً، فترد السلعة بهذا الغبن الفاحش. مثال آخر: طبيب تعارف الناس على أن الكشف الطبي بعشرة جنيهات، فكشف عليك بمائة جنيه، فهذا يسمى غبناً فاحشاً، ولك أن تطالبه شرعاً بالمبلغ الذي زاد على المعتاد، وهذه صورة مستثناة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) . وكذلك لو أن بيتاً من البيوت قيمته تقدر بمائة ألف فباعه بمليون، فترد هذه البيعة بسبب هذا الغبن الفاحش، إذ هو نوع من أنواع الغش. تَرِدْ علينا مسألة هنا أيضاً: هل لتحديد الكسب شيء في كتاب الله، أو في سنة رسول الله؟ هل هناك نسبة للربح في الكتاب أو في السنة؟ ف A أنه ليس هناك نسبة للربح في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الأمر في هذه المسائل يردُّ إلى الأعراف وإلى تقديرات الناس، فاعتبار الأعراف وتقديرات الناس له جملة من الأدلة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأحياناً تبيع السلع وتكسب فيها عشرة أضعافها ولا تكون قد غبنت المشتري، فمثلاً: اشتريت قطعة أرض (الآن) المتر بمائة جنيه، ثم صدر قانون فارتفعت أسعار الأراضي فجأة، فالذي بمائة أصبح بعشرة آلاف، فبعتها بعشرة آلاف للمتر الواحد، فكسبت فيها مائة ضعف، وفي نفس الوقت لم تغش ولم تظلم أحداً. أما إذا غررت بشخص، وبعت له السلعة التي هي بواحد فبعتها باثنين، في أحوال معتادة، فتكون قد غبنته، ويرد البيع بسبب هذا الغبن الفاحش. فالمسألة إذاً نسبية لا تطرد، بل على حسب الأعراف السائدة، ولتقرير مسألة الأعراف نورد جملة من الأدلة لعلها تنفع في هذا الباب. فمن هذه الأدلة: اعتبار الأعراف في مسألة مهر المثل، فمهر المثل له أدلته من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ، فقوله: (إن خفتم أن لا تقسطوا) أي: أن لا تعدلوا مع اليتامى إذا أردتم أن تتزوجوهن، والإقساط مع اليتيمة: أن تبلغ بها أعلى حد في الصداق، فللصداق سنة يقاس عليها. وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث بروع بنت واشق: (لها مهر مثلها من غير وكس ولا شطط) ، ومهر المثل يقدر بالأعراف السائدة. وكذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسيح الدجال، قال: (إن يوماً من أيامه كسنة، وإن يوماً من أيامه كشهر، وإن يوماً من أيامه كجمعة، وإن سائر أيامه كأيامكم، فقالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي من أيامه كسنة، هل تكفينا فيه صلاة يوم واحد، قال: لا. اقدروا له قدره) أي: قيسوا الأمور قياساً، فاجعلوا كل زمان يوازي يومكم فيه خمس صلوات، فلا تكفي خمس صلوات في اليوم الذي هو كسنة. فاعتبار الأعراف والتقديرات له جملة أدلة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينعكس على مسائل الغبن في البيع أو الشراء.

غبن أهل الجنة أهل النار في الآخرة

غبن أهل الجنة أهل النار في الآخرة لو قال قائل: إن الله سبحانه وتعالى ذكر التغابن في كتابه، فدل ذكره للتغابن في كتابه على جواز الغبن؟ فالإجابة: هذا الفهم بعيد عن الصواب؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختص يوم القيامة بأنه يوم التغابن، أي: الذي يغبن فيه أهل الجنة أهل النار. فكيف يغبن أهل الجنة أهل النار في هذا اليوم؟ قال فريق من المفسرين -وهذا أيضاً مأخوذ من قول الله سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]- قالوا: إن للكافر مقعدين: مقعداً في الجنة ومقعداً في النار، وإن للمؤمن كذلك مقعدين: مقعداً في الجنة ومقعداً في النار، فإذا دخل المؤمن الجنة أخذ مقعده من الجنة، وبقي مقعد الكافر شاغراً فيأخذه المؤمن، ويأخذ الكافر مقعد المؤمن من النار، فهنا يحدث التغابن، أهل الجنة غبنوا أهل النار بأخذهم مقاعدهم من الجنة، واستيلائهم على مقاعدهم من الجنة، وأهل النار غُبنوا بأخذهم مقاعد أهل الإيمان في النار، فهذا أحد الأقوال.

الغبن بين المظلوم والظالم في الآخرة

الغبن بين المظلوم والظالم في الآخرة كذلك يكون هناك تغابن بين أهل الإيمان وأهل المعاصي، وبين الظالمين والمظلومين، فالتعامل هناك بالحسنات والسيئات، فإذا شُتمت في الدنيا وسُببت وضُربت، فإنك تأخذ مقابل هذا السباب وهذا الشتم وهذا الضرب حسنات من شاتمك وحسنات من ضاربك، فترتفع فوقه درجات، وما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وكذلك المظلومون يغبنون الظلمة بأخذ أشياء من حسناتهم، وبأخذ المظالم التي ظلموهم بها حسنات ورفعة في الدرجات يوم القيامة، فالتغابن بين أهل الجنة وأهل النار من ناحية، وبين أهل الظلم والمظلومين من ناحية أخرى، وثم صور أخرى للتغابن يوم القيامة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) أي: خاسر فيهما كثير من الناس، ومنقوص فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.

اجتماع الحسنات مع السيئات التي دون الكفر

اجتماع الحسنات مع السيئات التي دون الكفر قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار} [التغابن:9] . هذه الآية فيها دليل على أن أهل الإيمان وأهل العمل الصالح لهم أيضاً مع الإيمان والعمل الصالح سيئات ترتكب، وهذا تصديق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) . وتصديق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر الحديث) ، ومن القرآن قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] ففيه دليل على أنهم عملوا أعمالاً سيئة وهم من أهل الإيمان، فلا ينبغي أن يزكي شخص نفسه، والله سبحانه أعلم.

الرد على المرجئة والمتصوفة

الرد على المرجئة والمتصوفة قول الله سبحانه وتعالى: {وَيَعْمَلْ صَالِحًا} [التغابن:9] فيه رد على المرجئة الذين يقولون: يكفي قول: لا إله إلا الله بلا عمل، فالله ذكر هنا: (ويعمل صالحاً) . وفيه أيضاً رد على الصوفية من وجوه: فإن الصوفية يسوون بين المجانين والعقلاء الذين يعملون الصالحات، بل بعضهم يرفع المجنون درجة فوق الذي يعمل الصالحات، ونصوص الكتاب والسنة تدل على خلاف ذلك، فإن جل الآيات في كتاب الله فيها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ثم يذكر الجزاء بعدها، في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] ، والمجنون لم يعمل صالحات. ثم أمره إلى الله كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعة يدلون بحججهم عند الله يوم القيامة، فذكر النبي منهم: المجنون يقول: يا رب! أتاني الإسلام وأنا لا أعقل شيئاً، فيبتلى بالنار لاقتحامها) على ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء المتصوفة الذين يزعمون أن المجانين أفضل من العقلاء، وأن المجانين مرفوع عنهم الحجب والحساب، ومن ثم فهو أفضل من العقلاء، هذا قول مردود بهذه الآية الكريمة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن:10] . يلفت بعض العلماء النظر إلى كلمة: (أصحاب) ، فالصاحب: هو من طالت مدة ملازمته لصاحبه، فأطلق على الكفار أنهم أصحاب للنار؛ لطول ملازمتهم لها، وكأنهم قد عقدوا صداقات بينهم وبين النار، لكنها صداقات لا تجلب رحمة. فكلمة (أصحاب النار) تفيد: طول الملازمة في النار، وكذلك: (أصحاب الجنة) أي: طول الملازمة في الجنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله)

تفسير قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه) قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه} [التغابن:11] : من العلماء من قال: هنا محذوف مقدر فهم من السياق: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) أي: وما أصاب من خير أيضاً إلا بإذن الله، وهي كقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: وجعل لكم كذلك سرابيل تقيكم البرد؛ فقال فريق من العلماء: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه) معها مقدر محذوف مدمج فيها، أي: وما أصاب من خير أيضاً فبإذن الله. (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه) : أفادت الآية الكريمة ما أفاد غيرها من الآيات، ألا وهو: أن المصائب التي يصاب بها الأشخاص في أبدانهم أو أولادهم أو أموالهم أو أراضيهم؛ كل ذلك مقدر ومكتوب، وقد قال الله ذلك في آيات أخر، ففي سورة الحديد يقول الله سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] ، ثم جاء التعليل من وراء هذا البيان: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] . وقوله جل ذكره: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) يفيد المعنى الذي أشرنا إليه: وهو أن الحسنات كذلك مقدرة، والخيرات كذلك مقدرة، وذلك لقوله تعالى: (وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) فما آتاكم مقدر كذلك فما آتاك الله من ذكاء، وما آتاك الله من نباهة ذكر، وما آتاك الله من جاه ومال وزوجات وأولاد؛ كل ذلك مقدر لك ومكتوب، فلا تفرح ولا تبالغ في الفرح، فإن الذي قدره لك هو الله، فقم بشكره وأداء حقه. قال الله سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] : قال فريق من أهل العلم: إن المراد بالإيمان بالله هنا: الإيمان بقدر الله، وكما تقدم مراراً أن الاصطلاح الواحد من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعدد معانيه، لكن يفهم المعنى من السياق الذي ورد فيه، فكلمة: (يؤمن بالله) معناها أعم وأوسع من الإيمان بالقدر، لكن عندما جاءت عقب قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) فهم أن المراد بها الإيمان بالقدر، فأريد بها معنى أخص من معاني الإيمان لكونها جاءت بعد التذكير بالمصائب وبأنها مقدرة، وهذا هو الذي رآه جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] ، أي: ومن يؤمن أن المصائب مقدرة ومكتوبة، فيقول كما أمره الله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] ، ويقول كما علمه رسول الله: (قدر الله وما شاء فعل) ، فهذا يهدي الله سبحانه وتعالى قلبه. وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من مخالفة ذلك الهدي في آيات أخر، فقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:156] في تصوراتهم وأفكارهم ومعتقداتهم، {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156] ، فذكر الله حال الكفار الذين فارقهم إخوانهم وخرجوا غزاة أو مسافرين فماتوا، فيقولون إذا بلغهم خبر موت إخوانهم: ((لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)) [آل عمران:156] ، ويتأسفون ويتحسرون على ذلك الخروج، فيجلس الكافر مكتئباً يقول: يا ليت أخي ما خرج، يا ليته لم يسافر. فنهانا الله عن هذا الاعتقاد السيئ الرديء، فقال: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] ، فالله جعل هذا التحسر عذاباً يعذب الله به أهل الكفر، قال: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156] .

تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)

تفسير قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12] : هذه الآية جاءت عقب قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن:11-12] ، فلقائل أن يقول: ما وجه الربط بين قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن:12] بعد قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11] ؟ أجاب بعض العلماء على الربط بين الآيتين من وجه حسن، فقالوا: قد يكسل شخص في العمل، ويقول: ما دامت الأمور والمصائب مقدرة فلا معنى للاحتراز وللاحتياط ولأخذ الحذر، قالوا: فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن:12] ، فأمرنا الله بالعمل بعد أن بيّن لنا أن الأمور مقدرة ومثبتة، ثم حثنا على السمع المصحوب بالطاعة، لا السمع المصحوب بالعصيان كما هو شأن بني إسرائيل. قال القرطبي رحمه الله تعالى وغيره من المفسرين: وقد جازف الحجاج بن يوسف الثقفي لما قصر هذه الآية على عبد الملك بن مروان فإنه -أي: الحجاج - تلا هذه الآية الكريمة: (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) وقال: (هذه خاصة بأمير المؤمنين وخليفة الله عبد الملك لا مثنوية فيها) ، ففسرها بلا برهان ولا دليل، قال الحجاج بن يوسف الثقفي: (فلو أمرت رجلاً أن يخرج من باب المسجد هذا فخرج من الباب الآخر لاستحللت قتله) ، وهكذا كان يفعل إذا أمر بأي أمر وخولف فيه، فكان يرى أن المخالف إما أنه كفر وعليه الرجوع عن كفره أو يقتل -والعياذ بالله-، فقرأ هذه الآية على عبد الملك بن مروان بلا أي مسحة من دليل من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا القصر وهذا التخصيص.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ.) قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:12-14] : (من) هنا للتبعيض في قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ، فليس كل الأزواج أعداء، وليس كل الأبناء أعداء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما يكنز العبد المرأة الصالحة) ، وقال: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) ، وقال زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5-6] ، وقوله: {وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ، من أهل العلم من قال: ليست العداوة هنا أن ينصبوا لك العداء بالسيف ولا بالضرب، وإن كان هذا قد يرد في حق أقلية، لكن المراد بالعداوة هنا فعل ما يفعله الأعداء، فالعدو يطلق عليه عدو لفعله -عند بعض العلماء- وليس لذاته إلا في شأن الكفار. فقوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14] أي: إن من أزواجكم وأولادكم من يفعل بكم فعل أعدائكم من صرفكم عن طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأعداء يصرفوننا عن طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك من الزوجات من تصرفنا عن طاعة الله وطاعة رسوله، فتتنزل حينئذٍ منزلة العدو، كذلك: إن من أبنائكم من يصرفكم عن طاعة الله وعن طاعة رسوله، فيتنزل هذا الابن منزلة العدو؛ لصرفه لك عن طاعة الله وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤدى من العدو ومن الزوجة الصارفة لك عن الدين ومن الابن الصارف لك عن الدين؛ مؤدى واحد. فـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ} [التغابن:14] من يصرفكم عن دين الله، ومن تفتنون به فتصرفون بسببه عن دين الله، ومن تقعون في المحرمات بسببه، فثم امرأة تحمل زوجها على الكسب الحرام إشباعاً لشهواتها وإرضاء لنزواتها، فتفعل بزوجها فعل الأعداء الذين يحملونه على فعل الحرام، وكذلك كم من ابن يحمل أباه على أن يكتسب له من الحرام ويطعمه، فيفعل بذلك فعل الأعداء مع أبيه. قال تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] ، ما وجه إيراد هذا عقب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ؟ قال بعض العلماء: إن وجه الربط يتضح من سبب نزول هذه الآية، فإنه ورد في أسباب نزولها من طريق عن عكرمة عن ابن عباس -لكن فيها كلام-: (أن قوماً أرادوا الإسلام فخرجت لهم نساؤهم وخرج لهم أولادهم يرققون قلوبهم ويقولون: لم تفارقونا وتؤثرون علينا غيرنا؟ لم تذهبون إلى محمد هذا الذي به وبه؟ وطعنوا في رسول الله إلى أن أخروهم عن لقاء رسول الله، فلما التقى هؤلاء الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان قد سبقوهم فحملوا فقهاً كبيراً وسبقوهم في هذا الطريق، قالوا: والله لنرجعن إلى أهالينا وأزواجنا ولنفعلن بهم ولنفعلن، وتوعدوا أهاليهم الذين تسببوا في تأخيرهم عن الإسلام، فأنزل الله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] . وهذا يتنزل على شخص انتظم مع جماعة من الجماعات التي لا تبني أعمالها على علم شرعي، جلس معها سنوات طويلة فما استفاد إلا القيل والقال، فلما اتجه إلى اتجاه يتعلم فيه كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: لأرجعن إلى من كان يضللني ويصرفني عن كتاب ربي وسنة نبيي صلى الله عليه وسلم فلأعاتبنه ولأزجرنه، كيف جعل غيري يسبقني في هذا المجال! كيف وغيري قد حمل كتاب الله وحمل سنة رسول الله! وأنا ما زلت في بداية طريقي وقد كبر سني ورق عظمي؛ فلأذهبن إليه ولألومنّه ولأستبدن عليه! فالله يقول: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:14-15] أي: اختبار وابتلاء، يبتليكم الله في الأموال ويختبركم فيها وكذلك في الأولاد، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15] فاتق الله في تربية الأولاد وافعل فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد كان رسولنا يسلك مسلكاً رشيداً في هذا الباب: حب وعطف وحنان مع حزم وعدل وإنصاف، صلوات الله وسلامه عليه. فلا تهلك نفسك من أجل أولادك، فقد كان رسولنا يحب الحسن أشد الحب، يراه مقبلاً وهو يخطب على المنبر يوم الجمعة، فينزل من على المنبر عندما يرى الحسن والحسين مقبلين وعليهما ثوبان أحمران؛ ينزل من على المنبر ويترك خطبة الجمعة ويحتضن الحسن والحسين ويعلمنا ويقول: (صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] رأيت هذين فلم أصبر) ، ويرى الحسن فيحتضنه ويقول: (اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه) . ومع هذا كله يرى في فم الحسن تمرة من تمر الصدقة فيستخرجها من فيه، ويقول: (كخ كخ، أما علمت أنَّا آل محمد لا نأكل الصدقة) . وكان يحب فاطمة حباً جماً، كان إذا أقبل إليها قامت إليه فقبلته وأجلسته، وإذا أقبلت إليه قام إليها فقبلها وأجلسها، ومع ذلك يقول: (والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ، هكذا يعلمنا نبينا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم. وقد تعلم منه أصحابه هذا فلم يفتنوا بأولادهم، عمر رضي الله تعالى عنه العدل العادل، يسمع عن ولده أنه شرب الخمر وأقيم عليه الحد، ولكن أقيم عليه الحد سراً، فلا يقتنع بإقامة هذا الحد على ولده، فكما يقام الحد على الناس يقام الحد على ولده، فأرسل إلى عمرو بن العاص بمصر أن أرسل إليَّ ولدي، فأتى به إلى مدينة رسول الله، فأقام عليه الحد على رءوس الأشهاد. يقسم عمر الفيء والغنمية فيؤثر أسامة بن زيد على عبد الله بن عمر، فيقول ابن عمر رضي الله عنهما: يا أبتِ! كيف تؤثر أسامة عليَّ ولم يسبقني بمشهد في جاهلية ولا في إسلام، فيقول: إن رسول الله كان يحبه أكثر من حبه لك، فلذلك أوثر أسامة عليك! فهكذا العدل والإنصاف، لا تضيع نفسك من أجل ولدك، يا مدرس لا ترفع ولدك درجات وتبخس الأبناء الآخرين حقوقهم، فربك سبحانه وتعالى سائلك عما استرعاك؟ لا تجامل زملاءك من المدرسين ولا من الدكاترة في الجامعة، حتى يرفعوا ولدك درجات ويخرج ولدك معيداً وغيره أفضل منه ومتفوق عليه، فهذه من صور الفتن التي يبتلى بها الآباء مع أبنائهم، يحمل الابن أباه على الكسب المحرم من أجل إشباع الرغبات، {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء:11] .

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)

تفسير قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] : هذه إحدى الآيات في رفع الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي اختصها الله سبحانه وتعالى برفع الحرج عنها، وبعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لوضع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم من قبلنا، كما قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] ، فرسولنا بعث، ومن بعثته وضع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم من قبلنا، فالحرج موضوع عن أمة محمد. ومن العلماء من قال: إن هذه الآية ناسخة لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . وبعضهم رام الجمع، ولذلك كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلمنا فيما يعلمنا أن نرفع عن أنفسنا العنت والحرج، كما في دعاء سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) ، فقد لا تستطيع أن تقوم على عهد الله وبعهد الله، ولا تستطيع أن تقوم بوعد الله كذلك، فتلقين رسولنا صلى الله عليه وسلم لنا: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) ، حتى إذا صدر منا خلل يجبر بقولنا: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) . وقد بايع بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، قال: (فلقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعت) ، أي: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطعت، وكذا قال ابن عمر عند بيعته لبعض خلفاء بني أمية: (أبايعك على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استطعت) ؛ فهذه الآية من الآيات التي ترفع الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والآيات في هذا الباب متعددة وكثيرة، وفي الحقيقة أنها عمومات يعمل بها عند أي إشكال أو خارج عن حد الاستطاعة، فكل أمر أمرت به وخرج عن حد طاقتك واستطاعتك فانتقل إلى المرحلة التي بعده، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، وفي بعض الروايات: (فأومئ إيماءً) ، توضأ بالماء، فإن لم تجد الماء فتيمم صعيداً طيباً، فإن لم تجد الصعيد الطيب فصل صلاة فاقد الطهورين بلا ماء ولا صعيد. إذا سافرت فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن صلاة النافلة على الراحلة حيثما توجهت بك، لكن إذا جاءت الفريضة فانزل، فإذا لم تستطع النزول فصل الفريضة على ما تيسر لك، وإذا كنت في قطار ولم تجد ماء تتوضأ به، فاضرب يديك على الكرسي وتيمم بالتراب الذي عليه، وإذا لم تجد تراباً ولم تجد ما تتيمم به فصل على حالك: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] والآيات في هذا الباب كثيرة متعددة. وكذلك الأحاديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) ، وليس ذلك في أمر العبادات فحسب بل في سائر التكاليف، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ، قال فريق من أهل العلم: إن هذا في الأوامر ولا يتطرق إلى النواهي؛ لأن النواهي الأصل فيها الترك، لكن الأوامر تحمل التكاليف، فافعل منها ما استطعت. وفي الحقيقة هناك مسائل لا يفتى فيها بصفة خاصة بناءً على دليل خاص فيها، ولكن يعمل فيها بعمومات، فمثلاً: حد الإكراه وحد الاستطاعة يختلف من شخص إلى شخص آخر، فلذلك تجد فتاوى وأقوال العلماء تتنوع وتتعدد في كثير من المسائل، فقد تذهب إلى شخص من أهل العلم وتستفتيه في مسألة، وتذكر له من حالك وملابساتك ما يحمله على إعطائك فتيا تتناسب مع حالك، وتذهب إلى عالم آخر وتقصر في عرض المشكلة فيعطيك فتيا تتناسب مع حالك الذي قصرت في بيانه، فتذهب وتزعم أن الفتيا قد اختلفت من عالم إلى آخر، وأنت الذي قصرت في الإبراز، والله سبحانه وتعالى أعلم. ولذلك تجد فتاوى الأئمة كـ الشافعي وأحمد رحمهما الله تتنوع وتتعدد والسؤال الموجه واحد، لكن أحد الأشخاص يكون قد استرسل في بيان حاله والثاني قصر في بيان حاله، وهي مسائل دقيقة لا يعقلها إلا العالمون، والله أعلم. قال تعالى: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16] ، وهذه دعوة كان ابن عوف يدعو بها في طوافه، طاف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حول الكعبة، فكان يقول في دعائه: (رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي، فقال له قائل: يا عبد الرحمن! لِمَ تكثر من هذه الدعوة؟ فقال: إنك إن وقيت شح نفسك فقد أفلحت كل الفلاح) . قال فريق من المفسرين: إن الشح هو البخل، وقال آخرون: إن الشح هو أشد البخل؛ إذ هو البخل بما هو في يدك وبما في يد غيرك، فقد تبخل بمالك فيقول لك شخص: خذ هذا المال فأعطه لفلان، فأنت مكلف بإعطاء المال وليس هو مالك، فتبخل أيضاً بإعطاء المال للآخرين مع أنه ليس بمالك، وقد يأتيك شخص ويقول لك: أعط هذه الصدقة للفقراء، فتضن بها على الفقراء، صحيح أنك لا تأخذها لنفسك ولكن تضن بها، فتقول: كيف أعطي هؤلاء؟ وتماطل في العطاء. فمن العلماء من قال: إن الشح هو البخل، وقال آخرون: الشح هو البخل مع الحرص، وقال آخرون: هو البخل بما في يدك وما في يد غيرك، والله أعلم. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى هذا المعنى في حديث: (الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به له النصف) ، أي: الخازن الأمين في بيوت أقوام أثرياء، يضعونه على مخزن البيت خازناً فيقال له: أعط فلاناً وأعط فلاناً، فمن هؤلاء الخزنة خازن يتضايق ويتبرم إذا قال له صاحب المال: أعط فلاناً وفلاناً، مع أنه لا يعطي من مال نفسه، ومنهم خازن ينشرح صدره، إذا قال له سيده: أعط فلاناً وفلاناً، فهذا تفسير ثالث للشح. ومن العلماء من وسع دائرة الشح فقال: إن الشح لا يقتصر على المال بل يمتد إلى غيره من سائر الحقوق والمتعلقات، كما قال الله في شأن الزوجين المتخاصمين على شيء: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، وهذا ليس في المال، بل في امرأة ورجل، امرأة كانت تحت رجل فتزوج عليها وآثر الزوجة الثانية عليها ولا حاجة له في الزوجة الأولى، فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني، أنت في حل من شأني لا تقسم لي أياماً، فهو يقول في نفسه: لماذا أمسكها ولا حاجة لي فيها؟ لماذا أنفق عليها ولا حاجة لي فيها؟ وهي الأخرى تقول: لماذا لا يعدل بيني وبين الزوجة الجديدة وأنا زوجته؟ فتشح بنصيبها منه، وهو يشح بالمال الذي ينفقه عليها، فيقول الله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، فمن العلماء من وسع تعريف الشح، فيقول: هو أعم من الشح بالمال.

تفسير قوله تعالى: (إن تقرضوا الله قرضا حسنا.

تفسير قوله تعالى: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا.) قال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] أصل القرض: القطع والجز، فكما يقال مثلاً: فلان قرض شيئاً، أي: قطع شيئاً، ويقال في التعبير اللغوي: الفأر قرض كذا، أي: قطع منه شيئاً. فالقرض هو القطع، فمعنى: (إن تقرضوا الله) إن تقتطعوا من أموالكم شيئاً وتقرضونه لله، وهذا مقيد بالقرض الحسن، فلا تقرضوا قرضاً من الربا أو السرقة. قال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [التغابن:17] ، فلماذا قال: (تقرضوا) ، والله سبحانه وتعالى صاحب الفضل وإنما جعلنا مستخلفين في هذا المال، وهو الذي يعطي ويهب؟ قال فريق من أهل العلم: إن القرض أطلق هنا؛ لأن الله وعد برده مضاعفاً وبالإثابة عليه، فلذلك جرت الصدقة مجرى القرض، والله سبحانه وتعالى أعلم. الشاهد: أن القرض قيد بأنه قرض حسن، وفي الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) . قال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن:17] ، كم حد هذا التضعيف؟ بعض العلماء حاول أن يقيد التضعيف بسبعمائة ضعف، وقال: هذا أكثر ما ورد صريحاً في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن غيره من العلماء أطلق وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تصدق أحدكم بصدقة من كسب طيب كعدل التمرة، فإن الله يتقبلها ويربيها له حتى تأتي يوم القيامة كالجبل العظيم) والجبل بالنسبة للتمرة أكثر من مئات الألوف بل الملايين من الأحجام، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال تعالى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] أي: شاكر لأفعالكم التي تصنعونها ابتغاء وجهه، شاكر لنفقاتكم التي تنفقونها ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى. {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] ، لا يعاجل بالعقوبة، فإذا أخطأت لم يعاجلك ربك سبحانه وتعالى بالعقوبة، وقد ورد في هذا الباب حديث، وللعلماء في تحسينه وتضعيفه قولان، ألا وهو: (إن ملك السيئات يرفع يده عن كتابة السيئة ست ساعات، فإن فاء المذنب وإلا كتبها) ، فبعض أهل العلم يورد هذا الحديث عند تفسير صفة الله سبحانه وتعالى الحليم، ولا يتعارض هذا مع قول الله سبحانه وتعالى -كما في الحديث القدسي- لملائكته: (إذا هم العبد بسيئة فارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له سيئة) فقوله: (فاكتبوها له) : لا تفيد الكتابة المباشرة؛ فتحمل على الكتابة بعد هذا الوقت المحدد، جمعاً بين الدليلين، والله تعالى أعلم. وقوله: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] فيه إثبات صفة الحلم التي هي عدم المعاجلة بالعقوبة، وهي من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها العباد، فلله صفات ينبغي أن يتحلى بها العباد، وصفات لا يشاركه فيها غيره: (العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قذفته ناري) . أما صفة الحلم فيحبها الله سبحانه وتعالى في عباده، فثم صفات لله يحبها في عباده: (إن الله جميل يحب الجمال) ، الله كريم يحب الكرماء، الله رحيم يحب الرحماء، الله حليم يحب الحلماء من عباده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، قال: وما هما يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة) ، وهذا ثابت في صحيح مسلم وفي غير مسلم بعض الزيادات: (أنا جبلت عليهما يا رسول الله أم تخلقت بهما؟ قال: بل جبلت عليهما) ، فالشاهد: أن صفة الحلم صفة يحبها الله سبحانه وتعالى في عباده، فلا تتعجل بإنزال العقوبات، بل تأنَّ وتريث، فالتؤدة في كل شيء خير، والله أعلم. قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التغابن:18] . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

استحضار النية عند الاغتسال

استحضار النية عند الاغتسال Q هل يلزم النية عند الغسل عموماً وعند الغسل من الجنابة خصوصاً؟ A نعم (الأعمال بالنيات) .

صحة الصلاة في مسجد معزول عن القبر

صحة الصلاة في مسجد معزول عن القبر Q بجوارنا مسجد كان يضم ضريحاً، ثم لما أرادوا هدم المسجد وبناءه من جديد، وقف بعض الإخوة وأقنعوا المهندس بنقل الضريح عن المسجد، فاقتنع بذلك ورفض الأهالي، فأقنعهم أن القبر قديم وسبَّب ضرراً للمسجد، ثم بني المسجد مفصولاً عن القبر، وأصبح لكل منهما بناء منفرد، وكان المسجد قديماً متخذاً على القبر، والآن أصبح مسجداً جديداً غير متخذ على القبر، فهل تجوز الصلاة فيه، علماً بأن الإخوة عادوا للصلاة فيه؟ A تجوز الصلاة في المسجد، إذا أصبح المسجد مستقلاً عن القبر، والله أعلم.

جماع الحائض والنفساء

جماع الحائض والنفساء Q رجل جامع زوجته أثناء نفاسها ولكنه لم يباشرها، مع العلم أنه كان حريصاً على أن لا يباشرها؟ A إذا جامع الزوجة أثناء النفاس أو أثناء الحيض فهو آثم، وكفارة هذا الإثم: فعل ما استطاع من خيرات. أما كونه آثماً فلأن النفاس يجري مجرى الحيض، والله يقول في شأن الحيض: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] ، وقد جاءت أحاديث مضطربة تفيد أن الكفارة دينار أو نصف دينار أو ربع دينار، فنرجع إلى الأصل أن الإثم يكفر بعمل صالح؛ لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) .

التفصيل في مسألة التورق

التفصيل في مسألة التورق Q ما حكم من يشتري شيئاً بثمن غالٍ أو بثمنه الأصلي بالشيكات، ثم يبيعها بأقل من ثمنها ليأخذ ثمنها مالاً، وما حكم من اشترى من هذا الرجل الأخير؟ A مثال هذا: رجل ذهب واشترى سيارة بمائة ألف جنية بالتقسيط، وأخذ السيارة وباعها بثمانين ألف جنيه نقداً كي يتصرف في الثمانين ألفاً، فليس عندنا دليل يمنع، إلا أن من العلماء من قال: هذه المسألة تسمى التورق، ومنعوها إلحاقاً ببعض أبواب الربا، لكن ليس عندنا دليل صريح بالمنع، ما دام لم يبعها للشخص الذي اشتراها منه، أما إذا باعها من الشخص الذي اشتراها منه، فتكون حينئذٍ بيعتين في بيعة، وهي التي حرمها جمهور العلماء، والله أعلم. السؤال: إذا كان هناك تواطؤ منهما؟ الجواب: إن كانت هناك حيلة أو تواطؤ على الربا فهو حرام.

جواز تنازل الزوجة عن قسمها للزوجة الأخرى

جواز تنازل الزوجة عن قسمها للزوجة الأخرى Q إذا أرادت امرأة أن تتزوج من رجل متزوج بأخرى، ورضيت أن يقسم لها يومين في الأسبوع وللأولى باقي الأسبوع كي ترضيه وترضيها، وهي أيضاً راضية، هل في ذلك إثم؟ A ليس في ذلك إثم، فقد تنازلت سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن يومها لـ عائشة.

حكم الملاكمة

حكم الملاكمة Q ما حكم الملاكمة؟ A الملاكمة فيها ضرب في الوجه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه) ، وفيها تكشف وتعر كما هو واضح.

حكم التماثيل

حكم التماثيل Q ما حكم تماثيل أبي الهول وغيره؟ A هذه التماثيل من المفروض أن تهدم، ففي الحديث: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) ، لكن من الذي يهدمها؟ لا نستطيع.

حكم مباشرة المرأة العمل

حكم مباشرة المرأة العمل Q تقول السائلة: مرتبها مائة وعشرون جنيهاً، وزوجها يأخذ للبيت ستين جنيهاً ويتبقى لها ستون جنيهاً، هي مواصلات، ولكنه الآن غضبان يريد أكثر من الستين، تقول: مع العلم بأن مبلغ الستين لا يكفيني وحدي، فماذا أفعل؟ A الأصل أن العمل لا يجب عليها بالإجماع، والإجماع منعقد على أن نفقة المرأة واجبة على الرجل، فهي الآن تعمل وتنفق، وتعطيه ستين جنيهاً ولكنه طماع.

حكم حديث أبي أميمة في تفسير قوله تعالى: (ويسقى من ماء صديد)

حكم حديث أبي أميمة في تفسير قوله تعالى: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) Q عن أبي أميمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:16-17] ، قال: يقرب إلى فيه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعائه حتى يخرج من دبره) . A إسناد الحديث ضعيف، لكن معناه قال به جمهور المفسرين.

حكم الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير المهل بعكر الزيت

حكم الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير المهل بعكر الزيت Q ما صحة الحديث في معنى قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كعكر الزيت) . A هذا الحديث حسنه كثير من العلماء.

صحة حديث: (لا ضرر ولا ضرار)

صحة حديث: (لا ضرر ولا ضرار) Q ما حديث: (لا ضرر ولا ضرار) . A صحيح.

الطلاق بيد الزوج

الطلاق بيد الزوج Q هناك زوجة ثانية لأخ ملتزم، وكان زواجها خفية عن أهله؛ لأن زوجته الأولى قريبة له، ولما عرف أخوه الأكبر طلب منه أن يطلقها، وهي رافضة هذا الطلاق؟ A إذا طلقها فقد وقعت؛ لأن الأمر بيده.

نقض عقد الزواج بسبب سب الزوج دين الزوجة

نقض عقد الزواج بسبب سب الزوج دين الزوجة Q زوجة سب زوجها الدين مرتين بلفظ: عند دينك، والآخر: بدين أهلك، فهل هذا السبب ينقض العقد؟ A إذا تاب الزوج من هذا السباب فالعقد صحيح.

حكم اقتناء الصور للذكرى

حكم اقتناء الصور للذكرى Q ما حكم تصوير الصور للذكرى دون حاجة؟ A تصوير الصور للذكرى حرام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله المصورين) ، ويقول: (لا تدع صورة إلا طمستها) ، ولم يتصور الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نتذكره، وكان الفنانون الذين يصنعون التماثيل موجودين على عهده صلى الله عليه وسلم ولم يصوروا له صورة، صلى الله عليه وسلم.

بقاء الزوجة عند زوج يصلي أحيانا

بقاء الزوجة عند زوج يصلي أحياناً Q زوج يصلي أحياناً ويترك الصلاة أحياناً، هل أفارقه أم لا؟ A الزوج الذي يصلي أحياناً ويترك الصلاة أحياناً مسلم آثم، متوعد بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] ، وبقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) . لكنه في التقعيد الكلي مسلم؛ لأنه ليس بجاحد، وهذا رأي الجمهور فيه، فهل تبقى زوجته معه على هذا الوضع، أم تفارقه؟ فابتداءً: أصل المسألة فيها خلاف، فالحنابلة يرون الكفر، لكن الجمهور يرون أنه مسلم وهذا الذي ندين الله به. ويبقى: هل تفارقه أم لا تفارقه؟ هذا يتأتى على مسألة المفاسد والمصالح المترتبة على الزوجة، فإن كانت ترى أن من مصلحتها المفارقة، وأن لها أهلاً يقومون بها وتتزوج أفضل منه، ففي هذه الحالة تفارقه ولا تبالي فليس له كبير قيمة، أما إذا وجدت أن المفارقة فيها مفسدة لها، فلا تفارقه، فهو مسلم داخل في عداد المسلمين، ولتصبر ولتكثر من تذكيره ونصحه، والله أعلم.

حديث الإعانة على حفظ القرآن

حديث الإعانة على حفظ القرآن Q ما حال حديث الإعانة على حفظ القرآن الكريم: عن عبد الله بن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره بحديث حفظ القرآن) ؟ A ضعيف.

معنى حديث: من مات وليس في عنقه بيعة

معنى حديث: من مات وليس في عنقه بيعة Q ما حال حديث: (من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية) ؟ A هذا في الإمام الذي اتفق عليه المسلمون وأشاروا عليه بالإصبع، وقوله: (مات ميتة جاهلية) ، ليس معناها أنه مات على الكفر، إنما معناها: مات كما يموت أهل الجاهلية الذين كانوا يستنكفون من تأمير شخص عليهم، فأهل الجاهلية كانوا لا يحبون أن يكون عليهم أمير أو كبير، وكل واحد يحب أن يفعل الذي في رأسه، فالالتزام لم يكن عندهم، فمعنى: (مات ميتة جاهلية) ، أي: كما يموت أهل الجاهلية الذين يأنفون من اتخاذ الأمراء، ولكن ليس معناه أنه يكفر.

مراعاة المصالح والمفاسد في الزوجة مع زوج يصلي أحيانا

مراعاة المصالح والمفاسد في الزوجة مع زوج يصلي أحياناً Q ما حكم المعيشة مع زوج يصلي بعض الأحيان؟ A المسألة لا نستطيع أن نصدر فيها حكماً عاماً، إنما يختلف من حال امرأة إلى أخرى على حسب المفاسد والمصالح، فكل واقعة أوكل زوجة لها ملابساتها الخاصة، لكن التقعيد الكلي أنه مسلم، والمعيشة معه جائزة على رأي الجمهور مع اعتبار أنه جليس سوء، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير) ، لكن فرق بين تحريم المعيشة معه وبين اختيار الأفضل والأولى، فالمسألة مبنية على المفاسد والمصالح، والله أعلم.

رؤيا النبي في المنام بدون لحية

رؤيا النبي في المنام بدون لحية Q امرأة رأت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها ووصفته وصفاً دقيقاً، إلا أنها قالت: إنها لم تره بلحية، فهل هذا يكون من تلبيس إبليس، أم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يرى ناقصاً منه بعض صفاته؟ A إذا رأيت شخصاً ليس ملتحياً، قال فريق من المفسرين: ليست بمذمة؛ لأن أهل الجنة قال الله فيهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنهم يحشرون جرداً مرداً) ، فأهل الجنة مرد ليس لهم لحى، وخاصة صفة اللحية إذا لم ترها في شخص، لكن استوفت سائر شروط الرسول صلى الله عليه وسلم، من ناحية الوصف أنه أبيض، ومن ناحية الطول، ومن ناحية الوصف العام الذي ورد في رسول الله، فمن العلماء من يتجوز في مسألة اللحية لهذه الصفة، يقول: إن أهل الجنة مرد، والله أعلم.

تفسير سورة الطلاق

تفسير سورة الطلاق لقد شرع الله الطلاق لحكمة، وذلك عند تعذر العشرة الزوجية، والطلاق يندرج تحت الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يكون واجباً، وقد يكون حراماً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً. والطلاق من الأمور التي تفرح الشيطان الرجيم، فهو يرسل سراياه ليفسدوا بين الناس، فالذي يأتي إليه وقد فرق بين زوجين يقول له: أنت أنت ويلتزمه. وذلك لأن فعل ذلك الشيطان فيه تفكيك للأسر، وضياع للأولاد، وتهديم للبيوت، وغيرها من المفاسد المترتبة على الطلاق. وفي سورة الطلاق أحكام عدة، منها: أحكام العدة، والطلاق للعدة وهو طلاق السنة، وأحكام السكنى والنفقة للمطلقة الرجعية، وكذلك الأجرة للمرضع، والنفقة للمطلقة الحامل، وغيرها من الأحكام.

معنى الطلاق ومشروعيته

معنى الطلاق ومشروعيته السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فسورة الطلاق سورة مدينة، تتعلق بالأحكام التي تجري بين المسلمين. ومعنى الطلاق في اللغة: هو الإرسال والترك. وفي الشرع: حل عقدة التزويج. والطلاق قد وردت جملة من الأدلة على إباحته، كقول الله سبحانه وتعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ، وقال الله سبحانه: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] . فهذه نصوص أفادت مشروعية الطلاق وجوازه، وقد ثبت أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها) ، وقد روي في هذا الحديث: (أن جبريل أمره بمراجعتها وقال له: راجعها فإنها صوامة قوامة) . أما كون النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها فثابت، أما مقولة جبريل: (راجعها فإنها صوامة قوامة) ففي إسنادها ضعف، ولكن العلماء قبلوها؛ إذ لا تعارض بينها وبين أصل الحديث عند فريق من أهل العلم، وقد أوصى الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولده إسماعيل أن يغير عتبة بابه، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها وكان عمر يكرهها، فقال لي عمر: طلقها. فأبيت، فرفعني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطع أباك) . فدلت هذه النصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة مع انعقاد الإجماع؛ كل هذه دلت على مشروعية الطلاق. وفي الحقيقة أن الطلاق يأخذ الأحكام الخمسة، فأحياناً يجب الطلاق، وأحياناً يستحب، وأحياناً يباح، وأحياناً يكره، وأحياناً يحرم. وقد وردت أحاديث في التنفير من الطلاق أكثرها ضعيفة، كحديث: (الطلاق يهتز له عرش الرحمن) ، وحديث: (لعن الله الذواقين والذواقات) ، وحديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ، فكل هذه الأحاديث ضعيفة. والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة ذم الطلاق: ما أخرجه مسلم في صحيحه، وفيه: (أن عرش إبليس على الماء، وأنه يرسل سراياه فيفتنون الناس، فأقربهم وأعظمهم عنده أعظمهم فتنة، فيأتي أحدهم ويقول له: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما فعلت شيئاً. إلى أن يأتيه آخر فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيدنيه منه ويقربه ويقول له: أنت أنت) ، فهذا الحديث يصلح للاستشهاد به على ذم الطلاق والتنفير من الطلاق، مع ما في الطلاق من تفكك للأسر، وتهدم للبيوت، وضياع للأولاد، وقطيعة بين الأقارب، وقطيعة بين المسلمين والمسلمات. لكن أحياناً يندب إليه ويشرع، فقد قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] أي: إن خشيت المرأة هي وزوجها أن لا يقيما حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليهما فيما افتدت به، وكذلك قال الله سبحانه: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] ، فأحياناً يشرع التفريق لعلة وهي عدم إقامة حدود الله بين الزوجين. فالساعي حينئذٍ بالتفريق لعله يؤجر، كالساعي في الإصلاح وكالساعي في التزويج كذلك، وذلك محله إذا خشي الزوجان أن لا تقام بينهما حدود الله، فإن الله قال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] ، وللطلاق أحكام ستأتي في ثنايا السورة إن شاء الله.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ.) يقول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لم يقل: يا أيها النبي إذا طلقت النساء؟ للعلماء على هذا إجابات: الإجابة الأولى: أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على ثلاث أنحاء: الأول: فأحياناً يأتي الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون المراد وحده، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب:50] إلى قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] أي: فهي خاصة بك لا يشاركك فيها أحد. الثاني: أن يأتي الخطاب لرسول الله لكن ليس هو المراد منه قطعاً، كما قال الله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] ، فهذا الخطاب وإن كان موجهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن المراد منه الأمة، فأبو الرسول وأم الرسول قد ماتا وهو في الصغر. الثالث: أن يأتي الخطاب لرسول الله ويراد هو وأمته صلى الله عليه وسلم، وهذا من هذا النوع. هذه إحدى الإجابات على قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] . الإجابة الثانية: أن الآية من باب التحول في الخطاب، والتحول في الخطاب يكون لجذب انتباه السامعين، وله أمثله في كتاب الله كما قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22] فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس:22] للمخاطب، ثم قال محولاً الخطاب إلى الغائب: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22] . وكذلك في قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:21-22] تحول الخطاب من الغائب إلى المخاطب، فكذلك هو في قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ} [الطلاق:1] ثم تحول الخطاب إلى أهل الإيمان، هذه إجابة ثانية. والإجابة الثالثة: أن هنا مقدراً محذوفاً، فالمعنى: يا أيها النبي قل للمؤمنين: إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. المحذوف هو: قل للمؤمنين.

الحكمة من إبقاء الزوجة المطلقة في بيت زوجها

الحكمة من إبقاء الزوجة المطلقة في بيت زوجها قال تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] : أي: أن الذي يقلب القلوب هو الله، فقد تدخل على الزوجة المطلقة فتراها حزينة منكسرة، وترى الأولاد بجوارها في حال يرثى له، فحينئذٍ تقرر مراجعتها. وهي الأخرى قد ترى زوجها أصبح مسكيناً لا يجد من يصنع له لقمة العيش، فتجده لا يجيد الطهي، وتجد ثيابه متسخة، فحينئذٍ تفكر هي الأخرى وترجع إلى التنازل عن أخطائها أو التغاضي عن أخطاء زوجها، فالذي يقلب القلوب هو الله سبحانه وتعالى. قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] فهو الرجعة كما قال العلماء.

حقيقة الفاحشة المبينة وأحكامها

حقيقة الفاحشة المبينة وأحكامها قال الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] ما هي الفاحشة المبينة التي بسببها يجوز للزوج أن يخرج زوجته المطلقة من البيت؟ من العلماء من قال: إن الفاحشة المبينة هي الزنا، فإذا زنت المرأة وهي تعتد في بيت الزوج، فللزوج أن يخرجها، ومنهم من قال: إن الفاحشة المبينة هي البذاءة والتطاول على أهل زوجها، مثلاً: امرأة لسانها بذيء وطويل، تظل تلعن كل من في البيت: تلعن الزوج، تلعن والد الزوج، تلعن أم الزوج، فقال فريق من العلماء: هي البذاءة على زوجها أو على أهل زوجها. فهذان القولان هما تفسير الفاحشة المبينة، وثم قول آخر: هو الخروج نفسه، لكنه قول ضعيف. قال الله سبحانه: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] أي: أن الذي يتعدى حدود الله ويخرج الزوجة المطلقة، أو الزوجة هي الأخرى إذا تعدت حدود الله وخرجت، فقد ظلمت نفسها وأثمت، وأثم زوجها كذلك إن أقرها أو وافقها على الخروج.

معنى إحصاء العدة في الطلاق وما يتعلق بها من أحكام

معنى إحصاء العدة في الطلاق وما يتعلق بها من أحكام {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] يعني: عليك أن تعرف اليوم الذي طلقت فيه، وتبدأ في العد، لتنظر هل انتهت العدة أم لم تنته؟ فعلى المرأة أن تحسب جيداً الوقت الذي طلقت فيه، وعلى الزوج كذلك أن يحسب الوقت الذي طلقت فيه امرأته؛ وذلك لأنها تحل للنكاح من بعد هذا الوقت والنفقة تنقطع بعد هذا الوقت، فجملة أمور شرعية مضافة إلى أمر الله سبحانه: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] .

عدم جواز خروج المطلقة من بيت زوجها حال العدة

عدم جواز خروج المطلقة من بيت زوجها حال العدة قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] : هذا أدب أخل به أكثر المسلمين الآن؛ فكل من طلق زوجته فإن الزوجة تذهب إلى بيت أبيها، هذا خطأ شديد ومصادمة صريحة لكتاب الله سبحانه، فلا يجوز للمرأة المطلقة أن تخرج، ولا يجوز لزوجها أن يخرجها. وفي قوله: {مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] إيماء إلى أن البيت ما زال بيتها، فلذلك عبر بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] أي: لا تخرج هي نفسها باختيارها ولا هو يخرجها، فليس لك أيها الزوج وليس لك أيتها الزوجة خيار في هذا، بل لزاماً أن تمكث المرأة في بيت الزوجية تقضي العدة، وهذا بالنسبة للمطلقة الرجعية التي دخل بها. أما المطلقة قبل المسيس فلا إشكال في أنها بانت في الحال؛ لأنه لم يدخل بها، وكذلك المطلقة المبتوتة التي طلقت ثلاث تطليقات فلا نفقة لها ولا سكنى فتخرج مباشرة؛ لأنها ليست بزوجة، فإذا بقيت المطلقة ثلاثاً في البيت فلعل الرجل يثب عليها فيقع في فاحشة الزنا؛ لأنها بانت منه، أما المطلقة الرجعية فإذا قدر ووثب عليها زوجها فهي رجعة.

حكم الطلاق المعلق وأقسامه

حكم الطلاق المعلق وأقسامه صورة أخرى من صور الطلاق المشهورة بين الناس وهي: مسألة الطلاق المعلق. أولاً: جمهور العلماء يوقعونه إذا وقع الشرط الذي علق عليه الطلاق، فإذا قال الرجل لزوجته: أنتِ طالق إذا خرجتِ، أنتِ طالق إذا دخلتِ، أنتِ طالق إذا طلعت الشمس، أنتِ طالق في رمضان القادم، أنتِ طالق في فصل الربيع، فكل هذه عند الجمهور تقع إذا وقع الشرط الذي علق عليه الطلاق. ثانياً: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو رأي عدد من السلف، ورأي كثير من أهل العلم، لهم تفصيل في مسألة الطلاق المعلق، فقالوا: التعليق على قسمين: القسم الأول من أقسام التعليق: أن تعلق الطلاق بقصد التهديد أو الحث على فعل شيء، كأن يقول الرجل لزوجته: أنتِ طالق إذا خرجتِ، لا ينوي تطليقاً إنما ينوي تخويفاً وتهديداً، أو: أنتِ طالق إذا لم تفعلي كذا، وهو لا ينوي تطليقاً إنما ينوي حثاً على الفعل. قالوا: فهذا لا يقع طلاقه وكفارته كفارة يمين. أما إذا قال لها: أنتِ طالق إذا رأينا القمر، فالقمر لابد وأن يُرى، أو أنتِ طالق إذا رأينا الشمس، فالشمس لابد وأن ترى، قالوا: فيقع إذا علق على شيء سيقع أو كان يقصد الطلاق. ثالثاً: رأي أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى، وهو مروي عن الحسن البصري وهو بعض روايات بعض الشافعية، قالوا: لا يقع الطلاق المعلق بأي صورة من الصور، إلا إذا قال للزوجة بعد فعل هذا الشيء: أنتِ طالق. هذه أقوال العلماء في الطلاق المعلق نبحث لها عن استدلالات: أولاً: لم أقف على أي دليل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الطلاق المعلق، ولا وقفنا على أي واقعة حدثت بسند صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن طلاقاً معلقاً قد حدث، هذا بالنسبة للأخبار المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الموقوفات على الصحابة فأسانيدها لم تبرز لنا إلا أثراً معلقاً ورد في البخاري، ولكن الحافظ لم يورد له إسناداً، وما اطلعنا له على إسناد صحيح إلى الآن. فالجمهور قالوا: يقع هذا الطلاق إذا وقع الشرط الذي أخذه على نفسه، لأن هو الذي اشترط على نفسه هذا، فنلزمه ما ألزم به نفسه، وشيخ الإسلام ابن تيمية استدل على التفصيل بأثر صحيح الإسناد عند عبد الرزاق في المصنف، وعند ابن أبي شيبة فحواها: أن امرأة أتت إلى حفصة وقالت: يا أم المؤمنين! إني قلت لهذا الرجل أو لقريب لي أو لعبد: إذا تطلق امرأتك فكل أموالي في رتاج الكعبة - أي: فكل أموالي سأجعلها وقفاً- وكل عبد لي فهو حر، فماذا أصنع؟ قالت لها حفصة: كفِّري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته، فالمرأة لم تقتنع بالإجابة فذهبت إلى ابن عمر فأفتاها بنفس الفتيا، فذهبت إلى صحابي ثالث فأفتاها بنفس الفتيا. فقال: هذا يدل على أنها تكفر عن يمينها وتعد يميناً، وهو فعل الأصحاب، وهو أولى من غيره، فهذا مستند الذين فصَّلوا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية. أما أمثلهم استدلالاً رغم قلة القائلين بهذا الرأي، فـ ابن حزم؛ إذ استدل بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب:28] فهذا تعليق {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] فلم يقل لهن: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فأنتن طوالق؛ لأنه إذا قال لهن: (فأنتن طوالق) ، فمعناه: أنه جعل الطلاق لهن، والطلاق عند الفقهاء لمن أخذ بالساق، فقال الله لنبيه: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} [الأحزاب:28] فرجع الأمر ثانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو الزوج، قال: فكذلك ينبغي أن يرد الأمر إلى الزوج، فإذا قال الرجل لزوجته: أنتِ طالق إذا اخترتِ كذا، فاختارت هذا الشيء، فإنه يرجع هو ويطلقها بنفسه، فإن تخلف عن التطليق لم يقع عند هؤلاء الذين قالوا بهذا القول، وهو أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى، وهو قول الحسن البصري وقول بعض الشافعية. والله أعلم. هذا بالنسبة للطلاق المعلق على وجه الإجمال، وهناك مسائل أخر كطلاق الغضبان وفيها تفصيل يأتي في محله إن شاء الله، وطلاق المكره، وطلاق الموسوس ونحو هؤلاء، وستأتي في ثنايا الشرح إن شاء الله.

حكم الطلاق ثلاثا في مجلس واحد

حكم الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد نتحول إلى صورة أخرى من صور الطلاق: وهي طلاق الثلاث في المجلس الواحد، كقول الرجل لزوجته: أنتِ طالق ثلاثاً، أو أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق، أو أنتِ طالق عدد نجوم السماء، أو أنتِ طالق ألف مرة! فجمهور العلماء في هذه المسألة يقولون: تقع عليه ثلاث تطليقات، سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأة قال لها: أنتِ طالق ألف مرة؟ قال: نحسب عليه ثلاثاً، ونترك تسعمائة وسبعة وتسعين، لكن ما هي الأدلة على وقوع هذا الطلاق طلاق الثلاث للمجلس الواحد التي استدل بها الجمهور؟ استدل الجمهور على إيقاع الطلاق الثلاث في المجلس الواحد بأن هذا فعل أمير المؤمنين عمر، وتبعه الصحابة على ذلك، وتبعه الجمهور على ذلك، واستدلوا بقصة عويمر العجلاني لما لاعن امرأته عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكرهما الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ فأقسم الرجل وأقسمت المرأة، فلما رأى الرجل امرأته قد أقسمت أربعة أيمان بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، طلقها ثلاثاً قبل أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم) ، فقالوا: ها هو طلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، فسكوت الرسول بمنزلة التقرير لطلاق الثلاث. فهذه حجج الجمهور في هذا الباب، لكنها حجج ضعيفة؛ لأنه قد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان طلاق الثلاث في المجلس الواحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعد واحدة، فلما جاء عمر قال: أرى الناس قد تتابعوا على أمر كانت لهم فيه أناة -يعني: استعجلوا فصار كل واحد يطلق امرأته ثلاثاً أو يطلقها عشراً- فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم عمر) . فأفاد حديث ابن عباس أن طلاق الثلاث في المجلس الواحد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد طلقة واحدة، وأن الذي أوقعه عليهم ثلاثاًَ هو عمر، وصيغة عمر في حديثه (أرى الناس قد تتابعوا على أمر كانت لهم فيه أناة) تفيد أن عمر فعلها من باب التعزير لهؤلاء المتسرعين في التطليق. فإذا احتج محتج بأن عمر أوقع الطلاق الثلاث لمن طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فقد أجابوا بأن هناك من الأحاديث ما هي وقائع أعيان، ومن الأحاديث ما هي مقعدة لقواعد، وقول ابن عباس: (كان طلاق الثلاث في المجلس الواحد يعد واحدة) هو تقرير لقاعدة سار عليها الناس في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم. أما فعل عويمر فهو فعل خاص، وسكوت الرسول صلى الله عليه وسلم على تطليقه ثلاثاً لا حجة فيه؛ لأن الملاعنة لا تجتمع مع زوجها الذي لاعنها؛ لأنها تحرم عليه على التأبيد؛ ولأن أحدهما ملعون أو مغضوب عليه، فالاستدلال بقصة الملاعنة غير صحيح؛ لأن قصة الملاعنة قصة خاصة في واقعة خاصة، والتفريق بينهما أبدي حتى بدون الطلاق. هذه إجابة الذين قالوا: إن طلاق الثلاث في المجلس الواحد يعد واحدة، ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقوله هنا موفق لموافقته الدليل الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما الذي يرويه عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم إن المعنى اللغوي أيضاً للطلاق يقتضيه، فإذا قال الرجل لامرأته: أنتِ طالق، كأنه كان يمسكها، ثم لو جاء بعد مدة في نفس المجلس وقال: أنتِ طالق فلا معنى للقول الثاني فهي مطلقة ابتداءً، لكن إذا راجعها بضمها إليه وقال لها بعد ذلك: أنتِ طالق، فحينئذٍ تحسب طلقة ثانية. ثم أيضاً من الأدلة التي قوت هذا المذهب بشدة، قول الله سبحانه وتعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فلم يرد أن شخصاً ما طلق ثلاثاً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأوقعها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات إلا ما كان من عويمر، وقصته خاصة في الملاعنة، فعلى ذلك يتألق بشدة قول من قال: إن طلاق الثلاث في المجلس الواحد يعد واحدة. أما الرواية التي فيها: (أن رجلاً طلق ثلاثاً ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا كنت تريد أو ماذا قصدت؟) فهي رواية ضعيفة من ناحية الإسناد فلا يستدل بها على المدعى؛ لضعف إسنادها والله سبحانه وتعالى أعلم. هذا بالنسبة لطلاق الثلاث في المجلس الواحد.

ذكر الطلاق السني وتفسير القرء بالطهر

ذكر الطلاق السني وتفسير القرء بالطهر وما معنى قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] ؟ من أهل العلم من يقول: إن معناها: لزمان عدتهن، أي: في زمان العدة، وهو الطهر عند هؤلاء، فاعتبر هؤلاء المراد بالعدة هنا زمان الطهر، ومن ثم فسروا القرؤ في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] بالأطهار؛ لهذه الآية. ومن العلماء من قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] أي: لقبل عدتهن. والسنة دلت على أن التفسير المعتمد لهذه الآية: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] أي: في وقت طهر لم تجامعوهن فيه، وهذا الذي يسميه العلماء: طلاق السنة، فليس كل من أراد أن طلق يطلق في أي وقت شاء، وإنما يطلق طلاق السنة، وطلاق السنة هو: أن يطلق الرجل زوجته طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، فهذه صورة طلاق السنة. ومن العلماء من أضاف إليها شيئاً آخر: وهو أن يطلقها وهي حامل قد استبان حملها، كرجل مع امرأته مثلاً وهي حامل في الشهر الخامس أو في الشهر السادس أو في الشهر الأول، ويريد طلاقها، فهل نقول: اتركها بلا طلاق حتى تنتهي التسعة الأشهر؟ لا، فيقولون: إما أن يطلقها وهي في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلقها وهي حامل قد استبان حملها، أي: ظهر حملها، أو يطلقها قبل المسيس، أو يطلقها وهي آيسة من المحيض وهو غير مقيد بقيد، فإذا لم تكن تحيض فيطلقها كيفما شاء. وكلما كان الطلاق على غير السنة فهو طلاق بدعة، والطلاق البدعي: هو ما ليس وفق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولطلاق البدعة صور: من صور طلاق البدعة: أن يطلقها في طهر جامعها فيه. ومنها: أن يطلقها وهي حائض. ومنها: أن يطلقها وهي نفساء، فالنفساء تأخذ أحكام الحائض. فهذه بعض صور الطلاق البدعي.

بيان مسألة اعتبار الطلاق البدعي وحكمه

بيان مسألة اعتبار الطلاق البدعي وحكمه وبالنسبة لاعتبار الطلاق البدعي، مثل: رجل طلق امرأة وهي حائض، فهل تحسب هذه الطلقة، أو لا تحسب؟ أولاً: إذا تعمد أن يطلقها في وقت حيضها فقد رأى كثير من أهل العلم أنه آثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أمر عبد الله بن عمر، قال عبد الله بن عمر: (طلقت امرأة لي وهي حائض، فذهب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك) ، وفي رواية أخرى لهذا الحديث وهي ثابتة في الصحيح (مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر) فجعل لها طهرين، فالعلماء يقولون: رواية إمساكها لمدة طهرين من باب الاحتياط فقط. فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) يفيد تأثيم من طلق امرأته وهي حائض وهو يعلم. فالخلاصة: أنه إذا كان يتعمد ويعلم الحكم فإنه يأثم عند كثير من العلماء. ثانياً: هل تقع هذه الطلقة التي وقعت للمرأة وهي في حيضها، أو لا تقع؟ هل تحسب طلقة، أو لا تحسب؟ رأى جمهور العلماء: أن هذه الطلقة تحسب ويعتد بها، وهذا هو الرأي الصحيح الذي تؤيده الأدلة. وفريق آخر من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتبعه تلميذه ابن القيم رحمه الله قالا: لا تحسب هذه الطلقة، وكانت استدلالات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهم الله منصبة على الآتي: رواية من طريق أبي الزبير في قصة ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها ولم يرها شيئاً) هذا أول استدلال استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. والاستدلال الثاني: أن ابن عمر سئل عن طلاق المرأة في حيضتها أيعتد بتلك؟ قال: لا يعتد بتلك. ثم استدلا بشيء من النظر فقالا ما حاصله: كيف نأمره الآن أن يراجعها، فسيراجعها لأمر الرسول بمراجعتها، فتكون قد حُسبت عليه طلقة، ثم إذا جاء الطهر فيطلقها طلقة ثانية فنكون قد حسبنا عليه تطليقتين وهذا من باب التعسير على العباد. هكذا ذكرا رحمهما الله تعالى. أما الإجابة على استدلالاتههما رحمهما الله تعالى فمن وجوه: أولاً: حديث ابن عمر الذي من طريق أبي الزبير (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئاً) أطبق علماء علل الحديث على تضعيف هذا الحديث، وعلى توهين هذه الرواية، وهذا هو فصل الخطاب بالنسبة لهذا الحديث: أن الرواية ضعيفة ليست بثابتة بحال من الأحوال، علماء علل الحديث يعللونها ويسقطونها قولاً واحداً. الشيء الثاني: أن من قبلها من الفقهاء وجه قوله: (لم يرها شيئاً) أي: لم يرها شيئاً شرعياً صحيحاً فهي واقعة لكنه آثم أيضاً، أي من رآها صحيحة لم يجعل لها تعلقاً باعتبار الطلقة أو عدم اعتبارها، لكن إجابة أهل الحديث هو الذي عليه التعويل، وهي أن الرواية منكرة وضعيفة. الإجابة على الاستدلال الثاني الذي استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وشنع ابن القيم بها على من خالفه، وطار فرحاً بها يريد أن يثبت بها منهجه قال: إن ابن عمر سئل عن رجل طلق امرأته وهي حائض أيعتد بتلك؟ قال: لا، لا يعتد بتلك، فهذه الرواية رواها ابن حزم في المحلى مختصراً لها اختصاراً مخلاً بالمعنى تماماً، وتبعه على هذا الاختصار ابن تيمية رحمه الله، وتبعه على هذا الاختصار ابن القيم في زاد المعاد وطار فرحاً بهذه المقولة! والرواية مطولة موجودة في مصنف ابن أبي شيبة فحواها: أن ابن عمر سئل عن طلاق المرأة وهي حائض: أيعتد بتلك الحيضة؟ وهذا اللفظ هو الذي أسقطه ابن حزم في المحلى في هذه الرواية، فالرواية عند ابن حزم أيعتد بتلك؟ قال: لا، لكن في الرواية الأخرى المطولة: أيعتد بتلك الحيضة؟ فقال: لا. ويوجد فرق بين قوله: أيعتد بتلك؟ وبين قوله: أيعتد بتلك الحيضة؟ لأنك إذا سألت: أيعتد بتلك؟ قد تقدر محذوفاً وهو: أيعتد بتلك التطليقة؟ لكن إذا قال: أيعتد بتلك الحيضة؟ تحول المعنى تحولاً كلياً، فيكون المعنى أيعتد بتلك الحيضة على أنها من الأقراء التي ذكرها الله في كتابه، وقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] على رأي من قال إن القرء هو الحيض، فهل يعتد بتلك الحيضة؟ أي: هل تحسبها المرأة من زمان العدة التي تحل بعدها للتزوج ويمتنع عنها النفقة أو لا؟ فلما رويت مختصرة اختل المعنى، لكنها عندما رويت مطولة جاءت صحيحة صريحة، وهي من نفس المخرج الذي عند ابن حزم موجودة عند ابن أبي شيبة، وبوب لها ابن أبي شيبة: باب الأقراء أي: أيعتد بتلك الحيضة من الأقراء أم لا؟ حينئذٍ فُقِدَ هذا الاستدلال لشيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه ابن القيم. بقيت مسألة النظر التي طرحها ودار حولها، فالإجابة عليها: أن النصوص الصريحة تدفع هذه الأنظار، والعلماء يقولون: نوقعها أيضاً بالنص، وفضلاً عن النص فهي من باب التعزير، لكن المقدم هو النص؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ل عمر في شأن ولده عبد الله: (مره فليراجعها) ولا مراجعة إلا بعد طلاق، هذا استدلال الجمهور، وجاء في ورواية أخرى: (أن ابن عمر سئل عن طلاق المرأة وهي حائض قال: حسبت عليّ تطليقة) وفي رواية: (أتحتسب تلك الطلقة؟ قال: مه! أفرأيت إن عجز واستحمق) فهذا رأي جمهور العلماء، وهو الصحيح: أن طلاق المرأة في حيضتها وإن لحق المطلق إثم لكنه يقع.

لا تجب مراجعة المطلقة في حيض

لا تجب مراجعة المطلقة في حيض ثم القول في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم:: (مره فليراجعها) هل هو أمر إيجاب؟ أعني: هل يلزم أن يراجع الرجل الذي طلق امرأته وهي حائض أو هو أمر استحباب وندب وإرشاد؟ أيضاً رأى الجمهور: أن هذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ندب وإرشاد لا أمر إيجاب، قالوا: لأنه لا يجبر على معاشرتها من الأصل، واستدامة النكاح لا تجب عليه من الأصل؛ فيجوز له أن يفارقها، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (مره فليراجعها) التمس له بعض العلماء التماسات، قال بعضهم: لعله رأى منها في حيضتها ما لم يره منها في طهرها، ولعلها إذا رجعت إلى طهرها كانت على حال أحسن منها في حيضتها، فهذه تعليلات، لكن التعويل على أن العلماء حملوا قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) على أن الأمر أمر ندب وإرشاد لا أمر إيجاب. فعلى هذا نكرر أن رأي الجماهير من العلماء وهم أكثر أهل العلم: أن طلاق المرأة في حيضتها يقع، ومن قال إن طلاق المرأة حال حيضتها لا يقع فأدلته ضعيفة تالفة، لكن روج ما ذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، وكما هو معلوم عن العلامة ابن القيم رحمه الله، أنه طويل النفس في تقرير ما يريد أن يقرره، وتقرير ما يريد أن ينتصر له، فطول نفسه يجعل القارئ يكاد يوقن بأن هذا الكلام صحيح، لكن ما ذكرناه هو رأي جماهير أهل العلم. والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن.

تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ.) قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق:2] لا يراد به ظاهره قطعاً، فليس المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ} [الطلاق:2] أي: إذا بلغن أجلهن فقد بِنَّ من الأزواج، ولكن المعنى: إذا قاربن بلوغ الأجل، وهذا له نظائر في كتاب الله، مثل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] أي: اقترب. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق:2] أي: إذا قاربن البلوغ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم الخلاء) أي: إذا أراد أن يدخل. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق:2] بلوغ الأجل هو انقضاء العدة.

حكم الإشهاد في الطلاق والرجعة وصفة الشهود

حكم الإشهاد في الطلاق والرجعة وصفة الشهود يقول الله جل ذكره: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] الإشهاد في الطلاق والرجعة أوجبه كثير من العلماء لهذه الآية ... ) ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي: من الرجال المسلمين، فلا تجوز شهادة الكفار؛ لأن الله قال: {ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ولا تجوز شهادة الفساق من المسلمين؛ لأن الله قال: {ذَوَي عَدْلٍ} [الطلاق:2] وكذلك لا تجوز شهادة النساء؛ لما في هذه المسائل من الشبهات؛ ولأن الخطاب في قوله: {مِنْكُمْ} [الطلاق:2] أي: من رجالكم؛ هذا على رأي جمهور العلماء. قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] تحول الخطاب فقوله: {وَأَشْهِدُوا} [الطلاق:2] خطاب للمطلق، وقوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] خطاب للشهود، فتحول الخطاب على ما بينَّاه آنفاً. فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] أي: يا أيها الشهود لا تشهدوا من أجل الزوج والزوجة، واجعلوا شهادتكم لله سبحانه وتعالى، {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [الطلاق:2] وهذا أسلوب من أساليب التهييج والحث على امتثال أمر الله، يعني: إن كنت مؤمناً فافعل كما أمرك الله. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] أي: إذا طلقت الزوجة على السنة مرة واحدة في طهرٍ، فإنه قد يكون أمامك فسحة بأن تراجعها على السنة، أما أن تطلق وهي حائض فتضطر إلى أن تطلق مرة ثانية، وكذلك لا تطلق ثلاثاً في مجلس واحد، فتقع في مسائل فقهية شديدة، ولا تجد مخرجاً، فافعل ما علمك إياه الرسول عليه الصلاة والسلام. إذا أراد شخص أن يطلق الزوجة وهي حائض وكان منفعلاً، فعليه أن يصبِّر نفسه إلى أن تطهر ثم يمتنع عن جماعها، فلعله إن صبر حتى تطهر ويمتنع عن جماعها يشتاق إليها مرة ثانية وينسى أن يطلقها، والتؤدة في كل شيء خير كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

حقيقة الإمساك بمعروف والمفارقة بمعروف

حقيقة الإمساك بمعروف والمفارقة بمعروف قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] الإمساك هنا هو المراجعة، تقول لها: قد راجعتك، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] أي: تتركها حتى تنقضي عدتها. فإما أن تمسك بمعروف، وإما أن تفارق بمعروف؛ فالبذاءة ليست من خلق المسلمين، والإضرار بالناس ليس من أخلاق المسلمين، فلست مخيراً أيها الزوج الطاغي أن تطلق كما تشاء وتؤذي كما تشاء قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] ، فإما أن تمسك بمعروف وإما أن تفارق بالمعروف، وليس لك خيار. فالإمساك بمعروف هو المراجعة، والمفارقة بمعروف هي تركها حتى تنقضي العدة. وفي الآية الأخرى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] فمن الناس من يمسك الزوجة بقصد الإضرار بها، كأن يطلقها ثم يتركها ولا يراجعها حتى تقترب عدتها من الانتهاء، فمثلاً: عدتها ثلاثة أشهر، يأتي بعد خمسة وثمانين يوماً ويقول: راجعتك، ثم بعد أن يراجع يقول: طلقتكِ، حتى تعتد ثلاثة أشهر أخرى، وبذلك تطول عليها مدة العدة، فالله نهى عن ذلك بقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة:231] هكذا يقول الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ويرزقه من حيث لا يحتسب.

تفسير قوله تعالى: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: من يجعل الله وكيلاً له فالله كافيه، يعني: اجعل الله وكيلاً عنك في زواجك في طلاقك في كل شئونك اجعل الله وفي كل مسائلك، كما في قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] . فإذا كنت تريد أن تتوظف في وظيفة حكومية، فاجعل الله وكيلك، فهو نعم الوكيل سبحانه وتعالى، هناك ربط بين رب المشرق والمغرب {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] فإذا كان لك حاجة في المشرق أو حاجة في المغرب فاجعل وكيلك هو الله سبحانه وتعالى، وكذلك في زواجك وفي طلاقك وفي شئونك كلها. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: فهو كافيه. {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق:3] أي: رب العزة ينفذ الشيء الذي يريده سبحانه وتعالى. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] فالعدة لها قدر، وكل شيء له قدر كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27] كذلك الطلاق والعدد لها مقادير، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] . فقد يقول قائل: ما هي الحكمة في أن المطلقة تعد ثلاثة قروء؟ نقول: قال الله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] ، وهذا أمر الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض.

تفسير قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ.) {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق:4] أي: كبيرات السن اللواتي انقطع عنهن الحيض. {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق:4] أي: إن شككتم، وللعلماء فهيا تفسيران: أحدها: إن ارتبتم في عدتهن فالعدة هنا هي ثلاثة أشهر. الثاني: إن ارتبتم في الدم الذي ينزل منهن، هل هو دم حيض أو دم فساد أو دم استحاضة ولم تعرفوا، ولم تستطيعوا تحديد الدم، فعدتهن أيضاً ثلاثة أشهر. {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] هذا من المقدم والمؤخر فالمعنى: واللائي يئسن من المحيض إن ارتبتم واللائي لم يحضن أي: من الفتيات الصغيرات اللواتي تزوجن قبل الحيض؛ فهؤلاء عدتهن ثلاثة أشهر، أما أولات الأحمال فأجلهن أن يضعن حملهن، فالحوامل من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن فالآية فيهن، وكذلك أولات الأحمال من المتوفى عنهن الأزواج، أجلهن أن يضعن حملهن. ومن المعلوم أن العلماء في كثير من الأحيان يستدلون بالنصوص العامة؛ وذلك عند غياب النصوص الخاصة، فمثلاً: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر وما فيها من أجر فقال: ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] . وسئل ابن عباس عن شراب يصنع باليمن يقال له البتع: أحرام هو؟ قال: قال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) ، فأحياناً يستدلون بالنصوص العامة عند غياب النصوص الخاصة، لكن أحياناً تستدل بالنصوص العامة ويكون في المسألة نص خاص، فاستدلالك بالعام أحياناً يبتعد عن الصواب، وفي هذه المسألة قد وقع استدلال بالنصوص العامة من صحابيين جليلين فجانبهما الصواب. فقد سئل ابن عباس -وهو رأي علي أيضاً- عن امرأة مات عنها زوجها وهي حامل متى تنقضي عدتها؟ ففي شأنها آيتان: الآية الأولى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] . والآية الثانية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] ؟. فقال ابن عباس وعلي رضي الله عنهما: تعتد أبعد الأجلين، أي: إذا كانت الحامل في الشهر الأول، فإذا جئنا نطبق عليها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] فبعد أربعة أشهر وعشر ستكون حاملاً في الشهر السادس، ولا يحل لأحد أن يتزوجها وهي حامل؛ لأنه ستختلط الأنساب، فتعتد بأبعد الأجلين وهو وضع الحمل، وإذا كانت في الشهر الثامن ووضعت فإنها تنتظر حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، فهذا رأي علي وابن عباس فأفتيا بالنصوص العامة. لكن يوجد في المسألة نص خاص احتج به أبو سلمة بن عبد الرحمن رحمه الله -وهو من التابعين- على عبد الله بن عباس وكان أبو سلمة كثير المراجعة لـ ابن عباس، فحرم من علم ابن عباس كثيراً. احتج أبو سلمة بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى على عبد الله بن عباس بحديث سبيعة الأسلمية (فـ سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل فما لبثت إلا ليالي ووضعت حملها، فتجملت للخطاب، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما لي أراك متجملة للخطاب؟ والله لا تحلين للنكاح حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر. فحملت عليها ثيابها وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: إنك حللت حين وضعتِ) . فاستدل أبو سلمة بما رواه عن أبي هريرة عن رسول الله في قصة سبيعة: على أن المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع حملها، فقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وإن كان سياقه في المطلقات لكن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن سبيعة يفيد أن المتوفى عنها زوجها أيضاً تنقضي عدتها بوضع الحمل. والله سبحانه وتعالى أعلم. ثَمَّ نساء ليس لهن عدد، وهن المطلقات قبل المسيس، فالمطلقة قبل المسيس، أي: قبل البناء، لا عدة عليها، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49] . كذلك دب النزاع في عدد بعض النساء كالمختلعات، فإذا افتدت امرأة نفسها من زوجها وقالت: لا أريده. فمن العلماء من قال: عدة المختلعة كعدة المطلقة سواءً بسواء، ورأى كثير من أهل العلم رأياً آخر: وهو أن عدة المختلعة حيضة واحدة؛ وذلك لإثبات براءة الرحم شأنها شأن المسبيات فيستبرئن بحيضة، وهذا القول مروي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]

حكم طلاق الغضبان وأقسامه

حكم طلاق الغضبان وأقسامه قال تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5] بهذا تقريباً تنتهي أسس مسائل الطلاق. وثم أنواع من الطلاق تجري بين الناس كطلاق الغضبان، فلزاماً أن يُبَيََّن: طلاق الغضبان للعلماء فيه تفصيل: فمن العلماء من يقول: إن طلاق الغضبان على أقسام ثلاثة، وأحكامه تنبني على درجة الغضب: القسم الأول: إذا كان الرجل قد غضب غضباً شديداً جداً، أخرجه عن عقله ولا يدري مع الغضب ما يقول، فطلاقه لا يقع، لأنه أصبح كالمجنون فيأخذ أحكام المجنون، ولا يقع طلاقه على رأي أكثر أهل العلم، بل نقل البعض الاتفاق على عدم وقوعه. القسم الثاني من أقسام الغضب: هو غضب معتاد يجري بين الناس، وأنت في كامل عقلك وفي كامل تفكيرك وفي كامل اختيارك، قلت لها وأنت مغضب منها: أنتِ طالق. قالوا: فهذا طلاقه يقع. القسم الثالث: المرحلة المتوسطة بين الغضبين: وهو الغضب الشديد جداً الذي تدري معه ما تقول وتعلم ما تقول، فأنت تعرف الذي تقوله وتدري ما تقول، ولكنك لا تستطيع أن تمنع نفسك، فغضبت وانفعلت انفعالاً شديداً؛ مثلاً: زوجة جاءت ولطمت زوجها على قفاه لطمة شديدة، فقال لها: أنتِ طالق. هو عارف الذي صدر منه، ولكن لم يستطع أن يمنع نفسه من شدة الغضب، فهذه هي التي اختلف العلماء فيها، فرأى فريق منهم أن مثل هذا الغضبان لا يقع طلاقه؛ لأنه قد حدث على عقله نوع من أنواع الإغلاق، وقد ورد حديث يعله أبو حاتم الرازي في كتابه العلل، وبعض العلماء يحسنه: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) والجمهور يفسرون الإغلاق بالإكراه. ومن العلماء من أطلق القول في تفسير الإغلاق وقال: الإغلاق كل مؤثر يؤثر على العقل ويجعله يتصرف على غير طبيعته وغير هيئته، فقالوا: إن الغضب الشديد يحدث نوعاً من أنواع الإغلاق، والإكراه يحدث نوعاً من أنواع الإغلاق، والضرب الشديد والمرض الشديد كذلك. مثلاً: شخص مصاب بحمى شديدة أثرت على عقله ببعض التأثيرات، فأصبح يتكلم بأشياء لا يستطيع أن يمنع نفسه منها، وإن كان يدري معناها، فهذه هي المرحلة المتوسطة من مراحل الغضب، التي فيها نزاع بين العلماء، ويرى كثير من أهل العلم: أن هذا المطلق لا يقع طلاقه، واستدل هذا القائل بحديث: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) وقد تقدم الكلام على سنده. واستدل أيضاً بفعل موسى صلى الله عليه وسلم لما ألقى الألواح حين وجد القوم يعبدون العجل، وإلقاء الألواح بمنزلة إلقاء القرآن، وهذا كفر، لكن غفر ذلك لموسى صلى الله عليه وسلم، قالوا: فالطلاق من باب أولى، والله سبحانه وتعالى أعلم، هذا بالنسبة لطلاق الغضبان. ففي الحقيقة أن إخواننا الذين يفتون في مسائل الطلاق عندما يأتي الرجل إليهم يقصر في وصف حاله، فيفتيه بعض الأفاضل من العلماء بفتيا، وأحياناً يذهب إلى عالم آخر فيسترسل معه في بيان مسألته ومشكلته ويقول: أنا مريض بالأعصاب، وهذه ورقة فيها علاجي، والجيران يشهدون، فيفتي العالم الذي فُصِّل له بقول آخر غير العالم الذي لم يفصِّل له، أو يأتي الوسيط في مسائل الطلاق ويقصر في النقل أو يحرف في الكلام أحياناً، وأحياناً يأتي الوسيط وينقل بدقة، فترى الأخ يتهم العلماء، وهو المتهم نفسه والمقصر نفسه في الذي نقل. والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم.

تفسير قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ.) ومن الأحكام الأخر قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] . (مِنْ وُجْدِكُمْ) أي: من سعتكم، فعلى الزوج لزوجته المطلقة طلاقاً رجعياً النفقة والسكنى، ورأي جماهير أهل العلم أن النفقة على قدر السعة، والسكنى كذلك في بيتها على قدر السعة. أما المطلقة طلاقاً مبتوتاً آخر ثلاث تطليقات، فلا نفقة لها ولا سكنى على رأي جماهير العلماء؛ لما ورد في حديث فاطمة بنت قيس (أن زوجها أرسل إليها بآخر ثلاث تطليقات من اليمن، وأرسل لها مع وكيله شعيراً فسخطته واستقلته، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترفع أمرها فقال لها: إنه لا نفقة لكِ ولا سكنى) فالمطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ولا سكنى. فقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] في المطلقات الرجعيات. {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6] هذا نهي عن الإضرار كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] .

نفقات المطلقات من الحوامل وسكناهن

نفقات المطلقات من الحوامل وسكناهن {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فالحوامل من النساء لهن أحوال: إما أنها حامل ومطلقة طلاقاً رجعياً. وإما أنها حامل ومطلقة طلاقاً بائناً. فالحامل المطلقة طلاقاً رجعياً يلزم الزوج بالإنفاق عليها لاعتبارين: الاعتبار الأول: أنها ما زالت زوجة لها نفقة ولها سكنى. والاعتبار الثاني: باعتبار الجنين الذي في بطنها فهو ولده. أما الحامل المطلقة المبتوتة فينفق عليها الزوج باعتبار واحد ألا وهو: باعتبار الحمل الذي في بطنها.

حكم إرضاع الطفل من أمه المطلقة

حكم إرضاع الطفل من أمه المطلقة قال سبحانه: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق:6] بعد وضع الحمل {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] أي: أجر المرضعة، {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6] هذا خطاب للرجل وللمطلقة، فالله أمرهما أن يتشاورا فيما بينهما في شأن الطفل المولود بالمعروف، فتتشاور الزوجة مع مطلقها في شأن الطفل: ماذا نفعل؟ وما هو الأنسب للطفل؟ وهذا من الخلق الكريم الذي حث عليه ديننا، وحثنا عليه ربنا سبحانه وتعالى. فإن كانت العلاقة الزوجية قد انقطعت فما زالت علاقة الأخوة الإيمانية باقية: (فالمسلم أخو المسلم) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] . وإذا تتبعت آيات الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6] {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فستجد أنها كلها تنصب على حسن المعاشرة بين الزوجين. {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6] أي: تشاورا فيما بينكما أيها المطلق والمطلقة في شأن الولد، وما هو الأنفع للولد. {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} [الطلاق:6] أي: إن أبت المرأة المرضعة الأجر الذي أعطاها إياه الزوج واستقلته: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6] أي: لا تلزم الأم حينئذٍ بإرضاعه، إلا إذا كان لا يرضع إلا منها، وإذا كان سيضيع بدونها، فحينئذٍ تتجه نصوص أخر لإلزامها بالإرضاع كقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] إلى غير ذلك من النصوص.

تفسير قوله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته.

تفسير قوله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.) ثم قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] أي: النفقة على المطلقة. {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] فلا يلزم المطلق بنفقة فوق طاقته؛ لكن لخراب الذمم وقلة الأمانات في هذه الأزمان، رأى فريق من أهل العلم أن من المصالح المرسلة الآن تحديد شيء يعطى للزوجة على قدر سعة الزوج، فالمطلقون الآن خربت ذممهم وقلت أماناتهم، فكل زوج مطلق يريد أن يجحف بالزوجة تماماً ولا يعطيها أي شيء. والمطلقة هي الأخرى تريد أن تأخذ منه كل ما تريد من مال، فالرأي أن من المصالح المرسلة أن يتدخل القاضي إذا لم يتم الصلح على شيء معين، وإلا فلا دخل للقاضي آنذاك، لكن إذا امتنع الزوج من الإنفاق وأبت الزوجة إلا أن تجحف بكل مرتباته، فحينئذٍ يتدخل القضاة للفصل بينهما على ما ذكر الله سبحانه: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] وهذه مسألة مردها إلى الأعراف السائدة، وإلى حال الزوج وحال الزوجة كذلك. {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه رزقه: {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7] وهذه من الآيات التي يرفع فيها الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها.

تفسير قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا.) ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق:8] . من العلماء من يقول: إن سور الكتاب العزيز تتعدد فيها أصول الدين، فالسورة الواحدة تأتي الأحكام فيها، ثم تتبع بالتحذير من المعاصي والتحذير من ارتكاب الكبائر وانتهاك حرمات الله، ثم تتبع بتبشير أهل الإيمان بالجنات، وهذا في سورة الطلاق واضح. ذكر الله سبحانه وتعالى قرى عتت عن أمر ربها، أي: بالغت في الطغيان فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [الطلاق:8] و (كأين) هنا للتكثير كما في قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران:146] . {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق:8] ، وقد يكون العتو عن أمر الله وعن أمر رسله في مسائل الطلاق كذلك، قد ترفض أمم شرعة الطلاق التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وسنة الطلاق التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلتؤذن حينئذٍ بهذه الآيات: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [الطلاق:8-10] يا أصحاب العقول! {الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق:10-11] ، وكلها آيات تقدم معناها. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] أي: من الأرض سبع أرضين كما في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) . {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] . وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم بقاء المطلقة ثلاثا مع مطلقها في بيت واحد وخدمتها له

حكم بقاء المطلقة ثلاثاً مع مطلقها في بيت واحد وخدمتها له Q طُلقت أمه ثلاثاً وما زالت تعيش مع أبيه في شقة واحدة، ولم يخرج أحد منهما من الشقة لرفضهما، ولي أخوة وأخوات صغار يحتاجون الأم، وما زالت تصنع الطعام للأب وتغسل له الملابس، فما الحكم؟ A إذا كان يخلو بها أو يرى منها ما يرى من الأجنبية فإنه يحرم عليه ذلك، ويحرم عليهما معاً المعيشة في شقة واحدة؛ لأنها الآن امرأة أجنبية تماماً عنه، وليست له بزوجة، فحكمها حكم الأجنبية تماماً، وينسحب عليهما كل ما ينسحب على الرجل مع المرأة الأجنبية.

حكم من عقد بها ثم طلقت قبل دخول زوجها عليها

حكم من عُقد بها ثم طلقت قبل دخول زوجها عليها Q تمت خطبتها وعقد قرانها وبعد أسبوع سافر خطيبها للعمل، وبعدها بسبعة شهور حصل خلاف وحصل طلاق، هل عليها عدة؟ A ليس عليها عدة؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] أما بالنسبة لما يخصها من الصداق، فلها نصف الصداق إن كان الصداق قد سمي. إلى هنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة التحريم

تفسير سورة التحريم امتازت سورة التحريم عن غيرها من السور بأنها عالجت قضية أسرية حدثت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض أزواجه رضي الله عنهن، وعرضت الحل كيما يكون مثالاً يحتذى به لكل مؤمن ومؤمنة، ثم انتقلت هذه السورة لتخاطب أهل الإيمان والكفر فتبشر أقواماً وتنذر آخرين، إلى أن تنتهي بذكر وقائع لأنبياء الله ورسله، وتحكي كيف أن الأنبياء عليهم السلام قد ابتلي بعضهم حتى في أهل بيته، بينما وجد العكس من ذلك تماماً في طاغوت التاريخ الأكبر فرعون لعنه الله.

عتاب الجليل لنبيه الكريم

عتاب الجليل لنبيه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فسورة التحريم سورة مدنية، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] . قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به هو، وتراد به أمته من بعده، فلا ينبغي لأحد أن يحرم شيئاً أحله الله سبحانه وتعالى ابتغاء مرضاة أي شخص كان، وقد عاتب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هذا العتاب، كما عاتبه في سورة عبس في قوله سبحانه وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1-3] ، لما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على صناديد قريش وترك عبد الله بن أم مكتوم، فعاتب الله النبي هذا العتاب، وهنا عتاب آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله فيه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . فلا ينبغي أن تطغى العاطفة على ديننا، ولا ينبغي أن يطغى الحب على الشرع، بل الشرع فوق كل شيء، وفوق كل أحد، ومحبة الشرع فوق كل محبة، فلا ينبغي أن تحرص على مرضاة أزواجك وتحرم على نفسك شيئاً أحله الله سبحانه وتعالى لك، أو تحل شيئاً حرمه الله سبحانه وتعالى عليك. وفي تذييل الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حث على الاستغفار، فإذا كان هذا قد صدر منك، وأحللت شيئاً أو حرمت شيئاً ابتغاء مرضاة أزواجك فباب التوبة مفتوح، فاستغفر الله من ذلك؛ فالله سبحانه غفور رحيم.

وعد الله لنبيه باستبدال أزواجه

وعد الله لنبيه باستبدال أزواجه قال تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:5] ، هكذا قال عمر لما قال: (وافقت ربي في ثلاث) . فمن موافقات عمر لربه أنه قال لـ حفصة: (يا حفصة لا تسألي رسول الله ولا تستكثريه، سليني من مالي ما شئتِ) ، وفي ثنايا حديثه معها قال: (كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فأتينا إلى المدينة فإذا رجال تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم) فنساء بعض البلاد يغلبن الرجال، ورجال بعض البلاد يستضعفون النساء، ولا يعني أنها تغلبه بالضرب، بل برأيها كأهل المدينة، أما قريش فلم يكن رجالها كذلك. الشاهد: أن عمر قال لـ حفصة ولأزواج النبي: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5] ، فنزلت الآية موافقة لقول عمر رضي الله تعالى عنه، فهذا يعد من مناقب عمر، وموافقات عمر لربه رضي الله تعالى عنه. (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) ، وما شاء الله أن يطلق أزواجه، اللهم إلا حفصة طلقها النبي وراجعها، وابنة الجون لم تكن من أزواجه عليه الصلاة والسلام، {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} [التحريم:5] ، والقانتة هنا: هي كثيرة الطاعة والعبادة، المداومة عليهما، والقنوت في هذا الموطن معناه: المداومة على الطاعة والعبادة، ومنه قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9] أي: مديماً للقيام ساعات الليل، {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] ، هذا حال أهل الإيمان، فاعرضوا أنفسكم أيها المؤمنون على كتاب الله. (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) ، أي: مديم للقيام، وللصلاة وللطاعة والخضوع لله، {آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:9] ، أي: ينتظر هذا المصير الذي هو مقدم عليه يقيناً بلا شك، {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] . هذا مصيره طول ساعات الليل يقف على هذا المنوال، يستغلها في القيام والركوع والسجود، ويطيل الدعاء، {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] ، فهؤلاء عباد الرحمن وهؤلاء هم أولوا الألباب. ونفس المعنى مؤكد في قوله تعالى: {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:64-65] فهكذا ينبغي أن يكون المسلم، فلا تتلذذ بالسماع، ولكن انظر إلى كتاب الله وامتثل أمر الله سبحانه وتعالى، اقرأ كتاب الله قراءة شخص يريد أن يعرف ماذا يريد منه ربه سبحانه وتعالى. فمعنى: (قَانِتَاتٍ) : مديمات الطاعة والعبادة، ففيه حث للنساء على إدامة الطاعة والإكثار من العبادة، فهذا شأن النساء اللواتي عسى الله أن يبدلهن بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إن طلقهن، فالشاهد: أنه يستحب للمرأة كذلك أن تطيل قيام الليل، ويستحب لها كذلك أن تكثر من الطاعة ومن الدعاء بنيل الجنان وبالنجاة من النيران. (تَائِبَاتٍ) ، كثيرات الاستغفار، وكثيرات الرجوع إلى الله بعد الزلات، {عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم:5] ، أي: صائمات، فالسياحة هنا الصوم، لا كما يقول هذا الزنديق القصيمي الذي ألف كتاباً في الإلحاد بعد أن كان مهتدياً، ولكن أزاغ الله قلبه، وطفق يؤلف كتاباً جمع فيه بزعمه بين متناقضات، فطفق يأتي بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ، ويقول: أين القرار في البيوت يا عباد الله وهناك سائحات؟ يعني قبحه الله: كيف يقول الله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) ، ويقول: (سَائِحَاتٍ) ؟ ففهم -على جهله- أن السياحة هي السياحة إلى بلاد الكفر وأماكن الفسق والدعارة، ونسي أن السياحة تطلق على الصيام وعلى معانٍ أُخر، كما تطلق أيضاً على الهجرة في سبيل الله. والسياحة لها جملة من المعاني، أما أهل الغباء فيقصرونها على معنى واحد، ويريدون أن يحملوا الناس على اعتقاد هذا المعنى، فالسائحات هنا هن الصائمات على رأي أكثر المفسرين. (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) ، أي: منهن الثيبات ومنهن الأبكار؛ لأن المرأة لا تكون ثيباً وبكراً في آن واحد، فهي إما ثيب وإما بكر، فالمعنى: أن بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار، ولكن إن قال قائل: قد قدمت الثيبات على الأبكار، فدل هذا التقديم على استحباب نكاح الثيبات، فنقول: إن هذا المعنى مدفوع هنا لأشياء: أولها: أن الرسول قال: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) . ثانيها: أن الواو لا تقتضي الترتيب إنما تقتضي مطلق التشريك. ثالثها: أن الثيب قد تستحب وتفضل على البكر إذا كانت دينة، أو إذا كانت المصلحة تتأتى من وراء هذه الثيب، كما فعل جابر وتزوج ثيباً لتقوم على أخواته البنات، فقال له الرسول: (بارك الله لك) ، وقد يقول قائل: إن الثيبات قدمن ههنا لكون أكثر نساء النبي كنّ ثيبات، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ولاية الله لنبيه

ولاية الله لنبيه قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] : هذا حث منه تعالى على التوبة إليه، ولا يتصور أن جواب الشرط هو: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، إنما جواب الشرط محذوف، فالمعنى: إن تتوبا إلى الله فإن الله يتوب عليكما، ثم ابتُدئ كلام جديد: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، أي: مالت عن الحق في هذا الباب، أو في حبكما لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته على نفسه، فإن تتوبا إلى الله فإن الله يتوب عليكما. (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، أي: مالت قلوبكما عن الحق في هذا الباب، وأصغى أي: مال، (أصغى ليتاً وأمال ليتاً) كما في حديث أشراط الساعة، أي: مال. (وَإِنْ تَظَاهَرَا) ، أي: إن تتعاونا أيتها الزوجتان على الرسول {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ؛ هذا كله في مقابل تظاهر امرأتين على الرسول، فالذي ينصر الرسول صلى الله عليه وسلم ويتولاه ضد هاتين المرأتين هم المذكورون في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ} [التحريم:4] ، سيد الملائكة، {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم:4] ، كـ أبي بكر وعمر وعموم الصالحين، {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] . فانظر إلى تأييد الله لرسله، فقد يقول قائل: إن الله سبحانه وحده كافٍ عبده، فما هو المستفاد من قوله: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ؟ وهذا كما قال فريق من أهل العلم: كقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:9-10] ، فهو من باب طمأنة العبد، أعني أن تقاتل: الملائكة مع أهل الإيمان، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] ؟ وقال: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10] . فالشخص المسلم، يعرف أن الله معه وأن الله ناصره، لكن قد يستحوذ عليه الفكر أحياناً ويقول: في البيت شياطين، وفي الطريق شياطين، والشيطان قد يفعل بي! فتذكر أن الله قادر على حفظك، وأن هناك أيضاً ملائكة يحفظ الله بهم أهل الإيمان، كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ، أي: بأمر الله. فهذا إنما هو من أجل طمأنة النفوس، وإلا فكفى بالله سبحانه وتعالى معيناً، وكفى به ظهيراً، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وحسب نبينا ونعم الوكيل! قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:4] ، أي: متولي نصرته عليكما ومتولي حفظه منكما، {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] . فمن هاتان المرأتان اللتان تنتصران على الله، ثم على جبريل، وصالح المؤمنين، وعلى الملائكة؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما ما حاصله: كنت حريصاً على أن اسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ، حتى خرج عمر مسافراً، فسافرت معه وعدل فعدلت معه، فذكر الحديث وفيه: (قلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] ؟ فقال: واعجبا لك يا ابن عباس! هما: عائشة وحفصة) . ثم ذكر الحديث مطولاً. فالمرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هما عائشة وحفصة، وهذا الحديث في صحيح البخاري. وهن رضي الله عنهن نساء حملهن على ما صنعن الغيرة والمحبة الزائدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التصرف منهما مغمور في بحر فضائلهما رضي الله تعالى عنهما، لا كما يقول الشيعة الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيطعنون في عائشة وحفصة لهذه الآية، وينسون أن الله قال في عائشة وفي زوجها رسول الله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] ، وينسون أن الله أنزل عشر آيات في براءتها رضي الله تعالى عنها، وينسون أنها خُيرت بين الدار الآخرة والدنيا، فاختارت رسول الله والدار الآخرة، وينسون جملة مناقبها رضي الله تعالى عنها، فهذه منها مغمورة في بحر فضائلها. وليست هي فحسب، بل أهل الإيمان على وجه العموم، وقد قال الله تعالى في شأن أهل الإيمان: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] ، فالمغفرة للذنوب، وبنو آدم ليسوا بمعصومين، والله سبحانه وتعالى أعلم. ولماذا قدم جبريل ولم يدخله في عداد الملائكة، إذ قال الله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ؟ هذا التنصيص على جبريل لبيان منزلة جبريل عليه السلام، فهو سيد الملائكة كما قال كثير من أهل العلم. قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ، بمعنى: ظهراء ومعاونون، وكلمة (ظهير) وإن كان ظاهرها الإفراد إلا أنها تؤدي معنى الجمع، كما قال الله سبحانه: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، أي: حسن أولئك رفقاء، فكلمة (رفيقاً) وإن كان ظاهرها الإفراد لكنها تؤدي معنى الجمع، ومنه قول الشاعر: إن العواذل لسن لي بأمير أي: لسن لي بأمراء، فأحياناً تأتي الكلمة المفردة وتؤدي معنى الجمع.

موقف الزوج من إفشاء الزوجة لأسراره

موقف الزوج من إفشاء الزوجة لأسراره قال الله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم:3] أي: قال قولاً في السر لبعض أزواجه، فيجوز للرجل الذي عنده أكثر من امرأة أن يسر إلى بعض الأزواج بحديث ولا يسر بهذا الحديث للأخرى؛ فالنسوة يختلفن في الأمانات والضبط، وقد يستفاد الحديث منه عند امرأة ولا يستفاد منه عند الأخرى، فيجوز أن يؤثر الرجل بعض أزواجه بالسر دون البعض، وليس في هذا ظلم ولا إجحاف. وما هو هذا الحديث؟ فيه أقوال للعلماء: أحدهما: أنه قول الرسول في شأن مارية: (والله لا أقربها ولا أعود) . والثاني: في شأن العسل: (والله لن أشرب العسل ولن أعود) . والثالث: أن الله سبحانه لم يبين ذلك، وأنه حديث الله أعلم به. (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) : نأخذ من هذه الآية فقهاً للتعامل مع النساء، ولتتعز نساؤنا في هذه الآية، فنساؤنا لسن بخير من نساء رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يستكتم امرأته على سر، وهي من أمهات المؤمنين، اللائي يفترض فيهن أنهن أعقل النساء، وهن طيبات بلا شك، قانتات بلا شك، صالحات بلا شك، ومع ذلك لم يكن الذي أسر إليهن برجل عادي، بل الذي أسر إليهن هو رسول الله عليه الصلاة والسلام. فمع أنه أسر إليها بالحديث وقال: لا تخبري بذلك أحداً من الناس، خرجت وأفشت سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان هذا قد صدر منهن، فنساؤنا من باب أولى أن يصدر منهن ذلك، فإذا كان النبي لم يثرب عليهن هذا التثريب الشديد، فنحن كذلك لا نثرب عليهن التثريب الشديد، فإذا كان الأمر سري جداً فلا تخبرها به من الأصل، خاصة إذا كنت تخشى من إفشائه، فادخره لنفسك، أما إذا لم تستطع أن تدخر السر لنفسك وأفشيته للزوجة فهي أضعف منك وناقصة عقل ودين فستفشيه هي الأخرى. فالشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيفية التصرف مع النساء في هذا الباب. قال تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} [التحريم:3] ، أي: أخبرت به، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم:3] ، أي: أطلعه الله عليه، {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3] ، أي: لم يعاتبها في الحديث كله، إنما عاتبها في بعض الحديث، ولم يسرد لها الأخطاء كلها، وإنما سرد لها ما يشعرها أنها أخرجت هذا الحديث وأفشته. فيأخذ منه العلماء أيضاً فقهاً للتعامل مع النساء: وهو أن المرأة إذا أخطأت في عشرة أخطاء أن لا نؤاخذها بالأخطاء العشرة، وإنما نؤاخذها بخمسة منها مثلاً أو أربعة، ونتغاضى عن الباقي، ومستندهم قوله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3] ، ومستندهم أيضاً قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله سبحانه وتعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ، قال ابن عباس: (إني لا أحب أن أستنصف جميع حقي على امرأتي؛ لأن الله يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ) ، أي: فأنا إذا ساويت عقلي بعقل امرأتي فحاسبتها بكل خطأ أصبح عقلي مثل عقلها، فما هو الفارق بيني وبينها؟ لابد أن يكون هناك فارق بيننا، فالرجل هو أشد ديناً وأحكم عقلاً من المرأة؛ ولأن الرسول قال في شأن النساء: (ناقصات عقل ودين) فهذا الفاضل لابد أن يتعامل بمقتضى الفضل الذي آتاه الله إياه. وكما قدمنا مراراً أنك إذا عاملت الطفل بعقليته لامك الناس؛ لأن عقله صغير، فإذا جئت تحاسب الطفل على كل صغيرة وكبيرة أصبح عقلك مثل عقل الطفل، لكن إذا أخطأ الطفل مرة سامحه في هذه المرة، وإذا أخطأ المرة الثانية ضربته ضرباً خفيفاً، وإذا أخطأ مرة ثالثة فبحسب المقام وبحسب الحال، وبحسب الخطأ إن كان متعمداً أو غير متعمد؟ فلا تقف للطفل على كل خطأ؛ لأنه صغير وناقص العقل. وكذلك النساء، فقد قال فريق من أهل العلم بل جمهورهم في تفسير قول الله سبحانه: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ؛ قالوا: (السفهاء) النساء والصبيان، وأصل السفاهة الرقة، فثوب سفيه، أي: ثوب رقيق، فرقة العقل وقلة العقل جبل الله سبحانه وتعالى عليها النساء، وقال سبحانه: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] . وهذا كلام الله؛ فلا تطالب المرأة أن تكون كاملة مثل الرجل، ولا تحاسب المرأة على كل الأخطاء التي تصدر منها، فإنهن جبلن على النقص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع) وذكرهن النبي صلى الله عليه وسلم. فالشاهد: أن المرأة لا تؤاخذ بكل خطأ يصدر منها، بل تؤاخذ بالبعض ويترك لها البعض. {عَرَّفَ بَعْضَهُ} [التحريم:3] أي: بينه لها، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) ، تكرمة منه لها، وحلماً منه عليها، وتعليماً لنا منه صلى الله عليه وسلم. (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ) فوجئت وقالت: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم:3] ، والرسول ليس بثرثار، فما قال: نبأني فلان أو فلان أو فلان أو فلان، بل قال الحق: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] ، على فرض أن إحدى النساء نبأته، ولكن الذي نبأه هو الله سبحانه، كما هو في الآية صريحاً، لكن لا ينبغي أن توسع دائرة المشاكل، بل اختصر الأمر اختصاراً ولا تفتح على نفسك تحقيقات واجتماعات لا جدوى ولا طائل تحتها. قال الله سبحانه: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] ، هنا قد يقول قائل: لماذا لم يقل: نبأني الله، ولكن أتى بلفظ: (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) ؟ وA لأن اسم العليم وهو من أسماء الله سبحانه وتعالى يقتضيه هذا المقام، ولذلك ينبغي في أسماء الله الحسنى أن يؤتى بالاسم من الأسماء الحسنى موافقاً للموقف الذي يثار ويراد.

كيفية التحلل من الأيمان

كيفية التحلل من الأيمان ثم قال الله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ، أي: قد فرض الله لكم ما تتحللون به من هذه الأيمان حتى لا تقعوا في الإثم، وتحلة الأيمان هي الآية المذكورة في سورة المائدة: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] . فأخذ العلماء منها حكماً فقهياً ألا وهو: أن من قال لأي شيء أو لطعام أو لشراب: هذا الشيء عليَّ حرام، وإذا قال رجل لامرأته: أنتِ عليَّ حرام، أو لجاريته: أنتِ عليَّ حرام، أو تحرمي عليَّ، أو حرام عليَّ أن آكل هذا الطعام، أو تحرم عليَّ زيارتك، أو أي شيء من هذا التحريم؛ فكفارة هذا كله كفارة يمين، كمن قال: والله لا أفعل كذا وكذا ثم فعل. فذهب فريق من أهل العلم: إلى أن كفارة من قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام كفارة يمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] . وهذه المسألة قد تعددت فيها أقوال العلماء، وقد جمع القرطبي في تفسيره هذه الأقوال، فوصل بها إلى ثمانية عشر قولاً، لكن إذا أخذت الأقوال المعتمدة على الدليل فستجد أن الأقوى من هذه الأقوال قولين: القول الأول: قول من قال: إن الكفارة كفارة يمين. والقول الذي يليه في القوة: أنه لا شيء عليه، ومستند العلماء القائلين بهذا القول أن قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] له مناسبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قد شربت عسلاً ولن أعود وقد حلفت) ، فقالوا: إن الله قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ؛ والرسول قد قال: (قد حلفت) ، فإذا قال الشخص: أنتِ حرام عليَّ وقد حلفت على ذلك، فيكفر كفارة يمين، أما إذا قال: أنتِ حرام عليَّ ولم يحلف فلا كفارة عليه. لكن يقال من باب الاحتياط: إن الكفارة كفارة يمين، والتحلة هي كفارة اليمين المذكورة في قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] . وإطعام عشرة مساكين يكون وجبة واحدة، قال الجمهور: والقيمة لا تجزئ في كفارة اليمين؛ لأن الله قال: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، وقال الجمهور أيضاً: إنه يلزم أن يكون العدد عشرة، إلا إذا تعذر الحصول على العشرة فيجوز أن تخرج العشر وجبات لأهل بيت من خمسة أفراد مثلاً، أو لشخص واحد إذا لم تجد المساكين العشرة، أي: فلا يصار إلى إعطاء الشخص أكثر من وجبة إلا إذا تعذر الحصول على العشرة، أما إذا وجد العشرة فالجمهور يقولون: عليك أن تعطي عشرة؛ لأن الله قال: (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) . قال الله سبحانه: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] ، فلا تلجأ إلى الصيام إلا إذا فقدت الإطعام، أما إذا كنت تستطيع الإطعام فالصيام منك غير مقبول ولا مجزئ؛ لأن الله قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] . قال الله سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ، أي: قد بيّن الله لكم تحلة اليمين، وأوجبها عليكم. {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} [التحريم:2] أي: ناصركم ومتولي أمركم سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً ينبغي أن يدرجه العبد في دعائه؛ فتطلب من الله سبحانه وتعالى أن يتولاك ويتولى إخوانك ويتولى ذراريك، فهو سبحانه وتعالى يتولى الصالحين، وقد كان هذا ضمن دعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) . {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2] ، (العليم) بقلوبكم وبنياتكم، (الحكيم) بما شرع.

سبب نزول أول آيات سورة التحريم

سبب نزول أول آيات سورة التحريم لهذه الآية سببان في النزول: سبب أشهر، ولكنه من ناحية الصحة أقل صحة، وسبب أصح ولكنه أقل شهرة، أما السبب الأشهر فهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى جاريته مارية -أي: جامع جاريته مارية القبطية التي هي أم إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك في بيت حفصة وفي ليلة حفصة وعلى فراش حفصة رضي الله تعالى عنها، وكما هو معلوم فإن الرجل لا يقسم للإماء، إنما يأتيهن كيفما أراد ومتى ما أراد، أي: أن الزوج عليه أن يقسم بين الزوجة وبين الزوجة الأخرى، أما الإماء فلسن كذلك، فللسيد أن يطأ الأمة في أي وقت شاء؛ إذ ليست بمقسوم لها. فالذي حدث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى جاريته مارية في ليلة حفصة وعلى فراش حفصة؛ فعلمت بذلك حفصة رضي الله عنها، فدخلت محتدة قائلة: أفي بيتي وعلى فراشي؟! فقال عليه الصلاة والسلام: لا تخبري بذلك أحداً، وقد حرمتها على نفسي، ولن أقربها بعد ذلك، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] ) ، وفي بعض الروايات: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هي عليَّ حرام) ، هذا هو أشهر سبب لنزول الآية. لكن أصح سبب هو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فكان يدخل عند زينب ويمكث عندها طويلاً فتسقيه عسلاً، فتواطأ بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لبعضهن البعض: أيتنا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل له إذا أقبل عليها: إني أجد منك ريح مغافير، فتواطأت حفصة مع عائشة على ذلك، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرب عسلاً من عند زينب قالت له حفصة: ما لك! أكلت مغافير؟! إني أجد منك ريح مغافير، قال: ما أكلت مغافير، بل شربت عسلاً، ولن أعود وقد حلفت، فنزلت الآية) . فهذا هو السبب الأصح للنزول. وعلى كلٍ فالمؤدى واحد، فالشاهد منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه أشياء ابتغاء مرضاة الأزواج، أو طلباًَ لمرضات الأزواج، فعاتبه ربه سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] ، فلا ينبغي أن تكون الزوجة حكماً على الشرع، بل الشرع يقضي عليها وعلى الزوج وعلى الأولاد، ويقضي على الجميع، ولا يليق بك أيها الرجل أن تجعل امرأة ناقصة العقل والدين حكماً على الشرع، فتحل ما تشاء وتحرم ما تشاء من أجلها.

أمر الله سبحانه بتقواه والتوبة إليه والغلظة على الكفار والمنافقين

أمر الله سبحانه بتقواه والتوبة إليه والغلظة على الكفار والمنافقين ثم اتجه الخطاب إلى عموم المؤمنين، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] . هذا حال هؤلاء الملائكة، قال بعض العلماء: إن الرحمة التي في قلوبهم تجاه أهل النار نزعت، فليس في قولبهم رحمة لأهل النار أبداً، لذلك لم يضحك مالك خازن النار منذ خلقه الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ) ، كم هؤلاء الملائكة؟ فُسروا بقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] ، قال بعض العلماء: إن التسعة عشر هم الرءوس، يعني: القادة من خزنة النار، ولا يمنع هذا أن يكون هنالك ملائكة آخرون للعذاب، لما ورد في حديث الميت: (فيأتيه ملائكة معهم مسوح، وأكفان من النار ... ) إلى آخر الحديث. والآية فيها حث بل إلزام للرجل أن يتفقد أهل بيته، ولا يترك للمرأة الحبل على الغارب لتصنع ما تشاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، والله قال: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] ، ولذلك قال الله سبحانه أيضاً في الباب: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ، وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54-55] . وكان النبي يحث أهل بيته على الطاعات كما في حديث: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين، فيا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) أي: كم من نفس مكسوة مستورة في الدنيا تأتي مفضوحة يوم القيامة، لكونها عارية عن الأعمال الصالحة التي لم تجد ما تستتر به. فأنت مسئول عن أهلك أمام الله لا تطع المرأة في المحرم لا تسحبك امرأتك إلى حيث الفسق والفساد والشر، فأنت قيم عليها، ومسئول عنها في الآخرة أمام الله سبحانه وتعالى، لذلك قال بعض أهل العلم في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) . قال: لأنه يجب عليه أن يعلمهم حرمة هذه النياحة. لذا يلزم العبد التوبة التي لا رجعة معها إلى الذنب بحال من الأحوال، هذا وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] ، ونبيه عليه السلام يقول: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، وأيضاً ذكر النبي: (عبداً أذنب فقال: يا رب أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به! قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً فقال: يا رب! أذنبت ذنباً فاغفره لي، فغفر الله له ... ) الحديث إلى آخره. وتعريف التوبة النصوح بأنها هي التوبة التي لا عودة معها إلى الذنب أبداً، كما لا يرجع اللبن إلى الضرع؛ فيه نظر. وقد ذكر العلماء ما يقرب من عشرين قولاً في ضوابط التوبة النصوح، منها: التوبة الصادقة، والتوبة الصالحة، ومنها: أن يعزم على أن لا يرجع إلى المعصية، لكن إن غلب على ذنب فيتوب أيضاً مع الذنب الجديد، والله أعلم. فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8] ، أصل التوبة الرجعة، تقول: تب إلى الله، أي: ارجع إلى الله سبحانه وتعالى يرجع عليك الله برحمته، ويرجع عليك بمغفرته سبحانه وتعالى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ} [التحريم:8] ، قال فريق من أهل العلم: إن (عسى) في كتاب الله تفيد التحقق إن شاء الله، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم:8] ، أي: إن أنتم تبتم. وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، وقوله في نفس الآية: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم:8] ، دليل على أن أهل الإيمان تصدر منهم سيئات. {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8] أي: نورهم يتقدمهم من كل اتجاه، من الأمام وعن اليمين، {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:8] ، هذا النور كما تقدم تحريره يكون على قدر الأعمال وعلى قدر الصلاح، فمن كان على درجة عالية من الصلاح كان نوره أقوى وأشد، ومن كان على درجة من الشر والفساد كان نوره خافتاً، ومن كان على نفاق انطفأ نوره وهو في أشد الحاجة إليه. قال الله سبحانه: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:8] ، أي: أهل الإيمان، لكن متى يقولون هذا الدعاء؟ يقولونه وقد اعتراهم الخوف الشديد، لأنه فجأة يحدث إطفاء لبعض الأنوار أقوام كلهم سائرون معهم نور، ثم فجأة تنطفئ أنوار أقوام منهم، وهم أهل النفاق، كما قال الله سبحانه: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، فقد كان معهم أنوار. فانطلقوا فإذا بنور أهل الإيمان يثبت وإذا بنور أهل النفاق يخفت، فينادي المنافقون أهل الإيمان: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، أي: نستضيئ بنوركم، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] ، أي: هناك نور يوزع ويقسم في المكان الذي أخذنا جميعاً النور منه، فيذهبون يلتمسون نوراً فلا يجدون، فيرجعون كرة أخرى كي يدركوا أهل الإيمان، فيضرب {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] * {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] . فأهل الإيمان يتوسلون إلى الله ويرجون ربهم، فيقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] . قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} [التوبة:73] ، بالسيف والسلاح، {وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] ، بالحجة واللسان، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] . وهنا لا تعارض بين قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ، وبين قوله تعالى لموسى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] * {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ، فهناك فقه للخطاب -ولعله يأتي في محاضرة مستقلة إن شاء الله- فهناك أقوام تجدي معهم الكلمات اللينة، وأقوام لابد لهم من الغلظة والشدة حتى ينزجروا. قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:9] ، الذي يصيرون إليه.

ضرب الله مثلا للذين كفروا في أنهم لا تنفعهم قرابتهم من المؤمنين

ضرب الله مثلاً للذين كفروا في أنهم لا تنفعهم قرابتهم من المؤمنين ثم قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] . وصف نوح ووصف لوط بهذا الوصف: (عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) ، فيه رد على المغالين في الأشخاص ممن أطلقوا عليهم أولياء الله، وهذا التعبير سائد في كتاب الله، (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) ، أي: فليسا بإلاهين، وقال الله في شأن عيسى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] ، وقال الله عن نبينا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] ، والآيات في هذا كثيرة متعددة. (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) ، فالآية أفادت المقرر شرعاً: أن لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، فهذان مثلان لزوجتين كافرتين ولزوجين مسلمين. مثال آخر لوالد مؤمن مع ولد كافر، وهو نوح عليه السلام إذ يقول: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] * {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] . مثال آخر لولد مع والده، وهو إبراهيم إذ يقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45] . مثال ثالث للرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) ، فيصر عمه على الكفر والعياذ بالله. وقول الرسول: (يا فاطمة! سليني من مالي ما شئت، فإني لا أغني عنكِ من الله شيئاً) . يقول الله سبحانه وتعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) ، قال جمهور العلماء: ليس المراد بالخيانة هنا خيانة الفراش، أي: الخيانة بالزنا، إنما المراد الخيانة في الدين، فكانتا تدلان الكفار على الأماكن التي يستطيعون منها الطعن في أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فالخيانة هنا الكفر وإرشاد الكفار إلى مواطن يطعنون منها في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإن قال قائل: كيف ذلك والله يقول: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ؟ فالإجابة: أن هذا كان سائغاً في شريعة من قبلنا، بل في أوائل شريعتنا وفي أوائل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان عمر متزوجاً بكافرة، وكان يجوز للشخص المسلم أن يتزوج الكافرة إلى أن أتى التحريم. سؤال آخر قد يرد: كيف والله يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] ، فكيف بنوح الطيب مع امرأة خبيثة؟ فالإجابة من وجهين: الوجه الأول: أن المراد بقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} على قول لبعض المفسرين الأقوال الخبيثة لا تصدر إلا من الخبيثين، والخبيثون لا تصدر منهم إلا الأقوال والأعمال الخبيثة، كذلك الطيبون تصدر منهم الأقوال الطيبة، فليس ما هنا من ذلك، هذا أحد الأقوال في الآية، وهو الذي عليه أكثر المفسرين كما ذكره البغوي والقرطبي وصديق حسن خان وغيرهم. القول الثاني: أن الآية وإن حملناها على هذا الوجه: وهو أن الزوج الطيب يحرص على زوجة طيبة، والزوج الخبيث يحرص على زوجة خبيثة. فهذا في الغالب، لكن قد يأتي من لا يعلم الغيب فينتقي امرأة على أنها صالحة وقد تكون فاجرة من الفاجرات، والله أعلم بالعباد، فيكون حكماً أغلبياً استثنيت منه هاتان المرأتان، والله أعلم.

ضرب الله مثلا للذين آمنوا بامرأة فرعون

ضرب الله مثلاً للذين آمنوا بامرأة فرعون قال الله تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] . ثم يقول الله سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] ، هذا مثال آخر لامرأة صالحة تحت رجل كافر. والجواب عليها هو ما أُجيب به على ما سبق من أن هذا قبل أن تحرم المؤمنات على الكفار، فأفاد هذا المعنى أنه لا يتسلط أحدٌ على قلب أحد، وأن الإيمان وعكسه مرده إلى الله سبحانه وتعالى، ففرعون أطغى شخص عُرف على وجه الأرض لم يتسلط على قلب زوجته التي هي في بيته رضي الله تعالى عنها، مع أنه أظلم رجل عرفه التاريخ، وأظلم رجل ذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى، وكان من البشاعة بمكان، ومع هذا لم يتسلط على قلب امرأة ضعيفة أسيرة في بيته! وكذلك نوح عليه السلام مع أنه من أولي العزم من الرسل، ولكنه لم يستطع أن يحيل قلب امرأته وولده من كفر إلى إيمان، فتؤكد لنا هذه الآيات معنى: ألا وهو الكامن في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100] . وتؤكد لنا المعنى الموجود أيضاً في قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] ، فحتى أنت وهو قلبك لا تملكه. العلماء الذين يتتبعون اللطائف في التفسير يقولون: اختارت الجار قبل الدار بقولها (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) ، فيأخذ منها الفقهاء أشياءهم التي يأخذونها من اللطائف، فيقولون: قبل أن تشتري الدار اسأل عن الجار، فقد ترتفع قيمة المنزل أضعافاً مضاعفة مقابل تواجدك بجوار رجل صالح، فقد يكون جارك تاجر مخدرات، أو جاراً مؤذياً كل يوم وأنت معه في مشكلة، فالبيت الذي هو بمائة ألف لا يساوي بجوار مثل هذا عشرين ألفاً، تأتيه حملة للقبض عليه فيلقي المخدرات على بيتك. فقال العلماء: اختر الجار قبل الدار، كما اختارت آسية امرأة فرعون وقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] .

ضرب الله مثلا للذين آمنوا بمريم عليها السلام

ضرب الله مثلاً للذين آمنوا بمريم عليها السلام {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] . قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع؛ مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون ... ) الحديث. فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يتوفانا وإياكم على الإيمان والإسلام. وصلى وسلم الله على نبينا محمد وسلم.

الأسئلة

الأسئلة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

الآداب الواجبة على زائر قبر الرسول صلى الله عليه وسلم

الآداب الواجبة على زائر قبر الرسول صلى الله عليه وسلم Q ما الآداب التي يجب اتخاذها عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A بالنسبة لآداب زيارة المسجد النبوي وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإجابة واسعة، لكن باختصار: لا تدعو الرسول هناك، لا تقل: يا رسول الله! افعل لي كذا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5] . إذا جئت عند قبر الرسول فلا ترفع صوتك: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، وقل كما كان ابن عمر يفعل: (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه) ، ثم ينصرف، هذا الذي كان يفعله ابن عمر رضي الله عنهما. واحرص على أن تصلي الصلوات في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلاة فيه كألف صلاة فيما سواه من المساجد، (والمدينة حرم كمكة) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم قراءة سورة يس على الميت وتوجيهه إلى القبلة

حكم قراءة سورة يس على الميت وتوجيهه إلى القبلة Q ذُكر في كتاب فقه السنة في أحكام الجنائز جواز قراءة سورة يس على الموتى، وتوجيه الميت إلى القبلة، فما الرأي؟ A أما قراءة سورة يس على الموتى فلا يثبت فيها أي خبر عن رسول الله صلى عليه وسلم، ولم يثبت في فضل سورة يس أي حديث، إنما شأنها شأن سائر سور القرآن، كما في الحديث: (من قرأ حرفاً فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها) ، إلى غير ذلك من الفضائل. أما توجيه المحتضر إلى القبلة، فجمهور الفقهاء على مشروعية توجيه المحتضر إلى القبلة، وبعض أهل العلم الأفاضل كالشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى يعد هذا من بدع الجنائز في كتابه أحكام الجنائز، فكأن الأخ السائل سأل السؤال من أجل هذا، فالشيخ ناصر رحمه الله تعالى استدل بأثر -على ما يحضرني- لـ سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وأنه جيء به كيما يوجه إلى القبلة أثناء احتضاره، فقال: أو كنت على غير القبلة قبل ذلك؟ فكأن سعيداً ما أقر على أن يوجه إلى القبلة، فاعتبر الشيخ ناصر التوجيه إلى القبلة بدعة. أما الجمهور الذين ذهبوا إلى مشروعية توجيه المحتضر إلى القبلة، بل نقل بعضهم الإجماع على مشروعية ذلك واستحبابه كـ النووي، إلا أنه استثنى سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، فمن حججهم أحاديث يرى البعض أنها حسنة بمجموع الطرق، كما في قصة البراء بن معرور أنه أوصى أن يوجه إلى القبلة عند موته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصاب الفطرة) ، وهو حديث قابل للأخذ والرد من ناحية الصحة والضعف، فالأمر فيه محتمل إذ له شاهد يجعله عند بعض العلماء يُحسَّن، ومن العلماء من يبقيه في حيز الضعف. لكن ورد أيضاً عن عطاء: (أنه سُئل عن توجيه المحتضر إلى القبلة، فقال: سبحان الله! وهل يترك ذلك أحد من المسلمين؟ قد كنا نأتي بالميت نوجهه إلى القبلة، فإذا لم نستطع توجيهه إلى القبلة أدرنا السرير كله إلى القبلة) ، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد الرزاق في المصنف، وأسانيده صحيحة. فالأمر في المسألة واسع؛ لكن رأي الجمهور هو التوجيه إلى القبلة، ولا ينبغي أن المسائل التي حدث فيها اختلاف بين أهل العلم نتيجة اختلافهم في تحسين حديث أو تضعيفه أن يحكم على الرأي الآخر بالتبديع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوع الطلاق الغيابي شرعا

وقوع الطلاق الغيابي شرعاً Q إذا طلق الرجل زوجته بلفظ: (أنتِ طالق) أمام رجل دون أن تسمع المرأة كلمة الطلاق؟ A يعني الطلاق الغيابي، والطلاق الغيابي يقع؛ لأن فاطمة بنت قيس أرسل إليها زوجها بآخر ثلاث تطليقات من اليمن، فطلاق الغائب يقع.

حكم إنشاد النساء في الأعراس

حكم إنشاد النساء في الأعراس Q في حفلات عرس لأخوات، تقوم بعض الأخوات بإنشاد بعض الأبيات الجميلة، فهل للأخت منا أن تشارك معهن في الإنشاد، علماً بأن الحاضرات قد لا يكن كلهن ملتزمات، فتخرج وتصف ما حدث من أن الأخت فلانة فعلت وكان صوتها جميلاً، وكثيراً ما تتعرض الأخوات المنشدات لذلك؛ لكنها لا تستطيع أن تتأخر؟ A فلتنشد الأخت؛ لأن الرسول قال: (يا عائشة! ماذا كان معكم من اللهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو؟) ، وعلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أهل المدينة منافقين من الرجال، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] ، فكان فيها مسلمون في الظاهر وهم في الباطن أهل نفاق. وكذلك في أوساط النساء على عهد الرسول لم يكن كلهن صالحات، فمنهن التي تخرج تفشي سر الزوجية تقول: زوجي يفعل معي كذا وكذا، فإذا كانت هذه تفشي سر الزوجية، حتى يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ذاك شيطان يجامع شيطانة) ، أو كما قال: (إن شر الناس منزلة المرأة تفضي إلى الزوج أو الزوج يفضي إلى المرأة ثم ينشر سرها) ، إذا كان هذا يحدث على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأيضاً أخواتنا هنا لسن كلهن معصومات، فالمباح يباح والمحرم يحرم. على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثبت أن هناك نسوة كانت أصواتهن جميلة، وهناك نسوة جميلات وحسناوات، وكن يختلطن بنساء المسلمين، فإذا كانت المفسدة متوقعة فاترك الظن واتبع الوارد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة ماذا كان معكم من اللهو؛ فإن الأنصار يعجبهم اللهو؟ ولقنها الرسول هلا قلتِ: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم) إلى غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم تقبيل المرأة لزوج ابنتها

حكم تقبيل المرأة لزوج ابنتها Q هل يجوز للزوجة أن تقبل زوج ابنتها؟ A كيف تقبله؟ هل تقبل رأسه وتراضيه، فيجوز لها وليس المجال مجال فتنة، أقصد أنه لن تكون هناك شهوة في مثل هذه الحالة، والأصل الإباحة؛ لأنه محرم لها والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ما أعده الله للنساء في الجنة

ما أعده الله للنساء في الجنة Q يثاب الذي يقوم الليل ويفعل الصالحات بالحور العين، هذا بالنسبة للرجال، فماذا عند النساء؟ A {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] ، فكل شيء تشتهيه المرأة المؤمنة في الجنة يعطيها الله إياه، وقد يعفها الله سبحانه وتعالى بلا زوج.

ضعف حديث (جنبوا أطفالكم المساجد)

ضعف حديث (جنبوا أطفالكم المساجد) Q ما صحة حديث: (جنبوا أطفالكم المساجد) ؟ A حديث ضعيف.

حكم القنوت في صلاة الفجر

حكم القنوت في صلاة الفجر Q هل دعاء القنوت في صلاة الفجر بدعة؟ A تقدم الحديث على ذلك باتساع، وأن للعلماء فيه أربعة أقوال مشهورة: فريق من العلماء يرى أنه مسنون ومشروع في صلاة الفجر، ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله، ومنهم من يرى أنه بدعة، فالمسألة فيها أربعة أقوال، والأمر فيها واسع، والله أعلم.

حكم الإعلان في الزواج

حكم الإعلان في الزواج Q حدثت خطوبة بإشهار وإعلان بين الناس، وبعدها بعام تم عقد رسمي بدون إعلان أو علم الأهل أو الناس، فهل يصح الزواج؟ A إذا كان الزواج بولي وشهود فالزواج صحيح، وبعد ذلك يخبر الناس، أما إذا كان بدون ولي فالزواج باطل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) .

حكم ما ورد من الآثار والقصص عن السلف في الزهد ونحوه وهي لا توافق السنة

حكم ما ورد من الآثار والقصص عن السلف في الزهد ونحوه وهي لا توافق السنة Q بعض الآثار التي ترد عن السلف الصالح رحمهم الله يكون فيها أحياناً مصادمات لما ورد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كآثار وردت عن بعض التابعين وبعض السلف الصالح أنه كان يختم القرآن في كل ليلة، أو يقرأ القرآن في ركعة، أو أن بعض الصحابة كانت على خدودهم خطوط من الدموع، يقول السائل: ماذا نفعل أمام هذه الآثار وأمام الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ A في الحقيقة أنه سؤال حسن ومن الأهمية بمكان؛ لأن إخواننا الوعاظ والمحاضرين كثيراً منهم يتوسع في هذا الباب توسعات تؤخذ عليه لا له. هذه الآثار التي وردت عن السلف الصالح رحمهم الله هي جملة آثار في عدة أبواب: منها: أن بعض السلف كان يضع حصاة تحت لسانه حتى لا يكثر الكلام، وفي بعض الآثار أن بعض السلف كانت على وجهه خطوط من أثر الدموع، وأن واحداً مثلاً كان يجوع وما كان عنده وقت يأكل، ومثل هذا أشياء كثيرة جداً. وإذا جئت تزن هذه الأشياء على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام تجد: أولاً: أن الرسول خير الخاشعين وخير البكائين لله سبحانه، فهو سيد ولد آدم، وهو أخشى الناس وأتقاهم لله، ومع ذلك لم يكن على خده خطوط من مجرى الدموع صلى الله عليه وسلم، أيضاً كان أشد الناس انشغالاً بالدعوة إلى الله، ومع ذلك لم يأت أنه ترك الطعام لعدم وجود الوقت، وكان كلامه من جوامع الكلم، ومع ذلك لم يأت بحصاة يضعها تحت لسانه حتى لا يتكلم، إلى غير ذلك مما ورد من أشياء يتعجب الشخص إذا سمعها، فهذه الأشياء على أقسام: منها أشياء ثبتت السنة على خلافها أو السنة تضادها في الأصل، فإذا كانت هذه الأشياء تخالفها السنة أو تضادها في الأصل فلا تعتبر من أي شخص كان، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أبداً أي هدي بهدي رسول الله، فالرسول مثلاً قال في شأن القرآن: (اقرأه في ثلاث ولا تزد على ذلك) هنا نمتثل هذا الهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقرؤه في ثلاث ولا نزيد على ذلك، وإن ورد عن غيره أنه زاد فله اجتهاده الخاص به، ونعتذر له حتى لا يُنال منه، وحتى تحفظ له وجاهته ويحفظ له رأيه، لكن المتبع عندنا هو كلام رسولنا وهدي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالآثار التي فيها مخالفات صريحة لسنة الرسول، فنحن ابتداءً وانتهاءً مع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام. ثانياً: أما الآثار الأخرى التي ليس فيها مصادمات مع السنة، فهذه ورد فيها كثير من هذه الآثار، ولا أعني الأثر بعينه، إنما أعني كثيراً من هذه الآثار: كمن كان له حصاة يضعها تحت لسانه حتى لا يتكلم، فهذه لا أعلم لها إسناداً صحيحاً أصلاً، ولا نعلم لها أسانيد ثابتة، فربما قرأها شخص في كتاب، وليس كل ما قُرئ في كتاب صحيحاً، فعلى شرط أهل الحديث نادراً ما يصح أثر من هذه الآثار، وإذا لم يصح فما فائدة الحديث به. ثالثاً: لابد من تخريج هذه الأعمال حتى على فرض صحتها، فأنا مثلاً ممكن في أي وقت من الأوقات آخذ مسألة علمية وأحرر هذه المسألة العلمية تحريراً، والمسألة شاغلة ذهني شغلاً زائداً، أجوع فآكل وعندما أكون في الأكل أذكر ما يخدمني في المسألة فأترك الأكل وأرجع، فأحياناً المرق أحسن لي من اللحم الذي يؤخرني، فتكون حالة عرضت لي فلا أجعلها تأسيساً يؤسس عليه العمل كله، ولا تكون قاعدة يسار عليها أبداً. فإذا جاء واحد من إخواننا الأفاضل أو العلماء يدرس هذه المسألة، أو يحث مثلاً على اغتنام الأوقات أو الحرص على الأوقات إذا به يذكر أن من السلف من كان يأكل السمكة بدون أن يطبخها! وهذه حالة حصلت وممكن أن تحصل، مثلاً: مهندس كان يرسم لوحة وذهنه مشغول جداً بها فربما يفعل هذا، لكن ليس معنى هذا أنه كل يوم يأكل السمك هكذا، أو طبيب يقوم بإجراء عملية جراحية، ومن الخطر أنه يترك العملية ويمشي، واستمرت معه عشر ساعات أو عشرين ساعة، فالشرع يجوز له أن يجمع بعض الصلوات عند الضرورات القصوى، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً) . فلا تأخذ أي قول وتجعله قواعد تسير عليها، نحن عندنا سيرة الرسول خير سيرة، مثلاً: ذهب شخص إلى مجلس من المجالس وهو ذاهب متوقع أن هذا المجلس سيحدث به اغتياب مثلاً، أو تحدث به مشكلة أو أي شيء، فقال: ماذا أفعل حتى لا أتكلم في مثل هذا المجلس، وأنا ضعيف وأخشى أن أغلط؟ كما قالت عائشة رضي الله عنها لما خرجت مع الرسول عليه الصلاة والسلام مسافرة، فقالت لها حفصة من باب الاحتيال كي تمكث مع الرسول: (يا عائشة! ألا تركبين بعيري وأركب بعيركِ تنظرين وأنظر -لأن الرسول كان يحب أن يركب مع عائشة - قالت: نعم أركب، فركبت عائشة بعير حفصة وحفصة ركبت بعير عائشة، فجاء الرسول إلى بعير عائشة ودخل على الهودج فإذا بـ حفصة، فاستحى الرسول أن يخرج، فبقي مع حفصة في السفر كله، وعائشة تقول: ماذا أصنع؟ فكانت تضع رجليها في الأرض وتقول: يا رب سلط عليَّ عقرباً تلدغني، نبيك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً، فكانت تنفعل وتدعو على نفسها بأي شيء يحدث لها حتى لا تؤذي الرسول، فأنا لا آخذ من فعلها مشروعية الدعاء على النفس. فلا تأخذ هذه الآثار وتؤسس عليها قواعد، فإنك إذا أسست عليها قواعد خالفت سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكثير من هذه الآثار مخارجها لا تتبين، فلابد أن تخرج هذه الأشياء وتوضح للناس حتى لا تفهم على غير وجهها، والله أعلم. أحياناً بعض إخواننا يفهم أشياء خطأ، ويطبق خطأ، مثلاً من الملاحظات التي رأيتها مع بعض الإخوة الحريصين على السنة في الظاهر: أنا خرجنا مرة إلى بعض البوادي في بعض الدول، ونحن نقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام في شأن العرنيين الذين أتوا إلى المدينة وأمرهم الرسول عليه الصلاة بأن يخرجوا إلى إبل الصدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها، فقام إخواننا الذين يشتكون البطون والذين لا يشتكون، وكلهم أتى بقدر ووضعه تحت الناقة وهي تبول، وأخذ البول وشرب. فالمريض معه عذر أنه مريض، ويمتثل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (اشربوا من ألبانها وأبوالها) ، لكن السليم المعافى لماذا يشرب من البول؟ الرسول عليه الصلاة والسلام كان معافى، فهل شرب من البول؟ فأحياناً الأفهام تأتي على غير وجهها والله أعلم، وجزى الله الأخ السائل خيراً.

حكم النافلة في حق المسافر

حكم النافلة في حق المسافر Q رجل يسافر إلى بلاد في عرفنا أن الذهاب إليها يطلق عليه سفر، ويدرك الجماعة في مساجد هذه البلاد، فهل تسقط عنه النافلة؟ A النفل الراتب يسقط عن المسافر؛ لقول ابن عمر: (لو كنت مسبحاً لأتممت) ، ولأنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى النوافل في السفر إلا النفل المطلق، وهو راتبة الفجر والوتر، والله أعلم.

قصر المسافر للصلاة وإن طالت مدة سفره

قصر المسافر للصلاة وإن طالت مدة سفره Q إذا كنت من المنصورة وسافرت إلى محافظة أخرى، وأستمر في العمل مدة عشرة أيام أو خمسة عشر يوماً ثم أعود إلى بلدي، فهل أقصر الصلاة، أم أتم؟ وإذا سئلت عن كيفية الصلاة هل أنصح بالإتمام أم القصر؟ A إذا استمر الشخص في العمل في بلدة أخرى وليس له بها دار إقامة فله القصر فيها، فتقصر طالما أنك لم تتخذ بيتاً، أما إذا رجعت إلى البلدة فتتم.

حكم صلاة الفريضة على الراحلة إلى غير القبلة

حكم صلاة الفريضة على الراحلة إلى غير القبلة Q كثيراً ما أتعرض للسفر ويأتي وقت الصلاة وأنا في الطريق، فهل أصلي وأنا جالس إلى غير القبلة أم أنتظر وأصليها قضاءً؟ A إذا كانت الفريضة سينتهي وقتها تماماً وأنت ما زلت في السيارة، كأن تكون مسافراً قبل الفجر بنصف ساعة، وركبت السيارة والسائق لا يوافق أبداً على أن يوقف السيارة من أجلك، وإذا انتظرت إلى أن تصل لم تصل إلا بعد طلوع الشمس، فصلِّ على ما تيسر لك إن كنت متوضئاً صليت على حالك إلى أي اتجاه كنت، وإن كنت غير متوضئ فتتيمم وصل على أية حالة، فلا تترك فريضة كالفجر إلى خروج وقتها. أما إذا كانت الصلاة من الصلوات التي تجمع فلك أن تجمع، أما إذا كان الجمع أيضاً سيفوتك، أي: أخرت الظهر إلى العصر والسائق لم يقف إلا بعد المغرب فصلِ حينئذٍ الظهر والعصر على ما تيسر لك. وذلك لأدلة منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين: (صلِ قائماً؛ فإن لم تستطع فقاعداً؛ فإن لم تستطع فعلى جنب) ، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .

حكم من يعمل في بيع الأغراض النسائية

حكم من يعمل في بيع الأغراض النسائية Q عملي متعلق بالأغراض النسائية وبيعها، فماذا أفعل؟ A أنت إذا استفتيت نفسك أولاً تجد الجواب، أعني: أنك أعرف بعملك منا. فإذا كان يقيس جسم المرأة، ويتحسس عورتها، ويفعل ويفعل ويفعل، بما هو أدرى به منا، فالعمل محرم. فالضوابط المحيطة بالعمل هي التي تفيدنا، لكن الذي نفهمه عن العمل الحريمي على الإجمال أنه عمل مذموم جداً، بل محرم إذا باشرت محرماً، أما إذا كانت هناك أشياء أُخر، كأن تكون مثلاً شخصاً محترماً وزوجتك هي التي تأخذ المقاس وأنت تنفذ، فسيبقى علينا الكلام عن التنفيذ، هل تنفذ شيئاً تتبرج به المرأة في الطريق، أم شيئاً محترماً موقراً؟ ففيها أيضاً ملابسة، الملابسة الأولى: إمساكك المباشر لجسم المرأة، وخلوتك بالمرأة أثناء التفصيل. وعلى فرض أنك اتقيت هذه المسائل بزوجة تأخذ لك المقاسات وأنت تطبق وتنفذ، فالذي تنفذه تُسأل عنه: هل تنفذ ثياباً للمتبرجات يفتن بها الرجال، أو تنفذ ثياباً واسعة أو تلبس في البيت؟ فيأتي الحكم بناءً على طبيعة العمل، والله أعلم.

تفسير جزء تبارك

تفسير سورة الملك [1] ورد في فضل سورة تبارك أحاديث، وورد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا ينام كل ليلة حتى يقرأها، وهذا يدل على عظم ما اشتملت عليه من الآيات؛ ففيها ذكر جملة من أسماء الله وصفاته، وفيها ذكر الغاية من خلق الموت والحياة، وفيها الحث على التفكر في السماء وما فيها من الآيات الباهرات، وفيها ذكر مآل شياطين الجن والإنس إلى غير ذلك من المعاني العظيمة التي يحيا بتذكرها القلب، فما أحوج المسلم إلى تدبر هذه السورة المباركة.

ما ورد في فضل سورة تبارك

ما ورد في فضل سورة تبارك باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: نتناول في ليلتنا هذه -إن شاء الله- تفسير سورة تبارك، سورة تبارك ورد في فضلها جملة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلها متكلم فيها، ومن أهل العلم من يحسنها لكونها في فضائل الأعمال. من هذه الأحاديث التي وردت في فضل سورة تبارك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لصاحبها عند الله عز وجل) فهذا الحديث إسناده فيه ضعف، لكن من العلماء من قبله؛ لأنه من فضائل الأعمال، وكذلك ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ سورة تبارك) ، ولكن في الحديث ضعف، ومن أهل العلم من حسنه لكونه في فضائل الأعمال، وورد حديث يصفها (بأنها منجية) وأيضاً في إسناده كلام.

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك)

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك) يقول الله سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] (تبارك) من العلماء من قال: إن معناها: كثرت بركته، ومنهم من قال: إن معناها: تعالى وتعاظم، فتبارك: كثرت بركته، وتعالى وتعاظم، وأصل البركة ثبوت الخير في الشيء، وتطلق البركة أيضاً على النمو والازدياد، فمثلاً قول القائل: بارك الله فيك، أي: كثر الله الخير فيك، وأيضاً: ثبت الله الخير فيك، فالبركة تطلق على ثبوت الخير في الشيء، وتطلق أيضاً على النمو والازدياد. فتبارك: تفاعل من البركة، أي: تزايدت بركته وتكاثرت بركته، ومن أهل العلم من قال: تعالى وتعاظم. وفي الآية الكريمة إثبات صفة اليد لله سبحانه وتعالى، وقد تقدم الحديث على هذا باستفاضة. ومن الأدلة في هذا الباب: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى، سحاء الليل والنهار) , فلله يد لكن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ملك ماذا؟ {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الزخرف:85] وملك كل شيء, {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2] من العلماء من قدر محذوفاً وقال: هو الذي خلق الموت والحياة أي: خلقكم للموت وخلقكم للحياة, هذا قول، والقول الآخر أن الموت والحياة مخلوقان من مخلوقات الله سبحانه وتعالى, كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح, فيوقف على قنطرة بين الجنة والنار, ثم ينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت! ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم نعرفه هذا الموت! فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] ) ، فالشاهد: أن من أهل العلم من قال: إن الموت والحياة مخلوقان من مخلوقات الله سبحانه وتعالى, كسائر المخلوقات لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وما هي إلا عبرة. والعلة من خلق الموت والحياة بينها الله في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ) أي: ليختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي: من منكم أحسن عملاً؟ إذاً: فالعلة من خلق الموت والحياة هي الاختبار, فالله سبحانه وتعالى قد نفى عن نفسه العبث قال سبحانه وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115-116] أي: تعالى الله عن العبث, فما خلقكم عبثاً أبداً، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115-116] تعالى وتنزه عن أن يعبث، وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16] , {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] ، وقال سبحانه: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17] ، وعلى هذا: فحياتنا ليست للهو ولا للعبث ولا للمجون ولا للتسالي, إنما كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، فهذه الفترة التي نعيشها هي أعمارنا، وهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه على وجه الإجمال والتغليب: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليل منهم من يتجاوز ذلك) ، هذه المدة الزمنية التي نعيشها نحن, إنما نعيشها للابتلاء فيها وللاختبار كما اختبر من كان قبلنا, فقد اختبرت أمم من قبلنا كانوا أقوى منا أجساماً وأبداناً، وأطول منا أعماراً، ذكرهم الله في كتابه فقال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:38-39] ، فالمدة التي نعيشها في زماننا -التي هي ستون إلى سبعين سنة من أعمارنا على الغالب- مدة للاختبار وللابتلاء كما ابتلي من كان قبلنا، فلسنا بدعاً من الخلق, ورسولنا ليس بدعاً من الرسل صلى الله عليه وسلم, فكما جلس مثل مجالسنا من كان قبلنا فكذلك نحن نجلس مثل هذه المجالس للاختبار في هذه الحياة الدنيا، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: ليختبركم, ليظهر منكم من هو أحسن عملاً من الآخر، ولم يقل: أكثر عملاً، فدل على أن حسن العمل هو الأمر المطلوب قبل كثرة العمل, فقد يكثر الشخص العمل، وعمله باطل أو ليس بباطل ولكنه قليل في أجره, وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج فقال: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فالخوارج -كطائفة من أهل عمان الآن- إذا جلست بجوار أحدهم وهو يصلي مثلاً في الحرم بعد المغرب لا تستطيع أبداً أن تسابقه في صلاته! يصلي بجوارك عشرين ركعة وهو لا يمل! (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم, وصيامكم إلى صيامهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) كما أن السهم يدخل في الهدف الذي صوب إليه ويخرج سريعاً لا يكاد يبتل بالدم, فكذلك هم يدخلون الدين ويخرجون منه ولا يكادون ينالون أي فضل، ولا يظهر عليهم أي أثر من هذا الدين!! ففي قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) دلالة على أن حسن العمل أفضل من كثرة العمل, فلا بد -أولاً- من سلامة العمل ومن حسن العمل, قد يكون العمل قليلاً، ويسبق عملاً كثيراً عمله آخرون!! حتى أبواب الخير تتفاضل، قال عليه الصلاة والسلام لـ جويرية وقد تركها، وهي تذكر الله بعد صلاة الصبح، وخرج وانصرف وغاب عنها مدة ثم رجع فقال: (ما زلت على الحالة التي فارقتكِ عليها! لقد قلت بعدكِ أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتي لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) ، فالكلام الكثير الفارغ -خاصة في زماننا هذا- مذموم إذا لم يكن يحمل علماً أصيلاً من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم. وقد تفشت عادة إطالة الخطب مع قلة الفائدة! عادة حشو الخطب وملؤها بالقصص والحكايات والخرافات والأضاحيك والمزعجات، والأشياء التي تبكي والأشياء التي تضحك، وروايات مملة مخلة والجدوى من وراءها ضعيفة, ويقصون تجارباً للبشر، وكل هذه لا تكاد تثبت في القلوب كما يثبت قول الله وكما يثبت حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قالت أم المؤمنين عائشة: (لم يكن صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم, إنما كان يتكلم كلاماً لو عدَّه العاد لأحصاه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن قصر خطبة الرجل وطول الصلاة مئنة من فقهه) يعني: متوقفة على فقه الرجل. فيجدر بإخواننا -الذي هم دعاة وخطباء في المساجد- أن يركزوا في خطبهم على المادة العلمية الصحيحة من كتاب الله ومن سنة رسول الله, فسر للناس آية من كتاب الله أو حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو اشرح لهم مسألة من مسائل الفقه، وكيف يجمع بين هذه الآية وهذا الحديث؟ كيف يزال الاضطراب الذي قد يتوهمه شخص بين هذه الآية وبين تلك الآية؟ حتى يخرج الناس وقد تعلموا شيئاً من كتاب ربهم ومن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، أما أن تحكي لهم تجاربك الشخصية ومغامراتك وقصصك وخيالاتك، فكل هذا لا نفع فيه, إنما النفع بالدرجة الأولى في كتاب الله وفي سنة رسول الله، وأنت إذا بلغت عن الله آية تثاب على تبليغها, وإذا بلغت عن رسول الله حديثاً تثاب على تبليغه، قال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها) ، لكن إذا حكيت للناس قصة فقد تخطئ في تلك القصة وقد تصيب, وقد تعطي الغرض منها من جانب، وتضر من جانب آخر, فلزاماً أن نكرس جهودنا في تبليغ كتاب الله عز وجل، وفي تبليغ حديث رسول الله! {وَهُوَ الْعَزِيزُ الغَفُور} [الملك:2] العزيز: منيع الجناب عظيم السلطان لا يغلبه أحد, فهو لا يغالب ولا يمانع مما أراد, وإذا أراد الله شيئاً فلا راد لقضائه وإرادته, فالعزيز هو: منيع الجناب، عظيم السلطان، لا يغالب ولا يقهر سبحانه وتعالى. (الْغَفُورُ) يدل هذا الاسم على سعة مغفرة الله سبحانه وتعالى, وعلى كثرة مغفرته سبحانه وتعالى, إذا علمت أن الله غفور دفع عنك اليأس من رحمة الله, فإن اليأس من رحمة الله كبيرة من الكبائر, ففي هذه الآية قال: (غفور) ، وفي الآية الأخرى قال: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] , وفي الآية الثالثة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيماً} [النساء:110] وأضيفت إلى الغفور صفة الرحمة (يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) ، وفي الآية الرابعة: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] . فدلّت هذه ا

تفسير قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقا)

تفسير قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً) {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3] الطابق معروف لديكم, والأطباق: الأدوار، ومن العلماء من فسر قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر:44] على أن الأبواب هي الأطباق في النار، وفسر بعض العلماء قوله تعالى: {لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} بفتح الباء أي: سماء بعد سماء أي: لتركبَنّ يا محمد! صلى الله عليه وسلم فيعرج بك سماء بعد سماء، وقد تقدم أن أشهر الأقوال في هذه الآية: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] حالاً بعد حال. لكن هنا: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3] أي: سماء فوق سماء، ثم سماء فوق سماء، إلى آخره، أو كل ما علا يطلق عليه: سما, يقال: سما فلان، أي: علا فلان, فالسماوات أطلق عليهن سماوات لعلوها وارتفاع مكانها. {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] أي: لا ترى خللاً ولا ترى ثقباً في هذه السماوات كما قال تعالى: {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] , فلا ثقب فيها، ولا تشقق فيها، ولا تصدع فيها. قال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] وأصل الفطور التشقق، (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تفطّرت قدماه) أي: تشققت قدماه، (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) أي: هل ترى من شقوق؟! {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4] أي: مرتين أخريين بعد المرة الأولى, أي: انظر إلى السماء مرتين أخريين، وركز البصر هل تكتشف فيها ثقوباً أو لا؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ} [الملك:4] أي: يرجع, ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] أي: رجعوا, ومنه قول صفية بنت حيي: (قام معي النبي صلى الله عليه وسلم ليقلبني إلى بيتي) ، أي: يرجعني إلى بيتي، {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] الخاسئ: المطرود المبعد, {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] أي: مطرودين مبعدين, ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ابن صياد: (اخسأ! فلن تعدو قدرك) , فالخاسئ هو: المطرود. (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا) مبعداً طريداً (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي: كليل, فالحسير: المتعب الكليل، (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) يعني: إذا فكرت أن تكتشف في السماء ثقباً أو خللاً أو عيباً في بنائها فانظر وركز النظر, ثم أعد النظر مرتين, ففي كل مرة من هذه النظرات سينقلب إليك البصر فاشلاً في الاكتشاف، وسيرجع ذليلاً مطروداً خاسئاً كما قال تعالى: (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) ففي الآية حث على التفكر في مخلوقات الله, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم (يقوم من الليل فينظر إلى السماء ويقرأ هذه الآيات، وهي خواتيم آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران:190-191]-أي: ما خلقت هذا أبداً عبثاً ولا لهواً- {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] إلى آخر الآيات العشر) . فيجدر بالعبد أن يتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهذا علم ضيعه الأكثرون, علم التفكر في مخلوقات الله, والنظر في آثار المتقدمين والمتأخرين والاعتبار بهم, والاعتبار بمخلوقات الله كما قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17-20] كل هذا نوع من أنواع العلوم شغل الناس عنه ببهرج وزخارف الحياة الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح)

تفسير قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] السماء الدنيا أي: السماء القريبة, فالأدنى هو الأقرب, والدنيا قيل لها: دنيا؛ لسرعة زوالها وقرب انتهائها، فالسماء الدنيا هي السماء القريبة، والمصابيح هي: النجوم، {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] قال قتادة رحمه الله تعالى: خلق الله النجوم لثلاثة أشياء من تجاوزها فقد تعدى وظلم: زينة للسماء الدنيا, ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر -لقوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]- ورجوماً للشياطين. (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) أي: جعلنا هذه النجوم رجوماً للشياطين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومسترق السمع هكذا بعضهم فوق بعض, يتسمعون الملأ الأعلى, فيسمعون إلى الملائكة وهم يتكلمون في العنان, فيخطف أحدهم -أي: الجني- الكلمة خطفاً, فيتبعه شهاب ثاقب) وكما قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:6-9] . فالجن كانت تتنصت في السماء، وتستمع إلى الملائكة التي تتحدث فيها, وتختطف الأخبار وتنزل بها على الكهنة, فبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم شددت الحراسة على السماء كما قالت الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} [الجن:9] أي: من السماء, {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] أي: للتجسس والتصنت {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] , بعد بعثة الرسول شددت الحراسة على السماء وأصبح أي جني يستمع يأتيه شهاب يحرقه إما قبل أن يلقي الكلمة على فم الكاهن، وإما بعد أن يلقيها على فم الكاهن (فيكذب الكاهن معها مائة كذبة) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. الشاهد: أن الله قال: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) فالنجوم من فوائدها: أنها زينة للسماء الدنيا, (وَجَعَلْنَاهَا) أي: جعلنا هذه المصابيح أيضاً رجوماً للشياطين, وهل قوله: (وَجَعَلْنَاهَا) من باب: أكلت رغيفاً ونصفه, ومن باب: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] أو من باب آخر؟ ومعنى قولهم: أكلت رغيفاً ونصفه، أي: أكلت رغيفاً ونصف رغيف آخر, ومعنى قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر:11] أي: من عمر معمر آخر، فكذلك هنا هل يقال: من النجوم نجوم زينة للحياة الدنيا, ونجوم أخر لرجم الشياطين, أم أن الكواكب التي هي زينة هي نفسها التي ترجم الشياطين؟ للعلماء في ذلك قولان، ولعل هذا واضح.

تفسير قوله تعالى: (وأعتدنا لهم عذاب السعير)

تفسير قوله تعالى: (وأعتدنا لهم عذاب السعير) {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} [الملك:5] أي: للشياطين {عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] وفي قوله سبحانه: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ) ما يدل على ما سلف التأكيد عليه مراراً أن النار مخلوقة, فأعتدنا معناها: أعددنا, وأعددنا فعل ماضٍ, وقد جاء في السنة ما يؤكد هذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف, فأشد ما تجدون في الشتاء من من زمهريرها, وأشد ما تجدون في الصيف من حرها) فدل ذلك على أنها مخلوقة, وفي هذا الباب ما يقارب عشرين دليلاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) من أهل العلم من قال: إن السعير إحدى دركات النار, وقد سلف أن منهم من قال: هناك الحطمة, وجهنم, والسعير, ولظى, إلى غير ذلك. {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [الملك:5-6] للشياطين عذاب السعير, وللذين كفروا من الآدميين {عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك:6] , ولا يمنع أن يدخل الجن جهنم أيضاً، ويدخل الإنس السعير أيضاً بدليل قوله تعالى مخبراً عن قول الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14-15] فمن الجن من يدخل جهنم, وهذا على القول بأن جهنم دركة، والسعير دركة أخرى، أما إذا قيل: إن جهنم والسعير ولظى والحطمة كلها مسمى لشيء واحد وهو النار على اختلاف دركاتها؛ فلا إشكال، وهو قول تبناه عدد من أهل العلم. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي يصيرون إليه. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} [الملك:7] فيه دليل على أن النار لها شهيق, ولها أيضاً زفير كما قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12] فإن قال قائل: لماذا عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ: الشهيق، وفي الآية الأخرى بلفظ الزفير؟ الشهيق -كما هو معلوم لديكم- إدخال الهواء بشدة إلى الجوف, فكأن جهنم عندما يلقى فيها الكفار تشهق شهقة تأخذهم وتسحبهم إلى جوفها من الداخل، أما (إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) فكأنها كانت تكتم شيئاً في صدرها، فأخرجت النفس ارتياحاً لأنها رأت بغيتها! فلما رأتهم من مكان بعيد أخرجت الهواء الذي بداخلها ثم لما ألقوا فيها سحبتهم بشهيق زائد حتى أدخلتهم في جوفها حتى يتمكنوا فيها من الداخل, والله أعلم. قال تعالى: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) تفور: تغلي, فالنار لها شهيق، ولها زفير، وهي تتكلم, وهي أيضاً تتغيظ كما قال تعالى: (إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) وكل هذه صفات للنار على وجه الإجمال، وهي تتكلم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يخرج عنق من النار فيقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد, وبمن جعل مع الله إلهاً آخر, وبالمصورين) . {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:8] يعني: تكاد أن تتقطع قطعاً من شدة تغيظها على الكفار, وذكر بعض علماء الحيوان أن من الحيات حيات شديدة التغيظ على بني آدم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الحيات على وجه الإجمال: (والله ما سالمناهن منذ حاربناهن) فبين الحيات وبين بني آدم عداوات منذ أن بدأت بينهما الحرب, ومتى بدأت هذه الحرب بينهما؟ الله أعلم بالتحديد, لكن في بعض الروايات الإسرائيلية وبعض آثار السلف أن هذا بدأ منذ إخراج آدم من الجنة عليه السلام، الشاهد: أنهم يذكرون أن من أنواع الحيات حيات شديدة التغيظ جداً على بني آدم, كلها غيظ عليك, إذا رأتك من مكان بعيد دفعت برأسها وطارت إليك! ويسمع لها دوي هائل وهي في الطريق إليك, فإذا صادفتك خرقت جسمك ودخلت من ناحية وخرجت من ناحية أخرى!! وذكروا مخرجاً من هذه الحيات فقالوا: إذا سمعت صوتها في الهواء، وهي متجهة إليك، فانبطح على الأرض على بطنك, فإذا نزلت بجوارك ولم تصب مرادها منك، تقطعت قطعاً من شدة غيظها، وتتفتت أمامك!! فالغيظ يفتتها قطعاً! فجهنم يقول الله عنها: (تَكَادُ تَمَيَّزُ) والتميز: التقطع والانفصال, ومنه قوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] أي: انفصلوا اليوم أيها المجرمون، فـ (تكاد تميز من الغيظ) أي: تكاد تتقطع النار من شدة غيظها على الكفار, انظر إذا كنت متغيظاً على شخص ثم تمكنت منه كيف تكاد تتقطع منه؟!

تفسير قوله تعالى: (كلما ألقي فيها فوج)

تفسير قوله تعالى: (كلما ألقي فيها فوج) {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} [الملك:8] فيه دليل على أن دخول الكفار النار يكون على مراحل, فئة تدخل، ثم تدخل فئة، ثم تدخل فئة, وكذلك دخول المؤمنين الجنة يكون على مراحل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] أي: جماعات جماعات، (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ) أي: جماعة {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8] والخزنة -على الإجمال- تسعة عشر ملكاً, كما قال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] وكبيرهم هو: مالك عليه السلام, قال النبي: (هذا مالك) ، وقال الرجلان كما في قصة رؤيا النبي التي رواها سمرة بن جندب وأخرجها البخاري ومسلم، وفيها أنه (رأى رجلاً لا يضحك فسأل من هذا؟! فقال الملكان-: هذا مالك خازن النار لم يضحك منذ خلقه الله) ، فكبيرهم مالك بنص الكتاب: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، ونص السنة: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هذا مالك خازن النار) . أما ما جاء أن رضوان خازن الجنة فلا أعلم فيه خبراً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الزمر:71] فالخزنة تسعة عشر لقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] ولماذا تسعة عشر؟ لماذا هذا العدد بالذات؟ جعل الله هذا العدد فتنة: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر:31] أي: عددهم {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31] ، لكن هل الخزنة هؤلاء لهم أتباع أو ليس لهم أتباع؟ وكذلك ملك الموت هل هو ملك واحد أم هم عدة ملائكة كبيرهم واحد وهو يأمرهم بالأمر وهم ينفذونه؟ من العلماء من قال: إن ملك الموت الكبير واحد, وله أتباع لقوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ومن العلماء من قال: هو واحد بلا أتباع لقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] ، فهل يقال أيضاً في خزنة النار: إن الكبار هم التسعة عشر، ولهم أتباع أو نمسك عن ذلك إلى أن تأتينا نصوص أخر؟ هناك دليل قد يشهد للقول بأن لهم أتباعاً، وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه -وإن كان فيه نوع انتقاد- قال: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) في تفسير قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23] . قال سبحانه: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا) الخزنة أي: القائمين عليها, ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين إذا أعطى ما أمره به سيده فهو أحد المتصدقين) الخازن الأمين يكون -مثلاً- خازناً لرجل ثري, أو لرجل له تجارات, فيكون قائماً على المخزن فيقول له: اعط فلاناً كذا, فقد يكون الخازن بخيلاً لا يريد أن يعطيه أصلاً، ومنهم من يكون سهلاً يقول له: خذ تفضل، فهذا أحد المتصدقين. يقول الله سبحانه: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8-9] صار الكلام الآن على لسان الملائكة, فالملائكة ترد عليهم وتقول: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9] , وهذا واضح، فقد يكون الخطاب على وتيرة واحدة ثم يتحول من شخص إلى شخص آخر, كما في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:51-52] القائل: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) هم الكفار, {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] كثير من المفسرين يقولون: إن القائلين: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) هم الملائكة، فالكفار يقولون: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) فتقول الملائكة: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) , ومنهم من يقول: هي أيضاً من قول الكفار، فهنا قوله تعالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) فترد الملائكة عليهم: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) . {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] نادوا على أنفسهم بالغباء وبالجهل, نادوا على أنفسهم على رءوس الأشهاد بأنهم كانوا في الدنيا أغبياء جهلة. {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا} [الملك:11] أي: بعداً وهلاكاً {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11] . استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] على مسألة العذر بالجهل, وأورد الشنقيطي في أضواء البيان هذه الآية في جملة الآيات التي يستدل بها على مسألة العذر بالجهل, والآيات الأخرى التي على شاكلتها هي قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] , وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] , وقول الحواريين لعيسى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:112] فالشك في قدرة الله كفر, لكنهم ما كفروا بسبب جهلهم، وقول بني إسرائيل لموسى: {يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] , وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) , وقول ذلك الرجل كما في الحديث: (لئن قدر عليّ ربي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين) وسجود بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرد النهي، في جملة استدلالات استدلوا بها على مسألة العذر بالجهل, والحاصل: أن من فعل شركاً وهو جاهل لا يؤاخذ بهذا الشرك مادام يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمداً رسول الله, والله سبحانه وتعالى أعلم. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التورك في الصلاة إذا كان المسجد مزدحما

حكم التورك في الصلاة إذا كان المسجد مزدحماً Q كنت في الصلاة وبجواري طالب علم، وكان الزحام شديداً جداً، وتورك في تشهد الصلاة مما أدى إلى إيذائي جداً, وتحامل على ساقي جداً, وبعد الصلاة قلت له: إذا كان الزحام شديداً بالمسجد فلا تتورك حتى لا تؤذي غيرك، ولك الأجر بالنية، وأنا رجلي توجعني, فقال: أعطل سنة من أجل رجلك التعبانة!! فما رأيكم في هذا؟ A مع احترامنا له هو جاهل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا تدافعت الأمور اختار الأيسر منها, مثلاً: خطأان لازم أن تقع في واحد منهما فاختر الخطأ الأقل, والحاصل هنا أن أحد الخطأين هو أن أؤذي جاري وأضر بالمسلم الذي بجواري وأؤلمه طول الصلاة والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن إيذاء الجار، والخطأ الثاني أن أترك سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وهي لا تخل بصحة الصلاة ولا تؤثر على سلامتها, الصواب أن أختار أخف الضررين فإن الرسول (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) ، والنبي يقول: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) يعني: صل على الحال التي تستطيع, إذا ما استطعت أن تصلي قائماً صل جالساً, وإذا ما استطعت أن تصلي جالساً صل مضطجعاً, وإذا ما استطعت أن تصلي مضطجعاً أومئ إيماءً بعينك, وإذا ما استطعت أن تومئ بعينك مرر أركان الصلاة على قلبك، لكن أن تؤذي عبداً من عباد الله بجوارك وتزعم أنك مطبق للسنة!! هذا ضرب من ضروب الجهل يا إخوة! لأنه حصر السنة في التورك فقط, وغفل أن من سنة الرسول أنه بالمؤمنين رءوف رحيم صلى الله عليه وسلم. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى, والسلام عليكم ورحمة الله.

من أحدث حدثا أصغر أثناء غسله من الجنابة

من أحدث حدثاً أصغر أثناء غسله من الجنابة Q إذا أحدث المرء حدثاً أصغر قبل تمام غسله من الحدث الأكبر, هل يجب عليه إعادة الغسل أم لا؟ A الوضوء قبل الحدث الأكبر لا يجب, ويجزئ أن تغسل كل جسمك مرة واحدة ولو بالدش مرة واحدة, لكن إذا أحدثت حدثاً أصغر في نصف الاغتسال فأقول لك من باب الاحتياط: ابدأ غسلك من جديد, والله أعلم.

دراسة البنت خارج محافظتها لمدة عام

دراسة البنت خارج محافظتها لمدة عام Q هل يجوز أن تلتحق ابنتي بكلية خارج المحافظة لمدة عام ثم تعود؟ A يجوز إذا لم تكن ستسافر بلا محرم، وكان لها مكان آمن تستقر فيه هنالك, إذا وصلتها أنت إلى مكان آمن، مثلاً: كلية داخلها جمعية للبنات, وأنت توصلها إلى هناك، وإذا أرادت أن ترجع أرجعتها بنفسك, والمكان آمن، كله بنات مع بعضهن البعض، فهذا يجوز مع أن الأولى ترك ذلك, والله أعلم.

من اغتسل من الجنابة ثم خرج من فرجه شيء كالمني

من اغتسل من الجنابة ثم خرج من فرجه شيء كالمني Q اغتسلت من الجنابة، وبعد لبس الملابس خرج من الفرج شيء يشبه المني, ولا أعلم هل هو مني أم لا؟ وهو سائل شفاف أبيض، فقمت بالاغتسال مرة أخرى! وعند لبس الملابس حدث أن خرج نفس الشيء مرة ثانية!! فقمت في هذه المرة بغسل الفرج فقط وتوضأت، فهل هذا صحيح؟ A نعم هذا صحيح, والعلماء يذكرون هذا خاصة في النساء إذا جامع الرجل زوجته وبعد أن جامعها قامت سريعاً فاغتسلت, وبعد أن اغتسلت خرج منها مني الرجل, فيقولون: يلزمها الوضوء فقط. وكذلك الرجل إذا قضى حاجته وبعدما استنجى خرج منه السائل الأبيض, فيتوضأ ويغسل ذكره, وهذا ودي لأن من صفات المني الذي يوجب الاغتسال: أن يخرج بشهوة وبدفق ويتبعه فتور, كما قال العلماء في وصفه: يخرج بشهوة وبدفق ويتبعه فتور, والذي حدث عند السائل -أظنه والله أعلم- من باب الودي، وليس منياً، والله أعلم.

حكم عزم الرجل على الطلاق وعدم تنفيذه

حكم عزم الرجل على الطلاق وعدم تنفيذه Q أخ ملتزم حلف على زوجته الملتزمة ألا تذهب إلى عرس أختها، والذي سترتكب فيه محرمات، وإلا سيكون ذلك طلاقاً لها، وهو يصر على هذا، فهل عليه إثم؛ لأنه عقد العزم على طلاقها؟ A يا إخوان! الأخ الملتزم والأخت الملتزمة اصطلاحات جديدة لم تكن دارجة بين أصحاب الرسول, الملتزم والملتزمة هذه الألفاظ ابتعدوا عنها، قولوا كما قال الله: {إنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] تلك اصطلاحات دخلت في أوساطنا، واستعلمها حتى بعض المشايخ!! هذا كتاب الله ليس فيه كلمة ملتزم, وكذلك سنة الرسول، قولوا: الصالحات والطيبات بالاصطلاحات التي في كتاب ربنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] , قولوا: عبد الله، رجل صالح, هذه الألفاظ نريد أن نعيدها بدل الأخ الملتزم والأخت الملتزمة, حتى في اصطلاحات البيوت يأتيك فيها جديد، يقول لك: عم فلان! والصواب عمك فلان، الآن يقول الأب لابنه إذا جاءهم شخص غريب: هذا عم فلان!! لم لا يقول: هذا عمك فلان، ويقول: خالة فلانة! لم لا يقول: خالتك فلانة؟ هذه تعديلات حصلت على الاصطلاحات التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والناس ينساقون وراءها ولا يفكرون, كلٌ يأخذ من فم الآخر ويطبق, فيجب أن تأخذ الذي صدر من في الرسول عليه الصلاة والسلام وتطبقه. أما فيما يتعلق بالإجابة على السؤال فلأقول: ليس عليه إثم, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل) .

نصيحة للعمال بشأن الصلاة

نصيحة للعمال بشأن الصلاة Q يقول الأخ: نرجو أن تذكروا إدارة المسجد بشأن العمال القائمين على أعمال الخرسانة الذين يعملون وقت الصلاة دون أن يحثهم أحد على ترك أعمالهم لأداء الصلاة, وإن قيل: إن عملهم سيفسد بتركه للصلاة فهل هم لا يتناولون الطعام؟! A صحيح هذا باب يجب أن ينبه عليه, حتى لا يكون هؤلاء أشقياء في الدنيا وأشقياء في الآخرة, فجدير بنا أن نذكرهم ونعينهم على أنفسهم, وقت الصلاة لابد من إيقافهم وإدخالهم المسجد، وينبغي للعمال أن يرتبوا أنفسهم من بداية الخلطة على أن الخلطة تنتهي عند وقت الصلاة.

الصدق في الدعوى

الصدق في الدعوى Q يقول الأخ: فقدت دراجتي منذ أسبوعين وعملت محضراً وقلت فيه: أنا لا أتهم أحداً بالسرقة, ثم بعثوا إليّ بأنهم وجدوا الدراجة, ولما ذهبت وجدت اسمي على دراجة أخرى أفضل من دراجتي, ولما جادلت أمين الشرطة قال لي زميل له: لو لم تأخذها غيرك سيأخذها, ثم عمل محضراً بعدما أبديت الموافقة وجاء فيه: هل تتهم فلاناً وفلاناً بسرقة الدراجة؟ فأجاب الأمين على نفسه: نعم أتهم, والأمين هو الذي أجاب بلسان صاحب الدراجة، ثم وقعت على ذلك! فما الحكم؟ A أنت الآن آثم وظالم, أولاً: أخذت غير دراجتك. ثانياً: اتهمت أناساً بناء على اتهام أمين الشرطة, ووقعت على ذلك, فإذا أخذت شيئاً ليس لك فأنت كالسارق، وقد ظلمت عباداً لله سبحانه وتعالى. السائل: ثم قال لي: بعد يومين ستستلم الدراجة, ثم بعثت إلي النيابة لأحضر للتحقيق أمامها, فذهبت وأنكرت اتهامي للمتهمين! الشيخ: أحسنت. السائل: ثم أبديت موافقة على أن هذه الدراجة التي رأيتها في المحضر ملكي, ثم وقعت على ذلك؟ الشيخ: ماذا تريد؟ أنت -أولاً وأخيراً- مسرف على نفسك، كان الواجب عليك إذا سُئلت: الدراجة لك؟ تقول: لا، ليست لي، ليست حقي. وإن سئلت: هل تتهم فلاناً؟ تقول: لا أتهم فلاناً, وانتهى الأمر. أما كونك ترتكب جرائم في حق الناس وتريد أن نحلها لك!! عليك الآن أن تستغفر الله, وإن استطعت أن تبرئ من اتهمتهم أبرأته، وعليك أن ترد ما ليس لك باختصار, لا تأخذ شيئاً ليس لك, ولا تتهم إنساناً بريئاً. فإن صدر منك شيء، فاجتهد أن تتحلل من كل شيء ارتكبته في حق الناس.

تفسير سورة الملك [2]

تفسير سورة الملك [2] اشتملت سورة الملك على معان عظيمة، ومما اشتملت عليه: فضل الذين يخشون ربهم بالغيب، وفيها ذكر نعم الله على عباده، وحثهم على طلب الرزق، وألا ينشغلوا به عن تذكر الآخرة، وفيها ذكر بطش الله بمن عصاه، وفيها ذكر حال الكافرين الذين ضلوا عن سواء السبيل في الدنيا، ثم ذكر حالهم في الآخرة، وغير ذلك من المعاني التي تزيد الإيمان، وتزكي النفوس، وتطهر القلوب.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] الخشية هي: أشد الخوف، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أي: إن العلماء يخافون ربهم خوفاً شديداً، فالخشية هي: شدة الخوف. وفي قوله تعالى: (بِالْغَيْبِ) قولان للعلماء: القول الأول: أي: يخشون ربهم وهم لا يرونه، ويشهد لهذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في القوم الذين يجلسون مجلساً فتحفهم الملائكة حتى يسدوا ما بينهم وبين سماء الدنيا: (فيسأل الله ملائكته: ماذا يقول هؤلاء؟ فيقولون: يعظمونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: هل رأوني؟ قالوا: لا ما رأوك يا رب! قال: كيف لو رأوني؟) . فمن العلماء من قال: إن معنى: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي: يخشون ربهم وهم لا يرونه سبحانه وتعالى. والقول الثاني: أي: يخشون ربهم وهم غيب عن أعين الناس، وهم في الخلوات والفلوات منفردون بعيدون عن الناس، فيراقبون الله في السر ويراقبون الله في العلن، فلا يراءون الناس ويظهرون أمامهم الأعمال الصالحة، إنما سرهم وعلانيتهم سواء. وعلى هذا فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} فيه قولان: القول الأول: أي: يخشون ربهم وهم لا يرونه. القول الثاني: أي: في حالة غيابهم وبعدهم عن الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) . {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أفادت هذه الآية أن الإيمان والخشية سبب في مغفرة الذنوب، وسبب أيضاً في إثبات الأجور. هناك أعمال يكفر الله بها الذنوب؛ فالصلوات الخمس مكفرات، والعمرة مكفرة، والجمع مكفرات، والحج مكفر للذنوب، كذلك حسن الخلق يكفر الذنوب، ومن المكفرات أيضاً الإيمان والخشية، فالإيمان بالله والخوف الشديد من الله سبحانه وتعالى سبب في تكفير الذنب، وسبب في تفريج الكرب، ألا ترى إلى أحد الثلاثة الذين آواهم المطر إلى كهف وسدت عليهم فتحته بصخرة، فتوسل أحدهم إلى الله بخشيته لله لما قعد بين رجلي ابنة عمه، فقالت له: اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها، وفرج الله عنهم بذلك، فالخشية سبب في مغفرة الذنوب، وسبب في إثبات الأجر الكبير: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .

تفسير قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به)

تفسير قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به) {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك:13] فالسر والعلن عند الله سواء، أي: سواء أسررتم القول أو جهرتم به فالسر والعلن عند الله سواء، كما قال تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] ، وقال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] ، {يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69] ، فالسر والعلن عند الله سواء، لكن ما يظنه بعض أهل النفاق أن الله يعلم الجهر ولا يعلم السر، فهذا ضرب من ضروب الجهل، وهذا من الظن السيئ بالله سبحانه، في صحيح مسلم أن ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، جلسوا فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أسررنا، فقال الثالث: إن كان يسمع إن جهرنا فهو يسمع إن أسررنا، أو إن كان يسمع إن أسررنا فهو يسمع إن جهرنا، فنزل فيهم قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22-23] . {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} فهذا وذاك يستويان عند الله، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] ذات الصدور: هي: الأسرار التي يكنها الشخص في صدره، ولا يحدث بها أحداً أبداً حتى إنه لا يكاد يحدث بها نفسه، مثل ذنب أذنبه الشخص ولا يريد أن يتذكره، ولا يحدث به أحداً على الإطلاق، فهذا الذنب يقال له ولأمثاله: ذوات الصدور، يعني من الأسرار الشديدة التي التصقت بالصدور، فأصبحت كامنة في الصدور لا تفارقها أبداً بحال من الأحوال. {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] هو الذي خلقك، فهو يعلم سرك وعلانيتك، فأنت إذا صنعت شيئاً تعرف كيف تم الشيء، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] لطيف: يعلم دقائق الأمور وما لطف منها، وفي الأصل الشيء اللطيف: هو الدقيق الخفيف، فمعنى اللطيف: الذي يعلم الأشياء الدقيقة اللطيفة، ويصلح برفق وبتلطف.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً) {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك:15] أي: مذللة مسخرة كما قال عن الأنعام: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] . {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] من العلماء من قال: المناكب: الأرجاء، أي: النواحي، ومنهم من قال: المناكب هي: الجبال، أي: الأماكن المرتفعة، كما أن منكبك هو الكتف، وقد ورد أن بعض السلف الصالح -أظنه بشير بن كعب - قال لجارية له: إن أخبرتِني ما مناكبها؟ فأنت حرة لوجه الله! بمعنى: إن أخبرتني عن تفسير: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} فأنت حرة لوجه الله! فقالت له: مناكبها: جبالها، فقال: أنتِ حرة لوجه الله، ثم أراد أن يتزوجها، فسأل أبا الدرداء، فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وما معنى هذا القول في هذا الموطن؟ معناه -والعلم عند الله- أنها قد تكون فسرت الآية تفسيراً فيه خطأ، فيكون عتقها لم يقع لأن تفسيرها خطأ، فإذا جئت تتزوجها فالمسألة مشكوك فيها؛ لأن عتقها فيه شك أصلاً، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. فمن أهل العلم من قال: المناكب: الجبال، ومنهم من قال: المناكب: الأرجاء والنواحي. {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي: إليه نشوركم أي: خروجكم من قبوركم يوم القيامة.

طلب الآخرة مع طلب الرزق

طلب الآخرة مع طلب الرزق {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} امشوا وكلوا، ثم تذكر -يا عبد الله- الآخرة، يعني: امش في مناكبها، وكل من رزقه، ولا تنس أن هناك نشوراً، وهذا كالآية الأخرى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11]-يا داود! - {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] أي: اجعل المسمار على قدر الثقب، لا توسع المسمار فيكون غليظاً، ولا توسع الثقب فيحصل خلخلة، وبعد أن قال: (أن اعمل سابغات وقدر في السرد) قال: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ:11] فذكر بالعمل الصالح، وكما في قوله تعالى أيضاً: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197] أي: أيها المسافرون! تزودوا في أسفاركم، واحملوا معكم الزاد والطعام، وهذه الآية نزلت في أهل اليمن: كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا أتوا إلى مكة مدوا أيديهم للناس! فقال الله في شأنهم: {وَتَزَوَّدُوا} ثم أشار إلى الزاد الأهم فقال: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] أي: تزودوا للدنيا ولا تتركوا التزود للآخرة، وكما في الآية الأخرى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف:26] وهو اللباس الذي عليكم، {وَرِيشًا} [الأعراف:26] تتجملون به، ثم أشار إلى اللباس الأفضل حتى لا ينسى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26] ، وكما في الآية الأخرى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] أي: إذا فرغت من أعمال الدنيا فاجتهد في عبادة الله، فكل هذه أدلة تحثك على العمل للدنيا، والتزود أيضاً للآخرة، فهنا قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} ثم أشار إلى الآخرة وإلى العمل لها وإلى التذكير بها في قوله تعالى: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) .

الحث على كسب الرزق

الحث على كسب الرزق وفي الآية حث على العمل والاكتساب لقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَاوَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وهذا أمر، لكن هل يقتضي الوجوب؟ في الحقيقة إن الأمر في هذا الموطن يقتضي الإباحة، فلا يجب عليك أن تمشي في المناكب -إن كان عندك سعة- فالأمر أمر إباحة، كما قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:10] هل يجب عليك أن تنتشر في الأرض إذا قضيت الصلاة، أو يجوز لك أن تمكث في المسجد لحديث: (الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه الذي صلى فيه تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث) ؟ فقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} فيه إباحة الانتشار، وليس وجوب الانتشار، كذلك قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] هل يجب أن يأتي الرجل امرأته إذا تطهرت أو هو أمر إباحة؟ هو أمر إباحة كما كان الأمر من قبل أن تحيض، والله سبحانه أعلم. لكن على كلٍ فقوله سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} حث على البحث عن الأرزاق في الأرض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على نبي الله داود عليه الصلاة والسلام؛ لكونه كان يأكل من عمل يده، والعمل الذي كان يعمله داود عليه الصلاة والسلام هو كما قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] يعني: اعمل الدروع، وهي: صنعة الحدادين، هي تقي من سهام العدو، وتقي من السيوف والضربات، {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي: دروعاً سابغات، تسبغ أي: تغطي، ومنه قولهم: هذا الثوب سابغ، يعني: يغطي ما تحته، ومنه قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] أي: غطاكم بنعمه الظاهرة والباطنة. فنبي الله داود كان يأكل من عمل يده، وكان يعمل سابغات، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم (أن زكريا كان نجاراً) ونوح عليه الصلاة والسلام امتهن نفس المهنة فصنع الفلك كما قال الله له: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] وهذا يقتضي أن يكون ملماً بأعمال النجارة، وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام: (ما بعث الله نبياً إلا وقد رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟! قال: نعم قد رعيتها على قراريط لأهل مكة) أي: مقابل قراريط -أي: دراهم- آخذها من أهل مكة، ونبي الله موسى صلى الله عليه وسلم جعل من نفسه أجيراً لعفة فرجه ثماني سنوات: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، وقد أسلفنا القول بأن سليمان كان يقف يراقب الجن وهي تحفر وتصنع التماثيل، والجفان، والقدور الراسيات: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ:14] . فهذا سلوك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأكلون من عمل أيديهم، وقد قال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الكسب: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره يرعى الغنم، ثم عمل تاجراً، ثم جعل رزقه تحت ظل رمحه، فكل الأنبياء كانوا يعملون ويجتهدون عليهم الصلاة والسلام، وكذلك السلف الصالح، فأمير المؤمنين عمر يقول: (ألهاني الصفق بالأسواق) يعني بالتجارة، والله يقول أيضاً: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] فكانوا متعففين لا يمدون أيديهم للناس، بل يذهبون إلى العمل، وهكذا كان الصحابة، فهذا عبد الرحمن بن عوف قدم إلى المدينة، وجاء سعد بن الربيع يعرض عليه أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه، وأن يشاطره ماله، قال: مالي أقسمه بيني وبينك نصفين، وانظر أي زوجتي شئت أطلقها فتزوجها!! قال: بارك الله لك في أهلك وفي مالك، ولكن دلوني على السوق؛ وهذا ينبغي أن يكون شعاراً محفوظاً: (دلوني على السوق) فدلوه على السوق، فما هي إلا أيام معدودة حتى أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، فقال: (ميهم يا عبد الرحمن؟! قال: تزوجت يا رسول الله! قال: كم سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب) ، وكان هذا مهراً كبيراً، حتى إنه جاء في بعض الروايات أن الرسول قال: (كأنما تغرفون من بطحان) أي: لكثرة المهور التي تعطونها للنساء، الشاهد: أنه تعفف عما في يد أخيه -مع أن أخاه عرض عليه المال- وأقبل على العمل. وهذا أبو مسعود البدري يقول: لما نزلت آية الصدقة كنا نذهب إلى الأسواق فنحامل على ظهورنا، ونأتي بأموال كي نتصدق بها، وفي آخر حياته رضي الله عنه أصبح من كبار الأثرياء، حتى إن عماراً وأبا موسى ذهبا إليه يوماً، ودارت مناقشة بين الجميع فقال أبو موسى لـ عمار: يا عمار! والله ما نقمت عليك شيئاً منذ أسلمت إلا تسرعك في هذا الأمر، أي: في الاشتراك في القتال مع علي، والاشتراك في القتال بصفة عامة، فقال عمار لهما: والله يا أبا موسى ويا أبا مسعود! ما أنقم عليكما شيئاً منذ أسلمتما إلا تخلفكما عن قتال الفئة الباغية، ثم إن أبا مسعود أمر لكل منهما بحلة، والحلة كانت باهضة غالية الثمن في ذلك الزمن، وقال: انطلقا بها إلى الجمعة. وأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها لم تكن في حاجة إلى المال، فرسول الله يكفيها بإذن الله، ولكنها كانت تعمل فتأتي بجلد وتدبغه في بيتها، ثم تبيعه وتأخذ ثمن الجلود تتصدق بها، ولذلك قال الرسول في شأنها: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً) أي: بالصدقة. الشاهد: أن إخواننا الذين يظنون أن ديننا مبني على مد اليد وعلى التكاسل وعلى البلادة ظنهم خاطئ، فاليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا يد المعطي واليد السفلى يد الآخذ، فالعمل ليس بعيب أبداً، امتهن أي مهنة، حتى لو يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب، خير له من أن يأتي هذا فيسأله، ويأتي هذا فيسأله، فكن عفيفاً يا عبد الله! فهذا كلام الله وسنة رسول الله فيهما الحث على طلب الرزق، وقد سمعت بعض سير أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد استدل بعض العلماء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فقال هذا المستدل: إن النبي قال: (لرزقكم كما يرزق الطير) نعم، الطير يرزقها الله، لكن ليس وهي في أوكارها، والله قادر أن يرزقها إذا شاء على أي وضع، لكن الطير لا تجلس بليدة كسولة وتقول: إن رزقي يأتيني في وكري، إنما تغدو أي: تخرج تبحث عن الرزق، وترجع أي: تروح، فاستدل به على أن الأخذ بالأسباب مشروع مع التوكل. أما الحكايات والقصص والخرافات التي تحكيها بعض الجماعات وتتبناها، فلا أصل لها. فاعملوا بالأدلة التي سمعتموها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعال سلف الأمة رحمهم الله.

تفسير قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء.

تفسير قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء.) ثم قال سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] استدل بها على أن الله في السماء، والأدلة على هذا لا حصر لها، منها: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ، عرج برسول الله إلى بعد السماء السابعة {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:14-15] وفرضت عليه هنالك الصلوات، (يتنزل ربنا إلى سماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل) ، (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) ، {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59] ، إلى غير ذلك من الأدلة قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (فتمور) أي: تتحرك وتضطرب اضطراباً شديداً. {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17] أي: حصى وتراباً كثيراً، {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي: كيف إنذاري لكم. {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك:18] أي: كيف أنكرت عليهم أفعالهم، وأحللت بهم العذاب، وأنزلت بهم البلاء؟!

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات.

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات.) {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك:19] أي: صافات الأجنحة، فهي أيضاً تسعى للأرزاق كما أنكم تسعون وتنتشرون في الأرض للأرزاق، وهناك دواب وأمم غيركم، أشير إلى بعضها في هذه الآيات، وذكر الآخر منها في آيات أخرى، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] وهذا في شأن الدواب، وفي شأن الأشجار والثمار قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49] ، وقال سبحانه في الآية الأخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] الآيات. {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} أي: صافات الأجنحة، {وَيَقْبِضْنَ} [الملك:19] أي: يقبضن الأجنحة، يعني: الطير تطير في السماء صافة الأجنحة وقابضتها {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:19] أي: بكم وبأعمالكم وبالطيور وبأعمالها بكل شيء بصير، وعلى كل شيء مطلع، وراء لكل شيء ومبصر له سبحانه وتعالى، فالله مطلع على أعمالكم وأنتم تسيرون وتعملون الأعمال، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} والله مطلع عليكم وعلى أعمالكم، فأعمالكم تعرض على الله كما في الآية الأخرى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] يعني: أعمالك التي تعملها سيراها الله بنص الآية الكريمة: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) ، ورسوله أيضاً سيراها صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون أيضاً سيرونها، وأيضاً سيراها الملائكة كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19-21] فالمقربون يشهدون أعمالك، فإذا كان ذلك الأمر كذلك، فأعمالك التي تعمل من سيراها؟ يراها ربك، ثم يراها نبيك صلى الله عليه وسلم، ويراها أهل الإيمان، ويراها الملائكة المقربون، فإذا علمت ذلك واشتد يقينك به أحسنت العمل، وأتقنت العمل؛ لأن الذي سيراه هو الله، والذي سيطلع عليه هو الله، وأيضاً غيره ممن ذكرنا.

تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي هو جند لكم.

تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي هو جند لكم.) {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك:20] (أمن هذا) : على سبيل التحدي، من هو الشخص الذي يستطيع أن ينصركم من دون الرحمن؟ ويحمل معنى التهكم والسخرية والازدراء وبيان ضعف المخاطب، من هو هذا الذي ينصرك؟ {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20] غرهم الشيطان. {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا} [الملك:21] أي: تمادوا واستمروا، {فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك:21] أي: في استكبار وعناد، والنفور: هو الابتعاد عن الحق.

تفسير قوله تعالى: (أفمن يمشي مكبا على وجهه.

تفسير قوله تعالى: (أفمن يمشي مكباً على وجهه.) {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] شبه الكافر في مشيه ومسيره في الحياة الدنيا بأنه يمشي مكباً على وجهه، وهو أيضاً سيمشي مكباً على وجهه في الآخرة كذلك، كما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: (كيف يمشي الكافر على وجهه يوم القيامة يا رسول الله؟! قال: إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه في الآخرة) ، فالآية فيها مقابلة بين المسلم والكافر: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، ومن الآيات التي على شاكلتها: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:19-21] ، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] .

تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي أنشأكم)

تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي أنشأكم) {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] من العلماء من يقول: إن السمع أفضل من البصر لتقديمه في هذه الآية، وإن قال قائل: لماذا أفرد السمع وجمع البصر في هذه الآية: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ) ؟ من العلماء من قال: لأن السمع أفضل من البصر، والأفضل يفرد والمفضول يجمع، كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} [الأحزاب:50] فأفرد العم وجمعت العمات: {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] فأفرد الخال وجمعت الخالات، وكما في قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] فأفرد النور وجمعت الظلمات، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل:48] أفرد اليمين وجمعت الشمائل، وهذا قول لبعض العلماء، ومن إخواننا الأطباء من يقول: يتصل بالأبصار وتران، بينما يتصل بالسمع وتر واحد، فإذا قطع الذي يصل إلى السمع صمت الأذنان معاً، أما إذا قطع الذي يصل إلى البصر فقد ترى بعين ولا ترى بالأخرى، والله أعلم. (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أي: شكركم قليل. {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك:24] .

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) {وَيَقُولُونَ} [الملك:25] أي: على سبيل التحدي والجدل {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الملك:25] أي: متى يوم القيامة؟ فهو استعجال منهم للبعث، وكما في قيلهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] {وَيَقُولُونَ A=6005265>مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: الوعد بالبعث والوعد بالقيامة والوعد بالجزاء والحساب. {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} فيها رد على من يحدد يوم القيامة بيوم محدد: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) وهذا من البدهيات والمسلمات، لم يقل: سنة ألفين، ولا سنة ألفين وأربعة، ولا بعد هرمجدون، ولا هذه التخاريف، كما قال الله سبحانه هنا: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) علمها عند ربي في كتاب لا يجليها لوقتها إلا هو، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} هذه مهمتي، وأنا أعرف قدري فلا أتجاوزه، وهذه الآية أصل في أن الشخص يعرف قدره، ويقف عند العلم الذي علمه الله إياه، ولا يتعالم ولا يدخل برأسه في كل شيء، فالرسول سئل عن مسائل لم يعلمه الله إياها فأمسك، فقد سئل عن الروح فقال الله له: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] . وسئل عن الساعة فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فكان صلى الله عليه وسلم يقف عند ما لا يعلمه. أما أن تدعي أنك تعرف في كل شيء، فهذا من الجهل والغباء، ولذلك قال عدد كثير من السلف وليس واحداً أو اثنين: ينبغي للعالم أن يعلم جلساءه شيئاً هاماً ألا وهو: (الله أعلم) ، يمسكهم بهذا الشعار، كلما سئلوا عن شيء لا يعرفونه فليصدروا الإجابة به: (الله أعلم) . وقد قيل للقاسم بن محمد أو لابنه: إنه يعد عيباً على من هو في مثلك من الفضل أن تسأل عن شيء ولا نجد عندك فيه علماً! فقال: وأشد منه عاراً أن يقول الشخص عن الله أو عن رسوله بغير علم. فينبغي أن يرفع الشخص شعار: (الله أعلم) ، فالرسول هنا سئل: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} فليس هذا من علمه، بل هو أمر خارج عن طاقته، وخارج عن حدود معرفته، {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: عملي الإنذار والتذكير. {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} [الملك:27] أي: قريباً، فالزلفى: القربة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، وقيل لمزدلفة: مزدلفة -كما قال بعض العلماء- لأنه ازدلف فيها آدم من حوى أي: تقاربا، والله أعلم بهذا، والظاهر أنه من الإسرائيليات، لكن الزلفى: القربة، ويتزلف فلان إلى فلان أي: يتقرب فلان إلى فلان. {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي: لما رأوا هذا اليوم والعذاب قريباً {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك:27] أي: جاءها ما يسوءها {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:27] بمعنى: تدعون وتسألون، فإنكم كنتم كما تقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] ، وكنتم تقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] ، فمن العلماء من قال: (تدّعون) بمعنى: تدعون، ومنهم من قال: (تدّعون) هنا بمعنى: تكذبون، {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي: تكذبون.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي.) {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك:28] إن أهلكني الله أو رحمني، وإن مت أو حييت، فهذا بيني وبين ربي، لكن أنتم من يجيركم -يا كافرون- من عذاب أليم، فالكل ميت ومغادر لهذه الحياة الدنيا كما قال الله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ، وهنا قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} إن رحمنا أو عذبنا، إن أحيانا أو أماتنا، سلوا أنتم عن أنفسكم ولا تشتغلوا بغيركم، فمن يجيركم أنتم من عذاب أليم؟ والآية فيها دلالة على أن الشخص عليه أن ينشغل كثيراً بنفسه لتهذيبها وإصلاحها، فأنا إن مت يا أيها الكافر! وأنا إن مت -يا مسلم- أو حييت أو عذبت أو رحمت، فهذا شأني مع ربي، وانشغل أنت بشأنك واسأل نفسك: بماذا ستقابل ربك سبحانه وتعالى؟ وكما قال القائل: يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه!! {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} [الملك:29] الشيوعي يفتخر بشيوعيته، النصراني يفتخر بنصرانيته، الفاجر يفتخر بعشيقته وصديقته، فأنت يا مسلم! افتخر بدينك وأعلنها صريحة فأنت أولى بذلك: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} ، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136] ، فعار على المسلم أن ينتكس ويبتعد عن سنة رسول الله، أو يستخفي عند التمسك بالسنة!! {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: خاب من أخفى نفسه عن الخير، عار عليك أن تخفي تمسكك بسنة الرسول، والنصراني أمامك يعلق الصليب في رقبته شاهراً نصرانيته وشاهراً باطله على صدره، وأنت -يا مسلم- تتخفى وتدس نفسك وتخفيها عن الخير، ولا تعلن أنك من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم!! {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} وإن كذبتم بالرحمن، وإن أشركتم مع الرحمن آلهة أخرى، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الملك:29] أي: بعدٌ بعيد عن سواء الصراط، والضلال: التيه والبعد والضياع. لو قيل: لماذا كرر اسم الرحمن كثيراً في كتاب الله؟ الظاهر -والله أعلم- لأن أهل الشرك كانوا ينكرون اسم الرحمن، في صلح الحديبية قال صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فقام سهيل بن عمرو واعترض وقال: لا تكتب الرحمن!! فإنا لا نعرف الرحمن، ولكن اكتب: باسمك اللهم، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] . {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك:30] أي: إن أصبح ماء الآبار عندكم غائراً في الأرض فلا تنالونه، ولا تدركه الدلاء، {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] أي: من يأتيكم بماء عذب؟ الله سبحانه وتعالى رفع عنكم العذاب، ورفع عنكم البلاء وأكرمكم بهذه الكرامات، فجدير بمن صنع بكم هذا أن تشكروه وأن توحدوه وأن تكثروا من حمده وشكره، والله أعلم. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

حديث: (إذا فتحت عليكم الشام فاتخذوا منها جندا)

حديث: (إذا فتحت عليكم الشام فاتخذوا منها جنداً) Q (إذا فتحت عليكم الشام فاتخذوا منها جنداً فإنهم خير أجناد الأرض) ؟ A الذي يحضرني أن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله.

القول في كتاب: عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم

القول في كتاب: عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم Q كتاب: عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ما رأيكم فيه؟ A الكتاب فيه بعض الملاحظات، وهو في أصله ومسماه خرافة، عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلمها إلا رب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت الدليل على ذلك، وفي ثناياه بعض الأحاديث الثابتة فهمها أخونا المؤلف على غير وجهها، ووجَّهها على غير توجيهها الصحيح. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله.

البدوي وأحمد الرفاعي

البدوي وأحمد الرفاعي Q هناك من يقول: إن السيد البدوي وأحمد الرفاعي من نسل الحسن بن علي، ويقولون: إنهما كانا متبعين للسنة، وأن المنسوب إليهما افتراء محض، وإنهما ليسا بأهل بدعة؟ A على كلٍ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] لكن الذي يحدث الآن عند قبريهما شرك، دعنا من صلاح السيد البدوي ومن صلاح أحمد الرفاعي أو من فسادهما فهم قد أفضوا إلى ما قدموا، لكن الذي يحدث الآن شرك بالله، وهذا الذي يعنينا، ليس لنا ولا لأي شخص ولا لأي عالم أن يقطع لشخص بجنة أو نار إلا الذي جاء ذكره في كتاب الله وسنة رسول الله، وهذا من أصول اعتقاد أهل السنة، حتى إذا مات كافر أمامك ليس لك أن تقطع بأنه دخل النار، فعلم ذلك عند الله سبحانه وتعالى، سواء دخل الجنة أو دخل النار، وسواء كان يتقلب في النعيم أو يتقلب في الجحيم، أمره بينه وبين الله، لكن الذي يحدث الآن في مولده شرك بالله، والله أعلم. ولازم أن تعتقد أنه ميت لا ينفع ولا يضر، شأنه شأن أي ميت، سواء أكان من نسل رسول الله أو من غير نسل رسول الله، (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لما قال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] أي: اجعل من ذريتي أئمة يا رب: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] يعني حتى إذا كان من ذريتك وهو ظالم ليس بإمام، وقال تعالى في شأن إبراهيم وإسحاق: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113] .

حكم سؤر الحمير والبغال والسباع

حكم سؤر الحمير والبغال والسباع Q ما حكم سؤر الحمير والبغال والسباع؟ A الأحاديث التي تفيد طهارتها ضعيفة، وهي ما زالت عندي محل بحث فنظرة إلى ميسرة حتى نبحث عن الدليل.

حكم التصوير بالفيديو

حكم التصوير بالفيديو Q ما حكم التصوير بالفيديو في الأفراح وفي خطب الجمع؟ A أما خطب الجمع فهي مشغلة وفتنة للخطيب وللمستمعين، لا يقال: هو عمل خفيف، لا، جو الخطبة سيخرج عن موضعه الذي وضع له، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فجدير بالمساجد أن تنقى من هذه المهرجانات، وعلى الناس أن يفهموا دينهم فهماً جيداً فالمساجد ليست مسارح وليست ملاهٍ إنما قال الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36-37] . أما الأفراح بعيداً عن المساجد فالمسألة محل اجتهاد بين العلماء، هل تستعمل الفيديوهات في الأفراح؟ إذا كانت ليست وراءها فتنة تتعلق بتصوير نساء، أما إذا كنت تصور العروسة والعريس، ثم يراها الرجال ويراها النساء فهذا فتنة ولا يجوز، فحينئذ هو حرام، فلينظر إلى ما سيصور، ومن ثم يأتي الحكم على فرض التسليم بأن الفيديو لا يدخل في باب التصوير، وهي مسألة نزاع بين العلماء.

هل النوم مبطل للوضوء

هل النوم مبطل للوضوء Q هل النوم مبطل للوضوء مطلقاً؟ A الجمهور يقولون: إن النوم لا يبطل الوضوء إلا نوم المستغرق على غير هيئة المتمكن، فإذا كنت غير متمكن ونمت واستغرقت في النوم نقض الوضوء، ومن العلماء من يقول: النوم ينقض الوضوء مطلقاً لحديث: (العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ) والحديث مفهوم معناه، لكن استدل على أن النوم على هيئة المتمكن لا ينقض الوضوء بانتظار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء وهم جلوس، وكانت رءوسهم تخفق حتى يسمع لبعضهم غطيط، ثم قاموا وصلوا ولم يتوضئوا.

حكم التسمية في الوضوء

حكم التسمية في الوضوء Q هل تصير التسمية واجبة إن صح الحديث؟ A من العلماء من قال -على فرض صحته-: هو نفي للكمال لا نفي للصحة، أي: لا وضوء كامل (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) فيه نفي الكمال لا نفي الصحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه توضأ وما ورد أنه سمى، فوصف عثمان وضوء الرسول وما ذكر التسمية، ووصف أسامة وعبد الله بن عباس وضوء النبي فما ذكرا التسمية، ووصف عبد الله بن زيد وضوء النبي فلم يذكر التسمية، ومما يعكر على الوجوب ما نقله الشافعي أن الإجماع انعقد على أن من نسي وصلى، وهو لم يسمِّ على الوضوء أن صلاته صحيحة.

حديث: (الأذنان من الرأس)

حديث: (الأذنان من الرأس) Q حديث: (الأذنان من الرأس) ما صحته؟ A الحديث ضعيف، وقد نص على ضعفه عدد من أهل العلم كـ ابن الصلاح رحمه الله تعالى.

حديث: (لا صلاة لمن لا وضوء له)

حديث: (لا صلاة لمن لا وضوء له) Q ما مدى صحة حديث: (لا صلاة لمن لا وضوء له) ؟ A هذا القدر صحيح.

حديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)

حديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) Q (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ما حاله؟ A محل نزاع بين أهل العلم؛ لأن له طرقاً كلها ضعيفة إلا أن بعض العلماء يجبر ضعفها بمجموعها، والبعض يبقي ولا يجبرها ببعض، وقد ألفت فيه رسالتان، رسالة في تصحيحه ورسالة في تضعيفه، وكل طرقه فيها مقال، من العلماء من يقول: تصلح للاستدلال بمجموعها، ومنهم من يقول: لا تصلح والله أعلم، فالأمر قريب وسهل.

حكم الأضحية

حكم الأضحية Q قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما ضحى: (هذا لي، وهذا لمن لم يضح من أمتي) فما حكم الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؟ A الأضحية سنة وليست بواجبة لهذا الحديث، ولم يثبت حديث صريح في الأمر بالأضحية أمر إيجاب، فالأضحية مستحبة وليست بواجبة.

هل يجوز للمرأة أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها؟

هل يجوز للمرأة أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها؟ Q تنازلت زوجتي عن مبلغ ثلاثين ألف جنيه من ميراثها من وليها لشقيقها الوحيد الذي لم يتزوج بحجة أنه لم يتزوج، ولكنه ثري وعنده ما يكفيه، وبعد ذلك تركت له أرضها التي تؤجر بمبلغ ستة آلاف جنيه سنوياً، ويستولي أخوها على المبلغ كله دون أن يعطيها منه شيئاً، وحينما حدثتها في ذلك ثارت وقالت لي: ليس من حقك التدخل في أموالي، وعندما حدثت شقيقها في عدم أحقيته في أخذ المبلغ قال لي: ليس هذا من شأنك، وقد قرأت في فتاوي الشيخ فلان أنه لا يحق للمرأة التصرف في مالها بدون إذن زوجها، فما المطلوب مني تجاه هذا الموضوع، خصوصاً أنني غير مستريح نفسياً من زوجتي؟ A في الحقيقة أن هذا الباب وردت فيه جملة أدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل بها بعض العلماء على منع المرأة من التصرف في مالها إلا إذا أذن لها زوجها، كحديث: (لا يحل للمرأة عطية من مالها إلا بإذن زوجها) هذا الدليل المانع، لكن -والله سبحانه أعلم- الجمهور على أن هذا الحديث على الاستحباب وليس على الإيجاب، حتى تدوم العشرة بين الزوجين على ما يرضي، والأصل أن المرأة أحق بالتصرف في مالها، إذ هو مالها، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم (لما انتهى من خطبة العيد ذهب إلى النساء يذكرهن ومعه بلال، وبلال باسط ثوبه، فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها -أي: العقد والحلق- في حجر بلال) ، ولم يرد أن النساء ذهبن واستأذن من الأزواج حينئذٍ، فلو كان استئذان المرأة لزوجها في إنفاق مالها واجباً لأمرهن النبي أن يستأذن أزواجهن، فلما لم يأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم باستئذان الأزواج دل ذلك على عدم الوجوب. بيد أن حديث (نهي المرأة عن التصدق بمالها إلا بإذن زوجها) فيه كلام من الناحية الحديثية ومن الناحية الفقهية أيضاً، فمن العلماء من حمل: (من مالها إلا بإذن زوجها) أي: من مالها الذي أعطاها إياه الزوج، وهذا وجه آخر للتوجيه، أما القطع بأن إنفاق المرأة مالها بغير إذن زوجها حرام فهو قول لا وجه له، إذ الأدلة تدفعه، والله أعلم. لكن فقط من باب تطييب الخواطر، ودوام المودة والمحبة بين الزوجين يستحب لها ذلك، حتى تدوم معيشتها مع الزوج، وتطيب خاطره ولو بالكلمة الطيبة، أما أنه يتسلط عليها ويفرض عليها أن تفعل أو لا تفعل فليس هذا من حقه إذ قد يطلقها من الغد، فإذا قلنا: له أن يمنعها أو يجب عليها أن تستأذن منه، سيتسلط ويقول لها: أنفقي في موطن كذا، ولي هذا، وكأنه من حقه!! فالصداق الذي هو لها من الزوج يقول الله فيه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] إن طابت نفسها لزوجها بجزء من المال، فليس لأخيها أن يأتي ويقول لها: لا تعطي الزوج، ليس لأخيها ذلك. ولكن نقول: ينبغي للمرأة أن تكون عاقلة ورشيدة في التصرف، فإذا نظرنا إلى قوله تعالى في شأن المهور: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ} [النساء:4] ولم يقل: طبن لكم عن كل الصداق، إنما قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ، فيستحب للمرأة أن تبقي في يديها بعض الأموال لتتصدق بها وتحسن بها إلى الفقراء، وخاصة إذا كان أخوها من الأثرياء، فالصدقة على الذي هو أشد احتياجاً تبلغ مبلغاً أعظم في الأجر، فالمرأة إذا أرادت الثواب العظيم والأجر الجزيل من الله سبحانه عليها أن تعمد إلى أهل الاستحقاق فتنفق عليهم، أما الزوج فما عليه إلا النصح، والله أعلم.

تفسير سورة القلم [1]

تفسير سورة القلم [1] سورة القلم من جملة السور والآيات التي دافع الله سبحانه وتعالى فيها عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وأوضح فيها عظيم جنابه عليه الصلاة والسلام، فأقسم سبحانه في صدر هذه السورة بالقلم على نفي دعوى المشركين بأن النبي مجنون، وفيها بيان أجره العظيم، وخلقه العظيم، وأن الأيام ستكشف له ولهم من هو المفتون المجنون، ثم حذر نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم من مداهنتهم أو مجاملتهم.

تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون)

تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] (ن) للعلماء في تفسيرها أقوال: أحد هذه الأقوال: أن (ن) حرف من الأحرف التي بُدئت بها السور كـ (ص) و (طه) و (ألم) و (ق) و (يس) إلى غير ذلك. القول الثاني: أن (ن) المراد به الحوت، وكما في السورة نفسها، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48] ، وصاحب الحوت ذكره الله في سورة الأنبياء، فقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] ، فالقول الثاني من الأقوال: أن (ن) المراد به الحوت، ومما أيد ذلك ذكر صاحب الحوت في هذه السورة، وصاحب الحوت هو ذو النون كما في السورة الأخرى. والقول الثالث: أن المراد بـ (ن) الدواة، فأقسم الله بالقلم، وبالدواة التي يغمس فيها القلم، لتمده بالحبر والمداد. القول الرابع: أن المراد بـ (ن) اللوح الذي يكتب فيه بالقلم. فهذه أشهر الأقوال في تفسير قوله: (ن) . أيضاً للعلماء في الحوت أقوال لا ينبني أي شيء منها على حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال: هو حوت يحمل الأرض، ومنهم من قال: هو الحوت الذي التقم يونس، إلى غير ذلك من الأقوال. {ن وَالْقَلَمِ} الواو في قوله سبحانه: (وَالْقَلَمِ) واو القسم، وكما أسلفنا مراراً أن أحرف القسم ثلاثة: الواو والباء والتاء، فالواو هنا واو القسم على رأي كثير من العلماء، فأقسم الله بالقلم. وما المراد بالقلم؟ من أهل العلم من قال: المراد بالقلم قلم مخصوص وهو أول قلم خلقه الله، وهو أول الخلق على الإطلاق، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يصح بمجموع طرقه: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ، فمن العلماء من قال: إن المراد بالقلم: القلم الذي خلقه الله أول ما خلق، وكتب به مقادير كل شيء، والحامل لهم على هذا الاختيار أنه درج في كتاب الله على أن الله سبحانه وتعالى يقسم بعظيم المخلوقات، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:5-7] ، {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1] ، {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] ، فيقسم الله بعظيم المخلوقات، ولا يقسم بأشياء يسيرة من خلقه، مع أن كل خلقه عظيم، لكن ما تجد ربنا أقسم بالنملة مثلاً، ولا بالبعوضة، ولا بالخنافس، ولا بالصراصير، مع أنها كلها مخلوقات لله، لكن ربنا يقسم بعظيم المخلوقات، فهذا حمل بعض العلماء على أن يقول: إن القلم هنا قلم مخصوص، وهو أول قلم خلق، وهو الذي كتبت به مقادير الخلائق. ومن العلماء من قال: هو عموم الأقلام، وليس المقسم به قطعة خشب، وإنما المراد أهمية هذا القلم، وما ينبني عليه، فالقلم النوع الثاني من أنواع البيان، فرب العزة سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4] ، فالبيان بيانان: بيان بالقلم، وبيان باللسان، وقال الله سبحانه وتعالى في أول سورة نزلت على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1-4] ، فالقلم نعمة امتن الله بها على العباد. فقد يطرح Q لماذا وهو نعمة امتن الله بها على العباد لم يعلمها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومع أن العلم محمود، والجهل مذموم، فلماذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذه النعمة؟ أليس تعلمها داخلاً في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، ويتوصل بالقراءة والكتابة إلى الاطلاع على العلوم الشرعية؟! فالإجابة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع هذه النعمة لعلة أعظم، ذكرها الله في كتابه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] ، فلدفع الارتياب والشكوك عن الناس جعل الله الرسول صلى الله عليه وسلم أمياً. {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] أي: وما يسطِّرون أي: وما يكتبون، فأقسم الله بالآلة، أي: بالقلم وبما كتبته الآلة: القلم وبما كتبه القلم، وعلامَ كان القسم؟! {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] فالله يقسم على أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون، كما وصفه الواصفون، فقد وصفه القرشيون المشركون بالجنون ورموه به، كما قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] فأنت عندما ترى الناس كلهم يقذفونك ويصفونك بالجنون، قد يتسرب إلى نفسك شك أن بك شيئاً من كثرة ما تسمع؛ لأن كل هؤلاء يصفونك بالجنون وتتساءل: هل أنا على خطأ أو على صواب؟! فرسولنا وصفه الكفار بهذا الوصف، كما وصف إخوانه من المرسلين، فقد وصف بذلك نوح صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {كَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] . وهكذا عموم الأنبياء، فربنا سبحانه وتعالى هو الذي دافع عن نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بنفسه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] ما أنت بمجنون من فضل الله عليك، {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم:2] أي: من نعمة الله عليك، أنك لست بمجنون، أي: بحمد الله لست بمجنون {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] أي: ما أنت بمجنون، وجاءت كلمة {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم:2] اعتراضية، فيكون المعنى: ما أنت بمجنون، لكن عززت بقوله {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} ، ويصبح المعنى: ما أنت بفضل الله عليك بمجنون.

تفسير قوله تعالى: (وإن لك لأجرا غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم)

تفسير قوله تعالى: (وإن لك لأجراً غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم) {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:3] فالآية فيها دفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها تصديق لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:2-3] أي: غير مقطوع، يعني: أجرك ثابت، ومتواصل لا ينقطع، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، عليه الصلاة والسلام، إذاً: القسم على ثلاثة أشياء: الشيء الأول: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] نفي الجنون. والشيء الثاني: أن للنبي أجراً لا ينقطع. والشيء الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم، صلى الله عليه وسلم. وما معنى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ؟ من العلماء من فسر الخلق هنا: بالدين، قال: وإنك على دين عظيم، إذ الإسلام خير الأديان ومنهم من فسرها بعموم الأخلاق، وعلى كلٍ فما زالت الآية مجملة، فما هو هذا الخلق العظيم، إذا قيل: إن المراد به عموم الأخلاق؟ تفسيرها في آيات أخر، كما قال الله تعالى في شأنه عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] فخلقه مع أصحابه لين، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فهذا من خلقه عليه الصلاة والسلام، فهذه الآية {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] مجملة فسرتها آيات، وفسرتها أحاديث، أوضحت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوامره كلها تحمل أخلاقاً حميدة، لما سأل هرقل أبا سفيان، بم يأمركم محمد: قال: يأمرنا بالعفاف، والصلة والصلاة والزكاة وهجر الأوثان، إلى غير ذلك. ومن خلقه أنه حريص على أمته وليس حسوداً لها، بل هو حريص على المؤمنين {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] هذه أخلاقه على وجه الإجمال، وقد سئلت أم المؤمنين عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت للسائل: (ألست تقرأ القرآن؟ قال: نعم، يا أماه! قالت: كان خلقه القرآن، ثم تلت: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ) وأبو ذر لما أرسل أخاه يتفقد أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء أخوه وقال: إني وجدت رجلاً يأمر بمكارم الأخلاق، فكانت أخلاقه حسنة في كل شيء، إذ خلقه القرآن في العبادات، وفي المعاملات، وفي سائر شئونه عليه الصلاة والسلام. في العبادات إذا أنفق لا يتبع الإنفاق بالمن والأذى، {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] . إذا أعطى يعطي لوجه الله، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] . إذا علم يعلم لله إذا صبر يصبر لله إذا تصدق كان رءوفاً بالمتصدق عليه، هذا في أبواب الإنفاق. وفي أبواب الصلاة إذا قام يصلي قام خاشعاً لله حتى تورمت قدماه صلى الله عليه وسلم. في أبوب الصيام يقول: (من لم يدع قول الزور، والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) في أبوب الحج، {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] إذا حج لا يُطرد الناس عنه طرداً ويضربون ضرباً كما يحدث الآن، إنما كما قال الصحابي الكريم: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك) صلى الله عليه وسلم. في الاجتماع يأتي كذلك يعلم المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] . ينزل الناس منازلهم فيعرف للكبير حقه، جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حويصة ومحيصة، فذهب أحدهما يتكلم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كبر، كبر) وقال عليه الصلاة والسلام: (أراني أتسوك، فأتاني رجلان فدفعت السواك للأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر) قال عليه الصلاة والسلام في حالة التساوي في حفظ القرآن والسنة: (وليؤمكم أكبركم) هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعطى للكبير حقه، وأنزل الناس منازلهم، وعرف لصاحب المنصب منصبه، ولصاحب الجاه جاهه، وعرف للفقير حاله؛ فرفق به ورحمه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح: (من دخل المسجد فهو آمن) قال ذلك للمشركين الخائفين من القتل لما فتح مكة: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن) ثم الشاهد (ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فأنزل أبا سفيان منزلته باعتباره شيخاً لقريش، وأنزل أبا بكر منزلته، لما جاء أبو قحافة مع أبي بكر الصديق ورأسه مشتعلة بياضاً كالثغامة -أي: القطن- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو جلس في بيته يا - أبا بكر - لأتيناه؛ تكرمة لـ أبي بكر) ولما ذهب سعد بن معاذ رضي الله عنه يحكم في بني قريظة فرآه الرسول وهو مقبل -وكان سيد الأوس، والأوس من الأنصار- فقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) ولما استأذن عليه عثمان والرسول حاسر عن بعض فخذه عليه الصلاة والسلام، فلما سمعه يستأذن غطى فخذيه، في رواية أنه قال: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة) وفي الرواية الأخرى أنه قال: (إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إذا رآني على هذه الحال ألا يبلغ إليّ في حاجته) يعني: يستحيي أن يتكلم معي ويشكو إليّ حاجته، ويسألني مسألته إذا رآني على هذه الحال. ومن باب رده صلى الله عليه وسلم للجميل وحفظه للمعروف -إذ ليس بجاحد للمعروف ولا منكر للجميل- كان عليه الصلاة والسلام إبَّان مرجعه إلى الطائف وقد طرد وأخرج من مكة إلى الطائف، فلما رجع إلى مكة نزل في جوار المطعم بن عدي، والمطعم كان كافراً، فلما نزل الرسول في جواره، حمل المطعم بن عدي سلاحه هو وقبيلته، وقال: يا معشر قريش! إني قد أجرت محمداً فمن مسه بسوء كانت الفيصل بيني وبينه، فحفظ الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم لما مات المطعم، وجاءت غزوة بدرٍ الكبرى، وأسر من المشركين سبعون؛ جاء النبي صلى الله عليه وسلم ونظر إليهم وقال: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء لتركتهم له) فكان يحفظ الجميل صلى الله عليه وسلم، ولا يضيع عنده المعروف عليه الصلاة والسلام. وكان حسن العهد بمن مات، فيخلفه في ذراريه وفي أقاربه بخير، قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد موته) فإذا كان أبوك يزور شخصاً، أو يزور امرأة من أقاربك، أو من الفقيرات، فلا تقطع الود، ولا تقطع الصلة بموت الأب، ولا تُشعر من كان أبوك يحسن إليهم بالانقطاع، فزرهم وصلهم كما كان أبوك يفعل؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد موته) هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام. وأيضاً كانت هالة بنت خويلد كلما جاءت واستأذنت على رسول الله -وهي أخت خديجة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم- عرف من نبرات صوتها نبرات صوت أختها خديجة، تلكم المرأة الصالحة التي كانت تعينه على نوائب الحق، وتؤازره بحنانها وعطفها وما رزقها الله من مال، فلما ماتت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت هالة، لما فيه من مشابهة لصوت خديجة ارتاع لذلك، وقال: (اللهم! هالة) حتى غارت عائشة رضي الله عنها لكثرة ما كان النبي يكثر من ذكر خديجة رضي الله عنها، فكان حافظاً للعهد عليه الصلاة والسلام، ولا ينكر المعروف أبداً. كان قوي الملاحظة عليه الصلاة والسلام فليس كل الناس يستطيعون التعبير عما في أنفسهم باللسان، بل منهم من يظهر ما في قلبه على وجه، ومنهم من يعبر عما في نفسه إشارة، ومنهم من فاض الذي في قلبه حتى خرج على لسانه فيلزمك أن تكون كرسولك محمد صلى الله عليه وسلم قوي الملاحظة فهّامة تفهم من حولك، وتفهم مدلولات الألفاظ. من الناس من امتلأ قلبه لك حباً، فإذا رآك لا تسمع منه إلا كل خير، وكل كلم طيب معبرٍ عما في النفس، ولا ترى منه إلا البشاشات، ولا ترى منه إلا الترحيبات، ومن الناس من ملئ قلبه حنقاً، وغيظاً عليك، فكما قال الله في أضرابه من أهل النفاق: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] إن كنتم تفهمون، وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] فكان الرسول قوي الملاحظة كما كان أصحابه، وكما علم أصحابه رضي الله عنهم، يقول لأم المؤمنين عائشة: (

تفسير قوله تعالى: (فستبصر ويبصرون، بأيكم المفتون)

تفسير قوله تعالى: (فستبصر ويبصرون، بأيكم المفتون) قال تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم:5] أي: فستعلم ويعلمون، {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم:6] أي: أيّكم هو المفتون، من العلماء من قال: إن الباء زائدة كما في قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20] والباء؛ قال فريق من العلماء: الباء زائدة، فقوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم:5] فستعلم يا محمد! وسيعلم هؤلاء الكفار المفترون -الذين يدعون أنك مجنون، وأنك مفتون- من المفتون! {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم:6] و (المفتون) من العلماء من قال: معناه: المجنون، لأنها جاءت في عقب الآية التي هي {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] فلما نفى الجنون عنه قال: ستعلمون من المجنون، ومن هو المفتون والمصروف عن الحق، فالفتنة تطلق على الصرف أحياناً، ومنه قول الشاعر: لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم فقوله: (لإن فتنتني) أي: لئن صرفتني عما أنا عليه من الخير، فهي بالأمس أفتنت سعيداً، (فأصبح قد قلى كل مسلم) ، (وألقى مصابيح القراءة واشترى) أي: أنصرف عن الخير، (وألقى مصابيح القراءة واشترى) (وصال الغواني بالكتاب المتيم) . فمفتون: إما أنه المصروف عن الحق إلى الباطل، وإما أنه المجنون.

تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله.

تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله.) قال تعالى: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم:6-7] هو يعلم هل أنت الضال، أم هم الضلال، هو يعلم سبحانه وتعالى لكن -يا محمد- {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8] وكما في الآية الأخرى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] وليس لهؤلاء طاعة، (إنما الطاعة في المعروف) لمن لهم علينا حق الطاعة.

تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون)

تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون) {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا} [القلم:8-9] أي: طمعوا , وأحبّوا {لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] ، أي: تميل إلى دينهم وإلى آلهتهم فيمالئونك على ما أنت عليه شيئاً ما، (تدهن) : تميل، وقالوا: إن الدهن إذا وضع على شيء يلينه، أي: تلين فيلينون، أي: تلين فيسكتون عنك، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) أي: تميل إليهم في معتقدك، ولم يلن لهم رسول الله في شيء من معتقده أبداً، إنما إذا كان هناك شيء من إظهار الموافقة بالأعمال ليس في العقائد، فقد يقر الشرع لك أن تتلفظ بكلمة الكفر والقلب مطمئن بالإيمان، أما الإيمان القلبي فلا مساومة فيه أبداً، {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] ولو ركنت إليهم شيئاً قليلاً {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:75] . الممالآت باللسان إن احتيج إليها فتقدر بقدرها، يعني: إن احتجت في المعاملات العامة إلى أن تستعمل شيئاً من التقية أو المداراة، فلك أن تصرح فيها بالقدر الذي يحتاج إليه وتنصرف، لكن المعتقد القلبي لابد أن يكون مطمئناً بالإيمان. أما المعاملات بالجوارح فلك إن أكرهت على شيء أن تتلفظ حتى بكلمة الكفر، وقد أباح الرسول صلى الله عليه وسلم الكذب في بعض المواطن، لكن يحب أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28] الأصل أن الطاعة على أنواع: فلا يطاع أحد في العقائد، إلا إذا أكرهت على التلفظ بكلمة الكفر، فيجوز لك أن تمضيها بقدرها، وإذا أكرهت على عمل من الأعمال فأيضاً بحسب نوع هذا العمل، وهذه المسألة فقهية واسعة تحتاج إلى محاضرة أو محاضرتين لبيان الجائز منها من المحظور. وفقنا الله إلى كل ما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم لمس الخاطب لمخطوبته والخروج معها

حكم لمس الخاطب لمخطوبته والخروج معها Q شخص قرأ الفاتحة على امرأة -أي: خطوبة- وخرج معها وهو متوضئ، ولمس يدها، هل يجوز أن يخرج معها؟! وما حكم مصافحة النساء؟ A قراءة الفاتحة هذه التي فعلها لا تُحل له أي شيء، فلا يجوز له أن يمس يدها؛ لأن النبي قال: (لئن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) . أما هل هذا المس ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟! فقولان لأهل العلم، والأصح منهما -كما يظهر والله أعلم- اختيار عبد الله بن عباس أن المس الذي هو دون الجماع لا يوجب وضوءاً؛ لأن عائشة مست رجل الرسول وهو ساجد، ولم يخرج الرسول عليه الصلاة والسلام من صلاته، وحمل قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] على أن المراد هو الجماع، أما إذا شعر بأنه أمذى وخاصة إذا كان في مثل هذه الحالة من الفتوة -وهي كذلك- فإذا تأكد أنه أمذى وجب عليه الوضوء.

التعارض في التصحيح والتضعيف في الأحاديث

التعارض في التصحيح والتضعيف في الأحاديث Q ماذا نفعل إذا وجدنا تعارضاً في التصحيح والتضعيف لبعض الأحاديث؛ وخاصة أنه اشتهر في هذه الأيام؟!! A هذا ليس مشهوراً هذه الأيام، وإنما من عهد الأئمة الكبار كالإمام الشافعي رحمة الله عليه، كان في كثير من المسائل الفقهية يعلق الحكم فيها على صحة حديث ما، إذا توقف في الحكم عليه صحة أو ضعفاً، ويقول: إن صح الحديث فأنا أقول به، ويكون قولي هو كذا وكذا، ويتوقف على الحكم، فهذا الذي ذكرته يحملك على أن توسع أفقك شيئاً ما لاستقبال المسائل التي فيها وجهان للعلماء.

تفسير سورة القلم [2]

تفسير سورة القلم [2] نهى الله نبيه عن المداهنة والطاعة لمن حاد عن نهج الحق وكفر بالله، واتسم بصفات الذم والمهانة، وضرب الله لهم مثلاً بأصحاب الجنة الذين تواطئوا على منع الفقراء وذوي الحاجة حقهم، وتقاسموا بالله على ذلك، فأهلك الله جنتهم، وصاروا عبرة وآية لمن بعدهم. ثم خاطب الجبار جل وعلا كفرة قريش فقال: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) فلا يستوي الطائعون والعصاة أبداً، فكل له طريقه وسبيله ومصيره.

تفسير قوله تعالى: (ولا تطع كل حلاف مهين)

تفسير قوله تعالى: (ولا تطع كل حلاف مهين) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:10-15] . قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} [القلم:10] الحلاف: هو كثير الحلف، فهل يستفاد من الآية أن كثرة الحلف مذموم، أو لا يستفاد ذلك منها؟ من العلماء من قال: إن كثرة الحلف مذموم لهذه الآية الكريمة: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} [القلم:10] ولقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكثر من الأيمان، ولأن من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه، فإذا أكثر الشخص من الحلف أوشك أن يقع في الحلف على الحرام، أو الحلف المحرم، أو الحلف كاذباً، أو الوقوع فيما حلف عليه وينسى -لكثرة أيمانه- فلا يكفِّر وأيضاً: لأن الله سبحانه وتعالى وصف أهل النفاق أنهم يكثرون من الأيمان كي يصرفوا الناس عنهم، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:16] أي: وقاية يتقون بها أقوال الناس فيهم وأحكام الناس فيهم، فهذه حجج من قالوا بكراهة ذلك بأن كثرة الحلف مذموم. ومن أهل العلم من قال: إن كثرة الحلف لا بأس به إذا كان الشخص يحلف بحق، ويحلف على حق؛ وذلك لأن الحلف بالله فيه ذكر لله سبحانه، فالذي يقسم بالله يذكر الله أثناء القسم، قالوا: وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] . قالوا: وأيضاً قد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم جملة أيمان دون أن يطلب منه القسم، ففي قصة العسيف -أي: الأجير- الذي كان مستأجراً عند رجل فزنى بامرأته: أتى أبوه وأتى زوج المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يقضي بينهم، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضينّ بينكما بكتاب الله عز وجل) ، دون أن يطلب منه هذا القسم. وأيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أسامة بن زيد يستشفع في المرأة المخزومية التي سرقت، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) ، دون أن يطلب منه أيضاً القسم. فهذه حجج من قالوا بعدم الكراهية إذا كان الشخص محقاً في قسمه، وحجج الذين قالوا بكراهية الإكثار من القسم لغير حاجة، والله سبحانه وتعالى أعلم. لكن الاستدلال بقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] على ذم الإكثار من الحلف لا يتم؛ لأنها لم تنفرد بالحكم، وإنما أردفت بصفات أخرى. (مَهِين) المهين: هو الحقير، والكذَّاب أيضاً، فالحلاف المذموم في هذه الآية هو الحلاف المهين.

تفسير قوله تعالى: (هماز مشاء بنميم)

تفسير قوله تعالى: (هماز مشاء بنميم) قوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] ، أما الهماز فهو الذي يهمز الناس، أي: هو الذي يعيب الناس بأقواله كما يعيب الناس بأفعاله. والعيب بالقول فمعلوم، أما العيب بالفعل فهو أن يتهكم بفعله كأن يمشي شخص وهو يعرج، فيأتي ساخر يمشي ويعرج خلفه ويحاكي مشيته كي يضحك الناس منه، أو شخص في لسانه شيء، فيتعمد ليَّ لسانه سخرية من أخيه. فالهمز قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يأتي بمعنىً أوسع، فإذا جاء مقترناً باللمز، كما في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] ، فالهمز بالقول واللمز بالفعل، ومن العلماء من عكس، لكن إذا جاء مستقلاً غير مصحوب باللمز فقد دخل فيه أيضاً معنى اللمز. (مَشَّاءٍ) من المشي، (بِنَمِيمٍ) ، يمشي بين الناس بالنميمة للإفساد بينهم، وينقل الحديث من شخص إلى شخص آخر على سبيل الوشاية والإفساد بينهما، والمشي بالنميمة من الكبائر على رأي جمهور العلماء؛ وذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما مرّ بالقبرين (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) ثم قال: (بلى -أي: لا يعذبان في كبيرٍ في أنظاركم، ولكنه كبير عند الله- أما أحدهما فكان يمشي بين الناس بالنميمة) ومن الأدلة على كون النميمة من الكبائر أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم إضافة إلى هذه الآية الكريمة {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] حدت هذه الأدلة ببعض أهل العلم إلى أن يحكموا على النمام بأنه مرتكب لكبيرة. ومن العلماء من فصل في الذي ينُمُّ كمسألة الاغتياب، فهل الاغتياب كبيرة أو أن الاغتياب صغيرة من الصغائر؟ من العلماء من قال: إن الغيبة من الكبائر، ومنهم من قال: إنها من الصغائر، ومنهم من فصل. فمنهم من فصل بناء على حجم المغتاب، وقدر المغتاب، ومنهم من فصل بناء على الشيء المنقول، فمثلاً: إذا كنت تغتاب رجلاً من أهل الصلاح، ليس كما لو كنت تغتاب الفسّاق، فإذا اغتبت رجلاً صالحا الحكم يختلف عما إذا اغتبت رجلا فاجراً، والأدلة تشهد لذلك كحديث: (بئس أخو العشيرة) الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام. إذا كنت تغتاب شخصاً كريماً لا كمن يغتاب شخصاً بخيلاً. إذا كنت تغتاب على سبيل الشكوى ليس كمن يغتاب على سبيل الحاجة، فإن هنداً قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، ولم ينكر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إذا كنت تغتاب الجاهل، فلست كمن يغتاب العالم، فإن النبي قال كما في البخاري: (ما أظن أن فلاناً وفلاناً يعرفان عن ديننا شيئاً) . فكذلك الحكم في النميمة؛ يختلف من منقول إلى منقول آخر، ومن شخص إلى شخص آخر، ومن ثَم يقرر الحكم هل هي من الكبائر أو هي من الصغائر؟ هذا تفصيل جنح إليه عدد كبير من أهل العلم والله أعلم. {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] (مشاء) : أي: ماشٍ (بنميم) أي بالنميمة، فـ (لا يدخل الجنة نمام) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا في النميمة التي تفسد بين الأحبة، وتقطع المودة بين الأرحام، وأيضاً تسبب ضرراً للمسلمين، وتسبب عذاباً على مسلم وأذى لبعض أهل الإيمان.

تفسير قوله تعالى: (مناع للخير معتد أثيم)

تفسير قوله تعالى: (مناع للخير معتد أثيم) {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [القلم:12] كما أسلفنا أن كثيراً من العلماء قال -وأطلق بعضهم ذلك-: إذا ذكر الخير في كتاب الله، فالمراد به دوماً المال، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] أي: لحب المال لشديد، فمن العلماء من أطلق وقال: كل خير في كتاب الله يراد به المال، لكن وإن سلم لهم هذا القول كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:180] أي: إن ترك مالاً، إن سلمنا بذلك في مواطن، فلا نسلم به في مواطن أخرى، كقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] (خير) هنا لها معنىً أخر تماماً. فالحاصل أن الأولى أن يقال: إن أكثر ورود الخير في كتاب الله بمعنى المال، لكن لا يتمنع أن يأتي الخير بمعنىً آخر. قال الله سبحانه وتعالى {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [القلم:12] هل المراد بها مناع للمال، أو المراد بها نوع مخصوص من المال؟ فمن العلماء من قال: إن المراد بالخير هنا: الزكوات المفروضة. ومنهم من قال: إن المناع للخير هنا مناع لأوجه الخير بعمومها. وقيل: نزلت هذه الآيات -وليس لدينا شيء عن رسول الله ثابت الإسناد- في الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رضي الله عن خالد، فكان أبوه ينفق المال الكثير، وينحر مئات من الإبل في الحج، ويرسل مناديه ينادي: من كان يريد اللحم فليأت إلى الوليد بن المغيرة فيأمر الناس بإطفاء النيران أيام منى، وإذا طلب منه شيء لله منع؛ لأنه كان لا يفعل ذلك إلا على سبيل الرياء والمباهاة، وإذا طلب منه شيء للفقراء وذوي الحاجة والمسكنة لله منع، {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ} [القلم:12] أي: على غيره {أَثِيمٍ} [القلم:12] أي: أثيم في نفسه، يعني: بينه وبين الله آثم ومرتكب للذنوب في حق نفسه وفي حق ربه، وعلى الخلق معتدٍ أيضاً، فمعتدٍ أثيم جمعت المعنيين؛ فهو في نفسه آثم، ولخلق الله ظالم، كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فجمع بين الإثم في النفس، والظلم للغير.

تفسير قوله تعالى: (عتل بعد ذلك زنيم)

تفسير قوله تعالى: (عتل بعد ذلك زنيم) {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13] (بَعْدَ) بمعنى: مع، وهذه لغة عدة بلاد، يقولون عن شخص: هو كذا وكذا وبعد هو كذا، ومعنى ذلك: ومع هذه الصفات هو كذا، فقوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} أي: مع هذه الصفات المذكورة كلها هو معها عتل، ومع ذلك كله هو زنيم، والعتل: هو الجلف الجافي الغليظ واسع البطن كما قال فريق من العلماء أي: كأنه في مطعمه ومشربه رحيب الجوف، أكول شروب ومع ذلك فهو جلف جافٍ غليظ، فتخيل شخصاً بهذه الصورة أكولاً شروباً منوعاً جموعاً للمال، ومع ذلك هو جلف في طباعه غليظ في أقواله وأفعاله، هذا تأويل العتل عند كثير من أهل العلم، (بَعْدَ ذَلِكَ) أي: مع ذلك كله هو (زَنِيمٍ) وفيها أقوال: أحد الأقوال في تفسير الزنيم أنه الدعي أي: ولد الزنا الذي نسب إلى غير آبائه، وقد قيل هذا في الوليد بن المغيرة، والله أعلم فأحد الأقوال بمعنى أن (زَنِيمٍ) بمعنى: دعي إلى غير أبيه. والقول الآخر: أن الزنيم من له زنمة وهو الشيء البارز في الرقبة كزنمة الشاة، فجمع بين الوصف السيئ في الخلق وأيضاً في الخلق فهو ذميم، فوصف بما يقتضي الذم سواء في خلقه أو في أن الله سبحانه وتعالى جعل فيه هذه الصفات الذميمة من الخلق لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أن كان ذا مال وبنين.

تفسير قوله تعالى: (أن كان ذا مال وبنين.) {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:13-15] هل (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) مرتبطة بما بعدها، أو مرتبطة بما قبلها؟ إن قلت: إنها مرتبطة بما قبلها، فالمعنى: فلا تطع كل حلاف مهين وإن كان ذا مال وبنين يعني: وإن كان ثرياً، وإن كان له أولاد، وإن كان من أهل الجاه فلا تطعه أيضاً، فلا تطع كل حلاف مهين وإن كان هذا الحلاف من أهل الثراء ومن أصحاب المناصب والجاهات، وممن رزقهم الله الأولاد، فلا تطعه أيضاً، وإذا كان مرتبطاً بما بعده فالمعنى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:14-15] أي: أن ماله وبنيه الذين رزقه الله إياهم حملوه على أن يكفر بالله ويكذب بآياته فقال: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15] فالذي حمله على الكفر والتكذيب هو الرزق بالمال والرزق بالبنين، كما قال تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم:14] أي: أئن كان ذا مال وبنين {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15] هل هكذا تشكر النعم؟ والآية معناها ثابت في جملة آيات {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:83] ، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] والآيات على هذا المنوال كثيرة، فالمعنى: أئن كان ذا مال وبنين يقابل هذه النعم {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15] .

تفسير قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم)

تفسير قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم) {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] الوسم: هو العلامة، ومنه قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] أي: علامات الصلاة وآثار الخشوع في وجوههم من أثر السجود، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] فالسيما هي العلامة، (سَنَسِمُهُ) أي سنعلمه بعلامة (عَلَى الْخُرْطُومِ) أي: على الأنف، الذي هو رمز للأنفة والكبر، فالمتكبر يرفع أنفه متعالياًَ، فهذا الأنف المرتفع سيعلَّم بعلامة سوداء، وهذا يوم القيامة، إذ في ذلك اليوم يأتي الناس بعلامات تميزهم، والمستكبر علامته أنه يأتي يوم القيامة وعلى أنفه سواد والعياذ بالله. وأهل الغدر -كما أسلفنا- يأتون ولهم ألوية عند أستاههم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) والمتكبرون يحشرون أمثال الذر، ومانعوا الزكاة يأتون والحيات تطوّق رقابهم، هذه أوصاف ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها في كتاب الله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:180] فهذا المتكبر علامته يوم القيامة أنه يأتي موسوماً أي معلماً على أنفه بعلامة. ومن العلماء من قال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] وإن حملت معنى العلامة على الأنف؛ لكن المراد بها تسويد الوجه كله، وتسويد الوجه كله مأخوذ من آيات أخر {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] لكن مع كون وجهه يكون أسود فمع هذا السواد يعلم بعلامة أيضاً على الأنف {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] .

تفسير قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة.

تفسير قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة.) {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17] هذه القصة والآيات التي تحملها تبين شيئاً، بينته كثير من آيات الكتاب العزيز، حاصله أن الشخص كما يثاب على عمله الصالح، فإنه يثاب أيضاً على نيته الصالحة، وكما يعاقب على عمله السيئ يعاقب أيضاً على نيته السيئة. وبهذا تكون قد تفتحت أمام العبد أبواب من أبواب الخير، فمن لم يجد مالاً ينفقه في سبيل الله، ومن لم تسعفه صحته للصيام وللقيام فليصلح النية فإن النبي قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من الأجر ما كان يعمل صحيحاً مقيماً) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شركوكم في الأجر حبسهم العذر) ولما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) نزلت هكذا، وابن أم مكتوم بجوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكا ضرره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزل والرسول جالس {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] فدعا الرسول زيد فأملى عليه {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} والأدلة في هذا الباب لا تكاد تحصى، فإذا خرج العبد يريد الجماعة فوجد الناس قد صلوا كتب له أجر الجماعة، فباب الخير مفتوح لمن لم يسعفه ماله للصدقة، ولمن لم يسعفه جهده للصدقة، ولمن لم يسعفه جهده للصيام ولا للقيام، فيكفيه أن يصلح نيته وينوي نية حسنة، وكذلك النيات الخبيثة. قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم:17] أي: اختبرناهم، اختبرنا من؟ اختبرنا القرشيين، (كَمَا بَلَوْنَا) ، أي: كما اختبرنا (أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) ، فهذا الابتلاء كان بالسراء أو بالضراء؟ فيه الوجهان، فإن قيل: إنه اختبار بالسراء، فالله قد ابتلى أصحاب الجنة بجنة -بحديقة أو بستان- وهذه نعمة وابتلى القرشيين بنعمة مثلها، وهي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فهذه نعمة. وإن كان بالعقوبة، فكما أن أصحاب الجنة كفروا النعمة فحلت بهم العقوبة، فكذلك أهل مكة كفروا بالنعمة، وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلت أيضاً بهم النقمة، كما قال سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:112] وهي مكة بالإجماع، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] . فسواء قلنا: إن الابتلاء كان بالسراء أو بالضراء فلكل وجه. فإن قال قائل: هل في كتاب الله ما يشهد للقول بأن الابتلاء قد يكون بالسراء؟ فالإجابة: نعم؛ قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] ولما رأى سليمان عليه السلام عرش ملكة سبأ مستقراً عنده {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] . فالابتلاء قد يكون بالسراء وقد يكون بالضراء. قد يكون الابتلاء بالصحة والعافية وقد يكون الابتلاء بالمرض وبالسقم. قد يكون الابتلاء بالجمال الزائد، وقد يكون الابتلاء بالدمامة الزائدة. قد يكون الابتلاء بارتفاعك في المنصب وقد يكون الابتلاء بانخفاضك في المنصب، كل هذه ابتلاءات، إذ الحياة الدنيا كلها ابتلاءات، والله هو {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] . {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17] لم يرد شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت صحيح في تحديد من هم أصحاب الجنة، ولا ما هي بلادهم، ولكن الجنة بصفة عامة هي الحديقة والبستان الذي تكاثرت فيه الأشجار وتشابكت حتى جَنَّت من بداخلها، أي: حتى غطت على من بداخلها، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] ومنه إطلاق الجِنّة على الجن لاستتارهم، ومنه إطلاق الجنون على المجنون لأنه جُنّ، أي: غطي على عقله. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17] أسلفنا أنه لم يأت نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح من هم هؤلاء القوم، ولكن العبرة حاصلةً على أية حال، ولو كان في تحديدهم وذكر أسمائهم وبلادهم نفع لذكروا في كتاب الله {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] ، ولما أكثر المفسرون في تحديد هؤلاء الأشخاص، لم يكن إكثارهم من التوفيق بمكان إلا محبتهم للأثر الوارد عن السلف فقط، وإلا فالأولى أن تستبعد لكن محبة الآثار الواردة عن السلف حدت ببعض المفسرين أن يورد أقوالاً في هذه التحديدات هل هم بمصر؟ أو باليمن؟ أو بنجران؟ أو أماكن أخر؟ أقوال عدة، والأكثرون على أنها باليمن، والله أعلم. فالتفاسير التي حشيت بمثل هذه الأقوال كتحديد اسم أصحاب الكهف وقبائلهم، واسم كلبهم، وتحديد مكان العزير وتسمية حمار العزير، وتحديد البلاد التي نزل بها ذو القرنين إلى غير ذلك من هذه التحديدات التي أطال فيها المفسرون، الأولى عدم ذكرها، لكنها فقط من باب محبة الأثر، وهي التي حدت ببعض المفسرين وحملتهم على ذلك. قال جمهور المفسرين: هم قوم باليمن، كان أبوهم رجلاً صالحاً، وكان يعمل في أمواله في حياته بما يرضي الله، فيعطي المساكين حقوقهم، بل ويتصدق فوق الواجب أيضاً، فلما مات هذا الرجل الصالح، اجتمع بنوه وقالوا: قد كان أبونا يفعل ذلك والمال كثير، أما الآن فقد تقسم المال على الورثة، فقلت الأنصبة وأبناؤنا أحق من هؤلاء الفقراء، وبعضهم طعن في أبيه وفي تصرفاته الشعواء في ظنه، واتفقوا وبيتوا النية الخبيثة على عدم إعطاء الفقراء شيئاً من الحقوق، وأقسموا بالله، وتعاقدوا في فيما بينهم، وتعاهدوا على أن يجنوا ثمارهم في الصباح قبل أن يراهم الفقراء وقالوا فيما بينهم: قد مضى هذا العهد الذي كان الفقراء يتوافدون فيه علينا من كل مكان، وقد مات أبونا ولا حاجة لنا في هؤلاء الفقراء وأقسموا فيما بينهم وتعاقدوا على هذا. {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:17] أي: ليقطعن ثمارها في الصباح الباكر، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:18] في تفسير قوله تعالى: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:18] قولان: أحدهما -وهو الذي عليه الجمهور-: (لا يَسْتَثْنُونَ) أي: لا يقولون إن شاء الله، فقالوا: نقسم بالله أن نجز الثمار صباحاً ولا نعطي الفقراء أي شيء، ولم يقولوا: إن شاء الله، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن سليمان: (أما إنه لو قال: (إن شاء الله) لم يحنث) وذلك لما قال سليمان: لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن ولداً يجاهد في سبيل الله، قيل له: قل: (إن شاء الله) فلم يقل، فما ولدت منهن إلا امرأة واحدة ولدت نصف إنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إنه إن قال: (إن شاء الله) لم يحنث، وكان أرجى لحاجته) ولذلك ذهب جمهور العلماء إلى أن من قال: أقسم بالله ألا أذهب إلى القاهرة، وأتبعها بكلمة (إن شاء الله) على التوالي ليس على التراخي؛ فذهب لم يحنث، ولا يكون عليه كفارة، فلذلك يكون مخرجاً للأم التي تهدد ولدها الذي لا يفهم، وتقول له -إن اضطرت إلى القسم-: أقسم بالله لأضربنك إن شاء الله، فإن قالت: (إن شاء الله) ارتفع عنها التكفير، ولأي شخص أن يتبع اليمين بقوله: (إن شاء الله) . فالقول الأول قول الجمهور في تفسير: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: لا يقولون: (إن شاء الله) . والقول الثاني: أن المراد بقوله: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: لا يقتطعون حق الفقراء ويجنبونه على جانب كما كان أبوهم يفعل. {فَطَافَ عَلَيْهَا} [القلم:19] تآمروا هذه المؤامرة، واتفقوا هذا الاتفاق، وهذا درس يؤخذ منه عبرة لكل شخص ينوي شراً، فالموسع عليه إذا أراد عمل الخير فليحذر من تثبيط الشيطان، فهم فكروا هذا التفكير السيئ، وتعاقدوا هذا العقد الخبيث، ولا يدرون ما الذي يدبره الله لهم، {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] ما هو هذا الطائف؟ من العلماء من قال: هي آفة تسلطت على الأرض فأبادتها، ومنهم من قال: ريح صرصر شديدة أحرقت الأشجار جميعها. والشاهد أن الأرض أبيدت ودمرت واحترقت {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم:19] العقوبة من الله، هو الذي يسخر السحب، وهو الذي يأتي بالبرد، وهو الذي يأتي بالحر، وهو الذي يسلط الآفات، الشاهد: أنه طائف ليس من أحد من البشر بل هو {طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] . {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:20] والصريم: هو الشيء الذي صرم، أي أصبحت كأنها قطعت وحصدت، ومنهم من قال: إن الصريم الأسود البهيم شديد السواد أي: أصبحت كالليل المظلم، فأصبحت كالصريم، هذا الذي فعله الله بهم وهم نائمون. {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ} [القلم:21] تأمل في الآية، وتخيل منظرهم أمام عينيك، كلٌ ذهب ينادي الآخر من بيته، (فتنادوا مصبحين) ، قم يا فلان! قم يا فلان! قبل أن يستيقظ الفقراء، الفقير الفلاني بجوارنا قم وامش رويداً رويداً حتى لا يسمع، فتنادوا مصبحين، {أَنِ اغْدُوا} [القلم:22] أي: انطلقوا في الغداة {عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:22] إن كنتم ستصرمونها بسرعة فقوموا،

تفسير قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين.

تفسير قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين.) {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ} [القلم:35-36] ! ما هذه العقول التي فكرت هذا التفكير السيئ؟! وهذا الظن السيئ بالله؟! هل ربك سبحانه ظالم حتى يجعل المسلم كالمجرم؟! هل المصلي الصائم الطائع لله كالفاجر الفاسق المفتري الكذاب؟! هل الذي يأكل أموال اليتامى ظلماً كالذي يمسح على رءوس الأيتام ويقتطع لهم من ماله ويعطيهم؟! هل يستوي هذا وذاك؟! هل يستوي المجاهد في سبيل الله مع المحارب لدين الله ولسنة رسول الله؟! أبداً لا يستويان مثلاً. هل يستوي من قام من الليل يتهجد وتذرف عيناه دمعاً خوفاً من لقاء الله وخوفاً من ظلمات القبر كرجل سهر طول الليل أمام الراقصات والفاسدات والأغاني؟! {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] ؟! {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] ؟! {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] ،؟! {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ؟! {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8] هل يستوي هو ورجل قائم خائف وجل من الله سبحانه وتعالى؟!. أصول الشرع كلها تنفي هذه المساواة، فلا تظن بالله ظناً سيئاً، فمن ظن أن الله يسوي بين المسلم والفاجر، ظن بالله ظن السوء، وظن أن الله حكم غير عدل، فالحكم في هذه الأمور -يا إخوان- ليست بالارتجال، فرجل قام آناء الليل حتى تورمت قدماه ليس كرجل جرى في ملعب طول النهار حتى تكسرت قدماه، هذا له شأن وهذا له شأن آخر. من كظم غيظه وعفا عن الناس ليس كمن سبَّ الناس وآذاهم، وأطلق لنفسه العنان، أبداً لا يستويان، من كظم الغيظ وعفا عن المسلمين، ليس كمن انهال على المسلمين بالسباب والشتائم والضرب واللعن. وهذه أصول لابد أن تفهم حتى لا تظن بالله ظن السوء وأنت لا تشعر. قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] أيعقل؟! (مَا لَكُمْ) ما الذي حدث للعقول، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36] .

تفسير قوله تعالى: (أم لكم كتاب فيه تدرسون.

تفسير قوله تعالى: (أم لكم كتاب فيه تدرسون.) {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم:37] هل لكم كتاب نزل من عند الله درستم فيه أن الله يقول: المسلم كالكافر، والظالم كالعادل المنصف، هل نزل عليكم كتاب من الله فيه هذا الكلام، {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:37-38] من العلماء من قال: (إنَّ) هنا بمعنى أنَّ وأرجعها إلى الآية التي قبلها فقال: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم:38] أن لكم فيه لما تخيرون أي: هل نزل عليكم كتاب من الله درستم فيه يفيدكم أن لكم الشيء الذي تريدونه تريدون الدنيا متعتم بها تريدون الأمن في الآخرة تمتعون به، {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:38] .

تفسير قوله تعالى: (أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة) {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم:39] هل أقسمنا لكم أيماناً وعقدّناها وهذا فيه جواز تعقيد اليمين وتكرير اليمين، وقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] قال التوكيد تكرير اليمين، {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} يعني: هل أقسمنا لكم أيماناً بالغة إلى يوم القيامة أنكم ستعيشون آمنين مطمئنين إلى يوم القيامة، أو ستأتون آمنين مطمئنين يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (سلهم أيهم بذلك زعيم)

تفسير قوله تعالى: (سلهم أيهم بذلك زعيم) (سَلْهُم) أي: يا محمد! سل هؤلاء القرشيين المشركين، (أَيُّهُمْ) ، من منهم (بِذَلِكَ زَعِيمٌ) ، أي: من منهم الكفيل أو الضامن الذي يضمن لهم أنهم يعيشون آمنين في حياتهم، فكما سلبنا النعمة عن أصحاب الجنة الذين قصدنا لك ذكرهم، فنحن قادرون على سلب النعمة من هؤلاء الذين أمددناهم بأموال وبنين فاستغلوا الأموال والبنين فكذبوا بآياتنا وقالوا عنها أساطير الأولين. كيف فعلنا بأصحاب الجنة، الذين تعاقدوا على منع المساكين، وحرمان المساكين، وسقنا لك قصتهم مثالاً، فأخبرهم به، وسلهم أيهم ضامن وزعيم أنهم يعيشون ممتعين إلى الممات، ويأتون آمنين يوم القيامة بعد البعث والنشور، {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم:40] أي: ضامن وكفيل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء، ولو كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن حسن خلقه) الحديث إلى آخره، فزعيم معناه: ضامن وكفيل.

تفسير قوله تعالى: (أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم.

تفسير قوله تعالى: (أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم.) {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:41-42] من أهل العلم من قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} متعلقة بما قبلها، فليأتوا بشركائهم في هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق. ما المراد بقوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ؟ من أهل العلم من قال: إن المراد بقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي: يوم يشتدّ الأمر، كما يقال: كشفت الحرب عن ساقيها، أي اشتدت واشتعلت، وأبى هذا كثير من أهل السنة والجماعة بل جمهورهم، وقالوا: إن هذا يفسر بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه البخاري وغيره، وإذا جاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلت معه سائر الأقوال، فلا قول فوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. دعوا كل قول غير قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر فجاء الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في تفسير هذه الآية، فيما أخرجه البخاري وغيره، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً وفيه: (ينادي منادٍ: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، فتبقى هذه الأمة فيها مؤمنوها ومنافقوها، فيأتيهم ربهم سبحانه وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: لست بربنا، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فيقول: وبم تعرفونه؟ فيقولون: بالساق، فيكشف رب العزة عن ساقه، فيخر من كان يسجد له في الدنيا ساجداً، ويأتي من كان يسجد رياء وسمعة كي يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً فيخر لظهره) فهذا هو الراجح في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم:42-43] أي: ذليلة، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] أي: في الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث.

تفسير قوله تعالى: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث.) {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، آية تحمل كل معاني التهديد، فالذي يقول: {ذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، هو الله، والمعنى: اتركني مع هذا المكذب، كما في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] هنا يقول سبحانه: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي -أي: يؤخر- للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم تلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:102-103] وفي الحديث الذي نوزع في تصحيحه: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه؛ فإنما ذلك منه استدراج) {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} ، أي: سنرفعهم درجة درجة إلى الخير في ظنهم وفي زعمهم {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:44-45] أي: أؤخر لهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] وفقنا الله لما يحب ويرضى، والسلام عليكم

الأسئلة

الأسئلة

تحديد المدة بين القسم والتعليق بالمشيئة

تحديد المدة بين القسم والتعليق بالمشيئة Q نريد تحديد التراخي الذي يكون بين المشيئة والقسم؟ A ليس هناك حد للتراخي إلا الإتباع المباشر، فمثلاً إذا قال الشخص: اقسم بالله العظيم ألا آكل، وسكت هنيئة ثم قال: إن شاء الله، فالوقت بين القسم وبين مقولة (إن شاء الله) ليس هناك دليل على تحديده، وإنما مرده إلى العرف السائد، ولا نستطيع أن نقول: خمس دقائق، أو خمس ثوان، وإنما مرده عرفي.

حكم الزواج بغير إذن الولي

حكم الزواج بغير إذن الولي Q ما حكم زواج شاب بفتاة وهي لم تبلغ إلا ثمانية عشر سنة دون إذن وليها، وذلك عندما رفض أبوها تزويجه إياها، ولكن بعد ذلك وافق استسلاماً للأمر؟ A الزواج الأول باطل لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي) ولحديثه عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة نكحت من غير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) فالعقد يفسخ.

حكم من سلم بعد التشهد الأوسط في الصلاة ذات التشهدين

حكم من سلم بعد التشهد الأوسط في الصلاة ذات التشهدين Q صليت صلاة رباعية فسلمت بعد الركعة الثانية، وبعد ذلك قمت لإكمال الصلاة فهل أكبر جالساً أم أقف ثم أكبر للصلاة؟ A إذا انتهيتَ من التشهد وسلمت قم مباشرة مكبراًَ وائت بالركعتين الباقيتين ثم اسجد للسهو.

مسألة: متى يكون على الرجل عدة

مسألة: متى يكون على الرجل عدة Q هل على الرجل عدة ينبغي أن يلزمها كما أن للمرأة عدة؟ A السؤال من الأسئلة التي تنقل بمثابة (الفوازير) لكن في الحقيقة أنها لا تسمى عدة، لكن إن شئت أن تسميها عدة من باب المجاز فذاك، للرجل أن يتربص ولا يتزوج، حتى تنقضي العدة إذا كان متزوجاً بأربع ثم طلق الرابعة، ولم تنته عدتها؛ فلا يتزوج الخامسة إلا إذا بت طلاق الرابعة، أو انتهت عدتها. أو كان متزوجاً بامرأة وطلقها ويريد الزواج بأختها؛ فلا يتزوج بالأخرى إلا إذا انتهت عدة الأولى، أو بت طلاق الأولى، وكذلك في عمتها وخالتها.

تفسير سورة القلم [3] وسورة الحاقة [1]

تفسير سورة القلم [3] وسورة الحاقة [1] تضمنت سورتا القلم والحاقة أخباراً لبعض الأمم الماضية، وذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وعبرة وعظة لأمته. واشتملت سورة الحاقة على قاعدة عظيمة ومعادلة كونية لا تتغير ولا تتبدل، وهي أن المعصية تجلب العقوبة والدمار والانتقام، والطاعة تجلب الرحمة والرضوان وشواهد هذه السنة الكونية كثيرة.

تفسير قوله تعالى: (وأملي لهم إن كيدي متين.

تفسير قوله تعالى: (وأملي لهم إن كيدي متين.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] ، الإملاء: هو التأخير، فقوله تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي: أؤخرهم وأنظرهم وأمد لهم في أعمارهم، فالإملاء: هو التأخير، ومنه قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178] ، (نملي لهم) أي: نؤخرهم. (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي: أؤخرهم، (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إن تدبيري محكم، وأخذي شديد، والمعنى يحتمل كل هذا. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [القلم:46] أي: على دعوتك لهم، {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ} [القلم:46] ، المغرم: هو الدين، {مُثْقَلُونَ} [القلم:46] أي: متعبون مرهقون. {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [القلم:47] .

تفسير قوله تعالى: (فاصبر لحكم ربك.

تفسير قوله تعالى: (فاصبر لحكم ربك.) {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48] ، (فاصبر لحكم ربك) أي: اصبر لقضاء ربك يا محمد! ولا تضجر. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) ، وصاحب الحوت هو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، نهى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن التشبه بيونس صلى الله عليه وسلم في جزئية، لكن سائر سيرة يونس عليه الصلاة والسلام يتأسى به فيها، كما أن ربنا سبحانه وتعالى نهانا عن التشبه بالخليل إبراهيم في جزئية، لكن سائر سيرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نتأسى به فيها، فإن الله ذكر إبراهيم في طائفة من الأنبياء عليهم السلام، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ، فأمرنا الله أن نقتدي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، لكن ثمّ جزئيات لا يقتدى بهم فيها نُص عليها في كتاب الله، كما في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، قوله لأبيه المشرك: (لأستغفرن لك) ، والاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي: لا يكن لكم أسوة في إبراهيم في قوله لأبيه المشرك: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة:4] . لكن بُيّن السبب في آية أخرى، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] . الشاهد: أن الله قال لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} ، فظاهر الآية الكريمة غير مراد؛ لأنه ليس المعنى: لا تكن كصاحب الحوت وهو ينادي ربه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ، فقد حثنا نبينا صلى الله عليه وسلم إذا وقعنا في كرب أن نقول: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) ، وهي من الدعوات التي ذكر بعض أهل العلم أنها من الدعوات المستجابات، فما المراد -إذاً- بقوله: (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) ، ونبينا يعلمنا نداء ذي النون ويحثنا على أن ندعو بندائه عليه الصلاة والسلام؟ قال كثير من أهل العلم: إن معنى (ولا تكن كصاحب الحوت) : أنه خرج من بلده عن غير إذن ربه، فلا تكن مثله في هذا التصرف الذي ألجأه أن ينادي في الظلمات بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] أي: لا تفعل الفعل الذي آل بيونس إلى أن دعا بهذا الدعاء، لكن إذا وقعت في كرب، فلا مانع أن تقول كما قال يونس، بل هو من الخير أن تقول كما قال يونس صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] ، لا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضباً فخرج من بلدته بغير إذن ربه، فآل به هذا الخروج إلى أن ركب في السفينة وساهم، وكان من المدحضين، والتقمه الحوت وهو مليم، فلا تتشبه بيونس في هذا كله، ولكن إذا وقعت في كربٍ فنادِ كما نادى يونس صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فالآية فيها مقدرٌ محذوف، وهو: لا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضباً وخرج من البلدة بغير إذن ربه، يعني: اصبر يا محمد! على دعوتك لقومك، ولا تضجر من دعوتهم وتفعل كما فعل يونس صلى الله عليه وسلم: بل اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن الرسل بينهم تفاوت في الصبر في الدعوة كذلك، فنوح صلى الله عليه وسلم لبث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً عليه الصلاة والسلام، وقصة يونس عليه السلام فيها دلالة على شيء ذي أهمية وهو أن الهداية ليست بيد أحد؛ لا بيد نبي، ولا بيد شيخ، ولا بيد عالم ولا بيد أي شخص. فعلى ذلك: علينا أن نعلق آمالنا بالله سبحانه وتعالى، لا بشيخ ولا بعالم، بل ولا بأي شخصٍ كائناً من كان، فيونس لما كذبه أهل بلدته وامتنعوا من الإيمان، خرج بغير إذن ربه فآمن أهل القرية كلهم أجمعون، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] ، فهذا المعنى لابد أن يستقر في الأذهان أن الهادي هو الله، وأن الآمال معلقة بالله سبحانه وتعالى، ولذلك فهم هذا خيرُ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو أبو بكر الصديق، لما قال عمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت، إنما هذه مقولات أهل نفاق يقولونها وسيرجع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو بكر: على رسلك، ثم قال: (يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً؛ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإن الله حيٌ لا يموت) ، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] . فلابد أن تتعلق الآمال بالله سبحانه لكشف الضر عن المسلمين جميعاً، أما أن تتعلق الآمال بشخص كائناً من كان، فالشخص مآله إلى زوالٍ، والله أعلم. قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي: مكروب ممتلئ غماً وحزناً لمعصيته لربه وللبلاء الذي حلّ به صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (لولا أن تداركه نعمة من ربه.

تفسير قوله تعالى: (لولا أن تداركه نعمة من ربه.) {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [القلم:49] ، لولا أن الله رحمهُ {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:49] ، فإن قال قائل: كيف يقال: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} ؟ أليس يونس قد نبذ بالعراء؟ الإجابة: بلى قد نبذ يونس صلى الله عليه وسلم بالعراء؛ لأن الله قال: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] ، فإذاً: كيف يجاب على هذا الإشكال؟ {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} ، فالإجابة: أنه نبذ بالعراء، لكنه نبذ بالعراء وهو غير مذموم، فقد تاب الله عليه، فحينئذٍ يندفع الإشكال، فيونس صلى الله عليه وسلم نبذ بالعراء وهو سقيم أي: مريض، لكن وإن كان مريضاً في بدنه فقد غفر الله سبحانه وتعالى له ذنبه، كما قال تعالى: في كتابه الكريم: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87-88] ، فهو قد نبذ بالعراء، لكن نبذ بعد أن تاب الله عز وجل عليه، ولم ينبذ وهو مذموم، ولولا رحمة الله لنبذ بالعراء وتبعه مع هذا النبذ المقت والذم، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (فاجتباه ربه فجعله من الصالحين)

تفسير قوله تعالى: (فاجتباه ربه فجعله من الصالحين) {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:50] ، أي: اختاره ربه سبحانه وتعالى فجعله من الصالحين، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى) ، وهل الضمير في قوله: (أنا خيرٌ من يونس) يرجع إلى العبد؟ أي: لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا -نفسي- خيرٌ من يونس؛ لأن يونس ما صبر وأنا قد صبرت، أم أن الضمير يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سيكون المعنى: لا ينبغي لعبد أن يقول: إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم خيرٌ من يونس بن متى؟ فلكل قولٍ وجه: فالقول الأول: لا ينبغي لعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من نبي الله يونس؛ لأن الأنبياء هم أفضل الخلق، وأعقل الخلق وأكمل الخلق عليهم الصلاة والسلام، وقد يتأيد هذا المعنى بالوارد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ، فقوله: (أنا سيد ولد آدم) يجعل المفسر يقول: لا ينبغي لعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من يونس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلا شك خيرٌ من يونس بن متى، إلا أن بعض العلماء يقول: إن هذا من باب النهي عن التخيير بين الأنبياء على السبيل التي تجلب الشحناء؛ مثال ذلك: لما قال أحد الصحابة: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فقام المسلم إلى اليهودي فصفعه على وجهه، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكى إليه المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذاً بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم أُخذ بصعقة الطور؟!) ، فالشاهد أن لقائل أن يقول: إن قوله (أنا) يرجع إلى العبد، فلا ينبغي للعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من يونس، وإذا نزلناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لعبد أن يقول: إن النبي محمد عليه الصلاة والسلام خيرٌ من يونس، فهذا يحمل على أنه عليه الصلاة والسلام قاله على سبيل التواضع، أو قاله قبل أن يعلم: أنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم. وإلا فأصل تفضيل بعض الأنبياء على بعض وارد في كتاب الله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] ، وقال ربنا سبحانه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] فمن الرسل من هو من أولي العزم، ومنهم من ليس من أولي العزم، والله أعلم، {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] . وفي قصة يونس صلى الله عليه وسلم فوائد منها -وقد تكرر ذكرها مراراً-: أن السيئة -أو حتى الكبيرة- إذا ارتكبها العبد لا تطيش بكل محاسن عمله، بل توضع أيضاً محاسنه في الاعتبار، وقد قدمنا أن موسى صلى الله عليه وسلم قتل نفساً لم يؤمر بقتلها، وألقى الألواح وكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فمع هذا كله، لم يخرجه ذلك عن حيز الوجاهة، فإن الله وصفه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] عليه الصلاة والسلام، وقال الله في شأن أهل الإيمان: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] ، وفيه دليل على أنهم عملوا أعمالاً سيئة، فالشخص لا يؤاخذ بالذنب، فيغطى بهذا الذنب على كل المحاسن: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] . قال الله سبحانه: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} . والناظر إلى سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجد أن كثيراً منهم قد اجتباه ربه بعد معصيته، أو أن بعض الأنبياء اجتباه ربه بعد معصية، فكيف هذا؟ الإجابة: أن المعاصي أحياناً تكسر صاحبها وترده رداً جميلاً إلى الله، فيجتهد في الاستغفار ويجتهد في التوبة، ويجتهد في الإنابة، فالمعصية تحدث له نوعاً من الرجوع إلى الله، ومن حسن العبادة والطاعة، ورب طاعة يأتي بها العبد، وتكون سبباً في إدخاله النار -والعياذ بالله! - إذا أورثته عجباً وفخراً، والله أعلم. آدم صلى الله عليه وسلم أخرج من الجنة كما لا يخفى عليكم، وقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] ، بعد المعصية قال تعالى في شأن آدم: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] ، وها هو يونس: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، وموسى صلى الله عليه وسلم قتل النفس وشاء الله سبحانه وتعالى له أن يكون رسولاً بعدها بسنوات، (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ) أي: اختاره واصطفاه، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) .

تفسير قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم.

تفسير قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم.) {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51] ، هذه الآية تصوّر موقف أهل الكفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تلوت القرآن -يا محمد- ورآك أهل الكفر، نظروا إليك نظرات قاتلة بأبصارهم، وأوشكوا بهذه النظرات أن يسقطوك من على منبرك وأنت تقرأ القرآن، أو يسقطوك من مقامك وأنت تقرأ القرآن: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) ، فالآية أثبتت العين، واتفقت كلمة أهل السنة والجماعة على إثبات أن العين تدخل الرجل القبر وتولج الجمل القدر، فالعين حقٌ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيءٌ سابقاً القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا) ، وفي صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى على جارية لـ أم سلمة سفعة أي: تغيراً وسواداً في وجهها، فسأل ما هذا يا أم سلمة؟ قالت: يا رسول الله! إن بها النظرة، قال: فاسترقوا لها) . وثبت بإسناد صحيح -وتقدم مراراً- (أن النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب إلى أسماء بنت عميس بعد مقتل زوجها جعفر بثلاثة أيام، فرأى أولاد جعفر قد خفتوا وأصبحوا مثل الأفراخ فقال لها: ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله! قال: فاسترقي لهم) . ولا يخفى عليكم قصة سهل بن حنيف لما اغتسل وكان رجلاً أبيض، فمر به عامر بن ربيعة فقال: والله! ما رأيت جلد عذراء كاليوم، فسقط سهل في الحال فقال: أصحابه يا رسول الله! أدرك سهلاً! قال: (من تتهمون؟ قالوا نتهم عامر بن ربيعة، فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: علامَ يحسد أحدكم أخاه! إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدعو له بالبركة، ثم أمر عامر بن ربيعة بأن يتوضأ ويغسل ركبتيه وداخلة إزاره، ثم أخذ الماء فصبه على سهل بن حنيف، فقام: كأنما نشط من عقال) أي: كأنه كان مربوطاً بحبل وفك منه رضي الله تعالى عنه. فكل نصوص الكتاب -ومنها قوله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) - ونصوص السنة -ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العين حق) - تثبت أن العين لها تأثير، وأن تأثيرها لا يكون إلا بإذن الله، شأنها في ذلك شأن أي سببٍ مادي، فأنت إذا رماك شخصٌ برصاصة لا تقتل إلا بإذن الله، وإذا حاول شخص أن يسرقك لم يسرقك إلا بإذن الله، وكذلك إذا نظر إليك شخص لم يستطع أن يصيبك بشيء إلا بإذن الله، شأنها شأن سائر الأشياء المادية، وكون ذلك وكيفيته وطريقته يعلمه الله سبحانه وتعالى. وقد ذكر العرب -بل والمفسرون- في هذا الباب أقوالاً وقصصاً في غاية الطول، لكن فيما ذُكر من كتاب الله وفيما ذُكر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غنى عما سواه، ومما ذكر العرب أن رجلاً من العائنين الذين يصيبون بأعينهم كانت تمر به ناقة فيقول لغلامه: يا بني! اذهب فاشترِ لنا من هذه الناقة، فما هي إلا خطوات حتى تسقط وتنحر ويشتري منها اللحم ويأتي به! فذكروا قصصاً واسعة في هذا الباب لكن ينبغي أن يكون مستندنا دائماً قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن -كما أسلفنا- ذكروا عدة قصص للتوسع في ذلك، والله أعلم. (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) ، والذكر: هو القرآن، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، وليس من الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] ؛ لأن قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي: شرفٌ لك ولقومك، كما قاله. (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) ، ليس ضرباً من الجنون ولا من الأساطير.

تفسير قوله تعالى: (وما هو إلا ذكر للعالمين)

تفسير قوله تعالى: (وما هو إلا ذكر للعالمين) {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم:52] ، (والعالمين) تقدم تفسيرها. فمن العلماء من يقول: إن (العالمين) : الإنس والجن لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] ، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الثقلين: الإنس والجن، ومنهم من قال: ما بين السماوات والأرض، لقوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23-24] . ومنهم من يقول: إن (العالمين) الرجال والنساء، أي: الإنس فقط، لقول لوط عليه الصلاة والسلام: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] ، ولكن مراده هنا والله أعلم على ما فسرته عمومات السنة وعمومات الكتاب أن المراد بالعالمين: الإنس والجن، والله سبحانه وتعالى أعلم، {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .

تفسير قوله تعالى: (الحاقة، ما الحاقة.

تفسير قوله تعالى: (الحاقة، ما الحاقة.) ثم قال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-2] . الحاقة: هي الساعة، ومن العلماء من قال: أطلق على الساعة الحاقة؛ لأنها متحققة الوقوع، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق، والنار حق، والساعة حق) ؛ فمن العلماء من قال الحاقة: هي الساعة، أطلق عليها الحاقة: لتحقق وقوعها، الساعة: هي يوم القيامة. ثم قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3] ، (وما) هنا: للتعظيم، وما أعلمك ما الحاقة؟ وذلك لتعظيم شأنها، وقد قال فريقٌ من أهل العلم: إن كل ما كان فيه: (وما أدراك) قد أعلمه الله به، ولكن كل ما كان فيه (وما يدريك) لم يُعلمه الله سبحانه وتعالى به، فالله قال لنبيه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63] ، فالله لم يُعلم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ لكن في الحاقة قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} ، قد بين له الأهوال التي تحدث في هذه الحاقة، كقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين:8] ، بين لهم ما هي (سجين) والله أعلم. (الْحَاقَّةُ) ، اسم من أسماء القيامة أيضاً، (مَا الْحَاقَّةُ) ، لتعظيم شأنها، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} .

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة.

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة.) قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:4] ، كذبت ثمود، وهي قبيلة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم، وعادٌ وهي قبيلة نبي الله هود صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5] ، ما هي هذه الطاغية؟ الطاغية: قال بعض أهل العلم: هي صيحة شديدة، والطاغي: هو الزائد عن الحد، والرجل الطاغي أو الطاغية هو الذي تجاوز الحد في الظلم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] ، والطاغوت: هو متجاوز الحد في الظلم. {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] ، أي: تجاوز الحد في الظلم. قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:4-5] ، ما هي هذه الطاغية؟ قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23] ، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:31] ، فالطاغية: هي الصيحة. قال بعض العلماء: طغت على الخُزَّان، فقالوا: إن كل شيءٍ يأتي من عند الله سبحانه وتعالى بقدر، قطرة الماء التي تنزل من السماء تنزيل بقدر، الرياح التي تسير، تسير بقدر، لكن الريح التي سلطت على قوم عاد، أو الصحية التي سلطت على قوم ثمود، والطوفان الذي سلط على قوم نوح طغى وعتى على الخزان، الريح التي أرسلت على عاد عاتية، عتت على خزانها، يعني: لم يستطع الخزان التحكم فيها ولا تقدير مقدارها، إنما عتت عليهم فلم يستطيعوا حصرها ولا ضبطها، وكذلك ما فعل بقوم نوح صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} ، أي: الصيحة الشديدة، التي طغت وزادت عن الحد. {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6] ، (بريح صرصر) والصرصر من العلماء من قال: هي الريح شديدة الصوت، ومنهم من قال: شديدة البرد، ومنهم من جمع وقال: شديدة الصوت شديدة البرد. (بريح صرصر) قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: (نصرت بالصبا -أي: بريح الصبا يوم الخندق- وأهلكت عادٌ بالدبور) ، أي: الريح التي سلطت على عاد، وصفت هذه الريح في آيات أخر بأنها ريح عقيم، فالريح منها: ريح مبشرات، ومنها لواقح كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] ، أي: تلقح وينتفع بها، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح يقول: رب أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فالريح قد يكون فيها نوع خير، وقد يكون فيها نوع شر. أما الريح التي سلطت على عاد، فلم يكن فيها أي نوع من أنواع الخير، بل وصفها الله بأنها ريح عقيم لا تلد أي: لا تلد أي خير، ولا يتولد منها أي خير، بل كل المتولد منها شرٌ محض والعياذ بالله. قال تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ) ، وهي تلك القبيلة التي أمدها الله بطول في الأجسام وسلامةً في الأبدان ونعمة في الأوطان، حتى تباهوا على سائر الخلق وقالوا: (من أشد منا قوة) ! وكانوا طوالاً كأمثال النخيل، كما قال جمهور المفسرين، فسلطت عليهم الريح العقيم، قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة:5-6] ، شديدة الصوت شديدة البرد، (عَاتِيَةٍ) ، أي: عتت على خُزَّانها، ولم يستطع الخزان من الملائكة ضبطها ولا التحكم فيها، بل زادت عليهم. {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7] . (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ) ، هذه الآية مستند لمن قال بالتفريق بين اليوم والليلة، وقال: إن اليوم يبدأ من الفجر إلى المغرب، والليلة تبدأ من المغرب إلى الفجر، وفي الحقيقة إن هذه من المسائل التي قد يتناول فيها اللفظ معنى لفظ آخر، وللسيوطي كتاب سماه (الشماريخ في معرفة الأيام والتواريخ) ونقل أنه أحياناً تأتي كلمة (اليوم) ويراد بها النهار فقط من الفجر إلى غروب الشمس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تستطيع أن تصوم ستين يوماً؟) ، وبلا شك أن المراد بـ (اليوم) هنا النهار فقط. وأحياناً تأتي كلمة (اليوم) ويدخل في ضمنها الليلة، مثلاً: إذا قلت: مُرّ عليَّ بعد عشرة أيام، فالليلة تدخل مع هذه الأيام. {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} ، و (الحسوم) من العلماء من قال: إنها المتتابعة، فالريح عادة تهب وتسكن، لكن الريح التي سلّطت على قوم عاد ريح متصلة متتابعة حسمت مادتهم، كما تقول: فلان حسم الأمر أي: قطع الأمر وأنهاه، فهذه الريح حسمت أمرهم واستأصلتهم بكاملهم وأبادتهم عن آخرهم فانتهى أمرهم، فـ (حسوماً) على رأي كثير من العلماء معناها متتابعة. ومنهم من قال: إنها من الحسم، ومنه: حسم يد السارق التي قطعت في الزيت، وذلك أنها إذا قطعت يد السارق يحسم باقي الذراع في الزيت المغلي حتى يقف الدم، فالحسم يطلق على القطع، فالريح كانت متتابعة، وكانت أيضاً حسوماً، أي: متصلة لا تفتر ولا تسكن لحظة واحدة. {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} [الحاقة:7] ، أي: هلكى، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} [الحاقة:7] ، أي: أصول نخل، {خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] ، أي: فارغة. يعني: من شدة الريح قطعتهم فأصبحوا كأعجاز النخل المقطوع أعلاها وبقي أسفلها مفرغاً من الداخل، إذ أن الريح أتت وفرغتهم من الداخل فأصبحوا كأعجاز النخل -لطولهم- خاوية فارغة من الداخل. فانظر إلى هذا المنظر من الإبادة، ريح تستأصل وتدخل على ما بداخل الأبدان فتقتلعه اقتلاعاً حتى أصبحت أبدانهم كأعجاز النخل الخاوية. {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8] ، فهل ترى لهم الآن -يا محمد- من باقية؟

تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة)

تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة) {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ} [الحاقة:9] ، جاء فرعون بعد هؤلاء، {وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة:9] ، أي: من جاءوا قبله، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} [الحاقة:9] ، وهي مدائن قوم لوط، فالمراد أصحاب المؤتفكات، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] ، فالمؤتفكات: هي مدائن قوم لوط، فقال الله سبحانه: ((وَجَاءَ)) ، أي: بعد عاد وثمود، (فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) ، كل هؤلاء جاءوا بالخاطئة، وما هي الخاطئة؟ من العلماء من قال: هي الذنب العظيم وهو الشرك. ومنهم من قال: إن الخاطئة راجعة إلى فعل المؤتفكات وهي كبيرة فعل قوم لوط. جاء فرعون ومن قبله بالذنوب الكبار والعظائم (والمؤتفكات) أتت بالخاطئة، وهي الذنب القبيح الذي هو اللواط.

تفسير قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية)

تفسير قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية) {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} ، من هو رسول ربهم؟ كلٌ عصى رسول ربه الذي أرسل إليه، فالمؤتفكات عصت لوطاً عليه السلام، وفرعون عصى موسى صلى الله عليه وسلم، فكل قوم عصوا نبيهم. {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} ، لماذا لم يقل: (فعصوا رسل ربهم) ؟ من أهل العلم من قال: إن عصيان الرسول الواحد عصيانٌ لكل الرسل، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] ، وهم إنما كذبوا هوداً فقط، فمن كذب هوداً فقد كذب كل المرسلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى) ، يعني: أبونا واحد وهو أصل التوحيد، وأمهاتنا أي: شرائعنا متعددة متنوعة، فمن كذب رسولاً في دعوته إلى التوحيد فقد كذب كل من دعا إلى التوحيد، فكل الرسل قالوا: (لا إله إلا الله) ، فإذا جاء نبيٌ وقال: لا إله إلا الله وكذبه قومه، فهم بذلك يكونون قد كذبوا كل المرسلين. قال الله سبحانه وتعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:10] ، والرابي: هو الشديد. فقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} ، الرابية الشديدة الزائدة، وذلك من قوله: ربا الشيء إذا زاد، ومنه الربا: الذي هو الزيادة، ومنه حديث أبي بكر في قصة الأضياف: فما أكلنا لقمة إلا وربى أسفلها أكثر منها. {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} ، أي: أخذة شديدة زائدة عن الحد. في قوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ} ، معادلة ثابتة تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16] ، {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ} ، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112] ، {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق:8] ، وهذه سنن كونية ومعادلات وثوابت لا تتغير أبداً، وهي أن العصيان يجلب الانتقام، والطاعة تجلب الرحمة والرضوان، معادلات لا تتبدل أبداً وإن تأخر تحقق وقوع هذه المعادلات فهي واقعة بلا شك وبلا ريب، وعليك أن تمعن النظر فيها وتعرف أنها سنن لله في الخلق لا تتبدل، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] ، هذه أصول ثابتة في كتاب الله، فلا تخدع من قبل إبليس، وتظن أنك ستفعل السيئات، وتجازى بالحسنات، فإن الله سبحانه ذكر قوماً على هذا المنوال فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:169-170] . فاعلم تمام العلم، وأيقن تمام اليقين أن الطاعات تجلب رحمة الله وتجلب مغفرة الذنوب، وتجلب سعةً في الأرزاق وهدوءاً في البال وعافية في البدن، وأن المعاصي على العكس تماماً، تزيل النعم وتدمر البدن، وتوجد كل القلاقل والهموم والاضطرابات، لأن سنة الله سبحانه وتعالى لا تتخلف ولا تتبدل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] .

تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)

تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية) قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] . أي: ازداد الماء، وذلك في الطوفان الذي أرسل على قوم نوح، (حملناكم) أي: حملنا آباءكم، فبحملنا لآبائكم جئتم أنتم، وإلا لو كان الآباء قد أهلكوا لم تأتوا أنتم من الأصل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [الأعراف:11] ، أي: صورنا أباكم آدم، وكما قال تعالى لبني إسرائيل: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [الأعراف:141] ، والخطاب لبني إسرائيل من سكان المدينة النبوية، وهم لم يروا فرعون من الأصل، لكن قوله تعالى: (أنجيناكم) أي: أنجينا آباءكم، ففي إنجاء الآباء إنجاء للأبناء، فالله يمتن على الناس بقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، الله سبحانه وتعالى في أوائل السورة ذكر ثمود وما حل بهم صراحة، ثم ذكر عاداً وما حل بهم صراحة، ثم فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة (فعصوا فأخذهم أخذة رابية) صراحةً، لكن عرج على قوم نوح وعلى هلاك قوم نوح ببيان فضله عليكم: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، أي: وأهلكنا أيضاً أعداءكم وأعداء آبائكم، فهو نوع امتنان مع ما فيه من إشارة إلى إهلاك الأعداء، ففي هذا النظم القرآني الكريم -أولاً- بيان نعمة الله سبحانه وتعالى من وجهين: الوجه الأول: إنجاء هؤلاء الموجودين، وذلك تم بإنجائنا لآبائهم. والوجه الثاني: إغراق العدو، ألم يقل الله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف:133] ؟ ! إلى غير ذلك، لكنه أتى بهذا السياق لتضمنه المعنيين، تضمن إهلاكاً وإنعاماً، فلذلك عرج إلى هذا السياق والله أعلم. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، أنجيناكم وأهلكنا أعداءكم.

تفسير قوله تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية)

تفسير قوله تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا} [الحاقة:12] ، أي: تحفظها {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة:12] ، وقد ورد في إسناد ضعيف من طريق الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد مرسل من مراسيل الحسن -إذا سلم السند حتى إلى الحسن - ومراسيل الحسن من أضعف المراسيل: (أن النبي تلا هذه الآية الكريمة: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ، قال: هي أذنك يا علي) . فصحيح أن أذن علي رضي الله عنه أذن واعية، وعلي من الذين يفهمون وهو أقضى الصحابة -أي: أعلم الصحابة بالقضاء- قاله عمر كما في البخاري: (أقضانا علي) . ولكن حصر الأذن الواعية على علي فقط بهذا السند الضعيف التالف، فالسند ضعيفٌ وتالف وأظنه من وضع الشيعة، فالشيعة أكثروا من وضع الأحاديث في فضل علي، وفي فضل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث: (أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى) إلى غير ذلك. قال تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم.

الأسئلة

الأسئلة

الكلام على حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن زان اعترف لأنه تاب

الكلام على حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن زان اعترف لأنه تاب Q حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كاد أن يقيم الحد على رجل بريء، ثم اعترف المذنب، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً حسناً، ولم يقم عليه الحد، وأقامه على ماعز رغم أن النبي قد بين توبته، فكيف يجمع بين الحديثين؟! A من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال: (خرجت امرأةٌ إلى الصلاة فلقيها رجل فتجللها بثيابه فقضى حاجته منها وذهب، وانتهى إليها رجل فقالت له: إن الرجل فعل بي كذا وكذا، فذهب الرجل في طلبه، فانتهى إليها قوم من الأنصار، فقالت لهم: إن رجلاً فعل بي كذا وكذا فذهبوا في طلبه، فجاءوا بالرجل الذي ذهب في طلب الرجل الذي وقع عليها فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هو هذا، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه قال الذي وقع عليها: يا رسول الله! أنا هو، فقال للمرأة: اذهبي فقد غفر الله لك، وقال للرجل قولاً حسنا، فقيل: يا نبي الله! ألا ترجمه؟ فقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم) ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم: أقام الحد على ماعز. الحديث الأول الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق الأول وبرأه، وقال له قولاً حسناً، وقال للثاني: لقد تاب توبةً لو تابها أهل المدينة لقبل منهم. فكيف يترك الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على رجلٍ قد اعترف، مع أنه أقام الحد على ماعز؟ أما وجه إقامة الحد على ماعز فلا إشكال فيه؛ لأن ماعزاً اعترف فأقيم عليه الحد، لكن الإشكال الوارد في قصة هذا الرجل الذي وقع على المرأة. فمن العلماء من تكلم في هذا الحديث من ناحية معناه. ومنهم من يتساهل مفترضاً ثبوته. فالذين يتكلمون فيه من ناحية معناه يقولون: إن الحد لا يقام إلا بأحد ثلاثة أشياء، إما بالاعتراف وإما الشهود، وفي حق المرأة يزيد: الحبل، كما قال أمير المؤمنين عمر: فإن الرجم حق في كتاب الله، إذا كان الحبل أو الاعتراف أو الشهود. فالرجل ليس الحبل في حقه، فبقي في حقه شيئان فقط: إما الاعتراف وإما الشهود، فالرجل ليس في الحديث: أنه اعترف، وليس هناك شهود رأوه؛ لأن الرؤية لابد أن تكون صريحة وبضوابط، أما لو قال شخص: رأيت رجلاً وامرأة في غرفة مغلقاً عليهما، أو لقيت رجلاً وامرأة نائمين في لحاف وهما عريانيين، كل هذه ليست قرينة ولا تعتبر شهادة في إثبات الزنا، فالشهود لم يروا شيئاً من هذا، فهذا وجه الخلل أو الاستدراك على متن هذا الحديث من ناحيتين: أولاً: لم يثبت أن الرجل اعترف. ثانياً: لم يثبت من طريق الشهود أنه زنى، فهذان وجهان. الوجه الثالث: أيضاً تبرئة الرسول له، وترك الرسول إقامة الحد عليه، فمن العلماء من تكلم فيه من هذا الوجه، لكن على فرض ثبوت الحديث سنداً ومتناً كيف يجاب على الإشكال؟ فيجاب بأن هذا صورة مستثناة، استثناها النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً للمسلمين لقرينة بدت منه، فيكون هذا من الصور المستثناة التي لا تعمم بها الأحكام، والله أعلم، لكن في المتن وجه إشكال هذه صورته، وأيضاً نعرف أن من أهل العلم المعاصرين من حسن هذا الحديث، لكن لنا معه إن شاء الله وقفات ووقفات في مرةً قادمة بمشيئة الله.

حكم إفطار الصائم قضاء قبل الغروب

حكم إفطار الصائم قضاء قبل الغروب Q نويت الصيام قضاءً عن يوم أفطرته في رمضان، وفي أثناء صيام القضاء أفطرت في منتصف اليوم بدون عذر شرعي، فهل عليّ شيء مع أنني نويت صيامه في يوم آخر؟ A لا شيء عليك، حرمة رمضان ليست كحرمة غيره، وما عليك إلا أن تقضي صيام اليوم الذي أفطرته من رمضان في يوم آخر.

حكم مخالفة الكفار

حكم مخالفة الكفار Q هل مخالفة الكفار واجبة؟ A مخالفة الكفار في دينهم واجبة، أما في دنياهم فالكفار لهم في دنياهم أمور سبقوا المسلمين فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بعض أسلحة الكفار، وعمل ببعض المشورات الدفاعية وإن كانت من فعل الكفار، وقد ذكر فريق من العلماء: إن أصل حفر الخندق كخطة حربية لم يؤخذ من المسلمين، وإنما كانت من فعل الفرس، حتى إن المشركين لما أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق قالوا: هذا شيءٌ لم تعرفه العرب، فالمراد بمخالفة الكفار مخالفتهم فيما كان من أمور الدين، والله أعلم.

حكم زواج رجل بامرأة وقد زنى بأمها

حكم زواج رجل بامرأة وقد زنى بأمها Q رجل زنى بأم زوجته قبل أن يبني بها فما الحكم؟ A هذه المسألة من المسائل المختلف فيها بين العلماء وإجمالاً من العلماء من يقول: إن الحرام لا يحرم الحلال، فالزواج صحيح، لكنه يمنع من باب آخر وهو أن زواجه بالبنت سيؤدي إلى تسهيل الزنا بالأم، فحينئذٍ يفتي كثير من أهل العلم بالطلاق سداً للذريعة الموصلة إلى الفاحشة مرة ثانية، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله.

يأتي لفظ (الريح) للشر، و (الرياح) للخير لكن لا يطرد

يأتي لفظ (الريح) للشر، و (الرياح) للخير لكن لا يطرد السؤال الأول: هل هناك دليل على أن الريح تطلق على الشر، وأن الرياح تطلق على الخير؟ A هناك من الآيات ما يمكن أن يستنبط ذلك منها: قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] ، وقوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:41] . أما الرياح فقد قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم:46] ، وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] ، أما كون هذا لا يطرد، فلقول النبي صلى الله عليه وسلم في الريح: (رب أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما فيها ومن شر ما أرسلت به) .

حال حديث (إذا رأى أحدكم من أهله أو ماله شيئا يعجبه فليقل.

حال حديث (إذا رأى أحدكم من أهله أو ماله شيئاً يعجبه فليقل.) Q حديث: (إذا رأى أحدكم من أخيه شيئاً فأعجبه فليدع له بالبركة) ، (إذا رأى أحدكم من أهله أو ماله شيئاً فأعجبه فليقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله) ؟ A الأخير في إسناده ضعف.

حقوق المرأة على الرجل إذا طلقها

حقوق المرأة على الرجل إذا طلقها Q ما هي حقوق المرأة المطلقة على زوجها؟ A {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] ، وفي الآية الأخرى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] . فالمطلقة فيها تفصيل: إن كانت مطلقة قبل الدخول، أي: قبل أن يبني بها الزوج فلها نصف صداق، وإن كانت مطلقة بعد البناء بها، فلها الصداق كاملاً، ولها نفقة العدة ولها أن تسكن في بيت الزوجية، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] . أما إذا كانت هي التطليقة الثالثة، فالمطلقة ثلاثاً على رأي الجمهور: لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس في صحيح مسلم.

تفسير سورة الحاقة [2]

تفسير سورة الحاقة [2] إن المتأمل لآيات القرآن الكريم يجد أنها تدور على ثلاثة أمور: عقائد، وأحكام، وقصص وأخبار، والقصص والأخبار فيها العظة والعبرة، والترغيب والترهيب، وفي سورة الحاقة يقص الله سبحانه وتعالى علينا قصة فرعون ومن قبله من المؤتفكات، وقصة قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الأمم الغابرة؛ لنعتبر ونرتدع عما كانوا يعملون، حتى لا يكون مصيرنا كمصيرهم.

تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة)

تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:9-10] . قوله تعالى: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) أي: وجاء (فرعون) وجاء من قبله، وفرعون علم لكل من حكم مصر من الجبابرة، فكل من حكم مصر من الجبابرة يقال له: فرعون، كما أن كل من حكم الروم يسمى: (قيصر) ، وكل من حكم الفرس يسمى: (كسرى) ، وكل من حكم الهند يسمى: (بطليموس) ، وكل من حكم اليمن يسمى: (تبع) ، وكل من حكم الحبشة يسمى: (النجاشي) ، والنجاشي الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه: أصحمة. فقوله تعالى: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ) ، المراد به هنا: (فرعون موسى، أي: فرعون الذي أرسل إليه نبي الله موسى) صلى الله عليه وسلم. جاء فرعون وجاء أيضاً من قبله، وجاء فرعون وجاءت أيضاً المؤتفكات. والمؤتفكات: هي مدائن قوم لوط، وقد قال الله في شأنها: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] ، فجاء فرعون وجاء جبابرة آخرون قبله، وجاءت أيضاً المؤتفكات بالخاطئة. ما هي الخاطئة؟ هي الفعلة الخاطئة. وما هي الفعلة الخاطئة؟ قال فريق من أهل العلم: إنها الشرك. وفريق منهم: أرجعها إلى قوم لوط وهي الكبيرة التي كانوا يأتونها، وهي: إتيان الرجال، كما قال تعالى في كتابه الكريم: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] . والخاطئة أعم من أن يقال: إنها الشرك، فتشمل الصغيرة والكبيرة، وتشمل كل ذنب، لكن المراد بالخاطئة هنا: الشرك، أو الكبيرة المذكورة بالنسبة لقوم لوط.

تفسير قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم.

تفسير قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم.) {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة:10] إن من عصى رسولاً فقد عصى الرسل جميعاً، ففرعون لما عصى موسى عليه الصلاة والسلام فيما يدعوه إليه من توحيد الله سبحانه، كان قد عصى المرسلين جميعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى) (ديننا واحد) وهو التوحيد، (وأمهاتنا) أي: شرئعنا، (شتى) أي: شرائعنا متعددة ومتنوعة، كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146] ، وكما قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93] ، وكما قال تعالى في شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أمته: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، فالشرائع متعددة، لكن أصل الدين واحد وهو التوحيد، فمن كذب رسولاً في أصل الدين فقد كذب المرسلين جميعاً. ومن هنا قال الله سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] ، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] ، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176] وهكذا. فقوله تعالى: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) ، تنزل على كل فئة من الفئات المذكورة التي عصت رسول ربها، فيكون للإفراد وجهٌ حينئذٍ، أو يقال: إن من عصى رسولاً فقد عصى الرسل جميعاً، ولا إشكال حينئذٍ من الأفراد. {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} ، أي: عالية شديدة. والرابي: هو العالي، قال تعالى: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد:17] ، وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ} [الروم:39] ، أي: ليزداد {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم:39] ، (إذا أنفق أحدكم صدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه فيربيها) ، أي: يزيدها.

تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)

تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية) {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة:11] ، أي: ازداد الماء، وهذا الطغيان من الماء في زمن نوح صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في كتابه الكريم في شأن قوم نوح: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف:133] ، والطوفان ذُكر في سورة هود وفي غيرها من السور. قال الله سبحانه وتعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11-12] . فقوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ} ، أي: حملنا آباءكم، فحمل الآباء، والإنعام على الآباء يعد إنعاماً على الأبناء، ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11] ، (خلقناكم) أي: خلقنا آدم، (ثم صورناكم) صورنا آدم أيضاً (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) ، وقال تعالى لبني إسرائيل من سكان مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [الأعراف:141] ، وهم من وراء فرعون، والله إنما أنجى أجدادهم، فإنجاء الآباء وإنجاء الأجداد يعتبر إنجاء للأبناء.

تفسير قوله تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية)

تفسير قوله تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة:12-13] ، وهي المذكورة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وانتظر متى يؤمر) وفي رواية (متى يؤذن له) . ((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) ، قد ورد أولاً: قول الجمهور أن المراد بالصور: قرنٌ ينفخ فيه، وقد ورد هذا المعنى في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهو أن الصور: قرنٌ ينفخ فيه. ومن العلماء من قال (الصور) : هم بنو آدم، وهذا القول مأثور عن قتادة، يعني: نفخت أرواح بني آدم في بني آدم فأحيا الله الخلق. قال قتادة رحمه الله: (الصور) الخلق، هذا قول، لكن القول الذي عليه الأكثرون، أن المراد بالصور: قرنٌ ينفخ فيه. قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} ، فأمر الله يتم كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] ، ليس هناك تكرار: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ، {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69] ، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود:44] ، كلمات واحدة تتم بها أقدار الله سبحانه وتعالى، وقضاء الله يتم بالكلمة الواحدة، {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] .

تفسير قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال فدكتا.

تفسير قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال فدكتا.) قال تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14] ، من الذي حملها؟ قال كثيرٌ من أهل العلم، الذين حملوها: هم الملائكة. وقال البعض: نجري الآية على ظاهرها، وهو البناء للمجهول، (حُملت) فالله أعلم من الذي يحملها، هل ربنا سبحانه هو الذي يحملها، أو هل الملائكة هم الذين يحملونها؟ الله سبحانه أعلم. {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:14-15] ، وكما قال في الآية الأخرى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ، وقد ورد في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن حبراً من أحبار اليهود أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! -أو يا أبا القاسم! -: أما بلغك أن الله يضع السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع، والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم -قال ابن مسعود: تصديقاً لخبر الحبر-) . فقوله تعالى: (وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ) ، أي: كأنها ارتفعت عن أماكنه:، (فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) .

تفسير قوله تعالى: (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية)

تفسير قوله تعالى: (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16] ، أي ضعيفة، فهي الآن محكمة محبوكة قوية، كما قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] ، والشيء المحبوك: هو المشدود بعضه إلى بعض بقوة، كما تقول مثلاً في أمور الدنيا، لمن يخيط النعل: احبك الخياطة، أو احبك الثوب، فالحبك: الشدة، ومنه قول القائل للآخر: أنت (محبّكها) يعني: متشدد فيها، لا تريد أن تترك متنفساً ما. أما يوم القيامة فالله سبحانه وتعالى يقول في شأن السماء: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ، ضعيفة متفتتة. قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:17] ، السماء تشققت وتساقطت، والملائكة الذين كانوا فوقها، أصبحوا على أرجائها، والأرجاء: هي القطع والنواحي، فالملائكة الذين كانوا فوقها، لما تشققت نزلوا ووقفوا على قطع السماء المتشققة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صححه بعض أهل العلم: (أطتّ السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع شبر إلا وعليه ملكٌ قائم أو راكع أو ساجد) ، أين يذهب هؤلاء الملائكة بعد أن تشقق السماء؟ يقفون على قطع السماء المتفرقة، (والملك) المراد بهم الملائكة، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22] ، أي: الملائكة، {صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، دليل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] ، فهي تفسير لقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، أي: صفوفاً صفوفاً.

تفسير قوله تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية)

تفسير قوله تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، ثمانية ماذا؟ هل هم ثمانية من الملائكة أو ثمانية صفوف من الملائكة؟ قولان للعلماء: كثير من العلماء يقول في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أن المراد بالثمانية: ثمانية من الملائكة، وليس ثمانية صفوف، قال: وهم في الحياة الدنيا أربعة، وهذا قول الجمهور، وأيدوا قولهم هذا بشعر عزوه إلى أمية بن أبي الصلت وقد جاء في بعض الأسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره بقوله: (صدق) ، لكن نحتاج إلى مزيد من النظر فيه، ألا وهو: رَجُلٌ وثورٌ تحت رِجْلِ يَمِينه والنَّسْرُ للأُخرى وليثٌ مُرْصَدُ فقول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأبيات: (صدق أمية) ، قالوا: إن أربعة من الملائكة هم حملة العرش، أحدهم وجهه وجه أسد، والآخر وجهه وجه ثور، والثالث وجهه وجه رجل، والرابع وجهه وجه نسر، والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وهذا متوقف على صحة هذا الخبر، فلم يسعنا الوقت للتحقيق ألا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق) ، لـ أمية بن أبي الصلت لما قال هذا البيت أمام النبي صلى الله عليه وسلم ضمن أبيات أخر. فقال فريقٌ من العلماء: إن حملة العرش الآن أربعة ويتضاعف عددهم يوم القيامة إلى ثمانية، هذا أحد أشهر الأقوال في تفسير هذه الآيات، قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش قد ضربت رجلاه في الأرض. أو ما بين منكبيه -كما في معنى الحديث- مسيرة خمسمائة عام) ، وهذا الحديث حسنه بعض أهل العلم، والله تعالى أعلم. قال الله سبحانه وتعالى أعلم: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، وما المراد بالعرش؟ من العلماء من قال: إن المراد بالعرش سرير الملك، وهذا وارد في تفسير قوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:41] .

تفسير قوله تعالى: (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية)

تفسير قوله تعالى: (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] ، تعرضون أيها الخلق أجمعون، أنتم ومن سبق ومن سيأتي، فكلكم ستعرضون. هل المراد بقوله: {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} ، أي: لا تخفى منكم نفسٌ فكل الأنفس تحضر ولا مهرب ولا ملجأ من الله إلا إليه؟ أم أن المراد: (لا تخفى منكم خافية) أي: لا يخفى من أعمالكم عمل؟ قال بعض أهل العلم: والقول بالجمع ممكن، فيقال: إن كل الخلق يحضرون في هذا الموقف، هم وأعمالهم، ولا يخفى من ذلك كله شيءٌ على الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه.

تفسير قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه.) قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] ، ينادي في الناس فرحاً مسروراً، بقوله: (هاؤم) أي: تعالوا اقرءوا كتابي، فهي لحظة فوز ونجاح، ولا نجاح أكبر منه، فينادي على الناس قائلاً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} . وفي الآية الأخرى: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:9] ، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ، (ظننت) أي: أيقنت، فالظن هنا بمعنى اليقين، والظن يأتي بمعنى اليقين في جملة مواطن، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ} [البقرة:249] ، فـ (يظنون) هنا: أي يتيقنون أنهم ملاقو الله. فلو كان الظن على الشك لكفروا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال عن قوم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] . إذاً: الظن يأتي بمعنى اليقين، ويأتي بمعنى الشك، ويأتي بمعنى الكذب، والله تعالى أعلم. لكن يستفاد ويؤخذ المعنى من القرائن المحيطة بالآية أو بالحديث، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} ، فيه فضل اليد اليمنى، وهل لليد اليمنى فضل؟ ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يمس ذكره بيمينه، ونهاه أن يستنجي بيمينه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ باليمين ويعطي باليمين ويقول: (لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها) ، فمن شعائر المسلمين: الأخذ باليمين، والإعطاء باليمين، والأكل باليمين، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله، وترجله، وفي طهوره، وفي شأنه كله، فلليمين فضل، ومن ثم جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لما خلق الخلق قبض قبضتين، وقال: يا آدم! اختر أيتهما شئت، فقال: قد اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة) ، فاليمين فيها فضل، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أصحاب اليمين المتلقفين كتبهم بأيمانهم. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ} ، أي: يناديهم. (هاؤم) تعالوا (اقرءوا كتابيه) وهذا هو الفرح، وليس كفرح الدنيا، تعال انظر إلى شهادتي كم درجتي في مادة الإنجليزي والكيمياء، فهذا يوم القيامة لا قيمة له على الإطلاق، فقد تجد رجلاً كادحاً فلاحاً تقياً يرتفع إلى أعلى عليين، وملكاً من الملوك ينزل في أسفل سافلين، وهذه أمورٌ يدبرها الله، وكما وصف القيامة بأنها (خافضة رافعة) . {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ} [الحاقة:19-20] ، أي: تأكدت وأيقنت، لم أكن أعمل الأعمال هكذا فقط، بل كنت أعمل العمل وأنا موقن أن الله سبحانه وتعالى سيجازيني به: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ، علمت وأيقنت أن هناك بعثاً، وأن هناك جزاء وثواباً، وأن هناك عقاباً.

تفسير قوله تعالى: (فهو في عيشة راضية)

تفسير قوله تعالى: (فهو في عيشة راضية) {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] ، من العلماء من قال: راضية بمعنى: مرضية، أي: قد رضيها صاحبها، كما قال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] ، فدافق بمعنى: مدفوق، وراضية: بمعنى مرضية، كما قال بعض المفسرين. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ، رضي عن عيشته التي رزقه الله إياها، ولم يتسخطها، ولم يملها ولم يتضجرها، ثم جاء تفسير هذه العيشة الراضية بقوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:22] ، (عالية المنازل) ، فهي عالية في نفسها، ثم بين أهلها تفاوتات في الدرجات، فمنها درجات علا، ومنها دون ذلك. أما كونها عالية فهي حتى في الحياة الدنيا في السماء السابعة وبعد السماء السابعة، كما في حديث المعراج: (أنه بعد منتهاه إلى السماء السابعة وجد سدرة المنتهى) ، والله يقول: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:14-15] ، فالجنان في السماء السابعة، والنيران في أسفل سافلين: (بينما رجلٌ يمشي قد أعجبته نفسه إذ خسف به إلى سبع أراضين) . وفي الحديث: (يتجلجل في نار جهنم) ، أما الدليل على وجود تفاوتات بين درجاتها، فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء لتفاضل ما بينهم، قيل: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها أحدٌ غيرهم؟ قال: كلا والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) . قال الله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} ، عالية المكان، وعالية المقام. {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:22-23] ، أي: متدلية قريبة من المحتاج إليها، تدنو القطوف والثمار ممن يريد تناولها، كما قال كثيرٌ من أهل التفسير: إذا رأيت شيئاً أو إذا اشتهيت شيئاً تدلى لك هذا الشيء، وتدلى ثمره أمامك، فلا تتكلف في قطفه، بل تجده أمامك. {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ، أي: قريبة متدلية.

تفسير قوله تعالى: (كلوا واشربوا.

تفسير قوله تعالى: (كلوا واشربوا.) {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ} [الحاقة:24] ، أي: عملتم، {فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ، أي: الأيام الماضية، فالخالية: هي الماضية أي: في الحياة الدنيا، ومن تفسير (الخالية) بالماضية: قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] ، ومنه قول الرجل المكذب العاق لوالديه: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف:17] ، فالخالية: الماضية والسالفة والسابقة، والمراد بها: الحياة الدنيا: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] .

تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بشماله.

تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بشماله.) قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25] ، وفي الآية الأخرى: {وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] ، والجمع ممكن بأن يقال: يؤتاه بالشمال من وراء الظهر، يعني: يأخذ الكتاب باليد اليسرى من وراء الظهر -عياذاً بالله- فهو منظرٌ مخز مزر حينما يتناول الكتاب بالشمال من وراء الظهر، وفي الحقيقة أن هذا موقف من المواقف الحرجة أيما حرج في الآخرة، ومن مواقف الآخرة؛ الوقوف على الصراط وقت المرور عليه، وعند وزن الأعمال، وعند أخذ الكتاب، فكلها مواقف يحل بالعبد فيها من البلاء والكرب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ} ، متحسراً متأسفاً متندماً ولات مندم، {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25-27] ، يا ليت الموتة الأولى التي متها كانت هي النهاية: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، هكذا يقول، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] ، وتخيل في الحياة الدنيا شاباً في الثانوية، يظن أنه ذاكر جيداً وأجاب صواباً، وذهب ليأخذ النتيجة فوجد نفسه قد رسب رسوباً مخزياً، فيأتي وعلى وجهه الخزي والعار، فما بالك بالخسران المبين الذي لا يستدرك والعياذ بالله تعالى، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:25-28] ، لا مال، ولا ولد، ولا منصب، ولا جاه، ولا رئاسة، ولا وزارة، ولا غير ذلك: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] ، ذهب منصبي وجاهي، ذهبت عني الرياسات واضمحلت. ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالسلطان هنا: (الحجة) أي: ذهبت حجتي، فلا أستطيع أن أدلي بأي حجة، ولا أن أدلي بأي اعتذار.

تفسير قوله تعالى: (خذوه فغلوه.

تفسير قوله تعالى: (خذوه فغلوه.) قال تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] ، أي: اجعلوه في الغل، والغل كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] والأغلال تكون في الأعناق حلق في الرقاب، {وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71] ، منظرٌ مخز، في رقبته أطواق الحديد وسلسلة يسحب بها، وهو مطرح على وجهه ويسحب بسلسلة الحديد، وليست مربوطة في يديه بل مربوطة في رقبته، فهو مقمح أيضاً كما وصفه الله سبحانه وتعالى في سورة يس، فالأيدي في الأعناق، وارتفعت الأعناق عن الأيدي، وضمت إلى الرقاب بحلق، فلما ضمت إلى الرقاب، وصل الغل الذي في العنق إلى الذقن، قال تعالى: {إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8] ، فالطوق الذي في الرقبة طوقٌ كبير، بحيث أنه بلغ إلى الذقن، فإذا جاء ينزل ذقنه إلى أسفل يجد الحديد يمنعه، فيشخص ببصره دائماً إلى أعلى، وقد قيدت اليدان إلى الرقبة، ومع ذلك هناك سلاسل يسحب بها الشخص وهو على هذا الوضع المزري المخزي: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} . كيف يساق وإلى أين يساق؟ ويا ليته في هذا الحال فحسب، بل يساق إلى السجن، إلى جهنم -والعياذ بالله- على هذا الوضع المخزي المزري. قال تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31] أي: اشووه على النار، واجعلوه يصلى حر الجحيم، يقلب على النار، وأذيقوه من عذاب الجحيم.

تفسير قوله تعالى: (في سلسلة ذرعها.

تفسير قوله تعالى: (في سلسلة ذرعها.) قال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] ، قال كثير من أهل العلم: السلسلة طولها سبعون ذراعاً. فهل هو بذراع الدنيا أم هو مقياس آخر في الآخرة، قال كثير من العلماء: إنها ثلاثة أذرع أخرى غير أذرعة الدنيا وأطول؛ لأن ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وضرسه كجبل أحد. قال كثيرٌ من أهل التفسير: تدخل هذه السلسة من أنفه وتخرج من دبره. جنازير حديدة من نار، تدخل من الأنف وتخرج من الدبر، فضلاً عن الذي وقع في الأعناق -على ما قد تقدم- فتخيل كيف يكون هذا السجن، سلسلة تدخل من الأنف فتتخلل الأمعاء وتخرج من الدبر، ويسحب منها، ويسحب أيضاً من تلكم السلاسل التي في الأعناق: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30-32] . لم هذا الجزاء القاسي؟ قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33] ، كان يستهزئ بالله وبآياته، ويشرك معه غيره: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة:33-34] ، كان قاسياً على العباد، فهو كافر وفي قلبه قسوة، {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} . قال ابن يحيى: إنه ينبغي لك يا مؤمن أن تطعم المساكين، وأن تحض الناس وتحثهم على إطعام المساكين. {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} [الحاقة:35] ، أي: صاحب، كما قال في الآيات الأخرى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100-101] ، فليس له صديق يغضب من أجله، ولا يزأر من أجله ولا يحتر من أجله، ويطلق لفظ (الحميم) على الصديق شديد الصداقة، فهو صديق حميم لكثرة تأثره بما يحدث لك. {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36] ، الغسلين: هو صديد أهل النار كما قال فريق من أهل التفسير. قال تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37] ، ما المراد بالخاطئين؟ (الخاطئون) لفظٌ عام، ولكنه أحياناً يأتي ويراد به بعض أفراد الخصوص كمثل (المسيئون) ، فهو لفظ عام وأحياناً يأتي ويراد به شيء أخص، وكاصطلاح السيئة اصطلاحاً خاصاً، فالسيئة كما أسلفنا تطلق على الشرك: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81] ، فالسيئة هنا أوجبت الخلود، فهي الشرك، والسيئة بمعنى الكبيرة في شأن قوم لوط: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78] أي: من الكبائر، والسيئة تأتي بمعنى: الصغيرة: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، أي: إذا اجتنبتم الكبائر كفرنا عنكم الصغائر، وكذلك الخاطئة أو الخطيئة تأتي أحياناً بمعنى الصغيرة، وتأتي أحياناً بمعنى الكبيرة، وتأتي أحياناً بمعنى الشرك، قال تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} ، أي: بالكفر وبالكبائر. قوله تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} ، (الخاطئون) : هل يراد بهم الكفار، أو يراد بهم المسرفون على أنفسهم من أمة محمد الذين لم يغفر لهم؟ في المسألة وجهان: فمن العلماء من قال: (الخاطئون) : المشركون. ومنهم من قال: (الخاطئون) : المذنبون. أي: المذنبون الذين لم يغفر لهم أو الذين قد غلبت سيئاتهم حسناتهم، كما في حديث المفلس وغيره من الأحاديث.

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون.

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون.) {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38-39] . (فلا) من أهل العلم من قال: إن (لا) هنا صلة، والمعنى: (أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون) ، ومن العلماء من قال: إنها زائدة، كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] أي: (ما منعك أن لا تسجد) ، فالمعنى: ما منعك أن تسجد، وكقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:29] ، لئلا يعلم، أي: ليعلم، {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] ، أي: أنهم يرجعون. فالرجوع إلى الحياة الدنيا محرم عليهم. ومن العلماء من قال: (إن) : (لا) هنا زائدة، وبعدها: أقسم على ذلك بما ترونه وما لا ترونه، يعني: أقسم بأشياء تعلمونها وأشياء لا تعلمونها. ومن العلماء من قال: إن (لا) نفي لشيء قد تقدم. أي: فلا تظنوا أنكم تتركون سدى، وأقسم على ذلك بما تبصرون وما لا تبصرون. قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] يقسم الله سبحانه أن هذا القرآن الذي بين أيدينا، قول رسولٍ كريم، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40-41] أي: كما تفترون وتدعون {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:42] ، أي: تتعظون وتعتبرون، {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43] . {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44] ، لو فرض أن محمداً عليه الصلاة والسلام على فرض افترى علينا كلمة واحدة أو قولاً من الأقوال، ونحن لم نقله له، {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] . ومن العلماء من قال: (باليمين) أي: الجارحة، ومنهم من قال: اليمين: القوة، وقوله اليمين؛ لكون اليمين عند العرب أقوى من اليسار، وإن كانت كلتا يدي ربي يمين مباركة، لكن لتقريب المعنى للناس، إذا قلت -ولله المثل الأعلى-: فلان يضربك باليمين، فالضرب باليمين غير الضرب باليسار، فالضرب باليسار ضربٌ ضعيف، بينما الضرب باليمين ضربٌ قوي، {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} ، فهذه الآية فيها التحذير الشديد من الزيادة أو النقصان في كتابه العزيز، وفيها بيان حفظ الله لهذا الكتاب. والآية الأخرى نحوها: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء:73-75] ، ضعف العذاب في الحياة، {وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:75] ، فالآيات في غاية القوة والتهديد، وبيان حفظ هذا الكتاب العزيز، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} ، لن نتركه أبداً يتقول ويفتري علينا، من الذي تقول على الله وافترى على الله وكانت عاقبته إلى خير؟ أبداً، ما تقول أحدٌ على الله إلا وكانت عاقبته سيئة، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] أي: أهلكناه. قال كثيرٌ من أهل العلم: (الوتين) : هو عرق متصل بالقلب بقطعه يموت الإنسان. {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47] ، لن يستطيع أحدٌ منكم أن يحجز ذلك ولا يدفعه، ولكن حاشاه صلى الله عليه وسلم، والكلام على الافتراض، وليس معنى الفرض أنه سيحدث، وهي كقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] ، أي: أول العابدين لهذا الولد إن كان هناك ولدٌ للرحمن، ولكن هذا فرض لا يقع، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ، وهو لن يشرك عليه الصلاة والسلام، {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ، على سبيل الافتراض. على فرض أنه (تقول علينا بعض الأقاويل) وإلا قد وعدنا بحفظ كتابنا، وتوعدنا بإنزال العقوبة بمن افترى علينا: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} ، بقوة من غير رفق، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:46-47] .

تفسير قوله تعالى: (وإنه لتذكرة للمتقين)

تفسير قوله تعالى: (وإنه لتذكرة للمتقين) قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48] ، أي: لا ينتفع بهذه التذكرة إلا المتقون، الذين يخشون ربهم ويتقون عذابه. قال تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} [الحاقة:49] أي: لا يخفى علينا أمركم ولا حالكم. {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة:50] ، حسرةٌ من مَن؟ جاء في الآية الكريمة في سورة (يس) : {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30] ، من الذي يتحسر على العباد؟ وهنا يقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، من الذي يتحسر على الكفار؟ من العلماء من قدّر أشياء في الآية وقال: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30] ، أي: يا حسرة المتحسرين! تعالي وحلي على هؤلاء الكفار، ويا من تتحسرون! تعالوا وتحسروا على هؤلاء، فليست ثم حسرة أكبر من الحسرة على الكافرين. يا أيها النادمون! تعالوا إن كان هناك مجالٌ للندم، فلا تندموا على شيء فاتكم في حياتكم، بل اندموا على أمر أخراكم، تحسروا على الكافرين، ألا ها هنا يصب الندم وهاهنا تتنزل الحسرات، وهاهنا تقتطع الأنامل من الغيظ. {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:51] ، قد سبق بيان: إن العلم على ثلاث مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، ومثلنا ذلك: بأنك إذا سمعت عن الكعبة، فعندك علم يقين بأن هناك بمكة كعبة، لكن إذا جئت ورأيت الكعبة بعينيك أصبح هذا العلم عين اليقين. فإذا جئت ودخلت الكعبة ولمست أحجارها أصبح العلم بها حق اليقين، كما قال تعالى في شأن الجحيم: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7] ، فكلنا -أهل الإيمان- نعلم أن هناك ناراً، فهذا علم يقين بالنسبة للمؤمنين. فإذا جاء شخص ورآها: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7] ، رؤيا حقيقة، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72] وعند المرور على الصراط يراها الناس. والجنان أيضاً إذا أردت أن تراها، كما قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:55-56] ، لكن إذا دخلها الشخص الكافر أصبح الدخول حق اليقين، قال تعالى: (وَإِنَّهُ) ، أي: القرآن. ليس علماً يقيناً فحسب، وليس عين اليقين فحسب، بل هو حق اليقين، باشرته ولمسته قلوب المؤمنين، فحل في قلوب أهل الإيمان، فلم يصبح عند أهل الإيمان علم يقين ولا عين يقين، بل أصبح حق اليقين: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة:51-52] . صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال: (اجعلوها في ركوعكم) ، وهل وجودها في الركوع على السنية أم على الاستحباب أم على الإيجاب؟ الأكثرون أنها مستحبة، ومن العلماء من يرى الوجوب، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

قول ابن حجر في فتح الباري: (لا يسأل عن الله بأين)

قول ابن حجر في فتح الباري: (لا يسأل عن الله بأين) Q ورد في الجزء الأول من فتح الباري، قول الحافظ ابن حجر: لا يسأل عن الله بأين، كيف يوجه هذا الكلام مع حديث الجارية؟ A هذه من المسائل التي زلت فيها قدم الحافظ ابن حجر رحمه الله في طائفة من مسائل الصفات، فإن ثبت عنه النقل وأنا لا يحضرني الآن هل النقل ثابت عنه أو غير ثابت، لكن على فرض أنه ثابت وليس بمستبعد على الحافظ أن يقول مثل هذا المقال فمنهجه ومنهج الإمام النووي رحمهما الله وعفا الله عنهما في الصفات فيه شيء من التأويل، والثابت عن رسول الله أنه سأل الجارية: (أين الله؟) ، كما في صحيح مسلم، فلا معنى إذاً لقول من قال: لا يسأل هذا السؤال.

الأخذ برأي الجمهور عند التنازع والاختلاف

الأخذ برأي الجمهور عند التنازع والاختلاف Q إذا كانت هناك مسألةٌ فيها نزاع، والجمهور له رأي فهل هناك ترجيح لرأي الجمهور؟ A في الغالب أن الجمهور أصحاب دليل، وينبغي أن تسأل أنت عن الدليل، فكم من مسألة للجمهور فيها رأي، ولغير الجمهور فيها رأي أسد وأقرب، وثم مسائل لا تكاد تجد فيها أدلة صحيحة صريحة، كمسألة رفع اليدين مع تكبيرات الجنازة، هل ترفع اليدين أم لا أرفع؟ إذا جئت تبحث عن الأدلة الخاصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة رفع اليدين في الجنازة، لا تجد أي حديث ثابت في هذا الباب، ولكن الجمهور قالوا: لما لم نجد حديثاً عن رسول الله، أخذنا بالقياس على الصلوات المعتادة، فمع كل تكبيرة ترفع يديك، وأخذنا بأثر ابن عمر: أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات الجنازة، أما حديث: (كان يرفع يديه مع التكبيرة الأولى ثم لا يعود) ، فهو حديث ضعيف.

صحة أثر زواج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما

صحة أثر زواج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما Q ورد أن عمر طلب أن يتزوج ابنة علي، فقال له علي: هي زوجتك إن رضيت، فذهب إليها وكشف عن ساقها -الأثر- نريد الشرح؟ A الأثر على ما يحضرني بأن في إسناده ضعف؛ لأنه من طريق محمد بن الحنفية، والحنفية هذه امرأة من بني حنيفة أخذها علي من سبايا بني حنيفة في حروب الردة في زمن أبي بكر، فكون أبي بكر كانت خلافته عامين رضي الله تعالى عنه، وتكون مثلاً -على فرض أنها- حملت منذ أن دخل بها علي، تكون وضعت ابنها في بداية خلافة عمر، فكونه يحكي قصة لم يشهدها فهذا عند أهل العلم مرسل أو منقطع، لكن بعض العلماء يقول: كونه أخاً لهذه البنت يقوي هذا الحديث، فلعله سمعه فيها، ومن أهل الحديث من يقول: لا يعتبر مثل هذا الكلام، والله تعالى أعلم. الشاهد: أن بعض العلماء يقول في حال ثبوت الخبر أو عدم ثبوته بالتفريق أو بالتفصيل في مسألة النظر إلى من تريد خطبتها، فهل لك أن تفعل مثل هذا الفعل وتكشف عن ساقيها؟! أو هل لك أن ترى الوجه والكفين فقط؟ والله تعالى أعلم.

حكم إتيان المرأة في الدبر

حكم إتيان المرأة في الدبر Q ما حكم إتيان المرأة في الدبر؟ A إتيان المرأة في الدبر لا يجوز؛ لأن الأحاديث قد وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعن من أتى امرأة في دبرها، وإن كان في الأحاديث مقال؛ إلا أنها بمجموع الطرق تصلح للاحتجاج بها مع ضمينة أخرى، وهي قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] : (وهل الحرث إلا موضع الزرع) والدبر لا يكون موضعاً للزرع، فالفرج: هو موضع الحرث، أي: الإيلاج، وهذا هو الراجح. أما الآثار الواردة عن بعض الصحابة بالإباحة، فالعبرة بالمرفوع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا قلنا مثلاً: إنه قد ورد عن صحابي من الصحابة شيء من إباحة إتيان المرأة في دبرها فلا نتعلق بهذا الأثر ونترك المرفوع عن رسول الله من ناحية، ونترك رأي جمهور الصحابة من ناحية أخرى، فمن تتبع مثل هذه التتبعات أوشك أن يتزندق، وقد قدمنا مراراً أن أبا طلحة رضي الله عنه كان يرى أن البرد -أي: الثلج- الذي ينزل من السماء لا يفطر الصائم، يقول: إنه ليس بطعام ولا بشراب! ويقول: إذا وجد هذا البرد وهو صائم: حي على الطعام المبارك، وعمر كان يمنع عن التمتع في الحج، وابن مسعود كان يرى التطبيق، يعني: يضم يديه بين ركبتيه وهو راكع، وأبو هريرة كان يرى أن الوضوء إلى الآباط مستحب، وابن عباس في بعض الروايات كان يرى نكاح المتعة وجوازه، فإذا أخذت كل هذه الأشياء خرجت بمذهب تكون فيه زنديقاً من الزنادقة؛ لأنك ستنقض عرى الدين عروة عروة، أما هؤلاء فعلماء أفاضل اجتهدوا فغفرت لهم زلاتهم في بحر فضائلهم. فمثلاً: ابن عمر أفتى في ألف مسألة، وأخطأ في مسألة أو مسألتين فلا تذكر، وكذلك غيره، كما قال القائل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع فلا تتتبع سقطات أهل العلم التي نوزعوا فيها وخالفوا الدليل، ونحن عندما نحكي الخلاف في المسألة نحكيه من باب الأمانة العلمية، أما إذا كنت تفتي القوم، فقل لهم مباشرة: غير جائز لك أن تأتي المرأة في الدبر، وتعطيهم الحاصل، لكن لو أنك تفتي طالباً يريد أن يتعلم ويعلم الناس، وحتى إذا وردت عليه شبهة يستطيع أن يدفعها. وهناك مسألة أحرجتنا غاية الحرج، لكن ما دام أن الإخوة كلهم طلبة علم فنقصها: اتصل بي رجل فلاح طاعن في السن هاتفياً، وقال لي: يا شيخ! السلام عليكم. فقلت: وعليكم والسلام ورحمة الله، ما تريد؟ فقال: واحد عمل الفاحشة مع البهيمة -والعياذ بالله- فذهبت وسألت في الجامع، فقال: تذبح الجاموسة وترميها، وأنا خائف من ربنا. يعني: ماذا يصنع في اللحم؟ هل يرمي اللحم أو لا؟ لأن الجاموسة عزيزة عنده. وإذا فصلت له، فهو لا يفهم الكلام، لكن بالنسبة لكم -طلبة العلم- في الباب حديث: (من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول، ومن رأيتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) ، هذا حديث عن رسول الله في إسناده راو يقال له: عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، وفيه نزاع بين تحسين حديثه وتضعيفه، ولكن إذا قررنا أن حديثه حسن بصفة عامة، فجل العلماء الذين ترجموا له ذكروا هذا الحديث في ترجمته، يعني: عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب مشهور بحديث البهيمة، مع أنه روى أحاديث أخرى كثيرة جداً، لكنه اشتهر بهذا الحديث؛ لأنه حديث أحكام. فالراوي إذا كان مكثراً وأتى المترجمون بحديث في ترجمته فيحمل إتيانهم بهذا الحديث على أنه من المستنكر عليه، كمثل: علاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، فـ العلاء أخرج له مسلم عدة أحاديث، لكن إذا جئت تقرأ ترجمته تجد العلماء أتوا في ترجمته بحديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، والإمام أحمد يحكم على هذا الحديث بالنكارة. الشاهد: أن من العلماء من حسن الحديث تبعاً للقاعدة الكلية أو للرأي الكلي أن عمرو بن أبي عمرو حسن الحديث، ومنهم من ضعف الحديث وقال: هو مستنكر على عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، وإذا كان الراوي مقل جداً وجاءوا في ترجمته بحديث، فقد يكون أتي بالحديث لأنه هو صاحب هذا الحديث فقط. إذاً: في المسألة رأيان؛ لأن الرأي مبني على صحة الحديث أو تضعيفه، وأنا الآن مقتنع أن الحديث ضعيف، وإن كان لي رأي قبل ذلك فأنا مقتنع بعد مراجعة الحديث أن حديث (فاقتلوه واقتلوا البهيمة) لا يثبت عن رسول الله بلفظ لهذا الرجل بهذا التفصيل فلن يفهم، وسيقول لي: يا شيخ! ماذا أعمل؟ فقلت له: اتركها، ولا تذبحها أبداً. فقال السائل: يعني الشيخ الذي سألته في الجامع كذاب؟ سأذهب وأقول له كذا وكذا، وأسبه وأعمل فيه! فكيف أصنع؟ قلت له: الشيخ ليس كذاباً، لكن هناك مذاهب، شافعي وحنبلي ومالكي، فهو أخذ معك بالمذهب الشديد، لكن نتساهل ولا تذبحها. فهناك فرق بين أنك تخاطب واحداً من العوام أو تخاطب طالباً من طلاب العلم، فيفهم المسألة بطريقة أخرى، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

صحة حديث: (لن تسعني أرض.

صحة حديث: (لن تسعني أرض.) Q الحديث القدسي: (لن تسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن) ؟ A الحديث لا يثبت.

صحة حديث: (من آمن بي بعد مماتي.

صحة حديث: (من آمن بي بعد مماتي.) السؤال (من آمن بي بعد مماتي فكأنه معي في حياتي) ؟ A الحديث لا يثبت.

صحة حديث: (اخرج يا عدو الله)

صحة حديث: (اخرج يا عدو الله) Q ما صحة حديث عثمان بن أبي العاص لما اشتكى إلى الرسول فقال الرسول: (اخرج يا عدو الله) ؟ A الحديث ثابت.

أسماء أبواب النار

أسماء أبواب النار Q من المعروف أن النار سبع دركات لها سبعة أبواب، فما اسم هذه الأبواب أو الدركات؟ A الله أعلم، ونقول تنبيهاً من العلماء من قال: إنها الحطمة، ولظى، والسعير، والجحيم، إلى غير ذلك، فالله أعلم هل هذه مسمى لشيء واحد أو هي دركات، والله أعلم.

العزل

العزل Q هل العزل مقيد بسنتين للرضاع؟ A العزل غير مقيد، وإذا وجدت العلة منه وجد، وإذا احتيج إليه فعل، فقد ورد العزل على عهد الرسول من الصحابة، حين أصابوا سبياً وكرهوا أن تحمل هذه السبايا، فاستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في العزل. فإذا احتيج فله ضوابطه الشرعية.

الإسبال في الأكمام

الإسبال في الأكمام Q هل الإسبال في الأكمام أيضاً؟ A نعم الإسبال في الأكمام أيضاً، وذلك لحديث في سنن أبي داود: (الإسبال في ثلاثة: الكم والقميص والعمامة) .

الكفر دركات

الكفر دركات Q هل الكافر الذي يحض على طعام المسكين، يكون عذابه أقل من الكافر الذي لا يحض على طعام المسكين؟ A القواعد تشير إلى الإفادة بنعم، فإن الكفار دركات: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] ، فللكفر عذاب، وللصد عن سبيل الله عذاب فوق العذاب، وأيضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:12-13] .

اشتراط الإسلام في الشاهد على الزواج

اشتراط الإسلام في الشاهد على الزواج Q هل يجوز في الشهادة على الزواج أن يكون الشاهد غير مسلم؟ A لا يجوز في شهادة الزواج أن يكون الشاهد غير مسلم، وذلك لشيئين: أولهما: القياس على الطلاق؛ فإن الله قال في الطلاق وهو قسيم النكاح: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] . والثاني: لزيادة في حديث فيه ضعف ألا وهو: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ، والزيادة فيها ضعف.

وقت أذكار الصباح

وقت أذكار الصباح Q متى يبدأ وقت أذكار الصباح ومتى ينتهي؟ A يبدأ من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ووقت أذكار المساء، من العلماء من قال: تبدأ من بعد صلاة العصر، ومنهم من قال: إنها تبدأ من بعد صلاة الظهر، وكأن الأول أقرب، والله أعلم.

حكم كف الثياب في الصلاة

حكم كف الثياب في الصلاة Q ما حكم كف الثياب في الصلاة؟ A نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فمن العلماء من يحمل هذا النهي على الاستحباب، ومنهم من يحمله على التحريم، وكأني بالأكثرين من أهل العلم على أن النهي محمول على الكراهة وليس على التحريم، والله أعلم.

تفسير سورة المعارج

تفسير سورة المعارج تصف سورة المعارج حال الإنسان في عرصات القيامة، فذكرت أن المجرم يفتدي من عذاب الله بأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ولكن أنى له ذلك، فالعذاب في حقه واقع، ليس له من الله دافع، أما المتقون فهم في أمن من الفزع الأكبر، وذلك لأنهم كانوا في الدنيا يحافظون على الصلاة ويؤدون الزكاة، ويحفظون فروجهم من الحرام، ويؤدون الأمانات، ويقومون بالشهادات، ويخافون من عذاب ربهم، فجزاؤهم أنهم في جنات مكرمون، جزاءً بما كانوا يعملون.

وقوع العذاب على الكافرين

وقوع العذاب على الكافرين قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] من هو السائل الذي سأل؟ صح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن السائل هو الحارث بن النضر) . ومن العلماء من قال: إن السائل هو أبو جهل. وللعلماء ثلاثة أقوال في تفسير قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] : فمن العلماء من قال: سأل متى هذا العذاب؟ أي: سأل عن وقت هذا العذاب؟ وقوله: (بِعَذَابٍ) قيل: إن الباء بمعنى: عن، كما قال الشاعر: إن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب فقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} [المعارج:1] أي: سأل سائل عن عذاب، وكما قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] أي: اسأل عنه خبيراً. فمن أهل العلم من قال: إن المعنى سَأَلَ سَائِلٌ مستعجلاً هذا العذاب، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] . فهذا هو الوجه الأول: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} [المعارج:1] أي: سأل سائل عن العذاب متى هو؟ على سبيل الاستنكار. والوجه الثاني: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} [المعارج:1] أي: دعا داعٍ بنزول العذاب، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] ، والسؤال أحياناً يطلق على الدعاء. من السيلان، سائل: وهو صديد أهل النار، وهذا يوم القيامة، لكن هذا القول استضعفه أكثر المفسرين، وهو منقول عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، الذي يقال فيه في أكثر الأحيان: قال ابن زيد كذا، وهو مفسر مشهور غاية في الشهرة، فإذا فسر آية فتفسيره له وجه، لكنه عند المحدثين ضعيف في الحديث، وهو الذي يذكره العلماء دائماً إذا ذكروا الضعفاء في الحديث قالوا: اذهب إلى عبد الرحمن يحدثك عن سفينة نوح؛ لأنه روى حديثاً في شأن سفينة نوح أنها طافت بالبيت سبعاً، وصلت خلف المقام ركعتين، وهذا من الأحاديث المكذوبة على رسول الله عليه الصلاة والسلام. الشاهد أن الوجه الأخير منبوذ وضعيف في هذا الباب. فالوجهان المشهوران في قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] : الوجه الأول: (سَأَلَ سَائِلٌ) مستعجلاً هذا العذاب، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] . والوجه الثاني: (سَأَلَ سَائِلٌ) أي: دعا داعٍ بالعذاب، كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] ، وكما قال: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] . فقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} [المعارج:1] أي: عن العذاب، أو دعا داعٍ بالعذاب، والله وصف هذا العذاب بأنه (وَاقِعٍ) لا محالة، أي: والعذاب واقع، فكل آت فهو قريب. قال تعالى: {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:2] أي: أنه واقع للكافرين ليس له دافع. وهل يستفاد منه أنه في غير الكافرين له دافع؟ أي: لا يستطيع أحد أن يدفع هذا العذاب عن الكافرين، ولن يدفع أحد هذا العذاب عن الكافرين، لكن غير الكافرين هل هناك من يدفع هذا العذاب المسلمين؟ نعم بإذن الله، فإن هناك شفاعات من رسول الله ومن سائر المرسلين، بل ومن المؤمنين والشهداء والعلماء والآباء والأبناء والأمهات والقرآن والصيام كلها شفاعات تدفع العذاب عن أهل الإيمان بإذن الله. أما الكافرون فكما قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] ، إذاً الربط: {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:2] لكنه مع المسلمين قد يكون له دافع بإذن الله تعالى. فقوله: {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:2] أي: صارف.

خروج الملائكة يوم القيامة

خروج الملائكة يوم القيامة قال تعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:3] من العلماء من قال: المعارج هي الدرجات، والفواضل، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في تلبيته يقول: (لبيك ذي المعارج، لبيك ذي الفواضل) فالمعارج تطلق على الدرجات، وهي مستفادة من قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] أي: تصعد، وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14] أي: يصعدون، وأيضاً عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، أي: صعد به إلى السماوات السبع. قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج:4] أي: تصعد، والملائكة معروفون، أما الروح فللعلماء فيها أقوال، أحدها قول جمهور من المفسرين: أن المراد بالروح هو جبريل عليه السلام، وشاهده: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، فإن قال قائل: إن جبريل دخل ضمناً في الملائكة فما فائدة الإعادة: (تعرج الملائكة وجبريل) ؟ A أن هذا من باب عطف الخاص على العام، لبيان فضل هذا الخاص المعطوف، فذكر جبريل مرة ثانية لبيان فضله. فإن قال قائل: وهل من أمثلة في كتاب الله تظهر أن الخاص يعطف على العام، كهذا المثال؟ فالإجابة: نعم، فإن الله يقول: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [النساء:163] فإبراهيم وإسماعيل من النبيين الذين جاءوا من بعد نوح، ونحوه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] فنوح من النبيين، ونحوه قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] النخل والرمان من الفاكهة. فذكر جبريل عليه السلام الذي هو الروح بعد ذكر الملائكة؛ لبيان فضل جبريل عليه السلام، فهو سيد الملائكة، وهذا قول الجمهور. القول الثاني في تفسير الروح: وهو أن الروح هي أرواح بني آدم التي تخرج منهم عند موتهم، كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل: (إن العبد إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا أتته الملائكة، فيأخذون روحه، فيأتي ملائكة آخرون يجلسون منه مد البصر فلا يدعونها في أيديهم طرفة عين، فيأخذونها ويعرجون بها إلى السماء، فلا يمرون بها على ملأ إلا قالوا: ما هذه الروح؟) الحديث. القول الثالث: أن المراد بالروح خلق لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] هذه الآية من الآيات المشكلة في تفسيرها؛ لورود آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فكيف التوفيق بين الآيتين؟ أولاً: بين يدي هذا التوفيق يقال: ما المراد باليوم في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ؟ المسلك الأول: من أهل العلم من أضرب عن التفسير وأضرب عن الجمع بين اليومين، وقال: هما يومان ذكرهما الله سبحانه وتعالى في كتابه هو أعلم بهما ونكل أمرهما إلى الله، فهو أعلم بقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] وأعلم بقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] . وقال: نسكت عن هذين اليومين مع إيماننا أن هذا وذاك، كل من عند الله سبحانه وتعالى. والمسلك الثاني: هو الجنوح إلى الجمع بين الآيات، وندفع الافتراض الذي قد يأتي إلى العوام، وأصحاب هذا المسلك التمسوا تفسيرات وتوجيهات، فمنهم من قال: إن اليوم المراد في قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] هو عمر الحياة الدنيا، منذ خلق آدم إلى النفخ في الصور ومدته خمسون ألف سنة. ومنهم من قال: إنها المسافة ما بين السماء السابعة إلى الأرض السابعة، أنتم تقطعونها في خمسين ألف سنة، أما الملائكة فتصعد فيها وتنزل في يوم واحد من أيامكم، كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة الفجر والعصر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم: كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) . فقال قائل هذا القول: إن الملائكة تعرج ما بين الفجر إلى العصر، وهذا العروج منها لو قطعتموه لكانت المدة الزمنية خمسين ألف سنة. ومنهم من قال: إن المراد بقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] : إنه يوم القيامة، وهذا أظهر الأقوال وأشهرها، وهو الذي تدل عليه أدلة السنة، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته صفحت له صفائح من نار يكوى بها وجهه وجبينه وجلده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) ونحوه: (من آتاه الله إبلاً فلم يؤد زكاتها إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر، تمر عليه أولاها تنطحه بقرونها وبأظفارها، كلما مرت عليه أولاها عادت أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) . فإذا تقرر أن المراد باليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة هو يوم القيامة وهو الراجح لدلالة الآية عليه وهي قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6-7] فإذاً: كيف يجمع بين الآيتين؟ من العلماء من قال: إن يوم القيامة يخفف على أهل الإيمان ويطول على أهل الكفر والعصيان كل بحسبه، فيكون عسيراً وطويلاً على أهل الكفر، أما على أهل الإيمان فيكون خفيفاً، فيختلف في الطول وفي القصر حسب حال العبد يوم القيامة، فأهل الجنة لا يأتي عليهم وقت القيلولة إلا وهم يقيلون في الجنة ما شاء الله، ولا يمر عليهم اليوم كله بطوله، فإن الله قال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] أي: قيلولة. فيوم القيامة يخفف على أقوام، ويطول ويكون عسيراً على أقوام آخرين. والشاهد لذلك قوله تعالى: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:10] وهذا قول له وجاهته، وتبناه كثير من أهل التفسير. وقد ورد في الباب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل فقراء المهاجرين قبل الأغنياء بنصف يوم بخمسمائة عام) والله تعالى أعلم. قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6-7] لأن كل ما هو آت فهو قريب، وتقديراتنا ليست كتقديرات رب العالمين سبحانه وتعالى. قال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] أي: كالزيت المغلي، أو النحاس المنصهر. قال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:9] أي: كالصوف، وفي الآية الأخرى: {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] أي: الصوف المتفتت الملون. قال تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:10] الحميم هو الصديق شديد الصداقة، الذي يغلى من أجلك، ومنه قيل له: حميم؛ لأنه يحتر حرارة شديدة إذا أصبت بأي مكروه، أو نيل منك بأي سوء تراه، فكأنه يصاب بالحميم ويُغلى إذا ذكرت بسوء. قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج:10-11] أي: الحميم يرى حميمه، والصديق يرى صديقه، والقريب يرى قريبه، وهذا مضمن في قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج:11] أي: يرونهم. فكل يرى صاحبه لكن لا يستطيع الكلام ولا السؤال عنه ولا عن أحواله، فكل مشغول بالهم الذي هو فيه. كيف يجمع بين الآية الكريمة: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:10] ، وبين قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50] ؟ فهذه آيات تكون ظواهرها متعارضة لكن ليس في كتاب الله تعارض، فهو من عند الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] . وعلى نمطها، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] ، وفي المقابل: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108] . وعلى نمطها أيضاً: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] ، {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] فقد كتموا الشرك وكذبوا، فكيف يجمع بين هذه الآيات؟ نقول: كما هو معلوم أن يوم القيامة طويل تتعدد فيه المواقف، فأحياناً يسكت الكل، وأحياناً يؤذن للبعض بالكلام، وأحياناً يعتذر المعتذرون، وأحياناً لا تقبل منهم العتبى، وهي: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24] ، أحياناً يجادلون بالباطل، وأحياناً يرون أن الجدال لا ينبغي إلا أن يكون بالحق، فلطول اليوم تتعدد مواقفه وتندفع كل الإشكالات التي وردت في هذا المعنى. ومن مثل هذا يجاب على جل الآيات

حال المجرمين في عرصات القيامة

حال المجرمين في عرصات القيامة قال تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج:11] أي: مع رؤيتهم لهم، لكن كل واحد منشغل بنفسه، كما قالت عائشة لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] ، قالت: الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض يا رسول الله؟ قال: يا عائشة! الأمر أشد من ذلك) فالرجل عارٍ والمرأة عارية، لكن ليس في ذهن الشخص أن ينظر إلى العورات. قال تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11] المجرم هنا كما قال كثير من المفسرين: إنه المشرك. ومن العلماء من قال: هو أعم من المشرك، فتارك الصلاة مجرم بنص كتاب الله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38-43] ، أول شيء تكلموا به ترك الصلاة. فتارك الصلاة مجرم، وليس المجرم الذي تسميه الأمم المتحدة مجرم حرب بل هو مجرم حق، المجرم شرعاً الكافر، والمجرم شرعاً تارك الصلاة، فتارك الصلاة مجرم، كما قال تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11] فيقول خذوا أبنائي واتركوني، {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12] يقول: خذوا زوجتي وأخي وأولادي كلهم واتركوني، {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13] أي: قبيلته وعشيرته التي تلتف حوله في الدنيا في وقت المصائب، أنت في الدنيا إذا أصبت بمصيبة تريد أن تجد أخاك يجري هاهنا، وأباك يجري هاهنا، وأمك تجري هاهنا، ويستشفع لك بهذا ولتشفع لك بذاك، يوم القيامة تود لو تفتدي من عذاب يومئذٍ بكل هؤلاء. قال تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المعارج:13-14] ليس فقط الأم والأب والأخت والأخ والولد والزوجة، بل: {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:14] أي: ثم ينجيه الفداء من هذا العذاب، أو ثم ينجيه الله من هذا العذاب.

طبيعة الإنسان في الدنيا

طبيعة الإنسان في الدنيا قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:19] وتفسير الهلوع هو قوله تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج:20] * {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:21] أي: إذا أصيب بأي شر يظن أنه فرج بعد هذا الشر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (شر ما في الرجل شح هالع، أو جبن خالع) أي: أن الجبن والشح من أقبح العيوب التي توجد في الرجال. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:19-21] من العلماء من فسر الخير هنا بالمال، أي: إذا رزقناه المال منع حقوق الله فيه.

وصف النار التي أعدها الله للمجرمين

وصف النار التي أعدها الله للمجرمين قال تعالى: (كَلَّا) أي: لن يقبل هذا الفداء، فـ (كلا) كلمة تحمل معنى الردع والزجر والنفي، أي: لن يقبل هذا العرض، ولن تقبل هذه الفدية التي تفتدي بها أيها المجرم، {إِنَّهَا لَظَى} [المعارج:15] وصف للنار، {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:16] من العلماء من قال: إن الشوى هنا مكارم الوجه ولحم الوجه، وأكرم شيء في العبد تنزعه هذه النار نزعاً، فجلد الوجه ينزع عياذاً بالله نزعاً، وجلد الأطراف كذلك، أطراف أصابع اليدين وأصابع الرجلين، وجلد الجبهة أيضاً كل ذلك تنزعه النار. قال تعالى: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:17] تناديه باسمه في وسط المحشر، كما قال فريق من أهل العلم: إن النار تنادي أصحابها: تعال يا فلان! تعال فأنت صاحبي، أنا لك وأنت لي، فالنار تنادي على أصحابها؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاها ملكة في الكلام، كما في الآية الأخرى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] ، وكما في الحديث: (أن النار تقول: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين) فللنار ملكة كلام، وملكة تغيظ، وملكة زفير: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12] . قال تعالى في هذه الآية الكريمة: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:17] أدبر عن الإيمان وتولى عن الحق، أدبر عن الإسلام وتولى عن القرآن، تدعوه النار من المحشر: تعال أيها المجرم! فأنت من أصحابي وأنا من أصحابك، تعال فإنك من أصحاب النار. قال تعالى: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:18] أي: جمع المال وأحصاه وادخره، ولم ينفقه في طاعة الله، بل بخل بالزكوات المفروضة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التعديد أثناء الإنفاق، قالت أسماء: (يا رسول الله! ليس لي مال إلا ما أدر عليّ الزبير؟ قال: يا أسماء! تصدقي ولا توعي فيوعى عليك) . وفي الرواية الأخرى: (تصدقي ولا تحصي فيحصى عليك) .

صفات المتقين

صفات المتقين

حفظ الفروج من الحرام

حفظ الفروج من الحرام قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج:29] أي: حافظون للفروج من كل ما منع الله منه، حافظون للفروج من الزنا، فإن الله قال: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] . والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الزناة تحرق فروجهم ويوضعون عراة في مثل التنور، كما رأى ذلك عليه الصلاة والسلام في الرؤيا، فهم حافظون للفروج من الزنا، وحافظون للفروج من الاستمناء، وبهذه الآية الكريمة استدل الإمام الشافعي على تحريم الاستمناء؛ لأن الله قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29-31] قال: والاستمناء من ما وراء ذلك. وأيضاً: حافظون لفروجهم من أن يراها أحد، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) . قال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] قوله: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) يفيد أنه ليس عليهم لوم إذا أتوا نساءهم أو أتوا إماءهم، لكن نفي اللوم يفيد أكثر من ذلك، وهو أن إتيان النساء مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي بضع أحدكم صدقة) وفي الحديث المعروف: (يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر يا رسول الله؟ قال: نعم، أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم، قال: كذلك لو وضعها في الحلال كان له أجر) . فأحياناً الحكم لا يؤخذ من آية واحدة فقط، أو من حديث واحد فقط، فمثلاً: الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فلو أخذت حكم الطواف بين الصفا والمروة من الآية فقط، لكان حاصل ما في الآية: أنه لا إثم عليك إذا طفت، لكن من النصوص الأخرى استفدت وجوب السعي بين الصفا والمروة، بل من العلماء من قال بفرضية السعي بين الصفا والمروة. فالحكم لا يؤخذ من آية واحدة فقط، كذلك في قصر الصلاة: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] إن أخذت الحكم من الآية فغاية ما أفادته الآية أنه لا إثم عليك إذا قصرت، ومنهم من قال بوجوب القصر، والجمهور على الاستحباب، لحديث: (فرضت الصلاة مثنى مثنى، فزيد في صلاة الحضر وأقرت في صلاة السفر) . فالأحكام لا تؤخذ من آية واحدة ولا من حديث واحد فقط. قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:31] فعلى ذلك ينصح الشاب الذي تعتريه الشهوة والفتوة بما نصح به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) هذه نصيحة رسول الله. وقال الله سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] . وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ومن يستعف يعفه الله) ، وفي الرواية الأخرى: (ومن يستعفف يعفه الله) . فهذه إرشادات للشباب، ألا يتبعوا النفس وهواها ولا يسيروا وراءها، ولا أن يكون كل ما احتاجت النفس إلى شيء فعله، بل كن كما علمك الرسول عليه الصلاة والسلام، عليك بالصيام وعليك بالاستعفاف، وعليك بغض البصر، وعليك باتخاذ التدابير الواردة في شرعنا للوقاية من الجنس.

حفظ الأمانة وأداؤها

حفظ الأمانة وأداؤها قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] الأمانات عامة، ويدخل فيها بالدرجة الأولى المعاملات المالية بين الناس، ويدخل فيها التكاليف الشرعية كذلك. {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:32-35] .

الإيمان بيوم البعث والخوف منه

الإيمان بيوم البعث والخوف منه قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26] أي: يوقنون بأن البعث آت والساعة آتية لا ريب فيها. {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج:27] أي: خائفون وجلون، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:28] لا يأمنه أحد، فأهل الإيمان يخافون العذاب، وأهل الكفر يأمنون العذاب ولا يبالون به، أهل الإيمان يخافون: {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أي: يصلون ويصومون ويزكون ويحجون وهم مع ذلك خائفون. أما أهل الكفر فلا يفعلون شيئاً من الخيرات، وهم في دنياهم أيضاً في مأمن، وأهل الإيمان يعملون الصالحات مع خشية لله ووجل منه سبحانه، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63-64] ومع هذه البيتوتة لربهم سجداً وقياماً يقولون: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] ، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] . قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج:27] هذا حال أهل الإيمان، وكلما عظم ذلك عندك فاعلم أنك على خير، أعني أن تعمل الصالحات ترجو الجنة وتخشى على نفسك العذاب أكثر وأكثر، فهذا دليل من أدلة الإيمان. فهذا عمر مع ما له من فضائل، لكنه يقول في مرض الموت: (يا ليتني خرجت منها لا لي ولا عليّ) . كذلك تقول عائشة: (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً) ، مع أن براءتها نزلت من السماء. وكذلك المقولات عن أبي بكر وغيره من أهل العلم وأهل الفضل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.

المحافظة على الصلاة

المحافظة على الصلاة قال تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:22] لكن المصلين أهل الإيمان ليسوا هكذا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن: (إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) . قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] أي: محافظون، كما في الآيات الأخر، ومن العلماء من قال: دائمون عليها حتى الموت، ومن العلماء من قال: إنهم المطمئنون فيها.

أداء الزكاة

أداء الزكاة قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] والحق المعلوم هو الزكوات المفروضة، ولا شيء عليك بعد الزكوات المفروضة على الصحيح، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل عن الصلاة والزكاة، قال: (هل عليّ غيرها يا رسول الله؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق) . فاستنبط كثير من أهل العلم من هذا الحديث أن المال المفروض على العبد إنما هو مال الزكاة فقط. قال تعالى: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:25] أما السائل فهو الذي يسأل الناس، فله حق من الزكوات. والمحروم لأهل العلم جملة أقوال في تفسيره: القول الأول: أنه الشخص الذي له دخل، لكن الدخل لا يكفيه. القول الثاني: الذي لا يجد شيئاً أصلاً. وكلا القولين له وجه، فالذي يعمل عملاً يأتيه منه دخل لا يكفيه يعد من المحرومين، والذي لا شيء عنده أيضاً يعد من المحرومين، فالمحروم له حق.

إعراض الكافرين عن طاعة الرسول

إعراض الكافرين عن طاعة الرسول قال تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} [المعارج:36] (مهطعين) للعلماء فيها أقوال: أحدها: مسرعين، ويؤيد هذا القول قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] أي: مسرعين إلى الداعي. ثانيها: قال بعض أهل العلم: (مهطعين) أي: ناظرين إليك. ثالثها: أنها بمعنى عامدين. قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج:37] أي: متفرقين، وفي صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج ووجد أصحابه يصلون متفرقين، فقال: (ما لي أراكم عزين؟) أي: متفرقين. قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج:37] أي: متفرقين عنك يميناً ويساراً، كما قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:49-50] أي: حمير مستنفرة، {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:51] أي: من الأسد. قال الله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ} [المعارج:36] أي: نحوك {مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج:36-38] مع كفره ومنعه وتكذيبه ليوم الدين (كَلَّا) أي: ليس الأمر كما يظنون {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39] أي: من المني المعلوم كما قال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:6-7] ، وقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:37] . وقد تفل النبي صلى الله عليه وسلم على يده، وقال: (يقول الله تعالى: ابن آدم! أنى تعجزني، لقد خلقتك من مثل هذه) .

إمهال الله للعصاة والكافرين

إمهال الله للعصاة والكافرين قال الله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ} [المعارج:40] ، (لا) ، من العلماء من يقول: إنها نفي لشيء متقدم، ثم بدأ إنشاءً جديداً فأقسم على ما ذكره برب المشارق والمغارب. ومن أهل العلم من قال: إن (لا) هنا لنفي شيء متقدم وهو ظن الكفار أن يدخلوا جنة نعيم. ومنهم من يقول: إنها زائدة مثل: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد:29] أي: ليعلم، {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: يرجعون، {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12] أي: ما منعك أن تسجد، من العلماء من يقول: إنها زائدة، ومنهم من يقول: إنها لتقوية الكلام. قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:40] ورد في كتاب الله (رب المشارق والمغارب) ، وورد (رب المشرقين ورب المغربين) ، وورد (رب المشرق والمغرب) ، فمن العلماء من يقول: كلها بمعنى واحد. ومنهم من يفصل، فيقول: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء:28] مشرق الشمس ومغربها، و {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17] مشرق الشمس ومشرق القمر، ومغرب الشمس ومغرب القمر، و (رب المشارق ورب المغارب) رب مشارق النجوم ومغارب النجوم. وقول آخر: أن المشارق هي التي تشرق منها الشمس كل يوم، فكل يوم تشرق من مكان غير اليوم الذي قبله، وتغرب في مكان أيضاً، وثم أقوال أخرى في هذا الباب. قال تعالى: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج:41] (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ) فيها للعلماء قولان: قيل: في الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] ، وكما قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] ومن أهل العلم من قال: إن ذلك يوم القيامة، يبدل الله أقواماً خيراً من هؤلاء الأقوام. قال تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [المعارج:42] أمر مضمن بالتهديد. {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} [المعارج:42-43] أي: القبور {سِرَاعًا} [المعارج:43] أي: مسرعين {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] النصب: الذي يعبد أو يستذبح عنده الذبائح (يوفضون) : يسرعون. قال تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج:44] أي: ذلت أبصارهم، كما قال: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه:108] أي: سكنت الأصوات للرحمن، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] أي: ذليلة ساكنة. قال: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [المعارج:44] أي: ذليلة أبصارهم، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج:44] تعلوها الذلة، {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44] أجارنا الله وإياكم من عذابه.

الأسئلة

الأسئلة

إثم مشاهدة التلفاز

إثم مشاهدة التلفاز Q أخي يضع في عيادته تلفازاً، فهل كل من يرتكب إثماً بسبب التلفاز يكتب على أخي مثله؟ A إن كان يضع التلفاز على قنوات تبث الفساد وتبث الشر، فمن سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ثم هو متعاون على الإثم والعدوان. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

آيات وجوب النقاب

آيات وجوب النقاب Q ما هي الآيات القرآنية التي تحث على وجوب النقاب؟ A هناك آيتان، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] والإدناء أصح ما ورد فيه على الإطلاق: أنه تغطية الجسم كله والوجه وإبراز العين اليسرى. أما أثر مجاهد الذي ورد في هذه الآية الكريمة فهو منقطع كما قاله كثير من أهل العلم.

كفارة من جامع زوجته وهي حائض

كفارة من جامع زوجته وهي حائض Q ما كفارة من جامع زوجته وهي حائض؟ A ورد في كفارة من يجامع الزوجة وهي حائض أحاديث، وأهل العلم يحكمون عليها بالاضطراب، منها: أنه يخرج ربع دينار، والثاني: نصف دينار، ومن العلماء من يقول: إذا جامعها وهي حائض في مستهل الحيضة يعطي ربع دينار، وإذا جامعها في وسط الحيضة يعطي نصف دينار. والأدلة في ذلك مضطربة، ولكنه على كل حال قد ارتكب ذنباً، وعليه أن يعمل من الصالحات ما يوازي هذا الذنب، فيخرج صدقات، أو يصلي لله ركعات، أو يحدث استغفاراً وإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

زكاة عروض التجارة

زكاة عروض التجارة Q هل تجب الزكاة في عروض التجارة؟ A رأي جماهير العلماء أن زكاة عروض التجارة واجبة، وهو قول الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله وغيرهم من العلماء. وفريق من أهل الحديث يرى عدم الوجوب، لكن حجج القائلين بالإخراج قوية منها أن عروض التجارة هي أموال، وبالتالي فأموال التجارة تزكى كسائر الأموال، وأيضاً استدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (إن خالداً والعباس وابن جميل قد منعوا الزكاة، قال: أما خالد فإنكم تظلمون خالداً، إن خالداً احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله) قال النووي: أي: أنه لولم يحتبس الأدرع والعتاد في سبيل الله لأخرج منها الزكاة، قال النووي: وهذا من أصرح ما ورد في زكاة عروض التجارة، وهناك أصرح منه لكنه ضعيف، وهو: (كنا نخرج الزكاة مما نعده للبيع) أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف. لكن في فهم حديث: (إن خالداً احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله) قالوا: إنه لم يعد عنده مال، وليس المقصود أن خالداً إذا لم يحتبسها أخرج منها، فهكذا قال الجمهور إن الزكاة في عروض التجارة واجبة. أما المانعون فغاية ما استدلوا به، قالوا: لم تكن تخرج زكوات على عروض التجارة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. فنقول: إن عروض التجارة لم تكن متفشية هذا التفشي الذي عليه الآن. فمثلاً: رجل اشترى قطعة أرض للتجارة فيها، قطعة الأرض لم تبع هذا العام، ولم تبع العام القادم، والأرض مرتفعة ومنخفضة في الأسعار، فماذا يصنع؟ فمن العلماء من سار على الوتيرة الأولى، وقال: تخرج عليها زكاة كل عام، ومنهم من قال: لا تخرج عليها زكاة إلا إذا بيعت، فتخرج عنها بعد البيع زكاة سنة واحدة والله أعلم. وهناك رسالة إن شاء الله تطبع الآن في هذا الباب.

حكم عمل المسلمين عند النصارى

حكم عمل المسلمين عند النصارى Q هل يجوز عمل المسلمين عند النصارى؟ A نعم يجوز عمل المسلم عند النصراني مادام العمل لا يؤثر على دينك، إذا كان النصراني لا يمنعك فرائضك ولا يهينك في دينك فلا بأس بالعمل عند النصراني أو عند اليهودي أو عند الكافر، وذلك لأن خباب بن الأرت قال: (كنت قيماً في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل ثم جئت أتقاضاه، قال: لن أعطيك حتى تكفر بمحمد) الشاهد: أن البخاري بوب هذا الباب: باب هل يؤاجر المسلم نفسه من مشرك في أرض الحرب، وأتى بالحديث تحت الترجمة؛ لأنه كان يصنع سلاحاً. وفي الشرح جنح الحافظ ابن حجر إلى هذا القول. إذا كان العمل لا يؤثر على دينك ولا على عادتك فلا بأس أن تستأجر يهوداً يعملون عندك أو تعمل أنت عند يهود، والرسول عليه الصلاة والسلام أعطى أراضي خيبر لليهود يزرعونها ولهم نصف ما يخرج منها، ويوسف قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] وكان الملك كافراً كما هو معلوم. السائل: هل هذا نوع موالاة؟ الشيخ: لا. ليست موالاة، وتأخذ أجرك وإذا خشيت على قلبك أن يتغير فاترك.

حكم تكفير الديوث وتخليده في النار

حكم تكفير الديوث وتخليده في النار Q من المعلوم أن عصاة الموحدين من أهل الكبائر لا يخلدون في النار، وهو مذهب أهل السنة لما ورد من أحاديث عن رسول الله في ذلك، وقد اختلفت مع أحد الفضلاء الذين قالوا بتكفير الديوث الذي يرضى بالفاحشة في أهله، وتخليده في النار، وقد استند إلى حديث: (لا يدخل الجنة ديوث) علماً بأن هذا الديوث يشهد شهادة الحق؟ A بالنسبة للديوث والزاني والقاتل والسارق والخمار كل هؤلاء داخلون في أهل الإسلام وفي عداد المسلمين، ومع اقترافهم الكبائر فأمرهم موكول إلى الله، إن شاء ربنا عذبهم وإن شاء غفر لهم. أما الأدلة على ذلك، فمنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] . ومنها: قول عبادة بن الصامت الذي أخرجه البخاري ومسلم: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نقتل ولا نزني ولا نسرق ولا نأتي ببهتان بين أيدينا وأرجلنا) الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) . وأيضاً عند أهل السنة أنه لا يلزم حتى يغفر لك أن تستغفر، فقد يغفر الله لك مع قولك: أستغفر الله، وقد يغفر الله لك أيضاً بدون قولك: أستغفر الله، ومن الأدلة على ذلك قصة المرأة الإسرائيلية التي كانت تبغي وتزني، فانطلقت ذات يوم خارجة لزناها، فوجدت كلباً يلهث من العطش، فنزعت موقها فسقته فغفر الله لها، ولم يرد أنها قالت: أستغفر الله. والديوث أو الزاني أو القاتل كل هؤلاء وغير هؤلاء من أصحاب الكبائر أمرهم موكول إلى الله، ولكن أيضاً فإن النصوص من الكتاب والسنة على أنهم وإن دخلوا النار وإن لم يستغفروا، فمآلهم إلى الخروج من النار، لحديث: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرة) ، وفي حديث: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله فيخرج قوم لم يعملوا خيراً قط) . فالشواهد تدل على أن أصول أهل السنة والجماعة ثابتة لا تترنح ولا تتزحزح، وهي أن صاحب الكبيرة قد يغفر له ابتداءً حتى بدون كلمة: أستغفر الله، إن قدر ودخل النار فمآله إلى الخروج منها، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

عدد ركعات صلاة التراويح

عدد ركعات صلاة التراويح Q هل صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة، والقول بالعشرين ضعيف جداً؟ A لا، القول بالعشرين ليس بضعيف جداً لحديث عمر رضي الله عنه، وغايته أن هناك روايات ثابتة عن عمر أنه جمع الناس على أبي بن كعب على إحدى عشرة ركعة، وروايات أيضاً ثابتة عن عمر أنه جمع الناس على أبي على إحدى وعشرين ركعة، فأيهما ترجح؟ فمن العلماء من قال بترجيح رواية الإحدى عشرة ركعة على الإحدى والعشرين ركعة، لكن الأخرى ليست ضعيفة بل هي صحيحة، لكن هناك شيء صحيح وشيء أصح. فلذلك ذهب بعض العلماء إلى القول بالجمع بين الروايتين، قال: يحمل على أن عمر أمرهم أن يجتمعوا على أبي بن كعب أحياناً بإحدى عشرة، وأحياناً بثلاث وعشرين أو بإحدى وعشرين، وأذكر أن من الذين جنحوا إلى هذا ابن عبد البر رحمه الله تعالى، فقد جنح إلى الجمع بين الروايتين، لكن القول بأن الإسناد ضعيف جداً قول غير صحيح. فالغاية أن يقال: إن رواية الإحدى عشرة أصح من رواية الإحدى والعشرين، ورواية الإحدى والعشرين صحيحة قولاً واحداً، والله تعالى أعلم. لكن ثمة استدلالات أخر، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة) ، فهذا يشجع على الصلاة. وقال عليه الصلاة والسلام: (أحب القيام إلى الله قيام نبي الله داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) أي: يقوم ثلث الليل، أربع ساعات أو ثلاث ساعات تقريباً. إذا جئت أنا وأنت نصلي بالناس أئمة ونريد أن نوافق قيام داود عليه السلام الذي هو أحب القيام إلى الله، إذا قلت: أصلي إحدى عشرة ركعة فقط وتستغرق الإحدى عشرة ركعة أربع ساعات فسوف أشق على المصلين غاية المشقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أنت إمامهم واقتد بأضعفهم) وإن كان هذا في الفرد، لكن أيضاً من أراد ألا يحرم فضل حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) علي أن أعاونه لنيل هذا الفضل. فالشاهد: إذا قمت أصلي إحدى عشرة ركعة كما ورد في السنة أن عائشة قالت: (ما زاد على إحدى عشرة ركعة) جاز كما في حديث ابن عباس فصلى ثلاثة عشر ركعة، فإذا جئت أصلي الإحدى عشرة ركعة في أربع ساعات لم أطق ولن يطيق المصلون بعدي، فكما قال الحافظ ابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من العلماء: إذا قللت في القراءة فزد في عدد الركعات، وإذا أطلت القراءة فخفف على الركعات. وليس هناك أي نهي عن الصلاة زيادة عن الإحدى عشرة ركعة، بل الأمر مفتوح؛ لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى) ولهذا كان عمل الأئمة والسلف، وإن شئت أن تقرأ تراجم العلماء كـ الشافعي وأحمد وغيرهما من العلماء؛ فانظر كيف كانوا يصلون؟ انظر كيف كان السلف يصلون؟ بعضهم يصلي في الليل ستاً وثلاثين، ويقول فريق من المالكية: إن هذا هو المستحب عندنا، فما كانوا يريدون أن يستحوذوا على فضيلة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (أحب القيام إلى الله قيام داود) ولا يشقون أيضاً على الناس، فمن شاء أن ينصرف انصرف، ومن شاء أن يبقى بقي. يضاف إلى ذلك أن نصوص الكتاب والسنة التي وردت في قيام الليل وردت مقيدة بالزمن وليس بعدد الركعات، منها: (أحب القيام إلى الله قيام داود) ولم يقل: كان يقوم إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، أو عشرين ركعة، بل قدر بالزمن: (كان يقوم ثلث الليل) ونحوه في آية المزمل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل:2-3] فبني أيضاً على الزمن، ونحوه قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران:113] أي: ساعات الليل. فالوارد جاء بتقديرات زمنية وليس بعدد ركعات، صحيح أن عليكم هدياً قاصداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أيضاً النظر في مصلحة المصلين من هدي رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.

تفسير سورة نوح

تفسير سورة نوح من تربية القرآن الكريم للدعاة أن عرض لهم صوراً لحياة الأنبياء في دعوتهم لقومهم، ومن هؤلاء الأنبياء نبي الله نوح عليه السلام، فقد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، لا يفتر عن دعوتهم ليلاً ولا نهاراً، ولا سراً ولا علانية، ولا جماعات ولا أفراداً، كل ذلك بصبر تزول معه الجبال ولا يزول، ومع ذلك لم يلق منهم إلا العناد والمكابرة والإصرار على كفرهم، فأهلكهم الله تعالى وأنجاه ومن اتبعه، وفي ذلك سلوة لكل داعية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

بين يدي السورة

بين يدي السورة باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فقد سميت هذه السورة الكريمة باسم نبي من أنبياء الله تعالى، ورسول من رسله صلوات الله تعالى عليهم، وهو نوح صلى الله عليه وسلم، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، ففي حديث الشفاعة الطويل أن آدم عليه السلام يقول: (اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) . ونوح صلى الله عليه وسلم قد عمر عمراً طويلاً، فقد قال الله تعالى في كتابه عن دعوته لقومه فحسب: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14] . وهو من أولي العزم من الرسل صلوات الله تعالى عليهم، وأولو العزم من الرسل جاء ذكرهم في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7] ، فهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.

تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه.

تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه.) قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : كان قوم نوح قد وقعوا في الشرك بالله تعالى؛ بسبب تعظيم أهل الصلاح والغلو فيهم. قوله تعالى: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1] ، العذاب كل شيء يؤلم العبد، من الضرب بالسياط أو الحرق بالنيران ونحو ذلك، وأصل العذاب: الحبس، كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه قوله: (عذبوا أنفسكم عن ذكر النساء في الغزو) أي: أمسكوا عن ذكر النساء، واحبسوا أنفسكم عن ذكر النساء في الغزو. والأليم: المؤلم الموجع. قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:2-3] . قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ) أي: افعلوا ما أمركم الله تعالى به، وأطيعوه فيما أمركم به، وقوله: (وَاتَّقُوهُ) أي: اجتنبوا محارمه، وانتهوا عما نهاكم عنه. ويوضح هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) بمعنى: (وَاتَّقُوهُ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتكم به) بمعنى: (اعبدوا الله) ، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

تفسير قوله تعالى: (يغفر لكم من ذنوبكم)

تفسير قوله تعالى: (يغفر لكم من ذنوبكم) قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح:4] من العلماء من قال: إن (مِن) هنا زائدة، فالمعنى: يغفر لكم ذنوبكم، كما جاء في آيات أُخر. ومن العلماء من قال: إن (مِن) هنا للتبعيض، أي: يغفر لكم بعض ذنوبكم. ومن العلماء من قال: إن (مِن) هنا بمعنى: (عن) ، وأوَّل الغفران بمعنى الصفح، أي: يصفح لكم عن ذنوبكم، فهي ثلاثة أقوال أو أكثر، لكن الأشهر منها هذه الأقوال الثلاثة. ففي هذه الآية أن عبادة الله تعالى وتقواه وطاعة رسله مكفرات للذنوب، والكفارات لا تنحصر كلها في قول الشخص: أستغفر الله فحسب، بل الصلوات الخمس مكفرات، والصيام مكفر، والجمعة إلى الجمعة مكفرة، والوضوء يذهب بخطايا بني آدم، فهناك أعمال مكفرة إضافة إلى قول المرء: أستغفر الله.

الاستغفار لسعة الرزق وجلب الخير

الاستغفار لسعة الرزق وجلب الخير قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:10-11] ، هذا أصلٌ قد أثبت في عدة آيات، وهو أن الاستغفار سبب في سعة الرزق، كما قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] ، وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52] . وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] ، فمن أراد سعة الرزق فعليه بالإكثار من الاستغفار، ولذلك يشرع عند الاستسقاء الإكثار من الاستغفار. وقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:12] ، كل هذا بسبب الاستغفار.

على الداعية البلاغ والهداية على الله

على الداعية البلاغ والهداية على الله قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:5-6] . الآية الكريمة أفادت أصلاً مقرراً دلت عليه كثير من الأدلة، وهو أن المهدي من هداه الله، وليست الهداية بذكاء الداعي ولا بحكمته، وإنما الذكاء والحكمة سبب قد ينجح وقد لا ينجح؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أعقل الخلق، وأعلم الخلق بالله، وأورع الخلق، وأذكى الخلق، ومع ذلك يقول نوح عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) ، في ألف سنة إلا خمسين عاماً {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} فدعاهم ليلاً ونهاراً. فكون الهداية بيد الله تعالى أصل لابد أن يفهم تمام الفهم، فدعوة نوح عليه السلام لقومه لم تفلح، ودعوته لابنه وامرأته لم تفلح، ودعوة إبراهيم لأبيه لم تفلح، ودعوة لوط لزوجته لم تفلح، ودعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لعمه لم تلفح. فمرد الهداية إلى الله تعالى لا إلى ذكاء الشخص، ولا إلى كفاءة الشيخ ولا العالم، وإنما هي أسباب علينا أن نأخذ بها، فنأخذ بالحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، ونأخذ باللين وبكل السبل التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادنا تمام الاعتقاد أن الهداية مردها إلى الله تعالى، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100] . فنوح عليه السلام يخبر أن دعوته قومه لم تنفع فيهم شيئاً، بل ازدادوا بعداً بسبب دعائه، وهكذا الآيات حين تنزل على الرسل فيزداد بها المؤمنون إيماناً، ويزداد بها الكافرون كفراً، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125] . وإنما نوع لهم الدعوة في الليل والنهار والسر والعلن حتى لا يملوا، فإن خافوا من الفضيحة في دعوة العلن فقد دعاهم أيضاً في السر، ودعاهم في الليل، ودعاهم في النهار، ودعاهم فرادى، ودعاهم جماعات. {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7] ، أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، وقوله تعالى: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) ، فيه تصوير مدى البعد الذي كان فيه قوم نوح، ومعنى قوله تعالى: (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) ، أي: تغطوا بثيابهم، (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) . وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] . ثم قال تعالى عن نوح عليه السلام: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:8-9] ، وفيه بيان كل الطرق التي سلكها نوح صلى الله عليه وسلم معهم، ولكن الهادي هو الله سبحانه.

الخلاف في زيادة العمر بأعمال البر

الخلاف في زيادة العمر بأعمال البر قوله تعالى: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يرد عند هذه الآية مسألة وهي: هل عبادة الله تعالى وتقواه سبب في طول العمر؟ وهل يزيد العمر عن الحد الذي حده الله سبحانه وتعالى بشيء من الأسباب؟ إن مسألة الزيادة في العمر قد ورد فيها نصوص مختلفة، فقد وردت نصوص تفيد أن العمر قد يطول ببعض الأعمال، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه -أي: يوسع له في رزقه- وينسأ له في أثره -أي: يؤخر له في عمره- فليصل رحمه) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمران الديار ويزيدان في الأعمار) . ووردت أدلة أخرى في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرها يفيد معنىً آخر، فقد قال الله سبحانه: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] ، وقال الله سبحانه: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49] ، وفي الصحيح أن أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله تعالى عنها قالت: (اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد سألتِ الله آجالاً مضروبة، وأرزاقاً مقسومة، لن يقدم شيء منها ولن يؤخر) ، أو بنحوه. وفي حديث التخلق قال صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد) . فاختلف العلماء في الجمع بين هذه النصوص على أقوال: القول الأول: أن لكل أجل كتاباً، ولكل شخص عمراً قدر له، ولكن إذا عمل الشخص الأعمال الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم زيد له في عمره، فالجمع بين النصوص أن معنى قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [يونس:49] أي: إذا جاء أجلهم الذي قدر لهم لو لم يصلوا الرحم، فإذا وصلوها زيد في أعمارهم؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم. وأشار إلى هذا المعنى الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى، ولم يطل في هذا المقام. فهذا قول مبنيٌ على ظاهر الأدلة، وهو أن الشخص له عمر مكتوب، لكن إذا وصل الرحم زيد له في عمره. القول الثاني: أن المراد بطول العمر هو البركة في العمر، فيذكر بخير بعد مماته. القول الثالث: أن الأجل أجلان: أجل أعلمه الله تعالى لملائكته أن إذا عمل عبدي كذا وكذا فاكتبوا له من العمر كذا وكذا، وإذا عمل كذا وكذا فاكتبوا له من العمر كذا وكذا، والله تعالى يعلم بالذي سيختاره العبد، وأثبت في اللوح المحفوظ ما سيختاره العبد، وهذا المثبت في اللوح المحفوظ هو الأجل الذي عند الله تعالى في أم الكتاب، والمحو والإثبات يكون في الكتاب الذي بين أيدي الملائكة. ومن هذا ما ورد في شأن موسى عليه السلام حين جاءه ملك الموت فلطمه ففقأعينه -كما في صحيح البخاري رحمه الله- فرجع إلى الله تعالى، ثم بعد ذلك قبض روح موسى صلى الله عليه وسلم. فالله يعلم بالذي دار كله، وأثبت عنده منتهى الأمر الذي سيصدر من موسى، والوقت الذي ستقبض فيه روح موسى، فأثبت هذا في أم الكتاب، وأما الذي تغير فهو الذي بيد الملك. وإلى هذا أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بعض اختياراته، وثم أقوال أُخر. وهذه المسألة وصفها العلماء بأنها من المسائل الشائكة التي ينبغي أن تجرى على ظاهرها كسائر الأمور مثلها؛ فهي كمسألة الرزق، إذ الأجل والرزق مكتوبان، فمكتوب لك وأنت في بطن أمك كم سترزق، فإذا سعيت والتمست الأسباب الصحيحة لطلب الرزق في الظاهر فإنك سترزق، وإذا نمت وتركت العمل، فلن يأتيك رزق ذلك اليوم، فإن آمنت بأن الرزق مقدر ومع ذلك تسعى في الأخذ بالأسباب، فكذلك تؤمن بأن الأجل مكتوب، وعليك أن تسعى بما يزيد في أجلك كما تسعى بما يزيد في رزقك. فالإيمان قائم أن الأجل مقدر، وعلمه عند الله تعالى، مع التدين بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في عمره فليصل رحمه) ، فعليك أن تصل الرحم، كما أن عليك أن تخرج لطلب الرزق، ومع ذلك تترك الباقي إلى المولى سبحانه وتعالى، كسائر المسائل المتعلقة بالقدر. والله أعلم. ومن العلماء من قال: إن قوله تعالى: ((يؤخركم إلى أجل مسمى)) المراد بها: يدفع عنكم العذاب فلا تعذبون في الحياة الدنيا، وهذا كالأول، فإن العذاب مقدر، فإن أطعت الله رفع عنك العذاب، كما إذا وُصِلَتِ الرحمُ طالت الأعمار.

دلائل قدرة الله الداعية إلى الإيمان به

دلائل قدرة الله الداعية إلى الإيمان به قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] ، قال بعض العلماء: إن معنى (لا تَرْجُونَ) أي: لا تخافون، كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ:27] أي: لا يخافون، فالمعنى: لا تخافون من بأس الله تعالى وانتقام الله تعالى، ولا تخافون من عظمة الله سبحانه. قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14] ، فيه أقوال لأهل العلم: فمنهم من قال: معناه قوله تعالى: {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] . ومنهم من قال: معناه قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] . ومنهم من قال: خلقكم متفاضلين في الأخلاق والأفهام والأذواق، ونحو ذلك، فمنكم الذكي ومنكم الغبي، ومنكم الطويل ومنكم القصير، ومنكم طيب الخُلُق ومنكم البذيء، ومنكم الوفي ومنكم الغادر، ومنكم المحسن ومنكم المسيء، ومنكم المتصدق ومنكم اللص، ومنكم الذي يأكل أموال اليتامى ظلماً ومنكم الذي يكفل الأيتام. فعند هؤلاء يكون المراد بالأطوار: الأصناف والأشكال. وعلى كل حال فالأطوار تحتمل كل هذه المعاني. وبناءً على ذلك فقد تستدل إذا حصل من شخص أنه لم يفهم كلامك أو لم تفهم كلامه بهذه الآية الكريمة، فتقرأ قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} ، أي: أشكالاً وأصنافاً وأزواجاً، فكلٌ على فهم، وكلٌ بعقل، وكلٌ بتفسير، وكلٌ بسجيته وطبيعته. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:15] ، {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح:16] ، هذا مما كان يقوله نوح عليه السلام لقومه، وهذا النور الذي في القمر يختلف في كل يوم عن اليوم الذي قبله، فنور القمر اليوم أكثر من نوره أمس، ونوره غداً أكثر من نوره اليوم، كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] . وقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17] فيه قولان لأهل العلم: الأول: أن معنى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} أنبت آدم عليه السلام الذي هو أبوكم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف:11] ، أي: صورنا آدم عليه السلام؛ لأن آدم عليه السلام خلق من الأرض، ففي الحديث: (إن الله قبض قبضة من جميع الأرض فخلق منها آدم، فجاءوا على قدر ذلك منهم الأبيض والأسود ودون ذلك، ومنهم الأحمر والأصفر ومنهم دون ذلك) أو بنحوه عنه عليه الصلاة والسلام. الثاني: أن معنى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} أي: أنبت لكم من الأرض نباتاً. لكن القول الأول أرجح للآية التي تليها، وهي قوله تعالى: (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) ، أي: يوم القيامة. قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح:19] ، أي: مبسوطة ممهدة كفراش الطفل. وقوله تعالى: ((لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)) ، الفجاج: هي الطرق، وفي الحديث: (وكل فجاج مكة طريق ومنحر) ، أو: (كل فجاج منى طريق ومنحر) .

عصيان قوم نوح وما حدث لهم

عصيان قوم نوح وما حدث لهم ثم قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} : العصيان هنا عصيان يئول إلى الشرك، أو هو الشرك نفسه. وقوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) ؛ من العلماء من قال: هم قوم كفار من أكابر المجرمين الذين استغنوا عن الإيمان على عهد نوح عليه السلام بأموالهم وأولادهم. وقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:22] أي: مكراً كبيراً عظيماً.

إغراق قوم نوح بسبب معاصيهم

إغراق قوم نوح بسبب معاصيهم قال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح:25] . (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ) أي: من خطاياهم، أي: بسبب خطاياهم، وقوله تعالى: (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) ، فيه أن العذاب ينزل من أجل المعاصي، وقد اُستدل به على إثبات عذاب القبر، كما استدل بقوله تعالى: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93] ، وكما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] .

تواصي قوم نوح بالتمسك بالأصنام

تواصي قوم نوح بالتمسك بالأصنام قال تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) . قوله تعالى: (لا تَذَرُنَّ) أي: لا تتركن، وقد ورد في صحيح الإمام البخاري من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ذكر أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا رجالاً من أهل الصلاح، فلما ماتوا أتى الشيطان إلى أقوامهم وقال لهم: لو صورتموهم تصاوير حتى تذكروهم بها، ثم لما طال عليهم الأمد صنعوا لهم أصناماً، ثم طال عليهم الأمد فعبدوا هذه الأصنام وهذه الأحجار. وعطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فهذه علة هذا الأثر، وقد حاول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مقدمة الفتح أن يدافع عنه، ومما ذكره من أوجه الدفاع: أنه يحتمل أن يكون عطاء هذا رواه عن ابن عباس، ولكن لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومع ذلك فجمهور المفسرين على أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا رجالاً صالحين، وحصل بهم الذي ذكر في أثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. فقوله تعالى عنهم: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) ، أي: لا تتركوا عبادة هذه الآلهة، فهو تواصٍ ونصح من بعض الكفار لبعض، كما تواصى الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حكى الله تعالى عنهم: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] ، أي: اصبروا على عبادة آلهتكم. وقوله تعالى حكاية عنهم: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} هؤلاء كانوا رجالاً أهل صلاح قبل نوح عليه السلام، فماتوا فعبدهم أقوامهم، بعد أن أوحى إليهم الشيطان أن صوروهم، ثم صنعوا لهم تماثيل، ثم آل بهم الأمر إلى عبادة هؤلاء، وكان فعل الشيطان لتحميس الناس على الدعاء، ولتهييج الناس على الاقتداء بالصالحين، فلما طال الأمد عبدوا هؤلاء الصالحين. ولهذا فمن العلماء من يذكر من العلل التي يعلل بها حكم تحريم التصاوير أنها تفضي إلى عبادة هؤلاء المصورين، وإلى المغالاة فيهم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وقد آلت هذه الأصنام إلى قبائل العرب، فذكر أن وداً أصبح لقبيلة، وسواعاً لقبيلة، وكل قبيلة أخذت صنماً من هذه الأصنام وعبدته. وقوله تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} : الظاهر أنها الأصنام أضلت كثيراً من الناس، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35-36] ، أي: الأصنام، وهنا قال تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا} [نوح:24] .

حكم الدعاء على الظالم

حكم الدعاء على الظالم قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] ، الديار: هو الذي يسكن الديار، ومنه قول الشاعر بعد وفاة بعض العلماء: يا قاصدين بلاد العلم لا تفدوا فما بتلك الحمى والدار ديار ثم قال تعالى عن نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] ، فعلل نوح عليه الصلاة والسلام طلبه بهذا. وقد اختلف أهل العلم في الدعاء على الظالم: هل الأفضل فعله أم تركه؟ فمن أهل العلم من يقول: إن ترك الدعاء أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حديث الشفاعة الطويل، وفيه: (فيأتون إلى آدم فيقول: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح عليه الصلاة والسلام فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول رسول بعثك الله إلى أهل الأرض وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: نفسي نفسي. اذهبوا إلى غيري، إنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي) الحديث. فقالوا: إنه عليه الصلاة والسلام اعتذر عن الشفاعة لكونه دعا على قومه فاستجيبت دعوته في حياته الدنيا، فهذا أنقص من أجره في الآخرة، فلولا هذه الدعوة لشفع نوح صلى الله عليه وسلم. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ، فقالوا: لو دعاها الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا ما نال هذه الدعوة في الآخرة. فإذا ظلمك شخص فإنه يجوز لك أن تدعو عليه، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39] ، وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] ، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] ، إلا أن العفو أفضل، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] وهو العفو، وقال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186] ، فكل هذه الآيات ترشد إلى أن العفو أفضل. ومن أهل العلم من يقول: إن الحال بحسبه، فإن كان الشخص يؤذيك أذىً مستمراً بما لا تطيقه ولا تتحمله فجائز لك أن تدعو الله تعالى عليه، أو إذا كان يفسد وكان شره مستطيراً في الأرض فجائز لك أن تدعو عليه، واستدل بدعاء نوح عليه السلام، ودعاء موسى عليه السلام على فرعون، كما قال تعالى حكاية عنه: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] . ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على عصية ورعل وذكوان، وقوله: (اللهم عليك بالملأ من قريش، اللهم عليك بالملأ من قريش، اللهم عليك بـ أبي جهل، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ شيبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ أمية بن خلف) ، إلى غير ذلك من الأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا) ، أي: سيضلون عبادك الذين آمنوا، وقوله تعالى: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] ، أي: شديد الكفر.

الاستغفار مسك ختام الأعمال

الاستغفار مسك ختام الأعمال ثم ختم نوح عليه السلام الخطاب بقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} . فيشرع الإكثار من الاستغفار في ختام الأعمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم في ختام المجلس كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) ، وفي آخر حياته كان يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) . وفي نهاية الصلاة يعلم أبا بكر فيقول له: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ، وهنا نوح يدعو بالمغفرة بعد الخطاب الطويل فيختم قائلاً: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28] .

الأسئلة

الأسئلة

حكم النصيحة إذا عادت بمشكلة على الناصح

حكم النصيحة إذا عادت بمشكلة على الناصح Q سمعت شاباً يسب الدين، فقلت له: اتقِ الله تعالى! وحاولت نصحه، فوجدته يغضب غضباً شديداً، وكاد أن يتشاجر معي، فحاولت إقناعه بالمعروف وتركته وذهبت، ثم سمعته يكرر السب، فماذا عليّ؟ A دعه وأمره إلى الله تعالى.

العمرة عن الميت لرؤيته يأمر بها في المنام

العمرة عن الميت لرؤيته يأمر بها في المنام Q رجل يرى أمه في النوم بعد وفاتها تؤكد عليه أن يعتمر عنها لحاجتها لذلك، فما الحكم؟ A يعتمر عنها إن كان بوسعه ذلك، فالعمرة من أفعال الخير، وذلك إن كان قد اعتمر لنفسه، فأما إذا لم يكن قد اعتمر لنفسه فليعتمر لنفسه أولاً، ففي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يلبي ويقول: لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخٌ لي، أو: قريبٌ لي يا رسول الله، قال: هل حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) ، فإن كنت اعتمرت عن نفسك فاعتمر عن أمك إن كان بوسعك.

أكل لحوم الحمير

أكل لحوم الحمير Q ما حكم أكل لحوم الحمير؟ A لحوم الحمير محرمة إلى الأبد، أي: الحُمر الإنسية؛ إذ الحمار الوحشي لحمه حلال، وأما الحُمر الإنسية التي هي الأهلية فقد حرمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فقد قال علي رضي الله تعالى عنه -كما في الصحيح-: (حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر) .

سفر المرأة إلى الخارج لطلب العلم

سفر المرأة إلى الخارج لطلب العلم Q هل يجوز سفر المرأة للخارج من أجل طلب العلم؟ A ينظر ما هو الخارج، وهل معها محرم أم لا؟ وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم ورحمة الله تعالى

السلام على أهل الفسق ومصلحة فعله وتركه

السلام على أهل الفسق ومصلحة فعله وتركه Q كثيراً ما أمر في طريقي إلى المسجد على قوم في لهو وضلال يشربون الإثم ولا يلبون النداء، أفيجوز إلقاء السلام عليهم؟ وهل هذا السلام من باب الموالاة، علماً بأن بعض الناس يلومونني على هذا السلوك على اعتبار أن مصلحة الدعوة تقتضي تحبيب الناس في أهل السنة، كما أن هناك اعتبارات عديدة تمنعني من دعوتهم، منها: فارق السن، وعدم وجود صلة أو علاقة؟ A إن الأصل بين المسلمين أن يفشوَ السلام بينهم، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست، وذكر منها: وإذا لقيه فليسلم عليه) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألقِ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم، أفشوا السلام بينكم) . وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذا تماشوا ففرقتهم شجرة، أو فرقهم حجر ثم التقوا، سلم بعضهم على بعض، وقال البراء بن عازب: (أُمرنا بسبع وذكر منها إفشاء السلام) . فالأصل بين المسلمين أن يفشوَ السلام بينهم، إلا أنه قد يمنع إلقاء السلام لفائدة شرعية، كما لو كان الشخص على معصية، وترك السلام عليه يحمله على التفكير في معصيته، فليمتنع عن إلقاء السلام عليه حتى يفيء ويرجع إلى الحق ويترك المعصية التي هو عليها، فيكون الامتناع عن إلقاء السلام لعارض، ولعلة وهي أن يفيء إلى الخير. والشواهد على ذلك كثيرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام امتنع عن رد السلام -فضلاً عن الإلقاء- على كعب بن مالك خمسين ليلة. وعمار بن ياسر قال: (أتيت وقد تشققت يداي بزعفران، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد عليَّ السلام، وقال: أرجع فغير هذا) . فإذا كنت تطمع من عدم رد السلام، أو من عدم إلقاء السلام فيئاً ورجوعاً إلى الخير فامتنع، ونحن نوقن أنهم -إن شاء الله تعالى- سيتأثرون بإلقائك؛ لأن الرسول قال: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) . وهم وإن كانوا من أهل المعاصي فهم مسلمون، ولن يلتفتوا إلى كونك تترك السلام عليهم؛ لأنهم عصاة، وسيقولون في أنفسهم هذا من التكفير والإجرام؛ إذ هذا تفكيرهم، بخلاف ما لو مررت بواحدٍ من إخوانك الجالسين في المسجد ولم تلقِ عليه السلام، ففهم أنك لم تلقِ عليه السلام لأنه واقف مع امرأة يصافحها أو نحو ذلك، فيفهم جيداً أنك امتنعت عن إلقاء السلام لمصلحته، فهذا الظن فيه أنه يفيء. فإن قال قائل: كيف أترك السلام على إخواني وأسلم على العصاة؟ قلنا: صدر من رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام مثل هذا، فلم يسلم على عمار بن ياسر وكعب بن مالك رضي الله تعالى عنهما، وهما من خيار الصحابة خاصة عمار، فقد بُشِّر بالجنة بنص خاص. بينما يجيء إليه صلى الله عليه وسلم رجل سيء الأخلاق، وسيء الملكة، ويصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (بئس أخو العشير) فلما قدم هش له وبش في وجهه. وفارق السن ليس مانعاً من إلقاء السلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالصبيان سلم عليهم، بل كان إذا مر بالنساء سلم عليهن كلاماً لا مصافحة، إذا أمنت الفتنة. فالأصل أن يفشى السلام، وإنما يمتنع عن إلقائه لعلة، فإذا لم تكن موجودة أو لم يحصل النفع الذي تظنه، رجعت إلى أصلٍ وهو إلقاء السلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) .

الصلاة على العضو البائن من المسلم

الصلاة على العضو البائن من المسلم Q إذا بترت ساق المسلم، فهل تغسل ويصلى عليها؟ A لم يرد أن المسلمين على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم صلوا على الأعضاء، فلم يرد أنهم صلوا على رِجل، ولا على ضرس، ولا على يد، وإنما يصلى على النفس المسلمة.

القطيعة بين الأقارب، وحق المتوفاة على ابنتها

القطيعة بين الأقارب، وحق المتوفاة على ابنتها Q لي خالة وهي الأخت الوحيدة لأمي، وللأسف فإنها وأمي على خلاف مستمر، وكلما حاولنا أن نصل خالتي حاولت قطع الصلة، وقد كانت جدتي عند خالتي، فماتت جدتي ولم تعلم أمي بخبر وفاتها، ودفنت خالتي أمها ولم تخبر أختها، إلا أن أختها علمت بعد مدة، فهل على أمي ذنب تجاه أمها؟ A على الأم أن تستغفر لأمها كثيراً، فهذا الذي تجنيه الأم من وراء ابنتها الحية، فالأم يصلها من ابنتها أن تتصدق عنها، وأن تدعو الله تعالى لها، وأن تستغفر الله تعالى لها، وأن تصل ابنتها التي رحمها مقطوعة، فعلى الأم أن تصل أختها التي هجرتها وإن رفضتها أختها، ففي الحديث أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحلم عنهم ويجهلون علي! قال: لا يزال معك من الله عليهم ظهير مادمت على ذلك) ، أو بنحوه.

تكرير أذكار الصباح والمساء

تكرير أذكار الصباح والمساء Q هل في أذكار الصباح والمساء يُكَرَّرُ الدعاء ثلاث مرات أم يُكْتَفى بمرة واحدة؟ A الوارد أنه يكرر ثلاثاً فيكرر (سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) ثلاثاً، ويكرر (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ثلاثاً، ويذكر سيد الاستغفار مرةً. فما ورد أنه يفعل مرة يفعل مرةً، وما ورد أنه مرات يفعل مرات، والوارد أنه ثلاث مرات يفعل ثلاث مرات.

الالتفات بالبصر أثناء الصلاة

الالتفات بالبصر أثناء الصلاة Q بعض الناس يلتفت بالبصر أثناء الصلاة، فينظر عن يمينه وشماله وإلى السقف، فهل يجوز هذا في الصلاة؟ A أما الالتفات عن اليمين والشمال فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم) ، فهو ينقص الأجر، وأما رفع البصر إلى السماء في الصلاة فنهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (لينتهين أقوامٌ عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم ثم لا ترجع إليهم) .

تفسير سورة الجن

تفسير سورة الجن الجن مكلفون كالإنس، وقد ذكر الله في سورة الجن خبراً عجيباً عمّن أسلم منهم عند سماعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، وفي الآيات ذكر بعض أخبارهم وأحوالهم الغريبة العجيبة. ثم ختم الله السورة بذكر خلاصة دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، ألا وهي التوحيد، ومنه توحيد الله في أسمائه وصفاته.

حقيقة الجن

حقيقة الجن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: مم خلق الجن؟ قال عليه الصلاة والسلام: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) . إذاً الجن مخلوقة من نار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:14-15] . والجن يتشكلون في صور، فأحياناً يتشكلون في صورة الإنس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (يا أبا هريرة! أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟) وكان أبو هريرة قد كُلِّف بحفظ زكاة الفطر، فأتاه شيطان فجعل يحثو من التمر، فقبض عليه أبو هريرة الحديث. وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم (يا أبا هريرة! أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ ذاك شيطان) . الحديث. ويتشكلون في صورة حيات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من حيات المدينة جن قد أسلموا) ، ومن العلماء من قال: إنهم يتشكلون أيضاً في صورة كلاب، لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان) . الجن أصناف، فمنهم العالم، ومنهم الجاهل، ومنهم المبتدع، ومنهم المحسن، ومنهم المسيء. إلى غير ذلك من الأصناف، كما سيأتي -إن شاء الله- في تفسير السورة. ولهم أماكن يكثر فيها تواجدهم، لا سيما على الماء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عرش إبليس على الماء، وإنه يرسل سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة) الحديث. ويتواجدون أيضاً في: الأماكن المستقذرة كالخلاء ونحوه؛ ولذلك (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم! إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أي: من ذكران الشياطين وإناثه، وسيأتي ما يتعلق بهم في ثنايا تفسير السورة إن شاء الله.

تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن.

تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن.) سورة الجن سورة مكية، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. قال الله سبحانه وتعالى فيها: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] . (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (قل) يا محمد لأصحابك (أوحي إلي) بشيء ألا وهو (أنه استمع نفر من الجن) استمعوا لقراءتي وأنا أقرأ، (فَقَالُوا) أي: لبعضهم (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) ، وهل علم الرسول صلى الله عليه وسلم بتواجدهم أثناء قراءته أم لم يعلم؟ روي عن عبد الله بن عباس أنه نفى أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم وهو يقرأ عليهم، إنما نزلت الآية الكريمة فأخبرت رسول الله أنهم استمعوا، أما ابن مسعود فرأى أن النبي كان يعلم أن الجن يستمعون إليه وقال: (آذنته بهم نخلة) أي: أعلمته نخلة بأن الجن يستمعون لقراءته، وفي رواية: (آذنته بهم شجرة) أي: شجرة أخبرت رسول الله أن هنا جناً يستمعون إلى قراءتك يا محمد! وجمع فريق من العلماء بين الأثرين: أثر عبد الله بن عباس وأثر عبد الله بن مسعود، بأن قالوا: هذا يحمل على التعدد، فيحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ مرة القرآن واستمعت إليه الجن وهو لا يدري، ثم بعد مدة قرأ الرسول القرآن على الجن وهو يعلم أنهم يستمعون إليه، وهذا وجه جيد، وقد قال عبد الله بن مسعود: (خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فافتقدناه ذات ليلة، فبتنا بشر ليلة، فقلنا: اغتيل، استطير، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرنا بقراءته على الجن، وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم) ، وهذا الجمع جمع حسن، فيقال: إن كل صحابي تكلم بالذي بلغه. وقد ثبت ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث كثرت الشهب في السماء، وكانت الجن تتسمع وتتنصت على الملأ الأعلى، فلما رأت هذه الشهب المتكاثرة التي تأتيها من كل فج وتحرقها، قالت: ما نرى أنه قد حيل بيننا وبين خبر السماء إلا لشيء قد حدث في الأرض، فقالوا: اضربوا مشارق الأرض ومغاربها للبحث عن هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فاتجهت كل طائفة من الجن اتجاهاً تبحث عن السبب الذي من أجله حيل بين الجن وبين خبر السماء، وسلطت عليهم الشهب، فاتجهت طائفة منهم إلى ناحية تهامة، فاستمعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، وأنصتوا إليه، فلما استمعوه قالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، كما قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:29-31] وهذا ثابت بلا شك ولا يمنع أن يكون بعد ذلك ترددت الجن على رسول الله، وطلبت منه أن يقرأ القرآن عليها إذ هو عليه الصلاة والسلام مبعوث للثقلين للإنس والجن، قال الله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] . قال الله سبحانه: (قُلْ أُوحِيَ) قل لأصحابك يا محمد! (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) والجن -كما تعلمون- قال الله فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ولفتة سريعة في شأن الجن استفيدت من بعض الكتب: هناك علم كان يبث في صفحات الجرائد فيما يتعلق بالشيء الذي أسموه الأطباق الطائرة، وكانت تفرد له صفحات كاملة من الجرائد، وذكروا أن شخصاً على شاطئ المحيط الأطلنطي قال: إنني قد رأيت أناساً طوال الأجسام صفتهم كذا وكذا، ومعهم كذا وكذا، ثم انطلقوا، وخصصت الولايات المتحدة الأمريكية أربعين مليون دولار لمسألة الأطباق الطائرة، وملاحقة الأطباق الطائرة، وكانوا يرسلون طائرات في غاية السرعة وراء هذه الأجسام ولا يجدون شيئاً، وبعضهم يفتري ويقول: هم خلق آخر يعيشون في كواكب أخر، وأهل الكواكب الأخر أرسلوا إلى الأرض من يستكشف أهل الأرض، وينظر كيف حال أهل الأرض، ويتجسس على أهل الأرض، كل ذلك قيل ونشر وأفردت له كتب، وصنفت فيه تصانيف، وفي الحقيقة أن تأويلات أهل السنة لمثل هذا أنهم جن يتشكلون، ويرهق هذا أهل الكفر كما أرهق المشركين قول رسول الله عليه الصلاة والسلام، لأنهم لا يؤمنون بالجن ولا بشيء من هذا، وكل شيء عندهم مبني على التأويل المادي المحسوس، وليس من وراء أفعالهم إلا الكفران كما هو واضح.

تفسير قوله تعالى: (يهدي إلى الرشد فآمنا به)

تفسير قوله تعالى: (يهدي إلى الرشد فآمنا به) قال الله سبحانه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1-2] أعلنا إيماننا بهذا القرآن؛ لهدايته إلى الرشد، فحق إنه يهدي إلى الرشد، كما قال الله تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] في كل شيء، يكفي أن هذا القرآن يأمرك بصلة الأرحام، ويحفظ لك مالك، فيمنع الناس من سرقة أموالك، ويحفظ لك عرضك، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، ويحرم على الناس أن ينظروا إلى زوجتك، أو أن يؤذوك، أو يؤذوا بناتك، أو يختلسوا أموالك، أو يغتابوك، فيحفظ لك نفسك، وعرضك، ومالك، وعقلك، فحرم الخمر من أجل حفظ العقل، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] ، القرآن يحفظ لك كل شيء، فهو يهدي للتي هي أقوم حقاً، فمن ثَم آمنت به الجن مباشرةً، وفي الحديث: (جاء الأعرابي إلى رسول الله، فقال: يا محمد! من أنت؟ قال: أنا نبي، قال: وما نبي؟ -هو أعرابي، يسأل ما معنى نبي؟ - قال: أرسلني الله، قال: بم أرسلك؟ قال: أرسلني لكسر الأوثان، وصلة الأرحام، وذكر له الرسول بعض الأمور التي جاء بها، فرأى الرجل هذا ديناً طيباً، فقال: آمنت بما جئت به، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) ، فالجن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1-2] و (لَنْ) تفيد التأبيد، ولها ضوابط تأتي في محلها إن شاء الله. {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:3] ما معنى جد ربنا؟ من العلماء من قال: الجد هنا: العظمة. أي: أنه تعالت عظمة ربنا عن أن يكون له شريك، ومن العلماء من قال: إن المعنى: وأنه تعالى ربنا عن اتخاذ الشريك والولد. (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) تعالت عظمة ربنا، وتعالى جلال ربنا أن يكون له ولد، وعن أن يكون له شريك، وعن أن يكون له صاحبة. هؤلاء الجن فارقوا طوائف أهل الشرك فقالوا: (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) وأيضاً: نفوا الولد والزوجة عن الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا)

تفسير قوله: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن:4] من العلماء من قال: إن المراد بالسفيه: الشيطان الكبير، والقول الآخر أن المراد بالسفيه: عموم السفهاء، كما قال تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون:20] أي: شجر يخرج من طور سيناء، فالمراد بالشجرة: شجر، وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62] فقال: إنها شجر، لكن سياق الآيات يدفعه، وهذه الآية وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا محمولة على أحد شيئين: إما أن المراد بالسفيه: الشيطان، وهو داخل بلا شك في الآية، أو المراد: عموم السفهاء المفترين. {شَطَطًا} [الجن:4] الشطط: التخريف والبعد عن الصواب، والجور {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} [ص:22] . أي: لا تبتعد عن الصواب ولا تحيد عنه.

تفسير قوله تعالى: (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن)

تفسير قوله تعالى: (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن) قال تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن:5] هؤلاء الجن الذين آمنوا لما استمعوا كتاب الله من رسول الله، وقد غرر بهم من قبل سادتهم وكبرائهم، وأقنعوهم أن لله شريكاً، وأن لله صاحبة وولداً، كما غرر كبراء الإنس بالإنس فأشركوا بالله, وجعلوا له الصاحبة والولد، فالكبراء عموا على عامتهم، وأخفوا الحقائق عن عامة الجن والإنس، فالكبراء -دائماً- أهل الظلم، يخفون الحقائق عن الناس، ويزورون الحقائق، فالجن الذين استمعوا قراءة رسول الله قالوا: (وَأَنَّا ظَنَنَّا) لم نكن نتوقع (أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) لم نكن نتوقع أبداً أن هناك شخصاً يفتري على الله سبحانه وتعالى، ويكذب على الله سبحانه وتعالى، ولم نكن نصدق أبداً ولا نتخيل أن يأتي عفريت يكذب على الله، أو يأتي بشر يكذب على الله، (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) ، لكن شاء الله أن يكون في الإنس أهل كذب، وأن يكون في الجن كذلك. وتستمر الجن أيضاً في الحكايات فتقول: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:6] جاء في تفسيرها بعض الآثار التي تفيد أن أهل الشرك من العرب كانوا إذا سافروا ونزلوا وادياً من الأودية، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي أن نصاب بسوء، يستجيرون بسيد الوادي -وهو من الجن- أن يحفظهم من سائر الجن، وكانت الجن تخشاهم، فلما رأت الجن أن الإنس يخشوهم زادتهم رهقاً، قال البعض: كانت تسرق عليهم بعض المتاع، فيستغيثون بسيد الوادي كي يرد المتاع إليهم، وهكذا أرهقتهم الجن والعياذ بالله. (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) أي: زادتهم الجن رهقاً. {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن:7] كان منهم قوم كفار، ظنوا كظن الإنس أن لن يبعث الله أحداً.

تفسير قوله تعالى: (وأنا لمسنا السماء.

تفسير قوله تعالى: (وأنا لمسنا السماء.) تحكي الجن وتقول {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] لمسناها. أي: جلسنا بجوارها نتجسس، فالمراد باللمس هنا: التجسس والتنصت على أخبار السماء. {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8] . قال تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] أي: من قبل كنا نجلس نتنصت على السماء، ونسمع الأخبار التي تدور بين الملأ الأعلى، كما تقدم في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف استماع الجن {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ} [الجن:9] بعد بعثة الرسول {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] بالمرصاد، كما قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:6-8] . قال تعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10] حتى سلطت علينا هذه الشهب {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] . {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11] قال كثير من العلماء: منهم: الكفار، والفسقة والمرجئة والقدرية، والخوارج، والروافض، وكل الملل في الجن كما هي في الإنس، (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) أي: فرقاً شتى. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ} [الجن:12] الظن هنا بمعنى: اليقين. أي: اعتقدنا الآن أننا لن نعجز الله في الأرض. أي: لن نفوت من ربنا سبحانه وتعالى {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12] أي: ولن نستطيع أن نهرب منه سبحانه. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن:13] (البخس) (النقص) (الرهق) الإثم والخطيئة، ومنه: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] أي: لا تنقصوا الناس أشياءهم.

تفسير قوله تعالى: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون)

تفسير قوله تعالى: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون) قال الله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] أي: الجائرون الظالمون، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14-15] ، القاسطون غير المقسطين، فالمقسطون على منابر من نور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا) ، أما القاسطون فهم: الجائرون الظالمون.

خلاف العلماء في دخول المؤمنين من الجن الجنة

خلاف العلماء في دخول المؤمنين من الجن الجنة هذه الآية الكريمة سببت لبعض العلماء إشكالاً شهيراً، ألا وهو: هل الصالحون من الجن يدخلون الجنة أم ينجيهم الله من النار فقط؟ طُرِح هذا السؤال في بعض كتب التفاسير، فمن العلماء من قال: إنما ينجيهم الله من النار فقط؛ لأن الجن قالت: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ولم يذكروا ثواباً، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا فذكروا عقاباً، وهذه وجهة ضعيفة في التفسير، والحكم لا يؤخذ من هذه الآية فقط، بل يؤخذ من عموم الآيات والأحاديث. قال الله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] ، وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] وهي آية عامة، وكذلك كل ما كان على شاكلتها من قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يدخل فيها الجن.

تفسير قوله تعالى: (وألوا استقاموا على الطريقة.

تفسير قوله تعالى: (وألوا استقاموا على الطريقة.) قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16] ما المراد بالطريقة؟ للعلماء في تفسير الطريقة قولان مشهوران: القول الأول: أن المراد بالطريقة: طريقة الاستقامة، فلو استقام عليها الخلق لأسقاهم الله سبحانه وتعالى ماء غدقاً، كما قال سبحانه {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] ، وكما قال الله سبحانه {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66] ، وكما قال نوح فيما حكى الله عنه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:10-11] . القول الثاني: أن المراد بالطريقة: طريقة الغواية والضلال، فالمعنى: لو استمروا في غيهم، وفي ضلالهم؛ لأسقيناهم ماء غدقاً لنفتهم في هذا الماء، ولنفتنهم في هذا الرزق، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] ، واستظهر لهذا التأويل بقوله تعالى في الآية التي تليها: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:17] ، فالقولان مشهوران وواردان في تفسير الآية الكريمة، وكل قول له وجه ودليل يشهد له من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم في الرزق الذي رزقناهم إياه، والرزق الذي رزق الله العبد إنما هو فتنة وابتلاء، وسيُسئل عنه العبد، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام (وأصحاب الجد محبوسون) أي: للتحقيق معهم، فيسئلون: من أين اكتسبوا هذه الأموال؟ وفيم أنفقوها؟ ولذلك كره بعض العلماء كثرة المال لأنفسهم، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه) ، بينما ذهب آخرون إلى أن الحال والمقام يختلف من شخص لآخر، فإذا كان الشخص قوياً في دينه، رشيداً في فهمه، ومسدداً في فعله، فكما قال الرسول: (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وقال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه عل هلكته في الحق) ، واستدل في هذا الباب بحديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور) إلى آخر الحديث، وفيه: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ، فالمقام يختلف من شخص إلى شخص آخر. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنختبرهم فيما رزقناهم، كما قال الله: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48] ، وكما قال سليمان عليه السلام لما رأى العرش مستقراً عنده: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] ، وكما أسلفنا فليست كثرة المال دليلاً على الخير، وعلى رضا الله على عبده، وليست هي المقياس في الدنيا، فـ قارون قد علمتم حاله، ونبينا محمد لم يؤت من الدنيا إلا القليل، وهو أرفع درجة من سليمان الذي سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب.

تفسير قوله تعالى: (ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا)

تفسير قوله تعالى: (ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً) قال تعالى: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:17] ما المراد بالذكر؟ هل المراد بالذكر: القرآن كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] أم المراد به الذكر الأعم؟ القول بالتعميم في مثل هذا أولى. وما المراد بالعذاب الصَعَد؟ أي: عذاب يصعد فيه في جهنم، كما قال تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] ، الذي يصعد سلالم ودرج في الدنيا يتعب ويرهق، ففي النار يصعد صعوداً طويلاً، وهذا الصعود فضلاً عما هو في الجحيم، فيرهقه الصعود ويؤذيه.

تفسير قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)

تفسير قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] . هذه الآية يقذف بها في وجوه المشركين والمتصوفة والزنادقة الذين يدعون المقبورين في القبور. ما المراد بالمساجد هنا؟ من العلماء من أول المساجد بأنها المساجد العادية المعروفة لدينا ذات الأبنية، ومنهم من قال: إن المساجد هي مواطن السجود، ومواضع السجود، فلا يسجد إلا لله سبحانه وتعالى. (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) يرد Q كل شيء لله كما لا يخفى، البيوت لله، والأراضي لله، والأسواق لله، وكل شيء على وجه الأرض لله، فلماذا خصت المساجد بالذكر في قوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) ؟ من العلماء من قال: إن الإضافة إضافة تشريف للمساجد، كما أضيفت ناقة صالح لله، قال: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف:73] ، مع أن كل النوق لله، لكن أضيفت ناقة صالح عليه السلام لله إضافة تشريف، ومنه وصف عيسى عليه السلام بأنه روح الله تشريفاً لعيسى صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه.

تفسير قوله تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه.) قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] عبد الله هو: رسول الله عليه الصلاة والسلام، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) يدعو ربه، يدعو الله. {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] الشيء الملبد هو: الملتف المجتمع، ومنه: تلبيد الشعر. أي: جمع بعض الشعر إلى بعض، كما في الحديث: (إني لبدت شعري وقلدت هديي) فالتلبيد: جمع الشعر بعضه إلى بعض بالصمغ، (كَادُوا) أي: كاد الجن (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) التفوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطبقوا عليه، وهذه الآية للعلماء فيها قولان: القول الأول: أن الجن والإنس الكفار لما سمعوا مقالة رسول الله، وتلاوته اجتمعوا على رسول الله، وتلبدوا حول رسول الله كي يطفئوا نور الله، ولكن الله أظهره. القول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ القرآن، اجتمعت الجن وتلبدت حوله، وركب بعضهم فوق بعض حتى يستمعون لهذا القرآن. فإما أن يكون تفسير: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) أي: لحجبه وإطفاء نور الله، ولكن الله أظهره، أو يكون تفسيرها: للاستماع والإنصات لهذا القرآن العجب. قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} [الجن:19-21] هذا قول رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن:22] أي: مهرباً أهرب فيه. {إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23] العصيان هنا محمول على الكفر، لأنه أوجب الخلود، لكن مجرد العصيان لأمر من الأوامر أو لنهي من النواهي، لا يوجب الخلود، فالعصيان الموجب للخلود هو الكفر. {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24] خبر يحمل معنى التهديد.

تفسير قوله تعالى: (قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا)

تفسير قوله تعالى: (قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا) قال تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} [الجن:25] (إن) بمعنى (ما) أي: ما أدري أقريب ما توعدون، {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ} [الجن:25-26] أي: فلا يطلع {عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26-27] وفي هذه الآية إشكال يلزم أن نقف عندها وقفة حتى يتبين لنا المعنى ويرتفع الإشكال. قال الله: (فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) أي: فإنه يطلعه على بعض العلم، فالله سبحانه يطلع بعض رسله على بعض الأمور الغيبية، كما قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2-3] ، وكما أخبر الرسول عن يأجوج ومأجوج، وقد جاء ذكرهم الله في كتابه، وكأشراط الساعة الكبرى والصغرى، فكلها أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، فكل هذه أمور لم تحدث إلى الآن، وستحدث كما أخبرنا بها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. ففي الآية دليل على أن الله يطلع أنبياءه على بعض الأمور الغيبية وليس كلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة، قال الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات:42-43] ليس لك بها علم، {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات:44] . ما معنى (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) ؟ الرصد هم من الملائكة. أي: إن الله سبحانه وتعالى يحيط هذا النبي الذي يطلعه على بعض الأشياء الغيبية بالملائكة من أمامه ومن خلفه، حرساً حتى يوحى إليه بهذا الأمر الغيبي، فلا تأخذه الشياطين من رسول الله. (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) أي: يحيطه بملائكة من أمامه ومن خلفه حتى لا تستطيع الشياطين إدخال شيء في هذه الغيبيات الذي يخبر بها الرسول، وكذلك حتى لا يستطيعون أخذ شيء من هذه الغيبيات التي يخبر بها الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في الآية الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت:41-42]-أي: الشيطان على رأي بعض المفسرين- {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] فمعنى الآية والله أعلم: أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الأمور الغيبية، عززهم بملائكة تحرسهم عن اليمين والشمال، ومن الأمام ومن الخلف، ومن كل اتجاه، ثم يوحى إليه بهذا الأمر الغيبي فلا يستطيع الشيطان أن يدخل معه أمراً آخر، أو يأخذ منه خبراً وينشره بين الناس. (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) ، أي: رصداً من الملائكة، {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:28] من هو الذي يعلم؟ فيها أقول لأهل العلم: قيل: ليعلم هذا النبي أن إخوانه من الأنبياء قد أبلغوا رسالات ربهم. وقيل: (لِيَعْلَمَ) . أي: ربنا سبحانه وتعالى، وليس هذا منافياً لعلمه، إنما المراد بالعلم: علم ينبني عليه الثواب، والعقاب، كقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] ، فهو علم يترتب عليه الثواب والعقاب، وإلا فهو سبحانه يعلم كل شيء، وثم أقوال أخر. {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن:28] أي: عندهم، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28] .

الأسئلة

الأسئلة

حكم الذبائح التي تذبح في الموالد

حكم الذبائح التي تذبح في الموالد Q هل الذبائح التي تذبح في الموالد مما ذبح على النصب؟ A لا نقول: إنها ذبحت على النصب، لأن النصب أشياء تنصب ويعبد عندها غير الله سبحانه وتعالى، فيأتي الناس يذبحون عند هذه الأشياء، لكن لا تأكل مما ذبح في الموالد؛ لأن نوايا الناس تختلف في هذه المواطن، فمنهم أو الغالب يذبحها تقرباً إلى الميت، إلى السيد البدوي أو غيره، فلا تأكل مما يذبح في الموالد. وصلى الله على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تأخير صلاة الفجر ساعة كاملة

تأخير صلاة الفجر ساعة كاملة Q ما حكم تأخير صلاة الفجر ساعة كاملة عمداً كل يوم؟ A الظاهر -والله أعلم- أنه خلاف السنة، ولا شك في ذلك؛ لأن الصحابيات كنّ ينصرفن من صلاة الفجر متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغلس، وأنت الآن إذا أخرت صلاة الفجر ساعة ورمت موافقة السنة في القراءة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ في الفجر من الستين إلى المائة) خرجت من الصلاة والشمس طالعة! فتأخير صلاة الفجر ساعة كاملة بعد أذانه خلاف السنة، والله أعلم. أما حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر) فقد حمله فريق من العلماء على التأكد من دخول وقت الصبح، لكن الأحناف يفهمون غير ذلك، ويؤخرون الفجر حوالي ساعة كما يحدث الآن في الهند وباكستان فيخرجون من الصلاة والشمس طالعة!!

حديث: (ثلاثة لا يهولهم الفزع)

حديث: (ثلاثة لا يهولهم الفزع) Q ما صحة حديث: (ثلاثة لا يهولهم الفزع، ولا ينالهم الحساب-أي: شدته- وهم: من قرأ القرآن ابتغاء رضوان الله، وأمّ قوماً وهم عنه راضون، والمؤذن ابتغاء وجه الله) ؟ A لا يثبت هذا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

حديث: (صلاة على إثر سواك أفضل من خمس وسبعين صلاة)

حديث: (صلاة على إثر سواك أفضل من خمس وسبعين صلاة) Q القول في حديث: (صلاة على إثر سواك أفضل من خمس وسبعين صلاة على غير سواك) ؟ A هذا باطل.

حديث: (لو يعلم الناس ما في السواك لبات مع الرجل في لحافه)

حديث: (لو يعلم الناس ما في السواك لبات مع الرجل في لحافه) Q حديث: (لو يعلم الناس ما في السواك لبات مع الرجل في لحافه) ؟ A هذا لا يثبت.

حديث: (أفواهكم طرق القرآن، فنظفوها)

حديث: (أفواهكم طرق القرآن، فنظفوها) Q (أفواهكم طرق لكلام ربكم فنظفوها) . A إسناده ضعيف.

الوضوء مع الغسل

الوضوء مع الغسل Q هل يجوز الوضوء مع الغسل؟ A نعم يجوز الوضوء مع الغسل، بل السنة أن تتوضأ ثم تغتسل، ولا يتنافى مع الترتيب.

حكم تأخير الصلاة عن وقتها لعذر

حكم تأخير الصلاة عن وقتها لعذر Q نحن مزارعون، نعمل من الساعة (8) صباحاً إلى (1) مساءً، ويكون في العمل ثلاثون عاملاً وعاملة، وعند أذان الظهر يبقى ساعة من العمل، لأن الدوام خمس ساعات، فماذا نفعل؟ وكيف نصلي الظهر في وقته؟ علماً أن صاحب العمل إذا ترك العمال فإنهم لا يعملون؟! A انتظر حتى تنتهي الساعة، وصل جماعة مع العمال ما دامت هناك أعذار مانعة، والله أعلم.

حكم العمل الزراعي مع مشاركة النساء

حكم العمل الزراعي مع مشاركة النساء Q معظم العمل الزراعي يكون بعاملات بنات ونساء، وطبيعة العمل يكون أكثرهن أمام أعين الرجال، فما الحكم؟ A اتق الله ما استطعت، وغض بصرك كما قال الحسن البصري وقد سئل عن نساء الأعاجم: يكشفن شعورهن وأرجلهن، فقال: اصرف بصرك.

حكم العمل وقت صلاة الجمعة

حكم العمل وقت صلاة الجمعة Q يوم الجمعة عندنا في الزراعة عمل، وإذا أوقفنا العمل غضب العمال، فهم يريدون أن يعملوا يوم الجمعة لأجل الاستكثار من الأجرة، فما الحكم؟ A على صاحب العمل أن يوقف العمل لصلاة الجمعة، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، وهذا إذا كان العمل من الأعمال التي يصلح فيها التأخير، لكن إذا كانت أعمالاً لا يصلح أن تؤخر ولا أن تهمل مثال ذلك: حارس إذا ذهب يصلي سرق المحل، أو شخص واقف على مكينة إذا غفل عنها ساعة أو نصف ساعة أحدثت حريقاً، فالضرورات تقدر بقدرها، وكما يحدث مثلاً في الحرم المكي أو المدني فيقف عسكر أمام الأبواب، إن صلوا مع الناس وتركوا المسجد مفتوحاً؛ فقد يدخل شيعة روافض بأي سلاح، ويعبثوا بالحرم، فالضرورة تقدر بقدرها، والله أعلم.

تقبيل يد وقدم العالم أو الصالح

تقبيل يد وقدم العالم أو الصالح Q ما حكم تقبيل يد أو قدم الرجل الصالح أو العالم أو الفقيه؟ A إن فعل ذلك أحياناً فلا بأس، فهناك أدلة تشعر بجواز ذلك، لكن لا تتخذ عادة، فإن الصحابة رضوان الله عليهم ما ورد عنهم أنهم كانوا يتخذون ذلك عادة، وقد ورد في بعض الروايات مجيء صحابي إلى الرسول وتقبيله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعض الصحابة مع بعضهم، لكن لا تتخذ عادة، والله أعلم، والقول بتحريمها لا يصار إليه.

الطمأنينة ورجاء رحمة الله

الطمأنينة ورجاء رحمة الله Q كبر سني، وأنظر إلى شبابي وما حدث فيه، فأستعيذ بالله مما كان فيه، وأستغفر الله، وأسمع عن أي عذاب في القبر أو جهنم فيرتعد بدني، وأنا الآن أقوم بأداء الفرائض، ولا أكثر من النوافل، وأحب الاستمتاع بزوجتي كثيراً، فهل من سبيل للاطمئنان على النهاية؟ A ليس هناك سبيل إلى الاطمئنان على النهاية إلا رجاء رحمة الله سبحانه، فلا أحد يستطيع أن يطمئن على نهايته إلا من الله سبحانه، فاطلب من الله الثبات حتى الممات، فرسولك محمد صلى الله عليه وسلم كان يكثر في اليمين من قول: (لا، ومقلب القلوب!) وكان يكثر في الدعاء: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب! صرف قلبي على طاعتك) ، وأهل الإيمان يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] ، وإبراهيم الخليل يقول للمشركين: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام:80] أي: أنا لا أخاف من الأصنام (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) أي: إذا شاء الله لي شيئاً آخر، خفت من هذه الأصنام، فعليك دائماً أن تكون خائفاً وجلاً من الله سبحانه، وتسأله الثبات حتى الممات، وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى.

زواج الإنس بالجن

زواج الإنس بالجن Q ما حكم زواج الإنس بالجن؟ Aلم يرد أن عفريتاً تزوج امرأة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا صحابياً تزوج عفريتة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فالبحث فيها فضول وليس له معنى، ولولا أن بعض العلماء كـ السيوطي وغيره أثاروها ما تعرضنا لها أصلاً، واستدل بعضهم بقوله تعالى: {لمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] على أن الجان يمكن أن يطمث، وإن كان الجن يمكن أن يطمث، لكن ليس في الآية جواز الزواج، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] والآية تفسرها سيرة رسول الله وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم، فليس المراد بالاستماع الزواج والمعاشرة، إنما يراد الاستمتاع بالشرك والكفر والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (لن تراني)

تفسير قوله تعالى: (لن تراني) Q إذا كانت (لن) تفيد التأبيد فكيف نفسر قوله تعالى لموسى {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ؟ A من العلماء من قال: تفيد التأبيد في الدنيا، (لَنْ تَرَانِي) أي: في هذه الدنيا، أما الآخرة فلها حكم آخر.

حكم السفر بدون إذن الأب

حكم السفر بدون إذن الأب Q يقول: أنا أب لأربعة أولاد، وليس لي دخل إلا مائة وعشرين جنيهاً من وظيفتي، فأردت السفر إلى خارج مصر لتحسين وضعي المادي، ولكن والدي غضب من ذلك، فحاولت أن أنتقل إلى جهة في البلدة أحسن حالاً، لكنني لم أوفق، فهل إذا سافرت مع غضبه يكون ذلك عقوقاً؟ ولو أخذت أهلي معي، ووصيت بأبي أخي الذي يكبرني، ويسكن معي في نفس البيت، علماً بأن والدي يبلغ من العمر سبعين سنة، ويتقاضى معاشاً يكفيه، فهل يجوز ذلك؟ A إذا كنت تستطيع البقاء مع والدك، ولو كان في المعيشة كفافاً، فلتبق مع والدك، فأنت لست مأموراً ولا مطالباً شرعاً أن تكثر من دخلك، فما دام أن الدخل يكفيك فهو الكفاف، أما إذا كان دخلك لا يكفيك، والأولاد يجوعون، والدخل لا يكفيك أصلاً، فهل تمد يديك للناس؟ لا. و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، ولا يلزمك الشرع بأن تستدين، بل قال تعالى: {وامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، لكن طيب خاطر الأب، وأقنعه بالوضع الذي أنت فيه، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

تفسير سورة المزمل [1]

تفسير سورة المزمل [1] سورة المزمل من أوائل ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام، لذا نجد التربية الإيمانية تتجلى بوضوح في آياتها، من ذكر قيام الليل والحث عليه، ثم تعرض صورة من صور يوم القيامة وما أعده الله عز وجل للمكذبين من العذاب والجحيم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها المزمل.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها المزمل.) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] إن من عادة العرب: أنهم كانوا إذا أحبوا أن يلاطفوا شخصاً دعوه بصفة من الصفات التي هو متلبس بها، فمن ذلك: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت بينه وبين فاطمة رضي الله عنهما شيء، فخرج علي من البيت ونام في المسجد، فأتاه الرسول في المسجد وقد علاه التراب، فقال له: (قم يا أبا التراب!) ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي: (قم يا نومان!) . فإذا أحبوا أن يتلطفوا مع الشخص ينادونه بصفة هو متلبس بها. وعلى هذا فالآية فيها ملاطفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناداه ربه بصفة تلبس بها وهي التزمل، والتزمل: التلفف، وكان هذا بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، فقد اعتراه الخوف الشديد واعتراه البرد، ورجع إلى أهله فقال: (زملوني زملوني) ، وقال: (دثروني دثروني) ، (زملوني) أي: غطوني، فمعنى (المزمل) : النائم المتلفف بالثوب. {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] ، أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، أي: قم الليل كي تصلي، لكن حذفت (كي تصلي) ؛ لأن العرب يفهمون ما المراد بقيام الليل، وقد قدمنا نماذج: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ، ما هي التي توارت؟ العرب يفهمون أن التي تتوارى بالحجاب هي الشمس. (يا أيها المزمل) * (قم الليل إلا قليلاً) أي: قم صل في الليل أو صل الليل إلا قليلاً منه، وقد صح أن سعد بن هشام أتى إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يسألها عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا أم المؤمنين! أخبريني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت له: ألست تقرأ: (يا أيها المزمل) ، (قم الليل إلا قليلاً) ؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قام من الليل هو وأصحابه حتى ورمت أقدامهم، قاموا حولاً اثني عشر شهراً حتى تورمت أقدامهم، ثم نزل قوله تعالى. في آخر السورة: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، فنسخت هذه الآية الآية التي قبلها. فمن العلماء من يرى أن قيام الليل كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، ويستدل هذا القائل بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، فـ (نافلة لك) على رأي بعض العلماء أي: زيادة لك على أمتك، فأمتك ليست مكلفة بقيام الليل، أما قيام الليل فهو نافلة لك، أي: أنت مكلف به زيادة على أمتك على رأي بعض المفسرين.

حكم تعلم علم التجويد

حكم تعلم علم التجويد Q ما حكم التجويد الذي يتضمن الإخفاء، والإقلاب، والغنة، والمد ست حركات، أو أربع حركات أو أكثر أو أقل؟ علماء القراءات يقولون بوجوب تعلم علم التجويد، ويستدلون بقول القائل: والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم لكن التحرير من ناحية فقهية أنه مستحب؛ وذلك لأنه يدخل ضمناً في قوله تعالى: (ورتل القرآن ترتيلاً) أي: بينه تبييناً، ويدخل في تحسين الصوت بالقراءة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به) ، يعني: ما استمع الله لشيء كما استمع إلى نبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به. وقد ورد حديث في البخاري: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ، ومن العلماء من قال: هذا الحديث منتقد على الإمام البخاري بهذا اللفظ، انتقده عدد من أهل العلم كـ الدارقطني وغيره، وقالوا: إن الصواب فيه هو حديث: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به) ، فرواه راو بالمعنى بلفظ: (ليس منا من يتغنى بالقرآن) ، وبين اللفظين خلاف، وقد ورد في الباب حديث: (زينوا القرآن بأصواتكم) ، وورد حديث: (الذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) ، فليس بآثم من يتعتع في قراءة القرآن، (والماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة) ، والله أعلم.

جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في قيام الليل

جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في قيام الليل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة) . وورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) . وورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ما حاصله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من الليل ثلاث عشرة ركعة) ، فهذه ثلاثة أدلة تعد أصول في هذا الباب. حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة) ، في هذا النص إباحة الصلاة لمن شاء، لكن صفتها أن تكون: مثنى مثنى، ثم جاء حديث أم المؤمنين عائشة: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) . فقد يقول القائل: إن هذا النص المفسر يفسر المجمل في قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، لكن جاء حديث ابن عباس فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثلاث عشرة ركعة من الليل) ، فلزم التوفيق بين هذه الأدلة مجتمعة. وورد أيضاً في الباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه) ، وهذا دليل رابع يدخل في الاعتبار عند مناقشة هذه المسألة، فبعض أهل العلم أخذ دليلاً من هذه الأدلة، وبنى عليه قوله، وأهمل الأدلة الأخرى؛ فنشأ فقه عجيب! فجاء أحدهم إلى حديث عائشة: (ما زاد رسول الله على إحدى عشرة ركعة) ، وقال: الأصل أن تصلي إحدى عشرة، وليس لك أن تزيد، لحديث عائشة: (ما زاد رسول الله على إحدى عشرة ركعة) ، وهذا القول قول عجيب! بل بالغ بعضهم فقال: إذا زدت فأنت مبتدع! وهذا من عجيب القول ومن القول المستنكر الذي لم يسبق إليه قائله! ولكن لزاماً -كما أسلفنا- أن تجمع الأدلة التي وردت في الباب. وقال فريق من أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قيام الليل في كتابه الكريم لم يحدده بعدد ركعات، إنما ذكره مقيداً بأزمنة، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:2-4] ، فكلها مدد زمنية. كذلك قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ} [آل عمران:113] ، أي: ساعات، فهي أيضاً مدة زمنية، وأيضاً قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ، فهي أيضاً مدة زمنية، وأيضاً حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (أحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه) ، فهي أيضاً مدة زمنية. فكل الآيات التي وردت في كتاب الله فيها مدة زمنية، إضافة إليها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو: (أحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه) ، فهو أيضاً مدة زمنية، ثم إن المعنى أيضاً معتبر، فليس من قام إحدى عشرة ركعة في عشر دقائق خير ممن صلى ركعتين تلا فيهما جزءاً من القرآن، يعني: إذا قام شخص وصلى إحدى عشرة ركعة في ربع ساعة أو في نصف ساعة وانتهى ونام، هل هو خير من رجل صلى أربع ركعات كصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام التي وصفتها عائشة فقالت: (لا تسأل عن حسنهن وطولهن) ؟ هل الذي صلى إحدى عشرة ركعة في ثلث ساعة أو في نصف ساعة خير أم رجل صلى أربع ركعات كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيهما خير شخص صلى أربع ركعات في ساعة أم شخص صلى إحدى عشرة ركعة في نصف ساعة أو في ثلث ساعة؟! فمن ناحية المفهوم أيضاً يفهم أن الذي وافق صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من الذي لم يوافق صفة صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه لا بد وأن يعتبر أيضاً في الباب إضافة إلى عدد الركعات صفة الركعات، فإذا أراد شخص إصابة السنة فعليه أن يوافقها في الصفة وفي العدد، لكن كونه يأتي يتحجر أمام النص، ما زاد الرسول على إحدى عشرة ركعة، ويصلي في كل ركعة بفاتحة الكتاب مثلاً وسورة قصيرة كالعصر، ثم يدعي أنه أفضل من رجل صلى أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة قدراً كبيراً من القرآن ويسجد لله ويخشع، حتى مضى عليه ما يقارب الساعة، فلابد من النظر في الصفة وفي العدد، فإذا أردت موافقة السنة فلتوافقها في العدد وفي الصفة، لكن إذا جئنا نطبق هذا ونقول: يا مسلمون! نريد أن نوافق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في العدد والصفة فهو خير الهدي، فنقول: إن ابن عباس أثبت أنه زاد عن إحدى عشرة ركعة، فكيف نفعل إذا جئنا نوافق الرسول عليه الصلاة والسلام في صفة صلاته، ولم يتحمل الناس ذلك؟ كيف والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم) . ولكن قد يقول قائل: هذا في الفريضة، لكن قال الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) ، فشخص يقول: يا ناس! أنا أريد أن أصلي معكم حتى يكتب لي قيام ليلة، ولكن صلاتكم طويلة جداً، قد تأتيني الحاجة في الصلاة من بول أو غائط أو عطش أو نحو ذلك، فتشق عليّ الصلاة معكم، ونحن نريد أن نراعي المصلحة العامة للمسلمين، فماذا نصنع؟ فإذا وافقنا صلاة الرسول عليه الصلاة والسلام في الصفة وفي العدد شق هذا على المسلمين، وإذا قصرنا في الصفة حتى نوافق في العدد ابتعدنا عن قول الرسول: (أحب القيام قيام داود، كان يقوم ثلث الليل ... ) ، فماذا نصنع؟ قال كثير من أهل العلم: إن المعول عليه الوقت -كما سمعتم- فإذا قللنا في الصفة نزيد في العدد، إذا قللنا في القراءة نزيد في عدد الركعات، وإذا أطلنا القراءة نقصر عدد الركعات حتى يتسنى لنا موافقة نبي الله داود، وحتى يتسنى لأصحاب الأعذار أن يقضوا الحاجات، وقالوا: إن الأصل أن أكثر صلاة رسول الله إحدى عشر ركعة لكن أيضاً ثبت أنه زاد على إحدى عشرة ركعة كما في حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة) ، وأيضاً فتح لنا الباب في قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وعلى هذا جاءت سيرة الصحابة والتابعين، ورد عن عمر رضي الله عنه أنه جمع الناس على إحدى عشرة ركعة، جمعهم على أبي بن كعب وفي رواية أخرى: على إحدى وعشرين ركعة على أبي أيضاً. فمن العلماء من يصحح إحداهما ويضعف الأخرى والتحرير: أن كلا الروايتين صحيح، ويحمل على التعدد، فأحياناً جمعهم على إحدى وعشرين، وأحياناً جمعهم على إحدى عشرة ركعة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أننا إذا أطلنا القراءة نقصر الركعات وإذا قصرنا القراءة نطيل في عدد الركعات، وهو اختيار الحافظ ابن حجر، واختيار طائفة كبيرة من العلماء، ولذلك إذا تتبعت سيرة السلف الصالح رأيت منهم -كالإمام مالك - من يستحب ستاً وثلاثين ركعة، وترى أن منهم من كان يقوم بأكثر، ومنهم كان يقوم بأقل، والله أعلم، والباب مفتوح، وهو باب تطوع، والحمد لله. فقصدنا بذلك أننا إذا صلينا وراء إمام يصلي إحدى وعشرين لا نفارقه وننصرف، ونحدث مشاكل بين الناس ونستدل بحديث عائشة، إذا استدللت بحديث أم المؤمنين عائشة فلتستدل أيضاً بالأدلة الأخر، فإن الفقه يؤخذ من مجموع الأدلة كما سمعتم. قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1-4] ، (رتل القرآن ترتيلاً) أي: بينه تبييناً ووضحه إيضاحا، فلا تتداخل الكلمات في بعضها، ولا تتداخل الحروف في بعضها.

فضل قيام الليل من الكتاب والسنة

فضل قيام الليل من الكتاب والسنة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ} [المزمل:1-3] أي: نصف الليل، {أَوِ انْقُصْ) [المزمل:3] أي: انقص من هذا النصف {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:3-4] . قيام الليل دأب الصالحين، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] ، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] ، وقال سبحانه في شأن عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] ، وقال تعالى في شأن أهل الكتاب أيضاً: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] ، فجاءت الأدلة متواترة ومترادفة تحث على قيام الليل، فقد جاء في خبر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنه دأب الصالحين من قبلكم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه: (من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين؟ يا رُب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً قام من الليل يصلي فأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي، فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قيام الليل ويطيل القراءة لنفسه غاية الإطالة، فقد قام عليه الصلاة والسلام مرة من الليل يصلي، ودخل ابن مسعود معه، فافتتح الرسول عليه الصلاة والسلام القراءة بالبقرة -بعد الفاتحة- ثم بالنساء ثم بآل عمرآن، ثلاث سور طوال قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في ركعة واحدة! (وكان يسجد قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية عليه الصلاة والسلام) ولا بد من معرفة صفة وعدد ركعات قيام الليل، ومن المعلوم أن من الأصول التي ينبغي الرجوع إليها دائماً أن الأحكام لا تؤخذ من حديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تؤخذ الأحكام من مجموع الأدلة الواردة في المسألة الواحدة، وتؤخذ أيضاً من عمومات شرعية تتعلق بالمسألة.

تفسير قوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا.

تفسير قوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولاً.) قال الله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] ، القول الثقيل هو: القرآن، وثقله ليس في لفظه، فرب العزة يقول في عدة آيات: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] . فما المقصود بثقل القرآن؟ قال العلماء: ثقله يتمثل في: أحكامه وتكاليفه من الأمر والنهي، كالأمر بالصلاة والأمر بالصيام، كالأمر بغض البصر، وفيه أوامر بترك الشبهات، وأوامر بترك المحرمات كالخمر، وأوامر بتحريم بعض الأطعمة، فكل هذه تكاليف وأوامر ونواهٍ وأحكام، فثقل القرآن يتمثل في تكاليفه التي فيه، إذ هي في البداية ثقيلة على من كُلف بها.

تفسير قوله تعالى: (إن ناشئة الليل.

تفسير قوله تعالى: (إن ناشئة الليل.) قال الله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل:6] ، ما معنى الناشئة؟ من العلماء من قال: ناشئة الليل: هي ساعات الليل التي تبدأ من بعد العشاء إلى الفجر، منذ أن ينشأ الليل، يعني: منذ أن يبدأ الليل، (إن ناشئة الليل) أي: ساعات الليل {أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل:6] ، أي: من ساعات النهار، وسيأتي تفسير الوقت، ومن العلماء من قال: الناشئة معناها: القيام، مثل قولهم: أنشأ فلان يقول، يعني: قام فلان يقول. فمن العلماء من قال: نشأ بمعنى: قام بالحبشية، ومنهم من قال: إن الناشئة هي: ساعات الليل التي تبدأ من بعد صلاة العشاء وتنتهي إلى الفجر، يعني: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً) أي: القيام في ساعات الليل، (أشد وطئاً) كما سيأتي بيانه، فهما قولان في ناشئة: أحدهما: نشأ بمعنى: قام، والثاني: ناشئة: ساعات الليل. وقوله: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً) الوطء: له معان، فمن معانيه: الشدة والثقل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! اشدد وطأتك على مضر، اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) ، والقول الآخر في الوطء: من المواطأة وهي: الموافقة، تواطأ فلان وفلان، أي: توافق فلان وفلان على فعل شيء معين، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت) ، يعني: قد اتفقت على أنها في العشر الأواخر، فمن العلماء من قال: إذا تواطأت فهي حق، وقد تواطأت رؤيا الأذان، أي: رآها عمر ورآها عبد الله بن زيد فرآها أكثر من واحد، فتواطأت أي: اتفقت، فقوله على هذا التأويل: إن ناشئة الليل -أي: إن قيام الليل- أشد وطئاً، أي: أشد موافقة للفهم والتدبر من ساعات النهار، يعني: إن ساعات الليل أقرب لفهم كتاب الله وأوفق في الأفهام من ساعات النهار؛ لما يعتري ساعات النهار من التشويش والضوضاء وغير ذلك. فالمعنى: إن ساعات الليل أشد موافقة لتفهم القرآن وتدبر معانيه والوقوف عند آياته من ساعات النهار، و {وَأَقْوَمُ} [المزمل:6] أي: وأحسن تلاوة، كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ، أي: للتي هي أحسن، والمعنى: أن تلاوة الليل تختلف عن تلاوة النهار.

تفسير قوله تعالى: (إن لك في النهار سبحا.

تفسير قوله تعالى: (إن لك في النهار سبحاً.) وقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] قال بعض العلماء: إن المراد بالسبح: السبح في الدنيا للعمل وقضاء الحوائج، يعني اسبح في النهار كما تريد أن تسبح، اعمل في النهار ما تريد أن تعمل، لك في النهار أن تتجول لقضاء حوائجك، أن تسعى لكسب رزقك، أن تنام لتستريح في الظهر وفي وقت القيلولة، فتتفرغ لقضاء حوائجك في النهار.

تفسير قوله تعالى: (واذكر اسم ربك.

تفسير قوله تعالى: (واذكر اسم ربك.) وقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8] ، الذكر: حث عليه ربنا في جملة مواطن: في الليل، وفي النهار، وفي القيام، وفي القعود، وعند النوم، بل في كل المواطن. {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8] ، وقد أسلفنا أن الكلمة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تتعدد معانيها، ويؤخذ المعنى من السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة، فمثلاً كلمة: (تبتل إليه تبتيلاً) أمر الله سبحانه وتعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بالتبتل، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، قال الصحابة ولو أذن له لاختصينا، فكيف يقال: (وتبتل إليه تبتيلاً) ؟ وكيف نجمع بين هذه الآية الكريمة التي فيها الأمر بالتبتل وبين قول الصحابي: رد النبي عليه الصلاة والسلام على عثمان بن مظعون التبتل؟ هناك تبتل مأمور به، وتبتل منهي عنه. فالتبتل المأمور به لا بد أن يكون له معنى غير التبتل المنهي عنه، وأصل التبتل: الانقطاع كما قيل لمريم: البتول، أما رد النبي عليه الصلاة والسلام على عثمان بن مظعون التبتل، فالتبتل هنا بمعنى الانقطاع للعبادة وترك النساء؛ لأنه كان يريد الانقطاع كلية عن الزواج، ولا يتزوج أبداً، كان يريد الانقطاع كلية عن الزواج ولا يتزوج، فالرسول رد عليه هذا ومنعه، لكن الآية: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8] أي: في الساعات التي تقوم فيها من الليل تصلي، انقطع فيها إلى الله انقطاعاً، ولا تشغلها بغير عبادة الله عز وجل، وليس المراد: انقطع عن كل أعمالك للصلاة، ولكن إذا قمت إلى الصلاة فرغ قلبك وفرغ ذهنك وفرغ عقلك لتدبر الآيات وللصلاة في هذه الأوقات التي خصصتها لقيام الليل، وهذا القول الأول في تفسير قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} . القول الثاني في تفسير قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} أن يقال: (تبتل إليه) أي: اعبده وانقطع لعبادته، ولا تعبد غيره معه. {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] أي: اجعله وكيلاً عنك في كل شئونك، فإذا أردت قضاء حاجة من الحاجات فاجعله سبحانه وكيلاً لك لقضائها، تريد التوسط في شيء اجعله وكيلاً لك في قضاء هذا الشيء، مع الأخذ بالأسباب.

تفسير قوله تعالى: (واصبر على ما يقولون.

تفسير قوله تعالى: (واصبر على ما يقولون.) قال الله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10] ، وهو الهجر أو الهجران الذي لا عتاب معه، (اهجرهم هجراً جميلاً) أي: اهجرهم هجراً لا عتاب معه، وهو كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14] ، لكن هل المراد بالهجر الجميل: الصبر على الأذى وعدم مواجهته بأذى مشابه؟ من العلماء من قال: إن هذا في بعض أنواع الأذى، لكن بعض العلماء يقولون: إن الآية منسوخة بآية السيف؛ لأن الله قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:29] ، وقال: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] ، وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9] ، وقال سبحانه مثنياً على الذين ينتصرون إذا أصابهم البغي: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39] ، فليس كل من أصابه البغي يحمد عفوه إن عفا، قد يكون في العفو أحياناً تقوية للظالم وتجريء للظالم على ظلمه، فالمسألة تحتاج إلى فقه واسع، أحياناً تعفو، وأحياناً تؤاخذ، وأحياناً تصبر، وأحياناً تنتقم، وأحياناً تشتد، وأحياناً تلين، وكل جزئية من هذه الجزئيات عليها دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا الرسول لأقوام ودعا على أقوام، عفا الرسول عن أقوام وانتقم من أقوام، منَّ الرسول على أقوام وقتل أقواماً، كل جزئية من هذه الجزئيات عليها دليل من السنة، ولكن الفقيه هو الذي يأخذ من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام ما يوافق الواقعة، مثلاً: شخص ضربك، هل أنزل عليه {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39] أو أنزل عليه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ؟ أو أداريه أو أعاقبه؟ الحكمة هي ضالة المؤمن، والرسول يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، فقد يكون شخص حامل لكل النصوص التي سمعتموها، يحمل نصوصاً انتقم فيها الرسول، ونصوصاً عفا فيها الرسول، ونصوصاً ألان فيها الرسول، ونصوصاً شدد فيها الرسول، لكن لا يعرف هل هذا الموقف يستلزم الشدة أو يستلزم الرفق؟ فيخلط في الأمر، فلا بد لحمل النصوص من فقه في الدين وفي واقع المسلمين. قال الله سبحانه وتعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10] ، الهجر الجميل: الذي لا عتاب معه، وهناك صبر جميل وهو الذي لا شكوى معه.

تفسير قوله تعالى: (وذرني والمكذبين.

تفسير قوله تعالى: (وذرني والمكذبين.) قال الله: {وَذَرْنِي} [المزمل:11] أي: اتركني، وهو على سبيل التهديد للمشركين، {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل:11] ، الواو هنا بمعنى: مع، أي: ذرني مع المكذبين أي: اتركني مع هؤلاء المكذبين لأنتقم منهم، كما في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] ، {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] ، قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11] أي: المنعمون المترفون، فهم أعداء الرسل في الغالب، أهل الترف في الغالب -إلا من رحم الله- يطغيهم ترفهم، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] ، فالأغنياء والأثرياء والمنعمون في الغالب هم أهل الشر والفساد، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] ، {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف:60] ، والملأ: هم المستكبرون، فرب العزة يقول: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11] ، المنعمون في دنياهم، {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل:11] : اصبر عليهم قليلاً {إِنَّ لَدَيْنَا} [المزمل:12] أي: عندنا {أَنكَالًا} [المزمل:12] أي: قيوداً، {وَجَحِيمًا} [المزمل:12] ، أي: ناراً. {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} [المزمل:13] ، ذا غصة: يقف في الحلق لا ينزل، كالضريع والزقوم، يقف في الحلق ولا يصل إلى الجوف، فلا يستطيع بلعه، ولا يستطيع إخراجه. {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:13] أي: مؤلماً موجعاً.

تفسير قوله تعالى: (يوم ترجف.

تفسير قوله تعالى: (يوم ترجف.) قال الله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل:14] يتحقق هذا العذاب يوم ترجف الأرض والجبال أي: الزلزلة، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا} [المزمل:14] ، والكثيب: الرمل المجتمع، المهيل: السائل المنهال. ثم قال سبحانه {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل:15] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم، بعث مبشراً ونذيراً وشاهداً، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] ، فهو شاهد على أمته صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41-42] ، فالرسول شاهد على أمته صلى الله عليه وسلم، {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل:15] ، وهو موسى صلى الله عليه وسلم، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:16] ، والوبيل: هو الشديد، ومنه قوله تعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة:265] ، فالوابل: المطر الشديد، {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة:265] : هو المطر الخفيف أو الرذاذ، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

هل ورد في فضل صيام شهر رجب شيء؟

هل ورد في فضل صيام شهر رجب شيء؟ Q ما هو فضل الصيام في شهر رجب؟ A لا أعلم في الصيام في شهر رجب نصاً صريحاً عن رسول الله، اللهم إلا عموم القول بأن شهر رجب من الأشهر الحرم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأشهر الحرم: (ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) ، ولماذا نسب رجب إلى قبيلة مضر؟ لأنها كانت تحافظ على شهر رجب لا تقدمه ولا تؤخره، أما أهل الجهل والغباء من أهل الجاهلية، فكانوا إذا دبت بينهم حروب ودخل عليهم الشهر الحرام ويفترض أنهم يتوقفون عن الحرب، لكن كانوا في رجب يقولون: لا بأس في هذه السنة أن نلغي رجب من أجل الاستمرار في الحروب، أو يقولون: نؤخر رجب ونجعله مكان شعبان، من أجل أن يستمروا في الحروب، فقال الله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ} [التوبة:37] أي: إنما التأخير {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:37] الآية. أما شهر شعبان فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر من الصيام فيه.

ما المحرم من الخنزير؟

ما المحرم من الخنزير؟ Q هل المحرم من الخنزير لحم الخنزير أم الخنزير كله حرام؟ A الخنزير كله حرام.

ما حال حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات) ؟

ما حال حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات) ؟ Q حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات) ما صحته؟ A لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

حكم تكرار السورة القصيرة في الركعة الواحدة

حكم تكرار السورة القصيرة في الركعة الواحدة Q هل يجوز تكرار السورة القصيرة في الصلاة في الركعة الواحدة؟ A لا مانع من ذلك، وقد ورد حديث في إسناده ضعف: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قام بالآية الأخيرة من سورة المائدة {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] ، ليلة) ، لكن في إسناد الحديث ضعف والله أعلم، وقد ورد قراءة الصحابي بسورة "قل هو الله أحد" يرددها.

ما المراد باليوم في قوله: (اليوم أكملت لكم) ؟

ما المراد باليوم في قوله: (اليوم أكملت لكم) ؟ Q ما المراد باليوم في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ؟ A هو يوم عرفة من حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، ومات الرسول بعدها بقرابة تسعين يوماً، لكن الإشكال الذي قد يرد هو أن النبي بعد هذه الآية حث على أمور في مرض موته، يعني: في مرض الموت قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ، (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) ، وقال في مرض الموت: (ألا لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) ، وكل هذا بعد (اليوم أكملت لكم دينكم) ، فكيف يجمع بين (أكملت لكم دينكم) وبين هذه النصوص التي أتت لاحقة؟ فالعلماء لهم إجابات على هذه الإشكالات، أحد هذه الأجوبة: أن المراد بالدين في قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) : الحج، أي: أكملت لكم حجكم، هذا قول، والقول الثاني: أن المراد بـ (اليوم أكملت لكم دينكم) : أصول دينكم، والقول الثالث: أن المناهي التي نهى عنها الرسول عليه الصلاة والسلام في مرض موته بعد هذه الآية، كان قد نهى عنها من قبل، ولكنه أكد النهي عنها مرة ثانية، كما ذكر أنه في مرض الموت كان يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) ، مع أنه حث على الصلاة منذ أن كان بمكة، وحث على الرفق بملك اليمين منذ أن كان بمكة عليه الصلاة والسلام، فهذه بعض الوجوه التي جمع بها في هذا الباب.

حديث: (يأتي امرؤ القيس يوم القيامة يحمل لواء الشعراء إلى النار) ؟

حديث: (يأتي امرؤ القيس يوم القيامة يحمل لواء الشعراء إلى النار) ؟ Q ورد حديث: (يأتي امرؤ القيس يوم القيامة يحمل لواء الشعراء إلى النار) ما صحة هذا الحديث؟ A إسناده ضعيف.

حكم الغناء للأطفال بدون آلات موسيقية

حكم الغناء للأطفال بدون آلات موسيقية Q هل يجوز الغناء للأطفال بدون استعمال آلات موسيقية؟ A في هذه الحالة يبقى النظر في كلمات الغناء التي تغنى، فإذا كان الشرع يقرها وليس فيها مخالفة شرعية، فلا بأس إن كان بقدر، وإن كان الشرع لا يقرها فيمنع.

الحور العين للرجال في الجنة، فما يكون للنساء؟

الحور العين للرجال في الجنة، فما يكون للنساء؟ Q أخبر الله في كتابه الكريم أن من ثواب المؤمنين في الجنة: الحور العين {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] ، فما هو المقابل بالنسبة للنساء؟ A قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] .

حديث: (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) ؟

حديث: (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) ؟ Q (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) ما صحة هذا الحديث؟ A ليس بحديث عن رسول الله فيما أعلم.

حكم التوفير البريدي

حكم التوفير البريدي Q ما الحكم في دفتر التوفير كوسيلة للادخار وليس للربح؟ A ادخار الأموال جائز، لكن إذا أخذت عليها فائدة فالفائدة حرام.

ما معنى قولهم: (ولو أذن له لاختصينا) ؟

ما معنى قولهم: (ولو أذن له لاختصينا) ؟ Q ما معنى هذه المقولة: (ولو أذن له لاختصينا) ؟ A الاختصاء: معروف، تدق عروق الخصيتين حتى تذهب الشهوة.

معنى قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات) الآية

معنى قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات) الآية Q ما معنى قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ؟ A قد شاء الله أن يكونوا خالدين أبداً، هذه الآية كما أسلفنا من الآيات التي وقع بسببها بعض أهل العلم في بعض ما يخالف منهج أهل السنة والجماعة، فمنهج أهل السنة في الجنة والنار: أن الجنة تبقى دائماً أبداً، والنار كذلك، فمن العلماء من قال: إن النار ستفنى لهذه الآية: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ، فقال: إن النار ستفنى، واستدل أيضاً بقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] ، وقد أجيب على مثل هذا التوهم بما فيه الكفاية، وحاصله أن قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] قد شاء الله ألا يخرجوا منها كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] ، فالمشيئة هنا بينتها آيات أخرى تبين عدم خروجهم من النار، وأن الله شاء ألا يخرجوا، كقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56] ، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، هذا قول، والقول الآخر: أنها في عصاة المؤمنين الذين كانوا من الأشقياء في الدنيا لكنهم أهل توحيد ولم يغفر لهم، فيبقون في النار إلى أن يشاء الله ثم يخرجوا منها. أما قوله: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] ، فلا دليل فيه على فناء النار؛ لأن الله قال: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} [النبأ:23-24] أي: هم لا يأكلون في الأحقاب، فلا يذوقون البرد ولا الشراب {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:25] ، وماذا بعد الأحقاب؟ بعدها: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30] .

حكم الجلالة

حكم الجلالة Q إذا أكل الطائر الدم هل يحرم أكله؟ A إذا كانت الطيور التي في بيتك تأكل الدم ولم تذبح إلا بعد ثلاثة أيام فلا بأس بتركها تأكل من الدم، فالدم ليس بحرام على الجلالة، والجلالة: هي التي تأكل الجلة والعذرة، الجلة: المعروفة عند الفلاحين، لكنها لغة عربية، فالجلالة التي تأكل الجلة والعذرة، لكن هل هي من كل الدواب أو من دواب مخصوصة؟ فمن العلماء مثل ابن حزم الظاهري قال: الجلالة: من ذوات الأربع: كناقة مثلاً تأكل هذه القاذورات أو كبقرة مثلاً تأكل هذه القاذورات، أو كشاة، أو كجدي، أو أي شيء من ذوات الأربع. وقال غيره من العلماء: إن الجلالة كل ما يأكل الجلة أو العذرة سواء كان من ذوات الأربع أو من ذوات الرجلين، وقد ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن لحوم الجلالة وعن ألبانها) ، وفي بعض الروايات: (وعن ركوبها) ، إلا إذا حبست ثلاثة أيام، فالزيادة التي فيها: (وعن ركوبها) ، إن ثبتت فتدل على أن الجلالة من ذوات الأربع، لكن هل يفيد هذا الحديث الحصر؟ لا يفيد الحصر فذوات الأربع منها جلالة وأيضاً الطيور منها جلالة، فالراجح -والله أعلم- في الجلالة: أنها كل ما يأكل الجلة والعذرة سواء كان من ذوات الأربع أو من ذوات الرجلين، ولماذا نهى الرسول عن ركوب الجلالة؟ مثلاً: ناقة تأكل العذرة وتأكل الجلة، لماذا نهى الرسول عنها؟ قال بعض العلماء: إنها إذا كانت تأكل العذرة وتأكل الجلة، أحياناً إذا كنت تركب الدابة -الحمار أو الفرس أو الناقة- تأتي تلحسك بلسانها، فلما تلحسك بلسانها تنجس، ثيابك وتنجسك؛ لأن لسانها ملوث بأكل العذرة، وإذا ذبحتها وجئت تأكلها طعامها لا يهضم، فأنت تشعر بالعذرة التي أكلت، وأنت مثلاً إذا ذبحت الآن دجاجة أو ذبحت بطة أكلت فول أو ذرة، بمجرد الذبح تجد الفول والذرة ما زال في بطنها لم يهضم، فيستقذر أكل الجلالة لأن آثار تلك العذرة لا تزال فيها، والرائحة أيضاً تجدها حتى في لحمها بعد ذبحها، فكيف العمل؟ العمل ألا تذبح الجلالة التي أكلت الجيفة الآن وتأكلها، والنفس تعاف هذا وتستقذره، لكن النهي عنها ليس من باب التحريم المطلق الدائم؛ لأن الله يقول: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145] ، ولم تذكر الجلالة هنا، فالنهي عن أكل الجلالة مؤقت بوقت، فإن حبست ثلاثة أيام، وعلفت بطعام نظيف؛ فتعود حلالاً طيباً.

تفسير سورة المزمل [2] وسورة المدثر [1]

تفسير سورة المزمل [2] وسورة المدثر [1] يظهر في سورة المزمل جلياً أنها سورة مكية؛ حيث يظهر فيها الاهتمام بتعميق الإيمان باليوم الآخر، من خلال التذكير بما يكون في ذلك اليوم من أهوال تشيب لها مفارق الولدان، وما ينفع العبد في ذلك اليوم من عمل، ويتركز الاهتمام على قيام الليل؛ لما له من أثر في صياغة الشخصية المؤمنة التي يريدها الله. أما سورة المدثر فإنها من أوائل ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام، لذا جاء فيها إعلام من الله لنبيه أن وقت النوم قد مضى، وساعة إنذار العباد قد حانت، ولذا يجب الاستعداد لتحمل تبعات الدعوة، بتعظيم الرب، وطهارة الظاهر والجنان، والاعتماد على المنان، والصبر على المكاره في سبيل الرحمن، استعداداً ليوم العرض على الديان.

تفسير قوله تعالى: (فكيف تتقون إن كفرتم.

تفسير قوله تعالى: (فكيف تتقون إن كفرتم.) الحمد لله، والصلاة والسلام على ررسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول الله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل:17] ، فكيف تدفعون وتتقون -إن كفرتم- يوماً يجعل الولدان شيباً لما فيه من الأهوال؟! أخرج البخاري ومسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله سبحانه وتعالى لآدم يوم القيامة: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ يشيب الصغير، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ، فشق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة) .

تفسير قوله تعالى: (السماء منفطر به.

تفسير قوله تعالى: (السماء منفطر به.) قال سبحانه: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل:18] أي: السماء مع قوتها وشدتها وتماسكها الآن -كما وصفها الله بقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] أي: التي حبكت وشد بعضها إلى بعض شداً قوياً- تتفطر يوم القيامة من شدة الأهوال! فإن قال قائل: لِم لم يقل: السماء منفطرة به، على التأنيث؟ قال بعض العلماء: إن هذا جرى على النسب، فالمعنى: والسماء ذات انفطار به، كما يقال في المرأة: المرأة حائض، ولا يقال: المرأة حائضة، وكما يقال: امرأة مرضع، ولا يقال: امرأة مرضعة. وقال بعضهم: إن معناها: والسماء ذات انفطار بهذا اليوم، أي: أنها تنفطر أي: تتشقق، كما في الحديث: (قام النبي عليه الصلاة والسلام حتى تفطرت قدماه) أي: تشققت قدماه، فمن شدة أهوال يوم القيامة تكون الجبال كثيباً مهيلاً، فتتحول الجبال مع شدتها وتماسكها إلى الكثيب المنهال، أي: الرمل المهال، والسماء كذلك مع شدتها وشدة حبكها تتقطع من شدة الأهوال، {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:18] كان وعد الله كائناً. قال الله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19] أي: طريقاً يقربه من الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك.

تفسير قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك.) قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل:20] أي: أن أمرك لا يخفى على الله سبحانه وتعالى، هو يعلم حالك ويعلم قيامك كما قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، وكما قال سبحانه وتعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] ، وينبغي أن تثار في مثل هذا الموطن الآيات والأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب المراقبة، وتعتقد يقيناً أن الله يراك عندما تعمل أي عمل، وهذه منزلة الإحسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وفي هذا الباب يقول سبحانه ما سمعتموه: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، ويقول سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] . ومن هذا الباب قول أبي بكر، للنبي صلى الله عليه وسلم وهما في الغار: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا! قال له: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ، فيجب أن يستحضر العبد هذا دائماً، تعلم في كل وقت وحين أن الله يراك، ومطلع عليك، وعالم بأحوالك، وبأقوالك، وبنياتك، وبما يصلحك، وبما يكون سبباً لفسادك، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27] . قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20] أي: طائفة من الذين آمنوا بك يقومون معك هذا القيام، أو يقومون مثل قيامك في بيوتهم، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل:20] ، يعلم مقادير الليل ويعلم مقادير النهار، والتقدير أحياناً يطلق على الحساب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الدجال: (إن يوماً من أيامه كسنه، وإن يوماً من أيامه كشهر، وإن يوماً من أيامه كجمعة) الحديث، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا اليوم -يا رسول الله- الذي هو كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال: لا، اقدروا له قدره) ، فالتقدير يطلق أحياناً على الحساب، وله معان أخر. {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل:20] أي: يعلم مقادير الليل ومقادير النهار، وأوقات الليل وأوقات النهار.

تفسير القرض الحسن

تفسير القرض الحسن من أهل العلم من قال: إن القرض الحسن راجع إلى الزكاة، ومنهم من قال: إن القرض الحسن هو: الصدقة التي هي نفل وتطوع. والله أعلم. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل:20] ، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تصدق أحدكم بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله سبحانه وتعالى يأخذها بيمينه، فيربيها له كما يربي أحدكم مهره أو فلوه، حتى تكون التمرة كالجبل العظيم) ، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [المزمل:20] ، أي: أكثروا من الاستغفار، فإن الاستغفار سبب في محو الخطايا ورفع الدرجات وسبب في استجلاب الأرزاق، {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود:52] ، وسبب في دفع المصائب عن العبد، {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل:20] .

معنى الضرب في الأرض

معنى الضرب في الأرض وقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ، من العلماء من قال -كـ السيوطي رحمه الله تعالى-: إن هذه الآية أصل في التجارات، ألا وهي قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ، فالسفر والضرب في الأرض وطلب الرزق ليس بطاعن في دين العبد، بل هو شيء مستحب، وقد تقدمت جملة أدلة في ذلك، منها قول الله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] ، وقال عمر: ألهاني الصفق في الأسواق، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يلهيهم الصفق في الأسواق، وكنت أصحب النبي صلى الله عليه وسلم على شبع بطني، أو كما قال. قال الله سبحانه وتعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ، ففيها بيان مشروعية التجارة والاكتساب والسفر طلباً للرزق الحلال. وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ، أي: كل في تخصصه: التاجر في تجارته، والمجاهد في جهاده، والمصلي في صلاته، والقارئ في قراءته، {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، (اقرءوا ما تيسر منه) أي: من القرآن في صلاة الليل أو بصفة عامة، فعلى هذا أصبحت هذه الآية ناسخة لقوله تعالى -على رأي الجمهور-: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] ، وقد قدمنا أن قيام الليل كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، ثم نسخ بهذه الآية: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [المزمل:19-20] أي: حافظوا على أدائها وركوعها وسجودها {وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل:20] .

حكم قراءة الفاتحة في الصلاة

حكم قراءة الفاتحة في الصلاة وقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] ^، أخذت منه جملة مسائل فقهية يهمنا منها مسألة حكم قراءة الفاتحة في الصلاة، وقد وقع الخلاف في ذلك بين العلماء، فمن أهل العلم من قال: إن قراءة الفاتحة واجبة في كل صلاة فرضاً كانت هذه الصلاة أو نفلاً، وسواءً كان المصلي منفرداً أو مع جماعة، إماماً كان أو مأموماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، قال: والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، فتجب الفاتحة على هذا الرأي في كل صلاة يصليها العبد منفرداً كان أو وفي جماعة، مأموماً كان أو إماماً، في فرض كان أو في نفل، فعلى هذا الرأي إذا أدركت الإمام راكعاً وركعت معه؛ لا تحسب لك هذه الركعة، ويلزمك أن تأتي بركعة جديدة، وهذا رأي الإمام البخاري رحمه الله تعالى وطائفة من أهل العلم، واستدلوا بحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، أما الجمهور فقالوا: إن قراءة الفاتحة لا تجب في الصلاة الجهرية، واستدلوا بأحاديث منها حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) ، وكل طرق هذا الحديث ضعيفة. ومنها أحاديث استنبط منها الحكم استنباطاً كما في قصة إدراك أبي بكرة للركوع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما جاء متأخراً ودخل في الصلاة والنبي راكع، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام -بعد أن انصرف من الصلاة- (زادك الله حرصاً! ولا تعد) ، قالوا: لم يأمره النبي بالإتيان بركعة جديدة فعلى ذلك يكتفي المؤتم بقراءة الإمام، وإذا أدرك الإمام وهو راكع كتبت له ركعة، وهذا رأي الجمهور، ومن العلماء من قال: إن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] ^ يفيد: التخيير، وقد ذهب طائفة من الأحناف إلى أنه: إذا قرأ العبد أي شيء من القرآن في صلاته جازت الصلاة وصحت الصلاة لعموم قوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) ، ولما ورد في بعض طرق حديث: المسيء صلاته: (فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وفي بعض طرق هذا الحديث: (اقرأ بفاتحة الكتاب ثم بما تيسر) ، وفي طرق أخر: (فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) .

معنى قوله تعالى: (علم أن لن تحصوه)

معنى قوله تعالى: (علم أن لن تحصوه) قال الله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] ، لأهل العلم جملة أقوال في قوله تعالى: (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) أي: علم أنكم لن تستطيعوا تقدير أوقات الليل وتقدير أوقات النهار، فتاب عليكم من هذا التحديد بقيام أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وهذا خوطب به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعترض عليه بما اكتشف الآن من وسائل لضبط الأوقات، فالخطاب كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التأويل {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] أي: علم أنكم لن تستطيعوا ضبط أوقات الليل وضبط أوقات النهار، وضبط منتصف الليل، وضبط ثلث أو ثلثي الليل {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] ، (تاب عليكم) أي: رجع عليكم بالتخفيف. فالتوبة من معانيها: الرجوع، تاب فلان من ذنبه أي: رجع فلان من ذنبه، تاب الله عليك: عاد عليك بالرحمة بعد أن حجبت عليك الرحمة بسبب الذنب. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] أي: رجع عليكم بالتخفيف وإزالة هذا التكليف الذي كلفكم، به فتاب عليكم وعفا عنكم، كما في قوله تعالى في خواتيم سورة البقرة: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة:286] ، هناك معنى للعفو، ومعنى للمغفرة، ومعنى للرحمة، العفو: المحو والإزالة، والمغفرة: التغطية وستر الذنب، وقولهم في الجاهلية: (إذا برئ الدبر، وعفا الأثر -أي: محي أثر البعير- ودخل صفر، حلت العمرة لمن اعتمر) أما المغفرة من: المغفر الذي يغطي الرأس، فقد يكون الشيء موجوداً لكنه غطي عليه، لكن العفو محوه وإزالته، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا} [المزمل:20] .

تفسير قوله تعالى: (ياأيها المدثر)

تفسير قوله تعالى: (ياأيها المدثر) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1-3] .

أقوال العلماء في أول الآيات نزولا

أقوال العلماء في أول الآيات نزولاً قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: إن هذه هي أول سورة نزلت من كتاب الله، وخالفه الجمهور في ذلك فقالوا: إن أول سورة نزلت هي سورة العلق، وذلك عندما جاء الملك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ! فكرر عليه: اقرأ، فرد عليه: ما أنا بقارئ! حتى قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2] . فالجمهور على أن أول سورة نزلت من كتاب الله هي العلق، ومن العلماء من قال: إن أول سورة نزلت من كتاب الله هي: سورة المدثر، ومنهم جابر بن عبد الله الصحابي، وجمع فريق من العلماء بين القولين بأن قال: إن أول ما نزل على رسول الله هي سورة العلق، ثم فتر الوحي، فبعد مدة نزل على رسول الله سورة المدثر، فالصحابي الذي قال: إن أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام هي سورة المدثر، قال ذلك باعتبار النزول الثاني، أي: أول ما نزل على رسول الله بعد الانقطاع سورة المدثر، أو قال ذلك بحسب علمه، والله أعلم. الخلاصة: إما أن يقال: إن الصحابي أراد بقوله: إن أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام سورة المدثر: أي بعد انقطاع وفتور الوحي مدة، أو يقال: إن الصحابي قال هذا بحسب علمه رضي الله تعالى عنه. أما المدثر فمعناها أيضاً: المزمل، فالمدثر: هو الذي تدثر بثيابه، أي: التف في ثيابه، وكما أسلفنا أن العرب كانوا إذا أرادوا أن يتلطفوا مع شخص في الخطاب ينادونه بصفة هي ملابسة له، كأن يقولون: (قم يا نومان!) ، أو (قم يا أبا التراب) ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، أما الأول فقاله لـ حذيفة بن اليمان يوم الخندق: (قم يا نومان!) ، والثاني قاله لـ علي لما كان مغاضباً لـ فاطمة رضي الله عنهما. قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] أي: يا أيها الذي تدثر بثيابه وتلفف فيها وتغطى، قم من نومك واترك غطاءك وفراشك، (قُمْ فَأَنذِرْ) .

سبب الاقتصار على الإنذار في قوله تعالى: (قم فأنذر)

سبب الاقتصار على الإنذار في قوله تعالى: (قم فأنذر) وفي قوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] من العلماء من أثار هنا تساؤلاً فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مبشراً ونذيراً، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] ، فلماذا اقتصر هنا على قوله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] ولم يقل: قم فبشر؟ فأجاب هذا القائل على هذا التساؤل بقوله: إن المقام مقام إنذار؛ لأنه لم يكن هناك أحد آمن حتى يبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالكل كفار، والبشرى تكون للمؤمنين، ولم يكن أحدهم قد آمن، ولذلك قال الله له: قم فأنذر، أي: أنذر هؤلاء الذين يندفعون إلى النار. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1-3] أي: عظم ربك سبحانه وتعالى، ولا تخش إلا هو سبحانه وتعالى، ومن العلماء من قال: قل: الله أكبر، على ظاهر الآية، ومنهم من قال: إن معنى قوله: (وربك فكبر) أي: وربك فعظم، وربك فمجد.

تفسير قوله تعالى: (وثيابك فطهر)

تفسير قوله تعالى: (وثيابك فطهر) قال الله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ما المراد بتطهير الثياب هنا؟ من أهل العلم من حملها على ظاهرها وقال: هذا أمر بطهارة الثياب. وقيل: المقام مقام حثٍ على الدعوة، فلابد في مستهلها من طهارة القلب من الشرك، وطهارة النفس من الخبث، وكانت العرب تقول على الرجل الوفي في تعاملاته: نظيف الثياب، كما قال الشاعر: فإني بحمد الله لا ثوب غازل لبست ولا من غبرة أتقنع فمراده بقوله: فإني بحمد الله لا ثوب غازل لبست؛ أي: لا ثوب فاجر لبست، ولا من غبرة أتقنع، أي: أنه نظيف لم يغدر بأحد ولم يفجر. فطهارة الثياب فسرت هنا بمعنيين: بمعنى طهارة الثياب حقيقة، وبمعنى تزكية النفس وطهارتها والبعد عن الرذائل. وهنا مسألة: هل يشترط لصحة الصلاة طهارة الثوب؟ طهارة الثوب على التحقيق واجب مستقل من الواجبات، فإذا صلى شخص بثوب عليه نجاسة، هل الصلاة صحيحة أم ليست بصحيحة؟ فالتحقيق في المسألة -والله أعلم-: أن الصلاة صحيحة ويأثم على عدم تطهير الثوب إن كان لم يطهره عمداً، وإن كان لم يطهره سهواً فلا شيء عليه، والصلاة أيضاً صحيحة، ومما يدل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه، فخلع نعليه في الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما انقضت الصلاة، سألهم النبي: لم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذىً) ، ولم يعد الرسول التكبيرة التي كبرها والركعات التي ركعها وهو مرتدياً لذلك النعل الذي فيه أذى، فدل ذلك على صحة التكبيرة، ولو كانت الصلاة باطلة لخرج النبي وكبر للصلاة من جديد، فلما لم يفعل ذلك دل على أن من دخل في الصلاة وعلى ثوبه نجاسة وهو لا يشعر، وصلى أن الصلاة صحيحة ولا تعاد، أما من دخل الصلاة وفي ثوبه نجاسة وهو يعلم، فهذا آثم بمخالفته لقول الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ، لكن الصلاة صحيحة، وإثم المخالفة مستقل، والله سبحانه وتعالى أعلم، وهذه مسائل لا تخلو من نزاع، كمسائل الأرض المغصوبة وغيرها من المسائل ومسألة الأرض المغصوبة هي: مثلاً شخص اغتصب أرضاً، فجاء قوم وصلوا في هذه الأرض وهم يعلمون أنها مغصوبة، هل الصلاة باطلة أم صحيحة؟ فيها نزاع قائم بين العلماء، والذي يظهر -والله أعلم- أن الصلاة صحيحة، وإثم اغتصاب الأرض والمساعدة على الإثم والعدوان فيها إثم قائم مستقل، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (والرجز فاهجر)

تفسير قوله تعالى: (والرجز فاهجر) وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] الرجز: المراد به الأصنام، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] ، واهجر بمعنى: اجتنب واعتزل. وقوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] ، ما المراد بالمن هنا؟ فيه أقوال: القول الأول: إن المراد بالمن هنا: الإعطاء، فقوله سبحانه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تعط أحداً عطية وتطلب أكثر من هذه العطية، كالذي يفعل مع الأمراء، كشخص يأخذ هدية مثلاً بألف جنية ويهديها للمحافظ أو للرئيس من أجل أن يعطيه المحافظ أو الرئيس قطعة أرض بمائة ألف مثلاً. فالمعنى على هذا يكون: لا تعط عطية كي تحصل على أكثر منها، ففسر المن بالإعطاء كما تقول: شخص من علي بكذا، أي: أعطاني كذا، وتقول: أمنن علي مَنَّ الله عليك! أي: أعطني أعطاك الله! وكما قال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تمنن تمنن على شاكر، يعني: إن تعط تعط رجلاً شاكراً، وكما قال الله في آية أخرى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] . القول الثاني: لا تستكثر بأعمالك، فإن أهل الكرم يفعلون كبير الفعال الخيرة ولا يلتفتون إليها ولا يستكثرونها، بل يفعلون كبار الأفعال وعظائم الأفعال النبيلة وهم يرون أنهم لم يصنعوا شيئاً، هذا فعل أهل الفضل، وأهل الخير يقدمون ما قدموه ويرون أنهم ما صنعوا شيئاً، كما قال القائل: وتصغر في عين العظيم العظائم، يعني: يفعل الشيء العظيم ولا يبالي به كأنه صغير، وغيره يفعل الفعلة الصغيرة ويعظمها تعظيماً زائداً. فمعنى قوله: (ولا تمنن تستكثر) أي: لا تعط العطية وتتباهى بها، بل أهمل ما صنعت من معروف، ولا تذكره أمام الناس. القول الثالث: أي: لا تعط العطية وتمن بها على الناس، وتكثر من منّك على الناس. وقوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] من العلماء من قال: (ولربك) أي: ولعبادة ربك فاصبر كما قال: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] ، فالمعنى: لطاعة ربك ولعبادة ربك فاصبر. ومنهم من قال: إن معنى قوله: (ولربك فاصبر) أي: تحمل في سبيل الله سبحانه وتعالى من أجل إعلاء كلمته المشاق والصعاب، واصبر من أجل نصرة دين الله.

تفسير قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور.

تفسير قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور.) قال الله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] أي: نفخ في الصور، والنافخ هو: إسرافيل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وانتظر متى يؤمر) ؟ {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8-10] . هل ذلك اليوم يسير على المؤمنين؟ وهل ينال المؤمن يوم القيامة من الكرب والهم والبلاء شيء أو أن يوم القيامة لا أثر فيه على المؤمن؟ هذه المسألة للعلماء فيها شيء من النزاع، فمنهم من يقول: إن المؤمن لا يناله شيء من الخوف ولا من الفزع، ودليل هذا القول قوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] ، إلى غير ذلك من الآيات. ومنهم من قال: إن أهل الإيمان ينالهم شيء من الفزع وشيء من الخوف وشيء من الهم والكرب، لكن مآلهم إلى الخير وهذا القول الأخير، تدل عليه جملة أدلة: منها حديث الشفاعة الطويل وفيه أن: (آدم يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري إني عصيت ربي وأكلت من الشجرة، ونوح يقول: نفسي نفسي، قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، وإبراهيم يقول: نفسي نفسي، إني كذبت ثلاث كذبات، وموسى يقول: نفسي نفسي، إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها) ، فالخلق كلهم يبلغ بهم من الهم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ودعوى المرسلين على جنباته -أي الصراط-: ربي! سلم سلم) ، وفي الحديث: (تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة) ، فكل هذه أهوال، والوقوف على الميزان: وقت من أوقات الأهوال، والمرور على الصراط: وقت من أوقات الأهوال، ودنو الشمس من الخلائق: وقت من أوقات الأهوال، وتناول الكتب بالشمال أو باليمين: وقت من أوقات الأهوال، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34-35] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً، قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، قال: الأمر أشد من ذلك يا عائشة!) ، فكلها أدلة تدل على أن هناك نوعاً من الهول والفزع يعتري عموم الخلق، لكن مآل أهل الإيمان إلى خير إن شاء الله.

تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا)

تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً) قال الله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] ، ذرني معناها: اتركني ومن خلقت وحيداً، وهذا للتهديد، من العلماء من قال: هو الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد خلق وحيداً، ومن العلماء من قال: كان فقيراً لا مال له ولا ولد، ومنهم من قال أقوال أخر. وقوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر:12] الممدود: الواسع.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إزالة الشعر أثناء الدورة الشهرية

حكم إزالة الشعر أثناء الدورة الشهرية Q ما حكم إزالة الشعر في أثناء الدورة الشهرية؟ A لا بأس به، ولا دليل يمنع من إزالة الشعر في أثناء الدورة الشهرية، ولا من قص الأظفار، ولا من نتف الإبط.

حكم إلقاء الشعر المزال في دورة المياه أو سلة المهملات

حكم إلقاء الشعر المزال في دورة المياه أو سلة المهملات Q هل يحرم إلقاء ما نزع من الشعر في دورة المياه أو في سلة المهملات أم لا بد أن يدفن في التراب؟ A لا يلزم أن يدفن في التراب، وليس في هذا فيما علمت سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما يوضع في مكان لا أذية فيه على أحد من المسلمين.

حكم مصافحة أم الزوجة وخالتها

حكم مصافحة أم الزوجة وخالتها Q هل تجوز مصافحة أم الزوجة وخالتها؟ الجواز: بالنسبة لأم الزوجة تجوز، فأم الزوجة محرمة تحريماً مؤبداً، دخل الزوج بالزوجة أم لم يدخل، فإن الله قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] ، قال العلماء: هي مبهمة، يعني لم تقيد بالدخول من عدمه، فبمجرد العقد على الزوجة حرمت أمها عليك على التأبيد، فإذا عقدت على البنت حرمت الأم عليك على التأبيد، لكن إذا عقدت على الأم لم تحرم عليك البنت إلا بعد الدخول. أما بالنسبة لخالة الزوجة فتحريمها مؤقت، فتحرم خالة الزوجة تحريماً مؤقتاً، فلا يجوز لك الزواج بها إلا إذا حصلت الفرقة بينك وبين زوجتك.

حديث: الشريد الثقفي: (استنشدني النبي عليه الصلاة والسلام شعر أمية بن أبي الصلت.

حديث: الشريد الثقفي: (استنشدني النبي عليه الصلاة والسلام شعر أمية بن أبي الصلت ... ) ؟ Q ما صحة حديث الشريد الثقفي أنه قال: (استنشدني النبي شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته، فأخذ يقول: هيه هيه، حتى أنشدته مائة بيت) ؟ A الحديث في صحيح مسلم.

هل عدم محبة الأنصار ينفي الإيمان

هل عدم محبة الأنصار ينفي الإيمان Q قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (حب الأنصار من الإيمان وبغض الأنصار من النفاق) ، فهل عدم حبهم ينفي الإيمان؟ A المراد بالحب والبغض: الحب الشرعي والبغض الشرعي، فالذي يبغض الأنصار لكونهم ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منافق، والذي يحب الأنصار لكونهم ناصروا رسول الله فهو مؤمن، أما إذا دبت بينك وبين أنصاري مشكلة، فكرهت الأنصاري من أجل هذه المشكلة المادية فلا شيء عليك، فإن الزبير قد اختلف مع أنصاري في شراج الحرة، ونزل قوله تعالى في الأنصاري: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] ، والزبير مؤمن من العشرة المبشرين بالجنة.

حكم الصلاة في الثوب الواحد

حكم الصلاة في الثوب الواحد Q ما حكم الصلاة في الثوب الواحد؟ A أولاً: لعل الأخ السائل فهم أن الثوب الذي كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام مثل الثوب الذي في زماننا، لا، ليس كذلك، إنما كانوا على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام يعنون بالثوب الواحد القطعة الواحدة، مثل الإحرام، فكان الشخص يرتديه، فيلف جزءاً منه على فخذه وعورته والجزء الآخر على كتفه. فالرسول نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، لأنه ممكن ينزل أثناء الركوع فتنكشف العورة، ولذا لابد أن يكون الثوب الواحد على العاتق منه شيء، ويكون وساتراً للعورة، وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: (أوكلكم له ثوبان؟) ، فيختلف الحكم بحسب الثوب، فما المراد بالثوب الواحد؟ هل هو القطعة التي يأتزر بها الشخص، ويأخذ شيئاً منها ويضعه على الكتف أو المراد بالثوب الواحد: القميص الذي نلبسه الآن (الجلبية) ؟ يختلف الحكم، وهل الجلبية شفافة أو غير شفافة؟ لم تدخل في الحكم.

حكم مصافحة النساء من غير المحارم

حكم مصافحة النساء من غير المحارم Q ما حكم مصافحة النساء المحرمات حرمة مؤقتة؟ A المحرمة حرمة مؤقتة لا تصافح ولا يسافر معها، مثل أخت الزوجة، فهي محرمة حرمة مؤقتة، فعندما تصافحها وتجلس معها قد يقع في قلبك حبها فتطلق أختها وتتزوجها، فمن كانت محرمة حرمة مؤقتة، لا يسافر معها، ولا تجوز مصافحتها، ولا الخلوة بها.

حكم زواج الرجل من ابنة امرأة زنى بأمها

حكم زواج الرجل من ابنة امرأة زنى بأمها Q هل يجوز نكاح رجل من ابنة امرأة زنى بها؟ A السؤال يحتاج إلى شيء من التوضيح، رجل زنا بامرأة، والمرأة لها بنت، فهل هذه البنت هي بنته من الزنا أو هي بنت المرأة من رجل آخر؟ فإن كانت بنتاً للمرأة من زوج آخر، فيجوز له الزواج بها، لأن الحرام -كما يقولون- لا يحرم الحلال، لكن منع من ذلك بعض العلماء حتى لا يصل إلى أمها بالفاحشة. أما بنت الزنا: أي: البنت التي خلقت من مائه نفسه، فالجمهور على أنه لا يجوز له أبداً أن يتزوجها، وهذه من المسائل التي أخذت على الإمام الشافعي رحمه الله، حتى أنشد الشاعر البيت القائل: وإن شافعياً قلت قالوا بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم فقد نقل عن الإمام الشافعي: أنه يبيح نكاح المخلوقة من ماء الزاني، ويقول: إنها ليست بنتاً شرعية، فكما أنها لا ترث يجوز لك أن تتزوجها، وتعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأتى بإيرادات حسنة على من قال بهذا القول بصفة عامة، وقال: إن كنتم تعتبرون المقياس هو الإرث، فأختي من الرضاع حرام علي وهي لا ترثني ولا أرثها، ومع ذلك هي محرمة علي.

حكم قراءة القرآن بدون مراعاة أحكام التجويد

حكم قراءة القرآن بدون مراعاة أحكام التجويد Q هل قراءة القرآن بدون أحكام التجويد جائزة؛ لأن ذلك سيساعد على الحفظ بسرعة مع العلم أنني أعلم أحكام التجويد، وأعرف كيف أقرأ بها؟ A إذا كان للتعلم ولسرعة الحفظ فالظاهر أن هذا جائز، والله أعلم.

حكم قراءة القرآن بدون وضوء

حكم قراءة القرآن بدون وضوء Q أحياناً وأنا في السيارة اقرأ القرآن بدون وضوء، فهل هذا جائز؟ A قراءة القرآن بدون وضوء جائز مع الكراهة، فالأفضل أن يتوضأ الشخص لقراءة القرآن، لكن إن قرأ بدون وضوء فالقراءة جائزة، لحديث عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) . أما بالنسبة لمسألة: هل يجوز للمحدث حدثاً أكبر أو أصغر أن يمس المصحف؟ الجواب: مسألة مس المصحف لغير المتوضئ مسألة خلافية، لكن العبرة بالدليل، فلا أعلم دليلاً صحيحاً صريحاً يمنع غير المتوضئ من مس المصحف، أما الآية الكريمة: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ، فالجمهور على أن الضمير يعود على الملائكة. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، فالصواب أنه ضعيف، فعلى ذلك فرغ الباب من دليل يمنع من مس المصحف، والعبرة بالدليل، أما أقوال العلماء فهي كثيرة، ولا دليل صحيح صريح يمنع من مس المصحف للمحدث حدثاً أصغر أو أكبر.

حكم الاجتماع للتعزية في بيت الميت

حكم الاجتماع للتعزية في بيت الميت Q هل الاجتماع عند أهل الميت للتعزية بدعة أم لا؟ وإن كانت بدعة فكيف أعزي أهل الميت؟ A هذه المسألة جاء فيها قول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (كنا نعد الاجتماع وصنعة الطعام لأهل الميت من النياحة) ، كنا نعد الاجتماع وصنعة الطعام لأهل الميت أو عند أهل الميت أو الأكل عند أهل الميت من النياحة، فهذا الحديث عليه مأخذ حديثي ومأخذ فقهي. أما بالنسبة للناحية الحديثية فهذا الحديث مروي من طريق: هشيم بن بشير عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير، أخرجه ابن ماجة في سننه، وأيضاً أخرجه الإمام أحمد من طريق راوٍ يقال له: نصر بن باب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير، فـ نصر بن باب اتهم بالكذب قال البخاري: يرمونه بالكذب، وهذا من مشايخ الإمام أحمد القلائل جداً الذين تكلم فيهم بالضعف بل بالكذب، مشايخ الإمام أحمد الذين رموا بالكذب قلة جداً، ومنهم هذا الشيخ، فمتابعة نصر بن باب لـ هشيم لا تعويل عليها من الأصل فاطرحها جانباً، فلا تعويل على رواية نصر بن باب. بقيت رواية هشيم بن بشير عن إسماعيل عن قيس عن جرير، هشيم مدلس، وتدليسه في الحقيقة مؤثر، وخاصة إذا تفرد بإخراج الحديث ابن ماجة في سننه من بين أصحاب الكتب الستة، فتفرد ابن ماجة بإخراج الحديث بهذا السند مشعر بشيء من الضعف، لكن التعويل في التضعيف على أنه معنعن الإسناد، والحديث أورده الدارقطني في كتاب العلل الجزء المخطوط، وقال: رواه شريج بن يونس والحسن بن عرفة عن هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد، ورواه خالد المدائني فذكر إسناداً لـ خالد، لكن خالداً -أصلاً- متروك وكذاب، ثم قال الدارقطني في خواتيم مقالته: وخرجوه عن هشيم عن شريك عن إسماعيل، فكأن هناك واسطة بين هشيم وبين إسماعيل، ومن الذين خرجوه؟ الله أعلم، لكن الآن الإسناد الموجود أمامنا: هشيم عن إسماعيل وهشيم عنعن، وعنعنته مؤثرة مضرة، فتدليسه من النوع الشديد، فالحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حسنه بعض العلماء الأفاضل المعاصرين، لكن الذي تطمئن إليه النفس أن الحديث لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن حسنه يلزم بأن يأتينا بتصريح لـ هشيم بالسماع؛ لأن هشيم مدلس، هذا شيء. الناحية الفقهية للحديث: الحديث في حالة ثبوته حمل فقرتين، كانوا يعدون الاجتماع وصنعة الطعام لأهل الميت، كما يفعل في بعض القرى عندما يموت ميت، يأتي المعزون للتعزية ويصنعون لهم طعاماً أشبه ما يكون بالوليمة، فالحديث اجتمع فيه فقرتان، فهل الواو في قوله: (كانوا يعدون الاجتماع وصنعة الطعام) ، للتشريك، أي: كانوا يعدون الاجتماع مع الأكل أو الواو بمعنى: أو؟ الظاهر الأول، والله أعلم، وعلى هذا درج الفقهاء، لكن إسناد الحديث -أصلاً- فيه نظر، وأقوال الفقهاء ينصب كثير منها على الاقتران بين الجلوس وبين الأكل، أما إذا مات ميت فتعزية من مات له ميت مشروعة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عزى أصحابه، وأرسلت له ابنة من بناته تقول: إن ابنها نفسه تقعقع، وتطلب منه أن يأتي إليها، فأرسل التعزية، (وأخبرها أن لله ما أخذ، وأن له ما أعطى. الحديث) ، فأقمست عليه أن يأتيها، فأتاها مع طائفة من أصحابه، فأتاها للتعزية مع طائفة من أصحابه فوجد الولد نفسه تقعقع. الشاهد: أن الرسول أتاها للتعزية، وجلس ورُفع إليه الطفل، وذرفت عيناه بالدمع، فسأله سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟! قال: (هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة) ، فالرسول جلس وجلس معه سعد بن عبادة، وجلس معه على ما يحضرني أبي بن كعب، أو طائفة من أصحابه، فهم جلسوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام. أيضاً ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام للتعزية عندما استشهد جعفر رضي الله عنه، فبعد ثلاثة أيام ذهب إلى بيت جعفر، فعزى آل جعفر على موت جعفر، وأتي له بأولاده فدعا لهم عليه الصلاة والسلام. أيضاً في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها كان إذا مات لها الميت، وانصرف الناس وبقي أهل الميت، أمرت بالتلبينة فصنعت وقالت: إنها مذهبة للحزن، مجمة لفؤاد المريض، فكانت تأمر لهم بنوع من الطعام ليأكلوه، فالشاهد: أن أصل التعزية مشروع، والتعزية في حقيقتها نوع من أنواع المواساة وجبر الخاطر التي أتى بها ديننا. فالظاهر -والله أعلم- أن أصل التعزية مشروع، فإن جاء المعزي إلى البيت وجلس خمس دقائق أو عشر دقائق فهذا جائز، لكن التكاليف التي تحدث في السرادقات والإحداثات والبدع هي المذمومة، لما فيها من تباهي، ولما فيها من أخذ أموال من تركة الميت، وفيها حق للأيتام، وتعطي للمقرئين المبتدعين وغير ذلك. أما حديث: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) ، فلنا فيه نظر، وفي صحته نزاع، لكن على أن الأكثرية من العلماء صححوه، وهو بلفظ: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، إنه قد أتاهم ما يشغلهم) ، فيصير الحكم على سنية صنع الطعام لأهل الميت، وحديث عائشة في الصحيحين: (أنها كانت إذا مات لها الميت أمرت بالتلبينة فصنعت، فأكلت هي وأهل الميت، وقالت: إن التلبينة مذهبة لبعض الحزن، مجمة لفؤاد المريض) ، والمسألة مسألة فقهية. ثم إن حديث الرسول: (اصنعوا لأهل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) ، العلة أنه قد أتاهم ما يشغلهم، وهذا يفيد أنهم إذا كانوا غير مشغولين عن الطعام؛ فلا يشرع صنع الطعام لهم، فيختلف الحكم باختلاف التعليل الوارد في الحديث. فالخلاصة: إذا كان يشق على أهل الميت صنع الطعام ترفع عنهم هذه المشقة، لحديث جعفر عند من صححوه، ونحن نحترم من صححه، وقد قال بمقتضاه الجمهور، والله أعلم. أما حديث: (لا عزاء بعد ثلاث) ، فضعيف، وحديث جعفر: (أمهل الرسول ثلاثاً ثم ذهب إلى آل جعفر) ، صحيح، فتخصيص التعزية بثلاثة أيام لا أعلم عليه دليلاً.

حكم المظاهرات؟

حكم المظاهرات؟ Q ما الحكم في المظاهرات التي تحدث في الجامعات، مع العلم أن البعض يستدل على ذلك بخروج سيدنا عمر في أول إسلامه في صف من المسلمين أمام الكفار، وأن هذه المظاهرات هي كلمة حق عند سلطان جائر؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فالظاهر لي -والله أعلم- أن المظاهرات وسيلة محدثة، ما درج عليها سلفنا الصالح -من الصحابة- في القرون المفضلة، بل حتى بعد القرون المفضلة، فلم نعهد الإمام الشافعي قام بمظاهرة ولا الإمام مالك ولا الصحابة ولا التابعون، أما القصة المشار إليها ألا وهي قصة خروج حمزة على صف وعمر على صف، فالذي يحضرني الآن أن إسنادها ضعيف، ثم هي لا تصلح أن تكون دليلاً على التظاهرات المزعومة، والله أعلم.

تفسير سورة المدثر [2]

تفسير سورة المدثر [2] يعرض الله سبحانه في سورة المدثر صوراً شتى، منها: صورة لحال المتردد المتشكك في هذا القرآن، الذي حار جنانه في وصف ونعت هذا الكلام، ثم بيان ما أعده الله له ولأمثاله من العذاب والنكال، والصورة الثانية: لحال المؤمن والكافر بآيات القرآن، وكيف يقف كل منهما أمام آياته، والصورة الثالثة: لموقف الكفار من دعوة الإسلام، واقتراحاتهم التعنتية التي تدل على مدى تكبرهم وطغيانهم وكفرهم.

تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا)

تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً) باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11-15] . قوله تعالى: (ذرني) أي: اتركني، ومن خلقته وحيداً، في قوله تعالى: (وحيداً) معنيان للعلماء: المعنى الأول: ذرني ومن خلقته فرداً وحيداً في بطن أمه. والمعنى الثاني: ذرني ومن خلقت وحيداً يوم القيامة، يوم يأتي لا ناصر له ينصره مني، ولا مغيث يغيثه مني. أي: اتركني مع هذا الرجل، يوم يأتي لا ناصر ينصره ولا شفيع يشفع فيه، ويأتي وحيداً يوم القيامة. (ومن) بمعنى: الذي، أي: ذرني والذي خلقت وحيداً. ومن المعني بقوله تعالى: (ومن خلقت وحيداً) ؟ أكثر المفسرين أنه الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد، وكل ما جاء بعد هذه الآية صفة له. ومن العلماء من قال: هي عامة في كل كافر. قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] ، هذا المراد منه التهديد، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] ، وكما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل:11] ، فكل هذه المراد منها التهديد. {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر:12] ، (ممدوداً) أي: كثيراً واسعاً، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] ، فالمراد بالمد هنا: الزيادة، أي: من كان في الضلالة فزاده الله ضلالاً إلى ضلاله. قال تعالى: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر:12] أي: كثيراً واسعاً، {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:14] أي: مهدت له في هذه الحياة تمهيداً، {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر:13] ، والبنين الشهود: الشهود بمعنى: الحضور، ويراد بالشهود في بعض الأحيان: الشهود على الجرائم وعلى الأحداث، لكن المراد بالشهود هنا الحضور، وهذا المعنى قد تقدم عند قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] ، هل شاهد ومشهود معناها: راءٍ ومرئي أو معناها: حاضر ومحضور؟ تقدم التفصيل في ذلك. قال تعالى: {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر:13] ، فمن نعم الله عليه أن الله سبحانه وتعالى رزقه بأولاد ذكور، وجعلهم شهوداً بجواره، ليسوا في حاجة إلى السفر بعيداً عنه؛ لأن كل ما يحتاجه هو وأولاده متوافر عنده. فمن نعم الله على هذا الرجل: أن الله رزقه بأموال كثيرة جعلت أولاده لا يحتاجون إلى سفر، فالسفر قال عنه عليه الصلاة والسلام: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله) . فهذا الرجل امتن الله عليه بأولاد ذكور ليسوا في حاجة إلى سفر، لا للتجارات ولا للسعي على المعاش ولا لغير ذلك، فهم موجودون حوله يأكلون ويشربون ويتزوجون وينعمون، وليسوا في حاجة إلى الأسفار، فعينه تقر برؤية أبنائه بجواره. فأفادت الآية الكريمة أن الذين يسافرون يتركون أثراً على قلوب آبائهم وعلى قلوب أمهاتهم، فمن نعم الله على هذا الرجل أنه لم يجعله في حاجة إلى أن يبتعد عنه أولاده. {وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:13-14] أي: وسعت له توسعة، {ثُمَّ} [المدثر:15] بعد هذه النعم {يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا} [المدثر:15-16] أي: لن نزيده، {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:16-17] ، الإرهاق: التعب، (سأرهقه) : سأحل به التعب، تعب الصعود، وقد تقدم في تفسير سورة الجن، أن الله قال: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:17] ، وهنا قال تعالى: (سأرهقه صعوداً) ، فمن العلماء من قال: إن الصعود: جبل في جهنم يعذب الشخص بصعوده عليه والنزول منه، فدلت هذه الآية على أن الصعود نفسه نوع من أنواع العذاب، وهذا ملاحظ كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، وأنت إذا صعدت إلى الطابق الخامس أو الطابق السادس تكون متعباً ومرهقاً، وكلما ارتفعت في الطوبق ازددت إرهاقاً، وأنت مستعد أن تمشي خمسة كيلو مترات ولا تصعد إلى الطابق العشرين مثلاً، فالصعود في نفسه نوع من أنواع التعذيب.

تفسير قوله تعالى: (إنه فكر وقدر.

تفسير قوله تعالى: (إنه فكر وقدر.) قال الله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:18] متى فكر وقدر؟ قال جمهور المفسرين: إنه فكر وقدر يوم أن استمع إلى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأعجب بهذا القرآن غاية الإعجاب، وأثنى عليه ثناءً حسناً، ثم رجع إلى المشركين، فقالوا له: ما تقول في الذي سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل هو شاعر؟ قال: أنا من أعلمكم بالشعر ما هو بقول شاعر، ولئن قلتم: إنه شاعر، فضحتكم العرب، قالوا: هو قول كاهن، قال: ليس بقول كاهن، أنا أعرف قول الكهنة، ليس هذا من أقوال الكهنة، قالوا: فماذا تقول؟ فحينئذ فكر وحاول يرتب ماذا يقول: {فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:18-19] ، أي: لعن، وقُتِلَ في القرآن في أغلب المواطن معناها: لعن. {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:19-20] أي: ثم لعن مرة ثانية لهذا التقدير الخاطئ. {ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ} [المدثر:21-22] أي: كلح بوجهه {وَبَسَرَ} [المدثر:22] : ظهر الضيق على وجهه وجبينه، {فَقَالَ} [المدثر:24] : اختار هذه المقولة، {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] ، اختار من اختياراته وأقواله الباطلة هذا القول: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] أي: يؤثر عن الأوائل، أي: سحر مأثور ومأخوذ عن المتقدمين، {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، أي: ما هذا إلا قول البشر، قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، وسقر: النار، ومن العلماء من قال: إنها بعض دركات النار. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر:27] ، لتعظيم وتهويل شأنها، وتفخيم أمرها، وبيان شدة هولها. {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:28] ، لا تترك أحداً. {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:28-30] المراد بهم: الخزنة، أي: خزنتها وحراسها تسعة عشر ملكاً.

تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا أصحاب النار.

تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا أصحاب النار.) قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} [المدثر:31] أي: ما جعلنا خزنة النار إلا ملائكة، ولم نجعلهم بشراً، إنما جعلناهم ملائكة، كما قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6] فخزنتها ملائكة. {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر:31] أي: عددهم، {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31] ، فوقف الكفار يتساءلون فيما بينهم: لماذا هذا العدد بالذات تسعة عشر؟ لماذا هم تسعة عشر؟ هذا عدد غريب ليس كالواحد وليس كالثلاثة وليس كالاثنين وليس كالسبعة وليس كالعشرة، ليس كهذه الأعداد الشهيرة المتداولة بين الناس، حتى من نواحي الحساب لا يقبل القسمة إلا على نفسه، تسعة عشر رقم غريب على العرب، فقالوا: لماذا هذا العدد الغريب؟ ومن العلماء من نقل عن بعض كفار قريش أنه قال: تسعة عشر عدد يسير، فنحن قادرون على قتلهم وتحطيمهم واحتلال الجنة بالقوة! فكل مائة منا يوكل إليهم أمر ملكٍ من الملائكة يقتلونه ونحتل الجنة بالقوة! فجعل العدد فتنة للكفار، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر:31] أي: عددهم {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31] وكما أسلفنا أن الآية كانت تنزل من كتاب الله يفتن بها أهل الكفر والنفاق، ويزداد أهل الإيمان إيماناً بهذه الآية، كما قال تعالى في شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] فقالوا: كيف تخرج الشجرة في وسط النار؟ النار تأكل الأشجار، فهذا وجه افتتان الكفار بالشجرة، أما أهل الإيمان فأجابوا: (إن الله على كل شيء قدير) . كذلك في الإسراء: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60] فتن بها الناس، فتنوا بإسراء ومعراج الرسول عليه الصلاة والسلام، أما أهل الإيمان فيقولون: (إن الله على كل شيء قدير) . قال الله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} [المدثر:31] اختباراً وابتلاءً، والفتنة أيضاً تطلق على الصرف والتحويل، فتنته أي: صرفته عن الشيء، وفتنته أي: ابتليته بالنار، ومن المعنى الأول قول الشاعر: لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم قال الله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} [المدثر:31] أي: اختباراً وابتلاء، وأيضاً صرفاً للكفار عن الإيمان كما قال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:161-162] أي: بصارفين {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:163] . قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31] ، ليستيقن أي: ليزدادوا يقيناً، وكيف يستيقن الذين أوتوا الكتاب إذا سمعوا أن خزنة النار تسعة عشر؟ يستيقنون ويعلمون أن هذا القرآن حق من عند الله؛ لأن في كتبهم ما يفيد أن الخزنة تسعة عشر، إذا كان الكتابي اليهودي أو النصراني يقرأ في التوراة وفي الإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر، ويرى أن هذا القرآن الكريم أتى يؤكد هذا، ويفيد أن خزنة النار تسعة عشر ازداد يقينهم أن هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، فهذا هو المراد بقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31] أي: ليزدادوا يقيناً إذا علموا أن هذا القرآن {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام:92] أي: مصدق للكتب التي أتت من قبله. {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] وأهل الإيمان أيضاً إذا علموا أن الذي جاء به الرسول محمد عليه الصلاة والسلام يوافق الذي جاءت به الكتب وأخبرت به الرسل من قبله، ازداد إيمانهم وتصديقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآية أفادت معنىً ألا وهو أن طمأنينة القلب وزيادة الإيمان تحدث بتواتر الأدلة، وقد بوب لهذا بعض العلماء في باب طمأنينة القلب بتواتر الأدلة، واستدلوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة:260] أي: قد آمنت، {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ، فلا يطعن فيمن طلب مثل هذا الطلب، أي: رجل مؤمن يطلب مثلاً رفع شبهة عن شيء، أو الاستفسار عن شيء كي يزداد إيمانه؛ لا يطعن -أصلاً- في إيمانه، فإبراهيم قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] قال الله له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] الآيات، ولا يقولن قائل: إن هذا خاص بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو شرع لمن قبلنا وليس شرعاً لنا؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذا قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ)) قال ذلك ضمن حديث وفيه: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي) ، ومطلع الحديث: (نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي)) . وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] فيه دليل لعقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزداد، وخالف في ذلك بعض أهل البدع، وقالوا: إن الإيمان لا يزداد، والآية نص صريح في زيادة الإيمان: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ} [آل عمران:173] ، أي: سماعهم هذا القول زادهم {إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ، ففي الآيات بيان لزيادة الإيمان، وكذلك نقصان الإيمان من عقيدة أهل السنة لحديث: (أخرجوا من النار من قال: "لا إله إلا الله" وفي قبله من الخير ما يزن ذرة) ، (ومن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقبله، وذلك أضعف الإيمان) ، وهذا مرئي مشاهد، قد يقوى إيمانك الآن فتقدم على فعل خير كثير، وقد يقل إيمانك غداً فتتراجع عن خير كثير. قال تعالى: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} [المدثر:31] أي: لا يتطرق إليهم شك في صدق هذا الرسول، (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ} [المدثر:31] هذا تفريق بين الذي في قلبه مرض وبين الكافر، فالذي في قلبه مرض: هو رجل شهد أن "لا إله الله وأن محمد رسول الله" بقلبه وبلسانه، أما قلبه فما زال مريضاً ومرتاباً، وكم من قائل: "لا إله إلا الله محمداً رسول الله" وفي قلبه مرض. ومن ثم قال رب العزة سبحانه: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] ، بعضهم في قلبه مرض من ناحية النساء مثلاً، إذا كلم امرأة أي كلمة، وأجابته بأي إجابة فيها نوع من الرفق؛ فيحملها محملاً سيئاً، فيقول في نفسه: ما كلمتني بهذه الطريقة إلا لأنها تحبني وتطمع في، ويجد إليه الشيطان سبيلاً من هذا الطريق. فهناك قوم شهدوا أن لا إله إلا الله بألسنتهم ومع ذلك في قلوبهم مرض، وذكرهم الله في آية أخرى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60] . وقال تعالى: { (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المدثر:31] اللام هنا: هل هي لام العاقبة؟ أي: تكون عاقبة الأمر وعاقبة نزول هذه الآيات أن يقول الذين في قلوبهم مرض: كذا وكذا، كما في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] هم في الحقيقة ما التقطوه -أبداً- كي يكون لهم عدواً وحزناً، إنما التقطوه فكانت عاقبة التقاطه أنه كان لهم عدواً وحزناً، فتسمى اللام التي في قوله: (فالتقطه آل فرعون ليكون) لام العاقبة أي: كان عاقبة الأمر أن كان لهم عدواً وحزناً. {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر:31] ما هذا المثل الذي يريده الله بهذا العدد؟ هم في شك وارتياب من هذا العدد وهذا المثل، أما أهل الإيمان فيعلمون كما أسلفنا (أن الله على كل شيء قدير) وأن الملك الواحد قادر -بإذن الله- على أن يدمر الأرض ومن عليها. قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31] فيه أن الإضلال أيضاً من الله، وخالفت طائفة من أهل البدع في هذا، وقالوا: ليس الإضلال من الله سبحانه، ولكن تضافرت الأدلة على إثبات أن الإضلال أيضاً من الله، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، وقال النبي صلى الله عليه وس

تفسير قوله تعالى: (كلا والقمر.

تفسير قوله تعالى: (كلا والقمر.) {كَلَّا} [المدثر:32] ارتدعوا وانزجروا فليس الأمر كما تظنون أيها الكفرة والمنافقون، {وَالْقَمَرِ} [المدثر:32] ، الواو: واو القسم أقسم الله بالقمر، {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر:33] أدبر أي: ذهب وولى وانصرف، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] أي: أضاء، أسفرت عن وجهها، أي: كشفت عن وجهها وأبانت عن وجهها، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] أي: ظهر واستبان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر) ، قال الله جل ذكره: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] . {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر:35] جمهور من العلماء قالوا: (إنها) أي: النار، (لإحدى الكبر) أي: الدواهي الكبيرة، {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر:36] ، ومنهم من قال: إن تكذيبات المشركين بالبعث إحدى الكبائر العظيمة التي توردهم النار. {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] يتقدم: بالطاعة إلى الله، ويتأخر: بالمعصية.

تفسير قوله تعالى: (كل نفس بما كسبت.

تفسير قوله تعالى: (كل نفس بما كسبت.) قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: سجينة ومحبوسة مرتهنة بعملها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الغلام مرتهن بعقيقته) ، وكما قال سبحانه في الآية الأخرى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام:70] ، فقوله تعالى: (أن تبسل نفس بما كسبت) تبسل أي: تحبس في النار. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:38-39] لكن أصحاب اليمن {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر:40-41] . لكن هل قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:39] يفيد أن أصحاب اليمين لا يرتهنون بأعمالهم؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: من العلماء من يحمل محامل ويؤول تأويلات ويقدر تقديرات فيقول: (إلا أصحاب اليمين) فإنا قد غفرنا لهم ما ارتكبوه من سيئات، وعفونا لهم ما اقترفوه من آثام، فهم إذاً في جنات يتساءلون بعد أن كفرنا عنهم السيئات. القول الثاني: هي محمولة على أهل الشرك، أما أهل الإيمان فلم يقترفوا شركاً، فما ارتهنوا إذاً بشرك اقترفوه، والله أعلم. {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:39] وهم أهل الجنة الذين أوتوا كتبهم باليمين {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] . {فِي جَنَّاتٍ} [المدثر:40] أي: آل بهم المقام إلى جنات، فمقامهم ومستقرهم في جنات، {يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر:40] ، أي: فيما بينهم، أو يسألون أهل الإجرام: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] أي: ما هو السبب الذي أوردكم هذا المورد وأنزلكم سقر؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:43-46] فسبب دخولهم سقر أربعة أشياء ذكروها: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:43-47] أي: حتى متنا على هذه الحال، فاليقين هو: الموت لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ، اليقين هنا هو: الموت، وإن كان له معان أخر، ومن هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم لامرأة قالت في شأن عثمان بن مظعون قولاً حسناً، فقال لها الرسول: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه) ، لما قالت: رحمت الله عليك! ظني أن الله سبحانه وتعالى قد رحمك، أو كما قالت، فقال لها الرسول: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه) فقولهم: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47] يعني: حتى متنا على هذه الحال من ترك الصلاة ومنع المساكين، ومن الخوض مع الخائضين، ومن التكذيب بيوم الدين.

هل الآية تدل على كفر تارك الصلاة؟

هل الآية تدل على كفر تارك الصلاة؟ هل هذه الآية الكريمة تصلح للاستدلال على كفر تارك الصلاة؟ البعض يوردها في أدلة تكفير تارك الصلاة، وهي ليست صريحة في ليست صريحة في كفر تارك الصلاة؛ لأن دخول الناس سقر بأربعة أشياء، فهل الواو تقتضي التشريك؟ هذا الأظهر لقولهم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:46] فهذا كفر اتفاقاً، فالذي يكذب بيوم الدين كافر اتفاقاً، لكن مثلاً الخوض مع الخائضين لا يُكفر فعله جملة؛ لأنه بحسب الخوض، فإن كان الخوض مع الخائضين في الشرك يكفر، أما إذا كان الخوض مع الخائضين فيما دون الشرك فلا يكفر فاعله، كذلك عدم إطعام المسكين في قولهم: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] ، هل عدم إطعام المسكين كفيل بالحكم على الشخص بالكفر بمفرده؟ لا، ليس كفيلاً بالحكم على الشخص بالكفر بمفرده، وقد قدمنا شيئاً في هذا مفاده أن دلالة الاقتران لا تفيد التساوي في الأحكام، فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الزكاة ويؤتوا الصلاة الحديث) فترك الشهادتين كفر بالاتفاق، ترك الصلاة كفر على خلاف إلا إذا كان جاحداً لها، وترك الزكاة الجمهور على أنه لا يكفر تارك الزكاة إذا لم يكن جاحداً لها، فاقترنت هذه الأشياء في سياق واحد، وكل له حكم مستقل، فكما أسلفنا أن دلالة الاقتران لا تفيد التساوي في الأحكام في كل الأوقات، فشهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، تركها له حكم، وترك الصلاة له حكم، وترك الزكاة له حكم، فعلى ذلك يخدش في قول من قال: إن الخمر ليست نجسة نجاسة عينيه لاقترانها بالأنصاب والأزلام في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فرجس معناها: نجس، قال بعضهم: لما اقترنت الخمر بالأنصاب والأزلام، والأنصاب ليست نجسة، فإذا لمستها لا تؤمر بغسل يديك، فلما اقترنت بها أصبحت النجاسة نجاسة معنوية، كذا قال، لكن هذا الاستدلال استدلال ضعيف؛ لأن الخمر مائع من المائعات ينتقل، أما الأنصاب جامد لا ينتقل، فلا يقاس المائع على الجامد، والله أعلم. قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38-43] ، تارك الصلاة مجرم من المجرمين. {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:44-47] أي: الموت.

تفسير قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين.

تفسير قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين.) قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] فالآية في الكفار؛ لأن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين؟ وهل كل الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين نعم لقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] إلا أبا طالب فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعل شفاعتي تنفعه، فهو في ضحضاح من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) . قال سبحانه: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر:48-49] أي: عن هذه المواعظ معرضين منصرفين، {كَأَنَّهُمْ} [المدثر:50] ، يصفهم الله، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50] ، فكأن هؤلاء الكفار حمير نفروا وفروا، {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:51] القسورة: الأسد، فيصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء الكفار في فرارهم من رسول الله بالحمير التي فرت لما رأت الأسد، فالحمير إذا رأت أسداً تفر وتمعن في الفرار، وكذلك هؤلاء الكفار إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فروا وتولوا عن سماعه غاية التولي، وأعرضوا عن سماعه غاية الإعراض، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50] فالله سبحانه وتعالى شبه الكفار هنا بالحمير، وفي موطن آخر شبه بعضهم بالكلب، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175] إلى قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] . وشبهوا بالحمير كذلك في آية أخرى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] . وشبهوا بالأنعام: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] .

تفسير قوله تعالى: (بل يريد كل امرئ منهم)

تفسير قوله تعالى: (بل يريد كل امرئ منهم) قال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] ، فكل واحد منهم يريد أن يوحى إليه، وتنزل عليه الرسالة، ويكون نبياً كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام نبي! كما قال الله عنهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] فأجابهم الله بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، وكما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:90] إلى قولهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:93] فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب، قال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] ، فالآية تفيد أنه لا ينبغي أبداً أن يكون هناك تحاسد، فالتحاسد حملهم على الكفر، فلما سألوا هذا السؤال وأرادوا هذا الطلب قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فليس لك إلا أن تقنع بما آتاك الله عز وجل. {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ} [المدثر:52-53] كلا أي: لن يؤتى أحد منهم هذه الصحف المنشرة {بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر:53-55] فمن شاء اتعظ ومن شاء لم يتعظ. {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ} [المدثر:54-56] أي: وما يتعظون وما يعتبرون، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:56] ، يعني: اتعاظهم واعتبارهم بإرادة الله، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر:56] أي: أهل لأن يتقى، وأهل لأن يخاف، وأهل لأن يخشى، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] أي: أهل لمغفرة الذنوب، فالآية مع أنها أفادت تجريم هؤلاء الكفار، لكن أيضاً فتحت باب التوبة لمن أراد أن يتوب ويرجع إلى الله، قال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] أي: استغفروه فهو سبحانه سيغفر لكم، فانظر إلى السورة، ذكرت طائفة من المجرمين والذم الوارد في حقهم، والعقاب الوارد في حقهم، ثم فتحت لهم باب التوبة لقوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] ، كما ختمت السورة التي قبلها سورة المزمل بقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] ، وهذا مطرد في كتاب الله، تأتي التهديدات ويأتي الوعيد لمقترفي الكبائر ومرتكبي الذنوب، ثم يفتح لهم باب التوبة، وقدمنا لذلك جملة من النصوص كقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59-60] . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:4-5] أي: أبواب التوبة مفتوحة. وقال لقطاع الطرق: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34] ، إلى غير ذلك من الآيات. فختمت السورة بختام طيب مرغب للتائبين في التوبة، وكاسر للمقنطين الذين يقنطون الناس من رحمة الله، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر:56] أي: أهل لأن يتقى، أهل لأن يخشى، وهو أيضاً أهل للمغفرة، فمن استغفر ربه غفر له، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110] . وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من أتى زوجته في دبرها

حكم من أتى زوجته في دبرها Q ما حكم من أتى زوجته في دبرها؟ وكيف يتوب؟ A مرتكب كبيرة عند جمهور أهل العلم، وعليه أن يستغفر الله سبحانه وتعالى، ويعمل عملاً صالحاً يوازي هذا الأمر، كأن يتصدق بمبلغ طيب أو يصلي صلاة كثيرة، أو يصوم صياماً كثيراً، أو يعتمر؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.

حكم الجمع بين أكثر من نية في صلاة النافلة

حكم الجمع بين أكثر من نية في صلاة النافلة Q هل يجوز الجمع بين أكثر من نية في الصلاة الواحدة؟ A الجمع بين أكثر من نية في الصلاة الواحدة يختلف من صلاة إلى صلاة، فيجوز الجمع بين نية صلاة الاستخارة مع تحية المسجد، أو صلاة الاستخارة مع ركعتي الظهر، أو مع ركعتي الفجر النافلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليركع ركعتين من غير الفريضة) ، ويجوز كذلك تحية المسجد مع سنة الوضوء، لكن مثلاً: فاتتك سنة الفجر وفاتتك سنة الظهر، لا يجوز أبداً أن تجمع بين سنة الظهر وسنة الفجر ركعتين، فهناك مواطن يجوز فيها الجمع ويسوغ، ومواطن لا يجوز فيها الجمع بين النيات ولا يسوغ.

حكم قراءة القرآن على القبور

حكم قراءة القرآن على القبور Q ما حكم قراءة القرآن على القبور؟ Aلم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء.

ما حال حديث: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) ؟

ما حال حديث: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) ؟ Q ما درجة حديث: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) ؟ A لعلماء الحديث فيه قولان من ناحية التصحيح، والحديث وإن كان عندي ضعيف في الإسناد، لكن معناه له شواهد ثابتة صحيحة، بل آيات يقول الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] ، وحديث: (من غشنا فليس منا) ، إلى غير ذلك.

ما حال حديث: (إن الله كره لكم قيل وقال.

ما حال حديث: (إن الله كره لكم قيل وقال ... ) ؟ Q هل يثبت حديث: (إن الله كره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ؟ A الحديث في الصحيحين، من حديث المغيرة بن شعبة، كتب به إلى معاوية: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) .

ما المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (كثرة السؤال) ؟

ما المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (كثرة السؤال) ؟ Q وما المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: بـ (كثرة السؤال) ؟ A المراد بكثرة السؤال: الأسئلة التي تحمل التنطع، وإذا أراد السائل المزيد، فهناك بحث واسع في "فتح الباري" في كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" في الجزء الثالث عشر من الفتح فليرجع إليه.

حكم بيع الاسترتشات وبناطيل النساء

حكم بيع الاسترتشات وبناطيل النساء Q ما الحكم في رجل يريد أن يفتح محلاً لبيع الاسترتشات والبناطيل للنساء؟ A بالنسبة للاسترتشات أغلب النساء تستعملها في التبرج، فنادراً تأخذ امرأة استرتش لتلبسه في البيت أمام الزوج، فإذا كان ذلك كذلك فليترك هذه المهنة، ولا يساعد على الإثم والعدوان، وكم الفرق بين من يبيع هذه الأشياء وبين من يبيع الخمارات، فالثاني فنفسه مطمئنة، ولا يساوره أي قلق أو شك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: (الإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، فكيف وهذا الإثم ظاهر عياناً لكل الناس؟! إلى هنا وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

هل يجوز لي أخذ مبلغ من المال مقابل خروجي من الشقة التي أنا فيها؟

هل يجوز لي أخذ مبلغ من المال مقابل خروجي من الشقة التي أنا فيها؟ Q هل يجوز لي أخذ مبلغ من المال مقابل خروجي من الشقة التي أنا فيها؟ A إذا كنت ستأخذ مالاً من أجل خروجك من الشقة فلا، إلا إذا كنت دفعت الإيجار مقدماً، وتريد الخروج قبل انتهاء المدة، فيخصم منك مبلغاً نظير المدة التي قضيتها، وتسترجع الباقي، أما أن تأخذ شيئاً من المال مقابل خروجك من الشقة فلا، إلا شيئاً تكون قد دفعته مستقلاً عن الإيجار، والله أعلم.

حكم امرأة تحتال من أجل استمرار معاش زوجها الميت لها

حكم امرأة تحتال من أجل استمرار معاش زوجها الميت لها Q امرأة مات زوجها، وترك لها معاشاً، ولها منه ولد، ثم تزوجت من رجل آخر، ولم تبلغ عن الزواج، وما زال المعاش يصرف لها، وخوفاً من قطعه تريد من زوجها أن يطلقها، ثم يتزوجها مرة أخرى بعقد عرفي حتى لا ينقطع عنها المعاش، فما الحكم؟ A لا تطاع، وهي آثمة ومزورة وآكلة ما ليس لها، أما المعاش فيأخذه الولد، أما هذه الحيلة التي تريدها هذه المرأة فلا يجوز لها ذلك، ثم إن زوجها مطالب بالإنفاق عليها كما هو معلوم.

حال: (اقرءوا يس على موتاكم)

حال: (اقرءوا يس على موتاكم) Q (اقرءوا يس على موتاكم) ما حال هذا الحديث؟ A لا يثبت، لا يثبت في فضل سورة يس أي حديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا أي موطن تقال فيه سورة يس، إنما شأنها شأن سائر سور القرآن.

حكم فتاة دخلت الجامعة بغير رضا أخيها

حكم فتاة دخلت الجامعة بغير رضا أخيها Q فتاة انتهت من الثانوية الأزهرية، ورفضت دخول كلية الدراسات الإسلامية بجامعة المنصورة، رغم عدم الاختلاط فيها، وفضلت الجلوس في البيت، وساعدها على ذلك أخوها الملتزم، ولكن بعد مدة ندمت على هذا القرار، وتقدمت إلى الجامعة رغم عدم رضا أخيها؟ A النظر في المسألة من جهة: هل هي تسافر إلى الكلية بلا محرم أو لا تسافر؟ فإن كانت لا تسافر فالأمر قريب في هذه المسألة؛ لأنها كلية ليس فيها اختلاط من ناحية، وعلومها إلى حد ما لا بأس بها، وإن كانت ليست على الدرجة العليا من العلوم، لكن علومها لا بأس بها.

سبب عدم ذكر البسملة في سورة براءة

سبب عدم ذكر البسملة في سورة براءة Q لماذا لم تبدأ سورة براءة بالبسملة؟ A البسملة ليست آية من سوءة براءة على رأي جماهير المفسرين، وعلل بعضهم ذلك بأنها كانت هي والأنفال سورة واحدة، فلذلك عثمان رضي الله عنه فكر كيف يصنع؟ هل يجعلها سورة واحدة أم يفصلها؟ والرسول أرسل أبا بكر يؤذن في الناس ببراءة، والشاهد: أنه أستقر رأيه على أن تثبت بلا بسملة، فيكون هذا الإثبات بلا بسملة قد جمع به بين القولين إلى حد قريب، ومنهم من قال: إنها لم تذكر فيها البسملة لكونها تسمى الفاضحة، وجاءت الآيات على هذا المنوال كلها تفضح أهل النفاق، والله أعلم.

قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين.

قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ... ) هل يسري هذا الحكم على الفراعنة؟ Q قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين. الحديث) ، هل هذا الحكم يدخل فيه الأقوام الذين ماتوا على الكفر، ولكن لم يخسف الله بهم مثل الفراعنة؟ A فيها قولان لأهل العلم، قيل: لا ندخل على المعذبين إلا إذا كنا باكين، لعموم وقوله: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين) ، فلما أشار إلى المعذبين دخل فيه كل معذب، وقول آخر: إنه خاص بقوم ثمود، لقوله: (هؤلاء) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم نبش قبور المشركين لبناء مسجد مكانها

حكم نبش قبور المشركين لبناء مسجد مكانها Q هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مسجداً؟ A ورد في بعض الطرق أن مسجد الرسول كان فيه قبور وخرب، نبشت وسويت، فعلى هذا يجوز، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم من حج قارنا ولم يستطع ذبح الهدي ولا صيام ثلاثة أيام في الحج

حكم من حج قارناً ولم يستطع ذبح الهدي ولا صيام ثلاثة أيام في الحج Q ما حكم من حج قارناً ولم تساعده الظروف كي يذبح الهدي، ولم يصم ثلاثة أيام في الحج لظروف صحية أخرى؟ A إذا كان الأمر قد انتهى، فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وليصم عشرة أيام حيث كان، وأمره إلى الله؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] ، وهذا في المتمتع، والقارن يلحق به، والله أعلم.

حكم الاستعاذة قبل القراءة

حكم الاستعاذة قبل القراءة السؤال: هل نأخذ من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ، أن الاستعاذة واجبة؟ A الاستعاذة ليست على الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آيات من القرآن ولم يقدم بين يدي قراءتها استعاذة، فكان يخطب مثلاً ويقول: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ) ، ولم يرد أنه استعاذ بالله بين يدي الآية، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين مقبلين في ثوبين أحمرين يتعثران، قال: (صدق الله إذ يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ) ، ولم يقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذه الأفعال صارفة لقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] من الوجوب إلى الاستحباب.

تفسير سورة القيامة

تفسير سورة القيامة في سورة القيامة تصوير بديع لمعاني هذا اليوم العظيم وأحداثه، يبدأ من الدنيا مروراً بالحياة فيها منذ الصغر إلى أن تأتي لحظة الفراق لكل شيء على ظهرها، ثم تذكر أن ما خلق أول مرة فإن الله قادر على أن يعيد خلقه مرة أخرى؛ ليحيا حياة النعيم والإكرام أو حياة الإهانة والإذلال. وهذه السورة أيضاً قد ذكرت مسألة كبيرة يختلف فيها أهل السنة مع المعتزلة، وهي مسألة رؤية الله يوم القيامة، وقد ذكر الشيخ أدلة أهل السنة ورد على المخالفين.

ضرورة تذكر اليوم الآخر

ضرورة تذكر اليوم الآخر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد جاء اسم يوم القيامة بأسماء متعددة في سور كثيرة، كالقارعة والواقعة إلى غير ذلك، وجاء اسم القيامة صريحاً في هذه السورة، وكما أسلفنا أنه ما من سورة من كتاب الله إلا وأومأ فيها إلى ذكر البعث والحساب والنشور تصريحاً أو تلميحاً، وهذا أمر يجعل كل مسلم يتذكر الآخرة؛ ولذا اختص الله سبحانه أنبياءه عليهم الصلاة والسلام بهذه الخاصية، التي قال فيها: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:45-46] أي: ميزناهم بميزة وخصصناهم بخاصية، فما هي هذه الميزة، وما هي هذه الخاصية؟ هي قوله تعالى: {ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] أي: تذكر الدار الآخرة. فإذا تذكر العبد الدار الآخرة واعتقد حدوثها وكينونتها اعتقاداً يقينياً؛ حمله هذا الاعتقاد على إحسان العمل وإصلاحه، ثم سلامة العمل الذي هو فرع عن سلامة الاعتقاد، فلذلك يجدر الإكثار من التنبيه على الآخرة وأحداثها وأهوالها، وعلى الجنة والنار. والناظر والتالي لكتاب الله يرى هذا المعنى مكرراً في عدة سور، بل والناظر إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يراها مليئة بإيراد هذا المعنى: إيراد الجنة والنار والمواقف والحساب، ومن ثم لا يلام أبداً من ذكَّر بالجنة وبالنار، كما يفعل أهل الغباء مع بعض إخواننا من العلماء الأفاضل الذين يكثرون من التذكير بالجنة والنار والتذكير بالموت. يقول أهل الجهل وأهل الغباء: ما عندهم إلا التذكير بالجنة، وما عندهم إلا التذكير بالنار، وما عندهم إلا التذكير بالقبر! وفي الحقيقة أن هذا من أصول ديننا، نركز عليه في عموم سور القرآن، اللهم إلا يسير اليسير من السور التي لا يأتي له ذكر فيها صراحة. فعلى ذلك ينبغي ويلزم الواعظ أو العالم أن يكثر في ثنايا وعظه وفي ثنايا تعليمه للناس من التذكير بالجنة والنار، فإنك إذا أيقنت بها هانت عليك الدنيا، وسهلت عليك المصائب، وسهل عليك الفقر، ولم تغتر بالغنى، إلى غير ذلك من مستلزمات الإيمان بالآخرة.

تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة.) سورة القيامة يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] . (لا) : لنفي شيء قد تقدم، فهو أقسم بيوم القيامة، فهذا كقوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] ، مع أن الله أقسم بالبلد. وقد تقدمت مباحث ذلك باتساع في تفسير جزء عم. فـ (لا) هنا نفي لشيء مستتر أو لشيء قد تقدم، فيقول الله سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقد أقسم به في موطن آخر فقال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:1-2] ، فأقسم الله باليوم الموعود وهو يوم القيامة فالله عز وجل يقسم بعظيم مخلوقاته، فلا يقسم بالنمل، ولا بالصراصير، ولا بالنحل مع أنها كلها من مخلوقات الله. قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] ، ويوم القيامة كما وصفه تعالى في قوله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:17-18] . {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] ، فما المراد بالنفس اللوامة؟ لأهل العلم في تفسير النفس اللوامة أقوال: قال فريقٌ منهم: ما من نفس إلا وهي تلوم صاحبها، إن فعل خيراً تلومه يوم القيامة: لِمَ لَمْ تزدد من فعل هذا الخير؟ لم لَم تكثر من فعل هذا الخير؟ وإن عمل شراً لامته نفسه: لم عملت هذا الشر؟ فحملوا (اللوّامة) على أن وقت اللوم يكون يوم القيامة. ومنهم من قال: إن اللوم هذا يكون في الدنيا، فما من نفس إلا وهي تلوم صاحبها، فنفس المؤمن تلومه إن فعل المعاصي: لم فعلت هذه المعصية؟ ونفس الكافر، تلومه: لِمَ لم تكثر من فعل المعاصي؟ فكل نفسٍ تلوم صاحبها على هذا المعنى. والنفس لها درجات وأعمال ومراتب، ولها أقسام: كنفوس خيرة ونفوس شريرة، وقد قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7-9] ، فهناك أنفس فيها فجور وأنفس فيها تقوى، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] .

حفظ الله لكتابه في صدر نبيه

حفظ الله لكتابه في صدر نبيه {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] . الخطاب لرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في البخاري من حديث ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك لسانه بالقرآن وجبريل يقرئه، فكان يقرأ القرآن مع جبريل أثناء قراءة جبريل، خشية أن يتفلت منه هذا القرآن، فيجتهد في حفظ القرآن مع جبريل، ويسرع بلسانه ويحركه حتى يأخذ ما ألقاه عليه جبريل. قال ابن عباس: (فأنا أحركها كما كان رسول الله يحركها) ، قال سعيد بن جبير: (فأنا أحركها كما رأيت ابن عباس يحركها) ، وهذا الحديث يسميه العلماء: حديثاً مسلسلاً. والحديث المسلسل: هو الحديث الذي يصحب القول فيه فعلٌ، مثل أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فيضحك، فيأتي الصحابي يذكر الشيء نفسه عن رسول الله فيضحك كما ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي التابعي يروي الحديث عن الصحابي فيضحك كما ضحك الصحابي، فيكون الضحك قد تسلسل مع الكلام المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمثلاً لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من أهل الجنة يشتهي الزرع، فيطلب من الله سبحانه وتعالى أن يزرع) . فالشاهد فيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث، فقال رجل من الأعراب: يا رسول الله هذا الرجل الذي يشتهي الزرع ليس منا، إنما هو أنصاري أو مهاجري، أما نحن فلسنا أهل زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فروى الصحابي الحديث فضحك، وهكذا. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه بالقرآن، فقال الله له: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] . {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة:17] لك في صدرك، {وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] ، أي: قراءته، فالمعنى: علينا نحن أن نجمعه لك في صدرك، وعلينا أيضاً أن نعينك على قراءته. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] ، أي: إظهاره. {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20] ، والعاجلة هي الدنيا. {وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:21] أي: تتركون العمل للآخرة.

توبيخ الله للإنسان الفاجر

توبيخ الله للإنسان الفاجر قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ} [القيامة:3] . أي: أيظن هذا الإنسان الكافر الملحد: {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] ؟ {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] ، البنان: هي أطراف الأصابع كما هو معروف، كما قال الله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] . ما معنى قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} ؟ من العلماء من قال: إن معناها بلى قادرين على أن نجعل الأصابع كلها ملتصقة ببعضها، كخف البعير وحافر الفرس، فلا تستفيد منها حينئذٍ تلك الاستفادة التي تستفيدها بتفرق الأصابع. ومنهم من قال: إن المراد التسوية في الطول، أي: نحن قادرون على أن نجعلها كلها مقاساً واحداً. ومن العلماء من قال -وهو أيضاً قول لبعض الأوائل- تسويتها في البصمات ونحو ذلك. {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5] . أي: يتمادى في المعاصي ويستمر فيها، والمعنى أنه يريد في أيامه القادمة أن يتمادى في معاصيه وفي غيه. قوله: (يسأل) أي: يسأل مستهزئاً قائلاً: {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6] . فيقول الله سبحانه: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:8] أي: ذهب ضوؤه. {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:11] ، أي: لا ملتجأ، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13] . من العلماء من حمل قوله تعالى: (ما قدم) أي: ما قدم من حسنات، (وأخر) أي: ما فعل من السيئات، كما في قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ} [المدثر:37] ، أي: بالحسنات، {أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] ، أي: بالسيئات. قال تعالى: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14-15] . من العلماء من قال: إن المعاذير: هي الستور، أي: ولو أسدل على نفسه الستور بالاعتذارات فهو يعرف تماماً ما صنع، كما قال الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] . فمعنى الآية: إن الإنسان وإن جادل بالباطل، واعتذر عن نفسه باعتذارات؛ فهو يعرف تماماً ما صنع، وما ارتكب، وما اقترف، فهو في نفسه يعلم ذلك جيداً ولو حاول أن يستر نفسه أمام الناس، أو يلقي الاعتذارات.

رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، في هذه الآية قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، وهي: رؤية الرب عز وجل يوم القيامة، فمن الأصول عند أهل السنة: أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة، وهذا أصلٌ تخالف فيه عدة فرق من فرق الزيغ. أما الأدلة على هذا الأصل: فمن كتاب الله هذه الآية الكريمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ، أي: بهيجة حسنة علتها النضرة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . فقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . من المفسرين من حاول أن يفسر الناظرة بمعنى: المنتظرة، حتى ينفي مسألة الرؤية يوم القيامة، وقال: إن ناظرة هنا معناها: منتظرة بدليل قوله تعالى في سورة النمل حكاية عن ملكة سبأ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35] ، فقالوا: إن قولها: (فناظرة) أي: منتظرة، قالوا: فكذلك هنا قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، ويرد عليهم أولاً: أن أهل اللغة فرقوا فقالوا: إن هناك فرقاً بين قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وبين قولها: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35] . وخيرٌ من هذا أن يقال: إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فسرت ما أجمل من الكتاب، فقد ثبت في الصحيحين من عدة طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم عياناً) . وسئل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً صريحاً: (هل نرى ربنا يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هل تضارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله) ، أي: هل يقع عليكم ضرر في رؤية القمر إذا كانت الليلة صحوة وليس هناك سحاب، قالوا: لا يا رسول الله، حتى وإن كان هناك زحام فإنك تنظر إلى الأعلى فترى القمر، قال: (هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك سبحانه وتعالى) . ومن الكتاب العزيز أيضاً: قال الله سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من طريق حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون ما الزيادة؟ إنها النظر إلى وجه الله تعالى) . وهذا الحديث الذي فيه تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله قد انتقده بعض أهل العلم على الإمام مسلم كـ الدارقطني رحمه الله، فقال ما حاصله: إن الصواب فيه أنه من كلام عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولم يتعد به إلى صهيب ولا إلى رسول الله، والواصل هو حماد بن سلمة -على ما يحضرني- والذي أوقفه هو حماد بن زيد على ما أذكر، والله أعلم. إلا أن جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، على أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى. واستدل أيضاً على هذه الرؤيا، بالمفهوم المخالف في قوله تعالى في شأن الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، قالوا: فأهل الإيمان ليسوا بمحجوبين عن ربهم سبحانه وتعالى. فهذه أصول استدلالات أهل السنة في هذا الباب. أما المعترض على الرؤية فيقول: إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: (لن تراني) وذلك لما سأله رؤيته فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، فقالوا: إن (لن) تفيد التأبيد، فما دامت تفيد التأبيد إذاً لم تحدث الرؤيا ولن تحدث. فأجيب عليهم: إن سلمنا أنها تفيد التأبيد، فهذا التأبيد في الدنيا، فلم ير أحد ربه فيها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يحذر أمته من الدجال: (اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) ، فإذا قال شخص: هل نرى الرب؟ نقول له: نحن لا نرى الرب حتى نموت، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. واحتج النافون بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، قالوا: فمن ثم لن يرى؟ فأجاب أهل السنة على ذلك بما حاصله: إن الإدراك شيءٌ أخص من الرؤيا، فقد أراك من بعيد لكن لا أدركك، قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:61] ، أثبتت الرؤية، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:62] ، فحصلت الرؤية ولم يحصل الإدراك، فهناك فرقٌ بين الإدراك والرؤية. وقد دارت نادرة بين سني ومعتزلي في اليمن، لما قال: السني: نحن سنرى ربنا يوم القيامة، فقال المعتزلي: لم نر ربنا يوم القيامة؟ وطالت الإيرادات وطال الجدل بينهما، فقال: السني: نأتي إلى كلمةٍ سواءٍ فيما بيننا: نحنُ نرى ربنا وأنتم لا ترون ربكم! ونحل الإشكال على هذا. قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، ترى ما الذي جعلها ناضرة؟ إنه إيمانها بالله، وتلاوتها لكتاب الله، وحملها أيضاً لسنة رسول الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها) ، ونضرها أيضاً للوضوء كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: (كيف تعرف أمتك من بين الأمم يا رسول الله يوم القيامة؟ فقال: إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء) . قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24] . أي: كالحة مسودة، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:22] ، أي: قطب جبينه، وبسر، وكلح بوجهه. قوله: {تَظُنُّ} [القيامة:25] أي: توقن، فالظن هنا: بمعنى اليقين، وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] ، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ، أي: أيقنت. فمعنى قوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ، أي: كالحة سوداء، مقطبة الجبين، {تَظُنُّ} ، أي: توقن: {أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:25] ، أي: أيقنت هذه الوجوه أنها فاقرةً، والفاقرة هي: المصيبة الكبرى التي تكاد تكسر فقار الظهر، فيظن أصحاب هذه الوجوه ويوقنون أن مصيبة من هذه المصائب ستحل بهم في هذا اليوم، أي: يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق)

تفسير قوله تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) قال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] ، ما هي التي بلغت؟ قدمنا أن العرب تحذف كلمات من السياق لدلالة السياق عليها، فهنا: (إِذَا بَلَغَتِ) ، أي: الروح، كما في قوله: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] ، والتي بلغت الحلقوم هي الروح أيضاً، وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ، أي الشمس، {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] ، أي: النار. فالعرب تحذف شيئاً من السياق إذا كان السياق يدلُ عليه وكان المخاطب يفهم هذا المحذوف، فيقول الله سبحانه: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] ، والتراقي: هي عظام الترقوة. قوله تعالى: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} ، للعلماء فيه قولان: القول الأول: هل من شخصٍ يرقي هذا المريض، أو طبيب يداويه؟ وهذا معنى تقلده فريقٌ من المفسرين.

حكم التداوي من المرض

حكم التداوي من المرض وهل التطبيب يلحق بذلك؟ أعني: هل طلب العلاج من طبيب يأخذ حكم الرقية؟ لأن الرقية نوعٌ من أنواع العلاج، فهل أيضاً طلبُ العلاج والذهاب عند الأطباء يلحق بحكم الرقية؟ أي: هل يجوز لي أن أعالج غيري أو أطلب لغيري العلاج، لكن أنا في نفسي أتركه. من العلماء من يقول: إن الأولى إذا كان الشخص يتحمل المرض ولا يؤثر عليه في حقوقه مع ربه ولا حقوقه مع الخلق، فالأولى له أن يترك، واستدلوا بحديث المرأة التي كانت تصرع، وأتت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي قال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: أصبر ولي الجنة، ولكن ادع الله أن لا أتكشف، فدعا الله لها أن لا تتكشف) . وكذلك حديث الرجل الأعمى الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إني رجل أعمى قد شق عليّ ذهاب بصري، فادع الله أن يرد عليّ بصري يا رسول الله؟ قال: إن شئت دعوت الله لك فشفاك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قال: بل ادعه يا رسول الله، فقال له الرسول: توضأ وصل، وقل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة) الحديث إلى آخره. فمن العلماء من بنى على هذين الحديثين: أن الشخص إذا كان يتحمل المرض ولا يؤثر هذا المرض على حقوق الآخرين من البشر، ولا يعوقه على الكسب لأولاده وزوجته، ولا عن سائر تعلقاته بالبشر، ولا يؤثر على صلاته ولا صيامه؛ فتحمله أولى، هكذا ذكر عددٌ من أهل العلم رحمهم الله تعالى. ولا تعارض حينئذٍ بين هذا التقعيد، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواء) . وقالوا أيضاً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مرض وأتى الصحابة أو أهل بيته كي يلدّوه، أي: يضعوا الدواء في فمه رغماً عنه، أشار إليهم أن لا تفعلوا، فلما فعلوا رغماً عنه بعد أن عوفي قال: (لا يبقين أحدٌ في البيت إلا لدّ وأنا أنظر؛ إلا العباس فإنه لم يشهده) . وهذا تحرير المسألة فيما علمت، والله أعلم. ثم إن رمي الأحمال دائماً على الأطباء، والاعتقاد أنهم هم الذين يشفون؛ يورث الشخص قلةً في التوكل على الله، فكلما أصابك صداعٌ أو شيء ذهبت إلى الطبيب مباشرةً، هذا يفقدك الثقة بالله، ويريك دائماً التطلع على أن الشفاء من عند الأطباء، والله أعلم. هذا قول، وهناك قول آخر لكن الأدلة عليه ضعيفة: وهو أن الملائكة تتأذى من الصعود مع هذا الكافر، إلى أن يكلف ملك الموت ملكاً، فمن نتن ريحه ومن قذارته يتمنع الكل إلى أن يقول: اصعد معه يا فلان. وهذا قول لبعض المفسرين، لكن الأدلة الواردة عن رسول الله معناها يرفضه، والله تعالى أعلم. {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] ، أي: أيقن هذا الميت أنه الفراق، ولكنه في الحقيقة فراقٌ للأهل، لا لقاء بعده أبداً مع هذا الكافر إذا كان أهله مؤمنين، فلا يلتقيان أبداً إلا لقاءً يسمع فيه التوبيخ والتأنيب: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:50] ، إلى غير ذلك من أوجه التأنيب والتعيير والتوبيخ.

توضيح ما ورد في كراهية الرقية

توضيح ما ورد في كراهية الرقية وهذه نصوص كلها تدل على مشروعية الرقية، لكن ما هو توجيه الوارد من كراهيةٍ في شأن الرقية؟ الوارد من النهي في شأن الرقية، هو أن تطلب أنت لنفسك شخصاً يرقيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من اكتوى) ، وإن كان للكي أيضاً حكم فيه تفصيل (أو استرقى) ، أي: طلب الرقية لنفسه: (من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل) ، أخرجه أحمد بإسناد حسن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون) ، وورد هذا الحديث بلفظ في إحدى روايات مسلم من طريق سعيد بن منصور: (هم الذين لا يرقون) ، وقد حكم الحفاظ على هذه اللفظة في صحيح مسلم بأنها شاذة إسناداً؛ لأن جمهور الرواة رووا الحديث بلفظ: (لا يسترقون) ، وشاذة أيضاً معنىً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رقى غيره. فلفظة: (لا يرقون) ، وهمٌ من سعيد بن منصور، وعلى هذا جمعٌ من العلماء كالحافظ ابن حجر رحمه الله، وكشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعدد من أهل العلم رحمهم الله تعالى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون) ، أي: لا يطلبون الرقية. ونحمل هذا الطلب على الرقية لأنفسهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم سلمة: (استرقي لها) ، أي: الجارية، وقال لـ أسماء بنت عميس: (استرقي لهم) أي: للأطفال، فالحاصل: أن طلب الرقية للنفس مكروه، لحديثين الأول: (من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل) . والثاني: في قصة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب منها: أنهم (لا يسترقون) .

جواز الرقية إذا كانت شرعية

جواز الرقية إذا كانت شرعية وعند هذا المعنى تثار قضية الرقية؛ لأن الآية الكريمة ذكرت الرقية ولم تأمر بالرقية ولم تنه عنها، ولكن غاية ما أفادته الآية: أن الرقية عند الموت لا تنفع، فما هو حكم الرقية إذاً؟ حكم الرقية لا يؤخذ من حديث واحد، فالرقية منها رقية مشروعة وغير مشروعة، وتلحق بغير المشروعة أنواع الشعوذات والدجل الذي يفعله السحرة والكهان. وثم رقى مشروعة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) ، أي: ما لم يكن فيه شرك جمعاً بين الروايتين، لكن هناك فرقٌ بين رقية الشخص لنفسه، ورقية الشخص للآخرين، وطلب الشخص من الناس أن يرقوه. فإذا أتى شخصٌ يرقيك بلا طلبٍ منك فلا تمنعه، فقد جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا محمد اشتكيت، باسم الله أرقيك من كل شيءٍ يؤذيك، ومن شر كل عين ومس حاسدٍ الله يشفيك) ، فهنا جبريل رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى مريضاً قال: (أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً) . فالرسول صلى الله عليه وسلم ارقاه جبريل وهو أيضاً قد رقى، وأيضاً حث على طلب الرقية لكن لغيرك، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فرأى عندها جارية ورأى في وجهها سفعة، والسفعة: التغير والسواد في الوجه: (فسأل: ما هذا؟ قالوا: إن بها النظرة يا رسول الله؟ قال: فاسترقوا لها) ، أي: اطلبوا لها من يرقيها، والحديث في البخاري. وأيضاً ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت جعفر بعد مقتل جعفر، ورأى أولاده كالأفراخ من شدة الضعف، فسأل أمهم أسماء: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله، قال: استرقي لهم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة ممن يرقين من النساء: (ارقيها وعلميها حفصة كما علمتيها الكتابة) . وأيضاً في الصحيح أن صحابياً رقى رجلاً على قطيع من الغنم، ولما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وكان قد رقاه بفاتحة الكتاب. فيؤخذ من هذه الأخيرة: جواز رقية الكفار.

تفسير قوله تعالى: (والتفت الساق بالساق.

تفسير قوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ.) {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] . أهل العلم لهم أقوال في تفسير قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] : القول الأول: أن الآية على ظاهرها، وأن ساق الميت اليمنى تلتف بساقه اليسرى عند الموت، وأنها أيضاً تجمع إلى ساقه اليسرى عند التكفين، فإنه تضم هذه إلى تلك. هذا المعنى جار على تفسير الآية على ظاهرها، وقد قال به فئةٌ من السلف. القول الثاني: (والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) التقت الأهوال بالأهوال، فهو في هولٍ خروج الروح منه، وهول آخر وهو استقبال الملائكة السيئ الذي يستقبل به الكافر: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] . فالقول الأول مبني على الظاهر، أي: ساق الميت اليمنى التفت على ساقه اليسرى عند الاحتضار، وكذلك ضمت إليها عند التكفين. والقول الثاني: أن الشدة التقت بالشدة، سواء كانت شدة خروج الروح وشدة الاستقبال المزعج من الملائكة الذين يستقبلون الكافر، أو أي شدائد أخر. {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] ، أي: المسير إلى الله سبحانه وتعالى في هذه اللحظات. قال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:31] ، أي: لم نعهد منه صدقات ولا تصديقاً أيضاً، بمعنى: لا الإيمان ولا الصلاة، {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:32] ، أي: كذب بالقرآن وأعرض عن الإيمان. {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة:33] ، أي: يختال ويفتخر. {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34-35] . من العلماء من قال: (أولى) هنا بمعنى ويلٌ؛ أي: ويلٌ لك، فالويل لك، ثم الويل لك، فالويل لك. ومنهم من قال معنى قوله: (أُوْلَى لَكَ) ، أي: وليك العذاب، ثم أنت أولى به، ثم إن وليك العذاب، ثم أنت أولى به. فعلى كلٍ هي نوع من أنواع التهديد الشديد. {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] ، أي: هملاً بلا حساب، فمعنى (أيحسب) : أيظن الإنسان أنه خلق هكذا عبثاً كما في قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ، فالله ينفي عن نفسه هذا العبث، فيقول في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:16-17] . فالله يقول: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ} [القيامة:36] أي: أيظن الإنسان الكافر، {أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] ، أي: هملاً بلا حساب. قال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:37] ، أي: يراق ويسال، والمني هو المعروف، و (يمنى) أي: يراق. قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة:38] ، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:39-40] . إذا تليت هذه الآية ماذا نقول؟ هل نقول: بلى، وربي قادر. A الأسانيد الواردة في هذا الباب أننا نقول: (بلى وربي قادر) . كلها لا يثبت منها شيءٌ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي كل أسانيدها ضعف، لكن على العمل بها عند جمهور المفسرين، ولعل من أحسنها ما ورد عند تفسير قوله تعالى في سورة التين: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] ، أن يقال: (بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين) . وقد نقل محمد عطية سالم حفظه الله في تتمته لأضواء البيان إجماع المفسرين على أننا نقول: (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين) ، وإن كان الإسناد فيه رجلٌ يقال له: أبو مدينة، ومن الممكن أن يحسن حديثه، فهذا في سورة التين، ويجري أيضاً في سورة القيامة. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صعق الذبيحة بالكهرباء

حكم صعق الذبيحة بالكهرباء Q ما حكم الذبائح التي يحصل عليها الجزارون من المسلخ الآن؟ A لا أعرف طبيعتها، لكن إذا كانت مذبوحة فسمِّ الله وكل، وهي فيها شبهة، والسائل يريد أن يقول: ماذا في شأنها؟ وهي جائزة إذا كانت مذبوحة، ولا أعرف أنها تصعق بالكهرباء.

حكم حديث: (لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها)

حكم حديث: (لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها) Q ما صحة حديث: (لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها) ؟ A الذي يحضرني الآن أنه موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه.

حكم من قال لزوجته: أنت طالق إن ذهبت إلى كذا

حكم من قال لزوجته: أنت طالق إن ذهبت إلى كذا Q رجلٌ قال لزوجته: عليّ الطلاق ما أنت ذاهبه إلى المكان الفلاني، فهل يقع طلاقه؟ A مسائل الطلاق على صاحبها أن يسأل على انفراد؛ لأن لها تبعات، ويستفصل فيها المفتي والسائل. أما هذه الحالة فهي محل نزاع، والنفس تطمئن إلى أنه لا يقع، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.

تأخير التوبة عن المتخاصمين حتى يصطلحا

تأخير التوبة عن المتخاصمين حتى يصطلحا Q أمي ذاهبة هذا العام إلى عمرة في رمضان، وهي على خلاف مع أحد الأقارب، فأنصحها بالصلح معه لكي يكون لها أجر حج، فهل هذا صحيح؟ A يذكرها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة في يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا) . وفي رواية: (حتى يفيئا) ، فتؤخر التوبة عن الذين بينهم خصومة، وخاصةً إذا كانت خصومات في الدنيا، وأما إذا كانت الخصومات في الدين -وقليل من الناس من يخاصم بالله الآن- فلها شأنٌ آخر، فتنصح الوالدة التي هي على سفر إلى بيت الله الحرام أن تخفض جناحها للمؤمنين، والله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] .

صحة حديث: (نور أنى أراه)

صحة حديث: (نور أنى أراه) Q ما صحة حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه) ؟ A حديث صحيح.

المقصود بالتمرات التي يتقى بها السحر

المقصود بالتمرات التي يتقى بها السحر Q ما صحة حديث: (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يصبه سمٌ ولا سحر) ، وما المقصود: بسبع تمرات عجوة؟ A العجوة في الحديث مقيدة (بعجوة العالية) أي: عجوة المدينة، وتمرات العجوة ليس كالعجوة التي في بلادنا العجوة المكبوسة، فهناك تمر اسمه العجوة، فعندنا مثلا بلح كباي وبلح معرش، وهناك بلح أيضاً اسمه العجوة، وهو بلح صغير أسود ويباع في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.

صحة حديث: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي)

صحة حديث: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي) Q ما صحة حديث: (استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي) ؟ A الحديث في صحيح مسلم.

حديث: (حبب إلي من دنياكم.

حديث: (حبب إلي من دنياكم.) Q ما صحة حديث: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) ؟. A هذا الحديث ورد بلفظ: (حبب إليّ من دنياكم ثلاث) ، وهو بلفظ: (ثلاث) ، ضعيف، لكن بلفظ: (حبب إليّ من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) ، إسناده صحيح، لكن لبعض أهل العلم كلام في إعلاله، ولا يحضرني تفصيل هذا الكلام الآن، وقد أثبته في كتاب جامع إحكام النساء لمن شاء أن يراجعه، وهو موجود في بعض كتب العلماء.

ضعف حديث: (صلوا وراء كل بر وفاجر)

ضعف حديث: (صلوا وراء كل بر وفاجر) Q ما صحة حديث: (صلوا وراء كل برٍ وفاجر) ؟ A ضعيف، لا يثبت عن رسول الله، لكن في الباب حديث في شأن الأئمة الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها: (صلوا، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) ، وهو صحيح.

حكم من يسبق الإمام سهوا

حكم من يسبق الإمام سهواً Q ماذا يفعل المصلي الذي سبق الإمام في ركوعٍ مثلا أو سجود بدون قصد؟ A إذا كان دون قصد، بأن كان خطأ، فإن الله وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، ولما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ، قال الله: (قد فعلت) .

صحة ما يذاع من نكاح الجني للمرأة الإنسية

صحة ما يذاع من نكاح الجني للمرأة الإنسية Q كثر في الجرائد والمجلات مسألة الجن التي تجامع النساء والبنات، فهل هذا صحيح؟ A هل بالفعل الجن تجامع النساء؟ في الحقيقة ما رأيت جنياً أو سمعت عن هذا في عهد الرسول، والذي يثبت لنا ذلك يأتينا بأي دليل يثبت أن الجن كانوا يجامعون النساء. وقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] يفهم في ضوء أفعال الصحابة وفي ضوء الأحداث التي جرت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وغاية ما أفادته الآية أن الحوريات في الجنة، (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) ، لكن هل الجني ممكن أن يطمث؟ في حديث في إسناده -على ما يحضرني- عبد الله بن محمد بن عقيل وهو عندنا ضعيف الحديث، يقول النبي في شأن من الصحابة: (هذه ركضة من ركضات الشيطان) ، لكن في إسناده ضعف، ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن الواقع الذي حدث على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا توجد امرأة من الصحابيات جامعها جني أبداً! وأما أن نتوسع في هذا الباب، والجرائد تأخذه موضوعاً تشنع به على الإسلام وتشنع به على المسلمين، ويثأر العلمانيون بسببه من أهل الإسلام، وهو مادة خصبة لهم بالطبع، لكن السؤال المطلوب، هل ورد عن امرأة من الصحابيات أنها حصل لها شيء من هذا؟ لا أعلم شيئاً في هذا. وأما حديث: (أن الرجل إذا جامع امرأته ولم يسم جامع معه الشيطان) فهو غير ثابت، بل هو ضعيف تالف، ولا يصح إلا حديث: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) ، لكن لا يفيد أن الشيطان يزني معه، والله أعلم. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والله أعلم.

تفسير سورة الإنسان

تفسير سورة الإنسان سورة الإنسان من السور التي يعرض فيها الله حقيقة هذا الإنسان، وأين كان قبل أن يكون بشراً سوياً، ويعرض صورة مما أعده الله للمؤمنين في الجنة، من النعيم الدائم السرمدي، وما أعده الله للكافرين في النار من صور العذاب الأليم، وفيها تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، وعرض لأساليب مجابهة الكفار التي تتمثل في الصبر وكثرة الذكر وقيام الليل.

تفسير قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر.

تفسير قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الإنسان في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ في الركعة الأولى من فجر الجمعة بـ (الم تنزيل) . قوله تعالى: (هَلْ أَتَى) قال كثير من المفسرين: (هل) هنا بمعنى قد، فالمعنى: قد {أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] . أما المراد بالإنسان: فمن العلماء من قال: إن المراد بالإنسان هنا آدم صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي قال إن المراد بالإنسان هو آدم صلى الله عليه وسلم، فسر الحين المذكور في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] بأنه ما بين خلق آدم إلى أن نفخت فيه الروح. ومن العلماء من قال: إن المراد بالإنسان هنا: بنو آدم، وهذا القائل فسر الحين من الدهر أنه الفترة التي كان فيها الإنسان نطفة إلى أن صُوِّر وشكل في بطن أمه. فهذان قولان مشهوران في تفسير هذه الآية. أحدهما: أن الإنسان هو آدم، والحين هو منذ خلق آدم إلى أن نفخت فيه الروح. والثاني: أن الإنسان عام، والحين هو ما بين كونه نطفة في رحم أمه إلى نفخت فيه الروح كذلك. {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] أي: كان شيئاً مهملاً لا يذكر ولا يعرف.

تفسير قوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان.

تفسير قوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان.) {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} والإنسان هنا في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} هم بنو آدم يقيناً؛ لأن آدم صلى الله عليه وسلم لم يخلق من نطفة، إنما خلق آدم عليه السلام من تراب. فقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} الإنسان هنا هم بنو آدم؛ لأن آدم ما خلق من نطفة، وهذا يجرنا إلى أن الكلمة تتعدد معانيها في كتاب الله سبحانه، فأحياناً يتسع معناها وأحياناً يضيق معناها، فكلمة الإنسان أحياناً تكون عامة يدخل فيها آدم وبنو آدم، وأحياناً تكون خاصة فيراد بها آدم وحده، أو بنوه فقط. فقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} كما أسلفنا من العلماء من قال: هو آدم، وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} هم بنو آدم. {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} الأمشاج: هي الأخلاط، والمشيج: هو الخليط، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي: أخلاط، وما المراد بالأخلاط؟

تفسير قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل.

تفسير قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل.) {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان:3] : الهداية هنا هداية الدلالة، وليست هداية التوفيق، فالهداية هدايتان: هداية دلالة ومنها: (هذا هادٍ يهديني السبيل) أي: يدلني على الطريق، ولكن قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أي: لا توفق من أحببت، فالهداية هدايتان: هداية دلالة يملكها البشر بإذن الله، وهداية التوفيق لا يملكها إلا الله سبحانه. إذا علمت ذلك اندفعت عنك الإشكالات الواردة في الجمع بين الآيات كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فقوله: (إِنَّكَ لَتَهْدِي) أي: لتدل، و (إِنَّكَ لا تَهْدِي) أي: لا توفق. قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي: بينا له الطريق، وأوضحنا له طريق الخير وطريق الشر كذلك، كما قال سبحانه في آية أخرى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: بينا له طريق الخير، وبينا له طريق الشر، فكان حال الناس لما بينا لهم الطريق، أن منهم شاكراً ومنهم كافراً، {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] فالمعنى: إنا بينا للإنسان الطريقين: طريق الخير وطريق الشر، فآل أمر الناس إلى قسمين: منهم الشاكر، ومنهم الكافر، أي: منهم من سلك طريق الخير شاكراً لنعمة الله عليه في البيان، ومنهم من سلك طريق الشر كافراً بنعمة الله عليه في هذا البيان.

تفسير قوله تعالى: (إنا أعتدنا للكافرين.

تفسير قوله تعالى: (إنا أعتدنا للكافرين.) {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الإنسان:4] أي: أعددنا، {لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا} أي: سلاسل توضع في الرقاب، ويسحبون بها في النار على وجوههم، {سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان:4] وتقدم الكلام على ذلك. فقوله سبحانه: (إِنَّا أَعْتَدْنَا) يفيد أن النار مخلوقة الآن، لأن الله قال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا) ، وهذا من معتقدات أهل السنة والجماعة أن النار مخلوقة الآن، وأشد ما تجدون من حرها في الصيف، وأشد ما تجدون من بردها وزمهريرها في الشتاء، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن النار اشتكت إلى ربها فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف) الحديث. (ولما خلق الله النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها) . الحديث. (وبينما رجل يمشي في حلة قد أعجبته نفسه إذ خسف به في نار جهنم فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) فقوله (إِنَّا أَعْتَدْنَا) فيه دليل على أن النار مخلوقة وموجودة الآن، وكذلك في حديث عذاب القبر، (افتحوا له باباً إلى النار، وأفرشوه له النار، فيأتيه من حرها وسمومها) أي: الميت الكافر.

تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار يشربون.

تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار يشربون.) {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5] والأبرار تأتي أحياناً بمعنى عام متسع، وأحياناً تأتي بمعنى خاص: فأحيانا تكون عامة فيدخل فيها أهل الجنة كلهم، سواء المقربون منهم، أو أصحاب اليمين, ومنه قول أهل الإيمان، {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] فهي عامة. وأحياناً تأتي الأبرار ويراد بها صنف من أصناف الجنة، فنحن نعلم أن الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، والسابقون السابقون أولئك المقربون، ففي الآخرة مقربون، وأصحاب يمين، وهذان الصنفان من أهل الجنة، وصنف ثالث وهم أصحاب المشأمة. فمن أهل العلم من يقول: إن المراد بالأبرار في هذه الآية التي بين أيدينا أصحاب اليمين، أي: إن أصحاب اليمين {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا} أي: خليطها كافورا. {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} هذه الكأس ليست من مشروب صافٍ، إنما هي من شراب مخلوط بالكافور، وهذا الكافور {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} أي: يشرب منها (عِبَادُ اللَّهِ) أي: المقربون، فالمراد بعباد الله هنا: المقربون، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] وقد تقدم في سورة المطففين {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:22-24] * ((يُسْقَوْنَ)) أي: الأبرار {مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25] على قول من قال: إن المختوم هو الممزوج {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:26-28] . وهنا كذلك {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} هذه الكأس التي يشرب منها الأبرار كان مزاجها، أي: خليطها، كافورا، فهي مخلوطة بالكافور، والكافور {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} الذين هم المقربون، يشربون من الكافور صرفاً، صافياً خالصاً -غير مخلوط بغيره-. أما أصحاب اليمين فيشربون الكافور الممزوج بغيره، فكما قال قائل السلف: يشرب منها المقربون صرفاً أي: صافية وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، أي: تخلط لأصحاب اليمين خلطاً، وكمثال تقريبي من حياتنا الدنيا: شاي على لبن، أصحاب اليمين يشربون شاياً مخلوط بلبن، اللبن شراب يشرب منه عباد الله -المقربون- يشربون من اللبن صرفاً، أي: خالصاً صافياً، وأصحاب اليمين يشربون الشاي المخلوط باللبن. وهنا كذلك: ((إِنَّ الأَبْرَارَ)) الذين هم أصحاب اليمين {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5] أي: خليطها كافور، والكافور: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي: يشرب منها، فـ (بها) بمعنى منها، وحروف الجر تتناوب. {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] ، أي: ينتقلون بها إلى حيث شاءوا وتصحبهم إلى حيث أرادوا، أي: إذا انتقلوا إلى مكان في الجنة، وأراد أحدهم أن يفجر هذه العين، فإنها تفجر له هذه العين، فهي ليست مثبتة في مكان، بل هي متنقلة معه إلى حيث أراد، {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] أي: في أي مكان شاءوا أن تنبع لهم هذه العين نبعت لهم.

تفسير قوله تعالى: (يوفون بالنذر.

تفسير قوله تعالى: (يوفون بالنذر.) {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] من صفات هؤلاء الأبرار أنهم يوفون بالنذر، والنذر هنا عام، لكن أريد به الخصوص، فالمراد بالنذر الذي يوفى به: نذر الطاعة والتبرر لا نذر المعصية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) فلفظة النذر جاءت عامة، لكن أريد بها الخصوص. أقسام النذر: والنذر على خمسة أقسام: نذر الطاعة ويطلق على نذر الطاعة نذر التبرر، وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: نذر عوض أو مقابلة. القسم الثاني: نذر الابتداء. فنذر الابتداء: أن تقول: لله عليّ أن أحج، لله عليّ أن أصوم لله علي أن أعتمر، فهذا نذر ابتداء، ليس مقيداً بشيء. ونذر المقابلة أو العوض أو المجازاة، أن تقول: لله عليّ إن شفا الله ولدي أن أحج، فجعلت الحج هنا مرتباً على شفاء الولد، فهذا الأخير نهى عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام. ومن العلماء من يرى أن النهي من رسول الله عليه الصلاة والسلام عام، فإن الرسول نهى عن النذر وقال: (إن النذر لا يقدم شيئاً، ولا يؤخر شيئاً، إنما يستخرج به من البخيل) أي: يخرج به منه ما لا يريد إخراجه. ومن العلماء من حمل الحديث على نذر المقابلة أو نذر العوض. ومنهم من أطلق وقال: الأفضل ألا تنذر مطلقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما نذر شيئاً، لكن إن نذرت نذر طاعة بأحد قسميه لزمك الوفاء بهذا النذر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر القرون المفضلة، ثم قال: (ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن) وأثنى الله على الذين يوفون بالنذر في هذه الآية: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ، وفي قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة:270] . فهذا نذر العوض أو المقابلة ونذر الابتداء، وكلاهما يدخل تحت الطاعة. الثاني: نذر المعصية، كأن يقول القائل: لله عليّ أن أسرق، أو لله عليّ أن أفعل كذا وكذا من المحرمات، فهذا نذر معصية لا يوفى به. النوع الثالث: الذي يتنزل منزلة اليمين، كأن تقول: لله عليّ لأفعلنَّ كذا وكذا، وتنزل هذا النذر منزلة اليمين فهذا كفارته كفارة يمين إذا لم توف به؛ لأنه خرج مخرج اليمين. النوع الرابع: النذر المباح، كأن يقول الشخص: لله علي أن أطبخ كذا، أو آكل لحماً، أو أشرب شاياً، أو أي شيء من أمور النذر المباح، طبعاً الأحكام التفصيلة واسعة، تحتاج إلى محاضرة مختصرة. الشاهد: أن أهل الإيمان إذا نذروا نذر طاعة يوفون به، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] والمستطير هنا العام، ومنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام، (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا هذا الفجر المستطير) فالفجر المستطير هو المستعرض بعرض السماء، وهو الذي يلمع، فالشر المستطير هو الشر العام، والفجر المستطير الفجر المنتشر عموما في السماء من ناحية الشروق. واستدل بهذه الآية على أن الشر يغطي الجميع يوم القيامة، ثم بعد ذلك ينجّي الله الذين اتقوا. قال الله سبحانه وتعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا} هو يوم القيامة {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] .

تفسير قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه.

تفسير قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه.) {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] . من أهل العلم من قال: (على) بمعنى مع، أي: مع حبهم للطعام فإنهم يبذلونه لوجه الله، واستدل هذا القائل بقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177] أي: مع حبه، وبقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] . وقد اختلف العلماء في الضمير في قوله: (على حبه) إلى ماذا يرجع؟ القول الأول: أنه يعود على الطعام، أي: مع حبهم للطعام. القول الثاني: أنه يعود على الله أي: على حبهم لله تعالى. والقول الأول أظهر، ولذلك كان كثير من السلف يعمدون إلى الأطعمة التي يحبونها، ويتصدقون بجزءٍ منها، وإلى الأمتعة التي يحبونها فيتصدقون بجزءٍ منها، وورد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كان يكثر من التصدق بالسكر، فقيل له: لماذا تكثر من التصدق بالسكر، قال: إني أحبه، والله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] . ولما سمع علي بن الحسين الملقب بـ زين العابدين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق عبداً، أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار) عمد إلى أفضل عبد عنده فأعتقه وقال: أنت حر لوجه الله، كذلك فعل أبو طلحة لما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فعمد إلى أفضل ماله وهي بيرحاء -حديقة أو بستان- فتصدق بها لله سبحانه وتعالى. {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ، وهنا الآية الكريمة، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} وهي عامة في المساكين، والذي يقيدها بالمسكين المسلم في باب الإطعام فعليه الدليل، ويشهد للتعميم، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل كبد رطبة أجر) والكبد الرطبة تشمل كبد الكافر وكبد والمسلم. فعليه: إذا كان في باب إطعام وليس في باب الأموال، فيجوز أن تطعم منه الكافر. أما حديث (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقيٌ) فالراجح عندي ضعفه، ثم إن هناك نصوصاً أخر أفادت أن الرسول عليه الصلاة والسلام أطعم الكفار في جملة مواطن، ثم هو إن صح فهو على التنزيه ليس على التحريم، ثم له صور معينة، كأن يكون من باب الموالاة ونحو ذلك، والله أعلم. {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] فحتى الأسير الكافر يدخل في الآية، كما روي عن ابن عباس أنه قال: ما كان هناك أسرى في عهد الرسول إلا كفار، والرسول وأصحابه هم الذين خوطبوا بالآية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] وأوردوا بعض الآثار -وإن كان في إسنادها كلام- أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإكرام أسارى بدر في ناحية الإطعام، ولا شك أن الرسول وأصحابه كانوا يطعمون ثمامة بن أثال، عندما كان مربوطاً في المسجد أسيراً ثلاثة أيام، فإطعام الأسير محمود وإن كان الأسير من الكفار. ويدخل في هذا المساجين الذين هم في حجوزات الشرطة إذا جئت تتصدق عليهم، أو في أي مكان من الأماكن، فهم بمثابة الأسرى المقيدين. {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] أي: لا نطعمكم رجاء لفائدة ولا لمصلحة تعود علينا منكم في الدنيا، وإنما الإطعام لوجه الله، كما قال تعالى في آية سورة الليل: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:18-19] لا ينتظر ثواب أحد، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:20-21] ، وكما قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] .

تفسير قوله تعالى: (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا)

تفسير قوله تعالى: (إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً) قال الله سبحانه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} [الإنسان:10] أي: إطعامنا لكم مخافة من ربنا، فنحن نريد وجه الله بالإطعام خوفاً من الله. {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيِراً} ، قال بعض العلماء: العبوس هو الضيّق الشديد، والقمطرير: هو الطويل. ومن أهل العلم من قال: العبوس الذي تعبس فيه الوجوه، حتى توشك أن تتقطع ويتساقط منها صديد من شدّة عبوسها، والقمطرير: هو الذي تظهر فيه البثور على الوجوه من شدة العبوس، وثم أقوال أخر. فأهل الإيمان يخافون شدة هذا اليوم، {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10] وتخيل نفسك وأنت متضايق وعابس الوجه، ومقطب الجبين، كيف يكون حالك؟!

تفسير قوله تعالى: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم.

تفسير قوله تعالى: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم.) {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ} [الإنسان:11] عبر بالماضي عنه وكأنه قد وقع، لأن كل ما هو آت قريب، ووعد الله لا يخلف. {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} أي: في وجوههم، {وَسُرُورًا} [الإنسان:11] أيضاً على الجباه، مقابل العبوس القمطرير. وهناك وجوه عابسة، ووجوه نضرة، ووجوه مسرورة، ووجوه عليها القمطرير، ولهذا استنبط بعض أهل العلم تفسير العبوس القمطرير من المقابل وهو النضرة والسرور، فقال: النضرة قابلت العبوس، والسرور قابل القمطرير. {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:12] : الصبر على الأوامر، والصبر أيضاً على النواهي، وعلى التكاليف، فقوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} أي: بصبرهم، ففيه فضل صبرهم، فالذي لا يصبر على طاعة الله ولا يصبر عن معاصيه يحرم هذا النعيم. {جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:12] ، فالجنة كما قال البعض: لما صبروا على الطاعات نالوا الجنان، وصبروا عن المحرمات أيضاً فنالوا الحرير، فالحرير محرم عليهم في الدنيا، فألبسهم الله إياه وتوجهم به يوم القيامة، فالحرير حرام على الرجال، فمن امتنع عنه في الدنيا لبسه في الآخرة، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} الباء سببية، أي: بسبب صبرهم: {جَنَّةً وَحَرِيرًا} .

تفسير قوله تعالى: (متكئين فيها على الأرائك.

تفسير قوله تعالى: (متكئين فيها على الأرائك.) {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} [الإنسان:13] الاتكاء: الميل بأحد الشقين {عَلَى الأَرَائِكِ} [الإنسان:13] ، وهي الأسرة في الحجال، السرير في غرفة وعليه أشبه ما يكون بالناموسية {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا} أي: ليس فيها شمس، (وَلا زَمْهَرِيرًا) أي: برداً ولا قمراً كذلك، فليس في الآخرة شمس ولا قمر، إنما الشمس والقمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (الشمس والقمر مكوران يوم القيامة) ، قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] ، وفي رواية خارج الصحيح: (الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة) . فقوله: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا} أي: ولا ما يتبعها من الحرارة (وَلا زَمْهَرِيرًا) أي: لا برداً ولا قمراً، إنما هي مضيئة من نفسها ومنيرة من بذاتها من عند الله سبحانه وتعالى. {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} [الإنسان:14] أي: قريبة الظلال منهم، {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} ذللت القطوف أي: تدنو منهم من الثمار إذا أرادوها، فتأتيهم ذليلة إلى أيديهم حتى يقطفوها، فلا يتكلفون القيام لقطف الثمار، ولا يتكلفون تسلق الأشجار لقطف الثمار، بل: {دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14] . يقول الله سبحانه وتعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:15-16] ، ما المراد بقوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} ؟ من أهل العلم من قال: يوضع الماء أو الشراب في القارورة على قدر حاجة الشارب فقط، لا يزيد ولا ينقص، يعني: قدر الشراب على قدر حاجة الشارب فلا يتبقى في الكوب شيء، ولا يحتاج بعد شربه إلى شيء. قال الله سبحانه وتعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان:17-18] الكلام أيضاً على الأبرار أنهم يشربون من كأس كان خليطها زنجبيلاً، {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} .

تفسير قوله تعالى: (ويطوف عليهم والدان مخلدون.

تفسير قوله تعالى: (ويطوف عليهم والدان مخلدون.) {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان:19] ، المخلدون: الذين لا يشيبون ولا يكبرون، بل أعمارهم ثابتة لا تزيد ولا تنقص، وأجساهم ثابتة لا يعتريها التغيّر إلى الأسوأ، وإن كان ثمّ تغير فهو إلى الأفضل والأحسن والأكمل، فهم {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ} من حسنهم، {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19] فمن كثرتهم كأنهم لؤلؤ منثور، أي: لؤلؤ منتشر كثير. {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان:20] إذا رأيت ثمّ، أي: إذا رأيت هناك وأمعنت النظر ورميت ببصرك إلى بعيد، {رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20] أي: رأيت ممالك عظيمة، فإذا نظرت ببصرك إلى هنا وهناك رأيت العظمة ورأيت الملك، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من يقال له: تمن، فيتمنى، ثم يقال له: تمن، فيتمنى، حتى إذا انقطعت به الأماني، فيذكره ربه أيضاً: تمن كذا، حتى يتمنى مثل مُلك مَلِكٍ من ملوك الدنيا الحديث، وفي آخره يقول الله له: لك مثل ذلك وعشرة أمثاله) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فهذا أدنى أهل الجنة منزلة. {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} [الإنسان:21] في الآية فضل الثياب الخضر، فالثياب منها ثياب محبوبة في ألوانها، ومنها ثياب أيضاً تكاد تذم في بعض المواطن ولبعض الأشخاص، فهناك مثلاً قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] وهنا {ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} . وأيضاً، في هذا الباب كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البياض، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (البسوها وكفنوا فيها موتاكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. أما بالنسبة للنساء فالثوب الأسود لهن أفضل؛ لأن نساء الصحابة كن يخرجن إلى صلاة الفجر، أو لما نزلت آية الحجاب خرجن وكأن على رءوسهن الغربان من السواد، لكن لو لبست المرأة ثوباً آخر ليس فيه فتنة، فلا بأس به؛ قد ثبت أن أم المؤمنين عائشة طافت بثوب مورد، أي: بثوب وردي، وليس المعنى أن الثوب فاتن، إنما الشاهد أنه ليس بأسود، ما لم يكن الثوب ثوب شهرة والله تعالى أعلم. {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} إذ هم أصحاب اليمين، أما المقربون {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] . {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:22] أي: على أعمالكم في الدنيا، {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:22] أي: شَكَرَه ورضيه لكم سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن.

تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن.) {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر:9] ، أي على فترات وعلى مراحل وليس دفعة واحدة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] أي: شيئاً فشيئاً. قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان:24] أي: لقضاء ربك، {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} فالآية نهت رسول الله عن طاعة الآثمين وطاعة الكفار، وهي كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، فالآية أيضاً نص في أن الذي يدعو إلى معصية الله لا يطاع. {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان:25] أي: صباحاً ومساءً، والمعنى: أكثر من الذكر {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} ، فكأن ذكر الرب سبحانه مقوي على ما ينالك من بلاء بسبب عدم طاعتهم. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:26-27] العاجلة: الدنيا، واليوم الثقيل: يوم القيامة. {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان:28] أي: قوينا خلقهم، {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان:28] {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} [الإنسان:29] أي: موعظة {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان:29] أي: طريقاً يقربه من الله، ولكن، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فالهادي هو الله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30-31] .

الأسئلة

الأسئلة

حكم صلاة الجماعة للمسافر المقيم

حكم صلاة الجماعة للمسافر المقيم Q هل تسقط صلاة الجماعة على المسافر المقيم؟ A لأهل العلم فيها قولان: الراجح منهما والله أعلم أنها تسقط عن المسافر المقيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره أو في منىً لم يرد أنه جمّع، وكان مقيماً في أيام منى في الحج عليه الصلاة والسلام.

إلى كم يقصر المسافر؟

إلى كم يقصر المسافر؟ Q كم مدة الإقامة للمسافر؟ A في مدة الإقامة نزاع، فمن أهل العلم من قال: إن مدة الإقامة ثلاثة أيام بلياليها وهم جمهور العلماء، وبعضهم أوصلها إلى أربعة أيام، ومنهم من فتح الباب وقال: ما دمت مسافراً وإن طالت المدة فإنك تأخذ حكم المسافر، وكأن الأخير أقرب للصواب، والله تعالى أعلم وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة.

حكم تحديد الآيات في صلاة التراويح

حكم تحديد الآيات في صلاة التراويح Q هل يعتبر تحديد كماً معيناً من القرآن في صلاة التراويح نوعاً من البدع؟ A ليس من البدع، لأن الله قال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] .

هل حديث: (لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) صحيح؟

هل حديث: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) صحيح؟ Q حديث: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) ما صحة هذا الحديث. A كل طرقه متكلم فيها، والذي يظهر أن النفس لا تطمئن إلى تحسينه، لأن كل الطرق فيها مقال، ومن نشط من العلماء وحسنه حسنه بمجموع الطرق ونفسه وجلة من تحسينه.

حكم ادخار جزء من مال الزوج دون علمه

حكم ادخار جزء من مال الزوج دون علمه Q إذا ادخرت المرأة جزءاً من بعض الأموال التي يعطيها لها زوجها -كمصروف في يدها- لتساعد بها إخوتها ووالديها في معيشتهم، دون علم زوجها خوفاً أن يعيرها بذلك، فما هو حكم ذلك؟ A إذا كان يعطيها هذه المصاريف كمصاريف شخصية خاصة بها، فلها أن تفعل ما ذكرت، وإن كان يعطيها هذه المصاريف لمصلحة وخدمة بيته، فلا يجوز لها أن تنقل شيئاً إلى بيت أهلها إلا بعد الإذن الصريح أو العرفي أو التلميح، لكن قد يجوز بالقدر الذي يتعارف عليه بين الناس، كامرأة مثلاً تذهب إلى بيت أبيها، تأخذ كالمعتاد مثلا: ً كيلو من الفاكهة أو اثنين كيلو من الحلوى، ونحو ذلك، فالمتعارف عليه بين الناس أنه ليس في ذلك شيء، والله أعلم.

حكم الصلاة في مسجد به قبر

حكم الصلاة في مسجد به قبر Q ما حكم الصلاة في المسجد الذي به ضريح، علماً أن وقت الصلاة سينتهي إذا لم يصل في هذا المسجد؟ A كأن السائل خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) و (جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهور) فصل في الشارع.

حكم قضاء صوم النافلة

حكم قضاء صوم النافلة Q كنت صائمة يوماً صيام نافلة، فجاءت الحيضة، هل أقضي هذا اليوم؟ A ليس هناك دليل يلزم بالقضاء.

حكم الحركات والصرع التي يفعلها البعض في الصلاة عند سماع القرآن

حكم الحركات والصرع التي يفعلها البعض في الصلاة عند سماع القرآن Q ما مدى صحة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: حينما سمع رجلاً شهق شهقة شديدة وهو يصلي بالناس، فقال: (من هذا الذي جاء يلبس علينا في ديننا، إن كان صادقاً شهر نفسه، وإن كان كاذباً محقه الله) ؟ A لا يثبت، لكن ذكر القرطبي رحمه الله كلاماً طيباً في هذا الباب؛ لأنه يوجد في بعض المساجد حتى مساجد أهل السنة بعض الإخوة المخرفين، يتنطط أثناء الصلاة، ويقوم ويرتفع وينخفض، ويضرب أحياناً برجليه في الأرض، وأحياناً بعضهم يكاد يصرع. فأورد القرطبي مقولات -على ما يحضرني- عند تفسير قوله تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] أورد مقولات وشجب هذه الأفعال، وحاصل الشجب ينبني على أن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم هم خير الناس وخير القرون، ولم تتفش فيهم هذه الأشياء، فلم يصرع أحد منهم عند الآية، أو يغش عليه، أو مثلاً يرتفع إلى السماء وينخفض ويضرب برجليه الأرض. أصحاب الرسول ما حصلت فيهم هذه الأشياء بأسانيد ثابتة صحيحة، فقد كانوا أورع الناس وما صدرت منهم هذه الخزعبلات، وأورد أثراً، قالوا إنه من طريق عمر بن عبد العزيز عن ابن سيرين، وقد ذكر له رجل يغشى عليه عند تلاوة القرآن، قال: دعوه على سطح منزل، واتلوا عليه كتاب الله، فإن سقط فهو صادق. ومن المستحيل أن يسقط! وأيضاً: أورد عن ابن عمر آثاراً فيها: كنا أخشع الناس -أو كلمة بمعناها- وكان القرآن يتلى علينا ونحن أصحاب رسول الله، فما نصرع. رضي الله تعالى عنه. وما شاع هذه الأيام إنما يلبس به على أهل الجهل، لأن خير الناس هو رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن بعده أصحابه، إذا تليت عليهم آيات القرآن كانوا {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109] ، أما الخرافات التي تنشأ والأشياء التي تنسج في هذا الباب، كأحدهم يقوم في أثناء الصلاة يقفز إلى أعلى وينزل إلى أسفل، ويضرب برأسه من حوله، فهذا نوع من أنواع التخاريف والخداع والغش للناس، وأسوتنا هم أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالذي وسعهم يسعنا، كانوا يبكون عند استماع القرآن، ولا يحدث لهم شيء من هذه الخرافات. أما فقدان الوعي الكامل، فمن من الصحابة فقد عقله عند تلاوة القرآن، أو هذى وخرف عند استماع القرآن، فليراجع من شاء المقولة القصيرة التي ذكرها القرطبي في تفسير سورة الزمر، والله تعالى أعلم.

حكم إزالة أو تسريح الشعر وقص الأظافر لمن كانت جنبا أو حائضا

حكم إزالة أو تسريح الشعر وقص الأظافر لمن كانت جنباً أو حائضاً Q ما حكم إزالة الشعر أو تسريح الشعر وقص الأظافر أثناء الجنابة أو الحيض بالنسبة للمرأة؟ A ليس هناك مانع مما ذكر، والذي يمنع فعليه بالدليل، أما الأقيسة التي تقول: إذا حلقت الشعر وأنت جنب، فالشعر يكون في جنابة، كل هذه وساوس، ولم تنقل عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والحكم لا يكون إلا بالدليل.

كيفية التعامل مع غير المسلمين

كيفية التعامل مع غير المسلمين Q كيف يكون التعامل مع غير المسلمين؟ A يراجع كتاب أحكام أهل الذمة لـ ابن قيم الجوزية رحمه الله.

رفع اليدين عند الدعاء

رفع اليدين عند الدعاء Q ما هي مواطن رفع اليدين في الدعاء؟ A مواطن رفع اليدين في الدعاء متعددة لا تكاد تحصى، والأصل أن رفع اليدين في الدعاء مشروع، وأنه من المتواتر تواتراً معنوياً، فقد ورد ما يزيد على خمسين نصاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام تثبت مشروعية رفع اليدين في الدعاء، وبعضها أو كم كبير منها صحيح.

حكم لبس الثوب الأخضر

حكم لبس الثوب الأخضر Q هل يجوز للرجل أن يلبس اللباس الأخضر؟ A يجوز إن لم يكن ثوب شهرة، يعني: إذا لبست ثوباً أخضر أمام الناس وأشاروا إليك، هذا من؟! هذا كذا، فحينئذ دخلت في ثياب الشهرة، فيمنع إذا كان ثوب شهرة، والله تعالى أعلم.

حكم إخراج قيمة الطعام في كفارة اليمين

حكم إخراج قيمة الطعام في كفارة اليمين Q هل يصح إخراج قيمة الطعام في كفارة اليمين؟ A القيمة في كفارة اليمين لا تجزئ عند الجمهور أما الأحناف فأجازوها. ثم الجمهور من العلماء قالوا: القيمة لا تجزئ لأن الله يقول: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] فالقيمة عندهم لا تجزئ، فلا بد من إطعام عشرة مساكين على رأي الجماهير.

حال حديث: (إذا بلغت السادسة عشرة فزوجوها)

حال حديث: (إذا بلغت السادسة عشرة فزوجوها) Q حديث: (وإذا بلغت السادسة عشرة فزوجوها) ما مدى صحته؟ A لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الخلوة بالمخطوبة هل يوجب المهر؟

الخلوة بالمخطوبة هل يوجب المهر؟ Q هل صحيح أن اختلاء الخطيب بخطيبته يوجب النكاح، وإن حصل فسخ للخطبة فعلى الرجل دفع المهر أو نصفه؟ A هذا نوع من أنواع التخريف أن كل من خلا بمخطوبته يجب عليه المهر، لعل الناقل نقل خطأ، إذ هو في المعقود عليها إذا خلا بها زوجها، فمن الفقهاء من يرى أن الخلوة وهي إرخاء الستور، وإغلاق الأبواب ملزم بدفع الصداق كاملاً، وهو قول منقول عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ مصيراً منه إلى أنه لم يكن يستطاع ضبط هل بنى بها أو لم يبن بها، لكن صريح الآيات يسعه، {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236] فالكلام المذكور في الخِطبة لا يثبت ولا يصح بحال.

حكم من به سلس ريح

حكم من به سلس ريح Q من أصيب بسلس ريح كيف يصلي؟ A باختصار إذا كنت تستطيع الوضوء لكل صلاة فتوضأ لكل صلاة، وإذا كان الريح مستمراً دائماً والشخص مصاب بسلس ريح، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فيصلي على الحالة.

حكم عدم طاعة الزوج في مسألة الإنجاب

حكم عدم طاعة الزوج في مسألة الإنجاب Q امرأة تريد أن تنجب وزوجها يمنعها من ذلك، فهل عليها شيء إذا عصت زوجها؟ A ليس عليها شيء إذا عصت الزوج في هذا، فلها أن تخالفه إذا أجبرها على استعمال اللولب، وليس من الواجب عليها طاعته في مثل هذا الأمر، إذ من حقها إنجاب الولد كما أن ذلك من حقه، وهي حرة ليست بأمة، وإن شاء هو أن يعزل عزل، والخلاف بين العلماء كائن في مسألة هل العزل عن الحرة بإذنها أو بغير إذنها؛ لكنها لا يجب عليها طاعته في مثل هذا الباب، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

تفسير سورة المرسلات

تفسير سورة المرسلات سورة المرسلات من السور المكية التي تتحدث عن يوم القيامة، وما يكون فيه من أحداث عظيمة، وعن مآل المؤمنين فيه، وما أعده الله لهم من نعيم مقيم، وعن مآل الكافرين الضالين وما أعده الله لهم في النار من عذاب عظيم.

تفسير قوله تعالى: (والمرسلات عرفا.

تفسير قوله تعالى: (والمرسلات عرفاً.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] . سورة المرسلات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار في منىً، (كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غار في منىً فنزلت عليه سورة المرسلات، فهو يتلوها رطبة ويتلاقها الصحابة من فيه، فوثبت عليهم حية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها. فابتدروها ليقتلوها فهربت منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقيت شركم كما وقيتكم شرها) ، فهذا دليل على أنها نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام بمنىً، ومنى كما هو معلوم بجوار مكة، وتعد من الحرم. يقول تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:1-4] . من أهل العلم من أجرى تأويلها على أنها كلها تنصب على شيء واحد، وما هو هذا الشيء الواحد؟ القول الأول: إنها الرياح، فحمل هذا القائل المرسلات على أنها الرياح، والعاصفات على أنها الرياح، والناشرات على أنها الرياح، والفارقات على أنها الرياح، لكن كل فقرة فيها وصف للريح غير الذي في الفقرة الأخرى. القول الثاني: إن هذه الأشياء وصف لشيء واحد لكنها الملائكة، ففسر المرسلات بأنها الملائكة، وفسر العاصفات بأنها الملائكة، وفسر الناشرات بأنها الملائكة، وفسر الفارقات بأنها أيضاً الملائكة. القول الثالث: ومن العلماء من أدخل شيئاً من التأويل الأول في التأويل الثاني، أو شيئاً من التأويل الثاني في التأويل الأول، ففسر مثلاً بعض فقرات هذه الآيات بالرياح، وفقرات أخرى منها بالملائكة أو العكس. والجمهور من أهل التفسير يفسرون هذه الأشياء المذكورة بالرياح ما عدا قوله: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات:5] ، وكذلك قوله: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:4] . قال: والشاهد على تأويل المرسلات بأنها الرياح قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف:57] ، فقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) يدل على أن المرسلات هي الرياح. {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] ، العرف هنا معناه: المتتابعة، كعرف الفرس، أي: الشعر الذي خلف رأسه تجده شعرة بعد شعرة، فقال: إن معنى عرفاً، أي: متتابعة، تأتي ريح بعدها ريح بلطف وهدوء. {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:2] رياح لكنها رياح شديدة تعصف. فقوله: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] الواو واو القسم، أقسم الله بالرياح التي تأتي هادئة ومتتابعة، موجة من الريح تتلوها موجة أخرى، كالشعر الذي في مقدمة الفرس، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالرياح المتتابعة الهادئة، ثم أتبعها بالعاصفات، وهي الرياح الشديدة، {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:2] أي: شديدة الهبوب العاتية، التي تعصف بالأشياء. {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:2] * {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} [المرسلات:3] فالرياح تنشر الأمطار، وتوزعها على الأماكن التي أمرت بإنزال المطر فيها. {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:4] قال بعض العلماء إنها الرياح، وحمل قوله تعالى: (الْفَارِقَاتِ فَرْقًا) على أنها بعد هبوبها تفرق بين المسلم وغير المسلم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم -لما كان مع أصحابه- على إثر سماء بالحديبية (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله سبحانه وتعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهذا مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا، فهذا كافر بي ومؤمن بالكوكب) . فالشاهد أن الرياح لما أسقطت الأمطار تسببت في التفريق بين الناس، فظهر منهم المؤمن وظهر منهم الكافر، هذا على هذا التأويل الأول الذي حمل كل المذكورات على أنها الرياح. أما التأويل الثاني: ألا وهو تأويل المرسلات بأنها الملائكة قالوا: إن المرسلات هي الملائكة أرسلت بالمعروف. {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:2] قالوا: الملائكة تعصف بأرواح الكفار. {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} [المرسلات:3] الملائكة تنشر العلم وتنشر الحكمة وتنشر الخير بين العباد. {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:4] الملائكة تنزل بالوحي الذي يفرق به بين أهل الحق وبين أهل الباطل، وتنزل بالوحي الذي يفرق بين الحق والباطل، هذا على تأويل من قال: إنها الملائكة. والجمهور من المفسرين على أن المرسلات الرياح، فالعاصفات الرياح، والفارقات الملائكة والناشرات الرياح. وثم تأويل آخر أن المرسلات الرسل، لكنه تأويل يكاد يكون شاذاً ومنبوذاً، ومن العلماء من يقول بالتعميم في مثل هذه المواطن، كما قال فريق منهم بالتعميم في قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات:1-2] . فقال فريق: لم يرد دليل من الكتاب ولا من السنة يحسم لنا المراد بالمرسلات فالقول بالتعميم أولى من القول بالقصر على بعض الأشياء وبعض المعاني دون بعض. والقول بالتعميم قد يكون له من الوجاهة وجه قوي، لكن المعكر عليه بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فإذا كانت لغة العرب تتحمل وجهاً من الوجوه في موطن من المواطن، فلا يعدل عن هذا الموطن إلى شيء آخر، ونسير مع لغة العرب، فإذا قالت العرب مثلاً: العاصفات هي الريح التي تعصف فقولهم أولي، وصحيح أن الملائكة تعصف بأرواح الكفار، لكن هذا المعنى غير وارد بكثرة على أفهام العرب، فإذا خوطبوا بشيء عاصف، عرفوا معنى العاصف ونسبوا العصف إلى الريح إذ هي التي تعصف، ومن خصائصها الكبرى العصف، {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء:81] . وأيضاً القول بالتخصيص ينبني على المشهور الدارج في لغة العرب، وهذا أيضاً وجه في غاية القوة. قال الله سبحانه وتعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات:5] والجماهير على أن الملقيات ذكراً هي الملائكة تلقي الذكر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتنزل بالوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والذكر هو القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . وفي الآية دليل على أن الإلقاء يطلق ويراد به أحياناً الإنزال.

تفسير قوله تعالى: (عذرا أو نذرا)

تفسير قوله تعالى: (عذراً أو نذراً) {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات:6] العذر: إعذار من الله لخلقه، والإعذار في حق الناس يتضح معناه من سورة الأعراف؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] أي: نقدم اعتذارنا إلى ربنا سبحانه بأننا قد أدينا الذي علينا، لكن في حق الله سبحانه وتعالى له شأن، وتجري الآية في ظاهرها في حق الله سبحانه وتعالى، فإذا قلنا -مثلاً- أعذر فلان فلاناً، أي: قدم له الأشياء حتى لا يعتذر إليه مرة ثانية. ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ بلغه الستين من عمره) أي إذا عشت ستين سنة وجاءك فيها الشيب، وجاءك فيها النذير، ورأيت أباك قد مات، ورأيت أخاك قد مات، وأمك ماتت أمام عينيك وتكررت عليك الابتلاءات، وتكررت عليك المحن والفتن، ورأيت عاقبة الظلم ورأيت عاقبة الظالمين، كيف تعتذر بعد ذلك؟ فهذا معنى الإعذار، فإلقاء الذكر من الله لئلا يعتذر الخلق كما في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:19] . {عُذْرًا} [المرسلات:6] أي: أن الملائكة تلقي الوحي وتلقي الذكر على الأنبياء {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات:6] إما لبيان الاعتذار حتى لا تعتذر، أو إنذاراً لك حتى لا تقع في المحذور وتخويف لك كذلك. فالذكر يكون إما عذراً أو نذراً، وهذا في الغالب. وقد يقول قائل: إن هذه الآية أفادت أن الملائكة تلقي الذكر إما إعذاراً وإما إنذاراً، إما على سبيل الإعذار وإما على سبيل الإنذار. وقد يقول قائل: فقصص القرآن هل هي من الإعذار أم من الإنذار؟ وأقرب ما يقال فيها إنها من باب الإعذار.

تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لواقع.

تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لواقع.) قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] جواب القسم الذي مطلعه (والمرسلات) فإذا قيل: على أي شيء يقسم ربنا سبحانه وتعالى؟ فالإجابة إن ربنا سبحانه وتعالى يقسم أن ماتوا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ. والمقصود بهذه الآية يوم القيامة وما فيه من البعث والحساب والثواب والعقاب، فكل ما وعدت به في كتاب الله عز وجل، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقع، ويقسم الله سبحانه وتعالى على ذلك، وقد أقسم الله على ذلك في عدة مواطن. {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] فيه تقرير البعث. ثم يبين الله سبحانه وتعالى ما يكون ويحدث في ذلك اليوم: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] طمست أي: ذهب ضوؤها ومحيت معالمها، فالطمس الحو؛ لأن النجوم في ذلك اليوم تتساقط وتتناثر كما في قوله تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:2] وقوله: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2] {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] فالنجوم التي هي بهية المنظر ومزينة للسماء الدنيا، يمحى ضوؤها ويزال أثرها. {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات:9] أي: السماء المحبوكة المشدود بعضها إلى بعض، كما قال سبحانه: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] والحبك هو شد الشيء بعضه إلى بعض، فالحبك الشد والتلاحم والتلاصق، هذه السماء المحبوكة التي لا ترى فيها خطوطاً كما قال تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] وكقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] فليس فيها فتحات وشقوق، أما في يوم القيامة فتحدث بها الشقوق والثقوب، بل ومن شدة هول هذا اليوم تنصهر السماء وتتساقط كما قال الله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] يعني: تنساب السماء وتصبح كالزيت المغلي من هول ذلك اليوم ومن شدة ذلك اليوم. وهذه الأمور تكون في ذلك اليوم مع غيرها من الأمور، وهي أهوال مستطيرة وشديدة، كما قال أهل الإيمان: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10] {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] فالشر عام لكل الخلائق فأين تفر؟ السماء تكون كعكر الزيت تتساقط من فوق، النجوم يرمى بها وتأتي على الأرض -كما نسمع في الأخبار أن الكوكب الفلاني أوشك أن يصطدم بالأرض، والشمس تكور وتلف ويرمى بها هي الأخرى، والقمر كذلك يخسف القمر ويذهب ضوؤه كما قال الله: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:7-8] ، والبحار تفجر، قال بعض أهل العلم: أي يختلط عذبها بمالحها، وقال بعض العلماء: إنها تشتعل ناراً كما قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] أي: الذي يتأجج ناراً، ومنه: سجرت التنور، أي: أحميته. فكل هذه الأهوال والشدائد تحدث في ذلك اليوم، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات:8-9] أي: فتح فيها فتحات، وبعد فتح الفتحات تنزل الملائكة كما قال الله سبحانه وتعالى في آيات أخر {وَالْمَلَكُ} [الحاقة:17] أي: الملائكة {عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:17] أي: على قطعها المتساقطة، فالملائكة كانوا يقفون فوق السماء، أما بعد تقطع وتمزق السماء فإنهم ينزلون ويقفون على قطع السماء التي سقطت. {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:10] أي: أزيلت عن أماكنها، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105-107] .

تفسير قوله تعالى: (وإذا الرسل أقتت.

تفسير قوله تعالى: (وإذا الرسل أقتت.) قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات:11] قال بعض أهل العلم: أجلت للاجتماع، وقال بعضهم: جمعت في يوم اللقاء، فيجمع المرسلون عليهم الصلاة والسلام في هذا اليوم. للعلماء في (أقتت) قولان: أحدهما: أجلت للاجتماع في يوم الجمع. والآخر: أن معنى أقتت أي: جمعت. ولماذا يُجمع المرسلون؟ يجمع المرسلون لأمور متعددة، منها الشهادة على أممهم، كما قال الله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فالرسل يجمعون للشهادة على أممهم يوم القيامة. كل رسول يأتي ويشهد على قومه، ويسأل أحياناً أسئلة لتبكيت قومه، كما الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] تخيل هذا الموقف وهذا السؤال الموجه من الله سبحانه إلى عيسى عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف الذي هذه صورته، وهذه أحواله ومقدماته، يقول الله: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] والله يعلم أن عيسى ما قال ذلك، ولكن لتبكيت ولتسفيه ولتوبيخ عابديه، {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] فحينئذٍ يظهر عيسى عليه السلام غاية البراءة فيقول: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] أي: ليس لي أن أدعي هذه الدعوى، {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116] * {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117] . وكذلك الملائكة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ} [سبأ:40-41] تنزهت {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] . قال الله سبحانه: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ} [المرسلات:11-13] الذي يُفصل فيه بين العباد، فيفصل فيه بين أهل الكفر وأهل الإسلام، ويقضى فيه بين المؤمنين أنفسهم في المظالم التي ارتكبها بعضهم في حق بعض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) فالشاة التي نطحت بقرنها شاة أخرى ليس لها قرن يقتص منها لتلك الشاة الضعيفة التي لا قرن لها. والأحاديث في هذا الباب لا تخفى، وقد قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30-31] قال الزبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الآية: (يا رسول الله أوتكرر علينا الخصومات يوم القيامة؟ قال: نعم حتى يؤدى لكل ذي حق حقه، قال: إن الأمر إذاً لشديد يا رسول الله) ، إن الأمر إذاً لعسير.

تفسير قوله تعالى: (ليوم الفصل.

تفسير قوله تعالى: (ليوم الفصل.) قال تعالى: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات:13-14] . الاستفهام للتعظيم والتهويل لما سيحدث في ذلك اليوم من أهوال، ولو أيقن شخص بهذه الأوصاف التي ذكرها الله في كتابه في شأن يوم الفصل وما يحدث فيه، ولو تخيلها وتدبرها وأمعن النظر فيها مع اليقين، والله ما طابت له لقمة العيش على الإطلاق، ولا ابتسم على الإطلاق، لو تخيلها شخص وتدبرها وأمعن النظر فيها ما طابت له حياة، ولقال كما روي عن عمر لما تلا قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] قال: يا ليتها تمت. يا ليت هذا المدة المذكورة التي لم نكن فيها شيئاً نذكر تمت ولم نخلق أصلاً. وكذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عند موتها: يا ليتني مت قبل هذا فكنت نسياً منسياً. مع أن آيات الرجاء كثيرة لكن على المسلم أن يذكر هذا اليوم وما فيه من الشدائد. قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات:14] ما الذي أخبرك وما الذي أعلمك بيوم الفصل هذا؟ وكيف تكون الأحوال فيه؟ إنه لو شب حريق في منزل مجاور فإنك تجري وتبتعد غاية الابتعاد، وما حصل في منى هذا العام عندما شب الحريق في الخيام، فاشتعلت وصار الكل يجري ويفر غاية الفرار، والناس يتجهون إلى حرم الله حتى ازدحموا وسقط بعضهم ومات فراراً من النار، لكن في عرصات يوم الدين أين المفر، النار من الأمام، إذا فررت إلى اليمين أو اليسار فالنار من اليمين ومن اليسار، وإذا فررت إلى الأسفل أو إلى الأعلى فالنار من الأسفل ومن الأعلى، كواكب تتساقط على الأرض، سماء تكون كالمهل جبال تكون كالعهن، أرض لا تختفي فيها كما سيأتي.

تفسير قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين.

تفسير قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين.) {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15] الويل فيه قولان للعلماء مشهوران: القول الأول: أن الويل بمعنى العذاب الشديد، فهو توعد بالعذاب الشديد. القول الثاني: أن الويل واد في جهنم تستغيث منه جهنم. وهناك قول ثالث وهو: أن الويل واد في جهنم ينتهي إليه صديد أهل النار. {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} [المرسلات:16] أي: الأمم المتقدمة والقرون المتقدمة كقوم نوح وعاد وثمود. {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} [المرسلات:17] من أهل العلم من قال: إن المراد بالآخرين من جاء بعد قوم نوح وعاد وثمود من الأمم التي سبقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني أهلكنا قوم نوح وعاداً وثمود، وبعد هؤلاء أهلكنا أيضاً الآخرين، كقوم لوط الذين جاء هلاكهم في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر:74] . {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات:18] فكل مجرم سينال هذه العاقبة الوخيمة، أهلكنا عاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً، أهلكنا قوم لوط، وكذلك كل مجرم يفعل به هكذا، {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] ، كما قال سبحانه في شأن قوم لوط والحجارة التي أرسلت عليهم: {وَمَا هِيَ} [هود:83] أي: هذه الحجارة {مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] أي هي قريبة يمكن أن تنزل على أي ظالم في أي لحظة.

تفسير قوله تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين)

تفسير قوله تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين) {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:20] أي: حقير ضعيف. {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات:21] وهو رحم المرأة. {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} [المرسلات:22] أي: إلى وقت معلوم يحدده الله وحده، فشاء الله سبحانه وتعالى لبعض الأجنة في بطون الأمهات أن تمكث التسعة الأشهر ثم تولد سالمة آمنة وييسر لها سبيل الخروج، وشاء الله سبحانه وتعالى لنطف أخرى أن تسقط، ولنطف أخرى أن تستقر في الرحم شهراً أو شهرين أو يوماً أو يومين، وشاء أحياناً أن تزيد مدة الحمل وأحياناً أن تنقص، فالذي قدر هذا كله هو الله سبحانه وتعالى. {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ} [المرسلات:21-22] أي: إلى وقت {مَعْلُومٍ} [المرسلات:22] أي: محدد، فالمرأة التي يحدث لها سقط سقطها مقدر وهو بإذن الله، فلم يشأ الله لهذا المني أن يمكث في الرحم إلا هذه المدة، ثم حدث السقط بإذن الله، وإذا طالت المدة فبإذن الله، وإذا قصرت المدة فبإذن الله، وإن جاء المولود ذكراً فبإذن الله، وإن جاء أنثى فبإذن الله. {فَقَدَرْنَا} [المرسلات:23] أي: فحددنا هذا الوقت. {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23] نعم من حدد هذا الوقت، إذاً كل تقدير هو من الله وهو سبحانه وتعالى وهو نعم القادر، {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23] .

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا)

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا) {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:24-25] والكفات مأخوذة من كفت الثوب، وقد نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن كفت الثوب والشعر في الصلاة، والكفت أو الكف ثني الثوب بطناً لظهر أو ظهراً لبطن. فقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] أي: ضامة وآوية لكم في حياتكم وبعد مماتكم فإذا متم دفنتم في الأرض، وإذا حييتم عشتم على ظهرها، فهي كافية لكم، وآوية لكم، وضامة لكم، وحاضنة لكم في حياتكم وبعد مماتكم، فمعنى الكفت الضم، فنحن بعد الموت ندفن في الأرض وفي حياتنا نمشي عليها. {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:26] ، لكن يوم القيامة ليس الأمر كذلك، فالأرض كما قال تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق:3] فبعد أن كانت ضامة لك فإنها تفرد وترميك على ظهرها، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:4] تخلت عن المسئولية أمام الله سبحانه، وتبعثر كل ما في باطنها ولا تقبل شيئاً في باطنها، ففي زمن الحياة الدنيا كانت كفاتاً، وأما في يوم القيامة فلن تكون كذلك، فلا تؤوي أحداً، فإذا أراد أحد أن يفتح فيها فتحة ويدخل فيها لم تقبله. {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً} [المرسلات:25-26] في حياتكم {وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:26] أي: بعد مماتكم. {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات:27] أي: جبال شاهقات. {وَأَسْقَيْنَاكُمْ} [المرسلات:27] أي: منها {مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات:27] أي: عذباً زلالا. {وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:28] أي: لمن يكذبون بهذه النعم وهذه الحقائق.

تفسير قوله تعالى: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون)

تفسير قوله تعالى: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) {انطَلِقُوا} [المرسلات:29] أيها المكذبون {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29] ما هو الذي كانوا به يكذبون؟ كانوا يكذبون بالعذاب، فيقال لهم: اذهبوا إلى الشيء الذي كنتم به تكذبون {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29] . {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] دخان يتصاعد وهو عنيف شديد له ثلاث شعب أي: له ثلاثة اتجاهات. {لا ظَلِيلٍ} [المرسلات:31] ظاهره أنه ظل، فيتوهمون أنه سيظلهم لكنه لا يظلهم بل يزيد عذابهم، وهذا في معناه أيضاً السراب، {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] . {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] أيضاً مشابه لها حديث السراب الذي فيه: (الله سبحانه وتعالى يقول للنصارى: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله. فيقال: كذبتم فلم يتخذ الله صاحبة ولا ولداً فماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا. فيقال: انطلقوا إلى هذا. فينطلقون إلى السراب ويؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيتساقطون فيها) . {إِنَّهَا} [المرسلات:32] أي: جهنم {تَرْمِي} [المرسلات:32] أي: تقذف {بِشَرَرٍ} [المرسلات:32] شرر النار كالقصر، فالشرر الذي يخرج من جهنم كالعمارة الضخمة والقصر الكبير الضخم، الشرارة الصغيرة التي تراها من النيران، حجمها من نار جهنم يوم القيامة كالقصر من قصور الدنيا التي نعرفها، فهذا شرر جهنم فكيف بلهبها -عياذاً بالله-. {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ} [المرسلات:33] وجِمَالَة وجمال جمع جمل، كرجالات ورجال جمع رجل، وقال بعض العلماء، {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33] أي: قطع من النحاس ونحو ذلك، لكن الجمهور قالوا: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33] كأن هذا الشرر في كبره وفي اتساعه كالقصر العظيم، ولونه كالجمل الأصفر أيضاً.

تفسير قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون.

تفسير قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون.) {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} [المرسلات:34-35] إن قال قائل: كيف لا ينطقون؟ وقد جاء في آيات أخرى أنهم يتكلمون كقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] وقوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111] وقوله: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10] إلى غير ذلك؟ فالإجابة كما تقدم مراراً أن يوم القيامة مواقف، فأحياناً يسكتون كما في هذه الآية، وأحياناً يتكلمون كما في غيرها. {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} [المرسلات:35-38] فالواو هنا كما قال البعض بمعنى مع، فالمعنى هذا يوم الفصل جمعناكم مع الأولين، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:40] .

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون)

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون) {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] قال بعض العلماء: إن القرآن أطلق عليه مثاني لأنه لا يذكر أهل الجنة إلا وثنى بذكر أهل النار والعكس، ومنهم من قال: مثاني؛ لأنه يثنى أي يكرر المعنى الواحد بأساليب متنوعة، مثلاً الحديث عن البعث يرد ذكره في سورة البقرة وفي سورة آل عمران وفي سورة النساء وفي سورة الحج بأساليب متنوعة. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] والظلال متنوعة في يوم القيامة، فمن ذلك الظلال الذي في حديث (السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب ... ) ولكن هل هذا الظل هو ظل عرش الرحمن أم غيره، وقد ورد في رواية (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه ... ) لكنها ضعيفة. ومن هذه الظلال ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها) قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] وقد جاء أيضاً (أن من أنظر معسراً أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وغير ذلك. {وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] والعيون: جمع عين وهي التي تتفجر من الأرض، والعيون تتنقل معهم حيث شاءوا كما ورد في تفسير قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] أي: يفجرونها في أي مكان حلوا وفي أي موطن ارتحلوا إليه. {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ} [المرسلات:42-44] وأهل الإحسان هم أعلى مرتبة على الإجمال من أهل الإيمان، ولكن أحياناً يدخل عموم المؤمنين مع المحسنين، لكن التقعيد أن الإحسان أعلى مرتبة من الإيمان كما في حديث جبريل: أخبرني عن الإيمان ثم قال: أخبرني عن الإحسان. وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] دليل على أن الإحسان أعلى وأرفع من مرتبة العدل، والعدل القصاص، والإحسان: العفو، فالله يأمر بالعدل ويأمر أيضاً بالإحسان، لكن الأمر بالعدل وجوباً والأمر بالإحسان أمر ندب واستحباب، والله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] أي: الذين عفوا عن الناس ولم يثأروا لأنفسهم ممن ظلمهم.

تفسير قوله تعالى: (كلوا وتمتعوا.

تفسير قوله تعالى: (كلوا وتمتعوا.) {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات:45-46] أي: في حياتكم الدنيا فهي بالنسبة للآخرة مدتها قليلة بل كما جاء في الأثر: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع له) وقال تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8] . {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات:46] أي: في هذه الحياة الدنيا {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:46-47] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] العلماء لهم قولان في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} [المرسلات:48] . القول الأول: إن معناها إذا قيل لهم صلوا لا يصلون أصلاً، فهم تاركون للصلاة، وعلى هذا فترك الصلاة جريمة لقوله قبلها: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] فهذا نص يثبت أن تارك الصلاة مجرم من المجرمين، وإن كان له وظيفة عالية، وإن كان أستاذاً في جامعة، وإن كان وزيراً وإن كان ملكاً وإن كان رئيساً، فهو في نظر الشرع مجرم. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:38-42] فصدروها بقولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] فتارك الصلاة مجرم بنص كتاب الله في موطنين: الموطن الأول: في سورة المدثر. والموطن الثاني: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] وهو وإن كان حسن الأخلاق مع الناس، لكنه في نظر الشرع مجرم من المجرمين. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] القول الأول في تفسيرها: إذا قيل لهم صلوا لا يصلون. القول الثاني: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] أي: إذا قيل اخضعوا واسمعوا وأطيعوا الله، فإنهم لا يخضعون ولا يسمعون ولا يطيعون لله. والتفسير الأول أقرب إلى الظاهر، وكان البعض يأبى أن يركع ويأبى أن يسجد، وقد تقدم أن علياً رضي الله عنه كان يضحك كثيراً من أبيه، ومن بعض تصرفاته عندما كان يقول له: يا أبي أسلم واسجد لله، يقول: يا بني لا تعلوني استي أبداً، فيضحك علي من هذا الجهل وهذا الغباء الذي يصدر من أبيه، بل من هذا الكبر الغريب. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} [المرسلات:48-50] أي: بعد هذا القرآن {يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] . فقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] ينبغي أن يلتفت إليه وألا يصار إلى التذكير إلا بكتاب الله وسنة رسول الله، وإن ذكرنا بغير الكتاب والسنة من القصص والحكايات التي تؤثر تأثيرات وقتية، فليكن على سبيل الشيء العارض ولا تأخذ أكبر من حجمها مثل أصل التذكير بكتاب الله وبسنة رسول الله، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] . فلا بد من تغليب التذكير بكتاب الله والتذكير بسنة رسول الله على التذكير بالخزعبلات التي سرعان ما تزول من ذهنك، ولا يبقى معك في وقت الشدائد آية من كتاب الله وتفسيرها، أو حديث لرسول الله ومعناه، ففي وقت الشدائد هل أحتج بقصة حصلت؟ لا. بل أتعلق في وقت الشدائد بقال الله قال رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقد سمعتم من قبل القصة التي تعد مسلية في مجال التذكير بالدليل، والقصة التي حدثت للقرطبي والقرافي تقدمت على ما سمعتم مراراً، فـ القرطبي رحمه الله كان في عصره من علماء النقل -الكتاب والسنة- والقراسي كان في عصره من علماء العقل -الرأي- يعني هذا يبني على النقل وهذا يبني على العقل، فاجتمعا معاً وذهبا إلى مدينة في مصر وهي مدينة الفيوم واستأجرا بيتاً من رجل، وكان بين صاحب البيت وبين أطفال ذلك الشارع خلاف، فكلما لعبوا أمام البيت يطردهم، فسمعوا أن البيت أُجر فقالوا: لنفسدن على الرجل الإجارة. وذهب الأطفال إلى القرطبي والقرافي فقالوا لهما: إنكما استأجرتما البيت وهو مسكون -فيه جن وعفاريت- فلم يلتفت القرطبي والقرافي إلى هذه المقالة وقالا: نعتصم بالأذكار. وذهبا إلى صلاة العشاء ورجعا وتهيآ للنوم وأطفآ السراج عملاً بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم) فإذا بصوت في البيت، فتذكر الشيخان مقالة الأطفال أن هناك جناً في البيت، فخاف القرافي خوفاً شديداً، أما القرطبي فماذا معه، معه أحاديث من رسول الله عليه الصلاة والسلام تنفع عند الشدائد والكرب، فبدأ يعتصم بالله ثم بالأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكثر من الذكر (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ، (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ، (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم) (حسبنا الله ونعم الوكيل) والقرافي لأنه يعتمد في علمه على العقل ولا يحفظ كثيراً من كتاب الله ولا من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ماذا يصنع العقل؟ حينئذٍ يفشل، فازداد الصوت ارتفاعاً فازداد القرطبي ذكراً وازداد القرافي خوفاً وهلعاً. ظهر رأس كبش عند باب الغرفة فسقط القرافي على الأرض من شدة الخوف، ووثب عليه القرطبي ركبه وأمسك بقرونه قائلاً: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59] فدخل صاحب البيت وقال: يا أيها الشيخ! كبش أكرمتكما به تفعل بها هكذا. شاهِدُنا من القصة أنه عند الشدائد تزول الحكايات ويبقى الاعتصام بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] . وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله.

الأسئلة

الأسئلة

جهر المتنفل إذا صلى إماما لمأموم في جهرية

جهر المتنفل إذا صلى إماماً لمأموم في جهرية Q ما الدليل على جواز جهر المتنفل بالقراءة إن أتى خلفه من يريد أن يصلي الفريضة، وذلك في صلاة المغرب والفجر أو العشاء؟ A بالنسبة لصلاة الفجر والمغرب والعشاء فالأصل فيها أنها جهرية، الفجر جهرية والمغرب جهرية في الركعتين الأوليين وكذلك العشاء، فيكون على الأصل أنه يجهر في الجهرية، ويسر في السرية فإن انتقل من الأصل الذي هو الجهر إلى الإسرار لعارض كأن يكون منفرداً، فإنه يرجع إلى الأصل إن صلى بجماعة إماماً.

حكم صلاة المفترض خلف المتنفل

حكم صلاة المفترض خلف المتنفل Q هل تجوز صلاة المفترض وراء المتنفل؟ A نعم تجوز لحديث معاذ في الصحيحين (أنه كان يصلي مع رسول الله الفريضة ثم يذهب إلى قومه يصلي معهم العشاء) ، فتكون لهم فريضة وله نافلة.

كيفية النصيحة لوالد لا يصلي

كيفية النصيحة لوالد لا يصلي Q والدي مرض بمرض مزمن ويستطيع التحرك والأكل والكلام وأمور الحياة بصفة عامة، ولكن كلما طلبت منه أن يصلي يرد قائلاً: الله أعلم بي وهو غفور رحيم، ولا يصلي، فماذا أفعل، مع العلم بأنه حافظ للقرآن؟ A الصلاة لا تسقط عنه بحال من الأحوال ما دام عقله صحيحاً، فيصلي إن استطاع قائماً وإلا فقاعداً وإلا فمضطجعاً، فالصلاة لا تسقط عنه ما دام في عقله. والله تعالى أعلم. فأكثر من التذكير وأكثر من الدعاء لوالدك لعل الله أن يتقبل منك.

معنى قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)

معنى قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) Q ما معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ؟ A معناها: أن العلماء هم الذين يخشون الله.

ما الذي خلق أولا الأرض أم السماء

ما الذي خلق أولاً الأرض أم السماء Q أيهما خلق أولاً الأرض أم السماء؟ A هذا مبحث واسع، من أراد التفصيل فيه فليراجع كلام الحافظ ابن كثير في تفسير سورة البقرة.

حكم الصور الفوتوغرافية

حكم الصور الفوتوغرافية Q ما هو حكم الصور الفوتوغرافية لغير الضرورة وللاحتفاظ بها فقط، مع الدليل من الكتاب والسنة؟ A الصور الفوتوغرافية لغير الضرورة لا تجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدع صورة إلا طمستها) فلغير الضرورة لا تجوز، ولو كانت جائزة لصور لنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم صوراً وأتي بها إلينا، أما ما يفعله النصارى من الإتيان بصورة مريم، فهو كذب وافتراء وزور فلم تكن مريم عليها السلام متبرجة هذا التبرج المزري، يأتون بصورة مريم ويزعمون أنها التي سار شعرها بين ثدييها، كل هذا افتراء على مريم الصديقة، فهي صديقة وهي عفيفة محصنة عليها السلام، فهي صورة باطلة مكذوبة مفتراة على مريم عليها السلام.

حكم قراءة ومس القرآن من الحائض

حكم قراءة ومس القرآن من الحائض Q هل يحل للمرأة الحائض قراءة القرآن ومسه؟ A الحديث الوارد في منع الحائض من قراءة القرآن حديث ضعيف، فحديث: (إني لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض) حديث ضعيف من رواية جسرة بنت دجاجة وهي مجهولة، أيضاً في الباب حديث علي رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأنا القرآن لا يحجبه شيء إلا الجنابة) وهو حديث أيضاً ضعيف، إذاً ما هو المانع من أن تقرأ الحائض القرآن، لم يسلم مانع -إلى الآن- من الكلام فيه، فكيف إذا عارض ما صح من قول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) . وتقدم أن غير المتوضأ يقرأ القرآن أيضاً من حديث ابن عباس في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل يصلي فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ) ففي الحديث أنه قرأ عشر آيات قبل أن يتوضأ صلى الله عليه وسلم، فلا يسلم دليل لمنع الحائض من قراءة القرآن. لكن قد ورد حديث: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) ويجمع بينه وبين حديث عائشة: (كان رسول الله يذكر الله على كل أحيانه) وبين حديث ابن عباس: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ عشر آيات قبل أن يتوضأ) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] (وعند الجماع يقول: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ويجامع أهله) فهل يكره للحائض أن تقرأ القرآن قياساً للحائض على الجنب، فالجنب كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) يكره له قراءة القرآن، أقول: إن قياس الحائض على الجنب قياس لا يصح؛ لأن كراهية ذكر الله لغير الطاهر -المحدث حدثاً أصغر أو أكبر- نحمله على المبادرة إلى الاغتسال، وهذا مطلب ومقصد شرعي، لكن ماذا عسانا أن نجني من منع الحائض من القراءة؟ بل لم يقدم منعنا لها موعد الطهر، ولم يؤخر موعد الطهر إذاً نبقى على الأصل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] والقرآن ذكر. بقيت مسألة المس: والمعول عليه في المسألة كتاب ربنا وما صح من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن المسألة لم ينعقد عليها إجماع، فمادام لم ينعقد على المسألة إجماع، إذاً أتخير القول الذي وافق الدليل الصحيح، فنقول: ما هو المانع من مس المصحف للمرأة الحائض؟ يستدل المستدل بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] فالإجابة على هذا أن عليك أيها القارئ أن تقرأ الآيات السابقة واللاحقة حتى تفهم المراد وتعرف إلى من يعود الضمير في قوله: (لا يَمَسُّهُ) : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77-78] الكتاب المكنون المحفوظ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] وجمهور المفسرين على أن المقصود بالمطهرين في الآية الملائكة، وأن المقصود بالكتاب المكنون أي: المحفوظ عند الله سبحانه وتعالى. وأما حديث (لا يمس القرآن إلا طاهر) فكل طرقة تالفه ضعيفة لا يستدل به، من تتبعي أستطيع الآن أن أقول إن جمهور أهل الحديث على تضعيفه. ثم إن من العلماء من حسنه وحمله في حالة تحسينه على أن المراد بالطاهر المؤمن لحديث: (إن المؤمن لا ينجس) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار. إذاً ما هو المانع للحائض من مس وقراءة المصحف. ومن المعلوم أن الفقهاء لا يدققون في مسألة ثبوت الحديث وصحته، بل يبنون الحكم بدون التدقيق على هذه الجزئية، وقد يأتي الحكم بسبب ذلك مخالفاً للحق. مثلاً قد يبنى على جزئية ما الحكم بشيء، وهي جزئية صغيرة تكون في الحديث، لكن ينبني عليها حكم بإثبات أو نفي، بل حتى أهل الحديث قليل منهم الذي يركز على هذه الجزئيات الصغيرة، وكمثال في حديث جلسة الاستراحة الذي هو من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، في وصفه لصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد جاء من طريق عبد الله بن نمير في البخاري يقول: (إذا قمت إلى الصلاة فقم حتى تطمئن قائماً ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم اعتدل حتى تطمئن قائماً ثم اسجد حتى) . الشاهد: أن الحديث فيه بعد القيام من الركوع: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم قم حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) بعد السجدة الأخيرة جاء الخلاف بين الرواة فراوٍ قال: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً ثم قم) هذه الزيادة مروية من طريق عبد الله بن نمير عن عبيد الله، وفي رواية أبي أسامة حماد بن أسامة لم يذكر زيادة الجلوس الأخيرة (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) بل قال: (ثم قم) . البخاري أخرج الحديث من طريق عبد الله بن نمير في موطن وفي موطن آخر أخرجه وبعد أن أخرجه نبه على كلام أبي أسامة وقال: لم يذكر حماد بن أسامة (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) ، فالحافظ ابن حجر يقول: إن البخاري يومئ إلى تضعيف هذه الزيادة الأخيرة (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) التي هي من رواية عبد الله بن نمير، ومن المعلوم أن شيخ ابن نمير وأبي أسامة واحد وهو عبيد الله فالحديث من طريق واحد وجاء يحيى بن سعيد القطان ورواه أيضاً عن عبيد الله ليس فيه هذه الجلسة، وجاء أيضاً -على ما يحضرني- أنس بن عياض أبو ضمرة وغيره ورووا الحديث ولم يذكروا هذه الجلسة. فالفقيه لا يدقق في هذه الزيادات، بل قليل من أهل الحديث من يدقق فيها. فالدقائق الصغيرة مثل هذه التي ينبني عليها حكم تحتاج إلى بحث دقيق جداً، لأنها سيرتب على صحتها أو عدم صحتها الحكم الشرعي بالنسبة لجلسة الاستراحة، وإن كان هناك أدلة أخر في الباب، لكن أصل الاستدلال على جلسة الاستراحة هو حديث أبي حميد الساعدي. مداخلة: بالنسبة لمس وقراءة القرآن للحائض هل ورد عن نساء النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء؟ الشيخ: بالنسبة للفعل قد يكون ورد عن بعض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام أو عن بعض أمهات المؤمنين أنهن قرأن بلا حرج. الخلاصة أنه لم يحدث في المسألة كما أسلفنا إجماع، ولم يرد شيء يمنع المرأة الحائض من مس وقراءة القرآن من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالمسألة اجتهادية، واجتهادنا الذي نراه حقاً أنه لا بأس للمرأة الحائض أن تقرأ القرآن أو تمس المصحف، والجنب فقط هو الذي يكره له قراءة القرآن، لحديث: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) .

القول الفصل في جلسة الاستراحة

القول الفصل في جلسة الاستراحة Q ما هو القول الفصل في جلسة الاستراحة؟ A عمدة القائلين بمشروعية جلسة الاستراحة أربعة أدلة: الدليل الأول: وهو أقواها ما أخرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه في وصفه لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وكان يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان يجلس قبل أن ينهض للثانية والرابعة) . الدليل الثاني: حديث أبي حميد الساعدي على الخلاف في إثبات زيادة جلسة الاستراحة فيه. الدليل الثالث: حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته، والخلاف فيه بنفس الطريقة التي سمعتها في حديث أبي حميد الساعدي، فقد روى عنه عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء فذكر الحديث وأثبت فيه هذه الجلسة، عند الترمذي، وغير عبد الحميد بن جعفر روى الحديث عن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة ليس فيه ذكر الجلسة، فالخلاف هنا كالخلاف في قصة أبي حميد الساعدي. الدليل الرابع الذي استدلوا به: من قال بصحة حديث صلاة التسابيح استأنس منه أنه ذكرت فيه هذه الجلسة. هذه هي حجج القائلين بالجواز. أما حجج القائلين بعدم المشروعية أو بأنها لا تفعل إلا عند الحاجة: أولاً القائلين بالاستحباب الشافعية كما نقله عنهم النووي وغيره. أما الثلاثة الآخرون أحمد وأبو حنيفة ومالك رحمهم الله فيقولون: تفعل عند الحاجة، وأجابوا عن حديث مالك بن الحويرث بأن مالك بن الحويرث أسلم متأخراً، وأتى الرسول عليه الصلاة والسلام متأخراً، فكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد ناهز الستين أو تجاوزها عليه الصلاة والسلام. ووردت رواية أن الرسول علل هذه الجلسة بقوله: (إني قد بدنت) أي: سمنت، فإن ثبتت هذه الرواية أو لم تثبت قالوا: إن مجيء مالك بن الحويرث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كان في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، فكان يفعلها الرسول للحاجة، بدليل أن الروايات الثابتة الصحيحة -باستثناء ما ذكرنا- هي الغالبة في وصف صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم تثبت جلسة الاستراحة. ففرق بين وصف شخص لازم الرسول عليه الصلاة والسلام طيلة الدعوة، ووصف شخص متأخر مكث عند الرسول عشرين يوماً، (قال مالك: أتينا رسول الله ونحن شببة متقاربون) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) استدل به الشافعية فقالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا الصلاة ولم يستثن جلسة الاستراحة فقال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وما دام أنه جلس فنجلس. والآخرون قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) خبر مجمل أي: صلوا في عموم الذي رأيتموني أصلي به، لكن ليس على التفصيل، وقالوا: إن مالك بن الحويرث أسلم متأخراً والرسول فعلها عند كبر سنه، لأن الروايات الأخر ليس فيها إثبات جلسة الاستراحة، قالوا: ومما يدل على عدم مشروعيتها أنه ليس فيها ذكر، فنحن في الركوع نقول: سبحان ربي العظيم، وفي السجود نقول: سبحان ربي الأعلى، وبين السجدتين ربي اغفر لي ربي اغفر لي، والجلسة الأخيرة نقرأ التشهد، وليس في جلسة الاستراحة ذكر. والمسألة الأمر فيها على السعة، فإن أحب أحدنا أن يجلس للاستراحة جلس، وإن رأى عدم الجلوس فلا يجلس. لكن إذا كان الإمام يجلس جلسة الاستراحة، فهل يبقى الأمر على السعة أقول: هنا الخلاف شر، بل افعل ما يفعله إمامك، إلا إذا احتجت أنت إليها لدلالتك ونحو ذلك، فالمسألة فيها الرأيان للعلماء. وهكذا صار السلف فيها على القولين. فـ ابن حزم رحمه الله انتصر لإثباتها انتصاراً شديداً، استدلالاً بحديث مالك بن الحويرث رحمه الله تعالى ورضي الله عنه.

تفسير جزء عم

تفسير سورة النبأ ذكر الله تعالى في هذه السورة العظيمة أدلة البعث الأربعة، ثم ذكر حال الكافرين في جهنم، وذكر حال المؤمنين في الجنة، ورغب في الإنابة إلى الله تعالى، وختمها بالإخبار أن كل امرئ سيرى ما قدمت يداه في هذه الدنيا، وعند ذلك يتحسر الكافر على ما فرط أشد التحسر حتى إنه يتمنى أنه كان تراباً، فما أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من المعاني الجليلة، والأصول الكبيرة، والمواعظ البليغة.

تفسير قوله تعالى: (عم يتساءلون، عن النبأ العظيم)

تفسير قوله تعالى: (عم يتساءلون، عن النبأ العظيم) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فبمشيئة الله تعالى نبدأ من ليلتنا هذه بتناول جزء عم بالتأويل والتفسير، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. نبدأ بتفسير سورة النبأ وهي سورة عمَّ، فمن أطلق عليها سورة النبأ فلذكر النبأ فيها، ومن أطلق عليها عمَّ فلابتدائها بكلمة (عمَّ) . قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] ، (عمَّ) أصلها: عن ما، أي: عن ماذا، فهي مركبة من كلمتين: عن وما، فأدمجت النون في الميم وقيل: عمَّ، كقولهم: مما، فهي كلمتان: من ما، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} أي: عن أي شيء يتساءلون؟ و {يَتَسَاءَلُونَ} معناها: يسأل بعضهم بعضاً، ومن هم الذين يتساءلون؟ كثيرٌ من أهل العلم يقولون: إن الذين يتساءلون هم المشركون، فالمشركون هم الذين يتساءلون. ويتساءلون عن ماذا؟ أجيب على هذا السؤال في الآية التي تليها، إن سألت -يا محمد- عن أي شيء يتساءلون، فاعلم أنهم يتساءلون {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] ، فهذا تأويل هذه الآية. وقد قيل: إن المراد بالنبأ العظيم هو البعث بعد الموت، وهذا رأي جمهور المفسرين. وقال فريق آخر من أهل العلم: إن النبأ العظيم هو القرآن، واستدل لهذا القول الثاني بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص:67-68] ، ومن العلماء من قال: إن النبأ العظيم هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وإرساله إليهم. فهذه ثلاثة أقوال مشهورة في تفسير النبأ العظيم، وكل قول منها قال به بعض العلماء، والذي عليه الجمهور: أن النبأ العظيم هو: البعث بعد الموت، والمراد بالنبأ الخبر، فعلى هذا يكون تأويل الآيات، عن ماذا يسأل بعضهم بعضاً؟ إن سألت عن ذلك -يا محمد- فاعلم أنهم يتساءلون {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:2-3] . إن قال قائل: ذكرتم أن الذين يتساءلون -كما هو رأي أكثر العلماء- هم المشركون، فهل المشركون مختلفون في النبأ العظيم لأن الله تعالى قال: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ؟ فهل المشركون يختلفون في البعث؟ والمعهود أن المشركين ينكرون البعث! فلماذا اختلفوا؟ وما هو وجه اختلافهم هنا؟ فالإجابة: أن المشركين لم يكونوا جميعاً مطبقين على أن البعث غير آت، بل كان منهم من يقر بالبعث، ومنهم من كان يتشكك في أمره، ومنهم من كان ينفيه بالكلية، فطوائف النصارى يقرون بالبعث، لكن البعث عندهم له صفات أخر، وأحداث أخر غير البعث الذي يعتقده أهل الإسلام، وكذلك طوائف من اليهود، فإنهم يقولون: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] ، وهذا يفيد أنهم يقرون بالبعث، لكن له صفة معينة عندهم. أما الذين يتشككون في أمر البعث، فكما حكى الله مقالتهم في قوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50] ، وقال حاكياً عن بعضهم: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36] ، أي: على فرض أن هناك بعثاً، فهذا الكافر يقول: لئن رددت إلى ربي فإنه قد أكرمني في الدنيا، فسيكرمني بكرامة أكبر منها في الآخرة. وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] ، فكانت هناك طوائف تثبت البعث، لكن على صفات أخر، وطوائف تتشكك في أمر البعث، وطوائف تنفي البعث مطلقاً، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2-3] ، فكانت طائفة منهم تنكر البعث، فهذه أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تفسير النبأ العظيم بأنه البعث بعد الموت. أما على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فأوجه خلافهم فيه على النحو التالي: منهم من يقول: إنه {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، أي: هو قصص من قصص اليهود كتبها أو اكتتبها وكتبها له شخص آخر، (تملى عليه بكرة وأصيلاً) كما هو مسطر في كتب اليهود، فاليهود يقولون: إن هذا القرآن من تعليم عبد الله بن سلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عمى بصائرهم أن ابن سلام لم يسلم إلا في المدينة، وكثير جداً من آيات الكتاب العزيز نزلت على رسول الله بمكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إلى رجل من الموالي بمكة، فطعن الكافرون في القرآن وقالوا: إن هذا الرجل هو الذي يلقن الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} [النحل:103] أي: الرجل الذي يميلون إلى أنه علم الرسول، {أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] . فهذا وجه من أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فطائفة منهم تقول: هو {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، ومنهم من قال: إنه قول ساحر، ومنهم من قال: إنه قول كاهن، إلى غير ذلك من الأقوال.

أدلة البعث في القرآن

أدلة البعث في القرآن والذي يرجح أن النبأ العظيم هو البعث بعد الموت أن أدلة البعث الأربعة ذكرت في هذه السورة؛ لأن أدلة البعث التي يستدل بها الله في كتابه على البعث تدور على أربعة أشياء، وتتكرر في سور القرآن بأساليب متنوعة، ويصرفها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بسياقات متعددة، وبراهين البعث الأربعة وأدلة البعث الأربعة تدور على الآتي: الدليل الأول من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، فيستدل بخلق السماوات والأرض على البعث، ووجه هذا الاستدلال: أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] ، فالذي خلق الأكبر قادر على خلق الأصغر، إذا كان الله خلق السماوات والأرض فهو قادر على أن يخلق من هو أدنى وأقل من السماوات والأرض، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] . وهذا الدليل يتصرف بعدة أساليب، والمعنى ثابت، فيأتي هذا المعنى في سياقات متنوعة ومتعددة، في خلال قصص، وفي خلال آيات التذكير، وكله ينصب على هذا المعنى: السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالذي خلقها قادر على أن يخلق الناس، والأدلة على هذا في كتاب الله متعددة: كقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] ، إلى قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] ، وكذلك في مطلع سورة (ق) قال الله حاكياً عن المشركين: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] ، يقول تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:4-7] ، فلما أنكروا البعث -كما في سورة ق- استدل على البعث بخلق السماوات والأرض قال تعالى حاكياً مقالتهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] ، فيقول تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق:4-7] الآيات. ونحو هذا في سورة الغاشية: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:18-20] ، فكلها آيات تدور على هذا الشيء، فهذا أول استدلال على البعث ألا وهو الاستدلال بخلق السماوات وخلق الأرض. والدليل الثاني على البعث: يكون بالاستدلال على إحياء بعض الأنفس بعد موتها، كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيما حكى الله عنه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260] ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] ، وقال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] ، وقال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259] . وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، وفي سورة عمَّ شيء مشابه لهذا، ألا وهو: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] ، فالنوم موت كما قال الله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) فهذا وجه الدليل الثاني على البعث. الدليل الثالث على البعث هو: إحياء الأرض بعد موتها، ويذكره الله في كتابه بعدة أساليب، كقوله: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5-6] ، فالذي أحيا الأرض بعد موتها سيحيي الموتى أيضاً، فهذا الاستدلال الثالث على البعث وهو: إحياء الأرض بعد موتها. الدليل الرابع على البعث: الخلق الأول، وهو الاستدلال على البعث بأن الذي خلقك أول مرة قادر على أن يعيد خلقك، فالذي صنع شيئاً أول مرة قادر على إعادة صنع هذا الشيء مرة أخرى، كما قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] ، أي: أفأتعبنا وأرهقنا الخلق الأول حتى يتشككوا في البعث؟! فهذه أربعة أدلة على البعث ومضامينها مذكورة في سورة عمَّ، وهذا هو الذي رجح أن المراد بالنبأ العظيم البعث بعد الموت، وسيأتي الكلام عليها واحداً واحداً إن شاء الله.

تفسير قوله تعالى: (كلا سيعلمون.

تفسير قوله تعالى: (كلا سيعلمون.) {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4] ، (كلا) كلمة: ردع وزجر ونفي لمعنىً متقدم، فمثلاً: قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا} [عبس:1-11] ، فكلا هنا معناها: وليس الأمر كما تصرفت يا محمد! ليس التصرف الصحيح هو الذي تصرفته في هذا المقام. فكلا نفي للتصرف الذي تقدم، وللظن الذي تقدم، فكلا أحياناً تتضمن معنى الردع والزجر، فهنا قال تعالى: (كَلَّا) ، أي: ليس الأمر كما ظننتم أنه ليس هناك بعث، وليس الأمر كما توهمتم أن محمداً ساحر، وليس الأمر كما توهمتم أنها: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، فهذا الظن ظن خاطئ، {سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4] أن ظنهم خاطئ، وأن قولهم في غير محله. {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:5] ، لماذا كررت {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} ؟ قال فريق من أهل العلم: إنها كررت للتأكيد، أي: إن الأمر ليس كما تظنون، ثم إن الأمر ليس كما تظنون، بل هذا القرآن من عند الله منزل، والبعث آت لا شك فيه. ومن أهل العلم من قال: إن كلا الأولى التي هي {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} خاصة بالكفار، وقوله: {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} خاصة بأهل الإيمان، وليس هناك دليل يدل على هذا القول. ومن أهل العلم من قال: هذه الآيات {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} تعم المؤمنين والكفار، فمن المؤمنين من كان يسأل: متى الساعة يا رسول الله؟! أو أن المؤمنين يتبنون القول بأنها قائمة، والكفار يتبنون القول بأنها ليست قائمة، وهذا وجه آخر في التأويل.

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهادا.

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً.) ثم بدأ الله في ذكر الأدلة على البعث، وهذا هو الذي رجح أن النبأ العظيم هو البعث، فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ:6] ، أي: ألم نخلق الأرض ونمهدها كمهاد الطفل تفترشونها كما يفترش الطفل فراشه ويلتحف بلحافه؟! ألم نمهد الأرض فنجعلها ممهدة تمهيداً؟! {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7] الوتد هو: الشيء الذي يدق في الأرض، وتربط به الخيمة، وهو معلوم، فالجبال للأرض كالأوتاد، تثبت الأرض بها بإذن الله، قال الله: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] ، أي: لئلا تميد بكم، فالجبال تثبت الأرض كما أن الأوتاد تثبت الأشياء. فالله يستدل على البعث بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، والمراد بالأزواج هنا الأصناف، أي: خلقناكم أصنافاً، فمنكم الطويل ومنكم القصير، ومنكم الذكي ومنكم الغبي، ومنكم الصالح ومنكم الطالح، ومنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم الجميل ومنكم الدميم. ومن العلماء من قال: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، أي: ذكراً وأنثى، كما قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] ، ومن المفسرين من فسر قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] ، بقوله: (الشفع) : الخلق، فكل شيء زوجان من الخلق، (والوتر) هو: الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، وهو وتر يحب الوتر) ، فقوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، لأهل العلم فيها تأويلان: التأويل الأول: أن المراد بالأزواج الأصناف. التأويل الثاني: أن المراد بالأزواج الذكور والإناث. ويشهد للمعنى الأول قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] ، وأما قوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] فيشهد للمعنيين معاً، ففي قوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، قولان: الأول: (أزواجاً) أي: أصنافاً. والثاني: (أزواجاً) أي: ذكراً وأنثى. {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] السبات هو: السكون والراحة، أي: وجعلنا نومكم راحة وسكوناً لأبدانكم، وهي مأخوذة من السبت، وأصل معنى السبت الراحة، فيوم السبت كان عند اليهود يوم الراحة، قال الله: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] . الآيات. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:10] شُبه الليل باللباس؛ لأنه يغطي الأشياء ويسترها كما يستر اللباس الأشياء، فالليل يسترك كما أن الثوب الذي تلبسه يسترك، والليل المظلم يسترك، فالظلام يستتر فيه الناس. {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:11] تتعايشون فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص:71-73] ، أي: في الليل، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73] ، أي: في النهار. فالأصل في الليل أنه للسكون والراحة، ومن ثم (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره السمر بعد العشاء) وكان يدعو لأمته أن يبارك الله لها في البكور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) وهذا شيء ملموس، فإذا صليت الفجر في جماعة، وقلت أذكار الصباح بعد أذكار الصلاة، ثم بدأت عملك، بارك الله لك في يومك، أما أن تنام إلى ما قبل الظهر، فتذهب عليك البركة التي في الصباح، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان ينام بعد العشاء في الغالب إلا للضرورة. قال الله جل ذكره: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12] السبع الشداد هي السبع السماوات، ووصفت بأنها شداد لإحكامها، فهي محكمة إحكاماً شديداً كما قال سبحانه في الآيات الأُخر: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] أي: السماء التي شد بعضها إلى بعض وحبكت، كما يقول القائل للذي يصلح النعال مثلاً: اُحْبُكِ الخيط، أي: شده بقوة، أو يقول لك قائل إذا رآك متشدداً مثلاً: لماذا أنت محبكها يا عم؟ فالسماء ذات الحبك أي: التي حبك بعضها إلى بعض، وشد بعضها إلى بعض، فأصبحت شديدة. قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:13] ، السراج الوهاج هو المضيء، والمراد بالسراج الوهاج: الشمس. {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} [النبأ:14] المعصرات هي: السحب التي امتلأت بالماء وأوشك أن ينزل منها المطر، كما يقولون في المرأة التي أشرفت على الحيض: أعصرت أو قدم إعصارها، يعني: اقترب وقت نزول الحيض منها، فالمعصرات: السحب التي امتلأت ماءً وأوشك أن ينزل منها الماء. ومن أهل العلم من قال: إن المعصرات هي الرياح، لكن الجمهور على أن المعصرات هي السحب الممتلئة بالماء التي أوشكت أن ينزل منها الماء. {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14] ، والثجاج هو المتتابع المتدفق، أي: ماء بعد ماء متتالٍ متتابع ينزل بشدة وبغزارة، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أفضل الحج: العج، والثج) وما هو العج، وما هو الثج؟ العج: الإكثار من التلبية، والثج: الإكثار من الذبح، بأن تذبح بقرة، وتذبح جملاً، وتذبح شاة، تكثر الذبح فهذا أفضل الحج، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام (نحر في حجته مائة بدنة من الإبل) ، فمعنى الثج هو التتابع. وفي حديث المرأة التي جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام -وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو متكلم فيه- تسأله عن دم الاستحاضة، فقال لها: (أنعت لكِ الكرسف) -يعني: أصف لكِ القطن- أي: سدي الفرج بالقطن ليقف الدم، قالت: إنما أثج ثجّاً يا رسول الله! أي: القطن لا يستطيع أن يمسك هذا الدم، فإنه ينزل بغزارة تدفع القطن، وهذا معنى الثج. قال الله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} [النبأ:15] وهذا من أدلة البعث، وسبق من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، وجعل النوم سباتاً. وقوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} ، هو: ما يقتات منه الناس كالبر مثلاً، وهي الغلة التي نسميها في بلادنا القمح، والذرة والرز وغير ذلك، والنبات هو ما يأكله الحيوان، وقد يأكل الناس بعضه أيضاً. {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ:16] ، الجنات هي: الحدائق والبساتين التي كثرت فيها الأشجار وتشابكت حتى غطت من بداخلها لكثرة الأشجار فيها، فهذا التفسير اللغوي للجنة، وهو مأخوذ من تغطية الأشجار، وأي شيء يغطي يسمى جنة، قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] ، وجُنَّ فلان، أي: غطي على عقله. فالجنة يطلق عليها جنة لكثرة أشجارها حتى تغطي الناس الذين فيها من كثرة ما فيها من خيرات، {أَلْفَافًا} ، أي: بساتين وحدائق أشجارها ملتفة.

تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتا.

تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتاً.) {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17] ، كل هذه الأشياء ذكرت لإثبات البعث. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} ، أي: وقتاً مؤقتاً للفصل بين العباد، وسيرون فيه عاقبة التكذيب الذي كذبوه. {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} [النبأ:18] الصور: قرن ينفخ فيه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الصور: قرن ينفخ فيه) ، أما قتادة فيرى أن الصور: الخلق. والتأويل على قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} ، أي: تنفخ الأرواح في الأجساد، وهذا المعنى دارج في عدة آيات من كتاب الله، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:27-29] ، أي: ادخلي -أيتها الأرواح- في أجساد عبادي، وهذا تأويل عبد الله بن عباس، واختاره ابن جرير الطبري ولم يحك غيره، قال الطبري في تأويل قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} ، أي: ادخلي أيتها الأرواح التي خرجتِ من عبادي في الدنيا بعد أن ماتوا، وصعدتِ إلى السماء؛ ادخلي مرة ثانية في عبادي وذلك يوم البعث، واستدل لها بقراءة وردت في الآية: (فادخلي في عبدي) أي: ادخلي في جسد عبدي. وكثير من العلماء قالوا: إن قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} ، أي: ادخلي -يا أيتها النفس- في زمرة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلك عبادي الصالحين، وتنعمي معهم حيث يتنعمون، والله أعلم. شاهدنا: أن قتادة قال: (الصور) : الخلق، والمراد بالنفخ في الصور عند قتادة: أن تنفخ الأرواح في الأجساد، لكن التأويل الأصح هنا -وهو الذي عليه الأكثرون- أن المراد بالنفخ في الصور: هو نفخ إسرافيل في الصور، قال عليه الصلاة والسلام: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وانتظر متى يؤمر؟!) . {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18] ، الأفواج: الجماعات، جمع فوج. وأفادت هذه الآية الكريمة أن الناس يأتون يوم القيامة أفواجاً، ونحوها قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] ، ونحوها أيضاً قوله تعالى في شأن قوم فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] ، فكيف يجمع بين هذا الذي حاصله أن بني آدم يأتون يوم القيامة أفواجاً، وبين قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95] ؟ تقدم مراراً أن دفع مثل هذا الإشكال يكون بما حاصله: أن يوم القيامة تتعدد فيه المواقف، فمقدار ألف سنة مما تعدون، ففي بعض الساعات يحصل فيها كذا، وبعض الساعات يحصل فيها شيء آخر، فعند العتاب: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95] ، (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) الحديث.

تفسير قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت أبوابا.

تفسير قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت أبواباً.) قال تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ:19] ، فهذه السماء التي قال الله عز وجل عنها: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] يعني: انظر إلى السماء بدقة وركز بصرك إلى السماء هل ترى فيها ثقباً واحداً؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} . فهذه السماء التي هي السبع الشداد خلقت على ما خلقت عليه الآن وليس فيها فروج كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] ، فيوم القيامة تفتح وتشقق، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] ، وينزل الملائكة الذين كانوا فيها وفوقها {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25] ، وكما قال تعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16] ، فتتقطع السماء، وتتفتح السماء، وينزل من أبوابها الملائكة. قال تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} : قال فريق من العلماء أي: أبواباً لنزول الملائكة، ودليله قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} . {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ:20] أي: أزيحت وأزيلت عن أماكنها، {فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20] أي: كالسراب، والسراب هو: الشيء الذي يراه الناظر من بعيد فيظن أنه ماء وليس بماء، فالمسافر في الصحاري في وقت الظهيرة من شدة العطش ينظر إلى الأرض من بعيد فيظنها بحراً من الماء، فيأتي إليها وليس ثم ماء، فهذا هو السراب. قال تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} ، فالجبال تعتريها أمور، قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47] ، وقال تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14] ، فتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] ، وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] . فمن العلماء من قال: إن الجبال تسير عن أماكنها وتدك وتنسف، كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:5-6] ، وبعدها تتطاير في الهواء، وتنسف نسفاً، والآيات التي ذكرت وصف الجبال يوم القيامة هي مراحل مرتبة، وليس عندنا دليل على كيفية الترتيب، هل ستكون هباءً منبثاً أولاً؟ أو تكون كالعهن المنفوش أولاً؟ أو تدك أولاً؟ لكن الظاهر أن الدك أولاً؛ لأن الدك يصحبه تفتت، وبعد التفتت تكون كما ذكر الله سبحانه وتعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:9] ، أي: كالصوف، وبعدها كالعهن المنفوش، أي: الصوف المتطاير، إلى غير ذلك. قال تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} أي: عن أماكنها، فإذا نظرت إلى أماكنها تظن أن هناك جبالاً، ولكنها سراب لم يعد لها أثر.

صفة جهنم وما أعد فيها للكافرين

صفة جهنم وما أعد فيها للكافرين ثم قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21] ، ترصد أهلها، قال فريق من العلماء: إذا مروا عليها ترصدهم، ومن هذا أن ناساً يمرون على الصراط من أهل النار فجهنم تعرفهم، ليس كالكمين الذي على مداخل البلاد إذا مر شخص التقطه، فجهنم ترصد أهلها بدقة، وقد وصفها الله أنها ذات رصد. {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} ، فمن العلماء من قال: ترصد أهلها إذا مروا عليها، فتأخذهم بكلابيب وحسك على الصراط كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المرور على الصراط. ومنهم من قال: {كَانَتْ مِرْصَادًا} ، أي: كانت مرتقبة، يعني: منتظرة أهلها الآن. {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ:22] جهنم ترصد الطغاة، وتنتظر موتهم، وتنتظر بعثهم، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} ، لمن؟ قال تعالى: {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} ، وهل هي للطاغين فقط أم يدخلها أيضاً طغاة من المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ يقيناً أنه يدخلها أيضاً طغاة من المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لحديث المفلس، ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:130-131] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15-16] ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة متوافرة. {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} (مآباً) معناها: مرجعاً.

الرد على من قال بفناء النار

الرد على من قال بفناء النار {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] أي: ماكثين، وقد يتوهم متوهم من هذه الآية الكريمة أن النار لها أمد معدود ومعلوم، وستنتهي بعد هذا الأمد المعدود والمعلوم لقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ، وقد وقع في هذا الخلل عدد من العلماء، فزعموا أن النار ستفنى مستدلين بقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ، قالوا: وبعد الأحقاب فناء. واستدلوا أيضاً في هذا الباب بقول الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:106-107] ، لكن أجاب عليهم جمهور أهل السنة من وجوه حاصلها: أنهم لو أمعنوا النظر في هذه الآية نفسها والآية التي بعدها لعلموا أن الصواب خلاف ما ذهبوا إليه، فالله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} [النبأ:23-24] ، أي: في هذه الأحقاب، {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:25] ، أي: طعامهم في هذه الأحقاب الحميم والغساق، {جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:26-30] ، فوقت الأحقاب طعامهم الحميم والغساق، وبعد الأحقاب هل هناك تخفيف؟ الآية نفت ذلك فقال تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} . وأجاب أهل السنة على قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ، فقالوا: إن الله شاء ألا يخرجوا منها، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، وقال تعالى: {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74] ، وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الموت يذبح على قنطرة بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل النار! خلود فلا موت، ويا أهل الجنة! خلود فلا موت) . والآيات في هذا الباب ترد على قائل هذا القول رداً شديداً، فالنار لا فناء لها، قال تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74] ، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56] ، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] ، {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] .

طعام أهل النار في الأحقاب المذكورة في الآية

طعام أهل النار في الأحقاب المذكورة في الآية قال تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} في هذه الأحقاب ما هو طعامهم وما هو شرابهم؟ {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} ، والبرد هو البرد المعهود الذي يبرد على القلوب والأبدان، وهذا قول الجمهور، ومن أهل العلم من قال: إن البرد هو النوم، واستدل ببيت من الشعر: بردت مراشفها عليَّ فصدني عنها وعن قبلاتها البرد أي: النوم، إلا أن ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى قال: وكتاب الله إنما يفسر على المعهود المشهور من كلام العرب، ولا يفسر على اللغات القليلة، وإن كان البرد من معانيه النوم، لكن يُفسَّر على الغالب الدارج في لغة العرب، فالبرد هو البرد المعهود. {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:25] ، والحميم هو: الماء الحار الذي بلغ النهاية في الحرارة، والغساق هو: البارد الذي بلغ النهاية في البرودة، فيشرب الكافر شيئاً ساخناً في غاية السخونة، قد بلغ أعلى درجات الحرارة، ثم يعقب بشيء بارد في غاية البرودة، عياذاً بالله. قد يقول قائل: هنا قال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} ، وفي الآية الأخرى قال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] ، وفي الآية الثالثة قال: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:36-37] ، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ فالإجابة: أنهم في أزمان معينة وفي أحقاب معينة لا يذوقون البرد والشراب، وفي أحقاب أخرى لا يذوقون إلا الغسلين الذي هو صديد أهل النار، وفي أوقات أخرى {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} ، وهو نبات ذو شوك، وهو أخبث أنواع النبات، ويكون يوم القيامة في جهنم، فهذه الأطعمة تتنوع أوقاتها، فوجبة لهم فيها غسلين، ووجبة لهم فيها طعام من ضريع، ووجبة {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} . وقوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} {إِلَّا} هي هنا بمعنى: لكن، عند بعض العلماء، أي: لكن يذوقون الحميم والغساق، فالحميم والغساق ليس من البرد والشراب، فهو استثناء منقطع، من غير جنس المستثنى منه، فهذا الذي يسميه العلماء: استثناء منقطع، وهو الذي يصلح أن تدخل عليه أن، فيقال: لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا أنهم يذوقون الحميم والغساق، فإذا صلح أن يدخل عليه (أن) عند بعض اللغويين فهو استثناء منقطع. والاستثناء المنقطع له أمثلة، كقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس (وحضر القوم إلا حماراً) فالحمار ليس من جنس القوم، فهذه أمثلة للاستثناء المنقطع. {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] ،أي: جزاءً موافقاً لأعمالهم السيئة التي عملوها، فالجزاء من جنس العمل. {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ:27] . (لا يرجون) : من العلماء من قال في معناها: لا يخافون، واستدل بقوله تعالى حاكياً قول نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] ، أي: لا تخافون الله عز وجل، فمنهم من قال: إن المراد بالرجاء هنا الخوف، أي: لا يخافون حساباً على أعمالهم. ومنهم من قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} ، أي: لا يرجون ثواب الأعمال التي يعملونها، والقول الأول عليه الأكثر. {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:28] ، أي: تكذيباً شديداً، {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ:29] أي: كل شيء عملوه أحصي عليهم في كتاب، والآيات تؤيد هذا المعنى بكثرة، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] ، وقال تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14] ، وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] . {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} ، أي: عددناه وكتبناه كتاباً، {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30] . وقيل: إن قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ، خاص بأهل القبلة، وهذا التأويل وإن كان في معناه صحيح، فإن من أهل القبلة من يمكث في النار أحقاباً ثم يخرج، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله) إلا أن لفظ: الطغاة هنا يتنزل على الكافرين لقوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} ، وهذا حال الكفار.

تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين مفازا)

تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين مفازاً) أما حال أهل الإيمان فقال الله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31] ، والمفاز من الفوز، وهو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وما هي صورة الفوز التي فازوا بها؟ قال تعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} [النبأ:32] ، فهذا هو الطعام، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:33] ، والكاعب من النساء هي: المرأة التي لم يتدل ثديها، والمرأة إذا تزوجت وحملت ووضعت أصبح ثديها متدلياً كما هو معلوم، لكن إذا كانت بكراً فيكون ثديها متماسكاً، فالكواعب من الأبكار، والبكر هي التي لم يتدل ثديها، (أتراباً) أي: أعمارهن واحدة. {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ:34] ، قال بعض العلماء: الدهاق هي الكأس الممتلئة، وقال آخرون: هي الكأس التي فيها شراب صافٍ. {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} [النبأ:35] . من العلماء من قال: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} ، أي: في الجنة {لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} فليس هناك كلام لا فائدة فيه، وليس هناك تكذيب من شخص لشخص آخر في الجنة. ومن العلماء من قال: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} ، أي: أثناء شربهم للكأس من الخمر كما هو حال أهل الدنيا، فإذا شرب رجل في الدنيا كأساً من الخمر فإنه يلغو ويسب ويكذب الناس ويكذبونه، كما حدث ذلك على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كما هو معلوم في قصة حمزة عندما شرب الخمر حتى ثمل وذلك قبل تحريم الخمر، فقال له الرسول: (لماذا صنعت هكذا؟) فنظر إلى الرسول من أعلى إلى أسفل وقال: وهل أنتم إلا عبيد لآبائي!! فأهل الجنة لا يسمعون لغواً عند شربهم لكأس الخمر، فلا تذهب عقولهم، ولا يتقولون بكلام فيه لغو ولا تكذيب. فهذان تأويلان لأهل العلم في هذه الآية، وهذه الآية كقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25-26] . {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابَاً} [النبأ:36] ، أي: على أعمالهم الصالحة. {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ:40] ، أي: ينظر المرء ما عمل، ومن المراد بالمرء هنا؟ من العلماء من قال: إن المراد به المسلم، ودل على هذا التعقيب بالكافر. ومنهم من قال: المرء عام، فكل امرئ ينظر ما قدمت يداه، والكافر لما يرى السوء الذي قدمته يداه يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} . {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، من العلماء من قال: إن الكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} عندما يرى البهائم قد تحولت إلى تراب، ولم يرد بهذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما علمت، لكن البهائم تحشر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) كما في صحيح مسلم، لكن من العلماء من قال: تحشر ويقتص لبعضها من بعض ثم يقال لها: كوني تراباً، فحينئذٍ يقول الكافر {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} ، وهذا القول الأخير هو قول جمهور المفسرين، لكن لم نقف في ذلك على خبر ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم وضع سجادة للإمام

حكم وضع سجادة للإمام Q هل وضع سجادة خاصة بالإمام في الصلاة بدعة؟ A وضع السجادة الخاصة بالإمام خلاف الأولى، لكن الوصول بها إلى حد التبديع لا ينبغي؛ لأن النبي قال لـ عائشة رضي الله عنها: (ناوليني الخُمرة -أي: ناوليني السجادة- قالت: إني حائض، قال: إن حيضتكِ ليست في يدك) ، ففي قوله: (ناوليني الخُمرة) دليل على أنه كانت له خمرة في المسجد، لكن هل كانت خاصة بالرسول يصلي بها حيث شاء في أي وقت، أو أنها خمرة في المسجد يُصلَّى عليها؟ فهذا يهون من الخطب، ولا يجعلنا نحكم بالتبديع لمن وضع هذه السجادة، صحيح أننا لا نضعها، لكن الحكم بالتبديع لا ينبغي أن يتسرع فيه.

حكم تحديد الوقت بين الأذان والإقامة

حكم تحديد الوقت بين الأذان والإقامة Q هل تحديد المواقيت بين الأذان والإقامة بدعة؟ A إن تثبيت وقت بين الأذان والإقامة لم يكن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول كان في صلاة العشاء إذا اجتمع الناس أقام الصلاة، وإذا تأخر الناس أخر الإقامة، وفي صلاة الظهر إذا كان الجو حاراً أخر الصلاة حتى يحصل الإبراد، وإن كان الجو لطيفاً صلى عليه الصلاة والسلام الظهر في أول وقتها، فوقت الإقامة تختلف باختلاف الأحوال. لكن إن جاء شخص وقال: نحن في بلدة معينة أو في مصنع من المصانع مثلاً، ومن الناس من يتلاعب في الدوام على أن الإقامة تؤخر أو تقدم وتحدث مشاكل، ولهذا حددوا الإقامة، فنقول: الأولى اتباع هدي رسول الله، لكن إذا فعلها شخص فالوصول إلى التبديع أو الحكم بالتبديع يعكر عليه قول من قال: إنها من المصالح المرسلة، فالحكم بالتبديع لا ينبغي أن يتسرع فيه.

التعامل مع من يتعامل بالربا

التعامل مع من يتعامل بالربا Q ما حكم عمل اشتراك في (الباص) إذ إن النقود التي ندفعها للاشتراك يتم استثمارها، وبالطبع فإنه استثمار ربوي؟ A أنت تدفع أجرة مقابل ركوب، وكون صاحب القطار يأخذها ويضعها في بنك، أو يضعها في النار، أو يضعها في جيبه، ليس لك دخل في هذا، والواجب عليك أن تبرئ ساحتك أمام الله، أنت تدفع أموالاً مقابل الركوب، وبعد ذلك ليس لك أن تفتش أين يضعها، وتسأله هل وضعها في البنك؟ وهل البنك ربوي.

التكفير بدون علم

التكفير بدون علم Q بعض الناس يقول: لا يجوز أن تكفر من وقع في كفر، ولكن احكم على فعله بأنه كفر، وليس هو بكافر؟ A إذا كنت من عوام الناس فلا تبادر بالتكفير، ودع التكفير لأهل العلم الذين يعلمون العلم الشرعي، ويعلمون حال الشخص الذي سيحكم عليه، لا تفتح باب التكفير وأنت جاهل لضوابط التكفير وبالأعذار التي تبيح للشخص أن يتكلم بكلمة الكفر، فتأثم، وتحدث لك مشاكل.

حكم تلاوة القرآن بغير وضوء

حكم تلاوة القرآن بغير وضوء Q ما حكم قراءة القرآن بغير وضوء؟ A جائزة مع الكراهة، أما الجواز فلحديث عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله) ، أما الكراهة فلحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إني كرهت أن أذكر الله على غير وضوء) ، وإن كان في نفسك شيء من ذلك، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك.

حديث: (زر غبا تزدد حبا)

حديث: (زر غباً تزدد حباً) Q حديث (زر غباً تزدد حباً) ؟ A الراجح عندي أنه ضعيف، والله تعالى أعلم، ومن العلماء من حسنه، لكن الراجح -والله أعلم- أنه ضعيف.

حكم البيع والشراء في المسجد

حكم البيع والشراء في المسجد Q ما حكم البيع والشراء في المسجد؟ A لا يجوز البيع والشراء في المسجد، ومن وجدته يبيع ويشتري في المسجد فقل له: لا أربح الله تجارتك!

هل يقال: إن الله بين السماء والأرض؟!

هل يقال: إن الله بين السماء والأرض؟! Q بعض الناس يؤولون هذه الآية: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} [النبأ:37] ، على أن الله بين السماء والأرض؟ A المعنى: رب السماوات ورب الأرض ورب ما بين السماوات والأرض، هذا هو التأويل الصحيح، أما أن تقول: الرحمن بين السماء والأرض، فهذا كلام غير صحيح أبداً.

مساعدة المرأة للمرأة في بيتها مع التحفظ عن رؤية الأجانب لها

مساعدة المرأة للمرأة في بيتها مع التحفظ عن رؤية الأجانب لها Q هل إذا ذهبت إلى جارة لي غير صالحة وعندها صبيان لمساعدتها في عمل بيتها، وهي تحافظ عليَّ ولا يراني أحد، فهل هذا جائز؟ A إذا كانت هناك محافظة عليكِ فجائز.

تفسير سورة عبس

تفسير سورة عبس ورد في سورة عبس الكثير من الآيات التي تحتوي على الكثير من المعاني العظيمة، منها: ما جاء فيها من عتاب الله تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم في شأن الأعمى، ومنها تذكير الإنسان بنعم الله تعالى التي قد يقف الإنسان تجاهها موقف الكفران، ثم ختم الله السورة بذكر موقف القيامة وما فيه من الأهوال وانقسام الناس فيه بحسب أعمالهم.

تفسير قوله تعالى: (عبس وتولى.

تفسير قوله تعالى: (عبس وتولى.) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فبمشيئة الله تعالى نتناول تفسير سورة عبس، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1-3] . من الذي عبس وتولى؟ وما معنى عبس؟ ولماذا عبس؟ الذي عبس وتولى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. لماذا عبس ولماذا تولى؟ قال الله سبحانه وتعالى: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:2] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم عبس وتولى لمجيء الأعمى، ومعنى (عبس) قطب وجهه وجبينه تكرهاً، أي: تكرهاً لمجيء الأعمى إليه. للآية سبب نزول بمجموع الطرق، ولسياق آيات الكتاب العزيز يصح ألا وهو: أن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو قوماً إلى الإسلام منهم كبراء قريش، وكان صلى الله عليه وسلم منشغلاً في دعوتهم إلى الإسلام راغباً في هدايتهم إليه، فأقبل ابن أم مكتوم وهو يقول: أرشدني يا رسول الله! والنبي صلى الله عليه وسلم مقبل على الحديث مع أئمة الكفر يدعوهم إلى الإسلام، وابن أم مكتوم يكرر: أرشدني يا رسول الله! والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إليه، ثم التفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم متضايقاً قاطباً وجهه، كارهاً لمقالته ولمجيئه، وقال ابن أم مكتوم: أترى بما أقول بأساً يا رسول الله؟! فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1-2] أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبس وتولى لمجيء الأعمى. ثم قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ} [عبس:3] أي: وما يعلمك يا محمد، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] أي: لعل هذا الأعمى يزكى، يعني: يتطهر من ذنوبه، فالتزكية تطلق على التطهير من الذنوب، ومنه قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، ومنه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] . قال سبحانه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] ، من العلماء من فرق بين قوله: (وَمَا يُدْرِيكَ) ، وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} [الحاقة:3] ، فقالوا: إن قوله: (وَمَا يُدْرِيكَ) فلم يدره الله عز وجل، أما: (وَمَا أَدْرَاكَ) فإن الله أدراه، كما قال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-3] ، فأخبره الله بالحاقة وتفاصيل ما في الحاقة. أما (وَمَا يُدْرِيكَ) كما في قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17] ، فلم يدره بوقتها سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أو يذكر فتنفعه الذكرى.

تفسير قوله تعالى: (أو يذكر فتنفعه الذكرى.) {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ} [عبس:3-4] والتذكرة: الاتعاظ والاعتبار، {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:4] . {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5] أي: من استغنى عن الدخول في الإسلام بأمواله وأولاده وجاهه وسلطانه وثرائه، أما من استغنى بهذه الأشياء عن الدخول في الإسلام، {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6] أي: تتعرض له رجاء أن يسلم. {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:5-7] يعني: ليس عليك إثم إذا تولى وأعرض، {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:7] يعني: ما عليك ضرر من عدم تزكيته لنفسه، إنما عليك فقط البلاغ كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وكما قال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية:21-33] الآيات. فيقول سبحانه: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:7-10] . (أما من جاءك يسعى) : يجتهد في المجيء إليك وفي مقابلتك، وهو خائف وجل من الله سبحانه: {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:10] أي: تنشغل عنه. {كَلَّا} [عبس:11] ليس التصرف كما تصرفت يا رسول الله! ليس هذا هو التصرف، فكلمة: (كلا) تحمل معنى النفي لما تقدم مع الردع والزجر، هذا في حق البشر، كلمة: (كلا) تنفي الكلام المتقدم أو المعاني المتقدمة أو التصرفات المتقدمة مع تضمنها للزجر والردع. فليس الأمر كما تصرفت يا محمد! لكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للمعاني شأن آخر. أرشدت الآيات إلى أنه ينبغي الإقبال على المقبلين على الله وإن كانوا فقراء، وفي هذا نزل قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:52-54] . وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: فيّ نزلت هذه الآيات: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] : أنا وابن مسعود وبلال ورجلين من قريش لم يسمهما، نزلت هذه الآيات: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] في ستة: جاء المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد! اطرد هؤلاء عنك، لا يجترئون علينا، فكيف نجلس نحن وهؤلاء أمامك؟ فإننا إذا جلسنا أمامك تجرئوا علينا، فاطردهم لعلنا نفكر في الدخول في الإسلام، فنزل قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] ، وقوله تعالى أيضاً: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] . ففي هذه الآيات تأديب للدعاة إلى الله، صحيح أننا أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، لكن مع إنزال الناس منازلهم لا نضيع حق الفقراء وحق الضعفاء أمام المناصب الزائلة، والوجاهات التي ستزول وتفنى، فكل له حق يؤدى إليه. في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر على ملأ فيهم بلال وصهيب وعمار وسلمان، فلما رأوه -وكان ذلك عام الفتح- يمشي في الناس، وكان قبل ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، ما زال هذا الرجل يمشي على وجه الأرض؟ فقال أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ ثم انطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بالذي كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أغضبتهم يا أبا بكر؟ إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك عز وجل، فرجع أبو بكر وقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: غفر الله لك يا أبا بكر) . فلا ينبغي أبداً أن تبتعد عن الفقراء المقبلين على الله، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك. قوله تعالى: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:2] أي: بمجيء الأعمى، إن قال قائل: كيف قال الله سبحانه وتعالى: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:2] ووصفه بالعمى، وهو سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11] ؟ فالإجابة على هذا من وجهين: الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى ذكره بالأعمى لبيان عذره في مقاطعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنه صحيح أنه جاء وقاطعك يا محمد! وأنت تدعو القوم إلى الإسلام، ولكن معه عذره، فهو أعمى، وكما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] فليس على الأعمى حرج فيما لا يدرك إلا بالبصر، هذا وجه. والوجه الثاني: أن الشخص إذا عرف بصفة من الصفات، واشتهر بها في الناس ولم يكن يتضايق من ذكره بها فلا بأس أن يدعى بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الظهر ركعتين وانصرف بعد الركعتين قال رجل في يديه طول: (يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لا هذا ولا ذاك، قال: بل قد حدث شيء من ذلك يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أحقاً ما يقول ذو اليدين؟!) فلقبه النبي عليه الصلاة والسلام بـ ذي اليدين لطول في يديه. وقد درج على ذلك السلف، فمن اشتهر بلقب يكره عند عموم الناس، ولم يتبرم من دعوته به، نادوه به، وكلكم يعرف الأعمش؛ فـ الأعمش هو سليمان بن مهران وكان في عينيه عمش، وكان دميم الخلقة، وكان يقول: لو كنت بقالاً ما اشترى مني أحد، ومع ذلك لم يكن يتبرم من هذه الصفة، فكان الناس ينادونه بـ الأعمش دوماً. كذلك الأعرج، وكذلك المقبري؛ لأن بيته كان قريباً من المقابر، وكذلك ابن دقيق العيد لقب بـ ابن دقيق العيد لشدة بياضه، وكذلك الدراوردي كان من بلاد إذا طرق أحدهم طارق يقول: اندر، يعني: ادخل، فلما ذهب إلى المدينة وأقام بها كانوا إذا جاءوا عليه قال لهم: اندروا اندروا، يعني: ادخلوا ادخلوا، فلقب بـ الاندراوردي ثم حذفت النون تخفيفاً فقيل: الدراوردي إلى غير ذلك. فالشخص إذا اشتهر بلقب إن كان هذا اللقب مكروهاً في الناس لكن تعارفوا عليه به، وهو لم يتضايق منه جاز لهم أن يدعوه به، وهذا هو الوجه الثاني، والله أعلم. من العلماء كـ القرطبي وقبله الرازي ونقلوه عن بعض علمائهم أنهم خطئوا ابن أم مكتوم في ذهابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما كان ينبغي أن يذهب إلى الرسول وهو منشغل بدعوة القوم إلى الإسلام، فإن هذا لا يليق، ومنهم من تحامل عليه تحاملاً شديداً، ولكن رب العزة سبحانه وتعالى وصفه بأنه جاء يسعى وهو يخشى، فلا معنى لكلام شخص فيه، بل كل ما قيل فيه مردود، والله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين في صورة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (فمن شاء ذكره.

تفسير قوله تعالى: (فمن شاء ذكره.) قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:8-9] تتشاغل {كَلَّا} [عبس:11] ليس الأمر كما ذكرت {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس:11-12] ذكر ماذا؟ من العلماء من قال: ذكر القرآن، أو انتفع بالتذكرة {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس:13-15] . (صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) من العلماء من قال: هي اللوح المحفوظ: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:13-14] ما هو وجه الربط بين قوله: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى} [عبس:8-9] و {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:5-6] ، وبين قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس:11-13] ؟ وجه الربط كما قال بعض العلماء: فيه. للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: إذا أعرض هؤلاء المشركون يا محمد! عن القرآن وعن ما جئت به فهذا القرآن موجود بأيدي خلق كرام، وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم سفرة كرام بررة، يعني: إن تولى هؤلاء الكفار عن القرآن فاعلم أن القرآن في اللوح المحفوظ مع ملائكة كرام مهطعين لله سبحانه وتعالى، يعني بمعنى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] يعني: لا يحزنك إعراضهم وتوليهم عن هذا القرآن فإنه موجود بأيدي خلق هم أكرم منهم وهم السفرة الكرام البررة، هذا وجه الربط، والعلم عند الله سبحانه وتعالى. {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:12-14] مطهرة من كل عيب ومن كل نقص ورذيلة، مطهرة من كل ما لا يليق بها، مطهرة من عبث الشيطان كما قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] على رأي من فسر الباطل بأنه الشيطان. {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس:13-15] والسفرة: الملائكة، ومن العلماء من قال: إن السفرة هم ملائكة مخصوصون؛ وهم القراء للقرآن، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة) الحديث. ومنهم من قال: إن السفرة هم الملائكة السفراء بين الله وبين خلقه، الذين يسفرون بين الله عز وجل وبين الأنبياء وبين سائر الخلائق، كما قال القائل: وما أدع السفارة بين قوم وما أمشي بغش إن مشيت (ما أدع السفارة بين قوم) السفارة: التنقل بين القوم للإصلاح، ومنه التسفير الذي يسفر الآن في الدول. وما أدع السفارة بين قوم وما أمشي بغش إن مشيت فقال العلماء: إن السفرة هم الملائكة الذين يسفرون بين الله سبحانه وبين الرسل. فالقرآن بأيدي هؤلاء السفرة: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:15-16] والبررة: هم المؤمنون، فالبر هو المطيع، وللأبرار معان أخرى تأتي في محلها إن شاء الله.

تفسير قوله تعالى: (قتل الإنسان ما أكفره.

تفسير قوله تعالى: (قتل الإنسان ما أكفره.) {كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الإِنْسَانُ} [عبس:16-17] ما معنى قتل؟ قتل في أغلب آيات الكتاب العزيز معناها: لعن. {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] أي: لعن الخراصون، {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: لعن أصحاب الأخدود، فالله يقول: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] ما المراد بالإنسان؟ هل المراد بالإنسان الإنسان عموماً أو الإنسان الكافر؟ الظاهر أن المراد: الإنسان الكافر، فعليه: قتل أو لعن كل إنسان كافر؛ مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً وسواء كان أمريكياً أو إنجليزياً أو فرنسياً أو روسياً كلهم قال الله سبحانه وتعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ} [عبس:17] لعن هذا الإنسان، {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] . في قوله تعالى: {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] ثلاثة أقوال للعلماء: القول الأول: أن (ما) تعجبية (مَا أَكْفَرَهُ) . القول الثاني: (ما) استفهامية أي: ما الذي حمله على الكفر؟!. الثالث: ما أشد كفره! هذه الأقوال الثلاثة في: (مَا أَكْفَرَهُ) . ثم يقول سبحانه: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] ما هو الربط بين الآيتين: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] وقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] ؟ كما يقول لك القائل ولله المثل الأعلى: لماذا تستكبر أنت ابن من؟ أبوك من؟ وأمك من؟! لماذا هذا الكبر وهذا الغرور وهذه الغطرسة؟ أنت أبوك فلان وأمك فلانة، يعرفهم الناس جميعاً، كما قال الشاعر: كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه وهو منه وإليه وأخوه وربيعه يعني: كيف تفتخر وأنت ليل نهار والوسخ والبراز في جسمك، فبأي شيء تفتخر؟ فقوله سبحانه: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:17-19] كما يقول الله في الحديث القدسي، عندما بصق النبي صلى الله عليه وسلم على كفه بصقة -تفل تفلة- وقال: (يقول الله: يا ابن آدم! أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه -وأشار إلى البصاق-؟!) عليه الصلاة والسلام. {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] كما قال القائل: خلق من ماء خلقة نكرة، ثم بعد ذلك يكون جيفة قذرة، الإنسان بعد أن يموت يكون في القبر جيفة قذرة، ورائحته كريهة، وهو بين ذلك يحمل العذرة. {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:18-19] هذا أبيض وهذا أسود وهذا أحمر، هذا أعور وهذا سليم العينين، هو سبحانه الذي يتصرف كيف يشاء، تخرج من بطن أمك ليس لك اختيار، لا تستطيع أن تتحكم لا في قدرك ولا في جمالك ولا في دمامتك، ولا كونك سوياً أو غير سوي، ولا في كونك غبياً أو ذكياً، أو قوي الذاكرة أو ضعيف الذاكرة، لا تستطيع أبداً أن تتحكم في نفسك على الإطلاق، ولا في نفس ولدك، فالذي يصور في الأرحام كيف يشاء هو الله سبحانه وتعالى. {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:19] وقدر له الأرزاق، وقدر له الشقاوة والسعادة {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:19-20] ما المراد بالسبيل هنا؟ للعلماء في السبيل قولان: أحدهما: أن المراد بالسبيل طريق الخير أو طريق الشر، كما قال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] ، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] . وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، فهذا فيه أن سلوك طريق الخير مقدر، وسلوك طريق الشر مقدر. والقول الثاني: اختاره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى أن المراد بالسبيل هنا سبيل الخروج من بطن أمك بعد أن خلقك، ولو شاء لأوقفك في فرجها وماتت أمك، لكن سبحانه وتعالى يسر لك سبيل الخروج. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:20-21] قال ابن جرير الطبري: سياق الآيات في مراحل خلق الإنسان أي: قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:20] أي: سبيل الخروج من بطن أمه، فذكر الله سبحانه أنه خلقك من نطفة، ثم قدرك، ثم أخرجك من بطن أمك، ثم أماتك فأقبرك، ثم يوم القيامة يحييك، سياق الآيات في هذا الباب، هذا اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:20-21] أي: صيره إلى قبره، فالأشياء تموت ولا تدفن، أما ابن آدم فحين يموت يدفن، ويكرم بأن يغطى حتى ولو كان كافراً، فابن آدم يموت فيقبر، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25-26] فأنت إذا مت دفنت في الأرض وغطيت، ويوم القيامة يتلاشى هذا، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:4-5] . فقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] امتنان من الله سبحانه وتعالى على الإنسان أنه صيره إلى قبر يقبر فيه. {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:22] يعني: بعثه، والنشور يطلق على البعث والخروج: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) . {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا} [عبس:22-23] ليس الأمر كما يظن الإنسان أنه قام بالتكاليف التي أمره الله بها، لا تتوهم ذلك أبداً أيها الإنسان، فإنك مقصر. {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:23] أي: ما قام ابن آدم بالتكاليف التي كلف بها، فالآية تمنع من الاغترار، قد تظن أنك أديت ما عليك، فالآية تقول: لا تظن هذا الظن، فإنك لم تقم بالتكاليف التي كلفت بها والأوامر التي أمرت بها، ولم تنته عن النواهي التي نهيت عنها.

تفسير قوله تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه.

تفسير قوله تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه.) {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس:23-27] هناك ربط قوي بين قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24] ، وبين قوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:18-19] ، فربط واضح غاية الوضوح، شق فرج المرأة فخرج منه الطفل، {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:21-22] . وقال سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس:24-25] نزل الماء من السماء صباً على الأرض، كما أن المني دخل من الرجل على فرج المرأة. {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس:26] كما انشقت الأرض وأنبتت النبات، ففرج المرأة فتح وخرج منه الطفل. {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:27-31] أشكال وأصناف من النباتات، كذلك خرجت من الفروج أشكال وأصناف من البشر؛ القوي والضعيف، والدميم والجميل، والذكي والغبي، والأحمر والأبيض والأسود، وذو العين الزرقاء، وذو العين الخضراء، وذو العين السمراء، أشكال وألوان لا يعلمها إلا الله، كما خرجت من الأرض هذه الأصناف من النباتات. {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس:26-27] والحب: الحنطة والشعير ونحوه {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس:27-28] القضب هو: البرسيم. {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:30] والأغلب هو: غليظ الرقبة، فالشجرة الغلباء هي الشجرة غليظة الجذع، ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً. عوى فأثار أغلب ضيضمياً فويل ابن المراغة ما استثارا فالأغلب هو الغليظ، {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:30] أي: حدائق ذات أشكال غليظة، وأطلق على الحديقة حديقة لإحداقها بمن فيها، فلا يكاد يرى، أحدقت بهم الأشجار، أو أحدق الناس بالعدو أي: حاصروه والتفوا حوله {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:30] . {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] الأب توقف بعض العلماء في تفسيره وبيان المراد به، فكان عمر ينقش بعصاه في وسط أصحابه على الأرض، وقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: (أما الفاكهة فقد عرفناها، أما الأب فما هو؟ ثم انطلق وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر، ولم يفسرها رضي الله تعالى عنه) . {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] من العلماء من قال: إن الأب هو ما يأكله الحيوان لاقترانه بالفاكهة، ولقوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:32] . ونرجع قليلاً إلى الآية الكريمة: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] فكذلك النبات، تخرج كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] ، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد:20] .

تفسير قوله تعالى: (فإذا جاءت الصاخة.

تفسير قوله تعالى: (فإذا جاءت الصاخة.) يقول تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس:33] والصاخة: اسم من أسماء القيامة، وهي التي تصخ أسماع الناس، أي: تصيبهم بالصمم ولكن لا يصموا؛ لأن الله أراد لهم أن يسمعوا، فصوتها يصم أهل الدنيا لو كانوا يسمعون، لكن تأتيتهم الصاخة فيسمعون الصوت، والآذان كما هي تستمع أيضاً أشد وأشد. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:34] وقد أسلفنا في محاضرات سابقة لماذا يفر المرء من أخيه؟ لثلاثة أمور: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] ، ولعدم مطالبته له بحقوقه: يا رب لي حق عند هذا، وخوف الفضيحة فقد كان مستوراً أمام إخوانه في الدنيا، وفضح في الآخرة فيخشى أن يرى، هذا قول والله أعلم. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37] قالت أم المؤمنين عائشة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديث: (إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده، ألا إن أول الخلائق يؤتى هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ألا إنه يؤتى برجال من أمتي -أو بأقوام من أمتي- فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال إلى أن قالت: عائشة -: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر أشد من ذلك) الله سبحانه وتعالى يقول: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] . {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس:38] أسفر الصبح إذا طلع. {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:39] وجوه أهل الإيمان كوجوه قد أشرقت وأضاءت وابيضت كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ} [آل عمران:106] ابيضت من آثار الوضوء، وقبل ذلك ابيضت بإيمانها بالله سبحانه وتعالى لم يرهقها قتر ولا ذلة كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26] . فمن أراد أن يبيض وجهه ويزداد بياضاً يوم القيامة فعليه بأمور بعد الإيمان بالله والوضوء، من هذه الأمور: الإكثار من حمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغها الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها) فالذي يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً متقناً ويؤديه للناس فيبلغه للناس تحل عليه بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: أن حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم سبب في بياض الوجوه. قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38-39] هؤلاء الذين كانوا خائفين في الدنيا، وكانوا وجلين في الدنيا من لقاء الله سبحانه، ومن القبر وظلماته، ومن هول المطلع يوم القيامة، لم يجمع الله عز وجل عليهم خوفين، بل كما قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] بعد أن كانوا في الدنيا يؤذون، ويسخر بهم ويسخر منهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] ، {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] فأهل الإيمان يضحكون يوم القيامة. قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس:38-40] أي: علاها الغبار والتراب، هي أصلها سوداء يوم القيامة، ومع ذلك تعلوها الغبرة، كما قال تعالى: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:43] ومع أنها يعلوها الذل يعلوها أيضاً الغبار. يقول الله سبحانه: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا} [عبس:40-41] أي: تعلوها {قَتَرَةٌ} [عبس:41] أي: ذلة {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42] والعياذ بالله. بهذا ينتهي تفسير سورة عبس، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما فيها، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم رد المرأة لمن به عيب خلقي

حكم رد المرأة لمن به عيب خلقي Q هل يجوز لأخت أن ترفض أخاً نحسبه على خير من أجل أن فيه عيباً خلقياً؟ A نعم، يجوز لها ذلك، فالمرأة تريد من الرجل كما يريد الرجل من المرأة، وتحب من الرجل كما يحب الرجل من المرأة، فإذا لم تكن نفسها منشرحة للرجل ستقصر في أداء الحقوق إليه، ومن ثم يلحقها الإثم. وعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! ما أعيب على ثابت في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام ... ) وردت في بعض الأسانيد التي فيها كلام أنها كانت تبغضه بغضاً شديداً لهيئته، حتى إنه جاء في بعض الروايات وإن كان في إسنادها بعض الكلام أنها قالت: لولا مخافة الله إذا دخل عليّ لبصقت في وجهه. فعندما جاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال لها: (أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ... ) . أما من ناحية الجواز فجائز. وفي هذا المقام نذكر أن حديث: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) هو حديث منازع في صحته، وكل أسانيده التي وقفت عليها ضعيفة، خاصة الزيادة الملحقة: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) من العلماء من حسنه أو صححه لكن كل طرقه واهية. ويشهد لوهاء المعنى وضعف المعنى أن فاطمة بنت قيس جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن معاوية وأبا الجهم خطباني يا رسول الله) ، فاختار لها الرسول شخصاً ثالثاً غيرهما وهو أسامة بن زيد، مع أن أسامة لم يكن قد خطبها في من خطب، وورد عند النسائي بسند رجاله ثقات -إلا أن في إسناده- علي بن الحسين بن واقد يقول الإمام أحمد: في أحاديثه بعض الزيادات لا أدري أيش هي، لكن أحمد وثقه-: (أن أبا بكر تقدم لـ فاطمة فقال النبي: إنها صغيرة، ثم تقدم لها عمر فقال النبي: إنها صغيرة، ثم تقدم لها علي فزوجها إياه) رضي الله عنهم أجمعين. فإن قال قائل: إن رسول الله تزوج عائشة، فنقول له: للرسول وضع خاص صلى الله عليه وسلم. فالشاهد: يجوز للمرأة أن ترد الرجل لعيب خلقي فيه، إذ لا دليل يوجب عليها أن تقبل كل من تقدم لها.

ضوابط الهجر لأهل المعاصي

ضوابط الهجر لأهل المعاصي Q لنا إخوة يشربون الدخان، وأحدثوا فتنة بين الناس، هل يجوز لنا هجرهم في الله؟ A من ناحية الجواز يجوز أن تهجرهم في الله، لكن الأمر في شأنهم مبني على مسألة المفسدة والمصلحة، إذا كنت تطمع أنك إذا امتنعت من إلقاء السلام عليهم رجعوا إلى الحق وفكروا فيما هم عليه، فاترك السلام عليهم، وإذا كنت ترى أن امتناعك من إلقاء السلام عليهم سيسبب مفسدة أعظم وأنهم بدل أن يشربوا الدخان سيشربون الخمر، فالله لا يحب الفساد، فاجعل بينك وبينهم خيوطاً لعل الله أن يهديهم، فالأمر مبني على المفسدة والمصلحة.

حكم الدم الذي يكون بعد النفاس

حكم الدم الذي يكون بعد النفاس Q بعد انقضاء مدة النفاس أربعين يوماً وتطهري من ذلك يوجد بعض النقاط من الدماء بين الحين والآخر، فهل يعتبر ذلك استحاضة، وماذا أفعل لكي أقوم بالصلاة والواجبات الشرعية المكلفة بها؟ A الجمهور يقولون: بعد انقضاء الأربعين يوماً الدم الناتج بعد ذلك تغتسل منه وتصلي، ومن أهل العلم من يقول: ينظر إلى الدم إذا كانت المرأة متأكدة غاية التأكد أنه دم نفاس استمرت حتى تطهر منه. لكن الذي يحدث أن بعض النساء موسوسات، فتقوم وتدخل إصبعها في الفرج وتعبث بنفسها حتى تخرج لها قطرة دم فيشوش عليها الشيطان وتترك الصلاة، وهذا يمكن أن يحدث بعد انقضاء الأربعين بأسبوع، وإذا كانت ممن يميزن جيداً دم النفاس عن دم الاستحاضة، فعليها أن تبني على تمييزها، أما إذا كان الدم دم نفاس فلا تصلي ولا تصوم إلا إذا انتهى الدم، وإذا كان غير ذلك فلتأخذ برأي الجمهور القائلين: بأن أقصى مدة للنفاس أربعين يوماً، والله أعلم.

حكم استماع النساء لشرائط العرس التي تكون بالدف وبأصوات الرجال

حكم استماع النساء لشرائط العرس التي تكون بالدف وبأصوات الرجال Q ما حكم تشغيل شرائط العرس التي بالدف للرجال في عرس النساء؟ A إذا لم يكن هناك من الأخوات من تغني لها، لكن إذا كانت أصوات الرجال فتنة بالنسبة للنساء فلا يشرع ذلك، أما إذا كانت خالية من الفتنة فحينئذٍ يتنزل حديث عائشة: (ماذا كان معكم من اللهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) ويستأنس للفتية بقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري في صحيحه: (ويحك يا أنجشة، رفقاً بالقوارير) فـ أنجشة كان يغني والنساء كن يسمعن صوت أنجشة، وكانت الإبل تسرع، فخشي النبي على النساء من السقوط، فيستأنس بهذا على الجواز مع حديث: (ماذا كان معكم من اللهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) . وأصلي وأسلم على نبينا محمد.

تفسير سورة التكوير

تفسير سورة التكوير من أراد أن يعلم بالحوادث التي تكون يوم القيامة فليقرأ سورة التكوير، ففي بداية هذه السورة ذكر للأهوال العظيمة التي تصيب المخلوقات في ذلك اليوم العظيم، وفي ختامها إثبات لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف جبريل عليه السلام بالقوة والأمانة، ووصف القرآن بأنه ذكر لمن شاء الهداية والاستقامة، ومشيئة العباد تحت مشيئة الله.

تفسير قوله تعالى: (إذا الشمس كورت.

تفسير قوله تعالى: (إذا الشمس كورت.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] ، المعنى: تذكر يا محمد! واذكر هذا اليوم الذي فيه تكور الشمس، ومعنى (كُوِّرَتْ) لُفَّ بعضها على بعض، ومنه قولهم: كورت العمامة، أي: لفت العمامة، ومن العلماء من قال: {كُوِّرَتْ} : رُمي بها، ومنهم من قال: (كُوِّرَتْ) أي: ذهب ضوءها. والحقيقة أن هذه المعاني كلها يرجع بعضها إلى بعض، فإنها إذا كُوِّرَت ولُفَّت ذهب ضوءها، ثم يُرمى بها بعد ذلك. فمن العلماء من فسر {كُوِّرَتْ) بالحادث الأول من أحوالها يوم القيامة وهو: اللف، ومنهم من فسره بالحادث الثاني، وهو: ذهاب الضوء، ومنهم من فسره بالحادث الثالث وهو: الرمي بها، لكن المعنى متآلف متناسق، فمعنى قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أي: لُفَّ بعضها على بعض، فإذا لُفَّ بعضها على بعض فقد ذهب الضوء، ثم بعد ذلك رمي بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في البخاري -: (الشمس والقمر مكوَّران يوم القيامة) ، وفي رواية غير البخاري زيادة (ثوران) في هذا الحديث، هكذا: (الشمس والقمر ثوران -مثنى الثور- مكوران في النار يوم القيامة) . فإن قال قائل: لماذا تكون الشمس والقمر ثورين مكورين في النار يوم القيامة على ثبوت هذه اللفظة؟ فالإجابة: حتى يُعَذَّب بهما أتباعهما وعُبَّادهما، ففي الصحيحين: من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي منادٍ يوم القيامة: لتَتْبع كلُّ أمة ما كانت تعبد، فيَتْبع أهلُ الصليب الصليبَ، ويَتْبع أهلُ الأوثان الأوثانَ، ويَتْبع كلُّ قوم آلهتَهم التي كانوا يعبدونها) ، وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي منادٍ يوم القيامة: لتَتْبع كلُّ أمة ما كانت تعبد، فيَتْبع مَن كان يعبد الشمس الشمسَ، ويَتْبع مَن كان يعبد القمر القمرَ، ويَتْبع مَن كان يعبد الطواغيت الطواغيتَ) ، إذاً: فتكون الشمس في النار حتى يُعَذَّب بها عُبَّادها كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22-23] ، وكما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] ، هذا قول. وورد عن أبي بن كعب رضي الله عنه بإسناد موقوف عليه، وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس! أي: اختفى ضوء الشمس فجأة- فبينما هم على ذلك إذ تناثرت النجوم! فبينما هم على ذلك إذ سقطت الجبال، وفزعت الجن إلى الإنس، وفزعت الإنس إلى الجن! وبينما هم على ذلك إذ خرجت الوحوش! وقالت الجن: نحن نأتيكم بالخبر، فذهبت الجن تلتمس الأخبار من البحر، فإذا البحر قد أُجِّج ناراً! -أي: اشتعل البحر ناراً- فبَيْنا هم على ذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السفلى ... ) والأثر طويل، وهو موقوف على أبي بن كعب رضي الله عنه، وإسناده إليه حسن. {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2] أي: تساقطت، وقال فريق: تناثرت، وقال فريق: الانكدار: من الكدرة، أي: كدرة غطت على ضوئها حتى ذهب ضوءُها. {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] أي: أزيحت عن أماكنها. وهذه كلها أحوال الساعة، الشمس يذهب ضوءُها ويُرمى بها، والنجوم تتساقط على الأرض، فقول بعض الفلكيين: كوكب كذا يريد أن يسقط على الأرض، فهذا من الخزعبلات، وإذا نزل الكوكب على الأرض فإن الأرض تكون قد انتهت، وقامت الساعة؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] ، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] .

تفسير قوله تعالى: (وإذا العشار عطلت.

تفسير قوله تعالى: (وإذا العشار عطلت.) {وَإِذَا الْعِشَارُ} [التكوير:4] : العشار هي: النوق الحوامل في شهرها العاشر، وقد كانت العرب تحتفي بها وتهتم بها، وهذه الإبل من أنفس أموال العرب، ولذلك يضرب بها المثل كثيراً كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَأَن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النَّعم) ، وقوله: (لَأَن يجلس أحدكم في المسجد يقرأ آية، خير له من ناقة) ؛ فالإبل أو النوق كانت من أنفس الأموال عند العرب، فيُمَثَّل بها، يقول سبحانه: {وَإِذَا الْعِشَارُ} : الإبل الحوامل، {عُطِّلَتْ} يعني: أهملها أهلها، فلم يلتفتوا لها؛ وذلك لانشغالهم بما هو أدهى وما هو أمر، فانشغلوا بأحوال الساعة عن أنفس الأموال وأحب الأموال إليهم وهي العشار من الإبل. {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] : (حشرت) : للعلماء فيها قولان مشهوران: القول الأول: أن (حُشرت) معناها: جُمعت، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي: جُمعت الوحوش، فالحشر هو الجمع، ومنه أطلق على يوم القيامة: يوم الحشر. القول الثاني: أن (حُشرت) معناها: ماتت. والقول الأول تشهد له الأدلة، والقائلون بالقول الثاني قالوا: إن الوحوش لا حساب عليها، وإنما تموت ولا يبقى لها أثر، والدليل على صحة القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) أي: الشاة التي ليس لها قرون تقتص من الشاة التي لها قرون!! وقال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] أي: يُجمعون، وهذا هو القول المختار في (حُشرت) أي: جُمعت.

تفسير قوله تعالى: (وإذا البحار سجرت.

تفسير قوله تعالى: (وإذا البحار سجرت.) {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] : للعلماء في تسجير البحار أقوال: القول الأول: ما تقدم عن أبي: أن {سُجِّرَتْ} : اشتعلت ناراً، فالبحار التي أمامكم تتحوَّل إلى نار، وقد ورد أثر عن علي أنه سأل يهودياً: (أين النار؟ فأشار إلى البحر وقال: هذا، فقال علي رضي الله عنه: ما أراه إلا صادقاً؛ لأن الله يقول: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] ) ، أي: الملتهب، ومنه ما في قصة كعب بن مالك لما أتته رسالة من أحد ملوك غسان قبل توبة الله عنه، قال: (فسجرتُها في التنور) ، سجرتُها أي: حرقتها في التنور، وألقيت بها كي تحترق في التنور، ومن العلماء من قال: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} باعتبار ما سيئول إليه أمر البحر، إذ هو الآن المصدر للماء، وبعد ذلك سيكون مصدراً للنيران، فيكون ناراً، وقد ورد في الباب أثر: (إن تحت البحر ناراً تتأجج) لكن يُنظر فيه. القول الثاني: (سُجرت) أي: اختلط عذبها بمالحها، فالبحار الآن بينها وبين الماء العذب برزخ كما قال سبحانه: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19-20] ، فمن أشراط الساعة على هذا القول أن يختلط العذب بالمالح. القول الثالث: (سُجرت) بمعنى: فُجرت، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] . القول الرابع: بمعنى: فاضت. وكل الأقوال السابقة محتمَلة. {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] : تزويج النفوس معناه: اقتران النفوس، فكل نفس تقرن بأشكالها، يقرن أهل الكفر بعضهم ببعض على حسب طوائفهم، وقد ذكرنا أنه يتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، ويتبع من كان يعبد الصليب الصليب، ويتبع من كان يعبد وثناً الوثن الذي كان يعبده، فقوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي: قرنت بأشكالها وأمثالها وأضرابها، كما قال سبحانه عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] ، فكل طائفة تقرن بأشكالها، وهذا هو المراد بالتزويج، ومن العلماء من قال: زوجت كل نفس بقرينها وشيطانها كما قال سبحانه: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان:13] ، من العلماء من قال: {مُقَرَّنِينَ} أي: كل شيطان مع قرينه من الإنس الذي كان في الدنيا قرينه، وهذا قولٌ ثانٍ، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا الموءودة سئلت)

تفسير قوله تعالى: (وإذا الموءودة سئلت) {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] : الموءودة هي: المدفونة حيةً في الصغر، وكان أهل الجاهلية يئدون البنات خشية العار على زعمهم، ويقولون: إنه لا نفع في البنت -عياذاً بالله من ذلك- روى البخاري في الأدب المفرد ما حاصله: أن رجلاً جاء إلى ابن عباس وقال: يا ابن عباس! إني أذنبت ذنباً عظيماً وجئت أستفتيك، قال: ما هو؟ قال: كانت لي امرأة فولدت لي جاريةً حسناء جميلة، فأردت أن أئدها عند مولدها، ثم تركتها حتى شبت شباباً حسناً، وهي جميلة فقلت لأمها ذات يوم: ألبسيها ثوباً جميلاً، فألبستها ثوباً جميلاً؛ لكنها رأت في وجهي الشر، فاستحلفتني ألَّا أفعل بها شيئاً مكروهاً، فوعدتها خيراً ثم أخذتها وانصرفت، فلما انصرفت وابتعدت عن عين أمها جئت إلى شفير بئر لأقذفها في البئر، فقالت: يا أبي! -وتعلقت بثيابي- ماذا تريد أن تفعل بي؟ فأخذتني الشفقة فتركتها، ثم تذكرت العار، فقمت لأقذفها، فتعلقت بي ثانيةً وقالت: يا أبتِ! ماذا تريد أن تصنع بي؟ فتركتها، ثم تحاملت على نفسي وقذفتها في البئر وأتبعتها الحجارة، فهل لي من توبة؟! إلخ الأثر، فكان أهل الجاهلية يئدون البنات، كما قال سبحانه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] أي: ممتلئاً غماً وحزناً وهماً {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59] ، وكان أحدهم يعتزل امرأته الشهور إذا ولدت بنتاً، حتى قالت امرأة شعراً: ما لـ أبي حمزة لا يأتينا؟! حزينَ ألَّا نلد البنينا! وهل لنا من أمرنا ما شينا؟! إنما نحن وعاء لما أُعطينا فكان دأبهم هجران المرأة إذا ولدت بنتاً، وللأسف هذا موجود في أوساط المسلمين الآن، حتى بين بعض الملتحين، والله يقول: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء:11] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا، كنت أنا وهو كهاتين، وفرَّج النبي صلى الله عليه وسلم بين إصبعيه) ، وأتت امرأة إلى عائشة ومعها ابنتان لها تسألها الصدقة، فلم تجد عائشة إلا تمرة، فأعطتها إياها، فقسمت المرأة التمرة بين ابنتيها، فأخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (إن الله قد أوجب لها بذلك الجنة!) . فإن قال قائل: إذا كانوا يئدون البنات فمن أين كانوا يتزوجون؟ فالإجابة: منهم من كان لا يئد البنات، وكان في قلبه بعض الرحمة، كـ زيد بن عمرو بن نفيل وقد كان مسلماً، وبذلك افتخر الفرزدق على جرير فقال: وجدي الذي أحيا الويئدة ومنع الوئيد فلم يوأد فكان يذهب إلى الرجل الذي ولدت امرأته بنتاً فيقول له: أعطني البنت، فيأخذها ويربيها، فإذا كبرت جاء بها إلى أبيها وقال: إن شئت أن تأخذ ابنتك أخذتَها، وإن شئت أن تزوجها زوجتَها، فمثل هذا يُفتخر به. كلنا يعلم أن فاطمة بنت رسول الله خيرٌ من ملء الأرض من مثل ابن نوح، وهي أنثى وهو ذكر، لكنه من الكافرين، وهي سيدة نساء أهل الجنة، وكم من ذكر أرهق أبويه طغياناً وكفراً! ولماذا تُسأل الموءودة؟ الموءودة تُسأل لتبكيت والدها، فتُسأل الموءودة: لماذا وُئدتِ يا موءودة؟! وليس المراد توجيه السؤال إلى الموءودة بالدرجة الأولى؛ ولكنها تُسأل لتبكيت من وأدها، فيتوجه اللوم والتعيير إليه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] وليس المراد بهذا السؤال عيسى بالدرجة الأولى، فالله يعلم أنه ما قال ذلك، {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40-41] ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} [الفرقان:17-18]-غمرتهم بالنعم حتى كفروا- {حتى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان:18] فيرجع الخطاب إلى الكفار: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان:19] يا أيها الكفرة! هذه آلهتكم التي عبدتموها كذبتكم {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} [الفرقان:19]-أي: صرف العذاب- {وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان:19] . فالموءودة تُسأل لتبكيت القاتل، ومن العلماء من قرأها: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سَألَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] قراءة شاذة، وتفسيره مبني على هذه القراءة؛ لكنه وجه ضعيف، ويشهد له حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي المقتول يوم القيامة، وهو يحمل رأسه آخذاً بتلابيب قاتله فيقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني؟) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا الصحف نشرت.

تفسير قوله تعالى: (وإذا الصحف نشرت.) {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10] : تطايرت الصحف، والمراد بالصحف: صحف الأعمال، (نُشِرَتْ} أي: فُتحت، {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} [الإسراء:13] أي: مفتوحاً، فصحيفة عملك -يا ابن آدم- مطوية الآن، تعمل العمل ولا يراك إلا الله، الصحف المطوية المستورة على ما فيها تتطاير يوم القيامة وتُفتح كما في حديث: (سيبعث الله رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ثم ينشر له تسعةً وتسعين سجلاً) ، فـ {نُشِرَتْ} أي: فُتحت، والمراد بـ {الصُّحُفُ} : صحف الأعمال، و {نُشِرَتْ} أي: فُتحت. {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11] : من الكشط أي: المحو والإزالة، السماء تُزال وتُكشط، ومن العلماء من قال: جُذبت وأزيلت عن مكانها، كما قال تعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:16-17] وقد أسلفنا أن الملائكة التي عليها تنزل وتقف على قطعها، فإن الأرجاء هي: القطع المتساقطة من السماء، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] . {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير:12] : أُوقد عليها حتى اشتعلت والتهبت. {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:13] أي: قُربت الجنة وأدنيت، ومنه: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، ومنه قولك: فلان يتزلف إلى فلان، أي: يحاول أن يفعل الشيء الذي يتقرب به إليه. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] : كل نفس تعلم الأعمال التي اكتسبتها واقترفتها في دنياها، كما قال سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] .

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس.

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس.) ثم قال الله سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] : الخنس هي: النجوم التي تخنس، ومنه قول أبي هريرة: (لقيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب فانخنست منه) أي: اختفيت منه، وتجنبته. الحديث. فأطلق على النجوم: (الخنس) لأنها تخنس، تختفي أو ترجع إلى أماكنها. {الْجَوَارِ} [التكوير:16] هي: التي تجري. {الْكُنَّسِ} [التكوير:16] أي: التي تغيب وتستتر في بيوتها. {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] : من العلماء من قال: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي: أدبر وذهب، وهذا القائل وضع الآيتين مقابل آيتين أخريين من سورة المدثر: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:33-34] ، فهنا: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:17-18] . فـ {أَسْفَرَ} بمعنى: تنفس، إذاً: {أَدْبَرَ} بمعنى: {عَسْعَسَ} . وهذا القول قول قوي، ومن العلماء من قال: {عَسْعَسَ} معناها: دخل وأقبل، واستدل أن الله أقسم بذلك فقال: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] فأقسم بالنهار، وأقسم بالليل إذا غطى وأظلم، فهي محتملة للمعنيين. {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:18] : فكلها آيات دالة على قدرة الله سبحانه وتعالى، وإذا حاججت ملحداً فلياحجج بمثل هذه الأدلة، كما حاجج إبراهيمُ الجبار فقال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة:258] إن كنت تزعم أنك إله {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] .

تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم.

تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم.) {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19] : من هو هذا الرسول الكريم؟ جماهير المفسرين على أن المراد به: جبريل صلى الله عليه وسلم، وسياق الآيات يدل على ذلك، {ذِي قُوَّةٍ} [التكوير:20] : أي: جبريل قوي، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20] : له مكانة عند الله سبحانه وتعالى. فجبريل ذو قوة، قال الله سبحانه وتعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6] ، فالمرة هي: القوة، كما في حديث: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) ، فهو ذو قوة وذو مرة، وجبريل صلى الله عليه وسلم له ستمائة جناح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت جبريل على صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح) ، وتقدمت نماذج من قوة جبريل صلى الله عليه وسلم. {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} : أي: له مكانة عند الله سبحانه وتعالى، والله يقول: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19-20] يعني: له مكانة عند الله، والدليل على أن لجبريل مكانةً عند الله سبحانه وتعالى: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * {مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:97-98] ثم نص على جبريل {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] . ومن الأدلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين-: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريلَ: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريلُ: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه) وهذا يدل على مكانة جبريل صلى الله عليه وسلم عند الله عزَّ وجلَّ. {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} قال الله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، فـ {مَكِينٍ} أي: ذو مكانة. {مُطَاعٍ} : في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة. {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: مطاع هناك. {ثَمَّ} أي: هناك. (مُطَاعٍ ثَمَّ) أي: جبريل -عليه الصلاة والسلام- مطاع في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة، كما في الحديث أنه يقول: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فتحبه الملائكة) . {أَمِينٍ} [التكوير:21] : أمين على الوحي، لا كما يقول الشيعة السفلة القذَرة: إن جبريل خان ونزل بالرسالة على محمد عليه الصلاة والسلام، وكان اللائق أن تنزل على علي، ويضربون خدودهم ويشقون جيوبهم قائلين: خان الأمين، خان الأمين، وإنه لعجبٌ أن يوصف الأمين بأنه خائن! كيف يلتئم هذا؟! فرب العزة يقول: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193-195] ، فمن خزعبلات الشيعة هذه المقولات الكاذبة التي لا تروج إلا على سفيه مثلهم. واعلموا أن الشيعة يمارسون أعمالهم في أوساط ضالة، مثل جماعة التكفير والهجرة التي لا تقر بتراث السلف وتقول: الصحابة رجال ونحن رجال، فيعبثون بهم كما شاءوا، أو يبثون أفكارهم في اليساريين الذين يطعنون في الكتاب والسنة أصلاً، إذ هم أهل شك وزندقة مثلهم، وهذا الصنف الثاني يسمونهم الثوريين، والشيعة تحمل شعار الثورة، أو في الأوساط المتصوفة. وهذه خطط أعمالهم، فيعملون في ثلاثة أوساط: الوسط الصوفي، تحت ستار محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. الوسط البدعي الذي لا يقر بالتراث ولا يقر بـ البخاري ولا بـ مسلم، ويقول: نحن رجال والصحابة رجال، وينزل نفسه منزلة الصحابة، وهم أوساط التكفير والهجرة. الوسط اليساري الشيوعي الذي تتبناه جريدة: روز اليوسف، ونحوها، فمثل هذه الأوساط يعبث فيها الشيعة. قال سبحانه وتعالى: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير:20-21] وأمين على الوحي، كما قال الله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193-195] وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل:102] فالقرآن محفوظ، نزل به أمين -وهو جبريل- على أمين وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لا يشبه الباطل، ولا يستطيع الشيطان المساس به، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت:41-42] أي: الشيطان على قول، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .

تفسير قوله تعالى: (وما صاحبكم بمجنون.

تفسير قوله تعالى: (وما صاحبكم بمجنون.) ثم جاء الكلام على صاحبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] : يا قرشيون! يا من اتهمتم نبيكم أنه مجنون! {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} بل قد نزل بالوحي أمين على نبي عاقل بل هو أعقل الخلق عليه الصلاة والسلام، {وَمَا صَاحِبُكُمْ} انتقل الخطاب إلى المشركين، وصاحبهم هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كما ادعيتم. {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] من رأى مَن؟ النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه الصلاة والسلام. وما معنى (الأفق) ؟ وما معنى (المبين) ؟ (الأفق) هو: الاتجاه المستعرض المرتفع نحو مشرق الشمس. و (المبين) هو: المظهِر والموضح للأشياء، فالمكان المرتفع المستعرض اتجاه شروق الشمس هو: الأفق، فـ (الأفق المبين) أي: الأفق المظهِر والموضِّح للأشياء. فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح، ورآه بالأفق في وقت تبين فيه الأشياء وتتضح فيه الأشياء؛ لأن هذا شأن أهل الخير، لا يأتيهم الخير في الظلام كأهل الشر والشياطين، نحو ما أورده بعض العلماء عن مسيلمة أنه سئل: كيف يأتيك الوحي -وهو وحي الشياطين-؟ قال: في ليلة ظلماء شديدة الظلمة؛ لأن الشياطين في الظلام تنتشر وتمارس كل ما تخفيه من تلبيس، ولهذا يستعيذ أهل الإسلام من شر الغاسق إذا وقب وهو: الليل إذا دخل أو القمر إذا دخل، والقمر من علامات دخول الليل؛ لأنه في الليل تبدأ الشياطين بأعمالها، ويبدأ شياطين الإنس وشياطين الجن في الانتشار ليلاً؛ ولذلك نادراً أن تجد أهل الشر والفساد يرتكبون حادثةً في الضحى؛ إنما الجرائم والسطو واللصوصية والاغتيالات والقتل أغلبه يكون في الليل، ففي الضحى الشياطين تكاد تبتعد؛ لأن عملها في الظلام، ورب العزة قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] والفلق المراد به: الصبح، {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:2-3] لأن وقت الغاسق إذا وقب تبدأ الشياطين بالانتشار كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ) ، ومن ثَمَّ لما قال فرعون لموسى: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوىً * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:58-59] لأنه ستكون الأمور فيه واضحةً، ليس فيها تلبيسات ولا فيها شعوذة ولا فيها سحر ولا أي شيء، ولذلك أي ساحر وأي دجال يبدأ نشاطه في الليل، فتذهب -مثلاً- إلى المشعوذين الذين في كفر الأمير عبد الله بن سلام وهو مكان مظلم، ويأتون ببعض الخيالات والأوهام ليخدعوك بها، فيقول لك: انظر! فرس سيدنا علي يجري، وسيدنا علي راكب عليه! ويخدعون الناس السذج والعياذ بالله. فرب العزة يقول: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي: رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه الصلاة والسلام بالأفق المظهِر للأشياء الموضِّح لها، فهو رأى رؤيا لا التباس فيها، ولا شك فيها، ولا يمكن لأحد أن يتشكل بصورته أو يقول: لعلك كنت في خيال، أو رأيت عفريتاً، أو كذا وكذا، لا أبداً، إنما {رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} ، رآه رؤية واضحة صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وما هو على الغيب بظنين.

تفسير قوله تعالى: (وما هو على الغيب بظنين.) {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] : كثير من المفسرين قالوا: إنه محمد عليه الصلاة والسلام. وما هو (الغيب) ؟ قالوا: الغيب كل ما غاب عنا مما أمرنا أن نؤمن به، كالإيمان بالملائكة، والجنة والنار، وكل ما غاب عنا يدخل في عداد الغيب. فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس {عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} . ويُستنبط من هذه الآية فائدة للدعاة إلى الله، فنبينا محمد ما هو {عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) ومن العلماء من قال: (الضنين) : البخيل، يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام ليس ببخيل في تبليغه العلم الذي أرسله الله سبحانه وتعالى به، وأنت -مثلاً- كداعي أمة يمكن أن تكون لك معلومة لا تريد أن تظهرها؛ لأنك إذا أظهرتها ستتساوى مع الناس في العلم بها، ولا يكون لك فضل عليهم، فتحب أن تسرها في نفسك ولا تتكلم بها إلا عند موقف تظهر فيه -عياذاً بالله- علمك لتري الناس أنك أفضلهم، أما الرسول فليس هكذا أبداً، فما هو على الغيب ببخيل، بل يخبر بكل ما جاءه عن الله سبحانه وتعالى، فجدير بكل حامل علم ألَّا يبخل بعلمه، ولا يضن بالعلم، فكما أنك تريد أن تصل إلى الجنة، فافتح لهم أبواب الخير التي توصلهم إلى الجنة. فإذا سئلت: ما هو وجه الاستفادة الدعوية من قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ؟ تقول: إنه ينبغي على الداعي إلى الله ألَّا يكون بخيلاً في تعليم الناس دينهم، وتعليم الناس ما ينفعهم، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان بهذه المثابة، ليس بضنين على الغيب. والقول الآخر في قوله: {بِضَنِينٍ} أي: بمتهم، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمتهم بتزوير أو تحريف ما ينقله عن الله سبحانه وتعالى. القول الأول وجهه من قولك: ضن فلان بالشيء، أي: بخل به، وضن فلان أن يعطيني كذا أي: بخل أن يعطيني كذا وكذا. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] : تنقُّل من ضمير إلى ضمير إلى ضمير، فالله سبحانه وتعالى ذكر جبريل بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ، ثم قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ} انتقل الخطاب إلى القرآن، وهذه الانتقالات من العلماء من يسميها التلوين في الخطاب، أي: التغيير فيه، وهي تجذب نظر القارئ ونظر المتعلم ونظر المتدبر لكتاب الله سبحانه وتعالى. قال الله جل ذكره: {وَمَا هُوَ} أي: وما القرآن، {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} . {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26] : فكر يا مغفل! أنت يا جاهل! أين ذهب عقلك؟! {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} : بعقولكم؟! بعضهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: كاهن، وبعضهم يقول: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] ، وبعضهم يقول: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4] ، وبعضهم يقول: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الإسراء:47] . عقولهم ناشفة!! {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الإسراء:48] . فرب العزة يقول: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} : أي: أين تذهب بكم عقولكم عن هذا الكتاب؟

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين.

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين.) {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27] أي: ما هذا القرآن إلا ذكر للعالمين. {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] : لمن شاء أن يلتمس طريق الهداية. ثم تُختم السورة بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] : وهذا الختام ختام قاسٍ ولاذع على القدرية الذين يقولون: لا قدر، والشخص يختار لنفسه طريق الهداية إن شاء أو الغواية إن شاء، وهذا قول مردود، فإن الله قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:100] ، وقال أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] ، وفي كل صلاة نصليها نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5] ، فرب العزة يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية إزالة النجاسة من الثوب إذا لم يمكن تحديد موضعها

كيفية إزالة النجاسة من الثوب إذا لم يمكن تحديد موضعها Q قد يتعرض الفراش الذي أنام عليه إلى بعض آثار الاحتلام ولا أستطيع أن أحدد مكان النجاسة، وكذلك ملبسي الداخلي ببعض آثار المذي ولا أستطيع تحديد مكان النجاسة، فكيف يكون التطهر؟ A إذا كان المَنِي يابساً فافركه، افرك المكان؛ لأنه يُرى، وإذا تأكدت أن هناك منياً لكن لا تستطيع تحديد مكانه فاغسله، والغالب أنه يُحدد لأنه يُرى أثره، لكن خذ بالاحتياط - {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]- فاغسله، والمَنِي عند عدد من أهل العلم طاهر؛ لقول عائشة: (كنت أفرك المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم) ، والله أعلم، أما المذي فيجب أن يُغسل؛ لأن المذي نجس، والله سبحانه أعلم.

هل بول النبي نجس؟

هل بول النبي نجس؟ Q سمعت أحد الناس يقول: إن الدم نجس إلا دم الرسول صلى الله عليه وسلم وبوله وغائطه، وقال: وقد شربت امرأة بول الرسول صلى الله عليه وسلم! فما رأيكم؟ A نعم، شربت امرأة بول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكنها -على ما يظهر من سياق القصة- ما تعمدت شرب البول، وإنما وجدت تحت السرير إناءً كان يبول فيه الرسول، فشربت منه ظناً أنه ماء، وهذه المرأة هي: أم أيمن رضي الله عنها، لكن هل بول الرسول غير نجس؟ لا، بل بوله نجس، وكون امرأة شربت بول الرسول لا يدل على طهارة بول الرسول، فإن الله عزَّ وجلَّ يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] ، فالرسول بشر كسائر البشر إلا ما استُثني بالدليل، مثلاً: (تنام عيناي، ولا ينام قلبي) ، وقوله: (إني لست كهيئتكم، إني أواصل فيطعمني ربي ويسقيني) ، فهو بشر إلَّا ما استثني بالدليل، فنصير مع الدليل، أما الباقي فالرسول بشر صلوات الله وسلامه عليه.

وصية حامل مفاتيح المسجد النبوي

وصية حامل مفاتيح المسجد النبوي Q هذه الوصية التي من المدينة المنورة، من الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم الرسول! هل هي صحيحة؟ A كل سنة تطلع هذه الورقة! ويقول لك: لابد أن توزعها، والذي لا يوزعها بيته سيُخرب أو يصاب ببلية، نحن نقطعها أمام الأشهاد، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] .

تلقين الخطيب للمستمعين التوبة

تلقين الخطيب للمستمعين التوبة Q هل يجوز أن يقول الإمام في خطبة الجمعة: قولوا جميعاً: تبنا إلى الله، وعزمنا على ألَّا نعود إلى ارتكاب المعاصي والذنوب أبداً، وندمنا على ما فعلنا؟ A هذه اللهجة يكررها الناس في خطب الجُمع، وللأسف أن بعض الذين يقولونها أصحاب لحىً، فيظن الناس أن هذه سنة، وهي بعيدة عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم أن الرسول قالها قط، على الإطلاق، وديننا دين الإسلام فيه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] . تفشى في أذهان بعض الناس أنه إذا أذنب أحد ذنباً يقول: أذهب إلى الشيخ يتوِّبني!! من الذي قال لك: الشيخ يتوِّبك؟! باب التوبة مفتوح بينك وبين الله سبحانه وتعالى، هذه الخرافات اتركها وراء ظهرك، واعلم أن ربك قريب سبحانه وتعالى كما قال عن نفسه ذلك، أما صيغ التتويب الجماعي: تبنا إلى الله تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا وندمنا على ما فعلنا، وبرئنا وبرئنا، كل هذه من البدع، الله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ، ومعنى: {الْمُعْتَدِينَ} هنا هم المعتدون في الدعاء. والاعتداء له صور: فقد يكون الاعتداء بالتحليل والتحريم: قال الله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87] ، والمعتدون هنا هم المعتدون في التحليل والتحريم، فهناك: معتدون في التحليل والتحريم. ومعتدون في الدعاء، {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، هم المعتدون في الدعاء.

هل قنوت الفجر من الاعتداء في الدعاء؟

هل قنوت الفجر من الاعتداء في الدعاء؟ Q هل قنوت الفجر من الاعتداء في الدعاء؟ A لا، وردت في ذلك نصوص مرفوعة، فالمسألة محل اجتهادات فقهية، فقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر، فمن الصحابة من رأى مشروعية الاستمرار عليه، ومنهم من رأى أن الشخص لا يستمر عليه، فهي مسألة اجتهادية، ولا يدخل ذلك في الاعتداء في الدعاء.

حكم قنوت الفجر

حكم قنوت الفجر Q ما قولكم في القنوت في الفجر؟ A نحن فصلنا القول فيه مراراً، فإن العلماء لهم فيه ثلاثة أقوال، ومن النصائح لطالب العلم: احرص على أن تكون مستمعاً أكثر منك متكلماً، إذا كان المتكلم يعرف أكثر منك قليلاً، فالعلماء لهم ثلاثة أقوال أو أربعة أقوال في هذه المسألة: قولٌ بأن القنوت في صلاة الفجر مستحب، وهو قول الإمام الشافعي وأصحابه. وبعضهم أوصله إلى الوجوب؛ لحديث البراء: (كان النبي يقنت في الفجر) . وبعضهم قال: لا يجوز، والله أعلم. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة الانفطار

تفسير سورة الانفطار يصور الله سبحانه أهوال يوم القيامة في أول سورة الانفطار، وأن هذا الكون يتغير ويتحول إلى شيء آخر، وعند ذلك يعلم العبد مجيء يوم القيامة، وموعد الحساب على كل صغيرة وكبيرة، وما يئول إليه حال الناس من انقسامهم إلى فسطاطين: فسطاط نعيم وهم الأبرار، وفسطاط جحيم وهم الفجار من الكفرة والمنافقين، ثم يكون الأمر بيد الله سبحانه، فمن شاء رحمه، ومن شاء عذبه.

تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت.

تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت.) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فنتناول سورة الانفطار والمطففين بالتفسير، والله المستعان: يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1] من العلماء من قدر محذوفاً وهو: واذكر أيها الإنسان إذا السماء انفطرت، أي: واذكر أيها الإنسان وقت انفطار السماء. ومعنى انفطرت أي: تشققت، ومنه قول الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قام يصلي من الليل حتى تفطرت قدماه) أي: تشققت قدماه، وقوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل:18] أي: متشقق. فالانفطار المراد به: التشقق، فـ {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} أي: إذا السماء تشققت، ولماذا تتشقق السماء؟ قال بعض أهل العلم: تتشقق السماء لنزول الملائكة، كما قال الله سبحانه: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25] فلا تتشقق حتى تنزل الملائكة منها، كما قال سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210] فهذا هو سبب انفطار السماء عند بعض العلماء. وبعضهم قال: انفطارها لأمر الله، ومن علامات الساعة الكبرى. {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:2] انتثرت معناها: تساقطت، يعني: السماء تتشقق، والكواكب يرمى بها وتتساقط على الأرض. فتخيل أن كوكباً مثلاً في حجم الأرض أو كما يقول المختصون بهذه الأمور الآن أضعاف أضعاف حجم الأرض كلها تنتثر! {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:2] . {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] من العلماء من قال: (فجرت) أي: ملئت وفاضت. ومنهم من قال: إن معنى (فجرت) : اختلط عذبها بمالحها كما أسلفنا في سورة التكوير أن البحر بينه وبين العذب برزخ كما قال تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] فإذا كان يوم القيامة اختلط العذب بالمالح والمالح بالعذب. {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:4] أي: أثيرت وقلبت واستخرج من فيها.

تفسير قوله تعالى: (علمت نفس ما قدمت وأخرت.

تفسير قوله تعالى: (علمت نفس ما قدمت وأخرت.) {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] أي: إذا انفطرت السماء، وانتثرت الكواكب، وفجرت البحار، وبعثرت القبور، في هذه الأثناء كل نفس تعلم ما قدمته. وما أخرته. (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما هو الذي قدم؟ وما هو الذي أخر؟ من أهل العلم من قال: إن الذي قدم هو العمل الصالح، والذي أخر هو العمل السيئ. ومنهم من قال: إن الذي قدم وأخر هو العمل الصالح؛ لكن العمل الصالح الذي قدم هو العمل الصالح الذي عمله العبد في دنياه، أما الذي أخر فهو العمل الصالح الذي يلحق العبد بعد موته من سنن حسنة سنها: من مساجد لله بناها، ومن أفعال بر يصله ثوابها بعد موته كعلم نافع، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له. فهذان قولان مشهوران في تفسير قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] : الأول: أن الذي قدم هو العمل الصالح، والذي أخر هو العمل السيئ. والثاني: أن الذي قدم هو العمل الصالح الذي عمله الشخص في حياته، والذي أخر هو العمل الصالح الذي يلحق الشخص بعد مماته. {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] غرك معناها: خدعك ومناك وسول لك، فالمعنى: يا أيها الإنسان! من الذي خدعك وحملك على معصية الله سبحانه وتعالى؟! يا أيها الإنسان! ما هو الذي سول لك معصية الله عز وجل؟! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ما هو الذي غر الإنسان بربه الكريم؟ لأهل العلم ثلاثة أقوال في هذا: القول الأول: أن الذي غره بربه هو الشيطان كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] وثم أقوال أخر: أن الذي غره هو الحياة الدنيا بما فيها من متاع وأماني وملاهٍ هذا قول. القول الثاني: وهو المنقول عن الفضيل بن عياض وسئل: يا فضيل! لو وقفت بين يدي مولاك سبحانه وتعالى وسألك: عبدي ما غرك بي؟ ماذا كنت تقول؟ قال: أقول: غرتني ستورك المرخاة، أي: سترك علي غرني. القول الثالث: أن الذي غرهم هو عفوه عنهم سبحانه وتعالى. القول الرابع: أن الذي غرهم هو النعيم الذي غمرهم الله فيه، فغمروا في النعيم حتى نسوا لقاء الله سبحانه وتعالى كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:17-18] يعني: غمرتهم في النعيم حتى أنساهم هذا النعيم الذكر؛ فكانوا قوماً هلكى، لكن الذي عليه الأكثرون أن الذي غرهم هو الشيطان، والثاني: أن الذي غرهم هو عفوه سبحانه وتعالى، وثم قول ثالث: ما غرك بربك الكريم؟ فيقول القائل: غرني كرم الكريم. ومن العلماء من قال: إن هذه الإجابة يقولها أهل الإيمان إذا سئلوا: ما غركم بالله؟ فيقولون: غرنا كرم الكريم. هذه أوجه كلها مذكورة في تفسير قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] . إن قال قائل: لماذا أُتي بلفظ (الكريم) في هذا الموضع والموقف موقف عتاب؟ فالإجابة: أن الشخص في الحياة الدنيا إذا كان هناك شخص يكثر من إعطائه وإكرامه، وإغداق المال عليه، وإغداق النعم عليه، فجدير بهذا المعطى إذا كان سليم الفطرة على الأقل أن يستحي من هذا الذي أعطاه ولا يعصي له أمراً، فأتي بصفة الكريم توبيخاً للعبد الذي غُر بربه سبحانه وتعالى، كيف اغتررت بربك وهو كريم قد أغدق عليك من كل أنواع النعم؟ صحة أنعم بها عليك! مال أنعم به عليك! إيمان أنعم به عليك! أولاد أنعم بهم عليك! نعمٌ لا يحصيها إلا هو! سمع وبصر وفؤاد وأرجل وأيد! نعم لا يحصيها إلا هو، فهذا الكريم الذي أنعم عليك بهذا جدير بأن يستحيا منه، فتحمل على نوع توبيخ للمغرور الذي غره الشيطان. {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:7] أما عدلك؟ أي: جعلك معتدل القامة، فجل الدواب من حيوان وطيور وجهها في الأرض دائماً، بينما أنت سوي قائم، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] . (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) جعلك سوياً سليم الأعضاء، لم يجعل لك يداً طويلة والأخرى قصيرة، ولو شاء لفعل ذلك، لم يجعل لك عيناً ناتئة وأخرى داخلة، لم يجعل لك أذناً طويلة وأخرى قصيرة، لم يجعل لك رجلاً طويلة وأخرى قصيرة، لم يجعل لك أصبعاً يفوق الأصابع الأخرى بمراحل، ولكنها بنان خلقها الله على حال واحدة نعمة منه وفضل، فقد سواك سبحانه وتعالى. {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] فلو شاء لركبك جميلاً وصورك جميلاً، ولو شاء لصورك دميماً لو شاء صورك قصيراً أو طويلاً أو نحيفاً أو سميناً لو شاء جعل شعر رأسك قططاً أو جعله سبطاً، هو الذي يصور سبحانه وتعالى كيف يشاء، لو شاء جعلك شبيهاً بأعمامك، ولو شاء جعلك شبيهاً بأخوالك، ولو شاء لنزعك عرق إلى جد بعيد، هو الذي يفعل ما يشاء لو شاء لجعلك ذكياً، أو غبياً لو شاء لجعلك عاقلاً أو مجنوناً، هو يختار سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين.

تفسير قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين.) {كَلَّا} [الانفطار:9] أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث، بل هناك بعث ولكنكم تكذبون بالدين: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الانفطار:9] أي: بالجزاء وبالثواب وبالعقاب، فالدين يطلق على الجزاء: (كما تدين تدان) يطلق على الحساب: (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) . {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10] حفظة يحفظونكم بأمر الله كما قال الله سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] يحفظون عليك أعمالك ويحصونها عليك: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] لماذا أتي بصفة الكرام للملائكة؟ لأن الكريم يستحيا منه، فمثلاً: كثير من الفجار إذا رأوا أهل الصلاح استحيوا أن يفعلوا أمامهم الموبقات، واستتروا نوعاً من التستر، أما إذا رأوا فاجراً مثلهم فلا يتورع الفاجر أن يفعل الموبقات أمام فاجر مثله، لا يتورع أن يسب الدين، أو أن يفعل أي شيء من المحرمات، لكن إذا أتى رجل صالح عليه علامات الوقار ويعرفه هذا الفاجر يستحيي من التلفظ بشيء خارم أمام هذا الشخص. فالملائكة التي عليكم تراقبكم اعلموا أنهم كرام ويكتبون: {كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11-12] أي: ويسجلونه.

تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم.

تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم.) {إِنَّ الأَبْرَارَ} [الانفطار:13] أي: المطيعين {لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] ، وفي المقابل: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الانفطار:14-15] أي: يدخلونها مصليين بحرها، أي: متألمين بحرها. {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار:16] فيها قولان: أحدهما: أنهم إذا دخلوا النار لن يغيبوا عنها طرفة عين، بل سيلازمونها دائماً، وليس هناك راحة ولا إجازة ولا عطلة يتعطلون فيها عن النار، بل لن يغيبوا عنها أبداً: (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) يعني: إذا دخلوها لن يخرجوا منها، ولن تفتر ولن تخبو عليهم أبداً ولن يفارقوها. قول آخر (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) أي: أنهم لابد وأنهم سيردون عليها. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:17] لتهويل أمر يوم الدين وتعظيم شأنه جاءت (ما) الاستفهامية {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} . {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:18] كرر الاستفهام لتعظيم شأن يوم الدين. {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19] هل الآية على إطلاقها أو من الممكن أن نفساً تنفع نفساً بإذن الله؟ الظاهر الأخير؛ فإن الله قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال يوم القيامة: أدخلوا هؤلاء الصغار الجنة، فيمتنع الصغار عن دخول الجنة، فيقول الله لهم: ما لي أراكم محبئنضين -أي: ممتنعين مترددين- فيقولون: لا ندخلها يا رب! حتى يدخلها آباؤنا وأمهاتنا، فيقول الله سبحانه: أدخلوا معهم آباءهم وأمهاتهم) فقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19] مقيد إلا أن يشاء الله، فإذا شاء الله نفعت نفس نفساً بإذن الله. {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] لقائل أن يقول: لماذا اختُص يوم الدين بأن الأمر فيه لله، مع أن الأمر في الدنيا كذلك لله، وفي كل وقت وحين الأمر لله، فلماذا خص يوم القيامة بأن الأمر فيه لله؟ فالإجابة على ذلك: أن في الدنيا ملوكاً منهم من يدعي أنه هو المهيمن على الناس والمسيطر على الخلق، ومنهم من يدعي أنه الرب الأعلى، لكن يوم القيامة تضمحل هنالك الممالك، ويفنى كل من على وجه الأرض، ويقال: لمن الملك اليوم؟ فيجاب: لله الواحد القهار، فلا ملك ينازع، ولا مشاكس يشاكس، ولا معترض يعترض، بل الكل يسلم بأن الملك لله الواحد القهار.

تفسير سورة المطففين

تفسير سورة المطففين نهى الله تبارك وتعالى في هذه السورة عن تطفيف المكاييل، وفي ذلك رد على العلمانيين القائلين بأنه لا علاقة للدين بالحياة، ولا علاقة للدين بالاقتصاد، فالشرع نظم لنا أمور اقتصادنا ومنع من الغش في معاملاتنا. وذكر الله في هذه السورة أحوال الفجار والأبرار، ومصير أرواحهم بحسب أعمالهم، وتنعمهم أو عذابهم بحسب ذلك، ثم ذكر الله استهزاء المجرمين بالمؤمنين وعاقبة ذلك.

سبب نزول سورة المطففين

سبب نزول سورة المطففين باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: سورة المطففين قد ورد فيها سبب نزول في إسناده بعض الضعف، ألا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد أهلها يطففون المكاييل والموازين فنزلت {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] ، فانتهوا عن تطفيفهم للمكيال والميزان.

تفسير قوله تعالى: (ويل للمطففين.

تفسير قوله تعالى: (ويل للمطففين.) قال سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] الويل للعلماء فيه قولان مشهوران: القول الأول في تفسير الويل: أنه وادٍ في جهنم يسيل إليه صديد أهل النار، وقد وردت في هذا الباب عدة أخبار عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن في تفسير كل خبر منها ضعف بل ضعف شديد، فمن العلماء من قواها بمجموع طرقها، ومنهم من ضعف مفرداتها. القول الثاني في تفسير الويل: أنه دعاء بالهلاك، كما قال الكافر: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28] ، فويل أي: هلاك وعذاب للمطففين.

نهي الله عن تطفيف المكاييل فيه رد على العلمانيين

نهي الله عن تطفيف المكاييل فيه رد على العلمانيين وأصل التطفيف: النقص والبخس، والمراد هنا: نقص الموازين والمكاييل وبخس الموازين والمكاييل. هذه الآية فيها رد على العلمانيين القائلين: لا دخل للدين بالحياة ولا دخل للدين بالاقتصاد، فهذه الآية من أقوى الآيات التي ترد عليهم، فهي تنظم لنا أمور اقتصادنا وتمنع الغش فيما بيننا، وقد قال نحو مقالة هؤلاء العلمانيين الكفرة قوم شعيب لما أُرسل إليهم آمراً إياهم بعبادة الله وعدم تطفيف المكاييل والموازين: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87] يعني: نحن أحرار في أموالنا {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعنون السفيه الضال كما أسلفنا. وشعيب صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة فيها الأمر بإقامة الوزن والمكيال بالقسط {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:85-86] ، وقال الله سبحانه: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181-183] ، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] ، وقال سبحانه: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35] ، وقال: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] ، فلابد من الوفاء ولابد من العدل في المكاييل والموازين، وإلا فالتطفيف كبيرة من الكبائر بالاتفاق. قال الله سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين:1-2] أي: طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم {يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:2] يأخذون حقهم مستوفى، يعني إذا اشترى من شخص يقول له: أرجح الكيل (إذا اكتالوا على الناس يستوفون) أي: يأخذون حقهم مستوفى. استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن البائع هو الذي يكيل، أو هو الذي يعطي أجرة الكيل لمن يكيل، وقد ورد في الباب حديث في إسناده ضعف إلا أن الضعف فيه قليل: (إذا بعت فكل - أي أنت الذي تكيل- وإذا ابتعت فاكتل -أي اطلب من شخص أن يكيل لك-) فإذا بعت أنت الذي تكيل، وإذا اشتريت يكال لك، فهذه بعض تنظيمات البيوع. فالفقهاء منهم من بوب باب: صاحب السلعة أحق بالسوم، يعني: صاحب الشيء هو الذي يقول: أنا حاجتي أبيعها بكذا، ويستدل لذلك بما أخرجه البخاري بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء عليه الصلاة والسلام يشتري من بني النجار حائطهم -أي بستانهم- كي ينشئ فيه المسجد النبوي قال: (يا بني النجار ساوموني بحائطكم) يعني قولوا كم تريدون ثمن حائطكم؟ فهذا رأي فريق من العلماء، ومنهم من رأى أن الأمر في هذا واسع. الشاهد: أن البائع هو الذي يكيل ويزن، قال الله سبحانه: (الذين إذا اكتالوا) أي: طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم (على الناس يستوفون) . {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين:3] أي: كالوا لهم {أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين:3] أي: وزنوا لهم {يُخْسِرُونَ} [المطففين:3] ، فهذا مثل أن يكون للرجل قدح كبير يشتري به وقدح صغير يبيع به، أو كيلو صنجته كبيرة وكيلو صنجته صغيرة يشتري بهذا ويبيع بهذا، فكل هذا يدخل في الوعيد (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) أي ينقصون.

أثر الاعتقاد الصحيح والفاسد على عمل العبد

أثر الاعتقاد الصحيح والفاسد على عمل العبد {أَلا يَظُنُّ} [المطففين:4] أي: ألا يعتقد ويوقن، فالظن هنا بمعنى اليقين، ومواطن إتيان الظن بمعنى اليقين متعددة منها: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] أي: أيقنت أني ملاقٍ حسابيه، {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:46] أي: يوقنون أنهم ملاقو ربهم، وهنا يقول سبحانه: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ} [المطففين:4] أي: المطففون. {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4-5] الآية تفيد: أن الاعتقاد الصحيح يولد عملاً صحيحاً، وبالمقابل فإن الاعتقاد الفاسد يولد عملاً فاسداً، فإذا كان اعتقادك صحيحاً وأنك تعتقد تماماً أنك مبعوث ليوم عظيم فهذا الاعتقاد الصحيح يحملك على عمل صحيح وهو عدم تطفيف الكيل وعدم تطفيف الميزان، لكن إذا كنت لا تعتقد أن هناك بعثاً ما هو المانع لك من الغش؟ ما هو المانع لك من السرقة؟ لا مانع إذاًَ من الغش ولا من السرقة -إذا كنت لا تعتقد أن هناك بعثاً- إلا سطوة البشر، لكن إذا خلوت وابتعدت من أعين البشر ليس هناك أي مانع من أن تختلس، ولذلك مقولة إخواننا الذين يقولون: إن الأوروبيين أكثر أماناً من المسلمين هذه مقولة ضالة خاطئة، فهم وإن راقبوا البشر فلا يراقبون الله، فإذا تمكنوا من السرقة والاختلاس اختلسوا بلا شك ولا حرج عندهم في ذلك. فالشاهد: أن الاعتقاد الصحيح يحملك على عمل صحيح، لذلك إذا اعتقدت اعتقاداً صحيحاً في الملائكة وأنهم يراقبونك عملت عملاً صالحاً حتى لا يروك على معصية الله. في المقابل الاعتقاد الفاسد يولد عملاً فاسداً، ولذلك لما اعتقد بنو إسرائيل اعتقادات فاسدة، كاعتقادهم أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات قالوا: أذنبنا أم لم نذنب، ارتكبنا الكبائر أم لم نرتكب، فإننا معذبون سبعة أيام، وهي السبعة التي عبدنا فيها العجل، فهذا الاعتقاد الرديء السيئ حملهم على ماذا؟ على قتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون القسط من الناس، فذبحوا يحيى وذبحوا زكريا عليهما السلام، قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:21-22] إلى أن قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:24] فلذلك يقول العلماء: إن سلطان العلم والخشية من الله أقوى تأثيراً على القلب من سلطان السيوف، فإن السيوف على البدن تستطيع أن تتقيها بأي شيء، لكن الذي في القلب ثابت لا يتغير ولا يؤثر فيه إلا العلم والخشية من الله سبحانه وتعالى. قال الله جل ذكره: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4-5] فلو علموا ذلك لضبطوا الموازين حق الضبط.

كيفية قيام الناس يوم القيامة للحساب

كيفية قيام الناس يوم القيامة للحساب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] كيف يقوم الناس لرب العالمين؟ صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوم يقوم الناس لرب العالمين يقوم أحدهم يغيب في رشحه) يعني: يغرق في عرقه، وفي الحديث الآخر: (تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة كمقدار ميل -لا يدري الراوي أهو ميل المكحلة أو ميل المسافة- فمن الناس من يبلغه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغه العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً) أو كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. (يوم يقوم الناس لرب العالمين) وقيام الناس ليوم القيامة للحساب وحشرهم ليوم المعاد على أشكال وأصناف، فمنهم من يحشر أعمى وأبكم وأصم كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97] ، ومنهم من يحشر مثل النملة في صورة الرجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال يطؤهم الناس بأقدامهم) ، ومنهم من يحشر معقوداً عند استه لواء -وهو الغادر- مكتوب على هذا العلم واللواء: هذه غدرة فلان بن فلان أي: التي غدر فيها، ومنهم من يحشر وحية تطوق رقبته وهو مانع الزكاة، ومنهم من يحشر ملبياً قائلاً: لبيك اللهم لبيك وهم الذين ماتوا في الحج، ومنهم من يحشر أغر محجلاً أي: أبيض اليدين والجبهة من آثار الوضوء، ومنهم من يحشر وجروحه تنزف دماً لونها لون الدم وريحها ريح المسك وهم الشهداء. إلى غير ذلك.

مسألة: مشروعية القيام للقادم

مسألة: مشروعية القيام للقادم (يوم يقوم الناس لرب العالمين) ترد هنا مسألة القيام للقادم، هل يشرع القيام للقادم أو يستحب أو يكره؟ لأهل العلم فيها أقوال: أحدها: أن القيام للقادم مكروه، والآخر: في مقابله أنه مستحب، والثالث الوسط: أن لاستحبابه أوقات ولكراهيته أوقات، أما أوقات استحبابه فإذا كانت هناك مناسبة تدعو إليه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب للأنصار لما قدم سعد بن معاذ رضي الله عنه كي يحكم في اليهود قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم) وردت رواية في إسنادها مقال وهي: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) ولكنها لا تثبت. والرواية الثانية الدالة على الاستحباب في المناسبات أخرجها أبو داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم على فاطمة ابنته قامت إليه فقبلته وأجلسته، وإذا قدمت فاطمة عليه قام إليها فقبلها وأجلسها. والدليل الثالث: هو ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه حينما ذكر قصته في التوبة عليه قال: (فانطلقت إلى المسجد فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول فصافحني وهنأني) . فهذه دالة على القيام للناس عند المناسبات، وهناك عمومات تشهد لهذا المعنى كالعمومات الواردة في توقير الكبير وإنزال الناس منازلهم، أما ما سوى ذلك فيكره أن يقام للشخص كلما دخل، قال أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى أصحابه، وكان إذا دخل عليهم لم يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك) ، وقد ورد في الباب حديث في حق القادم يحرم عليه أن يحب أن يقوم الناس له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يمثل له الرجال -وفي رواية أن يتمثل له الرجال- قياماً فليتبوأ مقعده من النار) وهذا الحاصل في مسألة القيام.

تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار.

تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار.) {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] وما المراد بكتاب الفجار؟ هو ذلكم الكتاب الذي كتبت فيه أعمال الفجار. (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) أي: فهو كتاب مكتوب موضوع في سجين. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين:8] لتعظيم شأن سجين وتهويل أمرها. {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9] ليس معنى قوله (وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم) أن (كتاب مرقوم) تفسير لسجين، سجين شيء وكتاب مرقوم شيء آخر، إنما المعنى: كلا إن كتاب الفجار كتاب مرقوم أي: كتاب مكتوب موضوع في سجين وما أدراك ما سجين، هذا هو المعنى، فكتاب مرقوم ليست تفسيراً لسجين وهذا واضح، أما ما هي سجين؟ فهو سجن في الأرض السابعة السفلى، دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في قصة نزع روح المؤمن وروح الكافر (أن روح الكافر تصعد فلا تفتح لها أبواب السماء ويقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى) ، فهو سجن في الأرض السابعة السفلى، ومن العلماء من قال: هي النار. {وَيْلٌ} [المطففين:10] سبق تفسير ويل {يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المطففين:10] . {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين:11] المكذبون متعددون فمنهم: مكذب بالبعث، ومنهم مكذب بخبر تخبره إياه، لكن المكذبون الذين تُوعدوا بالعذاب الأليم هم المكذبون بيوم الدين. {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المطففين:12-13] أي: قصص وحكايات الأولين كتبوها لك يا محمد! وأنت تمليها على الناس، كما قالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان:5] أي: طلب من شخص أن يكتبها له {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] .

معنى الران

معنى الران {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:13-14] أي: ليس الأمر أيها الكذاب! كما زعمت أنها أساطير الأولين، ولكن أنت وضع الران على قلبك بما كنت تكسب، يعني الكلام الذي يتلوه محمد ليس أبداً أساطير الأولين، ولكن أنت أيها الكذاب! الذي وضع ران على قلبك بما كنت تكسب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية الحديث الذي تقدم على مسامعكم مراراً: (إذا أذنب العبد ذنباً نكتت على قلبه نكتة سوداء فإن تاب وأقلع محيت، وإن عاد وأصر نكتت نكتة أخرى سوداء حتى يغطى القلب كله، ثم قال: هذا هو الران الذي ذكر الله في كتابه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)) .

رؤية أهل الإيمان لربهم يوم القيامة

رؤية أهل الإيمان لربهم يوم القيامة {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أي: لن يروا ربهم يوم القيامة، فالمفهوم المخالف للآية الكريمة: أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة، وهذا من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، خلافاً للمعتزلة ولسائر الطوائف، فمن أصول الاعتقاد: أن أهل الإيمان يرون ربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، وقد فسرت في حديث مسلم -وإن كان فيها نوع انتقاد- بأن الزيادة هي: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] على قول لبعض المفسرين في تفسيرها، وأصرح من هذا وذاك قول جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) ، وفي رواية في الصحيحين: (إنكم سترون ربكم عياناً) ، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (هل نرى ربنا يوم القيامة يا رسول الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يارسول الله! قال: هل تضارون في رؤية القمر في ليلة صحو؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم سترون ربكم ... ) الحديث المطول وفيه: (فيأتيهم ربهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا ... ) الحديث. وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة) ، ومن الطرائف التي ذكرت في هذا الباب: مناقشة جرت بين رجل سني بمدينة صنعاء باليمن وبين رجل معتزلي، فقال السني: إننا سنرى ربنا يوم القيامة وهذه الأدلة على ذلك، قال المعتزلي: لا يُرى الرب أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة، واستدل بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51] السني حمل هذه الأدلة على الدنيا؛ لأن الأدلة الواردة في الآخرة ثابتة، فاشتد الجدل بينهما فقال له العالم السني: نتفق على شيء، قال: وما هو؟ قال: نحن سنرى ربنا وأنتم لن تروا ربكم. قال الله سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا} [المطففين:15-16] أي: ذائقو {الْجَحِيمِ} [المطففين:16] ومصليون بها (لصالو الجحيم) . {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] هذا اليوم وهذا العذاب كنتم تكذبون به، كنتم تقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص:16] أي: حظنا من العذاب {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] .

تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الأبرار.

تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الأبرار.) {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ} [المطففين:18] أي: كتاب الأعمال الذي كتبت فيه أعمال الأبرار وهم المطيعون {لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] أي: موضوع في عليين، فعليون في السماء السابعة بنص حديث البراء (اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة) ، كلا إن كتاب الأبرار كتاب مرقوم موضوع في عليين. {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:18-19] يعني: فرق بين كتاب الفجار الموضوع في سجين في الأرض السفلى، وكتاب الأبرار الموضوع في عليين في السماء السابعة. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:19-20] أيضاً ليس (كتاب مرقوم) تفسير للعليين. {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21] وهنا لفتة طيبة ينبغي أن يقف عندها الشخص وهي: أن كتاب الأبرار الذي كتبت فيه أعمالهم موضوع في عليين في السماء السابعة ومن الذي ينظر إليه؟ المقربون الذين هم الملائكة، تخيل مثلاً لك ابن في الثانوية والولد نجح بتفوق أتى مائة بالمائة في الرياضيات وفي الإنجليزي خمسين من خمسين وفي الكيمياء خمسين من خمسين وفي اللغة العربية ستين من ستين وهكذا، أو لك بنت أتت تسعين في المائة أو خمسة وتسعين في المائة أو مائة في المائة ستأخذ شهادتها وأنت فرح مسرور وتتفرجها على الجرائد تعال انظر بنتي انظر ابني جاب كم وصدرك منشرح، والناس يرون الشهادة، بل وتعلقها على الجدار حتى ينظر إليها الداخلون. فتخيل أين يوضع كتاب الأبرار؟ ليس في غرفة النوم يراه الداخل والخارج، إنما هو موضوع في عليين في السماء السابعة في الجنان، ومن الذي يراه؟ ومن الذي يُطلع عليه؟ الذي يطلع عليه هو الله سبحانه وتعالى، انظروا يا ملائكتي! كتاب عبدي، كتاب البر فلان بن فلان، انظروا ماذا كتب فيه؟ يبدأ المقربون يشهدون ما في الكتاب، يفتح صفحة صلوات مائة بالمائة، ذكر مائة بالمائة، كلام طيب مائة بالمائة، حج عمرة جهاد إنكار منكر شهود جنازات حفظ لسان صلة أرحام كلها درجات ممتازة. فالمقربون هم الذين ينظرون إلى هذا الكتاب الحسن، وهم الذين يتداولونه فيما بينهم، ليس مقرب واحد ينظر إنما يباهي الله عز وجل بك الملائكة، انظروا إلى صلاة عبدي إلى صيام عبدي، هذا من ذرية الذي قلتم لي فيه: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] هذا عبد من عبادي، وليس القول قولكم حينما قلتم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] لكن هناك من يسبح بحمدي ويذكرني ويشكرني ويصبر على بلائي وينفس عن المكروبين من عبادي، صفحات حسنة في غاية الحسن، وبيضاء في غاية البياض، لو علمت أنت يا عبد الله! أن الملائكة تطلع على صحيفتك، وتسر بالعمل الصالح الذي تفعله، وتستاء من العمل السيئ الذي يظهر فيها وتقول: يا ليته لم يفعل في هذه الصفحة كذا وكذا، صفحة الصلاة بيضاء يا ليته لم يشبها بكذا وكذا، صفحة صلة الأرحام بيضاء يا ليته لم يقطع قريبه فلاناً فقد ترك نكتة هنا سوداء يا ليتها تمحى، فهكذا إذا اعتقد الشخص هذا الاعتقاد الصحيح ضبط مسيرته واستحيا من ربه واستحيا من ملائكة الله عز وجل. {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21] طبعاً هم يستغفرون لك إذا وجدوا شيئاً مشيناً كما قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:7-9] هكذا الملائكة تدعو لك هذا الدعاء، أما إذا لم تكن من أولياء الله ولا من الأبرار بل كنت من الفجار فمن يدعو لك؟ تخيل من يدعو لك إذا كنت شقياً {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:42] حتى صاحبك الفاجر لم يدع لك بل يدعو عليك {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] والعياذ بالله.

جزاء المؤمنين في الآخرة

جزاء المؤمنين في الآخرة قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] اشتملت السورة على ثلاثة أصناف: فجار، وأبرار، ومقربون، كما اشتملت سورة الواقعة على الأقسام الثلاثة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:7-11] وهنا في هذه السورة ثلاثة أصناف: الفجار والأبرار والمقربون. والأبرار في كثير من الأحيان تأتي بمعنى المقربين، يعني إذا جاء ذكر الأبرار في سياق مستقل دخل فيه المقربون كما قال أهل الإيمان: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] فالأبرار هنا شملت المقربين وشملت أصحاب اليمين، لكن إذا جاء ذكر الأبرار مقترناً بذكر المقربين يكون الأبرار أنزل درجة من المقربين، فالله سبحانه وتعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] إلى قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] . {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] الأرائك هي الأسرة، والأسرة جمع سرير، فمعناها الأسرة في الحجال، والحجل جمع حجلة، والحجلة تعني عند الناس في الدنيا الناموسية يعني: الأسرة عليها ناموسية أو عليها خيمة فتسمى الأسرة في الحجال، فهذه الأريكة. {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ينظرون إلى ماذا؟ ينظرون إلى إخوانهم في الجنان، وأحياناً لتتميم النعمة يطلعهم الله سبحانه وتعالى على بعض قرناء السوء وهم في النار، يعني الرجل الذي في الجنة أحياناً يطلع على منظر في النار حتى يشكر نعمة الله عليه كما في الحديث: (هذا مقعدك لو مت على غير الإسلام) وفي الآية الكريمة {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:50-51] من أهل الجنة اذكروا يا أصحابي {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] أي: كان لي صاحب ملحد في الدنيا، وهذا الصاحب الملحد كان يقول لي ماذا يا جماعة؟ {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52-53] أي: مجزيون ومحاسبون، كان لي في الدنيا صاحب ملحد قرين سوء يقول لي: لا تصدق أبداً هذا الكلام الذي يقولونه أنك ستحاسب، وبعد أن تكون تراباً وعظاماً تبعث! فيريه الله صاحبه هذا في النار قال الله سبحانه: {فَاطَّلَعَ} [الصافات:55] أي: فنظر {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] يعني في وسط الجحيم، السواء هنا: الوسط كما قال حسان: يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد فالسواء: الوسط {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ) [الصافات:55-56] أي: والله {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] يعني كنت ستوقعني في مصيبة وتهلكني {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] يعني كنت سأنال نفس الجزاء معك لولا أن الله عز وجل منَّ علي. فقوله سبحانه: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ينظرون إلى ما هم فيه من النعيم، وينظرون إلى إخوانهم المؤمنين، وينظرون أحياناً إلى من في النار حتى يزداد شكرهم وحمدهم لله سبحانه وتعالى. {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] يعني أثر النعمة ظاهرة على الوجه، فقد تجد شخصاً أثر النعمة ظاهرة على وجهه، وآخر أثر الشقاوة ظاهرة على وجهه في الدنيا، فقد ترى أبناء الملوك أو المنعمين بادية عليهم أثر النعمة، والأشقياء كذلك، فأهل الجنة تعرف في وجوههم نضرة النعيم. {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25] الرحيق: الخمر، والمختوم فيه أقوال: أحد الأقوال أن مختوم أي: مغلق بختم، يعني مغلق تماماً لم يقترب منه أحد (رحيق مختوم) . {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:26] يعني: إذا شربته لم تشعر بعد شربه برائحة الخمر السيئة إنما يشم منك بعد شربه رائحة المسك، فإن قال قائل معترضاً على هذا القول: إن الله سبحانه وتعالى وصف شراب الجنة بأنه أنهار وليس في أكواب، ففي شراب الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ} [محمد:15] فكيف تقول: إنها كئوساً مغلقة وهي أنهار مفتوحة؟ الإجابة: إنه لا يمتنع أبداً أن يكون هناك أنهار من الخمر وأيضاً كئوس مغلقة، الذي يريد أن يشرب من النهر شرب، والذي يريد أن يشرب من الكأس المغلق شرب، لا مانع أبداً من أن تتعدد صنوف النعم يوم القيامة، هذا القول الأول في تفسير المختوم، يعني: مغلق لم يقترب منه أحد، وبعد أن تشربه تشعر برائحة المسك. ومن العلماء من قال: هو مغطى في الأصل بطبقة مسك، أي: الغطاء الذي غطي به مسك إذا جئت تفتحه وجدت ذلك. ومنهم من قال: ختامه مسك أي: ممزوج، ففسر (مختوم) بـ (مخلوط) . {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] أي: في مثل هذا النعيم ينبغي أن يكون التنافس كما قال تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] فلا يكون التكالب على الدنيا والتنافس في الترقية بل {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} . {وَمِزَاجُهُ} [المطففين:27] أي: خليط الرحيق {مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:27] يعني: هذا الخمر مخلوط بشيء آخر غير المسك، {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:27] يعني: مخلوط بشراب من تسنيم، وما هي التسنيم؟ قال الله سبحانه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} [المطففين:28] يعني: يشرب منها، فالباء مع من تتبادلان، وأحرف الجر تتناوب. فهناك عين يقال لها تسنيم، هذه العين -التي هي التسنيم- هي شراب المقربين خاصة، لكن يؤخذ منها شيء ويصب على الرحيق ويعطى الرحيق لأصحاب اليمين، فكما قال ابن مسعود وغيره: يشرب بها المقربون صرفاً يعني خالصة، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، يعني الأبرار الذين هم أصحاب اليمين يسقون من رحيق مختوم مزاجه -أي: خليطه- من تسنيم، مثلاً تشرب في الدنيا الشاي على اللبن أو الشاي فقط، اللبن مثلاً للمقربين والشاي لمن دونهم، ونحو هذا المعنى ورد في سورة الإنسان {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا} [الإنسان:5] أي: خليطها {كَافُورًا} [الإنسان:5] ما هو الكافور؟ {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] يعني: المقربين، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] . قال الله سبحانه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} [المطففين:28] أي: منها {الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:28] وهم أصحاب أعلى الدرجات في الجنان.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين أجرموا.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين أجرموا ... )

سخرية المجرمين من المؤمنين في الدنيا

سخرية المجرمين من المؤمنين في الدنيا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] أي: في الدنيا وهذا شيء مطرد، فأهل الإجرام دائمو السخرية من أهل الإيمان {كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] نوح صلى الله عليه وسلم سخر منه قومه، وابن آدم بمجرد أن تُقبل القربان من أخيه قال: لأقتلنك، ما له أي ذنب إلا أن القربان تقبل منه، ووصف الرسول بالسحر والجنون، وأوذي إبراهيم وموسى، وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقال ورقة بن نوفل لرسول الله: (لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي) ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا} [إبراهيم:13] ، وقال الله سبحانه أيضاً في سورة المؤمنون {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون:110] يعني جلستم تسخرون من أهل الإيمان حتى أنستكم سخريتكم منهم كتابي وقرآني. فالله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ} [المطففين:29-31] يرجع الكافر إلى زوجته يضحك معها ويسخر: السني عمل اليوم كذا، محمد بن عبد الله عمل كذا، وعلي بن أبي طالب وعمر. يجلس يتفكه على رسول الله وعلى أصحاب رسول الله وعلى المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] مرحين. {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} [المطففين:32] قابلوهم في الطرق {قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32] يقول أحدهم: انظر إلى هذا المجنون الذي يقول لك: إن هناك بعثاً! انظر التارك مناصب الدنيا بما فيها ويقول لك: أنا تركتها لوجه الله ويسخر! (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) (وإذا مروا بهم يتغامزون) (وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين) (وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون) . فالله يقول: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33] يعني دعوهم وشأنهم؟ هل أنت بعثت على عبادي رقيباً؟ هل هناك أحد طلب منك أن تقول رأيك فيهم أصلاً؟ (وما أرسلوا عليهم حافظين) وما أرسلوا عليهم رقباء، يعني: أنت يا مجرم! ما أحد قال لك: راقب عبادي واحسب عليهم أعمالهم، فخلوهم في شأنهم، إذا كنت لا تريد أن تعتنق هذا الطريق اترك عبادي فما أرسلت عليهم حفيظاً (وما أرسلوا عليهم حافظين) .

سخرية المؤمنين من المجرمين في الآخرة

سخرية المؤمنين من المجرمين في الآخرة {فَالْيَوْمَ} [المطففين:34] لأن الجزاء من جنس العمل {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] دائماً الجزاء من جنس العمل {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) ، إذا قمت تدعو لأخيك دعت لك الملائكة، وإذا كنت من المستكبرين في الدنيا حشرت يوم القيامة ذليلاً وأرهقت صعوداً والعياذ بالله، هكذا دوماً فالجزاء من جنس العمل. {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ} [المطففين:34-35] وهي الأسرة في الحجال كما أسلفنا {يَنظُرُونَ} [المطففين:35] . {هَلْ ثُوِّبَ} [المطففين:36] أي: هل جوزي {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36] يعني: إذا سأل سائل: هل جوزي الكفار بعد هذا البيان ما كانوا يفعلون؟ فالإجابة: نعم جوزي الكفار بما كانوا يفعلون. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم ورحمة الله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم وضع المال في البنك لغرض الربح

حكم وضع المال في البنك لغرض الربح Q رجل مريض منذ سنين، وحالة مرضه عجز شبه كلي ولا يعمل في أي عمل، وعنده مبلغ من المال أودعه في أحد البنوك ويسعى للربح الآن؟ A الربح ربا، فيعطيه من يشغله له، والله أعلم.

حكم صلاة المنفرد خلف الصف

حكم صلاة المنفرد خلف الصف Q ما هو حكم حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة) ؟ A الحديث ثابت صحيح، لكن المراد نفي الكمال لا نفي الصحة؛ لأن أبا بكرة لما ركع خلف الصف قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) ، فلو كانت الصلاة باطلة لأمره النبي بالإعادة.

حكم جذب المصلي أحد المصلين من الصف ليصلي معه

حكم جذب المصلي أحد المصلين من الصف ليصلي معه Q هل يجوز جذب أحد المصلين من الصف الذي أمامه كي يصلي معه حتى لا يصلي منفرداً؟ A نعم يجوز ذلك؛ لأن أبي بن كعب جذب شاباً من الصف وهو يصلي كما في سنن النسائي بسند صحيح، ولا يعترض علينا بحديث (من قطع صفاً قطعه الله) فإن هذا ليس المراد به القطع في هذه الحالة، فسرعان ما سيلتئم الصف.

حكم أحاديث مساواة المهدي لأبي بكر وعمر في الفضل

حكم أحاديث مساواة المهدي لأبي بكر وعمر في الفضل Q هل هناك أحاديث صحيحة تدل على أن المهدي المنتظر مثل أبي بكر وعمر في الفضل؟ A لا أعلم شيئاً في ذلك.

حكم لبس النظارة الشمسية بدون حاجة

حكم لبس النظارة الشمسية بدون حاجة Q نرجو إلقاء الضوء على حكم لبس النظارة الشمسية بدون داعٍ، هل فيه تشبه أو تغيير للخلق؟ A ليست تشبهاً وليست تغييراً للخلق، لكن إذا كنت تلبسها حتى تتابع بها النساء ولا يراك أحد فربك يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذا كنت تلبسها لحاجة شر فهي شر، لكن الأصل أنها جائزة لا شيء فيها أبداً {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .

حكم قنوت الفجر

حكم قنوت الفجر Q هل القنوت في الفجر بدعة؟ A المسألة فيها تفصيل قد أسلفناه، القنوت في الفجر إنما هو مسألة من المسائل المختلف فيها بين أهل العلم، وقد فصلنا القول فيها، فمن اختار رأياً لا يحكم عليه بالبدعة فيه.

حكم حديث أنس في وصف حال المدينة عند مقدم الرسول وعند وفاته

حكم حديث أنس في وصف حال المدينة عند مقدم الرسول وعند وفاته Q حديث أنس: (ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا رسول الله، وما رأيت يوماً كان أظلم من اليوم الذي مات فيه الرسول صلى الله عليه وسلم) . A الحديث الذي يحضرني أنه ثابت صحيح، هذا في نظر أنس رضي الله تعالى، وفي نظر عموم المسلمين.

مقدار سترة المصلي

مقدار سترة المصلي Q هل يشترط في سترة المصلي ارتفاع معين؟ A تكون على أقل تقدير مثل مؤخرة الرحل، يعني الجمل تكون له خشبة في آخره تسمى بمؤخرة الرحل قدر شبر ونصف أو شبر تقريباً، أما حديث الخط فلا يثبت.

حكم رفع اليدين بالدعاء بعد أذكار الصلاة

حكم رفع اليدين بالدعاء بعد أذكار الصلاة Q هل رفع اليدين بعد أذكار الصلاة بالدعاء بدعة؟ A أظن تكلمنا على هذا بما فيه الكفاية وليس بدعة والله أعلم.

حكم إلزام الزوج بنفقة الحج عن زوجته

حكم إلزام الزوج بنفقة الحج عن زوجته Q زوجتي لديها مال، فهل يكون حجها على نفقتها، أم أني ملزم بذلك من مالي الخاص؟ A الزوج لا يلزم بأن يدفع نفقة حج زوجته من ماله الخاص، لا بل الزوجة هي التي تحج من مالها لخاص، أما إذا ساعدها الزوج في هذا فجزاه الله خير الجزاء ويشكر، لكن أن يكون من باب الوجوب فلا، إذ لا يجب عليه أبداً أن يحجج زوجته.

حكم من حج وتكاليف حجه هبة من غيره

حكم من حج وتكاليف حجه هبة من غيره Q قمت بأداء فريضة الحج بدعوة من أخي الأكبر على نفقته، ثم حججت مرة أخرى على نفقة جهة العمل، فهل الحجتان صحيحتان؟ علماً بأن هناك من أفتى بأنه في الدولة الفقيرة لا يجوز عمل بعثات للحج؟ A نعم الحجتان صحيحتان، إذا أعطاك شخص مالاً تحج به عن نفسك، أو حججت من مالك الخاص، أو أهداك شخص تكاليف حجك؛ كل ذلك تكون قد أديت به الفريضة التي كتبها الله عليك. أما بالنسبة لبعثات الحج فإن الفتوى فيها ليست إلينا.

حكم التكافل الاجتماعي

حكم التكافل الاجتماعي Q هل التكافل الاجتماعي حرام أم حلال؟ A إذا كنت تقصد التكافل الاجتماعي الذي أسسه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كتاب الله عز وجل، يعني (مثل المؤمنين في توادهم وتراحهمم كمثل الجسد) ، (المؤمن أخو المؤمن) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] (يرحم الله الأشعريين كانوا إذا أرملوا في الغزو جمعوا أزوادهم) كل واحد يحضر الأكل الذي معه ويأكلون جميعاً، فله أسس كثيرة جداً، لكن إذا كنت تقصد صورة معينة فاسأل عن الصورة المعينة.

مشروعية التوسط عند اتخاذ السترة للصلاة

مشروعية التوسط عند اتخاذ السترة للصلاة Q هل عند اتخاذ سترة يراعى ألا أتوسط هذه السترة؟ A هناك حديث فيه النهي عن تعمد ذلك، يعني تقف أمام السترة مباشرة ولا تنحرف يميناً أو يساراً، لكن الحديث لا يثبت، فقف أمام السترة حيث تيسر لك.

القول في كتاب: إحياء علوم الدين

القول في كتاب: إحياء علوم الدين Q ما القول في كتاب إحياء علوم الدين؟ A كتاب إحياء علوم الدين القول المجمل فيه أن مؤلفه حاطب ليل؛ لأن الشخص الذي يجمع حطباً في الليل يمكن أن يجمع حطباً ويكون في الحطب حيات وثعابين، ففيه أحاديث باطلة وموضوعة وفيه أشياء صحيحة.

حكم زواج المرأة واحتجابها من أخيها من الرضاعة

حكم زواج المرأة واحتجابها من أخيها من الرضاعة Q أخ أراد الزواج مني وله صلة قرابة قوية، ولكن تبين أنه أخ لي من الرضاعة، فهل أحتجب منه؟ A إذا كان أخاً لك من الرضاعة فيحرم عليك الزواج به، ويجوز له أن يراك، لكن إذا خشيت منه الفتنة فحينئذ تمتنعي منه ليس تحريماً ولكن درءاً للمفاسد، فالله لا يحب الفساد.

الأشياء التي يجوز أن يراها والد الزوج من زوجة ابنه

الأشياء التي يجوز أن يراها والد الزوج من زوجة ابنه Q ما الذي يجوز للمرأة أن تظهره لوالد الزوج من المرأة؟ A يجوز أن تظهر ما يرى غالباً من المرأة، يعني مثلاً إن رأى والد الزوج شعرها جاز له، إن رأى أماكن الوضوء منها فلا بأس بذلك، وهذا رأي كثير من أهل العلم ونقله البيهقي رحمه الله تعالى في سننه بصفة عامة في شأن المحارم.

حكم دخول العاقد على زوجته قبل إعلان البناء

حكم دخول العاقد على زوجته قبل إعلان البناء Q ما الفرق بين الخاطب والعاقد قبل إعلان البناء أمام الناس؟ وهل للعاقد جميع الحقوق الشرعية وأن الزوجة يجب عليها أن تنفذ جميع ما يطلبه؟ A لا، ليس كذلك، صحيح أن العاقد زوج شرعي، لكن البناء له وقت أيضاً ووقت مضبوط شرعاً، الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فكان هناك وقت واضح في البناء، والرسول عليه الصلاة والسلام جاءت امرأة إليه فقالت:: (يا رسول الله إن رجلاً تزوج ابنتي وإنه يستحثني -يستعجل عليها لكي يبني بها- أفأصل شعرها) فالشاهد أنه كان هناك وقت معلوم في البناء، لا بأس أن يكون البناء بعد العقد مباشرة ولا خلاف في ذلك، لكن محل السؤال لو أن عاقداً ذهب إلى من عقد عليها في بيت أبيها وطلب منها أن يجامعها في بيت أبيها، هل يجب عليها أن تطيعه؟ طبعاً لا يجب عليها أن تطيعه؛ لأن البناء له وقت يشهر فيه الزواج، وعلى هذا سار أصحاب رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم إنه أدفع لشبهات قد ترد، وأدفع لمشاكل قد ترد، وقد مثلنا بنماذج متعددة: رجل دخل بامرأة وقال: أنا ما دخلت بها، إذا إرخيت الستور وجب الصداق كاملاً كما قضى به أمير المؤمنين عمر إذ هو مظنة البناء، فنقول لها: إذا كانت في بيت أبيها فلا يلزمها أن تستأذن الزوج كلما أرادت أن تخرج أو تدخل؛ لأن الرسول قال: (الرجل راعٍ في بيته ومسئول عن رعيته) فما دامت البنت عند أبيها لم يدخل بها الزوج فهي مسئولة من أبيها، كذلك -نحن لم نقل إنها ليست زوجة، هي زوجة لكن تحت مسئولية أبيها ما دامت لم يبن بها- الرسول ظل عاقداً على عائشة ثلاث سنوات، لم يرد أن عائشة إذا أرادت أن تخرج ذهبت إلى الرسول وقالت: أنا أريد أن أذهب إلى مكان كذا يا رسول الله! ولم يرد أن الرسول جامعها قبل البناء المشهر المعلوم لدى عموم المسلمين، لأن بعض الأخوات يفتين فتاوى خاطئة في هذا الباب وللأسف، ثم إنهن ندمن على هذه الفتوى، واحدة تدرس الأخوات وبعدها جاءتها واحدة وقالت لها: أنا معقود علي والزوج يأتي عندنا ويريد مني الجماع فهل أمكنه؟ قالت لها: طبعاً مكنيه؛ لأن الرسول قال: (أيما رجل دعا امرأته إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح) حملت الأخت في بيت أبيها، فلما حملت بدأت تستتر، لكن نفس الحديث إذا أمعنت النظر فيه: (أيما رجل دعا امرأته إلى فراشه) فراشه أين؟ في بيت الزوجية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم من هجر قريبته لارتكابها نوعا من أنواع الشرك

حكم من هجر قريبته لارتكابها نوعاً من أنواع الشرك Q لي خالة تؤمن بالجبت والطاغوت وتذهب إلى الكنيسة للعلاج من الجن، ووعظتها فلم تستجب، فنهرتها وتبرأت منها وهجرتها، والآن أخاف خوفاً شديداً من قطيعة الرحم؟ A إذا كان عملك لله فلا تندم، لكن صلها واستمر في النصح بأدب {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] ، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن آل فلان ليسوا بأوليائي لكن لهم رحم سأبلها ببلالها) فأنت استمر في النصح لها برفق ولين ولا تقطع الصلة.

ما الحكم في رجل تقدم لخطبة امرأة ووالده يعمل مدير بنك

ما الحكم في رجل تقدم لخطبة امرأة ووالده يعمل مدير بنك Q تقدم شاب للزواج بي، إلا أن والده مدير بنك فما الحكم؟ A النظر هو إلى الشاب نفسه هل هو ذو دين وماله من حلال، إذا كان كذلك فليُقبل، وإذا كان ليس بذي دين وماله من حرام فيُرفض. إلى هنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة الانشقاق

تفسير سورة الانشقاق أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة عن أحداث وأهوال عظام تحصل يوم القيامة، كانشقاق السماء واستماعها إلى ربها، وتمدد الأرض وإلقاء ما فيها. وأخبر سبحانه أن الإنسان في هذه الحياة كادح ثم هو ملاق عمله، وأن من أشد الأهوال التي يمر بها الإنسان يوم القيامة عندما يدعى لأخذ كتابه، فهل سيأخذ كتابه بيمينه فيسعد سعادة ما بعدها شقاوة، أم سيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره فيصلى نار جهنم والعياذ بالله؟! ولهذا استنكر سبحانه وتعالى على المعرضين تكذيبهم وعدم إيمانهم، وأخبر أنه يعلم بما يعملون، وتوعدهم بالعذاب الأليم.

تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انشقت.

تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انشقت. باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:1-2] . قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} {انشَقَّتْ} معناها: تصدعت وتشققت. لماذا تتصدع وتتشقق؟ قد أسلفنا الإجابة على هذا: أنها تتشقق كي تنزل منها الملائكة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي: عن الغمام، {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:25-26] ، فتتشقق السماء كي تنزل منها الملائكة. {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ} [الانشقاق:1-2] معنى (أذنت) : استمعت، أما الدليل على أن المراد بها استمعت فقوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61] أي: يقولون: هو سمّاع. أي: أننا نشتمه وإذا جئنا واعتذرنا إليه بأي عذر قبله فهو رجل سمّاع لكل ما يقال له. الشاهد: أن قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61] أي: سمّاع. الشاهد الثاني: من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) ، أي: ما استمع الله لشيء استماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به. ومن لغة العرب قول القائل: صم إذا سمعوا خيراًَ ذكرت به فإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (أذنوا) أي: استمعوا. فدلت هذه الأدلة من الكتاب والسنة ولغة العرب على أن المراد بالأذن في قوله تعالى: (أَذِنَتْ) أي: استمعت. ما معنى استمعت؟! وهل السماء تفهم وتستمع؟! الإجابة: نعم. فالسماء استمعت لأمر الله سبحانه وتعالى، ولها فهم، لكن كيفيته يعلمها الله، والدليل على ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72] ، فالسماوات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة، فدل ذلك على أن لهن فهم يعلمه الله، فمن ثم رفض قبول الأمانة وحملها {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] . ودليل آخر على أن للسماء فهم يعلمه الله: قوله سبحانه وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29] ، فدل ذلك على أن السماء لها بكاء. أي: تبكي على أهل الصلاح الذين كانت ترفع أعمالهم الصالحة من أبواب السماء فإذا ماتوا انقطعت الأعمال الصالحة فبكت عليهم السماء، أما أهل الفجور والعصيان فلا تبكي عليهم السماء، كما قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} ، وكذلك الأرض في نفس المعنى. يقول الله سبحانه وتعالى: ((وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا)) أي: استمعت السماء لقول ربها ولأمر. ((وَحُقَّتْ)) أي: حقق الله عليها الاستماع، حق عليها أن تستمع لله، وهناك قول آخر، أي: وجدير بها أن تستمع لأمر الله سبحانه وتعالى. ومن العلماء من قال: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: سمعت لربها وأطاعت. {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق:3] أي: بسطت وزيد في مساحتها وطولها، فبعد أن كان يعتريها الأمت والجبال فيوم القيامة تزول الجبال وتفرض الأرض فلا يصبح فيها أمت -أي: لا يصبح فيها عوج- كما قال تعالى: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:107] ، فتمد الأرض وتبسط فيزاد في مساحتها، وعلى رأي القائلين بأن الأرض كروية فإن معنى مدها: بسطها وفردها، قال سبحانه في الآية الأخرى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] ، فهي أرض أخرى أو هي نفس الأرض لكن يعتريها أشياء فتصبح كأنها أرض أخرى، والقولان لأهل العلم لكن الظاهر أنها أرض أخرى.

تفسير قوله تعالى: وإذا الأرض مدت.

تفسير قوله تعالى: وإذا الأرض مدت.) قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} فإذا مدت -كما أسلفنا القول- أو فردت فما بداخلها وما بثناياها يطلع ويخرج على وجهها، كالشيء المنثني إذا فردته خرج ما بداخله ما بين الكسرات، وهكذا الأرض بداخلها أشياء أطبقت عليها فإذا فردت خرج ما بداخلها من أشياء. ومن ثم قال تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:4] . ((وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا)) أي ما بداخلها. وما هو الذي بداخلها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تقيء الأرض -تقيء من قاء يقيء- أفلاذ كبدها كأمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيأتي القاطع ويقول: -وهو ينظر إلى الذهب والفضة الذي ألقته الأرض على وجهها- في هذا قطعت رحمي، ويأتي القاتل ويقول: في هذا قتلت، ويأتي السارق ويقول: في هذا قطعت يدي) أي: في هذه الأشياء التي لا قيمة لها وأصبح لا وزن لها فالقاتل يستحقر نفسه كيف أنه قتل أخاه المسلم من أجل هذا الذهب الذي ألقته الأرض ولفظته، وهذا على قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا)) أي: ما بداخلها من كنوز ومن معادن من ذهب وفضة وعلى القول الآخر: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:4] أي: ألقت ما فيها من الأموات الذين كانوا بداخلها، كما قال الله سبحانه: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:44] ، وكما قال سبحانه: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:4] أي: أثيرت واستخرج ما بداخلها. إذاً: القول الأول: أن (ألقت ما فيها) ، أي: ما بداخلها من كنوز، على ما ورد في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، والقول الثاني: (ألقت ما فيها) أي: من الأموات، كما قال سبحانه: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} فبعد أن كانت لهم كفاتاً أحياءً يمشون عليها وأمواتاً يدخلون في بطنها، يوم القيامة تلفظ كل من في بطنها وتتخلى عن المسئولية. (ألقت ما فيها وتخلت) أي: قائلة: يا رب! هذه المسئولية التي حملتني إياها فهؤلاء عبيدك الذين دفنوا في بطني هاهم بين يديك وهذه المعادن التي أودعتها فيّ هاهي بين يديك، وتفرغ تماماً وتتخلى عن كل مسئولية قد حملتها هذه الأرض. {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:4-5] استمعت ما يملى عليها وتؤمر به من الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح.) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ} [الانشقاق:6] والخطاب لعموم الإنسان المؤمن والكافر. {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} [الانشقاق:6] (كادحٌ) . أي: عامل، و (كدحاً) عملاً، فالمعنى: يا أيها الإنسان المؤمن! يا أيها الإنسان الكافر! يا أيها الإنسان العاصي! فهو لفظ عام {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} [الانشقاق:6] أي: عاملٌ إلى ربك عملاً {فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فملاقٍ عملك يوم القيامة وإنك ساعٍ إلى ربك سعياً فملاقٍ سعيك، وكل أعمالك التي تعملها الآن ستلقاها يوم القيامة. وقد تواردت بذلك الآيات في كتاب الله والأحاديث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] وكما قال عز وجل: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] فإذا كان الشخص لابد أن يلقى عمله يوم القيامة فيجدر به أن يحسن العمل الذي سيقابله يوم القيامة. (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) : هل ملاقٍ كدحك أو ملاقٍ ربك؟ الأقرب في هذه الآية أنه ملاق لكدحه وإن كان سيلاقي ربه أيضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ملاقوا ربكم) والأحاديث ثابتة بذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بيمينه.

تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بيمينه.) قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق:7] * {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] في الآية فضل اليد اليمنى في الآخرة وتلقي الكتب بها، وأما فضلها في الدنيا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعطي أحدكم إلا بيمينه ولا يأخذ إلا بيمينه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمسّن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها) ، فاليد اليمنى مفضلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأيمنون الأيمنون) فكل ما هو على اليمين له فضل، وقد شرب النبي صلى الله عليه وسلم ماءً ثم ناول فضله من عن يمينه، وكان يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق:7] المراد بالكتاب الكتاب الذي أثبتت فيه أعمال العبد. {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) أو (من حوسب عذب) ، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أوليس يقول الله سبحانه وتعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك العرض) أي: المراد بالحساب اليسير في هذه الآية العرض، وأما المراد بالعرض في هذا الحديث فمن العلماء من قال: عرض أعمال العبد على العبد نفسه، ومنهم من قال: عرض العبد على الله، والصواب من القول هو ما أيده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المراد بالعرض عرض أعمال العبد بين يديه أمام ربه سبحانه وتعالى، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل يدني المؤمن يوم القيامة ويضع عليه كنفه ويستره عن الناس ويقرره بذنوبه، عملت يوم كذا وكذا، وعملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! نعم يا رب! حتى يظن العبد أنه هلك، فيقول الله سبحانه وتعالى: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) ومن العلماء من جنح إلى تفسير العرض بالعرض على النار والمرور عليها والورود والله سبحانه أعلم. إذاً: المراد بالحساب اليسير هنا على ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم: عرض أعمال العبد عليه بين يدي ربه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره.

تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره.) {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] إن قال قائل: في هذه الآية أن كتاب بعض الناس يؤتى من وراء الظهر وآيات أخرى فيها أن الكتاب يؤتى بالشمال فكيف يجمع بين الآيات التي فيها أن الكتاب يؤتى بالشمال كما قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] وغيرها من الآيات التي فيها أن الكتاب يؤتى من وراء الظهر كهذه الآية؟ أجاب عددٌ من العلماء: بأنه لا يمتنع أن يؤتى العبد كتابه بشماله وراء ظهره. أي: يأخذه بيده اليسرى من خلف ظهره، قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} [الانشقاق:10] أي: كتاب أعماله ((وَرَاءَ ظَهْرِهِ)) أي: بشماله ويده الشمال موضوعة خلف ظهره ويتناول كتابه على هذا الوجه. {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:11] (ثبوراً) . هلاكاً فيدعو على نفسه بالهلاك، كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] وهذا الموقف من المواقف التي هي في غاية الحرج والرعب يوم القيامة، فمواقف يوم القيامة كلها أهوال إلا على من خفف الله عنه، ومن أشد هذه الأهوال: وقت تلقي الكتب وتطاير الصحف، وعرض الأعمال على الموازين، والمرور على الصراط، فدعوى المرسلين على جنبتي الصراط: (رب سلم سلم) فهذه كلها مواقف يواجهها العبد يوم القيامة فيأتي وقت استلام الكتاب والله أعلم هل يناول الكتاب باليد اليمنى ويمد يمينه لتلقي كتابه أو يتناوله باليد اليسرى من وراء الظهر؟ وهل يمر على الصراط كالبرق أو يتعثر على الصراط أو يسقط؟ هل ترجح كفة حسناته أم تطيش؟ كلها أهوال، والمعافى من عافاه الله، قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:10-11] يدعو على نفسه بالهلاك؛ ولكن كما قال تعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا} [الفرقان:14] أي: هلاكاً واحداً {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14] أي: لا تقولوا: يا رب الهلاك مرة ولكن قولوها مرات. {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} أي: يقول: واثبوراه {وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:12] أي: يدخل السعير مصلياً بحرها {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:13] أي: كان في الدنيا مسروراً لا يخاف الآخرة ولا يرجو لها حساباً {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] (يحور) يرجع. والمعنى: يرجع حياً بعد موته {بَلَى} [الانشقاق:15] بلى ليحور، أي: بلى ليرجعن {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق:15] .

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق.

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق.) قال الله: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:16] أي: فلا يظن هذا الظن السيئ: أنه لا بعث {فَلا} أكد هذا النفي قوله تعالى: {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:16] . أي: أقسم أن البعث آتٍ بالشفق وأقسم على بطلان ظنه أنه لا بعث بالشفق، والمراد بالشفق شفقان شفق أحمر وشفق أبيض، والشفق هو الحمرة التي تكون في اتجاه غروب الشمس مستعرضة في السماء وهي التي بها يدخل وقت العشاء، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وقت العشاء ما لم يغب الشفق) فالمراد بالشفق هنا الشفق الأحمر، أما الشفق الأبيض فقد يمتد إلى منتصف الليل أو إلى قريب الفجر، فالشفق المعول عليه في الحديث في انتهاء وقت المغرب هو الإحمرار الذي يكون في اتجاه غروب الشمس وإذا اختفى هذا الإحمرار دخل وقت صلاة العشاء، فرب العزة يقسم بهذا الشفق فيقول سبحانه: ((فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ)) وقوله: {فَلا} نفيٌ للظن الذي تقدم ثم أكد هذا النفي بقوله تعالى: {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:16-17] . ((وَسَقَ)) معناها: جمع وحوى ولف وضم. أي: والليل وما جمع. والليل يجمع أشياء، فالليل فيه تنتشر الشياطين وفيه تنزل الثريا، وفيه تخرج السباع والهوام من أماكنها وتنتشر الحشرات، وينتشر أهل الشر والفساد يسطون على العباد، وتحاك المؤامرات في الليل، فلهذا أستعيذ بالله منه في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] ، وهو الليل إذا دخل وهو القمر أيضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} دل على أن الليل يجمع أشياء، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (فأوكئوا القرب واذكروا اسم الله، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، وخمروا الآنية واذكروا اسم الله، وأطفئوا المصابيح واذكروا اسم الله) . {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي: وما جمع وحوى. {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:18] أي: اكتمل واستوى، وهذا حينما يكون مكتملاً وذلك ليلة الرابع عشر، فيكون القمر متسعاً ومتسقاً، فقوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي: إذا اكتمل، فإن للقمر منازل، كما قال سبحانه: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] فيتسق القمر في ليلة الرابع عشر والخامس عشر. {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} من العلماء من قال: إن هذا القسم مردود على ما سبق ونفي الظن أنه لا بعث، ومنهم من قال: إنه قسم مبتدأ لما سيأتي {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:16-18] على ماذا هذه الأيمان؟ على الآتي ألا وهو {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] فالمعنى: أقسم بالشفق، وبالليل وما وسق، والقمر إذا اتسق {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أي: أنكم سوف تركبون طبقاً عن طبق. وفي قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قراءتان: القراءة الأولى: ((لَتَرْكَََبَنَّ)) بالفتح، والقراءة الثانية: ((لَتَرْكَبُنَّ)) بالضم، وقول من قال: ((لَتَرْكَََبَنَّ)) قال فريق من العلماء: إن المخاطب بهذه الآية هو النبي عليه الصلاة والسلام، فالمعنى لتركبن يا محمد حالاً بعد حال، ولتتغيرن بك الأمور حالاً بعد حال، وللعلماء في هذه -الحال بعد الحال- جملة أقوال: القول الأول: لتركبن يا محمد سماءً بعد سماء -وهذا في المعراج- وتنتقل من سماء، إلى سماء واستدل لهذا القول بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:15] فسماء بعد سماء. يعني: طبقاً عن طبق. القول الثاني: {لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] يا محمد! لتتغيرن أحوالك من حالٍ إلى حال فأنت في حالٍ مستضعف، وفي حالٍ قوي، في حال فقير، وفي حال غني، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6-8] فتغيرت أحوالك يا محمد. والقول الثالث: {لَتَرْكَََبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:10] ، أي: لتعلون منزلة بعد منزلة وشرفاً بعد شرف وقربة إلى الله سبحانه وتعالى بعد قربة، هذا إذا كان المراد في قوله: ((لَتَرْكَبُنَّ)) محمداً عليه الصلاة والسلام، وهو قول تقلده كثيرٌ من المفسرين. القول الثاني: أن المراد بقوله: (لَتَرْكَََبَنَّ) أي: السماء. أي: لتتغيرن أحوال السماء حالاً بعد حال، فمرة تكون السماء كالمهل، ومرة تنشق، ومرة تنفطر، ومرة تصبح السماء وردة كالدهان، فتتغير أحوال السماء من حالٍ إلى حال، ومن لونٍ إلى لون آخر، هذا على تأويل: (لَتَرْكَََبَنَّ) لأن الكلام فيه يعود على السماء، وأنها تتغير أحوالها لما يعتريها من أمر ربها سبحانه وتعالى. القراءة الثانية: (لَتَرْكَبُنَّ) بضم الباء والمراد بها: الناس أو الإنسان، والمراد بالأحوال أو بالأطباق التي يركبها الناس ((طبقاً عن طبق)) جملة أقوال أحد هذه الأقوال: أن طبقاً عن طبق: حالاً بعد حال، في بطن أمك نطفة، ثم بعد أن تكون نطفة تكون علقة، ثم تكون بعد ذلك مضغة، ثم بعد المضغة تخرج من بطن أمك، ثم تكون طفلاً، ثم تقوى، ثم بعد القوة يحصل لك الضعف والشيب، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] . فقوله تعالى: ((طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)) أي: حالاً بعد حال، من النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى الطفل، إلى الشباب، إلى الشيخوخة، إلى الموت. القول الثاني: في {طَبَقاً عَنْ طَبَق} حالاً بعد حال؛ لكن المراد به: تعتريك أيها الإنسان أحوال، فيعتريك الموت، ثم بعد الموت البعث، والمرور على الصراط، والميزان، وتلقي الكتاب، والجنة أو النار، فكلها أحوالٌ تعتري الإنسان، وكلها أطباق تعتري الإنسان. والقول الثالث: أن {لَتَرْكَََبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أيها الإنسان! إنك ستتغير أحوالك، من صحة إلى ضعف، ومن ضعف إلى مرض، أو من مرض إلى صحة، ومن صحة إلى مرض، ومن غنى إلى فقرٍ، ومن فقرٍ إلى غنى، ومن رفعة إلى ضعة وذلة، ومن ضعة وذلة إلى رفعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] . هذه بعض الأقوال في تفسير قوله تعالى: {لَتَرْكَََبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:10] . والحاصل: أن أحوال الإنسان لا تثبت على شيء واحدٍ أبداً، فإنك الآن في حياة وسيأتيك الموت لا محالة، وبعد الموت البعث، وأنت الآن قوي وغداً ستضعف ولابد، وأنت الآن غني وقد تتقلب بك الأحوال، وهكذا فالشاهد أن قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أي: لتتغيرن أحوالكم أو أحوالك يا محمد حالاً بعد حال أياً كان هذا الحال. إذاً: المعنى: أن حال الإنسان لا يثبت على وضع واحد، فجدير بالإنسان إذا كان هذا شأنه، أن يكون شاكراً في السراء، صابراً على البلاء في الضراء.

تفسير قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون.

تفسير قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون.) قال الله: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:20] أي: ما لهم لا يؤمنون وهذه أحوالهم؟! وهذا استفهام المراد منه التوبيخ لهؤلاء المعرضين عن طريق الله سبحانه وتعالى. {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} إذا كنت أيها الشاب لابد وأن تمر بك حالة تضعف فيها وتمرض فلم لا تؤمن {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون، {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] سجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية. قال أبو رافع رضي الله عنه: (صليت خلف أبي هريرة رضي الله عنه صلاة العشاء فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد فيها، فقلت له في ذلك، قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فجهر بها فسجد فيها فلم أزل أسجد حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام) فسجود التلاوة مشروع عند هذه الآية، والأحاديث التي صحت في سجود النبي صلى الله عليه وسلم سجود التلاوة في أربعة مواقف: سجد النبي سجود التلاوة في النجم، وفي العلق، وفي الانشقاق، وفي (ص) . قال سعيد بن جبير: (سألت ابن عباس عن سجدة (ص) فقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84] الآيات إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فأمر نبيكم عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بهم، وممن أمر نبيكم أن يقتدي به داود صلى الله عليه وسلم فسجدها داود -أي: أن داود سجد في قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24]- فسجدها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وما سوى هذه السجدات ففيها آثار موقوفة وبعض دعاوى الإجماع، أما سجدة (الم تنزيل) فقد قال عنها أمير المؤمنين علي: إنها من عزائم السجود، وكذلك القول في سجدة فصلت، أما سجدات الحجر والنحل والرعد والأعراف وغير ذلك من السجدات، فالوارد فيها آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسجود التلاوة لا يشترط فيه الوضوء على الصحيح، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قرأ آية النجم فسجد فيها سجد من معه من المسلمين والمشركين ويُبعد أن يكون كلهم على وضوء. قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق:21-22] من العلماء من قال: (بل) بمعنى (لكن) فهذا عند بعض العلماء {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:21-23] (يوعون) معناها: يكتمون ويسرون، وهي من الوعاء. {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق:24] فيه دليل على أن البشارة لا تكون في كل الأحوال بالخير، وقد تقدم الكلام على ذلك، فإن البشارة إذا أطلقت فهي بشارة بالخير وهذا إذا لم تكن مقيدة، لكن إذا قيدت قد تكون بالخير أو بالشر على حسب الوارد فيها، فقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17-18] بشرهم بالجنان، وقوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] وبشرهم بالجنان أيضاً، أو كما قال الرسول: (هي الرؤيا الصالحة يراها العبد المؤمن أو ترى له) ، لكن قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قيدت البشارة بالعذاب الأليم، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وحيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار) . قال الله سبحانه: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الانشقاق:24-25] (إلا) بمعنى: (لكن) . {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25] أي: غير مقطوع، والله أعلم. وقد فاتنا في تفسير هذه السورة شيئين فلزم الرجوع إليهما: الشيء الأول: قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] أين جوابه؟ أم {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] ماذا سيحدث؟ من العلماء من قال: إن جوابه هو قوله: ((إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)) ، فالمعنى: يا عبد الله! إنك ستلاقي كدحك. الوجه الثاني: أن الجواب محذوف، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} هنالك تعلم كل نفس ما قدمت وما أخرت. الشيء الثاني: قوله تعالى في شأن المؤمن: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:9] ، من المراد بالأهل الذين ينقلب إليهم -أي: يرجع إليهم- المؤمن يوم القيامة مسروراً؟ من أهل العلم من قال: إن المراد بالأهل هنا: الحور العين اللواتي أعدهن الله سبحانه وتعالى للمؤمن، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلون لا يراهم الآخرون) . إذاً: من العلماء من قال إن قوله تعالى: ((وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ)) أي: من حور العين اللواتي أعدهن الله سبحانه وتعالى للمؤمن. القول الثاني: أن قوله: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:9] ، أي: إلى ذويه من أهل الصلاح الذين سبقوه في الجنان، فأنتم تعرفون أن دخول الجنة على مراحل، فهناك قوم يسبقون إلى الجنان، وقوم يتأخرون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام) ، وكما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11] ، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة) ، فدل ذلك على أن دخول الجنان على مراحل. فقوله: ((ويَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ)) أي: إلى أهله الذين سبقوه من أهل الصلاح إلى الجنان، وينقلب أيضاً إلى ذويه. وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله.

الأسئلة

الأسئلة

المهدي بين الحقيقة والخيال

المهدي بين الحقيقة والخيال Q هل المهدي حقيقة أم خيال؟ A المهدي توسع فيه المتوسعون، ونفاه أيضاً آخرون، والتوسط فيه: ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل الوارد فيه أحاديث محصورة محدودة جداً: منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يخرج رجلاً يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه يواطئ اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً) ، وهذا الحديث ليس فيه ذكر اسم المهدي. والحديث الثاني في صحيح مسلم: (كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم) ففي الحديث أن إمامنا يأتي يقدم عيسى عليه الصلاة والسلام للصلاة بالناس فيقول عيسى: لا، بعضكم على بعض أئمة، كرامة من الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة. وحديث ثالث في نفس المعنى. فهذا الذي يحضرني في شأن المهدي. وقد زاد ناس جملة أحاديث أخر في غاية الكثرة في شأن المهدي ولم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخرون نفوا كل الأحاديث متبعين الظن وتاركي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب التوسط فيه والوقوف مع الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: جاءت أوصاف في شأن المهدي (أنه أقنى الأنف، وأجلى الجبهة) لكن هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر الأوصاف التي وردت فيه لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد حديث آخر: (إذا رأيتم الرايات السود مقبلة من قبل خراسان، فاعلموا أن فيها خليفة الله المهدي) الحديث من ناحية الإسناد، إسناده ثابت، لكن بعض أهل العلم يرى أن به بعض العلل، وقد نفاه بعض (الدكاترة) في الجامعات، وفي الحقيقة أن (دكاترة) الجامعات مشاربهم في أكثر أحوالها من المعتزلة، فهم يشربون من شراب المعتزلة الفكري والعقلي، ويتركون في أكثر أحوالهم وأحيانهم سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الإحرام من الميقات لمن نوى الحج أو العمرة

الإحرام من الميقات لمن نوى الحج أو العمرة Q شخص يذهب لأداء العمرة إن شاء الله؛ ولكنه سيبيت ليلة أو ليلتين في جدة فهل إحرامه يكون من جدة أو من رابغ؟ A إحرامه يكون من رابغ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في شأن المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة) فإذا خرجت تريد الحج أو العمرة فأحرم من الميقات الذي تمر به، أما إذا كنت خارجاً لشغل والعمرة أو الحج عرضاً في رحلتك فإذا نويت العمرة من أي مكان فأحرم، لكن لو كنت خارجاً بقصد العمرة، فأحرم من الميقات ولا بأس أن تبيت ليلة أو ليلتين في جدة في إحرامك.

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وحكم إعطاء الزوج منها

حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وحكم إعطاء الزوج منها Q أقوم بتحفيظ بعض الأولاد القرآن الكريم في بيتي. فهل يجوز أن آخذ على ذلك أجراً؟ وهل لزوجي حق في هذا المال؟ A نعم يجوز أن تأخذ على ذلك أجراً، وهو رأي الجمهور لحديث: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) والأحاديث التي تقاومه إما ضعيفة، كحديث: (علمت رجلاً القرآن، فأهدى به قوساً) فالراجح أنه ضعيف. إذاً: الأحاديث التي تقاوم حديث جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن إما ضعيفة وإما موجهة. وإذا كانت السائلة امرأة فالأجرة لها، إلا إذا منعها الزوج من التدريس وبشرط عليها، فله ولها الشرط الذي اتفقا عليه.

حكم تغسيل المرأة لزوجها والصلاة عليه

حكم تغسيل المرأة لزوجها والصلاة عليه Q هل للمرأة أن تصلي على زوجها بعد موته وتغسله؟ A نعم. لها أن تصلي عليه بعد موته وأن تغسله، أما الصلاة عليه فلأن سعد بن أبي وقاص لما مات أرادت أم المؤمنين عائشة أن يصلى عليه في المسجد حتى تصلي عليه من غرفتها، فكأن الناس أنكروا ذلك، فقالت: سبحان الله!! ما أسرع ما نسي الناس، وهل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل بن بيضاء إلا في المسجد) . أما تغسيل زوجها فلقول أم المؤمنين عائشة: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) .

حكم تأخير قضاء رمضان للحامل إلى بعد رمضان الثاني

حكم تأخير قضاء رمضان للحامل إلى بعد رمضان الثاني Q عليّ أيام من رمضان الماضي والآن حامل، وأجد مشقة في تحمل الجهد، فهل لي أن أرجئه إلى ما بعد الولادة؟ A نعم. لكي أن ترجئي صيام الأيام إلى ما بعد الولادة، والصحيح أنه ليس عليكِ كفارة أيضاً.

أفضلية ميامن الصفوف

أفضلية ميامن الصفوف Q هل يمين الصف الأول في الصلاة أفضل من يسار الصف الأول؟ A بالنسبة لصفوف الصلاة، فقد ورد حديث يفضل اليمين على اليسار وهو حديث: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) لكن هذا اللفظ معلول، والصحيح عند العلماء بلفظ: (إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف) ولفظ (ميامن الصفوف) بعيد، فعلى ذلك يستوي الأمر في شأن الصلاة؛ لكن إذا كان الشخص فرداً واحداً فالرسول حوّل ابن عباس من على يساره فجعله عن يمينه، لكن إذا كانوا اثنين أو ثلاثة فالأمر واسع.

صلاة الطفل يمين الإمام

صلاة الطفل يمين الإمام Q هل يصف الولد بجانب أمه إذا كان أبوه إماماً؟ A لا. الولد يتقدم عن يمين أبيه والأم تتأخر، لحديث أنس: (صليت عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم والعجوز خلفنا) .

المراد بالحمو

المراد بالحمو Q هل أبو الرجل يكون حمواً؟ A من ناحية الاسم، أو التعريف اللغوي: الأحماء هم أقارب الزوج، لكن ليس هو الحمو المراد في حديث: (أرأيت الحمو؟) فإن الحمو في حديث: (أرأيت الحمو؟) هو أخو الزوج أو قريب الزوج الذي ليس محرماً لزوجة الابن.

حكم الحج مع معارضة الوالد

حكم الحج مع معارضة الوالد Q من حج أو أراد أن يحج مع معارضة أبيه؟ A ينظر إلى سبب معارضة أبيه، إن كان أبوه يعارضه على أصل الحج ويقول له: لا تحج أصلاً، فلا يطاع الأب، لكن إذا قال له الوالد: أنا لا أمنعك من الحج؛ لكن هذا العام صحتي لا تسمح أن أترك وحدي مثلاً فأخشى على نفسي الموت، أو أي سبب، فحينئذٍ يطاع الوالد إذا أخره عاماً لعلته -والله أعلم- وهذا مبني على الخلاف حول الحج على الفور أو على التراخي، أي: بمجرد ما تستطيع الحج: هل تحج فوراً أو يجوز لك أن تُؤخر الحج شيئاً ما؟! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تفسير سورة البروج

تفسير سورة البروج ذكر الله سبحانه قصة الذين حفروا للمؤمنين الأخاديد، وأضرموا فيها النيران، ثم ألقوا من يثبت على دينه فيها، مبيناً أن سبب النقمة من الكفار على المسلمين في كل عصر وحين هو إيمانهم بالله العزيز الحميد.

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات البروج.

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات البروج.) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الله. وبعد: قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1] يقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات البروج. أي: التي لها بروج، و (البروج) من العلماء من قال: إنها الكواكب والنجوم، وشاهد ذلك من التنزيل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر:16] ، فمن العلماء من قال: البروج: النجوم الكبار أو الكواكب. ومنهم من قال: (البروج) : مطالع الشمس والقمر. قال تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:2] . اليوم الموعود على رأي جمهور المفسرين هو يوم القيامة.

بيان جواب القسم في قوله تعالى: (والسماء ذات البروج)

بيان جواب القسم في قوله تعالى: (والسماء ذات البروج) من العلماء من قال: جواب القسم هو قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] وكلمة (قُتِلَ) في كتاب الله في عموم الآيات إلا شيء مستثنى بدليل كلمة ((قُتِلَ)) معناها: لعن، {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] ، {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] ، {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] إلى غير ذلك، فمن العلماء من قال: إن جواب القسم في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، هو قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} أي: أن الله يقسم أن أصحاب الأخدود ملعونون. ومن العلماء من قال: إن جواب القسم متأخر شيئاً ما، وهو {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] أي: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ، وثم أقوال أخر.

تفسير قوله تعالى: (وشاهد ومشهود)

تفسير قوله تعالى: (وشاهد ومشهود) قال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] ، أما (الشاهد) له معنيان: الأول: قد يطلق على الحاضر. الثاني: يطلق على الناظر أو الرائي. تقول مثلاً: شهدت موسم الحج، أي: حضرت موسم الحج. فمن معاني الشهادة: الحضور، ومن معانيها: الرؤية، شهدت كذا وكذا، أي: رأيت كذا وكذا. فمن العلماء من قال: المراد بـ (الشاهد) : الحاضر، فأقسم الله بالشاهد. ما هو الشاهد على تأويل الشاهد بالحاضر؟ للعلماء في ذلك أقوال: أحدها: أن (الشاهد) : كل الخلائق، والمشهود: يوم القيامة، فالمعنى على هذا التأويل: أن الله يقسم بالناس أو بالخلائق التي ستشهد موقف الحساب، (فالشاهد) أي: الحاضر وهم الخلائق، و (المشهود) : هو يوم القيامة. القول الثاني: أن (الشاهد) : هم الذين يصلون الجمع، يعني: هم الحضور الذين يحضرون صلاة الجمع، و (المشهود) : هو يوم الجمعة. الثالث: أن (الشاهد) : هم الحجيج الذين يشهدون عرفات، فـ (المشهود) : هو عرفات. الرابع: أن (الشاهد) : هم الحجيج، والمشهود: يوم النحر. هذه بعض الأقوال في تفسير (الشاهد) بمعنى: الحاضر. والقول الثاني في تفسير (الشاهد) : بمعنى: الرائي والناظر، أو بمعنى أوسع شيئاً ما: (الشاهد) : الذي تقوم به الشهادة، وتثبت به الدعاوى، فمن العلماء من قال: إن (الشاهد) أي: الشاهد على الخلائق والذي تقوم به الدعاوى، فـ (الشاهد) هو الله، و (المشهود) : هو التوحيد، واستدل لهذا القول بقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] . والقول الثاني: أن الشاهد: هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: الخلائق أيضاً مشهود عليهم، والذي يشهد للقول الثاني قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] . الثالث: أن (الشاهد) : هم الأنبياء عموماً، والمشهود عليهم: أممهم. الرابع: أن (الشاهد) : أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتشهد على سائر الأمم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض) ، أو (يدعى نوح يوم القيامة، فيقال: يا نوح! هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقول قومه: ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح: من يشهد لك يا نوح؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته) . هذه بعض الأقوال في تفسير (الشاهد) و (المشهود) ، واختار قوم من أهل العلم العموم، فقالوا: كل ما يصلح أن يطلق عليه شاهد فهو شاهد، وكل ما يصلح أن يطلق عليه مشهود فهو مشهود، وهذا اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فعلى ذلك: يدخل في لفظ (الشاهد) الحجيج الذين يشهدون الحج، والمصلون الذين يشهدون الجمع، والمصلون الذين يشهدون الأعياد، ويدخل في لفظ (الشاهد) الشاهد الذي تثبت به الدعاوى، وعموم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المسلك يسلكه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في مواطن متعددة، فتجده دائماً يجنح إلى القول بالعموم، كما تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1] ، فللعلماء في تفسير: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1] أقوال: منها: أنها الملائكة، ومنها: أنها البقر الوحشي، ومنها: أنها القسي التي تنزع منها السهام إلى غير ذلك من الأقوال، فكان ابن جرير الطبري دائماً يجنح إلى اختيار القول العام الذي تندرج تحته كل هذه الأقوال. فقوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] : أقسم الله سبحانه وتعالى بثلاثة أشياء: بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود، وبالشاهد والمشهود، وإذا أقسم الله سبحانه وتعالى بشيء دل هذا القسم على أهمية، المقسم به، فاليوم الموعود له أهمية وصلوات الجمعة والأعياد والحج لها أهمية، وكذلك كل ما ذكر تحت قول {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] فله أهمية، فلا تجد في كتاب الله أن الله يقسم بشيء حقير، إنما يقسم بالسماء والطارق، ويقسم بالشمس وضحاها، ويقسم بالليل إذا يغشى، وبالضحى. إلى غير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود.

تفسير قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود.) قال الله سبحانه: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] (قُتِلَ) أي: لعن. (أَصْحَابُ الأُخْدُودِ) : أطلق عليهم أصحاب الأخدود؛ لأنهم هم الذين حفروه، فهم القتلة الظلمة، وليس المقصود: المقتولين، فـ {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} ، لعن الذين خدوا الأخدود. و (الأخدود) : شق في الأرض، فلعن الله سبحانه وتعالى من شق هذه الشقوق في الأرض، وأضرم فيها النيران، وألقى فيها المؤمنين. قال تعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:5] لماذا وصفت النار بأنها ذات الوقود؟ من العلماء بل جمهورهم من قال: وصفت النار بذات الوقود؛ لبيان عظمها وشدة هولها، فكانوا قد أججوا حطباً وأوقدوا نيراناً عظيمة، فوصفت بأنها ذات الوقود لهذا. قال تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6] يعني: الذين خدوا الأخاديد جلسوا بجوارها، فليس معنى (عَلَيْهَا) فوقها، وقد قدمنا أن حروف الجر في الكتاب العزيز تتناوب: (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا) ، أي: على جوانبها. (قُعُودٌ) ، أي: حضور يشاهدون أهل الإيمان وهم يعذبون. {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} ، فـ ((عَلَيْهَا)) : ليس معناها كما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75] ، يعني: قائماً بالمطالبة. قال تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] أي: حضور يشاهدون.

تفسير قوله تعالى: (وما نقموا منهم.

تفسير قوله تعالى: (وما نقموا منهم.) قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] ، كانت الجريمة التي بسببها ألقي أهل الإيمان في النار أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد. قد يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فيكف تسلط أهل الكفر على هؤلاء المؤمنين وقذفوهم في النار؟ ف A لأهل العلم أجوبة على ذلك: منها: أن المراد بالسبيل المنفي في قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] السبيل إلى القلوب بالحجج، فلا يستطيع الكافر أن يصل بحجته إلى قلب مؤمن أبداً، بل كما قال الله سبحانه وتعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:16] أما السبيل على الأبدان فقد نيل من بعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل قتل بعضهم، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21] فأفادت الآية أن هناك أنبياء قتلوا بغير حق، وأيد ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [النساء:155] فدلت الآيات على أن هناك أنبياء قتلوا، وأن هناك من يأمر بالقسط من الناس قتل وشرد وطرد وأخرج. إذاً: السبيل المنفي هو: سبيل الوصول بالحجج إلى قلوب المؤمنين، فدائماً حجة الكفار داحضة واهية. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) . أي: سبب انتقام أهل الكفر من المؤمنين ليس لذنب صنعوه إنما هو الإيمان بالله العزيز الحميد. (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، ورد في هذا الباب حديث أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى وهم مشابه لسياق الآيات في سورة البروج، لكن هل هو المراد بالآيات الكريمة أو هو فعل وحدث مستقل تم في ظروف أخر؟ الجواب: من العلماء من نزل الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث صهيب رضي الله عنه الذي فيه: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إن كبرت فابعث لي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه السحر، فكان هذا الغلام إذا ذهب إلى الساحر مر في طريقه براهب، فجلس يستمع إلى الراهب فأعجبه كلامه، فكان الغلام يتخلف عند الراهب كثيراً فيؤذيه أهله ويؤذيه الساحر، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا سألك أهلك: لمَ تأخرت؟ فقل: حبسني الساحر، وإذا سألك الساحر فقل: حبسني أهلي، فمضى على هذا الحال مدة، وذات يوم مرّ هذا الغلام على دابة عظيمة قد حبست الناس ومنعتهم من المرور، فقال: اليوم أعلم أأمر الساحر أحب إلى الله سبحانه وتعالى أم أمر الراهب، فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كنت تعلم أن أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة واجعل الناس يمرون، فرمى الدابة فماتت، فمر الناس، فعلم أن أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل من أمر الساحر، فازداد تعلقه بالراهب، وكان يداوي الأمراض، فيبرئ الأكمه والأبرص والأعمى بإذن الله، فسمع به جليس للملك كان قد كبر فعمي، فأرسل إليه فجاءه، فقال: إني سمعت أنك تبرئ الأسقام وها أنا قد عميت، فقال: إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله لك فشفاك، فآمن بالله، فدعا الله عز وجل فشفاه، فذهب هذا الرجل إلى الملك، وذهب الغلام إلى الراهب، فقال الراهب للغلام: أنت الآن أفضل مني وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل عليّ، فذهب جليس الملك إلى الملك، فإذا به قد رد إليه بصره، فقال الملك: من رد إليك بصرك؟ قال: الله. قال: أو لك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فما زال يضربه ويقرره حتى اعترف له أن الذي فعل به هذا هو الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتشفي العمي، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله سبحانه وتعالى: قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فما زال يضربه ويؤذيه حتى دل على الراهب، فجيئ بالراهب، فقيل له: إما أن ترجع عن دينك وإلا قتلت، فثبت -أي: ثبته الله سبحانه وتعالى- فجيئ بالمنشار فوضع على مفرق رأسه ثم نشر فشق نصفين، ثم جيء بجليس الملك فقيل: إما أن ترجع عن دينك وإلا قتلت، فثبته الله، فنشر بالمنشار نصفين، ثم جيء إلى الغلام، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى أن يرجع عن دينه، فأمر به الملك أن يؤخذ ويرسل إلى أعلى قمة جبل ويلقى من فوقها، فذهبوا به، فاعتصم بالله وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فهلكوا جميعاً، وجاء الغلام يمشي إلى الملك، فقال: ماذا فعل بك؟ قال: أنجاني الله سبحانه وتعالى، فأرسله مع قوم آخرين، وقال: احملوه معكم في قرقور -أي: قارب صغير- وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه في البحر، ففعلوا فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فلعبت بهم الأمواج فأغرقتهم وأنجاه الله وجاء يمشي، وقال: قد كفانيهم الله بما شاء) الحديث، وفي الأخير: (أن الغلام قال للملك: إنك لست بقاتلي إلا أن تفعل ما آمرك به؛ فتجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخل، وتستخرج سهماً من كنانتي، وتقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلب الغلام، وأخرج سهماً من كنانته وقال: باسم الله رب الغلام، فجاء السهم في صدغه فمات، وآمن الناس كلهم أجمعون، قالوا: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام، فقيل للملك: قد وقع ما كنت تحذر، فأمر بالأخاديد فخدت، فشقت الشقوق في الأرض، وأضرمت فيها النيران، وبدأ بقذف كل من آمن فيها، وكان من هؤلاء -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- المرأة التي كانت ترضع طفلاً صغيراً لها، فأشفقت على طفلها بعد أن نظرت إليه نظرة الوداع، فخشيت على طفلها فقال لها ولدها: يا أماه! لا تقاعسي فإنك على الحق، فتقدمت وألقيت في النار) هل هذا هو الوارد في سورة البروج، أم هذه واقعة أخرى؟ من العلماء من نزلها على سورة البروج، وهي بها لائقة. ومنهم من قال: تعددت أحوال أهل الإجرام. ومن العلماء من قال: إن أصحاب الأخدود في بلاد نجران التي على الحدود بين اليمن والسعودية، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: لعن هؤلاء الذين خدوا الأخاديد للناس أياً كانوا ومن كانوا. {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:5-8] فهذا ليس جرماً ينتقم من الشخص من أجله، كما قال القائل: لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] ، فعلى ذلك: قد يبتلى شخص فيسجن ويقول: ليس عليَّ ذنب، فقل: وما ذنب أصحاب الأخدود؟ وما ذنب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال الكفار أو كما حكى الله مقالتهم، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ؟ ما ذنب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذا قال له قومه: {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت:24] ؟ ما ذنب لوط وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] ؟ فليس لهؤلاء جميعاً ذنب إلا الإيمان بالله سبحانه وتعالى. قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] ، (العزيز) : منيع الجناب، عظيم السلطان الذي لا يغالب. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9] .

تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين.) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] هنا يقف الحسن البصري قفة فيقول رحمه الله: (سبحانك ربنا ما أحلمك وما أرحمك! قوم بطشوا بعبادك المؤمنين، وخدوا لهم الأخاديد، وأضرموا فيها النيران وقذفوهم فيها، وتفتح لهم باب التوبة. {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} دليل على أنهم لو تابوا لقبلت توبتهم، فعلى ذلك: من زلت قدمه في مسألة، فلا ينبغي أن تهدر جميع حسناته بجانب هذه المسألة التي زلت فيها قدمه إن فتح له باب التوبة، فهؤلاء قتلوا الناس وحرقوهم وجلسوا على شفير النيران يتفرجون عليهم، ومع ذلك إن تابوا تاب الله عليهم، وفي عدة آيات من كتاب الله كلما ذكرت كبيرة من الكبائر أو جريمة من الجرائم أتبعت بفتح باب التوبة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] قتل، زنى، أشرك، لكن إذا تاب تاب الله سبحانه وتعالى عليه. قل ذلك لمضيع الصلاة ومتبع الشهوات حتى يتوب، فإن تاب قبلت توبته، وهذه قاعدة أصيلة من قواعد ديننا الحنيف السمح، وهذا من رحمة الله ربنا بنا، كما قال الله سبحانه وتعالى: (يا عبادي! إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) ، وفي الحديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) ، وفي الحديث: (إن إبليس قال لربه سبحانه: وعزتك! لا أبرح أغوي العباد ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي! لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني) . وهكذا فكل من أذنب فليعلم أن باب التوبة مفتوح للتائبين، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فلا ينبغي أبداً أن يقنط أحد من رحمة الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، (فتنوا) . أصل الفتنة: الاختبار بالنار، ثم أطلق لفظ الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه وسوء، كما قال الشاعر: لئن فتنتي لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم. فالفتنة في الأصل: الاختبار بالنار، ثم أطلقت الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه أو سوء. وتطلق الفتنة على الشرك، وتطلق على الصرف والإضلال {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:161-162] أي: بمذلين، {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:163] .

أقوال العلماء عند تكرار العذاب في الآية

أقوال العلماء عند تكرار العذاب في الآية قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] ما هو وجه قوله (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) ، واتباعه بقوله: (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) ؟ من أهل العلم من قال: هما عذابان: عذاب جهنم للكفر، وعذاب إضافي وهو: عذاب الحريق مقابل تحريقهم لأهل الإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل:88] فهم فعلوا شيئين: كفروا، وصدوا عن سبيل الله، {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] ، فعذاب على الكفر، وعذاب للصد عن سبيل الله. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:12-13] فأثقال للكفر، وأثقال مع أثقالهم للإغواء والإضلال. فمن العلماء من قال: هما عذابان: عذاب جهنم للكفر، وعذاب الحريق نتيجة تحريق المؤمنين. ومن أهل العلم من قال: إن المراد بعذاب جهنم الأولي في قوله تعالى: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) : الزمهرير. قال تعالى: (عَذَابُ الْحَرِيقِ) ، الذي هو التعذيب بالنار، فعليه هم يعذبون عذابا بالزمهرير الذي هو البرد الشديد، ثم يتبع الزمهرير بالحريق الذي هو النار، كما قال سبحانه: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57] . (حميم) : انتهى حره وبلغ الدرجة العليا من الحر، و (غساق) : بلغ المنتهى في البرودة. ومن أهل العلم من سلك مسلكاً آخر، فقال: لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا، قال: فإن النار التي أضرموها وألقوا فيها أهل الإيمان تطاير عليهم شررها فأحرقهم. فعلى هذا القول الأخير، يرد التعكير على قول من قال: من الكتاب أو المؤلفين أن كل قوم مجرمين ذكرت عقوبتهم الدنيوية في كتاب الله إلا أصحاب الأخدود فلم تذكر لهم عقوبة في الدنيا، وادخر لهم العذاب في الآخرة، فثم قول يثبت -وهو قول من أقوال العلماء وليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم- أن الذين خدوا الأخاديد للناس أحرقوا بشررها في الدنيا؛ لهذه الآية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] في كتاب الله كثيراً ما يؤتى بحال أهل الإيمان بعد حال الكفار، ولهذا -كما أسلفنا- سمي القرآن مثاني، فمن العلماء من قال: سمي القرآن مثاني؛ لأنه يأتي بحال ويأتي بالحال المقابلة لها، يأتي بحال أهل النيران ثم يأتي بحال أهل الجنان أو ينعكس الأمر، فيأتي بصور من العذاب وصور مقابلة لها، {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:57-58] ، فالله سبحانه وتعالى: قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] ثم قال في المقابل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وقد قدمنا أن التقييد بعمل الصالحات فيه رد على الصوفية من وجوه، منها: أن الصوفية يقولون: إن المجانين أعلى درجة من غير المجانين. ولكن عند جمهور أهل السنة: أن المؤمن الذي يعمل الصالحات أعلى درجة من المجنون؛ لأن المجنون لم يعمل صالحات، فعلى ذلك الذين يتبركون بلعاب المجانين، ويقولون: إن فيه بركة، وأن الله يضع سره في أضعف خلقه -والله أعلم بهذا كله- كل هذا مناقض لقواعد أهل السنة. فأهل السنة عندهم: أن المؤمن العامل الصالح أفضل من المجنون، فمن الأقوال فيه: أنه يختبر في عرصات يوم القيامة، فالله أعلم هل ينجح في الاختبار أو لا ينجح، وهو وإن دخل الجنان فهو في درجة الله أعلم بها، لكن قال الله رب العزة: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] . وفي الآية أيضاً في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، رد على الصوفية ورد على المرجئة، فالمرجئة يقولون: لا يلزم مع الشهادتين عمل، ومن نطق بهما فهو على إيمان كإيمان جبرائيل وميكائيل، وهذا قول الغلاة منهم، والآية فيها رد عليهم؛ لأن فيها البشارة للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} . يقول الله سبحانه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] وهذه الآية في معناها جملة آيات وعدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكما هو معلوم أن الله سبحانه وتعالى واسع المغفرة كما قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وكما قال عن نفسه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] في عدة آيات فكذلك وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه شديد العقاب، ووصف بطشه بأنه شديد، فعلى ذلك: يلزم المؤمن أن يكون دائماً بين حالتي الخوف والرجاء، خوف من الله سبحانه وتعالى أن يصيبه ببعض ذنوبه، وطمع في رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الباب حديث -وإن كان فيه بعض الكلام؛ لأن من العلماء من حسنه- وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد شاباً من الأنصار يحتضر، فقال له: (كيف أنت؟ قال: يا رسول الله! أرجو وأخاف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع مثل هذان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجوه وأمنه من الذي يخاف) فهاتان الحالتان ينبغي بل يلزم أن تصاحب المؤمن دائماً -أي: حالة الخوف، والرجاء- لأن ذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] . قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد} من أهل العلم من قال: يبدئ العذاب ويعيده، أي: أنه سيبدئ العذاب على الكافرين ويعيده عليهم، واستدل قائل هذا القول بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم: (ما من عبد يؤتيه الله عز وجل إبلاً فلا يؤد زكاتها؛ إلا فتح لها يوم القيامة بقاعٍ قرقر، فتمر عليه أثمن ما كانت وأعظم ما كانت، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كل ما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها) فقال: يبدئ ويعيد، يبدئ العذاب ويكرره عليهم. ومنهم من قال: ((يُبْدِئُ)) أي: يبدئ الخلق، كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ} [الروم:27] أي: في الآية على هذا التأويل الأخير إثبات للبعث، واختار عدد من أهل العلم التعميم وأنه يبدئ العذاب ويعيده، حتى أن منهم من قال: يبدئ رحمته ويعيدها أيضاً، فيرجع بالتوبة على التائبين، وهكذا قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14] ، أما (الْغَفُورُ) فمعروف، أما (الْوَدُودُ) فمن العلماء من قال: معناها: الحبيب. قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] (ذُو الْعَرْشِ) ، هل المجيد صفة للعرش أم هي صفة لله سبحانه وتعالى؟ قولان لأهل العلم: أما (المجيد) التي في آخر السورة، (بل هو قرآن مجيد) ، فمن العلماء من فسر المجيد بالكريم لما ربط بين الآيتين {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] ، فقال: (المجيد) هو: (الكريم) . قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج:17] ، من العلماء من قال: (هل) بمعنى: (قد) ، ومنهم من قال: هي استفهام، لكن المراد من هذا الاستفهام: لفت نظر النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد منه: التنبيه، هل أتاك حديث الجنود وما حل بهم؟ {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:18] ، نعم. قد جاءك هذا الحديث ولكن الذين كفروا في تكذيب مستمر، فالمعنى: أنه قد أتاك حديث الجنود يا محمد وما حل بهم، وقد بلغ قومك حديث الجنود وما حل بهم، ولكنهم في إباء وعناد، والله سبحانه وتعالى قال في آية أخرى: (وَإِنَّكُمْ) أي: يا معشر قريش {لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] يعني: أنتم تمرون بمدائن قوم لوط، وبمدائن ثمود، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ مُصْبِحِينَ) في صباحكم وأنتم مسافرون، {وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} ، وكما قال سبحانه: (وَإِنَّهُمَا) أي: مدائن قوم لوط ومدائن قوم ثمود، ((وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ)) أي: لبطريق {مُبِينٍ} [الحجر:79] أي: واضح للمارة، فالله سبحانه وتعالى يقول: قد أتاك حديث الجنود وما حل بهم يا محمد، وبلغ قومك حديث الجنود والذي حل بفرعون وثمود، ولكن: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} [البروج:19] ، أي: دائماً في تكذيب وعناد.

تفسير قوله تعالى: (والله من ورائهم محيط) وبيان منهج أهل السنة في الأسماء والصفات

تفسير قوله تعالى: (والله من ورائهم محيط) وبيان منهج أهل السنة في الأسماء والصفات قال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، هل تمر كلمة (محيط) على ظاهرها لعدم الوقوع في شيء مما يخل بالأسماء والصفات، أو يلتمس لها بعض التأويل؟ منهج أهل السنة في الأسماء والصفات باختصار: أننا نثبت لله ما أثبته لنفسه، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه سبحانه وتعالى، ونثبت لله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفي عنه ما نفاه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا أثبتنا شيئاً لله تنفى المماثلة والمشابهة، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] هذا بإيجاز واختصار شديد كالمضمن في قولنا: لا إله إلا الله، فـ (لا إله) نفي الآلهة، (إلا الله) إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نفي المماثلة {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] إثبات السمع والبصر لله سبحانه وتعالى. أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] من العلماء من التمس لها بعض التأويل، فقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي: أن الله سبحانه وتعالى مهلكهم، واستدل قائل هذا القول بقول الله سبحانه تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42] أي: أهلك ثمره، {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف:42] ، واستدل أيضاً بقول الله سبحانه وتعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:22] ، فمن العلماء من قال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، أي: أن الله سبحانه وتعالى مهلكهم، ومنهم من قال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي: محصٍ لأعمالهم ومجازيهم عليها. قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] أي: كريم. قال تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] ، من أهل العلم من قال: أي: مثبت في اللوح المحفوظ عند الله سبحانه وتعالى. ومنهم من قال قولاً لا أعلم عليه دليلاً ألا وهو: أنه مثبت في جبهة إسرافيل، ولا أعلم لهذا القول سنداً لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكلمة (مَحْفُوظٍ) من أهل العلم من قال: (مَحْفُوظٍ) أي: مثبت، ومنهم من قال: مَحْفُوظٍ من أن تمتد له أيدي العابثين، كما قال سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، فمن أهل العلم من فسر (الباطل) بالشيطان.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إقامة جماعة ثانية في مسجد له إمام راتب

حكم إقامة جماعة ثانية في مسجد له إمام راتب Q ما حكم إقامة جماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب؟ A الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب جائزة إذا لم يتعمد مقيمها التخلف لإحداث فتنة، أما إذا أتى رجل متأخراً عن الجماعة الأولى ومعه فئة أخرى من الناس، جاز لهم أن يصلوا صلاة في جماعة، وهذا أفضل وأحب. أما الدليل على فضله واستحبابه فمنه: أولاً: عموم الأحاديث التي وردت في فضل صلاة الجماعة. وثانيا: ً خصوص حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي جاء متخلفاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا؟ من يتجر على هذا؟) . أما حجة المانعين، فمن حججهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى يوماً إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا، فذهب وصلى بأهل بيته، وليس في هذا ما يمنع، فما الذي أدرانا أن هناك ناس في المسجد لم يكونوا قد صلوا، والنبي عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة معهم، فليس فيه مانع. وكذلك من حججهم: بعض أفعال الصحابة، والإجابة على هذا أن المرفوع يقدم على الموقوف، والله سبحانه وتعالى أعلم، فكفى بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يتصدق على هذا؟) . أما الأشياء التي يثيرها البعض ويقولون: إن هذا كان مفترضاً وكان هذا متنفلاً، وإمامة المفترض للمتنفل جائزة إذ هو أفضل منه. إلى غير هذه الأشياء، فإنها لم تكن هذه على عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقلت مقولة عن الإمام الشافعي رحمه الله في معرض المنع وفهمت على غير وجهها، فكان السؤال الموجه للشافعي فيها عن قوم يتعمدون التأخر لإنشاء جماعة، فرأى الكراهية، فكانت الفتوى مقترنة بسؤال وجه الشافعي رحمه الله تعالى إلا إذا كان عموم المذهب الشافعي على شيء آخر فالله أعلم، لكن هذه الفتوى اطلعنا عليها في بعض كتب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فتعكر النقل عن الشافعي، فقد يقلل النقل المنقول عن الشافعي في الكراهية، وإنما هو مختصر بأقل من عموم الفتوى، والله أعلم.

حكم صلاة المسافرين في جماعة ثانية بعد انتهاء الأولى

حكم صلاة المسافرين في جماعة ثانية بعد انتهاء الأولى Q هل يجوز للمسافرين إذا أتوا بعد فراغ الجماعة أن يصلوا في جماعة ثانية؟ A نعم جائز.

حكم التلفظ بالنية

حكم التلفظ بالنية Q هل التلفظ بالنية بدعة، وتبطل الصلاة؟ A أما بطلان الصلاة فلا أعلم دليلاً على بطلانها، أما التلفظ بالنية فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي للبدعة أقرب.

عدم الالتفات إلى وساوس الشيطان أثناء العبادة

عدم الالتفات إلى وساوس الشيطان أثناء العبادة Q إني أعمل العمل ويجئ الشيطان لي في وسط الطريق ويقول: افعلي كذا وكذا من أجل أن يقال عليك: كذا وكذا، وأنا كثير الاستعاذة، وهذا أمر يجعلني أتمنى الموت إن كان خيراً لي وأخاف أن أظل على هذه الحالة فيختم لي بسوء الخاتمة. A لا تلتفتي للشيطان ما دمت قد بدأت العمل لله، فأكمليه لله، ولا تلتفتي إلى وساوس الشيطان. فمثلاً: دخلت المسجد تصلي ركعتين وفي نيتك من الأصل أن تصلي ركعتين طويلتين تتأنى فيهما وتبتهل فيهما إلى ربك سبحانه وتعالى، فمضيت على هذه الحالة فدخل رجل، فشرح صدرك وسررت بدخول هذا ورؤيته لك على هذه الحال، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) كما في صحيح مسلم. يعني: من المبشرات. أنك ترى هذا الذي دخل عليك أنت لم تنوِ الرياء ولم يتسرب إليك الرياء، إنما دخل عليك وأنت على هذه الحال فأتم عملك لله، وأنت مثاب ومأجور وهذه من المبشرات، فإذا عملت عملاً، وانتابك الشيطان ليفسد عليك العمل فتعوذ بالله فقط وامضِ في عملك ولا تلتفت إليه.

حال حديث: (أنا بريء من كل مسلم يعيش بين أظهر المشركين)

حال حديث: (أنا بريء من كل مسلم يعيش بين أظهر المشركين) Q ما صحة حديث: (أنا بريء من كل مسلم يعيش بين أظهر المشركين) ؟ A حديث (أنا بريء من المسلم يعيش بين ظهراني المشركين) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحديث مرسل، أرسله قيس بن أبي حازم، رجح المرسل الإمام البخاري، وأبو حاتم الرازي، والإمام الدارقطني، وغيرهما من الأئمة، فالصواب في حديث: (أنا بريء من مسلم يعيش بين ظهراني المشركين، لا تتراءى نارهما) أنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف. أما معناه فمن العلماء من قال: هو في الديات، أي: لا أؤدي عنه دية إذا قتل، ومنهم من قال: هي براءة عامة مما يصيبك، فمثلاً: أنت تعيش في بلاد المشركين، وقد قال لك الرسول صلى الله عليه وسلم: هاجر إلى المدينة، وأنت اخترت البقاء في بلاد المشركين، فإذا أصابك شيء فلا يلزم الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء تجاهك. ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] يعني: إذا كان هناك رجل يعيش في وسط المشركين واستنصرك وقال لك: تعال انصرني فأنا مظلوم فعليك النصر إلا على قوم بينك وبينهم ميثاق.

تفسير سورة الطارق

تفسير سورة الطارق كل نفس عليها حافظ من الله يحفظها ويحفظ أعمالها، وقد أقسم الله على هذه الحقيقة في سورة الطارق، وحث الإنسان على النظر في مبدأ خلقه، ليستدل به على قدرة الله على بعثه يوم الحساب، متوعداً الكافرين الذي يكيدون بالمسلمين بأنه يكيد بهم، فلا يستعجل مستعجل لإهلاكهم، فقد جعل الله لإهلاكهم موعداً.

تفسير قوله تعالى: (والسماء والطارق)

تفسير قوله تعالى: (والسماء والطارق) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] . أطلق على النجم أنه طارق؛ لأنه يطرق السماء ليلاً، وقد ورد في الباب حديث: (أعوذ بك من طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمان!) ، وقد يستدل مستدل بهذا الحديث على أن الطارق يطلق أيضاً على ما يطرق نهاراً، ولكن من العلماء من قال: إن إطلاق الطارق على الآتي نهاراً من باب المجاز، وفي قوله عليه الصلاة والسلام -عند من صحح الخبر-: (أعوذ بك من طوارق الليل والنهار) أطلق على طارق النهار اسم طارق من باب المجاز وهذا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) ، فالمراد بالأذانين الأذان والإقامة، فأطلق على الإقامة أذاناً من باب التغليب، وكما تقول العرب: جاء العمران، ويقصدون: أبا بكر وعمر رضي الله عنه، وكما يقولون: أرأيت الشمسين؟ ويقصدون: الشمس والقمر. فالطارق: أصله الذي يطرق ليلاً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلاً يتخونهم يلتمس عثراتهم) ووصف النجم بأنه طارق؛ لأنه يطرق السماء ليلاً. {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} [الطارق:1-2] ، من العلماء من قال: إن كل آية فيها: (وما أدراك) فقد أدراه الله سبحانه وتعالى -أي: محمد عليه الصلاة والسلام- أما التي فيها: (وما يدريك) فلم يُعلمه الله سبحانه وتعالى به، فكل آية فيها: (وما أدراك) فقد أدراه، (وما يدريك) فلم يدره، واستدل القائلون بهذا القول بعدة أدلة في كتاب الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:14-15] ، أما: وما يدريك، فاستدل بقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63] ، فلم يخبره الله بموعدها بالضبط، ومن العلماء من قال: إن هذا القول أغلبي، والله أعلم. {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:3] أي: أن الطارق هو: النجم الثاقب، أي: المضيء؛ لأنه يثقب بضوئه ظلام الليل، إذاً: الطارق: الآتي ليلاً وهو: النجم.

تفسير قوله تعالى: (إن كل نفس لما عليها حافظ)

تفسير قوله تعالى: (إن كل نفس لما عليها حافظ) {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] ، (لما عليها) . أي: إلا وعليها حافظ، وكل نفس عليها حافظ. ما المراد بالحافظ؟ لأهل العلم قولان: أحدهما: أن الحافظ: هو الذي يحفظ الأعمال ويكتبها، فالمعنى: ما من نفس إلا وعليها حافظ، وهو ملك يكتب الأعمال والأقوال ويحصيها ويسجلها، فالحافظ بمعنى: الكاتب الذي يكتب الأقوال والأفعال. والمعنى الثاني للحافظ: من الحفظ، كما قال سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] أي: بأمر الله. إذاً: هناك قولان في تفسير الحافظ: حافظ: يكتب الأعمال ويحفظها ويسطرها. وحافظ: يحفظ الشخص من الأشياء التي لم يقدرها الله سبحانه وتعالى عليه، أما إذا قُدر عليه شيء فيتنحى الحافظ حتى يصاب الشخص بأمر الله سبحانه وتعالى. {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أي: إلا وعليها حافظ، والحافظ له معنيان كلاهما له شواهده من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأول: بمعنى الكاتب: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] . الثاني: بمعنى الحفظ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] . فيقسم رب العزة سبحانه بالسماء، ويقسم بالطارق الذي في السماء وهو: النجم، وقد أقسم الله بالنجم في آيات أخر: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] ، يقسم الله بذلك على أن كل نفس عليها حافظ على الوجهين المتقدمين، فإذا اعتقدت هذا المعتقد استقامت سريرتك، وصلح حالك، وحفظت لسانك، إن علمت أن عليك حافظاً يسطر الأعمال والأقوال.

تفسير قوله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق)

تفسير قوله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق) قال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] تنبيه على أصل خلقة الإنسان حتى يتواضع ولا يغتر. {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] . الماء: هو المني، و (دافق) بمعنى: مدفوق، أي: خلق من ماء مدفوق، وكما قال العلماء في المني: إنه يخرج بشهوة، ودفق، ويتبعه فتور، فرب العزة يقول: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي: من ماء مدفوق، فهو تنبيه للإنسان على أصل خلقه الذي خلق منه حتى يتواضع لله ولا يستكبر، وإذا علم ما هو أصله، تواضع وخضع إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر. {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} [الطارق:7] ، الصلب: فقرات الظهر، {وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:7] المراد بالترائب عند جمهور المفسرين: موضع القلادة من صدر المرأة. يعني: صدر المرأة بصفة عامة، أو بصورة أدق: المكان الذي يوضع عليه العقد الذي تلبسه المرأة، وهو المكان الذي بين الثديين، فالإنسان خلق من ماء دافق، {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} . فعلى هذا هل الإنسان أصله من الرجل فقط، أم من الرجل والمرأة؟ هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من قال: خلق من الرجل فقط، لقوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:37] {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] ، ومنهم من قال: من الاثنين معاً، لقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْب وَالتَّرَائِبِ} ، فالترائب: موضع القلادة من صدر المرأة، وهذا رأي جمهور المفسرين، بل نقل بعضهم الإجماع على هذا، وفي نقل الإجماع تحفظ.

تفسير قوله تعالى: (إنه على رجعه لقادر)

تفسير قوله تعالى: (إنه على رجعه لقادر) قال تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:8] : {إِنَّهُ} [الطارق:8] أي: ربه، {عَلَى رَجْعِهِ} [الطارق:8] الهاء في قوله: (على رجعه) ترجع إلى ماذا؟ فيها أقوال للعلماء: أحد هذه الأقوال: أن الضمير في قوله: (إنه على رجعه) راجع إلى الإنسان، أي: أن الله قادر على إرجاع الإنسان حياً بعد موته وذلك يوم القيامة. وقول ثان: أن الله قادر على إرجاع الإنسان من حال الشيخوخة إلى حال الشباب إلى حال الطفولة، وهذا القول الثاني استظهره بعض العلماء في تأويل قول زكريا صلى الله عليه وسلم: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [آل عمران:40] فزكريا أولاً قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم:5] ، سأل ربه أن يرزقه الولد، ثم لما بشر بالولد قال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} أنى يكون لي ولد؟ {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم:5] ، فلماذا هو سأل؟ ثم لماذا تعجب أن دعوته استجيبت؟ لأهل العلم التماسات للإجابة على هذا السؤال، فمنهم من يقول: إنه سأل وقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38] فلما أخبره الله سبحانه أنه بشر بالذرية الطيبة أراد أن يستثبت من الخبر وهو لا يكذب لكن يفرح أكثر إذا أعيد الخبر على مسامعه، كأن يأتيك شخص مباشرة بخبر سار غاية السرور، يقول لك: حصل كذا وكذا، فتفرح فرحاً شديداً، لكن تريد أن يعاد الخبر على مسامعك مرة ثانية ومرة ثالثة، وتحب أن يعاد الخبر على مسامعك مرات، فهذا الوجه الأول: أنه أراد أن يعاد الخبر على سمعه مرات؛ تشوقاً لسماع البشرى. والوجه الثاني: أنه سأل فقال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [مريم:8] أي: يا رب! هل الغلام سيأتيني وأنا على هذه الحالة من الكبر أو سأرد صبياً مرة ثانية؟ وزوجتي هي الآن عجوز عقيم عاقر، فهل سترجع شابة وتحمل؟ وكل هذا ليس بعزيز على الله سبحانه وتعالى، وزكريا عليه السلام كان يستفسر هذه الاستفسارات على قول بعض العلماء. الشاهد: أن قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} فيه أقوال: أحد الأقوال: أن الله سبحانه وتعالى قادر على إرجاع الإنسان حياً بعد موته للحساب يوم القيامة. القول الثاني: أن الله قادر على إرجاعه من حال الشيخوخة إلى حال الشباب إلى حال الطفولة. القول الثالث: أن قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي: قادر على إرجاع المني إلى الأحليل وإلى صلب الرجل وإلى ترائب المرأة، فالله قادر على أن يرجع المني الذي أخرج بدفق إلى الصُلب الذي خرج منه، وإلى ترائب المرأة التي خرج منها، وإن كان هذا مستحيل بطرقنا الخاصة، فمستحيل تماماً أن يفعل هذا البشر، لكن الله سبحانه قادر على ذلك. فهذه جملة الأقوال في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} .

تفسير قوله تعالى: (يوم تبلى السرائر)

تفسير قوله تعالى: (يوم تبلى السرائر) قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] . قوله تعالى: (يوم تبلى السرائر) بعد قوله: (إنه على رجعه لقادر) جعل بعض العلماء يختار أن المراد بقوله: (إنه على رجعه لقادر) أي: على إرجاع الإنسان حياً بعد موته، قالوا: بدلالة قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} ، فإن الإعادة يوم القيامة، وآخرون قالوا: لا. نحن سننظر إلى قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} على أنه جملة ابتدائية، فالمعنى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:9-10] ، فيكون أنشأ معنىً جديداً متماسكاً فضلاً عن المعنى الذي سلف، ولا يلزم أن يكون بين كل الآيات ربط، فمن نظر إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} على أن الفقرات انتهت وبدأت بفقرات جديدة، حمل الآيات على المحامل التي تقدمت، ومن ربط بين: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} و {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} ، قال: قادر على إحيائه يوم تبلى السرائر. (يوم تبلى) أي: تختبر وتظهر، (السرائر) : الأمور التي كان الشخص يسرها في الدنيا، فالأمور التي كان الشخص يسرها ويكتمها عن الناس في الدنيا تظهر، كما قال تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] ، {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس:30] ، والآيات في هذا الباب كثيرة. والابتلاء: يكون بمعنى الإظهار، وقد يكون بالخير وقد يكون بالشر، والابتلاء أيضاً يطلق على الفتنة والتعذيب الذي يظهر ما في دواخل الإنسان، كما في قول موسى عليه الصلاة والسلام: (إني بلوت بني إسرائيل بأقل من هذا فلم يصبروا) ، أو كما ورد في الحديث. {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ} [الطارق:10] أي: ما له من قوة يتقوى بها ولا ناصر ينصره.

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الرجع)

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الرجع) {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق:11] المراد بالرجع: الشيء الذي يأتي ويرجع مرة أخرى بعد مدة، ووصفت السماء بأنها ذات الرجع؛ لأنها ترجع بالمطر في المواسم على رأي أكثر المفسرين لهذه الآية، ففصل الشتاء تأتي فيه أمطار ثم ترجع السماء في فصل الشتاء القادم أيضاً وتأتي بالأمطار، وهكذا. {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق:12] ما هو الصدع؟ الصدع: التشقق، تقول: تصدع السقف: يعني: تشقق السقف، والناظر لهذه الآيات يجدها مترابطة، فالسماء وصفت بأنها (ذات الرجع) أي: تأتي بالمطر الذي ينزل كالمني، (والأرض ذات الصدع) أي: لها صدع وتشقق، فيها فتحات يدخل منها المطر فتنبت النبات، وكذلك المني المدفوق من الذكر ينزل في الفرج ويخرج الذرية بإذن الله تعالى، فبعض العلماء يربط بين الآيات مثل هذا الربط، وصفت السماء بأنها ذات الرجع كما وصف الإنسان بأنه يخرج منه ماء دافق، وهذا الماء يستقبله الفرج كما تستقبل الأرض ذات الصدع -ذات الشقوق- المطر فتنبت الأرض نباتاً، وتنبت النساء ذرية، وهذا النبات مآله إلى الزوال، وهذا الآدمي مآله إلى الموت، وهكذا الدنيا ضربت مثلاً، والله أعلم بكتابه وبتأويله. {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق:13] (إنه) أي: هذا القرآن. (لقول فصل) أي: حق {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:14] أي: وما هو باللعب والباطل.

تفسير قوله تعالى: (إنهم يكيدون كيدا)

تفسير قوله تعالى: (إنهم يكيدون كيداً) قال الله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق:15] أي: يمكرون مكراً، والخطاب في (إنهم) عائد إلى الكفار. (يكيدون كيداً) : يدبرون تدبيراً ويتآمرون مؤامرات، كما قال سبحانه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فهم لهم مكر وتدبير للفتك بالإسلام والمسلمين، ولكن لربنا سبحانه وتعالى تدبير أيضاً، فيقول سبحانه: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:16] أي: أنا أكيد كيداً، وقد قال بعض أهل العلم: إن من كيد الله سبحانه وتعالى: أنه يمدهم في طغيانهم، ويمدهم في النعيم، وينعم عليهم بالنعم، ويستدرجهم بهذه النعم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] يفتح لهم أبواب النعم ويقذف في قلوبهم الغرور، ثم يسقطون سقطة ينتقم الله فيها منهم سبحانه وتعالى. {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17] أي: أنظرهم وأخرهم. (أمهلهم رويداً) أي: قليلاً، فستأتيهم عاقبة أعمالهم السيئة التي عملوها. والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة الأعلى

تفسير سورة الأعلى سورة الأعلى وما أدراك ما سورة الأعلى! سورة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها، ويكثر من قراءتها، وشرع لأمته قراءتها في كل ليلة في صلاة الوتر، وما هذا إلا لعظم ما اشتملت عليه من المعاني العظيمة، ففيها تمجيد لله سبحانه، وبيان بعض أسمائه وأفعاله، وفيها البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بحفظه للقرآن، وبشارة أخرى بيسر الأحكام، ثم ختمها بالترغيب في الزهد في هذه الحياة الدنيا، فما أعظمها من سورة!

تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى)

تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى) قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] . سبح: أي نزه ومجد وعظم. سبح: أي: قل: سبحان الله، نزه الله، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:30-31] إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ} [التوبة:31] أي: تنزه عما يوصف به من أعدائه، تنزه عن الولد، تنزه عن الزوجة، تنزه عن الشريك، تنزه عن الأب، تنزه عن الأم، وهكذا، (فسبح) معناها اللغوي والشرعي أيضاً: نزه، وتطلق كلمة (سبح) بمعنى: اذكر الله بقولك: سبحان الله، وتطلق كلمة (سبح) بمعنى: صل، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] أي: صل صلاة الفجر وصلاة العصر على قول جمهور المفسرين. إذاً سبح من معانيها: نزه، ومن معانيها: مجّد، ومن معانيها: عظم، ومن معانيها: قل: سبحان الله، ومن معانيها: صل لله، ومنه: قول ابن عمر: لو كنت مسبحاً لأتممت، أي: لو كنت مصلياً صلاة النافلة في السفر لأتممت صلاتي ولم أقصرها في السفر. وهل المراد بـ (سبح اسم ربك الأعلى) : سبح ربك الأعلى، أو سبح الاسم نفسه يعني: نزه الاسم نفسه؟ فيها: قولان لأهل العلم: فمنهم من قال: إن كلمة: "اسم" هنا، تحصيل حاصل في هذا الباب، والمراد تسبيح الرب سبحانه، كما قال الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلامِ عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر في قصيدة مطلعها: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما وقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً الشاهد قوله: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما، والمعنى: اجلسوا إلى الحول، ابكوا علي أو صيحوا علي، واعملوا الذي تعملوه من ذلك لمدة سنة ثم اسم السلام عليكما، يعني: يكفي وسلمكما الله فقد أديتما ما عليكما، فمن العلماء من قال: ثم اسم السلام عليكما، أي: ثم سلام عليكما، لا تبكيا علي بعد هذه السنة، فقال: إن (اسم) زائدة هنا، والمراد: ثم السلام عليكما مباشرة، وفي هذه الآية من العلماء من قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي: نزه ربك، ومجد ربك، وعظم ربك، وصل لربك، وقل: سبحان ربي الأعلى، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: سبحان ربي الأعلى، ومن العلماء من قال: نزه الاسم أيضاً، فلا يتسمى أحد باسم الله، ولا يوجد أحد يقول: اسمي الله، ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أسماء الله التي لا يتسمى بها إلا هو فيسمي بها نفسه، فالكفار مثلاً سموا اللات بهذا، وأخذوه من لفظ الجلالة: (الله) وأضافوا إليه التاء، وأخذوا اسم: العزى: من العزيز، فنزه اسم ربك عن أن تسميه كما يسميه المشركون، وأن تصفه كما يصفه المشركون، فهذا القول الثاني. {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} تقدم أن ابن عمر كان إذا قرأها قال: سبحان ربي الأعلى، وصح من مجموع الطرق أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: اجعلوها في سجودكم، ولما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال: (اجعلوها في ركوعكم) .

حكم التسبيح في الركوع والسجود

حكم التسبيح في الركوع والسجود هل قوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في ركوعكم واجعلوها في سجودكم) على الوجوب أو على الاستحباب؟ أي: هل يجب على الشخص أن يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وأن يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى"، أم أن هذا مستحب؟ A ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام لفظ آخر في الركوع وفي السجود غير اللفظ، فلو كان التسبيح بهذا اللفظ واجباً لما تركه وقال بدلاً عنه: (سبحانك الله ربنا وبحمدك، اللهم! اغفر لي) ، وكان النبي يقول في صلاة الليل: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) ، وكان يقول: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) ، فلما تنوعت الأذكار أصبح الأمر في قوله: (اجعلوها في سجودكم) ، ليس أمر إيجاب، إنما أمر ندب واستحباب وإرشاد.

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الصلاة على النبي في التشهد: هل هي واجبة أو ليست واجبة؟ قيل: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد واجبة، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] ، لكن هل قال الله في الآية: إن الله وملائكته يصلون على النبي فصلوا عليه وسلموا تسليماً في الصلاة بعد التشهد، أو هي مطلقة؟ هي مطلقة، إلا فقصرها على الصلاة يحتاج إلى دليل. هل تجب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد أو يستحب؟ افرض أنك متعب وتريد أن تسلم بسرعة، وأتيت إلى قولك: "أشهد أن محمداً عبده ورسوله"، السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله، وقضيت صلاتك، أو كان القطار سيتحرك وأنت تصلي فقلت في التشهد: "أشهد أن محمداً عبده ورسوله"، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فهل تصح هذه الصلاة؟ الرسول عليه الصلاة والسلام لما علم ابن مسعود التشهد وصل إلى قوله: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليك) ، افرض أنه لم يعجبك حاجة، والدعاء ليس بواجب، فلم تدع وسلمت؟ لا شيء عليك، أما حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي ويدعو ولم يحمد الله، ولم يصل على نبيه، ولم يثن على الله، فقال: (عجل هذا، إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه) ، فليس بصريح في الوجوب، وإذا لم يدع لا شيء عليه، ثم إذا دعوت الله هل واجب عليك أن تحمد الله قبل الدعاء وتثني عليه وتصلي على النبي أم أنه مستحب؟ A مستحب، أما استدلال من استدل بقوله: علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: (قولوا: اللهم! صل على محمد) ، فقد قال الإمام الشوكاني: إن هذا للتعليم؛ لأنهم سألوه: علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فليس فيه صيغة وجوب. قال الله سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وقال الله لموسى: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] ، لكن فرق بين الأعلى في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وفي قوله لموسى: (إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) أي: الأعلى على أعدائك. {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ، خلق الخلق فسوى خلقهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] .

تفسير قوله تعالى: (والذي قدر فهدى)

تفسير قوله تعالى: (والذي قدر فهدى) قال تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] قدر المقادير وهدى الخلائق إلى هذه المقادير التي قدرت لها، مثلاً كتب لك أن تموت في القاهرة، فيهديك الله إلى أن تذهب إلى القاهرة حتى تلقى حتفك هناك، أو كتب لك أن ترزق في المنصورة بمال أو بزواج، فتساق إلى هذا المكان حتى يمضي فيك وقضاء الله سبحانه وتعالى وأمره، فقدر المقادير وهدى الخلق إلى هذه المقادير التي قدرت لها، ومن العلماء من قال: هدى الذكور إلى مآتي النساء، هدى الرجال إلى كيفية جماع النساء، وهدى البهائم إلى كيفية جماع إناثها، هدى الذكور بصفة عامة إلى مآتي الإناث، فالمعنى: هدى الذكور إلى مآتي النساء، وهدى الخلق إلى ما كتب لهم وقدر لهم. {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:4] المرعى هو: النبات الذي يُرعى، والنبات الذي تأكله الدواب والأنعام. {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:5] ، (الغثاء) : اليابس، يعني: أخرج المرعى وكان أخضر، ثم سرعان ما يبس المرعى وأصبح متفتتاً، كما لا يخفى عليكم في شأن النبات، فالبرسيم أخضر، وبعد مدة ينشف ويعملون منه ما يسمى: (بالدريك) . {فَجَعَلَهُ غُثَاءً} [الأعلى:5] أي: يبساً {أَحْوَى} [الأعلى:5] : من الحوة وهي: التغير من الخضرة إلى السواد. يعني: يبدأ في اليبوسة وتغير اللون.

تفسير قوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى)

تفسير قوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى) قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6] أي: سنقرئك -يا محمد- هذا القرآن فلن تنساه، قال فريق من العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم -مع أنه كان أمياً- حفظ القرآن، وأتقن الحفظ عليه الصلاة والسلام، ففي الآية -إذاً- معجزة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فمع كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فقد حفظ صلوات الله وسلامه عليه هذا القرآن، ولم يكن هناك معلم من البشر يعلمه، فدل ذلك على الإعجاز. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه بالقرآن الذي تلي عليه حتى لا ينساه، فكان جبريل يقرأ والرسول يقرأ معه، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16-17] أي: جمعه لك في صدرك وأن تقرأه. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] أي: فاستمع لقراءته. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] أن نبينه للناس، فهذه الآيات مشابهة لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} وفي هذه الآية دليل على أن الحافظ هو من حفّظه الله سبحانه وتعالى، وأن الذاكرة من الله، وهذا يحملك على عدم الكبر والغرور. {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:7] هذا الاستثناء دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ينسى بعض الآيات إذا أراد الله ذلك، وهل ثبت أن النبي نسي بعض الآيات؟ نعم. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي بعض الآيات التي رفعت من الصدور تماماً، وليس من صدر النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل من عموم أمة محمد، كما ورد في صحيح مسلم بسند حسن عن حذيفة قال: (إن سورة الأحزاب كانت في طولها مثل البقرة!) ، فنسخت من الصدور، وبقي منها هذا القدر، وأيضاً قد ينسى النسيان المعتاد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون) ، وقال: (يرحم الله فلاناً! لقد أذكرني آية كيت وكيت من سورة كيت وكيت، كنت أنسيتها) . {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:7] ، كقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110] ، وكقوله: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل:19]

تفسير قوله تعالى: (ونيسرك لليسرى)

تفسير قوله تعالى: (ونيسرك لليسرى) قال تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] . (نيسرك) أي: سنهيئك، (لليسرى) : لعمل الخير، فالشخص قد ييسر لليسرى، وقد ييسر للعسرى. يعني: قد يسهل لعمل الخير، فيكون عمل الخير خفيفاً على قلبه في غاية الخفة بصفة عامة، وقد يسهل لعمل الشقاوة، فيكون عمل الخير عليه من أثقل ما يكون، فالله سبحانه قد يشرح صدر العبد لعمل الخير، وقد يشرح صدره للكفر والعياذ بالله، فقوله تعالى: (وَنُيَسِّرُكَ) أي: سنهيئك -يا محمد- ونسهل عليك عمل الخير، فيقوم إلى صلاة الليل -مثلاً- وهو منشرح الصدر فرحاً بالقيام لصلاة الليل، وفرق بين شخص قام إليها فرح، وشخص إذا ضربته بالسياط لا يقوم، والتيسير لليسرى ليس في الصلاة فحسب، بل في كل أبوب الخير، شخص يخرج من جيبه الجنية أو العشرة جنيهات يتصدق بها وهو في غاية السعادة، وشخص إذا جاء ليخرج عشرة قروش صدقة مع أنه ينفق مئات وآلاف الأموال في الباطل، لكن عشرة قروش لله ثقيلة عليه، وكأنه سيموت إذا خرجت منه هذه العشرة قروش!! فالأول ميسر لليسرى، والثاني ميسر للعسرى، وكشخص تقول له: صم تطوعاً، فيبادر ويسعد غاية السعادة؛ لأنه صائم، وشخص يأتي عليه رمضان وهو في أشد الكره لرمضان. التيسير لليسرى من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، وكما قال الله في شأن الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، على قول من قال: إن الضمير يرجع إلى الصلاة، ومنهم من قال: إنه راجع إلى الاستعانة بالصبر والصلاة معاً. قال سبحانه وتعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي: نسهلك لعمل الخير، ومن العلماء من قال: سنجعل شريعتك سمحاء سهلة، (فالأيسر) الأسهل. أي: يا محمد! شريعتك سمحاء سهلة، ليس فيها التشديد، وليس فيها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وقد قال النبي: (بعثت بالحنيفية السمحة) ، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] . ومن أسباب التيسير لليسرى: دعاء الله عز وجل، ومن ذلك: دعوة موسى عليه السلام {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25-26] . قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] فإذا جاهدت نفسك وأخرجت مالاً لله، راجياً ثواب الله، فالله يهيئ لك عمل الخير، فالخير يفتح باباً آخر للخير، وقد تمشي وتجد -مثلاً- طوبة في الطريق أو حجراً، فتقول: أرفع الحجر؛ لأن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ويحضرك حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، فتقول: أنا أمطت الأذى فآخذ أيضاً بأعلاها: "لا إله إلا الله"، فباب خير يجرك إلى باب آخر من الخير، وهكذا

تفسير قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى)

تفسير قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى) قال تعالى: {فَذَكِّرْ} [الأعلى:9] (ذكِّر) يعني: عظ، ففيه حث على الوعظ، وهذا مسلك الأنبياء عموماً ومنهم: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال العرباض بن سارية: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) ، وكان موسى عليه الصلاة والسلام يعظ بني إسرائيل، فوعظهم مرة موعظة حتى بكوا منها واخضلت لحاهم بدموعهم، ورب العزة قال: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] فالموعظة مسنونة، لكن ينبغي ألا يكثر في الوعظ. قال أهل العراق لـ ابن مسعود: لماذا لا تعظنا -يا ابن مسعود - أكثر مما تعظنا؟ قال: إني أكره أن أُملكم، إنما أتخولكم بالموعظة كما كان النبي يتخولنا صلى الله عليه وسلم بالموعظة، وكان ابن مسعود يحدثهم كل خميس. فإذا قال قائل: فلماذا دروس العلم تقام يومياً؟ فالإجابة: هناك فرق بين العلم وبين الوعظ، فالوعظ: جانب من جوانب العلوم، لكن هناك علوم وفرائض يجب أن تُتعلم. يقول الله سبحانه: {فَذَكِّرْ} أي: فعظ وخوف، ورغب ورهب. {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] ، ما معنى (إن) في هذا المقام؟ من العلماء من قال: (إن) بمعنى (قد) ، فالمعنى: فذكر فقد تنفع الذكرى. ومن العلماء من قال: هنا مقدر محذوف، والتقدير: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. ومن أهل العلم من قال: (إنْ) في هذا المقام بمعنى: (حيث) ، فالمعنى: فذكر حيث تنفع الذكرى، فعلى هذا الأخير لا تكون التذكرة إلا إذا ظن الشخص أنها ستنفع، أما إذا ظن الشخص أن التذكرة ستسبب بعداً عن الدين أو سباباً للدين؛ فالأولى الإمساك عنها. أي: إذا كان الواعظ يظن والتذكرة ستنفع هذا الشخص، أو إذا لم تنفعه التذكرة فلن يأتي منه شر؛ فحينئذ يذكره، لكن إذا كان الشخص يتوقع من حاله أنه إذا ذكر سب الدين، ففي هذه الحالة يمسك عنه؛ لأن التذكرة ستؤدي إلى مفسدة أعظم من حاله التي هو عليها، فمن العلماء من قال: (إن) هنا بمعنى: (حيث) ، وهذا له شواهد في اللغة والشرع، فالوعظ قد يمسك عن التذكرة لأقوام خشية أن ينالوا الشرع بسوء، فمن الناس من إذا جئت تذكره يسب السنة والدين!! ففي هذه الحالة الإمساك عن تذكرته أولى وأنفع، وبعض العلماء -كما سمعتم- يقول: (إن نفعت الذكرى) بمعنى: (حيث تنفع الذكرى) ، ومنهم من يقول: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع، ممكن تقول لواحد شقي: افعل كذا وكذا، فيقول لك: تعلمني يا ابن الكلبة!! ويشتم. {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:10-11] أي: سيتعظ من يخاف الله، ويتجنب هذه التذكرة الشقي الذي كتب في علم الله أنه سيموت على الكفر. {سَيَذَّكَّرُ} [الأعلى:10] أي: سيتعظ وينتفع بالتذكرة من يخشى، {وَيَتَجَنَّبُهَا} [الأعلى:11] يبتعد عنها وعن الانتفاع بها الأشقى. قال فريق من أهل العلم: المراد بالأشقى: الكافر الذي سبق في علم الله أنه سيموت على الكفر، والتقييد بما سبق في علم الله؛ لأن هناك كفاراً انتفعوا بالذكرى، فالصحابة كانوا كفاراً، ولما ذكرهم الرسول عليه الصلاة والسلام تذكروا. {الَّذِي يَصْلَى} [الأعلى:12] أي: يدخلها يصلي بحرها، ويذوق هولها. {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12] لماذا وصفت النار بأنها كبرى؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ناركم التي توقدون عليها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم!) . {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13] أي: لا هو بميت فيستريح، ولا هو بحي يحيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت في صورة كبش، فيوقف على قنطرة بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، فيقولون: نعم هذا الموت، وينادى: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار) ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39]-الذي هو ذلك اليوم- {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39-40] فالحسرة متعددة على الكافر، يوم موت الكافر يوم حسرة عليه، فبعد الموت لا مجال للتوبة، ويوم ذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار يوم حسرة أيضاً على الكفار، فبعد ذلك لا مجال أبداً للرأفة ولا للرحمة ولا لأي شيء. {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} كما قال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] .

تفسير قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى)

تفسير قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى) قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] ، (الفلاح) : هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، والمطلوب هو: الجنة، والمرهوب هو: النار، (فأفلح) معناها: قد فاز بمطلوبه ونجا من مرهوبه. (من تزكى) : (مَنْ) بمعنى: الذي (تزكى) أي: زكى نفسه من الشرك ومن المعاصي، ومن العلماء من قال: تزكى: من الزكاة، أي: أخرج الزكاة، لكن القول الأول أقرب، وعليه كثير من أهل العلم في هذه الآية، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: زكى نفسه، ففي قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قولان مشهوران: القول الأول: تزكى من الذنوب، أي: تطهر من الذنوب والمعاصي والشرك. القول الثاني: تزكى أي: أخرج الزكاة، والقرينة التي تؤيد قول من قال: إن المراد بالتزكي: إخراج الزكاة، قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] فقالوا: ذكر الصلاة بعد الزكاة، وحمل بعضهم ذلك على زكاة الفطر وصلاة عيد رمضان، وقال آخرون بالعموم.

تفسير قوله تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا) قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16] أي: تقدمون وتفضلون الحياة الدنيا على الآخرة، وقيل للدنيا: دنيا، لقرب زوالها، فالأدنى: هو الأقرب، والدنيا: هي القريبة، أي: قريبة الزوال. {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا} [الأعلى:17-18] أي: المذكور في هذه السورة كلها، أو على وجه الخصوص ذكر إيثار الحياة الدنيا موجود مثبت في الصحف الأولى، ففي قوله: (إِنَّ هَذَا) قولان: القول الأول: الإشارة ترجع إلى كل ما ذكر في هذه السورة. القول الثاني: ترجع إلى أقرب مذكور، وهو: إيثار الحياة الدنيا، أي: أن الخلق يؤثرون الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20-21] ، فهذا الشيء بالضبط موجود في الصحف الأولى، ومثبت ومسطر في الصحف الأولى. ما هي الصحف الأولى؟ {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ} [الأعلى:19] ، فدل ذلك على إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم نزلت عليه صحف، كما قال الله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:36-37] أي: وبما في صحف إبراهيم الذي وفى أيضاً. {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19] موسى صلى الله عليه وسلم ذكرت له صحف، وذكرت له التوراة، وذكرت له الألواح، فهل الألواح والتوراة والصحف الأولى التي نزلت على موسى هي مسمى لشيء واحد؟ هل نقول: إن التوراة هي: صحف موسى وهي الألواح، أم هي ثلاثة أشياء؟ لأهل العلم قولان في هذا الباب، ولا دليل يحكم به في هذه القضية عن النبي صلى الله عليه وسلم. (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى) (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) فالتحذير من إيثار الدنيا على الآخرة ليس موجوداً في شرعنا فحسب، بل هو على لسان الأنبياء عموماً، فهناك أمور يدعو إليها جميع الأنبياء وهناك أمور يحذر منها جميع الأنبياء، فجميع الأنبياء يدعون إلى التوحيد، ويحذرون من الشرك، ويرغبون في الآخرة، ويزهدون في الحياة الدنيا، ويحذرون من المسيح الدجال، كما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا وقد أنذره قومه، ألا وإني أنذركموه: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور) . هذا، وقد كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يحث على قراءة سورة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) في الصلوات، ففي صلاة العشاء يقول لـ معاذ: هلا صليت بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) ، وكان يقرأ بها في الركعة الأولى من صلاة الوتر، ويقرأ في الثانية: بالكافرون، وفي الثالثة: بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها في الركعة الأولى من صلاة الجمعة، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها أحياناً في العيدين، ويسن أن يقرأ بقصار المفصل في صلاة العشاء، وفي صلاة المغرب على وجه الخصوص، وإن قرأ أحياناً بغيرها فلا بأس، لكن هذا يكون الغالب، كما قال النبي لـ معاذ: (أفتان أنت يا معاذ! هلا صليت بـ (الشمس وضحاها) و (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) و (والسماء والطارق)) ، كما في الروايات، فالأتبع للسنة أن تقرأ سورة من قصار المفصل كاملة في الصلاة، أو تقرن بين سورتين إن شئت، فهذا هو الأقرب إلى اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن قرأت بغير ذلك جائز ولا إشكال في ذلك، لكن لا يستعرض الإمام عضلاته على المصلين، فإن هناك من الأئمة من يلزم المصلين بطريقته وبحفظه، فهو يحفظ القرآن، ويقرأ لهم مثلاً في صلاة الفجر بعشر آيات من سورة البقرة، ثم في صلاة المغرب يكمل العشر الآيات التي بعدها، وهكذا. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

تفسير سورة الغاشية

تفسير سورة الغاشية سورة الغاشية من السور التي جاء فيها بيان أحوال طائفتين من الناس: الطائفة الأولى هم أهل الوجوه الخاشعة الذين حق عليهم العذاب، والطائفة الثانية هم أهل الوجوه الناعمة الذين أعد الله لهم النعيم المقيم إلى آخر ما جاء في هذه السورة العظيمة من الآيات التي تبين قدرة الله عز وجل ووحدانيته.

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية)

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فسنتناول بمشيئة الله تفسير سورة الغاشية، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ بسورة الغاشية في الركعة الثانية من ركعتي الجمعة، ويقرأ في الركعة الأولى: بـ (سبح اسم ربك الأعلى) . يقول الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ} [الغاشية:1] ، من العلماء من قال: (هل) هنا بمعنى: (قد) ، فالمعنى: قد أتاك حديث الغاشية. الخطاب لمن؟ منهم من قال: إنه للرسول صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: إنه لعموم الإنسان. فالمعنى على هذا الوجه: قد أتاك أيها الإنسان حديث الغاشية، أو قد أتاك يا محمد حديث الغاشية. ومن العلماء من قال: إن هذا الاستفهام للتنبيه، ومجيء الاستفهام لقصد التنبيه له شواهد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متعددة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ بن جبل! ثم سكت، ثم قال: يا معاذ بن جبل! ثم سكت، ثم قال: يا معاذ بن جبل! وكل مرة معاذ يجيب: لبيك وسعديك يا رسول الله، والرسول يسكت، ففي الثالثة قال: هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم) ، فاستفهم الرسول صلى الله عليه وسلم من معاذ حتى يلفت انتباه معاذ إلى ما سيلقى عليه، ولهذا نماذج متعددة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. من العلماء من قال: إن الاستفهام للتنبيه، وقال آخرون: المعنى: إن كنت تسأل أيها الإنسان عن حديث الغاشية فقد جاءك حديث الغاشية. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ} [الغاشية:1] والحديث المراد به هنا: الخبر؛ خبر الغاشية، فكلمة (الحديث) لها عدة معان، فالقرآن حديث، قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] فأطلق على القرآن حديثاً، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، وكلام الناس حديث، فالحديث يطلق على الكلام، ويطلق على الخبر. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] أي: خبر الغاشية، والغاشية للعلماء فيها قولان: القول الأول: أن المراد بالغاشية: النار، ومستند هذا القول: قوله تعالى: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50] تغشى أي: تغطي على وجوه الكافرين. ومن أهل العلم من قال: إن الغاشية هي القيامة؛ لأنها تغشى الناس بأهوالها وكروبها. ومن أهل العلم من قال: إن الغاشية هي النار وهي القيامة معاً، فلم يرد خبر يقصر الغاشية على النار دون القيامة، ولا يقصر الغاشية على القيامة دون النار، فالقول بالتعميم أولى، فالنار غاشية، والقيامة -أي: الساعة- غاشية، لأنها تغطي على كل ما سواها من أخبار وفظائع وأنباء.

تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ خاشعة)

تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذٍ خاشعة) قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] . ما هي متبوعات هذه الغاشية؟ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] من أهل العلم من قال: إن الوجوه الخاشعة هي: وجوه الكفار، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى:45] يعني: هؤلاء هم الكفار، وتأيد هذا القول بأن الله وصف وجوهاً بأنها خاشعة، وبعد آيات قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] فهناك وجوه خاشعة، ووجوه ناعمة، فقالوا: إن الوجوه الخاشعة هي: وجوه الكفار، والوجوه الناعمة هي: وجوه أهل الإيمان، ومن أهل العلم من قال: إن الوجوه الخاشعة عموم الوجوه، فكل الوجوه تخشع -أي: تخاف- لقوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108] لكن القول الأول أصح، لذكر الوجوه الناعمة بعد ذلك، فالمراد إذاً -والله أعلم- بالوجوه الخاشعة: وجوه أهل الكفر، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} وأصل الخشوع هو: الخضوع والذل، والخشوع يطلق على الخضوع، ويطلق على الذل، ويطلق على الانخفاض كذلك، كما قال الله: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر:7] أي: ذليلة أبصارهم ومنخفضة أبصارهم، ونقول: رجلٌ خاشع في صلاته. أي: خاضع ومنكسر بين يدي ربه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية)

تفسير قوله تعالى: (عاملة ناصبة، تصلى ناراً حامية) قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2-4] ، قد يطرح سؤال فحواه: هذه الوجوه الخاشعة: كيف جمعت بين الخشوع بين كونها تصلى النار في قوله تعالى: وبين قوله: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} ؟! المعهود أن من مستلزمات الخشوع أن يأمن العبد، لكن الإجابة: أن الخشوع في الدنيا غير الخشوع في الآخرة، فالخشوع من الله سبحانه وتعالى في الدنيا يتبعه أمنٌ في الآخرة، أما عدم الخشوع لله في الدنيا يتبعه ذلٌ وانكسارٌ في الآخرة، فالخشوع والذل في الآخرة للكفار غير خشوع المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى في الدنيا، فمن كان يسجد لله ويذل نفسه لله سبحانه وتعالى في الدنيا فهو آمن في الآخرة، ومن استكبر عن السجود في الدنيا أذل في الآخرة، كما جاء في حديث صحيح البخاري وغيره: (ويأتي رب العزة سبحانه وتعالى فيكشف عن ساق، أو فيكشف عن ساقه، ويأتي يسجد له كل من كان يسجد له في الدنيا، ويأتي من كان يسجد رياءً وسمعة كي يسجد، فيخر لوجهه طبقاً واحداً، لا يستطيع السجود) ، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:42-43] . قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} يعني: متعبة، ومنه: قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] أي: إذا فرغت من أعمالك الدنيوية ((فَانصَبْ)) أي: فاجتهد واتعب في عبادة ربك سبحانه وتعالى، واتعب في دعاء ربك سبحانه وتعالى، على قول. القول الثاني: إذا فرغت من الصلاة، ((فَانصَبْ)) أي: فاجتهد في الدعاء بعد الصلاة، وهو قول قتادة، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن خديجة: (إن جبريل بشرها ببيت من القصب لا نصب فيه ولا وصب) . فالنصب هو: التعب، فقوله سبحانه وتعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} يعني: الوجوه الخاشعة، أو هي وجوه قوم حالهم أنهم يعملون وينصبون، يعملون ويتعبون، فيطرح هنا Q متى هذا التعب؟ ومتى هذا النصب؟ من العلماء من قال: إن هذا التعب والنصب في الآخرة، يعني: أن أصحاب الوجوه الخاشعة لا يعملون أعمالاً مريحة، وإنما يعملون أعمالاً شاقة مرهقة متعبة، فإن قال قائل: وهل في الآخرة عمل ونصب؟ الإجابة: نعم. أهل النار ليسوا في سجن وعذاب في النارِ فقط، بل يسميه العامة: أشغال شاقة مؤبدة مضافة إلى السجن الذي هم فيه، وليس كتأبيد الأشغال في الدنيا، بل خالدين مخلدين فيها، فإن قال قائل: ما هذه الأعمال التي يعملوها في النار؟ ف A من هذه الأعمال: الصعود والنزول -يعني: يصعدون في النار في جبال وينزلون- كما قال تعالى: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:17] ، وكما قال سبحانه: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] أي: سأتعبه في الصعود، والصعود في الدنيا يتعب، فأنت إذا صعدت بيتاً مرتفعاً أو سلالم مرتفعة تتعب وترهق، فما بالك إذا صعدت في النار؟ إضافة إلى عذاب النار ولهيبها يرهق أيضاً فيها بالصعود، فإن قال قائل: وهل النار فيها انخفاضات وارتفاعات؟ فالإجابة: نعم. ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه إذ سمع صوتاً، فقال لأصحابه: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجرٌ ألقي في النار منذ سبعين خريفاً فلم يصل إلى قعرها إلا الآن) فالشاهد: أن من أنواع العمل؛ العمل المرهق المتعب في النار، وهو: أن يرهق الشخص فيها صعوداً -أي: يصعد في النار- كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فالذي يصعد في السماء، يتعب ويرهق ونفسه ينيقطع، ففي النار عذاب إضافة إلى كونها ناراً، عذاب الصعود، كما ذكره الله سبحانه وتعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} وقوله: ((يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا)) ، ومن أهل العلم من قال: إن النار من شدة حرِّها ترفعهم فيها وتخفضهم، وهذا أيضاً نوعٌ من العمل، وذلك مثل القدر الذي يغلي بالماء وتحته نارٌ شديدة، فإنك عندما تضع فيه مثلاً بطاطس، فإن البطاطس تصعد إلى أعلى وتنزل ثانيةً، وهكذا تفعل بهم هذه النار الشديدة، ترفعه إلى أعلى ثم يهبط، ثم يرفع إلى أعلى وهكذا، فأحد الأقوال في تفسير العمل الذي يعمله أهل هذه الوجوه الخاشعة أن العمل: الصعود في النار، وقول آخر: إن المراد بالعمل هو: التلاعن الدائم بين أهل النار، فهم فدائماً في سباب وتلاعن، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47] الآيات، وكما قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] ، ومن هذا العمل أيضاً: الصياح والعويل والدعاء على أنفسهم بالهلاك، كما قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14] ، إلى غير ذلك من الآيات، فمن أنواع العمل: العتاب الزائد، والتلاعن الزائد بين أهل النار، كما قال تعالى أيضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] وكما قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، فمن أهل العلم من قال: إن هذا العمل والنصب يعني: هذا العمل المتعب المرهق يكون في النار، ومن أهل العلم من قال: إن هذا العمل وهذا النصب يكون في الدنيا، فأصحاب هذه الوجوه الخاشعة عملوا أعمالاً وأنفقوا أموالاً طائلة، وعملوا أعمالاً كبيرةً في دنياهم ولكنهم لم ينتفعوا بهذه الأعمال، بل ذهبت هذه الأعمال سدىً، كما قال تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6] أي: أنفقت كثيراً من الأموال في عداوة محمد وعداوة المسلمين، وكما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] ، وكما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18] ، فمن العلماء من قال: أن هذا العمل والتعب كان في الدنيا لكن لم ينتفعوا بهذا العمل في الآخرة، كما قال جل ذكره: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:103-105] ، لكن القول الأول أن هذا العمل والنصب في الآخرة قول أكثر المفسرين، وهو القول الصحيح، لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} بعد قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فخشوع وجوه أهل الكفر يكون يوم القيامة. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي: ذليلة ساكنة؛ أسكنها الذل، وأسكنتها جرائمها وشركها بالله، فذلت وانكسرت يوم القيامة. {تَصْلَى نَارًا} [الغاشية:4] (تَصْلَى) أي: تذوق، أو ترد، أو تدخل، فكله من معنى {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم التي توقِدون، جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم) .

تفسير قوله تعالى: (تسقى من عين آنية)

تفسير قوله تعالى: (تسقى من عين آنية) قال تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] ، ما معنى آنية؟ الآنية هي: التي بلغت أعلى درجات الحرارة، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] ، إناه: يعني: نضجه واستواؤه. ((لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)) فكان البعض يتحين وقت نضج الطعام في بيت رسول الله، فإذا ظن أن الطعام طبخ واستوى استأذن ودخل حتى يأكل من الطعام، فالمراد (بإناه) : نضجه واستواؤه، كذلك ((عَيْنٍ آنِيَةٍ)) فالعين: معروفة، أما الآنية، فهي التي بلغ الماء فيها أعلى درجات الحرارة.

تفسير قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع)

تفسير قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) قال الله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] الضريع: بعض أهل العلم يقولون: هو طعامٌ خبيث من نبات يقال له: ضريع يعرفه العرب، وهو سمٌ من السموم، يمزق الأمعاء في الدنيا، لكن ضريع الآخرة أشد. {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} فإن قال قائل: كيف قيل هنا: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} وفي الآية الأخرى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36] وهو: صديد أهل النار، أو غسالة أهل النار، فكيف يوفق بين هذه الآيات؟ من العلماء من قال: إن هذا محمولٌ على التنوع، فمن الكفار من ليس لهم طعام إلا من ضريع، وكفار آخرون ليس لهم طعامٌ إلا من غسلين، فأهل النار يتفاوتون في العذاب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، وكما قال جل ذكره: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما سأله العباس وقال: يا رسول الله! أبو طالب كان يحوطك ويرعاك ويمنعك فهل نفعته بشيء، قال: (نعم. هو في ضحضاح من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فدلت هذه النصوص على أن أهل النار يتفاوتون في العذاب، كما قال جل ذكره: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] ، وكما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:12-13] فدلت هذه النصوص على أن أهل النار يتفاوتون في العذاب. الشاهد: أن من أهل العلم من قال: إن هناك طوائف من أهل النار طعامها الغسلين، وطوائف من أهل النار طعامهم ضريع، وقولٌ آخر: إن الأطعمة تتنوع لكن في وقت معين طعامهم الضريع ليس لهم إلا الضريع، فمثلاً: ألف سنة طعامهم الضريع، وألف سنة أخرى طعامهم الغسلين، ليس لهم إلا هو، ((لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ)) وثم أقوال أخر. {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} وهل الضريع والغسلين طعام حتى يقال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} ؟ الإجابة: أن الضريع والغسلين أطلق عليهما تجوزاً: طعام وإلا فهما كما قال سبحانه: {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] ، ومن العلماء من قال: هو استثناء منقطع، ليس لهم أكل لكن لهم الضريع، كما قال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس فاليعافير ليست بأنيس. قال سبحانه: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} * {لا يُسْمِنُ} هذا الضريع لا يسمن الأجسام، ((وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)) فلما كان {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} فوجه الضرر فيه محض؛ أنه لا يشبعهم بل يزيدهم ألماً إلى آلامهم.

تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة)

تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة) قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} كما أسلفنا أن من أهل العلم من قال: إن من أسباب تسمية الآيات مثاني، وإطلاق المثاني على آيات القرآن: أنه يأتي بأوصاف قومٍ وأوصاف قومٍ مقابلين لهم، فلما ذكر الله سبحانه أوصاف الكافرين {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} ثنى بوصف حال المؤمنين فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} ، فمن أهل العلم من قال: إن المراد بالوجوه الناعمة: المتنعمة التي تعيش في نعيم، ومنهم من قال: الوجوه التي ظهر عليها أثر النعمة وأثر النعيم، وفي هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} ما يستدل به، لقول القائلين بأن أهل الإيمان لا يعتريهم خوف يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] وهذه مسألة اختلف فيها بعض الاختلاف ألا وهي: هل أهل الجنة يعتريهم شيء من الخوف والحزن يوم القيامة أو أن هذا الخوف والحزن لا يعتري إلا الكفار؟ من أهل العلم من قال: إن الخوف والحزن لا يعتري إلا الكفار، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] أي: عند الموت {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:30-31] ، وكما قال تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68-69] ، ومن أهل العلم وهم الأكثر من قال: إن أهل الإيمان يعتريهم هذا الخوف والحزن لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: (قول كل نبي من الأنبياء: نفسي نفسي، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله) الحديث، ولقول المرسلين على جنباتي الصراط: (رب سلم سلم) ، ولقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ، وبعد ذلك يكون المآل إلى الطمأنينة والأمن بالنسبة لأهل الإيمان، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (لسعيها راضية)

تفسير قوله تعالى: (لسعيها راضية) قال تعالى: {لِسَعْيِهَا} [الغاشية:9] والمراد بالسعي: العمل الذي عملته في الدنيا تتقرب به إلى الله، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] . مشكوراً مِن مَن؟ من أهل العلم من قال: مشكوراً من الله سبحانه وتعالى، وهذا رأي الأكثرين، وفريقٌ قالوا: مشكوراً من الله، ومشكوراً من أصحاب العمل أنفسهم، سيشكرون سعيهم يوماً ما. قال الله سبحانه: (لِسَعْيِهَا) أي: لعملها الذي عملته في الدنيا راضية، أي أن أصحاب هذه الوجوه راضون عن سعيهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا، ومن العلماء من قال قولاً آخر، فقال: إن معنى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9] أي: أنها راضية بالثواب الذي أعطاه الله لها مقابل السعي، وراضية بالأجر الذي أعطيته مقابل هذا السعي، فشخصٌ -مثلاً- تصدق بلقمة من كسب طيب فأخذها الله سبحانه وتعالى ورباها ونماها له حتى تأتي يوم القيامة كالجبل العظيم، ما له ألا يرضى وقد تضاعف الأجر إلى هذا القدر؟! ورجلٌ عمل حسنة فجاءت يوم القيامة بعشر أمثالها، ما باله لا يرضى؟ ورجلٌ عمل حسنة فجاءت يوم القيامة بثمانمائة ضعف، ما باله لا يرضى؟ فقال هذا الفريق: إن معنى قوله سبحانه: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي: لثواب سعيها راضية، وأيد هؤلاء العلماء قولهم بأن المؤمن لا يكاد يرضى بالقدر الذي عمله من الخير في الدنيا يوم القيامة، بل يتمنى أنه عمل خيراً أكثر من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في معنى الحديث: (ما من أحدٍ يموت له عند الله خير يرجو أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد) فمع أنه شهيد وقتل في سبيل الله، لكن يريد أن يرجع إلى الدنيا حتى يقتل في سبيل الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل) الحديث. إلخ، فتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل مرات في سبيل الله، فأهل الصلاح يتمنون يوم القيامة أنهم لو زادوا من الخير، هذا قولٌ من الأقوال. والله أعلم بالصواب. إذاً: فمعنى قوله سبحانه وتعالى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} فيه قولان: أولاً: المراد بالسعي هو: العمل، لكن من العلماء من أجرى التفسير على ظاهر الآية، ومنهم من قدر إضماراً فيها. يعني: منهم من قال: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي: هي راضية عن عملها الخير الذي عملته في الدنيا، ترجو به وجه الله سبحانه وتعالى، فقد وجدته في الآخرة. القول الثاني: أنها لثواب سعيها وللمقابل الذي أخذته لسعيها راضية عن هذا المقابل وشاكرة لهذا المقابل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يوم القيامة لأهل الجنة: يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً أزيدكم؟! فيقولون: يا ربنا! وهل فوق ما أعطيتنا؟ ألم تبيض وجوهنا، ألم تجرنا من النار، فيقول الله سبحانه: أحلل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) الحديث.

تفسير قوله تعالى: (في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية)

تفسير قوله تعالى: (في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية) قوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية:10] يستفاد من هذه الآية ضمناً وليس صريحاً: أن الجنة في السماء، أما الدليل على ذلك من السنة: حديث المعراج؛ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما تجاوز السماء السابعة وصل إلى سدرة المنتهى، ورب العزة يقول: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:14-15] ، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} من العلماء من يقول: عالية القدر، لكن هي عالية القدر، وعالية المكان كذلك. {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} هل يستفاد من علو الجنة زيادةٌ في النعيم؟ من العلماء من قال أو أومأ إلى ذلك، وذلك لأن السقف إذا كان منخفضاً يتضايق السكان الذين فيه، فإذا كان مرتفعاً ينفس على من بداخله، وهذا واضح، فمن العلماء من قال: يستفاد من علو الجنة -أي: علو سقفها، وفوقها عرش الرحمن- يستفاد منها زيادة النعيم، قوله: {لا تَسْمَعُ فِيهَا} [الغاشية:11] أي: لا تسمع في الجنة {لاغِيَةً} [الغاشية:11] ، منهم من قال: لا تسمع في الجنة نفساً لاغية، كما قال سبحانه: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25-26] حتى إن شرب الخمور، لا يسكرهم ولا يذهب بعقولهم، ويحملهم على السباب والشتائم، كما قال تعالى: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] أي: من جراء شرب الكئوس {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الطور:23-24] فليس في الجنة يا ابن كذا، ولا يا ابن كذا، ولا سخرية من بعضهم البعض، ولا أي شيء قبيح يضايق، ولا كلمات جارحة، ولا سباب، ولا أفعال، ولا غمز، ولا لمز، ولا همز، ولا عيب، ولا غير ذلك من الشتائم. {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} ، كقوله: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} ، وكقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] ، لا تسمع فيها كلمة تنكد وتعكر عليك أبداً. {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية:11-12] ، قال الله هنا: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} وفي الآية الأخرى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] ، وفي الثالثة: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] ، فهناك عينٌ وعيون، وكلٌ في النعيم بحسب عمله.

تفسير قوله تعالى: (فيها سرر مرفوعة)

تفسير قوله تعالى: (فيها سرر مرفوعة) يقول الله سبحانه: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] . لماذا كانت هذه السرر مرفوعة؟ من العلماء من قال: إن هذه السرر رفعت كي يطلع أهلها على النعيم الذي أعد لهم في الجنة. {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية:13-14] والأكواب هي: أكواب الدنيا المعروفة، ومن العلماء من قال: الأكواب ما لم يكن له عروة ولا خرطوم. {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} أما موضوعة، فمن أهل العلم من قال معناها: حاضرة، أي: جاهزة مستعدة إذا طلبت الماء أو طلبت أي شراب، فتأتيك الأكواب جاهزة معدة، ومنهم من قال: موضوعة بجانب العين الجارية. {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ} [الغاشية:14-15] ، والنمرقة هي: النمارق التي يتكأ عليها كالوسائد. {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية:15] يعني: الوسائد التي يتكأ عليها مصفوفة. {وَزَرَابِيُّ} [الغاشية:16] من أهل العلم من قال: إنها العبقري الحسان، وهي السجاجيد ونحوها التي تفرش على الأرض، {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16] مبثوثة أي: منتشرة، متفرقة هنا وهناك، كما في قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] (بث) أي: فرق ونشر.

تفسير قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت.

تفسير قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت.) قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] من أهل العلم من قال: فمن طرح له Q لماذا مُثل بالإبل ولم يمثل مثلاً بالفيل وهو أعظم خلقاً من الجمل؟ فأجاب الحسن البصري رحمه الله تعالى على ذلك بقوله: إن الفيل لم يكن معروفاً عند العرب كمعرفتهم للإبل، وقال أيضاً: ثم إن الفيل كالخنزير، لا يؤكل لحمه، ولا يركب ظهره، ولا يحلب دره، أما الناقة، فيحلب لبنها، ويركب ظهرها، ويؤكل لحمها، فوجه الانتفاع بالجمال أكبر بمراحل من الانتفاع بالفيل، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} على هذه الحال من فضل الخلق، كما هي ظاهرة بادية أمام أعينكم معشر العرب. {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} إن قال قائل مثلاً: لماذا لم يقل: أفلا ينظرون إلى الشياه كيف خلقت؟ فالمطرد: أن توجيه النظر يكون إلى الأعظم دائماً، فالعرب كان كثيرٌ منهم أهل فخر واختيال، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الفخر والخيلاء قال: (الفخر والخيلاء من الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم) ، يعني: أهل الإبل ينظرون إلى الناقة ورأسها مرتفع في السماء وأهلها يشتبهون بها، وتجده أعرابياً جلفاً جافاً ومع ذلك مستكبر غاية الكبر، ولا يبالي بأي شخص؛ لمعاشرته للجمال، أما الذي يرعى الغنم يكون فيه سكينة ووقار، فلا يخفى عليك أن الشاة دائماً رأسها منكساً في الأرض، فيكون أهل الشياه أهل تواضع، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبيٍ إلا ورعى الغنم) لذلك تجد في الأنبياء تواضع، فإذا مثلت للأعرابي: أفلا ينظرون إلى الشياه كيف خلقت؟ يحتقر التمثيل ويقول: لا أريد أن أكون من أهل هذه الشياه. {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17-21] حالك أنك مذكر، ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ، وبين قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] لأن في باب التذكرة أنت فقط مذكر، وأمر الهداية مرده إلى الله، إلا أن من أهل العلم من قال: أن هذه الآية مسبوقة بآية السيف، لكن منهم من حملها على أنها في باب التذكير؛ وليس لك إلا التذكير، لأنك لست بمجبرٍ لهم، ولا بمسلط على قلوبهم فيؤمنوا، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] * {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] ، وكما في الآية الأخرى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] ، لست بمكره لهم على الإيمان. {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية:23] من أهل العلم من قال: (إِلَّا) هنا بمعنى: (لكن) ، فالمعنى: لكن من تولى وكفر، {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:24-25] أي: رجوعهم، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:26] أي: يوم رجوعهم إلينا. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين الأمر بترك صيام آخر شعبان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم

الجمع بين الأمر بترك صيام آخر شعبان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم Q حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، وحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله) وفي الرواية الأخرى: (إلا قليلاً) كيف يمكن التوفيق بينهما؟ A حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) الراجح بلا تردد أنه ضعيفٌ لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول يحيى بن معين، وقول الإمام أحمد بن حنبل، وقول ابن عدي رحمه الله تعالى، وقول طائفة كبيرة من أهل العلم، وقد اعتبروه من الأحاديث التي استنكرت على بعض رواته وهو العلاء بن عبد الرحمن، ومن العلماء من حسن الحديث بناء على أن الحديث من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، وهذا الإسناد مركب عليه عدة أحاديث في صحيح مسلم، لكن هذا الحديث بالذات ليس في مسلم، فقالوا: إسناده حسن، لكن العلماء الذين ضعفوه قالوا: هذا الحديث من الأحاديث التي أخذت على العلاء. يعنى: قد يكون الراوي ثقة، لكن لا ينفي بعض الأحاديث، فقالوا: من الأحاديث التي استنكرت على العلاء هو هذا الحديث، ومن العلماء من ضعف العلاء مرة واحدة بسبب روايته لهذا الحديث، من الذين ضعفوه يحيى بن معين، والإمام أحمد، وابن عدي رحمه الله تعالى، وغيرهم جمع كبير من العلماء. إذاً: لا إشكال، فالباب قد فرغ بحديث: (كان يصوم شعبان كله إلا قليلاً) ومما يدل على تضعيفه أيضاً: (أن النبي نهى عن صيام يوم الشك إلا إذا وافق صوم أحدكم) فمعنى ذلك قد يوافق صوم أحدكم يوم الشك، فإذا كنت تصوم الإثنين والخميس وجاء يوم الشك يوم الإثنين، فصم يوم الإثنين ولا شيء عليك، وهذا يوم الشك يعني يوم الثلاثين من شعبان وهو بعد منتصف شعبان، لكن أيضاً يلتمس الجمع لمن حسنوه، ووجه الجمع: أن النهي في قوله: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ليس النهي للتحريم، ولكن للتنبيه، فالمعنى: من كان يشق عليه أن يواصل صيام النصف الثاني من شعبان برمضان، يعني إذا صمت مثلاً خمسة عشر يوماً من النصف الثاني من شعبان، فيأتي رمضان ويشق عليك المواصلة، فلا تصم هذه الأيام حتى تتفرغ وتتقوى للفريضة، أما من استطاع أن يصوم هذه الأيام مع رمضان، فليصمها، على فرض تحسين الحديث، والله سبحانه أعلم.

حكم الصلاة على الفرش المزخرفة برسم الصليب

حكم الصلاة على الفرش المزخرفة برسم الصليب Q في بعض المساجد والمنازل على السجاد والمفروشات علامة الصليب فهل يجوز أن نصلي عليها أم لا؟ A الصلاة عليها جائزة مع الكراهة، أما الكراهة لأمرين: الأمر الأول: أنها تشغل المصلي، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام مخططة بخطوط، فلما انصرف من صلاته قال: (اذهبوا بخميصتي هذه وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) فقال عمر: (إياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) ، ثم أيضاً في صحيح البخاري من طريق عمران بن حطان، عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع الصليب إلا نقضها) ، والله أعلم.

حكم الصلاة مع الجماعة الثانية والثالثة بنية النافلة

حكم الصلاة مع الجماعة الثانية والثالثة بنية النافلة Q ما حكم الجماعة الثانية والثالثة والرابعة في الصلاة أثناء النافلة؟ A الجماعة الثانية في المسجد صحيحة، وقد قدمنا الأدلة على ذلك، منها: حديث (من يتصدق على هذا) .

حكم محاسبة الرجل على معصية زوجته

حكم محاسبة الرجل على معصية زوجته Q هل يحاسب الإنسان على معصية زوجته؟ A إن كان يستطيع كفها عن هذه المعصية وقصر، أما إن لم يستطع كفها عن هذه المعصية فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

حكم اعتكاف المرأة في البيت أو في المسجد

حكم اعتكاف المرأة في البيت أو في المسجد Q هل الأفضل للمرأة الاعتكاف في البيت، أم الاعتكاف في المسجد؟ A الأدلة بعمومها تدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، لحديث: (صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد -أو صلاتها في حجرتها خير من صلاتها في بيتها- وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في حجرتها) والحديث من مجموع الطرق صحيح، وإن كان أبو محمد بن حزم يغمز في الحديث ويضعفه، لكن أكثر الأئمة على تصحيحه، فهو صحيح بمجموع الطرق، والله أعلم. فإن اعتكفت المرأة في المسجد جاز لها، لكن هل يجوز لها أن تعتكف في بيتها؟ لم أعلم دليلاً أن صحابية من الصحابيات اعتكفت في بيتها، ولا أعلم دليلاً على أن صحابية اعتكفت الاعتكاف المشروع في بيتها، وإذا كان أحد يملك دليلاً يدل على ذلك فليتحفنا به، والصلاة فيها الدليل: (أن الصلاة في بيتها أو في حجرتها أو في مخدعها أفضل من صلاتها في المسجد) لكن اعتكافها في بيتها؟! هي أصلاً في بيتها لا تخرج منه، لكن هل ورد أن صحابية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفت في بيتها؟ هذا مما لا أعلمه، وأما بالنسبة لاعتكاف النساء في المسجد فقد اعتكفت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن.

شفاعة القرآن لأصحابه

شفاعة القرآن لأصحابه Q هل القرآن والقيام يشفعان للعبد؟ A القرآن الحديث فيه ثابت، قال صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) ، أما الصيغة المذكورة في السؤال فلا أعلمها صحيحة.

كيفية البحث في فتح الباري

كيفية البحث في فتح الباري Q كتاب: (فتح الباري) كيف أستفيد منه؟ A هو مرتب على أبواب الفقه، كترتيب الإمام البخاري، وهو شرح لصحيح البخاري، فإذا أردت أن تبحث مسألة في الصلاة، فابحث في أبواب الصلاة واستخرج المسألة التي تريد، وإذا كنت تريد أن تذاكره بالتسلسل، فاقرأ متون البخاري، والمشكل عليك انظره في شرح الحافظ ابن حجر؛ حتى لا تمل.

حكم النفقة على العيال

حكم النفقة على العيال Q امرأة كانت قد تزوجت من رجل وهي مطلقة من رجل آخر معها منه ستة أطفال ولا ينفق عليها، وعندما تزوجت من الرجل الآخر أمرها بأن تطلق منه، وهي الآن حامل من هذا الرجل، ويريدها أن تجهض هذا الجنين، وإلا فسوف يحرمها طليقها من أولادها؟ A طليقها ليس له أي تدخل في شأنها أبداً، وإنما عليه أن ينفق على أولادها الستة الذين هم أولاده. ولزاماً عليه أن ينفق عليهم، وهو ليس بواجب عليه أن ينفق عليها، وإنما ينفق على أولادها هم وجوباًَ، فالرجل المطلق الأول يجب عليه أن ينفق على أولاده الستة، وإن خدمت له أولاده تعطى مقابل الخدمة، أما الإنفاق عليها فمهمة الزوج الجديد، لكن كون المطلق الأول يقول لها: اجهضي حملك، فليس له ملك ولا يطاع أبداًَ، إنما الذي يطاع زوجها الجديد ويطاع في غير معصية الله.

حكم التجميل والعلاج بالزبادي والعسل

حكم التجميل والعلاج بالزبادي والعسل Q هل التجميل والعلاج بالزبادي والعسل الأبيض يجوز إذا كان يعالج التشققات على الوجه؟ A إذا كان يعالج التشققات على الوجه فلا مانع من استخدام الزبادي والعسل، ولا بأس أبداً، وليس هناك مانع شرعي أبداً من ذلك إذا كان يعالج، لكن هنا في بلادنا أحياناً تظهر أشياء: كأن تسقط اللقمة على الأرض فيأخذها الناس ويقبلونها، ما مدى مشروعية هذا العمل؟ يقولون: نعمة ربنا، ويقبلونها، السنة أن يميط ما بها من أذى ويأكلها، لكن هو لن يأكلها، وإنما يأخذها ويقبلها، ويقول: نعمة ربنا، والعمل صحيح، لكن ليس عليه دليل فيما نعلم، فقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم تمرة على الأرض فقال: (لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ، (وإذا سقطت لقمة أحدكم فليتناولها وليمط ما بها من أذى وليأكلها) ، ونحن نتكلم على مسألة تقبيل العيش الملقي على الأرض وقول: (نعمة ربنا) يرفعها إذا خشي أن تمتهن فقط فلا أعرف دليلاً عليه، وعند أبي يعلى -وإسناده حسن- أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل مع عائشة، فدخلت سودة، فقالت عائشة لـ سودة: كلي، قالت: ما أنا بآكلة، قالت: كلي، قالت: ما أنا بآكلة، قالت: كلي أو لألطخن وجهكِ، فأبت، فقامت عائشة ولطخت وجه سودة بالطعام، فصنعت سودة بـ عائشة مثل الذي صنعت بها. رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد صحيح، وقد ورد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يترامون أحياناً بالبطيخ، فقد كان البطيخ أحياناً يصل إلى كميات كبيرة فتفسد، فيترامون بها، أما إبعادها عن الطريق وتقبيلها فلا أعلم عليه دليلاً إلا: (فليمط ما بها من أذى وليأكلها) .

الحكم على حديث: (اطلبوا العلم ولو في الصين)

الحكم على حديث: (اطلبوا العلم ولو في الصين) Q ما صحة حديث: (اطلبوا العلم ولو في الصين) وإذا كان صحيحاً فَلِمَ يحرم بعض العلماء السفر إلى بلاد الإفرنج لطلب العلم؛ لأنها بلاد كفر في زعمهم؟ A الحديث ضعيف لا يثبت بحالٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما قولك: (بلاد كفر في زعمهم) فإن زعمك أنت خاطئ، فهي بلاد كفر، فإنجلترا وفرنسا كفار، لا يوجد عندنا شك، وأمريكا أكفر وأكفر، وروسيا أشد إلحاداً وكفراً، وهذه بلاد كفر، ولا شك في ذلك، لكن هل يسافر إليها؟ فالسؤال يكون: هل يشرع السفر إلى بلاد الكفر؟ والجواب عليه: إذا كانت هناك حاجة تنفع المسلمين في دنياهم جاز السفر لها. باختصار: إذا كان الشخص إيمانه ضعيف وليس له حاجة في هذه البلاد، ويخشى عليه من الفتنة، فالذهاب إليها لا يجوز؛ لأنه سيرى مناظر عارية أمامه، وقد يشرب كئوساً من الخمور، أو يتعرض لها، فإذا كانت هناك حاجة تعود على المسلمين بالنفع في دنياهم فله أن يسافر إليها، أما إذا لم تكن هناك حاجة تعود على المسلمين بالنفع في دنياهم، أو في دينهم فلا يسافر إليها، والله أعلم.

صلاة المرأة خلف زوجها في البيت

صلاة المرأة خلف زوجها في البيت Q إذا صلت المرأة مع زوجها، فهل تقف بجواره أم خلفه؟ A تقف خلفه لحديث أنس: (صليت خلف رسول الله والعجوز خلفنا) وحديث ابن عباس: (كنت عند خالتي ميمونة) الحديث.

حكم منع الزوج زوجته من إعارة دفتر محاضراتها

حكم منع الزوج زوجته من إعارة دفتر محاضراتها Q هل من حق الزوج أن يمنع زوجته أن تعير دفتر محاضراتها لدروس العلم إلى زميلاتها أم لا؟ وهل له حق الطاعة في ذلك؟ A سنجيب بمقتضى السؤال: ننظر، لماذا منع الزوج، ويذكر بحديث: (من كتم علماً) وإن كان في طرقه مقال، لكن يستدل بالآية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] ، ويذكر بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] ، ويذكر بحديث رسول الله: (والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه) ، لكن إن ذكر بكل هذا ولم يتذكر، فادفعي شره ولا تعيري دفترك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة البلد

تفسير سورة البلد لله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وفي هذه السورة العظيمة يقسم سبحانه بأحب البقاع إليه وهي قبلة المسلمين؛ أن الإنسان خلق في تعب ونكد ومكابدة لمتاعب هذه الحياة، ثم ذكر الله الإنسان وحثه على اقتحام العقبة الكئود حتى لا يتكرر عليه النكد يوم القيامة، وهذه العقبة يكون اقتحامها بإطعام المساكين، والنظر إلى المحتاجين، والعطف على الأيتام، وتفقد الأرامل.

تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد)

تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في سورة البلد: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] وهذا قد يرد عليه إشكال! فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالبلد، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3] ، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالبلد. والآية التي نحن بصددها: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} نافية للقسم بهذا البلد، وابتداء: البلد هي مكة، وقد نقل فريق من أهل العلم الإجماع على أن المراد بالبلد مكة، ثم نرجع فنقول: كيف نجمع بين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} ، وبين قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3] ؟ للعلماء في ذلك أقوال: هذه الأقوال تنصب على تفسير: (لا) في قوله تعالى: (لا أُقْسِمُ) ، فمن العلماء من يقول: إن (لا) نافية لشيء قد تقدم، فالمعنى: أن المشركين كانوا ينكرون البعث، ويقولون: لا بعث، فقال الله لهم: (لا) فهناك بعث، ثم أكد هذا بقوله سبحانه: أقسم على ذلك بهذا البلد، هذا التأويل مبني على الربط بين السور ببعضها، وبين المعاني ببعضها، فهذا القول الأول، حاصله: أن (لا) نافية لشيء متقدم، ثم ابتدئ الكلام بقوله: أقسم على هذا المنفي بهذا البلد. ووجه الاعتراض على هذا القول الأول: أن الأصل أن كل سورة مستقلة بنفسها، ولا دليل على أن نربط بين السورة والأخرى إلا إذا جاء في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: أن (لا) زائدة، ومثال ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29] ، فقوله سبحانه: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) المراد به: ليعلم، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] ، فالمعنى: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، و (لا) زائدة على قول بعض العلماء. والشاهد من شعر العرب قول الشاعر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع فـ (لا) أيضاً هنا زائدة. واعترض على هذا: بأنه ليس في القرآن حرف زائد، وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولغة العرب فيها أشياء زائدة كي يتكامل بها المعنى ويتسق. القول الثالث: أن (لا) نافية، لكن ليس لشيء متقدم، إنما هو للشيء الآتي، فالمعنى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1-2] يعني: لا أقسم بهذا البلد أثناء وجودك، وقد أحللت لك هذه البلدة كما سيأتي بيانه، يعني: لا أقسم بهذا البلد أثناء وجودك فيه في الوقت الذي أحللت لك هذه البلدة تفعل فيها ما تشاء. إذاً: هي ثلاثة أقوال للجمع بين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وبين قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3] : أحدها: أن (لا) نافية لشيء متقدم. الثاني: أن (لا) زائدة. الثالث: أن (لا) نافية باعتبار ما هو آت، يعني: لا أقسم بهذا البلد حينما أحللت لك هذه البلدة. فقوله تعالى على فرض أن (لا) زائدة (أقسم بهذا البلد) ، فيه أن الله أقسم بالبلد، وبعض العلماء يورد هنا، وما كان في مثل هذا المقام تقديراً محذوفاً، فيقول مثلاً: قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ، فيريد أن يفر من القسم بغير الله، وقال: إن الله لا يقسم إلا بنفسه، فقال: إن قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ، (وَهَذَا الْبَلَدِ) فيها تقدير محذوف (لا أقسم بهذا البلد) أي: أقسم برب هذا البلد، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] أي: ورب الشمس وضحاها، وهذا القول قول ضعيف؛ لأنه إذا قلنا: إن المقدر ورب الشمس وما ضحاها، ورب القمر إذا تلاها، ورب النهار إذا جلاها، سنأتي إلى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] سنقع في إشكال، فكيف نقول: ورب السماء ورب ما بناها؟! فالذي بناها هو الله، فهذا وجه تضعيف هذا القول.

تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)

تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ} [البلد:1-2] ما المراد بـ (أَنْتَ حِلٌّ) ؟ من العلماء من قال: إن (حِلٌّ) معناه: لست بآثم، كما تقول للشخص: أنت في حل من أمرك، أنت في حل من هذا الوعد، أنت لست بآثم إذا أخلفت هذا الوعد، وأنت لست بآثم إذا لم توف لي بهذا الأمر، فقوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) أي: وأنت في حل، وما المراد بهذا القول؟ المراد أن مكة بلد حرام، حرمها الله على لسان نبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بل حرمها يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها -لا يجوز لك أن تطير الحمام من الحرم- ولا يعضد شوكها، ولا يلتقط لقطتها، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يقتل فيها الناس، فالبلد بلد حرام محرم. الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مكة حراماً عليه كما أنها حرام على الناس، فيحرم على الرسول أن يرتكب فيها شيئاً من المذكور، لكنها أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يوم الفتح، يفعل فيها ما يشاء، ويقتل من يشاء، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مكة بلد حرام حرمها الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا ينفر صيده) إلى آخر الحديث: (وإنها ما أحلت لأحد قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار -أثناء فتح مكة- ثم رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة) فأحلت مكة للرسول ساعة من النهار، قتل فيها بعض الناس، كما قال في شأن ابن خطل: (وإن وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة فاقتلوه) ، فقوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] أي: وأنت في حل مما تصنع في الساعة التي أحللت لك فيها هذه البلدة عام الفتح، فهذا هو تأويل قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) عند الجمهور، أي: جمهور المفسرين. وقول آخر: (وَأَنْتَ حِلٌّ) أي: قد استحل أهل هذه البلدة دمك، وهناك أقوال أخر لا نوصي بذكرها، المهم أن قول الجمهور هو الأول الذي سمعتموه. فعلى هذا اتضحت وجهة من قال: إن (لا) نافية لشيء آت، فلا أقسم بهذا البلد في الساعة التي أُحلت لك فيها هذه البلدة، إنما أقسم بهذه البلدة في سائر الأوقات، وهذه وجهة من قال: إن (لا) نفي لشيء آت. وهنا اعتراض على هذا التأويل وحاصله: إن هذه السورة -سورة البلد- مكية، وإنما أحلت مكة لرسول الله عام الفتح، يعني: بعد نزول هذه السورة، فكيف يلتئم الجمع بين أن السورة مكية وبين قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) وهو إنما كان عام الفتح؟ فأجيب بأن هذا أطلق باعتبار ما سيكون، كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:30] ليس معنى (إنك ميت) ميت الآن إنما معنى {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي: ستموت، وكقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] ونحو ذلك. {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1-2] (حِلٌّ) يعني: حلال فاصنع ما تشاء.

تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)

تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد) {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] المراد بالوالد عند فريق من العلماء آدم صلى الله عليه وسلم ((وَمَا وَلَدَ)) ذريته. وقال فريق آخر من العلماء: إن (وَالِدٍ) هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، (وَمَا وَلَدَ) الأنبياء من سلالة إبراهيم، فكل الذين جاءوا بعده من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] يعني: (وَمَا وَلَدَ) هم ذرية إبراهيم. قول ثالث: أن الوالد إبراهيم، (وَمَا وَلَدَ) إسماعيل وثم أقوال أخر، واختار الطبري رحمه الله تعالى العموم، فقال: إن الله أقسم بكل والد وما ولد، فإن (ما) هنا بمعنى الذي، فالمعنى: ووالد والذي ولده. ومن أهل العلم من قال: (وَوَالِدٍ) أي: رجل أنجب {وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] أي: رجل لم ينجب، وهذا عليه قلة من المفسرين.

تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)

تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) أقسم الله بهذا البلد، وبـ {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} على شيء، وهو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] كما أسلفنا قد يأتي ذكر الإنسان ويراد به الخصوص، وأحيانا يراد به العموم، فقال الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] وهو آدم {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الإنسان:2] وهم ذريته، آدم لم يخلق من نطفة، هنا يقول الله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] المراد به عموم الإنسان، فكل بني آدم خلقوا في كبد، والكبد: المشقة والتعب والنصب والإرهاق، ومنه قول القائل: (كبّدت العدو الخسائر) أي: ألحقت به خسائر. قال الله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} فما هو هذا الكبد؟ قالوا: التعب والمشقة كما أسلفنا، فالإنسان منذ أن خلق؛ والتعب والمشقة ملاحقة له، فعندما يخرج من بطن أمه يتلقفه الشيطان فيطعن في خاصرته فيصرخ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا ويطعن الشيطان في خاصرته حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها) الحديث، ثم يبقى يجوع حيناً ويشبع حيناً، ثم تأتيه آلام الختان، وتأتيه آلام قطع السرة، وتأتيه آلام الفطام ومنعه من الثدي، وهذا من أشق الألم عليه، ويكبر شيئاً ما فيبتلى بأصدقاء سوء يضربونه ويظلمونه، ويذهب إلى المدرسة فيبتلى بالمعلم: لماذا تركت الواجب؟ ويضربه، ويذهب إلى البيت فيكلفه أبوه بأعمال إن تخلف ضربه، ويستمر فيه الكيد يمرض! يتعب! يشاك! يقوم، وهكذا لا تكاد تجد راحة حلت به إلا وتبعها بلاء، ولا تجد فرحاً نزل به إلا وتبعه حزن، وهكذا، تبدأ مشاكل الدراسة والنجاح والرسوب والمجموع وغير ذلك. ثم ينتهي من الدراسة فيبحث عن الوظيفة، ويبحث عن زوجة، فيتزوج ويحمل هم الأولاد والزوجة، وربما يبتلى بقوم ظالمين، إذا التزم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تستمر به البلايا في كل حياته، يشيب وبعد أن يشيب يبدأ بالانحناء والتدهور، كما قال القائل: يسر الفتى طول السلامة والبقاء فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا ما رام القيام ويحمل يأتي ليقف فيسقط بعد أن كان شابا قوياً، وهكذا! يبتلى بأمراض الشيخوخة التي لا تكاد تعالج إلا إذا أذن الله، ثم يبتلى بتلقف الملائكة له، هل تتلقف له بالرحمة أو تتلقف له بالعذاب؟! ويبتلى بفراق الأهل والأحباب ويدخل القبر ويبتلى في القبر ابتلاء أشد من ابتلاء المسيح الدجال، وفتنة أشد من فتنة المسيح الدجال، ثم كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] تدنو الشمس من رأسه يوم القيامة وتقترب، يبتلى بالموازين التي تقام ويوزن فيها الأعمال، يبتلى بالمرور على الصراط، وما أدراك ما الصراط؟! ويبتلى بقصاص المظالم بعد مروره على الصراط، ابتلاءات تلو ابتلاءات إلى أن يستقر إما في جنة، وإما في نار، فهكذا خلق الإنسان. أقسم الله سبحانه وتعالى على ذلك، فالإنسان لا يملك لنفسه من هذه الأمور كلها شيئاً، ومن ثم يعلم أن الأمور مقدرة، وأن أقدار الله سبحانه وتعالى تجري عليه رغماً عنه، لا يريد الشخص أن يكون فقيراً، ولا أن يخسر، ولكن يخسر رغماً عنه، ويمرض رغماً عنه، لا يريد الشخص أن يكون تعيساً، ولا أن يكون عقيماً، لكن رغماً عنه قدر الله ينفذ فيه شاء أم أبى، كلنا يكره الموت، ولكننا كلنا سنموت، فهذا بعض ما ورد في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] . كل بني آدم على هذا النحو، لا ينجو منهم رئيس ولا مرءوس، بل تجد هم الرئيس أكبر من همك آلاف المرات، لا يكاد ينام نوماً هادئاً هنيئاً: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} ، يتكبد المشاق في جمع المال، ثم يتكبد المشقة في حراسة هذا المال!

تفسير قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد)

تفسير قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد) قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] نحن الذين خلقناه في كبد، وهذه الحال التي خلق عليها، أفيحسب الإنسان أنه يعجزنا أو يفوتنا وأننا لن نقدر عليه، ولن نقبضه ولن نعيده مرة ثانية حياً بعد موته؟! {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} .

تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالا لبدا)

تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً) قال الله تعالى: (يَقُولُ) هذا الإنسان {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6] أي: أنفقت مالاً كثيراً، فاللبد: الكثير المجتمع، وقريب منه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] تكالبوا عليه واجتمعوا حوله {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} أي: أنفقت مالاً كثيراً، ومن القائل أهلكت مالاً لبداً؟ من العلماء من قال: إن القائل: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} هو الكافر، يقول الكافر من الكفار: إنني أهلكت مالاً كثيراً في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام، كما ذكر في بعض التفاسير أن امرأة أبي لهب كان لها قلادة من ذهب، فباعتها كي تنفق ثمنها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قول وراد في التفاسير، فالكافر يقول: أنا أنفقت مالاً كثيراً في عداوة الإسلام وأهله، وعداوة محمد، والمنافق يقول للمسلمين: إنني أنفقت مالاً كثيراً في الخير، مرائياً بهذا المال ومسمعاً، فهذه بعض الوجوه في تفسيرها. (يَقُولُ) الإنسان بعمومه إما الكافر وإما المرائي، وقد يقولها المؤمن ليس على سبيل الرياء. {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7] هذا الكافر يزعم أنه أنفق أموالاً طائلة ويتباهى بذلك أمام الكفار، أيظن أن أمره قد خفي علينا، وأننا لا نراه؟! فكذلك المنافق الذي أنفق الأموال مرائياً ومسمعاً، أيحسب أننا لن نراه؟!

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين.

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين.) قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] العينان تشهدان على الكافر بما صنع، {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] فإن كنت -أيها الكافر- تظن أن أحداً لم يراك، وأنت تنفق في عداوة الأنبياء وعداوة أهل الصلاح فاعلم أن الله يراك، ثم جوارحك أيضاً شاهدة عليك، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] . أما المتباهي بكثرة إنفاقه في سبيل الله فالتوجيه أن يقال له: إن من نعمه عليك ما أكثر من إنفاقك، فإذا كنت تدعي أنك أنفقت مالاً كثيراً لنصرة الدين فإنا قد جعلنا لك عينين، ولساناً وشفتين، والنعمة الواحدة من هذه النعم تغطي على كل ما أنفقت: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] . {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] الهداية هنا: هداية الدلالة لا هداية التوفيق، فقد تقدم أن الهداية هدايتان: هداية الدلالة، ويملكها البشر بإذن الله، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] ، {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:19] أي: أدلك على عبادة ربك فتحصل على الخير، فالهداية هنا هداية الدلالة، يملكها البشر بإذن ربهم. أما هداية التوفيق فلا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] . قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي: وضّحنا له الطريقين، وبينا له أعدل الطريقين: طريق الخير وطريق الشر، بيناهما له، كما قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) أي: أوضحنا له الطريق {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] ، وأصل النجد: المكان المرتفع، والنجود هي: الأماكن المرتفعة.

تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة.

تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة.) قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] من العلماء من قال: إن الهمزة هنا محذوفة، وهي: أفلا اقتحم العقبة، والمعنى: بعد إنعامنا عليه أفلا عمل أعمالاً يقتحم بها هذه العقبة ويتجاوزها. ومنهم من قال: هي نافية، {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:11-13] . لا يظن شخص أن تفسير العقبة: فك رقبة، وهذا خطأ يقع فيه كثير من الناس، يقول: وما أدراك ما العقبة؟! فك رقبة، العقبة شيء، وفك الرقبة سبب من أسباب اقتحام العقبة، وهذا الوهم يقع فيه كثير من الناس، مثلاً تقدم في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:19-20] فيتوهم البعض أن ((كتاب مرقوم)) تفسير لعليين، إنما المراد كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:18-19] تفخيم لشأنها وتعظيم لقدرها، وهنا كذلك: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ، أي: ما عمل أعمالاً تجعله يقتحم العقبة ويتجاوزها. وما هي العقبة؟ من أهل العلم من قال: هي عقبة يوم القيامة، يمرها ويقطعها كل شخص، المؤمن يقتحمها ويتجاوزها، والكافر يسقط فيها. ومن العلماء من حملها على الصراط، فالمؤمن يتجاوزه ويمر عليه، والصراط عقبة أيضاً، والكافر يسقط فيه، والناس يمرون عليه بحسب الأعمال، فهذا قول قوي. ومنهم من قال: إن العقبة جبل في النار، وهو المذكور في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] أي: سأتعبه -أي: هذا الكافر- في الصعود على هذا الجبل، مع أنه في نار، ويضاف إلى عذابه في النار إرهاقه. {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فلا عمل أعمالا تجعله يقتحم العقبة ويتجاوزها، ثم فخم شأن العقبة فقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} ما هي الأعمال التي تجعل الشخص يقتحم هذه العقبة؟ قال الله سبحانه: {فَكُّ رَقَبَةٍ} من الأعمال التي تجعلك خفيفاً تتجاوز هذه العقبة عتق الرقاب، إما العتق أو المساهمة في العتق، قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:14] والمسغبة: المجاعة، أي: يوم جاع فيه الناس، واعتراهم جوع شديد.

تفسير قوله تعالى: (يتيما ذا مقربة)

تفسير قوله تعالى: (يتيماً ذا مقربة) قال تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] ذا قرابة منك، ففيه أن الإنفاق على الأقارب الأيتام مقدم على الإنفاق على غيرهم إذا تساوت الحاجة، يعني: هنا يتيم في ظروف معينة قريب لك، ويتيم آخر ظروفه نفس الظروف بعيد منك، فالقريب هو الأولى، الأقربون أولى بالمعروف دوماً، وفي المعنى أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123] الأقرب فالأقرب. {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} : قدم اليتيم على المسكين، وقد جاءت جملة آيات تحث على الرفق باليتيم، والله يقول: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] ، {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر:17] ، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:1-2] الذي يدع اليتيم رجل ضعيف الإيمان، يكذب بالدين، وفيه خصال سيئة.

تفسير قوله تعالى: (أو مسكينا ذا متربة)

تفسير قوله تعالى: (أو مسكيناً ذا متربة) قال الله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] ما معنى (ذَا مَتْرَبَةٍ) ؟ أي: ألصقته المسكنة والفقر بالأرض، فأصبح لا يملك شيئاً إلا التراب، فـ (مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) يعني: هو مسكين لا يمتلك أي شيء إلا التراب، فالمسكين الذي ألصقه الفقر وألصقته المسكنة بالتراب، فأصبح لا مأوى له إلا التراب، وفيه دليل على أن الشخص عند الإنفاق يتحرى الأحوج كي يعطيه، فمثلاً يعمد قوم إلى زكوات أموالهم فيتصرفون فيها، وفي الحقيقة أن زكاة الأموال ليس من حقك أن تتصرف فيها كما تشاء، إنما هي كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، فواحد مثلاً يأتي ويقول لك: يا شيخ! إن لي أختاً متزوجة، وحالتها غير متيسرة، فهل يجوز أن أعطيها الزكاة؟ فأنت قد تفتيه بالجواز؛ لأنها بحاجة لا تكفيها؛ ولأنها لا تلزمه نفقتها، فيجوز أن تكون مصرفاً للزكاة، وهي أولى، لكن ينبغي النظر إلى المستوى واليسر الذي يسأل عنه الشخص، فهو قد يقول: إنها لا تأكل في كل أسبوع لحماً، ويكون هناك أفقر منها لا يرى اللحم إلا في المواسم، بل يكون هناك من لا يرى اللحم حتى في المواسم، فيقدم الشخص الفقير في هذه الحالة على الأخت التي في بيتها تلفاز ولكنها لا تأكل لحماً إلا في كل شهر مرة، فهذه الآية الكريمة أشارت إلى هذا المعنى.

الفقير أشد فاقة من المسكين

الفقير أشد فاقة من المسكين فإذا أردت أن تتصدق فتحرى الأحوج وأعطه المال، حتى يعظم لك الأجر عند الله سبحانه وتعالى وتأخذ أجرك مستوفياً. هل هناك فرق بين المسكين والفقير؟ الجمهور يقولون: الفقير أشد من المسكين، واستدلوا بقوله تعالى: {وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] ، وقالوا: المسكين يجد شيئاً، ولكن الشيء لا يكفيه، هذا رأي الجمهور، واعترض على هذا الرأي بأن الله قال: (مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) وهنا المسكين ليس له أي شيء، وجمع بين الأقوال بأن قيل: إن اصطلاح المسكين والفقير قد يأخذ كل منهما معنى الآخر، إذا افترقا اجتمعا، يعني: إذا جاء المسكين في سياق ليس معه الفقير يأخذ معنى المسكين والفقير، وإذا جاء ومعه الفقير في سياق واحد، يكون الفقير أقل حاجة من المسكين، فهنا المسكين جاء في السياق وحده، لم يرد معه ذكر للفقير، فأخذ معنى الفقير والمسكين، وهو كاصطلاح البر والتقوى، فالبر إذا جاء منفرداً أخذ معه معنى التقوى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] ، فالبر أخذ معنى التقوى في بعض الأعمال.

تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا.

تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا.) قال الله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17] ما هو وجه إيراد قوله تعالى: (ثم) هنا؟ من المعلوم أن الشخص الكافر إذا عمل عملاً لا يقبل منه هذا العمل إلا إذا كان مؤمناً في الأصل، وإلا عمله حابط، فلماذا أخر الإيمان هنا عن العمل مع أن جل الآيات الأخر تربط الإيمان بالعمل كقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) وهنا: {إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:14-17] وثم موضوعه في أغلب الأحوال للترتيب مع التراخي؟ فأجاب بعض العلماء بأجوبة، منها: أن (ثم) لترتيب الذكر، وليس للترتيب الزمني، كقول الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده (قل لمن ساد ثم ساد أبوه) وأبوه كان سيداً (ثم قد ساد قبل ذلك جده) فـ (ثم) للترتيب الذكري. القول الثاني: أن (ثم) بمعنى الواو، أي: أطعم وكان مؤمناً وكان من الذين آمنوا. القول الثالث: إنه فعل هذه الصالحات في جاهليته، فأثبتت هذه الأفعال الصالحة التي في جاهليته، فلما آمن انتقلت معه هذه الخصال الطيبة إلى إسلامه، فأصبح أيضاً بعد إسلامه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على أسلفت من خير) ، هذه وجوه ثلاثة، وهناك وجوه أخر. وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أي: أوصى بعضهم بعضاًَ، الصبر: الصبر على المصائب، والصبر على الطاعات، هذه نصوص عامة، فالتواصي بالصبر من شيم أهل الإيمان والصلاح {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا} [العصر:1-3] أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، {بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] . {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ} [لقمان:17] فلقمان يوصي ولده بالصبر. ((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) المراد بالمرحمة: رحمة الناس والرفق بهم، فالشدة على الناس الأصل أنها مذمومة إلا في حالات واستثناءات إذا رأيت أن الشدة تنفع في هذا المقام، وإلا فالأصل أن الناس يتراحمون بينهم، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق فيما بينهم، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها) ((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) وفي هذه الجزئية فقه متسع، المقام لا يتحمله وتفسير السورة لا يتحمله. {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:18] أي: أصحاب اليمين الذي يتلقفون الكتب -كتب الأعمال- بأيمانهم، ومن ثم يقولون: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] .

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة) قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [البلد:19] أي: الشمال الذي يتلقفون كتبهم بشمائلهم {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] أي: مغلقة مطبقة، تطبق عليهم ولا تفتح، ليست ناراً مكشوفة إلى السماء، بل نار تغلق عليهم والإحراق داخلها. وفقنا الله لما يحب ويرضى.

الأسئلة

الأسئلة

حال حديث: (إن الله يبغض المرأة.

حال حديث: (إن الله يبغض المرأة.) Q ما مدى صحة حديث (الله يبغض المرأة) ؟ A لا أعرف له سنداً.

جواز تأديب الطفل بالضرب وهو دون العاشرة

جواز تأديب الطفل بالضرب وهو دون العاشرة Q يقول لي زوجي: إن ضرب الأطفال وتأديبهم لا يكون إلا عند سن العاشرة قياساً على أمر الصلاة، فما مدى صحة ذلك، خاصة أني أخاف أن أتركهم بغير أن أضربهم عندما يخطئون فيفشلوا؟ A الذي يضبطنا في هذا الباب العمومات، منها قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ، إذا كان الطفل مؤذياً، يسرق، يعبث، ولا ينكف إلا بالضرب، شرع أن يضرب لتقليل المفاسد، فالله سبحانه وتعالى لا يحب الفساد، وإذا تركنا الأمر على ما يريد هذا الزوج، انطلق الأطفال للعبث والسرقة والضياع كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25] فالموعظة إذا لم تنفع استعمل الضرب أحياناً، فعموم الآيات ثم إطباق أهل العلم على ذلك إذا كان لمصلحة التأديب، فهذا مما يدفع قول هذا الزوج.

حكم سفر المرأة بدون محرم

حكم سفر المرأة بدون محرم Q هل يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم لطلب علم خاصة وأنها سوف تستغرق يوماً واحداً؟ A إذا دعت الضرورة إلى ذلك جاز، وفي الحقيقة أن هذه قضية خاصة ما أدري هل نفتي بها أو نمسك بها بعض الشيء؟! لأنها تعتبر كفتوى وتقدر بقدرها، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سفر المرأة بدون محرم، فهل ينظر إلى العلة من نهيه عليه الصلاة والسلام أو يوقف مع النظر ويغض الطرف عن النظر إلى العلة؟ فهذه مسالك للعلماء: فمن العلماء من ينظر ليس في هذه المسألة لخصوصها، بل ينظر في عموم الأحاديث إلى العلة من وراء هذا الحديث. وبعض العلماء يقف على متن الحديث، ويبني عليه الحكم دون نظر إلى ما وراءه من العلة، فمثلاً: الخلط والنبذ، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن نبذ الخليطين، يعني: أن تأتي بتمر وزبيب، وتنقع هذا مع هذا، هل أبني على هذا أنك إذا طرحت زبيباً وتمراً في ماء يحرم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخليطين أو أمعن النظر في سبب النهي وأدور مع العلة كما تدور؟! فمثلاً من العلماء من قال: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نبذ الخليطين لأنه -يعني: التمر والزبيب- إذا نقعا معاً يسرع إليهما التخمر، فقد تأتي تشرب الشيء المنبوذ وتظن أنه لا يسكر فتفاجأ أنه قد أسكر. ونظر فريق منهم إلى العلة وقال: إن الشراب حلال ما لم يصل إلى حد الإسكار، وأجرى هذا المجرى في حديث النهي عن الانتباذ في الظروف، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في الحنتم والمقير والمزفت والنقير؛ لأن هذه القدور تسرع بالنبيذ إلى الإسكار، ثم في آخر الأمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الظروف فانتبذوا ولا تشربوا مسكراً) ، فهل ينسحب هذا على الخليطين أيضاً، أي: اخلطوا ولا تشربوا مسكراً؟! الشاهد: أن من العلماء من يدور مع العلة من وراء هذه الأوامر، ومنهم من يقف عند الحديث. مسألة: سفر المرأة بدون محرم، إذا كانت هناك ضرورة يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم، إذ الضرورات تقدر بقدرها، والضرورة تجيز للشخص أن يأكل الميتة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] . ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة ليلة إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة بريد إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة دون قيد إلا ومعها محرم. فبالنسبة للناحية الأصولية: هل المطلق يحمل على المقيد؟ نقول: إن الروايات المطلقة كحديث ابن عباس نهى أن تسافر المرأة بدون محرم قيدتها الروايات الأخرى بالليلة أو الليلتين أو الثلاث أو البريد، ونقول: ما دون ذلك يجوز للمرأة أن تسافر أو أن الروايات المطلقة قضت على الروايات الأخر، وغطت عليها كما قال النووي وابن حزم، روايات ابن عباس هي القاضية على الروايات كلها التي فيها أن النبي نهى أن تسافر المرأة إلا ومعها محرم؟! فهذه جزئية ينبغي أن تحرر بشيء من الدقة، والقول فيها ليس واحداً، وإن كنا نجنح إلى قول النووي رحمه الله تعالى. جزئية أخرى: هل ينظر إلى مخرج حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في الوقت الذي قال فيه الرسول هذه المقولة أو لا ينظر؟ يعني: الرسول قال الحديث في وقت خطورة الأسفار، وفيها صحاري يعني: إذا سافرت من المدينة إلى خيبر -مثلاً- فهي مسافات شاسعة تمشيها المرأة منفردة، لا بد حتى لو مشت ساعة واحدة أو نصف ساعة أن يتسلط عليها شرير، فيعبث بها وينصرف ولا أحد يعلم، ولا رقيب إلا الله سبحانه وتعالى، فكون المرأة معرضة للفساد لا شك أنه متحقق في مثل ذلك الموطن، لكن لو أن شاباً أعزب في السعودية عقد على امرأة هنا في مصر، هو مصري يعمل في السعودية وعاقد على امرأة في مصر، وأراد أن يأتي بزوجته، فهو يقول في نفسه: وجودي بدون زوجة أخشى على نفسي الفتنة، خاصة إذا كان في بلد فيه نساء متبرجات، قال: أخشى على نفسي الفتنة، وزوجتي في بلدتي أخشى عليها أيضاً الفتنة، وهو يريد أن تأتي إليه زوجته. ويقول: أنا أرغب أن آتي بها، لكن أموالي لا تسمح لي أن آتي بها مع محرمها، فهذا يكلف مبلغاً ليس قليلاً، هل أصبر على ما أنه فيه من العنت، وهي تصبر، أو يجوز لأخيها مثلاً أن يوصلها إلى المطار وأنا أستقبلها في مطار السعودية، والرفقة الآمنة موجودة في الطائرة، والتواطؤ على الفاحشة صعب في مثل هذا الموقف، فهل تتنزل على مثل هذه الحالة أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي صدرت على قوم كانوا في البادية أو لا تتنزل؟ والكلام هذا لا نقوله في محاضرة عامة، بل نقوله في وسط إخواننا طلبة علم، فنقول: العلماء إذا سئلوا في فتاوى عامة بمثل هذه المسائل لا بد أن تصدر منهم فتوى تسد الذريعة، يعني: إذا قال العالم: جائز للمرأة أن تسافر في الطائرة بدون محرم، فقد تسافر بنت من القاهرة إلى باريس لوحدها، وتقول: لأن العالم الفلاني أفتى، فمثل هذه المسائل تكون جرعات من الدواء تقدم للمريض بقدر حاجته. فأظن -والله أعلم- أن الباب لا يقفل مرة واحدة أمام الاجتهاد وأمام مراعاة المصالح الأخرى، فإنه يخاف أن تقع البنت في الفاحشة مع جارها المؤذي، أو مع ساكن آخر في البيت، وهو أيضاً يخاف أن يقع في فاحشة مع امرأة متبرجة في البلدة التي هو فيها، فتصدر فتوى بقدر الحاجة إليها، لا أسد الباب قولاً واحداً وأقول: لا تذهب، ولا يفتح الباب فتصدر فتوى عامة لعموم الناس فيظنون أنه يجوز السفر بدون محرم.

تفسير سورة الليل والشرح

تفسير سورة الليل والشرح أقسم الله في سورة الليل على أن سعي الناس مختلف، وبين أن من أعطى ما أمره الله واتقاه فسييسر له فعل الطاعات، ومن بخل واستغنى عن مولاه فإن الله ييسر له فعل المعاصي، ويحرمه من فعل الخيرات، ثم ختم الله السورة بصفات المؤمن الأتقى المخلص في نفقاته ابتغاء وجه ربه، ووعده بالرضا، فحري بنا أن نتقي الله ليرضينا في الدنيا والأخرى. أما سورة الشرح فقد عدد الله فيها بعض نعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن أعظمها أنه وسع صدره لحمل أعباء الرسالة، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، فهو أعظم وأشرف وأفضل مخلوق، وذكر الله في هذه السورة بشارة كبيرة، وفتح باب أمل واسع لمن ضاقت أحواله، فإن بعد العسر يسراً.

تفسير قوله تعالى: (والليل إذا يغشى.

تفسير قوله تعالى: (والليل إذا يغشى.) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:1-4] . يقسم الله سبحانه وتعالى بالليل وبالنهار، ويقسم بالذي خلق الذكر والأنثى، وهو نفسه سبحانه وتعالى، يقسم بذلك على: ((إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)) . وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي: يغطي بظلامه، ومنه قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:54] أي: فاعتراها ما اعتراها، وأصابها ما أصابها، وحل بها ما حل بها، ونفس المعنى مضمن في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189] ، (تغشاها) أي: جامعها، فيقسم الله بالليل عند إقباله ومجيئه وتغطيته للأشياء، ويقسم بمقابل ذلك وهو النهار: {إِذَا تَجَلَّى} أي: أضاء وظهر وأنار، وهذا القسم كقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1-4] . {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي: والذي خلق الذكر والأنثى، يقسم الله سبحانه بهذه الأشياء على: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} .

قراءة ابن مسعود: ((والذكر والأنثى))

قراءة ابن مسعود: ((والذكر والأنثى)) ورد في صحيح البخاري ومسلم من طريق علقمة قال: أتيت الشام في نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -أي: مع مجموعة من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه-، فالتقينا بـ أبي الدرداء، فقال أبو الدرداء: هل منكم من سمع عبد الله يقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؟ قلنا: نعم، قد سمعناه يقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} . قال: أيكم أقرأ؟! يعني: من منكم الأحفظ؟ فأشاروا إليَّ أي: إلى علقمة، قال أبو الدرداء: فاقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، فقرأ فقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1-2] ((والذَّكَرَ وَالأُنْثَى)) ، ولم يذكر كلمة (وَمَا خَلَقَ) ، فقرأها علقمة: (والذَّكَرَ وَالأُنْثَى) ، فقال أبو الدرداء: هكذا سمعتها من عبد الله؟ قال: نعم، هكذا سمعتها من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: وأنا والله! لقد سمعتها من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا -أي: بدون ذكر كلمة: (وما خلق) -، ولكن هؤلاء يأبون عليَّ -أي: يمنعونني أن اقرأ بهذه القراءة-، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، والحديث في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم. إلا أن علماء القراءات يقولون: هذه من القراءات الشاذة، فالقراءة المتواترة هي: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) ، وهذا لا يثار في مجالس عموم الناس، إنما يثار في مجالس طلبة العلم، ولكن على كلٍ فقد قال أهل القراءات: إنها من القراءات الشاذة، أما أهل الحديث فيقولون: السند ثابت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وفي غيرهما. (وَمَا خَلَقَ) أي: والذي خلق الذكر والأنثى، (إِنَّ سَعْيَكُمْ) ، السعي المراد به: العمل، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] ، فالسعي المراد به هنا أيضاً: العمل، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ، أي: إن عملكم لمتنوع ومختلف، فمنكم من يعمل الصالحات، ومنكم من يعمل السيئات، منكم من يعمل عمل أهل السعادة، ومنكم من يعمل عمل أهل الشقاوة، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ، أي: إن عملكم لمختلف ومتنوع.

تفسير قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى.

تفسير قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى.) ثم قال الله سبحانه: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) ، أي: أعطى المال وأنفقه في سبيل الله، (وَاتَّقَى) ، أي: واجتنب محارم الله سبحانه وتعالى ولم يقع فيها، (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) ، والحسنى لأهل العلم في تفسيرها هنا ثلاثة أقوال: القول الأول: أن المراد بالحسنى: الجنة، والذين قالوا هذا القول استدلوا بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] . القول الثاني: أن المراد بالحسنى: قول: لا إله إلا الله، أي: من صدق بالتوحيد. القول الثالث: المراد بالحسنى: التصديق بوعد الله بأنه سيخلف على المنفق، كما قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان، يقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً) ، فللعلماء ثلاثة أقوال في تفسير الحسنى: أحدها: أن المراد بالحسنى: الجنة. والثاني: أن المراد بالحسنى: لا إله إلا الله. والثالث: أن المراد بالحسنى: وعد الله بالإخلاف على المنفق. (فَسَنُيَسِّرُهُ) ، أي: سنهيئه ونوفقه، (لِلْيُسْرَى) ، أي: لعمل الخير.

تفسير قوله تعالى: (وأما من بخل واستغنى.

تفسير قوله تعالى: (وأما من بخل واستغنى.) قال الله: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) ، بخل بالمال وامتنع عن إنفاقه في أوجه الخير، (وَاسْتَغْنَى) عن ربه سبحانه وتعالى!! (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) * (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) ، أي: سنوفقه ونهيئه لعمل الشر، قال علي رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة في بقيع الغرقد، فجلس وجلسنا حوله، وكان معه عود ينكت به، فقال عليه الصلاة والسلام: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو مقعده من النار، فقلنا: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) . وفي الصحيحين (أن شاباً أو شابين من الأنصار -كما في بعض الروايات- أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! أرأيت العمل الذي نعمل فيه، أهو عمل مستأنف أم عمل طويت عليه الصحف، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير؟ قال: بل تعملون عملاً طويت عليه الصحف وجفت به الأقلام وجرت به المقادير، فقالا: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) .

تيسير الله لمن سلك طريق الهداية

تيسير الله لمن سلك طريق الهداية وهذه الآيات تفيد أن الشخص إذا سلك طريق الهداية يزيده الله سبحانه وتعالى هدىً، وإذا سلك طريق الغواية فتحت له أبواب الغواية كذلك، ففيها أن الشخص إذا التمس أسباب الخير سهلها الله عليه، وإذا التمس أسباب الشر والفساد فتحت له هذه الأبواب -والعياذ بالله-، فالشخص يقدم شيئاً من الخير ثم ييسر الله سبحانه وتعالى له أموره إذا اقترب من الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) ، وفي هذا المعنى عدة آيات وعدة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها تؤكد أن الشخص إذا سلك طريقاً أُعين على هذا الطريق الذي سلكه، فمثلاً رب العزة يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، ويقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ، وتقدم قول الله في شأن موسى عليه الصلاة والسلام: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14] ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] ، وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ، وقوله تعالى: {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة:127] ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من يتصبر يصبره الله، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله) ، وكتوضيح يسير لذلك، مثلاً: أنت إذا قمت تصلي من الليل ركعتين لله، الفرش دافئ، والزوجة بجوارك حسناء، وسمعت الصارخ قبل الفجر بساعة أو أقل أو أكثر، وتريد أن تقوم إلى الصلاة، والقيام عليك في غاية المشقة، ولكنك استعنت بالله سبحانه وتعالى، وتقويت به سبحانه، وتجافيت عن الفراش، وقمت واستعنت بالله وصليت ركعتين، فتذوق طعم هذه الطاعة، وكلما تذكرتها في النهار حمدت الله، وصدرك منشرح لها، وإذا وقعت في كربة في النهار تذكرت أنك قمت من الليل وصليت ركعتين لله، فتتوسل بهاتين الركعتين إلى الله، تأتي الليلة الثانية فتتذكر حلاوة الطاعة فيكون القيام عليك أيسر من القيام في الليلة السابقة، وإذا استمر بك شهراً على هذا المنوال يصبح قيام الليل عندك في غاية اليسر، يصبح على قلبك يسيراً خفيفاً بإذن الله سبحانه وتعالى، ييسره الله عليك غاية التيسير، فتكون عادة لك إذا سمعت الصارخ قمت تلقائياً، كأنك تقوم لعملك، وأنت متلذذ بهذه الطاعة. جرب طاعة أخرى، صلِ الفجر في جماعة، ثم امكث في مكان صلاتك يوماً إلى طلوع الشمس، تذكر الله، وتأتي بأذكار الصباح، وتتلو ما تيسر لك من كتاب الله، في أول يوم العمل عليك شاق غاية المشقة، وفي اليوم التالي ييسر عليك العمل شيئاً ما، وبمرور الأيام -بتوفيق الله- يصبح عليك الجلوس في المصلى إلى طلوع الشمس في غاية السهولة واليسر، وإذا قلت لرجل آخر: تعال معي نجلس من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فكأنك تسجنه سجناً، بينما يكون العمل عليك في غاية اليسر، يأتيك ضيف مثلاً، فيبيت عندك، وأنت متعود أن تصلي الفجر وتمكث في المصلى إلى طلوع الشمس، فالضيف صلى معك الفجر، ثم قلت له: أنا أريد أجلس في المصلى إلى طلوع الشمس، يصاب بهم ما بعده هم، كأنك ضربته ضرباً مبرحاً؛ لأنه سيجلس إلى طلوع الشمس!! وأنت بسلوكك لهذا الطريق، واستمرارك عليه جعله الله يسيراً عليك بإذن الله، وهو لابتعاده عن هذا الطريق جعله الله شاقاً عليه في غاية المشقة، وهكذا كل الطاعات. صم يوم الإثنين والخميس، أول إثنين وأول خميس تصومهما في غاية المشقة، تقول: أجوع، أنا لا أصبر إذا تأخر الغداء نصف ساعة، وأعمل مشكلة مع الزوجة في البيت، فكيف أصوم الإثنين والخميس؟ لكن جرب واصبر أول أمرك، فيسهل عليك بعد ذلك هذا الصيام، ويكون لك دأباً، وتكون تلقائياً تصبح كل يوم إثنين وأنت صائم، وكل يوم خميس وأنت صائم، بدون أي مشقة، وبدون أي تعب، وبدون تكلف، وبدون إرهاق، فمن سلك طريق الطاعات يسرها الله له، وكذلك الإعطاء كما في هذه الآية: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) أعط الناس، قد يكون الإعطاء عليك في أول يوم شاق، تخرج جنيهاً من جيبك كأنك تقطع من جلدك شيئاً وأنت تتصدق به، تقول: أنا أولى، أشتري بالجنيه كيلو سكر أو أي شيء، فكأنك تقطعه من جلدك، لكن إذا استمريت على هذه الطاعات تشعر بعد ذلك بأنك تفعل الطاعات وأنت في غاية السعادة والانشراح، وتشعر أن الله يبارك لك في صحتك، وأن الله يدفع عنك بلايا كانت ستحل بك وبنيك، ترى أبناء إخوانك عند الأطباء وفي المستشفيات وأنت مبارك لك في مالك وفي ولدك، فتحمد الله وتشكر الله. فالشاهد: أن من سلك طريق الهداية فتح الله له أبوابها، ووفقه الله لها وسهلها عليه، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) * (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) * (فَسَنُيَسِّرُهُ) ، أي: سنهيئه ونوفقه لعمل الخير، ونهديه للطريق اليسرى السهلة السمحاء، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) * (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) * (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) ، وهذا الذي ييُسر للعسرى.

تفسير قوله تعالى: (وما يغني عنه ماله إذا تردى)

تفسير قوله تعالى: (وما يغني عنه ماله إذا تردى) قال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11] ، (تردى) أي: سقط، سقط في جهنم، هذا المال الذي جمعه ولم ينفقه في الطاعات لا يغني عنه كما قال هو بنفسه في الآية الأخرى فيما حكى الله عنه: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] ، وكما قال سبحانه في الآية الثالثة: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ} [الهمزة:2-3] ، أي: يظن، {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:2-6] ، فهو سينبذ في الحطمة، أي: في النار الموقدة، وماله سيقذف به أيضاً معه في الحطمة. فهنا يقول تعالى: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ) ، أي: الذي بخل به، (إِذَا تَرَدَّى) ، أي: إذا سقط في النار، فالمال ليس بنافع صاحبه يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله -يعني: إلى القبر- فيرجع اثنان، ويبقى واحد) ، يتبع الميت المال والأهل والعمل، فيدخل مع الميت في القبر العمل، ويرجع المال والأهل، يبقى واحد، ويرجع اثنان، العمل هو الذي يصاحب صاحبه إلى القبر، ويرجع المال ويرجع الأهل، فالمال لا ينفع صاحبه إلا مع إيمان، قال الله سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37] ، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ} [الأنعام:70] ، أي: بالقرآن، {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} [الأنعام:70] ، أي: تحبس نفس، {بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} [الأنعام:70] ، يعني: إن تقدم كل فدية، {لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام:70] .

تفسير قوله تعالى: (إن علينا للهدى)

تفسير قوله تعالى: (إن علينا للهدى) قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:12] ، أي: علينا أن نبين للناس طريق الهداية، وطريق الغواية كذلك يبينه الله للعباد، ولكن حذف لدلالة السياق عليه، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] ، أي: وتقيكم البرد، وفهم أنها تقينا البرد من كونها تقينا الحر، وكذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ، أي: ونساءً كثيراً كذلك، فقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) ، أي: وإن علينا أيضاً بيان طريق الضلالة كذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] ، وكما قال في الآية الثالثة: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، يعني: بينا له الطريقين. وقوله سبحانه: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: إن علينا أن نبين لخلقنا طريق الهداية وطريق الغواية، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] ، فهذا هو القول الأول. القول الثاني: إن هداية الناس مردها إلينا لا إلى غيرنا، فلا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100] ، وكما قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] ، وكما قال أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، وكما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] ، فهذا هو القول الثاني، (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) أي: إن أمر الهداية وكذلك أمر الغواية موكول إلينا نحن، ولا يستطيعه نبي ولا ملكٌ ولا بشرٌ ولا أي خلق، إنما مرده إلينا، والمراد بالهداية: هداية التوفيق، أما هداية الدلالة، فقال الله عنها: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] ، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فهذه هداية الدلالة، أما هداية التوفيق فمردها إلى الله وحده، لم يملكها نوح لولده، ولا إبراهيم لأبيه، ولا نوح ولا لوط لزوجتيهما، ولا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لعمه، ولا يملكها أحد، قال الله سبحانه: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ} [الليل:12-13] ، أي: للدار الآخرة، (وَالأُولَى) ، أي: الحياة الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (فأنذرتكم نارا تلظى)

تفسير قوله تعالى: (فأنذرتكم ناراً تلظى) قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل:14] ، أي: تتوهج وتتلهب وتشتعل وتتوقد، (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) ، أي: حذرتكم من هذه النار المتوهجة الملتهبة المتقدة. (لا يَصْلاهَا) ، أي: لا يدخلها فيصلى بحرها {إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:15] ، والأشقى هنا هو: الكافر والمشرك، فإن قيل: هل هذه النار لا يصلاها إلا الكافر؟ هل هناك مسلمون يدخلون هذه النار أو ليس هناك مسلمون يدخلون هذه النار؟ قد يقول قائل: إن قوله: (لا يَصْلاهَا) ، أي: لا يدخلها (إِلَّا الأَشْقَى) ، وهو -كما قلتم- الكافر أو المشرك، وكذلك في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] ، فهي معدة للكفار، فهل النار يدخلها أحد من المسلمين؟ A نعم، هناك مسلمون يدخلون النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ فذكر أن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) ، وهذا وهو مسلم! وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:130-131] ، وقال تعالى: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] ، فهناك مسلمون يدخلون النار، فكيف -إذاً- نوجه قوله تعالى: (لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى) ؟ للعلماء في هذا أجوبة: الوجه الأول من هذه الأجوبة: أن النار نيران، وليست ناراً واحدة، وهي دركات، فهناك نار معدة للكافرين، ونار أقل منها معدة للمسلمين العصاة الذين لم يتب الله عز وجل عليهم لجرائمهم، فهم يدخلون النار مدداً ثم يخرجون منها إلى الجنان على ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الوجه الأول. الوجه الثاني: أن المراد بقوله: (لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى) ، أي: (لا يصلاها) مخلداً فيها خالداً إلا الكافر، أما المؤمن فهو وإن دخلها فلا يخلد فيها، لقول الله كما في الحديث القدسي: (اخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه من الخير ما يزن ذرة ... ) الحديث. {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16] ، (تولى) معناها: أعرض.

تفسير قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى)

تفسير قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى) قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا} ، فسيبعد عنها {الأَتْقَى} [الليل:17] ، التقي، {الَّذِي يُؤْتِي} ، أي: يعطي، {مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] ، أي: يتطهر، فإن بقاء أموال الزكوات معه تلوثه، أموال الزكوات تلوث من لم يخرجها (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) ، أي: يتطهر بإيتاء المال، وأيضاً: يتطهر من الشرك ومن الكفر ومن المعاصي. {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19] ، أي: يعطي المال ولا ينتظر مقابلاً من أحد من الخلق، كما في الآية الأخرى، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] ، فأي عمل يُعمل لابد أن يبتغى به وجه الله وحده سبحانه وتعالى حتى يكمل الثواب، قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] ، فالشاهد في قوله: {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:39] ، وفي الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22] ، فالصبر أيضاً لا يثاب صاحبه إذا كان يصبر تجلداً أو يصبر خوفاً على صحته أو يصبر ليقال عنه: صابر، إنما يصبر ابتغاء وجه الله، {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22] ، وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] ، قد تذهب للإصلاح ليقال عنك: مصلح، فلا تثاب، تتكلم كلمة طيبة ليقال عنك: متكلم بكلمة طيبة، فلا تثاب، لكن: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] ، وهنا يقول سبحانه: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ) ، أي: عند هذا التقي المنفق (مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) ، ينتظر ثوابها، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] ، إنما ينتظر لقاء ربه وثواب ربه سبحانه وتعالى، {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] ، سوف يرضيه الله سبحانه وتعالى ويجازيه بنيته الحسنة الطيبة.

تفسير قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)

تفسير قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك) ندخل إلى سورة الانشراح، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] ، الهمزة للاستفهام المتضمن معنى النفي، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات، فعلى ذلك فالمعنى: قد شرحنا لك صدرك، كقوله تعالى حاكياً عن فرعون: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18] أي: قد ربيناك فينا وليداً، وكقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] المعنى: الله كافٍ عبده، وكقول الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راحِ أي: أنتم كذلك، فالشاهد: أن نفي النفي إثبات، فقوله سبحانه: (أَلَمْ نَشْرَحْ) ، معناه: قد شرحنا، (لَكَ صَدْرَكَ) ، وهو تعديد لنعم الله على عبده ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام وتذكير له بهذه النعم، ومعنى (نشرح) : نوسع ونفسح، (أَلَمْ نَشْرَحْ) ، أي: ألم نفسح لك في صدرك ونوسع لك فيه؟ ومن المعلوم أن شرح الصدر الذي امتن الله به على نبيه محمد إنما هو شرح الصدر للإسلام، فقد يكون شرح الصدر للكفر -والعياذ بالله- كما قال تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] ، أي: وسع صدره للكفر، وقال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، ولتقريب المعنى إلى الأذهان: أنت إذا كنت تحب شخصاً من الناس، فكل قول يقوله هذا الشخص قلبك يتسع له ويقبله، حتى الخطأ الذي يقوله تجد منك تأويلات لهذا الخطأ، أما إذا كنت تبغض شخصاً، فكل قول يصدر منه مكروه عندك، ولا يجد له أي مسلك يدخل به إلى قلبك، فالصدر ضيق مغلق تجاه أي قول يقوله، فشرح الله صدر نبينا للإسلام، وشرح الله صدور عباده المؤمنين للإسلام، فكل قول يقال لهم من ربهم، وكل أمر يؤمرون به، وكل نهي ينهون عنه؛ يجدون في صدورهم متسعاً له، ولو كانت آية ظاهرها التعارض مع آية أخرى تقبل قلوبهم أن نجمع بين الآيتين، أي تكليف يجد متسعاً ومسكناً يسكن في قلوبهم، فشرح الصدر -الذي هو التوسعة والفسح- نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، فإذا شرح الله صدرك للإسلام تجد أن كل التكاليف وكل التعاليم تدخل إلى قلبك وأنت مستريح في غاية الراحة، ومن ثم طلب موسى هذا الطلب من ربه سبحانه فقال أول ما قال لما كلفه الله الذهاب إلى فرعون: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25-28] ، فشرح الصدور نعمة من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالله شرح صدر نبيه صلى الله عليه وسلم، وشرح الصدر أيضاً المراد به: الشق، فقد شق صدر رسول الله حقيقة مرتين: مرة وهو عند ظئره أي: مرضعه التي كانت ترضعه، فخرج يلعب مع الصبيان، فجاء جبريل عليه السلام وأخذه من بين الصبيان، وشق صدره واستخرج حظ الشيطان من صدره، وغسل صدره وملأه إيماناً وحكمة، ثم لأمه -أي: ضم بعضه على بعض- فذهب الصبيان إلى ظئره وقالوا: إن محمداً قد قتل، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام، وأثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم. والشرح الثاني الذي تم لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، أُخذ النبي صلى الله عليه وسلم وشرح صدره، ثم غُسل قلبه، ثم استخرج حظ الشيطان، وملئ القلب إيماناً وحكمة، ثم لئم الصدر كذلك، فصدره عليه الصلاة والسلام شُرح بالمعنى الأول، وشُرح أيضاً بالمعنى الثاني. فيمتن الله على نبيه صلى الله عليه، فيقول له: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) .

تفسير قوله تعالى: (ووضعنا عنك وزرك)

تفسير قوله تعالى: (ووضعنا عنك وزرك) قال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] الوزر: هو الحمل والثقل، ومنه قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] ، الوزر يطلق على الذنب كهذه الآية، ويطلق على الحمل كما في قول الإسرائيليين لموسى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه:87] ، فالوزر أصله: الحمل، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ، فالله يقول لنبيه: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) ، أي: حِملك. قال تعالى: {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:3] ، (أنقض ظهرك) يعني: كأنه من ثقل الحمل على ظهرك سمع لفقار الظهر نقيض، إذا وضعت شيئاً ثقيلاً على السقف تسمع للسقف نقيض، أي: يبدأ السقف في التكسر، فكأن النبي كان يحمل أوزاراً ثقيلة، فكادت هذه الأوزار أن تكسر ظهره حتى سمع لفقار الظهر نقيض، وهذا من شدة الحمل الذي كان يحمله الرسول، فالله يمتن على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه وضع عنه هذا الحمل الثقيل الذي كاد أن يكسر ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وما هو هذا الحمل الذي كاد أن يكسر ظهر النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما الحمل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمله حتى أنقض للنبي صلى الله عليه وسلم ظهره؟ من العلماء من يقول: إن هذا الحِمل هو هم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان النبي يحمل هذا الحمل، ويهتم بهذا اهتماماً عظيماً صلى الله عليه وسلم، حتى كاد هذا الحمل أن يكسر له الظهر، ومنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذنوباً صغيرة، ولكنها عند الأنبياء كبيرة، فكان يخشى منها خشية بالغة، فغفرها الله له، كما قال في الآية الأخرى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] ، وكما قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:1-3] ، فأُمر أن يستغفر، فمن العلماء من قال: إن النبي فعل صغائر، ولكنها كانت عنده بمثابة الكبائر العظيمة، فأهل الصلاح إذا صدرت منهم أشياء يسيرة فهي عندهم كبيرة كما قال الخليل: (نفسي نفسي إني كذبت ثلاث كذبات) وهذه الكذبات لا تخفى عليكم، قوله عن زوجته: هذه أختي، ويقصد أخته في الله، وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] عندما دعوه للخروج معهم إلى عبادة الأصنام، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] ، على سبيل السخرية والاستهزاء بأهل الكفر، ومع ذلك عدها ذنوباً، ويعتذر عن الشفاعة بسببها فيقول: (إني كذبت ثلاث كذبات) وكما قال أنس رضي الله عنه، (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) أي: من المهلكات.

تفسير قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك)

تفسير قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] ، رفع الله للنبي ذكره بماذا؟ رفع له ذكره بهذا القرآن أولاً، فقد قال الله عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ} [الزخرف:44] ، أي: لشرف {لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] ، إن هذا القرآن -يا محمد- شرف لك؛ لأنه نزل عليك، وشرف لقومك كذلك؛ لأنه نزل على رجل منهم، ورفع له ذكره بأن قرن اسم النبي مع اسم الله في الشهادة، فمن يدخل الإسلام لابد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وفي الأذان كذلك خمس مرات يومياً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وفي كل صلاة يصليها العبد يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وذكر اسمه في الأولين وفي الآخرين، ففي يوم القيامة الشفاعة العظمى تحال إليه صلى الله عليه وسلم، ولا يفتح باب الجنة إلا لمحمد عليه الصلاة والسلام، ويقول الخازن: (بك أُمرت ألا أفتح لأحد قبلك) ، وفي الحج يذكر، وفي الصلوات يذكر، وفي كل موطن يذكر صلى الله عليه وسلم، فآتاه الله الوسيلة، وآتاه الله الفضيلة عليه الصلاة والسلام، وجُعل سيد ولد آدم، (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ، فرفع الذكر للشخص نعمة والله! خاصة الذكر الحسن، ومن ثم طلبه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] . قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5] ، فإن ابتليت بشيء -يا محمد- فاصبر فقد أذهب الله عنك هموماً كثيرة، وأعطاك من النعم ما لا يعلمه ولا يحصيه إلا هو، فإن أصابك عسر، أي: شدة وضيق وكرب، فاعلم أن مع هذا العسر يسراً، أي: فرج ومخرج وسعة وغنىً، ثم أكد هذا، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] ، وكما قال قائل السلف: لن يغلب عسر يسرين، فالله أكد أن مع العسر يسرى، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] فكل كرب يتبعه فرج، وكل شدة يتبعها رخاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، (وأن الفرج مع الكرب، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرى) وكما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214] ، الفقر والضر في الأبدان، {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] ، وفي الآية الأخرى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] ، فدائماً الأمور إذا ضاقت جاء معها الفرج بإذن الله.

تفسير قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب)

تفسير قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب) قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] ، فرغت من ماذا؟ من أهل العلم من قال: إذا فرغت من أمور الدنيا فأقبل على العبادة وعلى الطاعة، أي: أقبل على العبادة والطاعة وأنت فارغ البال، فإن العبادة تحتاج إلى هدوء بال، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ، هذا قول: إذا فرغت من أمور الدنيا فاجتهد في العبادة. والقول الثاني: إذا فرغت فانصب، أي: اجتهد واتعب في العبادة، إذا فرغت من الصلاة فاجتهد في الدعاء بعد الصلاة، وهذا قول قتادة، وروي بإسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما!

حكم الدعاء بعد السلام

حكم الدعاء بعد السلام وهنا يرد مبحث -وقد سيق من قبل-: ما هو حكم الدعاء بعد الصلاة؟ وهل هو مشروع أو غير مشروع؟ وفي الحقيقة أن هذا يجرنا إلى تنبيه لإخواننا طلاب العلم الذين يقرءون الكتب المعاصرة، الصحوة المعاصرة اتجهت في كثير من خطواتها إلى كتب أهل علم أفاضل، كـ الشوكاني والصنعاني وابن حزم رحمهم الله، وبعض كتب الأفاضل المتأخرين كالشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، ولكنهم تركوا التوغل والبحث في كتب الأوائل، كالإمام الشافعي وكالإمام مالك وكالإمام أحمد وغيرهم من الأئمة، فكان جديراً بهؤلاء الإخوة الذين اتجهوا إلى طلب العلم أن يتجهوا أيضاً إلى كتب الأوائل، ويظهروا استنباطات هؤلاء الأفاضل، ولا يبخسوهم حقوقهم، كما أنهم لا يبخسون الأواخر حقوقهم كذلك. فمثلاً: مسألتنا هذه: الدعاء بعد الصلاة، غالب المصادر التي يقرأ منها الإخوة الآن، وأقربها إلى أيديهم كتاب زاد المعاد لـ ابن القيم رحمه الله تعالى، وأنعم بـ ابن القيم، فهو من أهل العلم والفضل، وله من المنزلة والمكانة مالا يخفى عليكم، لكن ليس هو الفاضل وحده، فهناك فضلاء آخرون ينبغي أن تقرأ أقوالهم وأن تسمع أخبارهم، وأن ينظر في أدلتهم كذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] . وفي الحقيقة أن ذكرنا لمسألة الدعاء بعد الصلاة إنما هو فقط من باب عدم الإنكار والتشديد في الإنكار على من خالفك في الرأي إذا كانت عنده أدلة ثابتة يستدل بها، فمن الناس من يقول: إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع واستدل هذا القائل بأمور: أول الأمور التي استدل بها: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته لم يقعد في مصلاه إلا بقدر ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!) هذا هو الدليل الأول. الدليل الثاني -وهو من ناحية النظر- قالوا: كيف تترك الدعاء أثناء الصلاة، وأنت قريب من ربك، ومقبل على ربك، ثم تدعو الله بعد الانصراف من الصلاة؟! ومن أدلتهم -وقد بالغوا في ذلك- أنهم قالوا: إنه لم يثبت عن النبي أنه دعا بعد الصلاة، وهذا هو الدليل الثالث. ولما أوردت عليهم بعض الإيرادات، قالوا: إن دبر الشيء منه، فالأحاديث التي ورد فيها أن النبي كان يدعو دبر الصلاة، فدبر الصلاة قبل التسليم عندهم، هذا مجمل ما استدل به القائلون بمنع الدعاء بعد الصلاة. أما الذين قالوا باستحباب الدعاء بعد الصلاة، فلهم جملة أدلة، والصراحة أنها أصرح، ومن ناحية الصحة فهي صحيحة كذلك، فمن أدلتهم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم- قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال: اللهم! اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) فقالوا: هذا دليل على الدعاء بعد التسليم. والدليل الثاني: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: (كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه كي يلتفت إلينا إذا سلم، فسمعته يقول: رب! قني عذابك يوم تبعث عبادك) . والدليل الثالث: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنهما: (يا معاذ! والله! إني أحبك، لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: رب! أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) . والدليل الرابع: ما ورد عن سعد بن أبي وقاص في صحيح البخاري أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الصبيان، ألا وهي: اللهم إني أعوذ بك من البخل، -والاستعاذة دعاء- وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر. الدليل الخامس: حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الدعاء دبر الصلوات المكتوبات) لكن هذا الحديث الراجح فيه الإرسال، فهو من طريق عبد الرحمن بن ثابت عن أبي أمامة، وهو لم يسمع من أبي أمامة، هذا الحديث على وجه الخصوص لا يصح. الدليل السادس: (أن النبي كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً) ، والاستغفار معناه: رب! اغفر لي، رب! اغفر لي، فهو دعاء. الدليل السابع: أن الدعاء يشرع بعد الأعمال الصالحة، كحديث: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك) ، والرجل الذي أذنب ذنباً أُمر أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويصلي، وفي صلاة الاستسقاء أو صلاة الخسوف أو صلاة الكسوف تدعو الله وتستغفر الله وتتصدق، ومن الأدلة كذلك هذه الآية (إذا فرغت فانصب) على التفسير الذي سمعتموه. فهذه أدلة القائلين باستحباب الدعاء بعد الصلاة، وأجابوا على القائلين بأن دبر الشيء منه فقالوا: نعم قد يكون دبر الشيء منه، فدبر الدابة منها، وقد يكون دبر الشيء خارجاً عنه، والدليل على ذلك، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (معقبات لا يخيب قائلهن، ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تكبيرة، دبر كل صلاة) . ولا أعلم خلافاً أن التسبيحات والتحميدات والتكبيرات إنما تكون بعد الصلاة، فهذه أدلة القائلين بأنه يشرع الدعاء بعد الصلاة. وتوسط قوم فقالوا: يشرع الدعاء لكن بعد ذكر، ما يدعو مباشرة بالصلاة، ولكن بعد الصلاة يذكر الله ثم بعد الذكر يأتي بالدعاء، وهذا القول قول لا طائل تحته، وإن تقلده بعض الفضلاء، ومال إليه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، لكنه لا طائل تحته؛ لأن الرسول كان إذا انصرف من صلاته استغفر، ولم يرد أنه ذكر ثم استغفر، والاستغفار نوع دعاء. وهل هذا الدعاء جماعي؟ لم يرد أنه جماعي، بل يدعو كل شخص بما تيسر له.

مسألة رفع الأيدي في الدعاء

مسألة رفع الأيدي في الدعاء وهل ترفع الأيدي في الدعاء أو لا ترفع؟ الخطب في هذا يسير، والحقيقة أنه لم يرد نص أن النبي كان يرفع يديه بالدعاء دوماً بعد الصلوات، فهذا الذي يصار إليه، لكن إن رفع شخص أحياناً فلا بأس؛ لأن النبي ذكر في أبواب الدعاء: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء) فمن آداب الدعاء مد اليد إلى السماء، وصحح بعضهم حديث: (إن الله حيي ستير كريم يستحي أن يرفع العبد إليه يديه ثم يردهما خائبتين صفراً) وفيه رفع اليدين، فهذه أدلة القائلين باستحباب الدعاء دبر الصلوات، والله أعلم. قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] ، أي: فاجتهد في العبادة، {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8] ، أي: اجعل رغبتك فيه وحده سبحانه، كما كان الصحابة يقولون في حجهم: إليك الرغباء والعمل، ارغب فيما عنده، واجعل ملتجأك إليه سبحانه وتعالى دون من سواه. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التصوير الفوتوغرافي

حكم التصوير الفوتوغرافي Q يقول: لقد قرأت في كُتيب للشيخ عبد الله بن جبرين أن الصور الفوتوغرافية حرام، وصدقت ذلك وامتنعت عن الصور، ولكني رأيت صورة الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ حسن البناء والشيخ محمد الغزالي على الكتب الخاصة بكل واحد منهم، وقرأت أيضاً أن الصور حرام في روائع البيان ولكني حائر هل هي حرام أم حلال؟ A حق للسائل أن يتحير؛ لأنه لم يعرف المصدر الأصل الذي يتلقى منه دينه، فاعلم أن المصدر الأصل الذي تتلقى منه دينك كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فليست العبرة بقول الشيخ ابن جبرين، ولا بقول الشيخ الغزالي، ولا بقول الشيخ فلان ولا فلان، الحجة دائماً قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسأل عن دينك، اسأل كما كان الصحابة يسألون، ماذا في كتاب الله عن كذا؟ ماذا في سنة رسول الله عن كذا؟ أما تقول: صورة الشيخ الفلاني موجودة، وتحتج بالشيخ، لا، أبداً لا تسير الأمور هكذا، إنما اسأل عن الدليل الذي استدل به هؤلاء أو أولئك، ما هو الوارد عن رسول الله في الصور؟ اسأل عن هذا: هل ورد في كتاب الله شيء عن الصور؟ اسأل: هل نبيك كانت له صورة؟ وأين صورة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام؟ كان الممثلون والنحاتون موجودين على عهد الرسول، وكانوا يتخصصون في صناعة الأصنام التي هي أقوى من صناعة الصور، ولم ترد لنا صورة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم ترد لنا صورة لـ أبي بكر ولا لـ عمر ولا لـ عثمان ولا لـ علي، ولم ترد لنا صورة للإمام الشافعي ولا لـ مالك ولا لـ أبي حنيفة ولا لـ أحمد ولا لليث بن سعد ولا لـ عروة بن الزبير ولا لغيرهم. اسأل عن الأدلة من السنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لُعن المصورون) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدع صورة إلا طمستها) ، ومن العلماء من يستدل بحديث: (إلا رقماً في ثوب) إذ أن المعنى: نقشاً في الثوب، فيجوز تصوير الصورة في الثوب، وليس الصورة الفوتوغرافية، إنما يستدل به على الثياب التي فيها صور نقوش، كثور أو نخلة أو أي شيء مرسوم في الثوب، لقوله: (إلا رقماً في ثوب) ، وبعض من العلماء قال: المراد بالرقم في الثوب: ما لم يكن من ذوات الأرواح، وكان يجدر بالسائل أن يسأل أيضاً: ما هي أقوال الصحابة بعد قول رسول الله في هذا الباب؟ جاء رجل مصور إلى عبد الله بن عباس فقال: يا ابن عباس! إني رجل مصور، وليس عندي دخل إلا من هذه التصاوير، قال: تعال، ادنُ مني، ادنُ مني، فقربه ثم قال: إن كنت صانعاً فاصنع الشجر وما لا روح فيه، (فالذين يصنعون هذه الصورة يعذبون بها يوم القيامة) ، وفي الحديث الآخر يقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) ، (من صور صورة كُلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) . قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: والتفريق بين ماله ظل وما ليس له ظل مذهب باطل، واستدل له (بأن النبي لما رأى الستارة معلقة وعليها تصاوير؛ جاءت عائشة وشققتها أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، وجعلت منها وسادتين) ، فهذه هي الأدلة، فكون الشيخ فلان جاء في المجلة، أو الشيخ فلان رسم صورته على كتاب، فالعبرة بالدليل، وليست بقول فلان ولا فلان، أقرب ما يقال: يا شيخ! لماذا تصور نفسك؟ هل الرسول تصور؟! رسول الله أفضل منك، هل تريدنا أن نحبك أكثر من حبنا لرسول الله؟! لا، معاذ الله أبداً أن نحبك أكثر من حبنا لنبينا محمد، ولست كـ جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله الذي كان يقال عنه: يوسف هذه الأمة؛ لجمال صورته، ومع هذا ليست له صورة، أين صورة جرير بن عبد الله؟ ليست له صورة، أين صورة يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام؟ إن الرسول عندما دخل الكعبة وجد فيها صورة إبراهيم وإسماعيل، وهما يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله! -أي: المشركين- والله! ما استقسما بالأزلام قط) ، ثم طمس الرسول صورة إبراهيم وصورة إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فلو كان شيء من ذلك باقياً لبقيت صور رسل الله عليهم الصلاة والسلام، إنما كما قال الرسول لما ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة كنيسة رأتاها بأرض الحبشة، وفي هذه الكنيسة صور، فقال: (أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة، أولئك كانوا إذا مات فيهم العبد الصالح صوروا له تلك التصاوير، وبنوا على قبره مسجداً) ، والحديث في الصحيح، فوصف النبي الذي فعل هذه الفعلة بأنهم: (شرار الخلق) . فلا يغرنك الشيخ فلان ولا الشيخ فلان أبداً، وكيفما كان حبك للشيخ، دائماً اجعل سنة رسول الله فوق كل السنن، وهدي رسول الله فوق كل هدي، يكفينا أنه ليست بين أيدنا صورة لمحمد عليه الصلاة والسلام أبداً، فلا تفعل ذلك، وسل دائماً عن الدليل من الكتاب والسنة، ولا يرد أن الصور لم تكن موجودة، كانت التماثيل تصنع بعالي الدقة والبراعة، ومن ثم قال الرسول: (أشد الناس عذاباً المصورون الذين يضاهئون بخلق الله) فكان هناك قوم يصورون، لكن إذا دعتك الضرورة إلى صورة بطاقة أو صورة جواز ونحو ذلك فلا بأس بذلك. وأنا سائلكم بالله وأنصفوا من أنفسكم، الذي يصور صورته وينشرها في جريدة أو على كتاب، هل ترون -والله أعلم بالنيات، وليس لنا تدخل فيها، لكن قلوبكم لها فكر- أنه يتقرب بهذا النشر أمام الله أو أنه يريد لفت النظر إلى منظره؟ كلٌ يسأل نفسه عن ذلك، المتصور الذي ينشر صورته على كتاب، هل يريد بنشر الصورة وجه الله سبحانه؟ الله أعلم بالنيات، لكن لنا أيضاً فكر، الله يقول عن قوم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] ، فأنت افهم الأمور كيف تسير، وليس لنا تسلط على النيات، لكن تخيل أن صورتك نشرت، فالله الله! في سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تفسير سورة الضحى

تفسير سورة الضحى سورة الضحى من السور التي أنزلها الله سبحانه وتعالى تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتطييباً لخاطره بسبب انقطاع الوحي عنه وشماتة الكفار به، وقد ذكره الله فيها بنعمه عليه؛ فقد آواه بعد يتمه، وأغناه بعد فقره، وهداه بعد ضلاله، وأوصاه بمقابلة الناس بالحسنى، فلا يقهر اليتيم، ولا ينهر السائل، وأن يحدث بنعمة الله عليه.

تفسير قوله تعالى: (والضحى، والليل إذا سجى)

تفسير قوله تعالى: (والضحى، والليل إذا سجى) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1-5] .

المراد بالضحى

المراد بالضحى يقسم الله سبحانه وتعالى بالضحى، فالواو: واو القسم. من العلماء من قال: إن المراد بالضحى: النهار كله، والقرينة التي حملت قائل هذا القول على أن يقول به هو قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2] ، قال: فأقسم الله بالضحى الذي هو النهار، وبمقابله الليل، كما في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1-2] . ومن العلماء من قال: إن المراد بالضحى: صدر النهار، أي: أول النهار إلى وقت الزوال، والمراد بوقت الزوال: زوال الشمس عن منتصف السماء، ويكون ذلك قبيل صلاة الظهر بقريب من نصف ساعة. فالحاصل: أن لأهل العلم قولين في تحديد الضحى: أحدهما: أن المراد بالضحى النهار كله. والثاني: أن المراد بالضحى وقت الضحى المعروف، أي: وقت صلاة الضحى، الذي يبدأ بعد الشروق بقريب من عشر دقائق أو عشرين دقيقة، وينتهي إلى قبيل الزوال الذي هو قبل صلاة الظهر بما يقارب نصف ساعة. ويقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الآيات الكونية التي هي: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] على شيء ألا وهو: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] .

فضل صلاة الضحى

فضل صلاة الضحى قبل أن ندخل في تفسير قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] سنورد بعض الأحاديث التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل صلاة الضحى. أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة: فأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وبكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما ابن آدم من الضحى) . وأيضاً صح من حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة) ، فذكر نحواً من حديث أبي ذر وفيه زيادة: (النخاعة في المسجد تدفنها والشىء تنحيه عن الطريق) ، وفي بعض الطرق الأخرى: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما ابن آدم من الضحى) . فالشاهد: أن الإنسان عليه أن يؤدي شكر نعم الله عليه في مفاصله، ويكون ذلك بتأدية ثلاثمائة وستين صدقة إما بتسبيح أو حمد أو تكبير أو تهليل أو أمر أو نهي، ويجزئ عن ذلك كله أن يركع ركعتين من الضحى، ففي مسند الإمام أحمد من حديث نعيم بن عمار الغطفاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله سبحانه وتعالى: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات أول النهار؛ أكفك آخره) ، فمن العلماء من حمل هذه الركعات على أنها من الضحى، فتكون هذه الركعات كالحرز يحفظك الله بها إلى آخر النهار. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (أوصاني خليلي بثلاث: بأن أوتر قبل أن أنام، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وبركعتي الضحى) . فمن الفضل الوارد في صلاة الضحى: الأول: أن صلاة الضحى تجزئ وتكفي وتقوم مقام ثلاثمائة وستين صدقة. الثاني: أن أربع ركعات من الضحى حرز لك حتى آخر اليوم. الثالث: أنها إمضاء لوصية رسول الله التي أوصى بها أبا هريرة رضي الله تعالى عنه. وثمّ فضائل أخر في صلاة الضحى.

الرد على من أنكر صلاة الضحى

الرد على من أنكر صلاة الضحى من العلماء من أنكر صلاة الضحى، وقال: لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى، وأورد بعض الفقهاء هذا الرأي في كتبهم وسكت عنه، وكان من اللائق أن يسترسل في توجيهه إن استطاع أن يوجهه أو إبطاله إذا احتاج الأمر إلى إيقاف، أما توجيه هذا الكلام وتسنيده فيتلخص في أمور: أولها: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم منها سنن قولية أو فعلية أو تقريرية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها وحث عليها، سواء فعلها أو لم يفعلها، ما دام قد حث عليها، فثبتت بهذا الحث سنية ومشروعية صلاة الضحى. ثانيها: أنه قد ثبت عن رسول الله أنه صلى الضحى، فقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: كان يصلي أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله له أن يزيد) . وورد من حديث علي عند ابن خزيمة: (أن النبي كان يصلي الضحى) . وورد أيضاً أن عتبان بن مالك رضي الله عنه: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة في بيته، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم ضحى، فقال له: أين تريد أن أصلي في بيتك؟ فأشار إليه إلى المكان الذي يريد أن يصلي فيه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصحابة خلفه، وصلى بهم ركعتين، وكان ذلك ضحىً) ، أخرجه البخاري ومسلم. وثبت من حديث أم هانئ رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عام الفتح ثمان ركعات، وكان ذلك ضحىً) . ومن المقرر أن المثبت مقدم على النافي، فإذا جاء صحابي ونفى شيئاً، وأثبته صحابي آخر، فالمقرر في الأصول أن المثبت مقدم على النافي، فمثلاً قال بعض الصحابة: من حدثكم أن رسول الله بال قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا جالساً. فهذا الحديث، فيه نفي من بعض الصحابة، ولكن ثبت من حديث حذيفة في صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) ، وهذا حديث آخر مقابل ذلك الحديث. فالصحابي قد يفتي بما يعلم أو أن ينقل ما رآه، لكن لا يكون علمه قد أحاط بكل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) ، وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة ركعة) ، فالمثبت يقدم قوله على قول من نفى، إذ مع المثبت زيادة علم. فيقال لمن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الضحى: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى الضحى. فالوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم حث عليها، وحثه كفعله أو أقوى من فعله، إذ الفعل قد يتجه إليه القول بأنه مخصوص، أي: أنه خاص برسول الله، لكن الحث وأمر الغير أو أمر الآخرين أقوى من مجرد الفعل. والثاني: أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك. أما قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الضحى، فيوجه قوله على الوجوه التالية: الوجه الأول: أن هذا القائل قد ينقل بناءً على ما علمه، فلما لم ير النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى، ظن أنه ما صلاها قط، فنقل هذا النقل، وتتبعه غيره فأثبته. والوجه الثاني: أنه قد يقال: إن هذا الصحابي الذي نقل ذلك أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحافظ على صلاة الضحى وإن كان قد صلاها. ومن العلماء من يجيب على ذلك أيضاً فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتزئ كثيراً لصلاة الليل عن صلاة الضحى، والله أعلم.

عدد ركعات صلاة الضحى

عدد ركعات صلاة الضحى ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة أن يصلي ركعتين أو يركع ركعتين من الضحى، فصلاها ركعتين، أما أكثر ركعات صلاة الضحى فلم يرد نهي عن حد معين، أما السنة التي فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم أعني السنة الفعلية، فإنه قد صلى عام الفتح ثمان ركعات وكان ذلك ضحىً، ومن العلماء من يحمله على صلاة الفتح. وورد أنه كان إذا نام عن صلاته من الليل صلى من النهار ثنتا عشرة ركعة، لكن وإن كان قد فعل ذلك، لكنه ليس هناك حد لعدد الركعات لو تجاوز، بل الأمر مفتوح إلى قبيل الزوال.

قسم الله بالضحى والليل إذا سجى

قسم الله بالضحى والليل إذا سجى يقسم الله سبحانه وتعالى بالضحى وبالليل إذا سجى، فهي أشياء متقابلة، فمن العلماء من قال: إن القرآن الكريم أطلق على آياته مثاني: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] ؛ لأنه يذكر فيه الشيء ويذكر مقابله، فالله يقسم بالضحى بما حواه من نهار وضياء ورؤية ووضوح، وبمقابله: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2] ونحو ذلك: ذكر جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم يتبع بذكر جزاء الكافرين، وأيضاً: المتقابلات من أنواع العذاب والمتضادات كقوله: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ} [ص:57] وهو الذي بلغ أعلى درجات الحرارة، وقوله: (وَغَسَّاقٌ) وهو الذي نزل إلى أقل درجات البرودة، {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58] . فيقسم الله بـ {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] ، كما أقسم بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1-4] ، فيقسم بقدرته على تصريف الآيات للعباد، فهو القادر على ذلك، ولن يستطيع ذلك أحد من خلقه، فهو الذي يأتي بالليل ويتبعه بالنهار، وهو الذي يأتي بالضحى ويأتي بالليل، ويحرك الشمس والقمر، سبحانه وتعالى هو الذي يسير الأمور وهو يدبرها. ومعنى (سجى) : غطى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة موسى مع الخضر: (فرجع موسى فوجد رجلاً مسجى بثوب أخضر) ، أي: مغطى بثوب أخضر. فالليل إذا سجى، أي: أقبل وغطى على الأشياء بظلامه.

تفسير قوله تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى)

تفسير قوله تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى) قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] ، ما ودعك أي: ما تركك، من التوديع، فودعت فلاناً إذا تركته، ((وَمَا قَلَى)) [الضحى:3] أي: وما أبغض، فالمعنى: ما ودعك ربك وما قلاك، أي: ما تركك ربك ولا أبغضك منذ أحبك، وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى، بمعنى: مرض، فلم يقم ليلة أو ليلتين ليصلي الليل، فقالت امرأة: إني أرجو أن يكون صاحبك وشيطانك قد قلاك، يعني: أبغضك، وفي بعض التفاسير أن امرأة أبي لهب قالت: إني أرجو يا محمد أن يكون هذا العفريت أو الشيطان الذي يأتيك قد قلاك وابتعد عنك، فنزل قوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1-3] ، أي: ما تركك ربك ولا أبغضك منذ أحبك سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى)

تفسير قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى) قال تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4] ما المراد بالآخرة؟ من العلماء من يقول: المراد بالآخرة: الدار الآخرة، والأولى: الحياة الدنيا، وقلة قليلة تذكر أن المراد بالآخرة: مرحلة ما بعد قول هذه المرأة أو ما بعد شكوى الرسول صلى الله عليه وسلم، والأولى: حال النبي صلى الله عليه وسلم الأولى قبل نزول هذه السورة وقبل شكواه، أي: على هذا التأويل الثاني الذي تبناه قلة من المفسرين سيكون المعنى: حالك بعد انقطاع الوحي عنك سيكون أحسن من حالك قبل انقطاعه عنك، لكن التأويل الأول عليه الأكثرون.

تفسير قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)

تفسير قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] يخبر الله أنه سوف يعطي نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يرضى، وقد وفى الله لنبيه ذلك، فأعطاه الله سبحانه وتعالى من خيري الدنيا والآخرة ما رضي به النبي صلى الله عليه وسلم. أعطي عليه الصلاة والسلام من المال مفاتح خزائن الأرض، كما قال صلى الله عليه وسلم، وفتحت له دول بعد أن كان فقيراً عليه الصلاة والسلام. وأثني عليه ثناء حسناً، فدائماً اسمه يردد في كل آذان: "أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله" كما قال القائل: أغر عليه للنبوة خاتم إذا قال المؤذن عند الأذان أشهد أو كما قال الشاعر. ففي كل أذان يذكر اسمه مع اسم الله سبحانه وتعالى، وفي كل صلاة يذكر اسمه صلى الله عليه وسلم: "التحيات لله" إلى قوله: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". وفي الحج يذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الله يذكر اسمه، وله سورة باسمه صلى الله عليه وسلم، وفي الملأ الأعلى يذكر اسمه عليه الصلاة والسلام، ويصلي عليه المصلون: صلى الله على محمد، صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بتشريفه كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ} [الزخرف:44] أي: لشرف لك {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44] ، فهذا كله من العطاء الذي أعطاه الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أوتي من النعم ما لا يعلمه إلا الله.

تفسير قوله تعالى: (ألم يجدك يتيما فآوى)

تفسير قوله تعالى: (ألم يجدك يتيماً فآوى) قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6] يمتن الله بنعمه على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فيقول له: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ، أي: فآواك، وكان ذلك بضمه إلى عمه أبي طالب الذي كان يحوطه ويرعاه.

تفسير قوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى)

تفسير قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى) قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] ، وهل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ضالاً؟ فمن العلماء من قال: إنه قد ضل في شعب من شعاب مكة، وهو صغير، وكاد يهلك، فرده الله إلى أهله سالماً. ومن العلماء من قال: إنه كان ضالاً عن الحق، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] ، وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القرآن غافلاً، وقد جاء في مستدرك الحاكم بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق هو وزيد بن حارثة إلى زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن يبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان زيد بن عمرو بن نفيل موحداً من الموحدين، ومسلماً من المسلمين، اعتنق ملة الحنيف إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كما تقدم أن: زيد بن عمرو بن نفيل ذهب إلى اليهود وقال: يا معشر اليهود! أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال: أعوذ بالله من غضب الله، والله! لا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، إنما فررت من غضب الله، هل عندكم شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فانطلق إلى النصارى وقال: يا معشر النصارى! أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: لا والله! ما أحمل شيئاً أبداً من لعنة الله، هل عندكم شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فخرج يقول: أشهدكم إني على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وسلك سبيل المحسنين، فكان يمنع أن توأد البنات، وبه يفتخر الفرزدق ويقول: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد فالشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة انطلقا إلى زيد بن عمرو بن نفيل فقربا إليه لحم شاة، فقال لهما زيد: إني لا آكل من لحومكم التي تذبحونها على أنصابكم. فالشاهد أن من العلماء من يقول: كان ضالاً عن طريق الهداية وعن القرآن لهذه النصوص. {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] ، والضلال: الذهاب عن القصد، وقد تقدم القول فيه: ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا

تفسير قوله تعالى: (ووجدك عائلا فأغنى)

تفسير قوله تعالى: (ووجدك عائلاً فأغنى) قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] والعائل هنا بمعنى: الفقير، فمنه قول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل أي: متى يفقر؟! ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28] أي: فقراً، ومن العلماء من قال: عائلاً، أي: يعول غيره، لكن الأكثرين على أن عائلاً بمعنى: فقيراً. وقوله: {فَأَغْنَى} [الضحى:8] ، متى أغناه وهذه السورة مكية؟! من العلماء من قال: أغناه بالفتوح التي فتحت عليه، وبالجزية التي جلبت إليه عليه الصلاة والسلام، والغنائم التي حملت له، إلا أن هذا القول معترض عليه بأن السورة مكية، والفتوحات إنما كانت بعد أن هاجر إلى المدينة، فكيف وجده عائلاً فأغنى؟ من العلماء من أجاب عن ذلك فقال: الآية باعتبار ما سيئول إليه الأمر، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] ثم قال: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] ، وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] أي: باعتبار ما ستئول إليه هذه الأموال. ومن العلماء من قال: إنه أغناه أيضاً في نفسه، وكان النبي عليه الصلاة والسلام فقيراً لا يجد ما يتزود به ولا ما يعمل فيه من الأموال، فتزوج بـ خديجة، وكانت ذات مال وثراء، فأغناه الله سبحانه وتعالى بمال زوجته خديجة. ولا مانع أبداً أن تتزوج بامرأة ثيب إذا كنت فقيراً لا تستطيع الزواج، ولا ترهق نفسك ولا تتعب نفسك في أن تجمع الأموال من هنا ومن هنا، وأمامك نساء ثيبات يحتجن الزواج وهن صالحات، إما امرأة مات زوجها أو امرأة طلقت لفساد زوجها، أو امرأة مات زوجها بحادث، وعندها شقتها وعندها مالها، لا تكلفك شيئاً بل تحتاج إلى رجل تستظل به، فلتعف نفسك بها وتعفها هي الأخرى، وأنت مثاب، وإذا وسع الله عليك وأردت أن تتزوج بعد ذلك فالشرع يبيح لك ذلك. فالشاهد: أن القيود التي وضعها مجتمعنا في أمور الزواج ينبغي أن تكسر؛ لأن الفساد قد استشرى في زماننا، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) . فقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] توجيهه أن الله أغناه بتزويجه بـ خديجة رضي الله عنها.

تفسير قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر)

تفسير قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر) قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] أي: كما كنت يتيماً فآواك الله، كذلك فلتقابل هذه النعمة بإحسان، والإحسان يجازى بالإحسان، كما أن الله آواك وكنت يتيماً، فكذلك أنت بالنسبة لليتيم لا تقهر اليتيم، وكما أن الله أغناك فقد كنت فقيراً، فالسائل أيضاً لا تنهره، فيؤخذ من هذا منهج الدعوة إلى الله ألا وهو: هل يذكر الشخص بما كان فيه من حال قبل أن يصل إلى منصب أو يصل إلى حالة من الثراء حتى يفعل الخير أو أن هذا التذكير غير مرغوب فيه؟ Q لو ذهبت أدعو رجلاً، هل أذكره بما كان فيه قبل أن يصل إلى هذه الحال، ومن ثم أطلب منه طلبي أو لا؟ لكل وجهة، لكن أحياناً يستحب تذكير الشخص بالحال التي كان فيها قبل أن يصل إلى هذا الحال التي هو عليها، والدليل على ذلك هذه الآيات: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6-8] فكذلك {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] فأنت كنت يتيماً، والسائل أيضاً لا تنهره فأنت كنت أيضاً فقيراً، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، على ما سيأتي تأويله. ويستدل لهذا المبدأ أيضاً بحديث الثلاثة: الأبرص والأقرع والأعمى، فالأبرص والأقرع والأعمى لما جاءهم الملك يسألهم: ماذا تريدون؟ كل طلب مطلباً، فقال أحدهم: أريد غنماً تملأ هذا الوادي، وأريد شعراً حسناً؛ فقد تقذرني الناس، فأعطاه الله الشعر الحسن، وأعطاه من المال ما شاء، والآخر أزال الله عنه البرص الذي كان يتأذى به أمام الناس، وأعطاه الله من البقر، والثالث أعطاه الله ما شاء من الإبل وأزال عنه العمى، الحديث إلى آخره. الشاهد: أن الملك لما جاء يسألهم مرة أخرى، قال لهم طالباً: لا بلاغ لي إلا بالله ثم بك، شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: إن الحقوق كثيرة، وجلس يتعلل بعلل، فحينئذ ذكره بالحال التي كان فيها: كأني بك كنت فقيراً فأغناك الله، وكنت أبرصاً فشفاك الله، كأني أنظر إليك، قال: لقد ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فما نفعته الذكرى، فقال: إن كنت كما تقول؛ فردك الله إلى ما كنت فيه، الحديث. فهل يستحب تذكير الشخص بالذي كان فيه أو يكره؟ هذه المسألة ليس فيها نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر صريح بفعل معين، إنما هي مجرد تصرفات صدرت، فإن رأيت أن تذكير الشخص بما كان فيه من فقر أو غنى أو مرض ينتفع به الشخص، فذكره حينئذ وتوكل على الله؛ لأن التذكير يهيج فيه شكر نعم الله، فيحمله هذا الشكر على فعل الإحسان، وإن كنت ترى أن الشخص الذي أمامك إذا ذُكر بالحالة التي كان فيها فسينفعل وسيغضب وسيثور؛ فحينئذ يترك التذكير، كقولك للشخص: اتق الله، فكلمة (اتق الله) كلمة طيبة، فيها غاية الحسن، لكن أحياناً لا تقال، فمثلاً: الله قال لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] ، وتداول الصحابة فيما بينهم كلمة: (اتق الله) ، لكن أحياناً يكون لها موطن تكره فيه، لا تكره لأنها كلمة: (اتق الله) ، لكن كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يقسم القسمة بين أصحابه وجاءه رجل فقال: يا محمد! اتق الله واعدل في القسمة. صحيح كلمة (اتق الله) قوية، لكن ليس هذا هو موطن قولها، فإنك تضمنها اتهاماً للشخص، فقال الرسول: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟!) . فالكلمة الطيبة إن ضمنت معنىً يحمل اتهاماً فحينئذ تذم، لكن لا تذم لأنها هي الكلمة ولكن لما تضمنته الكلمة من معاني أخر، فمثلاً: شخص يسألك عن شخص آخر، فقلت له: الله يهديه، "الله يهديه" كلمة طيبة جداً، وفي غاية الحسن، لكن (الله يهديه) توحي بها إلى أنه ضال وزائغ، وتسأل الله له الهداية، فحينئذ تكون نوعاً من أنواع الاغتياب واللمز، والله أعلم. فالشاهد: هل يشرع تذكير الشخص بالحال التي كان فيها قبل أن أطلب منه ما أطلب؟ هذا أمر مرده إلى حال الذي أمامي، إن رأيت أن الشخص ينتفع بهذه الموعظة قدمتها، وإن رأيت أنه سينفعل إذا ذكر بالذي كان فيه من حال! تركت هذا التذكير؛ لأنه سيكون من باب الإيذاء، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن سب الأموات؛ حتى لا يتأتى الأذى إلى الأحياء من ناحية، وأيضاً فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا من عمل.

منزلة اليتيم في الشريعة الإسلامية

منزلة اليتيم في الشريعة الإسلامية قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] من محاسن هذا الدين أن جاءت نصوص الكتاب العزيز ونصوص سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ اليتيم، حفظه في ماله وفي عرضه وفي دمه، وفي كل شيء. ففي باب الأموال: قال الله سبحانه محذراً أشد التحذير: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] ، ذلك أن اليتيم ليس له من يدافع عن حقه غير الله سبحانه وتعالى، وقال تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2] ، ومهور النساء قد يتساهل فيها، لكن مهر الطفلة اليتيمة خاصة لا يتساهل فيه، ولا يجوز لك أن تأتي إلى طفلة يتيمة وتقول: أنا أزوجها من الأخ فلان بالقرآن، لا يجوز لك هذا أبداً، وإن ظننت أنك على سنة، بل أنت آكل لأموال اليتيمة بالباطل ومضيع لحقها، فالله يقول في شأن اليتيمة خاصة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] أي: في صداق اليتامى: البنات الصغيرات، فلا تتزوجوهن، التقدير: فلا تتزوجوهن، أي: فالنساء سواهن كثير، فلا تقدموا على الزواج بهن إلا إذا أقسطتم لهن، ولا تقدموا على الزواج باليتيمات إلا إذا عدلتم معهن في الصداق، {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] ، فالتقدير: فالنساء سواهن كثير، {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] . فجاءت الآيات بحفظ مال اليتيم، وكان بعض السلف إذا سئل عن شيء من أمر اليتيم؛ يرد ذلك إلى النيات لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] . وهل يجوز ضرب اليتيم لتأديبه؟ يعني: إذا كان يتيماً مشاغباً، أو يسرق، أو يسب ويستعمل ألفاظاً قبيحة، يجوز ضربه لمصلحته: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] .

تفسير قوله تعالى: (وأما السائل فلا تنهر)

تفسير قوله تعالى: (وأما السائل فلا تنهر) قال تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] السائل هنا عام، فيدخل في ذلك السائل عن العلم، فلا ينبغي لشيخ ولا لعالم ولا لأحد إخواننا الخطباء أو الدعاة أن يزجر سائله. وأيضاً يجدر بإخواننا الدعاة أن يرفعوا الأجهزة التي وضعت في بيوتهم للرد على التلفونات، ويردوا هم مباشرة على أسئلة السائلين، وكذلك الأطباء الذين يغيرون الأرقام يومياً فراراً من المسلمين الذين يحتاجون إلى نصائحهم، جدير بكل هؤلاء أن يفتحوا صدورهم للمسلمين، جدير بهم أن يفتحوا أبوابهم ولا يكونوا كالسلاطين، سلاطين الظلم الذين يجعلون لأنفسهم بوابين وحجبة يحجبون الناس عن الدخول إليهم. فلا يجدر بالعلماء أن يضعوا مسجلات على التلفونات، وكذلك الأطباء لا يجدر بهم أن يغيروا أرقام التلفونات يوماً بعد يوم، هذا يفر من سؤال السائل، وهذا يفر من استشارة المريض، وكل من كان في هذا المقام ينبغي له أن يفتح صدره وقلبه للمسلمين وإلا فالله قادر على أن يزيل ما به من نعمة، يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء:86] . وكذلك السائل المحتاج الذي يسأل الناس أموالاً لاحتياجه وفقره، أو السائل الذي ضل الطريق، أو السائل عن أي شيء، عن صحته أو أي شيء ينتفع به في دينه ودنياه ما لم يكن سائلاً تجاوز الحد الشرعي الذي شرع له في السؤال.

تفسير قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)

تفسير قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث) قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، ما المراد بالتحديث بنعمة الله؟ من العلماء من قال: إن المراد بالتحديث بنعمة الله: العمل بمقتضى نعمة الله عليك. فمثلاً، التحديث بنعمة المال: أن تنفقه في أوجه الخير، التحديث بنعمة الصحة: أن تستعملها في الخير، التحديث بنعمة المنصب: أن تساعد به أهل الاحتياج، التحديث بنعمة الزكاة: أن تفهم الأغنياء وترشدهم. فكل نعمة لها شكر. ومنهم من قال: اذكر نعمة الله عليك في نفسك، ولا تنساها، فإنك إذا ذكرت نعمة الله عليك في نفسك حملك هذا الذكر على فعل الخير. ومن العلماء من قال: أظهرها للناس وحدث الناس بما أنعم الله عليك، ولكن لهذه الفقرة الأخيرة ضابطاً فقهياً. فإذا كنت لا تخشى من الناس الحسد والمكر بك، حينئذ يستحب لك التحديث، تقول: إن الله أكرمني بكذا، أكرمني ربي بكذا، أكرمني ربي بكذا. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ، حتى في حياتنا الدنيا، فأنت مثلاً إذا جئت وأهديت لأخيك أو لجارك الفقير ثوباً، كم تسعد إذا رأيت هذا الفقير الذي كان يلبس ثوباً مقطعاً خرج وهو منشرح الصدر ويلبس الثوب الجديد ويمشي به في الناس، فصدرك ينشرح وتسعد غاية السعادة. إذا ذهبت إلى بيت فقير، ووجدته يتأوه ويتقلب على الفراش من البرد، وأهديته بطانية، وذهبت ورأيته يتقلب في البطانية ويحمد الله ويثني عليه، ويشكرك على صنيعك؛ لا شك أنك تفرح، وقلبك وصدرك ينشرحان لهذا الفعل الذي رأيته. فحدث بنعمة الله عليك ولير عليك أثر نعمة الله سبحانه وتعالى، ودع عنك أهل الجهل من أهل التصوف المقيت الذين يفترون أحاديث مكذوبة وموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحمل على لبس المرقع، ويروون أشياء لا أصل لها، منها أن ثوب عمر كان فيه ثلاث عشرة رقعة، إلى غير ذلك من التخاريف التي يروونها عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام قد خرج يوماً في حلة حمراء لم يُر على أحد مثلها. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] هذا تفسيره، لكن إن خشيت من حسد الحاسدين، فحينئذ استر عن هذا الحاسد النعمة، كما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] ، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم في منامه ما يحب، فليحدث به من يحب) ، فقط تحدث الذي تحبه فقط، أما الذي تخشى من حسده فاكتم عنه هذه الرؤيا. أما حديث: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) ، فقد أطبق العلماء الأوائل: كـ أحمد بن حنبل، ويحيى ين معين وابن المديني وغيرهم على تضعيفه وتوهينه، وبالغ بعضهم فحكم عليه بالوضع، لكن معناه يدخل في القضية فقهياً. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.

تفسير سورة التين

تفسير سورة التين كثيرة هي السور التي أقسم الله فيها بأشياء متعددة، وهو سبحانه غني عن القسم، ولكنه أقسم بهذه الأمور ليدل على عظم المقسوم به، وأهمية المقسوم عليه، ومن هذه السور سورة التين، وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة ما جبل عليه الإنسان من الكفران، ثم استشنى الله من عصم قلبه بالإيمان.

تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون وطور سينين)

تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون وطور سينين) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:1-6] . الواو في قوله تعالى: (وَالتِّينِ) واو قسم، فأقسم الله سبحانه وتعالى بأربعة أشياء: بالتين، وبالزيتون، وبطور سينين، وبالبلد الأمين، أما المراد بالتين: فلأهل العلم فيه أقوال، أشهرها: أنه التين الذين يأكله الناس، وكذلك الزيتون فهو الزيتون الذي يعصر، ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالتين والزيتون: منابت التين ومنابت الزيتون، أي: الأماكن التي ينبت فيها التين، والأماكن التي ينبت فيها الزيتون. وهذا القول له قوة. واستظهر بعض العلماء قولاً فقالوا: إن الله أقسم بثلاثة مواطن: بمنابت التين والزيتون وهي: الشام، وبطور سينين وهو: طور سيناء، وبالبلد الأمين وهو: مكة. قالوا: فأقسم الله سبحانه وتعالى بهذه المواطن الثلاثة التي نزلت فيها أشهر كتبه على أفضل خلقه عليهم الصلاة والسلام، فالتين والزيتون المراد بهما: منابت التين ومنابت الزيتون، وهي بلاد الشام التي كان فيها عيسى صلى الله عليه وسلم، وطور سينين وهو طور سيناء الذي كلم الله عنده موسى صلى الله عليه وسلم، والبلد الأمين وهو مكة التي بعث فيها رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام. فهذه وجهة القائلين بأن المراد بالتين والزيتون منابت التين ومنابت الزيتون. وعلى ذلك فالقسم بثلاثة مواطن، وهي: الشام حيث ينبت التين والزيتون، وطور سينين، والبلد الأمين. قال تعالى: (وَطُورِ سِينِين) أما الطور: فهو كل جبل ينبت يطلق عليه طور، فهناك جبال إذا نزل عليها المطر أنبتت، وجبال إذا نزل عليها المطر لا تنبت، فكل جبلٍ ينبت يطلق عليه فهو طور. أما قوله: (سِينِينَ) فلأهل العلم فيه قولان: أحدهما: أن المراد بسينين: سيناء. ومن العلماء من قال: إن المراد بسينين أي: مبارك حسن، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لجارية كان يقال لها أم خالد حينما أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أقاربها وعليها ثوب حسن، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا أم خالد؟! هذا سناه، هذا سناه) ، أي: هذا حسن بلسان الحبشة، فقال هذا القائل: إن المراد بسينين: مبارك حسن، والمعنى: وطور مبارك حسن.

حرمة البلد الأمين

حرمة البلد الأمين قال تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} أما الأمين: فهو الآمن، آمن أولاً بحرمة الله له، فالله سبحانه قد حرمه، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] ، فكان الرجل يلتقي بقاتل أبيه وبقاتل أخيه ولا يعترضه بسوء، ولا يمسه بمكروه ما دام داخل الحرم، أي: داخل مكة وما حولها من الحرم، فمنى من الحرم، وكذلك جزء من مزدلفة. ومن صور الأمن التي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) فذكر الحديث، وفيه: (فلا تلتقط لقطتها إلا لمنشد، ولا يعضد شوكها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يسفك فيها دم) إلخ، فلها حرمة، فأقسم الله سبحانه وتعالى بهذه البلدة. وعلى ماذا يقسم الله بهذه الأشياء؟

خلق الله للإنسان وما يؤول إليه هذا الخلق

خلق الله للإنسان وما يؤول إليه هذا الخلق يقول سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي: في أحسن صورة، وأكمل خلق، وأحسن استقامة واعتدال، وأحسن قوام، وأجمل منظر، فليس هو كالدواب التي تمشي على بطنها، ولا كالأنعام التي تمشي على أربع، إنما خلق الإنسان في أحسن تقويم، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ما المراد بأسفل سافلين؟ لأهل العلم أيضاً فيها قولان مشهوران: القول الأول: أن المراد بـ ((أَسْفَلَ سَافِلِينَ)) أي: قلبناه على وجهه في النار في أقبح صورة، فعلى ذلك يكون المراد بالإنسان هنا: الإنسان الكافر، فالمعنى: لقد خلقنا هذا الإنسان الكافر في أحسن تقويم، ثم بعد ذلك لما لم يؤمن ولم يشكر؛ قلبناه على وجهه في النار في أقبح صورة. فهذا قول لكنه ليس بالقول الأشهر، وليس عليه الأكثر. والأكثرون على أن المراد بـ (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أرذل العمر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:70] ، وكما قال سبحانه: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68] ، فمعنى قوله: (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي: إلى أرذل العمر، وهنا يقول الشاعر: يود الفتى طول السلامة والغنى فكيف ترى طول السلامة يفعل يكاد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا رام القيام ويحمل فبعد أن يكون في أحسن تقويم يبدأ بالتمايل وانحناء الظهر، فالمراد بالإنسان على هذا التأويل: عموم الإنسان (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ) أي: كل الإنسان، (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي: في أعدل خلق، وأحسن قوام، ثم بعد ذلك (رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي إلى أرذل العمر، فبدأ هذا القوام الجميل المستقيم في الانحناء والرجوع. لكن يرد على هذا الوجه من التأويل إشكال وهو: أن الله قال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ؛ فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات استثناء، ومن المعلوم أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الآخرون ينكسوا في الخلق، وينحنوا كما ينحني غيرهم، ويكبروا كما يكبر غيرهم، فكيف توجه هذه الآية: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ؟ أجاب الذين اختاروا هذا التأويل على هذا الإشكال بقولهم: إن قوله تعالى: (إِلَّا) بمعنى لكن، فالمعنى: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون، واحتاجوا مع هذا إلى أن يقدروا محذوفاًَ في الآية الكريمة، فقالوا: إن في الآية محذوفاً يفهم من السياق، فالمعنى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، أي: في أحسن صورة، وأعدل قوام، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي: إلى أرذل العمر، حيث الكبر والتخريف، فلما يكبر ويخرف ينقطع عمله ولا يقبل، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تنقطع أجورهم، فهم وإن ردّوا إلى أرذل العمر، وانقطعت أعمالهم، ولم يستطيعوا القيام بما كانوا يقومون به من أعمال صالحة؛ مع ذلك كله لا تنقطع أجورهم فهم: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ، أي: غير مقطوع، ولا منقوص. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في صحيحه: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) ، فقال هؤلاء العلماء: إن قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) معناه: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات انتظروا وضعفت صحتهم، وخارت قوتهم، وانحنت ظهورهم، ولا تنقطع أجورهم؛ بل تثبت لهم الأجور وإن ضعفوا عن العمل الذي كانوا يقومون به، وذلك على خلاف الكافر.

تفسير قوله تعالى: (فما يكذبك بعد بالدين)

تفسير قوله تعالى: (فما يكذبك بعد بالدين) قال تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7] ، أي: فما يكذبك بعد هذا الذي ذكرناه لك ما يكذبك بعد هذا البيان الذي بيناه بالجزاء والحساب، أي: من هو هذا الإنسان الذي يكذبك بعد أن بيّنا هذا البيان بالجزاء وبالحساب؟ فإننا قد خلقناك أيها الإنسان في أحسن صورة وأعدل قوام، كما قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] ، بعد هذا كله، وبعد هذا التسلسل في الخلق؛ فنحن قادرون على إعادة الخلق ما دمنا قد بيّنا لك أن الإنسان هذه حاله، فلابد وأن نعيده مرةً ثانية، وقد استدل على البعث بجملة أمور، منها: تطور الإنسان في الخلق، ومنها: خروج النبات من الأرض، واشتداد عوده، ثم تمايله وسقوطه بعد ذلك، فكل هذه أدلة يثبت بها البعث، أو يستدل بها على البعث. وثم قولٌ آخر في تفسير قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) ، أي: ما هو الحامل لك أيها الإنسان على التكذيب بالدين وقد بيّنا لك حالك وما ستصير إليه؟ ما هو الحامل لك بعد هذا البيان على التكذيب بالدين؟ أي: بالجزاء والحساب. فقوله سبحانه: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ) فيه قولان: أحدهما: أن الخطاب لرسول الله أي: فمن يكذبك بعد هذا البيان الذي بيّناه لك يا محمد؟! ومن يستطيع أن يكذبك في أن هناك بعثاً وجزاءً؟! والثاني: أن الخطاب للإنسان أي: فما الحامل لك أيها الإنسان على التكذيب بالدين؟ وما هو الذي يحملك على أن تكذب بالجزاء والحساب؟

تفسير قوله تعالى: (أليس الله بأحكم الحاكمين)

تفسير قوله تعالى: (أليس الله بأحكم الحاكمين) قال الله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] ، الهمزة هنا للاستفهام المتضمن معنى النفي، ونفي النفي إثبات، فالمعنى: أن الله أحكم الحاكمين، كما فصلنا ذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فالهمزة في (أَلَمْ نَشْرَحْ) همزة الاستفهام، وهي تحمل معنى النفي، ودخلت على نفي آخر وهو: (لم) فنفي النفي إثبات، فالمعنى: قد شرحنا لك صدرك، ومنه: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18] ، أي: قد ربيناك فينا وليداً، ومنه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] ومنه: (ألستم خير من ركب المطايا) ، فهنا قال: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فالمعنى: أن الله هو أحكم الحاكمين، أي: أعدل الحاكمين حكماً وقضاءً، وأتقن الحاكمين صنعاً سبحانه وتعالى. وقد ورد بأسانيد فيها ضعف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين) ، لكن لم يثبت في هذا الباب خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما ورد فيه أحاديث ففيها مقال.

تفسير سورة العلق

تفسير سورة العلق سورة العلق أول سور القرآن نزولاً على معلم الخير للبشرية عليه الصلاة والسلام، وفيها امتنان الله تعالى على الإنسان بأن علمه ما لم يكن يعلم، ولكن هذا العبد الضعيف يقابل هذه النعم بالطغيان والبعد عن سبيل الله تعالى ومحاربة أولياء الله، والله تعالى يراه ويطلع عليه ويمهله عله أن يرجع، فإن لم يرجع فلا يلومن إلا نفسه مما سيلقاه من زبانية جهنم.

سبب نزول الآيات الأول من سورة العلق

سبب نزول الآيات الأول من سورة العلق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد على آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن أول شيء نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، فهذه الآيات هي أول آيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أهل العلم من قال: إن أول الآيات نزولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1-2] . ولكن التحقيق يقتضي أن آيات العلق الأول هي أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوجيه القول الثاني بأن يقال: إن الآيات الأول من العلق نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سكن الوحي مدة طويلة، ثم نزل بعد سكون الوحي سورة المدثر، فظن الراوي أن المدثر هي أول ما نزل على رسول الله، ولكن يحمل قوله على أن أول ما نزل بعد فترة سكون الوحي هو سورة المدثر. وسبب نزول هذه الآيات الخمس الأول من سورة العلق: ما ذكرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) ، وعائشة لم ترَ هذا؛ بل كان هذا الحدث قبل ميلاد عائشة بخمس سنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين، ومكث معها تسع سنين، فكان المجموع من ميلاد عائشة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سنة. أما هذه الآيات فقد نزلت قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاث وعشرين سنة، أي: أنها نزلت قبل ميلاد عائشة بخمس سنين، فكيف إذاً نوجه هذا؟ نقول: عائشة رضي الله عنها روت شيئاً لم تره، وهذا يسميه العلماء: مرسل الصحابي، فهو إما أن يكون الصحابي قد أخذه من رسول الله، بأن تكون عائشة أُخبرت من رسول الله بهذا، أو أن صحابياً آخر هو الذي أخبر عائشة، والصحابة كلهم عدول. ومن هذا الباب رواية أبي هريرة لجملة أحاديث حدثت لرسول الله عليه الصلاة والسلام بمكة، ورواية ابن عباس لجملة أحاديث حدثت لرسول الله بالمدينة، وابن عباس لم يهاجر؛ بل كان من المستضعفين هو وأمه بمكة. فالشاهد: أن كل هذه تسمى: مراسيل صحابة، والصحابة كلهم عدول، ومراسيلهم في حكم المتصل. قالت عائشة رضي الله عنها: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) ، أي: تتحقق الرؤيا كما أن الصبح يتحقق، وهذه من علامات الصلاح في الغالب، فإن صدق الرؤيا من صدق الحديث، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) ، ولا يمتنع أن يكون هناك كافر تتحقق رؤياه أيضاً كما تحققت رؤيا الملك {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف:43] لكن من العلماء من يحملها على أن الملك وإن كان كافراً لكنه كان صادق اللهجة، وهناك ملوك كفار لكنهم في لهجتهم أهل صدق. قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد) ، الذي جاء في الحديث: يتحنث، والذي يقرأ الحديث يظن أن تفسير التحنث بالتعبد أنه من كلام عائشة، ولكنه ليس من كلامها؛ بل هو من كلام الزهري، وهذا يسميه علماء الحديث: المدرج، وهو: أن تنقل كلاماً عن شخص ثم تفسر إحدى الكلمات التي تكلمها الشخص، ولا تبين أن هذا التفسير من تفسيرك، فيظن القارئ أنه من كلام ذلك الشخص. مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد وبر أمي لأحببت أن أكون مملوكاً) فقوله: (والذي نفسي بيده لولا الجهاد وبر أمي) ليس من كلام رسول الله قطعاً؛ لأن أم الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قد ماتت، وإنما هو من كلام أبي هريرة. فالإدراج: أن تدخل لفظة في الحديث تظنها من قول الذي نُقل عنه الكلام، وهي ليست من قوله. قالت: (ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخرج إلى حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني -أي: ضمني ضماً شديداً- وقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني الثالثة، قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] )) إلى آخر الحديث، وفي الحديث: (فرجع الرسول إلى خديجة وهو يقول: زملوني زملوني، من شدة البرد، ثم أخذته خديجة إلى ورقة بن نوفل، فقالت: اسمع يا ابن عم من ابن أخيك، فسمع ورقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخبر، فقال: هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم، ليتني أكون فيها حياً إذ يخرجك قومك، ليتني فيها جذعاً، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي) . فالشاهد: أن هذا سبب نزول هذه الآيات الخمس.

تفسير قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك.

تفسير قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك.) قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] أي: اقرأ مفتتحاً القراءة باسم ربك الذي خلق، على قول بعض العلماء، وعلى ذلك هل تشرع البسملة عند ابتداء القراءة أم لا تشرع؟ هذه الآية مستأنس لمن قال: تشرع البسملة عند الابتداء، ولقائل أن يقول أيضاً ويعزز هذا القول بقوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ذكر الخير الذي أعطاه له ربه سبحانه فخرج مسروراً، فقرأ على أصحابه قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ) فذكر (بسم الله الرحمن الرحيم) بين يدي سورة الكوثر كما في صحيح مسلم. ثم تتفرع تفريعات، منها: هل البسملة آية أم ليست بآية؟ وقد تقدمت المباحث في ذلك. قال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2] (العلق) : جمع علقة، وهي قطعة الدم المتماسك، وأطلق عليها علقة كما قال فريق من المفسرين: لأنها تعلق بأي شيء تمر به، فهي قطعة دم إذا رميت مثلاً على التراب فإنها تلتقط التراب، وتلصق بالشيء الذي تمر به، وتعلق بها الأشياء. والعلقة هي الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين نطلقة، ثم يكون علقة مثل ذلك. ... ) الحديث. وقوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2] المراد بالإنسان هنا: بنو آدم، ولا يدخل فيهم آدم عليه السلام، فأحياناً يأتي ذكر الإنسان بمعنى عام، وأحياناً يأتي بمعنى خاص، فقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ، فالإنسان هنا آدم وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2] فالإنسان: بنو آدم، فأحياناً يأتي عاماً وأحياناً يأتي خاصاً. قال الله سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3] (الأكرم) : الذي يفعل الشيء ولا ينتظر المقابل، كذا فسره بعض العلماء، يفعل المعروف ولا ينتظر جزاءً من أحد. قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:4] فهو امتنان من الله سبحانه وتعالى على خلقه إذ علمهم بالقلم، فالعلم بالقلم نعمة من الله سبحانه وتعالى على عباده، وهذا الامتنان ذُكر في سورة أخرى، قال سبحانه: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4] ، فالبيان بيانان: بيان بالقلم، وبيان باللسان، فالأشياء التي تبين بها ما في نفسك وما في صدرك إما القلم وإما اللسان، ويلتحق بذلك الإشارات. فالتعليم بالقلم نعمة من الله سبحانه وتعالى على خلقه، وقد أفردت سورة باسم (القلم) ألا وهي سورة القلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صححه بعض العلماء بمجموع الطرق: (أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) الحديث، فهذا وجه من الوجوه. فإن قال قائل: لماذا لم ينعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بالتعليم بالقلم؟ ف A أن الله أنعم عليه بما هو أعظم وأعز من القلم: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:17-19] ، ثم هناك حكمة أخرى ذكرها الله في كتابه في عدم التعليم لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] أي: لشك المبطلون، فمن تمام الإعجاز للنبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل أمي ومع ذلك يحفظ القرآن كاملاً ويتلوه، ويخبر بما فيه من قصص الأولين وأنباء ما هو آت إلى غير ذلك مما هو في الكتاب العزيز. فعلى ذلك: التعليم بالقلم منة من الله على خلقه، أما الوارد من الأحاديث في النهي عن تعلم النساء الكتابة فهي ضعيفة جداً، بل بعضها موضوع. أما قول الشاعر: ما للنساء وللخطابة والكتابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة فهذا من الأشياء التالفة التي لا يحتج بها ولا كرامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة كانت ترقي: (ارقيها وعلميها حفصة كما علمتيها الكتابة) ، وهناك عمومات يستدل بها في الباب، مثل قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فهي نصوص عامة يستأنس بها في مشروعية العلم وأفضليته، والله أعلم. قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5] الإنسان كما قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] ، فكل الناس خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، فالعلم بالتعلم، فلا تستحقر نفسك؛ بل أقبل على التعلم والله يوردك علم ما لم تعلم.

تفسير قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى)

تفسير قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى) قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] (كلا) تحمل معنى الردع والزجر، فهي نفي لشيء تقدم، ومع أنها نفي فإنها تحمل معنى الردع والزجر، ومن العلماء من قال: إنها نفي لشيء مستتر مضمر في الآيات، فمعناها: كلا ليس، الأمر كما تزعمون من أنه لا بعث؛ بل هناك بعث. وقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] (يطغى) أي: يتجاوز الحد في الظلم والعدوان، والطغيان: هو تجاوز الحد في الظلم، ومن تفسير الطغيان بالازدياد قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] أي: ازداد الماء وعلا وارتفع. قال تعالى: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] (رآه) ترجع إلى نفسه، أي: أن الإنسان إذا رأى نفسه مستغنياً عن الخلق بدأ في التكبر عليهم والطغيان، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} [فصلت:51] ، ويؤيده أيضاً قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27] ، فهذا دأب الإنسان، يبدأ في الطغيان إذا رأى نفسه مستغنياً عن الناس. ولكن يا أيها الإنسان الطاغي: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8] يا من تستكبر وتتعالى لكونك رأيت نفسك مستغنياً عن الخلق اعلم {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أي: المرجع والمآب يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (أرأيت الذي ينهى)

تفسير قوله تعالى: (أرأيت الذي ينهى) ثم قال الله سبحانه وتعالى مبيناً حال رجل كافر {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] أي: ما رأيت خيبة مثل خيبة هذا الخائب، أو جرماً مثل جريمة هذا المجرم، والعبد هو أبو جهل، والعبد المنهي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هي تعم كل ناه وكل منهي، ومناسبة ذلك: أن أبا جهل قال: (لئن رأيت محمداً يعفر رأسه بين أظهرنا لأطأن عنقه) أي: سأدوس على رقبته إذا رأيته يصلي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو دنا لخطفته الملائكة) ، فالله يقول: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} وهي تنطبق على كل أب ينهى ولده عن الصلاة، وعلى كل أم تنهى ابنتها عن الصلاة وعن الاستقامة. قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} [العلق:11] أي: هذا العبد المنهي هو على الهدى {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} [العلق:12] أي: هو عبد مهتدٍ مصلٍ مستقيم يأمر بالتقوى، ومع هذه الحالة الطيبة والخصال الطيبة يأتيه شخص ويقول له: لا تصل، لا تأمر بالهدى، لا تأمر بالتقوى، ابتعد عن طريق الهدى، أمرك غريب، فالاستفهام يحمل معنى التعجب والتوبيخ لهذا الناهي، تعجب منه وتوبيخ له، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} واحد يطبق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فتقول له: لا تطبقها، {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ} أي: هذا المنهي {عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} >ثم يتحول السياق إلى هذا الناهي، وهذا يسميه العلماء في البلاغة: الالتفات، حيث يكون الخطاب موجهاً تجاهك ثم يحول في اتجاه آخر، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ} [يونس:22] الخطاب للحاضر {فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22] فتحول الخطاب من الحاضر إلى الغائب (وجرين بهم) ، ولم يقل: (بكم) ، وكما في قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ} [الإنسان:21] الضمير للغائب {رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21] ، ثم تحول الخطاب: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:22] ولم يقل: (كان لهم جزاءً) فتحول الخطاب، فهذا يسميه العلماء: الالتفات. قال الله: {أَلَمْ يَعْلَمْ} [العلق:14] أي: هذا الناهي {بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] .

تفسير قوله تعالى: (كلا لئن لم ينته.

تفسير قوله تعالى: (كلا لئن لم ينته.) {كَلَّا} [العلق:15] ليس هذا الناهي على هدى ولا خير {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} [العلق:15] عن تماديه وظلمه للعباد وعن نهيه للعباد عن الصلاة: {لَنَسْفَعًا} [العلق:15] السفع: هو الجلد بشدة، وهو اللطم والتسويد كذلك، فالسفعة تطلق على اللطمة، وتطلق على التسويد، ومنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في وجه جارية لـ أم سلمة سفعة، أي: تغيراً وسواداً، فقوله: (لنسفعاً) معناها: لنلطمن أو لنسودن أو لنجلدن بشدة {بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15] وهي شعر مقدم الرأس، أي: لنجلدنه من ناصيته بشدة. قال الله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16] يقول أهل التفسير: أطلقت الناصية وأريد بها صاحب الناصية، وإذا طرح Q لماذا وصفت الناصية بأنها كاذبة خاطئة؟ فالإجابة: أن العلماء من أهل التفسير قالوا: أريد صاحب الناصية أنه كاذب وخاطئ، أما إخواننا من أهل الطب فقد اكتشفوا أن الناصية فيها مركز للإحساس غير المخ إضافة إلى المخ، وثبتت أيضاً من الناحية التشريحية أن فيها مراكز إحساس ومراكز تحكم كالتي في المخ، فلا يمتنع أن يكون التشديد -على حد قوله- صدر من هذه الناصية فعلاً، هكذا ذكر، والله أعلم. واستشهد لذلك من أحد الجالسين بأن الشخص إذا كان يفكر بأمر فإنه يضع يديه على مقدمة رأسه، والله أعلم. قال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} [العلق:17] لما هدد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أبا جهل وقال له: (لو دنا لاختطفته الملائكة) ، فقال أبو جهل: (تهددني وتتوعدني يا محمد وأنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً) ، وأهل النادي هم الذين يجالسونه في مجلسه، فقال: سأدعو العشيرة والأنصار، فقال الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17-18] وهم ملائكة العذاب، فالله قادر على أن ينتقم، ولكنها من باب الأسباب والمسببات. قال الله: {كَلَّا} [العلق:19] ليس الأمر كما يظن أنه فائت {لا تُطِعْهُ} [العلق:19] فيما يأمرك به، ففي الآية نهي عن طاعة الكافرين، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] ، فالشاهد: أن هذه الآية أيضاً أصل في أن كل من دعا إلى مخالفة الشرع لا يطاع ولو كان الأب، فإذا قالت الأم لابنها: لا تصل، لا تهتدِ، لا تأمر بالتقوى، وإذا قال الأب ذلك لولده فالله يقول: {لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] أي: اقترب من ربك، فإذا أمرك الأب بشيء يبعدك عن طريق الله ويوقعك في المعاصي فلا يطاع، فالله يقول: {كَلَّا لا تُطِعْهُ} [العلق:19] ، وفي هذا المعنى قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، فكل من يدعو إلى خلاف هدي الله وهدي رسوله لا يطاع، قريباً كان أو بعيداً. وفي قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] قولان للعلماء: أحدهما: (اسجد) معناها: صل، فأحياناً يعبر عن الصلاة ببعض أجزائها، كما قال تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] ، {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] فـ (اسجد) عند بعض العلماء معناه: صل واقترب من ربك، فإن الصلاة وأنت فيها أقرب من ربك من كونك خارج الصلاة. والقول الثاني: (واسجد واقترب) المراد بها: السجود على الحقيقة، فإنك إذا سجدت كنت أقرب إلى الله، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

تفسير سورة القدر

تفسير سورة القدر الله سبحانه يخلق ما يشاء ويختار، وقد اختار بعض الأزمنة وفضلها على غيرها لحكمة بالغة، ومن ذلك ليلة القدر، فقد جعلها الله خيراً من ألف شهر، وهي ليلة ذات قدر كبير، فيها تقدر أعمال السنة، وفيها نزل القرآن، وفيها تتنزل الملائكة والروح بكل أمر حكيم، وهي ليلة سالمة من كل شر، فالموفق من وفقه الله فيها، والمحروم من حُرمها.

تفضيل الله لبعض المخلوقات على بعض

تفضيل الله لبعض المخلوقات على بعض باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:1-2] . أسلفنا مراراً أن الله سبحانه وتعالى فضل بعض الأيام على بعض، وبعض الليالي على بعض، وبعض الشهور على بعض، وبعض السنين على بعض، وبعض القرون على بعض، وبعض الأمم على بعض، كما أنه سبحانه وتعالى فضل بعض النبيين على بعض، وبعض الملائكة على بعض. فقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى بالتفضيل في عموم مخلوقاته سبحانه وتعالى، فليلة القدر خير من ألف شهر، ويوم عرفة خير يوم في السنة، وشهر رمضان أفضل الشهور، وقرن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل القرون، جرت سنة الله بهذا التفضيل، وهناك مكان أفضل من مكان، فمكة ليست كالمنصورة، والمسجد الحرام ليس كمسجد التوحيد في المنصورة، فالأماكن تختلف بعضها عن بعض في الفضل، وكذلك الأشخاص {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، وكذلك الأماكن، فالمساجد ليست كالأسواق، مع أن كلها أرض الله سبحانه وتعالى، وفضل الله سبحانه وتعالى ليلة القدر على غيرها من الليالي فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أنزلنا ماذا؟ لا شك أن المراد به القرآن، (إنا أنزلناه) أي: أنزلنا القرآن. وفي قوله: (إنا أنزلناه) دليل على مسألة العلو، ألا وهي أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه في السماء، وعلى هذا أدلة كثيرة قال فريق من أهل العلم: إنها تصل إلى ألف دليل من الأدلة العقلية ومن الأدلة النقلية من الكتاب ومن السنة، فمثلاً: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) ، دليل على العلو، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] دليل على العلو وهكذا.

فضل ليلة القدر

فضل ليلة القدر قال تعالى: ((فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)) ، ما معنى القدر؟ من العلماء من قال: إن القدر معناه: الحكم والتقدير، أي: أن الأمور تقدر فيها، والأحكام تصدر فيها، وشاهد هذا القول: قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3-4] ، وقالوا: إن أعمال السنة وأقدار السنة تكتب في هذه الليلة وتحكم في هذه الليلة. ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالقدر: الشرف والمنزلة، كما تقول: فلانٌ من الناس ذو قدر، أي: ذو مكانة وذو وجاهة وذو منزلة. وثم معنىً ثالث لكنه منبوذ، ألا وهو أن المراد بالقدر: الضيق، ومنه قوله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ} [الفجر:15-16] ، أي: فضيق، ونحو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء:30] ، أي: يضيق، فقالوا: سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرة نزولهم في هذه الليلة، وعلى هذا ففي المراد بالقدر ثلاثة أقوال: القول الأول: أن القدر هو: الحكم والتقدير، أي: تقدير الأمور وإنزال الأحكام. القول الثاني: أن القدر هو المنزلة والشرف، كما يقال: فلانٌ ذو قدر. القول الثالث: أن القدر هو: الضيق، فتضيق الأماكن بالملائكة عند نزولهم من السماء إلى الأرض.

الجمع بين نزول القرآن في ليلة القدر وبين نزوله في ثلاث وعشرين سنة

الجمع بين نزول القرآن في ليلة القدر وبين نزوله في ثلاث وعشرين سنة {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وهنا يرد شبه إشكال وقد يشكل على البعض ألا وهو: أن الكفار طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم القرآن جملةً واحدة، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] ، أي: كذلك أنزلناه على مدى ثلاث وعشرين سنة (لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً) ، وهنا قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، فكيف يوفق بينه وبين نزول القرآن منجماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة؟ وقد قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] : إن المراد بمواقع النجوم: أوقات نزول الآيات على رسول الله، وهذا رأي ابن عباس في هذه الآية الكريمة {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قال: أزمنة نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يوفق بين قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وفي معناها قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3] ، وفي معناها أيضاً قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، فكل هذه الآيات على وتيرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين نزول القرآن مفرقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة؟ لأهل العلم إجابتان: إحداهما: ما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح أنه قال: (إن القرآن نزل من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى سماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر، ثم نزل من السماء الدنيا على نبي الله صلى الله عليه وسلم بحسب الوقائع والأحداث في ثلاث وعشرين سنة) ، فهذا أول وجهٍ للجمع. والوجه الثاني: أن القرآن ابتدئ نزوله في ليلة القدر، فقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) ، أي: إنا أنزلنا أوله في ليلة القدر، كما تقول: وصل الحجيج، مع أن هناك حجيجاً وصلوا الآن وحجيجاً سيصلون بعد شهرين، فقوله: وصل الحجيج في يوم كذا وكذا، أي: بدأ وصولهم يوم كذا وكذا. وجمع بعض العلماء بجمع آخر فقالوا: نزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ونزل أوله أيضاً على رسول الله في ليلة القدر، وبهذا جمعوا بين الوجهين السابقين، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ، استفهام القصد منه تعظيم شأن هذه الليلة، كما قال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-3] .

وقت ليلة القدر

وقت ليلة القدر أيضاً يطرح سؤال آخر وهو: متى ليلة القدر؟ للعلماء فيها أقوال متعددة متكاثرة، وصلت إلى ثمانية وأربعين قولاً، لكن قد تتكاثر الأقوال في باب من الأبواب، وإذا جئت تبحث عن الأقوال المدعمة بالدليل، والمستندة إلى دليل، فتجد أنها لا تصل إلا إلى خمسة أقوال، ثم إذا جئت تصفي هذه الأقوال تجد الأقوال المستندة إلى دليل صحيح تصل إلى ثلاثة أقوال، فلا تخيفنا كثرة الأقوال في مسألة من المسائل، بل بكل يسر نقول: كل قول لا يستند إلى دليل فيطرح، سواء كان الدليل صريحاً غير صحيح، أو صحيحاً غير صريح، ونبدأ في تصفية الأقوال التي لا تستند إلى دليل. قال جمهور العلماء: إن هذه الليلة في رمضان؛ لقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، ولقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، فبالجمع بين الآيتين يفهم أن ليلة القدر في رمضان، فخرج بهذا القول كل قول قيل فيه: إنها في أي وقت من أوقات السنة؛ لأن بعضهم قال: إنها في أي شهر من الشهور وفي أي ليلة من الليالي، فخرج كل قول يخرجها عن شهر رمضان، ثم هي في العشر الأواخر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان) ، فخرجت أيضاً الأقوال التي فيها أنها في العشرين الأول، ثم هي في الوتر من العشر الأواخر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في عشر يبقين، في سبع يبقين، في خمس يبقين، في ثلاث يبقين) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (التمسوها في كل وتر من العشر الأواخر) . وبعد ذلك قال فريق من العلماء: إنها في ليلة السابع العشرين، وهذا رأي الجمهور، قالوا: لأن أبي بن كعب روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، كما في صحيح مسلم، ومن حجة أبي أن الشمس خرجت صبيحتها بيضاء نقية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل هذا يكون في كل عام في ليلة السابع والعشرين، أم أنه في العام الذي رآها فيه أبي بن كعب رضي الله عنه؟ نحن ما كذبنا أبياً، ولكن نقول: هل هي ثابتة في كل عام في ليلة السابع والعشرين أم أنها متنقلة في الليالي التي هي وتر؟ ومما لا يخفى أن شؤم الخلاف بين المسلمين كان سبباً في رفع العلم بليلة القدر؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليخبر أصحابه بليلة القدر، فتلاحى رجلان فلانٌ وفلان، أي: اختلفا وتجادلا وتخاصما، فرفع العلم بها، فخرج النبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت) . فالخلاف دائماً سبب في رفع الخير، وقد تقدم أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بين أن الخلاف سبب للشر، فقال: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: (هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) ، فقال عمر: حسبنا كتاب الله، وكان النبي في مرض الموت، فظن أنه يقول هذا الكلام من شدة المرض فقال: حسبنا كتاب الله، وقال العباس: بل قربوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فاختلف الناس، فلما اختلفوا طردهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (قوموا عني، فوالله للذي أنا فيه خيرٌ مما أنتم فيه) ، قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية -أي المصيبة كل المصيبة- ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لأصحابه ذلك الكتاب. فالخلاف دائماً سبب في الشر، والأدلة على ذلك لا تكاد تحصى؛ كقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] ، {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] ، والآيات متعددة في هذا الباب.

فضل ليلة القدر

فضل ليلة القدر قال الله سبحانه وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] . لماذا قال: (ليلة القدر خير من ألف شهر) ؟ قال بعض أهل العلم: إنها خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقيل: السبب في ذلك أن أهل الكتابين اليهود والنصارى كانوا لا يطلقون على الشخص أنه عابد إلا إذا عبد ربه ألف شهر، فجاءت منقبة وفضيلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه المنقبة والفضيلة أن الله جعل لهم ليلة القدر؛ من قامها كان كمن قام ألف شهرٍ من أهل الكتابين ومن الأمم السابقة. وفي هذه الآية دليل -كما أسلفنا- على فضل بعض الليالي على بعض، وفيها أن العمل اليسير الذي يوافق السنة خيرٌ من العمل الكثير الذي ليس على هدى ولا على بصيرة، والفقيه في الدين قد يعمل عملاً قليلاً ويؤجر عليه كثيراً، وهذا مصداق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ، فيعلم أين الغنيمة، وكما يقول الناس: فلان يعلم من أين تؤكل الكتف، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً من عند جويرية بنت الحارث زوجته وهي تذكر الله بعد صلاة الصبح، وذهب إلى حيث أراد الله له، ثم رجع وهي ما زالت تذكر الله، فقال: (ما زلت على الحالة التي فارقتك عليها؟ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتهن لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة) أي: لها أجران. فالذي يقوم ليلة القدر خيرٌ ممن يقوم شهراً كاملاً، والذي يداوم مثلاً على قيام العشر الأواخر خيرٌ من الذي يقوم شهرين أو ثلاثة أشهر متصلة في السنة في غير العشر الأواخر. {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، أي: خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر.

نزول الملائكة والروح في ليلة القدر

نزول الملائكة والروح في ليلة القدر قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] ، ما هو الروح؟ للعلماء فيها سبعة أقوال: قيل: إنها أرواح بني آدم، وقيل: إن الروح خلق لا يعلمه إلا الله. والذي عليه الأكثرون أن الروح هو جبريل صلى الله عليه وسلم، فقد أطلق عليه روح في قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل:102] ، فإن قيل: إن جبريل داخل في الملائكة في قوله (تنزل الملائكة) ، فلماذا نص على الروح على تفسير الروح بجبريل مرة ثانية؟ ف A أن هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية ذلك الخاص، وفضل ذلك الخاص، فعطف الخاص -وهو الروح الذي هو جبريل- على العام الذي هو الملائكة، وهذا لبيان شرف جبريل صلى الله عليه وسلم، كما بين شرف أولي العزم من الرسل في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] ، فمحمد رسول الله، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم من النبيين، ولكن نص عليهم بالذكر لبيان شرفهم، وكما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} [النساء:163] ، فكل هؤلاء من الأنبياء، وذكروا مرة ثانية لبيان شرفهم، وكما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] ، والرمان داخل في الفاكهة، فخص بالذكر لبيان شرفه، وهنا ذكر الروح -مع أن الروح من الملائكة- لبيان شرف جبريل، فجبريل ذو شرف وذو فضل كبير، وقد ذكر شرفه وذكرت فضائله في عدة آيات من كتاب الله: قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97-98] ، وقال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ، وقال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20] ، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، فله قوة وله مكانة عند الله سبحانه وتعالى، {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21] ، أي: مطاع هناك في الملأ الأعلى، يطيعه أهل السماء، (أَمِينٍ) أي: أمين على الوحي، فكل هذه مناقب لجبريل صلى الله عليه وسلم. فالملائكة تتنزل، وينزل مع الملائكة جبريل صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} ، فهو منظرٌ مهيب، ومشهد عجيب، وأمر عظيم، ألا وهو نزول الملائكة إلى سماء الدنيا ومعهم جبريل سيدهم صلى الله عليه وسلم! فهو منظر مهيب، ومشهد عجيب، وإن كنا لا نراه! {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر:4] ، أي: أن نزول الملائكة لا يكون ارتجالاً منهم، فهم لا يتحركون إلا إذا أذن الله لهم في ذلك، وقد قال الرسول لجبريل: (ما يمنعك أن تأتينا أكثر مما تأتينا؟ فأنزل الله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] ) ، فقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} ، يفيد أن نزول الملائكة لا يكون باختيارهم إنما هو بإذن ربهم.

تفسير قوله تعالى: (من كل أمر سلام)

تفسير قوله تعالى: (من كل أمر سلام) {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] ، ما المراد بها؟ (من كل أمر) من العلماء من فسرها على أساس ارتباطها بما قبلها، ومنهم من فسرها على أساس ارتباطها بما بعدها، فمن فسرها على أساس ارتباطها بما قبلها قرأ: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ووقف، قال: (من كل أمر) أي: بكل أمر، وأحرف الجر تتناوب، فإن الباء قد تأتي بمعنى: (مِن) ، ومِن تأتي بمعنى الباء، فأحرف الجر تأخذ معاني بعضها. فقالوا: المعنى: أن الملائكة تتنزل بكل أمر، أي: بكل أمر قضاهُ الله وأراده وحكم به، أي: أن الملائكة تنزل في هذه الليلة وهي تحمل أمر الله سبحانه الذي أراده وقضاه، وتنزله إلى الدنيا في هذه الليلة قضى ربك في هذا العام كذا وكذا، أثبت الله في هذا العام لفلان وفلان السعادة ولفلان وفلان الشقاوة، أثبت الله لفلان رزقاً وأجلاً، فتتنزل الملائكة في هذه الليلة بهذه الأقدار التي قدرها الله، والأحكام التي حكمها الله، والأوامر التي أمر بها الله. فقوله سبحانه: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ، أي: بكل أمر قضاه الله وحكم به وأمر به، هذا على ربط الآية بما قبلها. وبعض العلماء ربطها بما بعدها فقال: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} ، وانتهى الكلام، وبدأ كلامٌ جديد: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ} [القدر:4-5] ، أي: هي سالمة من كل أمور الشر، فليس في هذه الليلة إلا الخير، أي: أنها سالمة آمنة، فلا تتنزل مع الملائكة الشياطين، إنما ينزل -فقط- الملائكة، فتختفي الشياطين وتبتعد، ولا يأتي الباطل ولا الشيطان في هذا الوقت؛ بل هي سالمة آمنةٌ، فالملائكة إذا نزلوا فرت الشياطين، ومن ثم جاء في الحديث المرسل: (ما رئي الشيطان أصغر ولا أحقر في مثل يوم عرفة إلا ما كان منه يوم بدر، قيل: وماذا رأى يوم بدر يا رسول الله؟! قال: رأى جبريل يزع الملائكة -أي: يصفُّ الملائكة- فهرب واندحر) ، فعندما تتنزل الملائكة تبتعد الشياطين وتهرب، فيحصل الأمن، ويندحر الباطل، فهذا على ربط الآية بما بعدها: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ} ، أي: هي سالمة من كل الأمور، سالمة آمنة، لا يأتي فيها الباطل ولا يتنزل فيها الشيطان.

تفسير قوله تعالى: (حتى مطلع الفجر)

تفسير قوله تعالى: (حتى مطلع الفجر) قال تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5] ، أي: هذه الليلة تنتهي بطلوع الفجر، وهل هذه الليلة فيها استتباع، أي: هل يتبعها اليوم الذي بعدها أو اليوم الذي قبلها؟ لم يرد شيءٌ في ذلك عن رسول الله، والاستتباع كيوم عرفة، فإنه تتبعه الليلة التي بعده، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم وقف بعرفات إلى أن غربت الشمس، وبعد أن غربت الشمس بدأ في الإفاضة إلى مزدلفة، لكن هب أن شخصاً جاء ووصل إلى عرفات في منتصف الليلة التي انطلق فيها الرسول إلى مزدلفة، والرسول ذهب إلى مزدلفة بعد غروب الشمس، فلو جاء شخص بعد خروج الرسول بست ساعات أو بسبع ساعات ووقف بعرفات، فوقوفه بعرفات صحيح إذا أدرك مزدلفة قبل الفجر، فيوم عرفة تتبعه الليلة التي بعده؛ لأن عروة بن مضرس قال: يا رسول الله! أتعبت نفسي، وأكللت راحلتي، وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شهد معنا صلاة الفجر بمزدلفة، وكان قبل ذلك وقف ساعة من ليل أو نهار بعرفات، فقد أتم حجه، وقضى تفثه، وأتم نسكه) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، لكن ليلة القدر ليس فيها استتباع؛ لأن الآية قطعت ذلك بقوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ، لكن هل اليوم الذي قبلها يدخل فيها؟ ليس في هذا خبرٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام.

تفسير سورة البينة

تفسير سورة البينة سورة البينة هي السورة الوحيدة التي أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأها على أبيّ بن كعب رضي الله عنه، لفضيلة أراد الله تعالى أن يظهرها لهذا الصحابي الجليل، ثم إن الناظر في آيات هذه السورة يرى أنها تحدثت عن أهل الكتاب والمشركين الذين عادوا النبي عليه الصلاة والسلام وهم يعلمون أنه خاتم الأنبياء والرسل، ثم فيها أمر لكل من آمن بإقامة الملة على دين إبراهيم، والعناية بأصول هذه الملة الحنيفية السمحة.

أمر الله تعالى لنبيه بقراءة سورة البينة على أبي بن كعب

أمر الله تعالى لنبيه بقراءة سورة البينة على أبي بن كعب سورة البينة أطلق عليها: (سورة لم يكن) ؛ لأنها تبتدئ بـ: (لم يكن) ، كسورة النبأ فقد أطلق عليها: (سورة عم) ؛ لأنها تبتدئ بـ: (عمَّ) ، والملك أطلق عليها: (تبارك) ؛ لأنها بدأت بـ: (تبارك) . وسورة البينة لها فضيلة كباقي السور، إلا أن لصحابي فضيلة عظمى بسببها، أما الصحابي فهو سيد من سادات الأنصار، وأعلم الصحابة بالقراءات، كما قال فيه عمر: (أقرؤنا أُبيّ) أي: أعلمنا بالقراءات أبي بن كعب. قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (يا أُبيّ! إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة -وفي رواية: لم يكن الذين كفروا- فتعجب أُبيّ! -الرسول يقرأ عليه سورة البينة- وقال: يا رسول الله أوسماني لك يا رسول الله؟! -يعني: هل ربنا قال لك: اقرأ على أبي بن كعب بالاسم- قال: نعم سمّاك لي، فبكى أُبيّ) ، وهذه منقبة عظمى، فرب العزة يسمي أبي بن كعب ويقول: يا محمد! اقرأ سورة (لم يكن) على أبي بن كعب، وهي منقبة تجعل أي شخص يبكي من الفرح، فبكى أبي بن كعب رضي الله عنه. وفي الحديث: قراءة الفاضل على المفضول، والفاضل هو الرسول، والمفضول هو أبي بن كعب؛ حتى يتواضع المسلمون في مسائل العلم، فالعلم لا يناله مستكبر ولا مستحىٍ، ولذلك ذكر الله لنا في كتابه أمثلةً لذلك، منها: قصة موسى عليه السلام مع الخضر، فمع أن موسى عليه الصلاة والسلام من أولي العزم من الرسل لكنه يأتي بكل أدب إلى الخضر ويقول: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] ، وهو نبي من أولي العزم يذهب إلى الخضر، بل ويسافر إليه طلباً للعلم، فمسألة العلم ليس فيها كبر، ولا ينال العلم مستكبر ولا مستحي، كما قال قائل السلف، وقد كان السلف يفرون من القضاء لا كالخلف الموجودين الآن الذين يتقاتلون على القضاء، وهو قضاء بغير ما أنزل الله، أما السلف فكانوا حتى القضاء بما أنزل الله يفرون منه، للضغوط التي يواجهونها فيه، إلا من ثبته الله، يقولون: من عيوب القضاء: أن القاضي إذا عزل لا يجلس للعلم. أي: أن القاضي يكون طالب علم قبل أن يتولى القضاء، ويحرص على أن يبحث في المسائل ويحرر وينقح، ويناقش العلماء، ويجلس متواضعاً، أما إذا أصبح قاضياً وجلس يقضي بين الناس، ثم عزل فإنه يستكبر أن يجلس مرةً ثانية في مجالس العلم، ويقول: أنا قاضي ثم أجلس أتعلم ممن؟! فيظن أنه قد حاز العلم بحذافيره، فيحصل له التردي بسبب بعده عن مجالس العلم. ففي قوله: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة) منقبة لـ أُبيّ، وفيها قراءة الفاضل على المفضول؛ حتى يتعلم الناس التواضع في هذا الباب.

تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا.

تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا.) قال الله سبحانه وتعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] ، فأهل الكتاب كفار والمشركون كفار، و (أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ) تفصيل وتفسير للذين كفروا، فإن قال قائل: ما هو وجه شرك أهل الكتاب؟ ف A أن الله سبحانه قال في شأن اليهود والنصارى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30-31] ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] الآيات. والذين كفروا من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والمراد بالكتاب: الكتب السماوية، والمشركون هم عبدة الأوثان الذين كانوا يقطنون مكة والجزيرة وغيرها، ومن العلماء من قال: إن أهل الكتاب هم أهل الشرك أنفسهم.

معنى قوله تعالى: (منفكين)

معنى قوله تعالى: (منفكين) وقوله: ((مُنفَكِّينَ)) فيها ثلاثة أقوال تدور على شيء مربوط بشيء وفك منه، فلم يكونوا منفكين، أي: لم يزالوا مربوطين إلى أن تأتيهم البيّنة. {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} عما ربطوا به إلا إذا جاءتهم البيّنة، وما هو الشيء الذي ربطوا به؟ فكلمة (منفكين) من الفك، فكأنهم مربوطون ولم يفكوا حتى تأتيهم البيّنة. (منفكين) : من الانفكاك، وتأتي بمعنى: منتهين وتاركين، وبمعنى: متركوين وسيأتي تأويل ذلك. {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} ، أي: عن الكفر الذي هم فيه -على قول- {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] والبينة هي: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة:2] ، أي: أن أهل الكتاب لن ينفكوا عما هم فيه إلا إذا جاءهم رسول من الله يتلو عليهم آيات الله، فحينئذٍ ينفكون عن الذي كانوا فيه من الشرك، والشيء الذي كانوا مربوطين به هو الكفر أو الشرك، هذا قول. القول الثاني: أن الشيء الذي ربطوا فيه وتمسكوا به هو صفة محمد عليه الصلاة والسلام، فهم كانوا متمسكين بصفة محمد، وكانوا يقولون: سيأتي نبي صفته كذا، وكذا وعليه خاتم للنبوة، يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، ليس بفظ، ولا بغليظ، ولا بصخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء للناس، حتى يقولوا: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فتفتح بها أعين عمي، وأذان صم، وقلوب غلف، كل هذه صفات رسول الله مثبتة في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] الآية. فكانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة عند هؤلاء الكفار، وكانوا متمسكين بها غاية التمسك، ولم يكونوا أبداً يفرطوا فيها، بل كانوا يعرفون رسول الله تمام المعرفة، ولم ينفكوا عن هذه الصفات أبداً؛ بل كانوا يحفظونها تمام الحفظ، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157] ، فكانوا يعرفون الرسول تمام المعرفة، ومتمسكين بصفته غاية التمسك، ويحفظونها، فلم يتركوا صفة الرسول ولم يتخلوا عنها إلا بعد أن جاءهم رسول الله، ولمَ تركوها؟ قالوا: لست أنت هو. حسداً من عند أنفسهم؛ فكانوا يستفتحون على الذين كفروا، ويقولون: سيخرج نبيٌ صفته كذا وكذا، فنتبعه ونقتلكم نحن وهو قتل عادٍ وإرم، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] ، ولما جاء الرسول من نسل إسماعيل صلى الله عليه وسلم -وكانوا يريدونه من نسل إسحاق- كفروا برسول الله، وانفكوا عن صفة رسول الله، وقالوا: ما هذه الصفة؟ وتحللوا من هذه الصفة. فعلى ذلك: الانفكاك يكون عن أحد الشيئين، الأول: انفكاك عن الكفر، فلم يكونوا منتهين عما هم فيه من الكفر إلا إذا جاءهم رسول يوضح لهم الحق، فمنهم من يتركه، ومنهم من يتمسك به. والثاني: لم يكونوا منفكين عن صفة رسول الله إلا بعد أن جاءهم رسول الله، فتركوا صفة رسول الله حسداً من عند أنفسهم، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:54-55] ، أي: لم يكونوا متروكين هملاً وسدى؛ بل لابد من مجيء رسول إليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى أن تأتيهم الرسل.

معنى البينة والكتب القيمة

معنى البينة والكتب القيمة فسرت البينة بأنها: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} مطهرة: لم يعتريها تحريف أو خلط شياطين، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:41-42] ، ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ)) أي: الشيطان، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] . {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:3] ، الكتابات التي فيها كلها مقالات عادلة، وكلها مقالات مستقيمة، والناظر إلى كتاب الله يجد ذلك يجد كتاب الله فيه حفاظٌ على الأموال والعقول والأعراض والدماء، كل هذا موجودٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى لا يسمح لأحد في الشرع أن ينظر إلى زوجتك أو ابنتك أموالك محفوظة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ، وعقلك محفوظ، ومن ثم حرم الخمر ودمك محفوظ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) . وفي كتاب الله ما يرقق القلب، ويذرف الدمع من العين في كتاب الله حث على صلة الأرحام، وجبر الخواطر المنكسرة، وصلة المرضى وعياداتهم، واتباع الجنائز، وإكرام المسلمين أحياءً وأمواتاً، والاستغفار لمن مات أو لمن هو حي منهم، فكل خيرٍ في كتاب الله.

تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب.

تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب.) قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] هل البينة تكون سبباً للفرقة؟ وهل العلم يكون سبباً للفرقة؟ نعم. في كثيرٍ من الأحيان يكون العلم سبباً للفرقة، فما تفرقوا حتى جاءهم العلم، لكن العلم ليس سبباً في نفسه، بل الحسد هو الحامل على ذلك كما قال الله: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى:14] ، كان الناس كلهم قبل مجيء البينة في ضلال، قويٌ يستضعف فقيراً، قويٌ يستعبد ضعيفاً، غنيٌ يستعبد فقيراً، وهكذا تسير الأمور، استعباد واستذلال، فلما جاءت البينة آمرة بالمساواة بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، مانعة للقوي من التسلط على عرض الضعيف، وعلى ماله، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] لما جاءت البينة آمرةً بذلك، أبى أهل الكفر، وأبى الملأ المستكبرون هذه البينة، ورفضوها فحصلت الفرقة حصلت الفرقة بين أقوامٍ رضوا بالبينة وأقوام رفضوا هذه البينة.

أمر الله بإخلاص العبادة له وحده

أمر الله بإخلاص العبادة له وحده {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] أي: مفردين له الطاعة دون من سواه، ((حُنَفَاءَ)) أي: مائلين عن الشرك إلى التوحيد، وقد قدمنا أن الحنيف: هو المائل، على رأي جمهور المفسرين، أي: مائل من الشرك إلى التوحيد، وتفسير الحنيف بالمائل كما في قول المرأة تصف ابنها: والله لولا حنفٌ في رجله ما كان في صبيانكم من مثله ومن العلماء من فسر الحنفاء بالمقبلين، لكن الأول هو الذي عليه الجمهور. {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] هذه أصول الدين أمرٌ بالتوحيد، وأمرٌ بإقامة الصلاة، وأمرٌ بإيتاء الزكاة، فأيضاً نلفت النظر إلى شيءٍ هام ينبغي أن يذكر به المذكرون وهو أصول الدين، ثم بعد ذلك فروعه، لكن التركيز يكون على أصول الدين بالدرجة الأولى أمرٌ بالتوحيد، وبإقامة الصلاة، وبإتياء الزكاة، وببر الوالدين، وبالجهاد والإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وبالتآخي بين المسلمين كما قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، ومع ذلك أيضاً يذكر بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثال لأصول ديننا: الوفاء بالوعد، الصدق في الحديث، صلة الأرحام، بر الوالدين كلها من الأوامر التي أمر بها ديننا، وأمر بها الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أصولٌ ثوابت. وعند تقييمنا للأشخاص يكون ذلك بعموم ما فيهم منها، فمثلاً: شخصٌ ملتحي، فهذا الملتحي طبق سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يثاب عليها إن شاء الله؛ لأنه طبق السنة وامتثل أمر الرسول، لكن إذا كان هذا الملتحي نصاب يأخذ أموال الناس، فهنا الوزن يكون كما قال الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، فالنصب جريمة، واللحية طاعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجريمة النصب واختلاس أموال الناس بالباطل أشد من جريمة حلق اللحية؛ لأن حلق اللحية ليس فيها تجني على حقوق الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشهيد فقال: (يغفر للشهيد كل ذنبٍ إلا الدين) ، لأن الدين متعلق بحقوق العباد، أما الذنوب التي اقترفها الشهيد المتعلقة بحق الله فإنه يغفرها له، أما الدين الذي هو متعلق بالعباد فالله سبحانه وتعالى لا يغفره للشهيد، ويأخذ من الشهيد هذا الدين إلا إذا أراد الله سبحانه أمراً آخر. ومثلاً: رجل ملتحي وعاق لوالديه، إذا جئنا نزن فالموازين القسط فيها: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) . فإذا جئنا نزن الأمور فنقول: عقوق الوالدين أعظم ثم أعظم من حلق اللحية، وليس معنى هذا التهوين من شأن اللحية، فإن اللحية أمرٌ أمر به رسول الله، وحالقها آثم، لكن الآثام تتفاوت في عظمها وفي قدرها وأحجامها، ولذلك يحدث الانتكاس في الفهم، تقول: فلان من الناس طيب، أو فلان أخ، وهذا الرجل الثاني ليس بأخ، فبأي ميزان قست الأخوة؟ هل الأخوة فقط متمثلة في ثوب تلبسه مشابهاً لثوب رسول الله؟ صحيح أن الثوب المشابه لثوب رسول الله حسن، وأن الموافقة في الظاهر تجلب الموافقة في الباطن، لكن المشابهة في القلوب كذلك مطلوبة، اجعل قلبك شبيهاً بقلب رسول الله، قلباً رقيقاً لكل ذي قربى ومسلم، قلباً تقياً ورعاً خائفاُ من الله سبحانه وتعالى، فلابد أن تمشي في الطريقين معاً، ولما أنفي الأخوة عن شخص لكونه ليس ملتحياً، فأنا نفيت الأخوة بناءً على معصية. لا، فهناك كبيرة قد تكون في هذا الملتحي، وقد تكون ظاهرة. فالشاهد يا معشر الإخوة: أن أصول الدين مع فروعه يركز عليها جميعاً، لكن يفهم أن في الدين أصولاً، وأن للدين أيضاً مسائل لا نقول: إن فاعلها في حل، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر حتى الصغائر وحذر منها، فقال: (يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا ببطن وادي، فجمع هذا عوداً، وهذا عوداً، حتى جمعوا حطباً كثيراً فأنضجوا لحمهم) ، فحتى في شأن الصغائر لا يستهان بها، ولكن التنبيه هو على إخواننا الذين يفرطون في أصول الدين، وغرتهم الأماني أن طبقوا بعض أوامر رسول الله، وتركوا أعظم أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون -مثلاً- ملتحياً ومتبعاً للسنة ولكنه ينصب على الناس ويختلس الأموال، وينتهك الأعراض، أو يرتكب المحرمات مع بنات الناس، كهؤلاء السفهاء الذين يعالجون بالجن بزعمهم ويخلون بالنسوة خلوة محرمة، تتسبب في انتكاسات لقوم، وتزل قدم بعد ثبوتها، وأنت الآثم، وأنت المتسبب في هذا كله، فالله عز وجل قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} هذا أمرٌ بالتوحيد، {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} أمرٌ بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أيضاً من أصول الدين، ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة)) أي: الطريقة العادلة المستقيمة.

بيان خير البرية وشرها في الآخرة

بيان خير البرية وشرها في الآخرة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة:6] هذا مصيرهم، {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6] ، البرية: الخليقة، وفي المقابل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] أي: خير الخليقة، فإن سأل سائل: من هم خير البرية؟ ورد في صحيح مسلم أن رجلاً نادى الرسول فقال له: يا خير البرية! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذاك إبراهيم صلى الله عليه وسلم) ، فبنص الحديث خير البرية: هو إبراهيم، وبنص الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} ، وفي حديثٍ آخر قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم) ، فكيف يجمع بين هذه النصوص؟ أولاً: هي لا تعارض بينها، أما الذي قد يبدو فيه من التعارض فهو بين قول الرسول في خير البرية: (ذاك إبراهيم) ، وبين قوله: (أنا سيد ولد آدم) صلى الله عليه وسلم، فمن العلماء من يقول: إن الرسول قال في إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي قال قبل أن يخبره الله بأنه سيد ولد آدم، أو أن الرسول قال في شأن خير البرية: (ذاك إبراهيم) على سبيل التواضع منه صلى الله عليه وسلم. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم من خير البرية على الإجمال، وإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم منهم. {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [البينة:8] أي: إقامة، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [البينة:8] ، أي: وأحل عليهم رضوانه، كما في الحديث: (يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً؟ قالوا: وهل فوق ما أعطيتنا يا ربنا؟! قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) . {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8] ، ما معنى رضوا عنه؟ من العلماء من أجراها على ظاهرها، ومنهم من قال: رضوا عنه للثواب الذي أثابهم، والعطاء الذي أعطاهم، ومثل هذا في الدنيا -ولله المثل الأعلى- قد يعطيك شخص أموالاً، ومع إعطائه لك فأنت كاره له، ومهما يعطيك فأنت لست له من المحبين، ولست له من الشاكرين، وأنت تأخذ منه وتظهر له بأي مظهر رضاك عنه، لكن قلبك مليء ببغض هذا الشخص، وقد يعطيك شخص آخر وترضى عنه غاية الرضا، فمن العلماء من قال: رضوا عنه لثوابه إياهم، أو محبة منهم له سبحانه وتعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] . وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم.

تفسير سورة الزلزلة

تفسير سورة الزلزلة الإيمان بالبعث والنشور أحد أركان الإيمان الستة التي يجب على كل مسلم أن يعرفها، وحقيقة البعث -كما بينته كثير من السور ومنها سورة الزلزلة- هو خروج الناس من قبورهم إلى عرصات القيامة ليروا أعمالهم التي عملوها في الحياة الدنيا، فمن عمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن عمل مثقال ذرة شراً يره.

اشتمال جزء عم على قضايا البعث والنشور

اشتمال جزء عم على قضايا البعث والنشور باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:1-8] . تقدم أن أكثر سور هذا الجزء المبارك الكريم -جزء عم- تتناول قضايا البعث والنشور الذي هو الخروج من القبور، كما تتناول الحساب والسؤال عن الأعمال، وقد بدئ ذلك بسورة النبأ، قال سبحانه: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:1-5] . ثم ثني بسورة النازعات، وفيها: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1] إلى قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13-14] أي: وجه الأرض كما تقدم. ثم في نفس السورة: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:34-36] . وفي سورة عبس كذلك: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:33-35] . وجاءت سورة التكوير كذلك: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:1-3] إلى قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] . وجاءت أيضاً سورة الانفطار بعد ذلك: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1-5] . فكل هذا يتعلق بالبعث، حتى سورة المطففين كذلك: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] إلى قوله: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-6] . وكذلك عقبت بسورة الانشقاق: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] أي: عامل عملاً فملاقٍ جزاء عملك، وهكذا سائر السور، فأغلب سور هذا الجزء تتناول قضايا البعث والنشور، وهذا يتفرع عنه أن سلامة العمل تكمن في سلامة المعتقد، فإذا كان الشخص يعتقد اعتقاداً صحيحاً أنه مبعوث ومسئول أمام الله عن أعماله فحينئذٍ يعمل عملاً صحيحاً؛ لأنه موقن أن سيلاقي جزاء هذا العمل، ولذلك قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:1-4] ألا يظن، أي: لو أيقنوا أنهم مبعوثون ليوم عظيم ما طففوا المكاييل ولا طففوا الموازين. والحاصل: أن أغلب سور هذا الجزء تناولت ركن الإيمان الذي هو الإيمان بالبعث وما يتعلق به من مقدمات وتوابع تتبع هذا اليوم. ففي هذه السورة كذلك جاء المسير على هذا المنوال.

تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض)

تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض) قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] ، والزلزلة من الحركة الشديدة السريعة، والمراد بزلزالها هنا: الزلزال الأعظم، فالأرض تزلزل زلازلاً، ولكن المراد بالزلزال في هذه السورة الزلزال الأعظم والأكبر الذي يعم جميع الأرض، ويكون سبباً لتدمير كل ما عليها، وهو من أشراط الساعة العظمى. ومن هذا الباب أيضاً ما ورد في ذكر المسيح الدجال، فهناك دجاجلة كثيرون، لكن إذا أطلق الدجال فالمراد به الدجال الذي بين يدي الساعة.

تفسير قوله تعالى: (وأخرجت الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وأخرجت الأرض) {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2] ، هنا يطرح Q متى هذا الزلزال؟ هل هو قبل يوم القيامة، أو هو بعد يوم القيامة؟

الخلاف في وقت وقوع الزلازل في الآخرة

الخلاف في وقت وقوع الزلازل في الآخرة هناك قرائن في السورة الكريمة استدل بها على أن هذا الزلزال قبل يوم القيامة، وقرائن أخرى في نفس السورة استدل بها على أن هذا الزلزال في يوم القيامة بعد النفخ في الصور. أما القرائن التي استدل بها على أن هذا الزلزال قبل يوم القيامة، فقوله تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3] أي: ما الذي حدث للأرض، فهذا استغراب من الإنسان عما يحدث. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: (تقيء الأرض أفلاذ أكبادها كأمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيأتي السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ويأتي القاتل، فيقول: في هذا قتلت، ويأتي قاطع الرحم، فيقول: في هذا قطعت رحمي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) هل هذا قبل يوم القيامة؟ أو بعد النفخ في الصور؟ الظاهر من هذا أنه قبل يوم القيامة، فاستدل بهذا الحديث وبقول الإنسان: مالها؟ على أن الزلزلة المذكورة قبل يوم القيامة. وهناك أدلة أخرى تفيد أن هذه الزلزلة بعد النفخ في الصور، أي: يوم القيامة، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1-2] وسياق هذه الآيات يشعر أنها قبل يوم القيامة. لكن ما ورد فيها من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو: (يقول الله سبحانه وتعالى لآدم يوم القيامة: يا آدم! فيقول: لبيك ربنا وسعديك -وفي رواية- والخير في يديك، والشر ليس إليك. فيقول الله له: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعث النار، فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذٍ يشيب الصغير، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ) ، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث لأصحابه شق ذلك على أصحابه فقالوا: وأينا ذاك الرجل يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحداً، ألا ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر الصحابة حمداً لله، ثم قال: ألا ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبر الصحابة حمداً لله، ثم قال: والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وهذا الحديث يفيد أن الزلزلة المذكورة أيضاً بعد القيامة. ومن العلماء من حاول التوفيق بين القولين، وقال: إنها قريبة جداً من القيامة، فلقربها من القيامة كأنها هي القيامة، أو كأنها جزء من القيامة، فالإنسان إذا كان قريباً من الشيء يعبر عنه بأنه هو، كما قال تعالى في سورة النحل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] والأمر، ما أتى ولا حل فعلاً؛ لكنه لقرب مجيئه عبر عنه بلفظ: (أتى) ، فللتلازم الشديد والتقارب الشديد بين الساعة وبين القيامة عبر عنها بهذه التعبيرات، فهي مع الساعة مباشرة. وقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] أي: زلزالها الأكبر، بأن حركت حركة شديدة فدمر كل شيء عليها، كما قال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] .

معنى إخراج الأرض أثقالها

معنى إخراج الأرض أثقالها قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2] ما هي هذه الأثقال؟ للعلماء فيها قولان: القول الأول: أن الأثقال هم الأموات الذين دفنوا فيها، فقد كانت الأرض لهم بعد موتهم كفاتاً، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] فكانت كفاتاً لهم تسترهم، فتخرج هذه الأثقال يوم القيامة، كما في الآية الأخرى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} [الانشقاق:3-4] أي: ألقت من الأموات وتخلت عنهم {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:2] أي: سمعت لهم وأطاعت. القول الثاني: أن المراد بالأثقال الكنوز التي في بطنها، كالذهب والفضة وغير ذلك كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة) لكن قبل الساعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيأتي الناس يتقاتلون، فيقتل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ويبقى واحد، ويظن كل رجل منهم أنه هو الواحد) . فهذان هما القولان في تفسير الأثقال {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2] .

تفسير قوله تعالى: (وقال الإنسان ما لها)

تفسير قوله تعالى: (وقال الإنسان ما لها) قال تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ} [الزلزلة:3] (وقال) تعجب واستغراب، {مَا لَهَا} [الزلزلة:3] ما الذي حدث للأرض حتى تفعل هذه الأفعال. قال تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3] هل كل إنسان يقول ذلك؟ أم الإنسان الكافر فقط؟ فالمؤمن يعلم أن هذا هو أمر الله؟ فمن العلماء من قال: إن الآية أفادت العموم، وكل إنسان يقول ذلك، لأن الله أطلق ولم يقيد، فكل إنسان يتعجب! ما الذي حدث؟ ومنهم من حمل الإنسان على الكافر، واستشهد بقوله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:55-56] .

تفسير قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها)

تفسير قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها) قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4-5] : من العلماء من قال: إن الأرض تتكلم كلاماً حقيقياً مجيبة للإنسان على تساؤله، فعندما يقول الإنسان مستغرباً متعجباً: ما الذي حدث للأرض؟ فتجيبه قائلة: إن الله أوحى إليّ بذلك، وأمرني به، لأن ربك أوحى لها، فالمعنى: إذا سألها الإنسان عن سبب أفعالها التي فعلت، فإنها ستجيبه قائلة: إن الذي فُعِل بي إنما حدث بوحي الله إليّ. بلسان المقال. ومنهم من قال: إن الإجابة بلسان الحال، فيتساءل الإنسان: مالها؟ فلا يجد إلا إجابة، وهي: إن هذا الذي حدث إنما هو بأمر الله. وإن لم تتلفظ الأرض بهذا اللفظ. ومن أهل العلم من قال: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] أي: تخبر عن كل شخص بما عمل على ظهرها، تأتي الأرض يوم القيامة وتشهد على كل عامل بعمله، يا رب! هذا الرجل مشى عليّ كي يذهب إلى المسجد ويصلي وسجد لك عليّ، يا رب! هذا العبد مشى عليّ كي يتصدق، مشى عليّ وخطا خطوات كي يشهد الجمعة والجماعة، ويحضر مجالس العلم، يا رب! ذاك العبد، مشى عليّ للشر والفساد، وسار على وجهي وطفق يهلك الحرث والنسل. فتحدث عن كل شخص بالذي عمل عليها، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] أي: نكتب الآثار، من العلماء من قال: آثار الخطأ، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] . ويشهد لهذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة لما كانت ديارهم بعيدة عن المسجد وأرادوا أن يقتربوا من مسجد رسول الله ويشتروا بيوتاً بجوار المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا البقاء في دياركم البعيدة، تكتب آثار خطاكم في موازينكم أو في صحفكم، فهذا وجه في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] . ففيه أوجه: أحدها: أن الأرض تجيب إذا سألها الإنسان مالكِ؟ فتجيبه إما بلسان الحال أو بلسان المقال: أن هذا الذي حدث لي إنما هو بوحي الله إليّ. الوجه الثاني: أنها تخبر عن كل شخص بما عمل على ظهرها.

تفسير قوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس)

تفسير قوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس) قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} [الزلزلة:6] (يصدر) أي: يرجع، ومنه قول الفتاتين: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] أي: حتى يرجع الرعاء من السقي، فقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} [الزلزلة:6] أي: يرجع الناس. ولكن من ماذا يرجعون؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما: يرجعون من موقف الحساب بعد أن حوسبوا، لكن هذا القول يحتاج إلى تقدير في الآية، فالمعنى: يومئذٍ يرجع الناس من موقف الحساب ليروا جزاء أعمالهم، فيكون قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] أي: ليروا جزاء أعمالهم. فيرجع الناس من موقف الحساب، فمنهم الذي تلقى كتابه بيمينه، ومنهم الذي تلقاه بشماله من وراء ظهره عياذاً بالله، فيتلقون جزاء الأعمال، إما رجل يطير فرحاً، ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19-20] وآخر بائس متبائس اسود وجهه وازرقت عيناه، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] ، يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25-29] . فقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة:6] أي: أشتاتاً متفرقين من موقف الحساب، هذا راجع في هذا الاتجاه وهذا راجع في هذا الاتجاه. ويا له من موقف إذا أمعنت النظر فيه وتخيلته وتصورته، كلهم تلقوا الكتاب ورجعوا متفرقين، ثم بعد ذلك ينظمون في جماعات، كل جماعة مع أمثالها وأضرابها، كل أصحاب وجهة مع بعضهم، كما قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:71] ، وكما قال: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] أي: جماعات جماعات، فيرجعون من موقف الحساب متفرقين، كل معه كتاب أعماله يرجع حتى يلاقي جزاء العمل وينتظم في سلك أمثاله وأشكاله، إن كانوا صالحين أو كانوا طالحين، كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] أي: وأمثالهم ونظراءهم، {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22-23] . القول الثاني في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة:6] أي: يرجع الناس من قبورهم عندما ينفخ في الصور إلى موقف الحساب {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] فكل شيء قد فعلوه أثبت في الزبر، وكل صغير وكبير قد سطر، فيرجعون من القبور إلى موقف الحساب كي يروا أعمالهم، وهنا يرجعون من القبور أيضاً متفرقين كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] وعند خروجهم من القبور لأول وهلة يخرجون متفرقين كالفراش المبثوث الطائش، كل فراشة في اتجاه يركب بعضه بعضاً، وبعد مدة ينظم الركب ويكونون كالجراد المنتشر، فالجراد له وجهة محددة يسير في اتجاهها، أما الفراش الطائش فيركب بعضه بعضاً، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة)

تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة) قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] أي: فمن يعمل في دنياه مثقال ذرة من الخير يراها، وما هو ضابط الذرة؟ من العلماء من قال: إن الذرة هي النملة الصغيرة الحمراء، ومنه قول الحسن البصري في بعض مقالاته في شأن الأبرار: البر هو الذي لا يؤذي الذر. فالشاهد: أن من العلماء من ضبط الذرة بأنها النملة الصغيرة الحمراء. فإن قال قائل: إن العلم الحديث وضح أن الذرة تنقسم إلى الكترون وبروتون، وكل هذا لا يرى بالعين المجردة، فلماذا فسرت الذرة بهذا التفسير الذي هو النملة؟ فالإجابة أن الله خاطب الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصغر شيء في أعينهم وهو النملة الصغيرة الحمراء. والقول الثاني: إنها ذرة الغبار التي تكون في شعاع الشمس في الغرفة التي يدخلها ثقب، على ما قاله بعض العلماء، وكان هذا أصغر شيء يتخيله العرب، لكن أصغر منه أثبت أيضاً في كتاب الله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ} [يونس:61] فأثبت الذي هو أصغر من الذرة، فيندرج تحته ما اكتشف مؤخراً {وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61] . فقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:7] حتى الذرة، ولذلك فقد روي عن أم المؤمنين عائشة أنها كانت إذا أتاها سائل لا تبخل عليه بالصدقة، ولو بتمرة، وتقول: سبحان الله! كم في التمرة من ذرات، والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة جارتها ولو فرس شاة) أي: لا تحقرن جارة الهدية أن تهديها إلى جارتها أو تقبلها من جارتها ولو كانت الهدية هذه حافر شاة أو رجل شاة، وإذا أهديتِ أيتها المسلمة أو إذا رغبتِ في الإهداء وليس عندك شيء فلا تستقلي الهدية أن تهديها، وإن كانت قليلة فبادري بإخراجها ولا تحتقريها، فكم فيها من ذرات. والوجه الثاني: إذا أهدت لك أيتها المسلمة أختكِ شيئاً فاقبليه، فالهدية في أصلها دليل على المحبة، ومن ثم حسَّ بعض العلماء حديث: (تهادوا تحابوا) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها. فالشاهد: أنه على العبد ألا يستقل أعمال البر ولا يستصغر أعمال الشر كذلك، فقد ترى العمل في عينيك يسيراً ولكنه عند الله كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لما مر بالقبرين (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير -أي: في أنظاركم- بلى إنه كبير) أي: عند الله سبحانه وتعالى. فقد تتكلم بكل بساطة في عرض مسلم وتظن أنك ما فعلت شيئاً وأنت قد أكلت لحماً ميتاً، {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] ، وقد تقدم عن أنس بن مالك كما في البخاري (إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إنا كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) أي: من المهلكات. فالله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] هذا النص عام تندرج تحته كل أفعال البر وكل أفعال الشر، وقد استدل به الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديثاً في فضل الخيل، فسأله سائل: يا رسول الله! والحمر -أي: والحمير يا رسول الله ما القول فيها إذا احتبستها في سبيل الله- (فقال: ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ) . فأفادت الآية أن كل شيء يفعله العبد مثبت، حتى خائنة الأعين مثبتة، اللفظ الذي يتلفظه العبد مثبت، حركة اليد مثبتة، قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52-53] ، وقال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30] ، فالأمر كما قال سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] . قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:8] ، لقد صحح بعض العلماء حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لـ عائشة: (يا عائشة، إياكِ ومحقرات الذنوب، فإنهن إذا اجتمعن على رجل يهلكنه -وفي رواية-: كقوم نزلوا ببطن وادٍ، فجمع هذا عوداً، وجمع هذا عوداً، حتى جمعوا حطباً كثيراً فأنضجوا لحمهم) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما قال الشاعر: لا تحقرن من الذنوب صغيرها إن الصغير غداً يعود كبيراً إن الصغير وإن تضاءل قدره عند الإله مسطر تسطيراً فجدير بكل عبد أن يحدث توبة لكل ذنب. والله الموفق.

تفسير سورة العاديات

تفسير سورة العاديات في هذه السورة يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء من مخلوقاته وهو الخيل، ثم يستمر في وصف سرعتها وشدة اندفاعها نحو العدو من آثارها، وكل هذا ليبين الله طبيعة هذا الإنسان، وأنه ينسى كل خير ومعروف، وينكر ويجحد الجميل من ربه سبحانه، وإذا نظرت إليه تجاه الدنيا وجدته شديد المحبة للمال والجاه والسلطان، لكن لا بد أن يعلم هذا الإنسان أنه إذا بعث إلى ربه، وأخرج مكنون صدره فإنه محاسب على انشغاله بهذه الدنيا ونسيانه لطاعة ربه سبحانه وتعالى.

تفسير سورة العاديات

تفسير سورة العاديات باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:1-5] كل هذا لبيان ماذا؟ قال تعالى بعد هذا: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: لكفور جحود، فإلى متى أنت وحتى متى تذكر المصائب وتنسى النعم؟!

بيان المراد بالآيات إذا حملت العاديات على أنها الخيل

بيان المراد بالآيات إذا حملت العاديات على أنها الخيل قال تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1] ، أقسم الله بالعاديات، ما هي هذه العاديات؟ العدو: هو الجري، فالحقيقة أنه قسم بصفة. فـ (العاديات) جمع عادية، والعدو معروف وهو: الجري، فأقسم الله سبحانه وتعالى بشيء يجري ويضبح، والضبح هو صوت النفس الشديد بعد الجري، فما المراد بالعاديات التي أقسم الله بها؟ جمهور العلماء قالوا: العاديات هي الخيل التي تجري وتعدو بسرعة نحو العدُوّ، هذه المناظر كان يعرفها العرب ويألفونها، مناظر تستقر في الأذهان؛ لأن على إثرها يتم وقتل أو أسر أو نصر أو هزيمة، خيول تجري مسرعة بسرعة فائقة مندفعة نحو العدو، فيحصل معها إما قتل لهذا أو قتل لذاك، أو نصر لهذا وهزيمة لذاك. فأقسم الله بالعاديات التي هي الخيول التي تجري مسرعة نحو العدو، وتضبح بعد جريها، أي: تأخذ نفساً شديداً وتحمحم حمحمة بعد هذا الجري، فالضبح هو: صوت الأنفاس، وهو الحمحمات، (وَالْعَادِيَاتِ) أي: والخيل العاديات التي تجري نحو العدو بسرعة. وهنا لفتة سريعة: وهي أن الله أقسم بالخيل العادية ولم يقسم بالخيل التي تحمل الزبالات، بل بالخيل العادية القوية التي تجري نحو العدو، فهناك تفاضل بين الدواب، فهناك فرس نشيط همته عالية، وفرس كسول، فرس لا يرضى أن يقف عند المزابل بل يمشي سريعاً إلى القتل والقتال، وفرس خامل بليد، رضي بالذلة والهوان، ورضي بالوقوف عند المزابل إلى غير ذلك. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:2] ، يوري أي: يستخرج الشرر، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] أي: التي توقدون وتستخرجون شررها {أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة:72] ، (فَالْمُورِيَاتِ) ، أي: الخيل إذا جرت واحتكت حوافرها بالأحجار وكانت سريعة في جريها، يخرج شرر من أثر احتكاك الحوافر بالأحجار، فتقدح الشرر أثناء جريها من شدة سرعتها. العاديات ضبحاً: الخيل التي تجري بسرعة فائقة، فيخرج منها النفس، وتخرج منها الحمحمات، وهذه الخيول توري النيران وتستخرج الشرر من الأحجار التي تحتك بها أرجلها. (فَالْمُغِيرَاتِ) أي: الخيل التي تغير على العدو صباحاً، {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:3] أي: الخيول تجري في الصباح مسرعة نحو العدو، يسمع لأنفاسها صوت، تحتك حوافرها بالأحجار فتستخرج الشرر، هذا كله على تأويل العاديات على أنها الخيل. {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات:4] أي: بهذا الفرس القوي السريع، ومعنى (أثرن) : أي: رفعن، والنقع: هو الغبار، يعني: من سرعته هيج التراب، حين تمشي السيارة مسرعة يخرج الغبار خلفها فكذلك الخيل، أثرن به نقعا، من الإثارة، فينفعل ويخرج كل ما عنده. {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} [العاديات:5] أي: توسطنا بهذه الخيول جموع العدو، فالخيل هذا تمثيلها، خرجت مسرعة شديدة في الصباح في اتجاه العدو، فاستخرجت عند جريها الشرر من الأحجار، فتوسطت المعركة، فأثارت الغبار أثناء سيرها، ودخلت في وسط جموع العدو، وهذا التأويل عليه الأكثر.

بيان المراد بالآيات إذا حملت العاديات على أنها الإبل

بيان المراد بالآيات إذا حملت العاديات على أنها الإبل تأويل آخر: أن المراد بالعاديات التي تعدو الإبل التي تأتي مسرعة سرعة زائدة، فتأتي مسرعة من عرفات إلى مزدلفة بعد الحج. (وَالْعَادِيَاتِ) الإبل التي تعدو من عرفات إلى مزدلفة، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1] نفس الشيء يسمع لها صوت {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:2] نفس الشيء تستخرج الشرر بأقدامها. {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:3-5] قال بعضهم: إن (جمعاً) هنا هي مزدلفة، فمزدلفة يطلق عليها جمع، وهي أيضاً تغير في الصباح، أي: تتجه من مزدلفة إلى منى بعد الفجر، وهنا تأويلان للآية: من العلماء من نزل العاديات على الخيل. ومنهم من نزلها على الإبل. والأمر في هذا قريب. ومنهم من نزلها على القتال. ومنهم من نزلها على الحج، والأمر يحتمل الاثنين معاً كذلك، والتفسير بالعموم أولى من التفسير بالخصوص. وهذا القول الأخير على ما يحضرني مروي عن علي رضي الله عنه. {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:5] ، إما بالجمع الذي هي جموع العدو، وإما جمع التي هي مزدلفة.

تفسير آيات جواب القسم في سورة العاديات

تفسير آيات جواب القسم في سورة العاديات {إِنَّ الإِنسَانَ} [العاديات:6] ، أقسم الله بهذا القسم لأجل شيء {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] ، (كنود) أي: جحود كفور، يذكر المصائب وينسى النعم قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود:9-10] .

معنى قوله تعالى: (وإنه على ذلك لشهيد)

معنى قوله تعالى: (وإنه على ذلك لشهيد) {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:6-7] ، الضمير في قوله: (وَإِنَّهُ) يرجع إلى من؟ من العلماء من قال: (وَإِنَّهُ) راجع إلى الرب، أي: إن الرب شهيد على كفر الإنسان وعلى جحوده، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7] ، أي: وإن ربه على كفر عبده وجحوده لشاهد. ومنهم من قال: إنه قوله: (وَإِنَّهُ) ، راجع إلى الإنسان، أي: والإنسان شاهد على نفسه، بأنه جحود لنعم الله سبحانه وتعالى، تشهد عليه في الآخرة جوارحه، وضميره يشهد عليه كذلك أنه جحود، {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] ، أي: كفور جحود، هذا على الغالب، لكن لا يمنع أن من الناس من هو مؤمن، فقد يتجه إلى الآية قولان: أحدهما: أن المراد بالإنسان الإنسان الكافر، لكن إن قيل: ومن أين هذا التقييد بالكافر؟ فالإجابة: أن الشرع يستعمل اللفظ على أغلب ما وضع له، قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، والآية الأخرى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:99] ، فأطلق على الأكثر، أي: فالمراد الأكثر والأغلب. أو يقال: إن عموم الناس لا يستطيعون أن يؤدوا شكر نعم الله سبحانه وتعالى، فمع صلاة الإنسان وصومه فذلك لا يوازي نعم الله عليه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا) فالوجهان واردان.

معنى قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد)

معنى قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد) {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات:8] ، رجع الضمير إلى الإنسان، (وَإِنَّهُ) ، أي: الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ) : الخير في أكثر الآيات في الكتاب العزيز يطلق على المال، {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180] ، أي: إن ترك مالاً. {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات:8] ، أي: المال، وشاهدها: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20] ، أي: (وَإِنَّهُ) ، طبيعة الإنسان، {لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] ، محب المال بشدة: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا) .

معنى قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور)

معنى قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) {أَفَلا يَعْلَمُ} [العاديات:9] ، هذا الإنسان الجحود المحب للمال الشديد، {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات:9] ، أي: استخرج وأثير من في القبور، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] ، (حصل) أي: مُيز وبُين ووضح ما في الصدور. فالمعنى: هذا الكفور المحب للمال حباً شديداً، الذي حمله حبه للمال على إضاعة دينه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه) ، أي: حرص الشخص على المال، وحرصه على الشرف والجاه والمنصب يفسد دينه كما يفسد الذئبان الجائعان زريبة الغنم إذا نزلا فيها، كيف يصنعا بالغنم؟ يمزقان الغنم تمزيقاً، كذلك هذا الحريص على المال والجاه والشرف، يمزق الدين كما تمزق الذئاب الجائعة الأغنام في زريبة الغنم. فالله يقول: أفلا يعلم هذا الإنسان الحريص على المال المحب له، الذي حمله هذا الحب على اكتسابه من الحرام وعلى ظلم العباد والتعالي عليهم والتكبر، {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات:9] ، أي: استخرج وأثير من في القبور، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] . لأنه معلوم بداهة أنك مسئول حينئذٍ، إذا أخرجت من القبر وحصل ما في صدرك، فبُين أن هذا خير هذا شر نيته صالحة نيته فاسدة.

معنى قوله تعالى: (إن ربهم بهم يومئذ لخبير)

معنى قوله تعالى: (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11] ، هنا تقدير، أي: وسيجازيهم على ما صنعوا أو يعفو عنهم إن شاء، فإن قال قائل: لماذا قيل في هذه الآية: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11] ، أليس الله بخبير أيضاً بعباده في الدنيا؟! ف A أن الآية كقوله أيضاً: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ، أليس الملك في الدنيا لله كذلك؟! فلماذا قيل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ؟ وذلك والله أعلم لأن المقام بالنسبة للملك أنه قد يدعي رجل في الدنيا أنه ملك، وينازع ربه أمام الناس، لكن يوم القيامة ليس هناك مدع لهذا، فلا أحد يدعي أبداً أنه الملك، وأيضاً في قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11] ، المقام مقام حساب لما في الصدور؛ لأنها استخرجت، فالمقام مقام حساب حتى تبين رهبة المقام، وحتى تدل هذه الدلالات على التحذير والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تفسير سورة الفيل

تفسير سورة الفيل تتجلى عظمة الله وقدرته في الانتقام من أعدائه والانتصار لأوليائه، وتتجلى هذه العظمة في حماية رب العالمين للبيت الحرام عندما أراد أبرهة الحبشي أن يهدم الكعبة، فأرسل الله عليهم جنداً من جنوده وهو الطير، ترميهم بحجارة قاسية، فأردتهم في الهلاك والخزي.

تفسير قوله تعالى: (ألم ترك كيف فعل ربك بأصحاب الفيل.

تفسير قوله تعالى: (ألم ترك كيف فعل ربك بأصحاب الفيل.) يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1-5] .

الإشارة إلى الرسول بأن الله ناصره كما نصر قومه على أصحاب الفيل

الإشارة إلى الرسول بأن الله ناصره كما نصر قومه على أصحاب الفيل تعد حادثة الفيل من الإرهاصات، كما أن اقتتال الأوس والخزرج يعد من الإرهاصات، أعني: من المقدمات بين يدي بعثة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكتوطئات لبعثة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} [الفيل:1] قال كثير من أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل فما رأى صلى الله عليه وسلم الذي حدث في هذا العهد. فكلمة (ألم تر) في كتاب الله تأتي أحياناً ويراد بها الرؤية الحقيقية، وتأتي أحياناً ويراد بها العلم، كقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] ، وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6] ، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] ، فكلمة: (ألم تر) أحياناً تأتي بمعنى: ألم تعلم، وتكون الرؤية رؤيا بالقلب، أي: ألم تر بعين قلبك، وأحياناً تكون الرؤيا بالعين. فهنا المراد بالرؤيا العلم، أي: ألم تعلم، والهمزة للاستفهام المقتضي التقرير، كما في قول فرعون لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18] أي: قد ربيناك فينا وليداً، فهي همزة للاستفهام الذي يقتضي التقرير، وكما في قول الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح أي: أنتم كذلك. فـ (ألم تر) معناها: ألم تعلم، ومعناها أيضاً: قد علمت يا محمد كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. وفي قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل:1] لم يقل: ألم تر كيف فعل الله بأصحاب الفيل، وأن ربك هو الله، للإشعار بالمؤانسة. وأيضاً قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] معناه أن الله ناصرك، فإنه نصر قومك من قبل على أصحاب الفيل، فكلمة (ربك) هنا تشعر بالمؤازرة والمؤانسة، إذ هو ربك وهو ناصرك سبحانه وتعالى.

ذكر قصة أصحاب الفيل

ذكر قصة أصحاب الفيل أما قصة أصحاب الفيل فإنها لم ترد بسند صحيح لذاته، أي: ليس هناك نص صريح إسناده صحيح لذاته يثبت حادثة الفيل بالتفصيل المعهود، لكن كتاب الله أثبتها إجمالاً، وجاءت الإشارة إليها في بعض الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء عام الفتح، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء يدخل مكة عام الفتح امتنعت ناقته من الدخول، فقال الصحابة: خلأت القصواء، وامتنعت من الدخول، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) ، يعني: أن المانع الذي منع الفيل من دخول مكة هو الذي منع القصواء من دخول مكة. وجاءت جملة أخبار وأحاديث منقطعة ذكرها الطبري رحمه الله، وذكرها ابن إسحاق كذلك في سيرته تفيد أو تذكر تفصيلاً للذي حدث في هذا العام، ولأنها منقطعة؛ نأخذ منها المضمون فقط الذي أيده كتاب الله وأيدته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحاصل من القصص التي أوردوها في هذا الشأن: أن أبرهة الأشرم وكان من ملوك اليمن، وكان قبل ذلك من الأحباش، وكانت اليمن خاضعة للأحباش، وكان نصرانياً، قال القرطبي: عزم أبرهة على هدم الكعبة ونقل وجهة الحجيج إلى بلاده بدلاً من اتجاه الحجيج إلى مكة؛ حسداً من عند نفسه وانتقاماً وثأراً لبعض شيء أصابه وأصاب بلاده من بعض العرب. فعزم على الرحيل لتدمير البيت الحرام ونقل وجهة العباد إلى بلاده، فكان ما ذكره الله سبحانه وتعالى أنه لما اتجه إلى مكة وقبل أن يدخلها أرسل إلى عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سلب منه النعم وسلب الإبل من سائر القرشيين، فجاءه عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستعطفه برد الإبل إليه، بينما أصر أبرهة على هدم الكعبة، فخرج عبد المطلب يدعو ربه سبحانه وتعالى الانتقام من هذا الرجل، فأرسلت الطير الأبابيل التي ذكرها الله في كتابه. هذا بإيجاز شديد؛ لأن القصص لا يثبت لها إسناد، إنما هي مقاطيع وبلاغات وروايات معضلة. وقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] هل هو فيل واحد أم فيلة؟ أكثر أهل العلم على أنها مجموعة من الأفيال، ولم تكن فيلاً واحداً، ولكن أفرد الفيل وأريد به أعظم هذه الأفيال وهو الفيل الذي جندوه لسحب وتدمير الكعبة، ومن العلماء من قال: إنه اسم جنس. {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2] أي: جعل الله تكبرهم ومكرهم في إبطال وضياع. قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:3] الأبابيل: الجماعات الكثيرة المتتابعة.

تفسير قوله تعالى: (ترميهم بحجارة من سجيل)

تفسير قوله تعالى: (ترميهم بحجارة من سجيل) {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] السجيل هو الطين المتحجر القاسي. جاءت طيور كما في كتاب الله سبحانه ترمي هؤلاء القوم بحجارة من هذا الطين المتحجر القاسي، وبعض أهل العلم ذكر أن كل من أصيب بهذا الطين أصيب بمرض الجدري، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يشهد لهذا. وقد ذهب بعض المفسرين وهم قلة قليلة لا يكاد يلتفت لقولهم: أن هذا الذي أصاب أبرهة وأصحابه إنما هو مرض سريع تفشى فيهم جميعاً. وأجيب على هذا بأن قائل هذا القول يحاول أن يمنع هذه المعجزة التي هي انتقام الله من أصحاب الفيل، فقال: ليس هناك شيء، وإنما المرض تفشى في أبرهة وأصحابه، وأجيب على فرض التسليم بصحة هذه المقولة، أن الذي سلط المرض في هذه اللحظة لحظة إرادة التدمير إنما هو الله سبحانه وتعالى، يعني كأنك فررت من شيء فوقعت في شيء آخر، فإن فررت من قدرة الله على إرسال طير أبابيل، فقد وقعت أيضاً في الاستسلام لتقدير الله بإرسال الأمراض في هذه الأوقات. وقوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] وقد أرسلت هذه الحجارة أيضاً على قوم لوط، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] .

تفسير قوله تعالى: (فجعلهم كعصف مأكول)

تفسير قوله تعالى: (فجعلهم كعصف مأكول) قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] . العصف: هو التبن على رأي كثير من العلماء، والمأكول هو الذي قد أكل منه، ومن العلماء من قال: إنه الذي أكل وأصبح روثاً، أي: العصف هو التبن وما تأكله البهائم، فالتبن بعد أن تأكله البهائم يصبح مهروساً على حاله من الإهمال. فمنهم من قال: عصف مأكول، أي: تبن أو علف للبهائم أكل منه. ومنهم من قال: إنه علف البهائم بعد أن أكلته فأصبح روثاً، فهكذا كان حال أبرهة وأصحابه عندما جاءت الطيور وأرسلت عليهم الحجارة، فتمزقت جلودهم وانسلخت عن عظامهم، وأصبح حالهم كالعصف المأكول. وفي هذا بيان لقدرة الله سبحانه وتعالى على الانتقام من أعدائه ولمن أراد ببيته سوءاً، فجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد المطلب ومن معه من القرشيين لم يبذلوا أي شيء في الدفاع عن هذا البيت، إلا أنهم دعوا الله سبحانه وتعالى بأن يهلك العدو، فكانت هذه تقدمة بين يدي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ثم امتن الله على القرشيين بها، كما في السورة التي تليها، والتي جعلها بعض أهل العلم هي وسورة الفيل سورة واحد، ألا وهي سورة قريش. وقد ذكر فريق من العلماء أن أبي بن كعب رضي الله عنه كان يجعل سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة ويفصل البسلمة التي بينهما، أما جمهور أهل العلم فيجعلون الفيل سورة مستقلة وسورة قريش سورة مستقلة.

تفسير سورة قريش

تفسير سورة قريش امتن الله تعالى على قريش بأن جمعهم بعد أن كانوا متفرقين، وأمنهم بعد أن كانوا خائفين، وأطعمهم بعد أن كانوا فقراء جائعين، فكان الواجب عليهم تجاه هذه النعم العظيمة والمنن الكثيرة أن يشكروا الله تعالى حق شكره؛ ومن تمام الشكر وأوجبه تحقيق عبادة الخالق وحده، وصرف جميع أنواع الطاعات والقربات له لا لغيره.

تفسير قوله تعالى: (لإيلاف قريش)

تفسير قوله تعالى: (لإيلاف قريش) قال الله سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1] ، فالذين جعلوها سورة واحدة قالوا: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [قريش:5] ، (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1] ، أي: لتأليف القرشيين ولجمع كلمتهم، فأنتم يا معشر قريش لما أتاكم أبرهة وأصحابه، أوشكتم وأشرفتم على الضياع وعلى الفرقة وعلى الهرب، كل شخص هرب في مكان، وأشرفت القبائل على التكالب عليكم، فلكي تجمع كلمتكم وتتفق وتأتلف أهلك الله عدوكم. فـ (لِإِيلافِ) أي: لتأليف قريش، وجمع كلمتهم جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول، أي: هذا الذي صنعناه بأصحاب الفيل إنما هو لمنفعتكم يا معشر قريش، ولجمع كلمتكم، فهذا قول من ربط بين السورتين.

الاختلاف في تفسير الآية

الاختلاف في تفسير الآية قوله سبحانه: (لِإِيلافِ) من التأليف، والتأليف من معانيه الجمع والاجتماع، فـ (تأليف القلوب) أي: الجمع بين القلوب، (تأليف كتاب) : أي جمع موضوعات الكتاب وضم الموضوعات إلى بعض، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] أي: ثم يجمع بينه، هذا هو وجه الربط، فقوله سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} أي: لتأليف قريش، ولجمع كلمة قريش، ولتوحيد قريش. فهذا قول. القول الثاني: أن السورة مستقلة، فإذاً: ستحتاج إلى تأويل آخر، فيكون المعنى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} لتوحيد قريش، ولجمع كلمة قريش، ماذا صنعنا لتأليفهم ولتوحيد كلمتهم؟ قال تعالى: {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:2] أي: جعلناهم (يألفون) رحلة الشتاء والصيف، أي: يتعودون، تقول: ألِفتُ الشيء: إذا تعودت عليه، وهذا شيء مألوف، أي: شيء معتاد. هذا على التأويل الثاني. فقوله: (إِيلافِهِمْ) أي: تعودهم {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:2] أي: جعلناهم يألفون ويسافرون مع بعضهم رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام، فأنت إذا سافرت مع الناس ازداد التآلف فيما بينكم، وأيضاً لهذا التآليف آمنهم الله من خوف وأطعمهم من جوع، فقد كانوا يسافرون ولا يعترضهم أحد من الناس، على ما سيأتي. الشاهد أن هنا تفسيراً آخر وهو أن: لتأليف قريش ولجمع كلمة هذه القبيلة جعلناهم يألفون رحلة الشتاء والصيف، وسهّلنا عليهم رحلة الشتاء والصيف. وقول ثالث: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} فيه تقدير محذوف، وهو: اعجبوا لتعود قريش على رحلتي الشتاء والصيف، وبعدهم عن طريق الإيمان وعن طريق الله سبحانه وتعالى. إذاً: هناك ثلاثة أقوال مشهورة في تفسير قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} .

مناقب وفضائل قريش

مناقب وفضائل قريش في قبيلة قريش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم جملة مناقب وفضائل: منها: ما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، قبيلة كنانة اصطفاها الله من أولاد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ، فقريش من نسل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لأن قبيلة قريش من كنانة، وقبيلة كنانة من ولد إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم، فعلى ذلك كل قرشي يرجع نسبه إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام. هذا الحديث: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) فيه أن كل هاشمي قرشي، وليس كل قرشي هاشمياً. ومن مناقبها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) ، أي: من شروط إمام المسلمين الذي هو الإمام الأعظم الذي يحكم بلاد المسلمين كلها؛ من شروطه أن يكون قرشياً؛ لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) . وفي الحديث زيادات: (لا ينازعهم أحد إلا أكبه الله على وجهه) ، وهذه من أقوى الاعتراضات التي كانت تدمِّر جماعة التكفير والهجرة، فـ شكري مصطفى الذي شُنِق كان يقول: إنه إمام المسلمين، كان يقول حتى في المحاكمات: أنا شكري مصطفى إمام المسلمين، فكان الإخوة الذين بصرهم الله من الذين التحقوا بجماعتهم وأراد الله لهم الابتعاد عنها يحتجون عليه بهذا الحديث، أنت لست قرشياً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأئمة من قريش) ، فبأي وجه حق تستحق الإمامة. وإن قال قائل: لماذا الأئمة من قريش؟ نقول: هذه إرادة الله، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فللقرشيين مواصفات طبعاً الأئمة من قريش وبني هاشم من قريش، وأي هاشمي يصلح أن يكون إماماً، وأي قرشي يصلح أن يكون إماماً، فإذا قال قائل: لماذا هذا؟ فنقول: إن الله سبحانه وتعالى أراد ذلك فضّل قوماً على قوم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم) . وفي رواية ثالثة: (الأئمة من قريش ما أقاموا الدين) ، وفي بعض الروايات: (إذا استرحموا رحموا، وإذا عاهدوا وفوا، وإذا حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وصحح بعض أهل العلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (للقرشي قوة رجلين من غير قريش) ، ومن العلماء من حمله على الجماع. وفي نسائهم فضل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير نساءٍ ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغر، وأرعاه على زوج في ذات يده) ، والحديث ثابت في الصحيح. فهذه مناقب لقبيلة قريش، والله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس، ويفعل الله ما يشاء، ويحكم الله سبحانه وتعالى بما يريد، والله فضل بعض الناس على بعض. فمن شروط الإمام الأعظم الذي يحكم المسلمين عامة، أن يكون قرشياً فتصور الإمامة للمسلمين ليس كتصورها الآن، ليس في الإسلام أن كل دولة يكون لها رئيس أو ملك، بل الذي في الإسلام هكذا، في الإسلام أن للمسلمين كلهم إماماً واحداً، وهذا الإمام له شروط مبسوطة في كتب الفقه، وهذا الإمام يرسل أمراءه على البلدان، أميراً على مصر، أميراً على اليمن، أميراً على الحجاز، أميراً على المغرب، أما الآن فغيروا حتى اسم الإمام إلى الرئيس في نظام الجمهوريات التي ظهرت.

تفسير قوله تعالى: (إيلافهم رحلة الشتاء.

تفسير قوله تعالى: (إيلافهم رحلة الشتاء.) قال الله سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1-2] ، (إِيلافِهِمْ) أي: تعودهم، كانت رحلة إلى اليمن شتاءً ورحلة إلى الشام صيفاً، لبرد الشام الشديد. وفي قوله: (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) في معرض الامتنان، يدخل ضمناً الحث على الأسفار لطلب الرزق، لأن الله امتن عليهم أنه عوّدهم على رحلة الشتاء وعلى رحلة الصيف، فلما امتن الله عليهم بهذا الامتنان أفاد أن هذا عمل محمود، والأسفار لكسب الأرزاق عمل مشروع في كتاب الله، قال الله سبحانه: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] . وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى} [آل عمران:156] ، فقوله: (ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ) يفيد جواز السعي للتجارة، وقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] ، فالضرب في الأرض والسفر للبحث عن الرزق سبيل مسلوك سلكه من كان قبلنا، وأقره شرعنا، ما دام التماس الرزق من الحلال.

تفسير قوله تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت.

تفسير قوله تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت.) {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3-4] . قلنا: إن الله سبحانه وتعالى يذكر الناس بنعمه، ثم بعد أن يذكرهم بنعمه يطلب منهم طاعته سبحانه وتعالى، فمثلاً --ولله المثل الأعلى- أنا فعلت لك كذا وكذا فبناءً عليه عليك أن تفعل كذا وكذا، فالله سبحانه أنعم على قريش بنعم: أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فمن ثم طلب منهم أن يعبدوا رب هذا البيت. والأدلة على ذلك كثيرة في كتاب الله، قال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، فلهذا الاصطفاء {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144] ، أي: خذ ما آتيتك بقوة. وقال تعالى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42] ، ثم يأتي التكليف: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] . وقال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4] ، كل هذه نعم، فعلى ذلك {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7-8] . وقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6-8] ، لذلك {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9-11] . كذلك في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي ذكر فيه الثلاثة: الأبرص والأعمى والأقرع، لما أتاهم الملك وقال لأحدهم: كأني بك فقيراً فأغناك الله، وأقرع فرزقك الله شعراً جميلاً، هل من شاة أتبلغ بها في سفري، فيذكر العبد الناس بنعم الله عليهم ثم يطلب منهم التكاليف، وهذا واضح. فلذلك قال سبحانه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3] ، الذي هو البيت الحرام، وجاءت فيه جملة فضائل، والله تعالى هو رب الأرض ورب البيوت كلها، لكن نسبة البيت إلى الله هنا نسبة تشريف، وتخصيصه بالذكر لتشريفه.

تفسير قوله تعالى: (الذي أطعمهم من جوع.

تفسير قوله تعالى: (الذي أطعمهم من جوع.) قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] . فنعمة الأمن نعمة يجب أن يُشكر عليها الرب سبحانه وتعالى، فمثلاً: أنت تنام في بيتك آمناً مطمئناً، وغيرك يكون نائماً ويتوقع أي يوم أن ينزل به بلاء، يتوقع أي عدو يغير عليه في الليل، يتوقع أن يهجم عليه الكفار كاليهود في بلادهم. فنعمة الأمن تحتاج إلى شكر، وقل المتفطنون لذلك، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة:11] ، أي: هو الذي منعهم عنكم سبحانه وتعالى. قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] ، كيف آمنهم من خوف؟ كانت القرى حول مكة يغار عليها، وتسلب أموالها، وتسبى ذراريها، وتنتهك حرمات نسائها، أما مكة فكان الرجل يلتقي بقاتل أبيه فيها ولا يعترضه بسوء، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت:67] فكان المشرك يأتي إلى مكة، ويقابل من قتل أباه في الطريق فلا يعترضه بسوء؛ لأنه داخل الحرم. وكان أهل مكة أيضاً إذا سافروا وعرف الناس أن هؤلاء من مكة وقروهم غاية التوقير واحترموهم غاية الاحترام، وخاف أحدهم أن يمس هؤلاء بسوء، وخاصة لما حدثت حادثة الفيل وجاءت طيرٌ أبابيل دمرت أبرهة بعد أن أذل أبرهة العرب. فإن أبرهة لما قدم من اليمن، فكانت كل منطقة يمر بها ينزل بها العذاب، وينتقم من أهلها أشد الانتقام، فلما جاء أبرهة وحل به ما حل على مشارف مكة، عندها وقّر العرب أهل مكة غاية التوقير، ووقّر العرب حرمات مكة غاية التوقير بعد ذلك؛ لأنهم قالوا: هذا أبرهة ملك صُنع به الذي صنع، فدل هذا على حرمة هذه البلدة وعلى حرمة أهلها، فهذا سبب توقير الناس للقرشيين.

تفسير سورة الماعون

تفسير سورة الماعون من خصال الكافرين الذين يكذبون بيوم الدين أنهم يطردون الأيتام ويصرفونهم عن الأبواب، ولا يحثون على إطعام المساكين والمحتاجين، أما المراءون في الصلاة والساهون عنها فقد توعدهم تعالى بالويل وهو العذاب الشديد.

اتصاف المكذبين بظلم الأيتام والمساكين

اتصاف المكذبين بظلم الأيتام والمساكين قال الله سبحانه وتعالى في سورة الماعون: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:1-2] (الدين) ، الدين هو البعث والجزاء، فالذي يكذب بالدين هو الذي يدع اليتيم، لكن هل كل من يدع اليتيم يكذب بالدين؟ لا يكاد ينعكس لما سيأتي، فالذي يكذب بيوم القيامة، وبالجزاء، وبالحساب، لماذا سيعطف على اليتيم؟ فإذا كان الشخص غير مقر بالبعث ولا بالجزاء، فلماذا إذاً سيكرم اليتيم؟ لذلك أذكّر دائماً بأن تقرير البعث في قلوب العباد، وتذكير الناس بالبعث وبيوم القيامة أصل في صلاح الناس، وفي حسن تصرفاتهم؛ لأن هذا المعتقد ينعكس على أفعال العباد: يمنعهم من السرقة والزنا والغش والخداع. يقول الله سبحانه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1] أي: بالجزاء والحساب، هذا الذي يكذب بالدين يدع اليتيم، أي: يقهر اليتيم ويطرده طرداً شديداً. {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:2] : فالدع هو الطرد والدفع بشدة، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] ، وقوله: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ} [الماعون:2] أي: يطرد اليتيم ويصرفه عن الأبواب. قال الله: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:3] ، هذه الآية فيها إشارة إلى أن دفع اليتيم وزجره من أعمال المكذبين بالدين، أي: من أعمال الكفار. وإذا كانت هذه الخصلة من أعمال الكفار، وأنت مأمور ابتداءً أن لا تتشبه بالكفار ولا بأفعالهم، فعليك أن ترحم اليتيم، ولا تدفعه عن الأبواب، فالذي يدفع اليتيم عن الأبواب هو الكافر. فعلى ذلك عليك أيها المسلم أن لا تطرد يتيماً عن بابك، ولا تستعمل العنف والشدة مع الأيتام، لأن ذلك من فعل الكفار، وهذا من محاسن ديننا، ومن أصول ديننا؛ فقد جاءت جملة أحاديث وآيات في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد. فقد أتت امرأة معها ابنتان إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تسألها الصدقة، فما وجدت عائشة في بيتها إلا تمرة، فأعطتها إياها، فأخذت المرأة التمرة فقسمتها بين ابنتيها، فتعجبت عائشة من صنعها، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن، كن ستراً له من النار) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وفرق بين أصبعيه) . وقد قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220] . وقال الله في شأن اليتامى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] ، فإذا كنت قائماً على أيتام أو على أموالهم فأدبت الأولاد، واستثمرت لهم الأموال، فمن الصحابة من كان يتحرج عن التعاملات مع الأيتام تماماً خشية أن يقع في ظلمهم، فالله قال رفعاً للحرج عن هذه الأمة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] أي: يعلم هل نيتك إصلاح للأيتام، ويعلم نيتك وأنت تضرب اليتيم هل تضربه للتأديب، أم تضربه استضعافاً له وإذلالاً له؟ قال تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:3] أي: هذا الكافر من صفاته أنه لا يحث غيره على طعام المسكين، لأن الحض على أفعال الخير من خصال أهل الصلاح، أفعال الخير بصفة عامة والتحريض عليها من أفعال أهل الخير وأهل الصلاح، قال الله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال:65] ، وقال تعالى في آية الفجر: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18] ، فمن خصال المؤمن أنه يحث غيره على فعل الخير، والذي لا يحث غيره على فعل الخير مذموم. ومن خصال الكفار أنهم لا يحضون أو لا يتحاضون فيما بينهم على إطعام المسكين، فأنت يا مؤمن يستحب لك أن تحض غيرك على إطعام المسكين وعلى أفعال البر، فالمفهوم المخالف له اعتباراته في الاستدلال.

جمع الأدلة واستكمالها قبل الحكم

جمع الأدلة واستكمالها قبل الحكم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] . وقد أفرد بعض أهل العلم هنا فصلاً طويلاً في التأكيد على قاعدة وجوب الأخذ بعمومات الأدلة وعدم الاقتصار على دليل واحد عند تقرير الأحكام أو القضايا، فإذا جئت مثلاً وأخذت آية واحدة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] كما قال أحدهم: ما قال ربك ويل للذي سكروا وإنما قال ويل للمصلينا وبنيت عليها العمل ضللت. لكن حتى يستقيم لك الحكم فلابد أن تأخذ بالأدلة التي وردت في الباب كلها: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] . (الويل) وادٍ في جهنم، أو هو التوعد بالهلاك والعذاب الشديد. {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] أصل يركز عليه، فعند البحث في مسألة عليك أن تأخذ مجمل الأدلة التي وردت فيها، وتصدر حكماً عاماً في شأنها، فمثلاً: في مسألة الشفاعة إذا أخذت دليلاً واحداً وقعت فيما وقع فيه المعتزلة حيث نفوا الشفاعة لأهل الكبائر، واستدلوا بقول الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، وقال: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70] . لكن أهل السنة لما أتوا بالأدلة الأخرى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] أثبتوا الشفاعة؛ لكنها بإذن الله، فلا بد من الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة الواحدة من كتاب الله ومن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لنستخرج حكماً فقهياً ينتظم من هذه الأدلة جميعاً. فمثلاً أذكر أخوة كان أحدهم يضرب ابنه ضرباً شديداً إذا رآه يشرب قائماً، ولعل عدداً من إخواني يذكرون هذا، كانوا يضربون الولد ضرباً شديداً إذا شرب قائماً، ويستدلون بحديث: (زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً) والحديث صحيح، لكن ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام شرب قائماً، في البخاري وفي مسلم من حديث علي أنه قال بعد أن توضأ: (إن هناك أناساً يزعمون أن رسول الله لم يشرب قائماً، وإني رأيت النبي توضأ نحو وضوئي هذا ثم شرب قائماً) ثم شرب علي قائماً لتأكيد الفتيا. فقد يغيب عليك الدليل فتقع بسبب ذلك في تشدد وتزمت وظلم لنفسك وللعباد، فعليك إذا أردت أن تقرر الحكم في مسألة أن تأخذ المسألة وتدرس الأدلة التي وردت فيها عموماً، وبعد ذلك تستخرج حكماً فقهياً ينتظم به الأدلة مجتمعة، وهذا في جل المسائل، سواء كان في الأدب في الأخلاق أو في العقائد، حتى لا تقع في بدعة من البدع. والشيعة لما أخذوا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في شأن علي: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) قالوا: هذا رسول الله قال لـ علي ذلك، فأي شخص حارب علياً فهو منافق عندهم؛ لأنه قال: القتال أشد من البغض. فقيل لهم: إن الذي قال لـ علي: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) قال في شأن الزبير الذي قاتل علياً (لكل نبي حواري، وحواريي الزبير) ، وقال: (الزبير في الجنة) . فلابد إذاً أن نجمع بين الأدلة التي فيها (الزبير في الجنة) ، وبين حديث: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق) ، وهكذا فالجمع بينها يتعين. وقد فسر العلماء حديث: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) بأن الذي يبغضك يا علي بغضاً شرعياً؛ لكونك ناصرت رسول الله وجاهدت مع رسول الله، ونمت في فراش رسول الله، وكنت سبباً في نصرة الإسلام، الذي يبغضك لهذا السبب منافق، لأنه يبغض الدين، والذي يحبك يا علي لشجاعتك ولقرابتك لرسول الله ولسبقك للإسلام، فهو في الحقيقة مؤمن، لأنه يحب أعمالك الإيمانية، ولكن إذا حصلت مشكلة بينك يا علي وبين صحابي من أجل الدنيا، فما صلة هذه بالنفاق أو بالإيمان، فقد حدثت خلافات بين علي وبين عدد من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كـ العباس بن عبد المطلب في أموال، ومع ذلك لم يخرج العباس إلى حيز أهل النفاق رضي الله تعالى عنه. فالشاهد: أن الجمع بين الأدلة متعين، وهذه الآية كما قال عطية محمد سالم في تتمته لأضواء البيان: إنها أصل في الجمع بين الأدلة عند مناقشة مسألة من المسائل، سواء كانت في الفقه أو في العقائد أو في الأحكام أو في الآداب أو في غير ذلك.

ذم الساهين عن الصلاة

ذم الساهين عن الصلاة قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] وقد قال فريق من السلف: الحمد لله الذي لم يقل: الذين هم في صلاتهم ساهون؛ لأن السهو في الصلاة يعتري كل شخص. السهو عن الصلاة للعلماء فيه أقوال: أحدها: أن المراد بالسهو عن الصلاة تأخيرها عن وقتها، فلا يبالي الشخص أصلى أم لم يصل، دخل الوقت أم لم يدخل الوقت، إن تيسر له صلى في الوقت أو بعد أن فات الوقت، فهذا هو السهو عن الصلاة، كما قال بعض السلف: إنهم لم يتركوها بالكلية، وإنما أخروها عن وقتها، فتوعدهم الله بالويل. ومن العلماء من فسر السهو هنا بمعنى الترك. فإذا كان الله توعد الذين سهوا عن الصلاة وأهملوها حتى خرج وقتها، فمن باب أولى الذي لا يصلي، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] . وفي قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] دليل على أنهم يصلون، فهذا يضعف قول من قال: إن المراد بالترك بالكلية.

ذم الرياء والمرائين

ذم الرياء والمرائين قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:6-7] . (يراءون) أي: يعملون العمل كي يراهم الناس، ولا يبالون برؤية الله لهم، يأتون للصلاة ويصلون كي يراهم الناس فيثنون عليهم، ويعمدون إلى الصدقة فيأتون أمام الناس ويتصدقون عمداً كي يراهم الناس، وهكذا {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] فهذه الآية في ذم المرائين. وهناك آيات أخر فيها ذم المرائين كما في مثل قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:47] وقوله: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38] . وأحاديث وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذم الرياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء) وفي بعض الزيادات: (إذا جاء الناس بأعمالهم يوم القيامة، يقول الله: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء) ، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] . قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:6] أي: يظهرون أعمالهم للناس، {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] (الماعون) : للعلماء فيه أقوال: مدارها على أن الماعون كل ما يستعار كي تقضى به الحاجة، مثل الأمور التي يستعيرها الناس بعضهم من بعض، فمثلاً: طالب يذاكر في الكلية مع طالب، قال له: أعرني كتابك أذاكر فيه إذا لم تكن تذاكر فيه، أو تقول المرأة لجارتها: أريد الخلاط أخلط فيه بعض العصيرات إذا لم تكوني تستعملينه الآن، فكل هذا المنع فاعله مذموم. هل منع الماعون محرم أم مكروه؟ ذهب فريق من العلماء إلى أنه محرم؛ لأن الله سبحانه وتعالى توعد الذين يمنعون الماعون. ومن أهل العلم من قال: إنه مكروه فقط؛ لأن الذم الذي في مانعي الماعون جاء مقروناً بقوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] فالمنع للماعون جاء مقروناً بترك الصلاة. وجمهور العلماء على أن الإعارة مستحبة وليست بواجبة، وهناك نصوص حملتهم على القول بأنها مستحبة وليست بواجبة، ومن هذه النصوص الأخذ بالعمومات، كما ورد في الحديث الذي بمجموع طرقه ممكن أن يحسن: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه) ، وقوله: (هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) هذه النصوص تحمل العلماء أحياناً على الحكم بأنها مستحبة وليست بواجبة، وهذا رأي جمهور أهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير سورة الكوثر

تفسير سورة الكوثر سورة الكوثر من السور القصيرة ذات الدلالات العظيمة، فإنها ذكرت ما أنعم الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرته بأن يقابل ذلك بالشكر للخالق وحده، وإفراده بالصلاة والقربات. وهذه السورة هي مما استدل به الفقهاء على إثبات البسملة آية في أوائل السور.

المراد بالكوثر

المراد بالكوثر باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فيقول الله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ما المراد بالكوثر؟ من العلماء من فسر الكوثر بتفسير خاص، ومنهم من فسره بتفسير عام، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكوثر نهر أعطانيه ربي عز وجل) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر أعطانيه ربي عز وجل) ، وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الكوثر بحوضه صلى الله عليه وسلم، فلرسول الله حوض (ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً) ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم للكوثر تفسيران: التفسير الأول: أن الكوثر هو نهر. التفسير الثاني: أن الكوثر هو حوض للنبي صلى الله عليه وسلم. وبالنسبة للأحاديث التي أثبتت الحوض لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أحاديث متواترة، جاءت من عدة طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث المتواترة أصح الأحاديث على الإطلاق، فحديث الحوض من الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن العلماء من جمع بين القولين: أن الكوثر هو الحوض، وأن الكوثر هو النهر، وقالوا: هو نهر يصب في الحوض. وورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الكوثر هو الخير الكثير الذي أعطاه الله للنبي صلى الله عليه وسلم، فقيل لـ سعيد بن جبير الراوي عن ابن عباس: إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكوثر هو الحوض) ، قال: الحوض من الخير الكثير الذي أعطاه الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم) . فـ ابن عباس يرى التفسير بالأعم، فالخير الكثير يدخل فيه الحوض، والنهر، ويدخل فيه القرآن الذي آتاه الله للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والمقام المحمود والشفاعة العظمى، ويدخل فيه كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وسيد ولد آدم، وكون أمته صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، وكون أمته شهيدة على سائر الأمم، فكل المناصب التي أعطاها الله للنبي صلى الله عليه وسلم تدخل في الكوثر.

التفسير بالأعم لا ينافي التفسير بالأخص

التفسير بالأعم لا ينافي التفسير بالأخص من المفسرين من إذا فسر يفسر بالتفسير الأعم، ومنهم من إذا فسر يفسر بالتفسير الأخص، وهذان مسلكان للمفسرين، مثال ذلك ما ورد في تفسير (الغاسق إذا وقب) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة لما رأى القمر: (يا عائشة! استعيذي بالله من هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) ، فورد أن الرسول فسر الغاسق إذا وقب بالقمر. ومن العلماء مع ورود حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي فيه أنه فسر الغاسق إذا وقب بالقمر، قال: الغاسق إذا وقب هو الليل إذا دخل، وقال: لا تعارض بين تفسير الغاسق إذا وقب بالقمر، وتفسيره بالليل إذا دخل، فالليل إذا دخل يدخل فيه مجيء القمر، لكن دخول الليل فيه أشياء أخرى يستعاذ بالله منها: كانتشار الجن والشياطين، وانتشار الحيات والعقارب، وانتشار اللصوص، وهناك أمور تدبر في الليل كثيرة منها: ما يأتي من الغاسق إذا وقب، ومنها ما يأتي من القمر أو يأتي القمر معها. فالشاهد: أن هناك من يفسر بالأعم، وهناك من يفسر بالنص الوارد عن رسول الله. ونذكر مثالاً آخر: قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] فسر الرسول صلى الله عليه وسلم التثبيت في الحياة الدنيا وفي الآخرة أنه إجابة المؤمن في قبره إذا سئل: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ديني الإسلام، نبيي محمد صلى الله عليه وسلم. ومن العلماء من فسر الآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} بتفسير أوسع فقال: هو التثبيت على الإيمان في الدنيا، التثبيت على النطق بالشهادتين في القبر، والتثبيت على الصراط، وعند الأسئلة التي توجه إلى العبد يوم القيامة. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] الخطاب أو السياق كله جاء في خطاب أزواج النبي؛ لأن الآية مصدرة بـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] إلى قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34] الآيات كلها في نساء النبي، فقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فيه تفسير أو بيان أن المراد بآل البيت: الأزواج، فمن العلماء من جنح إلى هذا، وآخرون قالوا: هي أعم من الأزواج؛ لأن النبي لما نزلت الآيات دعا علياً وحسناً وحسيناً وفاطمة ووضع عليهم الكساء وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) الشاهد: أنه أحياناً تكون هناك تفسيرات عامة، وتفسيرات خاصة تدخل تحت التفسيرات العامة، ولا يكون هناك تعارض بين التفسيرين. فالتفسير الأعم يكون في الغالب أحوط؛ لأنه تدخل فيه مفاريد التفسيرات.

إعطاء الله الكوثر لنبيه صلى الله عليه وسلم

إعطاء الله الكوثر لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول الله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] فالله يمتن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإعطائه الكوثر، فإن قال قائل: أليس المن مذموماً في شرعنا؟ والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) فثبت بهذا أن المن في شرعنا مذموم، فلم يمتن الله عز وجل على نبيه محمد ويقول له: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ؟! الإجابة: إن الله يمتن على من يشاء، إذ الخلق خلقه، والأمر أمره سبحانه وتعالى، وأما بالنسبة للبشر فالمن لا يمنع في كل الأحوال، بل أحياناً إن احتاج الأمر إلى تذكر بعض مناقبك أمام قوم جحدوها وغدروا بك فلا بأس بذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال -وإن كانت المناسبة غير المناسبة- قال للأنصار لما بلغته عنهم المقالة: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: الله ورسوله أمن، ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: الله ورسوله أمن ... ) الحديث. وعثمان أيضاً لما حاصره الثوار وتآمروا على قتله نظر إليهم وقال: (أناشدكم الله، ولا أناشد إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حفر بئر رومة فله الجنة، فحفرتها؟ قالوا: بلى. قال: أناشدكم الله! ألم تسمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزته؟ قالوا: بلى، قال: فبم تقتلونني؟ والله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا ارتددت عن ديني حتى أقتل، ولا قتلت نفساً بغير حق، والنبي يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. فبم تقتلونني؟ ... ) الشاهد: أنه ذكر بعض المناقب التي فعلها، فليس المن -أو الامتنان- مذموماً في كل الأحوال، فإن كان يراد به دفع باطل فلا بأس به، أما على سبيل التعالي والافتخار على الناس فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] فبينت الآية أن المن والأذى يبطل الصدقات ويذهب ثوابها.

وجوب شكر النعم

وجوب شكر النعم يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] والشخص إذا أُنعم عليه بنعمة يجب عليه أن يؤدي شكراً موازياً لهذه النعمة، فالله يقول: يا محمد! أعطيناك الكوثر الذي هو نهر في الجنة، أو الحوض والخير الكثير، فلذلك صل لربك وانحر. فالعبد إذا أنعم الله عليه بنعمة لزمه شكر يوازي هذه النعمة، ولذلك أمثلة متعددة كقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:10-11] ، {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12] إلى قوله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13] ، وقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4] إلى قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7-8] . وقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:6-11] ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42-43] فهكذا إذا أُنعم عليك بنعم لا بد أن تقابل هذه النعم بشكر يكافئها بالعمل، وباللسان، وبالقلب، كما قال القائل: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

تفسير قوله تعالى: (فصل لربك وانحر)

تفسير قوله تعالى: (فصل لربك وانحر) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] ، من العلماء من فسرها تفسيراً عاماً، ومنهم من فسرها تفسيراً أخص، فقال فريق منهم: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي: اجعل صلاتك كلها خالصة لله، ونحرك كله خالصاً لله، لا كما يفعل أهل الشرك إذ يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، ويراءون بصلاتهم، ويشركون في ذبحهم. إذا: المعنى الأول: صل لله، واجعل صلاتك خالصة له سبحانه وتعالى لا لأحد سواه، وانحر لربك كما في الآية: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162-163] . ومن العلماء من قال: إن المراد صلاة مخصوصة، ونحر مخصوص، وهي: صلاة العيد، ونحر الأضاحي يوم العيد. أي: صل صلاة العيد، وبعد أن تصلي صلاة العيد انحر يوم العيد. وثم قول غريب وهو: (صل لربك وانحر) أي: اجعل يدك اليمنى على اليسرى عند النحر، وهذا قول ضعيف، لكن يرد عنده بحث: أين توضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة؟ ولم يثبت في الباب أي خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الثابت في أحاديث عدة أن اليد اليمنى توضع على اليد اليسرى، وأما موضعهما ففيه نزاع: كحديث سهل بن سعد الساعدي في صحيح البخاري: (أمرنا بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) ، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى في الصلاة) ، لكن أين توضع اليمنى على اليسرى؟ هل تحت السرة؟ أم فوق السرة؟ أم بمحاذاة السرة؟ أم على الصدر؟ أم على النحر؟ كخبر ثابت عن رسول الله لم يثبت في هذا الباب شيء، بل ورد فيه أثران، الأول: أثر عن طاووس بن كيسان اليماني عند أبي داود وغيره: (أن النبي كان يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره) لكنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف. الثاني: زيادة في حديث وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى على صدره) زاد (على صدره) وهي زيادة ضعيفة، فهذا أمثل ما ورد في الباب، وليس معنى كونه أمثل ما ورد في الباب أنه صحيح، لكن المعنى أنه أحسن ما ورد في الباب، والله سبحانه وتعالى أعلم. من العلماء من قال: إن اليد تسدل سدلاً وتكون بجوارك، ولا توضع اليمنى على اليسرى، واستدلوا بحديث المسيء صلاته وفيه: (كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، ولم يقل له: ضع يدك اليمنى على اليسرى، وأجيب على هذا: بأن صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤخذ من مجموع الأحاديث التي رويت لا من حديث واحد، والله تعالى أعلم. وقال الله سبحانه وتعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] : النحر يختلف عن الذبح، فالنحر هو الطعن بالسكين في اللبة، فمعنى (انحر) أي: اطعن في اللبة التي هي منتهى اتصال رقبة الناقة بجسمها، هذه اللبة يطعن فيها بضربة قوية باليد، أما الذبح فهو: إمرار السكين على العروق. والذبح يكون في البقر، ويجوز فيها النحر، والنحر يكون في الإبل، ويجوز فيها الذبح أيضاً، والغنم الأفضل فيها الذبح، وإن كان النحر جائزاً. أما جواز النحر في ثلاثتها فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل، عدا السن والظفر أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة) سكاكين الأحباش. وأما جواز النحر في البقر فلحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت كأن بقراً تنحر، فأولتها على أنهم أصحابي الذين قتلوا يوم أحد) الشاهد من قوله: (رأيت بقراً تنحر) . أما استحباب ذبح البقر فلقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فهنا النص في البقر على الذبح. إذاً: في قوله: (فصل لربك وانحر) أربعة أقوال: أحدها: صل عموم الصلوات واجعلها خالصة لله، واجعل نحرك كله خالصاً لله. الثاني: صل صلاة العيد، وانحر الأضاحي. الثالث: صل الفجر وبعد الفجر انحر. الرابع: صل لربك وضع يدك اليمنى عند النحر على اليسرى.

تفسير قوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر)

تفسير قوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر) {إِنَّ شَانِئَكَ} [الكوثر:3] أي: مبغضك، والشانئ هو المبغض، والشنآن هو البغض: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] . فالشانئ هو المبغض، أي: إن مبغضك يا محمد وكارهك {هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] وذلك أنهم كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: اتركوه فهو رجل أبتر، أي: منقطع الذكر ليس له ولد يحمل اسمه بعد موته، فإذا مات انقطع ذكره، فليس له إلا بنات والبنت ذريتها لا تكون باسمها، فيقول الكفار لبعضهم: اصبروا عليه فإنه إذا مات انقطع ذكره، فكان قائلهم يقول هذه المقالة فقال الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] رداً على الذي يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر. والأبتر هو المنقطع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا ذا الطفيتين والأبتر؛ فإنهما يلتمسان البصر، ويستسقطان الحبل) (والأبتر) : الحية التي هي قصيرة الذيل، فهي تلتمس البصر: يعني: تنفخ سمها في العين فتصاب بالعمى، إذا رأت الرجل من بعيد نفخت سمها في عينيه فأصيب بالعمى، فالرسول أمر بقتلها وقتل ذا الطفيتين الذي على رأسه نقطتان من الحيات؛ لأنها نقاط ممتلئة سماً. فالشاهد: أن الأبتر هو المقطوع. وكذلك يقولون: الخطبة البتراء، وهي: الخطبة المقطوعة التي ليس فيها حمد ولا شهادة. والأبتر: منقطع الذكر. فالله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ شَانِئَكَ)) أي: مبغضك ((هُوَ الأَبْتَرُ)) يا محمد.

البسملة في سورة الكوثر

البسملة في سورة الكوثر وسورة الكوثر لما نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم خرج النبي على أصحابه يتلوها ويقول: (نزلت علي آنفاً سورة هي أحب إلي من كذا وكذا، وقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] الآيات ... ) . فلما قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) أخذ فريق من العلماء منها أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من هذه السورة؛ لأن الرسول قرأ بين يديها بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: البسملة آية من سورة الكوثر ومن غير سورة الكوثر، وهذا محل خلاف طويل، خاصة فيما يتعلق بالفاتحة، فمن العلماء من قال: البسملة آية منها لحديث الكوثر، ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] ولا تكون الفاتحة سبعاً إلا باعتبار البسملة آية على رأي الجمهور. ومن العلماء من قال: ليست بآية، لقوله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل: إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي ... ) الحديث. ولم تذكر البسملة، ولما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2] لم يقل: (بسم الله الرحمن الرحيم) (اقرأ باسم ربك الذي خلق) . والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة الكافرون

تفسير سورة الكافرون من أصول هذا الدين وأركانه العظيمة: الولاء للمؤمنين، والبراء من المشركين ومما يعبدون من دون الله. وقد جاءت سورة الكافرون معلنة لهذا المعلم البارز من معالم الدين، فأظهرت البراءة من المشركين ومعبوداتهم، وخاطبتهم خطاباً واضحاً لا نقاش فيه ولا مداهنة، تحقيقاً لمبدأ الولاء الكامل للإسلام وأهله، وتحطيماً لأي مداهنة أو مراوغة في التخلي عن توحيد الله.

البراءة من آلهة المشركين

البراءة من آلهة المشركين ورد في فضل سورة (الكافرون) حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل طرقه مقال، يقول: (سورة (قل يا أيها الكافرون) تعدل ربع القرآن) ، ومن العلماء من حسن هذا الحديث بمجموع طرقه. وهذه السورة قد حملت أصلاً عظيماً من أصول ديننا، وهو البراءة من آلهة المشركين، والتبرؤ من آلهة المشركين قد ورد في كتاب الله في جملة مواطن، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26-27] ، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] . فنتبرأ من آلهة المشركين أمر واجب، ويشهد له أيضاً نصوص أخر كقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ، فالتبرؤ من كل شيء يخالف شرع الله أمر واجب، فتبرأ من الآلهة التي تعبد مع الله، ومن القوانين التي تخالف قانون وشرعة الله سبحانه وتعالى، ومن كل شيء يخالف أوامر الله عز وجل، ومن كل آلهة تعبد مع الله سبحانه وتعالى. فسورة (الكافرون) حملت براءة من البراءات، وهي البراءة من آلهة المشركين، وقد ورد لها سبب نزول، لكن في إسناده ضعف: (أن المشركين عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم يوماً ويعبدون إلهه يوماً، فنزلت السورة) .

الحكمة من التكرير في قوله تعالى: (ولا أنا عابد ما عبدتم)

الحكمة من التكرير في قوله تعالى: (ولا أنا عابد ما عبدتم) قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:1-4] ، لماذا هذا التكرير؟ من العلماء من يقول: إن التكرير للتأكيد، كما في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] ، تأكيداً على أن العسر يتبعه يسر، وكما قال تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3-4] ، وكما قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:24] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لما استأذنه آل أبي جهل في تزويج ابنتهم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: (لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن) ، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور) ، وكما في قول الشاعر: يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه وكما قال الآخر: يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع وهكذا فالتكرير يكون للتأكيد، فمن العلماء من قال: إن التكرير {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] حتى يقطع أمل المشركين ورجاءهم في إيمان الرسول بآلهتهم، أو في عبادة الرسول لآلهتهم. {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] أي: الآن، ثم قال في المرة الثانية: {وَلا أَنَا عَابِدٌ} [الكافرون:4] أي: في المستقبل {مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:4] يعني: لا الآن ولا في المستقبل ولا في مقدم حياتي.

التوفيق بين قوله تعالى: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وإيمان بعض الكفار بعد نزولها

التوفيق بين قوله تعالى: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وإيمان بعض الكفار بعد نزولها قال تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] إن قال قائل: كيف وقد أسلم أناس من الكفار وعبدوا الله سبحانه وتعالى؟ أو كيف نوفق بين قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] مع ما حدث من إيمان بعض الكفار بالله سبحانه وتعالى؟ التوفيق والله أعلم: أن الآية محمولة على الكفار الذين كتب في علم الله أنهم سيموتون على الكفر، فالذين كتب عليهم أنهم سيموتون على الكفر لن يعبدوا إلهك أبداً. وقول آخر: إنهم لن يعبدوا إلهك ما داموا على شركهم، ولن تتحقق عبادتهم لإلهك ما داموا على شركهم، فإن تمسكوا بشركهم وعبدوا الله فعبادتهم لله ليست بصحيحة.

الرد على شبهة الإقرار بدين الكفار في قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين)

الرد على شبهة الإقرار بدين الكفار في قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) هل في الآية الكريمة: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] بأنهم يقرون على دينهم ولا يعترضون؟ الآية وإن فهم منها ذلك، لكن جاءت آيات أخر بعدها تضيق في ذلك بل تنفيه، قال الله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] . وقال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] الآيات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك؛ فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) . وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] فالمفهوم: إذا لم يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فلا تخلوا سبيلهم. فإن فهم من الآية أن الكفار يقرون على كفرهم ولا يمسون بسوء من دول الإسلام، فهذا مدفوع بما ذكرنا من الآيات. أما إن قيل: إن معنى الآية الكريمة: أنتم لكم دينكم وجزاء دينكم أو وجزاء عبادتكم، فالدين أحياناً يحمل على الجزاء؛ فإن حمل على أن المعنى لكم دينكم، أي: جزاؤكم على كفركم، ولي جزائي على إيماني، فهو معنى صحيح، وتشهد له آيات متعددة لقوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] ، وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، وحديث: (كما تدين تدان) إلى غير ذلك. وإن قيل: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6] أي: لكم عبادتكم وستجازون عليها، ولي عبادتي وسأجازى عليها، وليس فيه تعرض للمعاملات الدنيوية؛ فهو أيضاً له وجه قوي. والله سبحانه وتعالى أعلم.

تفسير سورة النصر

تفسير سورة النصر نعت سورة النصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله، وذلك بعد أن تحقق النصر المبين والفتح العظيم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فأمر الله نبيه بعد ذلك أن يستعد لملاقاة ربه، وذلك بالتسبيح والاستغفار.

سبب نزول سورة النصر

سبب نزول سورة النصر سورة النصر آخر سورة نزلت في كتاب الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله، أي: أُخبر فيها أنه سيموت عليه الصلاة والسلام. كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يدخل كبار الصحابة من أهل العلم وأهل الفضل، وكبار الصحابة من البدريين الذين شهدوا بدراً؛ كان يدخلهم عمر إلى مجلسه ويستشيرهم في شئون المسلمين، وكان يدخل معهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وكان صغيراً، كان عمره عشرين سنة تقريباً، فقال الصحابة: لماذا تدخل هذا الغلام معنا، ولنا أبناء مثله أو أكبر من سنه ولا تدخلهم؟ قال: إنه من حيث علمت. أي: إنه ابن عم رسول الله، وله فقه واسع في الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا له بالفقه في الدين، إذ قال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) . قال ابن عباس: فدعاني عمر يوماً، ورأيت أنه ما دعاني إلا ليريهم مني أشياء -أي: يسألني أمامهم- فسأل عمر رضي الله عنه الصحابة: ما تقولون في سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] ؟ ففسروا الآيات على ظاهرها، وقالوا: أمرنا الله إذا انتصرنا ودخل الناس في الدين جماعات أن نسبح بحمد ربنا ونستغفره، قال: ما تقول أنت يا ابن عباس في هذه السورة؟ قال: يا أمير المؤمنين، أما أنا فلا أقول كما قالوا، إنما هذه السورة نعت إلى رسول الله أجله، أي: أخبرت الرسول أنه سوف يموت، فيستعد للموت بالاستغفار. وقد استنبط عبد الله بن عباس ذلك من جملة نصوص: - أن الصلاة تختم بالاستغفار. - وأن نوحاً عليه السلام لما أغرق الله قومه قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] . - وأن المجالس تختم بالاستغفار: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) . - وأن الله قال في الحج: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198] إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] . فالأعمال تختم بالاستغفار، ففهم أن المراد أن السورة نعت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أجله، أي يا محمد! استغفر؛ لأنك ستموت. فقال عمر: (والذي نفسي بيده ما أعلم منها إلا كما علمت يا ابن عباس) . فأقر المحدث الملهم عمر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على هذا الفهم، وكان كذلك، فلما مات لم تنزل سورة بعدها، مات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يقول في ركوعه وسجوده بعد نزول هذه السورة عليه: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) يتأول القرآن. وكان يقول في مرض موته: (اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق) ، وفي رواية أخرى: (وألحقني بالرفيق الأعلى) ، والرفيق: هم الرفقاء من المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

تفسير قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح)

تفسير قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح) قال الله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ، نقل عدد من المفسرين الإجماع على أن المراد بالفتح فتح مكة، وقد كان المشركون في الجزيرة العربية متوقفين في الإسلام، قالوا: محمد يحارب قومه، هو من أهل الحرم، وهم من أهل الحرم، هم قرشيون وهو قرشي، فكانت العرب تترقب من الذي سينتصر؟ إن انتصر المشركون على محمد فنحن باقون على ديننا لا نترك الدين، لأن الأمر لن يتغير، وإن انتصر محمد على المشركين وفتح مكة فسوف ندخل في هذا الدين. كان هذا موقف الجزيرة بصفة عامة، كانوا ينتظرون المعركة الحاسمة، فإذا انتصر محمد فنحن معه، وإن لم ينتصر محمد فهم مع المشركين، قالوا: فلما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة جاءت الوفود تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل فج، وجاءت القبائل فوجاً فوجاً، كل فوج يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ودخلوا في دين الله أفواجاً، وهم محسنون صحابة، لكن الذي أنفق في أوقات الشدة وجاهد قبل الفتح أفضل من الذي علق إيمانه على الفتح، فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) . فهناك أوقات درهم يسبق فيها ألف درهم، وعمل صالح يسبق فيها ألف عمل صالح، ولذلك فإن من أكثر الصحابة الذين أنفقوا مالاً عثمان رضي الله عنه، وإنفاق أبي بكر مع أنه أقل من إنفاق عثمان، لكنه أعظم أجراً من إنفاق عثمان، مع أن في الكل أجراً؛ لأن أبا بكر أنفق وقت شدة المسلمين وحاجتهم إلى المال، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر) . فجُعل الفتح فيصلاً بين المنفقين قبله والمجاهدين قبله، وبين المهاجرين والمنفقين فيما بعد، ولذلك كان الخلفاء الراشدون إذا قسموا أموالاً أو غنائم يعطون الذين هاجروا قبل الفتح أكثر من الذين هاجروا بعد الفتح؛ لأن هؤلاء بذلوا، وهؤلاء وإن بذلوا لكن بذلهم كان في وقت أقل احتياجاً من هؤلاء الذين بذلوا في أول الأمر.

تفسير قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره)

تفسير قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره) يقول الله لنبيه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1-2] وقد أسلفنا أن النعم تحتاج إلى شكر فلذلك قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] . معنى (فسبح بحمد ربك) من العلماء من قال: قل: سبحان الله وبحمده على ظاهرها، وأيد هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة كان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. ومن العلماء من قال: هذا أمر من الله لنبيه بالاستغفار؛ لأن الاستغفار في حد ذاته عبادة تثاب عليه كما تثاب على الذكر والصلاة، فإذا قلت: الحمد لله فأنت مثاب؛ لأنك حمدت الله وعبدته، إذا قلت: أستغفر الله، فهي عبادة أيضاً يثاب فاعلها. ومن العلماء من قال: إذا كان الأفضل والأورع وسيد ولد آدم أُمر بالاستغفار فهو حث لغيره من باب أولى، فكأنه يقول: إذا كان أفضلكم أمر أن يستغفر، فإذاً أنتم أيها المذنبون الأكثر ذنوباً من باب أولى أن تستغفروا. ومن العلماء من قال: إنها على بابها، لكن كما قال القائل: إن أهل الفضل والصلاح يرون صغار الهفوات ذنوباً كبيرة لأنها تتساقط عليهم، كما في الحديث: (إن المؤمن يرى صغار الذنوب كجبل يريد أن يسقط عليه) ، فالمؤمن إذا أذنب ذنباً صغيراً يرى أن هذا الذنب جبل سيسقط عليه، وأما الفاجر فيرى كبار الذنوب كذبابة جاءت على أنفه فهشها فطارت. ولذلك يقول إبراهيم عليه السلام: (نفسي نفسي! إني كذبت ثلاث كذبات) اثنتان منها في ذات الله: لما دعوه لعبادة الأصنام وقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] ولم يخرج لعبادة الأصنام، ولكنه عدها كذبة. فعزز هؤلاء القوم قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، وبقول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) ، وببعض النصوص الأخرى. وأوردوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار اختيارات غيرها أفضل منها، فعوتب فيها، كقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1-2] ، وكقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] ، وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لـ عمر: (لقد عرض علي عذاب أصحابك أدنى من هذه الشجرة يـ ابن الخطاب، ولو نجا أحد لكان أنت يا عمر) ، وبأنه مثلاً لما قيل له: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80] استغفر للمنافقين وبعد ذلك قيل له: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] . قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] في كلمة (سبحان الله وبحمده) فضل، جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) فكلمة (سبحان الله وبحمده) التي هي تأويل {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} من فضلها أنها تمحو الذنوب وتغسل الذنوب. قال عليه الصلاة والسلام أيضاً في نفس الباب: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) . قول الله: (وَاسْتَغْفِرْهُ) أمر بالاستغفار، وهذا الأمر امتثله عموم الأنبياء: فنوح عليه السلام كان يستغفر الله، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] ، وإبراهيم عليه السلام قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] ، وأبونا آدم عليه السلام يقول هو وزوجه: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ، وموسى عليه السلام يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151] ، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يعد له أصحابه في المجلس الواحد: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور) مائة مرة. قال الله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] ، التوبة هي الرجوع، فتب إلى الله، معناها: ارجع إلى الله، يتب الله عليك، أي: يرجع الله برحمته وفضله عليك، وتقول: تب علينا، أي: لا تحرمنا فضلك وتفضل علينا برحمتك وبفضلك. فالتوبة من معانيها الرجوع {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} أي: إذا تبتم إلى الله رجع عليكم فضل الله سبحانه وتعالى، ورجعت عليكم رحمة الله سبحانه وتعالى، وغفر لكم ربكم ذنوبكم. قال الله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] ، فإذا أقبلت على الله فقد قال: (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً) فالأئمة من العباد مذنبون، لذلك قيل في قصة سبأ: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} [سبأ:15] ، وأتبعت البلدة الطيبة بقوله تعالى: {وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] ، فإنكم مع أكلكم وشكركم تصدر منكم زلات وهفوات ويصدر تقصير منكم، فاعلموا أن الرب غفور {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] . قال الله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] أي: رجاعاً للعباد برحمته إذا هم تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

تفسير سورة المسد

تفسير سورة المسد من دلائل نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أنه أخبر عن أمور مستقبلية ستحدث، فكانت كما أخبر، ومن ذلك نبأ أبي لهب وزوجه وما ماتا عليه من الكفر والإلحاد والعياذ بالله، وذلك بسبب أذيتهما لرسول الله وصد الناس عن اتباعه.

سبب نزول سورة المسد ودلالتها على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم

سبب نزول سورة المسد ودلالتها على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1-2] . لهذه السورة سبب نزول ألا وهو ما أخرجه البخاري وغيره، وفيه: (لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا، فنادى بأعلى صوته: يا معشر قريش! يا بني عبد مناف! ونادى على قبائل قريش، فأجابوه إلى طلبه، ومن لم يستطع منهم الإتيان إليه بعث إليه نائباً عنه، فلما اجتمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبهم قائلاً: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد غزوكم، أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم. ما جربنا عليك كذباً قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟! فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1-3] ) . فعلى ذلك فقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] نزل قبل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1-2] . وأبو لهب اسمه: عبد العزى بن عبد المطلب، وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخو عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وامرأته اسمها: العوراء أم جميل، وكانت امرأة مؤذية كافرة، تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. هذه السورة تعد علماً من أعلام النبوة، ودليلاً من أدلة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أخبر عن أمور مستقبلية ستحدث، فحدثت كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه. ومن هذه الأمور المستقبلية أمور جاء ذكرها في كتاب الله، كقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-4] ، وقد كان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الدلائل: الأشراط الصغرى والأشراط الكبرى للساعة. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأشراط الصغرى وبعض الأشراط الكبرى، فوقع جلّ الأشراط الصغرى ووقع بعض الأشراط الكبرى، كالنار التي حشرت الناس، وباتت معهم حيث باتوا، وقالت معهم حيث قالوا. فمن دلائل نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أخبر في هذه السورة أن أبا لهب {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] . ومن مقتضيات ذلك ومن لوازمه: أن يموت أبو لهب على الكفر، فكان من الممكن أن يسلم أبو لهب كما أسلم غيره من الكفار؛ ولكن مات أبو لهب على الكفر، فصدِّقت الآيات بعد موته على الكفر. فكان في قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] وتحقُّقِ ذلك بموت أبي لهب على الكفر علماً من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليلاً من أدلة نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب)

تفسير قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) - يقول الله سبحانه وتعالى: (تَبَّتْ) أي: هلكت أو قطعت. قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، لماذا كرر (تَبَّتْ) (وَتَبَّ) ؟ A من العلماء من قال: إن التكرير للتأكيد، وهو يأتي كثيراً جداً، كما في قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15] وكررت هذه الآية مراراً في السورة. وكما في قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3-4] . وكما في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] . وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل أبي جهل استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن) ، فهذا التكرير للتأكيد. وكقول الشاعر: يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه وقوله: يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع وكل هذه للتأكيد. فمن العلماء من قال: إن قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] تأكيد لهلاك أبي لهب. ومن العلماء من قال: هلكت يداه وقد هلك. وقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، لماذا عُبِّر باليد دون غيرها من الجوارح؟ قال فريق من العلماء: لأن اليد هي التي تسعى بالأعمال؛ أعمال الخير أو أعمال الشر، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10] أي: ذلك بما عملت، فلأن أغلب الأعمال تكون باليد؛ سواء كانت أعمال خير أو أعمال شر، فوُصفت اليد بالهلاك؛ لأنها هي صاحبة الأعمال. ولا يُعترض على هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناسَ على وجوههم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم؟!) لأن المراد هنا أعمال الألسُن؛ لكن الأغلب يكون باليد. وقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] كان أبو لهب يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصور كثيرة من الأذى، فكانت الوفود تأتي إلى مكة وإلى أسواقها يسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما جاء به، وأبو لهب يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم يضربه بالحجارة والطوب من خلفه حتى يُدمي رجليه، ويقول: أيها الناس! هذا هو ابن أخي وأنا أعرَف الناس به، إنه كذاب، يكذب على الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لقريش: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) ، وأبو لهب يتبع رسول الله، ويقول: هذا ابن أخي وهو كذاب ويكذب على الله، وأنا أعرَف الناس به. فكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أذىً شديداً. وفي الحقيقة: أن الأذى بالتكذيب أشد من الأذى بالضرب. ولذلك لما سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ قال: نعم يا عائشة، لقد لقيت من قومك ما لاقيت، وكان أشدها علي يوم أن عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال فردني وكذبني) ، فكان هذا من عبد ياليل بن عبد كلال لرسول الله أشد من الذي لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد. يقول الله سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] أي: هلكت يداه وقد هلك، أو هلك وهلك للتأكيد.

تفسير قوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب)

تفسير قوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب) قال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} [المسد:2] : المال معروف، (وَمَا كَسَبَ) الكسب هنا: قال كثير من المفسرين: إن المراد به الولد، فالمعنى: ما أغنى عنه ماله، وما أغنى عنه ولده. فقوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] أي: ولا الذي كسب. وقد ورد أن ابن عباس رضي الله عنهما تدخل ذات مرة للإصلاح بين أولاد أبي لهب، فجاء أحدهم وكان ابن عباس قد عمي، فضرب ابن عباس ضربة أسقطته على الأرض، فقال ابن عباس: (كسبٌ خبيث) ، فحمل الكسب على الولد. فكثير من أهل العلم من فسروا الكسب هنا بالولد. وبعضهم يحمل الكسب على العمل، كقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164] ، والمعنى: فما أغنى عنه ماله ولا عمله. لكن في مثل هذا الموطن حمل الكسب على الولد أليق؛ لوجود نظائر لهذه الآية تحمل معنى المال والولد {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف:34] ، فكان الافتخار في الغالب بالمال وبالنفر الذين هم الولد والحاشية وغير ذلك. قال تعالى: (سَيَصْلَى) أي: سيدخل ويذوق، {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] أي: ذات شرر.

ذم زوجة أبي لهب

ذم زوجة أبي لهب قال تعالى: (وَامْرَأَتُهُ) : هي الأخرى، واسمها العوراء أم جميل، {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] : لماذا وُصفت بأنها حمالة الحطب؟ لذلك تعليلات عند العلماء: التعليل الأول: أن هذه المرأة كانت تسعى بين الناس بالنميمة، والذي يسعى بين الناس بالنميمة يقال فيه: إنه يحمل الحطب بين الناس، أي: يحمل الحطب لكي يوقد النار ويشعل الفتنة بين الناس. التعليل الثاني: لأنها كانت تحمل الحطب والشوك وتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. التعليل الثالث: أن هذا تعيير لها وتوبيخ، فقد كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وعملها كان الاحتطاب، فالمعنى: كيف تعيرين رسول الله بالفقر وأنت حمالة الحطب؟! التعليل الرابع أن: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: حمالة الذنوب والأوزار.

تفسير قوله تعالى: (في جيدها حبل من مسد)

تفسير قوله تعالى: (في جيدها حبل من مسد) قال تعالى: {فِي جِيدِهَا} [المسد:5] أي: في عنقها، {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5] : المسد فيه أقوال: قيل: إن المسد هو: النار، أي: في رقبتها حبل من نار {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] ، فكما كانت تحمل الحبل في رقبتها وتربط فيه الحطب الذي تؤذي به رسول الله، فكذلك في النار سيكون في رقبتها حبل. وقيل: إن الحبل من مسد: الحبل من الليف، فالمسد هو الليف. وقيل: إن المسد هو السلسلة المذكورة في قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30-32] . فقوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5] أي: يوم القيامة، وهذا يفيد أن الجزاء دائماً من جنس العمل، فكما كانت تربط في رقبتها حبلاً وتربط به الشوك الذي تلقيه في طريق رسول الله، كذلك يُربط في رقبتها حبل من نار يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل. كذلك كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:17] ، لما فكر وقدر وشخص ببصره إلى أعلى وخفض وأدبر واستكبر، قال الله سبحانه: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:17] أي: سيطلع وينزل ويصعد في جهنم ويُرهَق؛ لأن الصعود يُرهِق، فالصعود في النار أشد إرهاقاً؛ لأن المقرر أن الجزاء من جنس العمل. وعلى ذلك جملة أدلة في الخير أو في الشر، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) ، (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ، (ارحموا تُرحموا) ، (اغفروا يُغفر لكم) ، (يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأخفافهم) . فدائماً (الجزاء من جنس العمل) .

حكم قراءة سورة المسد في الصلاة

حكم قراءة سورة المسد في الصلاة بعض الناس يكره القراءة بسورة (تَبَّتْ) في الصلوات! ولا نعلم لهذه الكراهية مستنداً، لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي سورة كسائر سور القرآن، الحرف منها بعشر حسنات كالحرف من غيرها، ولا داعي لوسوسة موسوس وتشغيب مشغب بلا دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. صحيحٌ أن سور القرآن تتفاضل، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن، و (الفاتحة) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه رسول الله، و (آية الكرسي) هي أعظم آي القرآن؛ لكن ليس معنى ذلك أن يُتخذ شيء من القرآن مهجوراً. والله أعلم.

تفسير سورة الإخلاص

تفسير سورة الإخلاص ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وذلك لأن آي القرآن على ثلاثة أقسام: أحكام، وعقائد، وقصص وأخبار، فكانت سورة الإخلاص تحمل العقائد التي توحد الرب وتنزهه عن الشريك والمثيل، والصاحبة والولد، وهي فرق بيننا وبين أهل الكتاب والملحدين.

فضل سورة الإخلاص

فضل سورة الإخلاص هذه السورة تسمى سورة الإخلاص، ومن الناس من يطلق عليها سورة الصمد، وقد جاء في فضلها جملة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن. ثم خرج عليهم فقرأ سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، ثم دخل، وانتظره الصحابة رضي الله عنهم فقالوا: لعله شُغِل! لعله نزل عليه شيء! ثم خرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: يا رسول الله! قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ثم قرأت سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ودخلت، قال: والذي نفسي بيده، إنها تعدل ثلث القرآن) . قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: وذلك لأن العلماء قسموا القرآن إلى: · أحكام. ·عقائد. ·قصص وأخبار. فكانت سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تحمل العقائد، وتخالف بها أمة الإسلام سائر الأمم، فكل الملل وكل الأمم إذا رتبتها من ناحية الأديان تجد لها أكثر من إله، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي تخالف الأمم كلها، فلها إله واحد سبحانه وتعالى، حتى الذين يدرسون الأديان -الآن- في الجامعات الأمريكية وغيرها يقسمون الناس أو العالم كله إلى قسمين: · قسم اتخذ عدة آلهة يعبدها. ·وقسم له إله واحد. فالمسلمون فقط هم الذين تحت بند من يعبد إلهاً واحداً. وجاء في فضلها أيضاً: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من الغزوات أميراً وكان يصلي بالناس، وكلما صلى صلاة قرأ فيها بسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بعد الفاتحة، وإما أنه يقرأ سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بعد الفاتحة ثم يركع، أو أنه يقرأ سورة بعد الفاتحة ويُتْبِعها بسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، أو يقدمها بسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فتضايق أصحابه من ذلك؛ فقالوا له: إما أن تقرأ بسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وإما أن تقرأ بسورة أخرى، أما كل يوم وكل صلاة تقرأ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فلا! فشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: يا رسول الله! إنها صفة الرحمن وإني أحبها، فقال عليه الصلاة والسلام: حبك إياها أدخلك الجنة) . وفي رواية أخرى: (أخبروه أن الله يحبه) . فهذا بعض الوارد في فضلها. وأيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في: · ركعتي المغرب في الركعة الثانية. ·وركعتي الفجر النافلة في الركعة الثانية. ·وركعتي الطواف في الركعة الثانية. ·والركعة الأخيرة من ركعات الوتر. ·وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها مع المعوذات إذا اشتكى، فإذا اشتكى نفث في يديه بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذات ومسح بها رأسه وسائر جسده. ·وكان يقرأ بها أيضاً مع المعوذات عند النوم. ·وكان يقرأ بها مع المعوذات صباحاً ومساء. وقد يقال: وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة الاستخارة؟! وA أما الاستخارة فلم يثبت فيها قراءة، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بقراءة معينة؛ لأن الوارد فيها من حديث جابر: (إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك) ، وليس فيها تفصيل. فحديث جابر في الاستخارة أخرجه البخاري وغيره وهو أصح ما ورد، وهذا لفظه: (إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك) . وكل حديث ورد في الاستخارة غير حديث جابر فهو حديث ضعيف؛ حتى حديث جابر مع كون البخاري رحمه الله أخرجه إلا أن من أهل العلم من تكلم فيه أيضاً كالإمام أحمد، قال: هذا الحديث رُوي من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر، وأهل المدينة إذا كان الحديث غلطاً يقولون: ابن المنكدر عن جابر، وهذا منكَر. لكن من العلماء من حَمَل قول أحمد: (منكَر) على أنه يريد بها التفرد، كما قال العلماء في ترجمة محمد بن إبراهيم التيمي راوي حديث: (إنما الأعمال بالنيات) . فالشاهد: أنه لم يصح في الاستخارة خبر إلا هذا الخبر، أما حديث: (اللهم اغفر لي واختر لي) وغيره، فكل ما ورد في الاستخارة من حديث فهو ضعيف. وعلى ذلك: فالذي يظن أن الاستخارة لا بد أن تتبعها رؤيا من الرؤى يراها في نومه، أو انشراحاً في الصدر، أو أي شيء من ذلك، فليس على هذا دليل؛ وإن حصل فلا مانع من حصوله؛ لكن كونه يسلتزم أن ترى رؤيا فليس هناك دليل يفيد ذلك، إنما الاستخارة دعاء. فالشاهد: أنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بسور معينة، فإنما هي ركعتان غير الفريضة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالإخلاص إذا اشتكى، ويقرأ بها عند نومه، ويقرأ بها في الصباح والمساء، ويقرأ بها أدبار الصلوات، وبعد صلاة المغرب ثلاثاً، وبعد صلاة الفجر ثلاثاً. وهناك عدة روايات تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من قراءة هذه السورة، ولك أن تتخيل كم مرة كان الرسول يقرأ بها في يومه؟! كان يقرأ كل ليلة عند النوم مع المعوذات (ثلاث مرات) ويقرأ بها بعد كل صلاة. (فهذه خمس) . ويقرأ بها أيضاً في الصباح والمساء (ثلاثاً ثلاثاً) . ويقرأ بها في ركعتي الفجر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر يومياً، ولم يتركها في سَفَر ولا في حَضَر. ويقرأ بها في ركعتي المغرب. فهذه ست عشرة مرة. أضف إلى ذلك: إذا اشتكى صلى الله عليه وسسلم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ في كل ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وأينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! قال: إن سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن) . فالآن ينبغي أن تقرأ بها وأنت في مسجدك، وتقرأ بها وأنت على جنبك، وتقرأ بها في طريقك، لِمَا علمته من فضلها.

معنى الصمد وأقوال العلماء فيه

معنى الصمد وأقوال العلماء فيه وقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] : أما (الصمد) ففيها عدة أقوال: القول الأول: أن (الصمد) الذي يصمد إليه الخلق لقضاء حوائجهم، -أي: يتجه إليه الخلق- ولدفع الضر عنهم، ولجلب الخير لهم. القول الثاني: أن (الصمد) هو السيد الذي انتهى إليه السؤدد، أو الذي انتهت إليه السيادة في كل شيء، فهو الكريم الذي إليه المنتهى في الكرم، والرحيم الذي إليه المنتهى في الرحمة، والحليم الذي إليه المنتهى في الحلم، والغني الذي إليه المنتهى في الغنى، وانتهى إليه السؤدد في كل شيء، وانتهت إليه السيادة في كل شيء. القول الثالث: أن المراد بـ (الصمد) الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3-4] . القول الرابع: أن المراد بـ (بالصمد) : المُصْمَد الذي لا جوف له، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله آدم جعل إبليس يطيف به) يعني: يدور حول آدم، ينظر! ما هذا المخلوق الجديد؟! (فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك) ، أي: يسقط سريعاً، وأيُّ شيء يسقطه بسرعة. فمن العلماء من قال: إن (الصمد) : الذي لا جوف له. ومن العلماء مَن قال: (الصمد) يحمل هذه المعاني كلها: ·فهو سبحانه السيد الذي انتهت إليه السيادة في كل شيء. ·وهو سبحانه الصمد الذي يصمد إليه الخلق لقضاء حوائجهم. ·وهو سبحانه الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3-4] . إلى غير ذلك مما ورد في تفسير (الصمد) .

تفسير قوله تعالى: (قل هو الله أحد)

تفسير قوله تعالى: (قل هو الله أحد) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] : بهذه الآية تفارق المشركين، فكل مشرك يخالفك كمسلم في هذه الآية، فأنت تقول: الله أحد، والمشرك يقول مع الله آلهة، سواءً كانت هذه الآلهة أصناماً أو كانت بشراً أو ملائكةً أو شمساً أو قمراً أو غير ذلك، فالمشركون يشركون مع الله آلهةً أخرى كاللات، والعزى، ومناة، وهُبل وغير ذلك، وطائفة من مشركي العرب كان تقول: الملائكة بنات الله، وطائفة من الموجودين الآن يعبدون العجول والبهائم والفروج ونحو ذلك فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تفارق بها جميع مَن أشرك مع الله آلهةً أخرى. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] : لو كان هناك رجل -والعياذ بالله- يرتكب الفواحش ويشرب المسكرات ويتعاطى المخدرات ويسكر ويعربد ويفعل كل شيء؛ لكنه يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، ورجل يقول مع الله إلهاً آخر، ويعمل صالحاً ويتصدق ويصلح بين الناس؛ فأيهما أشر؟ المشرك أشر. فالعقيدة أو الاعتقاد القلبي أهم من العمل ولذلك قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] . فهذا الأخير الذي يسكر ويشرب ويزني ويقتل قد يغفر الله له: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وهو وإن عُذِّب ألف سنة أو ألفين في نار جهنم؛ لكن مآله إلى الخروج باعتباره من الموحدين. أما الآخر فكما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] .

تفسير قوله تعالى: (لم يلد)

تفسير قوله تعالى: (لم يلد) {لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص:3] : أي: ليس له ولد سبحانه، وهذه أيضاً تفارق بها اليهود والنصارى، وتفارق بها طوائف من مشركي جزيرة العرب، فاليهود يقولون: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ، والنصارى يقولون: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ، ومشركو جزيرة العرب يقولون: إن الملائكة بنات الله، فبقولك: {لَمْ يَلِدْ} فارقتَ كل هؤلاء. وقد جاءت الأدلة في كتاب الله متكاثرة ومتضافرة تؤيد هذا المعنى، وهذا لا شك فيه: قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً * قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:1-5] . وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدَّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:88-91] . وقال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4] . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] . والآيات في هذا الباب لا تحصى، ولا أحدٌ أصبر -على أذىً سمعَه- من الله، يدَّعون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم سبحانه وتعالى. فالذي يقول: إن لله ولداً، مشرك، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30-31] .

تفسير قوله تعالى: (ولم يولد)

تفسير قوله تعالى: (ولم يولد) {وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] : هذه أيضاً تفارق بها النصارى الذين يقولون: إن عيسى هو الله، وهذا من العجب! إذ يقولون: إن عيسى هو الله وقد ولدته مريم! فمن هو الله قبل أن تخلق مريم؟! وأين كان الله قبل أن تخلق مريم إذا قالوا: إن عيسى هو الله! ويُجاب عليهم: إذا كان هذا هو الرب، فقبل أن يولد من الذي كان يدبر أمر السماء والأرض؟! وقبل أن تولد مريم، فضلاً عن عيسى ولدها؟! من الذي كان يدير السماوات والأرض ويدبر أمرها؟! وهل بطن امرأة مليء بالدم وقد حوت جوانبُها العذرةَ؛ هل بطن هذه المرأة يسع إلهاً يحكم السماوات والأرض؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وأما أضل خلق الله فهم الهنود الكفرة الذين يقولون: إن إلههم هو العجل والبقرة. {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] أي: لم يكن له قريب، لا أخ، ولا ابن عم، ولا ابن خال، ولا عم، ولا خال.

تفسير قوله تعالى: (ولم يكن له كفوا أحد)

تفسير قوله تعالى: (ولم يكن له كفوا أحد) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] سبحانه وتعالى، فليس له شريك. قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] . وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سبحانه وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوَّاً كَبِيراً} [الإسراء:42-43] . فلو كانت هناك آلهة مع الله لتصارعت هذه الآلهة حتى ترى مَن الذي ينتصر ويدبر أمر السماء والأرض! {سبحانه وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوَّاً كَبِيراً} [الإسراء:43] . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورتي الفلق والناس

تفسير سورتي الفلق والناس أفضل العبادة هو الدعاء، وقد ختم الله كتابه بسورتين من الدعاء، وهما: سورتا الفلق والناس، اللتان اشتملتا على الاستعاذة بالله من شر ما خلق عموماً، فكانتا حرزاً ورقية من الأدواء والأوجاع والسحر والحسد والوسوسة وغيرها؛ لذا قال عليه الصلاة والسلام: (ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما) .

تفسير قوله تعالى: (قل أعوذ برب الفلق)

تفسير قوله تعالى: (قل أعوذ برب الفلق) الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فسورة الفلق تقرأ مع سورة الإخلاص في عدة مواطن. ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قول شذ فيه عن سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كان يرى أن سورة: (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) ليستا من القرآن، إنما أمر النبي أن يقول فقال، ولم يثبتها ابن مسعود في مصحفه، وجمهور الصحابة أثبتوا هاتين السورتين في مصاحفهم على النمط الذي هي فيه الآن. وقد أجاب أبي بن كعب على ذلك، فقال: (سألت الرسول، فقال لي: قل، فقلت كما قال لي) . ما معنى: (الْفَلَقِ) ؟ الفلق هو كل شيء ينفلق عن الشيء الآخر، أي: ينفصل عنه، فالصبح ينفلق عن الليل، قال الله: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام:96] ، والحب ينفصل عن النوى، {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95] ، ومنه قول العامة: (أفلق رأسك) ، أي: أفصله عن بعضه، فالفلق كل شيء يفصل، ورب الفلق هو: رب الشيء الذي ينفصل عن الشيء، هذا من الناحية اللغوية، لكن الفلق هنا في هذه السورة الكريمة المراد به الصبح عند أكثر أهل العلم. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] الفلق: الصبح، ودليله: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام:96] . ((قُلْ أَعُوذُ)) أي: ألجأ وأستجير.

تفسير قوله تعالى: (من شر ما خلق)

تفسير قوله تعالى: (من شر ما خلق) {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] يا رب! لذت بك، واعتصمت بك، واستجرت بك، ومن شر كل خلق، من شر عموم الخلق، فدخل فيه شر الإنس، ودخل فيه شر الجن والشياطين، ودخل فيه شر السباع والهوام، والحيات والعقارب، ودخل فيه شر الرياح، ودخل فيه شر الظلام، وشر كل شيء يخشى منه، فهي -إذاً- آية في غاية البلاغة، تشمل شر كل الخلق، شر رجل ظالم، أو مؤذٍ، ومن شر حية، ومن شر أي شيء، ونحوه حديث رسول الله: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) .

تفسير قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب)

تفسير قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب) {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] . الغاسق إذا وقب مما خلقه الله، فهو من عطف الخاص على العام، وهذا الأسلوب يأتي لبيان أهمية الخاص، مثل قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] فالفاكهة عامة، والنخل والرمان خاص، فعطف العام على الخاص، وكما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] . {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [النساء:163] . {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] أي: الليل إذا دخل، فالغاسق هو الليل، ويشهد لذلك من التنزيل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78] أي: إلى ظلام الليل، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] . وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه خرج مع عائشة ذات ليلة، ونظر إلى القمر فقال: (يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) ، فمن العلماء من قال: إن من متبوعات دخول الليل ظهور القمر، وإن مجيء القمر مؤذن بدخول الليل، فقوله: (استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) ؛ لأن ظهور القمر علامة على دخول الليل، وفي الليل تنتشر الشياطين، وتنتشر السباع، وتنتشر الهوام، ويبيت فيه للمكر، ويبيت فيه بالخداع، ويخطط فيه للحروب، ويخطط فيه للاغتيالات. فالليل فيه شر مستطير، وفيه شر كثير إلا في الثلث الأخير، فإن أهل الصلاح يقومون فيه امتثالاً لقول الله تعالى: (هل من داع فأستجيب له) وإذا جاء الليل فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، وأوكئوا الأسقية واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً) ، وفي الحديث الآخر: (فإنه ينزل في ليلة في السنة داء لا يدع سقاء ليس عليه وكاء، ولا إناء ليس عليه غطاء، إلا نزل فيه من ذلك الداء) . فدخول الليل يصحبه انتشار الشياطين، ويصحبه كثير من البلاء، ويصحبه مكر الأعداء، ويحصل فيه جملة أمور، ولذلك لما قال فرعون لموسى: {اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:58-59] ؛ لأن السحر يبطل في وقت الضحى، وصعب على الساحر أن يسحر في وقت الضحى، أما في الليل فربما تنظر ظلك فتظنه عفريتاً. ففي الظلام يمكن التلبيس والدجل على الناس، وغش الناس، ولذلك أغلب أعمال الشعوذة تحدث في الظلام، ومن المشعوذين من يدجلون في الغرفة المظلمة، تدخل الغرفة فيقول لك: هذه صورة علي بن أبي طالب يجري، وهو الذي يجري، وهذه صورة عمر، وهذا عبد الله بن سلام، وهذا كله دجل يحدث في الظلام والعياذ بالله. فالغاسق إذا وقب، قيل: هو الليل، وقيل: هو القمر، وقيل غير ذلك، ولكن أشهر الأقوال أن الغاسق هو الليل، ومن متبوعاته القمر، ومعنى وقب: دخل وأقبل بظلامه.

تفسير قوله تعالى: (ومن شر النفاثات في العقد)

تفسير قوله تعالى: (ومن شر النفاثات في العقد) {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] النفاثات هن السواحر اللاتي يسحرن، وينفثن في العقد. قد تقدم بيان بعض فضائل سورتي الفلق والناس، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عقبة! قل، قلت: ما أقول يا رسول الله؟!، قال: قل، قلت: ما أقول يا رسول الله؟!، قال: قل: قلت: ما أقول يا رسول الله؟!، قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ حين تصبح، وحين تمسي، تكفيك من كل شيء) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما) وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما إذا اشتكى مع سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وينفث بهذه السور في يديه، ويمسح رأسه وما استطاع من جسده. وكان يقرأ بهما مع: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عند النوم، وحث على القراءة بهن دبر الصلوات صلى الله عليه وسلم. يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] وقد ورد بسند ضعيف سبب نزول هاتين السورتين، ألا وهو قصة سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فورد بأسانيد فيها ضعف أن هاتين السورتين نزلتا لما سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فكانتا سبباً في حل السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح سبب النزول. يقول الله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أي: ألجأ وأستجير وأعتصم، (بِرَبِّ الْفَلَقِ) وتقدم أن الفلق الصبح، وأن الفلق كل شيء انفلق عن شيء، فالصبح لما انفلق عن الظلمة قيل له: فلق، وأيضاً قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95] ، وقال سبحانه: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام:96] ، لكن المراد بالفلق هنا الصبح، فالمعنى: أستجير برب الصبح وما حواه من نور وضوء، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ قد أسلفنا أنه يدخل في قوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ عموم الشرور التي يمكن أن يستعاذ منها: كشر الناس، وشر السباع والدواب والهوام، وشر الجن، وشر الريح، وسائر الشرور التي يمكن أن يتعوذ منها، فالآية جامعة. {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ، تقدم أن الغاسق إذا وقب فيه أقوال لأهل العلم: قيل: هو القمر، وقيل: هو الليل إذا دخل، وهذا هو رأي الجمهور في تفسير الغاسق إذا وقب، ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78] ، ووقب معناه: دخل أو أقبل بظلامه، قالوا: لأن الليل إذا أقبل بظلامه انتشرت السباع، وانتشرت الهوام، وانتشرت الشياطين كما في حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم واذكروا اسم الله، وأوكئوا قربكم واذكروا اسم الله، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، وأطفئوا المصابيح واذكروا اسم الله، فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ) وفي رواية لـ مسلم: (فإن للجن انتشاراً وخطفاً) . فيستعاذ برب الفلق من الليل ومن دخول الليل؛ لأن الشياطين تنتشر، وكذلك الحيات والوحوش فإنها تخرج من أماكنها، وكذلك اللصوص يتسترون بالليل لإمضاء أعمالهم، وكذلك الأعداء يمكرون بالليل بمن يريدون غزوه، ولهذا استعيذ بالله من شر الغاسق إذا وقب، وهو الليل إذا دخل. {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} [الفلق:4] النفاثات: جمع نافثة، والنافثة هي: المرأة التي تنفث في عقد الخيط، فالنفاثات هن: السواحر، جمع ساحرة، وهن اللواتي يسحرن وينفثن في عقد الخيط، فالسحرة يقرءون ثم يعقدون هذه العقد، فالنفاثات في العقد هن السواحر اللواتي ينفثن في عقد الخيط.

تفسير قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد)

تفسير قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد) {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] ،السورة الكريمة أثبتت شيئين: السحر والحسد. والحسد ثابت في كتاب الله في جملة مواطن، تصريحاً وتلميحاً، فقد ذكر الله الحسد تصريحاً في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وقال تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15] ، وكذلك في قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109] ، وقال سبحانه: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) فثبت الحسد صريحاً في هذه الآيات الكريمة. وثبت تلميحاً كذلك في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27] ، وقال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] ، وقال إخوة يوسف {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ، وقال عن المشركين: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] ، فكل هذه من صور الحسد وأشير إليها تلميحاً في كتاب الله سبحانه.

معنى الحسد

معنى الحسد والحسد هو: تمني زوال النعمة عن الآخرين، ومن العلماء من قيدها بالمسلمين، وقال: هو تمني زوال النعمة عن المسلمين، ومن العلماء من أتى بتقييد ثالث فقال: هو تمني زوال النعمة عن المسلمين مع العمل على إزالتها، ومع السعي في إزالتها، لكن الجمهور على أن الحسد هو: تمني زوال النعمة سواء عملت على إزالتها أو تمنيت أزالتها من قلبك، فالجمهور على هذا التعريف. وقد ثبت الحسد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم: (كان سهل بن حنيف يغتسل، وكان رجلاً أبيض الجلد، فمر به رجل يقال له: عامر بن ربيعة، فلما رأى حسن جلده، قال: والله! ما رأيت جلداً مخبئاً مثل هذا الجلد قط، فسقط سهل في الحال صريعاً، فذهب أهله إلى رسول الله وقالوا: يا رسول الله! أدرك سهلاً فإنه صريع يا رسول الله!، قال: من تتهمون به؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: علام يقتل أحدكم أخاه، إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع بالبركة) ، ثم أمر عامر بن ربيعة أن يتوضأ ويغسل داخلة إزاره وركبتيه، ويؤخذ هذا الماء ويصب على سهل بن حنيف، فصب عليه فقام وكأنما نشط من عقال، أي: كأنه كان مربوطاً وحل عنه الرباط.

العين حق

العين حق في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أسماء بنت عميس بعد مقتل جعفر بثلاث ليال، فرأى عبد الله بن جعفر وإخوته فقال لها: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة، قالت: تسرع لهم العين يا رسول الله! قال: استرقي لهم) . قال بعض العلماء: إن العين تؤثر في الطفل فترى الطفل يأكل ويشرب وليس به مرض، وتراه نحيفاً شديد النحافة، فتكشف عليه عند الأطباء ولا ترى به داء، ولكن العين أثرت فيه كما أشار إليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. بل قد تؤثر العين في الوجه وتصيبه إصابات حسية، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة -كما في صحيح البخاري - ورأى جارية لـ أم سلمة في وجهها سفعة، أي تغير وسواد، فسأل عن ذلك، فقالوا: أصابتها النظرة يا رسول الله!، قال: (فاسترقوا لها) . فدلت هذه النصوص أن الحسد واقع، وأن العين واقعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) أي: إذا طلب منكم أن تغتسلوا لشخص ظن أنكم حسدتموه؛ فلا تترددوا، بل اغتسلوا، وخففوا عن صاحبكم، وخففوا عن إخوانكم، هذا معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالآية فيها الاستعاذة بالله من شر الحاسد إذا حسد، وقد قسم العلماء الحسد إلى أقسام، ورتبوه مراتب: أعلى هذه المراتب أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك، سواء حصلت لك هذه النعمة أم لم تحصل لك هذه النعمة. الثاني: أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك وتحولها لك. الثالث: أن تتمنى لك ما لأخيك، إلى آخر الأقسام التي ذكروها، وأباحوا منها قسماً واحداً، وهو: الغبطة، وهو ما ذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) .

طرق السلامة من شر الحساد

طرق السلامة من شر الحساد ولسلامة الشخص من شر الحساد جملة أمور: منها: تقوى الله، والتوكل عليه، فالله يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] ومنها قول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ومنها: حفظ الله عز وجل، وحفظ حدود الله، وفي الحديث: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) . ومنها: إخفاء النعمة عمن يظن أنه يحسد، فإذا رأيت شخصاً يتمنى لك زوال النعمة، فأخف هذه النعمة عنه ولا تحدثه بها، وأصل ذلك في كتاب الله في قول يعقوب صلى الله عليه وسلم ليوسف: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] . وقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى فقيل له: يا حسن! أيحسد المؤمن؟ أي: هل هناك مؤمن يحسد؟ فقال سبحان الله! ما أنساك لإخوة يوسف {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ، فالمؤمن قد يحسد أيضاً. وعامر بن ربيعة كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهم بأنه هو الذي أصاب سهل بن حنيف، كما ذكرنا في الحديث السابق، فإخفاء النعمة عن الحاسد سبب من أسباب الحفاظ على النفس من شر هذا الحاسد، بدليل قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فلا يحدث بها إلا من يحب) ؛ لأنه كما العلماء: لكل نعمة حاسد على قدرها، فإذا قصصت على شخص يبغضك رؤيا طيبة فسيعبرها لك بتعبير مؤذ ويكون سبباً في إيذائك، وإتلاف الرؤيا عليك، والله أعلم. ومنها: الإحسان إلى الحاسد، فإن الله يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، ولذلك قال العلماء: لو كنت غنياً من الأغنياء وبجوارك رجل فقير جار لك، وهذا الجار يراك كل يوم يراك تدخل على أهلك وبنيك أصناف الطعام والشراب، وأولاده ينظرون إليك وأنت تدخل، وينتظرون أن تعطيهم شيئاً من الذي دخلت به، فلم تعطهم؛ فيدخلون على أبيهم ويطلبون منه شيئاً من المال لشراء ذلك فلا يجد؛ فحينئذ يتمنى هذا الرجل لك الفقر بأن تزول نعمة الله عنك حتى لا يؤذى هو في بيته، لكن إذا أكرمت الأولاد وأعطيتهم شيئاً مما تحمل، ودخلوا على أبيهم بهذا الشيء؛ دعا أبوهم لك بالبركة، فتحول الحاسد إلى داع لك، وبعد أن كان يتمنى زوال النعمة عنك إذا به يسأل الله لك الزيادة من هذه النعمة، فالإحسان إلى الحاسد سبب من أسباب اتقاء شره. ومنها: التعوذ بالله منه، والتحصن بالمعوذات التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها: عدم الاشتغال بالحاسد، وعدم التفكير فيه، فلا تفكر كثيراً فيه، ولا تبال به، ولا تهتم به، بل اعتصم بالله، فالله حسبك، وهو كافيك سبحانه وتعالى. والحاسد إذا أراد أن يتخلص من الحسد فعليه أن يتذكر أنه معترض على أقدار الله، فالله هو الذي يقسم الأرزاق وكون الحاسد يتمنى زوال النعمة عنك فهو يعترض على أقدار الله، والحاسد متشبه بالشيطان، فالشيطان يتمنى زوال النعمة عن المؤمنين، والحاسد كذلك، فهو من جند إبليس والعياذ بالله، وكذلك هو متشبه بالكافرين إذ إن أهل الكفر يتمنون زوال النعمة عن أهل الإسلام، والحاسد قد شاركهم في هذا، والله سبحانه أعلم.

أسباب الحسد

أسباب الحسد وللحسد أسباب كما قال العلماء، فله حامل يستدعي الحسد فيقوى، وأحياناً يضعف ويخبو، فمن أسباب الحسد: المجاورة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وجاره، تكفرها الصلاة والصيام والأمر والنهي والصدقة) والمجاورة في كل شيء، حتى في المهنة، فمثلاً: طبيب أطفال، وبجواره طبيب أطفال آخر، فتجد أحدهما قد يحسد الآخر، ولا يحسد أصحاب السيارات المرسيدس مثلاً، مع أن صاحب المرسيدس يكسب أضعاف أضعافهما، ولكن لا يحسد إلا مجاوره في مهنته، ولا يحسد الذي يكسب الملايين ولكن ينظر إلى جاره الآخر، ويتسائل: كم مريض دخل عنده اليوم؟ حتى قال العلماء: إن الإسكافي يحسد الإسكافي، وهو الذي يصلح النعال وينظفها فتراه لا يحسد أصحاب المحلات الذين يكسبون الآلاف، ولكن يحسد الإسكافي الآخر!. وكذلك الحال في أنواع التجارات كلها، وكذلك في الضرائر: فإنهن يحسدن بعضهن البعض في الغالب إلا من رحم الله، فالمجاورة سبب في اجتلاب الحسد إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى بالورع في هذا الباب. ومن أسباب الحسد حب الجاه والرئاسات فمنصب كبير يتنافس عليه المتنافسون، وكل يحسد الآخر حتى لا يصل إلى هذا المنصب. وكان هذا الحسد سبب في نفاق عبد الله بن أبي، فلما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه وقال: (يا سعد! ألم تسمع ما قال أبو حباب -يعني: عبد الله بن أبي -) ، قال: يا رسول الله! اعف عنه واصفح يا رسول الله! فوالله! لقد أكرمك الله بالحق الذي أكرمك به، وقد اصطلح أهل هذه الحرة على أن يتوجوه، ويجعلوه سيداً عليهم أجمعين، فلما أكرمك الله بما أكرمك به من الحق شرق لذلك، وطفق يصنع ما تراه، فاعف عنه واصفح يا رسول الله!. فأسباب الحسد حب الجاه وحب الرياسات، والمجاورة في الأعمال، والتنافس في الدنيا، وعلاجه الرضا بأقدار الله، والرضا بقسمة الله سبحانه وتعالى التي قسمها للعباد. فهذه السورة جمعت الاستعاذة من أنواع الشرور.

تفسير قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس.

تفسير قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس.) ثم تممت الاستعاذة بقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1-3] فاستعاذ العبد في هذه السورة بملك الناس، وبرب الناس، وبإله الناس الذي هو معبودهم، من ماذا؟ استعاذ بالرب وبالملك وبالإله {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس:4] والوسواس هو الشيطان، والوسواس صفة له، والوسوسة هي: الصوت الخفي، ومنه قيل لحركة الحلي في الإذن: وسوسة الحلي؛ لأن صوته خفيف لا تسمعه إلا المرأة التي تلبس الحلي. فالوسوسة هي الصوت الخفي، والوسواس هو الشيطان، يوسوس أي: يحدث بصوت خفي في الصدر، فاستعذنا برب الناس، وملكهم وإلههم من شر الوسواس الذي هو إبليس. قال بعض العلماء: إبليس يرانا ولا نراه، كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ، فاستعذنا بالذي يرى إبليس ولا يراه إبليس، فالله يرى إبليس، وإبليس لا يراه، فاستعذنا برب الناس وإلههم ومليكهم من شر هذا الوسواس. {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] . الخناس هو: الشيطان، والخنوس صفة له، فهو يخنس أي: يختفي عند ذكر الله سبحانه وتعالى، ومنه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15-16] ، ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه: (لقيني النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وأنا جنب، فانخنست منه) ، أي: اختفيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوصف إبليس بأنه خناس، أي: كثير الاختفاء، فكلما ذكرت الله اشتد اختفاؤه وأمعن في الهرب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط) . قال العلماء: إن شيطان الكافر عاتٍ متمرد على الكافر، أما شيطان المؤمن فدائماً مضروب ودائماً مطرود، فالمؤمن دائماً يعلوه بسياط التسبيح والتحميد والتكبير، لا يكاد الشيطان يفيق من ضربة ضربها به المؤمن بقول: لا إله إلا الله؛ حتى تأتيه ضربة أخرى فيها: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو فيها: سبحان الله، أو فيها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى أن سجود المسلم يبكيه كما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) . فيولي باكياً إذا سجدت، ويولي هارباً وله ضراط إذا سمع المؤذن، ويولي هارباً من البيت إذا دخلت البيت فذكرت الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه. قال: أدركتم المبيت والعشاء) ، فهو لص ولكنه لص جبان، يهرب إذا ذكر الله سبحانه وتعالى، وإذا لم تذكر الله شاركك في أعمالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إن أحدكم إذا أتى أهله فقال: باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن يقدر بينهما ولد، لم يضره شيطان) ، أما إذا لم يفعل فماذا يكون؟ في تفسير قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء:64] قال بعض العلماء: مشاركة الشيطان الرجل في ولده يكون عند الجماع، فيتلذذ الشيطان بالمرأة إذا لم يذكر زوجها الله سبحانه وتعالى عند الجماع. وصف الشيطان بأنه خناس، أي: كثير الاختفاء، وقد قدمنا أن شيطان المؤمن ذليل يطرد ويهان، فإذا سقطت من دابتك وقلت: باسم الله، تصاغر حتى يكون مثل الذباب، وإذا قوي إيمان الشخص فر منه الشيطان، كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) ، وفي الرواية الثانية: (إن الشيطان يفر منك يا عمر!) فإذا قوي إيمان الشخص، وتسلح بكتاب الله، وبالذكر الوارد عن رسول الله، وتحصن بالحصون الواردة عن رسول الله؛ لم يجد الشيطان إليه منفذاً ولا سبيلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم. {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس:4] ، قلنا: الوسوسة هي: الصوت الخفي، ومن شواهده ما جاء في قصة حديث أم زرع، وفيه قول المرأة عن زوجها: أناس من حلي أذني؟ أي: ملأ أذني بالحلي، حتى سمع لها الصوت.

تفسير قوله تعالى: (الذي يوسوس في صدور الناس.

تفسير قوله تعالى: (الذي يوسوس في صدور الناس.) {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:5] ، قيل: أي: يلقي الوسواس إلى الصدور، وتدخل الوساوس من الصدور إلى القلوب، ومن العلماء من قال: يوسوس في القلوب لأن القلوب داخل الصدور، والله أعلم. {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] ، من العلماء من قال: إن الموسوس جن وإنس، ومنهم من قال: إن الموسْوَس إليه جن وإنس. من العلماء من قال: إن الموسْوِس بالكسر المستعاذ بالله منه إنس وجن، ومنهم من قال: إن الوسواس الخناس الذي هو كبير الأبالسة يوسوس في صدور الفريقين: يوسوس في صدور الإنس، ويوسوس في صدور الجن كذلك. وانتصر كل عالم للرأي الذي تبناه، فالذين قالوا: إن الذي يوسوس إنس وجن، أما الجن فمعلوم أنها توسوس، وأما الإنس فاستدلوا بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] ، فللإنس شياطين وهم يوسوسون أيضاً في الصدور، ويوغرون الصدور، ويملئونها شراً، يملئون صدور قوم شراً على قوم آخرين، فهناك إنس يوسوسون، وهناك جن يوسوسون، ومن أهل العلم من قال: إن الشيطان يوسوس في صدور الإنس، ويوسوس في صدور الجن أهل الصلاح أو عموم الجن واستدل قائل هذا القول بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:6] ، فقالوا: لا يطلق على الجن رجال. وعلى كل: فكون الإنس يوسوس لا شك في ذلك، وكون الجني يوسوس لا شك في ذلك، لكن وسوسة شيطان الجن أعظم من شيطان الإنس، وكما قال فريق من أهل العلم: إن شيطان الإنس يدفع بأمور لا يدفع بها شيطان الجن، فشيطان الإنس إذا أكرمته ببعض الكرامات في الدنيا، وأعطيته بعض الأموال، قد يسكت عنك كما قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ، فقد تعطيه مالاً أو تتكلم معه بكلمة طيبة، أو تتنازل عن جزء من مالك فيسكت عنك، أما شيطان الجن فلا يرضى منك إلا بالكفر والعياذ بالله.

حروز شرعية من الشيطان

حروز شرعية من الشيطان وقد ذكر العلماء رحمهم الله جملة حروز يُحترز بها من الشيطان: أولها وأعظمها: ذكر الله عز وجل والاستعانة به سبحانه, وقد ورد في حديث الحارث الأشعري رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها) ، فذكر من الخمس الكلمات (وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم) ، فذكر الله للعبد بمثابة الحصن، فالشيطان يفر عند ذكر الله سبحانه وتعالى، ويقبل على العبد ويجثم على صدره إذا هو غفل عن ذكر الله سبحانه وتعالى. ومن الحروز: التعوذات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97-98] وقراءة المعوذتين مع سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وقراءة الآيتين -الأخيرتين- من سورة البقرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ هاتين الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه) قال فريق من العلماء: كفتاه من الشيطان، وقيل: كفتاه عن قيام الليل، وثم أقوال أخر، ومن ذلك قول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، إذا نزلت منزلاً، وقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاثاً صباحاً وثلاثاً مساء، فلا يضرك شيء حتى تمسي وحتى تصبح. ومن الحروز: صلاة أربع ركعات أول النهار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات أول النهار أكفك آخره،) . وادفع الوساوس عن إخوانك فلا تقف في مواقف الشبهات، فإنها يدخل منها إبليس إلى قلوب إخوانك فيظنون بك ظن السوء، ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً مع صفية بنت حيي فرآه رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءًا أو قال شيئاً) . ومن الحروز: الانتهاء عن الاسترسال في الفكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ حتى يقول له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا بلغ ذلك أحدكم فليستعذ بالله، ولينته) ، وفي رواية (فليقل: {اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ) ومن الحروز: أن تمسح على صدرك وتقول باسم الله (ثلاثاً) ، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (سبعاً) ، وقد جاء عثمان بن أبي العاص الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه وجعاً يجده في صدره منذ أسلم، فقال: (ضع يدك على الذي تألم، وقل: باسم الله (ثلاثاً) ، وأعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (سبعاً)) . ومن الحروز: سجود السهو حتى لا يسترسل معك الشيطان بعد ذلك، ويفسد عليك عبادتك، قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا سها أحدكم في صلاته فليسجد سجدتين قبل أن يسلم) وفي بعض الروايات أنه سجدها بعد أن سلم صلى الله عليه وسلم، وقال: (كانتا ترغيماً للشيطان) فذكر الله عند الدخول وعند الخروج، ومسح الجسد باليد بعد قراءة المعوذات، هذه كلها حروز نافعة بإذن الله، ولا تحتاج معها أن تذهب إلى من يعالج، ويخلط الرجال بالنساء، ولا غير ذلك. وفقنا الله لما يحبه ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1